في ظلال شهر رمضان

اشارة

في ظلال شهر رمضان

نويسنده:تاج الدین، مهدی

زبان:عربی

ناشر:المکتبة الحيدرية - قم - ایران

سال نشر:1389 هجری شمسی

سال نشر:1431 هجری قمری

کد کنگره:BP 10/5 /ت2ف9

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المقدّمة :

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير سيدناونبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، ولعنة اللّه على اعدائهم اجمعين من الآن الى قيام يوم الدين .

وبعد : فهذا الكتاب الذي بين يديك - أيها القارئ الكريم - يشتمل على مجموعة محاضرات دينيّه تتعلّق بشهر رمضان المبارك ، ويحتوي على ثلاثين مجلساً مرتّباً حسب المناسبات الدينيّة والأحداث التاريخيّة التي وقعت في هذا الشهر الفضيل .

وقد كتبتُها لاخواني الخطباء الكرام - وخاصة الناشئين منهم - لتكون عوناً لهم على اداء هذه المسؤولية المقدّسة التي تحمّلوها في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالدعوة الى الخير والهدى والصلاح .

وإنّها حقاً مسؤولية عظيمة ومهمّه كبيرة تستحق أن يبذل الخطيب قصارى جهده في سبيل ادائها على احسن ما يُرام .

ولا شكَّ أن هذه المهمّة لا تحقق اهدافها إلاّ اذا قُرنت بالاخلاص والتقوى والنيّة الصادقة .

وفي الحقيقة يجب ان نقول : إن الخطباء اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ (1) يعتبرون من خير عباد اللّه الصالحين ، ذلك لأنهم نذَروا انفسهم

ص: 5


1- . سورة الاحزاب / آية 39 .

لتبليغ الاسلام ونشر الأحكام وتعليم مسائل الحلال والحرام وبثّ الوعي الديني بين افرادالمجتمع ، لترسيخ اصول الايمان في قلوبهم وتركيز جذور العقيدة في نفوسهم ولكي لايقع الناس في مصائد المنحرفين ولا ينحرفوا بشبهات الضالّين المضلّين الذين يتّخذون من إثارة الشبهات وسيلة للاضلال والإفساد .

والإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء وقدوة الأحرار هو الذي رسم الطريق بدمه الطاهر ليكون نبراساً لخدمة المنبر الحسيني المقدّس .

والمنبر هو سرّ من اسرار نهضة الحسين عليه السلام والمجالس الحسينية مدرسة سيّارة استفاد منها كثير من الناس مع اختلاف الافهام وتباين الاذواق ، ومنها اخذوا اصول العقائد ،ومعالم الدين واحكام الشرع وهي التي علمتهم مكارم الاخلاق ، ومحاسن الاداب والابتعادعن كل ما يمسّ بالكرامة او يدعو الى المذلّة والمهانة .

وقد كتبتُ هذه المحاضرات قربةً الى اللّه تعالى لتكون صدقة جارية وذخيرة لآخرتي ان شاء اللّه تعالى ، عسى اللّه أن يتفضّل عليَّ بالقبول بفضله وكرمه ، أنه ذو الفضل العظيم .

هذا .. وقد احببتُ أن اهدي كتابي هذا الى شهيد المحراب في هذا الشهر العظيم ، سيدالعترة وأبي الأئمّة وإمام الامّة سيدنا ومولانا امير المؤمنين علي بن ابي طالب (صلوات اللّه عليه) .

فاليك يا سيد الأوصياء .

يا خير الخلق بعد خير الأنبياء .

يا عظيم العظماء .

يا إمام الأتقياء .

يا حبيب اهل الأرض والسماء .

يا انشودة الأولياء .

اليك اهدي هذه الصفحات المتواضعة ، فتقبَّل منّي هذه البضاعة المزجاة « وتصدَّق

ص: 6

علينا إن اللّه يجزي المتصدّقين » .

وأسأل اللّه سبحانه ان ينوّر بصري برؤية مُحيّاك المبارك عند الممات فرؤيتك هي الحياة ، هي الحياة ، هي الحياة .

مهدي تاج الدين

22 / 6 / 1423 هجري

ص: 7

المجلس الأوّل: حول أهمّيّة شهر رمضان والإنقطاع فيه إلى اللّه تعالى

اشارة

[رمضانُ يا خيرَ الشهورِ تحيةً *** تُضفي عليك من الجلالِ جلالا]

رمضانُ ها قد جئت تَطرُق بابَنا *** وتريدُ منّا أن نكونَ رجالا

إنّ الصيامَ عبادةٌ سريةٌ *** والسِرُّ أوسعُ ما يكونُ مجالا

و«الصومُ لي وأنا الذي أجزي به» *** صَدَقَ الحديثُ وصحَّ عنهُ تعالى

بالصومِ تَنطبعُ النفوسُ على الوفا *** فيَزيدُها قدسيّةً وجمالا

«صومواتَصِحّوا» قالها خيرُ الورى *** وكذاك أوصى صَحبَهُ والآلا (1)

ص: 8


1- . حديث رمضان للشهيد العلّامة السيّد حسن الشيرازي ص241 .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

رمضان مدرسة ذات فلسفة ورسالة ، فشهر رمضان مدرسة الرُّوح والفكروالضَّمير ، ودورة تكميليَّة للنَّواقص البشريّة ، وحملة تطهيريّة لتصفية الرَّواسب الَّتي تتكلَّس في قرار الإنسان خلال أحد عشر شهراً يعيشها الإنسان مع المجتمع.

فلسفة صيام شهر رمضان

إنّ الإنسان الَّذي يعيش الإجتماع سنة كاملة ، يقتحم في غضونها كلّ جوٍّ ويباشركلّ تفكير ، ويمارس كلّ تجربة ومعركة ومحيط وعليه تترسّب على عقله وقلبه وعواطفه أكوام من الغبار الإجتماعي نتيجة الصّراع الإجتماعي في كلّ مكان يعيشه أكثر من سنة .

وإنّ الإنسان أيضاً مكوّن من عدَّة غرائز وميول ربّما تطغو عليه خلال السنة مثل غريزة الجنس ، وغريزة حبّ الذَّات ، وغريزة الطَّمع والخوف ، وعلاوة على ذلك كلّه فهويحمل هذه النفس الأمّارة بالسوء والتي تقوده إلى المعاصي والمساوي إلى ما هنالك من الغرائز الَّتي ربّما تتحكّم في سلوكه وتصرّفاته وتسيطر عليه ، فلا يستطيع أن يقضي عليهالأنّها جزء من كيانه .

بل إنّ لكلّ إنسان شيطان يريد إنحرافه وإبعاده عن اللّه تعالى كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما من إنسان إلّاومعه شيطان ؛ الحديث (2) .

فربّما الإنسان يتصوَّر أنّه شجاع ولا يتأثّر بهذا الغبار الإجتماعي والغرائز التي يحملها وأنّه قويّ الإرادة وأنّه نشط وصلب ، ولكنّ مع ذلك كلّه فمهما كان صلباً ونشطاً

ص: 9


1- . سورة البقرة آية 185 .
2- . بحار الأنوار ج17 ص44 باب 15 .

يتأثَّر كما يُؤثر لوجود كثرة الأفكار المسمومة والانحرافات والتيّارات المختلفة في المجتمع ، التي توجّه أغلب النّاس إلى المادّيّات والابتعاد عن اللّه تعالى فيُسبّب التفاعل الإجتماعي إلى إنحراف هذا الشّخص ، ومايلًا إلى كافَّة التيّارات ومعرضاً للإنحراف من حيث يشعر ويريد ، أو يكره ولا يشعر .

وعليه إذا صحّت هذه الحقيقة وثبتت ، والحال هي صحيحة ، وثابتة ، واستسلم الفرد للتَّجاوب مع المجتمع ، وكان منقاداً للمجهولات المتحكّمة في ذلك المجتمع ، وكان جديراً بأن يتأثَّر ويترسَّب على عقله وقلبه وعواطفه ما يعوذ منه اليوم ، فلابدَّ لهذا الفردالَّذي يعايش الإجتماع من حافظ ومن عاصم واعٍ يحفظه من الإندراس تحت هذه الشُّبهات والإندفاعات الطَّائشة والغرائز ، ويحتاج إلى مَعقل عاصم به يتمكّن من كشف الإنحرافات وواقع الحوادث كي لا تنتهي بخسارته ، فشهر رمضان هو المَعقل العاصم والحافظ عن إنحراف هذا الشَّخص في المجتمع الممتلىء بالإنحرافات والخطوط الكثيرة ، وكذلك تحدّد تصرّفات هذه الغرائز لكي لا تنحرف عن الطَّريق المستقيم الَّذي رسمه الإسلام ، فهو فترة التأمّل والتَّفكير ومحاسبة النَّفس ، ويكفل له الهداية والرّشد الى سواء الحقّ والصّراط المستقيم (1) ، الَّذي هو القرآن الكريم . وقد جاء في الحديث عن هشام بن الحكم أنّه سأل أباعبداللّه الصادق عليه السلام عن علّة الصيام ، فقال : إنّما فرض اللّه الصيام ليستوي به الغني والفقير : وذلك أنّ الغني لم يكن يجد مسّ الجوع فيرحم الفقيرلأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللّه تعالى أن يسوّي بين خلقه ، وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع (2) .

رمضان شهر التّبتّل والإنقطاع

وعلى ما مرّ فالإسلام قرّر شهر رمضان كي يكون شهر العبادة والإنقطاع عن الدُّنيا

ص: 10


1- . حديث رمضان ص24 .
2- . وسائل الشيعة ج7 أبواب وجوب الصوم ح1 ص3 ؛ والفقيه كتاب الصوم ج1 ص24 ؛ وعلل الشرائع ص122 .

وعن الشَّواغل المادّيّة ، وكذا دفع الإنسان في هذا الشَّهر إلى تلاوة القرآن ، حيث جعل ثواب قراءة كلّ آية منه بمنزلة قراءة سبعين آية ، أو تلاوة القرآن كلّه فيما سواه من الشّهور ، وكذلك دفع الإنسان إلى قراءة الأدعية ، وخصَّص لكلّ وقت من أوقاته دعاءًمخصوصاً .

وكذلك دعى الإسلام في هذا الشّهر إلى حسن الخلق والعفو والإحسان والتَّواصل والتَّحابب ، وجعل ثواب كلّ معروف مضاعفاً ليذيب التَّباغض الذي يغلي ويجيش في قرارة الإنسان .

ومن هذا الكلام نستنبط أنّ الصّيام الّذي يؤثّر في روح الإنسان ويغيّر الإنسان من حالة إلى حالة ، ويكون له مَعقل عاصم ، ليس معناه هو الامتناع عن الطّعام والشّراب فحسب ، بل إنّ معنى الصّيام كما قال الإمام الصّادق عليه السلام : إنّ الصّيام ليس من الطّعام والشّراب وحده ، ثمّ قال : قالت مريم : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صوماً وصمتاً ،فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم ، وغضُّوا أبصاركم ، ولاتنازعوا ولا تحاسدوا ، قال : وسمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله إمرأة تسبّ جارية لها وهي صائمة ، فدعى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بطعام فقال لها :كُلي ، فقالت : إنّي صائمة ، فقال صلى الله عليه و آله : كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ ، إنّ الصّوم ليس من الطّعام والشراب فقط ، ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام : إذا صمت فليصم سمعُك وبصرُك من الحرام والقبيح ودع المِراء وأذى الخادم ، وليكن عليك وقار الصائم ، ولاتجعل يوم صومك كيوم فطرك (1) .

فوائد الكفّ عن الطّعام عند الأطبّاء

قد مرَّ الكلام بالنسبة إلى بعض الفوائد المعنويّة والرّوحيّة للصّوم ، وأمّا الفوائدالنّاتجة من الإمساك عن الأطعمة والسَّوائل وبعبارة اخرى فوائد الصَّوم الماديَّة والجسديَّة ، فيكفيك ما قاله النبيّ صلى الله عليه و آله : صوموا تصحّوا ، وفي الحديث : المعدة بيت الدّاء ،

ص: 11


1- . وسائل الشيعة ج7 ص116 أبواب أدب الصائم ؛ والفقيه ج1 ص39 .

وقد ثبت عند الأطبّاء : أنّ سبب كثرة الأمراض في الغرب أكثر من الشَّرق والمسلمين ،هو أنّ في الإنسان خلايا وهذه الخلايا مضره يجب أنْ تتبدّل في كلّ سبع سنوات مرَّة ،وطريقة قتلها هو الصَّوم 30 يوم لا أكثر ولا أقلّ ، وإلّا فإنّها تبقى في البدن فتولّد أمراض للجسد . قال الدّكتور « كارلو » : لقد جاء التأكيد على الصَّوم في كلّ الأديان ، فالصَّوم وإن كان مقروناً بالجوع والضَّعف ، إلّاأنَّه ينطوي ويحتوي على فوائد كثيرة لجسم الإنسان ،ترى إنّ بعض الأجهزة الّتي اصيبت بالكسل والمرض بسبب الطّعام المتواصل ، ترى هذه الأجهزة بسبب الصّوم تعود إليها حالة النّشاط والتّعادل وبهذا يسلم الإنسان من الإبتلاءبأمراض كثيرة .

ثمّ يتحدّث « كارلو » عن الإسلام بقوله : «الإسلام يعتبر أحكم حيث فرض الصّيام ففرض الصحّة ، وإنّ محمّداً الذي جاء بهذا الدين كان خير طبيب وفّق في إرادته وعمله حيث كان يأمر بالوقاية قبل المرض» (1) .

طبيب آخر إسمه « بوخنگرمي » يقول : خمسون سنة يمضي على تأسيس مستشفى في الغرب دوائها كان الصوم للمرضى والنتيجة ان خمسين ألف مريض شفوامن المرض بسبب الصَّوم .

ويقول الدكتور « أرليخ » : الشيء الوحيد الذي بواسطته يمكن القضاء على مرض السّرطان بصورة جذريّة هو تحمّل الجوع حتّى الإشراف على الموت وعندها نتمكّن أن نقضي على السَّرطان ، ومن هنا نعرف الأثر العظيم في الصوم .

وجاء في معارف «فريد وجدي» قال : «إنّ الصّيام كان يعتبره النّاس إلى زمانٍ قريب أنّه من الشؤون الخاصّة بالأديان ولم يكد ينتشر الطبّ ، حتّى علموا أنّه يعالج كثيراًمن الأمراض ، كما علموا من عهد «أبقراط» أنّه عامل قوي من العوامل المنقية للجسم من سموم الأغذية فإنّ الموادّ الحيوانيّة التي نتناولها بشراهة ، تحتوي على مواد دهنيّة لاتطيق البُنية البشريّة أن تختزن مقداراً يزيد عن الحاجة منها . وإطلاق الحريّة للإنسان ، .

ص: 12


1- . الصوم بحثٌ ودراسة ، لعبدالكريم الحسيني القزويني ، ص61 ، عن الصوم محمّد الحيدري ، ص16 .

يجعله يتناول كلّما يقع تحت يده وكثيراً ما يصاب بسبب هذه الحريّة بآفات مرضيّة تكون وبالًا عليه» (1) .

أجل هذا ممّا عرف أخيراً عن الصوم بعد حسبانه أمراً دينيّاً فقط ، وكذلك استفادالطب من ناحية الصوم ما لم يستفده من ناحية العلاج بالعقاقير ، ولكن أكثر المسلمين لايأبهون كثيراً بالمستقبل ولا يحسبون حساباً للشيخوخة .

الصَّوم وقاية وعلاج من بعض الأمراض

انَّ علم الحديث اكتشف لنا حقائق كثيرة من الصِّيام تزيد الإيمان بحكمة الخالق تعالى ، فإنَّ الصَّوم يطيل من عمر الإنسان ، ويقيه من كثير من العلل والأمراض منها :

1 - الصَّوم يقي من الزوائد والترسبات والخلايا المريضة في الجسم ، فالصَّوم يقوم مقام مشرط الجراح الذي يزيل الخلايا التالفة أو الضَّعيفة من كلّ عضو مريض فيعطيه فرصة يسترد خلالها حيويته ونشاطه ، وبهذه الطريقة يكون الصَّوم وقاية للجسم .

2 - والصَّوم يحمي الإنسان من مرض السكر فهو يقلل كمية السكر في الدَّم الى أدنى معدلاتها وهذا يعطي غدة البنكرياس فرصة للرَّاحة .

3 - والصَّوم يريح المعدة تماماً من الطَّعام خلال 12 ساعة في اليوم الواحد وكذلك يريح الأمعاء ، وبذلك يتخلَّص الصَّائم من التجشؤ ومن الغازات وسوء الهضم الناتج عن التخمة .

4 - والصَّوم ينقص الوزن ويزيل السمنة والكرش وهو خير فرصة لعمل (الريجيم)بشرط أن يصاحبه الإعتدال عند الفطور والا يتخم الإنسان معدته بعد الصَّوم ، وقد كان الرَّسول صلى الله عليه و آله و سلم يبدأ فطوره بتمرات قليلة أوَّلاً ثمَّ يقوم الى صلاة المغرب ، ثم يعود ليكمل إفطاره ، ولهذه السنَّة النبويَّة حكمة طبيّة عظيمة ، فمن المعروف علميّاً انّ شعور الإنسان بالجوع لا يتوقف على فراغ المعدة فقط من الطعام ، ولكن العامل الأهم هو نقص كميّة

ص: 13


1- . حديث رمضان ص168 .

السكّر في الدم ، والدَّليل على ذلك أنَّك اذا أكلت شيئاً حلواً قبل الطعام ، فإنك تفقد الشهيَّة للأكل ، حتى لو كانت المعدة خالية ، لأنَّ السكَّر الذي تأكله يمتص بسرعة من المعدة الى الدَّم ، فيرفع نسبة السكَّر فيه الى المعدل الذي يشعرك بالشبع ، أمّا إذا بدأت طعامك بعدجوع بأكل اللحوم والخضروات والأرز ، والخبز ، فإنَّ هذه المواد يتحوَّل جزء منها إلى سكَّر في الدَّم ، ولكن بعد عمليَّة هضم طويلة وبطيئة ، فلن تشعر بالشبع إلاَّ بعد أن تمتلأالمعدة فوق معدّلها وطاقتها ، فترسل المعدّة إشارات الى المخ ليوقف الإحساس بالجوع ليشعرك بالشبع ، ولهذا السبب فإن بعض الناس يأكل في رمضان اكثر ممَّا يأكل في سواه من الشهور ، وهذا يضيع حكمة الصَّوم في التقشف والزهد والروحانيَّة .

ومن هنا نتبيّن حكمة الاسلام والسنَّة النبويَّة الشريفة في أن نبدأ فطورنا بمادَّة سكرية كالرطب أو التمر ثم نقوم الى الصلاة : ففي هذه الاثناء يُمتص السكر بسرعة ويعطيك الشعور بالشبع قبل ان تجلس الى طعامك فلا نضطر الى الأكل الكثير .

5 - وفترة الصيام هي خير فرصة لتخلّص من كل العادات الضارة كالتدخين و المخدرات والخمور حيث تقل كمية النيكوتين او الكحول في الدم يوماً بعد يوم بحيث ان الجهاز العصبي - الذي كان قد ادمن على وجودها - يتطهر من تأثير هذه الموادوتكون فرصة المدمن للاقلاع عنها خلال شهر رمضان المبارك اكبر من الشهور الاُخرى .

6 - الصوم والامراض الجلدية :

والصوم يؤدي الى تقليل نسبة الماء في الدم فتقل نسبته تبعاً لذلك في الجلد .

وهذا الجفاف النسبي في الجلد يزيد مناعته ومقاومته للميكروبات ويقلل من حدّه الالتهابات وامراض الحساسية (1) .

أهمّيّة الصّوم عند الأنبياء عليهم السلام وسائر الشّرائع

كان الكلام في بعض تصريحات الأطبّاء الغربيّين حول أهمّيّة الصّوم وآثاره

ص: 14


1- . دكتور عمر العياط من مجلة صحة العاصمة الكويتيّة .

الحسنة ، مع العلم أنّهم لا يؤمنون بعقائدنا وبالإسلام ، ولكنّهم ينظرون إلى الصّوم من زاوية صحيّة ومادّيّه ، ونحن إذا تصفّحنا التاريخ نجد نماذج كثيرة وشخصيّات عظيمة -يجعلون للصّوم أهمّيّة كثيرة - ولذلك كان الصّوم رُكناً لجميع الأديان السّماويّة ، وحتّى في الشرائع الوثنيّة ، فقد كان قدماء المصريّين ، والإغريق ، والرُّومان ، يصومون أيّاماً مختلفة في العام .

وأمّا صيام الأنبياء عليهم السلام فقد روي أنّ نوحاً عليه السلام صام مائة وخمسين يوماً عندماجنحت به سفينته إلى البرّ ، بعد أن عصف به الطّوفان .

والمعروف : أنّ موسى بن عمران عليه السلام كان يصوم ثلاثين يوماً كلّ عام .

وأنّ داود النّبى عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً على طول السّنة .

وأمّا النّصارى فأشهر صومهم وأقدمه هو الصّوم الكبير الذي يقال فيه : إنّ عيسى بن مريم عليه السلام كان يصومه ... وقد ابتدع رجال الكنيسة ضروباً اخرى من الصوم يباشرونهاالان (1) وقد ذُكر أنّ المسيح عليه السلام كما أنّ غيره من الأنبياء كانوا يصومون شهر رمضان ،بصفة خاصّة ، فلمّا بُعث الرّسول الأعظم محمّد صلى الله عليه و آله عمّم صومه على الاُمّة ، فشملتهم قداسته كرامة لنبيّها محمّد صلى الله عليه و آله .

صيام الإمام زين العابدين عليه السلام

وقد كان أئمّتنا عليهم السلام يجعلون أهمّيّة لصيام السّنة كاملة ، حتّى رُوي أنّه دخل أحدأصحاب الإمام الصّادق عليه السلام يقال له : كرَّام ، فقال له : سيّدي ، رجل من شيعتك جعل للّه عليه أن لا يأكل طعام ولا يشرب ، حتّى ظهور الحجّة عليه السلام ، فقال : صُم يا كرّام ولا تصُم العيدين ولا ثلاثة أيّام التّشريق ، ولا إذا كنت في سفر .

وكان إمامنا زين العابدين عليه السلام دائماً صائماً نهاره ، وقائماً ليله ، ولذلك لُقّب ب «زين العابدين» . وكان في اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح وتقطع أوصالها وتطبخ ، فإذا

ص: 15


1- . حديث رمضان ص99 .

كان المساء أكبّ على القدر حتّى يجد ريح المرق وهو صائم ، ثمّ يقول : أغرفوا لآل فلان ، وأغرفوا لآل فلان ، ثمّ يؤتى له بخبز وتمر ، فيكون ذلك عشاؤه . فتراه أربعين سنة يصوم مع إمتزاج خدّيه بالدّموع اي كان دائم البكاء في حين أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يقول :للصّائم فرحتان : فرحةٌ عند الإفطار وفرحة عند لقاء اللّه عزّ وجلّ ، لأنّ الإنسان الذي يؤدّي ما فرض اللّه تعالى عليه من الواجب ، يشعر في نفسه راحة وفرحا ، لأنّه أدّى وامتثل ما أمره اللّه تعالى .

وجاء في الدّعاء : إلهي ! ربح الصّائمون .

ولكن إذا نظرنا إلى حالة الإمام زين العابدين عليه السلام وقت الإفطار ، نجده وقد مزج طعامه بدموع عينيه ، وكان غلامه يأتي بالفطور ويقول له : كل يا مولاي واشرب .فيقول عليه السلام : كيف أشرب وقد قُتل ابن رسول اللّه عطشاناً ، كيف آكُل وقد قُتل ابن رسول اللّه جائعاً .

وقال له أَحَد مواليه : أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل ؟ فقال له الامام عليه السلام : ويحك إنّ يعقوب النّبي عليه السلام كان له إثنا عشر ولد ، فغيَّب اللّه عنه واحداً منهم فابيضّت عيناه من كثرة البكاء ، واحدودب ظهره ، وابنه حيٌّ في دار الدّنيا ، وأنا نظرتُ إلى أبي وإخوتي وعمومتي ، وسبع عشر شابّاً من بني عمومتي مجزَّرين كالأضاحي ،ونظرتُ إلى عمّاتي وأخواتي وقد أحاط بهم أهل الكوفة وهنَّ يستغثن ويندبن قتلاهنَّ (1) .

ولذلك إمامنا السجّاد عليه السلام مرّات عديدة بكى دماً لحُزنه على والده الحسين عليه السلام .

قال له أبو حمزة : سيّدي ! ما هذا البكاء والجزع ؟ ألم يقتل عمّك حمزة ؟ ألم يقتل جدّك علي عليه السلام بالسّيف ؟ إنّ القتل لكم عادة ، وكرامتكم من اللّه الشّهادة .

فقال له الإمام عليه السلام : شكر اللّه سعيك يا أباحمزة ، كما ذكرت ، القتل لنا عادة وكرامتنامن اللّه الشهادة ، ولكن يا أباحمزة ! هل سمعت اذناك ، أم رأت عيناك ، أنّ امرأة منّا اسرت .

ص: 16


1- . سيرة الأئمّة الإثنى عشر ، لهاشم معروف الحسيني ، ج2 ص114 .

أو هتكت قبل يوم عاشوراء .

واللّه يا أباحمزة : ما نظرتُ إلى عمّاتي وأخواتي إلّاوذكرتُ فرارهنّ في البيداءمن خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، والمنادي ينادي : أحرقوا بيوت الظّالمين .

زينب احتارت يوم شبوا بالخيم نار *** طلعت ايواه الحريم اصغار وكبار

تصرخ ابعالي الصوت طايح وين يحسين *** خدري انهتك وانت غياث المستغيثين ...الخ

* * *

وحائرات أطار القوم أعينها *** رُعباً غداة عليها خدرها هجموا (1)

ولذلك جاءت العقيلة عليها السلام إلى السجّاد عليه السلام أخذت برأسه وضعته في حجرها وهي تقول : يا بقيّة الماضين ، ويا ثمال الباقين ، أنت الإمام وأنت الحجّة ، فبيّن لنا ما نصنع ؟

فتح العليل عينيه في وجهها وقال : عمّة زينب عليكنّ بالفرار .

ففرّت بنات رسول اللّه صائحات نائحات باكيات ، وهنَّ يلذن بعضهن ببعض ويصحن : وامحمّداه ، واعليَّاه (2) .

واذا بالعقيلة زينب اخذت تضرب يد على يد ولسان حالها :

انه بگيت امحيره وصفج باليدين *** لا عباس يبرالي ولا حسين

يزجرونى من ابچي اوتدمع العين *** وتبگه عبرتي بگلبي اتكسر

* * *

وأعظمُ رُزءٍ زلزل العرشَ صرفُه *** ودكَّ الرَّواسي فهي منه رِمامُ

هجومُ العدا جهراًعلى حُجب أحمد *** ولم يُرع فيهم للنَّبي ذِمامُ

ففرّت من الأعداء حسرى مروعةً *** لها السِّترُ صونٌ والعفافُ لِثامُ .

ص: 17


1- . إرشاد الخطيب - للسيّد جاسم حسن شبّر - ص33 .
2- . مقتل الحسين - لأبي مخنف .

المجلس الثاني: خطبة النّبي صلى الله عليه و آله و سلم في مستهلّ شهر رمضان المبارك

اشارة

شهرُ الصيامِ لقد كُرِّمتَ نَزيلا *** وشفيتَ من كلِّ القلوبِ غليلا

فيك الجنانُ تزيَّنت من فرحةٍ *** والحورُ فيك تزيَّنت تَحفيلا

شهرُ الأمانةِ والصّيانةِ والتُّقى *** والفوزُ فيه لمن أرادقَبولا

طوبى لعبدٍ صحَّ فيه صيامُه *** ودعا المهيمنَ بكرةً وأصيلا

شهرٌ يفوزُ على الشّهورِبليلةٍ *** من ألف شهرٍ فُضّلت تَفضيلا

وبفوزهِ هذا يُذكّرنابمَن *** فازوا وفيه بَجَّلواتَبجيلا

كأبي ترابٍ من به فاقَ الورى *** حتّى ثوى فوقَ التُراب جديلا

وكفاطمٍ بنتِ النّبي محمّدٍ *** تتلوا به قرآنه تَرتيلا (1)

ص: 18


1- . حديث رمضان - للعلّامة الشهيد السيّد حسن الشيرازي - ص240 . والبيتان الأخيران من القصيدة للسيّد مهدي السّويچ الخطيب .

عن الإمام الرّضا عليه السلام عن آبائه ، عن عليّ عليه السلام قال : خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله في آخرجمعة من شهر شعبان فقال :

أيّها النّاس ! إنّه قد أقبَلَ إليكم شهرُ اللّهِ بالبَرَكةِ والرّحمةِ والمغفرةِ ، شهرٌ هو عندَ اللّهِ أفضلُ الشُّهورِ ، وأيّامُهُ أفضلُ الأيّامِ ، ولياليهِ أفضلُ اللّيالي ، وساعاتُهُ أفضلُ السّاعات .

وهُو شهرٌ قد دُعيتم فيه إلى ضيافةِ اللّه ، وجُعِلْتم فيه من أهل كرامةِ اللّه .

أنفاسُكُم فيه تسبيحٌ ، ونومُكُمْ فيه عبادةٌ . عَمَلُكم فيه مقبولٌ ، ودُعائكُمْ فيه مستجابٌ . فسئلوا اللّه رَبَّكُم بنيّاتٍ صادقةٍ ، وقلوبٍ طاهرةٍ ، أن يوفِّقَكم لصيامه وتلاوة كتابه . فإنّ الشّقيَّ من حُرِمَ غفرانَ اللّه في هذا الشّهر العظيم . واذكروا بجوعِكُمْ وعَطَشِكُمْ فيه جوعَ يوم القيامةِ وعطشهِ . وتصدّقوا على فُقرائِكم ومساكينِكم . ووَقِّرُوا كبارَكُمْ وارحموا صغارَكم ، وصِلُوا أرحامَكم . وأحفظوا ألسنتَكم ، وغُضُّوا عمّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إليه أبصارَكم وعمّا لا يحلّ الاستماعُ إليه أسماعَكُم . وتَحَنّنوا على أيتام النّاس يُتَحَنَّنُ على أيتامكم . وتوبوا إلى اللّه من ذنوبِكم . وارفعوا اليه أيديَكم بالدُّعاء في أوقات صلواتِكُم ،فإنّها أفضلُ السّاعات .

ينظر اللّه - عزّ وجلّ - فيها بالرّحمة إلى عباده . يُجِيبهم إذا ناجَوْه ، ويُلَبِّيهم إذا نادَوْه ،ويستجيبُ لهم إذا دَعَوْه .

أيّها النّاس ! إنّ أنفسكم مرهونةٌ بأعمالكم ، ففُكُّوها باستغفاركم ، وظُهوركم ثقيلة من أوزارِكم فخفِّفوا عنها بطول سجودكم . واعلموا أنّ اللّه - جلّ ذكره - أقسم بعزّته أن لايُعَذِّبَ المُصلِّين والسّاجدين ، وأن لا يُروّعهم بالنّار يوم يقومُ النّاس لربّ العالمين .

أيّها النّاس ! من أفطَرَ منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر ، كان له بذلك عند اللّه عِتْقُ رقَبَةٍ ومغفرةٌ لما مضى من ذنوبه . فقيل له : يا رسول اللّه ! وليس كُلُّنا نقدر على ذلك .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إتّقوا النّار ولو بِشَقِّ الّتمر ، إتّقوا النّار ولو بشَربةٍ من ماءٍ .

أيّها النّاس ! مَن حَسَّن منكم في هذا الشَّهرِ خُلُقَه ، كان له جوازاً على الصّراط ، يوم

ص: 19

تَزِلُّ فيه الأقدام . ومن خَفَّفَ فيه منكم عمّا ملكت يمينه ، خَفَّفَ اللّهُ عليه حسابَه . ومن كَفَّ فيه شرَّهُ ، كَفَّ اللّهُ عنهُ غضبه يوم يلقاهُ .

ومن أكرم فيه يتيماً ، أكرمه اللّه يومَ يلقاهُ . ومن وَصَلَ فيه رَحِمَهُ ، وَصَلَهُ اللّهُ برحمته يوم يلقاه . ومن قَطَعَ فيه رَحِمَهُ ، قطع اللّه عنه رحمته يوم يلقاه . ومن تطوّع فيه بصلاةٍ كتب اللّه له براءةً من النّارِ . ومن أدّى فيه فريضةً ، كان له ثوابُ من أدّى سبعينَ فريضةً في ماسواه من الشّهور . ومن أكثر فيه من الصّلاة عَلَيَّ ، ثَقَّلَ اللّهُ ميزانُهُ يوم تَخِفُّ الموازينُ .

ومن تلا فيه آيةً من القرآن ، كان له أجرُ من ختمَ القرآنَ في غيره من الشُّهور .

أيّها النّاس ! إنّ أبوابَ الجنان في هذا الشّهر مُفَتَّحَةٌ ، فاسألوا اللّه ربّكم أن لا يغلقهاعليكم . وأبوابَ النّيران مُغْلَقَةٌ ، فاسألوا اللّه ربّكم أن لا يفتحها عليكم . والشّياطين مغلولةٌ فاسألوا اللّهَ ربّكم أن لا يُسَلِّطَها عليكم .

قال أميرالمؤمنين عليه السلام : فقمتُ فقلت : يا رسول اللّه ! ما أفضل الأعمال في هذاالشّهر ؟

فقال صلى الله عليه و آله : يا أباالحسن ! أفضلُ الأعمال في هذا الشّهر الوَرَعُ عن محارم اللّه - عزّوجلّ - .

ثمّ بكى ، فقلت : يا رسول اللّه ! ما يُبكيك ؟ فقال صلى الله عليه و آله : يا عليّ ! أبكي لما يُستَحَلُّ منك في هذا الشّهر . كأنّي بك وأنت تُصلّي لربِّك وقد انبَعَثَ أشقى الأوّلين والآخرين شقيقُ عاقِرِ ناقة ثمود ، فضربك ضربةً على قَرنِكَ فخضّب منها لحيتك ! قال أميرالمؤمنين عليه السلام :قلتُ : يا رسول اللّه ! وذلك في سلامةٍ مِن ديني ؟

فقال صلى الله عليه و آله : في سلامة من دينك . ثمّ قال : يا علي ! مَن قَتَلَك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبَّك فقد سبّني . لأنّك منّي كنفسي ، رُوحُكَ من روحي ، وطينتُك من طينتي .

إنّ اللّه - تبارك وتعالى - خلقني وإيّاك ، واصطفاني وإيّاك واختارني للنبوّة واختارك للإمامة . ومن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوّتي .

يا عليّ ! أنت وصيّي ، وأبو وُلْدِي ، وزوج ابنتي ، وخليفتي على امّتي في حياتي وبعد

ص: 20

موتي ، أمرك أمري ، ونهيك نهيي .

اقسم بالذي بعثني بالنبوّة وجعلني خير البريّة إنّك لحجّة اللّه على خلقه ، وأمينه على سرّه ، وخليفته على عباده (1) .

كان النبيّ صلى الله عليه و آله في كلّ سنة كما هي العادة من سيرته يستقبل شهر رمضان المبارك بخطبةٍ يحرّض بها المسلمين على أداء صيام شهر رمضان المبارك ، ويشير فيها إلى أهمّيّة هذا الشّهر المبارك عند اللّه سبحانه وتعالى ويذكر أحكامه .

ولذلك هذه الخطبة الّتي تلوناها عليكم هي أحد الخطب الّتي خطبها النّبي صلى الله عليه و آله في مستهلّ هذا الشهر العظيم .

وقد ذكر النّبي صلى الله عليه و آله في هذه الخطبة عشرين بنداً وخصلة أو أكثر ، كلّها مواعظوتحريض للمؤمنين على الإنقطاع إلى اللّه والابتعاد من هذه الدُّنيا .

والجدير بالذّكر في هذه الخطبة هو أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في آخر الأمريسال من النّبي صلى الله عليه و آله : ما أفضل الأعمال في هذا الشّهر ؟ في حين أنّ النّبي صلى الله عليه و آله قد تعرّض في هذه الخطبة إلى أعمال وخصال كثيرة في هذا الشّهر المبارك .

ولكن النّبي صلى الله عليه و آله ما تعرّض إلى هذة الخصلة الّتي أجاب بها الإمام عليه السلام حيث قال له :أفضل الأعمال في هذا الشّهر الورع عن محارم اللّه عزّ وجلّ .

وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على دقّة وتدبّر الإمام عليه السلام لكلام النّبي صلى الله عليه و آله وحذاقته ، وأيضاً يكون درساً للآخرين الّذين كانوا يستمعون لخطبة النّبي صلى الله عليه و آله حيث إبتدر الإمام بالسؤال من النّبي صلى الله عليه و آله دون غيره . إذاً فهذا الشّهر هو شهر بركةٍ ورحمةٍ ومغفرة ، كما قال النّبي صلى الله عليه و آله في مقدّمة الخطبة .

بُني الإسلام على الصّوم

إنّ الصّوم من أهمّ العبادات وهو من ضروريّات الدّين كوجوب الصّلاة والزّكاة والحجّ والولاية .

ص: 21


1- . أمالي الصدوق ص93 ، انتشارات كتابچي .

وقد أفتى الفقهاء أنّ من أنكر وجوب الصيام ، فهو مرتدّ يجب قتله ، ومن آمَن بوجوبه ولكن تركه تهاوناً واستخفافاً ، عُزّر بما يراه الحاكم الشّرعي ، فإن عاد عُزِّر ثانية ،فإن عاد قُتل ، وقيل : يُقتل في الرّابع .

وقد رُوي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله : بُني الإسلام على خمس دعائم : الولاية ،والصّلاة ، والزّكاة ، وصوم شهر رمضان والحجّ .

وروي أيضاً عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : بُني الإسلام على خمسة أشياء :على الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوم والولاية .

قال زرارة : فقلت : وأيّ شيءٍ من ذلك أفضلُ ؟

فقال : الولايةُ أفضلُ لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدّليلُ عليهنّ .

قلت : ثمّ الذي يلي ذلك في الفضل ؟

فقال : الصّلاة ، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : الصّلاةُ عمودُ دينكم .

قال : قلت : ثمّ الذي يليها في الفضل ؟

قال : الزّكاة ، لأنّه قَرَنَها بها وبدأ بالصّلاة قبلها ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الزّكاة تُذهِبُ الذنوبَ .

قلت : والذي يليها في الفضل ؟

قال : الحجُّ ، قال اللّه عزّ وجلّ : وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (1) . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لحجّةٌ مقبولة خيرٌ من عشرين صلاةً نافلةً ، ومن طاف بهذا البيت طوافاً أحصى فيه اسبوعه وأحسن ركعتيه غفراللّه له ، وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال .

قلتُ : فماذا يتبعه ؟

قال : الصّومُ .

قلت : وما بال الصّوم صار آخر ذلك أجمع ؟ .

ص: 22


1- . آل عمران - آية 97 .

قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الصّوم جُنّةٌ من النّار .

قال : ثمّ قال : إنّ أفضل الأشياء ما إذا أنت فاتك لم تكن منه توبةٌ دون أن ترجع إليه فتؤدّيه بعينه ، إنّ الصّلاة والزّكاة والحجّ والولاية ليس يقع شيء مكانها دون أدائها ،وإنّ الصّوم إذا فاتك أو قصَّرْتَ أو سافرْتَ فيه أدّيت مكانه أيّاماً غيرها ، وجزيتَ ذلك الذّنب بصدقةٍ ولا قضاء عليك ، وليس من تلك الأربعة شيء يُجزيك مكانه غيرُه (1) .

ثمّ إنّ الصّوم عبادة قديمة لا تختصّ بالمسلمين ، إفترضها اللّه سبحانه على من سبق من الاُمم والأديان ، كما أشارت الآية إلى ذلك :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2) ، ولكن بصورة مختلفة عن صومنا نحن المسلمين كمّاً وكيفاً ، وزمناً .

فالتشبيه في الآية ، تشبيه الفريضة بالفريضة بصرف النّظر عن الصّفة وعدد الأيّام ووقتها ، ومعنى : كُتِبَ في الآية ، يعني : فرض كما جاء في قوله تعالى : كِتاباً مَوْقُوتاً ، أي : واجباً معيّناً بوقتٍ خاصّ ، ثمّ بيّن تعالى النّتيجة الحاصلة من الصّوم بقوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، يقول المفسّرون : إنّ كلمة لعلّ في القرآن ، ليست بمعنى يمكن ،بل بمعنى : التّحقيق والوقوع ، فقوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي : كي تتّقوا .

وقال كثير من المفسّرين : إنّ هذه الجملة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تشير إلى الحكمة من وجوب الصّوم ، وهي أن يتمرّن الصّائم على ضبط النّفس وترك الشّهوات المحرّمة والصَّبر عليها ، ويقوي في الإنسان الإرادة على مخالفة النّفس الأمّارة .

الصّوم وترويض النَّفْس

إنّ أكثر الكوارث الّتي تدهم النّاس ، هو نتاج طبيعي عن الهوسات الإرتجاليّة ،الّتي يفعلونها ، تلبية للنزق الطّائش ، الّذي يوسوسه الشيطان لهم .

ولو فحصنا أكثر المحاكم والسّجون في ظلّ الحكومات الصّحيحة ، لم نجد فيها من يساق إليها بدافع عقله - إلّاإذا كانت الحكومات منحرفة تضطهد المفكّرين ، بل بدافع

ص: 23


1- . اصول الكافي - للكليني - ج2 ص16 .
2- . سورة البقرة - آية 182 .

الشهوة الحيوانيّة والطَّيش ، الّذي يزجّ بالاُلوف في المحاكم والسّجون .

أوليس في الحديث : أعدى عدوّك ، نفسك الّتي بين جنبيك ؟ وإذا كانت النّفس ،مصدر الويلات والنّكبات ، الّتي تنغّص حياة النّاس ، فمن الأجدر للإنسان أن يروِّض نفسه على التّقوى ، قبل أن يدخل في المجتمع والحياة المشتركة ، حتّى يستريح من غائلة هذا العدو النَّفسي الدّاخلي ، ويتفرَّغ لمكافحة أعدائه الخارجيّين في جبهة واحدة .

والنَّفس ، كالأرض - أوليست من الأرض ؟ - إن اهملت تنبت فيها الحشائش والأشواك ، وإن روعيت ، تنبت كلّما حلى وطاب .

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (1) .

وإذا راضت النّفس على تقوى اللّه تعالى ، يصحّ ويسلم الجسم ، ويستريح الجسد ،أوليس المجرمون أكثر النّاس شقاءاً ورهقاً ؟ أوليس الصّالحون ، أقلّ النّاس شقاءاًورهقاً ؟

فالمجرم وإن قلّت مصائبه - يعيش في قلق وارتباك ، يحسب كلّ صيحة عليه ،ويحسب كلّ ضربة خسارة ، بينما الإنسان الصّالح ، وإن كثرت مصائبه - يعيش في ثقة واطمئنان ، يعلم : أنّه لا يصيبه إلّاما كتب اللّه له ، ويعلم : أنّه لا يصيبه مكروه إلّاكتب له به عملٌ صالح .

وإذا اطمئنّت النّفس وهدئت ، اطمئنّت الأعصاب وهدئت ، استطاعت الأجهزة العاملة في داخل الإنسان ، أن تؤدّي واجباتها الرّتيبة ، بتوفّر واطراد فتحصّنت من الأمراض الكثيرة ، النّاجمة عن اضطراب عمل الأجهزة الداخليّه في الإنسان ، وإذا قلقت النّفس وارتبكت الأعصاب ، اضطربت الأجهزة الداخليّة ، فلم تطق أداء واجباتها الرتيبة بانتظام ، وفسد الجسم كلّه .

لقد قال (أفلاطون) : إنّ أكبر أخطاء الأطبّاء ، أنّهم يحاولون علاج الجسد دون العقل ، في حين أنّ العقل والجسد ، وجهان لشيء واحد ، فلا ينبغي أن يعالج أحد .

ص: 24


1- . سورة الأعراف - آية 58 .

الوجهين على حده .

وعليه فالصّوم هو أحد الطّرق بل أهمّها لعلاج هذا المرض الخطير ، مرض النّفس الأمّارة بالسّوء والسّيطرة عليها من طريق التّقوى ، ولذلك قال تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) .

وقد ثبت من النّاحية العلميّة ، أنّ ثورة الغضب الّتي تكون عند الإنسان والّتي تدفعه لاقتراف الجريمة تنشأ من غريزتين : من الغضب ومن الجنس ، وقد ثبت علمياً أنّ الصّوم يُقلّل من هذين الغريزتين : الغضب والجنس .

الصوم عند الاُمم السّابقة

فالصّوم من العبادات المأثورة الّتي مارسها الإنسان منذ القِدَم ، وكان معروفاً لدى الكثير من الاُمم والأديان السّابقة ، فقد جاء في التاريخ : إنّ المصريّين القدامى كانوايصومون إلى الآلهة المختصّة بهم من الأصنام ، وكذلك الرّومانيّون ، فقد عرفوا بكثرة صيامهم وكانوا يصومون أيضاً كلّما نزلت بهم نازلة أو بلاء ، و ذلك طلباً للرّحمة والاستعطاف .

وكذلك الهنود فتراهم قد غالوا في صيامهم لأنّهم كانوا ولا يزالون يصومون أيّاماًكثيرة بلا طعام ولا شراب ، وذلك تقرّباً لآلهتهم ، واما صيام الآشوريّين وهو للتَّكفير عن الخطايا والذّنوب وكان إذا أخطأ أحدهم صام (2) .

هذا بالنّسبة إلى الاُمم السّابقة ، أمّا الصّوم عند المسلمين فقد فرض الصّوم عليهم بعد نزول هذه الآية المباركة بصيام شهر رمضان ، وقد أجمع المفسِّرون على فرض الصِّيام ووجوبه في السّنة الثانية من الهجرة النبويّة ، نزل الوحي على الرّسول صلى الله عليه و آله في شهر شعبان بالمدينة المنوّرة مُعلناً ببدأ فرض صيام شهر رمضان المبارك على المسلمين بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (3)

ص: 25


1- . حديث رمضان ص154 .
2- . الصوم بحثٌ ودراسة للسيّد عبدالكريم القزويني ص7 .
3- . سورة البقرة - آية 182 .

وخصَّ اللّه تعالى في هذه الآية المؤمنين بالذّكر دون المسلمين لأنّهم أولى به ، ولوجودفرق بين المؤمن والمسلم وخلاصته هو أنّ الإيمان إقرارٌ وعمل ، والإسلام إقرارٌ بلاعمل .

وروي عن سماعة قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهمامُختلفان ؟

فقال : إنّ الإيمان يُشاركُ الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان ، فقلت : فصفهمالي ، فقال : الإسلام شهادةُ أن لا إله إلّااللّه والتّصديق برسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ به حُقِنَت الدّماء ،وعليه جرت المناكح والمواريثُ وعلى ظاهره جماعة النّاس ، والإيمان : الهُدى ومايثبتُ في القلوب من صفة الإسلام وما ظَهَرَ من العمل به ، والإيمان أرفعُ من الإسلام بدرجةٍ ، إنّ الإيمان يُشارك الإسلام في الظّاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصّفة (1) .

أهمّيّة الصّوم عند المسلمين

و هكذا بقي هذا الشّهر العظيم بعد نزول هذه الآية المباركة نوراً يشعّ في نفوس المؤمنين وتقرّبهم إلى طاعة اللّه ، فبقيت قدسيّه شهر رمضان تأخذ دورها في نفوس المسلمين جيلًا بعد جيل ، حتّى جاء دور وجيل العهد الفاطمي ، رأيناه يتجلّى عظمة و إجلالًا ، فقد كان الخليفة الفاطمي يخرج في موكب رسمي يقال له موكب الرؤية أي رؤية هلال شهر رمضان والإشعار بدخوله ، فيخرج الخليفة و تحيطه الاُبَّهة و الهيبة إلى المسجد ، فإذا ثبت هلال شهر رمضان عاد ذلك الموكب إلى القصر ، فتستقبله عند مدخله عليّة القوم بالموشّحات الدّينيّة والأذكار والدّعاء وكانوا يقيمون الحفلات و ولائم الإفطار والسّحور لتكريم العلماء وكبار القوم والفقراء طيلة الشّهر .

وأمّا بالنّسبة إلى المتجاهر بالإفطار في ذلك العهد يُؤخذ ويُركَب على دابّة معكوساً ، بأن يجعل وجهه إلى ذيل الدابّة وخلفه إلى رأسها ويلطّخ وجهه بالعسل ليكون مجمعاً للذّباب والحشرات ويطاف به في الأزقّة والسكك والطُّرقات كي يكون عبرة

ص: 26


1- . الاُصول الكافي - للكليني - ج2 ص21 .

للآخرين ولكي لا يستحلّوا حرمة هذا الشّهر ، ثمّ إن عاد ثانياً يُضرب ، وفي الثالثة يُقتل ،فهكذا كانوا يعظِّمون هذا الشّهر ويُقدّسونه .

أحاديث أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان

وهناك أحاديث كثيرة أشارت إلى فضل وعظمة شهر رمضان وما للصَّائم من فضيلة ومنزلة عند اللّه سبحانه وتعالى ، ويكفيك في ذلك الخطبة النّبويّه الّتي ذكرناها في أوّل المجلس ، حيث دلّت على عظمة هذا الشّهر عند اللّه سبحانه وتعالى ، وما للصّائم من عناية من قِبَلِ اللّه تعالى وأنّه ضيفٌ عند اللّه سبحانه وتعالى ، حيث أكرم عبده وجعله من أهل كرامة اللّه ، أنفاسه فيه تسبيح ، ونومه عبادة ، وعمله مقبول ، ودعائه مستجاب .

ثمّ إنّ العبد لو يعلم ما أعدّ اللّه له في هذا الشّهر ، لتمنّى أن تكون السّنة بكاملهارمضان ، كما قال النّبي صلى الله عليه و آله : لو يعلم العبد ما في شهر رمضان لودّ أن يكون رمضان السّنة .

وإنّما سُمّي رمضان لأنّه يرمض الذّنوب .

وفي مروج الذهب للمسعودي : إنّ اسم رمضان من الرمضاء لوقوعه آنذاك في غاية الصيف عند اشتداد حرارة الرمضاء .

وهناك عدداً من الأحاديث تؤكّد أنّ (رمضان) من أسماء اللّه ، وسمّي هذا الشّهرب «شهر رمضان» لاختصاصه باللّه ، كما يقال : «شهر اللّه» ... ولذلك كرِّه إلينا أن نقول«رمضان» بل اللّازم أن نقول احتراماً : «شهر رمضان» .

فعن سعد قال : كنّا عند أبي جعفر عليه السلام فذكرنا رمضان ، فقال : لا تقولوا : هذارمضان ، ولا ذهب رمضان ، ولا جاء رمضان ، فإنّ رمضان إسم من أسماء اللّه عزّوجلّ ،لا يجيء ولا يذهب ، وإنّما يجيء ويذهب الزايل ، ولكن قولوا : شهر رمضان ، فالشّهرمضاف إلى الإسم ، والإسم إسم اللّه عزّ وجلّ .

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : لا تقولوا رمضان ، فإنّكم لا تدرون ما رمضان ... ولكن قولوا : شهر رمضان ، كما قال اللّه عزّ وجلّ : شَهْرُ رَمَضانَ (1) .

صيام وعبادة السيّدة نفيسة

ونحن إذا تصفّحنا التأريخ ، نجد هناك شخصيّات ونماذج كثيرة يجعلون للصّوم

ص: 27


1- . حديث رمضان - للعلامة الشهيد السيد حسن الشيرازي قدس سره - ص51 .

أهميّة كبيرة ، وتراهم يصومون إضافة على الواجب فترة طويلة صوماً مستحبّاً كي ينالوارضى اللّه وثوابه ، وكان الصوم الواجب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ثلاثة أشهر : رجب وشعبان و شهررمضان .

وممّا يذكر في هذا المجال أنّ السيّدة نفيسة وهي زوجة إسحاق المؤتمن إبن الإمام الصادق عليه السلام إبنة الحسن المثنّى ، إبن الحسن المجتبى عليه السلام ، والّتي قد وردت روايات في مدحها ، كانت عابدة زاهدة ، وعندما أشرفت على الموت كانت صائمة ، فجاؤوا إليهابالماء فامتنعت عن شرب الماء وقالت : واعجباً ! إنّي منذ ثلاثين سنة أسأل اللّه تعالى أن ألقاه وأنا صائمة ، أفطر الآن ، هذا لا يكون ، ثمّ قرأت سورة الأنعام ، فلمّا وصلت إلى قوله تعالى : لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (1) ماتت رضوان اللّه عليها .

ويذكر أنّها كانت قد حفرت في بيتها قبراً لها تجلس فيه كلّ يوم ساعات وتقرأالقرآن ، حتّى أنّها ختمت القرآن ستة آلاف مرّة ، ولمّا فارقت الحياة أراد زوجها إسحاق المؤتمن أن ينقل جثمانها إلى المدينة حتّى تدفن في البقيع ، فاجتمع أهل مصر وألحّواوأصرّوا عليه بأن يدفنها عندهم كي تتشرّف أرضهم بقبرها ، وبذلوا له المال الكثير ،فامتنع زوجها اسحاق .

ثمّ إنّه رأى في المنام النّبي صلى الله عليه و آله يقول له : يا إسحاق ! لا تعارض اهل مصر في نفيسة ، فإنّ الرّحمة تتنزّل عليهم ببركتها ، فانتبه من النّوم وقرّر أن يدفنها في مصر ، وكان موكب التشيّع موكباً عظيماً ، وإلى الآن يتوافد المصريّون وغيرهم إلى قبرها للزّيارة والتبرّك ؛ لأنّهم عرفوا قدر ومنزلة هذه السيّدة الجليلة ، ولكن أسألكم باللّه : هل إنّ أهل الكوفة ما كانوا يعرفون قدر السيّدة زينب بنت علي عليه السلام ؟ هل كانت تستحقّ كلّ ذلك الأذى منهم ؟ وهل إنّهم يجهلون قدرها ؟

أسفي عليك يا بنت أميرالمؤمنين ، بعد كلّ ذلك العزّ تصبحين أسيرة بين الأعداء ،وكما قُلتِ في مجلس يزيد : (أمن العدل يابن الطّلقاء ، تخديرُك حرائَرك ، وسوقُك بنات رسول اللّه سبايا ، قد هتكتَ ستُورَهُنّ ، وأبديتَ وجوهَهُنّ ، تَحدوا بهنّ الأعداءَ من بلدٍ إلى .

ص: 28


1- . الانعام آية 127 .

بلدٍ ، ويَستَشْرِفُهُنّ أهلُ المناهلِ والمناقلِ ، ويتصفّحُ وجوهُهنّ القريبُ والبعيدُ ، والدّنيُّ والشّريفُ ، ليس معهُنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا من حُماتهنّ حميّ .

وكيف يُرتجى مراقبةُ من لفظَ فوهُ أكبادَ الأزكياء ونبتَ لحمُهُ من دِماء الشهداءِ ؟وكيف يُستبطأ في بُغضِنا أهلَ البيت ، مَن نظر إلينا بالشَّنَفِ والشّنئانِ ، والإحَنِ والإضغانِ ،ثمّ تقول غير متأثّمٍ ولا مُستعظم :

لأهلّوا واستهلّوا فَرَحاً *** ثمَّ قالوا يا يزيد : لاتُشَل

مُنحنياً على ثنايا أبي عبداللّه ، سيّد شباب أهل الجنّة ، تَنكتُها بمخصرتك ، وكيف لاتقول ذلك ؟ وقد نكأتَ القُرحة ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماءَ ذُرّيّةِ محمّد صلى الله عليه و آله ،ونجومِ الأرضِ من آل عبدالمطّلب ، وتَهتفُ بأشياخِك زعمتَ أنّك تُناديهم .

فَلَتردَنّ وشيكاً موردَهم ، ولَتَوِدَّنّ أنّك شَلُلتَ وبَكَمْتَ ، ولم تكن قُلتَ ما قُلت ، ولافعلتَ ما فعلت) (1) .

أنه ويني ووين الدواوين *** انه امخدّرة عباس وحسين

* * *

انه لا عادتي اوگف ابديوان *** ولاكلمت يحسين عدوان

ولا شفت ذله ولاهوان *** ولا تخدرت مثلى النسوان

* * *

ماذا تقولون إن قال النّبيُّ لكم *** ماذافعلتم وأنتم آخر الاُمم

بعترتي وبأهل بيتي بعد مفتقدي *** منهم اُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدَمي

من مناسبات ووقائع اليوم الثاني من شهر رمضان ، هو وقوف الحسين عليه السلام بمكّة ،ورجوع النّاس إليه ، فكان ذلك مِن أثقل الاُمور على ابن الزبير الذي سبق الحسين عليه السلام إلى مكّة ، طامعاً برجوع النّاس إليه ، وعلى أثر ذلك ، جاءته كتب أهل العراق يدعونه إلى التوجّه إليهم ، فأرسل مسلم بن عقيل عليه السلام إليهم من المدينة . .

ص: 29


1- . المجالس السنية ج1 ص146 .

المجلس الثالث: حول الدّعاء وصلته بالصَّوم

اشارة

فما أدرِي اهنِّي أم اعزِّي *** عليَّ المرتضى بابنِ الشَهيدِ

فطوراً ياعليّ اهنّئُ فِيهِ *** وانظمُ مدحَه نظمَ العُقودِ

عليٌّ بالطفوفِ أقامَ حرباً *** كحربِكَ يا عليُّ مَع اليهودي

وصيَّرَ كربلا بدراًواُحْداً *** ونادى يا حروبَ الجدِّعُودي

وقاتلَ بكرَهم كقِتَالِ عمروٍ *** وغادرَ جسمَهُ نهبُ الحدِيدِ

وطوراً يا عليُّ أعزِّي فِيه *** وتبكِي العينُ للعِقْدِالفرِيدِ

أقولُ لها وقد مُلأتْ دُموعاً *** الايا مُقلتيَّ هلْ مِنْ مَزِيدِ

شبابٌ ما رأى عِرساً ولكنْ *** تخضّبَ كفُّه بدَمِ الورِيدِ

فوا نفسي اذهبي وَجداًوحُزناً *** ويا عيني بحُمرِ الدّمعِ جودي

على حُلوِ الشَّبابِ وبدرِتمٍّ *** شبيهِ محمَّدٍ خيرِالجدُودِ

كأنِّي بالحسينِ غدايُنادي *** علينا يا ليالي الوصلِ عُودي

رجوتُكَ يا عليُّ تعيشُ بعدي *** لتُوسدُ جُثَّتي رمسَ اللحودِ

وتمشي باكياً من خلف نعشي *** كما يبكي الوليد على الفقيدِ

ولم انسى النساء غداة فرت *** الى نعش الشهيد ابن الشهيدِ

وزينب قابلت ليلى وقالت *** اعيدي النوح يا ليلى اعيدي (1)

ص: 30


1- . الشيخ جعفر الهر الكربلائي رحمه الله ت : 1347 ه .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

ذكر الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان قدّس اللّه روحه :

إنّ اللّه سبحانه وتعالى لمّا ذكر الصّوم فيما تقدّم من الآيات عقّبه بذكر الدّعاءباعتباره أحد وسائل الارتباط بين العباد والمعبود فمجيء هذه الآية في سياق الحديث عن الصوم يعطيه مفهوماً جديداً إذ أنّ الدعاء والتقرّب إلى اللّه روح كلّ عبادة وبالأخص الصّوم .

أقول : وممّا يؤيّد ذلك ، ما ورد في خطبة الرّسول صلى الله عليه و آله بهذا الصّدد ، ذكرها الصّدوق بسنده عن زيد بن علي رضى الله عنه عن آبائه عليهم السلام عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : لمّا حضر شهررمضان ، قام رسول اللّه فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :

أيّها النّاس ! كفاكم اللّه عدوّكم من الجنّ ، وقال : اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ووعدكم الإجابة ، ألا وقد وكّل بكلّ شيطان سبقه من ملائكة ، فليس بمحلول حتّى ينقضي شهركم هذا ، ألا وإنّ أبواب السّماء مفتّحة من أوّل ليلة منه ، ألا والدّعاء فيه مقبول (2) .

وكان سبب نزول هذه الآية كما في كتاب أسباب النّزول للسّيوطي : إنّ رجلًا سأل النّبي صلى الله عليه و آله ، أقريبٌ ربّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت هذه الآية .

وذكر المفسّرون عدّة معان ، منها أنّ اللّه لا يخلو منه مكان ، بل هو في كلّ مكان ، إذلو كان في مكان معيّن لما كان قريباً لكلّ من يدعوه ، فقوله تعالى : فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ أي إنّه أقرب ممّا تتصوّرون أقرب منكم إليكم وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ .

ص: 31


1- . سورة البقرة - آية 186 .
2- . ثواب الأعمال - للشيخ الصدوق - ص 59 .

مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (1) .

معنى الدعاء

وللدّعاء في هذه الآية الّتي مرّت عدّة معان أهمّها ثلاثة :

الأوّل : يراد بالدّعاء الطّلب وهو موضوع الآية .

المعنى الثّاني : يُراد بالدّعاء العبادة ، ومنه قوله تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي (2) أراد بالدّعاء هنا العبادة .

الثّالث : مضافاً إلى ما تقدّم ، يراد به التّوجيه للعمل والحركة ، قال أميرالمؤمنين عليه السلام : الدّاعي بلا عمل كالرامي بلا وتر ، والوَتَر بحركته يدفع السهم نحوالهدف .

ومن ذلك أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله دخل المسجد ضحى يوم ، فرأى رجلًا من الأنصاريُدعى أبو امامة ، رآه جالساً وهو كئيب ، فاستنكر النّبي صلى الله عليه و آله عليه الجلوس وقت العمل لطلب الرّزق .

فقال : يا رسول اللّه ! لقد أصبحتُ وللنّاس عَلَيَّ دَين عجزت عن أداءه ، وأخجل من مواجهتهم .

فقال صلى الله عليه و آله : ألا اعلّمك شيئاً إن عملته تخرج من محنتك هذه ؟

فقال : بلى يا رسول اللّه .

فقال صلى الله عليه و آله : أن تقول بعد كلّ صلاة : (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذبك من الهمّ ، وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من كثرة الدَّينِ وغلبة الرِّجال) ،فالنّبي بهذا الدّعاء أراد أن يدفع أبواُمامة إلى العمل والحركة ، وأن لا يكون مغموماً في الحياة عاجز عن العمل .

قال ابو امامة : فعملتُ بها فانقضى ديني وحسن حالي .

ص: 32


1- . سورة ق - آية 16 .
2- . سورة غافر - آية 60 .

ولذلك فإنّ أدعية رمضان حوت ذلك فيما حوته ، وقوله تعالى : فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، قال الطّبرسي : أي فليدعوني ، وقوله : وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أي : وليصدِّقوا بجميع ماأنزلته ، وإنّي قادرٌ على إعطائهم ما سألوه . وتختم الآية بالجملة التّالية : لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ معناه : يصيبون ويهتدون إليه (1) .

روى عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام قال : الدعاء يردّ القضاء بعد ما ابرم اِبراماً ، فاكثر من الدعاء فإنّه مفتاحُ كلِّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند اللّه إلّابالدّعاء ، وإنّه ليس بابٌ يكثر قَرعه إلّايُوشك أن يفتح لصاحبه (2) .

فلسفة الدعاء

فلسفة الدعاء (3)

أولئك الجاهلون بحقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والنفسيّة ، يطلقون أنواع التشكيك بشأن الدعاء .

يقولون : الدعاء عامل مخدّر ، لانّه يصرف النّاس عن الفعاليّة والنشاط وعن تطوير الحياة ، ويدفعهم بدلًا من ذلك إلى التوسّل بعوامل غيبية .

ويقولون : إنّ الدعاء تدخّل في شؤون اللّه ، واللّه يفعل ما يريد ، وفعله منسجم مع مصالحنا ، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرّع إليه ؟!

ويقولون أيضاً : إنّ الدعاء يتعارض مع حالة الإنسان الراضي بقضاء اللّه المستسلم لإرادته سبحانه !

هؤلاء - كما ذكرنا - يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار التربوية والنفسية والإجتماعيّة للدعاء ، فالإنسان بحاجة أحياناً إلى الملجأ الذي يلوذ به في الشدائد ،والدعاء يضيء نورالأمل في نفس الإنسان .

من يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية . وعلى حد تعبير

ص: 33


1- . مجمع البيان للعلَّامة الطبرسي قدس سره .
2- . تفسير الأمثل - ج1 ص529 .
3- . نقلنا هذا البحث عن تفسير الأمثل لآية اللّه المكارم الشيرازي - ج1 - ص529 - 531 .

أحد علماء النفس المعروفين :

«ابتعاد الاُمّة عن الدعاء يعني سقوط تلك الاُمّة ! المجتمع الذي قمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصوناً عادة من الفساد والزوال .

ومن نافلة القول أنّه من العبث الإكتفاء بالدعاء لدى الصباح وقضاء بقيّه اليوم كالوحش الكاسر ، لابدّ من مواصلة الدعاء ، ومن اليقظة المستمرّة ، كي لا يزول أثره العميق من نفس الإنسان» (1) .

وأولئك الذين يصفون الدعاء بأنّه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء ، لأنّ الدعاء لايعني ترك العلل والوسائل الطبيعيّة واللجوء بدلها إلى الدعاء ، بل المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للإستفادة من كلّ الوسائل الموجودة ، بعد ذلك إن انسدّت أمامنا الطّرق ، وأعيتناالوسيلة ، نلجأ إلى الدعاء ، وبهذا اللجوء إلى اللّه يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة ،ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه .

الدعاء إذن لا يحلّ محلّ العوامل الطبيعيّة .

«الدعاء - إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس - يؤدّي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإنسان ، وإلى نوع من الإنشراح والإنبساط الباطني وأحياناً إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه . الدعاء يتجلّى بخصائص مشخّصة فريدة ... صفاءالنظرة ، وقوّة الشخصيّة ، والإنشراح والسرور ، والثقة بالنفس ، والإستعداد للهداية ،واستقبال الحوادث بصدر رحب ، كلّ هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا . وانطلاقاًمن هذه القوّة يستطيع حتّى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقليّة والأخلاقيّة بشكل أفضل ، وأكثر . لكن الأفراد الذين يفهمون الدعاء حقّ فهمه قليلون جدّاً - مع الأسف - في عالمنا اليوم» (2) .

ممّا تقدّم نفهم الرد على من يقول أنّ الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم ، لأنّ الدعاء - كما ذكرنا - نوع من كسب القابليّة على تحصيل سهم أكبر من فيض اللّه .

ص: 34


1- . الدعاء ، للطبيب وعالم النفس الشهير «الكسيس كاريل» .
2- . الدعاء ، للكسيس كاريل (بنقل تفسير الأمثل) .

اللامتناهي .

بعبارة اخرى : الإنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري تعالى .وواضح أنّ السعي المتكامل ولكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام قوانين الخليقة ، لا عكس ذلك .

أضف إلى ذلك ، الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة ، والإنسان - عن طريق الدعاء - يزداد إرتباطاً باللّه تعالى ، وكما أنّ كلّ العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدّعاء له مثل هذا الأثر .

والقائلون أنّ الدعاء تدخّل في أمر اللّه وأنّ اللّه يفعل ما يشاء ، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهيّة تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته ، وكلّما ازداداستعداده ازداد ما يناله من مواهب .

لذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ عند اللّه عزّ وجلّ منزلة لا تُنال إلّابمسألة » (1) .

ويقول أحد العلماء : «حينما ندعو فإنّنا نربط أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها» (2) .

سبب العجز عن الدعاء

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم : أعجز الناس من عجز عن الدعاء .

ومن هنا قد يتصوّر البعض أنّ السّبب الذي يجعلنا عاجزين عن الدّعاء هو لأنّنانرى أنفسنا حينما ندعو لا يستجاب لنا ، أو كثيراً من النّاس عندما يدعون فلا يستجاب لهم ؟ فلذلك نعجز عن الدعاء .

وللإجابة على ذلك نقول : لو كان النّاس يدعون على أساس توجبه الحكمة والمصلحة لأجابهم اللّه تعالى .

إنّ الدّاعي إذا دعا اللّه تعالى يجب أن يسأل ما فيه صلاحاً له في دينه ودنياه ، ولا

ص: 35


1- . اصول الكافي ، ج2 ، ص338 ، باب فضل الدعاء والحثّ عليه ، حديث 3 .
2- . آئين زندگى (فارسى) ، ص156 بنقل تفسير الأمثل ، ج1 ، ص530 .

يكون فيه مفسدة له ولا لغيره ، ونحن لا نعلم بكثير من المصالح والمفاسد ، ولربّماالمصلحة له في عدم استجابة دعائه ، وكما ورد في دعاء أبي حمزة الثّمالي : (ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الاُمور) (1) ، ولو تحقّقت المصلحة واجتمعت شرائط الإستجابة ، فإنّ اللّه تعالى يجيبه إذا اقتضت المصلحة أجابته ، أو يؤخّر الإجابة إن كانت المصلحة في التّأخير .

ويؤيّد هذا ما ورد عن أبي سعيد الخدري ، عن النّبي صلى الله عليه و آله : ما من مُسلم دعا اللّه سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم ، إلّاأعطاه اللّه بها إحدى خصال ثلاث : 1 -إمّا أن يعجّل دعوته ، 2 - وإمّا أن يؤخّر له في الآخرة ، 3 - وإمّا أن يدفع عنه السُّوء مثله .

قالوا : يا رسول اللّه ! إذاً نكثر .

قال صلى الله عليه و آله : أكثروا ، قالها ثلاث مرّات .

وقال أبو عبداللّه عليه السلام : إنّ العبد الوليّ للّه يدعو أللّه عزّ وجلّ في الأمر ينوبه (2) ، فيقول للملك الموكَّل به : إقضِ لعبدي حاجته ولا تعجّلها فإنّي أشتهي أن أسمع نداءه وصوته ،وإنّ العبد العدوّ للّه ليدعو اللّه عزّ وجلّ في الأمر ينوبه فيقال للملك الموكّل به : إقض لعبدي حاجته وعجِّلها ، فإنّي أكره أن أسمع نداءهُ وصوته (3) .

قال : فيقول النّاس : ما اعطي هذا إلّالكرامته ، ولا مُنِعَ هذا إلّالهوانه (4) .

أمّا سبب عدم إجابة الدّاعي ، فذلك يُعزى إلى امور ، ذكر جملة منها الزّاهدالمعروف إبراهيم بن أدهم في جواب من سأله : كما في الإرشاد للدّيلمي : وذلك لمّا دخل البصرة ، فاجتمع النّاس إليه وقالوا : يا أبا إسحاق ! قال اللّه تعالى : اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا ؟

قال : يا أهل البصرة ! لأنّ قلوبكم قد صارت في عشرة : .

ص: 36


1- . دعاء ابي حمزة الثمالي للامام زين العبادين عليه السلام .
2- . نابه الأمر ، وانتابه أي : أصابه ، والنّائبة المعصية . وفي بعض النسخ (ينويه) في الموضعين .
3- . أي قد يكون التعجيل لذلك فلا يعجب المرء بتعجيل ظهور أثر دعائه ، ولا يقنط تأخيره .
4- . اصول الكافي - للكليني - ج2 - 355 .

أوّلها : عرفتم اللّه فلم تؤدّوا حقّه .

الثّاني : قرأتم كتاب اللّه فلم تعملوا به .

الثّالث : قلتم نحبّ رسول اللّه وتركتم سنّته .

الرّابع : قلتم الشيطان لنا عدوّ فوافقتموه .

الخامس : قلتم نحبّ الجنّة ولم تعملوا لها .

السّادس : قلتم إنّ الموت حقّ ولم تتهيّؤوا له .

السّابع : إنتبهتم من النّوم فاشتغلتم باغتياب إخوانكم .

الثّامن : أكلتم نعمة اللّه فلم تؤدّوا شكرها .

التّاسع : قلتم نخاف من النّار فلم تهربوا منها .

العاشر : دفنتم موتاكم فلم تعتبروا بهم (1) .

هذه جملة من موانع إجابة الدّعاء ، فإذا نحن أزلناها إستجاب اللّه دعائنا وبلّغناأمانينا ، خاصّة في هذا الشّهر الشّريف ، الّذي وردت فيه أدعية خاصّة مساءاً وسحراًونهاراً ، مثل دعاء الإفتتاح ، وما يتبعه ودعاء السّحر المروي عن أبي حمزة الثمالي ،والدّعاء اليومي القصير ، والدّعاء اليومي الطّويل ، ودعاء جوشن الكبير وغيرها ،ومجموع هذه الأدعية تتضمّن اموراً ثلاثة :

الأوّل : أهمّ المطالب الّتي يريدها الإنسان ويتمنّاها لسعادته دنيا وآخرة .

الثّاني : كون الدُّعاء عبادة ، والعبادة في هذا الشّهر أجرها وثوابها أكثر وأوفر .

الثّالث : إنّ معظم هذه الأدعية الخاصّة بهذا الشّهر تتضّن دروساً أخلاقيّة ،ومحاضرات إجتماعيّة ، وتفتح لنا آفاقاً واسعة في الفكر والمعرفة في الكون والخلق والعلم والحياة ، نسأل اللّه أن يوفِّقنا جميعاً لقراءة الأدعية حسب شروطها حتّى نحظى بالإجابة .

ثمّ إن موانع استجابة الدّعاء تنقسم إلى قسمين : دائميّة ووقتيّة . .

ص: 37


1- . شجرة طوبى - ج2 ص384 .

فأمّا الدائميّة فهي الّتي ورد ذكرها في كلام إبن أدهم .

وأمّا الوقتيّة فتلك ممّا أشار إليه الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام إذ يقول - كما في تفسيرالطّبرسي وغيره - إنّه ربّما اخّرت عن العبد إجابة الدّعاء ليكون أعظم لأجر السّائل ،وأجزل لإعطاء الآمل .

وقد ورد في الكافي ، في باب من أبطأت عليه الإجابة ، عن ابن أبي نَصر ، قال :قلت لأبي الحسن عليه السلام : جُعِلتُ فداك إنّي قد سألت اللّه حاجةً منذ كذا وكذا سنة ، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء .

فقال : يا أحمد ! إيّاك والشّيطان أن يكون له عليك سبيل حتّى يُقنِّطَكَ .

إنّ أباجعفر صلوات اللّه عليه كان يقول : إنّ المؤمن يسأل اللّه عزّ وجلّ حاجة فيُؤخّر عنه تعجيل إجابته حُبّاً لصوته ، واستماع نحيبه (1) .

ثمّ قال : واللّه ما أخّر اللّه عزّ وجلّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدّنيا خيرٌ لهم ممّا عجّل لهم فيها ، وأيّ شيء الدّنيا .

إنّ أباجعفر عليه السلام كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرّخاء نحواً من دعائه في الشّدّة ، ليس إذا اعطي فَتَرَ ، فلا تملّ الدّعاء فإنّه من اللّه عزّوجلّ بمكانٍ ،وعليك بالصّبر وطلب الحلال ، وصلة الرّحم ، وإيّاك ومكاشفة النّاس ، فإنّا أهل البيت نصِلُ من قطعنا ، ونُحسنُ إلى من أساء إلينا ، فنرى واللّه في ذلك العاقبة الحسنة .

إنّ صاحب النّعمة في الدّنيا إذا سأل فاُعطي طلب غير الّذي سأل ، وصغرت النّعمة في عينه ، فلا يشبع من شيءٍ ، وإذا كَثُرت النّعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق الّتي تجب عليه ، وما يُخافُ من الفتنة فيها ، أخبرني عنك لو أنّي قُلت لك قولًا أكنت تثق به منّي ؟

فقلت له : جُعلت فداك إذا لم أثِق بقولك فبمن أثِقُ وأنت حجّة اللّه على خلقه ؟

قال : فكن باللّه أوثق ، فإنّك على موعدٍ من اللّه ، أليس اللّه عزّ وجلّ يقول : وَ إِذا .

ص: 38


1- . النّحيب : أشدّ البكاء .

سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ (1) وقال : لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ (2) وقال : وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً (3)، فكن باللّه عزّ وجلّ أوثق منك بغيره ، ولا تجعلوا في أنفسكم إلّاخيراً ، فإنّه مغفور لكم .

وعن إسحاق بن عمّار قال : قلتُ لأبي عبداللّه الصّادق عليه السلام : يُستجاب للرجل الدعاء ثمّ يؤخّر ؟ قال : نعم عشرين سنة (4) .

الدعاء عند العرفاء

ثمّ إنّ العرفاء يقسّمون الدّعاء إلى قسمين : دعاء بلسان القول ، ودعاء بلسان العمل ، أمّا الدّعاء الذىَّ هو بلسان القول : هي هذه الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، والتي تُهيّىء الإنسان وتخوّله أن يطلب من اللّه تعالى ما يُريد .

وأمّا الدّعاء بلسان العمل ، هو أن يكون للإنسان أعمال أيضاً تخوّله أن يطلب من اللّه ما يريده .

والعمل على قسمين : سلبي وإيجابي ؛ أمّا السّلبي مثل كفّ النّفس عن الحرام ،وكذلك الابتعاد عن المحرّمات والشّبهات ، لأنّ الإنسان يمرّ بلذائذ في الحياة يتمكّن من ممارستها ، ولكن يتركها خوفاً من اللّه تعالى وتقرّباً إليه .

وأمّا الأعمال الإيجابيّة ، مثل صلة الرّحم ، وبرّ الوالدين ، والإتيان بالواجبات والمستحبّات ، الّتي تكون سبب لاستجابة الدّعاء .

فالإنسان الذي لا يتورّع عن المحرَّمات ، ولا يأتي بالواجبات ، ثمّ يجلس ويطلب من اللّه تعالى ، ويقترح على اللّه ما يريد ، ولم يكن مؤهَّلًا ، ولا توجد فيه أرضيّة واستعداد لاستجابة الدّعاء ، بل هو مملوء بالأمراض النّفسيّة وبالمحرّمات ، كيف يقترح

ص: 39


1- . سورة البقرة - آية 186 .
2- . سوره الزمر - آية 53 .
3- . سورة البقرة - آية 286 .
4- . اصول الكافي - للكليني - ج2 ص355 .

على اللّه الجنّة مثلًا ، واللّه تعالى يستجيب دعائه ؟

ولذلك وردأنّ النّبي صلى الله عليه و آله قال لأصحابه : لو أن رجلًا خطب منك إمرأة ، هل تزوّجونه بدون مَهر ؟ قالوا : لا يا رسول اللّه . فقال : إنّ للجنّة مَهر . قالوا : وما مَهرُها ؟فقال صلى الله عليه و آله : العمل الصّالح .

إذن : العمل له أثر كبير في استجابة الدعاء .

وقال النّبي صلى الله عليه و آله : أفضل العبادات الدّعاء ، والدّعاء مخّ العبادة ، وإنّ سلاح المؤمن الدّعاء .

استجابة دعاء الإمام الحسين عليه السلام

من معاجز الإمام الحسين عليه السلام في استجابة دعائه ، كما روي في البحار : إنّ مريضاًشديد الحمّى عاده الحسين عليه السلام ، فلمّا دخل من باب الدّار طارت الحمّى عن الرّجل ، فقال المريض له : رضيتُ بما اوتيتم به حقّاً حقّاً والحمّى تهرب عنكم ، فقال له الحسين عليه السلام :واللّه ما خلق اللّه شيئاً إلّاوقد أمره بالطّاعة لنا .

ثمّ قال : أيّتها الحمّى !

فإذا نحن نسمع الصّوت ولا نرى الشّخص يقول : لبّيك لبّيك يا أباعبداللّه .

قال : أليس أميرالمؤمنين أمرك أن لا تقربي إلّاعدوّاً لنا أو مذنباً لكي تكوني كفّارة لذنوبه ، فما بال هذا (1) ؟

وكذلك من معجزاته عليه السلام واستجابة دعائه ما روي عن تهذيب الأحكام لشيخناالطّوسي رضى الله عنه قال أبو عبداللّه الصّادق عليه السلام : إنّ امرأة كانت تطوف وخلفها رجل ، فأخرجت ذراعها ، فمدّ الرّجل بيده حتّى وضعها على ذراعها ، فأثبت اللّه يد الرّجل على ذرعها ،حتّى قُطِعَ الطّواف ، وأرسل إلى الأمير واجتمع النّاس ، وحضر الفقهاء والعلماء ، فجعلوايقولون : إقطع يد الرّجل ، فهو الذي جنى الجناية .

ص: 40


1- . البحار - للمجلسي - وشجرة طوبى - ج2 ص406 .

فقال الأمير : أهاهنا رجل من ولد محمّد صلى الله عليه و آله ؟

فقالوا : نعم ، الحسين بن علي عليه السلام ، قدم اللّيلة ، فأرسل إليه الوالي ودعاه ، فقال انظرما لقى هذان ، فما حكمهما ؟

فاستقبل الحسين عليه السلام الكعبة ورفع يديه فمكث طويلًا يدعو ، ثمّ جاء إليهما حتّى خلّص يده من يدها .

فقال الأمير : يا أباعبداللّه ! ألا نُعاقبه بما صنع ؟

قال عليه السلام : لا .

أقول : ياليت ما دعى الحسين عليه السلام وما خلّصه حتّى تقطع يد الرّجل ، لأنّه قيل : إنّ الرّجل هو الجمّال الّذي قطع يد الحسين عليه السلام ليلة الحادي عشر من المحرّم (1) .

وكذلك من جملة سرعة إستجابة دعاء الحسين عليه السلام في يوم كربلاء ، دعائه على عبداللّه بن حوزة التّميمي لعنه اللّه ، لمّا قال للحسين عليه السلام : أبشر بالنّار ، فقال الحسين عليه السلام :كلّا إنّما أقدم على ربٍّ رحيم ، وشفيع مطاع .

فقال الحسين عليه السلام لأصحابه : مَن هذا ؟

قيل : هذا إبن حوزة التميمي .

فرفع الحسين عليه السلام يديه إلى السّماء وقال : اللّهمّ حُزه إلى النّار ، فاضطرب به فرسه في جدول ، فوقع وتعلّقت رجله اليُسرى بالرّكاب وارتفعت اليمنى ، فشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى ، وعدا به فرسه يضرب رأسه بكلّ حجر ومدر حتّى مات وعُجّل بروحه إلى النّار (2) .

الحسين وعلي الأكبر عليهما السلام

ومن جملة دعائه عليه السلام : لمّا برز ولده عليّ الأكبر عليه السلام ، نظر إليه الحسين نظر آيس منه وأرخى عينه وبكى ورفع شيبته الكريمة نحو السّماء وقال :

ص: 41


1- . تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي - وشجرة طوبى - ج2 ص406 .
2- . منتهى الآمال ج1 ص647 .

اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلامٌ أشبه النّاس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاًبرسولك ، وكنّا إذا اشقتنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه ، اللّهمّ إمنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونالينصرونا ، ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا .

ثمّ صاح بعمر بن سعد : مالك قطع اللّه رحمك ، ولا بارك اللّه في أمرك ، وسلّط عليك مَن يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

ثمّ رفع صوته وتلى : إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) .

فخرج عليّ الأكبر كالشمس الوضَّاءة ، ونوّر الميدان بطلعته المكتسبة من جمال محمّد صلى الله عليه و آله .

ذكروا بطلعته النّبي فهلّلوا *** لمّا بدا بين الصّفوف وكبّروا

فافتنّ فيه الناظرون فإصبع *** يومي إليه بها وعين تنظرُ

فحمل على القوم بقوّة وشجاعة تذكّر النّاس بشجاعة أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول :

أنا عليّ بن الحسين بن علي *** نحن وبيت اللّه أولى بالنّبي

أضربكم بالسّيف حتّى ينثني *** ضرب غلامٌ هاشميٍّ علوي

ولاأزال اليوم أحمي عن أبي *** تاللّه لا يحكم فيناابن الدّعي (2)

هذا والحسين عليه السلام واقف بباب الخيمة وليلى تنظر في وجهه تراه يتلألأ نوراًوسروراً بشجاعة ولده علي . ولمّا برز إليه بكر بن غانم تغيّر لون وجه الحسين عليه السلام .

فقالت له ليلى : سيّدي ! أرى لون وجهك قد تغيّر ! هل اصيب ولدي بشيء ؟ فقال لها : لا يا ليلى ولكن برز إليه من يخاف منه عليه . يا ليلى ! إدعي لولدك ، فإنّ دعاء الاُم مستجاب بحقّ ولدها .

دخلت ليلى إلى الفسطاط ، نشرت شعرها ، رفعت يديها إلى السماء قائلة : إلهي ! .

ص: 42


1- . سورة آل عمران - آلآيتان : 33 و34 .
2- . منتهى الآمال - للشيخ عبّاس القمّي - ج1 ص672 .

بغربة أبي عبداللّه ، إلهي ! بعطش أبي عبداللّه ، يا راد يوسف إلى يعقوب ، اردد إليّ ولدي علي .

طبّت الخيمتها الغريبه *** تبچي او على ابنيها امريبه

وتوسلّت للّه ابحبيبه *** اوبالحسين وشمابيه مصيبه

يا راد يوسف من مغيبه *** اليعگوب ومسچّن نحيبه

أريدن علي سالم تجيبه ***

قال الراوي : فاستجاب اللّه دعاء ليلى ونصر عليّاً عليه السلام الخ .

ص: 43

المجلس الرابع: مناسبة هلاك قائد التتار جنگيزخان في الرابع من شهر رمضان المبارك وخلاص البلاد الاسلامية منهم في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك

اشارة

لقد هاجَ في قلبِ الشجيِّ غَرامُ *** لركبٍ بجَرعَاءِ الغُميمِ أقاموا

سروا فأذلْتُ الدمعَ إثرَ مسيرِهِم *** دماً والحَشا مِني عَراهُ سُقَامُ

ظلَلْتُ انادِي في الرُّبوعِ فلَمْ يُجِبْ *** ندائِي وأنَّى للرُّبوعِ كَلامُ

ااَحْبابَنا هَلْ مِنْ سبيلٍ لوصلِكُمْ *** فيحيى فؤادٌ لَجَّ فِيهِ هيامُ

وهل نلتقِي بعدَ الفِرَاقِ سُويعَةً *** فيُطفى مِنْ القلب الشجِيِّ أُوامُ

فيا سعدُ دع عنكَ الصبابَةَ والهوى *** وعَرِّجْ على مَنْ بالطفوفِ أقامُوا

وحيِّي كِرَاماً مِنْ سُلالَةِ هَاشمٍ *** نَمَتْها الى المجدِ الأثِيلِ كِرَامُ

رأتْ أنَّ دينَ اللّهِ بينَ اُميَّةٍ *** تُلاعَبُ فيه ما تشاءُطُغَامُ

فقامَتْ لنصرِ الدِّينِ فُرسَانُ غالِبٍ *** عليها من البأسِ الشدِيدِوِسَامُ

الى أنْ ثَوَوا في التربِ بينَ مُبضّعٍ *** ومُنعَفِرٍ مِنْه تَطايَرَهَامُ

فجائَهُم سبطُ الرَّسولِ مُنادِياً *** أحبايَ هبُّوا فالمنَامُ حرَامُ

رضيتم بان ابقى وحيداًوانتمُ *** ضحايا على وجه الصعيدنيام (1)

ص: 44


1- . ادب الطف ، ج10 ، ص14 - للشيخ حسين شهيب الحلي رحمه الله ت : 1370 ه .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (1) .

صدق اللّه العلي العظيم

هذه الآية المباركة تُنبأ عن غلبة الاسلام في الحياة ولكن هل هذه الغلبة في المنطق والحجّة والبرهان ام آنهاغلبة مادية ودنيوية ؟

لا شك ان الاسلام هو الغالب في الحجّة والمنطق دائماً وأبداً ، وأمّا الغلبة الماديّة فانها ستتحقق للاسلام انشاء اللّه تعالى وذلك على يد الامام الحجّة عجّل اللّه فرجه الشريف .

واذا راجعنا التاريخ نجد حتى الغلبة الماديّة كانت للاسلام في صراعه مع الكفرعبر العصور ، وكانت الامة الاسلامية في غر القافلة ، فانها كانت حقيقة من الحقائق وان لم تكن بشكل مطلق .

وهذا ما نلمحه ايضاً في انتصار الاسلام على التتار على يد العالم الجهبذ الفذخاجه نظير الدين الطوسي كما سوف نشير الى ذلك خلال البحث حيث يصادف هلاك طاغية التتار الاكبر جنگيزخان في الرابع من شهر رمضان عام 623 ه 1227 م وكذلك يصادف نجاة الامة الاسلامية من شر التتار في اليوم الخامس عشر منه على يد السلطان قطز كما ذكر ذلك الدكتور احمد العدواني في كتابه العرب والتتار وكما في كتاب دقائق الشهور والايام للعلامة البيرجندي .

جرائم التتار على المسلمين

كان جنكيزخان قد خلَّف أولاداً ثلاثة تعاقبوا على الحكم بعده وأوّلهم «قُلي

ص: 45


1- . سورة المجادلة - آية 21 .

خان» ، ثمّ ابنه الثاني «اجتاي» وقد ولي قيادة التتار عام 628 ه ثمّ ولده الثالث«ميخوجان» من بعده ، وقد لقيت الإمبراطوريّة الإسلاميّة من التتار بلاءً لم يسبق له مثيل .

قال الدكتور العدواني في كتابه العرب والتتار : إنّ سبب ذلك هو ضعف المسلمين لتشبع روح الطّائفيّة فيهم ، والّتي كان على أساسها تلك الحوادث المؤسفة فيما بينهم ،ومنها واقعة الكرخ الّتي قرّرت مصير الدولة القائمة إلى الإنهيار والدَّمار على أيدي التتاربعد ذلك بقليل ، ممّا جعل التتار يقولون : - في وجه من ينتقم عليهم أفعالهم - قد فعل بعضكم ببعض هذا الفعل نفسه .

يحدّثنا التأريخ فيما يحدّث عن التتار أنّه بلغ بالرجل الواحد منهم كان يقتل جماعة من المسلمين الواحد بعد الآخر .

وإنّ امرأة من التتار دخلت داراً فقتلت جماعة من أهل الدار ولم يدفعوها عن أنفسهم ، وإنّ رجلًا من التتار دخل طريقاً فيه ماءة رجل فما زال يقتلهم واحداً تلو الآخرحتّى أتى على آخرهم ولم تمدّ له يد بسوء .

وإنّ رجلًا منهم رأى رجلًا من المسلمين ولم يجد ما يقتله به ، فقال له : ضع رأسك على هذا الحجر ولا تبرح من مكانك حتّى آتي بالسكين وأقتلك ، فبقي الرّجل نائماً إلى أن جاءه التتري وقتله .

وغير ذلك ممّا ذكره أبوالحسن المناوي في كتابه المدّ والجزر (1) كما ذكر ذلك غيره من المؤرّخين .

بهذا الوصف المفزع أخذت جيوش التتار تغزوا البلاد وتفتك وتدمر وترتكب أبشع الجرائم وأفضع الأفاعيل . مع أنّ التتار هم من أضعف البشر ويرجعون إلى بعض الأطراف البعيدة من أرض الصين ، فكيف إذاً غلبوا العرب والمسلمين ! تريّث لتسمع كيف كان ذلك . .

ص: 46


1- . راجع ص130 من الكتاب المذكور .

فمثلًا بغداد أحاط بها التتار بقيادة « هولاكو » أحد قوّادهم وطوّقوا الخليفة العبّاسي المستعصم . فلم يجد بدّاً من الاستسلام للتتار فقتلوه وولده وجمهور كبير من الفقهاء والأعيان شرّ قتله ، إذ أمر هولاكو بوضع الخليفة في بساط هو وولي عهده وأمربرفسهما حتّى ماتا ، ومدّ هولاكو جسراً إلى الرصافة ودخلها بنفسه ومعظم مناطق بغدادوأعمل فيهم السيف ، واستمرّ القتل والنهب والسلب والسبي في بغداد أكثر من ثلاثين يوماً . وأصاب بغداد خراب عظيم ، واُحرقت كتب العلم وبُني بقسم كبير منها جسراً بدلًامن الآجر «الطابوق» وأوقدت من بعضها الحمامات وغير ذلك من الفضائع ، واعتبرت تلك السنة أسوأ سنوات البلاد الإسلاميّة عبّر فيها خطيب بغداد في آخر جمعة بهذه العبارة : «... اللّهمّ أجرنا في مصيبتنا هذه التي لم يصب الإسلام واحدة بمثلها فإنّا للّه وإنّاإليه راجعون» .

وهذه المصيبة إنّما حدثت بالمسلمين ممّا كسبت أيديهم ذلك من جرّاء الطائفيّة كما في كتاب العرب والتتار للدكتور العدواني كما ذكر ذلك غيره بتواتر ، وذلك ما جعل العرب والمسلمين بعضهم أعداءاً لبعض فحلّ بهم الضعف المعنوي والمادي وأصبحوافريسة التتار .

موقف الشيخ الطوسي من المغول

كان نصيرالدين الطوسي ضحيّة من ضحايا الغزو المغولي الأوّل «التتار» ، حينمااجتاحت جحافل جنكيزخان (1215 - 1227 م) البلاد الإسلاميّة ودمّرت ما مرّت به منها . وكان من تلك الضحايا مدينة نيسابور التي كانت تعجّ بالعلماء وتزخر بالمدارس .

ولم يكتف المغول بتدمير المدينة بل أعملوا السيف في النّاس ، فقتل من قتل واستطاع الفرار من استطاع ، وكان بين الناجين نصيرالدين الطوسي ، فهام على وجهه يطلب الملجأ الأمين فوجده في قلاع الإسماعيليّة الحصينة (1) ، تلك القلاع التي صمدت

ص: 47


1- . يقول الدكتور علي أكبر فياض في كتاب محاضراته عن الأدب الفارسي والمدنيّة الإسلاميّة : «وكانت النهضة الإسماعيليّة في قمة نشاطها في ذلك العصر وكانت لهم مشاركة تامّة في دراسة الفلسفة والنهوض بها للإستفادة منها في تقرير اصولهم وإثبات دعاواهم . وقد أسّسوا لهم في قلعة الموت في جبال قزوين مكتبة عظيمة بادت على أيدي المغول . وكان يعيش في رعاية الإسماعيليّين رجل يعدّ من أكبر المشتغلين بالعلوم العقليّه بعد ابن سينا ألا وهو نصيرالدين الطوسي قدر لهذا الرجل العظيم أن يقوم بإنقاذ التراث الإسلامي من أيدي المغول» . إلى أن يقول : «لقد فوّض إليه هولاكو أمر أوقاف البلاد فقام بضبطها وصرفها على إقامة المدارس والمعاهد العلميّة ، وجمع العلماء والحكماء وتعاون معهم في إقامة رصد كبير في مراغة بآذربيجان ومكتبة بجانبه يقال أنّها كانت تحوي 400 ألف كتاب» .

وحدها لجنكيز خان ، فظلّ حقد المغول مضطرماً على الإسماعيليّين إلى أن استطاعواالثأر منهم في عهد هولاكو حفيد جنكيز .

ولم يكن نصيرالدين وحده هو الذي احتمى بهذه القلاع ، بل لقد لجأ إليها كثير ممّن استطاعوا الفرار والنجاة .

وعندما تقدّم المغول في غزوهم الثاني ، وأعاد هولاكو سيرة جدّه ، كانت الحملة هذه المرّة من القوّة بحيث هابتها القلاع الإسماعيليّة فلم تستطع لها صدّاً ، ونزل الأمير الإسماعيلي ركن الدين خورشاه على حكم المغول ، فكان حكمهم قتله وقتل أعوانه و من لجأ إليه ، واستثنوا من ذلك ثلاثة رجال كانت شهرتهم العلميّة قد بلغت هولاكو فأمربالإبقاء عليهم ، ولم يكن هذا الإبقاء حبّاً للعلم وتقديراً لرجاله ، بل لأنّ هولاكو كان بحاجة إلى ما اختصّ به هؤلاء الثلاثة من معارف ، فاثنان منهم كانا طبيبين هما موفّق الدولة ورئيس الدولة ، والثالث كان مشهوراً باختصاصه في أكثر من علم واحد هونصيرالدين الطوسي ، وكان ممّا اختصّ به : علم الفلك ، وكان هولاكوا مقدّراً لهذا العلم تقدير حاجة لا محض تقدير ، مؤمناً بفائدته له . لذلك رأيناه بعد ذلك يعني بإنشاء مرصد«مراغة» ويوفّر له كلّ ما يستدعي نموّه وتقدّمه (1) . .

ص: 48


1- . الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي لحسن الامين ، ص42 .

فكر وحركة الشيخ الطوسي في إنقاذ الإسلام

جمع نصيرالدين الطوسي إلى العلم الواسع العقل الكبير ، فتركت سيرته رجالًا من إفذاذ الرجال لا يمرّ مثله كلّ يوم ، وتشاء الأقدار أن تعدّه لمهمّة لا ينهض لها إلّامن اجتمعت له مثل صفاته : علم وعقل وتدبير وبُعد نظر ، فكان رجل الساعة في العالم الإسلامي ، هذا العالم الذي كان مثخناً بالجراح .

ينقل الدكتور سليمان دنيا رئيس قسم العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر عن كتاب (المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي) تأليف جمال الدين الأتابكي يقول : إنّ هولاكو أمر بقتل نصيرالدين الطوسي فجرى حوار بينهما قال فيه نصيرالدين : في الليلة الفلانيّة يُخسف القمر . قال هولاكوا : إحبسوه ، إن صدق أطلقناه وأحسنّا إليه ، وإن كذب قتلناه ، فحُبس الى الليلة المذكورة ، فخُسف القمر خسفاً بالغاً ، اتّفق أنّ هولاكو تلك الليلة غلب عليه السكر فنام . فقيل للشيخ الطوسي ذلك ، فقال : إن لم ير القمر بعينه وإلّا فاغدوامقتولًا لا محالة ، وفكّر ساعة ، ثمّ قال للمغول : دقّوا على الطاسات ، وإلّا يذهب قمركم إلى يوم القيامة ، فشرع كلّ واحد يدقّ على طاسة ، فعظمت الغوغاء فانتبه هولاكو من نومه بهذه الحيلة ورأى القمر قد خسف ، فصدّقه وآمن به ، وكان ذلك سبباً لاتصاله بهولاكو .

ثمّ يقول المؤلف : ومن ثمّ صار الدق على النحاس إذا خسف القمر ، ولم يكن له سبب غير ما ذكرنا .

فعلى هذا كانت مهمّة الطوسي من أشقّ المهمّات ، وكانت أزمّته النفسيّة من أوجع ما يصاب به الرجال ، فإنّه وهو العالم الكبير ذوالشهرة المدوية بين المسلمين يرى نفسه فجأة في قبضه عدوّ المسلمين ، ويرى هذا العدوّ مصرّاً على أن يبقيه في جانبه ويسيره في ركابه . وإلى أين يمشي هذا الركاب ؟ إنّه يمشي لغزو الإسلام في دياره والقضاء عليه في معاقله ، فهل من محنة تعدل هذه المحنة التي مرّت على الشيخ ؟

ثمّ إنّ أقلّ تفكير من الطوسي في التمرد على رغبة القائد المغولي سيكون جزاؤه حد السيف ... وأنّني لأتخيّل الطوسي متأمّلًا طويل التأمّل ، مطرقاً كثير الإطراق ، لقد كان

ص: 49

يعزّ عليه أن يذهب دمه رخيصاً وأن يكون ذلك بإرادته هو نفسه ، فلو أنّ سيفاً من سيوف المغول الجانية أودى به فيمن أودى بهم في رحاب نيسابور وسهول إيران لكان استراح .أمّا الآن فلن يستسلم للقدر الطاغي وسيثور على حكم الزمن الغاشم .

كان الطوسي ذا فكر منظّم يعرف كيف يخطّط ويدبّر . وهو في ذلك آية من الآيات ،وقد أدرك أنّ النّصر العسكري على المغول ليس ممكناً أبداً ، فقد انحلّ نظام العالم الإسلامي إنحلالًا تامّاً لم يعدمعه أمل في تجميع قوّة تهاجم المغول وتخرّجهم من دياره ،وكانت البلاد المحتلّة أضعف من أن تفكّر في ثورة ناجحة . على أنّ الغرب الإسلامي كان لا يزال سليماً ، وكانت مصر هي القوّة الوحيدة التي تتّجه إليها الأنظار ، وقد استطاعت مصر ان تذيق المغول مرارة الهزيمة وأن تردّهم عنها ، ولكنّها لم تكن مستطيعة أكثر من ذلك ، فمهاجمة المغول فيما احتلّوه من بلاد بعيدة وإخراجهم من تلك البلاد كان فوق طاقة مصر .

وفكّر نصيرالدين طويلًا فأيقن أنّه إذا تمّ للمغول النصر الفكري ، بعد النصرالعسكري ، كان في ذلك القضاء على الإسلام ، وها هو يرى باُمّ عينه الكتب تباد والعلماءيقتلون ، فماذا يبقى بعد ذلك ؟

لقد استغلّ حاجة هولاكو إليه ، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكي عالم بالنجوم ، فعزم على كسب ثقته واحترامه فكان له ما أراد ، وصار له من ذلك سبيل لإنقاذأكبر عد من الكتب وتجميعها ، كما استطاع أن ينجي من القتل الكثيرين ممّا كانواسيقتلون .

إنشاء جامعة إسلاميّة كبرى في ظلّ حكومة هولاكو

و لمّا استتب الأمر لهولاكو خطا نصير الدين خطوته الاُولى ، وكانت هذه المرّة خطوة جبّارة فقد أقنع هولاكو بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلاميّة والتصرّف بمواردها بما يراه ، فوافق هولاكو . وتتطلع نصيرالدين فرأى أنّ المسلمين كانوا قد وصلوا من الإنحلال الفكري إلى حدّ أصبح العلم عندهم قشوراً لا لباب فيها ،

ص: 50

وأنّهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدهما ، وحرموا ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حثّ عليها الدين العظيم ، وانصرفوا عن العلوم العمليّة انصرافاً تامّاً . فأعلن افتتاح مدارس لكلّ من الفقه ، والحديث ، والطب ، والفلسفة ، وأنّه سيتولّى الإنفاق على طلّاب هذه المدارس ، ولكنّه سيجعل لكلّ واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم يوميّاً ،ولكلّ واحد من دارسي الطب درهمين ، ولكلّ واحد من دارسي الفقه درهماً ، ولكلّ واحد من دارسي الحديث نصف درهم ، فأقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب ، بعدماكانت من قبل تدرس سرّاً .

أحرز نصيرالدين النصر الأوّل في معارك الإسلام ، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم ، ولن يجمد المسلمون عن طلبه ، ثمّ انصرف يخطّط للمعركة الكبرى الكاسحة . فإذا كان إنشاءالمدارس ا لمتفرّقة لن يلفت هولاكو إليها ، ولن يدرك أهمّيّتها ، فإنّ إنشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها وحشر الكتب في خزانتها ، سيكون حتماً منبّهاً لهولاكو فكيف العمل ؟

هنا تبدو براعة الطوسي ، فهولاكو استبقاه لغاية معيّنة ، فراح يقنع هولاكو بأنّه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه لابدّ من إنشاء مرصد كبير ، فوافق هولاكوعلى إنشاء المرصد الكبير ، وفوّض لنصيرالدين المباشرة بالعمل .

لقد كانت هذه الموافقة الحلم الأكبر الذي حقّقته الأيّام لنصيرالدين ، وبات بعدهامستريحاً للمستقبل لا يشغله شيء إلّاالإعداد الدقيق والتخطيط السليم الموصل إلى الغاية القصوى» .

ضخّم نصيرالدين أمر المرصد لهولاكو وأقنعه أنّه وحده أعجز من أن يرفع حجراًفوق حجر في ذاك البناء الشامخ ، وأنّه لابدّ له من مساعدين أكفياء يستند إليهم في مهمّته الشاقّة ، وأنّه لا مناص من أجل ذلك من أن يجمع عدداً من النّاس المختارين ، سواء في البلاد المحتلّة أو في خارجها ، فوافق هولاكو على ذلك (1) . .

ص: 51


1- . أوّل مرصد هو مرصد (أبرخسن) في اليونان انشىء قبل الميلاد ، وبعده بحوالي ثلاثة قرون انشىء مرصد بطلميوس في الإسكندريّة . أمّا في الإسلام فإنّ أوّل مرصد انشىء كان مرصد الخليفة المأمون في بغداد . وفي أواخر القرن الثالث انشىء مرصد محمّد جابر البستاني في الشام ، واُنشىء في مصر المرصد الحاكمي واُنشىء في بغداد مرصد آخر .

وهنا هب نصير الدين إلى اختيار رسول حكيم هو فخرالدين لقمان بن عبداللّه المراغي ، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلاميّة ، وتأمين العلماء النازحين و دعوتهم للعودة إلى بلادهم ، ثمّ دعوة كلّ من يراه متفوّقاً في علمه وعقله من غير النازحين .

مضى العمل منظّماً دقيقاً وانصرف العلماء بإشراف الطوسي منفّذين مخطّطاًمدروساً ، فلم يمض كبير وقت حتّى كانت المكتبات تغصّ بالكتب ، وحتّى كانت مكتبة مراغة بالذات تضمّ مجموعة قلّ أن اجتمع مثلها في مكتبة اخرى ، وحتّى كانت المدارس تقام في كلّ مكان ، وحتّى كانت الثقافة الإسلاميّة تعود حيّة سوية ، وحتّى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء ، وحتّى كان الدعاة ينطلقون في كلّ صوب والهداة ينتشرون على كلّ وجهة ...

ثمّ يموت هولاكو ، ولكن الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظلّ صحيح البنية ،متوهّج الفكر ، ثمّ يموت ابن هولاكو وخليفته (ابقاخان) والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامداً ، يقاتل ويقاوم ويدعو ويهدي .

ويأتي بعد ابقاخان ، ابن هولاكو الآخر (تكودار) فإذا بالإسلام ينفذ إلى قلبه وعقله ، وإذا به يعلن إسلامه وتسلّم الدولة كلّها بعد ذلك في عهد غازان .

وكان الطوسي قد مات سنة 672 ه (1274 م) . مات قرير العين وهو يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجة بأرفع صوت وأعلى نبرة .

مات الطوسي مودعاً الأمر إلى تلميذه وأقرب المقرّبين إليه قطب الدين أبوالثناءمحمود بن مسعود الشيرازي ، فنهض بالعبء على ما أراده نصيرالدين . فلم يجد«تكودار» الذي أصبح اسمه «أحمد تكودار» خيراً من الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم الإسلامي .

يقول العالم الأزهري الشيخ عبدالمتعال الصعيدي : «لم يمت نصيرالدين إلّابعد أن جدّد ما بلي في دولة التتار من العلوم الإسلاميّة وأحيا ما مات من آمال المسلمين بها» .

ص: 52

الى أن يقول : «... إنّ الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردّهم عن الشام في موقعه «عين جالوت» وإنّما كان بفتح قلوبهم إلى الإسلام وهدايتهم له» .

وهذا ما حقّقه نصيرالدين الطوسي .

هكذا استطاع نصيرالدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية ،وأن تنجح خططه في التمهيد لتحويل المغول من وثنيّين إلى مسلمين (1) .

ولاء الطوسي لاهل البيت عليهم السلام

نعم هكذا انتصر نصير الدين معنوياً حيث استطاع ان يؤثر على خصوم الاسلام التتر لا سيما في تلك الضروف الصعبة فيحولهم الى مسلمين وهذا هوالانتصار الحقيقي ،فان انتصار الرسالين هو انتصار مبادئهم وعقائدهم كما كان هذا صنيع الامام الحسين عليه السلام يوم كربلاء حيث وان قتل في كربلاء ولم ينتصر مادياً ، ولكنه حقق النصر للعقيدة الاسلامية وللقيم الانسانية والسماوية وقد سار نصير الدين الطوسي على نهج الحسين عليه السلام وأهل البيت وقد كان شديد الولاء لأهل البيت عليهم السلام ولأمير المؤمنين عليه السلام .

وابياته المشهورة تشهد على ذلك حيث قال :

لو أنّ عبداً أتى بالصالحات غداً *** وَوَدَّ كلُّ نبيّ مرسل وولي

وصام ما صام صوّام بلا ملل *** وقام ما قام قوّام بلا كسل

وحجّ كم حجّة للّه واجبة *** وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجوّ لا يأوي الى احد *** وغاص في البحر مأموناً من البلل

ص: 53


1- . يقول الدكتور عبدالعظيم أنيس المعاصر : إنّ نصيرالدين الطوسي كان واحداً من أعظم من أنجبتهم الحضارة العربيّة كتاب الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي ص44 لحسن الامين .

واكسى اليتامى من الديباج كلّهم *** واطعمهم من لذيذ البرّ والعسل

وعاش في الناس آلافاًمؤلّفة *** عار من الذنب معصوماً من الزلل

ما كان في الحشر يوم البعث منتفعاً *** الاّ بحبّ أمير المؤمنين علي (1)

ولشدَّة تواضعه لأوليائه الطاهرين عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوصى بان يدفن عندمدخل الروضة الطاهرة لباب الحوائج موسى بن جعفر عليه السلام وان يكتب على قبره « وكلبهم باسط ذراعيه بالوسيط » .

وان شخصيّة فذَّة كنصير الدين الطوسي نهاية امنيّته هي دفنه بجوار أحد الأئمّة الطاهرين ، وهذه امنية كلّ مؤمن ومؤمنة .

لا سيما في جوار أبي الأئمة وزعيمهم أمير المؤمنين عليه السلام وفي ذلك حكمةٌ بالغة أشار اليها أحد الصالحين في أبياته الشهيرة :

اذا متّ فادفنّي الى جنب حيدرٍ *** أبي شبّرٍأكرم به وشبير

فلست اخاف النار عندجواره *** ولا أختشي من منكرٍ ونكير

فعارٌعلى حامي الحمى وهو في الحمى *** اذا ضلّ في البيدا عِقال بعيرِ .

ص: 54


1- . تاريخ العلماء للخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمي ، ص529 .

المجلس الخامس: مناسبة تتويج الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد في الخامس من شهر رمضان

اشارة

للّهِ ما نالَهُ المُختار من كَربٍ *** عظيمَةٍ لم تَنلْ في جملةِ الحُقُبِ

ولم تَزل آلهُ رهن النوائبِ في *** سُمٍّ وسِجْنٍ وفي صُلبٍ ومُغتَربِ

وإن نَسيتُ فلا أنس الرِّضا فلقد *** قاسى من الحُزنِ مايقضي إلى العَطَبِ

حتّى تَقَيّا بسُمٍّ ناقع كبداً *** عزّتْ على المُصطفى مع آلهِ النُّجُبِ

فلا استلذُّوا برُمّان ولاعنبٍ *** لأنّه سُمّ في الرمّان والعنبِ

فيا بني المجد جودوابالبكاء على *** سم ابن موسى بدمعٍ يخجل السُحبِ

ولا تهنّوا بعيدٍ إذا به خرجت *** نفس الرضا من أذى المأمون ذي الكذب

يصدّه عن صلاة العيد فيه على *** ما سنّه اللّه بعد الحثّ والطلب

لكي يخجله بين الأنام ويأبى اللّه *** إلّا ما ارتقاه عالي الرُّتب (1)

ص: 55


1- . وفيات الأئمّة - للشيخ أحمد بن الشيخ صالح القطيفي - ص296 .

عن محمّد بن عرفة قال : قلت للرضا عليه السلام : يابن رسول اللّه ! ما حملك على الدّخول في ولاية العهد ؟

فقال عليه السلام : ما حمل جدّي أميرالمؤمنين عليه السلام على الدّخول في الشّورى .

السبب في رفض الإمام الرضا عليه السلام الخلافة

ربّما يسأل البعض ويقول : لماذا لم يقبل الإمام الرّضا عليه السلام الخلافة من المأمون ، بعدعرضها عليه قبل ولاية العهد ، ثمّ قبول الإمام عليه السلام الولاية بعد ذلك؟

للإجابة على ذلك ، ونحن نعيش في مثل هذه اللّيلة ، والّتي يصادف فيها تتويج الإمام عليه السلام لولاية العهد سنة (203) في اليوم الخامس من شهر رمضان ، نقول : لعلّ السّبب في رفض الإمام عليه السلام الخلافة ، كان لأمرين :

أوّلًا : إنّ تلك الخلافة كانت ثوباً خاصّاً بأمثال المأمون ، وأنّها لا تليق بحجّة اللّه البالغة ، لأنّ بنائها كان قائماً على أساس فاسد جيشها ونظامها وقوانينها وكلّ شيء ، ولوقبل الإمام عليه السلام بها ، كان عليه أن يهدمها ويبنيها من جديد ، ولم يكن ذلك أمراً ممكناً في تلك الظروف .

ثانياً : إنّ المأمون لم يكن صادقاً في عرضه ، فهو كان يدبّر حيله مع حزبه الماكرللإيقاع بالإمام عليه السلام إن قَبِلَ الإمام الخلافة ، بعد أخذ الشّرعيّة منه كما فعل بالنّسبة إلى ولاية العهد .

ثمّ إنّ الإمام عليه السلام اشترط في قبوله لولاية العهد ألّا يتدخَّل في شؤون الدّولة من قريب أو بعيد ممّا أفقدهم القدرة على تمشية الاُمور باسم الإمام وكسب الشّرعيّة له ،وأبان للعالمين ذلك اليوم وللتّاريخ إلى الأبد ، إنّه لا يعترف بشرعيّة النّظام بأيّ وجه ، وقدحاول المأمون مراراً أن يستدرج الإمام للتدخّل في الشؤون فلم يقبل ، والحديث التّالي

ص: 56

يدلّ على ذلك كما في منتهى الآمال (1) : -

حوار الإمام الرّضا عليه السلام والمأمون في الخلافة وولاية العهد

لمّا قدم الرضا عليه السلام إلى مرو ، أكرمه المأمون ورحّب به وجمع خواصّ أوليائه وأصحابه فقال : أيّها النّاس ! إنّي نظرتُ في آل العبّاس وآل علي فلم أرَ أفضل ولا أورع ولا أحقّ من عليّ بن موسى بالخلافة ، ثمّ التفت إلى الإمام عليه السلام فقال له :

«إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك واُبايعك» .

فقال له الإمام الرّضا عليه السلام :

«إن كانت هذه الخلافة لك واللّه جعلها لك فلا يجوز ان تخلع لباساً ألبسكَهُ اللّه وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ماليس لك» .

فقال له المأمون : يابن رسول اللّه ! لابدّ لك من قبول هذا الأمر .

فقال : لست أفعل ذلك طائعاً أبداً ، فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله ،فقال له : فإن لم تقبل الخلافة ، ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي .

فقال الإمام الرّضا عليه السلام : واللّه لقد حدّثني أبي عن آبائه ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أنّي أخرج من الدّنيا قبلك مقتولًا بالسمّ مظلوماً ، تبكي عليَّ ملائكة السّماء وملائكة الأرض ،واُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرّشيد .

فبكى المأمون ثمّ قال له : يابن رسول اللّه ! ومن الّذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ ؟

فقال الإمام عليه السلام : أمّا إنّي لو أشاء أن أقول مَن الّذي يقتلني لقُلت .

فقال المأمون : يابن رسول اللّه ! إنّما تريد بقولك هذا ، التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ، ليقول النّاس أنّك زاهد في الدّنيا .

ص: 57


1- . ج2 ص456 .

فقال الإمام الرضا عليه السلام : واللّه ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ ، وما زَهدت في الدّنيا للدّنيا ، وإنّي لأعلم ما تريد .

فقال المأمون : وما اريد ؟

قال عليه السلام : تريد بذلك أن يقول النّاس : إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدّنيا بل زهدت الدّنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة (1) ؟

إكراه الإمام الرضا عليه السلام على قبول ولاية العهد

وعلى ما مرّ ، غضب المأمون ثمّ قال : إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه ، وقد آمنت سطوتي ، فباللّه اقسم لئن قبلت ولاية العهد ، وإلّا جبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلّاضربت عنقك .

فقال الإمام الرضا عليه السلام : قد نهاني اللّه تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك ، على أنّي لا اولّي أحداً ، ولا أعزل أحداً ،ولا أنقض رسماً ولا سنّة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً ، فرضي منه ذلك ، وجعله وليّ عهده على كراهة منه عليه السلام بذلك .

فرفع عليه السلام يده إلى السماء وقال : «اللّهمّ إنّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التّهلكة ،وقد أكرهت واضطررت ، كما اضطرّ يوسف ودانيال عليهما السلام إذ قبل كلّ واحدٍ منهما الولاية من طاغية زمانه ، اللّهمّ لا عهد إلّاعهدك ، ولا ولاية لي إلّامن قبلك ، فوفّقني لإقامة دينك ، وإحياء سنّة نبيّك ، فإنّك أنت المولى والنّصير ، ونعم المولى أنت ونعم النّصير» (2) .

مراسم البيعة

ثمّ قبل الإمام عليه السلام ولاية العهد من المأمون وهو باكٍ حزين ، ولمّا كان في غدٍ وهواليوم السّادس من شهر رمضان المبارك (والذي نحن على اعتبابه) هيّأ المأمون مجلساً

ص: 58


1- . منتهى الامال ، ج2 ، ص458 .
2- . العوالم - ج22 ص281 ؛ وعيون الأخبار - ج2 ص139 جزء 3 .

عظيماً أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين وللرّضا عليه السلام بولاية العهد ، وللفضل بن سهل بالوزارة .

فأمر بثلاثة كراسي فنصب لهم ، وأجلس الإمام الرضا عليه السلام على كرسيّ في جنبه ،وجعل له الوسادة ، وجمع الأكابر والأشراف والسّادة والعلماء ، وأمر ابنه العبّاس أن يبايع أوّل النّاس (1) .

ثمّ اذن للنّاس ، فدخلوا يبايعون فكانوا يصفّقون بأيمانهم على أيمان الثّلاثة ، من أعلى الإبهام إلى الخنصر ويخرجون ، حتّى بايع في آخر النّاس فتى من الأنصار ، فصفق بيمينه من الخنصر إلى الإبهام ، فتبسّم أبوالحسن الرّضا عليه السلام ثمّ قال : كلّ من بايعنا بايع بفسخ البيعة ، غير هذا الفتى فإنّه بايعنا بعقدها .

فقال المأمون : وما فسخ البيعة من عقدها ؟

قال أبوالحسن عليه السلام : «عقد البيعة هو من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام ، وفخسهامن أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر» .

قال : فماج النّاس في ذلك ، وأمر المأمون بإعادة النّاس إلى البيعة على ما وصفه أبوالحسن عليه السلام ، وقال النّاس : كيف يستحقّ الإمامة من لا يعرف عقد البيعة ، إنّ من عَلِمَ لأولى بها ممّن لا يعلم .

قال : فحمله ذلك على ما فعله من سُمِّه (2) .

ثمّ إنّ المأمون أمر أن يتركوا لباس السّواد - شعار العبّاسيّين - ويلبسوا اللّباس الأخضر ، وزوّج ابنته ام حبيب إيّاه ، وعقد ابنته الاُخرى امّ الفضل لابنه محمّد التّقي عليه السلام .

وحجّ بالنّاس في تلك السّنة أخو الإمام الرضا عليه السلام ، وهو إبراهيم بن موسى بأمرالمأمون (3) . .

ص: 59


1- . منتهى الآمال - للشيخ عبّاس القمّي - ج2 ص458 .
2- . الإمام الرضا عليه السلام قدوة وأسوة - للعلامة محمد تقي المدرّسي .
3- . منتهى الامال ، ج2 ، ص459 .

كرامات الإمام الرّضا عليه السلام بعد البيعة

عن الإمام العسكري عليه السلام : إنّ المأمون لمّا جعل الرّضا عليه السلام وليّ عهده ، إحتبس المطر ، فجعل بعض حاشية المأمون ، والمبغضون للرّضا عليه السلام يقولون : انظروا لمّا جاء علي بن موسى الرّضا ، وصار وليّ عهدنا ، إحتبس المطر عنّا ، واتّصل ذلك بالمأمون فاشتدّعليه ، فقال المأمون للرّضا : قد احتبس المطر ، فلو دعوت اللّه أن ينزل المطر على النّاس .فقال الرّضا عليه السلام : نعم . قال : فمتى تفعل ذلك ؟ قال : يوم الإثنين ، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة . فلمّا كان يوم الإثنين خرج إلى الصّحراء وخرج النّاس ينظرون ، فصعد المنبروحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال : اللّهمّ يا ربّ قد عظَّمت حقّنا أهل البيت ، فتوسّلوا بنا كماأمرت وأمّلوا فضلك ورحمتك ، وتوقّعوا إحسانك ونعمتك ، فاسقهم سقياً نافعاً غير رائث ولا ضائر ، وليكن ابتدا مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ، قال الراوي :فواللّه الّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً ، لقد نسجت الرّياح في الهواء الغيوم ، وأرعدت وأبرقت ، وتحرّك النّاس كأنّهم يريدون التنحّي عن المطر ، فقال الإمام الرّضا عليه السلام : على رسلكم أيّها النّاس ، إنّما هي لأهل بلد كذا وكذا .

ثمّ جاءت سحابة اخرى فتحرّكوا فقال عليه السلام : على رسلكم ، إنّما هي لأهل بلد كذاوكذا . حتّى جاءت عشر سحائب وعبرت وهو يقول : إنّما هي لاهل بلد كذا وكذا .فأقبلت سحابة حادية عشر ، فقال عليه السلام : أيّها النّاس ! هذه بعثها اللّه لكم فاشكروه على ماتفضّل به عليكم ، وقوموا إلى منازلكم ومقارّكم ، ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم اللّه تعالى ، ونزل عن المنبر .

وخرج النّاس ، فما زالت السّحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم ، ثمّ جاءت بوابل المطر ، فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات ، فجعل النّاس يقولون : هنيئاًلابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكرامات اللّه تعالى .

فقال بعض الحسّاد إرضاءاً للمأمون : يا أميرالمؤمنين ! اعيذك أن يكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشّرف العميم والفضل العظيم من ولد العبّاس إلى بيت ولدعلي ، ولقد أعنتَ على نفسك ، جئت بهذا السّاحر ولد السّحرة ، وقد كان خاملًا فأظهرته ،

ص: 60

ومستخفياً فأظهرته ورفعته ، ومنسيّاً فذكرت به ، مخفيّاً فنوّهت به ، بل ما أخوفني إلى أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك ، والتوثّب على مملكتك ، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك أنت ؟

فقال المأمون : وقد كان هذا الرّجل مُستتراً عنّا ، يدعو إلى نفسه ، فاردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا ، وليعترف بالخلافة لنا ، وليعتقد فيه المفتونون به ، أنّه ليس ممّاادّعى في قليل ولا كثير ، وإنّ هذا الأمر لنا من دونه ، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن يفتق علينا ما لا نسدّه ، ويأتي علينا منه ما لا نُطيقه ، والآن إذ قد فعلنا به مافعلنا ، وأخطأنا في أمره ما أخطأنا ، وأشرفنا على الهلاك منه ما أشرفنا ، فليس يجوزالتّهاون في أمره ، ولكن نحتاج إلى أن نضع منه قليلًا قليلًا ، حتّى نصيّره عند الرّعيّة بصورة من لا يستحقّ هذا الأمر ، ثمّ ندبّر فيه ما يحسم عنّا موارد بلائه .

فقال الرّجل : وَلّني مجادلته ، فإنّي افحمه وأصحابه وأضع من قدره .

فقال المأمون : لك ذلك .

ثمّ أمر المأمون باجتماع النّاس فاجتمعوا ، فقال الحاسد للإمام عليه السلام وهو حميد ابن مهران : إنّ النّاس قد أكثروا عنك الحكايات لدعوتك في المطر المعتاد ، لقد عدوت طورك ، وتجاوزت محلّك أن بعث اللّه تعالى بمطر مقدَّرٍ لوقته لا يتقدم ولا يتأخّر ، فجعلته آية تستطيل بها وصولة تصول بها ، كأنّك جئت بآية الخليل إبراهيم عليه السلام لمّا أخذ برؤوس الطّيور ، ودعا بأعضائها الّتي فرَّقها على رؤوس الجبال ، فأتينه سعياً وركبن على الرّؤوس وكلّمته بإذن اللّه تعالى ، فإن كنت صادقاً فأحيي هاتين الصّورتين اللَّتين على مسند المأمون ، وسلِّطهما عليَّ ، فإنّ ذلك يكون لك آية ومعجزة .

فغضب الإمام عليه السلام وصاح بالصّورتين : دونكما الفاجر الكافر ، فافترساه ، ولا تبقياله عيناً ولا أثراً فوثبت الصّورتان وقد صارتا أسدين ، فتناولا الحاجب ورضَّضاه ،وهشَّماه ، وأكلا لحمه ، ولَحسا دمه ، والقوم ينظرون متحيِّرين ، فلمّا فرغا منه ، أقبلا على الرّضا عليه السلام وقالا : يا وليّ اللّه ! مرنا نفعل بالمأمون كما فعلنا بهذا الفاجر .

فقال عليه السلام : عودا إلى مقرّكما كما كنتما ، فإنّ للّه تعالى فيه تدبير .

ص: 61

فلمّا سمع المأمون ذلك ، وقع مغشيّاً عليه .

فقال الرّضا عليه السلام : صُبّوا عليه ماء الورد وطيّبوه ، ففعلوا ، فأفاق من غشوته ، وعادالأسدان إلى مكانهما .

فقال المأمون : الحمد للّه الذي كفانا شرّ حميد بن مهران .

ثمّ قال للرّضا عليه السلام : يابن رسول اللّه ! هذا الأمر لجدّكم رسول اللّه ثمّ لكم (1) .

الإمام الرّضا عليه السلام ورفع الأستار

وفي خبر السّحائب : إنّ الإمام عليه السلام لم يزل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ،ويأمر ولا يُؤمر ، وفي كلّ يوم يظهر له من المعاجز والكرامات ما لا يحصى ولا يحصر ،فمنها :

إنّ المأمون لمّا جعله وليّ عهده وخليفته من بعده ، كان من حاشية المأمون اناس كرهوا خروج الخلافة من بني العبّاس ، وخافوا عودها إلى بني فاطمة عليها السلام ، فنفروا من الرّضا عليه السلام نفوراً وكرهوه بُغياً منهم .

وكانت عادة الرّضا عليه السلام إذا أراد الدّخول على المأمون ، يبادر من بالدهليز من حاشيته والحجاب بالسّلام عليه ، ورفع السّتر بين يديه ، فلمّا نظروا منه تواصوا بينهم وقالوا : إذا جاء الرّضا ليدخل على الخليفة أعرضوا عنه ولا ترفعوا السّتر له ، فلمّا جاءالرّضا على عادته لم يملكوا أنفسهم إلّاأن سلّموا عليه ، ورفعوا له السّتر على عادتهم ،فلمّا دخل عليه السلام أقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقالوا : النّوبة الآتية إذا جاء لا نرفع له السّتر .

فلمّا جاء في ذلك اليوم قاموا وسلّموا عليه ووقفوا ولم يبتدروا إلى رفع السّتر ،فأرسل اللّه ريحاً شديداً ، ودخلت في السّتر فرفعته أكثر ممّا كانوا يرفعونه ، فدخل فسكنت الرّيح ، فعاد السّتر إلى ما كان عليه ، فلمّا خرج عليه السلام عادت الرّيح ودخلت في

ص: 62


1- . وفيات الأئمّة - للشيخ أحمد القطيفي - ص287 .

السّتر فرفعته حتّى خرج عليه السلام ثمّ سكنت فعاد السّتر .

فلمّا ذهب عليه السلام ، أقبل بعضهم على بعض وقالوا : هل رأيتم ؟ قالوا : نعم .

فقالوا : يا قوم ! هذا رجل له عند اللّه منزلة عظيمة وللّه به عناية ، ألم تروا أنّكم لمّا لم ترفعوا السِّتر ، أرسل اللّه له الرّيح وسخّرها له كما سخّرها لسليمان بن داود عليه السلام ، فارجعواإلى خدمته فهو خير لكم ، فعادوا على ما كانوا عليه ، وزادت عقيدتهم فيه .

وقال الشّاعر :

للإمام الرّضا مناقب شتّى *** قد روتهاالأصحاب والأعداء

يعجز الحاسبون عن نَشر بعض *** ومحال لِكُلِّها الإحصاءُ

كم أتاح العدى له مهلكات *** فيجيء الرّضامنها الرَّخاء

وبرفع السّتور رفع ستور *** عن مزايا لهنّ منه اعتناء

الإمام عليه السلام يرجوا من اللّه تعالى تعجيل وفاته

الخلاصة أنّ الإمام الرّضا عليه السلام كان متوجّعاً متألّماً من أفعال المأمون وسوء خلقه ،ولكنّه لم يكن بإمكانه إظهار ذلك لأحد ، فضاق صدره ، حتّى كان يرجوا من اللّه تعجيل وفاته ، كما قال ياسر الخادم :

كان الرّضا عليه السلام إذا رجع يوم الجمعة من الجامع وقد أصابه العرق والغبار ، رفع يديه وقال : «اللّهمّ إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجِّل لي السّاعة» ، ولم يزل مغموماًمكروباً إلى أن قبض عليه السلام (1).

ولو تأمّل متأمّل في سلوك المأمون ومعاشرته مع الإمام عليه السلام لأذعن بما قلناه ،ولصدّقه ، أيتصوّر عاقل أنّ المأمون المحب لدنياه الّذي أمر بقتل أخيه محمّد الأمين أشدّقتله ، وإرسال رأسه إليه ، فنصبه في صحن داره على خشبة ، وأمر الجنود والعساكر أن يلعنوه ، ليأخذوا جوائزهم .

ص: 63


1- . عيون الأخبار - ج2 ص15 ح34 ؛ البحار - للمجلسي - ج49 ص140 .

فهل يُعقل أنّ هذا الشخص الطّالب للخلافة والرّئاسة ، والمنغمر في حبّ الدّنياوالجاه يدعو الإمام الرّضا عليه السلام من المدينة إلى مرو ، ويخلع نفسه من الخلافة ، ويفوّضهاإلى الإمام ، ويصرّ على ذلك شهرين ؟ إن هذا إلّامكرٌ وشيطنة ! كيف والخلافة قرّة عين المأمون ، وكما قيل : الملك عقيم .

فالمأمون لم يرض ولم يحب أن تُنشر أيّ فضيلة لأبي الحسن الرّضا عليه السلام ، كما يظهرهذا وينجلي تماماً من ملاحظة الرّوايات في ذهابه عليه السلام إلى صلاة العيد ، ومنع المأمون له من إقامتها وغيرها .

وفي حديث رجاء بن أبي الضحّاك ، لمّا أخبر المأمون بفضائل ومناقب وعبادة الإمام الرّضا عليه السلام ، قال المأمون : لا تخبر النّاس بهذا ، ثمّ قال : « - من أجل مصلحته وشيطنه منه - » : فإنّي اريد أن لا تُنشر فضائله ومناقبه إلّاعلى لساني .

لكنّه لمّا رأى ظهور علم الإمام وفضله وكماله على النّاس وأنّهم يميلون إليه ويحبّونه ، إضطرمت نار الحسد في صدره ، وبدأ بتدبير حيله للتخلّص منه ، فاستقرّ رأيه على أن يسمّه فسمّه وقتله .

شهادة الإمام الرّضا عليه السلام بالسُّم

لقد مرّ ذلك اليوم المشؤوم على الإسلام والّذي شبّ في قلوب المؤمنين الضّرم،إستدعى المأمون الإمام عليه السلام كما هي العادة بينه وبين الإمام في أكثر الأيّام .

وفي خبر أبي الصّلت الهروي : إستدعاه ، فقال الإمام عليه السلام : غداً أدخل إلى هذاالفاجر ، فإن خرجتُ وأنا مكشوف الرأس فكلّمني ، وإن خرجتُ وأنا مغطَّى الرّأس فلاتكلّمني .

قال أبوالصّلت : فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه ، وجلس في محرابه ينتظر ، فبينماهو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال : أجب أميرالمؤمنين ، فلبس نعله ورداءه ،وقام يمشي وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون وبين يديه طبق عنب وأطباق فاكهة بين يديه ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا بصر بالرّضا عليه السلام ، وثب إليه

ص: 64

وعانقه ، وقبّل مابين عينيه ، وأجلسه معه ، ثمّ ناوله العنقود ، وقال : يابن رسول اللّه ! هل رايت عنباً أحسن من هذا ؟

فقال الرّضا عليه السلام : ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة .

فقال له : كُل منه .

فقال له الرّضا : أوتعفيني منه .

فقال : لابدّ من ذلك ، ما يمنعك منه ، لعلّك تتّهمنا بشيء .

فتناول العنقود ، فأكل منه ، ثمّ ناوله ، فأكل منه الرّضا عليه السلام ثلاث حبّات ، ثمّ رمى به وقام ، فقال له المأمون : إلى أين ؟

قال : إلى حيث وجّهتني .

وخرج عليه السلام مغطّى الرأس ، فلم اكلّمه حتّى دخل الدّار ، ثمّ أمر أن يغلق الباب ،فغلق ، ثمّ نام على فراشه ، فمكثت واقفاً في صحن الدّار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك ،إذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه ، قطط الشّعر ، أشبه النّاس بالرّضا عليه السلام ، فبادرت إليه ،فقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ؟

فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت ، هو الّذي أدخلني الدّار والباب مغلق .

فقلت له : ومن أنت ؟

فقال لي : أنا حجّة اللّه عليك يا أباالصلت ، أنا محمّد بن علي .

ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام ، فدخل وأمرني بالدّخول معه ، فلمّا نظر إليه الرّضا عليه السلام وثب إليه وعانقه وضمّه إلى صدره ، وقبَّل مابين عينيه ، ثمّ سحبه سحباً إلى فراشه ، وأكبّ عليه محمّد بن علي عليه السلام يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه ، ورأيتُ على شفتي الرّضا عليه السلام زبداً أشدّبياضاً من الثّلج ، ورأيت أباجعفر عليه السلام يلحسه بلسانه ، ثمّ أدخل يده بين ثوبه وصدره ،فاستخرج منها شيئاً شبيهاً بالعصفور ، فابتلع أبوجعفر ، وقضى الرّضا عليه السلام صابراً

ص: 65

محتسباً (1) .

لاقى الرّزايا من المأمون في محن *** حتّى قضى حتفه ظُلماً وعُدوانا

قد دسّ في عنب سمّاً وقدَّمه *** له ليشعلَ منه القلبَ نيرانا

حتّى تقطّع منه قلبه قطعاً *** فبالرّضاوبدين المصطفى خانا

واحسرتاه له يقضي بغُصّته *** بالسُّمِّ ظُلماً غريباً في خُراسانا

... لما سرى نعشهُ نحو الضّريح به *** في الصّائحين توالى النوحُ ألحانا

نعشٌ يُشيّعه طه وفاطمة *** والمرتضى بل جميع الآل أشجانا

ملائك اللّه خلف النّعش قائلةً *** للّه قد مزَّق المأمون قرآنا (2) .

ص: 66


1- . منتهى الآمال - للشيخ عبّاس القمّي - ج2 ص487 .
2- . للاُستاذ جمعه الحاوي البحراني .

المجلس السادس: اليوم السادس من شهر رمضان مناسبة نزول التوراة على موسى عليه السلام

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

التوراة كتاب هدىً ونور

التوراة كتاب هدىً ونور (2)

تبيّن وتشير هذه الآية إلى أهمّيّة الكتاب السماوي الذي نزل على النبيّ موسى عليه السلام أي التوراة - واسم توراة أصله العبري تور بمعنى الشريعة والناموس وهو أحد الكتب السماويّة الرئيسيّة - حيث تشير الآية إلى أنّ اللّه أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنّوراللذان يرشدان إلى الحق ، وأنّ النّور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية : إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ... .

ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر اللّه ، والذين تولّوا مهامهم بعد نزول التّوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب ، تقول الآية الكريمة : يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا .

كما أنّ علماء اليهود ووجائهم ومفكّريهم المؤمنين الأتقياء ، كانوا يحكمون وفق

ص: 67


1- . سورة المائدة آية 44 .
2- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل لآية اللّه العظمى مكارم شيرازي ، ج4 ، ص13 - 15 .

هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه ، حيث تقول الآية : وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ (1) .

ثمّ توجّه الآية الخطاب إلى أُولئك العلماء والمفكّرين من اليهود الذين كانوايعيشون في ذلك العصر ، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام اللّه ، بل عليهم أن يخافوا اللّه ، فلا تسوّل لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق ، وإن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب ، فتقول الآية هنا : فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ .

ثمّ تحذّر الآية من الإستهانة والاستخفاف بآيات اللّه ، فتقول : وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً... .

وحقيقة كتمان الحق وأحكام اللّه تابعة إمّا عن الخوف من الناس ، وإمّا بدافع المصلحة الشخصيّة ، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط الشخصيّة ،وقد اشير في الجمل القرآنيّة أعلاه إلى هذين السببين .

وتصدر الآية حكماً صارماً وحازماً على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافاً لما أنزل اللّه فتقول : وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل اللّه يشمل السكوت والابتعاد عن حكم اللّه الذي يؤدّي بالنّاس إلى الضلال ، كما يشمل التحدّث بخلاف حكم اللّه .

وواضح - أيضاً - أنّ للكفر مراتب ودرجات مختلفة ، تبدأ من إنكار أساس وجوداللّه ويشمل عصيان أوامره ، لأنّ الإيمان الكامل يدعو ويحثّ الإنسان على العمل وفق أوامر اللّه ، ومن لا عمل له ليس له إيمان كامل .

وتبيّن هذه الآية - أيضاً - المسؤوليّة الكبرى التي يتحمّلها علماء ومفكّروا كلّ امّة حيال العواصف الإجتماعيّة ، والأحداث التي تقع في بيئاتهم ، وتدعو بأسلوب حازم .

ص: 68


1- . ومعنى «الرّبّاني» هو الذي أحكم ارتباطه باللّه ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من «الرب» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير امورهم وإصلاحهم . وأمّا كلمة «أحبار» فهي صيغة جمع من «حبر» على وزن «فكر» فهي تعني كلّ أثر خير ، اطلقت على المفكّرين الذين يخلّفون آثاراً خيرة في مجتمعهم ، ويطلق أيضاً على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير .

لمكافحة الإنحرافات وعدم الخوف من أيّ بشر - كائناً من كان - لدى تطبيق أحكام اللّه .

النبي صلى الله عليه و آله يطبّق حكم اللّه على يهوديّ وجيه

وقد ورد في هذا المجال كما عن الإمام الباقر عليه السلام وخلاصته أنّ أحد وجهاء اليهودفي منطقة خيبر كان متزوّجاً فارتكب عملًا غير شرعي ومخالفاً للعفّة مع امرأة متزوّجة من عائلة خيبريّة مشهورة ، فاغتمّ اليهود كيف ينفذون حكم التّوراة (الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب ، فأخذوا يبحثون عن حلّ لهذه المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة ، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم بالأحكام الإلهيّة ، ودفعهم هذا الأمرإلى الإستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في المدينة المنوّرة ، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النّبي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم (حتّى إذا كان الحكم بسيطاً وخفيفاً أخذوا به ،وإذا كان شديداً تجاهلوه وتناسوه ، ولعلّهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبيّ الإسلام إلى أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنّهم أصدقاء للمسلمين) .

ولهذا الغرض توجّه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النّبي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ، فسألهم النّبي صلى الله عليه و آله و سلم إن كانوا سيقبلون بكلّ حكم يصدره ، فأجابوه بأنّهم قدموا إليه لهذا السبب !فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة ، لكن اليهود لم يبدوااستعداداً لقبول هذا الحكم ، بدعوى أنّ ديانتهم تخلو من مثله ولا يوجد هذا الحكم في توراتهم ، فردّ عليهم النّبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التّوراة ،وسألهم إن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التّوراة في تلك القضيّة ليأخذوا به ، فوافقوا على ذلك ، فسألهم النّبي عن رأيهم في العالم اليهودي (ابن صوريا)الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوا بأنّه خير من يعرف التّوراة من اليهود .

فبعث النّبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذا العالم ، فلمّا قدم عنده أقسم عليه النّبي صلى الله عليه و آله و سلم باللّه الواحدالأحد الذي أنزل التّوراة على موسى وفلق البحر لإنقاذ بني إسرائيل وأغرق عدوّهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء ، أن يصدق القول إن كان حكم الرجم قد نزل في التّوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل ؟ فأجاب العالم اليهودي (ابن صوريا) بأنّه

ص: 69

مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النّبي أن يقول الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التّوراة .

فسال النّبي صلى الله عليه و آله و سلم اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور ، فأجاب(ابن صوريا) بأنّهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحقّ العامّه من أبناء طائفتهم ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقّهم ، فأدّى هذا التهاون إلى انتشارالخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتّى بادر إلى ارتكابها ابن عمّ لأحد رؤساء الطائفة ،فلم يطبق بحقّه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم ، وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامّة النّاس من أبناء الطائفة ، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقّه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك ، وقالوا : إذا كان لابدّ من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفّذ بحقّ الإثنين (الوجيه اليهودي والشخص الآخر العادي) ، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إلى سنّ حكم أخفّ من الرجم وهو أن يجلد الزناة 40 جلدة وتسوّدوجوههم ويركبوا دابّة ويطاف بهم في أزقّة وأسواق المنطقة !

فأمر النّبي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثريّة أمام المسجد (1) وأشهد اللّه في ذلك الحين بأنّه هو أوّل شخص يحيي حكم اللّه بعد أن أماته اليهود (2) .

في نزول التوراة وعبادة العجل

عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام قال تعالى : وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (3) قال : كان موسى عليه السلام يقول لبني إسرائيل :إذا فرّج اللّه عنكم وأهلك أعداءكم آتيكم بكتاب من عند ربّكم يشتمل على أوامره

ص: 70


1- . ذكرت الرّوايات التي جاء بها (البيهقي) في الجزء الثامن من سننه ، ص266 أنّ علماء اليهود حين قدموا إلى النّبي كانوا قد جلبوا معهم الرّجل والمرأة الزانيين .
2- . الأمثل ، ج4 ، ص5 - 6 .
3- . سورة البقرة - آية 51 .

ونواهيه ومواعظه وأمثاله .

فلمّا فرّج اللّه عنهم أمره اللّه عزّ وجلّ أن يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوماً عندأصل الجبل . فظنّ موسى عليه السلام أنّه بعد ذلك يعطيه الكتاب ، فصام ثلاثين يوماً ، فلمّا كان في آخر اليوم استاك (من السواك) قبل الفطر ، فأوحى اللّه إليه : يا موسى ! أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، صم عشراً آخر ، ولا تستك عندالإفطار . ففعل ذلك موسى عليه السلام ، وكان وعده اللّه أن يأتيه الكتاب بعد أربعين ليلة ، فأعطاه اللّه إيّاه .

فجاء السامري فشبّه على مستضعفي بني إسرائيل فقال : وعدكم موسى أن يرجع إليكم بعد أربعين ليلة وهذه عشرون يوماً وعشرون ليلة تمّت أربعون ، أخطأ موسى ربّه وقد أتاكم ربّكم أراد أن يريكم أنّه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه وإن لم يبعث موسى لحاجة منه إليه فأظهر لهم العجل الذي كان عمله .

فقالوا : كيف يكون العجل إلهنا ؟

قال : إنّما هذا العجل يكلّمكم منه ربّكم كما كلّم موسى من الشجرة .

فلمّا سمعوا منه كلاماً ، قالوا له : إنّه في العجل كما في الشجرة ، فضلّوا بذلك وأضلّوا .

فلمّا رجع موسى إلى قومه قال : يا أيّها العجل ! أكان فيك ربّك كما يزعم هؤلاء ؟

فنطق العجل وقال : عزّ ربّنا أن يكون العجل حاوياً له أو شيء من الشجرة والأمكنة عليه مشتملًا ، لا واللّه يا موسى ، ولكن السامري نصب عجلًا مؤخّره إلى الحائطوحفر في جانب الآخر في الأرض وأجلس فيه بعض مردته ، فهو الذي وضع فاه على دبره وتكلّم بما تكلّم لمّا قال : هذا إلهكم وإله موسى ، يا موسى بن عمران ما خذل هؤلاءلعبادي واتّخاذي إلهاً إلّالتهاونهم بالصّلاة على محمّد وآله الطيّبين وجحودهم بموالاتهم ونبوّة النبي ووصيّة الوصي حتّى إذا هم يتّخذوني إلهاً ، قال اللّه عزّ وجلّ : فإذا كان اللّه تعالى إنّما خذل عبادة العجل لتهاونهم بالصّلاة على محمّد ووصيّه علي ، فما تخافون من الخذلان الأكبر ومعاندتكم لمحمّد وعليّ وقد شاهدتموهما وتبيّنتم آياتهما ودلائلهما .

ص: 71

وفيه أيضاً : قال اللّه عزّ وجلّ : ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1)أي عفونا عن أوائلكم عبادة العجل لعلّكم أيّها الكائنون في عصر محمّد صلى الله عليه و آله من بني إسرائيل تشكرون تلك النعمة على أسلافكم وعليكم بعدهم .

قال عليه السلام : وإنّما كفا اللّه عزّ وجلّ عنهم لأنّهم دعوا اللّه بمحمّد وآله الطيّبين وجدّدواعلى أنفسهم الولاية لمحمّد وعليّ وآلهما الطاهرين فعند ذلك رحمهم اللّه وعفا عنهم .

عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أكرموا البقر فإنّه سيّد البهائم ، ما رفعت طرفهاإلى السماء حياءاً من اللّه عزّ وجلّ منذ عبد العجل (2) .

اليهود والمصير الخطير

الذي يستفاد من قوله تعالى : ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النّاسِ (3) والتي ترتبط باليهود ، وتعنيهم بقرينة الآية 61 من سورة البقرة أنّهانازلة في حقّهم يستفاد أنّ أمام اليهود طريقين يستطيعون بهما أن يتخلّصوا من لباس الذلّة :

إمّا أن يعودوا إلى اللّه ، ويعقدوا حبلهم بحبله ، وإمّا أن يتمسّكوا بحبل من الناس،ويعتمدوا على هذا وذاك ، ويعيشوا ذيولًا وأتباعاً للآخرين كما هم عليه اليوم . وتعني لفظة «ثقفوا» المأخوذة من «ثقف» على وزن «سقف» ، الحذق في إدراك الشيء ، والظفربه بمهارة . ويقصد القرآن من ذلك : أنّ اليهود أينما وجدوا فإنّهم يوجدون وقد ختموابخاتم الذلّة على جباههم مهما حاولوا إخفاء ذلك - وكان ذلك هي الصفة البارزة لهم بسبب مواقفهم المشينة من تعاليم السماء ، ورسالات الأنبياء العظام ، إلّاإذا عادوا إلى منهج السماء ، أو استعانوا بهذا أو ذاك من الناس لتخليصهم من هذا الذل ، وإنقاذهم من هذا الهوان .

ص: 72


1- . سورة البقرة - آية 52 .
2- . قصص الأنبياء والمرسلين - للسيّد نعمة اللّه الجزائري - ص313 .
3- . سورة آل عمران - آية 112 .

وأمّا التعبير ب «حبل من اللّه وحبل من الناس» وإن ذهب المفسّرون فيه إلى احتمالات عديدة ، بيد أنّ ما قد ذكر قريباً يمكن أن يقال بأنّه أنسب إلى الآية من بقيّة الاحتمالات ، لأنّه عندما يوضع «حبل اللّه» في قبال «حبل من النّاس» يتبيّن أنّ هناك معنى متقابلًا متفاوتاً لهما لا أنّ الأوّل بمعنى الإيمان باللّه ، والثاني بمعنى العهد المعطى لهم من جانب المسلمين على وجه الأمان والذمّة .

وعلى هذا تكون خلاصة المفهوم من هذه الآية هي : إنّ على اليهود أن يعيدوا النظرفي برنامج حياتهم ، ويعودوا إلى اللّه ، ويمسحوا عن أدمغتهم كلّ الأفكار الشيطانيّة ، وكلّ النوايا الشريرة ، ويطرحوا النفاق والبغضاء للمسلمين جانباً ، أو أن يستمرّوا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق ، مستعينين بهذا أو ذاك . فإمّا الإيمان باللّه والدخول تحت مظلّته وفي حصنه الحصين ، وإمّا الإعتماد على معونة النّاس الواهية ، والإستمرار في الحياة التعسة (1) .

اليهود والمسكنة الدائمة

لقد كان أمام اليهود طريقان : إمّا أن يعودوا إلى منهج اللّه ، وإمّا أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلّاء ما داموا ولكنّهم اختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلّه وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ .

ويرى البعض أنّ الفرق بين الذلّة والمسكنة هو أنّ الذلّة ما كان مفروضاً على الإنسان من غيره ، بينما تكون المسكنة ناشئة من عقدة الحقارة وازدراء الذات ، أي أنّ المسكين هو من يستهين بشخصيّته ومواهبه وذاته ، فتكون المسكنة نابعة من داخله ،بينما تكون الذلّة مفروضة من الخارج .

وعلى هذا الأساس يكون مفاد قوله تعالى : وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ هو : أنّ اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب

ص: 73


1- . تفسير الأمثل ، ج2 ، ص650 .

اصيبوا بأمرين : أوّلًا : طردوا من جانب المجتمع وحلّ عليهم غضب اللّه سبحانه ، وثانياً :إنّ هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتيّة لازمة لهم حتّى أنّهم رغم كلّ مايملكون من إمكانيّات وقدرات ماليّه وسياسيّة ، يشعرون بحقارة ذاتيّة ، وصغار باطني ،ولهذا لا نجد أي استثناء في ذيل هذه الجملة من الآية .

وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ وبذلك يشير سبحانه إلى علّة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود ، ولا يفارقهم .

إنّهم لم يصابوا بما اصيبوا به من ذلّة ومسكنة ، وحقارة وصغار لأسباب قوميّة عنصريّة أو ما شابه ذلك ، بل لمّا كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم :

أوّلًا : كانوا ينكرون آيات اللّه ويكذبون بها .

ثانياً : يصرّون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة ، وتخليصهم من الشقاء والعناء .

ثالثاً : إنّهم كانوا يرتكبون كلّ فعل قبيح ، ويقترفون كلَّ جريمة نكراء ، ويمارسون كلّ ظلم فظيع ، وتجاوز على حقوق الآخرين ، ولا شكّ أنّ أيّ قوم يرتكبون مثل هذه الاُمور يصابون بمثل ما اصيب به اليهود ، ويستحقّون ما استحقّوه من العذاب الأليم والمصير الأسود (1) .

مصير اليهود المظلم

إنّ التاريخ اليهودي الزاخر بالأحداث والوقائع يؤيّد ما ذكرته الآيات السابقة تأييداً كاملًا ، كما أنّ وضعهم الحاضر هو الآخر خير دليل على هذه الحقيقة ، أي إنّ الذلّة اللازمة لليهود والصغار الملتصق بهم أينما حلّوا ونزلوا ، ليس حكماً تشريعيّاً كما قال بعض المفسّرين ، بل هو قضاء تكويني ، وهو حكم التاريخ الصارم الذي يقضي بأن يلازم

ص: 74


1- . الأمثل ، ج2 ، ص652 .

الذلّة ، ويصاب بالصغار كلّ قوم يتمادون في الطغيان ، ويغرقون في الآثام ، ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحدودهم ، ويسعون في إبادة القادة المصلحين والهداة المنقذين ،إلّا أن يعيد هؤلاء القوم النظر في سلوكهم ، ويغيّروا منهجهم وطريقتهم ، ويرجعوا إلى اللّه ،أو يربطوا مصيرهم بالآخرين ليعيشوا بعض الأيّام في ظلّ هذا أو ذاك كما هي حال الصهيونيّة اليوم .

فإنّ الصهيونيّة التي تعادي المسلمين اليوم وتحارب الإسلام نجدها لا تستطيع الوقوف أمام الأخطار التي تهدّدها إلّابالاعتماد على الآخرين ، وحمايتهم رغم كلّ ماتملك من الثروات والقدرات الذاتيّة ، وكلّ هذا يؤكّد ويؤيّد ما ذكرته هذه الآيات ومايستفاد منها من الحقائق ، ولا شكّ أنّ هذا الوضع سيستمرّ بالنسبة إلى اليهود إلّاإذا تخلواعن سلوكهم العدواني وأعادوا الحقوق إلى أهلها ، وعاشوا إلى جانب الآخرين على أساس من الوفاق لا الغصب والعدوان والاحتلال .

بشارة من علي عليه السلام للمسلمين

قال أميرالمؤمنين عليه السلام : وستأتي اليهود من الغرب لانشاء دولتهم بفلسطين .

قال النّاس : يا أباالحسن ! أنّى تكون العرب أجاب آنذاك تكون مفككةٌ القوى مُفككةَ العُرى غير متكافئة وغير مترادفةً .

ثمّ سُئل عليه السلام : أيطول هذا البلاء ؟

قال : لا حتّى إذا أطلقت العرب أعنّتها ورجعت إليها عوازم أحلامها عندئذٍ يفتح على يدهم فلسطين وتخرج العرب ظافرة وموحّدةً ، وستأتي النّجدة من العراق كتب على راياتها القوّة وتشترك العرب والإسلام كافّة لتخلّص فلسطين معركة وأيّ معركةٍ في جُلّ البحر تخوض النّاس في الدِّماء ويمشي الجريح على القتيل .

ثمّ قال عليه السلام : وستفعل العرب ثالثاً وفي الرّابعة يعلم اللّه ما في نفوسهم من الثّبات والإيمان فيه فرفّ على رؤوسهم النّصر .

ص: 75

ثمّ قال : وأيَّم اللّه يُذبّحون ذِبْحَ النِّعاج حتّى لا يبقى يهودي في فلسطين (1) .

عليٌّ والتوراة

قال أميرالمؤمنين عليه السلام : ختمت التوراة بخمس كلمات فأنا أحبّ أن اطالعها كلّ يوم خمس مرّات :

الاُولى : عالم لا ينتفع بعلمه هو وإبليس سواء .

والثانية : سلطان لا يعدل في رعيّته هو وفرعون سواء .

والثالث : غني لا ينتفع بماله هو والأجير سواء .

والرابعة : فقير يتذلّل لغني طمعاً في ماله هو والكلب سواء .

والخامسة : امرأة تخرج من بيتها بدون إذن زوجها لغير ضرورة هي والأمة سواء .

لقد أورد هذه الكلمات رواة الأخبار ومتتبّعوا السير والآثار وفيهم صاحب كتاب تسلية الخواطر وهذا خلاف ما أورده اليهود من أنّ توراتهم ختمت بإصحاح أو سفرأرميا ، ولا عجب فاختلافهم في ختام التوراة كاختلافهم في مقدّمتها ومجموعها ، ومقدّمة التوراة هي الوصايا العشر ، وملخّصها الأمر بعبادة اللّه وحده والشكر له وللوالدين والنّهي عن قتل النّفس التي حرّم اللّه ، والنّهي عن الحلف باللّه كاذباً ، والنّهي عن الحسد والرباوالسرقة والذبح لغير اللّه ، والأمر بالحب للنّاس ما يحبّه المرء لنفسه .

هذه خلاصة الوصايا العشر وهي مقدّمة التوراة .

أمّا خاتمة التوراة فهي هذه الكلمات الخمس الّتي أدلى بها عيبة علم النبوّة الإمام علي عليه السلام القائل وهو الصّادق المصدّق : لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم- إلى قوله - حتّى تنطق التوراة فتقول : لقد صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ .

نعم ، هذه هي الكلمات الخمس الّتي ختمت بها التوراة الصحيحة ، وكان الإمام علي عليه السلام يطالعها كلّ يوم خمس مرّات ، فجدير بنا أن نطالعها ونتأمّل معانيها ، ونطبّقها

ص: 76


1- . كتاب عقائد الاماميّة - للحاج سيّد إبراهيم الموسوي الزنجاني - ص270 .

على أنفسنا رجالًا ونساءً ... وفّقنا اللّه لذلك أجمعين . ولقد كان آخر هذه الكلمات التي ختمت التوراة بها ، وهي ما يخصّ النساء إذ ترفع بالمرأة أن تخرج من بيتها بغير إذن زوجها لغير ضرورة .

ونحن لا نعلم امرأة في العالم أرفع وأجل من الصدّيقة الكبرى فاطمة الزّهراء عليها السلام ولا ضرورة أكثر ممّا حصل لها يوم أخذ القوم عليّاً عليه السلام إلى المسجد بحمائل سيفه فلا لوم عليها إذ خرجت تعدوا خلفه ومعها الحسنان ولسان حالها :

خلّوا ابنَ عمّي أو لأكشفَ بالدّعا *** رأسي وأشكو للإله شِجُوني

ما كانَ ناقةُ صالحٍ وفصيلُها *** بالفضلِ عند اللّهِ إلّادُوني

ورنتْ إلى القبرِ الشّريفِ بمُقلةٍ *** عبرى وقلبٍ مُكمدٍ محزونِ

نادتْ واَظفارُ المصابِ بقلبها *** أبتاهُ قَلَّ على العِداةِ مُعينِ

أيُّ الرزايا أتّقي بتجلُّدي *** هي في النوائبِ ما حَييْت قريني

فقدي أبي أم غصبَ بعلي حقَّه *** أم كسرَ ضلعي أم سُقوط جنيني

أم أخذَهم إرثي وفاضلَ نحلتي *** أم جهلَهم حقّي وقدعَرفُوني (1)

* * *

گومك يبويه ما رعوني *** واخلاف عينك مرمروني

وبر المدينه طلعوني *** ومن البچه اعليك امنعوني .

ص: 77


1- . للشيخ صالح الكواز الحلّي .

المجلس السابع: ذِكرى وفاة أبي طالب عليه السلام في السابع من شهر رمضان المبارك

اشارة

ابا طالب عصمةُ المستجير *** وغيث المحول ونورالظُّلَم

لقد هدّ فقدك اهل الحفاظ *** فصلّى عليك وليُّ النّعم

ولقّاك ربُّك رضوانه *** فقدكنت للطهر من خير عم (1)

* * *

ليعلَم خيارَ الناس أن محمداً *** وزيرٌ لموسى والمسيح ابن مريم

اتانا بهدي مثل ما أتيابه *** فكلٌ بامر اللّه يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث مبرجم

أمينٌ حبيب في العبادمسوَّمٌ *** بخاتم رب قاهر في الخواتم

نبيٌّ اتاه الوحي من عندربّه *** ومن قال : لا يقرع بها سن نادم (2)

ص: 78


1- . الابيات لامير المؤمنين عليه السلام في رثاء والده ابي طالب ، الغدير للعلامة الأميني ج7 ص421 .
2- . الغدير للعلامة الأميني ج7 ص411 ، والابيات لابي طالب عليه السلام .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

الهداية بيد اللّه وحده

بالرَّغم من أنّ بحوثاً كثيرة وروايات وردت في هذه الآية وشأن نزولها إلّاأنّها -كما سنرى - روايات غير معتبرة ولا قيمة لها وردت في تفسير هذه الآية من أهل العامّة كالتي وردت في شأن أبي طالب ، وسوف نشير إليها خلال البحث ، حتّى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد سياسيّة خاصّة . ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة .

ومع الالتفات إلى أنّ الآيات السّابقة عن هذه الآية كانت تتحدّث عن طائفتين :طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين ، كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله شديد الإصرار على هدايتهم ،لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان ، وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدى عن مكّة ، تلقّوا هداية اللّه برحابة صدر وبعشق وضحّوا في سبيل الإسلام ، وآثروا على أنفسهم مصلحة الإسلام ، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيّين ، ولم يستوحشوامن الضغوط والعزلة وما إلى ذلك !

فمع الالتفات إلى كلّ هذه الاُمور ، نلاحظ أنّ الآية تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .

فاللّه يعلم من هم الجديرون بالإيمان .. وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف

ص: 79


1- . سورة القصص آية 56 .

العاشقين له ، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئنّ إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إصرار المشركين وعنادهم لم يكن من دون دليل وسبب وإن كانوا من أهل مكّة ،وكذلك إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الرّاهب لم يكن من دون دليل وسبب .

فعليه أن لا يكترث لعدم ايمان الطّائفة الاُولى ، فإنّ اللّه يقذف نوره في القلوب المهيأة للنّور ويبسط عليها خيمته !

ونظير هذا المضمون كثير في آيات القرآن :

منها قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (1) .

وقوله تعالى : إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (2) .

وقوله تعالى : أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (3) .

كما نقرأ أيضاً في سورة إبراهيم ما هو بمثابة القانون العام : فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) .

فالآية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أنّ المشيئة الإلهيّة في شأن هاتين الطّائفتين (جماعة الهدى وجماعة الضلال) ليست دون حساب ، بل هي طبقاً للجدارة واللّياقة وسعي الأفراد أنفسهم ... فاللّه يهب توفيقه على هذا الأساس ، ويهدي من يشاءإلى صراط مستقيم ، ويسلب الهدى ممّن يشاء فيضلّون السّبيل (5) .

إيمان أبي طالب والضجيج حوله

هذا الموضوع يبدو عجيباً لمن كان من أهل البحث والمطالعة ... فكيف يصرّ

ص: 80


1- . سورة البقرة - آية 272 .
2- . سورة النحل - آية 37 .
3- . سورة يونس - آية 43 .
4- . سوره ابراهى - آية 4 .
5- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل - لمكارم الشيرازي - ج12 ص260 .

جماعة من رواة الأخبار على أن يزعموا أنّ أباطالب عليه السلام عمّ النّبي كان مشركاً وغيرمؤمن وأنّه مات كافراً ، وأنّ الآية التي تلوتها أوّل المجلس نزلت في حقّه ، وهو بإجماع المسلمين كان من الذين بذلوا تضحيات منقطعة النظير ، وحمى نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله وضحّى من أجله ؟!

ولم لا يكون هذا الإصرار بالنّسبة للآخرين الّذين لا حظّ لهم في تأريخ الإسلام ؟!كأبي سفيان وأمثاله .

هنا نعرف أنّ المسألة ليست مسألة عادية .. ثمّ بأقلّ ملاحظة وتدقيق نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أنّ وراء هذه البحوث التاريخيّة والروائيّة لعبة سياسيّة خطيرة من أعداءالإمام علي عليه السلام ومناوئيه ! فقد كانوا يصرّون على سلب كلّ فضيلة له ، حتّى جعلوا أباه المضحّي والفادي للنَّبي والمؤثر له على نفسه يموت كافراً بزعمهم !!

ومن المؤكّد أنّ بني اميّة ومريديهم في عصرهم ، وقبل أن يصلوا إلى دفة الحكومة ،سعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا لإثبات مدّعاهم بالشواهد والحجج الواهية .

ونحن بقطع النّظر عن هذه الأمواج السياسيّة المنحرفة والملوّثة ، الّتي هي بنفسهاتستحقّ المطالعة من جهات متعدّدة .. نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة تأريخيّة وتفسيريّة بحتة ، بشكل موجز ومضغوط (كما يقتضيه وضع المجلس) ليتَّضح أن ليس وراء هذا الضّجيج أي سند معتبر ، بل هناك شواهد حيّة ضدّه !

1 - إنّ الآية محلّ البحث إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ليس لها علاقة بأبي طالب كما بيّنّا ، وقلنا : إنّ الآيات الّتي جاءت قبلها تدلّ بصورة واضحة أنّها في شأن جماعة من أهل الكتاب المؤمنين ، في مقابل مشركي مكّة .

الطَّريف أنّ الرازي الذي يزعم أنّ الآية نزلت في أبي طالب عليه السلام بإجماع المسلمين !! يصرّح بأنّ الآية ليس فيها أقلّ دلالة على كفر أبي طالب (1) .

ولكن مع هذا الحال فلماذا يصرّون فيها على أن يكون أبوطالب عليه السلام مشركاً ؟ فهذه .

ص: 81


1- . التفسير الكبير - للفخر الرازي - ج25 ص3 .

مسألة غريبة ومدعاة للدَّهشة ! ..

2 - وأهمّ دليل لديهم في هذا المجال أنّهم ادّعوا إجماع المسلمين على أنّ أباطالب مات مشركاً !

في حين أنّ مثل هذا الإجماع كذب محض لا أساس له ، وهو عارٍ عن الصحّة .

فالمفسّر المعروف «الآلوسي» - وهو من علماء السنّة - صرّح في تفسير روح المعاني أنّ هذه المسألة ليست إجماعيّة ، وحكاية الإجماع من قبل المسلمين أوالمفسّرين على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في أبي طالب تبدو غير صحيحة ... لأنّ علماءالشيعة وجمع كثير من المفسّرين يعتقدون بإسلام أبي طالب ، وادّعى أئمّة أهل البيت عليهم السلام الإجماع على ذلك ، إضافة إلى أنّ أكثر قصائد أبي طالب تشهد على إيمانه (1) .

3 - التدقيق والبحث يدلّ على أنّ هذا الإجماع المزعوم هو من قبل أخبار الآحادالتي لا إعتبار لها ، وفي سند هذه الرّوايات أفراد مشكوك فيهم كذّابون .

ومن هذه الرّوايات ما نقله إبن «مردويه» بسنده عن إبن عبّاس أنّ آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في شأن أبي طالب ، وقد أصرّ النّبي صلى الله عليه و آله عليه أن يؤمن فلم يؤمن (2) .

في حين أنّ في سند هذه الرواية «أبو سهل السري» الذي عرف بين كبار أصحاب علم الرجال بأنّه من الكذّابين الوضَّاعين السارقين للحديث . كما أنّ في سند هذه الرواية«عبدالقدّوس أبو سعيد الدمشقي» وهو من الكذّابين أيضاً (3) .

وظاهر تعبير الحديث يدلّ على أنّ ابن عبّاس ينقل هذا الحديث من غير واسطة وكان شاهداً على ذلك ، في حين أنّنا نعرف أنّ ابن عبّاس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ،فعلى هذا كان لا يزال رضيعاً عندما مات أبوطالب عليه السلام .. ومن هنا نستنتج أنّ واضعي الحديث حتّى في هذا العمل كانوا مبتدئين وناشئين !! .

ص: 82


1- . روح المعاني - ج2 ص84 ذيل الآية محلّ البحث .
2- . الدرّ المنثور - ج5 ص133 .
3- . الغدير - ج8 ص20 .

وهناك حديث آخر في هذا المجال ينقله «أبو هريرة» إذ يقول : حين دنت وفاة أبي طالب قال له النّبي صلى الله عليه و آله : يا عم ! قل : لا إله إلّااللّه ، لأشهد لك يوم القيامة عند اللّه بالتوحيد . فقال أبوطالب : لولا أنّ قريشاً تقول إنّ أباطالب أظهر الإيمان حال الموت خوفاً ، لكنت أشهد بالتوحيد وأقرّ عينيك ، فنزل قوله تعالى : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (1) .

ويبدو من ظاهر هذا الحديث أنّ أباهريرة كان شاهداً على هذه القضيّة ، في حين أنّنا نعرف أنّ أباهريرة أسلم سنة فتح خيبر ، بعد الهجرة سبع سنين ، فأين أبوهريرة من وفاة أبي طالب الّتي حدثت قبل الهجرة ... ؟!!

وإذا قيل أنّ ابن عبّاس وأباهريرة لم يكونا شاهدين على هذه القضيّة ، وسمعا هذه القصّة من شخص آخر فإنّنا نسأل من هو هذا الشّخص ؟! فالّذي نقل هذا الحديث لهذين الشّخصين - إذاً - مجهول ، ومثل هذا الحديث يعرف عند أهل الحديث بالمرسل ، والجميع يعلمون بأنّ لا إعتبار للمراسيل ؟

ومن المؤسف أنّ جماعة من رواة الأخبار والمفسّرين نقلوا هذا الحديث بعضهم عن بعض دون تدقيق في كتبهم ، وشيئاً فشيئاً كوّنوا إجماعاً لهذا الحديث ! ولكن أيّ إجماع هذا ؟ أم أيّ حديث معتبراً (2) ؟!!

فأمّا أهل البيت وشيعتهم ، فإنّهم مجمعون على إسلامه عليه السلام (3)، بل في بعض الأحاديث : أنّه من الأوصياء ، وأنّ نوره يطغى في يوم القيامة على كلّ نور ، ما عدا نورالنّبي صلى الله عليه و آله والأئمّة وفاطمة عليهم السلام ..

فإنّ إيمان أبي طالب وتصديقه برسالة النبي صلى الله عليه و آله وانقياده للأوامر والزّواجر .

ص: 83


1- . الدرّ المنثور - ج5 ص133 .
2- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل - ج12 ص264 .
3- . الصحيح من سيرة النبي الأعظم - ج2 ص133 ؛ عن روضة الواعظين - ص138 ؛ وأوئل المقالات -ص13 ؛ والطرائف لابن طاووس - ص298 ؛ وشرح النهج للمعتزلي - ج14 ص165 ؛ والبحار - ج35 ص138 ؛ والغدير - ج7 ص384 عنهم ؛ وعن : التبيان - ج2 ص398 ؛ وكتاب الحجّة لابن معد - ص13 ؛ ومجمع البيان - ج2 ص287 .

الإلهيّة ، كالنّار على المنار ، وكالشّمس في رابعة النّهار .

والأحاديث الدالّة على إيمانه ، والواردة عن أهل بيت العصمة كثيرة ، وقد جمعهاالعلماء في كتب مفردة وكان من الكتب الأخيرة كتاب : منية الراغب في إيمان أبي طالب للشيخ الطّبسي ... وواضح : أنّ أهل البيت أدرى بما فيه ، من كلّ أحد ...

يقول ابن الأثير : «وما أسلم من أعمام النّبي صلى الله عليه و آله غير حمزة والعبّاس ، وأبي طالب عند أهل البيت» (1) .

وعدا عن ذلك فإنّ الأدلّة الدالّة على إيمانه كثيرة ... وقد ألّف في إثبات إيمانه الكثير من الكتب من السنّة الشّيعة على حدّ سواء ، وقد أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كتاباً ،ومنا كتاب : أبوطالب مؤمن قريش للاُستاذ عبداللّه الخنيزي ، الذي كاد أن يدفع حياته ثمناً لهذا الكتاب ، حيث حاول الوهّابيّون في السّعوديّة تنفيذ حكم الإعدام فيه ، بسبب كتابه هذا ، فتداركه اللّه برحمته ، وتخلَّص من شرِّهم ...

بعض الأدلّة على إيمان أبي طالب

إنّ التعرّف على عقيدة أحد ، ومعرفة نمط تفكيره ، يكمن في ثلاث طرق هي :

1 - دراسة ما ترك من آثار علميّة وأدبيّة .

2 - اسلوب عمله ، وتصرّفاته في المجتمع .

3 - رأي أقربائه ، وأصدقائه غير المغرضين فيه .

ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان «أبي طالب» وعقيدته من خلال هذه الطُّرق .

فإنّ أشعار «أبي طالب» تدلّ بجلاء لا لُبس فيه على إيمانه وإخلاصه ، وكذا تكونُ خدماته القيّمة في السّنوات العشر الأخيرة من عمره شاهداً قويّاً على إيمانه العميق .

كما وأنّ رأي أقربائه المنصفين متَّفق على أنّ أباطالب كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه ، في حقّه بغير هذا أبداً .

ص: 84


1- . الصحيح من سيرة النبي الأعظم ؛ عن البحار - ج3 ص139 ؛ والغدير - ج7 ص369 .

وإليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطُّرق الثَّلاث :

آثار أبي طالب العلميّة والأدبيّة

ويكفي أن نذكر نموذجاً من أشعاره الّتي عبّر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي بقوله :إنّ كلّ هذه الأشعار قد جاءت مجيء التَّواتر ، من حيث مجموعها (1) .

وإليك بعض أشعاره :

1 - ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً *** نبيّاًكَموسى خُطّ في أوّلِ الكُتُبِ

وأنّ عليه في العبادِ محبّةً *** ولا حيفَ في مَن خصّهُ اللّه بالحُبِّ (2)

2 - نبيٌّ أتاه الوحي من عند *** ربّه ومن قال لا ، يقرع بها سنَّ نادم

3 -يا شاهد اللّه علي فاشهد *** إنّني على دين النّبيّ أحمد

من ضلّ في الحقّ فإنّي مهتد ***

4 - أنت الرّسول رسول اللّه نعلمه *** عليك نزل من ذي العزّة الكتب

5 -و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

6 - أتعلم ملك الحبش أنّ محمّداً *** نبيّاً كموسى والمسيح بن مريم

أتى بالهدى مثل الّذي أتيا به *** فكُل ٌّبأمر اللّه يهدي ويَعصِمِ

فإنّ هذا الاُسلوب من الشّعر لا يمدح به التّابع والذنابي من النّاس ، وإنّما هو من مديح الملوك والعظماء ، وإنّ بيتاً و احداً منها كاف في إثبات إيمان صاحبها وقائلها .

فإذا تصوّرت أنّه شعر أبي طالب ، ذاك الشّيخ المبجَّل العظيم في محمّد صلى الله عليه و آله ، وهوشاب مستجير به ، معتصم بظلّه من قريش ، قد ربّاه في حجره غلاماً ، وعلى عاتقه طفلًا ،وبين يديه شابّاً ، يأكل من زاده ، ويأوي إلى داره ... علمت موضع خاصيّة النبوّة وسرّها ،

ص: 85


1- . الصحيح من سيرة النبي الأعظم - ج2 ، ص135 ؛ عن كتاب أبوطالب مؤمن قريش - ص272 - ط سنة 1398 ه .
2- . ديوان أبي طالب - ص32 ؛ السيرة النبويّة - ج1 ص353 .

وأنّ أمره كان عظيماً (1) .

الطّريق الثاني لإثبات إيمان أبي طالب : مواقفه

إنّ الطّريق الثّاني للبرهنة والتّدليل على إيمان «أبي طالب» هومواقفه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكيفيّة دفاعه وذبّه عنه وحمايته له ، وحدبه عليه صلى الله عليه و آله ، وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطّريق .

لقد كان «أبوطالب» هو ذلكم الشخصيّة التي لم يرض لنفسه بأن ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكّة ، واصطحبه معه إلى الشّام في الرّحلة التجاريّة ، رغم الموانع الكثيرة ،وفقدان الوسائل اللازمة ، ورغم ما تَرتب على اصطحابه معه من متاعب .

إنّ إيمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنّه أخذه إلى المصلّى واستسقى به ،مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه ، وذلك كما ورد أنّه أصاب مكّة قحط شديد في سنة من السنين والنبيّ صلى الله عليه و آله في صباه ، فطلبت قريش من أبي طالب أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ - وهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله - كأنّه شمسُ دجن تجلّت عنهاسحابة قتماء وحوله اغيلمةٌ ، فأخذه «أبوطالب» فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ الغلام بإصبعه (أي أشار بها إلى السّماء) وما في السّماء قزعة ، فأقبل السّحاب من هاهناوهاهنا ، وأغدق ، واغدودق وانفجر له الوادي ، وأخصب البادي والنادي .

ففي ذلك يقول أبوطالب في مدح رسول اللّه :

وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ ... (2)

ثمّ أبوطالب لم يفتأ عن الحفاظ عن حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله لحظة واحدة ، وذلك لمّاهمّت قريش بقتل النبي صلى الله عليه و آله وأجمع ملأها على ذلك ، فبلغ ذلك أباطالب ، فأنشد أمام النّبي صلى الله عليه و آله :

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتّى اوسّدفي التراب دفينا

ص: 86


1- . عن شرح النهج للمعتزلي - ج14 ص63 ؛ وماذا في التاريخ ؟ - ج3 ص196 - 197 عنه .
2- . سيّد المرسلين - ج1 ص290 .

فلمّا علمت قريش أنّهم لا يقدرون على قتل الرّسول صلى الله عليه و آله ذلك ، لأنّ أباطالب لايسلمه ، كتبوا الصّحيفة القاطعة الظّالمة أن لا يبايعون بني هاشم ، وبني عبدالمطّلب حتّى كافرهم ، ولا يناكحونهم ولا يعاملونهم حتّى يدفعوا إليهم محمّداً صلى الله عليه و آله فيقتلوه ، وعلّقوهافي جوف الكعبة ، وأخرجوا بني هاشم من بيوتهم حتّى نزلوا شعب أبي طالب ، وتعاهدواعلى ذلك وختموها بثمانين ختماً ، وكان الّذي كتبها منصور بن عكرمة من بني عبدالدّارفشلَّت يده ، وحصرت قريش بني هاشم ، وأباطالب في الشعب المعروف بشعب أبي طالب ، وذلك بعد ستّة سنين من بعثة النّبي صلى الله عليه و آله ، فأقاموا ثلاث سنين حتّى أنفق رسول اللّه صلى الله عليه و آله ماله وأنفق أبوطالب وخديجة مالهما ، وصاروا إلى حدّ الضّيق والفاقة .

فعندها نزل جبرئيل يخبر الرّسول صلى الله عليه و آله أنّ اللّه سلّط الاُرضة على الصّحيفة فأكلتهاولم تبق منها إلّالفظ الجلالة وهو : باسم اللّهمّ .

فأخبر صلى الله عليه و آله بذلك أباطالب ، وأخبر أبوطالب قريشاً فوجدوها كما أخبر ، وأسلم ذلك اليوم خلق كثير ، وخرج النّبي صلى الله عليه و آله ومن معه من الشعب ، ومكث صلى الله عليه و آله لا يصل إليه أحدبسوء في ظلّ عمّه أبي طالب رضى الله عنه باتفاق المؤرخين .

وروي لمّا كانوا بالشعب فكان النبي صلى الله عليه و آله إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبوطالب فأنهضه من مضجعه وفراشه ، وأنام عليّاً في مضجعه ، فقال علي عليه السلام ذات ليلة : ياأبتاه ! إنّي مقتول ؟ فقال أبوطالب :

إصبرنّ يا بُني فالصّبر أحجى *** كلّ حيّ مصيره لشعوب

قد بذلناك والبلاءعسير *** لفداء النّجيب وابن النّجيب

فيجيبه الإمام علي عليه السلام :

أتأمرني بالصّبر في نصر أحمد *** فواللّه ماقلت الّذي قلت جازعا

ولكنّني أحببتُ أن تر نُصرتي *** لتعلم أنّي لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجه اللّه في نصرأحمد *** نبيّ الهدى المحمود طفلًاويافعاً (1) .

ص: 87


1- . المجالس السنيّة - ج1 ص190 .

هكذا كان أبوطالب يحامي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويعرض أبنائه لخطر القتل والاغتيال ، ليبقى النبي ولا يمسّه من أعدائه أيّ سوء ، فكان يقيه بنفسه وأولاده .

وجاء في الحديث أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان جالساً في الرّحبة والنّاس حوله ، فقام إليه رجل فقال له : يا أميرالمؤمنين ! إنّك بالمكان الّذي أنزلك اللّه وأبوك معذَّب في النّار ؟

فقال له الإمام عليه السلام : مَه فضّ اللّه فاك ، والذي بعث محمّداً بالحقّ لو شفع أبي لكلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه اللّه ، أأبي معذَّب في النّار وابنه قسيم الجنّة والنّار ؟!والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفي أنوار الخلائق إلّاخمسة أنوار : محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، ونور ولده من الأئمّة ، ألا إنّ نوره من نورنا خلقه اللّه من قبل خلق آدم بألفي عام (1) .

وصيّة أبي طالب عند وفاته

وعند وفاته قال لأولاده :

«اُوصيكم بمحمّد خيراً ، فإنّه الأمين في قريش وهو الجامعُ لكلّ ما اوصيكم به ،وقد جاء بأمرٍ قبله الجَنان ، وأنكره اللّسان مخافة الشّنآن ، وأيم اللّه لكأنّي أنظر إلى صعاليك العرب ، وأهل البرّ في الأطراف ، والمستضعفين من النّاس ، قد أجابوا دعوته ،وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ، ودُورها خراباً ، وضُعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ،وأبعدهم منه أحظاهم عنده ...» .

ثمّ ختم وصيّته هذه بقوله :

«يا معشر قريش كونوا له ولاةً ، ولحزبه حماةً ، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله إلّارشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلّاسعد» (2) .

نحن لانشكّ في أنّ «أباطالب» كان صادقاً في امنيّته هذه ، لأنّ خدماته الكبرى

ص: 88


1- . الغدير - للعلّامة الأميني - ج7 ص387 .
2- . السيرة الحلبيّة - ج1 ص351 و352 .

وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرِّسالة شاهدة على صدق مقاله ،كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عندماجمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام ، فقال له أبوطالب :

«اُخرج يابن أخي فإنّك الرّفيع كعباً ، والمنيعُ حزباً ، والأعلى أباً . واللّه لا يسلقك لسان إلّاسلقته ألسن حِداد ، واجتذَبَتْه سيوفُ حداد . واللّهِ لتذلَّنّ لك العربُ ذُلّ البُهم لحاضِنها» (1) .

الطريق الثالث لإثبات إيمان أبي طالب : أقربائه

ويحسن بنا أخيراً أن نسأل - عن أبي طالب وعن إيمانه وإخلاصه - أقاربه غيرالمغرضين لأنّ «أهل البيت أدرى بما في البيت» .

1 - لمّا مات أبوطالب جاء عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فآذنه بموته ، فتوجّع توجّعاًعظيماً ، وحزن حزناً شديداً ، ثمّ قال له : إمض فتولّ غسله فإذا رفعته على سريره فاعلمني . ففعل فاعترضه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو محمول على رؤوس الرجال ، قال :وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيراً ، فلقد ربّيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً» .

ثمّ تبعه إلى حضرته ، فوقف عليه فقال :

«أما واللّه لأستغفرنّ لك ، ولأشفعنَّ فيك شفاعة يعجب لها الثّقلان» (2) .

2 - روي أنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام سُئل عن إيمان أبي طالب . فقال : «واعجباً ! إنّ اللّه تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السّابقات إلى الإسلام ، ولم تزل تحت أبي طالب حتّى مات» (3) .

3 - روي عن محمّد بن علي الباقر عليهما السلام أنّه قال :

«لو وُضِعَ إيمان أبي طالب في كفّة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في الكفّة الاُخرى

ص: 89


1- . الطرائف - للسيّد ابن طاووس - ص85 ؛ نقلًا عن غاية السؤول في مناقب آل الرسول - للدينوري .
2- . شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - ج14 ص76 .
3- . المصدر السّابق - ج14 ص69 .

لرجح إيمانه» . ثمّ قال : «ألم تعلموا أنّ أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام كان يأمر أن يُحجَّ عن عبداللّهِ وأبيه» (1) .

4 - قال الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام :

«إنّ مَثَل أبي طالب مَثَل أصحاب الكهف ؛ أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين ، وإنّ أباطالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك ، فآتاه اللّه أجره مرّتين» (2) .

حديث الضحضاح

وقد استدلّ القائلون بكفر أبي طاب - والعياذ باللّه - بروايات وأدلّة واهية ، ونحن نشير هنا إلى عمدة ما اعتمدوا عليه في ذلك وهي :

عن أبي سعيد الخدري ، أنّه سمع النبي صلى الله عليه و آله وقد ذكر عنده عمّه ، فقال : لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ...

وحسب نصّ آخر : إنّ العبّاس قال للنّبي صلى الله عليه و آله : ما أغنيت عن عمّك ، فواللّه ، كان يحوطك ويغضب لك . قال النبي صلى الله عليه و آله : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار (3) .

ونقول :

الف : لقد ناقش كلّ من الأميني في الغدير ج8 ص23 - 24 والخنيزي في :أبوطالب مؤمن قريش ... أسانيد هذه الرواية ، وبيّنا وهنها وضعفها ، وتناقض نصوصهاالعجيب ...

باء : وأيضاً ... فإنّه إذا كان صلى الله عليه و آله قد نفع أباطالب ، وأخرجه من الدّرك الأسفل إلى الضحضاح ، فلماذا لم يتمّم معروفه ، ويخرجه من هذا الضحضاح أيضاً ؟!

ص: 90


1- . المصدر السابق - ص68 .
2- . سيّد المرسلين - ج1 ص530 ؛ عن اصول الكافي - ج1 ص448 .
3- . الصحيح في سيرة النبي - ج2 ص143 ؛ عن صحيح البخاري ط سنة 1309 - ج2 ص209 وج4 ص54 ؛ والمصنّف - ج6 ص41 ؛ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي - ج2 ص29 و30 ؛ وصحيح مسلم .

وأيضاً هل تكون الشّفاعة في الدّنيا ؟! ...

جيم : إنّ ما يروونه ، من أنّه طلب منه حين وفاته : أن يقول كلمة لا إله إلّااللّه ،محمّد رسول اللّه ، ليستحل له بها الشفاعة يوم القيامة ، فلم يعطه إيّاها يدلّ على أنّه قدأناط صلى الله عليه و آله مطلق الشّفاعة بكلمة لا إله إلّااللّه ... (1) فلماذا استحلّ هذه الشّفاعة مع أنّه لم يعطه الكلمة الّتي توجب حلّيّتها ؟! ...

ثمّ أوليس يروون أنّ الشفاعة لا تحل لمشرك فلماذا حلّت لهذا المشرك بالذّات ،بحيث أخرجته من الدّرك الأسفل إلى الضحضاح (2) ؟

دال : وسئل الباقر عليه السلام عمّا يقوله النّاس : إنّ أباطالب في ضحضاح من نار ، فقال :لو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفّة اخرى لرجح إيمانه .ثمّ قال : ألم تعلموا أنّ أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبداللّه وابنه وأبي طالب في حياته ، ثمّ أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم (3) .

وقد ذكروا أدلّة اخرى واهية لا يسع هذا المختصر من ذكرها ، فليراجع في مظانّها .

كتمان إيمان أبي طالب

إنّنا إذا تتبّعنا سير الدّعوة ، ومواقف أبي طالب ، فإنّنا نجد أنّه كان بادىء ذي بدءيكتم إيمانه تماماً كمؤمن آل فرعون ، والظّاهر أنّه قد استمرّ يظهر ذلك تارة ، ويخفيه اُخرى إلى أن حصر الهاشميّون في الشعب ، فصار يكثر من إظهار ذلك .

وقد ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام قوله : «إنّ مَثَلَ أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين» .

وعن الشعبي ، يرفعه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : كان واللّه أبوطالب بن عبدمناف

ص: 91


1- . عن الترغيب والترهيب - ج4 ص433 ؛ عن أحمد بسندين صحيحين وعن البزار ، والطبري بأسانيدأحدها جيّد ؛ وابن حبّان في صحيحه ، وراجع الغدير - ج2 ص25 .
2- . عن مستدرك الحاكم - ج2 ص336 ؛ وتلخيصه للذهبي وصحّحاه والمواهب اللدنيّة - ج1 ص71 ؛ والغدير - ج8 ص24 عنهما .
3- . الصحيح في سيرة النبي - ج2 ص144 .

بن عبدالمطّلب مؤمناً مسلماً يكتم إيمانه ، مخالفة على بني هاشم أن تنابذها قريش ، وكذاعن ابن عبّاس (1) .

وثمّة أحاديث اخرى عديدة بهذا المعنى لا مجال لذكرها ، راجع الغدير ج7 .

ونستطيع أن نقول : إنّ سرّيّة إيمان أبي طالب كانت ضروريّة جدّاً ، وذلك لأنّ الدّعوة كانت بحاجة إلى شخصيّة إجتماعيّة قويّة تدعمها ، وتحافظ على قائدها ، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع ... فتتكلّم من مركز القوّة لتتمكّن الدعوة من الحركة ، مع عدم مواجهة ضغط كبير يشلّ حركتها ، ويحد من فاعليّتها ...

لماذا الإفتراء على أبي طالب ؟

وأخيراً ... فلعلّ ذنب أبي طالب الوحيد هو أنّه كان أباً لأميرالمؤمنين علي عليه السلام فالمستهدف بهذه النسبة الشنيعة - في الحقيقة - هو ولده ، الشوكة الجارحة في أعين الأمويّين والزبيريّين ، وكلّ أعداء الإسلام ... فهم يريدون النيل من عليّ بن أبي طالب عليهما السلام في كلّ أمر يرتبط به حتّى وصلت النّوبة إلى أخيه جعفر ، وأبيه أبي طالب عليهما السلام ... بل إنّنا لانكاد نرى فضيلة ثبتت له بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلاميّة إلّاولها نظير في الخلفاء الثلاثة ، ولكن بسند ضعيف وللّه الحمد وله الحجّة البالغة .

ويقيناً ... إنّه لو كان أبوسفيان أو أيّ شخص آخر من آباء مخالفي عليّ عليه السلام قد عمل معشار ما عمله أبوطالب ، لرأيت الثناء العاطر عليه ، والتبجيل والتقدير ، والأحاديث في فضله ، وماله من الكرامات والشفاعات إن دنيا ، وإن آخرة ، ما يفوق حدّ الحصر ، ويزيدويتضاعف باستمرار في كلّ مصر ، وعصر ...

والغريب في الأمر : أنّ أباسفيان ، أبا معاوية الذي يقول في مجلس عثمان : والّذي يحلف به أبوسفيان ما من جنّة ولا نار ، مؤمن تقي عادل معصوم ، وأبوطالب - أو فقل -أبو علي - كافر مشرك ، وفي ضحضاح من نار ، يبلغ كعبه ، ويغلي منه دماغه ... ما عشت أراك الدّهر عجباً !! ... (2)

ص: 92


1- . أمالي الصدوق - ص550 ؛ والغدير - ج7 ص388 ؛ عن كتاب الحجّة - ص24 و94 و115 .
2- . الصحيح في سيرة النبي - ج2 ص150 .

وفاة أبي طالب عليه السلام

ولمّا دنت من أبي طالب الوفاة اشتدّ حزن النبي صلى الله عليه و آله عليه وبكاه ، لاسيّما يوم وفاته فقد انحنى عليه ومسح جبينه الأيمن أربع مرّات والأيسر ثلاث مرّات وقال : يا عم !ربّيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً فجزاك اللّه خيراً ...

وورد فيما ورد عنه صلى الله عليه و آله قوله : إنّ اللّه وعدني في أربعة : في أبي واُمّي وعمّي وأخ لي في الجاهليّة ، أن يجعلهم حيث أحبّ من الجنّة ، واللّه لا يخلف الميعاد .

أجل أبوطالب مفخرة الأعمام ولهذا عظم فقده على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فبكاه ومسح جبينه كما مرّ .

فهل مسح زين العابدين عليه السلام جبين مفخرة الأعمام يوم كربلاء أعني عمّه العبّاس عليه السلام سيّما والعبّاس أحوج إلى مسح الجبين من أبي طالب فإنّ جبين أبي طالب لم يكن مخضَّباً بالدّماء معفّراً بالتراب ولم يكن المخ منتثراً على وجهه من ضربة العمودكجبين ابي الفضل العبّاس .

وأظنّ أنّ الامام زين العابدين عليه السلام لاحظ أنّ عمّه العبّاس لا يريد مسح جبينه وذلك تأسّياً بأخيه بالحسين عليه السلام ، فقد سبق أن قال الحسين عليه السلام ساعة مصرعه وقد مسح رأسه ... أنت تمسح رأسي ولكن من الذي يحضر عندك ويمسح رأسك .. نعم ما حضره أحد إلّااُخته العقيلة زينب عليها السلام ، جاءت ونظرت جاءت إلى أخيها ما عرفته فنادت : أأنت الحسين أخي ؟ أأنت ابن والدي ؟ أأنت حمانا ؟ أأنت رجانا ؟

صاحت ولسان حالِها :

يحسين يومك شده بالي *** وانه توني اذكرت عِزّي ودلالي

ما تدري يخويه اشلون حالي *** اشحال الغريبه ابغير والي

وعلى راس الرمح راسك اگبالي ***

ص: 93

المجلس الثامن: مناسبة خروج النبي صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة لفتح مكّة في الثامن من شهر رمضان المبارك

اشارة

أمَّا النَّبيُّ فقد قضى وبلُبِّهِ *** مِن قَومهِ قَبَساتُ وَجْدٍ مُمكنِ

والبَضعَةُ الزَّهراءُ ماتت بعدما *** ألقتْ بضَرْبِ سِياطهم للمُحْسِنِ

والمُرتضى اردَوْهُ في مِحْرَابه *** بيَمين أشقى العالَمينَ وألعَنِ

وبشربَةِ السُّمِّ النَّقيعِ عَداوةً *** مِن كفِّ جُعْدَةَ قد قضى الحَسَنُ السني

وإليكَ عنِّي لا تَقُلْ حدِّثْ بما *** لاقى الحُسين فرزئُهُ قَدشَفَّني

حيثُ المصائبُ جمَّةٌ لم أدري ما *** منه أقُصُّ عليك إذكلَّفتني

أمُصيبَةَ التَّوديع يوم خروجه *** إذ قال يا جدَّاه عندك ضُمَّني

لا حاجةٌ لي بالرجوع أجابه *** خيرُ الورى بتفجُّعٍ وتحزُّنِ

أحسين يا ريحانتي صبراًفذي *** دارٌ بها كُتِبَ البلاءللمؤمنِ

أمصيبةَ التَّوديعِ إذ نادى ألا *** مَن ذا يُقدّم لي الجوادَ فتنثني

أمُّ المصائبِ زينبٌ تدعوه يا *** سؤلي ويابقيَّةَ مَن فُني

ص: 94

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

هذه السورة المباركة نزلت في المدينة بعد الهجرة ، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول النّاس في دين اللّه أفواجاً ، وتدعو النّبي أن يسبّح اللّه ويحمده ويستغفره شكراًعلى هذه النعمة .

في الإسلام فتوحات كثيرة ، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السّورة ما كان سوى «فتح مكّة» ، خاصّة وأنّ العرب - كما جاء في الروايات - كانت تعتقد أنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم لا يستطيع أن يفتح مكّة إلّاإذا كان على حق ... ولو لم يكن على حقّ فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة ، ولذلك دخل العرب في دين اللّه بعد فتح مكّة أفواجاً .قيل : إنّ هذه السّورة نزلت بعد «صلح الحديبيّة» في السنة السادسة للهجرة ، وقبل عامين من فتح مكّة . وما احتمله بعضهم من نزول هذه السّورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّاً ، لأنّ عبارات السّورة لا تنسجم بهذا المعنى ، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي (2) .

صلح الحديبيّة سبب لفتح مكّة

في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرّك النبي نحو مكّة لأداءمناسك العمرة ورغب المسلمين جميعاً في هذا الأمر (3)... غير أنّ قسماً منهم امتنع عن

ص: 95


1- . سورة النصر .
2- . تفسير الأمثل ، ج20 ، ص517 .
3- . تفسير الأمثل ، ج16 ، ص412 - 415 .

ذلك ، في حين أنّ معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على الاعتمار مع النّبي فساروا نحو مكّة ! ...

فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النّبي وكان عددهم في حدود الألف والأربعمائة ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئاً سوى السيوف التي كانت تعدّ أسلحةً للسفر فحسب ! ولمّا وصل النّبي إلى «عسفان» التي لا تبعد عن مكّة كثيراً اخبر أنّ قريشاًتهيّأت لصدّه وصمّمت على منعه من الدخول إلى مكّة . ولمّا بلغ النّبي الحديبيّة [ وهي قرية على مسافة عشرين كيلومتراً من مكّة وسمّيت بذلك لوجود بئر فيها أو شجرة ] أمرأصحابه أن يحطّوا رحالهم فيها . فقالوا : يا رسول اللّه ! ليس هنا ماء ولا كِلأ ، فهيّأ النّبي عن طريق الإعجاز لهم ماءً من البئر الموجودة في تلك المنطقة .. وبدأ التزاور بين سفراءالنّبي وممثّليه وسفراء قريش وممثّليها لتُحلّ المشكلة على أي نحوٍ كان ، وأخيراً جاءعروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلًا حازماً عند النّبي فقال له النّبي : «إنّا لم نجيءلقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ...» . وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي ، ضمناً حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيّهم عند وضوئه فلا يَدعون قطرةً تهوي إلى الأرض منه .

وحين رجع عروة إلى قريش قال : لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ قائداً في قومه في عظمته كعظمة محمّد بين أصحابه .. وقال عروة لرجال قريش أيضاً : إذا كُنتم تتصوّرون أنّ أصحاب محمّد يتركونه فأنتم في خطأ كبير .. فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا كيف تواجهونهم !؟

ثمّ إنّ النّبي أمر عمرَ أن يمضي إلى مكّة ليطلع أشراف قريش على الهدف من سفرالنّبي فاعتذر عمر وقال : إنّ بينه وبين قريش عداوة شديدة وهو منها على حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفّان ليبادر إلى هذا العمل ، فمضى عثمان إلى مكّة ولم تمضِ فترة حتّى شاع بين المسلمين خبر مفاده أنّ عثمان قُتل ، فاستعدّ النّبي لأن يواجه قريشاًبشدّة ! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت الشجرة بيعةً سمّيت «بيعة الرّضوان» وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتّى آخر نفس ؛ إلّاأنّه لم يمضِ زمن يسيرحتّى عاد عثمان سالماً وأرسلت قريش على أثره سهيل بن عمرو للمصالحة مع النّبي غير

ص: 96

أنّها أكّدت على النّبي أنّه لا يدخل مكّة في عامه هذا أبداً .

وبعد كلام طويل تمّ عقد الصلح بين الطرفين وكان من جملة موادّه هو أن يغضّ المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل إلى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام وأن لا يحملوا سلاحاً غير سلاح السفر كما كان من مواد العقد امور اخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكّة منهم [ من قِبَل المدينة ] ومن مواد العقد أيضاً إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون مسلمو مكّة أحراراً في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلاميّة .

وكان هذا العقد [ أو المعاهدة ] بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة .

وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي :

قال النّبي لعلي : اكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم .

فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين : لا أعرف هذه العبارة بل ليُكتب بسمِكَ اللّهمّ !

فقال النّبي لعلي : اكتب : بسمك اللّهمّ .

ثمّ قال النّبي لعلي : اكتبْ : هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه سهيل بن عمرو .

فقال سهيل : لو كنّا نعرفك رسول اللّه لما حاربناك ، فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب .

فقال النّبي : لا مانع من ذلك ، اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبداللّه سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية ، وإضافة إلى ذلك من يأتِ محمّداً من قريش مسلماً دون إذن وليّه فيجب إعادته إلى أهله ومن جاء قريشاً من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد !

والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ومن شاء دخل في عهدقريش ! ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما [ صاحبه ] الآخر وأن يحترم ماله ونفسه !

ص: 97

ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة ، لكن في العام المُقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أن لا يمكثوا فيها أكثرمن ثلاثة أيّام ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحاً سوى السيف الذي هو من عُدة السفر وأن يكون في الغمد ، وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي بن أبي طالب عليه السلام (1). وذكر العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» مواد اخرى منها :

ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي وأن لا يُجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينالَ المسلمين أذى من المشركين» (2) .

وهنا أمر النّبي صلى الله عليه و آله و سلم أن تنحر الإبل التي جيء بها مع المسلمين وأن يحلق المسلمون رؤوسهم وأن يتحلّلوا من إحرامهم ! ...

لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرة للغاية وغير مستساغ أيضاً ... لأنّ التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن !! لكنّ النّبي تقدّم بنفسه ونحر«هديه» وتحلّل من إحرامه وأشعرَ المسلمين أنّ هذا «استثناءٌ» في قانون الإحرام أمر به اللّه سبحانه نبيّه !

ولمّا رأى المسلمون ذلك من نبيّهم أذعنوا للأمر الواقع ونفّذوا أمر النّبي بدقة و عزموا على التوجّه نحو المدينة من هناك ، غير أنّه كان بعضهم يحسّ كأنّ جبلًا من الهم والحزن يجثم على صدره لأنّ ظاهر القضيّة أنّ هذا السفر كان غير موفّق بل مجموعة من الهزائم ! لكنّ مثل هذا و أضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح الحديبيّة من انتصارات للمسلمين و لمستقبل الإسلام . وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين (3) حيث قالت : إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (4) . .

ص: 98


1- . منقول بتصرّف يسير عن تأريخ الطبري - ج2 ص281 .
2- . بحار الأنوار - الجزء العشرون ص352 .
3- . تفسر الأمثل ، ج16 ، ص415 ، نقلاً عن سيرة ابن هشام - ج3 ص321 - 324 ؛ تفسير مجمع البيان وتفسير في ظلال القرآن والكامل لابن الأثير - ج2 ؛ ومصادر اخرى [ مع شيء من التلخيص طبعاً ] .
4- . سورة الفتح - آية 1 .

أحداث فتح مكّة

وذكر المحدّث الشهير الشيخ عبّاس القمِّي رحمه الله (1)أنَّه :

لمّا صالح رسول اللّه صلى الله عليه و آله قريشاً عام الحديبيّه - كما ذكرنا - كان من شروطهم أن لايتعرّض أحد الفريقين إلى جار الآخر وحليفه من القبائل ، فدخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعهده ، ودخلت كنانة وبني بكر في حلف قريش ، وكان بين القبيلتين شرٌّقديم .

وفي أحد الأيّام هجا شخص من بني بكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومنعه غلام من بني خزاعة ولكن البكري أصرّ على هجائه ، فحمل الخزاعي عليه وضربه ضرباً شديداًفصارت بني بكر صفاً واحداً على بني خزاعة لنصرة صاحبهم واستصرخوا قريشاً .فنبذت قريش عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وراء ظهورها وأعانت بني بكراً بالكراع والسلاح ،وأغاروا على بني خزاعة ليلًا وقتلوا منهم عشرين رجلًا ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب .

ومن جهة اخرى ، الظروف في مكّة - حيث مركز الوثنيّة والأصنام والشرك والنفاق - توفّرت لتطهيرها ، وهذه مهمّة كان لابدّ من أدائها ، لذلك استعدّ النبي للحركة صوب مكّة بأمر من اللّه تعالى . ثمّ أرسل النبي صلى الله عليه و آله الرسل إلى القبائل ومعهم كتاب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أنّه من آمن باللّه فليحضر إلى المدينة شاكي السلاح أوّل شهر رمضان ،وأمر كلّ من في المدينة بالاستعداد وجعل العيون في الطرق والشوارع كي لا يصل الخبرإلى مكّة. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه و آله وأعطاه إل امرأة إسمها سارة كي توصله إلى قريش فوضعته في ذؤابتها وذهبت إلى مكّة .

فنزل جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و آله وأخبره الخبر ، فأرسل أميرالمؤمنين عليه السلام مع جمع آخر في طلبها كي يأخذ الكتاب منها ، فلمّا وصلوا إليها أنكرت وأقسمت باللّه أنّها لاتحمل شيئاً وأصرّت على الإنكار ، فسلّ أميرالمؤمنين عليه السلام سيفه وقال : أخرجي الكتاب

ص: 99


1- . في كتابه « منتهى الآمال » ، ج1 ، ص169 - 173 .

وإلّا واللّه لأضربنّ عنقك ، فلمّا رأت هذا أخرجت الكتاب وسلّمته إلى علي عليه السلام ، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه و آله .

فسأل صلى الله عليه و آله حاطباً عن سبب هذا الفعل ، فقال : إنّ لي بمكّة عشيرة ولي بها أهل فأردت أن أتّخذ عندهم يداً ليحفظوني فيهم .

فنزلت هذه الآية :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ... (1) .

وخرج النبي صلى الله عليه و آله من المدينة في الثاني من شهر رمضان وقيل في الثامن منه وقيل في العاشر منه في عشرة آلاف رجل .

قال ابن عباس : إنّ النّبي صلى الله عليه و آله تناول قدحاً في منزل عسفان وشرب منه الماء وأفطرولم يصم حتّى وصل مكّة .

قال جابر : لمّا أفطر النبي صلى الله عليه و آله قيل له إنّ بعض الناس لم يفطروا ، فقال : أولئك العصاة ، أولئك العصاة . أمّا العبّاس عمّ النبي صلى الله عليه و آله فإنّه خرج مع أهله من مكّة مهاجراً إلى المدينة ، فلقي النبي صلى الله عليه و آله في منزل سقيا وقيل في ذي الحليفة ، فسرّ النبي بلقياه وقال : إنّهاآخر هجرة كما أنّ نبوّتي آخر نبوّة فبعث أهله إلى المدينة ولازم هو ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فسار صلى الله عليه و آله حتى وصل إلى أربعة فراسخ من مكّة في مرّ الظهران فقال العبّاس في نفسه : إن دخلها رسول اللّه عنوة فهو هلاك قريش إلى آخر الدهر ، فأراد الخروج إلى أراك كي يلقى أحداً ويخبرهم الخبر ، فخرج على بغلة رسول اللّه قاصداً إلى أراك وفي الطريق سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتكلّمان فقال : يا أبا سفيان ! فعرفه وقال له : يا أباالفضل ! بأبي أنت واُمّي ما وراك ؟ وما حدث ؟

قال العباس : ويلٌ لك هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله في إثني عشر ألف من المسلمين .

قال : فما تأمرني ؟ .

ص: 100


1- . سورة الممتحنة - آية 1 .

قال : تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول اللّه صلى الله عليه و آله واعلم أنّ أمر الحراسة في هذا الليلة بيد عمر بن الخطاب ، فإن رآك قتلك [ لأنّه كان بين عمر وأبي سفيان خصومة في الجاهليّة وقيل : إنّ هند زوجة أبي سفيان كانت تؤالف وتحابب وتخالط فتيان من قريش وكان عمر من جملتهم ولذا كان يحقد على أبي سفيان رقيبه على هند ] .

فركبا بغلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقصدا خيمته فرآهما عمر فجاء إلى النبي صلى الله عليه و آله وقال : يارسول اللّه ! هذا أبوسفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه . فقال العبّاس : يا رسول اللّه ! إنّي قد أجرته .

قال صلى الله عليه و آله لأبي سفيان : يا أباسفيان ! أسلم تسلم .

قال : فما نصنع باللات والعزّى ؟

فقال له عمر : أسلح عليهما (1) .

قال أبوسفيان : افٍّ لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمّي ؟

فقال له عمر : لو كنت خارج هذه الخيمة ما أمكنك هذا الجواب .

فنهاه النّبي صلى الله عليه و آله عن الغلظة وأمر العباس أن يبيت أباسفيان عنده حتى الصباح ، فلمّاأصبح سمع بلالًا يؤذن ، قال : ما هذا المنادي ؟

قال العباس : هذا مؤذّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فنظر أبوسفيان إلى النبي صلى الله عليه و آله وهو يتوضّأ وأيدي المسلمين ممدودة فليس قطرة تصيب رجلًا منهم إلّامسح بها وجهه واستبق صاحبه ، فما كانت قطرة تصل إلى الأرض قط .

قال أبوسفيان : باللّه لم أر كاليوم قط كسرى ولا قيصر ...

فجاء بعد الصلاة إلى النبي صلى الله عليه و آله وأسلم خوفاً على نفسه .

فقال العباس : يا رسول اللّه ! إنّ أباسفيان يحب الفخر فلو خصّصته بمعروف .

فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو من ، ومن أغلق بابه .

ص: 101


1- . سلح أي تغوّط .

وكفّ يده فهو آمن ، ومن دخل الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن (1) .

أبو سفيان وعظمة جيش الإسلام

ثمّ أمر صلى الله عليه و آله أن يُجعل أبو سفيان في مضيق كي يرى جيش الإسلام عند عبوره ،فوضع هناك ، وكان ينظر إلى أفواج الجند من أمامه ، ثمّ ظهرت الكتيبة التي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيها ، وهم خمسة آلاف رجل من أبطال المهاجرين والأنصار مدججين بالسلاح والحديد ، لابسين الدروع الداوديّة ، قاعدين على الجياد والإبل الحمراء .

فقال أبوسفيان: يا عباس ! لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً .

قال : ويحك إنّها النبوّة .

ثمّ خرج أبوسفيان وذهب مسرعاً إلى مكّة ، فرأته قريش من بعيد ورأت الغبارخلفه ولم يعلموا وصول النبي بعدُ ، فصاح بهم أبوسفيان : ويلٌ لكم هذا محمّد في جيش كالبحر الموّاج واعلموا أنّ من دخل بيتي كان آمناً ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل البيت الحرام كان آمناً .

قالت قريش : قبّحك اللّه ، ما هذا الخبر الذي أتيت به ؟ وأخذت هند تجرّ لحية أبي سفيان وتقول : اقتلوا هذا الشيخ الأحمق لئلّا يتكلّم بهذا الكلام .

واجتمع جند الإسلام فوجاً بعد فوج في ذي طوى ، ثمّ لحقهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاجتمع المسلمون حوله ، فتذكّر صلى الله عليه و آله بعد ما رأى كثرة المسلمين وفتح مكّة أيّام غربته ووحدته حينما خرج منها ، فوضع جبينه الطاهر على المحمل وسجد للّه شكراً ، لأنّه لمّاخرج من مكّة وهاجر منها إلى المدينة التفت نحوها وقال : «اللّه يعلم أنّني احبّك ولولا أنّ أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت عليك بدلًا وإنّي لمغتمّ على مفارقتك» (2) .

ثمّ نزل صلى الله عليه و آله الحجون (بفتح الحاء وضمّ الجيم وهو موضع من مكّة فيه قبر خديجة

ص: 102


1- . منتهى الآمال ، ج1 ، ص170 .
2- . البحار - ج21 ص122 .

رضي اللّه عنها) ودخل خيمته فاغتسل وخرج شاكي السلاح راكباً على راحلته قارئاًسورة الفتح ، حتّى وصل إلى البيت الحرام فاستلم الحجر الأسود بمحجنه (1) ، فكبّر وكبّرالمسلمون معه ، بحيث دوّى صداه في جميع جبال مكّة ووديانها .

ثمّ نزل صلى الله عليه و آله من على ناقته وتوجّه إلى كسر الأصنام التي كانت حول الكعبة ، فكان يشير إليها بعصاه ويقول :

وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (2) .

...وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (3) .

فتقع الأصنام على وجوهها إلى الأرض إلّابعض الأصنام الكبيرة كانت على سطح الكعبة فأمر صلى الله عليه و آله عليّاً أن يضع قدميه على منكبيه ويصعد إلى السطح ويلقي الأصنام منه إلى الأرض ، فصعد عليه السلام وألقى بالأصنام إلى الأرض ونزل هو من الميزاب تأدّباً للنبي صلى الله عليه و آله فلمّا وصل إلى الأرض تبسّم ، فسأله النبي صلى الله عليه و آله عن السبب ، فقال : ألقيت نفسي من مكان رفيع ولم يصبني شيء .

فقال النبي صلى الله عليه و آله : كيف يصيبك أذاً وقد حملك محمّد وأنزلك جبرائيل (4) .

مفاتيح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه و آله

ثمّ أخذ صلى الله عليه و آله مفاتيح الكعبة ففتح بابها وأمر أن تمحى صور الملائكة والأنبياء المرسومة في جوف البيت ثمّ أخذ بعضادتي الباب وهلّل التهليلات المعروفة و خاطب أهل مكّة فقال : ماذا تقولون ؟ وماذا تظنّون ؟ - وعلى رواية قال : يا معشر قريش ! ماترون أنّي فاعل بكم ؟ - .

قالوا : نقول خيراً ونظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت .

ص: 103


1- . المحجن : عصا معقفه الرأس كالصولجان ، لسان العرب .
2- . سورة الإسراء - آية 81 .
3- . سبأ/49 .
4- . منتهى الآمال ، ج1 ، ص173 .

فرقّ صلى الله عليه و آله قلبه وظهرت دمعته ، فلمّا رأى أهل مكّة ذلك أخذوا بالبكاء والنحيب .

فقال صلى الله عليه و آله إنّي أقول كما قال أخي يوسف : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (1) .

ثمّ ذكر لهم جناياتهم ومعاداتهم له وإيذاءهم له وقال :

«ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذّبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلوني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء» (2) .

جزاء النبي صلى الله عليه و آله في أهل بيته

هذه كانت سجيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في العفو من المذنبين وعن أهل مكّة مع أنّهم كذّبوه وطردوه وحاربوه ، لقد عفى عن ألدّ أعدائه أبي سفيان الذي طالما بغى على الإسلام والمسلمين ، فقال صلى الله عليه و آله : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، وخاطب أهل مكّة قائلًا :فاذهبوا فأنتم الطلقاء .

ولكن ذرّيّة أبي سفيان لم تراع حرمة رسول اللّه في آله وذرّيّته ؛ ذاك معاوية ابن أبي سفيان نازع أميرالمؤمنين حقّه وبغى عليه وسبّه على منابر المسلمين ولم يدع من حرمة للّه إلّاانتهكها ، ودسّ السمّ إلى ولده الحسن عليه السلام سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونقض عهده ولم يف له بالشروط التي صالحه عليها .

وأمّا ولده يزيدفقد غصب حقّ الحسين عليه السلام سبط رسول اللّه وأمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة حتى خرج من مكّة خائفاً يترقّب ، فأرسل إليه الجيوش حتّى قتله بأرض كربلاء غريباً وحيداً ظامياً ، وساق نسائه سبايا من بلد إلى بلد يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ولا من حماتهنّ حمي .

ليس هذا لرسول اللّه يا *** اُمّة الطغيان والبغي جزا

جزّروا جزر الأضاحي نسله *** ثمّ ساقوا أهله سوق الإما

حكى ابن صبّاغ المالكي في الفصول المهمّة عن بعض الثقات قال : رأيت علي بن

ص: 104


1- . سورة يوسف - آية 92 .
2- . البحار - ج21 ص132 ؛ مناقب - ج1 ص209 .

أبي طالب في المنام ، فقلت : يا أميرالمؤمنين ! تقولون يوم فتح مكّة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ثمّ تمّ لولدك الحسين يوم كربلاء ما تمّ ؟

فقال لي : أما سمعت أبيات ابن الصيفي التميمي في هذا المعنى .

فقلت : لا .

فقال : إذهب إليه واسمعها .

فاستيقظت من نومي مفكّراً ثمّ ذهبت إلى دار ابن الصيفي الملقّب ب «شهاب الدين ،فطرقت عليه الباب ، فخرج إليّ ، فقصصت عليه الرؤيا ، فأنشد :

ملكنا فكان العفو منّا سجيّةً *** فلمّا ملكتُم سال بالدم أبطحُ

وحللتم قتل الاُسارى وطالما *** غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

وحسبكُم هذا التفاوت ببننا *** وكلّ إناء بالذي فيه ينضح (1) .

ص: 105


1- . المجالس السنيّة - ج1 ص234 .

المجلس التاسع: ذكرى مناسبة ولادة النبي يحيى بن زكريّا عليهما السلام في التاسع من شهر رمضان المبارك

اشارة

اروحُكَ أم روحُ النُّبوةِ تَصعدُ *** مِنْ الأرضِ للفردوسِ والحورُسُجَّدُ

ورأسُكَ أم رأسُ الرَّسولِ على القنا *** بآيةِ أهلِ الكَهفِ راحَ يُرَدِّدُ

و صدرُكَ أمْ مُستَوْدعُ العِلمِ والحِجى *** لِتحطيمِهِ جَيشٌ مِن الجَهلِ يَعْمَدُ

وشاطَرَتِ الأرضُ السَّماءَبشَجوِها *** فواحدةٌ تَبكي واُخرى تُعَدِّدُ

وقد نَصَبَ الوحيُ العزاءَببيتِه *** عليكَ حِداداً والمُعَزَّى محمَّدُ

يلوحُ لَهُ الثقلانُ ثقلٌ ممزَّقُ *** بسهمٍ وثقلٌ بالسِّيوفِ مُقدَّدُ

فعترتُهُ بالسَّيفِ والسَّهمِ بعضُها *** شهيدٌ وبعضٌ بالفلاة مُشَرَّدُ

فأيُّ شهيدٍ أصلتِ الشَّمسُ جِسمَهُ *** ومشهدُها مِن أصلِهِ مُتولِّدُ

وأيُّ ذبيحٍ داسَتِ الخيلُ صدرَهُ *** وفرسانُها مِن ذكرِهِ تتجمَّدُ

ألمْ تك تدري أنَّ روح محمّدٍ *** كقُرآنِهِ في سبطِهِ مُتجسّدُ

فلو عَلِمَتْ تلك الخُيولُ كأهلِها *** بأنَّ الذي تحتَ السَنابِكِ أحمدُ

لثارَت على فرسانِهاوتَمرَّدَتْ *** عليهم كما ثاروا بهاوتمرَّدُوا

وأعظمُ ما يُشجي الغيورحرائرٌ *** تُضامُ وحاميها الوحيدُمُقَيَّدُ

فَمِن مُوثَقٍ يشكو التشَدُّدَ من يدٍ *** و موثَقِة تبكي فتُلطمُها اليَدُ (1)

ص: 106


1- . للسيد مهدي بحر العلوم رحمه الله .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (1) .

صدق اللّه العليّ العظيم

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرّات ، في أربع سور : في سورة آل عمران ، الأنعام ، مريم ، الأنبياء ، فهو واحد من أنبياء اللّه الكبار ، ومن جملة إمتيازاته و مختصّاته أنّه وصل إلى مقام النبوّة في مرحلة الطّفولة وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (2) ، فإنّ اللّه سبحانه قد أعطاه عقلًا وذكاءً ودراية واسعة في هذا العمر وأصبح مُؤهّلًا لتقبّل هذاالمنصب .

وأمّا بالنّسبة لأبيه زكريّا عليه السلام وكيفيّة طلبه من اللّه هذا المولود المبارك - حيث كان مغتمّاً ومتألّماً من عدم إنجاب الولد - هو أنّ اللّه تعالى إختار زكريّا وهو زوج خالة مريم عليها السلام كي يتكفّل مريم بنت عمران ، كما قال تعالى : وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا (3) لأنّ أباهاعمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها ، فقام زكريّا في تربيتها ، ولكن لمّا رأى تلك الخصائص العجيبة من مريم ، كما تقول الآية : كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (4) .

وعن ابن عبّاس يقول : عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النّهار وتقوم اللّيل بالعبادة ، وكانت على درجة كبيرة من التفوّق ومعرفة اللّه ، حتّى أنّها فاقت الأحبار .

ص: 107


1- . سورة مريم - آية 7 .
2- . سورة مريم - آية 12 .
3- . سورة آل عمران - آية 37 .
4- . سورة آل عمران - آية 37 .

والعلماء في زمانها (1) .

زكريّا يطلب من اللّه ذرّيّة صالحة

فلمّا رأى زكريّا تلك الخصائص من السيدة مريم عليها السلام وكانت زوجته - وهي اخت اُم مريم - عاقر لا تلد ، تمنّى من اللّه أن يرزقه ذرّيّة صالحة طاهرة وتقيَّة مثل مريم عليها السلام حتّى تكون آية على عظمة اللّه وتوحيده ، على الرغم من كبر سنّ زكريّا وزوجته فإنّ حبّه للّه تعالى ومشاهدة الفواكه الطريّة في غير وقتها في محراب عبادة مريم عليها السلام أعطاه أملًابإمكان حصول ذرّيّة له في شيخوخته ولذلك راح يتضرَّع إلى اللّه تعالى قائلًا : رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (2) ، ولم يمض وقت طويل حتّى أجاب اللّه دعاء زكريّا كما قال تعالى : فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (3) .

فلمّا سمع زكريّا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً ولم يمتلك نفسه في إخفاءتعجّبه من ذلك فقال : رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ فأجابه اللّه تعالى ، قال : كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (4) .

وفي سورة مريم : قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (5) .

وقد يسأل سائل : لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة اللّه التي لاتنتهي ؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الاُخرى أنّ زكريّا كان يريد أن يعرف كيف يمكن لامرأة عاقر - خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس - أن تحمل وتلد ؟ ما

ص: 108


1- . مجمع البيان - ج2 ص436 .
2- . سورة آل عمران - آية 38 .
3- . سورة آل عمران - آية 39 .
4- . سورة آل عمران - آية 40 .
5- . سورة مريم - آية 4 .

الّذي يتغيّر فيها ؟ أترجع إليها العادة الشهريّة كسائر النّساء المتوسّطات العمر ؟ أم أنّهاستحمل بصورة اخرى ؟

ثمّ إنّ الإيمان بقدرة اللّه هي غير «الشهود والمشاهدة» ، وزكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود ، مثل النبي إبراهيم عليه السلام الذي كان مؤمناً بالمعاد ، ولكنّه طلب المشاهدة ، كما قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (1) ، فإنّه كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان وهي الشهود ، وأنّه لأمر طبيعي أن يفكّر الإنسان في كيفيّة حصول ذلك إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعيّة ، ويودّ لو أنّه رأى دليلًا حسّيّاً على ذلك ،كما حصل لإبراهيم عليه السلام ، لمّا أخذ أربعة من الطّير وجزّئها وجعلها على جبال أربعة ،فجائت إليه تسعى (2) .

زكريّا عليه السلام يطلب علامة على البشارة

ثمّ إنّ زكريّا طلب علامة من اللّه على ذلك إذ قال : قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (3) ،فهنا يريد زكريّا من اللّه إمارة على بشارته بمجيء يحيى . إنّ إظهاره دهشته - كما قلنا -وكذلك طلب علامة من اللّه ، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد اللّه ، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قدتأكّد بقوله : كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (4) .

إنّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً . كان يريد أن يمتلىء قلبه بالإطمئنان ، كما كان إبراهيم يبحث عن إطمئنان القلب والهدوء النّاشئَين عن الشهودالحسّي .

أجاب اللّه طلب زكريّا هذا أيضاً ، وعيّن له علامة ، وهي أنّ لسانه سوف ينقطع

ص: 109


1- . سورة البقرة - آية 260 .
2- . تفسير الأمثل - ج2 ص487 .
3- . سورة آل عمران - آية 41 .
4- . سورة آل عمران - آية 40 .

ويكفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي ، فلم يكن زكريّا قادراً على التكلّم والمحادثة العادية إِلاّ رَمْزاً يعني بالإشارة .

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح اللّه ويذكره ، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة اللّه على كلّ شيء ، فاللّه القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره كذلك قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر اللّه . وهكذاتتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا .

هذا المضمون يرد في الآيات الاُولى من سورة مريم أيضاً .

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها ، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية - وإن لم يكن أمراً محرَّماً ولا مكروهاً - كان من نوع «ترك الأولى» . ولذلك قرّر له علامة ، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة اللّه ، طافحة بالإشارة إلى تركه للاولى وكان ينبغي له ان لا يطلب ذلك (1) .

بلوغ زكريّا عليه السلام أمله

بيّنت الآية الّتي ذكرناها أوّل المجلس إستجابة دعاء زكريّا عليه السلام من قبل اللّه تعالى إستجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة ، وتبدأ بهذه الجملة : يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (2) . كم هو رائع وجميل أن يستجيب اللّه دعاء عبده بهذه الصّورة ، ويطلعه ببشارته على تحقيق مراده ، وفي مقابل طلب الولد فإنّه وهبه مولوداً ، ويسمّه أيضاً بنفسه ويضيف إلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرّد باُمور لم يسبقه أحد بها . لأن قوله : لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا وإن كانت تعني ظاهراً بأنّ أحداً لم يسمّ باسمه لِحدّ ولادته ، لكن لمّا لم يكن الإسم لوحده دليلًا على شخصيّة أحد ، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الإسم هنا هو المسمّى ، أي أحداً قبله لم يكن يمتلك هذه الإمتيازات ، كما ذهب الراغب الإصفهاني إلى هذا المعنى - بصراحة - في مفرداته .

ص: 110


1- . تفسير الأمثل - ج2 ص490 .
2- . سورة مريم - آية 7 .

لاشك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى ، بل وأسمى منه ، إلّاأنّه لا مانع مطلقاً من أن يكون ليحيى خصوصيّات تختصّ به ، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك فيما بعد (1) .

هل العزوبة فضيلة ؟

ثمّ إنّ الآية أشارت إلى خمس صفات ليحيى عليه السلام من جملتها وَ حَصُوراً كماقال تعالى : فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (2) وهنا يتبادر إلى الذّهن هذاالسّؤال : إذا كان الحصر هو العزوف عن الزّواج ، وكما عليه بعض الرّوايات فهل هذه مَحمَدة يمتاز بها الإنسان بحيث يوصف بها يحيى ؟

الجواب : نقول : ليس هناك ما يدلّ على أنّ الحصر المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزّواج . ثمّ إنّ الحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقاً به من حيث أسانيده ، فلا يستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنياوهي صفات الزّاهدين .

وثانياً : من المحتمل أن يكون يحيى - مثل عيسى عليه السلام - قد عاش في ظروف خاصّة إضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته ، فاضطرّ إلى حياة العزوبة وهذا لايمكن أن يكون قانوناً عامّاً للنّاس ، فإذا مدحه اللّه لهذه الصّفة فذلك لأنّه تحت ضغطظرفه عزف عن الزّواج ، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزّلل ، وأن يحافظ على طهارته في التلوّث ، ثمّ إنّ قانون الزّواج قانون فطري ، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه ، وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة ، ولا في الإسلام ، ولا في الأديان الاُخرى .

ص: 111


1- . تفسير الأمثل - ج9 ص409 .
2- . سورة آل عمران - آية 39 .

النبوّة في الطّفولة

أشارت الآية من سورة مريم في حقّ يحيى قالت : وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (1) فهنايطرح سؤال وهو : كيف تتحقّق النبوّة في الطّفولة ؟

للجواب نقول : صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حدّ معيّن عادة ، إلّاأنّه يوجد أفراد استثنائيّون بين البشر دائماً ، فأيّ مانع من أن يختصر اللّه هذه المرحلة لبعض عباده لمصالحٍ مّا ، ويجعلها تتلخّص في سنوات أقل ؟ كما أنّ مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتّم من أجل التمكّن من النطق عادة ، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسى عليه السلام قدتكلّم في أيّامه الاُولى ، وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدر - عادة عن اناس كبار في السن ، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إن شاء اللّه تعالى .

من هنا يتّضح عدم صحّة الإشكال الّذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمّة الشيعة ، بأنّه كيف تسلّم بعضهم امور الإمامة في سنّ صغيرة ؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط ، أحد أصحاب الإمام الجواد محمّد بن علي التقي عليهما السلام أنّه قال : رأيت أباجعفر عليه السلام وقد خرج عليّ ، فأجدت النظر إليه ، وجعلت أنظرإلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك قعد فقال : «يا عليّ ، إنّ اللّه احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة ، قد يقول وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، وقديقول : حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (2) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ،ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين» (3) .

كما أنّ هذه الآية تتضمّن جواباً مفحماً لاُولئك المعترضين الذين يقولون : إنّ عليّاً عليه السلام لم يكن أوّل من آمن بالنّبي صلى الله عليه و آله من الرجال ، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم ، ولا يقبل إيمان صبي في العاشرة من عمره !

ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام ، وهي أنّ

ص: 112


1- . سورة مريم - آية 12 .
2- . سورة الأحقاف - آية 15 .
3- . نور الثقلين - ج3 ص325 .

جماعة من الأطفال قالوا للرضا عليه السلام أيّام طفولته : إذهب بنا نلعب ، قال : «ما للعب خلقنا»وهذا ما أنزل اللّه تعالى وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (1) .

يجب الإلتفات إلى أنّ اللعب هنا هو الاشتغال بما لا فائدة فيه ، وبتعبير آخر لاهدف يطلب منه ، لكن قد يستتبع اللعب واللهو - أحياناً - هدفاً منطقياً وعقلائيّاً ويسعى إليه ، فمن البديهي أنّ لهذا اللعب حكماً مستثنى .

شهادة يحيى بن زكريّا عليهما السلام

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها ، بل إنّ موته أيضاً كان عجيباً من عدّة جهات ، وقد ذكر أغلب المؤرّخين المسلمين ، وكذلك المصادر المسيحيّة ، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو ، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصيّاتها بين هذه المراجع :

لقد أصبح يحيى ضحيّة للعلاقات غير الشرعيّة لأحد طواغيت زمانه مع أحدمحارمه ، حيث تعلّق «هروديس» ملك فلسطين الاهث وراء شهواته ببنت اخته«هروديا» وهام في غرامها ، وألهب جمالها قلبه بنار العشق ، ولذلك صمّم على الزواج منها !

فبلغ هذا الخبر نبيّ اللّه العظيم يحيى عليه السلام ، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غيرشرعي ومخالف لتعليمات التوراة ، وسأقف أمام مثل هذا العمل .

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كلّ أرجاء المدينة ، وسمعت تلك الفتاة(هيروديا) بذلك ، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها ، ولذلك صمّمت على الإنتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها ، فعمقت علاقتها بخالهاووطدتها ، وجعلت من جمالها مصيدة له ، وقد ملكت عليه كلّ مشاعره وأحاسيسه ، إلى أن قال لها هيروديس يوماً : اطلبي منّي كلّ ما تريدين فساُحقّقه لك قطعاً . فقالت

ص: 113


1- . نور الثقلين - ج3 ص325 .

هيروديا : لا اريد منك إلّارأس يحيى ! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك وقد أصبح كلّ النّاس يعيّروننا ، فإن كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسرّ خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل !

فسلّم هيروديس - الذي أصبح مجنوناً لا يعقل من عشق هذه المرأة - لِما أرادت هيروديا من دون أن يفكّر ويتنبّه إلى عاقبة هذا العمل ، ولم يمض قليل من الزمن حتّى اُحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة إلّاأنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به وأخذت بأطرافه في النهاية (1) .

وعن قصص الأنبياء : إنّ الملك دعا بطشت فذبح يحيى فيها ، وصبّوه على الأرض فكان الدم يرتفع ويعلو الأرض فأقبل النّاس يطرحون عليه التراب ، فكان يعلو عليه الدم حتّى صار تلًّا عظيماً ، ومضى على ذلك قرن من الزمان ، فلمّا كان من أمر « بخت نصر »ما كان رأى ذلك الدم فسأل عنه ، قالوا له : إنّه كان من قصّة يحيى ابن زكريّا عليهما السلام كذاوكذا ، فقال : لا جرم لأقتلنّ عليه حتّى يسكن فقتل عليه سبعين ألفاً . فلمّا وافى عليه سكن الدم .

زكريّا ويحيى والحسين عليهم السلام

وفي رواية : إنّ زكريّا عليه السلام سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة ، فأهبط اللّه عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها . فكان زكريّا عليه السلام إذا ذكر محمّد صلى الله عليه و آله وعليّاً وفاطمة والحسن عليهم السلام انكشف عنه همّه وانجلى كربه وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة - الزفير- وتتابع النّفس .

فقال عليه السلام ذات يوم : إلهي ! ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين عليه السلام تدمع عيني وتثور زفرتي ؟

فأنبأه اللّه تعالى عن قصّته ، فقال : كهيعص أوّل آية من سورة مريم - فالكاف اسم كربلا ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد وهو ظالم الحسين عليه السلام ، والعين عطشه ،

ص: 114


1- . تفسير الأمثل - ج9 ص420 .

والصاد صبره .

فلمّا سمع ذلك زكريّا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام ومنع فيهنّ النّاس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب ثمّ كان يقول : إلهي ! ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ، ثمّ أفجعني به كما تفجع محمّد حبيبك بولده . فرزقه اللّه يحيى عليه السلام وفجعه به وكان حمل يحيى ستّة أشهر وحمل الحسين عليه السلام كذلك .

وكان الحسين عليه السلام كما عن عليّ بن الحسين عليهما السلام ما نزل منزلًا ولا ارتحل منه إلّاوذكر يحيى بن زكريّا كان يقول : إنّ من هوان الدنيا على اللّه عزّ وجلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا اهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل .

أي إنّ ظروفه تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى لأنّ أحد أهداف ثورة الحسين عليه السلام محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زمانه يزيد .

وفي الرواية : بكت السماء عليهما أربعين صباحاً وكذلك بكت الشمس عليهماوبكاؤها أن تطلع حمراء وتغيب حمراء .

فلقد بكته في السماء ملائك *** زهرٌ كرامٌ راكعون وسجّدُ

* * *

عجباً للسماء لم تهو حزناً *** فوق وجه البسيط بعد العِماد

عجباً للمهاد كيف استقرّت *** ونظام الوجود تحت العَواد

ومثير الأحزان رزء الأيامى *** مذوعت لعويل صوت الجواد

أحم الضايعات بعدك ضِعنا *** في يد النائبات حسرى بوادِ (1) .

ص: 115


1- . للشيخ عبدالحسين شكر - رياض المدح - ص231 .

المجلس العاشر: ذكرى وفاة السيّدة خديجة الكبرى سلام اللّه عليها

اشارة

قصيدة للشيخ الفاضل محسن الفاضلي حفظه اللّه :

عاشر شهر رمضان ذكرى *** وفاة ام المؤمنين الكبرى

خديجة أفضل ازواج النبي *** بالنفس أفديها وامي وابي

صدقت النبي أول مسلمة *** عظيمة الشأن بمعنى الكلمة

وقد كفاها شرفاً وفخراً *** ان جعلت والدة للزهرا

وجدة الائمة الاحد عشر *** من الزكي المجتبى للمنتظر

وجاءها السلام من رب السما *** وجاهها في جنة الخلدسمى

لها كما في النص بيت من قصب *** اي قصب اللؤلؤ دونمانصب

لذلكم فراقها عز على *** نبيناودمعه قد اهملا

بعد ابي طالب اقوى ركن *** كانت فسمى العام عام الحزن

ولا تسل عن حالة اليتيمة *** ابنتها الصديقة العظيمة

لكن ما يهون المصيبة *** ان اباها سلوة الحبيبة

ما حالها مذ غاب عنها وجرى *** من قومه على البتول ماجرى

قد عصروها خلف باب الدار *** فاسقطت والدم منها جاري

ص: 116

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (1) .

صدق اللّه العليّ العظيم

نخصّ بالذّكر لهذه اللّيلة المباركة (وهي الليلة العاشرة من شهر رمضان) المختصّة بالسيّدة الجليلة ، النّبيلة ، الباذلة ، المجاهدة ، الحازمة ، الحبيبة للّه ولرسوله ، المختارة من النّساء ، حليلة الرّسول ، واُمّ البتول ، أفضل امّهات المؤمنين ، وأشرف زوجات الرّسول الأمين ، وأوّل من آمنت من النّساء ، مولاتنا وسيّدتنا امّ المؤمنين خديجة الكبرى سلام اللّه عليها .

وقد جاء في تفسير هذه الآية الّتي تلوناها وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى أي : وجدك فقيراً فأغناك بمال خديجة (2) .

منزلة خديجة عند اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله

لقد اكتسبت خديجة بفضل كلّ هذا الانفاق وغيره مكانة سامية في الإسلام ، حتّى أنّ النّبي ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النّساء المسلمات المؤمنات ، وذلك لا شك ينطوي على أكثر من هدف .

فمن جملة الأهداف الّتي ربّما توخّاها النّبي صلى الله عليه و آله من الإشادة بخديجة سلام اللّه عليها إلفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكهافي جميع المجالات والأبعاد ، والظّروف ، والحالات .

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدّمه المرأة وهي نصف المجتمع (إن لم تكن أكثره

ص: 117


1- . سورة الضّحى - آيات 6 - 8 .
2- . تفسير مجمع البيان - ج10 ص384 .

أحياناً) من دعم جدّي للرّسالة ، مادياً كان أو معنوياً .

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشّريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ،ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده (1) :

1 - عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أتاني جبرئيل عليه السلام ،فقال : يا رسول اللّه ! هذه خديجة قد أتتك معها آنية فيها إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي ، وبشِّرها ببيتٍ في الجنّة من قصب ؛ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب (2) .

وكذلك بلغت من المنزلة عند اللّه تعالى أنّ اللّه وجبرئيل بلّغاها السّلام ، كما قال النّبي صلى الله عليه و آله :

لمّا رجعت من السّماء ، قلت : يا جبرئيل ! هل لك من حاجة ؟

قال : أن تقرأ من اللّه ومنّي على خديجة السّلام .

وبلّغ النّبي مقالة جبرئيل لها ، فقالت : إنّ اللّه هو السّلام ومنه السّلام وإليه يعودالسّلام ، وعلى جبرئيل السّلام .

2 - وروي عن أنس قال : كان النّبي صلى الله عليه و آله إذا اتي بهديّة قال : «إذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنّها كانت صديقة لخديجة إنّها كانت تحبّ خديجة» (3) .

3 - روى مجاهد عن الشّعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله ،لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثّناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيّام فأدركتني الغيرة ، فقلتُ : هل كانت إلّاعجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها !!

فغضب حتّى اهتزّ مقدَمُ شعره من الغضب ، ثمّ قال : «لا واللّه ما أبدَلَني اللّه خيراًمنها ، آمنَتْ بي إذ كَفَر النّاس ، وصدّقتني وكذّبني النّاس ، وواسَتْني في مالها إذ حرمني .

ص: 118


1- . سيّد المرسلين - للشيخ جعفر السبحاني - ج1 ص260 .
2- . صحيح مسلم - ج7 ص133 ؛ مستدرك الحاكم - ج3 ص184 و185 بطرق متعدّدة صحيحة على شرط الشّيخين .
3- . سفينة البحار - ج1 ص380 (خدج) .

النّاس ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النّساء» .

قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيّئة أبداً (1) .

4 - عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : خطّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أربع خطط في الأرض وقال : أتدرون ما هذا ؟

قلنا : اللّه ورسوله أعلم .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «أفضل نساء الجنّة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (2) .

5 - عن أبي الحسن الأوّل (الكاظم) عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إنّ اللّه اختارمن النّساء أربعاً : مريم وآسية وخديجة وفاطمة» (3) .

6 - عن أبي عبداللّه الصّادق عليه السلام قال : دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله منزله ، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلّاأنّ لاُمِّكِ علينا فضلًا ،وأيُّ فضلٍ كان لها علينا ؟! ماهي إلّاكبعضنا .

فسمع صلى الله عليه و آله مقالتها لفاطمة ، فلمّا رأت فاطمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت محمّد ؟!

قالت : ذكرتْ امّي فنقّصتْها فبكيتُ .

فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال : «مَهْ يا حميراء ، فإنّ اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدود الولود ، وأنّ خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً ، وهو عبدُاللّه وهو المطهّر ،وولدتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقيّة واُمّ كلثوم ، وزينب ، وأنتِ ممّن أعقم اللّه رحمه فلم تلدي شيئاً» (4) . .

ص: 119


1- . عن اسد الغابة - ج5 ص438 ؛ ورواها مسلم أيضاً - ج7 ص134 ؛ وكذا البخاري - ج5 ص39 وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى ... إلى آخر الرواية .
2- . عن الخصال للصّدوق - ج1 ص96 ؛ كما في بحار الأنوار - ج16 ص2 .
3- . عن الخصال - ج1 ص96 ؛ كما في البحار - ج16 ص2 .
4- . عن الخصال - ج2 ص37 و38 ؛ كما في بحار الأنوار - ج16 ص3 .

أجل، هذه هي «خديجة بنت خويلد» شرفٌ وعقلٌ ، وحبٌّ عميق لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ،ووفاء وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرّخيص في سبيل الإسلام الحنيف .

هذه هي «خديجة» أوّل من آمنت باللّه ورسوله ، وصدّقت النبي محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم فيماجاء به عن ربّه ، من النّساء وآزرته ، فكان صلى الله عليه و آله لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّعليه ، وتكذيب له إلّافرّج اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفّف عنه (1) ، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها به صلى الله عليه و آله ، في غاية الإخلاص والودّوالتفاني .

ولهذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحبّها حبّاً شديداً ويجلّها ويقدّرها حقّ قدرها (2) ، ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوَّج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً لشخصهاومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها أحدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به النّاس ،وصدّقته إذ كذّبه النّاسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ النّاسُ .

ولهذا أيضاً كان وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي توفّي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه (زوجته : خديجة بنت خويلد ،وعمّه المؤمن الصّامد الصّابر أبوطالب عليهما السلام ) بعام الحداد ، أو عام الحزن (3) ، وأن يَلْزَم صلى الله عليه و آله و سلم بيتَه ويُقِلّ الخروج (4) ، وأن ينزل صلى الله عليه و آله عند دفنها في حفرتها ، ويُدخلها القبربيده ، في الحجون (5) .

عن ابن عبّاس في حديث طويل ، في زواج فاطمة الزّهراء عليها السلام بعلي عليه السلام : إجتمعت .

ص: 120


1- . عن أعلام النساء - لعمر رضا كحّالة - ج1 ص328 .
2- . أعلام النساء - ج1 ص330 .
3- . عن تاريخ اليعقوبي - ج2 ص35 ؛ وقد روي عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال بهذه المناسبة : «إجتمعت على هذه الاُمّة مصيبتان لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً» المصدر نفسه ، وراجع : تاريخ الخميس - ج1 ص301 نقلًا عن سيرة مغلطاي .
4- . عن السيرة الحلبيّة - ج1 ص347 ؛ المواهب اللدنيّة حسب نقل تاريخ الخميس - ج1 ص302 ؛ وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال .
5- . عن السّيرة الحلبيّة - ج1 ص346 .

نساء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان يومئذٍ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخل الزّهراء على(عليّ عليه السلام فاحدقْن به وقلن : فَديناك بآبائنا واُمّهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ خديجة في الأحياء لقرَّتْ بذلك عينُها .

قالت امّ سلمة : فلمّا ذكرنا (خديجة) بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال : «خديجة وأين مثل خديجة ، صدّقتْني حين كذّبني النّاس ، ووازرتني على دين اللّه ، وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أمرني أنْ ابشّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب (الزمرّد) لاصخب فيه ولا نصَب» (1) .

العلل الحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنّبي صلى الله عليه و آله

إنّ الإنسان المادّي الّذي ينظر إلى كلّ ما يحيط به من خلال المنظار المادّي ،ويفسّره تفسيراً مادّيّاً قد يتصوّر (وبالأحرى يظنّ) أنّ (خديجة) كانت امرأة تاجرة تهمُّهاتجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنّها كانت بحاجة ماسّة إلى رجل أمين قبل أيّ شيء ، لذلك وجدت ضالّتها في النبي محمّد الصّادق الأمين صلى الله عليه و آله فتزوّجت منه ، بعد أن عرضت نفسهاعليه والنبي صلى الله عليه و آله هو الآخر ، حيث أنّه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض .

ولكن التّاريخ يثبت أنّ ثمّة أسباباً وعللًا معنويّة لا مادّيّة هي الّتي دفعت بخديجة للزّواج بأمين قريش وفتاها الصّادق الطّاهر .

وإليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر :

1 - عندما سألت (خديجة) ميسرة عمّا رآه في رحلته من فتى قريش(محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من «محمّد صلى الله عليه و آله و سلم » في تلك السّفرة ، وبماسمعه من راهب الشّام حوله ، أحسّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم ، ورغبة شديدة نحوه، كانت نابعة من إعجابها بمعنويّة النبي صلى الله عليه و آله وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه.

فقالت من دون إرادتها : «حسبُك يا ميسرة ، لقد زدتني شوقاً إلى محمّد صلى الله عليه و آله ،

ص: 121


1- . عن بحار الأنوار - ج43 ص131 ؛ نقلًا عن كشف اليقين .

إذهبْ فأنت حرٌّ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان» ثمّ خلعَت عليه خلعة سنيّة (1) .

ثمّ إنّها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل ، وكان من حكماء العرب ،فقال ورقة : «لئنْ كان هذا حقّاً يا خديجة إنّ محمّداً لنبيُّ هذه الاُمّة» (2) .

2 - مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله يوماً بمنزل «خديجة بنت خويلد» وهي جالسة في ملأ مِن نسائهاوجواريها وخدمها ، وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلمّا مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة ! مري مَن يأتي بهذا الشّاب ، فأرسلت إليه من يأتي به ، ودخل منزل «خديجة» .

فقال له الحبر : إكشفْ عن ظهرك ، فلمّا كشف ، قال له الحبر : هذا واللّه خاتم النبوّة ،فقالت له خديجة : لو رآك عمّه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء ، وإنّ أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود .

فقال الحبر : ومن يقدر على «محمّد» هذا بسوء ، هذا وحقّ الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزّمان ، فطوبى لمن يكون له بعلًا ، وتكون له زوجة وأهلًا فقد حازت شرف الدّنيا والآخرة .

فتعجّبت خديجة ، وانصرف «محمّد» وقد اشتغل قلبُ «خديجة» بنت خويلد بحبّه فقالت : أيّها الحبر بمَ عرفت محمّداً أنّه نبي ؟

قال : وجدتُ صفاته في التّوراة أنّه المبعوثُ آخر الزّمان يموت أبوه واُمّه ، ويكفله جدّه وعمّه ، وسوف يتزوّج بامرأة من قريش سيّدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة .

فلمّا سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلّق قلبُها بالنّبي صلى الله عليه و آله ، فلمّا خرج من عندها قال : اجتهدي أن لا يفوتكِ (محمّد) فهو الشّرف في الدّنيا والآخرة (3) . .

ص: 122


1- . عن بحار الأنوار - ج16 ص52 .
2- . عن السّيرة النبويّة - ج1 ص191 ؛ السّيرة الحلبيّة - ج1 ص136 .
3- . عن بحار الأنوار - ج16 ص20 و21 ؛ نقلًا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري .

3 - لقد كان ورقة بن نوفل (وهو عمّ خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف(شيث) عليه السلام وصحف (إبراهيم) عليه السلام وقرأ التّوراة والإنجيل وزبور (داود) عليه السلام يقول دائماً :سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر الزّمان يتزوّج بامرأة من قريش تسود قومها أو تكون سيّدة قومها ، وأميرة عشيرتها ، ولهذا كان يقول لها : «يا خديجة سوف تتّصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسّماء» (1) .

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرّخين ، وهي منقولةٌ ومثبتةٌ في طائفة كبيرة من الكتب التّاريخيّة ، وهي بمجموعها تدلّ على العلل الحقيقيّة والباطنيّة لرغبة خديجة في الزّواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنّ هذه الرّغبة كانت ناشئة من إعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله ، وحبّها لهذه الاُمور ، وليس هناك أيّ أثر في علل هذا الزّواج لأمانة «محمّد» ، وكونه أصلحَ من غيره لهذا السّبب للقيام بتجارة«خديجة» (2) .

هل تزوّجت خديجة بأحد قبل النّبي صلى الله عليه و آله ؟

ثمّ إنّه قد قيل : إنّه صلى الله عليه و آله لم يتزوّج بكراً غير عائشة ، وأمّا خديجة ، فيقولون : إنّها قدتزوّجت قبله صلى الله عليه و آله برجلين ، ولها منهما بعض الأولاد ، وهما عتيق بن عابد المخزومي ،وأبو هالة التّميمي .

أمّا نحن فنقول : إنّنا نشكّ في دعواهم تلك بل الذي عليه التحقيق أن يكون كثيرممّا يقال في هذا الموضوع قد صنعته يد السّياسة الأمويّة وأمثالها ، وإنّنا لا نريد أن نطيل بذلك ، ولكن نكتفي بتسجيل الملاحظات التّالية :

أوّلًا : قال ابن شهر آشوب : «... وروى أحمد البلاذري ، وأبوالقاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشّافي ، وأبو جعفر في التّلخيص : أنّ النّبي صلى الله عليه و آله تزوّج بها ،وكانت عذراء .

ص: 123


1- . عن بحار الأنوار - ج16 ص21 .
2- . عن سيّد المرسلين - للشيخ جعفر السبحاني - ج1 ص270 - 272 .

يؤكّد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع : إنّ رقيّة وزينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة ...» (1) .

وثانياً : قال أبوالقاسم الكوفي : «إنّ الإجماع من الخاص والعام ، ونقلة الأخبار ،على أنّه لم يبق من أشراف قريش ومن ساداتهم ، وذوي النّجدة منهم ، إلّامن خطب خديجة ، ورام تزويجها ، فامتنعت على جميعهم من ذلك ، فلمّا تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله غضب عليها نساء قريش وهجرنها ، وقلن لها : خطبك أشراف قريش ، واُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم وتزوّجت محمّداً يتيم أبي طالب فقيراً ، لا مال له ؟!

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة ، يتزوّجها أعرابي من تميم ،وتمتنع من سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه ؟!

ألا يعلم ذووا التّمييز والنّظر أنّه من أبين المحال ، وأفظع المقال ؟! ... (2)

واستبعاد ما ذكر على إعتبار أن لا يمكن أن تبقى إمرأة شريفة وجميلة هذه المدّة الطّويلة بلا زواج فهذا الكلام لا يدفع كلام صاحب الإستغاثة ...

فإنّ ذلك لا يبرّر رفضها لعظماء قريش وقبولها بأعرابي من بني تميم ، وأمّا كيف يتركها أبوها أو وليّها ؟

نقول : أنّ أباها قد قتل في حرب الفجّار كما عليه المؤرخون ، وأمّا وليّها ، فلم يكن له سلطة الأب ليجبرها على الزّواج ... وبقاء المرأة الشّريفة والجميلة مدّة بلا زوج ليس بعزيز ... إذا كانت تصبر إلى أن تجد الرّجل الفاضل الكامل ، الّذي كان يعزّ وجوده في تلك الفترة .

وثالثاً : لابدّ وأن نشير إلى بعض الكلام حول ما نسب لخديجة من أولاد ، من غيرالنّبي ، فنشير إلى :

الف : ذكروا أنّ أوّل شهيد استشهد في الإسلام هو ابن لخديجة ، اسمه الحارث بن .

ص: 124


1- . عن مناقب آل أبي طالب - ج1 ص159 ؛ والبحار ، ورجال المقامقاني ، وقاموس الرّجال كلّهم عن المناقب .
2- . عن الإستغاثة - ج1 ص70 .

أبي هالة ، حينما جهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالدّعوة (1) .

ولكن كيف يصنعون في ما جاء بسند صحيح ، عن قتادة : إنّ أوّل شهيد في الإسلام هو سميّة والدة عمّار (2) ؟ وكذا روي عن مجاهد (3) ...

باء : لقد روي أنّه كانت لخديجة اخت اسمها هالة (4) تزوّجها رجل مخزومي ،فولدت له بنتاً اسمها هالة ، ثمّ خلّف عليها رجل تميمي يقال له أبو هند ، فأولدها ولداًاسمه هند ... وكان لهذا التّميمي امرأة اخرى قد ولدت له زينب ورقيّة ، فماتت ومات التّميمي ، فلحق وَلَدَه هند بقومه ، وبقيت هالة اخت خديجة ، والطّفلتان اللّتان من التّميمي وزوجته الاُخرى ، فضمّتهم خديجة إليها ، وبعد أن تزوّجت بالرّسول صلى الله عليه و آله ماتت هالة ،فبقيت الطّفلتان في حجر خديجة والرّسول صلى الله عليه و آله ...

وكان العرب يزعمون أنّ الرّبيبة بنت ، ونسبتا إليه صلى الله عليه و آله ، مع أنّهما ابنتا أبي هند زوج اُختها ، وكذلك كان الحال بالنّسبة لهند نفسه (5) .

وأمّا بالنّسبة لعمرها حين زواجها بالنّبي صلى الله عليه و آله ، فروي لها من العمر 25 سنة أو 28سنة ، وروي غير ذلك إلى أربعين سنة ، ولكن رجح القول الأوّل 25 سنة ، جلال مطهَّر في كتابه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله فراجع . ورجح كثيرون أنّها ابنة ثمان وعشرين (6) .

زواج النّبي صلى الله عليه و آله بخديجة عليها السلام

ولقد كانت خديجة عليها السلام من خيرة نساء قريش شرفاً ، وأكثرهنّ مالًا ، وأحسنهنّ جمالًا ، وكانت تدعى في الجاهليّة ب «الطّاهرة» ، ويقال لها : «سيّدة قريش» وكلّ قومها

ص: 125


1- . عن الأوائل لأبي هلال العسكري - ج1 ص311 - 312 ؛ والإصابة - ج1 ص293 عنه وعن ابن الكلبي وابن حزم .
2- . عن الإصابة - ج4 ص335 ؛ وطبقات ابن سعد - ج8 ص193 ط ليدن .
3- . عن الاستيعاب هامش الإصابة - ج4 ص331 .
4- . لها ذكر في كتب الأنساب ، فراجع على سبيل المثال : نسب قريش لمصعب الزبيري - ص157 - 158 .
5- . عن الاستغاثة - ج1 ص68 - 69 ؛ ورسالة مطبوعة طبعة حجريّة في آخر مكارم الأخلاق - ص6 .
6- . شذرات الذهب - ج1 ص14 .

كان حريصاً على الإقتران بها ...

وقد خطبها عظماء قريش ، وبذلوا لها الأموال ، وممّن خطبها عقبة بن أبي معيط ،والصّلت بن أبي يهاب ، وأبوجهل ، وأبوسفيان (1) ، فرفضتهم جميعاً ، واختارت النّبي صلى الله عليه و آله ،لما عرفته فيه من كرم الأخلاق ، وشرف النّفس ، والسّجايا الكريمة والصّفات العالية ...ونكاد نقطع - بسبب تضافر النّصوص - : بأنّها هي الّتي قد أبدت أوّلًا رغبتها في الإقتران به ...

فذهب أبوطالب في أهل بيته ، ونفر من قريش إلى وليّها ، وهو عمّها عمرو بن أسد ،لأنّ أباها قد قتل قبل ذلك في حرب الفجّار أو قبلها (2) .

فلمّا خطبها أبوطالب قال في خطبته : «الحمد لربّ هذا البيت ، الّذي جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرّيّة إسماعيل ، وأنزلنا حرماً آمناً ، وجعلنا الحكّام على النّاس ، وبارك لنا في بلدنا الّذي نحن فيه ...

ثمّ إنّ ابن أخي هذا - يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله - ممّن لا يوزن برجل من قريش إلّارجح به ، ولا يقاس به رجل إلّاعظم عنه ، ولا عدل له في الخلق ، وإن كان مقلًّا في المال ،فإنّ المال رفد جار ، وظلّ زائل ، وله في خديجة رغبة . وقد جئناك لنخطبها إليك ،برضاها وأمرها ، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله ...

وله - وربّ هذا البيت - حظّ عظيم ، ودين شائع ، ورأي كامل» (3) .

وعلى كلّ حال فإنّ أباطالب قد ضمن المهر في ماله ، كما هو صريح خطبته ، ولكن خديجة رضوان اللّه تعالى عليها عادت ، فضمنت المهر في مالها ، فقال البعض : يا عجبا !المهر على النّساء للرّجال ؟! .

ص: 126


1- . عن البحار - ج16 ص22 .
2- . عن كشف الغمّة - ج2 ص139 ؛ والبحار - ج16 ص12 عنه ، وص19 عن الواقدي ؛ وفي السيرة الحلبيّة - ج1 ص138 : إنّ المحفوظ عن أهل العلم إنّه مات قبل الفجّار ؛ وتاريخ الخميس - ج1 ص264 .
3- . عن الكافي - ج5 ص374 - 375 ؛ والبحار - ج16 ص14 عنه وص16 عن من لايحضره الفقيه ص413 .

فغضب أبوطالب ، وقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرّجال بأغلى الأثمان ،وأعظم المهر ، وإن كانوا أمثالكم لم يزوّجوا إلّابالمهر الغالي ...

ولكن يبقى : أنّ بعض الرّوايات تفيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نفسه قد أمهرها عشرين بكرة ، وذلك ينافي أن يكون أبوطالب قد ضمن المهر ، أو هي دونه ، أو هي لأبي طالب ...

إلّاأن يكون المراد : أنّه صلى الله عليه و آله قد أمهرها بواسطة أبي طالب ...

وخطبة أبي طالب تظهر مكانة الرّسول صلى الله عليه و آله في قلوب النّاس ، وهي صريحة في أنّ النّاس كانوا يجدون في الرّسول علامات النبوّة ونور الهداية ، ويتوقّعون أن يكون هوالذي بشّر به عيسى وموسى عليهما السلام ، وأنّه كان لا يوزن به أحد إلّارجح به ، ولا يقاس به رجل إلّاعظم عنه ... (1)

أوّل امرأة آمنت بالنّبي صلى الله عليه و آله بعد نزول الوحي

وذهبت الأعوام والسّنين وخديجة تحت ظلّ النّبي صلى الله عليه و آله وفي بيت الرّسالة ، وقدتناست حياة التَرَف والعظمة ، وصارت حياتها أجمل من الحياة القديمة ، لأنّها في ظلّ الرّسول صلى الله عليه و آله ، وحياته القريبة من الزّهد والعبادة والخلو بغار حراء ، حتّى جاءه الحقّ وهوفي الغار ، ونزل عليه الملك بسورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... الخ فرجع النّبي يرجف فؤاده ،فدخل على خديجة وأخبرها الخبر ، فقال : لقد خشيتُ على نفسي ، فقالت له : كلّا واللّه مايخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرّحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضّيف ،وتعين على نوائب الحق (2) .

ومكث النّبي وعلي وخديجة يصلّيان سرّاً ما شاء اللّه إلى بدء الدّعوة ونزول الوحي على النّبي ، بآية بلّغ عشيرتك الأقربين ، فتهلّل وجه خديجة إيماناً و بُشراً ، فمدّت يدها الكريمة تبايع بها النّبي في دينه ولم يسبقها للإسلام أحد إلّاعلي بن أبي طالب ، فكان نزول الوحي يوم الإثنين معلناً للدّعوة ، وآمنت خديجة يوم الثّلاثاء .

ص: 127


1- . الصحيح من سيرة النبي الأعظم - لجعفر العاملي - ج1 ص112 - 117 .
2- . أعيان النساء - للشيخ الحكيمي - ص107 .

وجاء في السّيرة الدّحلانيّة بهامش السّيرة الحلبيّة : ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف ، جزاها اللّه سبحانه ، فبعث جبرئيل إلى النّبي صلى الله عليه و آله وهو بغار حراء وقال له : إقرأعليها السّلام من ربّها ومنّي ، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب .

فقالت : هو السّلام ومنه السّلام ، وعلى جبرئيل السّلام ، وعليك يا رسول اللّه السّلام ، ورحمة اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردِّالسّلام على اللّه الثناء عليه ثمّ غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره .

قال ابن هشام : والقصب هنا اللّؤلؤ المجوف ، وأبدى السهيلي لنفي النّصب لطيفة هي : إنّه صلى الله عليه و آله لمّا دعاها إلى الإيمان أجابت طوعاً ، ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب ، بل أزالت عنه كلّ تعب ، وآنسته من كلّ وحشة ، وهوَّنت عليه كلّ عسير ،فناسب أن تكون منزلتها الّتي بشّرها بها ربُّها بالصّفة المقابلة لفعلها وصورة حالها (رضي اللّه عنها) وإقراء السّلام من ربّها خصوصيّة لم تكن لسواها .

وتميّزت أيضاً بأّنّها لم تسؤه صلى الله عليه و آله ، ولم تغاضبه قطّ ، وقد جازاها فلم يتزوّج عليهامدّة حياتها ، وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قطّ من زوجاته (1) .

مواقف خديجة عليها السلام في الدّعوة الإسلاميّة

لقد شيّد اللّه تعالى دينه بمال خديجة ، حتّى قال النّبي صلى الله عليه و آله : ما قام الإسلام ولااستقام إلّابمال خديجة ، وسيف علي عليه السلام .

وروي عن ابن عبّاس ، كما في تفسير الصّافي وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (2) أي وجدك فقيراً فأغناك بمال خديجة (3) .

إذن كان لها الأثر الكبير في تبليغ الدّين الحنيف ، ولذلك ضاقت قريش بدعوة النّبي صلى الله عليه و آله ولم ينفع معه كلّ اسلوب في التخلّي عن رسالته ، فذهبوا إلى أبي طالب وأصرّوا

ص: 128


1- . سيّد المرسلين - للشيخ جعفر السبحاني - ج1 ص268 ؛ عن السيرة الحلبيّة - ج1 ص169 الهامش .
2- . سورة الضحى - آية 8 .
3- . تفسير مجمع البيان - للطبرسي - ج10 ص384 .

عليه أن يتحدّث مع ابن أخيه حتّى يكفّ عن تسفيه آلهتهم .

فأجاب النّبي صلى الله عليه و آله لعمّه قال : «واللّه لو وضعوا الشّمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر لما تركت» .

فيئست منه قريش ، فاجتمعت زعماء قريش في دار الندوة وقرّروا مقاطع بني هاشم ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها بالكعبة ، فاضطرّ بنوهاشم وأتباع محمّد إلى الإنعزال عن المجتمع المكّي ، وذهبوا إلى مكان من الجبل خارج مكّة يقال لها شعب أبي طالب ، حتّى مرّت عليهم ثلاث سنوات متتابعة يعانون فيها الحرمان والجوع ، ويدورالوليد بن مغيرة في أسواق مكّة منادياً كلّ يوم «أيّما رجل من أصحاب محمّد وآله وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه ولا تبيعوه ، ومن ساعدهم فدمه مباح» .

فهنا تلاحظ السيّدة الطاهرة خديجة الكبرى لها الدّور المشرَّف في هذا الحصار ،وقد بذلت جميع ما تملك من مال وعبيد وجواري ، فبذلت جميع ما عندها حتّى بقيت تنام هي ورسول اللّه صلى الله عليه و آله في كساء واحد .

ومرّت على المسلمين ثلاث سنوات في هذا الحصار القاسي ، ولولا مال خديجة لمات الجميع جوعاً ، فبذلت كلّ اموالها مواساة لدعوة الرّسول صلى الله عليه و آله ، وكان لهذه المواساة أثرها الكبير في نفس النّبي صلى الله عليه و آله ، فقد كان يتحدّث عن فضائلها بعد وفاتها ويمدحها ، كمامرّت الرّوايات عن مدحها لها فراجع .

ولذلك النّبي صلى الله عليه و آله لم يتزوّج عليها غيرها حتّى ماتت ، وولدت له القاسم ، وعبداللّه ،وزينب ، ورقيّة ، واُم كلثوم ، وفاطمة .

ولمّا توفّيت اغتمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وجلس في البيت ، ثمّ هاجر إلى الطّائف .

وفاة خديجة عليها السلام ووصاياها

بينما كان النّبي صلى الله عليه و آله في وسط أحداث الدّعوة ، وكثرة المصائب من قريش ، وقبل الهجرة بثلاث سنين ، وإذا بهذا النّور ينطفىء في عين الرّسول صلى الله عليه و آله ، فيحزن النّبي عليها

ص: 129

حزناً شديداً ، وسمّى ذلك العام بعام الحزن (1) .

وقبل وفاتها عليها السلام مرضت المرضة الّتي توفّيت فيها ، حضرتها أسماء بنت عميس ،قالت أسماء : حضرت وفاة خديجة فبكت ، فقلت : أتبكين وأنتِ سيّدة نساء العالمين ،وزوجة النّبي مبشّرة على لسانه بالجنّة ؟!

فقالت : ما لهذا بكيتُ ، ولكن المرأة ليلة زفافها لابدّ لها من امرأة تفضي إليها بسرِّهاوتستعين لها على حوائجها ، فاطمة ابنتي حديثة عهد بصبى وأخاف أَّ لا يكون لها من يتولّى أمرها .

فقلت : يا سيّدتي ! لك عهد اللّه إن بقيتُ إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في الأمر .

فلمّا كانت ليلة زفاف فاطمة عليها السلام ، جاء النّبي صلى الله عليه و آله وأمر النّساء فخرجن ، قالت أسماء : فبقيتُ أنا ، فلمّا رأى رسول اللّه سوادي قال : مَن أنتِ ؟ فقلتُ : أسماء بنت عميس .فقال : ألم آمركِ أن تخرجي ؟

فقلت : بلى يا رسول اللّه فداك أبي واُمّي ، وما قصدتُ خلافك ، ولكنّي أعطيتُ خديجة عهداً هكذا .

فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : باللّه لهذا وقفتِ ؟ فقلت : نعم واللّه ، فدعا لي .

يعزّ على خديجة لو كانت حاضرة وتسمع أنين قرّة عينها فاطمة بين الحائطوالباب حين عصروها وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها .

ولمّا اشتدّ مرض خديجة عليها السلام قالت : يا رسول اللّه ! إسمع وصاياي :

أوّلًا : فإنّي قاصرة في حقّك فاعفني يا رسول اللّه .

قال صلى الله عليه و آله : حاشا وكلّا ، ما رأيت منكِ تقصيراً ، فقد بلغت جهدكِ وتعبتِ في داري غاية التّعب ، ولقد بذلتِ أموالكِ ، وصرفتِ في سبيل اللّه جميع مالكِ .

قالت : يا رسول اللّه ! وأمّا الوصيّة الثّانية :

فإنّي أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإنّي مستحية منك يا رسول اللّه . .

ص: 130


1- . شجرة طوبى - ج2 ص234 .

فقام النّبي وخرج من الحجرة ، فدعت بفاطمة وقالت : يا حبيبتي وقرّة عيني ،قولي لأبيك إنّ امّي تقول : أنا خائفة من القبر ، اريد منك ردائك الّذي تلبسه حين نزول الوحي تكفّنّي فيه .

فخرجت فاطمة وقالت لأبيها ما قالت امّها خديجة ، فقام النّبي صلى الله عليه و آله وسلّم الرّداءإلى فاطمة وجائت به إلى امّها ، فسرّت به سروراً عظيماً ، فلمّا توفّيت خديجة أخذ رسول اللّه في تجهيزها وغسلها وتحنيطها ، فلمّا أراد أن يكفّنها هبط الأمين جبرئيل وقال : يارسول اللّه إنّ اللّه يقرئك السّلام ، ويخصّك بالتحيّة والإكرام ويقول لك : يا محمّد ! إنّ كفن خديجة من عندنا ، فإنّها بذلت مالها في سبيلنا .

فجاء جبرئيل بكفن وقال : يا رسول اللّه ! هذا كفن خديجة وهو من أكفان الجنّة ،أهدى اللّه إليها ، فكفّنها رسول اللّه بردائه الشّريف أوّلًا ، وبما جاء به جبرئيل ثانياً ؛ فكان لها كفنان : كفن من اللّه ، وكفن من رسول اللّه .

أقول : ألم يبذل الحسين جميع ماله وعياله وأولاده في سبيل اللّه حتّى بيت جنازته ثلاثة أيّام بلا غسل ولا كفن ؟

ودفنت خديجة عليها السلام بالحجون ، وهو جبل بأعلى مكّة ومقبرة لهم ، ونزل رسول اللّه في قبرها ، وأدخلها القبر بيده الشّريفة .

ولمّا توفّيت خديجة جعلت فاطمة تلوذ بأبيها وتقول : أين امّي ؟ حتّى قالت يوماً :يا أبة ! ما أتغدّى ولا أتعشّى حتّى أعلم أين امّي . فما يدري ما يجيبها ، حتّى نزل جبرئيل وقال : أن تقرأ على فاطمة السّلام وتقول لها : امّكِ في بيت من قصب كعابة من ذهب وعمدة من ياقوت أحمر ، بين آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران .

فقالت فاطمة عليها السلام : إنّ اللّه هو السّلام ، ومنه السّلام ، وإليه يعود السّلام .

نعم ، هكذا قد عزّاها اللّه ، وعزّاها جبرئيل باُمّها ، ولكن أقول : لمّا توفّي أبوها هل عزّاها أحد ؟ بل هجموا على باب دارها ، وأحرقوا الباب وعصروها بين الحائط والباب .

الوصيّة الثالثة : قالت اوصيك بهذه - وأشارت إلى فاطمة - فإنّها يتيمة من بعدي فلا يؤذها أحد من نساء قريش ولا يلطمن خدّها .

ص: 131

أقول : يعزّ على خديجة لو كانت حاضرة حين ضربوها اللّطمة ، حتّى أثّرت في خدّها وتناثر قرطها .

يقول الإمام الصّادق عليه السلام : ما زالت فاطمة عليها السلام بعد أبيها معصَّبة الرأس ، حليفة القرآن ، باكية العين ، منهدَّة الرّكن ، يُغشى عليها ساعدة بعد ساعة ، وكانت تأخذ الحسن والحسين عليهما السلام وتأتي إلى قبر أبيها ، فلمّا يقع بصرها على القبر تقع مغشيّاً عليها ، ولمّا تفيق من غشوتها تأخذ تراب القبر وتشمّه وهي تقول :

ماذا على من شَمَّ تربة أحمدٍ *** ألّا يشمّ مدى الزّمان غواليا

قل للمغيّر تحت أطباق الثّرى *** إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صبَّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها *** صُبَّت على الأيّام صرنَ لياليا

قد كنت ذات حماًبضلّ محمّدٍ *** واليوم أدفع ظالمي بردائيا (1)

* * *

يبو ابراهيم من عگبك مظلمه الدار *** تدرى اشصار يوم الهجمت الانصار

والباب ابحطب رادت تحرجه ابنار *** والدخَّان من گبَّر غِدَت رنَّه

گمت للباب لاچن ما عليّه احجاب *** حس بيَّ الرجس من لذت خلف الباب

عصرني واسگط المحسن او صدرى انعاب *** وضلعي اكسروه وجنيني أيّست منّه .

ص: 132


1- . شجرة طوبى - ج2 ص235 .

المجلس الحادي عشر: منزلة المرأة في الإسلام

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال اللّه تعالى : وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (1) .صدق اللّه العلي العظيم

حيث مرّت علينا في الليلة الماضية وفاة السيّدة خديجة رأينا من المناسب في هذه الليلة البحث حول مقام المرأة ومنزلتها في الإسلام .

القرآن الكريم جعل المرأة في عداد الأنبياء والمعصومين ، وفي مصاف الأولياء والصدّيقين وجعلها آيةً للعالمين ، آية في الكفاح والجهاد والشّرف والعفّة والإيمان والحريّة كما قال لمريم البتول ، فقد قال تعالى : وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (2) ، فالإسلام أعطاها المنزلة والمقام كما سنشير الى ذلك بعدما كانت مظلومة مضطهدة قبل الإسلام تعامل بوحشيّة ، ووصل بها الأمر إلى حدّالبيع والتأجير والقتل .

لماذا شاع وأد البنات في الجاهليّة ؟

كان العرب يقومون بوأد البنات أحياء كما أشارت الآية لذلك ، بعد الولادة خوفاًمن أخذهنّ في الحرب وأسرهنّ وإنجابهنّ الأولاد لهم ، والبعض الآخر يقتل البنات من

ص: 133


1- . سورة النحل - الآيتان 58 و59 .
2- . سورة الأنبياء - آية 91 .

الفقر كما قالت الآية : وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ (1) .

ولقد ذكر الفقيه المفسِّر آية اللّه المكارم الشيرازي حفظه اللّه في تفسيره (2) بحثاًنافعاً حول عوامل شياع وأد البنات والدوافع من ورائها ... هذا نصُّه :

والوأد في واقعه أمرٌ رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كلّ ما بين جوانحه من عطف ورحمة ليتمكّن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا ؟! فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوي حتّى للدفاع عن نفسه بل كيف يدفن فلذة كبده وهي حيّة ؟! وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيُّ إنسان ومهمابلغت به الوحشيّة لا يقوم على هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدّمات إجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك ...

يقول المؤرّخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كان على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّاأنّ بعضاً من الأسيرات ممّن تزوّجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهنّ ، فصعب الأمر على آبائهنّ بعد أن أصبحوا محلًّا للوّم والشماتة ، حتّى أقسم بعضهم أنْ يقتل كلّ بنت تولد له كي لا تقع مستقبلًا أسيرة بيد الأعداء !

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثيّة العائلة الكاذبة ، فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتّى أصبحت سنّة جاهليّة ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله : وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (3) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجيّة للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الإستهلاكيّة عند الإناث ، وماله من أثر على الحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة ، .

ص: 134


1- . سورة الإسراء - آية 31 .
2- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل ، ج8 ، ص218 - 221 .
3- . سورة التكوير - الآيتان 8 و9 .

فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهمّ ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك .

ومن جانب آخر ، فقد سبّبت الحروب والنزاعات القبيليّة قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدّى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتّى وصل وجود الولدالذكر عزيزاً ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكراً ، وينزعج ويتألّم عند ولادة البنت .. ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهليّة يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلّا تأتيه بنت وهو في الدار !

وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ،ولكنّ الويل كلّ الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتاً ويمتلىء غيظاً وغضباً (1) .

قصص الوأد

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة ...

منها : ما روي أنّ رجلًا جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوماًفسأله : إنّي أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة ؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم : إنّ اللّه توّاب رحيم .

قال : يا رسول اللّه ! إنّ ذنبي عظيم .

قال : ويلك مهما كان ذنبك عظيماً فعفو اللّه أعظم منه .

قال : لقد سافرت في الجاهليّة سفراً بعيداً وكانت زوجتي حبلى وعندما عدت بعدأربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتاً في الدّار ، فقلت لها : ابنة مَنْ هذه ؟ قالت : ابنة جارنا . فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي : أصدقيني مَنْ هذه البنت ؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عندما سافرت ، إنّها ابنتك ، فنمت تلك الليلة مغتمّاً ، أنام وأستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى

ص: 135


1- . المصدر السابق نقلاً عن تفسير الفخر الرازي - ج20 ص55 .

فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتّى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعندما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة .. وهنا فاضت عينا رسول اللّه بالدمع .. قال : ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي !؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتّى دفنتها .

فقال رسول اللّه وهو يمسح دموعه : «لولا أنْ سبقت رحمة اللّه غضبه لعجّل اللّه لك العذاب» (1) .

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشراف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهليّة ، وقد أسلم عند ظهور النّبي صلى الله عليه و آله و سلم ، جاء يوماً إلى النّبي وقال له : إنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياءاً ، وقد دفنت أنا (12) بنتاً ، وعندما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة ، ثمّ أودعتها عند آخرين ، وعندماعلمت بذلك بعد مدّة ، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائهاوتضرّعها .

فتأذّى النّبي صلى الله عليه و آله و سلم من ذلك ، فقال ودموعه جارية : «من لا يَرحَم لا يُرحم» ثمّ التفت إلى قيس وقال : «إنّ لك يوماً سيّئاً» ، فقال قيس : ما أفعل لتكفير ذنبي ؟ فقال النّبي صلى الله عليه و آله و سلم : «حرّر من العبيد بعدد ما وأدت» (2) .

وذكر بعض المفسّرين أنّه في جاهليّة العرب عندما تقترب الولادة ، كان الزّوج يجلسها على حفرة ، فإذا كان المولود بنت رماها في الحفرة ودفنها بالتراب ، وإذا كان ولدأخذه وحفظه ، وكان هذا العمل موضوع افتخار له .

كان صعصعة بن ناجية (جدّ الفرزدق) من أحد الرجال الشرفاء ، حتّى ما قبل .

ص: 136


1- . القرآن يواكب الدهر - ج2 ص314 (مضموناً) .
2- . المصدر السابق نقلاً عن الجاهليّة والإسلام - ص632 .

الإسلام ، ومخالفاً للكثير من العادات القبيحة والسيّئة في الجاهليّة لدرجة أنّه اشترى360 بنتاً وخلّصهنّ من الموت والوأد وبعد ما أسلم جاء إلى الرّسول صلى الله عليه و آله وشرح له قصّته وشراءه للبنات وقال :

كانت لي ناقتان قد فقدتهما وصرت أبحث عنهما في الصّحراء ، فرأيت داراًفتوجّهت نحوها فإذا بي أرى رجلًا كبير السّنّ فانشغلت بالتكلّم معه ، وسرعان ما سمعت صوت امرأة تقول : ولدتُ ولدتُ ، فسأل الرجل الكبير : ماذا ولدتِ ؟ فردّت المرأة :ولدتُ بنتاً . فقال الرجل : ادفنوها في التّراب . فقلت : لا تقتلوها ، أنا سأشتريها ، ثمّ اشتريتها منهم بناقتين وجمل وخلّصتها من الموت ، واشتريت طول حياتي 360 بنتاً ،لكلّ منها بناقتين وجمل ونجّيتهنّ من الهلاك .

فقدَّر النّبي صلى الله عليه و آله عمله كثيراً وقال : يا صعصعة ! لقد قمت بعمل كبير وعظيم وثوابك محفوظ عند اللّه تعالى .

وقال الفرزدق مفتخراً بعمل جدّه :

ومنّا الذي منع الوائدات *** فأحيا الوئيد فلم توئد (1)

وروي أنّه جاء قيس إلى الرّسول صلى الله عليه و آله وقال : إنّ الجهل جعل الآباء يدفون بناتهم أحياء وأنا أيضاً دفنتُ إثنى عشر بنتاً من بناتي أحياء ، والبنت الثالث عشر التي أخبأتهاعنّي زوجتي بعد اطّلاعي بذلك أخذتها إلى مكان بعيد ولم أعتني لبكائها ونياحها ، حيث قالت لي : لا تقتلني سأذهب إلى خوالي ، لن أجلس على سفرتك ، وسأرعى غنمك ، ولم أستمع إلى حديثها ودفنتها حيّاً .

ومن العجيب أنّ بنات قيس كنّ قد كبرن ، حيث جاء في التاريخ : على أثر حصول حادثة مّا ، وأد جميع بناته المتزوّجات والغير المتزوّجات ، واللّاتي كنّ عددهنّ اثنتي عشر ، وكان يشجّع كلّ من كان يقابله على هذا العمل الشّنيع (2) . .

ص: 137


1- . قاموس الرجال - ج5 ص125 .
2- . حقوق المرأة في الإسلام والعالم - ص22 .

منزلة المرأة في الإسلام وإعادة اعتبارها

فالإسلام هو المذهب الوحيد الّذي أوصل المرأة من أدنى المنازل إلى أعلى المقامات ، وأوّل دين أقدم على احترام مقام المرأة ، كما جاء عن لسان كوستاوليون العالم الخبير والإجتماعي الفرنسي (1) .

إنّ الإسلام باعتراف الصديق والعدو مُحيي لحقوق المرأة ، وعندما ظهر الإسلام حارب بشدّة وبصلابة كلّ الخرافات في أبعادها المختلفة وخاصّةً عندما اعتبر ولادة البنت عار وعيب عرّفها بأنّها سعة في رحمة اللّه على الأُسرة .

كان النّبي صلى الله عليه و آله بنفسه يحترم كثيراً ابنته فاطمة عليها السلام إلى درجة أنّ النّاس تستغرب وتتعجّب من ذلك ، وبالرغم من مقامه العالي والرفيع ، إلّا أنّه كان يقبّل يد ابنته ، وعندمايسافر آخر بيت يودّعه كان بيت ابنته فاطمة ، وبعدما يرجع من السفر ، أوّل شخص يزوره كان فاطمة عليها السلام (2).

وجاء في الحديث أنّه : اخبر الرسول صلى الله عليه و آله بأنّ اللّه تعالى قد وهبه الزهراء ، فجاءرأى الاستنكار وعدم الرضا في وجوه أصحابه ، لأنّ رواسب الماضي والجاهليّة في عقولهم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : مالكم ريحانةٌ أشمّها ورزقها على اللّه تعالى . وفي حديث آخر : نعم الولد البنات ، ملطفاتٌ مجهزاتٌ مؤنساتٌ مفلياتٌ ، مباركات (3) .

وفي حديث آخر : من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله ، كان كحامل الصدقة إلى قومٍ محاويج ، وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فإنّه من فرح ابنته فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل .

وقال صلى الله عليه و آله : من عال ثلاث بنات ، أو ثلاث أخوات وجبت له الجنّة .

ص: 138


1- . تمدّن الإسلام والعرب - لكوستاوليون - ص503 .
2- . البحار - ج43 ص83 .
3- . وسائل الشيعة - ج15 ص100 .

قيل : يا رسول اللّه ! واثنتين ؟ قال : واثنتين . قيل : وواحدة ؟ قال : وواحدة (1) .

إنّ هذا الإحترام الغير العادي والفائق للبنات والنساء ، في الواقع ليس إلّااحترام لشخصيّة المرأة واحترام لاستقلالها وحرّيّتها الصحيحة في المجتمع ، وإنهاء لزمن العبوديّة ومظلوميّة المرأة قد أعاد لها شخصيّتها الضائعة وحرّرها من العادات البالية وأنهى عصر تحقيرها .

ولكن ما يحزّ في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإسلاميّة من آثار لنفس ذلك التوجّه الجاهلي الموبوء ، فالى الآن نرى الكثيرمن العوائل تفرح وتسرّ عندما يأتيها مولود ذكر وتتأسّف عندما تكون المولودة بنتاً !وعلى أقلّ التقادير ترجّح الولد على البنت !

من الممكن أن تكون الظروف الخاصّة اقتصاديّاً واجتماعيّاً ، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا ، عاملًا على وجود عادات وحالات خاطئة ، إلّاأنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الإجتماعيّة والإقتصاديّة فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (14) قرن العود إلى أفكار الجاهليّة المقيتة- فهذا السلوك في واقعه نوع من الجاهليّة الثانية ، ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فترى عن بعد أنّ المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب ، وأنّها تحظى من الاحترام والتحرّر ما تحسد عليه ! فالحياة العمليّة في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة ، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع والمنتوجات ، وجعلوها كالعارضة في المحلّات كوسيلة لجذب المشترين والحصول على مزيد من الأموال ، وأضحت أداة بين يدي الرأسماليين ، واستغلّوها أيضاًللفحشاء والليالي الحمراء وإعداد المجلّات والأفلام الخليعة ثمّ أخرجوها من بيوتهنّ وبعنوان الحريّة جرت إلى مقام الجرسون ، وغسّالة الأواني والكناسة في المطاعم والإدارات ونتيجة ذلك تفكّك الأسرى وانتشار الطلاق في الغرب . .

ص: 139


1- . وسائل الشيعة - ج15 ص104 .

موانع مساوات المرأة مع الرجل

وهنا يطرح هذا السؤال : إذا كانت المرأة إنسانة ، فلماذا هي ليست متساوية مع الرّجل في كلّ الاُمور ؟ ولماذا هذا الإختلاف ؟

الجواب : لقد ثبت علميّاً وبلا ترديد وجود اختلافات طبيعيّة وتكوينيّة بين الرّجل والمرأة ، فالرّجل يختلف عن المرأة جسميّاً وروحيّاً مع أنّ كلاهما إنسان ، ولكنّ اللّه جعل هذا الإختلاف بينهما لصالح حياتهما حيث إذا لم تكن هذه الإختلافات وكانا متساويان ،فإنّ النّظام الإجتماعي والعائلي سيختل .

وقد رسم العلماء بصورة كلّيّة ثنائيّة الرجل والمرأة واختلافهما من الزّاويتين الجسميّة والنّفسيّة :

فأمّا من الزّاوية الجسميّة : 1 - فالرّجل بنيته أقوى وأضخم من المرأة ، الرّجل أخشن والمرأة ألطف ، خلاية مخّ الرّجل تزيد عن خلايا مخّ المرأة بنسبة 16% ، صوت الرّجل وشكله أضخم وأكثر خشونة ، والمرأة ألطف وأكثر نعومة ، المرأة أسرع نموّاً من الرّجل ، والنموّ العضلي أكبر من نموّ المرأة العضلي واليدين ، البنت أسرع من الصّبي إلى النّطق ، رئة الرّجل تستوعب حجماً أكبر من الهواء ، ضربات قلب المرأة أسرع من ضربات قلب الرّجل .

وأمّا من الزّاوية النفسيّة :

المرأة أكثر انفعالًا من الرّجل وأسرع هيجاناً ، وإلى غير ذلك من الفوارق .

إذن هناك اختلاف في هيئة الخلقة ونظام التكويني ، ولذلك فإنّ تساوي الرّجل والمرأة في الحقوق والأحكام من كلّ جانب مخالفاً تماماً عن هيئة خلقتها ، فإنّ دعاة الحرّيّة المطلقة للمرأة ومساوتها للرجل يساوي ضرب جذور سعادتها و توفير التعاسة لها .

ص: 140

جهاد المرأة في الإسلام وقصّة سُودة الهَمْدانيّة

وأمّا بالنّسبة لجهاد المرأة مع ما له من الثّواب ولكنّه ساقط عنها ولكن عوضت عنه لكي تحرز على ثواب الجهاد ، ولذلك ورد أنّه جاءت امرأة عند النّبي صلى الله عليه و آله نيابة عن النسوة وقالت : إنّ النّساء مسكينات لأنّهنّ ممنوعات عن الجهاد وهنّ محرومات عن أجره العظيم .

فقال النّبي صلى الله عليه و آله : إنّ جهاد المرأة حسن التبعّل ، فإذا أحسنت وضيفتها فإنّها ستنال الأجر العظيم للجهاد في سبيل اللّه .

وقال صلى الله عليه و آله : كلّ من تصبر على سوء أخلاق زوجها فإنّ لها أجر السيّدة آسية (امرأة فرعون) عند اللّه تعالى ، والّتي هي من فضلى نساء الجنّة .

وعن الإمام الكاظم عليه السلام : جهاد المرأة حسن التبعّل (1) .

قال النّبي صلى الله عليه و آله : عندما تحمل المرأة تكون كالصّائم نهاره والقائم ليله والمجاهد في سبيل اللّه .

وممّا يروى عن شجاعة المرأه في اشتراكها في الحروب من دون قتال ولكن لتحريض المقاتلين في الجبهة هي قصّة سودة ابنة عمارة ابن الاشتر الهمدانيّة حيث كانت في حرب صفّين والّتي استمرّت أربعة عشر شهراً ، كانت قبيلة هَمْدان من القبائل الّتي اشتركت في القتال مع الإمام علي عليه السلام ضدّ جيش معاوية .

وذات يوم كادت أن تقع هزيمة في صفوف أهل العراق ، ولكن قبيلة همدان أعادت السّيطرة على الميدان بسبب تشجيع النساء والرجال .

فقد حدث أنّ هذه المرأة سُودة والتي هي من أهل البصرة أنشدت أربعة أبيات من الشّعر ، استطاعت أن تفعل فعلها السّاحر في القلوب ، وحرّكت المقاتلين للقتال حتّى تمكّنت هذه القبيلة من السّيطرة الكاملة على ساحة المعركة ورجوع جيش معاوية ،

ص: 141


1- . فروع الكافي - ج5 ص507 .

فأنشأت تشجّع عشيرتها وإخوتها :

شمّر كفعل أبيك يابن عمارة *** يوم الطعون وملتقى الأقران

وانصر عليّاً والحسين ورهطه *** واقصد لهند وابنها بهوان

إنّ الإمام أخا النّبي محمّد *** علم الهدى ومنارة الإيمان

فَقِدِ الجيوش وسر أمام لوائه *** قدماً بأبيض صارم وسنان

ولمّا عرف معاوية بالأمر بيّت شرّاًودفن حقداً في صدره وتربّص لسوُدة وقال لئن ظفرت بها لاُروّعنّها أشدّ ترويع ، وهو يكرّر القول : سويدة بأربعة أبيات من الشّعر تأخذالميدان ، سأنتقم منها . ودارت الأيّام واستشهد علي عليه السلام وجاء دور معاوية ، فغيّر كلّ الولات في البلاد ، وقد أرسل إلى البصرة بُسر بن أرطاة ، وعيّنه والياً عليها ، وكانت البصرة معقل شيعة علي عليه السلام فأوّل عمل قام به بسر بن أرطاة في البصرة جمع الزكاة بالقوّة ، ونهب أموال المسلمين بالباطل وهو معروف بإجرامه ، وهو الذي قتل أطفال عبيداللّه بن العبّاس اللَّذَين كانا في حجر امّهما وضرب بهما الحائط ، فتلاشا دماغ رأسيهما أمام امّهما فقد كان معروف بعذابه للشيعة .

فكان لسويدة نخيل في بساتين البصرة فصادرها كلّها والتي كانت تحت يدالمستضعفين من الناس ، فجاء المستضعفون إلى سويدة وأخبروها وهم يبكون بأنّ بسراًطردهم بالعراء لا مأوى لهم ولا دار ، فتأثّرت سويدة وجاءت إلى بُسر وكأنّها أسد باسل ،فكانت كلماتها تتساقط على بسر ، وكأنّها أحجار ملتهبة فهي من شيعة علي عليه السلام ولا تهاب الموت .

قالت : يا بسر ! إنّ عمّالك هجموا على بساتين الضّعفاء وأخرجوا منها أهلها ،وأخذوها يلعبون بخيرها ، وقد علمت أنّهم أخذوا أموالًا كثيرة بحجّة الزّكاة وأنت تعرف أنّ هذا ليس هو وقت زكاة ، فارجع الأموال ، وردّ البساتين إلى أصحابها ، وإلّا فإنّني قادرة على القضاء عليك في هذا البلد .

قال بسر : لست أردّ الأموال إلى أهلها ولا البساتين ، واعملي ما شئت أن تعملي ،

ص: 142

تركت سُودة بسراً ورجعت إلى الدّار فهيّأت أسباب السفر وخرجت تريد الشام قاصدة قصر الرئاسة معاوية بن أبي سفيان .

جاءت وحدها تقطع الطريق ، وصلت وربطت جملها بباب القصر وقالت للحاجب : قل لمعاوية إنّ سويدة من أهل البصرة تريد مقابلتك لأجل أمر هام .

دخل الحاجب أخبر معاوية ، فلمّا سمع معاوية باسمها قال : جاءت برجلها إلى الموت ، هذه سُودة التي كانت في صفّين تدفع الرجال للمعركة سأقضي عليها .

دخلت سلّمت جلست .

قال معاوية : مَن أنتِ ؟

قالت : سُودة من البصرة جئت أشتكي من بسر بن أرطاة ، فقد أخذ أموالي ظلماًوأرعب النّاس ، وأخذ أموالهم ، ثمّ أضافت قائلًا : على أنّني هدّدت بسراً بالقضاء عليه إذاهو لم يستجيب للمطالب التي ذكرتها له .

هنا بدأ الحقد في معاوية فقال لها في غضب شديد : ألم تكوني أنت المرأة التي كانت تشجّع الرجال على القتال وتنشد الأشعار وزرعت الحمام في النّفوس ؟

قالت : نعم .

أولستِ أنتِ التي أعادت قبيلة همدان لساحة المعركة في صفّين ؟

قالت : أجل أنا سُودة الهمدانيّة من أهل البصرة .

قالت : أولستِ أنت من أصحاب علي بن أبي طالب ومن شيعته .

قالت : نعم أنا كذلك يا معاوية ، فماذا عندك ؟

انظروا إلى القوّة الجبّارة التي كانت تتمتّع بها سُودة .

قال معاوية : سأقتلك شرّ قتلة واُذيقك الموت غصّة بعد غصّة .

قالت : ويلك يا معاوية أراك تجرّ الماضي وتخلطه بالحاضر .

فقال معاوية : والآن ماذا تريدين ؟

قالت : اريد أن تأمر بإرجاع أموال النّاس والنخيل إلى أصحابه المستضعفين .

ص: 143

فصاح معاوية : عليَّ بالنّطع والسّيف والجلّاد ، اقتلوها أمام عيني ، أخلطوا لحمها بدمها .فسكتت ولم تجب . ومرّت لحظات جاء الجلّاد ، فرشوا النّطع . فأنشأت تقول :

صلّى الإله على روح تضمّنها قبرٌ *** فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي له بدلًا *** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا

قال معاوية : بحقِّ لمَن قلتي هذا الشّعر ؟

قالت : في حقّ سيّدي ومولاي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام .

قال : ولماذا ؟

قالت : إعلم يا معاوية إنّه في أيّام حكومة أميرالمؤمنين وأيّام خلافته كان الوالي علينا قد مارس الظلم ، فذهبت الكوفة دخلت المسجد والإمام علي يريد أن يصلّي ،فقلت : يا أميرالمؤمنين ! لا تكبّر للصّلاة فإنّ واليك علينا قد ظلمنا ، فبكى عليّ وقال :اللّهمّ إنّك تعلم أنّي ما أرسلت حاكماً عليهم ليظلمهم ، ثمّ أخرج ورقة من جيبه وكتب عزل الوالي ودفع الكتاب بيدي ، فرجعت إلى البصرة وأنا أحمل بيدي عزل الوالي ، وأمّا الآن أنا قادمة من البصرة أشكو إليك بسر فتأمر بضرب عنقي ، سلام اللّه عليك ياأميرالمؤمنين ، حقّاً صلّى الإله على روح ... الخ .

فقال معاوية : إرفعوا النطع وعلَيَّ بالكاتب ، فقال : اكتب إلى بسر أن يردّ الأموال إلى هذه المرأة .

فقالت : وما أصنع بأموالي يا معاوية ؟ إنّما جئتك من أجل القضاء على الظلم في البصرة وإعادة أموال النّاس إلى أهلها .

ثمّ قالت : إسمع يا معاوية !

إمّا أن تعزل بسراً من ولاية البصرة وتردّ الأموال إلى أهلها ، وإمّا أن تقتلني هنا ،وإذا لم تفعل من ذلك ، فإنّي لن أرجع إلى البصرة ، وإنّما سأظلّ هنا في الشّام أعمل في إثارة النّاس عليك حتّى يسقط حكمك أو يحكم اللّه لي وهو خير الحاكمين .

فقال معاوية : واللّه عجباً يا أباالحسن أي نوع من الأحباب صنعت لا يخافون

ص: 144

الموت ولا يخشون السجن ولا النّار .

فكتب لها بعزل الوالي فأخذتها بيدها وعزلت بسراً .

هذه هي المرأة الحرّة في العقيدة والشخصيّة (1) .

المبادرة التكتيكيّة للإمام الحسين عليه السلام لزوجين مسكينين

من أحد الحوادث العجيبة الّتي جاءت في التاريخ هي إقدام الإمام الحسين عليه السلام لحماية حق الزوج والزوجة أمام الأعداء المتآمرين وعديمي الضمير وهي ما ورد في يزيد للزواج من ارينب .

كان لعبداللّه بن سلام أحد حكّام العراق زوجة جميلة باسم ارينب بنت إسحاق ،في ذات يوم رأى يزيد جمالها فهام بحبّها حتّى مرض مرضاً شديداً ، فلمّا نظر إليه معاوية وهو بتلك الحالة فأخذ معاوية وبمساعدة عمرو بن العاص في الحيلة حتّى يطلّق عبداللّه اُرينب ثمّ يأخذها يزيد ، فاحتال ابن العاص على عبداللّه قائلًا :

إنّ معاوية راضٍ عنك وراغب أن تكون صهره بالزّواج من ابنته إن طلّقت زوجتك اُرينب ، وسيمنحك قربه ومقاماً عظيماً .

فخُدِع عبداللّه وطلّق زوجته ، فأرسل معاوية - إلى ارينب بعد انتهاء عدّتها - أبي الدّرداء من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، حاملًا معه أموالاً طائلة إلى المدينة ليخطبها لولده يزيد ، وتشاء الصّدف أن يلتقي بالحسين عليه السلام في المدينة ويخبره بغايته ، فيكلّفه الإمام الحسين أن يذكره لها ، وكان هدف الإمام من هذا الزّواج ابطال مكيدة معاوية وابنه يزيد ، وأن يحفظ زوجة عبداللّه له .

ولمّا دخل أبو الدّرداء على ارينب ذكر لها يزيد وما ينتظره من الملك بعد أبيه ،وذكر لها الإمام الحسين ومكانته من الإسلام ومن رسول اللّه .

فقالت له ارينب : زوّجني بمن تختاره لي منهم .

ص: 145


1- . الأيدلوجيّة الإسلاميّة - للشيخ حميد المهاجر - ص123 .

فقال أبوالدرداء : لا اقدّم أحداً على فمٍ قبّله رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقبلت ارينب بمن اختاره لها أبوالدرداء ، فزوّجها من الإمام الحسين عليه السلام ، ودفع لها الأموال الّتي حملها من معاوية وعاد إلى معاوية ليخبره بما جرى له ، ولمّا يئس زوجها عبداللّه ابن سلام من ابنة معاوية وابعده معاوية عن عمله ضاق به أمره ، فرجع إلى المدينة وكان قد أودع مطلقته اُرينب أموالًا فاستأذن الإمام الحسين أن يدخل عليها ، فأذن له ، ولمّا دخل عليها واستلم منها وديعته تأوّه كلّ منهما وخيَّم على عبداللّه بن سلام صمت ينمّ عن حزنه لفراقها ،ورغبته في الرجوع إليها لو كان له من ذلك سبيلٌ ، فطلّقها الإمام الحسين عليه السلام قبل أن يمسّها وأرجعها لزوجها وفوَّت على معاوية مكيدته (1).

قال الرّاوي : ولمّا بلغ يزيد بن معاوية صنع الحسين عليه السلام عظم ذلك عليه ، وبقي قلبه يغلي على الحسين عليه السلام كالمرجل ، وكادت شظايا قلبه أن تخرج مع نفسه ، لذا لمّا هلك معاوية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان والياً على المدينة أن خذ من أهل المدينة البيعة لي عامة ، ومن الحسين خاصّة ، وإن أبى فليكن جواب كتابي هذا مع رأس الحسين بن علي بن أبي طالب .

ولمّا خاف الحسين عليه السلام أن تهتك حرمة جدّه خرج من المدينة بأهله وعياله ، كماقال السيّد جعفر رحمه الله :

خرج الحسين من المدينة خائفاً *** كخروج موسى خائفاً يتكتَّمُ

أقول : فلو كان الحسين عليه السلام خائفاً من أحد للزم غير الجادة ، كما فعل ابن الزّبيروأخوه فإنّهما هربا على طريق الفرع وغير الجادة ، والحسين عليه السلام أشاروا عليه في ذلك وقالوا له : لو تنكّبت ا لطّريق كما فعل ابن الزّبير لئلّا يلحقك الطلب ؟

فقال : لا واللّه ، لا افارق الطّريق الأقوم حتّى يقضي اللّه ما هو قاض .

ولكنّه إنّما خرج ليلًا خوفاً على حرمه لئلّا تقع عليهنّ عيون الأجانب ، لذا قال .

ص: 146


1- . ذكر هذه القصّة «محمّد بن مسلم بن قتيبة» في كتاب «الإمامة والسياسة» ، و«النوبري» في (نهاية الإرب» ، وذكرها صاحب «المستطرف» وغيرهم من المؤرخين على اختلاف بسيط .

السيّد جعفر رحمه الله :

خرج الحسين من المدينة خائفاً *** كخروج موسى خائفاً يتكتّم

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها *** وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدن ركابه *** فكأنّما المأوى عليه محرَّمُ (1)

* * *

يوم الذي راعي الشّيم *** إنوِ يشدّالراحله

جاب المحامل للحرم *** كل فردوجّه حيد اله .. الخ .

ص: 147


1- . ديوان السيّد جعفر الحلّي رحمه الله .

المجلس الثاني عشر: مناسبة تاريخيّة وهي مؤاخاة النّبي صلى الله عليه و آله و سلم مع وصيه عليٍّ عليه السلام في الثاني عشر من شهر رمضان

اشارة

لو كنتَ تَعلمُ في القَلبِ مِن شَجَنِ *** ماذاقَ طرفُكَ يوماً طيِّبَ الوسَنِ

ولورأيتَ غَداة البين وقفتنا *** اسلتَ قلبك دَمعاً كالحيا الهَتِنِ

نادَيتُ مُذ طوَّحَ الحادي بضعنهم *** وراح يَطْوي فيافي البيد بالبُدنِ

يا راحلينَ بصَبري والفُؤادِ معاً *** رفقاً بقلبِ مُحبٍّ ناحِلِ البَدَنِ

كم ليلةٍ بتُّ مَسروراً بكم فرحاً *** طرفي قريرٌ وعيشي بالوصَال هَنِ

اخفي محبّتكم كي لا يَلُمَّ بنا *** واشٍ ولكن دَمْعَ العَين يفضَحُني

ظللتُ في ربعكم أبكي لفقدكم *** كما بَكين حَمامَاتٌ على غُصُنِ

طوراً أشُمُّ الثَّرى شَوقاًوآونَةً *** ادعوا ولا أحدٌ بالنَّوحِ يُسعِدُني

يا هَل تعودُ ليالينابوَصلِكُمُ *** كما لنا قد مضى في سالف الزَّمنِ

دع عنك يا سعدُ ذكر الغانياتِ ودع *** عَنْكَ البُكاء على الأطلال والدِمَنِ

واسمَع بخطبٍ جرى في كربلاء *** على آل النبي ونُح في السرِّوالعَلَنِ

لم انسى سِبْطَ رسول اللّه منفرداً *** وفيه أحدق أهلُ الكُفروالإحَنِ

يرنوا الى الصَّحبِ فوقَ التُّربِ تحسبُها *** بُدورَ تمٍّ بدت في الحالك الدَجنِ

لهفي له إذ رأى العبَّاس منجدلاً *** على التُّرابِ صريعاًعافرَ البدَنِ

نادى بصوتٍ يُذيبُ الصَّخر يا عَضُدي *** ويا مُعيني وياكهفي ومؤتمني

ومُخمد الحرب إن شبَّت لواهبُها *** ومن بصارمه جيشُ الضَّلال فُني

عبَّاسُ بعدكَ هذي الخيلُ قد زحفت *** على أخيك بثاراتِ يوم البدر تَطلُبني

كسرتَ ظهري وقلَّت حيلتي وبما *** قاسَيتُ سُرَّت ذَووا الأحقاد والضِّغَنِ

بقيتُ بعدك بين القوم منفرداً *** أُقلِّب الطرف لا حامٍ فيسعدُني (1)

ص: 148


1- . الشاعر حسون الحلي .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (1) .صدق اللّه العلي العظيم

ورد في شأن نزول هذه الآية من سوره الحجرات ، والآية الّتي قبل هذه الآية والّتي تقول : وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .

فقد ورد (2) ، إنّ خلافاً وقع بين قبيلتي «الأوس» و«الخزرج» وهما قبيلتان معروفتان في المدينة ، أدّى هذا الخلاف إلى الإقتتال بينهما ، وأن يتنازعا بالعصي والأحذية ، فنزلت الآيتان وعلّمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث .

وقال بعضهم : حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف ، فقال أحدهم للآخر : سآخذ حقّي منك بالقوّة لأنّ قبيلتي كثيرة ، وقال الآخر : لنمضي ونحتكم عندرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، فلم يقبل الأوّل ، فاشتدّ الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي والأحذية والسّيوف ، فنزلت الآيتان وبيّنت وظيفة المسلمين في مثل هذه الاُمور (3) .

ثمّ إنّ الآية الكريمة فيها جملة من المضامين نستعرض بعضها إنشاء اللّه .

المضمون الأوّل : إنّ كلمة «إنّما» في الآية اداة تفيد الحصر يعني : إذا جاءت إنّمافي أوّل الجملة تحصر المضمون الذي يأتي بعدها . كما لو قلت : إنّما الأخيار هم آل فلان ، يعني : لا اخيار في الناس غيرهم ، إذن هي تفيد الحصر والإختصاص كما هو ثابت .

ص: 149


1- . سورة الحجرات - آية 10 .
2- . تفسير الأمثل ، ج16 ، ص535 .
3- . تفسير القرطبي - ج9 ص136 .

عند أهل اللّغة .

وعليه حينما يقول القرآن الكريم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يريد أن يقول أن لااُخوّة حقيقيّة بين مؤمن وغير مؤمن ، وإنّما الأخوة الحقيقيّه تكون بين المؤمن والمؤمن،وفي غيرهما لا تكون اخوَّة .

لا يخفى أنّ المراد من المؤمن في هذه الآية هو المسلم ، ثمّ إنّ المقصود من الآية هو الأمر لا الإخبار ، لانه احياناً تأتي صيغة الأمر وتعطي معنى الإخبار ، فيقال له : أمرفي صيغة الإخبار ، وبعض الأحيان تأتي الجملة خبريّة ولكن تعطي معنى الأمر ، كما هوعليه الآية ، فلمّا تقول الآية : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعني يجب أن لا تكون إخوتكم إلّامع المؤمنين والمسلمين ، فالأخوة الحقيقيّة التي لابدّ أن تترتّب عليها الآثار ، لابدّ أن تقع بين مسلم ومسلم .

وعليه لابدّ أن تقدّم مصالح المسلمين على اية مصلحة كانت ، ولذلك المشرّع الإسلامي ما استعان في يوم من الأيّام بغير المسلم في غير المعاملات - في مجال التعاون لأنّه ميّز المسلم بالأخوة الصحيحة والحقيقيّة ، وهذا له بحث مفصَّل لأنّه تارة يقع على مستوى أفراد ، وتارة على مستوى شعوب وعلى مستوى امم أو فِرَق اسلاميّة فلابدّأن تكون بينهما روابط الأخوة الّتي أرادها اللّه عزّ وجلّ .

وهناك امر لابد من الالتفات اليه وهو وجود الفرق بين كلمة «أخوة» وبين كلمة«إخوان» في اللغة العربيّة ، فالأخوة جمع أخو من النّسب ، فلمّا نقول : هؤلاء أخوة يعني منحدرين من أب واحد واُم واحدة أو منهما .

وأمّا كلمة الإخوان فهي جمع الأخ من الصداقة ، فالأصدقاء فيما بينهما يصحّ أن تطلق عليهم إخوان لا أخوة ، فالقرآن لمّا يقول : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ كأنّه يريد أن يقول : إنّ المسلم للمسلم بمثابة الأخ الشقيق والنَّسبي ، فكما أنّ الأخ الشقيق يتعاطف مع أخيه الشقيق فكذلك المسلم مع المسلم يجب أن يكون بينهما تعاطف كالأخ الشقيق ،فنزّل القرآن الكريم الأخ المسلم بمنزلة الأخ النَّسبي من جهة المودّة والمحبّة والعطف .

ولأنّ المسألة ليست مسألة إخبار كما ذكرنا بل هي أمر بصيغة الإخبار ، لأنّه لو كان

ص: 150

إخبار فإنّ الواقع الخارجي يشهد خلاف ذلك ، فكيف يخبر القرآن عن أخوة غير متحقّقة في الخارج ويقول هم أخوة والحال ليس كذلك .

من مآسي الاُمّة عدم المؤاخاة بينهم

ولذلك من مأساة الاُمّة الإسلاميّة عدم وجود هذه الأخوة فيما بينهم ، فاللّه تعالى في هذه الآية يأمرهم بالأخوة والترابط ، ولذلك نجد بعض المسلمين بسبب ضيق الافق ترى بعضهم يتّخذون من الراي المخالف لهم سبباً للتباعد والتخالف والتمزّق فيما بينهم كما نجده اليوم بين المسلمين وللاسف ، في حين أنّ الإختلاف العلمي شيء طبيعي جدّاً ،بل الخلاف العلمي لابدَّ منه ويحصل عادة بسبب اختلاف الأدلّة .

على سبيل المثال : نحن نقرأ في القرآن الكريم الآية تقول : حَتّى يَطْهُرْنَ (1)بدون تشديد يعني : إذا حصل النقاء وانقطع دم العادة من المرأة جاز للزّوج أن يُقارب أهله ، وتارة تُقرأ الآية «حتّى يطهّرن» بالتشديد ، يعني مضافاً الى النقاء لابدّ أن تغتسل الزوّجة من عادتها ، عند ذلك يجوز المقاربة ، فسبب حصول الإختلاف هو اختلاف القراءة وقد وردت كلا القرائتين ، فاختلاف العلماء في حكم المسألة نابع من اختلاف القرائتين ودليلهم على ذلك هو القرآن الكريم لا غير .

وكذلك نجد هناك روايات وردت عن ائمة اهل البيت صلوات اللّه عليهم تنص على ان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان يجمع بين الصلاتين ويفرق بعض الاحيان وهي روايات متواترة عن اهل البيت عليهم السلام ، وكذلك مثل هذه الروايات وردت عن طريق المذاهب الإسلاميّة الاُخر ، فيأتي المخالف يقول : لا توجد روايات متواترة في هذا المجال ، نقول له : هذا هو رأيك ، ولكن هذا لا يعني أن نختلف بشكل أن نتَّهم الطرف الآخر بأوصاف غير إسلاميّه أو نكفّره ، أو ما شابه ذلك فكلّ ما هنالك إنّ سبب الإختلاف هو إختلاف الدّليل .

وقد ورد في هذا المجال ان الثاني دخل المسجد ذات يوم فرأى المسلمين حين

ص: 151


1- . سورة البقرة - آية 222 .

يسجدون على تراب المسجد يلصق التراب بجباههم ، فأمر بأن يفرش المسجد بالحصباءأي الحصى ، فجعل المسلمون الحصى تحت جباههم حتّى يرفع الحصى جباههم عن التراب .

والبعض كان يبرّد الحصى بيده ويسجد عليها ، وأنّها قطعة من الأرض ، راجع أوائل السيوطي أو كتاب محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر .

يذكرون أوّل من فرش المسجد بالحصباء الخليفة الثاني عمر ، فالشيعة اليوم أيضاًيأتون قطعة أرض يسجدون عليها كي ترفع رأس المصلِّي عن مستوى الأرض ، ولكن البعض يتهمنا بالقول : أنتم تعبدون التربة والحال كلّ كتبنا تقول : إنّنا نسجد عليها فحسب لا لها ، كما قال النّبي صلى الله عليه و آله : جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأصحاب النفوس الضيّقة المهرجة الذين لا عمل لهم إلّاإيقاع الخلاف بين المسلمين إلى يومك هذا يقولون إنّ الشيعة يعبدون التربة فهؤلاء لا يعرفون إلّالغة التهريج والتفرقة ؛ لغة يأباها الإسلام ، ولاتوجد لهم لغة تفاهم ولا لغة علم ، وهذه من جملة مآسي المسلمين .

نعود الى بحثنا فنقول انّ الإختلاف العلمي لابدّ منه ولكن هذا لا يعني أن نجرّالبحث إلى تكفير بعض المسلمين وغير ذلك كما هو عليه واقع المسلمين اليوم ، فالقرآن يريد أن يأمرنا بالأخوة والمودّة ، فلا يريد في الآية الإخبار عن الأخوة كما ذكرنا يعني :يريد أن يقول : لترتبط أخوتكم لأنّكم كلّكم ترجعون الى لواء لا إله إلّااللّه ، محمّد رسول اللّه ، وهذا هو أدب القرآن وخُلق القرآن .

الإسلام والمؤاخاة

ولذلك نجد النبي كان يؤكّد على هذا المعنى بحيث جمع بين المسلمين واهله كافة وآخى النبي صلى الله عليه و آله أوّلًا بين المهاجرين ثمّ بين المهاجرين والأنصار لانحصار المسلمين فيهم يومئذٍ ، وأراد صلى الله عليه و آله بناء الإسلام على أساس ثابت وطيد هو تأليف القلوب ورفع الشحناء من النفوس والتناصر والتعاون ، لأنّ ذلك هو السبب الوحيد في نجاح الأعمال ورقي الاُمم ، وأعلن اللّه تعالى في كتابه العزيز المؤاخاة بين عموم أهل الإسلام شريفهم

ص: 152

ووضيعهم رجالهم ونسائهم فقال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وبهذه الإخوة وعلى أساسهاالمتين والمحافظة عليها قام الإسلام وظهر وانتشر وبالتهاون بها ضعف وتقهقر ، وأردف قوله هذا بقوله : فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فجعل الإصلاح من مقتضى تلك الأخوة وموجبها ، وقال النبي صلى الله عليه و آله : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) (1) .

وقال صلى الله عليه و آله : مثل الأخوين مثل اليدين تغسل أحدهما الاُخرى (2) .

فانظر بعين عقلك كم في هذه الأخوة من منافع وفوائد ومصالح عامّة سياسيّة وإجتماعيّة وأخلاقية ، وكم فيها من تأليف للقلوب وحفظ للنظام الإجتماعي وحرص على هناء العيش وسعادة البشر ، وهذه هي الأخوة الصحيحة الشريفة النافعة التي تفوق كلّ ما يسمّى بالأخوة وتغني عنه .

المؤاخاة بين النبي وأميرالمؤمنين عليهما السلام

روى البلاذري عن ابن عبّاس وغيره : لمّا نزل قوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الأشكال والأمثال ، فآخى بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان وعبدالرحمن ، وبين سعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد ، وبين طلحة والزبير ، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيّوب الأنصاري ، وبين أبي ذر وابن مسعود ، وبين سلمان وحذيفة ، وبين حمزة وزيد ابن حارثة ، وبين أبي الدرداء والبلال ،وبين جعفر الطيّار ومعاذ بن جبل ، وبين المقداد وعمّار ، وبين عائشة وحفصة ، وبين زينب بنت جحش وميمونة ، وبين ام سلمة وصفيّة حتّى آخى بين أصحابه بأجمعهم على قدر منازلهم ثمّ قال : «أنت أخي وأنا أخوك يا علي» .

وفي لفظ : قال علي عليه السلام : يا رسول اللّه ! آخيت بين أصحابك وتركتني ؟!

فقال : أنت أخي ، أما ترضى أن تُدعى إذا دعيتُ ، وتُكسى إذا كُسيتُ ، وتدخل الجنّة إذا دخلتُ ؟

ص: 153


1- . المحجّة البيضاء - ج3 ص332 .
2- . المصدر .

قال : بلى يا رسول اللّه .

وفي رواية مناقب آل أبي طالب : فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : إنّما أخّرتك لنفسي ، أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة .

فبكى عليّ عند ذلك وقال :

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي *** معه ربّيت وسبطاه هما ولدي

وقال :

محمّد النّبي أخي وصنوي *** وحمزة سيّدالشهداء عمّي

ولا شكّ أنّ هذه الاُخوّة ليست نسبيّة ، إذ لم يكونا أخوين من النسب تحقيقاً وإنّماقال ذلك فيه إبانة لمنزلته وفضله وإمامته على سائر المسلمين ، لئلّا يتقدّمه أحد منهم ، ولايتآمر عليه بعد ما آخى بينهم أجمعين : ولهذا كان علي عليه السلام يفتخر بهذه المنقبة والفضيلة لمافيها من علوّ المرتبة وسموّ المنزلة ، وشدّة الإختصاص بالنّبي ، وكان علي عليه السلام يقول : أناعبد اللّه وأخو رسول اللّه ، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم ، لا يقوله غيري إلّاكذّاب .

إنّ كثرة النصوص الواردة حول هذه الفضيلة وتواترها لا تُبقي مجالًا للشكّ والرّيب ، وقد ذكرها طائفة كبيرة من علماء السنّة وحفّاظهم ، وتطرّق إلى ذلك الشعراءُ في نظمهم نعرض عنها رعاية للاختصار .

نِعْمَ الأخ المواسي لأخيه

ونقرأ في زيارة الإمام عليه السلام : «.. السّلام على أبي الأئمّة والمخصوص بالاُخوّة ...»ولم يخصّ بمثل تلك الاُخوّة أحد إلّاحواريهم عليهم السلام كمالك والذي قال عنه الامام عليه السلام :كان لي كما كنت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وأيضاً تظهر معنى الاُخوّة بأجلى صورها في كربلا بحيث لم يكن لها مثيل في عالم الوجود وذلك كاُخوّة أبي الفضل العبّاس بالنّسبة لأخيه الحسين عليه السلام ، فقد جاء في زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام : «نعم الأخ المواسي لأخيه» .

ص: 154

ولذلك لمّا رأى وحدة أخيه الحسين عليه السلام جاء إلى أخيه يستأذنه في البراز قائلًا :هل من رخصة ؟

فبكى الحسين عليه السلام بكاءً شديداً ثمّ قال : يا أخي ! أنت صاحب لوائي فإذا مضيت تفرّق عسكري .

فقال : قد ضاق صدري وسئمت الحياة .

فقال الحسين عليه السلام : إذاً اطلب لهؤلاء الأطفال قليلًا من الماء .

فركب جواده ومعه اللواء وأخذ القربة وقصد الفرات حتّى وصل إلى المشرعة ،فلمّا أحسّ ببرد الماء وقد كظّه العطش ، اغترف غرفة ليشرب لكنّه تذكّر عطش الحسين فرمى الماء من يده وقال : لا أشرب الماء وأخي الحسين عطشان ، هذا هو المعنى البارزللاُخوّة .

ثمّ جعل يقول :

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني *** وبعدَه لاكُنتِ أو تكوني

هذا حسينٌ واردُالمنون *** وتشربين باردَ المَعين

واللّه ماهذا فعالُ ديني *** ولا فعالُ صادقٍ يقين

ص: 155

المجلس الثالث عشر: بمناسبة نزول الإنجيل في الثالث عشر من رمضان وهلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (1) .صدق اللّه العلي العظيم

بمناسبة نزول الإنجيل على عيسى عليه السلام في الثالث عشر من شهر رمضان على المشهور ، وكذلك قصّة سعيد بن جبير وهلاك قاتله الحجاج في الثالث عشر من شهررمضان نجعل حديثنا في هذا اليوم عن ذلك ، وممّا هو مهمّ ومفيد ومن اللّه التوفيق .

تشير هذه الآية المباركة إلى مسألة مهمّة وهي : تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى عليه السلام ومخالفتهم له ، حيث يقول لهم : يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ، ورغم كلّ المعجزات الّتي جاء بها عيسى عليه السلام إليهم كما تقول الآية : وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي (2) الخ راجع الآية .

فمع ذلك نسبوا إليه السّحر وقالوا : جاء السّاحر ابن السّاحرة ، بل وقذفوه واُمّه ،فدعا اللّه عليهم ، فمسخوا خنازير ، ثمّ اجتمعت كلمتهم على قتله وصلبه كما سنشير إلى

ص: 156


1- . سورة الصف - آية 6 .
2- . سورة المائدة - آية 110 .

ذلك ، كما تقول الآية : وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (1) .

عيسى عليه السلام لم يدّعي غير الرّسالة الإلهيّة

عيسى عليه السلام لم يدّعي غير الرّسالة الإلهيّة (2)

نستفيد من الآية المباركة ومن بيان عيسى عليه السلام أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرّسالة بين نبيَّين وكتابَين واُمّتَين ، فقد سبقته رسالة موسى عليه السلام وكتابه ، وستليه رسالة الإسلام على يد النّبي العظيم محمّد صلى الله عليه و آله .

ومن هنا نلاحظ أنّ عيسى عليه السلام لم يكن يدّعي غير الرّسالة الإلهيّة وفي مقطع زمني خاصّ ، وأنّ ما نسب إليه من الاُلوهيّة ، أو أنّه ابن (اللّه) كان كذباً وافتراء محضا .

وبالرغم من أنّ قسماً من بني إسرائيل قد آمنوا بالرّسول الموعود ، إلّاأنّ الأكثريّة الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه ، ممّا دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة ، وذلك ما يجسّده قوله تعالى : فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ .العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرّسول العظيم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم قبل مشركي العرب ،وتركوا أوطانهم شوقاً إلى لقائه والإيمان به ، حيث استقرّوا في المدينة ترقّباً لظهوره ولإجابة دعوته ... إلّاأنّ المشركين قد سبقوهم إلى الإيمان بالرّسول الموعود وبقي الكثير من اليهود على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له . ذهب بعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير في فَلَمّا جاءَهُمْ إلى رسول الإسلام (محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ) كما أوضحناه أعلاه ، إلّاأنّ قسماً آخر يرى أنّه يعود إلى السيّد المسيح عليه السلام ، أي عندما أتاهم المسيح بالمعاجز الواضحة أنكروها وادّعوا أنّها سحر . ومن خلال ملاحظة ومراجعة الآيات اللاحقة لهذه الآية مثل آية : وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (3) يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أصحّ حيث يتركّز

ص: 157


1- . سورة النساء - آية 157 .
2- . الأمثل ، ج18 ، ص285 - 288 .
3- . سورة الصف - آية 7 .

الحديث فيها على رسالة الإسلام ورسوله الكريم .

بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا)

ممّا لا شكّ فيه أنّ (التوراة والإنجيل) اللذين بأيدي اليهود والنصارى ليسا من الكتب السماويّة التي نزلت على الرّسولين الإلهيّين العظيمين (موسى وعيسى عليهما السلام ) ، إذأنّها (كتب) ألّفها وجمعها بعض أصحابهم أو من أتى بعدهم .

إنّ مطالعة إجماليّة لها تكشف هذه الحقيقة بوضوح ، كما أنّ اليهود والمسيحيّين لاينكرون ذلك ، وممّا لا شكّ فيه أنّ قسماً من تعاليم (موسى وعيسى عليهما السلام ) قد ثبتت في هذه الكتب من خلال أقوال أتباعهم وحواريّيهم ، ولذا فلا يمكن اعتبار كلّ ما ورد في العهدالقديم (التوراة والكتب الاُخرى المتعلّقة به) ، وكذلك العهد الجديد (الإنجيل وما يرتبطبه) مقبولًا وصحيحاً ، كما لا يمكن رفض وإنكار جميع ما ورد فيها أيضاً .

والموقف المناسب ممّا ورد فيهما هو اعتبار ما جاء فيها من التعاليم خليطاً من تعاليم النبيّين (موسى وعيسى عليهما السلام ) وأفكار أتباعهما الآخرين .

وعلى كلّ حال فإنّنا نلاحظ تعبيرات عديدة فيها حول البشارة بظهور رجل عظيم لا تنطبق أوصافه وعلاماته إلّاعلى نبيّ الإسلام الكريم صلى الله عليه و آله و سلم .

وجدير بالذكر بالإضافة إلى ما تقدّم من وجود النبؤات التي وردت في هذه الكتب والتي تنطبق على شخص الرّسول الأعظم ، فقد وردت في إنجيل (يوحنا) كلمة(فارقليط) (1) ثلاث مرّات ، وحينما ترجمت كانت بمعنى (المُعَزِّي) لنقرأ النصّ في إنجيل يوحنّا ، قال عيسى : «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد» (2) .

وجاء في الباب الذي بعده : «ومتى جاء المعزّي الذي ساُرسله أنا إليكم من الأب

ص: 158


1- . جاء هذا التعبير في إنجيل عربي طبع في لندن في مطبعة ويليام وطسس سنة 1857 م .
2- . إنجيل يوحنا باب 14 ، جملة 16 .

وروح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» (1) .

وجاء في الباب الذي يليه ما نصّه ، عن لسان عيسى : «لكنّي أقول لكم الحقّ أنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (2) .

والجدير بالذكر أنّ في المتن السرياني للأناجيل المأخوذة من الأصل اليوناني جاء بدل كلمة (المسلّي) (پارقليطا) . أمّا في المتن اليوناني فلقد جاء (پيركلتوس) وهوبمعنى الشخص (الممتدح) من منظور الثقافة اليونانيّة وتعادل (محمّد ، أحمد) .

لقد شعر أسياد المعابد والكنيسة أنّ انتشار هذه اللفظة يوجّه ضربة قاصمة وشديدة إلى كيانهم ومؤسساتهم ، لذا فقد كتبوا (پاراكلتوس) بدل (پيركلتوس) والتي هي بمعنى(المسلّي) . ومع هذا التحريف الواضح الذي غيّروا فيه هذا النصّ الحيّ إلّاأنّهم لم يستطيعوا إلغاء البشارة الصريحة بظهور نبي عظيم في المستقبل . وإليك هذه القصّة وهي شاهدٌ حيٌّ لأحد القساوسة المعروفين الذي أكّد بأنّ «البشارة» كانت حول شخص باسم أحمد ومحمّد (3) :

إنتقال قسّيس مسيحي كبير إلى الإسلام

إنتقال قسّيس مسيحي كبير إلى الإسلام (4)

وهو المسمّى «فخر الإسلام» الذي كان من كبار قساوسة المسيحيّين ، وتتلمذ على يد علمائهم حتّى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنيسيّة يتحدّث في مقدّمة كتابه«أنيس الأعلام» عن انتقاله من المسيحيّة إلى الإسلام فيقول :

«... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن ، عثرت على قسّيس كبير متميّزفي زهده وتقواه ، كان يرجع إليه الكاتوليك بما فيهم سلاطينهم ، تعلّمت عليه زمناً مذاهب

ص: 159


1- . إنجيل يوحنا ، باب 15 ، جملة 26 .
2- . إنجيل يوحنا ، باب 17 ، جملة 7 .
3- . تفسير الأمثل نقلاً عن الفرقان في تفسير القرآن - ج27 و28 ص306 .
4- . ذكر هذه الحادثة صاحب تفسير الأمثل حفظه اللّه في ج1 ، ص188 - 190 .

النصارى ، وكان له طلّاب كثيرون ، ولكنّه كان ينظر إليّ من بينهم نظرة خاصّة ، وكانت كلّ مفاتيح البيت بيدي ، إلّامفتاحاً واحداً لغرفة صغيرة احتفظ به عنده ...

وفي يوم اعتلّت صحّة القسيس ، فقال لي : قل للطلّاب إنّي لا أستطيع التدريس اليوم . حينما جئت الى الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى «فارقليطا» في السريانيّة ، و«پريكتلوس» في اليونانيّة ... واستمرّ بينهم النقاش ، وكلّ كان يدلي برأيه ...

بعد أن عدت إلى الاُستاذ سألني عمّا كان يدور بين الطلّاب ، فأخبرته ، فقال لي :وما رأيك ؟

قلت : اخترت الرأي الفلاني .

قال القسيس : ما قصّرت في عملك ، ولكن الحقّ غير ذلك . لأنّ حقيقة هذا الأمر لايعلمها إلّاالرّاسخون في العلم ، وقليل ما هم .

أكثرت في الإلحاح عليه أن يوضّح لي معنى الكلمة ، فبكى بكاءً مرّاً وقال : لم أخف عليك شيئاً ... إن لفهم معنى هذه الكلمة أثراً كبيراً ، ولكنّه إن انتشر فسنتعرّض للقتل ! فإن عاهدتني أن لا تفشيه فسأخبرك ... فأقسمت بكلّ المقدّسات أن لا أذكر ذلك لأحد ، فقال : إنّه اسم من أسماء نبي المسلمين ، ويعني «أحمد» و«محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم .

ثمّ أعطاني مفتاح الغرفة وقال : افتح الصندوق الفلاني ، وهاتِ الكتابين اللَّذين فيه ، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانيّة والسريانيّة على جلد ، ويعودان إلى عصر ما قبل الإسلام .

الكتابان ترجما «فارقليطا» بمعنى أحمد ومحمّد ، ثمّ أضاف الاُستاذ : علماءالنصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أنّ «فارقليطا» بمعنى «أحمد ومحمّد» ، ولكن بعدظهور محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ، غيّروا هذا المعنى حفظاً لمكانتهم ورئاستهم وأوّلوه ، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإطلاق هدف صاحب الإنجيل يعني عيسى عليه السلام .

سألته عمّا يقوله بشأن دين النصارى ؟

قال : لقد نسخ بمجيء الإسلام ، وكرّر ذلك ثلاثاً .

ص: 160

ثمّ قلت : ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا ؟

قال : إنّما هي باتّباع محمّد صلى الله عليه و آله و سلم .

قلت : وهل التابعون له ناجون ؟

قال : إي واللّه ، وكرّر ذلك ثلاثاً .

ثمّ بكى الاُستاذ وبكيت كثيراً ثمّ قال : إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين الحق ... وأنا أدعو لك دائماً ، شرط أن تكون شاهداً لي يوم القيامة أنّي كنت في الباطن مسلماً ، ومن أتباع محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ... وما من شك أنّ الإسلام هو دين اللّه اليوم على ظهرالأرض» .

وكما يلاحظ فإنّ هذه الوثيقة الهامّة تصرّح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد ظهورنبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من تحريف لتفسير اسم النّبي وعلاماته ، تحقيقاً لمصالحهم الشخصيّة .

ويجدر الانتباه إلى نصّ ما ورد في هذا الصدد في دائرة المعارف الفرنسية المترجمة حيث يقول :

(محمّد مؤسّس دين الإسلام ورسول اللّه وخاتم الأنبياء ، إنّ معنى كلمة (محمّد)تعني المحمود كثيراً وهي مشتقّة من (الحمد) والتي هي بمعنى التجليل والتمجيد ، وتشاءالصدفة العجيبة أن يذكر له إسم آخر من نفس الأصل (الحمد) ترادف لفظ (محمّد) يعني(أحمد) ويحتمل إحتمالًا قويّاً أنّ مسيحي الحجاز كانا يطلقون لفظ (أحمد) بدلًا عن(فارقليطا) .

و(أحمد) يعني : الممدوح والمجلّل كثيراً وهو ترجمة لفظ : (پيركلتوس) والذي وضع بديلًا عن لفظ (پاراكلتوس) إشتباهاً ، ولهذا فإنّ الكُتّاب المسلمين الملتزمين قدأشاروا مراراً إلى أنّ المراد من هذا اللفظ هو البشارة بظهور نبي الإسلام ، وقد أشارالقرآن الكريم - أيضاً - بوضوح إلى هذا الموضوع في سورة الصف التي تلوناها عليكم اوّل المجلس .

وخلاصة البحث أنّ المقصود ب (فارقليطا) ليس روح القدس أو المسلّي ، بل هو

ص: 161

يعادل لمفهوم (أحمد) ، لذا يرجى الإنتباه إلى ذلك (1) .

هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد) ؟

إنّ الإسم المعروف للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو (محمّد) (2) والسؤال الذي يطرح هناأنّ الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد) ، فكيف يمكن التوفيق بين هذين الإسمين ؟

وللإجابة على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى النقاط التالية :

أ - جاء في كتب التأريخ أنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إسمين منذ الطفولة ، حتّى أنّ الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (أحمد) والآخر (محمّد) ، الأوّل اختاره له جدّه عبدالمطّلب والآخر اختارته امّه آمنة .

وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيليّة في سيرة الحلبي .

ب - والمعروف أنّ من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باسم(أحمد) هو عمّه أبوطالب ، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعاراً كثيرة يذكرفيها الرّسول الكريم بهذا الإسم كما في البيت التالية :

أرادوا بقتل أحمد ظالموهم *** وليس بقتله فيهم زعيم

والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلًا عن (محمّد) كثيرة ، ولا يوجد مجال لذكرها جميعاً لذا فإنّنا سننهي هذا البحث بما ورد من شعر علي بن أبي طالب عليه السلام :

أتأمرني بالصّبر في نصر (أحمد) *** وواللّه ماقلت الذي قلت جازعاً

سأسعى لوجه اللّه في نصر (أحمد) *** نبي الهدى المحمود طفلًاويافعاً (3)

ج - إنّ المتتبّع للرّوايات التي جاءت حول معراج الرّسول كثيراً ما يلاحظ أنّ اللّه

ص: 162


1- . الأمثل ، ج1 ، ص190 .
2- . الأمثل ، ج18 ، ص290 - 291 .
3- . الغدير - ج7 ص358 .

سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة ب (أحمد) ومن هنا يمكن القول أنّ النبي قد اشتهر في السماء ب (أحمد) وفي الأرض ب (محمّد) .

وجاء في حديث عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام في هذا الشأن «إنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عشرة أسماء ، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن ؛ فأمّا التي في القرآن : محمّد ،وأحمد ، وعبداللّه ، ويس ، ون» .

د - عدم إعتراض أهل الكتاب - وخاصّة النصارى منهم - على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من هذه الناحية ، حيث لم يقولوا له : بعد سماع المشركين وسماعهم آيات سورة الصفّ :إنّ الإنجيل قد بشّر بمجيء (أحمد) وأنت اسمك (محمّد) وعدم الإعتراض هذا دليل على شهرة هذا الإسم بينهم ، ولو وجد مثل هذا الإعتراض لنقل لنا ، خاصّة أنّ مختلف الإعتراضات قد دوّنت في كتب التأريخ صغيرها وكبيرها .

لذا نستنتج من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان أحد الأسماءالمعروفة لرسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم .

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

ولا بأس بختام المجلس بمناسبة هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي والذي صادف في الثالث عشر من شهر رمضان كما في كتاب وقائع الشهور والأيّام وكان ذلك عام95 ه (1) .

فلقد ورد فيما ورد في أخبار الحجّاج الشيء الكثير من مفاسده فمن ذلك ما جاءفي تاريخ المسعودي أنّ الحجّاج امّه القارعة ولدته مشوّها . وإنّه أبى أن يقبل ثدي امّه فلطخ له بالدم فقبله . ومن ذلك كان يحبّ سفك الدّماء (2) .

ومظالمه مشهورة في الحجاز يوم كان والياً عليها ، ولذلك فإنّه وصل خبر ولايته

ص: 163


1- . تاريخ اليعقوبي - ج3 ص36 .
2- . مروج الذهب - ج2 ص149 .

إلى أهل الكوفة فخطبهم غضبان التبعري الشيباني وحثّهم أن يقتلوه في الطريق قبل أن يصل ، وقال لهم فيما قال : تغدوا به قبل أن يتعشّى بكم . فقام إليه رجل وقال له : إنّنا بعد لم نر سيرته .

ولمّا جاء الحجّاج وفتك بهم أمر بإحضار غضبان الشيبابي وقال له : أنت صاحب الكلمة الخبيثة ، ثمّ أمر بضربه وسجنه وتعذيبه .

وكان سجن الحجّاج ليس عليه سقف وإذا استظلّ المسجونون بالجدار رشقهم الموكّلون بهم بالحجارة . وكان يخلط لهم الخبز بالرماد فكان المسجون إذا لبث قليلًا في سجنه تغيّر واسودّ لونه (1) .

حتّى أنّ غلاماً اطلق بعد مدّة قضاها في سجنه فلم تعرفه امّه ، ولمّا عرفته شهقت شهقة وماتت .

وقد بلغ عدد الذين قتلهم الحجّاج عشرين ألفاً ، وقيل ماءة وعشرين ألفاً عداالذين قتلوا في حروبه . وكان آخر من قتل سعيد بن جبير وكان من الصلحاء المعروفين لا ذنب له سوى طيب ذاته ولم يدفع الحجّاج إلى قتله سوى خبث ذاته.

حتى قال لسعيد بن جبير : ما اسمك ؟

قال : سعيد بن جبير .

قال : بل شقي بن كسير .

قال سعيد : امّي أعرف باسمي ، سمّتني سعيد بن جبير .

قال الحجاج : ما تقول في أبي بكر وعمر ؟ أهما في الجنّة أو في النّار ؟

قال سعيد : لو دخلت الجنّة فنظرت من فيها أو النّار لعلمت ذلك .

قال الحجّاج : ما قولك في الخلفاء ؟

قال : لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (2) . قال الحجّاج : أيّهم أحبّهم إليك ؟ قال سعيد : .

ص: 164


1- . نفس المصدر .
2- . سورة الأنعام - آية 66 .

أرضاهم لخالقه . قال : فأيّهم أرضى لخالقه ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم . قال الحجّاج : أبيت أن تصدّقني . قال سعيد : لم أحب أن اكذّبك . قال الحجاج :لأقتلنّك فاختر أيّ قتلة شئت .

قال سعيد : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (1) .

فلمّا أمر بقتله قال سعيد : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (2) .

قال الحجّاج : شدّوا به لغير القبلة .

فقال : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (3) .

فقال : كبّوه على وجهه .

قال سعيد : مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (4) .

قال : خلف بن خليفة : حدّثني بوّاب الحجّاج : إنّه لمّا سقط رأس سعيد بن جبيركان يقول : لا إله إلّااللّه .

وكان قتله رحمه الله بمدينة واسط وبها قبره يزار هناك .

وهلك الحجّاج بعده بأشهر كما في صحيح البخاري عند ذكره لسعيد بن جبير رحمه الله ذلك لأنّ سعيد دعا اللّه تعالى على أن لا يسلّط الحجّاج على أحد بعده ، فاستجاب اللّه دعاءه .

وهلك الحجّاج بقرحة حدثت في بطنه فلقي منها مرّ العذاب حتّى هلك وكان عنداحتضاره ينادي : مالي ومال من قتلت ؟ مالي ومال سعيد بن جبير ؟ أنقذوني من سعيد بن جبير . فكان يتراءى له فيأخذ بخناقه حتّى هلك . .

ص: 165


1- . سورة آل عمران - آية 185 .
2- . سورة الأنعام - آية 79 .
3- . سورة البقرة - آية 115 .
4- . سورة طه - آية 55 .

وليس للحجّاج قبر يزار ، وذكره مقرون بالعار واللعن والشنار ، ذلك بما كسبته يداه .

وكان من كرامات اللّه لسعيد بن جبير أن جعله أحد الثلاثة الذين تكلّموا بعدالموت وهم : رأس يحيى بن زكريّا عليهما السلام ، ورأس الحسين عليه السلام ، ورأسه (1) .

وأفضلهم رأس ابن بنت محمّد ووصيّه حيث كان يتلو القرآن وهو على الرمح : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (2) .

رأس الحسين عليه السلام يُطاف به في أزقّة الكوفة

قال في معالى السبطين : أمر ابن زياد برأس الحسين عليه السلام فطيف به في سكك الكوفة كلها وقبائلها ، قال زيد ابن أرقم : مرّ عليَّ برأس الحسين عليه السلام وهو على رمح وأنافي غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (3) فوقف واللّه شعري وناديت : رأسك واللّه يابن رسول اللّه وأمرك أعجب وأعجب !! فلما فرغ القوم من التطواف به في الكوفة ردّوه الى باب القصر .

وفي تظلّم الزهراء عليها السلام عن الحارث بن وكيدة قال : كنت فيمن حمل رأس الحسين عليه السلام فسمعته يقرأ سورة الكهف فجعلت اشك في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبداللّه عليه السلام يابن وكيدة أما علمت أنا معاشر الأئمّة أحياء عند ربّنا نرزق ؟ قال : فقلت في نفسي : أسرق رأسه عليه السلام وادفنه ، فنادى : يابن وكيده ليس لك إلى ذلك سبيل سفكهم دمي أعظم عند اللّه من تسييري على الرمح .

راسُ ابن بنتِ محمّدٍ ووصيِّهِ *** للنَّاظِرينَ على قَناةٍ يُرفَعُ

ص: 166


1- . الواعظ لكلّ متّعظ عن رجال الكشي وتهذيب الأسماء واللغات - ج3 ص316 .
2- . يقول زيد بن أرقم الصحابي : لمّا سمعت الصوت أخرجتُ رأسي من الروشن متّجهاً إلى الصوت وإذا به ينطق من رأس خضيب بالدماء محمول على قناة طويلة وفي اذنه رقعة كتب عليها : هذا رأس الحسين بن علي ، فضرب زيد رأسه بيده وخاطب رأس الحسين قائلًا : سيّدي رأسك أعجب وأعجب .
3- . سورة الكهف - الآية 9 .

والمسلمونَ بمسمعٍ وبمنظرٍ *** لا مُنكِرٌ منهم ولا مُتفجِّعُ

كَحلت بمنظرِكَ العيونُ عَماية *** واصَمَّ رزؤُكَ كلَّ اذنٍ تَسمعُ

ماروضة إلاَّ تمنَّت أنها *** لكَ حُفرةٌ ولِخَطِّقبرِكَ مضجعُ

وكان رأس الحسين عليه السلام يلتفت الى حامله فيخاطبه وهو في الطريق (فرّقت بين رأسي وبدني فرّق اللّه بين لحمك وعظمك وجعلك آية ونكالاً للعالمين) فيرفع السوطويضرب الرأس الشريف حتى يسكت هذا وزينب بنت علي تسمع وترى كل ذلك (1) ، فمايكون حال زينب كأنّي بها تخاطبه :

أخي إنّ حزني لا يُقاسُ بغيرهِ *** عليكَ ولاوَجدِي يُقابلُهُ وجدُ .

ص: 167


1- . معالي السبطين - مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم .

المجلس الرابع عشر: مناسبة شهادة المختار بن أبي عبيدة الثقفي في الرابع عشر من شهر رمضان

اشارة

ولما دعا المختار للثار أقبلت *** كتائب من اشياع آل محمّد

وقد لبسوا فوق الدُّروع قلوبهم *** وخاضوا بحار الموت في كل مشهد

هم نصروا سبط النبي ورهطه *** ودانوابأخذ الثار كلَّ ملحد

ففازوا بجنات النعيم وطيبها *** وذلك خيرٌ من لُجين وعَسجد

ولوانّني يوم الهياج لدى الوغى *** لأعملت حدَّالمشرفيِّ المهند

فوا اسفا اذ لم اكن من حماته *** فاقتل فيهم كلَّ باغ ومُعتد (1)

ص: 168


1- . للعلامة الشيخ باقر المجلسي ، البحار ، ج45 ، ص368 .

من خُطبةٍ لِسيِّدِنا وإمَامَنا أبي عبدِاللّهِ الحُسين يومَ عاشُوراءِ ، قال عليه السلام :

« اللّهمُّ احبِسْ عنهُم قَطَر السماءِ وابعَثْ عليهم سِنين كسِنيِّ يوسُف وَسلِّط عَلَيهم غُلامَ ثقيف فيسومُهم كأساً مُصبرة فلا يَدعُ أحَداً منهُم إلّاقَتَلَه فإنّهُم كَذَّبُوناوخذلونا وأنتَ ربُّنا عَليكَ توكّلنا وإليك أَنَبنا وإليك المصير » (1) .

خصصنا مجلس هذا اليوم لذكر ثمرة من ثمرات ثورة أبي عبداللّه الحسين عليه السلام وهذه الثمرة هي ثورة المختار بن أبي عبيدة بن مسعود بن عمر الثقفي .

ولا يخفى أنّ هذه الثورة وكثير من الثورات الإصلاحيّة والدينيّة التي وقعت في التاريخ اكتنفتها بعض الشبهات والأباطيل وهذا شيء طبيعيّ لأنّه ثورة تنتقم من الظالمين وتستأصل شأفة المجرمين الذين تلطّخت ايديهم بدماء أهل البيت عليهم السلام فمن الطبيعي أن تلفّق هكذا أباطيل في حقّ المختار والذي قتل ثمانية عشر ألف إنسان خلال فترة حكمه البالغة ثمانية عشر شهراً ، يعني أدخل في كلّ بيت واعية ، فطبيعي التاريخ لا يقف منه موقف الرضا بل يقف منه موقف حاقد متشنّج يحمل عليه حملات شديدة ويتّهمونه اتّهامات عديدة وبالأخص إذا كان التاريخ بيدي أعداءه وأعداء أهل البيت من بني اميّة .

تنزيه المختار من التّهم

لفّق أشياع بني اميّة وأرباب الأقلام المأجورة وأهل الجهل والعصبيّة أخباراً كثيرةً في ذمّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله ، وافترى عليه من افترى منهم ، ودسّوا فيه أخباراًكاذبة وقضايا مختلفة هو منها بريء وكلّما لفّقوه واختلقوه هو إزاء نضاله وبلائه دون عقيدته والأخذ بثار سيّدالشهداء ومقاومته للحكومة الأمويّة لا أكثر ، وكلّما ذكروه في ذمّه عار من الحقيقة ، فمما ذكروه :

أنّه ادّعى النبوّة وأنّه يأتي إليه جبرئيل وكما ذكر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل : إنّ المختار له كُرسي معيّن وهو شبيه تابوت بني إسرائيل فيه آثار النبوّة وقضاياالوحي وغير ذلك من المنسوجات الغريبة حتّى تأثّر بعض كتّاب الشيعة مع الأسف مثل

ص: 169


1- . منتهى الآمال - ج1 ص637 .

أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من شعراء الغدير ذكر ترجمته العلّامة الأمين في المجلّدالثاني ص329 فكان متأثّر بهذه الدّعايات حتّى قال في بعض أبياته في ذمّ المختار :

فشفاهم المختار منه ولم يكن *** في دينه المختار بالمختاري

وعلى كلّ حال حاشاه من هذا الإفتراء بل كان يدّعي بإمامة السجّاد زين العابدين عليه السلام ويدعو النّاس أيضاً إلى إمامة السجّاد ، فلو كان يدّعي الوحي لما كان يدعوالنّاس إلى إمامة السجّاد ، وهو الذي أرسل للسجّاد عليه السلام مالًا كثيراً وأرسل للإمام أيضاًحوريّة ام زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام .

أحد المحقّقين يقول : لقد اطّلعت على ما ورد في المختار من أنباء وأخباروقارنت بينها فرأيت أنّ من ذمّه أكثر ممّن مدحه وهذا شيء طبيعي لأنّ المختار وترالأبعدين والأقربين في اللّه وفي سبيل ابن بنت رسول اللّه .

ومنها أنّهم ذكروا أنّه أرسل إلى السجّاد عليه السلام بمائة ألف درهم ، وكره السجّاد أن يقبلها منه .

وعلى فرض صحّة الرواية يجوز أنّ الإمام عليه السلام لمّا ورد عليه المال من المختار ولم يقبله كان خوفه من السلطة الجائرة من حكومة عبدالملك بن مروان ، فاتّقى الإمام في ذلك ، وإلّا كيف قبل تلك الحوريّة ام زيد بن علي بن الحسين وأموالًا معها (1) .

ومنها قالوا : أنّ الإمام علي بن الحسين عليه السلام لعنه ، وهذا كلام كذب موضوع على الإمام غير معقول في مذهبنا ، كيف يلعن الإمام شخصاً مسلماً موحّداً أخذ بأثر أبيه الحسين وأهل بيته عليهم السلام ويقول بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ويعترف بالبعث والنشر ، بل خلافاً لهذه الرواية رواية أبي سدير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : لا تسبّوا المختار ، فإنّه قتل قتلتناوطلب بثارنا ، وزوّج أراملنا ، وقسّم المال فينا على العسرة .

وروي مثله عن عبداللّه بن شريك ، قال : دخلنا على أبي جعفر عليه السلام يوم النحر ، وهومتّكىء ، وقد أرسل إلى الحلّاق فقعدت بين يديه إذ دخل شيخ من أهل الكوفة فتناول يده ليقبّلها فمنعه ، ثمّ قال الشيخ : أنا أبو محمّد الحكم بن المختار ابن أبي عبيدة ، وكان .

ص: 170


1- . ثمرات الأعواد ، ج2 ، ص150 .

متباعداً عن أبي جعفر ، فمدّ يده إليه حتّى كاد يقعده في حجره بعد منعه يده ، ثمّ قال :أصلحك اللّه إنّ النّاس قد أكثروا في أبي ، والقول واللّه قولك .

قال الإمام عليه السلام : وأيّ شيء يقولون ؟

قال : يقولون كذّاب ، ولا تأمرني بشيء إلّاقبلته .

فقال عليه السلام : سبحان اللّه ، «أخبرني أبي واللّه أنّ مهر امّي كان ممّا بعث به المختار ،أولم يبن دورنا ، وقتل قاتلنا ، و طلب بدمائنا ، رحم اللّه أباك رحم اللّه أباك ، ما ترك لناحقّاً عند أحد إلّاطلبه ، قتل قتلتنا وطلب بدمائنا» (1) .

فهذه الروايات كلّها واردة في حقّه والرحمة عليه ، معناه رضى الأئمّة عليه ،ورضى الأئمّة رضى اللّه تعالى ، أضف إلى ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال : رأيت المختار على فخذ أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يمسح على رأسه ويقول : «يا كيس يا كيس» (2)ونحن نعتقد بأنّ أميرالمؤمنين عليه السلام يعلم مآل المختار وعاقبة أمره ، فلو كان ذلك كما ذكروالما أجلسه أميرالمؤمنين عليه السلام في حجره ومسح على رأسه ، ولما قال هذه المقالة وتلطّف معه ، وعلي أميرالمؤمنين عليه السلام لا يخفى عليه أمر المختار ، ودعاء ابن الحنفيّة له أيضاًيوضّح لنا حبّه له ، وحبّ محمّد له من حبّ الأئمّة عليهم السلام ، وذلك لمّا أرسل الرؤوس إلى السجّاد عليه السلام ونظر إليها محمّد بن الحنفيّة خرّ ساجداً ودعى للمختار وقال : جزاه اللّه خيرالجزاء فقد أدرك ثأرنا ووجب حقّه على كلّ من ولده عبدالمطّلب بن هاشم (3) .

نعم ، شفى قلوب أهل البيت بأخذه الثار من أعدائهم وشفى غليله من أعدائهم .

ص: 171


1- . ثمرات الأعواد ، ج2 ، ص151 .
2- . ذهب بعض الناس إلى تسمية المختار بكيسان ، حيث أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال له : يا كيس ، هذا قول ،وقيل : هذه النسبة التي لحقت بالمختار من صاحب شرطته ، حيث كان اسمه كيسان ، سمّي باسم كيسان ، مولى علي بن أبي طالب المكنّى بأبي عمرة ، وهو الذي كان يدلّه على قتلة الحسين عليه السلام وكان صاحب سرّه والغالب على أمره ، وكان لا يبلغه شيء عن رجل من أعداء الحسين عليه السلام في دار أو موضع إلّاقصده وهدم داره بأسرها ، وقتل كلّ من فيها من ذي روح ، وكان أهل الكوفة يضربون به المثل ، فإذا افتقد منهم أحد قالوا : دخل بيته أبو عمرة ، يعنون بذلك كيسان صاحب المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله .
3- . نفس المصدر السابق ، ص152 .

و كان يأخذ بثأرهم ويقتل أعدائهم فكان يقتلهم وهو يبكي كلّ ذلك حزناً على أبي عبداللّه الحسين عليه السلام .

قصّة قيام المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله

لمّا أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة كان نزول مسلم بن عقيل في دارالمختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وتذاكر الناس أمر المختار ، ثمّ ألقى ابن زياد القبض على المختار لأنّه أعان مسلم بن عقيل في أخذ البيعة للحسين عليه السلام ، ولمّا دخل عليه رفع القضيب واعترض وجه المختار فخبط به عينه فشترها ، وقال : أولى لك ، أمَ واللّه لولاشهادة عمرو بن حريث لك لضربت عنقك ، انطلقوا به إلى السجن ، فانطلقوا به إلى السجن ، ولم يزل محبوساً حتّى قُتل الحسين عليه السلام .

ولمّا قتل الحسين عليه السلام وجيء برأسه إلى ابن زياد اخف الراس تحت السرير ، وأمربإخراج المختار من السجن ، فاُخرج من السجن وهو مكبّل بالحديد ، فجعل ابن زياديستهزىء عليه ، فقال له المختار : يابن زياد ! أتستهزىء عَليّ وقد قرب فرجي ؟

قال : من أين يأتيك الفرج يا مختار ؟

قال : بلغني أنّ سيّدي ومولاي الحسين عليه السلام قادماً إلى العراق وسيكون خلاصي على يده .

فقال له ابن زياد : خاب ظنّك ! إنّا قد قتلنا الحسين .

فقال المختار : صه ومَن يقدر على قتل سيّدي ومولاي ؟!

فعند ذلك أخرج ابن زياد رأس الحسين عليه السلام من تحت سريره .

فلمّا رآه المختار جعل يلطم على وجهه وهو ينادي : واحسيناه !

ثمّ أرجعه إلى السجن .

ثمّ إنّ المختار بعث إلى زائدة بن قدامة فسأله أن يسير إلى عبداللّه بن عمر بالمدينة- لأنّه زوج اخت المختار - فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية ، فكتب إلى يزيد بن معاوية بتخلية سبيله ، فركب زائدة إلى عبداللّه بن عمر ، فقدم عليه فبلّغه رسالة المختار ،وعلمت صفيّة اخت المختار بحبس أخيها ، فبكت وجزعت ، فلمّا رأى ذلك عبداللّه بن عمر كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد ... فإنّ عبيداللّه بن زياد حبس المختار

ص: 172

وهو صهري ، وأنا أحبّ أن يعافى ويصلح حاله ، فإن رأيت رحمنا اللّه وإيّاك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته ، والسلام عليك .

قال : فلمّا قرأه يزيد ضحك ، ثمّ قال : يشفع أبوعبدالرحمن وأهل لذلك هو ، فكتب إلى ابن زياد : أمّا بعد ... فخلّ سبيل المختار بن أبي عبيدة حين تنظر في كتابي ، والسلام عليك .

فأقبل به زائدة حتّى دفعه إلى ابن زياد ، فدعا ابن زياد المختار فأخرجه ، ثمّ قال له : قد أجّلتك ثلاثاً ، فإن أدركتك بالكوفة بعدها فقد برئت منك الذمّة .

فخرج المختار من الكوفة متوجّهاً إلى مكّة ، جاء إلى عبداللّه بن الزبير فسلّم عليه ،فردّ عليه السّلام ورحّب به وأوسع له ، وقال له : حدّثني عن النّاس بالكوفة يا أبا إسحاق .

قال : هم لسلطانهم في العلانية أولياء ، وفي السرّ أعداء .

وبقي المختار على هذا ونحوه بمكّة المكرّمة حتّى إذا جاء جيش يزيد بن معاوية بقيادة الحصين بن نمير السكوني - بعد وقع الحرّة في المدينة لقتال ابن الزبير حيث كان يدعو النّاس إليه وثار على الشام - وحاصر ابن الزبير ووقع القتال بين الفريقين ، فكان المختار يحارب جيش يزيد دفاعاً عن البيت ، ثمّ التفت في ذلك اليوم ، ونادى : يا أهل الإسلام ! إليّ إليّ ، أنا ابن أبي عبيدة بن مسعود ، وأنا ابن الكرّار لا الفرّار ، أنا ابن المقدمين غير المحجمين ، إليّ إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار ، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالًا حسناً ، ثمّ أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم احرق البيت (1)فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال ، فكان ليقاتل حتّى يتبلّد ثمّ يجلس ويحيط به أصحابه فإذا استراح نهض فقاتل ، فما كان يتوجّه نحو طائفة من أهل الشام إلّاضاربهم حتّى يكشفهم ، فما كان في ذلك اليوم رجلًا أحسن بلاءاً من المختار ، ولمّا انقضى الحصار بعد مجيء خبر هلاك يزيد ورجع جيش أهل الشام ، أقام مع ابن الزبير خمسة أشهر ، وخرج بعدها إلى الطائف ، ثمّ رجع إلى مكّة .

وكان أهل الكوفة قد اصطلحوا على عامر بن مسعود يصلّي بهم حتّى يجتمع الناس .

ص: 173


1- . احرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأوّل سنة 64 ه .

على إمام يرضونه ، وصار يطلب البيعة لابن الزبير ، ثمّ خرج المختار انذاك من مكّة متّجهاً إلى الكوفة لقيه رجل من همدان ، فقال له : حدّثني عن النّاس بالكوفة .

قال : هم كغنم ضلّ راعيها .

فقال : أنا المختار أنا أحسن رعايتها وأبلغ نهايتها .

ومرّ على حلقة همدان ، وعلى ثياب السفر ، فقال : أبشروا فإنّي قد قدمت عليكم بما يسرّكم ، ومضى حتى نزل داره .

ولمّا دخل المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة اجتمع عليه بعض الشيعة وكان آنذاك يجتمع الناس عند سليمان بن صرد الخزاعي وهو شيخ الشيعة وكان يتهيّأ للخروج على بني اميّة ، ولمّا خرج سليمان بالشيعة من الكوفة بقي المختار بها وقد اشتدّت شوكته وقوي أمره بالأخص لمّا التحق به إبراهيم بن مالك الأشتر.

فصار يطلب بثأر الحسين عليه السلام ، أجابه جماعة من أشراف أهل الكوفة ولبّوا نداءه ،فكان أوّل ما صنعه المختار حارب رؤساء الشرطة الذين كان قد وظّفهم عبداللّه بن مطيع (1) وجعلهم على أفواه السكك والطرقات ، ثمّ نادى منادي المختار : يا منصور أمت ،يالثارات الحسين عليه السلام ، فخرجوا من الدور يتداعون يالثارات الحسين ، وأقبلوا إلى المختار حتّى نزلوا معه في عسكره فتوافر إلى المختار في تلك الليلة ثلاثة آلاف وثمانمائة من إثني عشر ألفاً كانوا قد بايعوه .

ثمّ فتح اللّه على يد المختار وانهزم عبداللّه بن مطيع أمير الكوفة ووالي عبداللّه بن الزبير وقد أخلى قصر الإمارة فجاء ودخله وبات به وأصبح أشراف النّاس في المسجدوعلى باب القصر ، فخرج المختار وصعد المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه وخطب بهم .

ص: 174


1- . والي عبداللّه بن زبير ، الذي كان يدعوا لنفسه واختلف مع المختار واتفق مع أخيه مصعب بن الزبير -آوي قتلة الحسين في البصرة - على قتال المختار عن طريق الخداع وتصادم معه وبعد معارك عنيفة استشهد المختار في الرابع عشر من شهر رمضان كما ذكر القمي في كتابه وقائع الأيّام ، وقتل مصعب كلّ من أعطاه الأمان من أصحاب المختار وقتل امرأة المختار صبراً ، ثمّ إنّ مصعب لقي سوء المصير فإنّ أخاه عبداللّه بن الزبير لم يف له وقتله في وقعة دير الجماجم ودفن المختار جنب قبر مسلم بن عقيل لاصقاً مسجد الكوفة .

وأمرهم ببيعته ، فبايعوه ، وجعل يقول : تبايعوني على كتاب اللّه وسنّة نبيّه والطلب بدماءأهل البيت وجهاد المحلّين والدفاع عن الضعفاء ، قتال من قاتلنا الخ ؛ فبايعوه على ذلك (1) .

في ما فعله المختار بقتلة الحسين عليه السلام

ذكر أرباب التاريخ أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، لمّا ثار عليه أهل الكوفة وحاربهم ونصره اللّه عليهم وقتل منهم من قتل ، وأطلق من أطلق منهم ، فنادى آنئذمناديه : من أغلق بابه فهو آمن إلّامن شرك في دماء آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ، وتتبّع المختار قتلة الحسين عليه السلام ، فكانوا يؤتون حتّى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم أنواعاً من القتلات بمايناسب ما فعلوا في كربلاء ومنهم من أحرقه بالنار ، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتّى مات ، ومنهم من رمى بالنبال حتّى مات .

قال الراوي : وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممّن شهد قتل الحسين عليه السلام ، فركب راحلته وهرب فلا يدري أين يذهب ، وقيل : أدركه أصحاب المختار فذبحوه ، لعنه اللّه .

قال : وهرب شمر بن ذي الجوشن ، فبعث المختار في أثره غلاماً يقال له زريب ،كما روى ابن كثير : قال الطبري : فقتله شمر وسار ، وكتب إلى مصعب بن الزبير وهوبالبصرة يتذرّع بقدومه عليه ، وكان كلّ من فرّ من هذه الوقعة (وقعة الكوفة) يهرب إلى مصعب بالبصرة ، وبعث شمر الكتاب الذي كتبه إلى مصعب بن الزبير مع علج آخر ،وطلب منه أن يذهب إلى سيّده ، وكان أبو عمرة وهو صاحب المختار أرسله إلى قرية يقال لها الكلتانية ، ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة ، فقصده أبو عمرة ودلّه العلج على مكان شمر في قرية بإزاء قريته ، فلمّا كان الليل كابسه أبو عمرة وأصحابه فأعجلهم أن يلبسوا أسلحتهم ، وطاعنه شمر برمحه وهو عريان وكان أبرص ثمّ دخل خيمته ،واستخرج منها سيفاً ، فناضل به حتّى قتله أبو عمرة أقبح قتلة ، وقيل : ذبحه كما ذبح الحسين عليه السلام ، وألقى شلوه إلى الكلاب ، عليه اللعنة .

وعلى رواية : أخذه أسيراً وبعث به إلى المختار فضرب عنقه وأغلى له دهناً في

ص: 175


1- . ثمرات الأعواد ، ج2 ، ص112 .

قدر قذفه فيه فتفسّخ (1) .

وبعث المختار إلى خولي بن يزيد الأصبحي الذي رام أن يحزّ رأس الحسين عليه السلام فأرعد فخرجت إليهم امرأته فسألوا عنه ، فقالت : لا أدري أين هو ، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو فيه مختبٌ وهو بيت الخلاء ، وكانت تبغضه من الليلة التي قدم بها إليهاومعه رأسه الحسين عليه السلام ، واسمها «العيوف بنت مالك الحضرمي» ، فدخلوا فوجدوه قدوضع على رأسه قوصرة (2) فحملوه إلى المختار ، فأمر بقتله قريباً من داره وأن يحرق بعدذلك ، فقتلوه بجانب أهله ، ثمّ دعا المختار بنار فحرقه ، ولم يبرح المختار حتّى عادرماداً ، لعنه اللّه ، ثمّ انصرف إلى محلّه .

قالوا : ودُلَّ المختار على عبيداللّه بن أسيد الجهني ومالك بن النسر (3) وحمل مالك المحاربي بالقادسيّة فأحضرهم فأمر بقطع يدي مالك بن النسر ورجليه وتركه يضطرب حتّى مات ، وقتل الآخرين .

وأمر بإحضار حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي وكان هذا اللعين رمى الحسين عليه السلام بسهم وكان يقول : تعلّق سهمي بسرباله وما ضرّه ، وأصاب سَلَب العبّاس بن علي عليهما السلام (4)،قال الراوي : فاستغاث أهله بعدي بن حاتم ، فازدحم عليه الشيعة وقتلوه قبل أن يصل إلى المختار خوفاً من شفاعة عدي ، فرموه بالسهام حتّى صار كالقنفذ فهلك عليه اللعنة .

وبعث المختار على مرّة بن منقذ العبدي ، قاتل عليّ بن الحسين الأكبر عليه السلام فأحاطوا بداره فدافع عن نفسه فضرب على يده اليسرى ونجا منهم لمّا هرب ، ثمّ لحق بمصعب بن الزبير وقد شلّت يده .

وأرسل المختار على زيد بن ورقاء الذي قتل عبداللّه بن مسلم بن عقيل عليه السلام ، فلمّاأحاط الطلب بداره خرج يقاتلهم ودافع بالسيف عن نفسه فرموه بالنبل والحجارة حتّى .

ص: 176


1- . كما تدين تدان - ص98 عن كتاب أصدق الأخبار .
2- . القوصرة وعاء يكون من سعف النخيل للتمر .
3- . مالك بن النسر هو الذي ضرب الحسين عليه السلام بسيفه وكان على رأس الحسين عليه السلام برنسا فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه السلام : لا أكلت بيمينك ولا شربت بها .
4- . أي حصل على ما كان على أبي الفضل عليه السلام من درعٍ وثياب وغيره .

سقط وأحرقوه حيّاً ، عليه لعنة اللّه .

وأرسل المختار خلف محمّد بن الأشعث وكان في قرية إلى جنب القادسيّة ،فأرسل إليه المختار مائة رجل وأحاطوا بقصره ، فخرج منه محمّد بحيث ما رآه أحدولحق بمصعب بن الزبير ، فعمد المختار إلى داره بالكوفة فهدمها .

وطلب عمرو بن صبيح الصيداني وكان يقول : إنّي طعنت برمحي يوم عاشوراوجرحت وما قتلت منهم أحداً ، فاُحضر عند المختار وأمر به فطعن بالرماح حتّى هلك ،عليه اللعنة .

وطلب آخرين من المتّهمين بقتل الحسين عليه السلام فوجدهم قد هربوا إلى البصرة ولحقوا بمصعب بن الزبير ، فأمر المختار بهدم دورهم وهكذا صنع بكلّ من هرب من هؤلاء إلى البصرة والجزيرة فهدّمت داره حتّى روي أنّه قتل ثمانية عشر ألفاً ممّن شرك في قتل الحسين عليه السلام (1).

هلاك عمر بن سعد عليه اللعنة

قال الراوي : فلمّا خلا المختار خاطره وانجلى ناضره اهتمّ بعمر بن سعد وابنه حفص ، حدّث عمرو بن الهيثم قال : كنت جالساً عن يمين المختار والهيثم بن الأسود عن يساره ، فقال : واللّه لأقتلنّ رجلًا عظيم القدمين ، غاير العينين ، مشرف الحاجبين ، يهمزالأرض برجله ، يرضي قتله أهل السماء والأرض .

فسمع الهيثم قوله ووقع في نفسه أنّه أراد عمر بن سعد ، فبعث ولده العريان فعرّفه قول المختار في عمر بن سعد .

وكان عبداللّه بن جعدة بن هبيرة أعزّ النّاس على المختار وقد أخذ لعمر أماناً من المختار حيث اختفى فيه وصورة الأمان هكذا : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا أمان المختار بن أبي عبيدة الثقفي لعمر بن سعد بن أبي وقاص ، إنّك آمن بأمان اللّه على نفسك وأهلك ومالك وولدك لا تؤاخذ بحدث كان منك قديماً ما سمعت وأطعت ولزمت منزلك إلّا أن تحدث حدثاً ، فمن لقى عمراً من شرطة اللّه وشيعة آل محمّد فلا يتعرّض له بسبيل

ص: 177


1- . ثمرات الأعواد ، ج2 ، ص139 .

خير والسلام ، ثمّ شهد فيه جماعة .

قال الباقر عليه السلام : إنّما قصد المختار أن يحدث حدثاً هو أن يدخل بيت الخلاءويحدث .

وفي رواية : إنّ المختار علم بخروجه من الكوفة ، فقال : وفينا وغدر وفي عنقه سلسلة لو جهد أن ينطلق ما استطاع ، فنام عمر على الناقة فرجعت به إلى الكوفة ، وهو لايدري حتّى ردّته إلى منزله .

قال : وأرسل عمر بن سعد ابنه حفص إلى المختار ، فقال له المختار : أين أبوك ؟

قال : في المنزل .

كان لا يجتمعان - الإبن والأب - عند المختار خوفاً من فتكه ، وإذا حضر أحدهماعند المختار غاب الآخر .

فالتفت حفص إلى المختار وقال له : أبي يقول : تفي لنا بالأمان .

فقال : اجلس ، فجلس عنده حفص ، وطلب المختار أباعمرة ، وهو كيسان التمّار ،واسرّه أن يمضي إلى عمر بن سعد ويقتله ، وقال له : إذا دخلت عليه وسمعته يقول : ياغلام علَيّ بطيلساني فاعلم إنّه يريد السيف ، فبادره واقتله ، فمضى أبو عمرة ، وما لبث أن جاء ومعه رأس عمر بن سعد .

فقال حفص : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون .

فقال له أبو عمرة : أتعرف هذا الرأس ؟

قال : نعم ولا خير في العيش بعده .

فقال : لا تعيش بعده ، ثمّ أمر بقتله فقُتِل واحتزّوا رأسه وجاءوا به إلى المختارفوضعه إلى جنب رأس أبيه عمر بن سعد ، ثمّ قال المختار : رأس عمر برأس الحسين ورأس حفص برأس علي بن الحسين ، لا واللّه لأقتلنّ سبعين ألفاً ، كما قتل بحيى بن زكريّا ، ثمّ التفت إلى من حضر وقال : لو قتلت ثلاثة أرباع أهل الأرض لما وفوا بأنملة من أنامل الحسين عليه السلام .

قال أرباب السير : وجيء إليه بالعشرة الذين داسوا صدر الحسين عليه السلام و في مقدّمتهم الأخنس عليه اللعنة ، فقالوا له : يا أمير ! هؤلاء رضّوا جسد الحسين عليه السلام .

ص: 178

فصاح : اطرحوهم على الأرض واضربوا السكك الحديديّة في أيديهم وفي أرجلهم ، ففعلوا ذلك ، ثمّ أمر جماعة من شرطته وركبوا خيولهم وجعلوا يدوسونهم حتّى هلكوا جميعاً وقطّعت أشلائهم (1) .

مقتل وهلاك عبيداللّه بن زياد عليه اللعنة

قال أرباب التاريخ والسير : بعث المختار بن أبي عبيدة الثقفي إبراهيم بن الأشترللكوفة لقتال عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه وأخرج معه فرسان أصحابه وأهل البصائروالتجربة منهم ، وشخص إبراهيم بن الأشتر لثمان بقين من ذي الحجّة سنة ست وستّين ،واستهلّت سنة سبع وستّين وهو سائر لقصد ابن زياد ، وكان ابن زياد قد سار في معسكرعظيم من الشام ، فبلغ الموصل وملكها ، فالتقيا بمكان يقال له الخازر (2) بينه وبين الموصل خمسة فراسخ ، فبات ابن الأشتر ساهراً ، فلمّا كان الفجر نهض فصلّى بأصحابه وعبّىء جيشه ، وصار يحثّهم ويذكر لهم فعل ابن زياد بالحسين عليه السلام وأهل بيته ، ثمّ زحف بجيشه وهو ماش في الرجالة حتّى أشرف من فوق تلّ على جيش ابن زياد ، فإذا هم لم يتحرّك منه أحد ، فلمّا رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين ، فركب إبراهيم بن الأشتر وجعل يقف على رايات القبائل فيحرّضهم على القتال .

وأقبل ابن زياد في جيش كثيف وعلى ميمنته الحصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي ، وعلى خيل ابن زياد شرجيل بن ذي الكلاع ، وابن زياد في الرجّالة ، فما كان إلّاأن تواقف الفريقان حتّى حمل الحصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل الكوفة فهزمها وقتل أميرها علي بن مالك ، فأخذ رايته بعده ولده محمّد بن علي فقتل أيضاً ، واستمرّ - الميسرة ذاهبة فجعل ابن الأشتر يناديهم : إليّ إليّ يا شرطة اللّه ، أنا ابن الأشتر ، وكشف عن رأسه ليعرفوه فاجتمعوا إليه ثمّ حملت ميمنة الكوفة على ميسرة أهل الشام فثبتوا لهم وقاتلوا بالرماح ثمّ بالسيوف وبالعمد ثمّ حمل إبراهيم بن الأشتر وحمل

ص: 179


1- . ثمرات الأعواد ، ج2 ، ص143 .
2- . قال البكري في معجم ما استعجم : خازر بفتح الزاي نهر الموصل عليه التقى إبراهيم بن مالك الأشترمن قبل المختار وعبيداللّه بن زياد فقتله إبراهيم .

أصحابه حملة رجل واحد فانهزم بين يديه أصحاب ابن زياد ، وهو يقتلهم كما يقتل الحملان وأتبعهم بنفسه ومن معه من الشجاعان وثبت عبيداللّه بن زياد في موقفه حتّى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه .

ولمّا انهزم جيش ابن زياد عليه اللعنة قال إبراهيم بن الأشتر لأصحابه : التمسوافي القتلى رجلًا ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك ، شرقت يداه وغربت رجلاه ،وهو واقف عند راية منفردة على شاطىء نهر خازر ، فالتمسوه فإذا هو عبيداللّه بن زياد ،وقد ضربه إبراهيم بن الأشتر فقطّعه نصفين ، وقد صادف قتله يوم العاشر من المحرّم سنة سبع وستّين للهجرة ، فاحتزّوا رأسه وبعثوه إلى المختار بن أبي عبيدة إلى الكوفة ، وبعث معه رؤوس قوّاده مع البشارة بالنصر والظفربأهل الشام، واُحرقت جثّته وقتل من الرؤوس أيضاً شرجيل بن ذي الكلاع والحصين بن نمير ، عليهم لعائن اللّه .

وقام المختار رحمه الله فوطىء وجه ابن زياد بنعله ، ثمّ رمى بها إلى غلامه ، وقال :اغسلها فإنّي وضعتها على وجه نجس كافر .

قال الراوي : وتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين من أهل الشام ، فكان من غرق منهم في نهر الخازر أكثر ممّن قتل .

قال أرباب التاريخ وأهل السير منهم ابن سعد في الطبقات ، قال : لمّا وصل رأس ابن زياد إلى المختار بالكوفة فجعله المختار في جونة (1) ثمّ بعث به إلى محمّد بن الحنفيّة وعلي بن الحسين عليه السلام وسائر بني هاشم .

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : ما اكتحلت هاشميّة ولا اختضبت ولا رُئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتّى قتل عبيداللّه بن زياد .

وعن فاطمة بنت علي أميرالمؤمنين عليها وعلى أبيها السلام أنّها قالت : ما تحنّأت امرأة منّا ولا أجالت في عينها مروداً ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيداللّه بن زياد .

ولمَّا قتل ابراهيم بن مالك الأشتر عبيداللّه بن زياد ، بعث برأسه ورؤوس قوّاده ، .

ص: 180


1- . الجونة مغشاة أدماً ، والأدم - الجلد - .

وفيها رأس الحصين بن تميم إلى المختار بالكوفة ، فقدموا عليه وهو يتغدّى ، فحمد اللّه على الظفر ، فلمَّا فرغ من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ثم رمى نعله الى غلامه وقال : إغسلها فإني وضعتها على وجه نجس كافر ، ووُضعت الرؤوس في المكان الذي وُضع فيه رأس الحسين عليه السلام ورؤوس أصحابه.

وروى ابن الأثير في الكامل عن الترمذي في جامعه أنّه لمّا وضع رأس ابن زيادأمام المختار جاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في فم عبيداللّه بن زياد ثمّ خرجت من منخره ، ودخلت في منخره وخرجت من فيه ، فعلت هذا مراراً . ثمّ بعث المختار برأس عبيداللّه بن زياد إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام وكان يومئذ بمكّة فادُخل عليه وهو يتغدّى ، فسجد شكراً للّه وقال : الحمد للّه الذي أدرك لي ثاري من عدوّي وجزى للّه المختار خيراً ، ادخلت على ابن زياد وهو يتغدّى ورأس أبي بين يديه فقلت : اللّهمّ لاتمتني حتّى تريني رأس ابن زياد .

وكان قتل ابن زياد وأشياعه في يوم عاشوراء في اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام ،ولم يقتل من أهل الشام بعد وقعة صفّين مثلما قتل في هذه الوقعة قتل منهم سبعون ألفاً (1) .

أيا ابن زياد بؤ بما قد جنيته *** وذق حدّماضي الشفرتين صقيل

جزى اللّه خيراًشرطة اللّه إنّهم *** شفوا بعبيداللّه كلّ غليل

هلاك حرملة وخبر المنهال مع المختار

روى الشيخ الطوسي في الأمالي بإسناده عن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين عليهما السلام منصرفي في مكّة ، فقال : يا منهال ! ما صنع حرملة بن كاهلة ؟

فقلت : تركته حيّاً بالكوفة .

فرفع يديه جميعاً ثمّ قال : اللّهمّ أذقْهُ حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقْهُ حرّ النّار .

فقدمت الكوفة وذهبت إلى منزلي ، ثمّ ذهبت إلى المختار فلقيته خارجاً من داره ،فقال : يا منهال ! لم تأتنا في ولايتنا هذه ولم تهنّئناها ولم تشركنا فيها ؟

فأعلمته أنّي كنت بمكّة وأنّي قد جئت الآن ، وسايرته ونحن نتحدّث حتّى أتى

ص: 181


1- . مجالس السنيّة ، ج1 ، ص160 .

الكناس (وهي الساحة التي يجتمع فيها النّاس بالكوفة) فوقف كأنّه ينتظر شيئاً ، وقد كان اُخبر بمكان حرملة بن كاهلة ، فوجّه في طلبه فلم يلبث أن جاء قوم يركضون وقوم يشتدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير ! البشارة ، قد اخذ حرملة بن كاهلة ، فما لبثنا أن جيء به ،فلمّا نظر إليه قال لحرملة : الحمد للّه الذي أمكنني منك ، ثمّ قال : الجزّار الجزّار ، فاُتي بجزّار ، فقال له : أقطع يديه ، فقُطِعتا ، ثمّ قال : النّار النّار ، فاُتي بنار وقصب فاُلقي إليه فأشعل فيه النّار .

فقلت : سبحان اللّه !

فقال لي : يا منهال ! إنّ التسبيح لحسن ففيم سبّحت ؟

فقلت : أيّها الأمير ! دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ بن الحسين عليهما السلام فقال لي : يا منهال ! ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي ؟ فقلت : تركته حيّاًبالكوفة . فرفع يديه جميعاً فقال : اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذِقْه حرّ النّار .

فقال لي المختار : أسمعت علي بن الحسين يقول هذا ؟

فقلت : واللّه لقد سمعته .

قال : فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين فأطال السجود ثمّ قام فركب وقد احترق حرملة ، وركبت معه وسرنا فحاذيت داري ، فقلت : أيّها الأمير ! إن رأيت أن تشرّفني وتكرمني وتنزل عندي وتتحرّم بطعامي ؟

فقال : يا منهال ! تعلمني أنّ عليّ بن الحسين دعا بأربع دعوات فأجابه اللّه على يدي ثمّ تأمرني أن آكل ؟! هذا يوم صوم شكراً للّه عزّ وجلّ على ما فعلته بتوفيقه .

يقول الرّاوي - في باب محاكمات المختار لقتلة الحسين عليه السلام - سأل المختار حرمله عن جرائمه .

قال حرملة : عندي سهام بعضها أصاب وبعضها أخطأ ، فأمّا التي أصابت منها سهم مثلّث مسموم وقع في قلب الحسين عليه السلام ، والسهم الثاني هو الذي وقع في عين العبّاس اليمنى .

بالمناسبة يقول أحد العلماء العبّاد : زرت الحسين ليلة جمعة في النصف من شهرشعبان ، فأخذتني غفوة ونمت عند قبره ، رأيته في الرؤيا وبدنه كلّه جراحات ، قلت :

ص: 182

سيّدي ! ما هذه الجراحات ؟ قال : هذه جراحات سلاح أهل الكوفة وسهامهم وسيوفهم ،ثمّ انتبهت من نومي وجئت الجمعة الاُخرى إلى قبر الحسين عليه السلام أيضاً نمتُ ورأيته في عالم الرؤيا فكانت كلّ جراحاتهُ غير موجودة إلّاجرحين ، قلت : سيّدي أين جراحاتُك ؟ قال : داوتها وبرئتها دموع شيعتي . قلت : وما هذان الجرحان ؟ قال : هذان الجرحان لم يندملا إلّابثارات الإمام المهدي عليه السلام . قلت : سيّدي ! وما هي ؟ قال عليه السلام : أمّاالجرح الأوّل فهو جرح ولدي علي الأكبر ، والثاني جرح فقد أخي أبي الفضل العبّاس .

إذن السهم الثاني هو الذي وقع في عين العبّاس عليه السلام ، وأمّا السهم الثالث فقد وقع في نحر عبداللّه الأصغر الذي له من العمر إحدى عشر سنة ابن الإمام الحسن المجتبى الذي ذبحه حرملة وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام والحسين طريح على الأرض ، وهناك سهم رابع أصاب عنق عبداللّه الرضيع .

هنا سأله المختار قائلًا : أيّ السهام كان أشدّ عليك ؟

قال : السهم الذي وقع في عنق عبداللّه ، فلمّا أصابه السهم أخرج يديه من القماطواحتضن رقبة والده الحسين وهو يرفرف كأنّه الطير المذبوح ، الحسين أخذ دماء ولده رمى بها نحو السماء ، قال : إلهي ! لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح ، ثمّ ملأ كفّه من دمه ورمى به نحو السّماء :

تلگّه احسين دمّ الطفل بيده *** اشحال اليچتل ابحضنه اوليده

سال او ترس چفّه من وريده *** وذبّه للسمه او للگاع ما خر

* * *

ولو تراه حاملًا طفله *** رأيت بدراً يحمل الفرقدا

مخضّباً من فيض أوداجه *** ألبسه سهم الردى مجسدا

ومذ رأته امّه أنشأت *** تدعو بصوت يصدع الجلمدا

تقول عبداللّه ما ذنبه *** منفطماً آب بسهم الردى

لم يمنحوه الورد بل صيّروا *** فيض وريديه له موردا

ص: 183

المجلس الخامس عشر: مناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

اشارة

هو علّةُ الدّنيا ومن خُلِقت له *** لو لم يكنْ ما كانتِ الأشياءُ

من صفوِ ماءِالوحي وهو مُجاجة *** مِن حوضهِ الينبوع وهو شفاءُ

من أيكةِ الفردوس حيثُ تفتّقتْ *** ثمراتُها وتفيّأالأفياءُ

من شعلةِ القَبَس التي عُرضِتْ على *** موسى وقد حارتْ به الظَلماءُ

من مَعدنِ التقديسِ وهوسُلالةٌ *** من جوهرِ الملكوتِ وهوضياءُ

هذا الذي عطفتْ عليه مكّةٌ *** وشعابُها والركنُ والبطحاءُ

فعليه من سيما النبيِّ دلالةٌ *** وعليه من نورِ الإله بَهاءُ (1)

* * *

يا ليلةَ النّصفِ بشهرالصّيام *** أنعَشَتْ بالبُشرى جميعِ الأنام

بمولدِ السّبطِ الزكيِّ الإمام *** ربِّ العطايا والندى والمنن

الكونُ قد سُرِّبميلادهِ *** والسعدُ يختالُ بإيراده

ميلادهُ أشرفُ أعيادهِ *** اليُمنُ والإقبالُ فيه اقترن

ص: 184


1- . معالي السبطين - ج1 ص5 .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «حسن وحسين ريحانتاي من الدنيا» .

وقال صلى الله عليه و آله : «حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أبغضهما أبغضني» (1) .

الحديث عن شخصيّة الإمام أبي محمّد الحسن بن علي الزكيّ عليه السلام ، ونحن نعيش في هذه اللّيلة المباركة ، ونحتفل بذكرى ولادته عليه السلام ، فالحديث عنه متعدّد الجوانب والأنحاء ، ونظراً لعظمة هذه الشخصيّة التي احتجّ اللّه بها على العباد ، حيث جعله حجّة اللّه على الخلق ، كما قال : وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (2) .

فنحن في هذه الليلة نقتبس من نوره قبسات ، كي نسير إثر مسيرته ونهتدي بهداه .

ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

محتوى حياة الإمام الحسن عليه السلام إبتداءاً من ولادته ، فقد وُلد بالمدينة المنوّرة ليلة النصف من شهر رمضان ، سنة ثلاث من الهجرة ، وهو أوّل أولاد الامام علي وفاطمة عليهما السلام ،وقيل أنّه ولد لستّة أشهر (3) .

ولمّا وُلد الإمام الحسن عليه السلام قالت فاطمة لعلي عليهما السلام سمّه .

فقال عليه السلام : ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : يا أسماء ! هاتي ابني .

قالت : فدفعته إليه في خرقة صفراء ، فقال صلى الله عليه و آله : يا أسماء ألم أنهكم أن تلفّوا المولودفي خرقة صفراء ، ثمّ رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها ، وأذّن في اذنه اليمنى وأقام في

ص: 185


1- . المجالس السنيّة - ج2 ص359 .
2- . سورة الأنبياء - آية 73 .
3- . مجالس السنيّة - ج2 ص334 .

اليسرى ، ثمّ قال لعلي عليه السلام : هل سمّيته ؟

فقال عليه السلام : ما كنتُ لأسبقك باسمه .

فقال صلى الله عليه و آله : وما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّ وجلّ .

فأوحى اللّه إلى جبرئيل أنّه قد ولد لمحمّد صلى الله عليه و آله ابن فاهبط فاقرئه السّلام وهنّه وقل له : إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم ابن هارون .

قال : فهبط جبرئيل فهنّأه من اللّه تبارك وتعالى .

ثمّ قال : إنّ اللّه يأمرك أن تسمّية باسم ابن هارون .

قال : وما كان اسمه ؟

قال : شبّر .

قال : لساني عربي .

قال : سمّه الحسن ؛ فسمّاه الحسن (1) .

وروى الكليني بسنده عن الصّادق عليه السلام قال : عقَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الحسن بيده وقال : بسم اللّه عقيقة عن الحسن .

وقال : اللّهمّ عظمها بعظمه ولحمها بلحمه ، ودمها بدمه ، وشعرها بشعره ، اللّهمّ اجعلها وقاء لمحمّد وآله .

وأعطى القابلة فخذاً وديناراً ، وحلّق رأسه وأمر أن يتصدّق بزنة شعره فضّة ، فكان وزنه درهماً وشيئاً (2) .

نشأة الإمام الحسن عليه السلام وتربيته

وعلى ضوء الظواهر الّتي مرّت نجد الإمام الحسن عليه السلام قد ورث من جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله صفاته الخلقيّة والنفسيّة ومكوّناته الروحيّة ، وقد حفلت موسوعات الحديث بكوكبة من الرّوايات الّتي استعرضت ما ورثه الحسن عليه السلام وأخوه الحسين عن طريق

ص: 186


1- . معالي السبطين - ج1 ص7 .
2- . المجالس السنيّة - ج2 ص336 .

جدّهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وملك الإمام الحسن عليه السلام بمقتضى ميراثه من الذكاء وسموّ الإدراك ما لا يملكه غيره ، فقد حدّث الرّواة عن مدى نبوغه الباكر ، فقالوا : إنّه كان لا يمرّ عليه شيء إلّاحفظه ، وكان يحضر مجلس جدّه فيحفظ الوحي ، فينطلق إلى امّه فيلقيه عليها ، فتحدّث به أميرالمؤمنين عليه السلام فيتعجّب ويقول : من أين لك هذا ؟ فتقول : من ولدك الحسن !

واختفى الإمام عليه السلام في بعض زوايا البيت ليسمع ولده ، ويقبل الحسن عليه السلام على عادته ليلقي على امّه ما حفظه من آيات الوحي والتّنزيل ، فيرتجّ عليه ولا يستطيع النّطق ، فتبادر البتول قائلة : يا بني ! لماذا ارتجّ عليك ؟ فقال : يا امّاه ! لا تعجبي ممّاعراني ، فإنّ كبيراً يرعاني (1) ، وفي رواية قال : يا اماه قل بياني وكلّ لساني لعلّ سيّداًيرعاني .

وكان عليه السلام أشبه النّاس برسول اللّه صلى الله عليه و آله خلقاً وخُلقاً وسؤدداً وهديا .

وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول اللّه صلى الله عليه و آله من الحسن بن علي عليهما السلام .

وحفظ الشيء الكثير من حديث جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وله من العمر أربع سنين ،وذلك ممّا يدلّ على نبوغه المبكّر ، وعبقريّته وذكائه المفرط .

نشأ الإمام عليه السلام في ظلّ الاُسرة النبويّة ، وتغذّى بطباعها وأخلاقها .

ونستعرض بعض النّقاط المضيئة النّابضة بالتربية الفذّة الّتي ظفر بها الإمام الحسن عليه السلام .

1 - تربية النّبي صلى الله عليه و آله له ، فقد كان كثير الإهتمام به وبأخيه ، وكان الحسن والحسين النفحة الّتي لا تفارق شفتي رسول اللّه ، والأنشودة الّتي يردّدها في كلّ مناسبة «حسن وحسين ريحانتاي من الدّنيا» ، «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» ، «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا» ، ولقد طبع النّبي صلى الله عليه و آله بصماته على سلوك الإمام .

ص: 187


1- . القرشي في حياة الحسن - ج1 ص61 ؛ نقلًا عن مناقب ابن شهرآشوب - ج2 ص148 ؛ والبحار -ج10 ص93 .

الحسن في سنّه المبكّر ، فاقتبس من جدّه رسول اللّه كلّ مكرمة ، وأخذ عنه كلّ فضيلة .

2 - تربية أبيه الإمام علي عليه السلام ، فهو المربّي الأوّل الّذي وضع أصول التّربية ومناهج السلوك ، وقواعد الآداب ، واُسس الخلق الكريم ، فقد ربّى ولده بتربيته المشرقة ، وغذّاه بالحكمة ، ورسم له مكارم الأخلاق .

3 - تربية الزّهراء عليها السلام ولا ننسى أنّ الاُم هي المدرسة الاُولى .

الاُم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباًطيّب الأعراق

فقد غمرته بالعطف والحنان ، وغذّته بالآداب الإسلاميّة .

عبادة الإمام الحسن عليه السلام

في هذه الفترة نهل الإمام عليه السلام من منبع النبوّة الإستقامة ، والخلق الكريم ، والتربية العالية ،والخصال المتفوّقة ، وقد تركت آثار تربية رسول اللّه صلى الله عليه و آله بصماتها على سلوك الإمام الحسن واضحة في الميادين المختلفة منها الميدان العبادي فإذا استقرأنا سيرة النّبي صلى الله عليه و آله على هذا الصّعيد وجدنا المؤرّخين يقولون : كان النّبي صلى الله عليه و آله يصفّ قدميه بين قائم وقاعد وراكع وساجد حتّى لقد تورّمت قدماه ، وانتفخ ساقاه ، وحتّى نزل عليه جبرئيل بقوله تعالى : طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (1) .

وأبوه أميرالمؤمنين عليه السلام كان إذا جنّ عليه اللّيل تحوّل إلى آهة حيرى تشقّ أستارالظّلام تناجي ربّها فتقول :

مالي سوى قرعي لبابك حيلة *** فإذا رددت فأيّ باب أقرع

واُمّه الزّهراء عليها السلام كانت حليفة المحراب في عبادتها وتبتّلها وانقطاعها إلى اللّه .

فانطبع هذا الجانب على سلوك الإمام وسيرته ، فنشأ قمّة في العبادة يفتقده أهله وأصحابه فيجدونه بباب المسجد قد شخص ببصره إلى السّماء يناجي ربّه : إلهي ! ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، تجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم (2) .

ص: 188


1- . سورة طه - الآيتان 1 و2 .
2- . من لا يحضره الخطيب - ج4 ص241 ؛ عن الأعيان للسيّد الأمين - ج1 ص563 .

حَجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه ، والنجائب تقاد بين يديه .

إنّ الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام كان أعبد النّاس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم .

وكان عليه السلام اذا حجّ حجّ ماشياً ، وربّما مشى حافياً .

وكان عليه السلام إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ،وإذا ذكر الممرّ على الصّراط بكى ، وإذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها ، وإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ .

وكان عليه السلام إذا ذكر الجنّة والنّار اضطرب اضطراب السّليم ، وسأل اللّه الجنّة وتعوّذ به من النّار ، وكان لا يقرأ من كتاب اللّه عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّاقال لبّيك لبّيك اللّهمّ لبّيك ، ولا يمرّ في شيء من أحواله إلّاذكر اللّه سبحانه .

وكان أصدق النّاس لهجة وأفصحهم منطقاً .

وإنّه عليه السلام خرج من ماله مرّتين وقاسم اللّه تعالى ماله ثلاث مرّات وتصدّق به حتّى كان يعطي نعلًا ويمسك نعلًا (1) .

يقول السيّد الأمين في الأعيان : الحسن والحسين يمشيان إلى الحجّ فلم يمرّابراكب إلّانزل يمشي ، فثقل ذلك على بعضهم ، فقالوا لسعد بن أبي وقّاص ، قد ثقل عليناالمشي ، ولا نستحسن أن نركب ، وهذان السيّدان يمشيان .

فقال سعد للامام الحسن عليه السلام : يا أبامحمّد ! إنّ المشي قد ثقل على الجماعة ممّن معك ، والنّاس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا فلو ركبتما .

فقال الحسن عليه السلام : لا نركب قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت اللّه الحرام على أقدامنا ، ولكنّنا نتنكّب الطّريق . .

ص: 189


1- . المجالس السنيّة - ج2 ص343 .

كرم الإمام الحسن عليه السلام وسخائه

فإذا تخطّينا الجانب العبادي إلى جانب الجود والسّخاء عند الإمام الحسن ، فقدكان مضرب الأمثال في مكارمه ، وليس ذلك بكثير عليه بعد أن كان جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله يباري السّحاب المرسل جوداً وكرماً ، وبعد أن كان أبوه أميرالمؤمنين عليه السلام يبتدع منهجاًجديداً مبتكراً في معنى الجود والكرم ، فمن الواضح أنّ تاريخ الأجداد والكرماء في الحضارة العربيّة تاريخ يعتزّ به وتفاخر به العرب .

وهناك شخصيّات اشتهرت حتّى صارت عنواناً للجود والسّخاء ، كحاتم بن عبداللّه الطّائي ، ومعن بن زائدة ، وغيرهما لكن هناك ناحية دقيقة للتفريق بين مكارم هؤلاء ،وبين مكارم أهل البيت ، فمكارم هؤلاء عبارة عن عمليّة معاوضة يأتي إليهم المحتاج يقول : أعطوني فيعطونه .

بينما المنهج الّذي يضعه أميرالمؤمنين سلام اللّه عليه يقول : (الجود ما كان ابتداء ،أمّا ما كان عن مسألة فحياء وتذمّم) .

وهذا ما نظمه الأديب العربي :

ولقد دعوت ندى الكرام فلم يجب *** فلأشكرنّ ندىً أجاب ومادعي

ومن العجائب والعجائب حجّة *** شكر بطيء عن ندىً متسرّع

ونفس هذا المعنى صرّح به الإمام الحسن بقوله :

نحن اناس نوالنا خضل *** يرتع فيه الرّجاءوالأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا *** خوفاًعلى ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل نائلنا *** لغاض من بعد فيضه خجل (1)

كان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يقول للسائل : اكتب حاجتك على الأرض وانصرف ،ليصون له ماء وجهه ، ويحفظ كرامته ، فيقضي له حاجته ويبعث له طلبته بشكل سرّي تصله إلى بيته .

ص: 190


1- . من لا يحضره الخطيب - ج4 ص244 ؛ عن رحاب أئمّة أهل البيت - للسيّد الأمين - ج3 ص46 .

دخل رجل على الإمام الحسن عليه السلام قال : يابن رسول اللّه :

لم يبق لي شيء يباع بدرهم *** يكفيك رؤية منظري عن مخبري

إلّا بقيّة ماء وجه صنته *** كي ما يباع وقد وجدتك مشتري

فأكرمه الإمام عليه السلام وأجابه :

عاجلتنا فأتاك وابل برّنا *** طلًّا ولو أمهلتنالم نقصر

فخذ القليل وكن كأنّك لم تبع *** ماصنته وكأنّنا لم نشتر

روى ابن شهرآشوب في المناقب : أنّ رجلًا سأله فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار وقال : إئت بحمّال يحمل لك ، فأتى بحمّال فأعطاه طيلسانه وقال : هذاكرى الحمَّال .

وجاءه بعض الأعراب فقال : أعطوه ما في الخزانة ، فوُجد فيها عشرون ألف درهم فدفعها إليه ، فقال الأعرابي : ألا تتركني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي ، فأنشأ الإمام الأبيات المتقدّمة : نحن اناس نوالنا خضل .

دخل عليه شاعر فأجزل له العطاء ، فقال له رجل من جلسائه : أتعطي شاعراًيعصي الرّحمان ويقول البهتان ؟!

فقال : يا عبداللّه ! إنّ خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك ، وإنّ من ابتغاءالخير اتّقاء الشر .

حلم الامام الحسن عليه السلام

من بعد هذه اللّمحة عن مكارم الإمام لنرى جانب الحلم وسمو النّفس الكبيرة وملكة ضبط النّفس في أحرج المواقف .

كان جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد صنوف الأذى والمعاناة الّتي كابدها من قريش وانتصر عليهم ، وأصبحوا في قبضته وبين يديه ، ولو شاء أن يثأر لنفسه وينتقم لهالاعتدائهم عليه لانتقم ، فالفرصة متاحة بعد واقعة الفتح ولكنّه أبى إلّاأن يضرب مثلًاسامياً في الحلم والعفو ، قال لهم : ماذا ترون أنّي فاعل بكم ؟

ص: 191

قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم .

قال : إذاً لا تثريب عليكم اليوم إذهبوا فأنتم الطُّلقاء .

هذا جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولنرى أباه أميرالمؤمنين عليه السلام الذي يضع ناموساً مقدّساًفي الحلم والعفو عند المقدرة فيقول :

«إذا ظفرت بعدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه» .

يتظافر عليه البغي وتزدحم عليه الخطوب ، وتحرض عليه المرأة (عائشة)أجناداها وتخرج يدها من المحمل ، حاملة بدر الدّراهم والدّنانير وتنادي : من يأخذ هذه البدر ويأتيني برأس الأصلع علي بن أبي طالب ، وانتصر الأصلع وظفر علي عليه السلام بها هل انتقم منها ؟

هل أشبع حقداً في نفسه ؟ هل افتقد توازنه وأعصابه ؟

أبداً ، أثبت للدّنيا وللتَّأريخ أنّه من أحلم النّاس ، وأنّه الشّجاع الذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه في أحلك الظّروف وأحرج المواقف .

جاء يتخطّى بعد النّصر بين أشلاء الضّحايا وبتلك الأجواء المرعبة حتّى وصل إلى الهودج المعرقب نكثه بإصبعه ، فقالت : من ؟ كأنّه ابن أبي طالب ، قال : بلى .

قالت : يابن أبي طالب ملكت فاصفح وظفرت فاسجح ، إنّ العفو من شيمك .

فلم يجبها إلّابكلمتين : ما أنصفك الّذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك .كلمتان لم يتكلّم غيرهما وغمرها بعفوه ولطفه وحلمه .

هذه هي اسس الحلم في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فلنرى الإمام الحسن عليه السلام في هذاالجانب :

دخل رجل من أهل الشّام إلى المدينة ذات يوم ، فرأى موكب الإمام الحسن عليه السلام مقبلًا تحفه الهيبة والإجلال ، ومن حوله النّاس يتبرّكون بالنّظر إليه ، وبلثم يديه الكريمتين فسأل لمن هذا الموكب ؟ قيل له : للحسن بن علي .

قال : يعني ابن أبي تراب ؟ قيل : بلى وأين أبي تراب في نظر أهل الشّام ، وحسب الدعاية الأمويّة مسبّة وشتيمة .

ص: 192

فأقبل يشقّ طريقه حتّى وصل إلى الإمام ، أمسك بزمام بغلته وقال : أنت الحسن ؟قال : بلى . قال : أبوك أبو تراب ؟ قال : نعم .

فراح يشتم الحسن ويشتم أباه أميرالمؤمنين ، فوضع أصحاب الإمام أيديهم على قوائم سيوفهم ، حيث أنّ الإمام ابن المدينة ، وله فيها الكثير من الروّاد والمحبّين والمخلصين ، وبإشارة بسيطة من الإمام لقطّعوه بالسّيوف إرباً إرباً .

إلّاأنّ النّفس الكبيرة عند الإمام تبسّم في وجهه ، ثمّ التفت إليه قائلًا : يا هذا !أحسبك غريباً هلمّ معي إن كنت ضالًّا أرشدناك ، أو جائعاً أطعمناك ، أو محتاجاً أغنيناك .

ومضى يتحدّث إلى الشّامي بهذا الأسلوب الّذي يفيض بالعطف والرّحمة ، حتّى ذهل الشّامي وسيطر عليه الحياء والخجل ، فاصطحبه الإمام إلى داره وأكرمه وأحسن إليه .

فاستيقظ ذلك الرّجل من سباته ، واصطدم بالحقيقة وقال : سيّدي ! يابن رسول اللّه !لقد دخلت إلى المدينة وليس على وجه الأرض أهل بيت أبغض إليّ منكم ، وأنا الآن سأخرج وليس على وجه الأرض أهل بيت أحبّ إليّ منكم ، أشهد أنّكم حجج اللّه على بريّته ، اللّه أعلم حيث يجعل رسالته .

وكان هذا الرّجل إذا جاء الإمام الحسن عليه السلام إلى المسجد يبادر ويتشرّف بلثم أنامله .

فالتفت الإمام لأصحابه قال : هذا ما أردت من إصلاحه وتوجيهه ، فالعنف ليس اُسلوباً علاجياً أو تربويّاً ، ووجود أهل البيت عليهم السلام محض رحمة وهداية للنَّاس .

وهؤلاء مضلّلون بالدعاية والإعلام الأموي الكاذب ، فإذا استطاع الإمام أن يرشده إلى الطّريق الصّحيح ، فذلك ما يتمنّاه . وقد قال النّبي صلى الله عليه و آله : «يا علي ! لئن يهدي اللّه بك رجلًا واحداً خير لك ممّا طلعت عليه الشّمس» .

وشتم الإمام عليه السلام لا يؤثر في شخصيّته ، ولا يقدح في تاريخه المشرق وهو القائل :«أمّا السبّ فسبّوني ، وأمّا البراءة فلا تبرؤوا منّي» .

واُسلوب الشتائم والسباب اسلوب فاشل وهزيل ينمّ عن عدم وجود الحجّة في

ص: 193

المنطق ، والموضوعيّة والاُسلوب العلمي في الحوار (1) .

شدّة محبّة النّبي صلى الله عليه و آله للحسنين عليهما السلام

ممّا جاء في شدّة محبّة النّبي صلى الله عليه و آله للحسن والحسين عليهما السلام ، وجوب محبّتهما على كلّ أحد ما «عن صحيح الترمذي» عن أنس بن مالك قال : سُئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟

قال : الحسن والحسين .

وكان يقول لفاطمة : ادعي لي ابنيّ فيشمّهما ويضمّهما إليه .

(وعن) ابن عمر ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : هما ريحانتاي من الدّنيا .

(وعن) صحيح الترمذي ، عن اسامة بن زيد أنّه قال : طرقت النبي صلى الله عليه و آله ذات ليلة فخرج (إلى أن قال) : فإذا حسن وحسين على وركيه ، فقال : هذان إبناي وابنا ابنتي ،اللّهمّ إنّي احبّهما فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما .

(وعن جابر) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ الجنّة لتشتاق إلى أربعة من أهلي قد أحبّهم اللّه وأمرني بحبّهم : علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، والمهدي صلّى اللّه عليهم الذي يصلّي خلفه عيسى بن مريم عليه السلام .

(وفي الإصابة) وعند أحمد من طريق عبدالرحمن بن مسعود عن أبي هريرة قال :خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومعه الحسن والحسين ، هذا على عاتقه ، وهذا على عاتقه ،وهو يلثم هذا مرّة وهذا مرّة حتّى انتهى إلينا فقال : من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهمافقد أبغضني .

(وقال صلى الله عليه و آله ) من أحبّ الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبّه اللّه ، ومن أحبّه اللّه أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله النّار .

ص: 194


1- . من لا يحضره الخطيب - ج4 ص245 - 248 .

(وعن صحيحي الترمذي والنسائي) بالإسناد إلى بريدة قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثمّ قال : صدق اللّه أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ (1) نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما .

(وعن جابر) أنّه دخل على النّبي صلى الله عليه و آله والحسن والحسين عليهما السلام على ظهره وهويقول : نعم الجمل جملكما ونعم الحملان أنتما . (وفي رواية) ونعم العدلان أنتما .

(وعن أسلم) رأيت الحسن والحسين عليهما السلام على عاتق رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقلت : نعم الفرس لكما . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ونعم الفارسان هما .

(وفي إرشاد المفيد) عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود قال : كان النبي صلى الله عليه و آله يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهما السلام فارتدفاه ، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً ، فلمّا عادعادا ، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن ، وهذا على فخذه الأيسر ثمّ قال : من أحبّني فليحبّ هذين .

(وفي الإصابة) عن مسند أبي يعلى بسنده : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصلّي ، فإذا سجدوثب الحسن والحسين على ظهره ، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما ، فإذاقضى الصلاة وضعهما في حجره فقال : من أحبّني فليحبّ هذين .

(أقول) أمثل هذين السيّدين الفاضلين الإمامين ريحانتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسبطيه وسيّدي شباب أهل الجنّة ، ومن تشتاق الجنّة إليهما ، ومن انحصرت ذرّيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيهما ، اللَّذَين قد بلغا أعلى درجات الفضل والشّرف ، وكرم الأخلاق وطيب الأعراق ،شبيهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله في هيبته وسؤدده وجوده وشجاعته وخَلقه وخُلقه ، واللَّذين أوجب اللّه حبّهما على كلّ مسلم ، ومن أحبّهما أحبّه اللّه ورسوله ، ومن أبغضهما أبغضه اللّه ورسوله ، أحبّ النّاس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، بحيث بلغ من حبّه لهما أن ينزل من على منبره .

ص: 195


1- . سورة الأنفال - آية 28 .

ويقطع خطبته لأجلهما ، ويحملهما تارة على ظهره واُخرى على عاتقه ، وتارة على وركيه ، ولا يمنعهما عن ركوب ظهره وهو في الصّلاة ، ولا يدع أحداً أن ينزلهماويأخذهما أخذاً رفيقاً خوفاً من إنزعاجهما ، يظلمان بعده ويقهران ويدفعان عن حقّهمامن خلافة جدّهما ، وتجتمع امّته إلّامن عصمه اللّه على ظلمهما وحربهما ، وغصب حقّهما ، فمن بين خاذل ومقاتل حتّى مات الحسن عليه السلام شهيداً بالسُمّ ، وقضى الحسين عليه السلام شهيداً بالسّيف (1) .

شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

قال المحدّث القمّي رحمه الله في منتهى الآمال (2) : إعلم أنّه وقع الخلاف في يوم استشهادهذا الإمام المظلوم ، قيل : في يوم السابع من شهر صفر سنة خمسين للهجرة ، وقيل : في الثامن والعشرين من ذلك الشهر ، ووقع الخلاف أيضاً في مدّة عمره الشريف ، والمشهورهو (47) سنة .

وروى القطب الراوندي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : قال الحسن لأهل بيته : إنّي أموت بالسم كما مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله . فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس فإنّ معاوية يدسّ إليها ويأمرها بذلك .

قالوا : أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك .

قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذرعند الناس .

فما ذهبت الأيّام حتّى بعث إليها معاوية مالًا جسيماً وجعل يمنّيها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضاً ويزوّجها من يزيد ، وحمل إليها شربة سمّ لتسقيها الحسن عليه السلام ،فانصرف عليه السلام إلى منزله وهو صائم فأخرجت له وقت الإفطار - وكان يوماً حارّاً - شربة لبن وقد ألقت فيها ذلك السمّ ، فشربها وقال : يا عدوّة اللّه قتلتيني قتلك اللّه ، واللّه لا

ص: 196


1- . المجالس السنيّة - ج2 ص357 - 360 .
2- . ج1 ، ص443 - 445 .

تصيبين منّي خلفاً ولقد غرّك وسخر منك واللّه يخيزك ويخزيه .

فمكث عليه السلام أربعين يوماً مريضاً ثمّ مضى ، فغدر معاوية بها ولم يف لها بما عاهدعليه .

ووفقاً لرواية الكافي وغيره قال عليه السلام : إحملوا جنازتي وادفنوني هناك جنب امّي فاطمة عليها السلام ، ثمّ قبض عليه السلام بعد إتمام وصاياه وذهب إلى رضوان اللّه ونعيمه .

قال ابن عبّاس : فدعاني الحسين بن علي عليه السلام وعبداللّه بن جعفر وعلي بن عبداللّه بن العبّاس فقالوا : اغسلوا ابن عمّكم فغسّلناه وحنّطناه وألبسناه أكفانه ، ثمّ خرجنا به حتّى صلّينا عليه في المسجد ، وإنّ الإمام الحسين عليه السلام أمر أن يفتح البيت ، فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفّان .

وفي رواية اخرى : إنّ مروان بن الحكم ركب بغلة وأتى عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ! إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه مع رسول اللّه فالحقي به وامنعيه من أن يدفن معه .

قالت : وكيف ألحقه ؟

قال : اركبي بغلتي هذه .

فنزل عن بغلته وركبتها وكانت تؤزُّ النّاس وبني اميّة على الحسين عليه السلام وتحرّضهم على منعه ممّا همّ به (1) .

قال ابن عبّاس : وكنت أوّل من انصرف ، فسمعت اللّغط وخفت أن يعجّل الحسين على من قد أقبل ، ورأيت شخصاً علمت الشرّ فيه ، فأقبلت مبادراً فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحّل تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمّا رأتني قالت : إليّ إليّ يابن عبّاس ، لقد اجترأتم عليّ في الدّنيا تؤذونني مرّة بعد اخرى ، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا احبّ (2) .

فقلت : واسوأتاه ، يوم على بغل ويوم على جمل ، تريدن أن تُطفئي نور اللّه .

ص: 197


1- . البحار - ج44 ص141 .
2- . البحار - ج44 ص152 عن أمالي الطوسي .

وتقاتلي أولياء اللّه وتحولي بين رسول اللّه وبين حبيبه أن يدفن معه .

ولنعم ما قال الصقري البصري :

ويوم الحسن الهادي على بغلك أسرعت *** وبايعت ومانعت وخاصمت وقاتلت

وفي بيت رسول اللّه بالظم تحكّمت *** هل الزوجة أولى بالمواريث من البنت

لك التسع من الثمن وبالكلّ تصرّفت *** تجمّلت تبغّلت وإن عشت تفيّلت

فجاءت إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله فرمت بنفسها عن البغلة وقالت : واللّه لا يدفن الحسن هاهنا أبداً أو تجزّ هذه ، وأومت بيدها إلى شعرها .

وفي رواية مضمونها أنّه : رموا جثمان الإمام عليه السلام بالسهام حتّى اخرج من جنازته سبعون سهماً ، فأراد بنوهاشم المجادلة ، فقال الحسين عليه السلام : اللّه اللّه لا تضيّعوا وصيّة أخي فإنّه أقسم عليَّ إن أنا مُنعت من دفنه مع جدّه صلى الله عليه و آله أن اخاصم فيه أحداً ، ولولا وصيّته لرأيتم كيف أدفننه في جنب النّبي صلى الله عليه و آله ، ورغمت معطسكم ، فعدلوا به إلى البقيع فدفنوه جنب جدّته فاطمة بنت أسد (رضي اللّه عنها) .

قال أبوالفرج : لمّا مات الحسن بن عليّ عليه السلام وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين عليه السلام : أتحمل سريره ؟ أما واللّه لقد كنت تجرّعه الغيظ .

فقال مروان : إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (1) .

وروى ابن شهرآشوب (2) : أنشد الحسين عليه السلام لمّا وضع الحسن عليه السلام في لحده :

أأدهن رأسي أم تطيب محاسني *** ورأسك معفورٌ وأنت سليب

بكائي طويل والدموع غزيرة *** وأنت بعيدٌ والمزارقريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه *** ألا كلّ من تحت التراب غريب

وليس حريباً من اصيب بماله *** ولكنّ من وارى أخاه حريب .

ص: 198


1- . مقاتل الطالبيين - ص49 .
2- . المناقب - ج4 ص45 .

المجلس السادس عشر: حادثة صلح الامام الحسن عليه السلام مع معاوية

اشارة

ومن خُطبة لإمامنا الحسنِ المجتبى عليه السلام بالنخيلة قبلَ صُلحهِ مع معاوية قال :

أيُّها النّاسُ ! إنَّ هذا الأمرَ الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية إنّما هو حقٌّ أتركُهُ إرادةً لإصلاحِ الاُمّة وحَقْناً لدمائها وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (1) .

حيث اننا نعيش في هذا اليوم ، وهو الخامس عشر من شهر رمضان ذكرى ولادة الإمام الثاني ، ألا وهو الإمام أبو محمّد ، الحسن بن علي الزكي المجتبى سلام اللّه عليه ،فان أهمّ حادثة تبرز في حياته ، هي حادثة صلحه مع معاوية بن أبي سفيان ، فنحن نطرح هذه المسئلة على شكل أسئلة موجَّهة حول الحادثة .

من الطّبيعي نحن حينما نطرح مسألة صلح الإمام الحسن عليه السلام لسنا في معرض الدّفاع والتبرير لمواقف الإمام الحسن عليه السلام ، لأنّه هو فوق دفاعنا وفوق تبريراتنا ، لأنّه يمتلك شهادة الطّهارة والقدسيّة من القرآن الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ؛ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2) .

ثم بإجماع الرّوايات أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ضمّ عليَّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام تحت كساء واحد ، وقال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، لحهم من لحمي ، ودمهم من دمي ،يؤلمني ما يؤلمهم ، ويحزنني ما يحزنهم ، أنا سلم لمن سالمهم ، وحربٌ لمن حاربهم ،ووليٌّ لمن والاهم ، وعدوٌّ لمن عاداهم .

ص: 199


1- . المجالس السنيّة - ج2 ص372 .
2- . سورة الأحزاب - آية 33 .

فالإمام الحسن عليه السلام - بنصّ القرآن ، وهل يُطلب نصّ أعظم من النصّ القرآني كلام الخالق الذي طَهَّرَ الحسن عليه السلام من الرّجس تطهيراً ! - هو عمد من أعمدة آية التّطهير ، فلايحتاج إلى دفاعنا وإلى تبريرنا ، فهو فوق الميول والإتّجاهات .

ثانياً : النصّ المجمع عليه بين المسلمين وهو النّص النّبوي الّذي قال فيه صلى الله عليه و آله :الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، وقال صلى الله عليه و آله و سلم : الحسن والحسين امامان قاما اوقعدا ، وعليه فالإمام عليه السلام يتملك شهادة من القرآن ، ونصّاً من رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

إذن فنحن حينما نطرح هذه القضيّة لا نريد أن نبرّر موقف الإمام الحسن عليه السلام ، وإنّمانريد أن نلقي الضّوء على حادثة الصّلح ، فهاهنا عدّة عوامل وأسباب :

العامل الأوّل : هو أن نعرف أسباب الحرب والصّلح في الإسلام .

العامل الثّاني : هو أن نطّلع على المواقف الإستراتيجيّة في قضيّة صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ، تلكم المواقف الّتي يجب أن نستلهم منها في حياتنا الدّروس والعبر .

العامل الثالث : تمرّ في حادثة صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ، شخصيّات وقضايا يمكن أن نطلع من خلالها على بعض القيم والدّروس .

الآن نطرح الحادثة على شكل أسئلة موجّهة :

هل الاسلام دين حرب أم صلح ؟

السؤال الأوّل : هل الإسلام دين حرب وسيف ؟ أم دين سلم وصلح ؟

هناك نظريّة تقول : بأنّ الإسلام لا يحمل كلا الطّابعين ، يعني ليس له موقف تجاه الحرب والسّلم ، بل هو حيادي وإنّما يقرّر الحرب والسّلم حسب المصلحة وحسب الظّروف ، ولكنّ النّظريّة الصحيحة على هذا السؤال هو : أنّ الإسلام دين السّلم ودين الحرب ، وتقرير الحرب في ظروف استثنائيّة ، فإنّ الفقهاء يقولون : إنّ الحرب في الإسلام مشرَّع في عدّة مجالات :

أوّلًا : الحرب الإبتدائيّة مع الكفّار والّتي يشترط فيها حضور الإمام المعصوم عليه السلام .

ص: 200

ثانياً : الحرب الدفاعيّة وهي ، إذا هاجم عدوّ بلاد المسلمين يخشى منه على بيضة الإسلام ، يجب على الاُمّة أن تبادر للدّفاع ، لا يحتاج إلى إذن الفقيه والحاكم الشرعي ،فيجب على الاُمّة الدفاع عن بيضة الإسلام .

ثالثاً : حرب البغاة ، وهم الذين يخرجون على إمام معصوم فيجب على الإمام محاربتهم حتّى يفيء إلى أمر اللّه ، كما صنع أميرالمؤمنين عليه السلام يوم الجمل وصفّين ويوم النّهروان .

إذن القاعدة والأصل في الإسلام هو السّلم ، وإنّما يختار الإسلام الحرب لظروف استثنائيّة ، وقد صالح رسول اللّه صلى الله عليه و آله صلح الحديبيّه في حين اعترض عليه بعض المسلمين ، ولكنّ النّبي صلى الله عليه و آله صالح لأنّه لم يمتلك قوّة على الإستمرار في الحرب ، فكان ذلك الصّلح مقدّمة للفتح العظيم ولدخول النّاس في دين اللّه أفواجاً أفواجاً . وأيضاًالمسلمون عاشوا طابع السّلم مدّة مكثهم في مكّة ، لأنّه لم يؤذن لهم بالقتال ، لأنّهم لوقاتلوا لاُبيدوا عن بكرة أبيهم . وكذلك الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام صالح صلح الحكمين لمّافرض عليه بعض الأغبياء والجهلة من جيشه في حرب صفّين ولذلك الإمام عليه السلام اضطرّلقبول صلح الحكمين ، وأيضاً الإمام عليه السلام ضلّ جليس بيته خمساً وعشرين عاماً ، اختارالسّلم على الحرب لحفظِهِ على كيان الإسلام والمسلمين ففي كلّ هذه الموارد الإمام عليه السلام اختار الصّمت والسّكوت . إذن الأصل في الإسلام السّلم ، والحرب إنّما يقرّر لظروف استثنائيّة .

تصميم الامام الحسن عليه السلام لقتال معاوية

السّؤال الثّاني : هل كان الإمام الحسن عليه السلام مصمّماً على مواجهة عسكريّة مع معاوية ؟ الجواب : نعم .

نحن بغضّ النّظر عن معرفة أهل البيت عليهم السلام للغيب فإنّ وظيفتهم في الحياة أن يسيروا على الأمر الظاهري ولا يستفيدوا من علمهم الغيبي - وله بحث في محلّه -فالإمام الحسن عليه السلام كان مصمّماً على مواجهة معاوية ، ومن خطبة له قال : «بلغني أنّ

ص: 201

معاوية بلغه أنّا كنّا عزمنا على السير إليه فتحرّك لذلك ، فاخرجوا رحمكم اللّه إلى معسكركم بالنخيلة» ؛ فكان مصمّماً على مواجهة معاوية لانه اعرف بظرف زمانه وانه الإمام المفروض طاعته على المسلمين ، وذلك بوصيّة من أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام ،وبتنصيص من النبي صلى الله عليه و آله ، وثانياً باجتماع الاُمّة عليه فهو يملك ملاك النصّ وملاك الإجماع .

أمّا معاوية فإنّه كان والياً من قبل الخلفاء ، وعُزل من قبل أميرالمؤمنين عليه السلام واستمرّيحارب أميرالمؤمنين عليه السلام بحجّة الطّلب بدم عثمان .

إذن الإمام الحسن عليه السلام هو الخليفة الشّرعي نصّاً وإجماعاً ، ومعاوية معزول من قبل الإمام علي عليه السلام فاللازم على الإمام الحسن محاربته لأنّه خارج على إمام زمانه ومخالف لأمره .

ثمّ إنّ معاوية طليق ابن طليق ، وقد ورد في الرّواية : لا يليّن مُفاء على مفيء ، ولعن من قبل النبي صلى الله عليه و آله ، فكيف للإمام الحسن عليه السلام أن يسكت عنه ، والإمام الحسن عليه السلام هو ابن أميرالمؤمنين عليه السلام الذي قال : وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يُقارّوا على كِضة ظالم ، ولاسغب مظلوم ، وقال عليه السلام : لَإن أبيت على حسك السّعدان مسهّداً ، أو اجرّ في الأغلال مصفّداً ، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه ورسوله وأنا ظالم لبعض العباد ، أو غاصب لشيء من الحطام .

فالإمام علي عليه السلام يشمئزّ من الظّلم والظالمين ، وكذلك ابنه الإمام الحسن عليه السلام ،فكيف يجوز له أن يسكت عن معاوية ، فمن هذا المنطلق بمجرّد وصول الإمام الحسن عليه السلام إلى دسّة الحكم بعد أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام زاد في عطايا المقاتلين مئة مئة ،«وهذه عادة جرت عند الحكّام بعد الإمام الحسن عليه السلام » أراد أن يشجّع المقاتلين لقتال معاوية .

ثانياً : ظفر الإمام الحسن عليه السلام بجاسوسين من قبل معاوية في البصرة والكوفة وأمربإعدامهما وكتب إلى معاوية : «أمّا بعد ؛ فإنّك دسست الرجال للإحتيال والإغتيال

ص: 202

وأرصدت العيون كأنّك تحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتوقعه إن شاء اللّه تعالى» (1) وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على خبث معاوية ومكره وتجرّئه على الإمام الحسن عليه السلام .

وثالثاً : الكتب الّتي دارت بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية ، الإمام كان يهدّد فيهامعاوية للحرب ، إذن كلّ هذه الأدلّة شاهدة على أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان عازماً على مواجهة شاملة لمعاوية ، وعليه تبيّن الجواب على السّؤال الثّاني وهو أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان مصمّماً على الحرب .

سبب عدم اختيار الامام الحسن الشهادة كاخيه الحسين عليهما السلام

السؤال الثالث : لماذا لم يختر الإمام عليه السلام طريق الشهادة كما اختارها أخوه الإمام الحسين عليه السلام إذ لم يمكن أن ينتصر على معاوية ؟

الجواب : أوّلاً : هل كان الإمام الحسن عليه السلام قادراً على أن يستشهد كما استشهدالحسين عليه السلام ؟

فنحن لمّا نقرأ التاريخ نجد أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد احتوشته الذِّئاب ، فمقدّمة الجيش في منطقة تدّعى المسكن (2) ، والإمام الحسن عليه السلام كان في المدائن .

فالإمام عليه السلام كيف يقاتل معاوية فإنّه لم يقابل جيش معاوية حتّى يقاتل حتّى الشهادة ، لأنّه كلّما كان يريد أن يتقدّم خطوة لم يتمكّن لانهم يقبضون عليه ويسلِّموه أسيراً لمعاوية ، فالنتيجة معاوية إمّا أن يقتل الإمام الحسن عليه السلام ، وإمّا يمنّ على الإمام ويطلقه أو يقول له : بشرط أن تسكت ، لا تنهى عن منكر ، ولا تتدخّل في الاُمورالسياسيّة ، إلّاعن تأييد النّظام ، إذن الإمام عليه السلام لم تسنح له الفرصة لمقابلة معاوية ومقاتلته حتّى الشهادة .

ص: 203


1- . الإرشاد - ص188 .
2- . المِسكن بكسر الميم موضع على نهر دجيل قرب بادانا ، والدجيل هي قرية تقرب مدينة بلد بمنزل من سامراء وقبر إبراهيم ابن مالك الأشتر واقع في أراضي الدجيل في طريق سرّ من رأى . (منتهى الآمال - ج1 ص433)

فالفارق بين الإمام الحسن والحسين عليهما السلام كبير جدّاً ، فإنّ الحسين عليه السلام كان في صفوة من الاصحاب ، قد نُخلوا من الزّيف وصفّوا من الغث ، حتّى قال في حقّهم ليلة عاشوراء : إنّي لا أعلم اصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عنِّي خيراً .

ثمّ إنّ الأمويّين كانوا يتمنّون أن يقبضوا على الإمام الحسين عليه السلام أسيراً كي يأخذوامنه كلمة ذلّ وخضوع ، ولكن لم يتمكّنوا ، لأنّه كان في صفوة قد نخلوا من كلّ غشّ وغث .

بينما الإمام الحسن عليه السلام كان في وسط ذئاب ، بدليل أنّ الإمام الحسن عليه السلام خطب خطبة ، وإذا يحملون عليه ويقولون له : أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ، وحمل عليه الجراح بن سنان فطعن الإمام الحسن عليه السلام في فخذه . ثمّ شدّوا على فسطاطه وانتهبوه حتّى أخذوا مصلَّاه من تحته ، ثمّ شدّ عليه عبدالرّحمن بن عبداللّه فنزع مطرفه عن عاتقه ،فبقى الإمام جالساً متقلّداً السيف بغير رداء ، ثمّ دعا فرسه فركبه وأحدقت به طوائف من خاصّته وشيعته ومنعوا من أرادوا به سوءاً .

ثمّ حمل الإمام عليه السلام مجروحاً إلى المدائن إلى بيت واليه على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار فعولج هناك (1) .

وأمّا الإمام الحسين عليه السلام لمّا خطب أصحابه ليلة عاشوراء ، انظر إلى جواب أصحابه ! لمّا قال لهم : إنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً أنتم في حلّ منّي ليس عليكم منّي ذمام ، فابتدر إليه أبوالفضل العبّاس قائلًا : سيّدي يابن رسول اللّه ، ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟! لا أرانا اللّه ذلك أبداً .

وقال مسلم بن عوسجة : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ، وبماذا نعتذرإلى اللّه في أداء حقّك ؟ ... الخ .

وقال سعيد بن عبداللّه الحنفي : واللّه لو علمتُ أنّي اقتل فيك ، ثمّ احى ثمّ احرق حيّاً .

ص: 204


1- . منتهى الآمال - ج1 ص432 .

ثمّ اذرى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل وإنّما هي قتلةٌ واحدة ، ثمّ أنال الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً .

وقام زهير بن القين وقال : واللّه يابن رسول اللّه ! لوددتُ أنّي قُتِلت ثمّ نُشرت ألف مرّة ، وإنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من إخوتك وولدك وأهل بيتك .

وتجاوب أصحاب الحسين عليه السلام بكلام منبعث عن الإيمان والثبات والإستقامة ،هؤلاء هم أصحاب الحسين عليهم السلام .

ولمّا نلقي نظرة على جيش الإمام الحسن عليه السلام وأصحابه كان جيشاً منهاراً يفقدالمعنويّة ، وأهمّ عامل في انتصار الجيش هو العامل المعنوي ، والإتّحاد بين الجيش ، بينماجيش الإمام الحسن عليه السلام كان مشكَّلاً من أمويّين كانوا يتجسّسون لصالح معاوية ومن خوارج ، والخوارج يريدون قتل الإمام الحسن عليه السلام لأنّه ابن علي بن أبي طالب عليه السلام ، كمايريدون في نفس الوقت أن يقاتلوا معاوية «أينما أصابت ففتحٌ» ، فالفرصة السّانحة عندهم هي الّتي تحدِّد لهم الموقف ، وكذلك هناك من كان في جيش الإمام عليه السلام يتّبع رؤساء القبائل من أجل الطّمع والأموال ، يريدون اللُّقمة الدَّسمة ، فهكذا كان جيش الإمام الحسن عليه السلام متعدِّد النِّحل والآراء ، متشتِّتاً مختلفاً فيما بينهم ، وقد خانوا الإمام بعدوعودهم له ، فقد كان جيش يفقد الوحدة والمعنويّة والمبدأ .

وقد انهار هذا الجيش يوم خان عبيداللّه بن العبّاس بالإمام الحسن عليه السلام ، انظر إلى مظلوميّة الإمام عليه السلام حيث اختار عبيداللّه بن العبّاس وهو أقرب النّاس إليه ابن عمّه ، ولكن مع ذلك خان الإمام عليه السلام .

والجدير بالذكر أنّه كان موتوا مِن قِبَل معاوية ، وذلك لمّا أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى صنعاء اليمن ، فقتل شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام ، وكان عبيداللّه والياً عليها من قِبَل الإمام ، فانهزم وترك زوجته وأولاده حتّى دخل بسر عليهم ، فذبح وَلَدي عبيداللّه بن العبّاس ، ورمى بهما الحائط أمام امّهم ، حتّى أنشأت وقالت وهي مذهولة :

هامَن أحسّ بابنيَّ اللَّذَين هما *** كالدرّتين تشظَّا منهما الصَّدفُ

ص: 205

هامَن أحسّ بابنيَّ اللَّذَين هما *** سمعي وعيني فقلبي اليوم مختطفُ (1)

فلاحظ الى ابن عبّاس ، الذي هو موتور من قِبَل معاوية بذبح أولاده فالعجب منه يترك الإمام عليه السلام ويلتحق بجيش معاوية ، وإذا بالجيش يصبح وقد فقدوا أميرهم ، وذلك لأنّ معاوية كتب له : أعطيك كذا وكذا من الأموال ، وخيرٌ لك أن تكون متبوعاً لا تابعاً ،والحسن سوف يصالحني فالتحق بي ، فترك جيش الإمام وصار مع معاوية . وهذا أيضاًإن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ الحميّة والنسبيّة والقوميّة ليست عامل من عوامل الصّمود والإستقامة ، وليس لها أيّ قيمة .

فالعامل الأكبر في صمود الإنسان في الحرب هو عامل الإيمان باللّه والمبدأوالدّين والعقيدة كما كانت في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام .

وحيث أنّ ابن عبّاس مع ما أنّه كان مبتوراً من قبل معاوية بذبح أولاده ولكن لِضعف إيمانه يبيع كلّ القيم لأجل المادّة .

فجيش خائن كهذا كيف يمكن أن يقابل معاوية وينتصر عليه ، ولذلك كتبوالمعاوية : إن شئت قبضنا على الحسن بن علي مكتوف الأيدي وسلَّمناه إليك .

إذن الإمام الحسن عليه السلام قضيّته تختلف عن قضيّة الإمام الحسين عليه السلام لإحرازالشهادة .

وثانياً : لو فرض أنّ الإمام الحسن عليه السلام قادرٌ على الشّهادة هل أنّ شهادته كانت في نفع الإسلام ؟ فإنّ القضيّه ليست قضيّة دم ، وإلّا فالإمام الحسن عليه السلام كان مستعدّاً لبذل الدّم لأنَّ القتل لهم عادة وكرامتهم من اللّه الشهادة ، وعندما ذلك الشّخص يرميه بالجبن ،الإمام يقول له : أجبناً ، وأنا ابن فاطمة الزّهراء ؟ أجبناً وأنا ابن أميرالمؤمنين عليه السلام ؟

المسألة ليست قضيّة دم ، وإلّا كثير من الدّماء اريقت في التاريخ ، ما كان لها أثركأثر دم جون مولى أبي ذر الغفاري الذي قتل مع الحسين عليه السلام ، القضيّة ليست قضيّة تضحية ، نعم التضحية التي تنفع الإسلام ، تنفع الكيان مهمّة . الإمام الحسن عليه السلام لو كان يقتل .

ص: 206


1- . المجالس السنية ، ج1 ، ص48 .

نفسه ويستشهد ربّما تكون قتلة باردة تافهة لا خير للإسلام فيها والنتيجة من قتله تكون أوّلًا استئصال الشيعة ، فكلّ الشيعة اللَّذين حملوا لواء التشيّع ، لواء صفّين والجمل ،يبادون عن بكرة أبيهم من قِبَل معاوية ، وكذلك بإمكان معاوية أن يشوّه سمعة الإمام الحسن عليه السلام إذا استشهد ، مثلًا يقول : إنَّ الإمام الحسن طالب ملك وسلطان ، وأنا عرضت عليه الصّلح ولكن الإمام الحسن لم يوافق ، فلذلك قُتل لاجل المنصب .

فإنّ معاوية يملك من الحيلة والمكر ، ما لم يملكه يزيد ولده ، ثمّ إنّ معاوية لم يكن ظاهر من الاستهتار والفساد مثل يزيد ، فله القدرة على تشويه سمعة الإمام الحسن ،ويستغلّ الفرصة بشهادة الإمام .

فظروف الإمام الحسين عليه السلام تختلف عن ظروف الإمام الحسن بكثير ، فإنّ ظروف مجتمع الإمام الحسين عليه السلام كانت مستعدّة للثورة ضدّ بني اميّة لأنّ الإمام الحسن عليه السلام عرّاهم أمام المجتمع وبيَّن زيفهم للاُمّة فكانت الاُمّة مستعدّة للثورة ضدّهم ولذلك كاتبواالإمام الحسين عليه السلام وإن لم يساندوا الإمام الحسين عليه السلام ، وذلك بسبب حبّهم للجاه ، وماصنع بهم ابن زياد من التهديد والسجن لما دخل الكوفة فالمجتمع كان مطَّلعاً على ظلم الأمويّين وغدرهم .

شروط الصلح

السؤال الرابع : ما هي شروط الصّلح ؟

لابدّ أن نعلم إنّ الذي دعا للصلح أوّلًا : هو معاوية - لا الإمام الحسن عليه السلام ، كما كتب البعض : بأنّ الإمام الحسن عليه السلام دعى إلى الصّلح ، بدليل أنّ الإمام الحسن عليه السلام خطب أصحابه وقال : إنّ معاوية قد دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ .

وربّما البعض يسأل : لماذا معاوية دعى إلى الصّلح ، مع أنّ الإمام الحسن عليه السلام بتلك الحالة ، جيش متفرّق ومنهار وفاقد للمعنويّة ، فكان بإمكان معاوية أن يقتل الإمام الحسن وينتصر ؟

الجواب : هذا صحيح ولكن معاوية ما كان يعرف أصحاب الإمام الحسن عليه السلام بهذا

ص: 207

المستوى ، لأنّه كان يخاف من العراقيّين ، لأنّ العراقيّين لهم موقف يوم صفّين ، بحيث معاوية نفسه يقول : ما رأيت عيونهم تحت مغافر إلّاولُبس على عقلي ، فكان يخاف منهم ، ولذلك هو بادر إلى الصّلح ، وما كان يعرف أنّ أصحاب الإمام عليه السلام بذاك المستوى من الضعف والإنهيار ، ولذلك طلب الصلح ، وأرسل صحيفة بيضاء مختومة ، فالإمام الحسن عليه السلام اشترط على معاوية في الصحيفة بشروط منها :

الشرط الأوّل : أن يعمل معاوية بكتاب اللّه وسنّة الرسول صلى الله عليه و آله .

ثانياً : أن لا يسبّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في أيّ مكان حتّى في الصّلاة كما كانوايفعلون .

الثالث : أن لا يتتبّع شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام وأن يُنفق على يتاماهم وأراملهم .

الرابع : أن تكون الخلافة من بعده للإمام الحسن عليه السلام وإذا حدث شيء بالإمام الحسن عليه السلام تكون الخلافة للإمام الحسين عليه السلام .

الشرط الخامس : أن يكون بيت مال الكوفة بيد الإمام الحسن عليه السلام حتّى ينفق على يتامى شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام والمعوزين منهم ، هذه هي خلاصة شروط الإمام الحسن عليه السلام في الصّلح . سؤال :

ماهي نتائج الصُّلح ؟

أوّلًا : عدم إراقة الدّماء من الطّرفين .

ثانياً : إظهار أهل البيت بالمظهر النّاصح ، وأنّهم لا يريدون الحرب ، حتّى قال الإمام الحسن عليه السلام : الحمد للّه الذي هداكم بأوّلنا وحقن دمائكم بآخرنا .

ثالثاً : قبر ودفن مؤامرات أعداء الإسلام من الرّوم وغيرهم الذين كانوا يتربّصون الدوائر بالمسلمين ، فلمّا صالح الإمام الحسن عليه السلام اقبر ودفن مؤامراتهم .

رابعاً : الإمام الحسن عليه السلام كان ناجحاً في صلحه ومنتصراً على معاوية على اي حال وذلك لما يأتي :

أوّلًا : إن طَبَّق معاوية شروط الصلح فالإنتصار للإمام ، لأنّ معاوية عمل على سنّة اللّه ورسوله ، وعدم مطاردة أصحاب الإمام علي عليه السلام .

ص: 208

وإن لم يطبّق معاوية الشروط فهو انتصارٌ آخر للإمام الحسن عليه السلام ذلك لأنّ الإمام الحسن عليه السلام كشف معاوية وعرَّاه على المسرح وبيَّن للنّاس من هو معاوية ، وأوّل قنبلة موقوتة انفجرت يوم صعد معاوية بن أبي سفيان منبر الكوفة بعد الصّلح امام الجماعة وقال : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا ... ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّرعليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ، ألا وإنّي منّيت الحسن وأعطيته أشياءوجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له (1) .

حتّى قال الحسن البصري : واللّه هو التهتّك وكان غدّاراً .

وبدأ معاوية بجرائمه منها مطاردته شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقتل حجر بن عدي ،وعمرو بن الحمق وغيرهم من شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام .

صحيح طارد شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام ، ولكن لولا الصّلح لاُبيد شيعة أميرالمؤمنين عن بكرة أبيهم ، اذن إحدى نتائج الصّلح هو الحفاظ على البُنية الباقية من شيعة علي بن أبي طالب .

واستطاع أن يكشف معاوية أمام الملأ الإسلامي بالتدريج إلى أن وصل دورالحسين عليه السلام ، فالمجتمع كان متهيّأ وكان مستعداً لقيام ثورة ضدّ الأمويّين لأنّ الإمام الحسن كشف غدرهم وعرّاهم امام الملأ وتمكّن أن يعدّ الاُمّة لثورة أبي عبداللّه الحسين عليه السلام ، فالإمام عليه السلام صالح وتحمّل عشرات بل مئات من المشاكل والآلام ، نتيجة صلحه ، كل ذلك حفاظاً على الاسلام وعلى البقيّه الباقية من شيعته .

فالإمام الحسن عليه السلام تحمّل الذُلّ القاتل لنفسه ، ولم يتحمّل الذُلّ القاتل لمبدئه ولعقيدته ، تحمّل تلك الكلمات حتّى من أخصّ شيعته ، سبحان اللّه ، نحن بعد قرون عرفنامظلوميّة الإمام الحسن وموقفه ، ولكن يأتي إليه بعض شيعته يقول : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين ، واقعاً الإمام مظلوم من قبل شيعته ومن قبل أعدائه .

أو يكتب البعض ويقول : إنّ الحسن مزاجه كان يحبّ السّلم والحسين مزاجه .

ص: 209


1- . بحار الأنوار - ج44 ص49 .

الثورة ، لا تدري فهل القضيّه قضيّة مزاجات واهواء أم قضيّة إسلام ودين ومبدأ ؟ في حين انّ الإمام الحسن عليه السلام معصوم بنصّ آية التطهير .

شهادة الامام الحسن عليه السلام وموعظته لجنادة

ذكر بعض الخطباء ان فاطمة الزهراء عليها السلام رأت بعض الخطباء وهو الشيخ عبدالزّهراء الكعبي في عالم الرؤيا وقالت له : لماذا لا تعقدون ماتماً على ولدي المظلوم ،ولا تبكون عليه ؟ قال لها : سيّدتي نحن دائماً نقيم المآتم والمجالس على ولدك المظلوم الحسين عليه السلام . قالت :لا ، ولدي المظلوم الحسن . الحسين تلك القبّة ، تلك المنائر ، تلك المصابيح ، الزوّار من كلّ مكان ، أمّا ولدي الحسن صاحب القبر المهدوم ، قليل الزوّارليس له زائر ، اقيموا المآتم على ولدي الحسن عليه السلام لانه لا يذكر بالسّنة الا ليلة واحدة وهي ليلة شهادته فالامام مظلوم حتّى من قبل شيعته ، ولا زال يعاني الآلام والمحن حتّى دسّ إليه معاوية السمّ على يد جعدة بنت الأشعث ، مرّات عديدة سقي السمّ ، ولكن كان يستشفى بتراب جدّه صلى الله عليه و آله ، ولكن في هذه المرّة اثر به السمّ ولذلك وقع على فراشه يتقلّب من حرارة السمّ .

يقول جنادة بن أبي اميّة : دخلت على الإمام الحسن عليه السلام في تلك اللَّحظات وهويقذف كبده في الطّشت قطعة قطعة .

قلت : سيّدي أبا محمّد ! عظني .

قال : نعم يا جنادة ! استعدّ لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلّاكنت فيه خازناً لغيرك ، واعلم أنّ الدّنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فانزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك ، فإن كان ذلك حلالًا كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت كما أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فإنّ العتاب يسير .

يا جنادة ! واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً ، وإذا

ص: 210

أردت عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعة اللّه عزّوجلّ (1) .

يقول جنادة : وإذا بالإمام عليه السلام انقطع صوته ، واصفرّ لونه ، دخل عليه أخوه الحسين عليه السلام ، انكبّ عليه الحسين يقبّله في رأسه ، وما زال الحسن عليه السلام يوصي بوصايا ،بينما هم كذلك إذْ أقبلت العقيلة زينب عليها السلام ، فقال الامام الحسن عليه السلام : أخي يا حسين ، نحِّي الطّشت عنّي حتّى لا تراه اختي زينب .

يحسين نحّي الطّشت عنّي *** خواتك يبوالسجّاد إجنّي

يردن يشبعن شوف منّي *** أو يردن يخويه ايودّعنّي

وينوحن عليّه او يندبنّي ***

وقفت عليه ام كلثوم وجدته بحالة يرثى له ، لطمت خدّها ونشرت شعرها ونادت :واحسناه ! وامحمّداه ! واعليّاه ! وافاطمتاه !

وصاحت زينب : واأخاه ! واحسناه ! واسيّداه ! واقلّة ناصراه ! ثمّ إنّها بكت على أخيها وهي تلثم خدّيه وتتمرّغ عليه .

عسه يمّ الحزن گلبچ يتحمّل دواهي السود *** جدّچ وامّچ اوعودچ واليوم الحسن مفگود

أوّلها فگد جدّچ العله فگده كسر همّچ *** او ثاني اصواب يوم الباب ذاك الكسر ضلع امّچ

او دم عودچ البالمحراب اجَره من الجفن دمّچ *** و جاچ اصواب اخوچ اليوم الحسن يختى الحسن مسموم

* * *

قضى الزكيُّ فنوحوا يا محبّيه *** وابكوا عليه فذي الأملاك تبكيه

قضى ابن فاطمة الطهر البتول مَن *** عمَّ البرايا جميعاً في أياديه .

ص: 211


1- . منتهى الآمال ، ج1 ، ص441 .

قضى وقد قُطّعت أحشاؤه قطعاً *** وصاريقذفُها بالطشت من فيه

قضى واظلمَّ وجه الكائنات أسىً *** لما أصات بصوت الحزن ناعيه

ولم يزل كاظماً للغيظمحتسباً *** على الأذى صابراً في جنب باريه

حتّى قضى بنقيع السمّ مضطهداً *** وجُرِّعَ الحتف قسراً من أعاديه

وأصبح المجدُ قد هُدّت قواعدُهُ *** والجودُ أصبح ينعاه ويبكيه (1) .

ص: 212


1- . القصيدة للسيد مهدي الأعرجي رحمه الله .

المجلس السابع عشر: حول مناسبة واقعة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1) .

صدق اللّه العلي العظيم

قبل الدّخول إلى موضوع واقعة بدر الكبرى ، لابدّ أن نعلم أنّ الإسلام هو الدّين الوحيد الذي يحافظ على الأمن والسّلام ، وهو الذي يحافظ على النّفوس والأموال والحقوق أكثر من أيّ دين آخر ، وأنّ أبغض شيء في الإسلام هو إراقة دماء البشر ،وسلبهم نعمة الحياة بغير حقّ ، ولكنّ الشّرع والعقل والقانون يسمح بإراقة دم كلّ مَن يقف حجر عثرة في سبيل سعادة أبناء البشر وظلمهم .

وفي هذه الآية الشّريفة ، يُذكّر اللّه تعالى المسلمين بواقعة بدر الكبرى ، فوصف المعركة بالكبرى نابع من عظم الآثار التي تركتها تلك المعركة على مستقبل القوّتين الجاهليّة والإسلام .

فمعركة بدر التي إنتهت بالنّصر على المشركين ، كانت أوّل قوّة ظهرت للمسلمين فيها ، والتي ردّت بها وانكست قوّة المشركين الذين ظلّوا يطاردون المسلمين بالتّنكيل والأذى اكثر من ثلاث عشر سنة ، والمسلمون يتلقون التنكيل والأذى بالصّبر ، لأنّ المقاومة التي كانت من المسلمين مع حالة الضّعف كانت أشبه بعمليّة الإنتحار .

ص: 213


1- . سورة آل عمران - آية 123 .

وأمّا وجه تسمية المعركة ببدر ، لأنّ كلمة بدر اسم شخص ، وهو بدر بن قريش الذي حفر بئر بين مكّة والمدينة ، فسمّيت الآبار باسمه ، لأنّ قوافل قريش التجاريّة كانت تمرّ على هذه الأرض للاستسقاء ، فلمّا سمع النّبي صلى الله عليه و آله بأنّ أباسفيان قد رجع من الشّام بقافلة ضخمة جهّزتها قريش بأكثر من 50 ألف دينار ، ومن جملة هذه الأموال ما استولت عليه قريش من أموال المهاجرين الذين نفتهم وأخرجتهم من مكّة صمم في مواجهتم .

ثم ان ابا سفيان عرف عن طريق اتباعه واصدقائه تصميم النبي صلى الله عليه و آله و سلم مواجهة قافلته ارسل من يمضي الى مكّة بسرعة ليخبر اهلها بما سيؤول اليه امر القافلة .

فمضى رسول ابي سفيان بحالة مثيرة كما اوصاه ابو سفيان اذ خرم انف بعيره وبتراذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه ، وقد شق ثوبه وركب بعيره على خلاف مايركب الناس « اذ ظهره كان الى رقبة البعير ووجهه الى عجزه » ليلفت الناس اليه من كل مكان ، فلما دخل مكّة اخذ يصرخ قائلاً : ايها الناس الاعزة ، ادركوا قافلتكم ، ادركواقافلتكم واسرعوا وتعجلوا اليها ، فان محمداً ورجالاً مارقين من دينكم قد خرجوا من المدينة ليتعرضوا لقافلتكم .

وكانت عاتكة بنت عبدالمطلب عمّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم آنئذٍ قد رأت رؤيا موحشة عجيبة وقد تناقلت الافواه رؤياها فازداد الناس هيجاناً .

وكانت عاتكة قد رأيت قبل ثلاثة ايام من مجي رسول ابي سفيان الى مكّه ان شخصاً يصرخ : ايها الناس تعجّلوا الى قتلاكم ، ثم صعد هذا المنادي الى اعلى جبل ابي قيس واخذ حجراً كبيراً فرماه فتلاشى الحجر في الهواء دما عبيطاً ، فلما استيقظت فزعة مرعوبة من نومها وقصّت رؤياها على اخيها ، العباس ذهل الناس لهول هذه الرؤيا .

لكن ابا جهل لما بلغه ذلك قال : ما رأت عاتكة رؤيا ، هذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطلب وباللات والعزّى لتنظرن ثلاثة ايام فان كان ما رأت حقاً فهو كما رأت وان كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتاباً : انه ما من اهل بيت من العرب اكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم .

ولكن لم يكد يمضي اليوم الثالث حتى كان ما كان من امر ذلك الرجل الذي هزّ

ص: 214

مكّة وأهلها (1) .

كيفيّة إخراج النّبي صلى الله عليه و آله المسلمين للقتال مع ضعفهم وقلّتهم

جمع النّبي صلى الله عليه و آله المسلمين وأمرهم بالخروج تحت غطاء العير والقافلة ، لا النّفيروالقتال ، ولم يتطرّق لذكر النّفير ، حين قام النّبي صلى الله عليه و آله مخاطباً المسلمين بقوله : «هذه قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ اللّه أن ينفلكموها» .

ولو أنّ كلمة الأنفال فيها إشارة إلى الجهاد والقتال ، ولكنّ النّبي صلى الله عليه و آله لم يذكر لهم ذلك مع علمه بوقوع القتال .

وكذلك ما يفهم من كلامه صلى الله عليه و آله حيث قال : هذه قريش ولم يقل هذه العير ، أو عيرقريش ، حتّى تشمل الكلمة كلا الاحتمالين العير والنفير ، فإذن النّبي صلى الله عليه و آله لم يذكرللمسلمين ، ولم يصارحهم بذلك ، بل دعاهم رغبة وطمعاً بأموال قافلة أبي سفيان تشجيعاًمنه للمسلمين بالخروج .

ولذلك البعض ما خرج مع النّبي صلى الله عليه و آله لمّا لم يجد الحاجة ماسّة للخروج من أجل المغانم ، وبقي في المدينة ، ولم يظن أنّ الرّسول يلقي حرباً ونفيراً عاماً ممّا يستدعي منه الخروج مع النّبي صلى الله عليه و آله لردع الخطر عن وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمسلمين .

ولذلك لمّا رجع النّبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة منتصراً ، أسرع إليه الصّحابي أسيد بن خضيرلاستقبال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : الحمد للّه الذي سرّك وأظهرك على عدوّك ، والذي بعثك بالحقّ ، ما تخلّفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك ، ولا ظننت أنّك تلاقي عدوّاً ، ولا ظننت إلّا أنّها العير .

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله : صدقت .

فالنّبي كان يعلم باحتمال وقوع القتال ، لكنّه لم يدعهم بلهجة القتال ، وإنّما بلهج الأموال والعير ، والسّبب في ذلك : هو أنّ المسلمين كانوا ضعفاء ، وكان بداية تأسيس

ص: 215


1- . تفسير الأمثل ، ج5 ، ص367 .

المجتمع الإسلامي ، وإنّهم كانوا في السّنة الثّانية للهجرة ، وحيث كانوا فقراء بسطاء ، لاسلاح لهم ، ولا عتاد ، ولا جيش مدرَّب ، فخاف النّبي صلى الله عليه و آله إذا ما دعاهم بالخروج للقتال أن يتراجع الكثيرون .

فكان ذلك تكتيكاً من النّبي صلى الله عليه و آله لإخراج المسلمين معه ، مع عدم مصارحته لهم ،باحتمال القتال مراعاة لضعفهم ، لأنّ اللّه قد وعده بالنّصر حيث قال تعالى : وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (1) ، والطّائفتان هما القافلة المحمَّلة بالأموال والنفير ، وهم قريش الذين خرجوا لحماية الأموال .

وثانياً لوجود المنافقين ، وخوفاً من استغلالهم في إفساد الأجواء على النّبي صلى الله عليه و آله ،وبثّ الرّعب بين المسلمين ، وتثبيط المسلمين ، وتأثيرهم بالقعود بدل الخروج ، فلذلك النّبي صلى الله عليه و آله لم يصارحهم للقتال ليميت الفتنة في مهدها ، مع عدم نيّة الرسول في ضرب طبقة المنافقين ، لأنّه كان لا يزال يستفيد من وجودهم إلى حدّ كبير .

ولذلك النّبي صلى الله عليه و آله حينما استشارهم للقتال لمواجهة النّفير ، كانوا يحاولون بشتّى الطّرق ومختلف الوسائل إظهار الخوف على الإسلام ، داعين للرّجوع إلى المدينة المنوّرة ، محتجّين ما سيلاقيه النّبي صلى الله عليه و آله من المخاطر ، إذا واجه قوّة قريش وهيبتها .

حتّى قال البعض : «إنّها قريش وخيلائها يا رسول اللّه ، ما آمنت منذ كفرت ، ولاذلّت منذ عزّت ، ولم نخرج على هيئة الحرب» .

فقال له النّبي : إجلس .

ولكن أشار الأكثرون بالمضي للقتال ، منهم المقداد بن عمرو حيث قال : يا رسول اللّه ! إمضِ لما أمرك اللّه ونحن معك ، ولا نقول ما قالت بنو إسرائيل لموسى ابن عمران : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (2) ولكنّا نقول : إذهب أنت وربّك فقاتلاإنّا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرتَ بنا إلى برك العماد - يعني الحبشة -لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه ، فجزّاه النّبي خيراً ودعا له . .

ص: 216


1- . سورة الأنفال - آية 7 .
2- . سورة المائدة - آية 24 .

وقال سعد بن معاذ من جملة كلامه : واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضنامعك (1) .

وعندها قال لهم النّبي صلى الله عليه و آله : سيروا على بركة اللّه ، واللّه لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم فتأهّبوا لخوض المعركة .

ثمّ إنّ النّبي صلى الله عليه و آله طلب من المسلمين ليلة بدر أن يأتي بعضهم بالماء ، فقال لأصحابه : من منكم يمضي في هذه اللّيلة إلى البئر فيسقي لنا ، فصمتوا ولم يقدم منهم أحدعلى ذلك .

فأخذ أميرالمؤمنين عليه السلام قربة ، وانطلق يبغي الماء ، وكانت ليلة ظلماء باردة ذات رياح ، حتّى ورد البئر وكان عميقاً مظلماً ، فلم يجد دلواً يستقي به ، فنزل في البئر وملأالقربة ، فارتقى وأخذ في الرّجوع ، فعصفت عليه عاصفة ، جلس على الأرض لشدّتهاحتّى سكنت ، فنهض واستأنف المسير ، وإذا بعاصفة كالاُولى تعترض طريقه ، فتجلسه على الأرض ، فلمّا هدأت العاصفة ، قام يواصل مسيره وإذا بعاصفة ثالثة تعصف عليه ،فجلس على الأرض ، فلمّا زالت عنه قام وسلك طريقه حتّى بلغ النّبي صلى الله عليه و آله ، فسأله النّبي صلى الله عليه و آله ، فقال : يا أباالحسن ! لماذا أبطأت ؟

فقال عليه السلام : عصفت عليَّ عواصف ثلاث ، زعزعتني فمكثت لكي تزول .

فقال صلى الله عليه و آله : وهل علمت ما هي تلك العواصف يا علي ؟

فقال عليه السلام : لا .

فقال صلى الله عليه و آله : كانت العاصفة الاُولى جبرئيل ومعه ألف ملك سلّم عليك وسلّموا ،والثّانية كانت ميكائيل ومعه ألف ملك سلَّم عليك وسلّموا ، والثالثة قد كانت إسرافيل ومعه ألف ملك سلّم عليك وسلّموا ، وكلّهم قد هبطوا مدداً لنا (2) .

تقديم القتال على الصّوم الأوّل للمسلمين

ص: 217


1- . حاشية تاريخ الطبري - ج2 ص434 .
2- . مفاتيح الجنان - للشيخ عبّاس القمي - ص224 .

كان خروج النّبي صلى الله عليه و آله في اليوم الثّامن من شهر رمضان المبارك وتمّ القتال في السابع عشر منه ولكن ربّما هناك يطرح سؤال وهو : لماذا ترك الرّسول صلى الله عليه و آله الصّوم الأوّل في الإسلام بعد انقضاء بضع أيّام من شهر رمضان الكريم في السّنة الثانية للهجرة النبويّة ،وقد فرض اللّه أوّل صوم على المسلمين في شهر شعبان ، لمّا نزلت الآية على النّبي صلى الله عليه و آله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ، والذي هو أحد الطّقوس العبادية المهمّة في الإسلام ، وفجأة طلع النّبي صلى الله عليه و آله يدعوا المسلمين للخروج من المدينة ، ومواجهة قافلة أبي سفيان التّجاريّة وما يستلزم ذلك من ترك الصّيام ؟ ...

الجواب : ينصب على الأسباب التّالية :

أوّلًا : مرور قافلة أبي سفيان التّجارية بجانب آبار بدر للاستسقاء والاستراحة ،صادف في أواسط شهر رمضان ، ومجرّد التريّث من قبل النّبي صلى الله عليه و آله ، سيفوت الفرصة على المسلمين في اللّحوق بالقافلة والتعرّض لعيرها ، وفي ذلك قساوة واضحة لهم ، فتفويت الصّوم ولو أنّه الصّوم الأوّل في الإسلام ، لكنّه يحقّق الانتصار العظيم للإسلام بالعير أوالنّفير ، واكتساب العزّة والقوّة للإسلام والمسلمين ، وكما تحقّق ذلك .

ثانياً : الصّوم عبادة فرديّة تدور مدار الشّخص الصّائم ، والجهاد عبادة اجتماعيّة تدور مدار المجتمع ، من جميع الأبعاد اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً ، وحتّى نفسيّاً ، ولذلك العبادات التي ترجع الفائدة فيها للمجتمع أعظم أجراً ، وأوقع أثراً من العبادات التي لا تخرج عن نطاق ذات الإنسان العابد ، ولذلك ورد في الحديث النّبوي :الجنّة تحت ظلال السّيوف ، وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله : رهبانيّة امّتي الجهاد .

فالرّسول صلى الله عليه و آله قام بتقديم الأهم وهو الجهاد على المهم ، لأنّه يعود بالنّفع على كافّة المسلمين ، وإنّه عزّ الإسلام ، كما قالت الزّهراء عليها السلام في خطبتها في المسجد : والجهاد عزّالإسلام . .

ص: 218


1- . سورة البقرة - آية 183 .

ثمّ إنّ الآية أشارت إلى ذلك حيث قالت : وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ لقدورد في تفسير كلمة أذلّة ، عن الإمام الصادق عليه السلام : أنّ أذلّة ليس هو المعنى المتبادرللأذهان ، إذ لا يصحّ أن يوصف المسلمون بالذلّ وبينهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله رمز العزّة والقوّة والتأييد الإلهي ، وإنّما المقصود من الكلمة هو ما يعني الضّعف والقلّة ، فلقد نصر اللّه المسلمين بعد أن كانوا ضعفاء في مكّة تستضعفهم طواغيت مكّة ، حيث كانوا يسوقونهم إلى الموت ، بالقتل والتّعذيب ، فكان حقّاً على اللّه أن ينتصر للمستضعفين ، ويجعلهم أعزّاء ، وهناك أسباب اخر يطول المقام من ذكرها .

خروج النّبي صلى الله عليه و آله للقتال

روي أنّ النّبي صلى الله عليه و آله كان قد خرج في ثلاث ماءة وثلاث عشر رجلًا مقاتلًا موزّعون على ثلاثة وثمانين رجلًا من المهاجرين والبقيّه من الأنصار ، وجعل لهم ثلاث رايات .

الاُولى : راية سوداء يقال لها العقاب دفعها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، واُخرى سوداء أعطاها للأنصار بيد سعد بن معاذ ، وأمّا الثّالثة : فهي لواء أبيض جعله لمصعب بن عمير .

وأمّا عُدّة المسلمين فكانت من الإبل سبعين بعيراً فتعاقبوها ، حيث كان كلّ ثلاثة من الصّحابة يتناوبون في ركوب الإبل ، فتعاقب الرّسول صلى الله عليه و آله ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام ،ومرشد بن أبي مرشد الغنوي على إبل ، ولم يكن لجيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّافرسين ،أحدهما للمقداد بن عمر الكندي ، والآخر للزّبير بن العوام .

وأمّا عدّة الأسلحة ، فكانت ثمانية سيوف وستّة أدرع ، وبعض النّبال ، هذا كلّ قوام ما يملكه جيش المسلمين في معركتهم الاُولى الّتي سمّيت ببدر الكُبرى .

فبالرّغم من قلّة العدّة والعدد ، إلّاأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان سلاحه التوكّل على اللّه تعالى ، ولم يعتمد إلّاعلى قدرات المسلمين الذاتيّة رغم ضعفها وقلّتها .

ولذا فإنّه رفض كلّ تعاون واشتراك من غير المسلمين في المعركة مع احتياجه الشّديد لتكثير العدد والعدّة ، كأمثال خبيب بن يسار ، وكان رجلًا شجاعاً معروفاً في

ص: 219

الحروب ، وكذلك قيس بن محرث ، حيث التقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله في طريقه إلى بدر وكانامشركين ، فأدركا النبي صلى الله عليه و آله بوادي العقيق ، وخبيب مقنع بالحديد ، فعرفه رسول اللّه من تحت المغفر ، فالتفت إلى سعد بن معاذ فقال : أليس بخبيب بن يسار ؟ قال : بلى يا رسول اللّه .

فتقدّم خبيب وأخذ ببطنان ناقة النّبي صلى الله عليه و آله ، فقال النّبي صلى الله عليه و آله : ما أخرجكما معنا ؟قالا : كنت يا محمّد إبن اختنا وجارنا ، وخرجنا مع قومنا للغنيمة . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لايخرجنّ معنا رجل ليس على ديننا .

فقال خبيب : قد علم قومي أنّي عظيم القدر والغناء في الحرب ، شديد النكاية ،فاُقاتل معك للغنيمة ولن أسلم .

فقال له النّبي صلى الله عليه و آله : لا ولكن أسلم ثمّ قاتل ، فتفرّقا عنه ولم يسلم حتّى قابلاه في منطقة الروحاء ، قال خبيب : إنّي أسلمت لربّ العالمين ، وشهدتُ أنّك رسول اللّه ، فسرّالنّبي بذلك ولكن قيس بن محرث ، أبى أن يسلم ، فلم يأذن له النّبي صلى الله عليه و آله بالقتال ورجع إلى المدينة .

وأمّا المشركون فمعهم سبعمائة بعير ، وأربعمائة فرس ، وقيل : مأتين وكلّهم دارع ومجموع المدارعين ، فيهم ستمائة دارع ، وأمّا عددهم مابين تسعمائة والألف ، وذلك لمّاالتقى بعض المسلمين ببعض عبيد قريش على ماء بدر ، قال لهم النّبي صلى الله عليه و آله عن عددهم ،فقالوا : إنّه لا علم لنا .

فقال صلى الله عليه و آله : كم ينحرون كلّ يوم من جزور ؟

فقالوا : تسعة إلى عشرة .

فقال صلى الله عليه و آله : القوم تسعمائة إلى ألف رجل .

فلمّا بلغ المسلمين كثرة المشركين خافوا وتضرّعوا إلى اللّه ، ولمّا نظر النّبي صلى الله عليه و آله إلى كثرة العدوّ وقلّة المسلمين ، استقبل القبلة وقال : اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني ، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد في الأرض .

فنزلت الآية : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ

ص: 220

مُرْدِفِينَ* وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (1) .

ونزل جبرئيل الأمين يأمر النّبي وهو في العريش بأخذ قبضة من التّراب ورمي المشركين بها .

فطلب النّبي صلى الله عليه و آله و سلم من علي بن أبي طالب عليه السلام أن يناوله قبضة من حصى الوادي ،فناوله كفّا من حصا عليه تراب ، فرمى النّبي صلى الله عليه و آله و سلم به القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك ادخل التّراب في عينيه وفمه ومنحريه منها شيء إلّاقُتل أو اسر يوم ذاك .

وفي اللّيل ألقى اللّه النّعاس على المسلمين فناموا ، كما قال تعالى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (2) ، كان هذا النّعاس ضروري لفئة تواجه هذا الخطر الهائل ، لئلّا تستبدالوساوس بهم في هذا اللّيل البهيم ، الذي تكبر منه الأشياء وتتضخّم ، فكيف إذا كانت الأشياء كبيرة بطبيعتها ، فقد ناموا جميعاً إلّارسول اللّه صلى الله عليه و آله فإنّه كان منتصباً في أصل شجرة يصلّي فيها ويدعو حتّى الصّباح .

الإستعداد للقتال

عند ذلك استعدّ الفريقان للحرب ، وتقدّم عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد ، ونادى : يامحمّد ! أخرج إلينا أكفّاءنا من قريش ، فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم ،فقالوا : إرجعوا ، إنّما نريد الأكفاء من قريش .

فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى عبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب ، وكان له سبعون سنة فقال : قم يا عبيدة ، فقام وبين يديه السّيف .

ونظر إلى حمزة فقال : قم يا عم ، ثمّ نظر إلى عليٍّ فقال : قم يا علي - وكان أصغرالقوم ، عمره سبع عشر سنة - فاطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم ، فقد جاءت قريش بخُيلائها وفخرها ، تريد أن تُطفىء نور اللّه ، ويأبى اللّه إلّاأن يتمّ نوره .

ثمّ قال : يا عبيدة ! عليك بعتبة بن ربيعة ، وقال لحمزة : عليك بشيبة ، وقال لعلي :

ص: 221


1- . سورة الأنفال - الآيتان 9 - 10 .
2- . سورة الأنفال - آية 11 .

عليك بالوليد بن عتبة .

فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم ، فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها ، فسقطا جميعاً ، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسّيفين حتّى انثلما .

وحمل أميرالمؤمنين على الوليد فضربه على حبل عاتقه ، فأخرج السّيف من إبطه حتّى قطع يمينه ، ثمّ انهزم صائحاً نحو أبيه ، فركض أميرالمؤمنين من خلفه حتّى قتله .

ثمّ نظر المسلمون إلى حمزة وشيبة وقد اعتنق كلّ واحد منهما الآخر ، فصاحوا : ياعلي ! أما ترى الكلب قد هزم عمّك ، فحمل عليه عليّ عليه السلام ، ثمّ قال : يا عم ! طأطأ رأسك ،وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أميرالمؤمنين على رأسه ، فطير نصفه ، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فقتله ، وحمل حمزة وعلي عبيدة حتّى أتيابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فاستعبر ، فقال : يا رسول اللّه ! ألست شهيداً ؟

فقال : بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتي .

انتصار المسلمين

أمدّ اللّه المسلمين بالملائكة لتثبيت قلوبهم ، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين وقُتل من المشركين سبعون على رأسهم أبوجهل رئيس الشّرك ، واستشهد من المسلمين تسعة ولم يؤسر منهم أحد ، وغنموا من المشركين مئة وخمسين بعيراً ، وعشرة أفراس ،وقتل أكثر قتلى المشركين على أيدي المهاجرين ، ونصفهم على يد علي بن أبي طالب عليه السلام .

وكان يسئل من الجريح : مَن جرحك ؟ فيقول : علي بن أبي طالب .

وقد سمّاه الكفّار يوم بدر بالموت الأحمر ، لعظم بلائه ونكايته ، وقد اسر من المشركين سبعون شخصاً ، وكان من جملة الأسرى ، العبّاس ، وعقيل ، وقد سهر النّبي صلى الله عليه و آله يتقلّب يميناً وشمالًا مع ما رأى من تعب الحرب .

فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا نبيّ اللّه ؟

ص: 222

قال : أنين العبّاس .

فقام رجل من القوم ، فأرخى من وثاقه .

فقال رسول اللّه : ما بالي ما أسمع أنين العبّاس ؟

فقال الرّجل : إنّي أرخيت من وثاقه شيئاً .

فقال صلى الله عليه و آله : فافعل ذلك بالاُسارى كلّهم ، هذا هو عدل النّبي صلى الله عليه و آله ودقّته في مراعاة الأحكام الإلهيّة ، ولم يكن متحيّزاً إلى أقاربه ، مع أنّ العبّاس على بعض الرّوايات كان مسلماً قبل الأسر ، ولكن ما أظهر إسلامه استكراهاً لقريش .

ثمّ لمّا سكت أنين العبّاس ، نام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولكن نقول : يا نبيّ الرّحمة ! يعزّعليك لو نظرت إلى ولدك السجّاد عليه السلام وقد صفدوه في الحديد ، ووضعوا الجامعة في عنقه ،وقيّدوا رجليه من تحت بطن النّاقة ، ليت شعري لو يسمع أنينه ويرى بكائه وهو يقول :

اُقادُ ذليلًا في دمشق كأنّني *** من الزّنج عبدٌغاب عنه نصيرُ

وجدّي رسول اللّه في كلّ مشهد *** و شيخي أميرالمؤمنين أميرُ

فياليت امّي لم تلدني ولم أكن *** يزيدُيراني في البلاد أسيرُ

والذي أعظم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله هو سبي النّساء ، وخصوصاً العقيلة زينب عليها السلام وهي تخاطب رسول اللّه بلسان الحال :

يا رسول اللّه لو عاينتهم *** وهمُ مابين قتل وسبا

جزّروا جزر الأضاحي نسله *** ثمّ ساقوا أهله سوق الإما

* * *

يجدّي شوف هذا احسين مذبوح *** على الشاطي او على التربان مطروح

يجدّي امن الطعن ما بگت بي روح *** يجدّي گلب اخويه احسين فطّر

يجدّي مات محّد وگف دونه *** او لا نغّار غمّضله اعيونه

وحيد ايعالج او منخطف لونه *** ولا واحد ابحلگه ماي گطّر

* * *

ماذا تقولون لو قال النّبيُّ لكم *** ماذاصنعتم وأنتم آخر الاُمم

بعترتي وبأهل بيتي بعد مفتقدي *** منهم اُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ص: 223

المجلس الثامن عشر: مناسبة حفر الخندق في شهر رمضان وواقعة الأحزاب

اشارة

ظهرتْ منه في الوغى سطواتٌ *** ما أتى القوم كلَّهم ما أتاها

يوم غَصَّتْ بجيش عمرو بن وُد *** لهواتُ الفلاوضاق فضاها

وتخطى إلى المدينة فرداً *** لا يهابُ العِدى ولايخشاها

فدعاهم وهم الوفٌ ولكنْ *** ينظرون الذي يَشِبُّ لظاها

أين أنتمْ مِنْ قَسْورٍعامري *** تتقي الأسْدُ بأسَه في شراها

أين من نفسه تتوق إلى الجنّات *** أو يُورد الجحيم عداها

فابتدى المصطفى يُحدّث عمّا *** يوجر الصابرون في اُخراها

قائلًا إنّ للجليل جِناناً *** ليس غير المهاجرين يراها

ومَنْ لِعمرووقد ضمنتْ على اللّه *** له مِنْ جنانه أعلاها

فالتووا عن جوابه كَسَوامٍ *** لاتراها مُجيبةً مَنْ دعاها

فإذا هم بفارس قرشي *** ترجف الأرضُ خيفةً أنْ يطاها

قائلًا ما لها سِواي كفيلٌ *** هذه ذمّة عليّ وفاها

ومشى يطلب البرازَ كما *** تمشي خماصُ الحشى إلى مرعاها

فانتضى مشرفيه فتلقّى *** ساق عمرو بضربة فبراها

وإلى الحشر أنّةُ السيف منه *** بملأ الخافقين رجع صداها

يالها ضربة حَوَتْ مكرماتٍ *** لَمْ يَزِنْ ثقلُ أجرِهاثقلاها

هذه من علاه إحدى المعالي *** وعلى هذه فَقِسْ ماسواها (1)

ص: 224


1- . القصيدة للاُزري رحمه الله .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

هذه الآية المباركة والتي هي من سورة الأحزاب وهي من أغنى سور القرآن المجيد واجناها ثماراً حيث تبحث عن مسائل متنوّعة في باب اصول الإسلام وفروعه ،ومن أبرز وأهمّ أبحاثها هو ما يرتبط بمعركة الأحزاب - معركة الخندق - وحوادثهاالمرعبة ، وانتصار المسلمين المعجز على الكفّار ، تلك المعركة التي كانت في الواقع نُقطة انعطاف في تاريخ الإسلام ، وقلّبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين ،وكان ذلك النصر مفتاحاً للانتصارات المستقبليه العظيمة ، فلقد انقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة ، ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهم .

إنّ حرب الأحزاب - وكما يدلّ عليها اسمها - كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطرنتيجة توسّع وانتشار هذا الدين .

لقد اشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبي صلى الله عليه و آله ، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير ، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً .

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و«بني سليم» ولمّا كان الجميع قدأحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد ، ويقتلواالنّبي صلى الله عليه و آله ، ويقضوا على المسلمين ، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره . .

ص: 225


1- . سورة البقرة آية 185 .

أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار ، فإنّهم اجتمعوا للتشاوربأمر النّبي صلى الله عليه و آله ، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتّى لا يستطيع العدوّ عبوره بسهولة ويهجم على المدينة ، ولهذا كان أحد أسماءهذه المعركة «معركة الخندق» .

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين ، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر ، وكان المنافقون من جهة اخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام ، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين - (ذكروا أنّ عدد الكفّاركان عشرة آلاف ، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) واستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربيّة ، وتهيئة كافّة المستلزمات ، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين .

إلّاأنّ اللّه سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر ، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين ، ويفضح المتآمرين ، ويضع المسلمين الحقيقيّين في موضع الإختبارالعسير وأخيراً انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين كما سيأتي (1) .

معركة الخندق

قال القمي رحمه الله في منتهى الآمال (2) : في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة كانت معركة الخندق ويقال لها غزوة الأحزاب أيضاً لأنّ قريش استمدّت العون من كلّ قبيلة وحزب لقتال المسلمين ، وذلك أنّ النّبي صلى الله عليه و آله لمّا أجلى بني النضير عن بلادهم زاد بغضهم وكيدهم عليه ، فذهب عشرون نفراً من كبرائهم إلى أبي سفيان ، منهم :

حيّ بن أخطب وسلّام (بتشديد اللام) بن أبي الحقيق (كزبير) وكنانة بن الربيع وهوذة بن قيس (بفتح الهاء) وأبو عامر الراهب المنافق ، فاجتمعوا مع أبي سفيان وخمسين نفراً من صناديد قريش في مكة وذهبوا إلى بيت اللّه الحرام وتعاهدوا على أن

ص: 226


1- . تفسير الأمثل - ج13 ص178 .
2- . ج1 ، ص146 .

لا يتركوا حرب محمّد صلى الله عليه و آله حتّى الممات وألصقوا صدورهم على البيت وأكّدوا هذه المعاهدة .

ثمّ استمدّ كلّ من قريش واليهود من حلفائهم فخرج أبوسفيان بأربعة آلاف رجلًامن مكة معهم ألف بعير وثلاثمائة فرس ، فلمّا وصلوا إلى مرّ الظهران ، التحق بهم ألفا رجل من قبائل أسلم وأشجع وكنانة وفزارة وغطفان ، وهكذا كانت القبائل تلتحق بهم إلى أن بلغوا عشرة آلاف نفراً .

فلمّا بلغ النّبي صلى الله عليه و آله وصولهم من مكة ندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم وشاورهم في أمرهم ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق فكان كلّ عشرة رجال يحفرون أربعين ذراعاً وقيل عشرة أذرع ، وكان صلى الله عليه و آله يعمل معهم ويساعدهم ترغيباً لهم .

وكمل حفر الخندق بعد شهر فجعلوا طرقه على ثمانية أبواب وجعل صلى الله عليه و آله على كلّ باب رجلًا من المهاجرين ورجلًا من الأنصار مع جماعة يحفظونه ، وجعل الذراري والنساء في الآطام (1) .

أمّا أبوسفيان فإنّه دعا حيّي بن أخطب ، وأرسله إلى بني قريظة كي ينقظون عهدهم مع النبي صلى الله عليه و آله فخرج حتّى أتى كعب بن أسد سيّد بني قريظة فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فاستأذن مرّة اخرى وقال :ويحك افتح لي جئتك بعزّ الدهر ، وببحر طام ، جئتك بقريش على سادتها وقادتها .

قال كعب : إنّي قد عاهدت محمّداً وليستُ بناقض مابينه وبيني ، ولم أر منه إلّاوفاءًوصدقاً .

فلم يزل حيي بكعب يفتل منه في الذروة والغارب حتّى دخل الحصن وقال لكعب : لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمّداً أدخل معك في حصنك حتّى يصيبني ماأصابك .

فنقض كعب عهده وبريء ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله فعظم عندد)

ص: 227


1- . الآطام : مفرده الأطم وهو القصر والحصن المبني بالحجارة . (المنجد)

ذلك البلاء واشتدّ الخوف على المسلمين وبلغت القلوب الحناجر ، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المؤمنون كلّ الظنّ وكان النّبي صلى الله عليه و آله يعدهم النصر والظفر .

قال تعالى : إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا (1) .

فأقام المشركون على الخندق بضعة وعشرين ليلة في تشديد وتضييق على المسلمين فنجم النفاق من بعض المنافقين ورغّبوا المسلمين في الذهاب إلى المدينة محتجّين بأنّ بيوتهم عورة وليس لها أحد ، كما قال تعالى :

...وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً (2) .

ولمّا اشتدّ البلاء على المسلمين في هذه المحاصرة جاء أبو سعيد الخدري إلى النّبي صلى الله عليه و آله وقال : يا رسول اللّه ! هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر ؟

فقال صلى الله عليه و آله : قولوا : «اللّهمّ استر وآمن روعتنا» .

ثمّ ظهر النفاق وابتدؤوا بايذاء المسلمين ، فذهب صلى الله عليه و آله إلى مسجد الفتح ورفع يده للدعاء (3) وأراد من اللّه كفاية الأعداء ، فأرسل اللّه عزّ وجلّ ريح الصبا حتّى تزلزل جيش المشركين واكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم .

برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كُلِّه

ولم يكن بين الجيوش مقاتلة إلّاالرمي بالنبال والأحجار ، إلّاأنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود ونوفل بن عبداللّه بن المغيرة وضرار بن الخطاب وهبيرة بن

ص: 228


1- . سورة الأحزاب - آية 10 .
2- . سورة الأحزاب - آية 13 .
3- . «يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرّين ويا كاشف الكرب العظيم ، أنت مولاي ووليّي ووليّ آبائي الأوّلين اكشف عنّا غمّنا وهمّنا وكربنا واكشف عنّا كرب هؤلاء القوم بقوّتك وحولك وقدرتك» . (البحار - ج20 ص230)

أبي وهب وعكرمة بن أبي جهل ، ومرواس الفهري ، قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم فاقتحموا الخندق وجعلوا يجيلون خيلهم في الميدان وكان عمرو ينادي بالمبارزة والمسلمون كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو بن عبدود والخوف منه ، لأنّه كان يعدّ بألف فارس ، وكان يسمّى فارس يليل فلذا لم يجرأ أحدٌ من المسلمين على التكلم مضافاً إلى تخذيل ابن الخطاب وذكره شجاعة عمرو ، كأنّه يعتذر عن المسلمين فكان ذلك سبباً في زيادة خوفهم وفي تأذّى النبي صلى الله عليه و آله .

ونادى عمرو بن عبدود : من يبارز ؟ فقام عليّ عليه السلام فقال : أنا له يا نبيّ اللّه . فقال : إنّه عمرو ، إجلس . ونادى عمرو : ألا رجل ؟ أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قُتِل منكم دخلها ؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله : من يدفع عنّا هذا الكلب وأضمن له على اللّه الجنّة .

فلم يجبه أحد كأنّ على رؤوسهم الطير ، فقام عليّ عليه السلام وقال : أنا له يا رسول اللّه .

ثمّ نادى ثالثةً وقال :

ولقد بُحِحْت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع *** موقف البطل المناجز

فقام عليّ عليه السلام فقال : يا رسول اللّه ! أنا .

فقال : إنّه عمرو .

فقال : وأنا عليّ بن أبي طالب .

فاستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأذن له وألبسه درعه ذات الفضول وعمّمه عمامته التي تسمّى بالسحاب فقدّمه ودعا له ، فذهب إليه قائلًا في جوابه :

لا تعجلنّ فقد أتا *** ك مجيب صوتك غيرعاجز

ذو نيّةٍ وبصيرةٍ *** والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عندالهزاهز (1) .

ص: 229


1- . كشف الغمّة - ج1 ص204 .

فقال صلى الله عليه و آله : برز الإيمان كُلُّهُ إلى الشركِ كُلِّهِ .

ثمّ إنّ عليّاً عليه السلام دعا عمراً لثلاثة أشياء : إمّا أن يسلم ، وإمّا أن يترك الحرب ، وإمّا أن ينزل عن فرسه ويحارب .

فاختار الثالثة وكان يبطن الخوف من أبي الحسن ، فقال : ألا غيرك يابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك فإنّي أكره أن اريق دمك وكان أبوك نديماً لي ، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلًا بين السماء والأرض لا حيّ ولاميّت ؟

فقال عليه السلام : دع هذا فإنّي احبّ أن اهريق دمك في سبيل اللّه .

فنزل عمرو من جواده فعقره وسلّ سيفه وهجم على أميرالمؤمنين عليه السلام ، فثارت بينهما عجاجة فضرب عمرو رأس عليّ عليه السلام فاستقبلها بدرقته (1) فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه ، فضرب عليه السلام وهو كالليث المجروح على رجله فقطعها فوقع عمروعلى قفاه ، فجلس عليه السلام على صدره .

قال عمرو : قد جلست منّي مجلساً عظيماً ، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي .

قال عليه السلام : هو أهون عليَّ من ذلك (2) .

قال ابن أبي الحديد : فثارت لهما غبرةٌ وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عالياً من تحت الغبرة ، فعلموا أنّ عليّاً قتله وانجلت الغبرة عنهما ، وعليّ راكب على صدره يحزّ رأسه (3) .

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين .

قال جابر : «... وسمعت التكبير فعلمت أنّ عليّاً عليه السلام قتله ، وانكشف أصحابه وعبرواالخندق وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم ، فوجدوا نوفل بن عبداللّه في جوف الخندق لم ينهض به فرسه فرموه بالحجارة . .

ص: 230


1- . الدرق : ضرب من الترسة الواحدة درقة تتخذ من الجلود .
2- . البحار - ج20 ، ص226 مع تغيير يسير .
3- . شرح النهج لابن أبي الحديد - ج19 ص64 .

فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل بعضكم اقاتله .

فنزل إليه أميرالمؤمنين عليه السلام فضربه حتّى قتله .

ولحق هبيرة فأعجزه فضرب قربوس سرجه وسقطت درعه .

وفرّ عكرمة وهرب ضرار بن الخطاب .

قال جابر بن عبداللّه الأنصاري رضى الله عنه : فما شبّهت قتل عليّ عمراً إلّابما قصّ اللّه من قصّة داود وجالوت في قوله تعالى : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ (1)» (2) .

وفي رواية إنّ الملائكة نزلت فأطفأت نيرانهم ، وأخرجت وتد الخيام وقطعت حبالها حتّى فرّ الأعداء خوفاً وجزعاً ، وكان السّبب الأساسي في هزيمتهم هو قتل عمروبن عبدود ونوفل .

ثمّ بعث المشركون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله يشترون جيفة عمرو بن عبدود و نوفل ،فقال صلى الله عليه و آله : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى .

ثمّ جاءت اخت عمرو وجلست إلى جنبه ورأت درعه الذي كان من أفخر الدروع لم يسلب ومعه سائر ثيابه وسلاحه ، فقالت : من قتله ؟

قيل : عليّ بن أبي طالب .

فقالت : ما قتله إلّاكفوٌ كريم . ثمّ أنشدت هذه الأبيات :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتله من لا يعاب به *** من ان يدعا أبوه بيضة البلد (3)

كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ عليه السلام

ولمّا انتصر المسلمون وقتل عليٌّ عليه السلام عمراً أنزل اللّه تعالى على نبيّه صلى الله عليه و آله : و كفى الله المؤمنين القتال - بعليّ بن أبي طالب عليه السلام - و كان الله قويّا عزيزا (4) .

ص: 231


1- . سورة البقرة - آية 251 .
2- . كشف الغمّة - ج1 ص204 .
3- . المناقب لابن شهرآشوب - ج1 ص199 .
4- . سورة الأحزاب - آية 25 .

قال بعض العلماء : لولا أنّ النبي بُعث رحمة للعالمين لكان هذا الريح الذي هبّ يوم الأحزاب أشدّ وأحرق من الريح العقيم الصرصر الذي جاء على قوم عاد.

قال ربيعة بن مالك السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت : يا أباعبداللّه ! إنّ النّاس يتحدّثون عن عليّ بن أبي طالب ومناقبه ، فيقول لهم أهل البصرة : إنّكم لتفرطون في تقريض هذا الرجل ، فهل أنت محدّثي بحديث عنه أذكره للنّاس ؟

فقال : يا ربيعة ! وما الذي تسألني عن علي ؟ وما الذي احدّثك به عنه ؟ والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال امّة محمّد في كفّة الميزان منذ بعث اللّه تعالى محمّداً الى يوم الناس هذا ، ووُضِع عملٌ واحدٌ من أعمال عليّ عليه السلام في كفّة اخرى لرجح على أعمالهم كلّها .

فقال ربيعة : هذا المدح الذي لا يقام ولا يحمل له إنّي لأظنّه إسرافاً يا أباعبداللّه .

فقال حذيفة : يا لكع ! وكيف لا يحمل ؟ وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبرإليهم عمرو وأصحابه ؟ فملكهم الهلع والجزع ، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتّى برزإليه عليٌّ فقتله ؟

والذي نفس حذيفة بيده لَعَمَلُه ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال امّة محمّد إلى هذااليوم وإلى أن تقوم القيامة (1) .

قال أبوبكر بن عيّاش : لقد ضرب عليّ بن أبي طالب عليه السلام ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ، ولقد ضُرب عليٌّ عليه السلام ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها وهي ضربة عبدالرحمن بن ملجم .

(أقول) وهي الضربة التي شقّت رأس أميرالمؤمنين عليه السلام إلى موضع سجوده وهو في صلاته فنادى عليه السلام : قتلني اللعين ابن اليهوديّة ، فزت وربّ الكعبة .

(أجل) واللّه لم يكن في الإسلام أشأم من تلك الضربة فهي التي هدمت أركان الهدى وفصمت العروة الوثقى وسدّت باب مدينة علم المصطفى .

(وهناك) ضربات اخرى في الإسلام مشؤومة وهي ضربة مالك بن النسر الكندي للحسين بن علي عليه السلام بالسيف على رأسه وكان على رأسه برنس فقطع البرنس ووصل .

ص: 232


1- . عليٌّ من المهد إلى اللحد ص131 ؛ ومجالس السنيّة - ج1 ص149 .

السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه السلام : لا أكلت بيمينك ولا شربت بهاوحشرك اللّه مع القوم الظالمين .

وضربة زرعة بن شريك له على كتفه اليسرى ، وضربة رجل له بالسيف على عاتقه المقدس ، ضربة كبا بها لوجهه وكان قد أعيا فجعل يقوم ويكبو ، وضربة شمر بن ذي الجوشن حين جاء إليه فاحتزّ رأسه الشريف وهو يقول : واللّه إنّي لأحتزّ رأسك وأعلم أنّك السيّد المقدّم وابن رسول اللّه وخير النّاس أباً واُمّاً .

قتلوه بعد علم منهم *** أنّه خامس أصحاب العبا

اُخت عمرو واُخت الحسين زينب عليها السلام

وفي رواية : لمّا قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن عبدود أقبل الإمام نحو رسول اللّه ووجهه يتهلّل فقال له عمر بن الخطّاب : هلّا سلبته درعه فإنّه ليس في العرب درع مثلها .

فقال عليه السلام : إنّي استحييت أن أكشف سوأة ابن عمّي .

قاتل اللّه أهل الكوفة فإنّهم لم يستحوا من اللّه ورسوله وأهل بيته يوم كربلا ، سلبواالحسين عليه السلام درعه وثيابه وتركوه مجرّداً .

عريان يكسوه الصعيد ملابسا *** أفديه مسلوب العمامة والردا

وكما ذكرنا لمّا جائت اخت عمرو بن عبدود وجلست إلى جنب أخيها وقالت : من ذا الذي اجترأ على أخي ؟ فقالوا : عليّ بن أبي طالب . فقالت : كانت منيّته على يد كفوكريم من قومه ما سمعت بأفذّ من هذا بابني عامر ثمّ قرأت أبياتها التي مرّت :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لا تلام اخت عمرو إذا لم تبكي على أخيها إذا كان القاتل مثل علي بن أبي طالب كما لا تلام زينب بنت أميرالمؤمنين إذا بكت على أخيها مدى الليالي والأيّام إذا كان القاتل مثل شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه .

قل للمقادير قد أبدعت حادثة *** غريبة الشكل ما كانت ولم تكن

أمثل شمر أذلّ اللّه جبهته *** يلقي حسيناً بذاك الملتقى الخشن (1)

ص: 233


1- . المجالس السنيّة - ج1 ص222 .

المجلس التاسع عشر: مناسبة جرح الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام والتنصيص على خلافته عليه السلام

اشارة

شهر الصيام به الإسلام قدفجعا *** وفي رزيته قلب الهدى انصدعا

شهر الصيام بكت عين السماء دما *** فيه وجبريل ما بين السماء نعا

اليوم في سيف اشقى العالمين هوى *** شخص الوصي وفي محرابه صرعا

اليوم مات الهدى والدين منهدم *** وفي ثياب الأسى قدمات مدرعا

اليوم فلتسكب الأيتام عبرتها *** ولتترك الصبر لكن تصحب الجزعا

اليوم في قتله الهادي وفاطمة *** ماتا وعلياً نزار سورهاانصدعا

سعت بقتل وصي المصطفى فئة *** على قلوبهم الشيطان قد طبعا

قد غادر وشمل دين اللّه مفترقاً *** ويزعمون بقتل المرتضى جمعا

هذا ابن ملجم قدأردى أبا حسن *** أهل درى اليوم من أردى ومن صرعا

ما ناله سيف أشقاها بضربته *** لكنما صنع المقدور ما صنعا

وكيف بالسيف ماضلت مضاربه *** إذا تساقط دون المرتضى قطعا

سيف اصيب به رأس الوصي لقد *** أصاب قلب الهدى والعلم والورعا (1)

ص: 234


1- . القصيدة للحاج علي البغدادي - الغزوات ص210 .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من أنكر إمامة عليّ من بعدي كان كمن أنكر نبوّتي في حياتي ، ومن أنكر نبوّتي كان كمن أنكر ربوبيّة ربّي عزّ وجلّ (1) .

من أهمّ المسائل العقائديّة التي اضحت مسرح اختلاف المسلمين ، هي مسألة خلافة أميرالمؤمنين عليه السلام بعد النّبي صلى الله عليه و آله بلا فصل .

نحن لابدّ أن نعلم أنّ هناك حقيقة وهي : أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله لم يمت دون أن يترك خطّاًواضحاً للاُمّة ولم يفارق الحياة دون أن عيّن قادة في الدّين والدّنيا ، وهم عترتهُ أهل بيته عيّنهم كزعماء وقادة في الدّين والدّنيا ، وفي العلم وفي السياسة وفي كلّ شيء ، هذه حقيقة ولكن ماهي الأساليب للاستدلال على هذه الحقيقة ؟

نحن بشكل مضغوط وعلى مستوى فهرست عابر ومجرّد إشارة فقط وبما يسع هذه المجلس نشير إلى بعض الأساليب للاستدلال على هذه الحقيقة ، وهي أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله لم يمت دون أن خلَّف خطّاً واضحاً للاُمّة ، ودون أن عَيّن قادة امناء في الدين وفي كلّ شيء ؛ فالاُسلوب الأوّل هو :

الاُسلوب العقلي على خلافة أميرالمؤمنين عليه السلام

نحن نقول : لا يمكن أن يرحل الرّسول صلى الله عليه و آله و سلم ببساطة ، ويفارق الحياة خاتم الأنبياء ويترك الاُمّة بلا راعٍ ، وهو يرى الأخطار المحدقة بالاُمّة الإسلاميّة :

أوّلًا : خطر الكفّار في خارج الدولة الاسلامية .

ثانياً : خطر المنافقين في الدّاخل ، والذين انقلبوا بعد فوت النّبي صلى الله عليه و آله و سلم .

ثالثاً : خطر عدم نضوج الاُمّة واختلافها حول القائد .

رابعاً : خطر عدم تربيتها ، يعني احتياجُها لتربية واعية .

خامساً : خطر جهلها بالأحكام واختلافها حول أحكام الشريعة ، لأنّ الاُمّة لم

ص: 235


1- . البحار - ج38 ص109 ح39 .

تكن ناضجة تماماً ، ولأنّ رواسب الجاهليّة كانت لا تزال عالقة في أذهانها ، فكانت الاُمّة تفتقد إلى رمز كالرسول صلى الله عليه و آله و سلم يكون امتداداً له ونفسه كي يأخذ بيد هذه الاُمّة ليعلمهاأحكام الإسلام بما تعنيه الكلمة من معنى ؛ لأنّ علماء الاجتماع وعلماء النّفس يقولون :المجتمع لا يتغيّر إلّاأن يمرّ بثلاثة أجيال ويعبّرون عنه بالتمثيل الحضاري ، يعني مثلًا : إذاأردنا أن نغيّر إنسان غربي ونثقّفه بالثّقافة العربيّة أو الإسلاميّة فكلما سهرنا على تثقيفه بالثقافة الإسلاميّة فلا نغيّر منه إلّا30 أو 40% حتّى يجيء ابنه ، فكذلك أيضاً نستمر على تثقيف ابنه ، ربّما يتغيّر 70 أو 80% إلى أن يأتي الحفيد ، فيتغيّر 100% ، وهذا هو الذي يعبّر عنه في علم الإجتماع كما ذكرنا بالتمثيل الحضاري .

فعليه انَّ النبي صلى الله عليه و آله بفضل تبليغه وهدايته للنّاس تمكّن أن يغيّر ظواهر النّاس ولم يغيّر بواطنهم ، وترك الأمر في تغيير باطنهم للأئمّة الإثنى عشر عليهم السلام من بعده ، ولذلك بعض العلماء يقول : إنّ الحكمة من كون الأئمّة اثنى عشر إماماً هي عبارة عن مرور ثلاثة أجيال حتّى يتّصف النّاس وينطبعوا بالإسلام بكامله .

إذن ، فالأخطار كانت محدقة بالاُمّة الإسلاميّة من جميع الجهات ، كما أثبت ذلك مجرياتها الأحداث بعد النّبي صلى الله عليه و آله ، فهل يمكن لقائد حكيم كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يترك الاُمّة هكذا من دون أن يعيّن لها خليفة ؟

نحن نقرأ في التّاريخ أنّ عائشة مع كونها امرأة طلبت من الخليفة الثّاني أن لايموت دون أن يخلّف على الاُمّة خليفة ، لماذا ؟ هي تقول : لأنّ راعي الغنم لا يترك الغنم دون أن يخلّف راعياً عليها (1) ؛ فعائشة تعطف على الاُمّة من أن تُترك بلا قائد ، فكيف بالعقل الكُل وهو النّبي صلى الله عليه و آله قطب دائرة الأكوان فهل يعقل أن يترك الاُمّة هكذا ؟

فمن هذا الاُسلوب العقلي المختصر نستدلّ بأنّ النّبي صلى الله عليه و آله عيّن قائداً وخليفة من بعده ، ولذلك النّبي صلى الله عليه و آله امرهم قُبيل وفاته قائلاً : آتوني بدواتٍ وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تظلّوا من بعدي أبداً ، قالها لهذه النّاحية . .

ص: 236


1- . الغدير - ج7 ص132 .

الاُسلوب الثّاني في الاستدلال هو :

إنّ اختيار القيادة في كلّ ايدلوجيّة ، وفي كلّ مذهب يعتمد على الفكر والتّضحية ومستوى ذلك الإنسان في تلك الأيدلوجيّة ، يعني كلّ مذهب وكلّ حزب يختارون القيادة من بين العناصر والأشخاص الذين هم أكثر نضالًا وجهاداً والذين هظموا تلك الفكرة والأيدلوجيّة لينصبوا منهم قادة وزعماء لذلك المذهب .

وقد ثبت في التاريخ والروايات أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام في الطليعة وهو أفضل النّاس سواءاً في حياة الرّسول أو بعد مماته علماً ونضالًا وأخلاقاً وجهاداً وكلّ شيء وماالى ذلك ، وقد قال النّبي صلى الله عليه و آله في حقّه : عليٌّ أفضلكم ، عليٌّ أقضاكم ، عليٌّ أعلمكم ، فإنّ هذا الاُسلوب ينتج أنّ عليّ بن أبي طالب وأهل البيت عليهم السلام ينبغي أن يكونوا هم القادة والزعماء بعد النّبي صلى الله عليه و آله و سلم .

الاُسلوب الثّالث : التنصيص غير المباشر على إمامة أهل البيت عليهم السلام

إنّ الروايات والنصوص التي وردت على إمامة أهل البيت عليهم السلام على قسمين :نصوص مباشرة على إمامتهم وقيادتهم ، وهناك نصوص غير مباشرة ، فالنّصوص غيرالمباشرة فمن القرآن الكريم آية المودّة والتي تأمر بمحبّة أهل البيت عليهم السلام وآية القُربى ،وسورة الدّهر ، فهذه الآيات وغيرها تشير إلى مقام أهل البيت عليهم السلام ومنزلتهم عند اللّه والنبي صلى الله عليه و آله والتي يستفاد منها بشكل غير مباشر إمامتهم عليهم السلام وإلى جانب ذلك الروايات التي وردت في فضل أهل البيت عليهم السلام ، كحديث الثقلين الذي قال النبي صلى الله عليه و آله : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» .

وحديث السّفينة حيث قال صلى الله عليه و آله : «إنّ مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» .

وقال صلى الله عليه و آله : «أنا سلم لمن سالمتم وحربٌ لمن حاربتم» .

وقال صلى الله عليه و آله : «من مات على حبّ أهل بيتي مات شهيداً ، مات مغفوراً له ، مات وقد

ص: 237

زُفّ إلى الجنّة كما تُزَفُّ العروس إلى بيت زوجها» .

وكلّ هذه الروايات مرويّة عن طرق العامة فضلاً عن الخاصة ، والكتب مشحونة بأمثال هذه الروايات ، بل إنّ إجماع المسلمين على أنّ الصّلاة لا تُقبل من دون الصلاة على آل محمّد ، ولذا قال الإمام الشافعي :

يا آل بيت رسول اللّه حبّكم *** فرضٌ من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة له

ثمّ الروايات التي تنص على أنّ الإنسان الذي يأتي يوم القيامة بكلّ الأعمال بحيث لو أقام الصّلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، ولكن لم يأت بحبّ أهل البيت ، أعماله غير مقبولة ويكون هو والكافر سواء لا فرق بينهما .

حبّ أهل البيت عليهم السلام ضرورة يعتقدبها كلّ مسلم، ولذلك الإمام زين العابدين عليه السلام يقول للزهري : يا زهري ! أيّ بقاع الأرض أفضل عند اللّه ؟

قال : سيّدي ! بين الركن والمقام الذي يسمّى الحطيم . - وقد دفن فيها سبعون نبيّاًحسبما جاء في بعض الروايات - هذا هو رأي الزهري وأما نحن فنعتقد أفضلية بقعة كربلاء المقدّسة على سائر بقاع الأرض كما تنص عليه روايات متضافرة ولعلها متواترة .

قال له الإمام عليه السلام : لو أنّ عبداً عَبَدَ اللّه بين الركن والمقام حتّى صار جلده كالشنّ البالي ، ولم يأتي بولايتنا أهل البيت أكبّه اللّه على منخريه في نار جهنّم .

ثمّ الروايات في خصوص شأن عليّ عليه السلام : عليٌّ أفضلكم ، عليٌّ أقضاكم ، عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع علي ، أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليٍّ ، كلّ هذه الروايات تنصّ على إمامة أهل البيت وإمامة أميرالمؤمنين بشكل غير مباشر .

وتروي عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله قوله : عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر .

وأمّا النصوص المباشرة على إمامة أميرالمؤمنين فإليك بعضها :

الاُسلوب الرابع : التنصيص المباشر على إمامة وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام

فقد عيّن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم خليفته منذ بدء الدعوة ، وذلك لمّا نزلت آية : وَ أَنْذِرْ

ص: 238

عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1) ، حينذاك دعى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عشيرته على مأدبة ، وقد رواهاالطبري وكلّ المؤرّخين ، ورواه أمالي الشيخ عن ابن عباس عن علي عليه السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال :يا علي ! إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين ، فاصنع لنا يا علي صاعان طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسّاً من لبن ، ثمّ ّ اجمع لي بني عبدالمطّلب حتّى اكلّمهم واُبلّغهم ما امرت به .

ففعلت ما أمرني به ، ثمّ دعوتهم وهم أربعون رجلًا يزيدون أو ينقصون رجلًا ،وكان معهم أبوطالب وحمزة والعبّاس وأبولهب .

وحيث كانت البركة في الطعام مع قلّته وكثرتهم ، فلمّا اراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يُكلّمهم بدره أبولهب إلى الكلام فقال : لشدّ ما سحركم صاحبُكم .

فتفرّق القوم ولم يكلّمهم النبي .

فقال لي في الغد : يا علي ! إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فعُد لنامن الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم لي فامتثل الامام أمير المؤمنين عليه السلام أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودعاهم ثانية .

فابتدئهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً : يا بني عبدالمطّلب ! وإنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي .

قال : فأمسك القوم وسكتوا .

قال علي : فقمت وإنّي لأحدثهم سنّاً - حيث كان عمر الإمام عليه السلام آنذاك عشرة سنوات - فقلت : أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه به .

قال : فأخذ بيدي ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا

ص: 239


1- . سورة الشعراء - آية 214 .

له وأطيعوا .

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .

وعلى رواية : أعاد الكلام ثلاث مرّات ، فقام عليٌّ عليه السلام فبايعه ، فقال النبي : ادن منّي ، فدنا منه ، ففتح فاه ومجّ من ريقه ، فلمّا سُئل قال : ملأته حكماً وعلماً وفهماً (1) .

حديث المنزلة

إذاً ابتدءاً من بدأ الدعوة واستمراراً بحديث المنزلة وانتهاءً بالإعلان الرسمي في غديرخم كلّ ذلك نصوص مباشرة على خلافة أميرالمؤمنين ، وإليك حديث المنزلة ، يوم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وذلك لماخلفه النبي صلى الله عليه و آله و سلم على المدينة في غزوة تبوك ، واليك التفصيل كما فيى الإرشاد للمفيد ،قال :

لمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخروج إلى غزوة تبوك وهي آخر غزو غزاها النبي صلى الله عليه و آله و سلم استخلف أميرالمؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره ، وقال له : يا علي ! إنّ المدينة لا تصلح إلّابي أو بك وذلك أنّه صلى الله عليه و آله و سلم علم من خُبث نيّات الأعراب وكثير من أهل مكة ومن حولها ممّن غزاهم وسفك دماءَهم ، وأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأْيه (ابتعاده)عنها ، وحصوله ببلاد الروم أو نحوها فمتى لم يكن في المدينة من يقوم مقامه لم يؤمَن معرّتهم ، وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطي إلى ما يشين أهله ومخلفيه ، وعلم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة وحياطة مَن فيها إلّاأميرالمؤمنين عليه السلام فاستخلفه استخلافاً ظاهراً ، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاًوذلك فيما تظاهرت به الرواة : أن أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاًعلى المدينة لذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، وعلموا أنّها تتحرّس به وتتحصّن ، ولا يكون فيها للعدوّ مطمع ، فساءَهم ذلك وكانوا يؤثرون خروجه معه لما

ص: 240


1- . البحار - ج9 .

يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأْي رسول اللّه عن المدينة ، وخُلُوّها من مرهوب مخوف يحرسها وغبطوه على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله ، وتكلّف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر ، فأرجفوا (خاضوا في الأخبار السيّئة قصد أن يهيج الناس) به ، وقالوا : لم يستخلفه رسول اللّه اكراماً له وإجلالًا ومودةً ، وإنّما خلّفه استثقالًاله فبهتوا بهذا الإرجاف ، كَبُهتِ قريش النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالجِنة (الجنون) تارة وبالشِعر اخرى وبالسِحر مرّة وبالكهانة اخرى ، وهم يعلمون ضدّ ذلك ونقيضه ، كما علم المنافقون ضدّ ماأرجفوا به على أميرالمؤمنين عليه السلام وخلافه ، وأنّ النبي كان أخصّ الناس بأميرالمؤمنين عليه السلام وكان هو أحبّ الناس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه .

فلمّا بلغ أميرالمؤمنين عليه السلام إرجافُ المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم ،فلحق بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال : يا رسول اللّه ! إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلّفتني استثقالًاومقتاً .

فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : إرجع يا أخي إلى مكانك ، فإنّ المدينة لا تصلح إلّابي أو بك ،فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي .

فتضمن هذا القول من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نصّه عليه بالإمامة وإبانته من الكافة بالخلافة ، ودلّ به على فضل لم يشركه فيه أحد سواه ، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى إلّاما خصّه العرف من الاُخوّة (في النسب) واستثناه هو من النبوّة .

ألا ترى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل له كافّة منازل هارون من موسى إلّاالمستثنى منه لفظاًوعقلًا (1) .

لا زال ولا يزال بعض المتجاهلين من المسلمين يزعمون أنّ هذا الحديث غيرثابت في الصحاح ولا معترف به عند الحفّاظ وأئمّة الحديث .

أو يدَّعون اختصاص الحديث بيوم تبوك ، فيسلبون منه الدلالة على الخلافة .

ص: 241


1- . علي من المهد إلى اللحد ص300 .

والإمامة العامة المطلقة ، ونحن نجيب عن الموضوع الأوّل :

بأنّ هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة المتواترة عند المسلمين لا يشك فيه ذودراية بالأحاديث ، وإلمام بالروايات ، ومعرفة وبصيرة بالأخبار ، ولا مجال للمناقشة -عند ذي الألباب - حول صحّة هذا الحديث .

أمّا الجواب عن الموضوع الثاني فنقول : إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم قد كرّر كلمته الذهبيّة (حديث المنزلة) في مواقف عديدة ومواطن كثيرة ، ذكرها أعلام المسلمين متفقين على صحّتها ، وثبوتها وإستقامة دلالتها تلك الموارد - كما في بشارة المصطفى -عن ابن عباس ، قال : رأيت حسان بن ثابت واقفاً بمنى ، والنبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه مجتمعين ، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : هذا عليّ بن أبي طالب سيّد العرب والوصي الأكبر ، منزلته منّي منزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي ، لا تقبل التوبة من تائب إلّابحبّه . ياحسان ! قل فيه شيئاً . فأنشأ حسان بن ثابت يقول :

لا تُقبَل التوبة من تائب *** إلّا بحبّ ابن أبي طالب

أخي رسول اللّه بل صهره *** والصهرلا يعدل بالصاحب

ومَن يكن مثل علي وقد *** رُدّت له الشمس من المغرب

رُدّت عليه الشمس في ضوئها *** بيضا كأنّ الشمس لم تغرب

ومن تلك الموارد : حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع ام سليم (ام أنس بن مالك) وكان النبي يزورها ويحدّثها في بيتها : يا ام سليم ! إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهومنّي بمنزلة هارون من موسى ... الخ .

روى ذلك في كنز العمال ومسند أحمد .

ومنها : يوم كان أبوبكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو متّكىءٌعلى علي عليه السلام فضرب بيده على منكبيه ثمّ قال : يا علي ! أنت أوّل المؤمنين إيماناً ، وأوّلهم إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... الخ (1) . .

ص: 242


1- . علي من المهد إلى اللحد ص304 .

ملخّص نصّ حديث واقعة الغدير

وأمّا نصّ حديث الغدير وذلك لمّا قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله مناسكه وانصرف راجعاًإلى المدينة ، ومعه من الجموع الغفيرة ولمّا وصل الى غديرخم من الجحفة التي تتشعَّب فيها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين ، وذلك يوم الخميس الثاني عشر من ذي الحجّة ، نزل إليه جبرئيل الأمين عن اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (1) وأمره أن يقيم عليّاً عليه السلام عَلَماً للنّاس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية ، وفرض الطّاعة ، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة ، فأمر رسول اللّه أن يُردَّ من تقدَّم منهم ويُحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ، ثمّ صلّى الظهر والعصر ، وكان يوماً هاجراًحارّاً ، يضع الرّجل بعض ردائه على رأسه ، وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، فلمّاانتهى من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل ، وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته إلى أن بلغ أن أخذ بيد علي فرفعها حتّى رؤي بياض إبطيهما ، وعرفه القوم أجمعون .

فقال : فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه - قالها ثلاث مرّات - . وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات .

ثمّ قال : اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ،وأدر الحقّ معه حيث دار ، فليبلّغ الشاهد الغايب .

فلمّا انتهى من الخطبة وأمر المسلمين أن يبايعوا عليّاً بالخلافة ويسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين ، فتهافت عليه النّاس يبايعونه ، وجاء الشيخان وقالا : هذا أمر منك أم من اللّه ؟

فقال النّبي : وهل يكون هذا من غير أمر اللّه ؟ نعم أمر من اللّه ورسوله ، فقاما وبايعاالإمام .

ولمّا انتهت البيعة لأميرالمؤمنين عليه السلام هبط جبرئيل على النبي بهذه الآية : اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (2) .

ص: 243


1- . سورة المائدة - الآية 67 .
2- . سورة المائدة - آية 3 ، عليٌّ من المهد إلى اللّحد ص335 ، اخترنا مورد الحاجة منه .

قصّة الحارث بن النعمان الفهري ونزول العذاب

فلمّا شاع في الأقطار قصّة وحديث الغدير ، أتى الحارث بن النعمان الى النّبي صلى الله عليه و آله على ناقته فأناخ راحلته ونزل وقال : يا محمّد ! أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّااللّه وأنّك رسول اللّه ، فقبلناه ، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصوم شهراًفقبلنا ، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبع إبن عمّك ففضّلته عليناوقلت : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، فهذا شيء منك أم من اللّه عزّوجلّ ؟

فقال : والذي لا إله إلّاهو ، إنّ هذا من اللّه ، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول :اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّاً فأمطر علينا حجارة من السّماء ، أو ائتنا بعذابٍ أليم .

فما وصل إليها حتّى رماه اللّه بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ،وأنزل اللّه عزّ وجلّ : سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللّهِ ذِي الْمَعارِجِ (1) .

جرح الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام

الإمام في مثل هذه الليلة ارتاح من همّ الدنيا وغمّها بسبب جرحه ، ولقد سبق أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أخبر عليّاً بأنّه يفوز بالشهادة في سبيل اللّه منها :

لمّا خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله في آخر جمعة من شعبان ، ثمّ بكى النبي ، فقال الإمام : مايبكيك يا رسول اللّه ؟

فقال : يا علي ! أبكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك ،وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود ، فضربك ضربة على قرنك ،فخضب منها لحيتك .

فقال الإمام : وذلك في سلامة من ديني ؟

فقال النبي : في سلامةٍ من دينك ... الخ .

ص: 244


1- . سورة المعارج - الآيات 1 - 3 ، ذكره الحسكاني في كتاب دعاة الهداة .

وفي تلك السنة الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته هو أيضاً كان يخبرالناس بشهادته فيقول : ألا وإنّكم حاجّو العام صفّاً واحداً ، وآية (علامة) ذلك أنّي لست فيكم . فعلم النّاس أنّه ينعى نفسه ، ولم يكتفِ عليه السلام بذلك بل كان يدعو على نفسه ويسأل من اللّه تعالى تعجيل الوفاة ، وتارة كان يكشف عن رأسه وينشر المصحف على رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلًا : اللّهمّ إنّي قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملّوني ، أما آنَ أن تُخضب هذه من هذه - ويشير إلى هامته ولحيته .

وقبل الواقعة أخبر عليه السلام إبنته ام كلثوم بأنّه رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يمسح الغبارعن وجهه ويقول : يا علي ! لا عليك ، قضيتَ ما عليك .

وكان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستّين سنة ، وفي شهر رمضان من تلك السنة كان الإمام يُفطر ليلة عند ولده الحسن وليلةً عند ولده الحسين وليلةً عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبداللّه بن جعفر ، وليلة عند ابنته زينب الصغرى المكنّاة باُم كلثوم .

وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام عليه السلام في دار ابنته ام كلثوم ، تقول : قدّمت له فَطوره في طبق فيه : قرصان من خبز الشعير ، وقَصْعةً فيها لبنُ حامض ، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن ، وأفطر بالخبز والملح ، ولم يشرب من اللبن شيئاً لأنّ في الملح كفاية ،وأكل قرصاً واحداً ، ثمّ حمد اللّه وأثنى عليه ، وقام إلى الصلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداًومبتهلًا ومتضرّعاً إلى اللّه تعالى ، وكان يُكثرُ الدخول والخروج وينظرُ إلى السماء ويقول :هي هي واللّه الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول اللّه . ثمّ رقد هنيئة وانتبه مرعوباً وجعل يمسحُ وجهه بثوبه ، ونهض قائماً على قدميه وهو يقول : اللّهمّ بارك لنا في لقائك . ويكثرمن قول (لا حول ولا قوّة إلّاباللّه العليّ العظيم) ، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل ، ثمّ جلس للتعقيب ، ثمّ نامت عيناه وهو جالس ، ثمّ انتبه من نومته مرعوباً .

وقالت ام كلثوم : قال لأولاده : إنّي رأيت هذه الليلة رؤيا هالتني واُريد أن أقصّهاعليكم .

قالوا : وما هي ؟

قال : إنّي رأيتُ الساعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منامي وهو يقول لي : يا أباالحسن! إنّك

ص: 245

قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك ، وأنا واللّه مشتاق إليك ، وإنّك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلمَّ إلينا فما عندنا خير لك وأبقى .

قال : فلمّا سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل ، فأقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا ، ثمّ أقبل عليهم يُوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر .

قالت ام كلثوم : لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يُقلِّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : واللّه ما كَذبتُ ولاكُذّبتُ ، وإنّها الليلة التي وُعدت بها ، ثمّ يعود إلى مصلّاه ويقول : اللّهمّ بارِك لي في الموت .ويكثر من قول : «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون» و«لا حول ولا قوّه إلّاباللّه العليّ العظيم»ويصلّي على النّبي صلى الله عليه و آله و سلم ويستغفر اللّه كثيراً .

قالت ام كلثوم : فلمّا رأيته في تلك الليلة قَلِقَاً متململًا كثير الذِكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت : يا أبتاه ! مالي أراك هذه الليلة لاتذوق طعم الرقاد ؟

قال : يا بُنية ! إنّ أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، ومادخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخل في هذه الليلة ، ثمّ قال : «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون» .

فقلت : يا أبا ! مالك تنعى نفسك منذ الليلة ؟!

قال : بُنيّة ! قد قرب الأجل وانقطع الأمل .

قالت ام كلثوم : فبكيتُ .

فقال لي : يا بُنية ! لا تبكي فإنّي لم أقل ذلك إلّابما عهد إليّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، ثمّ إنّه نعس وطوى ساعة ثمّ استيقظ من نومه ، وقال : يا بنية ! إذا قرب الأذان فأعلميني، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى اللّه سبحانه وتعالى .

قالت ام كلثوم : فجعلت أرقب الأذان ، فلمّا لاح الوقت أتيته ومعي إناءٌ فيه ماءٌ ، ثمّ أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثمّ نزل إلى الدار وكان في الدار أوزٌ قداُهدي إلى أخي الحسين عليه السلام ، فلمّا نزل خرجن وراءَه ورفرفن ، وصحن في وجهه ، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن ، فقال عليه السلام : لا إله إلّااللّه ، صوائح تتبعها نوايح ، وفي غداة غديظهر القضاءُ .

ص: 246

فقلت : يا أبتاه ! هكذا تتطيّر ؟

فقال : بنية ! ما منّا أهل البيت من يتطيّر ولا يُتطيَّر به ، ولكن قول جرى على لساني ، ثمّ قال : يا بُنية ! بحقّي عليك إلّاما أطلقتيه ، وقد حبستِ ما ليس له لسان ، ولايقدر على الكلام إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه وإلّا خلّي سبيله يأكل من حشائش الأرض .

فلمّا وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلّق الباب بمئزره فانحلّ ميزره حتّى سقطفأخذه وشدَّه وهو يقول :

اُشدد حيازيمك للموت *** فإنّ الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت *** إذا حلّ بِناديكا

كما أضحكك الدهر *** كذاك الدهريبكيكا

ثمّ قال : اللّهمّ بارك لنا في الموت ، اللّهمّ بارك لي في لقائك .

قالت ام كلثوم : وكنت أمشي خلفه فلمّا سمعته يقول ذلك ، قلت : واغوثاه ! يا أبتاه !أراك تنعى نفسك منذ الليلة .

قال : يا بنية ! ما هو بنعاءٍ ولكنّها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضا ،فامسكي عن الجواب . ثمّ فتح الباب وخرج .

قالت ام كلثوم : فجئت إلى أخي الحسن عليه السلام فقلت : يا أخي ! قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه .

فقام الحسن بن علي عليه السلام وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع عليه السلام (1).

قال أبومخنف وغيرُه : وسار أميرالمؤمنين عليه السلام حتّى دخل المسجد والقناديل قدخَمُدَ ضوئها ، فصلّى في المسجد ورده ، وعقّب ساعة ، ثمّ إنّه قام وصلّى ركعتين ، ثمّ علاالمأذنة ووضَع سبّابته في اذنيه ، ثمّ أذّن ، ثمّ نزل من على المأذنة واجتاز على النيّام وهو .

ص: 247


1- . علي من المهد الى اللحد ، للسيد كاظم القزويني رحمه الله ، ص559 .

يقول كعادته في كلّ يوم : الصلاة الصلاة عباد اللّه ، إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباًموقوتاً ، إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .

ثمّ توجّه الإمام نحو المحراب ووقف ليصلّي نافلة الصُّبح ، وكان ابن ملجم نائماًفي المسجد ثمّ أقبل يمشي حتّى وقف بإزاء الإسطوانة التي كان الإمام عليه السلام يصلّي عندها ،فأمهله حتّى صلّى الركعة الاُولى وركع للثّانية ، وسجد السّجدة الاُولى منها ورفع رأسه وسجد السجدة الثانية ، وكان من عادة الإمام أن يطول سجوده ، فعند ذلك أخذ اللّعين السّيف وهزّه ، أرباب العزاء شيعة أميرالمؤمنين عظّم اللّه لكم الأجر ، ثمّ ضرب مولانا أميرالمؤمنين على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة على الضربة التي ضربه عمرو بن عبدوُدٍّ العامري ، ثمّ أخذت الضربة من مفرق رأسه إلى موضع السجود ، فلمّا أحسّ عليه السلام لم يتأوّه وصبر فوقع على وجهه قائلاً : بسم اللّه وباللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه ، هذا ما وعدنااللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله ، ثمّ صاح : قتلني ابن ملجم ، قتلني ابنُ اليهوديّة . أيّهاالنّاس ! لا يفوتنّكم ابن ملجم .

الإمام يخبر عن قاتله كيلا يشتبه النّاس بغيره فيقتلون البريء كما قتل في حادثة عمر بن الخطّاب جماعةٌ من الأبرياء المساكين الذين هجم عليهم عبيداللّه ابن عمروقتلهم .

ثمّ قال عليه السلام : فُزت وربّ الكعبة ، أيّها النّاس ! لا يفوتنّكم ابن ملجم ، وسار السُمّ في رأسه .

وفي تلك اللحظة هتف جبرئيل بين السماء والأرض ، لم نسمع في تاريخ الأنبياء ،أنّ جبرئيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء ، أو وصيٍّ من الأوصياء ، ولكنّه هتف لمّا وصل السّيف إلى هامة الإمام ، كما هتف يوم احد بشجاعته وشهامته حتّى قال : لا فتى إلّاعلي ،ولا سيف إلّاذوالفقار ، وفي مثل هذه الليلة نادى : تهدّمت واللّه أركان الهدى ، وانفصمت واللّه العروة الوثقى ، قُتِل ابن عمّ المصطفى ، قُتل الوصي المجتبى ، قُتل علي المرتضى ،قُتل واللّه سيّد الأوصياء ، قتله أشقى الأشقياء ، فلمّا سمعت ام كلثوم نعي جبرئيل لطمت وجهها وصاحت : وا ابتاه ! وا علياه ! وا سيداه ! ولسان حالها :

ص: 248

آنه نايمه وآبحلوة النوم *** اولنّ المُنادي ايصيح چلثوم

أبوچ انطبر والسيف مسموم *** ناديت خويه يا حسن گوم

أبوك انچتل دنهض يجيدوم *** مر الحسن مسرع امن النوم

للمسجد تعناه مهضوم *** شافه طريح وراسه مجسوم

واثيابه كلها امخضّبه ادموم ***

ثمّ أقبل الحسن والحسين إلى المسجد ، وكذلك النّاس أقبلوا من كلّ صوب وحدب وهم ينادون : واإماماه ! واعليّاه ! واسيّداه ! ، ويلطمون على رؤوسهم وصدورهم ،هذا وقد ولج السُمّ في جسم الإمام حتّى أنّه لم يستطيع على النهوض فقال : إحملوني إلى منزلي ، فلمّا حملوا الإمام اشتدّ بهم البكاء والصراخ ، وقد ازدحموا حول الإمام ، ينظرون إليه ، فحملوا الإمام إلى منزله ، وبقيت زينب واُم كلثوم ينتظرون قدوم الإمام وهنّ يبكين ويتطلّعن إلى الطريق ، فبينا كان الإمام محمولًا فلمّا نظر من بعيد إلى بناته قال : أولادي !أنزلوني ، قالوا : ولِمَ يا أبَهَ وقد حملناك على أعيننا ؟

قال : إنّ زينب عند الباب أخاف عليها أن تراني وأنا محمولًا .

وكأنّي بها تسايل الحسن والحسين : هل أنّ أباها سالم حيث تعلم أنّه مجروح ؛وكأنّي لسان حالها :

صَدَّت او نادت يالمجبلين *** هالشَّايلينه أوياكم امنين

اسمع هضل و صياح صوبين *** خوفي انچتل عودي يَطَيبين

لمَّن سمعها الحسن و حسين *** صاحوا يزينب زيدي الونين

ابوچ انطبر والراس نصّين *** صاحت او هلَّت دمعة العين

ياعيد الأگشر عالمسلمين *** عگبك يبويه اوجوهنا وين

* * *

يا ضربة للدين هدّت جانباً *** وله اماتت سنة وكتابا

اليوم عرش الدين ثل قوائماً *** وبه تداعى اعمداً وقبابا

والعروة الوثقى به انفصت وقد *** هتك الضلال من الجلال حجابا

ونعاه جبريل بلوعة ثاكل *** لو مست الصخر الأصمّ لذابا

ص: 249

المجلس العشرون: حول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

في السماوات رنة وعويل *** من له قام ناعياً جبرائيل

أصبح الكون داجي اللون حزناً *** فهل المرتضى علي قتيل

يا حساماً أردى الوصي شباه *** فيك قد أردي الهدى والرسول

والنبيون والشرائع طرّاً *** واُصيب التكبير والتهليل

وبك الدين هد ركناً وأودى *** بشباك التنزيل والتأويل

يا ليالي الصيام من كان يحييك *** بسيف ابن ملجم مقتول

أيها المسجد المعد لذكر *** اللّه ذكر الإله فيك جديل

قتلوا في الصلاة من ليس للأ *** عمال إلاّ به يكون القبول

خضبت منه شيبته وهوفي *** المحراب عن ذكر ربه لايحول

حف فيه الغر الكرام بنوه *** وهو عندهم بنفسه مشغول

ندبوه وفي القلوب حريق *** من جوى الحزن والدموع تسيل

يا قتيلا بكاه قرآن طه *** وبكاه التوراة والإنجيل

وبكاه خيرالنبيين في الجن *** ة حزناً كما بكته البتول

يا ربيع الأيام من للأيامى *** واليتامى إن غاب عنهاالكفيل (1)

ص: 250


1- . القصيدة للشيخ جعفر بن محمد النقدي - الغزوات - ص211 .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (1) .

صدق اللّه العليّ العظيم

في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الكبرى التي ذكرنا عنها ليلة أمس الشيءاليسير ، وإكمالًا لبحث الليلة الماضية حول إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام بلافصل نستمرّ في تفصيل البحث أكثر فنقول :

متى بدأ البحث في الإمامة ؟

بعد أن توفّي نبي الإسلام إنقسم المسلمون إلى فريقين : فريق قال : إنّ النّبي صلى الله عليه و آله لم يعيّن خليفة بعده ، وأنّه أوكل ذلك إلى الاُمّة كي تختار بنفسها قائداً لها . هذا الفريق هم«أهل السنّة» .

الفريق الآخر قال : إنّ خليفة الرسول صلى الله عليه و آله يجب أنْ يكون معصوماً مثله من الخطأوالإثم ، عالماً ، قادراً على قيادة الاُمّة قيادة معنويّة ومادية ، والحفاظ على مبادىءالإسلام الأصليّة وإدامتها .

يقول هؤلاء : أنّ مثل هذا الخليفة يجب أن يعيّنه اللّه عن طريق رسوله ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد فعل ذلك ، وعيّن عليّاً عليه السلام خليفة له . وهذا الفريق هم «الإماميّة» أو «الشّيعة» .

إنّ هدفنا من هذه البحوث المكثّفة هو أنْ نتابع هذه القضيّة على هدى الأدلّه العقليّة والتاريخيّة والآيات القرآنيّة والسنّة النبويّة .

ولكن قبل الدخول في الموضوع لابدّ من الإشارة إلى بضع نقاط :

ص: 251


1- . سورة السجدة - آية 24 .

هل البحث في هذا الموضوع يثير الخلاف ؟

بعض الناس ما أن يطرق سمعهم الكلام عن الإمامة حتّى ينبرون فوراً قائلين : إنّ الظرف اليوم لا يسمح بذلك . فاليوم هو يوم وحدة المسلمين ، بينما الكلام عن خليفة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله سيكون مدعاة للتفرقة وتشتّت الكلمة ، أو أنّ لنا اليوم أعداء مشتركين يجب أنْ نوجّه اهتمامنا إليهم : الصهيونيّة والاستعمار الغربي والشرقي ، وعليه يجب أنْ نتجنّب المسائل المختلف فيها .

غير أنّ هذا الطّراز من التفكير خطأ محض ، للأسباب التالية :

أوّلًا : إنّ ما يسبّب الخلاف والتشتّت يدخل ضمن البحوث المتعصّبة غير المنطقيّة المثيرة للأحقاد . أمّا البحث المنطقي الاستدلالي البعيد عن التعصّب واللجاجة والخصام ،والذي يجري في جوّ من الودّ الحميم ، فإنّه فضلًا عن كونه لا يسبّب التفرقة فإنّه يقلّل مسافة الانفصال ويقوي نقاط الالتقاء المشتركة .

يقول أحد العلماء الأجلّاء (1) : إنّني في سفراتي المتكررة لزيارة بيت اللّه الحرام بمكة ، ومن مباحثاتي مع علماء أهل السنّة ، كنت أحس ، كما كانوا هم أيضاً يحسّون ، بأنّ هذه المباحثات فضلًا عن كونها ليس لها أيّ أثر سيّىء على علائقنا ، فإنّها أبعث على التفاهم وحسن الظن ، والتقارب وإزالة ما قد يكون في بعض الصدور من ضغينة .

المهم أنّ هذه البحوث تنير الكثير من نقاط الالتقاء فيما بيننا ، ممّا يمكن لنا أنْ نستند إليها في مواجهة أعداءنا المشتركين .

بل نجد أنّ أهل السنّة أنفسهم ينقسمون إلى أربعة طوائف : الحنفيّة والحنابلة والشافعية والمالكية ، ومع ذلك فإنّ هذا الانقسام لم يتسبّب في تفرقتهم ، وإذا ما اعتبروا فقه الشّيعة ، على الاقل مذهباً فقهيّاً خامساً ، فإنّ الكثير من العقد والتشتّت تزول من الوجود ، كما حدث فعلًا بعد أنْ خطا مفتي أهل السنّة الكبير شيخ الأزهر الشيخ شلتوت ،

ص: 252


1- . سماحة آية اللّه العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه دروسٌ في العقائد الاسلامية ،ص184 .

تلك الخطوة المهمّة بإعلانه المذهب الشيعي مذهباً إسلاميّاً رسميّاً ، فكان بذلك عوناً كبيراًومؤثّراً في عمليّة التفاهم الإسلامي ، وانعقدت بينه وبين المرحوم آية اللّه البروجردي ،مرجع عالم التشيّع الكبير ، أواصر الصداقة .

ثانياً : إنّنا نعتقد أنّ الإسلام قد تبلور في المذهب الشيعي أكثر من أيّ مذهب آخر ،وفي الوقت الذي يحترم مذهب الشيعة المذاهب الإسلاميّة ، فإنّنا نعتقد أنّ المذهب الشيعي أقدر على تعريف الإسلام الصادق بجميع أبعاده ، وعلى حلّ القضايا المتعلّقة بالحكومة الإسلاميّة .

فلماذا لا نعلّم أبناءنا هذا المذهب والمنطق ؟ بل إنّنا إنْ لم نفعل فقد ارتكبنا خيانة في حقّهم !

إنّنا على يقين تام بأنّ النبي صلى الله عليه و آله قد عيّن خليفته من بعده ، فما الذي يحول دون تتبّع هذا الموضوع على هدى الاستدلال والمنطق ؟ ونحن ملزمون في أمثال هذه البحوث أنْ نحذر كي لا نجرح مشاعر الآخرين المذهبيّة .

ثالثاً : إنّ أعداء الإسلام ، لكي يوقعوا بين المسلمين ويفكّوا وحدتهم لم يألوا جهداًفي إتّهام الشيعة عند أهل السنّة بشتّى التّهم والافتراءات ، كما أنّهم لم يألوا جهداً في إتّهام أهل السنّة عند الشيعة كذلك ، بحيث أنّهم استطاعوا في بعض البلدان أنْ يحقّقوا القطيعة بينهم . إنّنا عندما نعرض موضوع «الإمامة» بالاُسلوب الذي سبق ذكره ، نوضح النقاط التي يستند عليها الشيعة لتوثيق رأيهم ، مع أدلّة من الكتاب والسنّة ، يتبيّن تماماً أنّ كلّ تلك الدعاوي كانت كاذبة ، وأنّ أعداءنا المشتركين هم الذين بثّوا تلك السموم .

كمثال على ذلك نفس العالم الذي مرّ ذكره يقول : لا أنسى إنّني في إحدى زياراتي للحجاز التقيت مع أحد كبار رجال الدين السعوديين وجرت بيننا بحوث ، فكان يقول أنّه سمع أنّ للشيعة قرآناً يختلف عن قرآنهم .

فاستولى علَيّ العجب ، ولكنّي قلت له : أخي ، إنّ التحقّق من هذا الأمر سهل للغاية .إنّني أدعوك شخصيّاً أو من يمثّلك أنْ تأتي معي ، بعد انتهاء العمرة ، إلى إيران دون إخبار

ص: 253

أحد ، هناك ستجد في كلّ شارع وزقاق مسجداً ، وفي كلّ مسجد ستجد عدداً من المصحف الشريف ، كما أنّ القرآن موجود في بيوت جميع المسلمين ، وسوف نزور أيّ مسجد شئت ، أو نطرق باب أيّ منزل أردت ونطلب منهم أنْ نرى القرآن الذي يتلونه ،وعندئذ يتبيّن أنْ كان هناك أيّ اختلاف ، حتّى في كلمة واحدة أو في حرف واحد بين ماعندنا وعندكم من كتاب اللّه ، بل أنّ الكثير من نسخ المصحف الشريف المتداولة عندنا هي من طبع الحجاز أو مصر أو سائر البلاد الإسلاميّة .

لا شكّ إنّ هذا الكلام الأخوي الصادق المنطقي تماماً قد أزال من ذهن أحدالرجالات المعروفين تلك السموم العجيبة .

وعليه ، فإنّ الحديث فيما يتعلّق بالإمامة - بالاُسلوب الذي ذكرناه - يقوي وحدة المسلمين ويساعد على إلقاء الضوء على الاُمور ويضيق من شقّة التباعد .

ما هي الإمامة ؟

«الإمام» كما هو واضح من الكلمة ، هو الذي يُقتدى به في الإسلام ويتقدّم المسلمين ويقودهم . وفي عقائد الشيعة يطلق «الإمام المعصوم» على من يكون خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في كلّ شيء سوى أنّ النّبي هو مؤسّس الإسلام ، والإمام حافظه وحاميه ،والنبي يتلقّى الوحي ، والإمام لا يأتيه الوحي ، بل يأخذ تعليماته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويمتاز بعلم غزير خارق للعادة .

الإمام المعصوم ، عند الشيعة ، لا يعني رأس الحكومة الإسلاميّة فحسب ، بل هوالقائد «المعنوي» و«المادي» و«الظاهري» و«الباطني» وقائد كلّ جوانب المجتمع الإسلامي أيضاً . وعليه تقع مسؤوليّة حماية العقائد والأحكام الإسلاميّة بدون أيّ خطأأو انحراف ، وهو عبد اختاره اللّه من بين عبيده .

إلّاأنّ أهل السنّة لا يفسّرون الإمامة هكذا ، وإنّما يعتبرونه رئيس حكومة المجتمع الإسلامي . وبعبارة اخرى أنّهم يعتبرون الحُكّام في كلّ عصر وزمان خلفاء رسول اللّه

ص: 254

وأئمّة المسلمين !

ولسوف نثبت في بحوثنا الآتية وجوب أنْ يكون في كلّ عصر وزمان ممثّل إلهي -نبيّ أو إمام معصوم - على هذه الأرض ، لكي يحرس هذا الدين الحق ، ويهدي السائرين إلى اللّه . وإذا ما غاب عن الأنظار لسبب من الأسباب ، عهد على آخرين بتمثيله في تبليغ الأحكام وتشكيل الحكومة (1) .

التكامل المعنوي إلى جانب وجود القادة الإلهيين

قبل كلّ شيء نتوجه إلى الهدف من خلق الإنسان ، فهو أساس عالم الخليقة :

إنّ الإنسان يطوي طريقاً طويلًا كثير المنعطفات والعثرات في سيره نحو اللّه ، نحوالكمال المطلق ، نحو التكامل المعنوي بجميع أبعاده .

من البديهي أنّه لا يستطيع أنْ يقطع هذا الطريق بنجاح بغير هداية قائد معصوم ، ولاأنْ يطويه بغير معلّم سماوي ، لأنّه طريق محفوف بالظلمات وبمخاطر الضلال .

صحيح أنّ اللّه قد وهب الإنسان العقل والحكمة ، ومنحه وجداناً قويّاً مثمراً ،وأرسل إليه كتباً سماويّة ، ولكن هذا الإنسان مع كلّ هذه الوسائل التكوينيّة والتشريعيّة ،قد يخطىء في تمييز خط سيره ، لذلك فإنّ وجود دليل معصوم يأخذ بيده يقلّل كثيراً من احتمالات الانحراف والضياع ، فبناء على ذلك :

«إنّ وجود الإمام يكمل الهدف من خلق الإنسان»

وهذا هو ما يطلق عليه في كتب العقائد اسم «قاعدة اللطف» ، ويقصدون بها أنّ اللّه الحكيم يمدّ الإنسان بجميع الاُمور اللازمة لكي يصل إلى هدف الخلق ، ومن ذلك بعث الأنبياء وتعيين الأئمّة المعصومين ، وإلّا فإنّ ذلك يؤدّي إلى (نقض الغرض) فتأمّل !

ص: 255


1- . تفس المصدر ، ص187 .

الإمام واسطة الفيض الإلهي

كثير من العلماء ، استناداً إلى الأحاديث الإسلاميّة ، يشبّهون وجود النّبي والإمام في المجتمع الإنساني ، أو في كلّ عالم الوجود ، بالقلب بالنسبة لجسم الإنسان .

فالقلب يرسل الدّم إلى جميع العروق ، ويغذّي جميع الخلايا في الجسم .

ولمّا كان الإمام المعصوم ، باعتباره إنساناً كاملًا وطليعة قافلة الإنسانيّة ، وسبب نزول الفيوضات الإلهيّة التي ينهل منها كلّ فرد على قدر ارتباطه بالنّبي أو الإمام ، فلابدّأن نقول إنّه مثلما كان القلب ضروريّاً لحياة الإنسان ، كذلك وجود واسطة نزول الفيض الإلهي ضروريّاً في جسد عالم البشريّة ، فتأمّل !

وينبغي ألّا يغرب عن البال أنّ النّبي والإمام لا يملكان شيئاً من نفسيهما ليمنحاه للآخرين ، فكلّ ما عندهما هو من عند اللّه ، ولكن مثلما كان القلب واسطة إيصال الفيض الإلهي لسائر أنحاء الجسم ، كان النّبي والإمام واسطة إيصال الفيوضات الإلهيّة لسائرأبناء البشر .

شروط الإمام الخاصّة وصفاته

قبل كلّ شيء ينبغي أنْ نلتفت إلى نقطة مهمّة في هذا البحث :

يستفاد من القرآن المجيد بوضوح أنّ مقام «الإمامة» أرفع مقام يمكن أنْ يصل إليه إنسان ، أرفع حتّى من مقام «النبوّة» و«الرّسالة» فنحن في حكاية النّبي إبراهيم عليه السلام ،محطّم الأصنام ، نقرأ :

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (1) .

أي أنّ إبراهيم عليه السلام ، بعد أنْ طوى مرحلة النبوّة والرسالة واجتاز بنجاح مختلف ماامتحنه به اللّه تعالى ، ارتقى إلى هذه المرحلة الرفيعة ، مرحلة مقام الإمامة الظاهريّة

ص: 256


1- . سورة البقرة - آية 124 .

والباطنيّة والماديّة والمعنويّة في قيادة الناس .

نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله كان ، بالإضافة إلى مقام النبوّة والرسالة ، في مقام إمامة الخلق وقيادتهم ، وهناك عدد آخر من الأنبياء بلغوا هذه المرحلة الرفيعة أيضاً ، هذا من جهة .

ومن جهة اخرى إنّنا نعلم أنّ الشروط والصفات اللازمة لتحمّل مسؤوليّة منصب من المناصب تتناسب مع الواجبات والمسؤوليّات التي ينبغي على المرء تنفيذهاوتحمّلها ، وكلّما كان المنصب أرفع ومسؤوليّاته أصعب ، كانت الشروط والصفات اللازم توفّرها في المنتخب لذلك المقام أهم وأثقل .

فمثلًا يشترط الإسلام فيمن يتسنّم منصب القضاء ، وحتى الشاهد وإمام الجماعة ،أنْ يكون عادلًا ، فإذا كان الشّاهد ، أو من يؤمّ صلاة الجماعة يجب فيه العدالة ، فما بالك بالشّروط اللازمة لبلوغ مقام الإمامة الخطير الرفيع !

إنّ الشروط الضروريّة التي ينبغي توفّرها في الإمام هي :

1 - العصمة من الخطأ والإثم

الإمام ، كالنّبي ، يجب أنْ يكون معصوماً ، أي أنْ يكون مصوناً من كل «خطأ»و«إثم» ، وإلّا لم يسعه أنْ يكون قائداً ونموذجاً وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتّبعونه .

لابدّ للإمام من أنْ يستحوذ على قلوب الناس ، فيأتمرون بأمره دون اعتراض .فمن كان ملوّثاً بالإثم لا يمكن أبداً أنْ يبلغ هذا المبلغ في القلوب ولا يكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم .

ومن كان في أعماله اليوميّة عرضة للأخطاء والهفوات ، كيف يمكن أنْ يوثق به في إدارة أعمال المجتمع ويطمأنّ إلى آرائه وتنفيذها بدون أيّ اعتراض ؟

إذن ، لا شكّ في أنّ النّبي يجب أن يكون معصوماً ، وهذا الشرط لازم في الإمام أيضاً ، كما ذكرنا .

هذه المقولة يمكن إثباتها من طريق آخر أيضاً ، وهي طريق «قاعدة اللطف»نفسها التي يستند إليها لزوم وجود النّبي والإمام ، وذلك لأنّ الهدف من وجود النبي

ص: 257

والإمام لا يتحقّق بدون هذه العصمة فيهما ، وما ذكرناه سابقاً عن الحكمة في وجودهمايظلّ ناقصاً .

2 - العلم الغزير

الإمام ، كالنّبي ، هو الملجأ العلمي للناس ، فلابدّ أنْ يكون عارفاً بجميع اصول الدين وفروعه ، وبظاهر القرآن وباطنه ، وبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبكلّ ماله علاقة بالإسلام معرفة تامّة ، وذلك لأنّه حافظ الشريعة وحاميها ، كما هو قائد الناس ومرشدهم .

من ذلك نعرف أنّ من يرتبك عند مواجهة مشكلة معقّدة ، أو الذين يرجعون إلى الآخرين يطلبون عندهم الحلول ، لأنّ ما عندهم من علم يقصر عن الإجابة على أسئلة المجتمع المسلم ، ليس لهم أنْ يتحمّلوا مسؤوليّة إمامة الاُمّة وقيادتها.

الخلاصة هي أنّ الإمام يجب أنْ يكون أعلم النّاس وأوعاهم لدين اللّه ، وأنْ يملأالفراغ الذي يتركه النّبي بأسرع ما يمكن لكي يستمرّ الإسلام الصحيح الخالي من كلّ انحراف في مسيرته .

3 - الشّجاعة

الإمام يجب أنْ يكون أشجع أفراد المجتمع ، إذ أنّ القيادة بغير شجاعة غير ممكنة ،الشّجاعة عند مواجهة الحوادث الصعبة المرّة ، الشجاعة عند الوقوف بوجه الأقوياءالغلاظ الظالمين ، الشجاعة في صدّ الأعداء الدّاخليّين والخارجيّين .

4 - الزّهد والتحرّر

من المعلوم أنّ الذين يميلون إلى مباهج الدنيا وزخرفها سرعان ما ينخدعون ويسهل إغراؤهم بالإنحراف عن طريق الحق والعدالة بوساطة الترغيب أحياناً والترهيب اُخرى ، وشخص هذا شأنه يكون في الواقع «أسيراً» للدنيا ، بنيما الإمام يجب أنْ يكون متحرّراً من أسر أهواء النفس ومنطلقاً من قيود الثروة والجاه ، لكيلا يستطيع أحد إغراءه ،ويؤثر فيه ويحمله على الاستسلام والمساومة .

ص: 258

مَن المسؤول عن تعيين الإمام ؟

يعتقد بعض المسلمين من أهل السنّة أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد رحل عن هذه الدنيادون أن ينصب خليفة بعده ، ويعتقدون أنّ هذه المهمّة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم ،فهم الذين عليهم اختيار قائدهم بطريق «إجماع المسلمين» باعتباره أحد الأدلّة الشرعيّة .

ويضيفون إلى ذلك قولهم أنّ ذلك قد حصل فعلاً واختير الخليفة الأوّل بإجماع الاُمّة .

ثمّ اختار الخليفة الأوّل الخليفة الثاني .

وعيّن الخليفة الثاني شورى مؤلّفة من ستّة أشخاص ليختاروا أحدهم . وكانت هذه الشورى تتألّف من عليّ عليه السلام وعثمان وعبدالرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقّاص .

كان الخليفة الثاني قد اشترط أنّه إذا انقسمت الشورى كلّ ثلاثة في طرف ، فإنّ الطرف الذي فيهم عبدالرحمن بن عوف (صهر عثمان) هو الذي يختار الخليفة ، وهذا ماحصل ، إذ الأكثريّة المؤلّفة من سعد بن أبي وقّاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة اختاروا عثمان .

وفي أواخر عهد عثمان نهض الناس لأسباب مختلفة ضدّه ، وكان أنْ قتل قبل أنْ يستطيع تعيين أحد أو شورى .

وعلى أثر ذلك أقبل الناس برمّتهم متّجهين إلى الإمام علي عليه السلام وبايعوه خليفة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، باستثناء معاوية الذي كان عامل عثمان على الشام ، لأنّه كان واثقاً أنّ عليّاً عليه السلام لن يبقيه في منصبه ، فرفع راية المعارضة ، فكان مصدر حوادث مشؤومة ودموية في التاريخ أدّتْ إلى إراقة دماء الكثيرين من الأبرياء .

هنا تبرز أسئلة كثيرة لابدّ منها لإلقاء الضوء على البحوث العلميّة والتاريخيّة ،سنورد بعضاً منها :

ص: 259

هل للاُمّة أنْ تختار خليفة رسول اللّه ؟

ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال ، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على جماعة المسلمين ، فإنّ اختيار الحاكم بالرجوع إلى آراء الناس أمرمتداول .

ولكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي شرحناه من قبل والذي استقيناه من القرآن الكريم ، فلا شكّ في أنّه ليس لأحد الحقّ في تعيين خليفة النّبي سوى اللّه ورسوله (وبأمرمن اللّه) إذ أنّ شرط الإمامة بحسب هذا التفسير هو العلم الوافر بجميع اصول الدين وفروعه ، ذلك العلم الذي ينبع من مصدر سماوي ويستند إلى علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لكي يستطيع الحفاظ على الشريعة الإسلاميّة .

الشّرط الآخر هو معصوميّة الإمام ، أي أنْ يكون مصوناً صيانة إلهيّة ضدّ كلّ خطأوإثم لكي يستطيع أنْ يتحمّل مسؤوليّة مقام الإمامة وقيادة الاُمّة قيادة معنويّة وماديّة وظاهريّة وباطنيّة ، كما يجب أنْ يكون متمتّعاً بالزّهد والتحرّر والتقوى والجرأة ، ممّا هولازم لمن يتصدّى للاضطلاع بمهمّات هذا المنصب الجليل .

إنّ تمييز هذه الصفات في شخصٍ مّا ليست مستطاعة إلّابوساطة اللّه ورسوله ، فهوالذي يعلم في من وضع صفة العصمة ، وهو الذي يعلم في من يتوفّر حدّ النّصاب من العلم والزهد والتحرّر والشجاعة والجرأة اللازمة لمقام الإمامة .

إنّ الذين عهدوا باختيار الإمام والخليفة إلى الناس قد غيّروا في الحقيقة المفهوم القرآني للإمامة ، وقصّروا هذا المفهوم على الحكم العادي وإدارة شؤون النّاس الدنيويّة ،وإلّا فإنّ شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلّاعن طريق اللّه تعالى لأنّه هوالعالم بهذه الصفات .

إنّ هذه القضيّة أشبه بانتخاب النّبي ، فالنّبي لا يمكن أنْ ينتخبه الناس بالتصويت ،بل إنّ اللّه تعالى هو الذي يختاره ، ويتعرّف عليه الناس عن طريق معجزاته ، لأنّ الصفات

ص: 260

اللازم توفّرها في النّبي لا يعرفها إلّااللّه عزّ وجلّ (1) .

اعتراف يهودي على خلافة عليّ عليه السلام بلافصل

في إكمال الدين للصدوق رحمه الله عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال : لمّا بايع النّاس عمربعد أبي بكر ، أتاه رجل شابّ من اليهود وكان من علمائهم وأحبارهم ، يروون أنّه من ولدهارون أخي موسى ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! أيّكم أعلم بعلم نبيّكم وبكتاب ربّكم حتّى أسألكم عمّا اريد ؟

قال : فأشار عمر إلى عليٍّ عليه السلام ، فقال : هذا .

فتحوّل الرجل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام وقال : أنت كذلك ؟

فقال : نعم ، سل عمّا تريد .

فقال : إنّي أسألك عن ثلاثة وثلاثة وواحدة !

فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : لم لا تقول إنّي أسألك عن سبع ؟

قال : لا إنّما أسألك عن ثلاثة فإن أصبت فيهنّ سألتك عن ثلاثة بعدها ، فإن أصبت فيها سألتك عن الواحدة ، وإن أخطأت في الثلاثة الاُولى لم أسألك عن شيء .

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : باللّه الذي لا إله إلّاهو لإن أجبتك بالحقّ والصواب ،لتسلمنّ اليهوديّة ؟

فحلف اليهودي وقال : ما جئتك إلّامرتدّاً اريد الإسلام .

فسأل أسئلته والإمام يجيبه واليهودي يقول : صدقت ، إلى أن سأله اليهودي (ما هومحلّ الشاهد من هذا المجلس) قال : فأخبرني كم لهذه الاُمّة من إمام هدى هادين مهديّين ، لا يضرّهم خذلان من خذلهم ؟ وأخبرني أين منزل محمّد في الجنّة ؟ وأخبرني من معه من امّته في الجنّة ؟

فقال عليه السلام : أمّا قولك كم لهذه الاُمّة من إمام هدى ، فإنّ لهذه الاُمّة اثني عشر إمامً

ص: 261


1- . نقلنا هذا البحث عن كتاب « دروسٌ في العقائد الاسلاميّة » ، ص183 - 203 بتصرّف يسير .

هادين مهدين لا يضرّهم خذلان من خذلهم .

وأمّا قولك أين منزل محمّد في الجنّة ، ففي أفضلها وأشرفها ، وهي جنّة عدن في وسط الجنان ، وأقربها من عرش الرحمن جلّ جلاله .

وأمّا قولك من معه في الجنّة فهؤلاء الاثنى عشر أئمّة الهدى .

قال الفتى اليهودي : صدقت فواللّه الذي لا إله إلّاهو إنّه لمكتوب عندي بإملاءموسى وخط هارون . أخبرني كم يعيش وصيّ محمّد من بعده وهل يموت موتاً أو يُقتَل قتلًا ؟

قال عليه السلام له : يا هاروني ! أنا وصيّ محمّد صلى الله عليه و آله وأعيش بعده ثلاثين سنة ثمّ ينبعث أشقاها أشقى من عاقر ناقة ثمود فيضربني ضربة هاهنا في مفرقي فيخضب منه لحيتي ،ثمّ بكى عليه السلام بكاء شديداً .

فصرخ الفتى وقال : أشهد أن لا إله إلّااللّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنّك وصيّ رسول اللّه .

نعم ، لمّا تذكّر الإمام عليه السلام أنّه يضرب على رأسه الشريف ضربة بكى بكاء شديداً كمابكى في هذه الليلة أيضاً لمّا ضجّ النّاس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب واجتمع الأطبّاء (1) .

عليّ عليه السلام وليلة عشرين من شهر رمضان

عن كتاب الغزوات (2) ، قال محمّد بن الحنفيّة : بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السُّمُّ إلى قدميه وكان يصلّي تلك الليلة من جلوس ، ولم يزل يوصينابوصاياه ويعزّينا عن نفسه ويخبرنا بأمره إلى حين طلوع الفجر ، فلمّا أصبح استأذن النّاس عليه فأذن لهم بالدّخول ، فدخلوا وأقبلوا يسلّمون عليه وهو يردّ عليهم السّلام ، ثمّ

ص: 262


1- . شجرةُ طوبى ، ص62 .
2- . ص193 للشيخ جعفر النقدي .

قال عليه السلام :

أيّها النّاس ! سلوني قبل أن تفقدوني ، وخفّفوا سؤالكم لمصيبة إمامكم .

قال : فبكى النّاس بكاءاً شديداً وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً ، فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال :

فيا أسفي على المولى التقي *** أبي الأطهارحيدرة الزكي

قتيلًا قد غدى بحسام نغلٍ *** لعينٍ فاسقٍ رجس شقي

فلمّا بصر به أميرالمؤمنين عليه السلام وسمع شعره قال له : كيف بك يا حجر إذا دُعيت إلى البراءة منّي ، فما عساك أن تقول ؟

فقال : واللّه يا أميرالمؤمنين لو قُطّعت بالسيف إرباً إرباً واُضرم علَيّ النّار واُلقيت فيها لآثرتُ ذلك على البراءة منك .

فقال : وُفّقت لكلّ خير يا حجر ، جزاك اللّه خيراً عن أهل البيت .

فقال الأصبغ بن نباته : غدونا على أميرالمؤمنين عليه السلام أنا والحارث ابن سويد ابن غفلة وجماعة ، فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء فبكينا ، فخرج إلينا الحسن ابن علي عليه السلام فقال : يقول لكم أميرالمؤمنين انصرفوا إلى منازلكم ، فانصرف القوم غيري ، واشتدّ البكاءفي منزله فبكيت ، وخرج الحسن عليه السلام فقال : ألم أقل لكم انصرفوا ؟

فقلت : لا واللّه يابن رسول اللّه ما تُتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي أن أنصرف حتّى أرى أميرالمؤمنين .

قال : فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي : ادخل .

فدخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قدنزف دمه ، واصفرّ وجهه ، ما أدري وجهه أشدّ صفرة أم العمامة ، فاكببتُ عليه فقبّلته وبكيت فقال لي : لا تبك يا أصبغ فإنّها واللّه الجنّة .

فقلت له : جعلت فداك ! إنّي أعلم واللّه أنّك تصيرُ إلى الجنّة ، وإنّما أبكي لفقداني إيّاك يا أميرالمؤمنين .

ص: 263

عن أبي حمزة الثمالي ، عن حبيب بن عَمرو قال : دخلت على سيّدي و مولاي أميرالمؤمنين عليه السلام بعد أن عمّمه ابن ملجم المرادي بسيفه ، وعنده الأشراف من القبائل ،وشرطَة الخميس وما منهم أحد إلّاوماءُ عينيه يترقرقُ على سوادها حُزناً لأميرالمؤمنين عليه السلام ، ورأيت الحسن والحسين عليهما السلام ومن معهما من الهاشميّين ما تنفّس منهم أحد إلّا وظننت أنّ شظايا قلبه تخرج مع نفسه وقد أرسلوا خلف أثير بن عمرالجرّاح ، وكان يعالج الجراحات الصّعبة ، فلمّا احضر ونظر إلى جرح أميرالمؤمنين عليه السلام ،أمر برية شاة حارّة ، فاستخرج منها عرقاً وأرسله في الجُرح ، ثمّ استخرجه وقد تكلّل من دماغ أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد مال إلى الخضرة ، فقال الناس : يا أثير ! كيف جُرح أميرالمؤمنين ؟

فخرس أثير عن جوابهم وتلجلج .

وفي رواية : أحضروا عروة السلولي ، وكان أعرف أهل زمانه بالطب ، فلمّا أخرج عرق الشاة من جرح الإمام عليه السلام وإذا عليه بياض الدماغ ، فبكى واستعبر وقال : ياأميرالمؤمنين ! إعهد عهدك فإنّ الضّربة وصلت إلى الدماغ ، فعند ذلك يأس النّاس من أميرالمؤمنين عليه السلام وقام لهم بكاءٌ وعويل .

ولكن ما حال بنات أميرالمؤمنين في هذه الليلة وهم ينظرون إلى أبيهم وهو بتلك الحالة ، ساعد اللّه قلب زينب واُم كلثوم وهم يسألون من الحسن والحسين عن صحّة أبيهما وما هو جواب الطبيب ، ولسان حالهم :

يحسين خويه اشلون أبونه *** هاللّيله أشوفه انخطف لونه

لونكم يخوتي تجعدونه *** اُوجرح البراسه تشدّونه

بهداي بس لاتلچمونه *** اُو شنهو اليهيسه اتسايلونه

بلچن اصوابه اتعالجونه *** اُوعيناك بس تغمض اعيونه

الوادم بعد مايعرفونه *** اُو عند الشدايد يخذلونه

* * *

ص: 264

الليله ابونه امس ابشدّه *** وجرح الذي براسه مضهده

لونك يبو امحمّدتجعده *** اُو جرح الذي براسه تشدّه

بلچن اصوابه ايفوخ وجده *** ترانه ابمذلّه انعيش بعده

* * *

قتلوه وهو في محرابه *** طاوي الأحشاء عن ماءٍ وزاد

ما رعى الغادر شهر اللّه في *** حجّة اللّه على كلّ العباد

ص: 265

المجلس الواحد والعشرون: مناسبة شهادة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام

اشارة

ألا يا عين جودي واسعدينا *** ألا فابكي أمير المؤمنينا

وابكي خير من ركب المنايا *** وفارسها ومن ركب السفينا

ومن صام الهجير وقام ليلاً *** وناجى اللّه رب العالمينا

إمام صادق بر تقي *** فقيه قد حوى علماًودينا

وبات على الفراش يقي أخاه *** ولم يعبأ بكيدالكافرينا

مضى بعد النبي فدته نفسي *** أبو حسن وخيرالصالحينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين *** رأيت البدر راع الناظرينا

وكنا قبل مقتله بخير *** ترى المولى رسول اللّه فينا

فلا واللّه لا أنس علياً *** وحسن صلاته في الراكعينا

ألا ابلغ معاوية بن حربٍ *** فلا قرت عيون الشامتينا

وقل للشامتين بنارويداً *** سيلقى الشامتون كمالقينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا *** بخير الخلق طراًأجمعينا (1)

ص: 266


1- . تنسب الى أبي الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام .

قال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام :

اللُّهمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُ لم يَكُنِ الَّذِي كانَ مِنَّا مُنافَسَةً في سُلطَان ، ولا الِتمَاسَ شَيءٍ مِن فُضُولِ الحُطَامِ ولكِنْ لِنَرِدَّ الَمَعالِمَ مِن دِينِكَ وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ في بِلادِكَ فَيَأْمَنَ المظلُومُونَ مِن عِبَادِكَ وتُقَامَ المُعَطَّلةُ مِن حُدُودِكَ ... (1) الخ .

هناك مراحل في حياة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام نمرّ عليها من دور الطفولة ، ثمّ الشباب ومرحلة ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله الى حين تولّي الحكم ، وثم مرحلة ما بعد تولّي الحكم حتّى الشهادة وهي عبارة عن السنوات الخمس الأخيرة التي تولى بها الإمام عليه السلام مقاليد الحكم وهذه المرحلة الأخيرة هي أشدّ ضرورة وهي الأهم والأنفع مما سبق من المراحل المتقدّمة حيث قدّم فيها الامام عليه السلام انجازات كبيرة للاُمّة وها نحن نشير اليها نظراًلأهميتها البالغة ونلقي نظرة على بعض تلك الإنجازات للإمام عليه السلام في هذا المجال .

قبل بادئ ذي بدء لابد لنا أن نعلم أنّ أهمّ مميّزات الحكومة الصالحة هما أمران :

أوّلًا : التصلّب في صيانة الدستور وعدم الإنحراف عن الدستور قدر أنمُلَة .

ثانياً : إدارة البلاد والعباد بالسياسة والقوانين الصالحة المثاليّة .

وقد إختصر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام هذين الأمرين في خطابه «اللّهمّ إنّك ... الخ» .فالإمام عليه السلام يريد أن يقول في خطابه : إنّا لم نقاتل الأعداء - كمعاوية وأهل الجمل والنهروان - لأجل الحكم والمنصب والدنيا ، أنا لم أكن حريصاً على الملك يوماً ما لأن اتولى الحكم والزعامة من يوم وفاة رسول اللّه إلى هذا اليوم خلافاً لمعاوية الذي كان يقول في خطبته : «إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا .. ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون» (2) .

فالإمام يريد أن يقول في خطبته : لا تتّهموني بالحرص والزعامة ومما يؤيد كلام .

ص: 267


1- . تحف العقول ص170 ، نهج البلاغة ، تعليق صبحي صالح ، ص188 ، خطبة 131 .
2- . منتهى الآمال - ج1 ص435 ؛ والبحار - ج44 ص49 .

الامام عليه السلام تضحيته بالحكم يوم الشورى ، فكان بمقدوره عليه السلام تولي الحكم حين تقدم له عبدالرحمن بن عوف قائلًا له : «اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة النبي وسيرة الشيخين :أبي بكر وعمر» . فقال عليّ عليه السلام : بل على كتاب اللّه وسنّة النبي واجتهاد رأيي . فعرض ذلك على عثمان ، فقال : نعم . فعاد عبدالرحمن إلى علي عليه السلام ، فأعاد علي قوله ، فكرّر ذلك عبدالرحمن ثلاث مرّات والإمام يرفض سيرة الشيخين فصفق على يد عثمان وقال له :السلام عليك يا أميرالمؤمنين .

فقال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام لعبدالرحمن : واللّه ما فعلتها إلّالأنّك رجوت منه مارجى صاحبكما من صاحبه .

أشار الإمام عليه السلام إلى سبب تقديم عبدالرحمن عثمان على عليّ عليه السلام كالسبب في بيعة عمر لأبي بكر أي كما أنّ عمر بايع أبابكر يوم السقيفة ليردّ أبوبكر الخلافة إلى عمر وقدفعل ذلك كان يرجو عبدالرحمن من عثمان أن يردّ الخلافة إليه عند موته .

هنا دعى الإمام عليهما أن يفسد ما بينهما حتّى لا تصل إليه بعده قائلًا : دقّ اللّه بينكما عطر مِنشم .

ومنشم - بكسر ا لميم - اسم امرأة بمكّة وكانت خزاعة وغيرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم حتّى صار يُضرب به المثل فيقال : أشأم من عطر مِنشم .

واستجاب اللّه دعاء الإمام حيث ساءت العلاقة فيما بينهما فلم يكلّم أحدهماصاحبه حتّى مات عبدالرحمن ، وذلك في قضيّة بناء عثمان قصره واصراف الطعام فيه فاستنكر عليه عبدالرحمن فأمر بإخراجه وأن لا يجالسوه (1) .

فالإمام عليه السلام ضحّى بمنصبه الشرعي بنصّ من النبي صلى الله عليه و آله وجلس الدار خمس وعشرين سنة لأجل رفضه سيرة الشيخين ، فإذا كان الإمام يريد الحكم لقال كلمة واحدة وهي : « نعم » كما قالها عثمان - علماً أن عثمان لم يعمل بكتاب اللّه وسنة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل .

ص: 268


1- . عليّ من المهد إلى اللحد ص410 .

وحتى سيرة الشيخين - الإمام عليه السلام أراد أن يحافظ على الإسلام الناصع إسلام لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الأصيل لا إسلام بني اميّة وأعداء أهل البيت .

فالهدف من الحكم عند الإمام هو كما قال في خطبته : لنردّ المعالم من دينك ونُظهرالإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتُقام المعطّلة من حدودك .

إذن فالهدف الأول للإمام عليه السلام تطبيق معالم الدين وتقديم البلاد وإصلاحها وتنظيم سياسة البلد اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً في جميع المجالات وسنّ القوانين العادلة النتيجة من ذلك هو أن يأمن المظلومون من عبادك حتّى يعيش الإنسان عيشاً كريماً آمناً غيرمهدد في أمنه فيكون المجتمع حينها مجتمعاً نقياً نضيفاً يسير في رحاب اللّه ، فالإمام عليه السلام لخّص أهدافه من الحكم في هذين الهدفين .

من إنجازات الإمام في ظلّ حكومته العادلة : منح الحرّيّات

حين نلقي نظرة على حكومة الإمام عليه السلام نجد من جملة إنجازاته في المجال الإداري والسياسي أوّلًا ، واجهة الحرّيّة ، فالإمام عليه السلام منح الحرّيّات بشكل لم يسبق لهامثيل ، فالنظام العادي هو الذي يستجيب لهذا الميل عند البشر فالحكومة الإسلاميّة المثاليّة هي التي تمنح الحرّيّات في إطار المنهج الإسلامي .

فالإمام عليه السلام منح الحريّات بقدر لم نجد لها نظيراً في التاريخ البشري سوى لدى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فعلى سبيل المثال نراه عليه السلام حين يتولى الحكم امتنعت بعض العناصر عن تقديم البيعة للامام عليه السلام كسعد بن أبي وقّاص وعبداللّه بن عمر .

بالمناسبة وعلى ذكر بيعة الامام نشير الى أن عبد عبداللّه بن عمر يأتي إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي السفّاك يريد أن يبايعه - لمّا دخل الحجّاج مكّة وصلب ابن الزبير - قال :مُدَّ يدك لاُبايعك لعبدالملك فإنّ رسول اللّه قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة وأنا لا احبّ أن أبات ليلة بلا بيعة .

فأخرج الحجّاج رجله وقال : خذ رجلي فإنّ يدي مشغولة بأكل الطعام .

فقال ابن عمر : أتستهزئ بي ؟

ص: 269

قال الحجّاج : يا أحمق بن عدي ! ما بايعت مع علي وتقول اليوم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة ؟! أو ما كان عليّ إمام زمانك ؟ واللّه ما جئت إليّ لقول النبي بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صلب عليها ابن الزبير .

وبكلّ مهانة يمسح بيده على قدم الحجّاج مبايعاً له ويخرج .

وتوفّي ابن عمر سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر (1) .

فهؤلاء وأمثالهم يرفضون بيعة الإمام عليه السلام ولكن الإمام يتركهم ويقول : مادام لم يشنّوا عَلَيّ حرباً لم أعمل بهم شيئاً ، هذا أوّل موقف للإمام عليه السلام .

موقف آخر في هذا المجال لمّا جائه طلحة والزبير وقالوا له : نريد العمرة .

قال لهم : ما العمرة تريدان ولكنّكما تريدان الغدرة .

فالإمام أعلمهم بما في ضميرهم .

فقال الرجلان : اللّهمّ غفراً ، ما نريد إلّاالعمرة .

فقال الإمام : أحلفا لي باللّه العظيم أنّكما لا تفسدان عَلَيّ أمر المسلمين ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة .

فحلفا بالأيمان المؤكّدة ثمّ خرجا (2) .

البعض يقول : لماذا لم يحكم الامام عليه السلام عليهما بالسجن ؟ لماذا لم يضيّق عليهم ؟

الجواب : التزام الإمام عليه السلام بالمبدأ الإسلامي وقوانينه أرجح عنده من أن يمنعهم من الخروج لأنّ التزامه بعدم القصاص قبل الجريمة منعه ذلك .

وثانياً قصّة عائشة والجمل ليس متوقّفة على هؤلاء لأنّه يحتمل غير هؤلاء مَن يأخذ عائشة إلى الجمل ويثوران عليه ، فالإمام رغم علمه تركهما يذهبان .

موقف ثالث للإمام وذلك حين رأى الخوارج في الكوفة يتهيّئون للثورة ضدّه ،فذكروا ذلك للإمام وقالوا له : حاربهم .

فقال عليه السلام : كلّا إنّي لا اقاتلهم إذا لم يُقاتلوني وسيفعلون بل أكثر من ذلك ، الإمام .

ص: 270


1- . سفينة البحار - ج2 ص136 ط ق .
2- . عليٌّ من المهد إلى اللحد ص432 .

خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يؤم المسلمين في مسجد الكوفة وإذا بالمنافق ابن كوّى واقف عندالإمام يقرء قوله تعالى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (1) ،الإمام يسكت عنه ويستمع للقرآن تعظيماً للقرآن حتّى أعادها ثلاث مرّات ، ثمّ يتلوالإمام هذه الآية : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (2)(3) .

هذه هي الواجهة الاُولى في حكومة الإمام عليه السلام واجهة الحريّات .

واجهة العدالة الاجتماعيّة في حكومته عليه السلام

أمّا بالنّسبة للعدالة الإجتماعيّة في ظلّ حكومته عليه السلام نستطيع أن نقول : إنّ تطبّع نفسيّة الإمام عليه السلام على العدالة والتزامه بها بالغاً ما بلغ هو السبب الوحيد الذي فرّق عنه ذوي الأطماع والأغراض وأخاف ذوي المناصب واصحاب الكنوز التي كانت عصارة دماء المسلمين وقطع آمال المستغلّين ، إذ لولا عدالة عليّ عليه السلام لما ذهب أخوه عقيل إلى معاوية ولما انضمّ طلحة والزبير إلى عائشة للمساهمة في الحرب ضدّه وإلى غير ذلك ،فإن كانت العدالة نغّصت على عليّ عليه السلام عيشه وسلبته الراحة والإطمئنان ، فإنّ التاريخ الصحيح حفظ لعليّ هذه الفضيلة وشكره عليها .

وإن كان بعض الشواذّ يعتبرون العدالة منافية للسياسة ويرون الأرجح تقديم السياسة على الدين عند التعارض ولكن الإمام عليه السلام يضرب بالسياسة التي تزاحم الدين عرض الجدار ويتبرّأ منها .

نذكر نماذج من تلك العدالة في عدّة شعب :

الشعبة الاُولى في مساواة الإمام بالعطاء وعدم تمييزه طائفة على اخرى وقد كلّفه ذلك كثيراً ، فعلى سبيل المثال تأتيه امرأتان إحداهما عربيّة والثانية أعجميّة ، يساوي بينهما الامام عليه السلام في المال والعطاء ، فتعترض العربيّة قائلة : أنا عربيّة وهذه أعجميّة وأنا

ص: 271


1- . سورة الزمر - آية 65 .
2- . سورة الروم - آية 60 .
3- . علي من المهد إلى اللحد ص252 .

أفضل منها لماذا تساوي بيني وبينها ؟

فيجيبها الإمام عليه السلام : إنّي قرأت كتاب اللّه فلم أجد في كتابه فضلًا لبني إسماعيل على بني إسحاق أي لم أرى فضل للعرب على العجم ، هذا هو موقف .

موقف آخر مع أخيه عقيل فإنّه كان يفتخر يقول : أخي علي بن أبي طالب حاكم وزعيم ، فكان يصرف عطائه وحقّه بسرعة ويُنقل ان عقيلاً كان كريماً يبذل أمواله بسرعة ، ثمّ جاء ودخل على الإمام في حالةٍ يُرثى لها الإمام يوصفه في بعض خطبه (1)يقول :

واللّهِ لَقَد رأيتُ عَقيلًا وقد أَملَقَ حتّى استَمَاحني من بُرِّكُم صَاعاً ورأيتُ صِبيانَهُ شُعْثَ الشُعُورِ غُبْرَ الألوَانِ مِن فَقرِهِم ، كأنّما سُوِّدتْ وُجُوهُهُم بالعِظْلِم وَعَاوَدَني مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ القَوْلَ مَرَدِّداً ، فأصغَيتُ إليهِ سَمعِي فَظَنَّ أنِّي أبيعُهُ دِينِي وأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتي ، فَأَحمَيتُ لُهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أدْنَيتُها مِنْ جِسمِهِ لِيَعتَبِرَ بِهَا ، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِن أَلَمِهَا وَكَادَ أنْ يَحتَرِقَ مِن مِيسمِهَا ،فَقُلتُ لَهُ : ثَكَلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ ! أتَئِنُّ مِن حَدِيدَةٍ أحمَاهَا إنسَانُهَا لِلَعِبِه وَتَجُرُّني إلى نَارٍ سَجَرَها جَبَّارُهَا لِغَضَبِه ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولا أئِنُّ مِن لَظىً ؟ ... الخ .

ألهمه الإمام درساً قاسياً لا ينساه مدى حياته هذه هي الشعبة الأولى لعدالة الإمام عليه السلام .

الشعبة الثانية لعدالته محاسبته العمّال والولاة محاسبة دقيقة ، ولعل أبرز شاهد في هذا الصدد محاسبته لعثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة حيث دُعِيَ لوليمة ضخمة وذات ألوان فاستجاب إليها فآتاه كتاب الامام عليه السلام يوبخه على حضوره حيث قال (2) فيها :

أَمَّا بَعدُ ؛ يَابْنَ حُنَيف ! فَقَد بَلَغَني أَنَّ رَجُلاً من فِتيَةِ اهلِ البَصرَةِ دَعَاكَ الى .

ص: 272


1- . خطبة رقم 224 من نهج البلاغة ص346 تنظيم دكتر صبحي صالح .
2- . خطبة رقم 45 من نهج البلاغة ص416 تنظيم دكتر صبحي صالح .

مَأدُبَةٍ فأسرَعت إليها تُسْتَطَابُ لَكَ الألوَانُ وَتُنْقَل إلَيكَ الجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إلى طَعَامِ قَومٍ عَائِلُهُم مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُم مَدْعُوٌّ ، فَانْظُر إلى مَا تَقْضَمُهُ هذا المَقْضَمِ ، فَمَا اشتَبَهَ عَلَيكَ عِلمُهُ فَالفِظهُ ، وَمَا أيقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهه فَنَل مِنهُ .

أَلا وَإنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَاماً يَقتَدِي بِهِ وَيَسْتَضيءُ بِنُورِ عِلمهِ ، ألا وإِنَّ إمَامَكُم قَدِ اكتَفَى مِن دُنيَاهُ بِطِمْرَيْهِ ، وَمِن طُعْمِهِ بِقُرْصَيهِ ، أَلاَ وَإنَّكُمْ لاَ تَقدِرُونَ عَلَى ذلِكَ وَلَكِنْ أعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجتِهاد ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ ، فَوَاللّه مَا كَنَزْتُ مِن دُنياكُمْ تِبْراً ، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِن غَنَائِمِهَا وَفراً ، وَلاَ أعدَدْتُ لِبَالي ثَوبِي طِمراً .. !

ويقول عليه السلام :

ولو شِئتُ لاهتَدَيتُ الطَّرِيقَ إلى مُصفَّى هذَا العَسَل ، ولُبَابِ هذَا القَمْحِ ،وَنَسَائِج هذا القَزِّ . وَلكن هَيْهاتَ ! أنْ يَغلِبَني هَوَايَ وَيَقودَني جَشَعِي إلى تَخيُّرِالأطعِمَةِ - وَلَعَلّ بالحِجَازِ أوِ اليَمَامةِ مَن لاَ طَمَعَ لَهُ في القُرصِ ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبعِ - أو أبِيت مِبطَاناً وَحَولِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأكبَادٌ حَرَّى ، أو أكُونَ كَما قالَ القَائِلُ :

و حَسبُكَ دَاءً أن تَبِيتَ ببطنةٍ *** وَحولَكَ أكبَادٌ تحِنُّ إلى القِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِن نَفسِي بِأن يُقَالَ : أميرُالمؤمنين ، ولا اشارِكُهُم في مَكَارِهِ الدَّهرِ ، أو أكُونَ اسوَةً لَهُم في جُشُوبَةِ العَيشِ ! فَمَا خُلِقتُ ليشغَلَني أكْلُ الطيَّبَاتِ كالبَهِيمَةِ المَربُوطَةِ ، هَمُّهَا عَلَفُها ، أو المُرسَلَةِ شُغُلُها تَقَمُّمُها ... الخ .

موقف آخر لمحاسبته لعمّاله موقف سودة الهمدانيّة حين جائته تشكو إليه عامل من عمّاله تقول له : إنّ العامل ظلمنا .

الإمام فور سماعه للشكوى توجّه للقبلة وهو يبكي بكاء الثكلى ثمّ رفع يديه إلى السماء فقال : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك وترك حقّك ثمّ أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قد جاءتكم بيّنة من ربّكم فأوفوا الكيل والميزان ولا

ص: 273

تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، بقيّة اللّه خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتّى يأتي من يقبضه منك ، والسّلام .

وعزله (1) بعد ما صدّقها ، وكذلك عزل قاضيه أباالأسود الدُؤلي مع علم الإمام بعلمه وعدالته وفضله وكان سبب عزله أن صوته كان يعلو صوت الخصمين ولذلك لمّا جاءه أبوالأسود قال : يا أميرالمؤمنين ! لم عزلتني وما خنت وما جنيت ؟

قال : نعم ، ولكن صوتك يعلو صوت الخصمين .

الشعبة الثالثة ابتكاراته في العدالة الإجتماعيّة

نذكر هنا مقتطفاً من عدالة الإمام عليه السلام الاجتماعيّة حتّى صارت مثلًا ودرساًللآخرين بل هناك قضايا ابتكرها الإمام عليه السلام لم يسبق لها مثيل في العالم ، فمن ابتكاراته عليه السلام أنّه أوّل مَن وضع صندوقاً للشكاوى فكلّ من كانت له شكوى ولم يتمكّن أن يصل إلى الإمام أو لا يريد أن يعرفه الإمام حياءاً ان يكتب الشكوى ويلقيها في الصندوق .

ثانياً : من ابتكاراته عليه السلام أنّه أوّل من ضرب السكّة الإسلاميّة والنقد الإسلامي .

ثالثاً : ومن ابتكاراته أنّه فرّق بين الشهود في باب القضاء وهو أوّل مَن أمر بتدوين شهادة الشهود كي لا يتراجع الشاهد أو يغفل أو ينسى شهادته .

رابعاً : هو عليه السلام أوّل من رفّه على السجناء وإعداد الغذاء واللباس لهم .

ومن إنجازاته عليه السلام في العدالة الإجتماعيّة كما ورد في التاريخ كان يبني الدكاكين في الكوفة ويعطيها للناس مجاناً بدون اجرة حتّى قال عليه السلام : إنّي أعطيت كلّ مَن في بلادي المسكن والرزق والماء .

ص: 274


1- . المجالس السنيّة - ج1 ص56 .

ضرار بن ضمرة ووصفه عليّاً عليه السلام

روي عن الأصبغ بن نباتة قال : دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد وفاة أميرالمؤمنين عليه السلام ، فقال له : يا ضرار ! صف لي عليّاً .

فقال : اعفني من ذلك .

فقال : أقسمت عليك لتصفنّه لي .

فقال : إن كان لابدّ من ذلك فإنّه كان واللّه بعيد المدى ، شديد القِوى ، يقول فصلًاويحكم عدلًا ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من لسانِه ، يستوحشُ من الدنياوزَهْرَتها ، ويأنس بالليل ووحشته ، وكان غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يُعجبه من اللباس ما خَشُن ، ومن الطعام ما جَشُب ، وكان فينا كأحدنا ، يُجيبنا ان سألناه ، ويأتينا إذادعوناه ، ونحن واللّه مع قربنا منه وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له ، يُعظّم أهل الدين ويُحبّ المساكين ، لا يطمع القويُّ في باطله ، ولا ييأس الضعيفُ من عدله .

وأشهد باللّه يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته الشريفة يتململ تملمُل السّليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول :إليك عنّي يا دنيا غُرّي غيري ، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت ؟ هيهات هيهات قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيكِ ، فعمرك قصير وخطرُك كبير ، وعيشُك حقير .

ثمّ قال عليه السلام : آه آه من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق .

ثمّ بكى ضرار وبكى معاوية وقال : رحم اللّه أباالحسن كان واللّه كذلك .

ثمّ قال : فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟

قال : حزن من ذُبِح ولدُها في حجرها فهي لا ترقى لها دمعة ولا تسكن لهازفرة (1) .

وفي خبر : ترصّد عمرو بن حريث غذاء أميرالمؤمنين عليه السلام فأتته فضّة بجرابٍ مختوم ففكّه واستخرج منه خبزاً متغيّر اللون خشِنا جَشِباً .

ص: 275


1- . المجالس السنية ، ج1 ، ص105 .

فقال عمرو : يا فضّة ! ألا تتّقين اللّه في هذا الشيخ ؟ ألا تنخلين له دقيق هذا الخبزوتُطيبينه ؟

فقالت : قد كنتُ أفعلُ ذلك فنهاني ، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيّباً فختم جرابه .

قال : ثمّ إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام فتّ ذلك الخبز في قصعة وصبّ عليه الماء وحسر عن ذراعيه وجعل يأكلُ حتّى اكتفى ، فلمّا فرغ من الأكل التفت إليّ وقال : لقد خابت هذه ،ومدّ يده إلى لحيته الكريمة ، وخسرت هذه إن أدخلتها النّار من أجل الطعام .

ورآه عديّ بن حاتم وبين يديه شُنّة وفيها قراح ماء وكَسراتٌ من خبز الشعير ،فقال له : أرى لك ذلك يا أميرالمؤمنين أن تظلّ نهارك صائماً مجاهداً وبالليل ساهراًمكابداً ثمّ يكون هذا فَطورك ؟

فقال عليه السلام :

علّل النفس بالقنوع وإلّا *** طَلِبَتْ منك فوقَ ما يَكفيها

ولم يزل هذا دأبه وهذه سجيّته حتّى أتى إليه ابن ملجم المرادي وضربه بالسيف على امّ رأسه (1) .

وصيّة امير المؤمنين عليه السلام

قال محمّد بن الحنفيّة : لمّا كانت ليلةُ إحدى وعشرين ، وأظلم اللّيل ، جمع أبي أولاده وأهل بيته ، ثمّ أخذ يوصي الجميع ، فمن ذلك ما أوصى به الحسن والحسين عليهما السلام ،قال سلام اللّه عليه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أميرُالمؤمنين علي بن أبي طالب أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبدهُ ورسولُه ، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون .

ص: 276


1- . نفس المصدر ، ص106 .

ثمّ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين ، لا شريك له وبذلك اُمرتُ وأنا أوّل المسلمين ، اوصيكما بتقوى اللّه وأن لا تبغيا الدّنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زُويَ عنكما ، وقولا بالحقّ واعملا للأجر ،وكونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً .

ثمّ إنّي اوصيك يا حسن وجميعَ ولدي وأهل بيتي ومَن بلغهم كتابي هذا بتقوى اللّه ربّكم ، ولا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولاتفرّقوا ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : صلاحُ ذاتِ البيت أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام ، وإنّ المُبيرة الحالقة (1) للدّين فسادُ ذاتِ البين ، ولاقوّة إلّاباللّه ، انظروا ذوي أرحامِكم فصِلُوهم يُهوّنُ اللّه عليكم الحساب .

اللّه اللّه في الأيتام لا تغبُّوا أفواهَهُم ولا يضيعوا بحضرتكم ، فإنّي سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : مَن عال يتيماً حتّى يستغني أوجب اللّه له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النّار .

اللّه اللّه في القرآن فلا يسبِقَنّكم إلى العمل به غيركُم .

اللّه اللّه في جيرانكم ، فإنّ النّبي صلى الله عليه و آله أوصى بهم وما زال يوصينا حتّى ظننّا أنّه سيورثهم .

اللّه اللّه في بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم ما بقيتم فإنّه إن تُرك لم تُناظروا وإنّ أدنى ما يرجع به من اللّه أن يغفر له ما سلف من ذنبه .

اللّه اللّه في الصّلاة فإنّها خيرُ العمل ، وإنّها عمود دينكم .

اللّه اللّه في الزّكاة فإنّها تطفىء غَضَبَ ربِّكم .

اللّه اللّه في صيام شهر رمضان فإنّ صيامه جُنّةٌ من النّار .

اللّه اللّه في الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ، فإنّما يجاهدُ في سبيل اللّه رجلان : إمامُ هدىً ومطيعٌ له مقتدٍ بهُداه . .

ص: 277


1- . الحالقة الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر .

اللّه اللّه في ذرّيّة نبيّكم فلا يُظلمنّ بحضرتكم ، وبين أظهركم وأنتم تقدرون على الدّفع عنهم .

اللّه اللّه في أصحاب نبيّكم الذين لم يُحدثوا حَدثاً ، ولم يَؤوا مُحدِثاً ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أوصى بهم ، ولعن المحُدثَ منهم ومن غيرهم والمؤويُ للمُحدث .

اللّه اللّه في الفقراء والمساكين فاشركوهم في معايشكم .

اللّه اللّه في النّساء وما ملكت أيمانكم ، فإنّ آخر ما تكلّم به رسول اللّه أن قال :اُوصيكم بالضَّعيفين : نسائكم وما ملكت أيمانكم .

ثمّ قال عليه السلام : الصّلاة الصّلاة ، ولا تخافنّ في اللّه لومةَ لائم ، يكفِكُم اللّه من أرادكم وبغى عليكم ، قولوا للنّاس حُسناً كما أمركم اللّه عزّ وجلّ ، ولا تتركواالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولّي اللّه عليكم شراركم ثمّ تدعون فلايستجاب لكم .

عليكم يا بنيّ بالتّواصل والتباذل والتبار ، وإيّاكم والتقاطع والتدابروالتفرّق ، وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (1) .

يا بني عبدالمطّلب ! لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتل أميرالمؤمنين ، ألا لا يُقتلنّ بي إلّاقاتلي ، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثّل بالرّجل ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول :إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور .

ثمّ قال : حفظكم اللّه من أهل بيت وحفظ فيكم نبيّكم واستودعكم اللّه خيرمستودع وأقرأ عليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته (2) . .

ص: 278


1- . سورة المائدة - آية 2 .
2- . المجالس السنيّة - ج2 ص231 .

ثمّ جعل جبينه يترشّح عرقاً وهو يمسحه بيده ، فقلت : يا ابة ! أراك تمسح جبينك ؟

فقال : يا بني ! سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : إنّ المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه .

ثمّ نظر نظرة إلى بناته وأبنائه وقال : أستودعكم اللّه ، اللّه خليفتي عليكم وكفى باللّه خليفة .

ثمّ قال : يا ولديَّ يا حسن ويا حسين ! كأنّي بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من هاهنا وهاهنا فعليكم بالصّبر فهو محمود العاقبة ، واصبرواحتّى يحكم اللّه وهو خيرُ الحاكمين .

ثمّ يا أباعبداللّه يا حسين أنت شهيد هذه الاُمّة ، يعني أنّك تقتل بأرض كرب وبلاء عطشاناً ، وتسبى نسائُك وحريمك ، ويُقتّل أبنائك .

بينا هو كذلك إذ بكوا بكاءاً عالياً ، ثمّ اغمي عليه ساعة وأفاق وقال : هذا رسول اللّه وعمِّي حمزة ، وأخي جعفر وأصحابُ رسول اللّه ، وكلّهم يقولون : عجِّل قدومك علينا فإنّاإليك مشتاقون ، ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم وقال : أستودعكم اللّه جميعاً ، اللّه خليفتي عليكم ، وكفى باللّه خليفة ، ثمّ قال : وعليكم السّلام يا رُسُلَ ربِّي ، يا ملائكة ربِّي ، فلمثل هذا فليعمل العاملون إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (1) وعرق جبينه ،وما زال يذكر اللّه كثيراً ، ويتشهّد الشهادتين ، ثمّ استقبل القبلة ، وغمّض عينيه ومدَّدرجليه وأسبل يديه وقال : أشهدُ أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له ، وأشهدُ أنَّ محمّداًعبده ورسوله ، آجركم اللّه شيعة أميرالمؤمنين ثمّ قضى نحبه ، رحم اللّه من نادى واإماماه ! ، واسيّداه (2) !

اليوم فالتسكب الأيتام عبرتها *** ولتترك الصَّبر لكي تصحبِ الجزعا .

ص: 279


1- . سورة النحل - آية 128 .
2- . علي من المهد إلى اللحد ص591 .

هذا ابنُ ملجم قد أردى أباحسنٍ *** أَهَل درى اليوم من أردى ومن صرعا

* * *

أبوحسين ما تمَّم اصيامه *** لفه العيد واولاده يتامه

لفه العيدواهل العيد ماهم *** تراب اللَّحدغيّر لحاهم

* * *

إجه العيد ريته لا إجانه *** اُو لا بيّن اهلاله إبسمانه

مِنّ المصاب اللِّي دهانه *** البيه انفگد منّه حمانه

عند ذلك أقبل النّاس والجماهير من كلّ صوب وحدب يريدون أن يعرفوا هل صحيح ما حدث ؟ هل قضى إمامنا أميرالمؤمنين ، هذا البطل الضرغام فارس بدروحنين ؟

وإذا بالإمام الحسن عليه السلام خرج إليهم وهو يقول : عظَّم اللّه لكم الأجر ، لقد قضى إمامكم نحبه ، لقد مات علي ، فعلى الصراخ والعويل ، هذا يلطم رأسه ، ذاك يضرب صدره ، وذاك ينادي واإماماه ! واعليّاه !

وأمّا بنات أميرالمؤمنين علا منهم الصراخ والبكاء ، فبعدما أخذوا شوطاً من البكاء ، خرج الإمام الحسن عليه السلام إلى النّاس ، قال لهم : تفرّقوا إلى بيوتكم ، لأنّ الإمام أوصى أن يدفن ليلًا وسرّاً ، لكي لا ينبش بنو اميَّة وأعدائه قبره كما دفنت الزّهراء عليها السلام سرّاً . فبعدما جنّ الليل أرادوا إخراج الإمام إلى حيث مثواه الآن ، انظروا بعين القلب تشييع الإمام علي عليه السلام ، ما حال بنات أميرالمؤمنين ؟ بنات علي عليه السلام وراء النعش ، زينب وراء الجنازة ، وإذا بها التفتت للإمام الحسن عليه السلام قالت : يا أبامحمّد ! أنزلوا النعش حتّى نودّعها الوداع الأخير ، ولسان حالها :

يشيَّال نعش ابوي ونَّه *** لمَّن بناته ايودِّعنَّه

ينوحن عليه او يندبنَّه *** اُو يردن وليهن ينشدنَّه

لُو غاب شخصه او بعدعنَّه *** يا هو اليلمّ عُگبه شملنه

ص: 280

اُو يتوزّم او ينگل حِمِلنه *** أويلاه يبويه الرَّاح منَّه

هنا زينب ودّعت أباها أميرالمؤمنين معزّزة مجلّلة ولكن أسفي عليها كيف ودّعت أخاها الحسين عليه السلام ودّعته والسياط على متونها ، ولسان حالها :

لتگول خلّوني او مشو ما ودّعوني *** شالو خوات اوللگبر ما شيّعوني

ياريتهم ويّاك بالبر يتركوني *** او لاروح حسره اميسّره فوگ المهازيل ... الخ

* * *

أنعم جواباً يا حسين أما ترى *** شمر الخنى بالسوط ألّم أضلُعي

ص: 281

المجلس الثاني والعشرون: حول علم امير المؤمنين علي عليه السلام

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (1) .صدق اللّه العليُّ العظيم

هذه الآية المباركة هي آخر آية من سورة الرّعد ، تخاطب الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله تقول : وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً يعني أنت لست برسول اللّه . اللّه يقول له : قل لهم إذاخاطبوك وقابلوك وقالوا لك : إنّك لستَ مرسلا ، قل عندي شاهدان إثنان يشهدون لي أنّي رسول اللّه ، وإنّ هذين الشاهدين يكفياني شهادةً ، قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ، الشاهد الأوّل هو اللّه تعالى ، وشهادة اللّه عبارة عن نفس القرآن لأنّه فعله تعالى وما وقع فيه من تصديق النبوّة ، وأمّا الشاهد الثّاني عبَّرت عنه الآية بمن عنده علمُ الكتاب .

عليٌّ عليه السلام عنده علم الكتاب

وهنا يطرح سؤال : مَن عنده علم الكتاب حتّى يكون شاهداً على رسالة النبي صلى الله عليه و آله ؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال ، لابدّ أن نعلم هناك آية في سورة النّمل تتحدّث

ص: 282


1- . سورة الرعد - آية 43 .

عن وصيّ سليمان آصف بن برخيا ، لمّا أراد النبي سليمان - والذي كان يحكم الجنّ والإنس وكلّ شيء - أن يُحضر عرش بلقيس ، قال : يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ (1) يعني يا سليمان مجلسك كم يأخذ من الوقت ساعة أو ساعتين ؟ قبل أن تقوم من مقامك أناآتي آتيك بعرش بلقيس .

قال سليمان : هذا وقت كثير اريده أسرع من ذلك ، فالآية تقول : قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ (2) ، لاحظوا بين الآيتين ، الآية التي قرأناها اول المجلس الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ اما هنا في سورة النّمل عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ الفرق إنّ في آية سورة النمل فيها «من» التبعيضيّة ، « من الكتاب » يعني بعض الكتاب ، لأنّ آصف بن برخيا كان عنده جزءٌ واحد من الإسم الأعظم ، والذي عنده علمُ الكتاب في سورة الرعديعني : عنده كلّ العلم . .

قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ رأساًالقرآن يقول : فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ عرش بلقيس في سبأ في اليمن ، وسليمان على أصحّ الروايات كان في بيت المقدس ، والمسافة من اليمن إلى بيت المقدس ما يقارب الف فرسخ واذا بأقلّ من طرفة عين ، يعني : قبل أن يرتدّ جَفن من سليمان ، رأساً نظر إلى عرش بلقيس موجود عنده قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ (3) .

بالمناسبة ينقل أنّ المستنصر باللّه خرج الى زيارة قبر سلمان الفارسي ، فقال : إنّ الشيعة تدّعي أنّ عليّاً جاء إلى سلمان بليلة واحدة من المدينة إلى المدائن ومعه الكفن والكافور فغسّل سلمان وكفّنه وحنّطه وصلّى عليه ورجع بنفس الليلة فما هذا إلّاغلوّ من الشيعة ، فأنكر هذه الفضيلة لعليٍّ عليه السلام .

وإذا كان هناك الشاعرٌ المعروف السيد ابن الاقساسي كأنّه نطق روح القدس على .

ص: 283


1- . سورة النمل - الآيتان 38 و39 .
2- . سورة النمل - آية 40 .
3- . سورة النمل - آية 40 .

لسانه فأجابه بأبيات من الشعر قائلًا له :

أنكرت ليلة إذ زار الوصيّ *** أرض المدائن لمّا أن لها طَلَبا

وغسّل الطهر سلماناً وعادإلى *** عِراص يثرب والإصباح ماوجبا

وقلت ذا من قول الغلاة وما *** ذنبُ الغلاة إذا لم يُوردوا كذبا

فآصف قبل ردّالطرف من سباءٍ *** بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا

فأنت في آصفٍ لم تغلو فيه بلا *** وفي حيدر أنا غالٍ إنّ ذا عجبا

إن كان أحمد خير المرسلين فذا *** خيرُ الوصيّين أوكل الحديث هبا (1)

نرجع إلى الآية ، اللّه يخاطب النبي صلى الله عليه و آله يقول : إذا قالوا لك إنّك لست مرسلًا ، قل كفى باللّه شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .

أجمع المفسّرون إلّاما شذّ وندر وسوف نجيبهم قالوا على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال : مَن عنده علم الكتاب هو أخي ووصيي وخليفتي من بعدي عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، حتّى أنّ الحسكاني من أهل العامّة عنده كتاب اسمه شواهد التنزيل ذكر 500 آية نزلت في حقّ عليٍّ أميرالمؤمنين عليه السلام ومن جملة الآيات هذه الآية يقول : الذي عنده علم الكتاب هوعلي بن أبي طالب عليه السلام .

هنا نطرح سؤالاً هو لو أنّنا أبعدنا عليّاً عن هذه الآية المباركة فمن يأتي ويأخذمكان هذه الآية ؟ مَن يكون مصداقاً لهذه الآية ؟ يعني عنده علم الكتاب ويكون شاهداًعلى رسالة النبي ؟ هل الخلفاء الراشدون عندهم علم الكتاب والذين هم أفضل الناس عند العامّة بعد النبي صلى الله عليه و آله ؟

نأتي إلى الخليفة الأوّل أبي بكر هل يكون عنده علم الكتاب ؟

علم أبي بكر

إنّ غاية جهد الباحث في علم الخليفة وسعة اطّلاعه فما ورد عنه في التفسير

ص: 284


1- . الغدير ، ج5 ، ص15 .

والأحكام والسنّة لا تتجاوز المائة وأربعة حديثاً ، وأمّا ما ورد عنه في خصوص السنّة فقد جمع ابن كثير بعد جهود جبّارة أحاديثه في اثنين وسبعين حديثاً وسمّى مجموعه :مسند الصدّيق (1) ، وما أثبته عنه إمام الحنابلة (2) ثمانون حديثاً ويربو المتكرّر منها على العشرين . وفي وسع الباحث المناقشة في غير واحد من تلك الأحاديث سنداً أو متناً ،فإنّ من جملتها ما ليس بحديث وإنّما هو قول قاله كقوله للحسن السبط عليه السلام : بأبي شبيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليس شبيهاً بعلي ، وقوله : شاور رسول اللّه في أمر الحرب ، ومنها ما هومحكومٌ عليه بالوضع ، أو يخالف الكتاب والسنّة ويكذّبه العقل والمنطق مثل قوله :

1 - لو لم ابعث فيكم لبعث عمر

2 - ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر

3 - إنّما حرُّ جهنّم على امّتي مثل الحمّام (3) .

فهذه الأحاديث التي وردت عنه ما هي إلّاكقطرة من بحر لجّيٍّ لا تقام بها قائمة للإسلام ولا تنحلّ بها عقدة أيّة مشكلة في مقابل كثير من الصحابة الذين يروون آلافاً من السنّة النبويّة ، فقد أخرج تقيّ بن مخلد في مسنده من حديث أبي هريرة فحسب خمسة آلاف وثلثمائة حديث وكسراً (4) وأبو هريرة لم يصحب النبي إلّاثلاث سنين .

وهذا أحمد بن الفرات كتب ألف ألف وخمسمائة الف حديث (5) وعليك بكتاب الغدير ج7 للتفصيل ، فهل يمكن أن يكون عنده علم الكتاب والذي كان يقول : قد ولّيت أمركم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغتُ فقوّموني .

وقال كما عن المطاعن : أقيلوني فلست بخيركم وعليٌّ فيكم .

وأيضاً عن المطاعن قال : إنّ لي شيطاناً يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت .

ص: 285


1- . تاريخ الخلفاء للسيوطي ص62 .
2- . المُسند ، ج1 ، ص2 .
3- . الغدير للعلّامة الأميني - ج7 ص109 .
4- . الإصابة - ج4 ص205 .
5- . خلاصة التهذيب ص9 .

فقوّموني .

ولذلك النبي صلى الله عليه و آله كما عن المطاعن لم يولّه شيئاً من الأعمال وولّى غيره وأنفذه لأداء سورة البراءة ثمّ ردّه فمن لم يصلح لأداء آيات كيف يصلح للرئاسة العامّة المتضمّنة لأداء جميع الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد (1) ؟

سؤال يهودي من أبي بكر

عن أنس بن مالك قال : أقبل يهوديٌّ بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال : اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّانبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ .

قال أبوبكر : سل عمّا بدا لك . قال اليهودي : أخبرني عمّا ليس للّه، وعمّا ليس عنداللّه ، وعمّا لا يعلمه اللّه . فقال أبوبكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهودي ! وهمَّ أبوبكروالمسلمون رضي اللّه عنهم باليهودي . فقال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما : ما أنصفتم الرجل . فقال أبوبكر : أما سمعت ما تكلّم به ؟ فقال ابن عبّاس : إن كان عندكم جوابه وإلّافاذهبوا به إلى عليٍّ رضى الله عنه يجيبه فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لعليّ بن أبي طالب :اللّهمّ اهد قلبه ، وثبّت لسانه .

قال : فقام أبوبكر ومن حضره حتّى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه .

فقال أبوبكر : يا أباالحسن ! إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة . فقال عليٌّ : ماتقول يا يهودي ؟ قال : أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّانبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ . فقال له : قل . فردّاليهودي المسائل . فقال عليٌّ رضى الله عنه : أمّا ما لا يعلمه اللّه فذلك قولكم يا معشر اليهود : إنّ العزير ابن اللّه ، واللّه لا يعلم أنّ له ولداً .

وأمّا قولك : أخبرني بما ليس عند اللّه ، فليس عنده ظلم للعباد .

وأمّا قولك : أخبرني بما ليس للّه، فليس له شريك .

فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلّااللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وأنّك وصيّ

ص: 286


1- . عقائد الإماميّة - السيّد إبراهيم الموسوي الزنجاني ص18 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

فقال ابوبكر والمسلمون لعليٍّ عليه السلام : يا مفرّج الكرب (1) .

فهذا علم أبي بكر ، فما من مسألة إلّاوثار بها لعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وهناك مثالب كثيرة لا يسع المقام من ذكرها ، فهل يكون أبوبكر مصداقاً لهذه الآية وعنده علم الكتاب ؟ حاشا وكلّا .

أم الخليفة الثاني عمر عنده علم الكتاب ؟! فنقرأ علم الثاني :

علم عمر بن الخطاب

وما عسانا أن نقول في علم ابن الخطّاب فما هو إلّاكصاحبه في العلم ويكفيك ماكان يقوله مرّات عديدة : لولا عليٌّ لهلك عمر ، والذي كان يقول : لا أبقاني اللّه بأرضٍ ليس فيها أبوالحسن ، وما طاب المقام بأرض ليس فيها عليّ ، وأعوذ باللّه من معضلة ولاأبوالحسن لها (2) .

وهو الذي قال : كلّ الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال ، قالها لمّاخطب يوماً فقال في خطبته : من غالى في صداق ابنته جعلته في بيت المال .

فقالت له امرأة : كيف تمنعنا ما أحلّه اللّه لنا من كتابه بقوله : وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (3) ، فقال قولته .

وهو الذي حرّم ما أحلّه اللّه وحلّل ما حرّمه حتّى قال : متعتان كانتا على عهدرسول اللّه أنا أنهي عنهما واُعاقب عليهما .

وهو الذي زاد في الأذان «الصلاة خير من النوم» .

في الرواية أنّ رجلًا سأل طاووساً : من قال الصلاة خير من النوم ؟

فقال : أمّا إنّها لم تقل على عهد رسول اللّه بل حذف من فصول الأذان «حيّ على

ص: 287


1- . المجتنى لابن دريد ص35 .
2- . سلوني قبل أن تفقدوني للشيخ الحكيمي - ج1 ص50 - 53 .
3- . سورة النساء - آية 20 .

خير العمل» التي كانت في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله (1).

وإلى غير ذلك من المثالب ، وسوف نشير إلى بعضها في علم أميرالمؤمنين عليه السلام .

وأمّا علم الثالث عثمان والذي أيضاً كان يقول لولا علي لهلك عثمان فيكفيك ماذكرنا من صاحبيه وما قال في حقّه أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقيّة :

«إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فعله وأجهز عليه عملُهُ وكبت به بطنته» .

علم أمير المؤمنين عليه السلام

ممّا لا شكّ فيه أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان يربو علمه على جميع الصحابة بل كانوايرجعون إليه في كثير من القضايا والمشكلات ولا يرجع هو عليه السلام إلى أحد منهم في شيء ،وإنّ أوّل من اعترف له بالأعلميّة نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله حيث قال لابنته فاطمة : أما ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاماً وأعلمهم علماً . وقال : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابهاوقال صلى الله عليه و آله و سلم : اعلم امتي من بعدي علي بن ابي طالب عليه السلام ، وقال صلى الله عليه و آله و سلم : علي اقضاكم علي اعلمكم ، وغير ذلك من الأحاديث في علمه هي أكثر من أن تحصى .

ويكفيك في علمه ما قال : سلوني قبل أن تفقدوني .

فعن الأصبغ بن نباتة قال : لمّا جلس عليٌّ عليه السلام للخلافة وبايعه النّاس ، خرج إلى المسجد متعمّماً بعمامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لابساً بردة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، متنعّلًا بنعل رسول اللّه ،متقلّداً سيف رسول اللّه ، فصعد المنبر فجلس عليه متمكّناً ثمّ شبّك أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثمّ قال :

يا معاشر الناس ! سلوني قبل أن تفقدوني ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، هذا ما زقّني رسول اللّه زقّاً زقّاً ، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين

ص: 288


1- . العقائد الامامية للسيد ابراهيم الزنجاني ، ص29 .

والآخرين ، أما واللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتّى تنطق التوراة فتقول : صدق عليٌّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول : صدق عليٌّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيَّ . وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول : صدق عليٌّ ما كذب لقدأفتاكم بما أنزل اللّه فيَّ . وأنتم تتلون القرآن ليلًا ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه ،ولولا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية : يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (1) .

ثمّ قال : سلوني قبل أن تفقدوني فواللّه الذي برأ الحبّة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل انزلت ، أو في نهار انزلت ، مكّيها ، ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها،ناسخهاومنسوخها، محكمها ومتشابهها ، تأويلها وتنزيلها لأخبرتكم.

فقام إليه رجل يقال له ذعلب ، وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب شجاع القلب ،فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لاُخجلنّه اليوم لكم في مسألتي إيّاه . فقال : ياأميرالمؤمنين ! هل رأيت ربّك ؟

قال : ويلك يا ذعلب ! لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره .

قال : فكيف رأيته صفه لنا ؟

قال : ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ، ولا بالسكون ولابالقيام قيام انتصاب ، ولا بمجيء ولا ذهاب ، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لايوصف بالغلظ،رؤوف الرحمة لايوصف بالرقّة، مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسّة، قائل لاباللفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مبائنة ، فوق كلّ شيء فلايقال شيء فوقه ، وأمام كلّ شيء ولا يقال له أمام ، داخل في الأشياء لا كشيء في شيءداخل ، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج . .

ص: 289


1- . سورة الرعد - آية 39 .

فخرَّ ذعلب مغشيّاً ثمّ قال : تاللّه ما سمعت بمثل هذا الجواب ، واللّه لا عدت إلى مثلها (1) .

كاد يهلك ابن الخطّاب لولا عليٌّ عليه السلام

عن حذيفة بن اليمان إنّه لقي عمر بن الخطّاب ، فقال له عمر : كيف أصبحت يابن اليمان ؟

فقال : كيف تريدني أصبح ؟ أصبحت واللّه أكره الحقّ واُحبّ الفتنة ، وأشهد بما لم أره ، وأحفظ غير المخلوق ، واُصلّي على غير وضوء ، ولي في الأرض ما ليس للّه في السماء .

فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره وقد أعجله أمر ، وعزم على أذى حذيفة لقوله ذلك ، فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعليّ بن أبي طالب فرأى الغضب في وجهه ، فقال : ماأغضبك يا عمر ؟

فقال : لقيت حذيفة بن اليمان فسألته كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت أكره الحق .

فقال : صدق ، يكره الموت وهو حق .

فقال : يقول : واُحبّ الفتنة .

قال : صدق ، يحبّ المال والولد وقد قال اللّه تعالى : أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ (2) .

فقال : يا علي ! يقول : وأشهد بما لم أره .

فقال : صدق ، يشهد اللّه بالوحدانيّة والموت والبعث والقيامة والجنّة والنّاروالصراط ولم ير ذلك كلّه .

فقال : يا علي ! وقد قال إنّني أحفظ غير المخلوق .

ص: 290


1- . سلوني قبل أن تفقدوني - ج1 ص223 .
2- . سورة الأنفال - آية 28 .

قال : صدق ، يحفظ كتاب اللّه تعالى وهو غير مخلوق (1) .

قال : ويقول : اصلّي على غير وضوء .

فقال : صدق ، يصلّي على ابن عمّي رسول اللّه على غير وضوء والصلاة عليه جائزة .

فقال : يا أباالحسن ! قد قال أكبر من ذلك .

فقال : وما هو ؟

قال : قال : إنّ لي في الأرض ما ليس للّه في السماء .

قال : صدق ، له زوجة وولد وتعالى اللّه عن الزوجة والولد .

فقال عمر : كاد يهلك ابن الخطّاب لولا عليّ بن أبي طالب (2) .

عليٌّ عليه السلام أفضل من جميع الأنبياء إلّاالنبي محمّد صلى الله عليه و آله

روي عن صعصعة بن صوحان أنّه دخل على أميرالمؤمنين عليه السلام لمّا ضُرب ، فقال :يا أميرالمؤمنين ! أنت أفضل أم آدم عليه السلام أبوالبشر ؟

قال علي عليه السلام : تزكية المرء نفسه قبيح لكن قال اللّه تعالى لآدم يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (3) .وأنا أكثر الأشياء أباحها لي وتركتها وما قاربتها .

ثمّ قال : أنت أفضل يا أميرالمؤمنين أم نوح عليه السلام ؟

قال علي عليه السلام : إنّ نوحاً دعا على قومه ، وأنا ما دعوت على ظالمي حقّي ، وابن نوح كان كافراً ، وابناي سيّدا شباب أهل الجنّة .

قال : أنت أفضل أم موسى ؟

ص: 291


1- . هذه الفقرة خرافة دسّت في الحديث اختلقها أنصار المذهب الباطل في خلق القرآن .
2- . سلوني قبل أن تفقدوني - ج1 ص108 عن فصول المهمّة ص18 ؛ وأخرجه الحافظ الكنجي في الكفاية ص96 فقال : هذا ثابت عن أهل النقل ذكره غير واحد من أهل السير .
3- . سورة البقرة - آية 35 .

قال عليه السلام : إنّ اللّه تعالى أرسل موسى إلى فرعون فقال : إنّي أخاف أن يقتلوني حتّى قال اللّه تعالى : لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (1) ، وقال : إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (2) وأنا ما خفت حين أرسلني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بتبليغ سورة برائة أن أقرأها على قريش في الموسم مع أنّي كنت قتلت كثيراً من صناديدهم فذهبت بها إليهم وقرأتها عليهم وما خفتهم .

ثمّ قال : أنت أفضل أم عيسى بن مريم ؟

قال عليه السلام : عيسى كانت امّه في بيت المقدس فلمّا جاء وقت ولادتها سمعت قائلًايقول : أخرجي هذا بيت العبادة لا بيت الولادة ، وإنّ امّي فاطمة بنت أسد لمّا قرب وضع حملها كانت في الحرم فانشقّ حائط الكعبة وسمعت قائلًا يقول : ادخلي ، فدخلت في وسط البيت ، وأنا ولدت به وليس لأحد هذه الفضيلة لا قبلي ولا بعدي (3) .

رجلٌ محبٌّ يموت على قبر عليٍّ عليه السلام

بعد دفن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام رجع الحسنان ومعهما من خواصّهما وأهل بيتهماجماعة فمرّوا على خربة في الكوفة فسمعوا أنيناً ، فقفوا أثره فإذا به رجل قد توسّد لبنة وهو يحنّ حنين الثكلى الوالهة ، فوقف عنده الحسن والحسين وسألاه عن حاله .

فقال : إنّي رجل غريب لا أهل لي ، قد أعوزتني المعيشة وأتيت إلى هذه البلدة منذسنة ، وكلّ ليلة يأتيني شخص إذا هدأت العيون بما أقتات به من طعام وشراب ويجلس معي يؤنسني ويسلّيني عمّا أنا فيه من الهمّ والحزن ، وكان لي كالاُمّ الشفيقة بولدها ، كان يكلّمني برفق ويمرضني بشفقة ويضاحكني وقد فقدته منذ ثلاثة أيّام .

فقالا له وهما يبكيان : صفه لنا .

فقال : إنّي مكفوف البصر لا أبصره .

ص: 292


1- . سورة النمل - آية 10 .
2- . سورة القصص - آية 33 .
3- . سلوني قبل أن تفقدوني ، عن المناقب لابن شهرآشوب والأنوار النعمانيّة - ج1 ص38 .

فقالا : ما اسمه ؟

قال : كنت أسأله عن اسمه فيقول : إنّما أبتغي بذلك وجه اللّه والدار الآخرة .

فقال : أسمعنا حديثه .

قال : دأبه التسبيح والتقديس والتكبير والتهليل ، وإنّ الأحجار والحيطان تجيب بإجابته وتسبّح بتسبيحه .

فقالا : هذه صفات سيّدنا ومولانا أميرالمؤمنين عليه السلام .

عليك أميرالمؤمنين تأسّفي *** وحزني وإن طال الزمان طويل

مصاب اصيب الدين منه بفادح *** تكاد له شمّ الجبال تزول

فليس بمجد فيك وجدي ولاالبكا *** مفيد ولا الصبر الجميل جميل

فقال الرجل : ما فعل اللّه به ؟

فقالا عليهما السلام وهما يبكيان : قد أفجعنا فيه أشقى الأشقياء ابن ملجم وها نحن راجعون من دفنه .

فلمّا سمع الرجل ذلك منهما لم يتمالك دون أن رمى بنفسه على الأرض وجعل يضرب برأسه الصخور ويحثو على رأسه التراب ويصرخ صراخ المعولة الفاقدة ، فأبكى من كان حاضراً ، ثمّ قال لهم : باللّه ما اسمكما واسم أبيكما ؟

فقالا له : أبونا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وانا الحسن وهذا أخي الحسين وهؤلاء بقيّة أولاده وأقربائه وجملة من أصحابه راجعين من دفنه .

قال : سألتكما باللّه وبجدّكما رسول اللّه وأبيكما وليّ اللّه إلّاما عرّجتما بي على قبره لاُجدّد به عهداً فقد تنغّص عيشي بقتله وتكدّرت حياتي بعد دفنه .

فأخذه الحسن عليه السلام بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى والناس من وراءهما بالبكاءوالعويل حتّى أتوا إلى قبره المنوّر فجثى عليه ذلك الرجل وجعل يمرّغ جسمه عليه ويحثو التراب على رأسه حتّى غشي عليه وهم حوله يبكون وقد أشرفوا على الهلاك من كثرة البكاء والنحيب ، فلمّا أفاق من غشوته رفع كفّيه إلى السماء وقال : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ من سكن هذه الحفرة المنوّرة أن تلحقني به وتقبض روحي إليك فإنّي لا أقدر على

ص: 293

فراقه .

فاستجاب اللّه دعاءه فما وجدوه إلّامثل الخشبة المُلقاة فجهّزوه ودفنوه بجنب أميرالمؤمنين عليه السلام (1).

من سمعهم صاح يا طيب الصفات *** بعدعينك أبد ما تحله الحياة

لطم راسه و شهگ من حرگته او مات *** چنت مثل الاُبو يا حيدر إله

ثمّ إنّ الحسن والحسين رجعا يبكيان إلى بيت أبيهما إلى الكوفة حيث البيت الموحش المظلم حيث اليتامة المفجوعين لا ندري كيف واجهتهم العقيلة زينب وكيف نظروا إلى محلّ ومكان الإمام علي عليه السلام خالٍ منه وكيف نظروا إلى محراب العبادة خالٍ منه .

يا دارهم چنت زهيّه *** وچانت قناديلچ مضيّه

اشو موحشه امسيتي عليّه ***

يومين اله المحراب خالي *** يبويه اشكثر وحشه الليالي

تفت الصخر و نّه الوالي *** عسى لا گرب يومك يغالي

* * *

هم ترجع ليالي الفرح وادور *** وهم يرجع بهلنه الوكت والدور

او هم تزهر اوطان الأهل والدور *** أيا دورنه الضلّت خلّيّه .

ص: 294


1- . غزوات أميرالمؤمنين عليه السلام شيخ جعفر النقدي ص203 ؛ مجمع المصائب - ج3 ص97 .

المجلس الثالث والعشرون: في فضل ليلة القدر ونزول القرآن الكريم

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (1) .صدق اللّه العليّ العظيم

محتوى سورة القدر

محتوى السّورة المباركة ونحن نعيش ليلة القدر والتي هي خيرٌ من ألف شهر كمابيّنت الآية ذلك . وأيضاً كما هو واضح من اسمها هو بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر ، وبيان أهمّيّة هذه الليلة وبركاتها .

وأمّا حول مكان نزولها في مكّة أو المدينة ، المشهور بين المفسّرين أنّها مكيّة ،واحتمل بعضهم أنّها مدنيّة ، لما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رأى في منامه «بني اميّة» يتسلّقون منبره ، فصعب ذلك على النّبي وآلمه ، فنزلت سورة القدر تسلّيه (لذلك قيل إنّ ألف شهرفي السّورة هي مدّة حكم بني اميّة) ، ونعلم أنّ منبر النّبي اقيم في مسجد المدينة لا في مكّة (2) .

لكن المشهور - كما قلنا - أنّها مكيّة ، وقد تكون الرّواية من قبيل التطبيق لا سبباًللنزول .

ص: 295


1- . سورة القدر .
2- . تفسير الأمثل نقلاً عن روح المعاني - ج30 ص188 ؛ والدرّ المنثور - ج6 ص371 .

فضيلة السّورة

ويكفي في فضيلة السّورة تلاوتها ما روي عن النّبي صلى الله عليه و آله قال : «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» (1) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : من قرأ إنّا أنزلناه في فريضة من الفرائض نادى منادٍ : يا عبداللّه قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل .

وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام أنّه في الليلة التي استدعاك المنصور الدوانيقي لعنه اللّه بأيّ شيء احترزت من شرّه ؟

فقال الإمام : باللّه تعالى وبقرائة إنّا أنزلناه في ليلة القدر ، ثمّ قلت سبع مرّات : يا اللّه فمن ابتلى بذلك فليصنع مثل صنعي فإنّ قرائتها كهف لهم .

وعن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال : «من قرأ إنّا أنزلناه بجهر كان كشاهرسيفه في سبيل اللّه ، ومن قرأها سرّاً كان كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه .

وواضح إنّ كلّ هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها ، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها ... من يقدر القرآن حقّ قدره ويطبق آياته في حياته (2) .

وفي الحديث عن قدرها وشرفها : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : عن موسى عليه السلام قال : إلهي !اُريد قربك . قال : قربي لمن استيقظ ليلة القدر . قال : إلهي ! اريد رحمتك . قال : رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر . قال : إلهي ! اريد الجواز على الصراط . قال : ذلك لمن تصدّق بصدقة ليلة القدر . قال : إلهي ! اريد أشجار الجنّة وثمارها . قال : ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر . قال : إلهي ! اريد النجاة من النّار . قال : ذلك لمن استغفر في ليلة القدر . قال : إلهي ! اريد رضاك . قال : رضائي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر (3) .

ص: 296


1- . مجمع البيان - ج10 ص516 .
2- . تفسير الأمثل ، ج20 ، ص340 .
3- . الإقبال ص417 .

ليلة القدر ونزول القرآن

يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (1) ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ كلّ القرآن نزل في هذا الشهر .

والآية الاُولى من سورة القدر تقول : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .

اسم القرآن لم يذكر صريحاً في هذه الآية ، ولكن الضمير في «أنزلناه» يعود إلى القرآن قطعاً ، والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنّما هو لبيان عظمته وأهميّته .

عبارة إِنّا أَنْزَلْناهُ فيها إشارة اخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي . فقدنسب اللّه نزوله إليه ، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً ، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدلّ على العظمة .

نزول القرآن في ليلة القدر وهي الليلة التي يقدّر فيها مصير البشر وتعيّن بهامقدّراتهم ، دليل آخر على الأهميّة المصيريّة لهذا الكتاب السماوي .

ما هي الاُمور التي تُقدَّر في ليلة القدر ؟

في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك :

1 - لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدّرات العباد لسنة كاملة ، يشهد على ذلك قوله تعالى : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (2) .

هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الرّوايات تقول : في هذه الليلة تعيّن مقدّرات النّاس لسنة كاملة ، وهكذا أرزاقهم ، ونهاية أعمالهم ، واُمور اخرى تفرق وتبيّن في تلك الليلة المباركة .

هذه المسألة طبعاً لا تتنافى مع حرّيّة إرادة الإنسان ومسألة الإختيار ، لأنّ التقديرالإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهرنيّتهم وأعمالهم .

ص: 297


1- . سورة البقرة - آية 185 .
2- . سورة الدخان - الآيتان 3 و4 .

أي يقدّر كلّ فرد ما يليقه له ؛ وبعبارة اخرى ، أرضية التقدير يوفّرها الإنسان نفسه ،وهذا لا يتنافى مع الإختيار بل يؤكّده .

2 - وقال بعض إنّها سمّيت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير (في القرآن جاء قوله سبحانه : ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (1) .

3 - وقيل لأنّ القرآن بكلّ قدره ومنزلته نزل على رسول الأكرم صلى الله عليه و آله بواسطة المَلك العظيم في هذه الليلة .

4 - إنّها الليلة التي قُدّر فيها نزول القرآن .

5 - إنّها الليلة التي من أحياها نال قدراً ومنزلة .

6 - وقيل أيضاً لأنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم ، لأنّ القدر جاء بمعنى الضيق أيضاً كقوله تعالى : وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ (2) .

كلّ هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أنّ التفسير الأوّل أنسب وأشهر (3) .

أية ليلة هي ليلة القدر ؟

لا شك أنّ ليلة القدر من ليالي شهر رمضان ، لأنّ الجمع بين آيات القرآن يقتضي ذلك ، فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (البقرة - 185) ، ومن جهة اخرى تقول آيات السّورة التي نحن بصددها أنّه نزل في ليلة القدر .

ولكن ، أية ليلة من شهر رمضان ؟ قيل في ذلك كثير ، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك : أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك ، الليلة السابعة عشرة ، الليلة التاسعة عشرة ،الليلة الحادية والعشرون ، الليلة الثّالثة والعشرون ، الليلة السابعة والعشرون ، والليلة التاسعة والعشرون .

ص: 298


1- . سورة الحج - آية 74 .
2- . سورة الطلاق - آية 7 .
3- . تفسير الأمثل ، ج20 ، ص347 .

والمشهور في الروايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان ، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين . لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يحيي كلّ الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة .

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها الليلة الحادية والعشرون أو الثّالثة والعشرون .وعندما أصرّ عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول : «ماأيسر ليلتين فيما تطلب !!» (1) .

ثمّة روايات متعدّدة عن أهل البيت عليهم السلام تركّز على الليلة الثّالثة والعشرين ، بينماروايات أهل السنّة تركّز على الليلة السابعة والعشرين .

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال : «التقدير في ليلة القدر تسعة عشر ، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين ، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين» (2) .

روي أنّ عبداللّه بن أنيس الجُهني قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ منزلي نائي عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها ، فأمره بليلة ثلاث وعشرين ، فكان يدخل المدينة بعياله .

وروي أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان مريضاً فأمر بإخراجه في ليلة ثلاث وعشرين إلى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

لماذا خفيت ليلة القدر ؟

الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة ، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الإهتمام بجميع هذه الليالي والإجتهاد والعبادة في أكثر من ليلة ليزدادوا أجراً ؛ مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه النّاس إلى جميع الطاعات ، وأخفى غضبه بين المعاصي ، كي يتجنّب العباد جميعها ،وأخفى أحبّاءه بين النّاس كي يُحترم كلّ النّاس ، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كلّ الأدعية ، وأخفى الإسم الأعظم بين أسمائه كي تعظّم كلّ أسمائه ، وأخفى وقت الموت

ص: 299


1- . نور الثقلين - ج5 ص625 الحديث 58 .
2- . المصدر السابق - الحديث 626 .

كي يكون النّاس دائماً على الاستعداد ، وأخفى الصلاة الوسطى من بين الصلوات الخمس حتّى يحافظ على جميع الصلوات.

ويبدو أنّ هذا دليل مقبول (1) .

نزول القرآن الدفعي والتدريجي

وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النّبي صلى الله عليه و آله من نزول القرآن ، من المؤكّد أنّ القرآن الكريم نزل تدريجيّاً خلال (23) عاماً . فكيف نوفّق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهررمضان وفي ليلة القدر ؟

الجواب على هذا السؤال كما ذكره المحقّقون يتلخّص في أنّ للقرآن نزولين :

النزول الدفعي ، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النّبي صلى الله عليه و آله أو على البيت المعمور ، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا .

والنزول التدريجي ، وهو ما تمّ خلال (23) سنة من عصر النبوّة .

وقال بعضهم إنّ ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر لا كلّه ، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .

ويذكر أنّ تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرّة بكلمة «إنزال» ومرّة اخرى بكلمة «تنزيل» . ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي ، والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضاً (2) . وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين .

ليلة القدر خير من ألف شهر

في الآيتين التاليتين يبيّن اللّه تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه : وَ ما أَدْراكَ

ص: 300


1- . تفسير الأمثل ، ج20 ، ص 348 .
2- . مفردات الراغب مائدة «نزل » .

ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ .

والتعبير هذايوضّح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيضاً قبل نزول هذه الآيات ، مع ما له من علم واسع .

و«ألف شهر» تعني أكثر من ثمانين عاماً ، حقّاً ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عُمُراً طويلًا مباركاً .

وجاء في بعض التفاسير أنّ النبي صلى الله عليه و آله ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه ألف شهر (1) .

وروي أنّ أربعة أشخاص من بني إسرائيل عبدوا اللّه تعالى ثمانين سنة من دون ذنب ، فتمنّى الصحابة ذلك التوفيق لهم ، فنزلت الآية المذكورة .

وسبب أنّها خير من ألف شهر الظاهر لأهمّيّة العبادة والإحياء فيها ، وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنّة كثير ،ويؤيّد هذا المعنى .

أضف إلى ذلك ، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة ، ونزول البركات والرحمة الإلهيّة فيها يجعلها خيراً من ألف شهر .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال لعلي بن أبي حمزة الثمالي : «فاطلبها(أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصلّ في كلّ واحدة منهمامائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور ، واغتسل فيهما» .

قال : قلت : فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم ؟

قال : فصلِّ وأنت جالس .

قال : قلت : فإن لم أستطع ؟ .

ص: 301


1- . الدرّ المنثور - ج8 ص568 .

قال : فعلى فراشك ، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيّد) الشياطين ، وتقبل أعمال المؤمنين .. نعم الشهررمضان !» (1) .

لماذا نزل القرآن في ليلة القدر ؟

ليلة القدر - كما علمنا - ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكلّ فرد ، فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظاً وفي حالة تقرّب إلى اللّه وتكامل على طريق بناء الشخصيّة الإسلاميّة ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة اللّه .

نعم ، في اللحظات التي يتقرّر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين ، وإلّافسيواجهنا المصير المؤلم (لا قدَّر اللّه) .

والقرآن ... باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشريّة مستقبلها ومصيرهاويهديها إلى طريق سعادتها وهدايتها ، يجب أن ينزل في ليلة القدر ... ليلة تعيين المصير ... وما أجمل هذه العلاقة بين «القرآن» و«ليلة القدر» ، وما أعمق معنى الإرتباطبين الإثنين !!

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ .

و«تنزّل» فعل مضارع يدلّ على الاستمرار (والأصل تتنزّل) ممّا يدلّ على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصّة بزمن النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله ، وبنزول القرآن ، بل هي ليلة تتكرّر في كلّ عام باستمرار .

وما المقصود ب «الروح» ؟

قيل : إنّه جبرائيل الأمين ، ويسمّى أيضاً الروح الأمين .

وقيل : إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى : وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ

ص: 302


1- . نور الثقلين - ج5 ص 610 .

أَمْرِنا (1) .

وللروح تفسير آخر يبدو أنّه أقرب ، هو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة .

وروي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئل عن الروح وهل هو جبرائيل ؟ قال : «جبرائيل من الملائكة والروح أعظم من الملائكة ، أليس أنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : تنزّل الملائكة والرّوح» (2) ؟

فالإثنان متفاوتان بقرينة المقابلة . وذكرت تفاسير اخرى للروح هنا نعرض عنهالإفتقادها الدليل .

مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي لكلّ تقدير وتعيين للمصائر ، ولكلّ خير وبركة ، فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الاُمور .

أو بمعنى بكلّ خير وتقدير ، فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كلّ هذه الاُمور (3) .

وقيل : المقصود أنّ الملائكة تنزل بأمر اللّه ، لكن المعنى الأوّل أنسب .

عبارة «ربّهم» تركّز على معنى الربوبيّة وتدبير العالم ، وتتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الاُمور وتقديرها ، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبيّة الخالق .

بإيجاز الآية الكريمة تقول : الملائكة والروح تتنزّل في هذه الليلة بأمر ربّهم لتقديركلّ من الاُمور .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ جبرئيل ينزل هذه الليلة ومعه ألوية فينصب لواءاً على قبري ولواء على بيت المقدس ولواء على مسجد الحرام ولواء على طور سيناء ولا يدع فيها مؤمناً ولا مؤمنة إلّاسلّم عليه إلّامدمن الخمر وآكل لحم الخنزير (4) . .

ص: 303


1- . سورة الشورى - آية 53 .
2- . تفسير البرهان - ج4 ص481 .
3- . حسب التّفسير الأوّل (من) هنا بمعنى لام التعليل أي لأجل كلّ أمر . وبناء على التّفسير الثّاني (من) تعني باء المصاحبة .
4- . مجمع البيان - ج5 ص520 .

سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخيروالسلامة والرحمة حتى الصباح .

القرآن نزل فيها ، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر ، وفيها تنزل الخيرات والبركات ،وبها يحظى العباد برحمة خاصّة ، كما أنّ الملائكة والروح تتنزّل فيها ... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتّى مطلع فجرها ، والرّوايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة .

وإطلاق كلمة «سلام» على هذه الليلة بمعنى «سلامة» (بدلًا من سالمة) هو نوع من التأكيد كأن نقول فلان عدل ، للتأكيد على أنّه عادل .

وقيل : إنّ إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أنّ الملائكة تسلّم باستمرارعلى بعضها أو على المؤمنين ، أو أنّها تأتي إلى النّبي صلى الله عليه و آله وخليفته المعصوم ، تسلّم عليه .

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه التفاسير .

إنّها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كلّ الجهات .

وسئل الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام عمّا إذا كان يعرف ليلة القدر ، قال : «كيف لانعرف والملائكة تطوف بنا فيها» .

وجاء في قصة إبراهيم عليه السلام أنّ عدداً من الملائكة جاءت إليه وبشّرته بالولدوسلّمت عليه (هود - 69) وفي الرّواية أنّ إبراهيم أحسّ بلذة من سلام الملائكة لا تعدلهالذّة ، إذن ، فأية لذّة وبركة ولطف في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزّل في ليلة القدر !!

وحين القي إبراهيم عليه السلام في نار نمرود ، جاءت إليه الملائكة وسلّمت عليه فتحوّلت النّار إلى جنينة . ألا تتحوّل نار جهنّم ببركة سلام الملائكة على المؤمنين في ليلة القدر إلى برد وسلام .

نعم ، هذه كرامة لاُمّة محمّد وتعظيم لها حيث تنزل الملائكة هنا على الخليل عليه السلام

ص: 304

وتنزل هنا على امّة الإسلام (1) .

الإمام الحسين عليه السلام وليلة القدر

واعلم أنّ من أعمال هذه الليلة الاستغفار ومعنى الاستغفار هو التوجّه إلى اللّه جلّ جلاله بالتوبة الصحيحة من كلّ الذنوب والخطايا ، فاجعل شفيعك إلى اللّه في قبول توبتك في هذه الليلة المعظّمة سيّدالشهداء عليه السلام فهو باب نجاة الاُمّة ، وله عند اللّه سبحانه وتعالى المنزلة العظيمة واعتقد أنّ اللّه سبحانه إذا علم صدق توبتك وتوسّلك بالحسين عليه السلام فحاشاأن يردّك خائباً .

واعلم أنّ من أعمال هذه الليلة زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وذكر العلماء له زيارة خاصّه في هذه الليلة وإذا لم يتسنّ لك زيارته عليه السلام فاذكر مصيبته فإنّها من أعظم المصائب أو مصيبة أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام فقد شاء اللّه تعالى تكون شهادة الإمام أميرالمؤمنين في هذه الليالي العظيمة فقد كان فقده كيوم مات فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قال ابن عبّاس : امطرت السماء ثلاثة أيّام دماً ولم يرفع حجر من وجه الأرض إلّاوجد تحته دم عبيط وهتف هاتف مات رسول اللّه مات أبوكم (2) .

وأمّا ما حال بنات أميرالمؤمنين عليه السلام وكأنّي بالعقيلة :

العيد مجبل والحزن زايد عليّه *** عاينت دارالمرتضى منّه خليّه

اشمحله الاُبو بالعيد لوجمّع أولاده *** ولبّسهم الزينه على جاري العاده

أو رفرف عليهم بالهنه طيرالسعاده *** يطيب الگلب واتصير عيشتهم هنيّه

واحنه ابونه گبل عيده ابتسعة ايّام *** سافر او خلنه وصرنه بعده أيتام

أفراحنه راحت او صار العيدبالشام *** باچر النّاس امعيّده واحنه ابعزيّه

واللّه لگضي العيد باچر وسط الگبور *** وامشي واسايل وين اجي ولباب مقبور

ص: 305


1- . تفسير الأمثل ، ج20 ، ص345 نلاً عن تفسير الفخر الرازي - ج32 ص36 .
2- . الكوكب الدري - ج2 ص194 ط 2 .

المجلس الرابع والعشرون: في أهميّة العشر الأواخر من شهر رمضان

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (1) .

صدق اللّه العليُّ العظيم

حيث أنّنا دخلنا في العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك فلابدّ أن نجتهد في عبادة اللّه تعالى أكثر من بقيّة أيّام شهر رمضان وذلك لما ورد في الروايات من أهميّة العشر الأواخر من هذا الشهر وكي تكون لنا اسوة حسنة برسول اللّه صلى الله عليه و آله حيث كان صلى الله عليه و آله كماروي عنه كان يغتسل في كلّ ليلة من هذا العشر وكان يوقظ أهله ويعتكف في المسجدعشرة أيّام وله فضل كثير بل هو أفضل الأوقات للإعتكاف . وروي أنّه يعدل حجّتين وعمرتين . وكان صلى الله عليه و آله إذا اعتكف في المسجد في العشر الأواخر ضُربت له قبّةٌ من شعروشمّر الميزر وطوى فراشه (2) .

تعمير المساجد بالحضور فيه

ينبغي على الإنسان المؤمن من الإكثار في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك الإكثار من ذكر اللّه والصلاة على النبي وآله والمزيد من الصلاة والدعاء وتلاوة

ص: 306


1- . سورة التوبة - آية 18 .
2- . مفاتيح الجنان ص234 - أعمال أواخر شهر رمضان .

القرآن والإستغفار والجدّ في اللعن على ظالمي آل محمّد عليهم السلام واللعن على قاتل أميرالمؤمنين وبالأخص إتيان المساجد وملازمتها كما كان يفعل النبي والأئمّة عليهم السلام في العشر الأواخر من هذا الشهر وذلك حتّى نكون أحد مصاديق الآية المباركة : إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله أنّ المساجد بيوتي في الأرض فطوبى لمن تطهّر في بيته وزارني في بيتي وحقّ على المزور أن يكرم الزائر .

وفي الحديث عنه صلى الله عليه و آله أيضاً : من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى اللّه له بيتاًفي الجنّة ، وإنّ اللّه تعالى ليريد عذاب أهل الأض بسبب ذنوبهم حتّى لا يحاشي منهم أحداً فإذا نظر إلى الشيب ناقلي أقدامهم إلى المسجد للصلاة والولد يتعلّمون القرآن رحمهم فأخّر ذلك عنهم .

وعن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام : الجلوس في المسجد خير لي من الجلوس في الجنّة ؛ لأنّ الجنّة فيها رضا نفسي والمسجد فيه رضا ربّي .

وقال عليه السلام : من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان :

أخاً مستفاداً في اللّه . أو علماً مستطرفاً . أو آية محكمة . أو يسمع كلمة تدلّ على هدى . أورحمة منتظرة . أو كلمة تردّه عن ردى . أو يترك ذنباً خشية أو حياءً . أو دعاء يدعو به لصلاح دينه أو دنياه .

فيجدر بنا أن نهتمّ بإتيان المساجد سيّما في هذه الليالي الشريفة العظيمة .

ثمّ إنّ المسجد محلّ جمع جميع عناصر المسلمين على اختلاف أشكالها وألوانهاوجمع الشمل فيمابينهم ورفع الأحقاد والفرق وحتّى التباغض بينهم .

وتُنقل حادثة في هذا المجال هناك شخص كان دائماً يلازم مسجد النبي صلى الله عليه و آله وكان يجلس إلى جنب النبي لأنّه لا يسمع حديث النبي وكان ضعيف السمع ، فكان هناك شخص ثري من الأنصار ومن اسرة محترمة اسمه أوس بن الصامت كان أيضاً يأتي ويجلس عند النبي باعتبار أنّه محترم ومن اسرة راقية . ففي يوم من الأيّام دخل المسجدفلم يجد مكان وكان يتصوّر أنّ ذلك الشخص ضعيف السمع يقوم له ويعطيه مكانه ولكن ما قام له ، فالتفت إليه أوس وقال : يابن فلانة أقف على رأسك ولا تقوم ؟ النبي صلى الله عليه و آله تأثّر

ص: 307

من هذه الكلمة (يابن فلانة) فلمّا انتهى النبي من خطابه طلب أوس جاء ثمّ اخذ النبي بيده ، قال له : انظر ماذا ترى في المسجد ؟ قال : أحمر وأسود وأبيض أشكال من مختلف الأرض عند النبي .

قال له النبي صلى الله عليه و آله ما مضمون كلامه : أنت لا تفضل على أحدٍ منهم إلّابالتقوى ،فقولك يابن فلانة في غير محلّها إيّاك والعود إليها وأنت في المسجد .

فقال أوس : يا رسول اللّه ! أرجو المعذرة وأنا حاضر أن أنفق عليه ولو بنصف ثروتي حتّى يرضى عنّى .

قال النبي لذلك الشخص الذي اهين : أتسمع ما يقول لك أخوك ؟

قال : يا رسول اللّه ! أنا أرضى عنه بدون أيّ شيء .

قال له النبي : لماذا ؟

قال : أخشى أن يدخلني ما دخله فأنا أخاف أن تصير عندي أموال وأصير مثله .

فالنبي هكذا كان يجمع بين المسلمين من خلال المسجد ويوحد صفهم وكلمتهم فيجدر بنا نحن ايضاً أن نهتمّ بإتيان المساجد سيّما في هذه الليالي الشريفة العظيمة .

وفي الحديث : المشي إلى مسجد من مساجد اللّه بكلّ خطوة خطاها حتّى يرجع إلى منزله عشر حسنات ومحى عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات ، وصلاة الرجل في منزله جماعة تعدل أربعاً وعشرين صلاة ، وصلاة الرجل جماعة في مسجد تعدل ثماني وأربعين صلاة مضاعفة في المسجد ، بل لقد عدّ عدم إتيان المسجد هجراً يشتكي منه المسجد عند اللّه تعالى في مصاف القرآن والعترة فعن النبي صلى الله عليه و آله : يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون : المصحف والمسجد والعترة .

ثمّ إنّ الآية ذكرت خمسة شروط مهمّة في عمارة المسجد الحرام ، تقول : إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وهذا النص إشارة إلى شرطين مهمّين يمثلان الاساس العقائدي للإنسان المؤمن الإيمان باللّه واليوم الآخر فما لم يتوفر لأحدهذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه بل لو كان عمله في الظاهرسليماً فهو في الباطن ملوّث بأنواع الأغراض غير المشروعة .

ص: 308

ثمّ تشير الآية إلى الشرط الثالث والرابع فتقول : وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ يعني الإيمان باللّه واليوم الآخر لابدّ أن تؤيّده الأعمال الكريمة الصالحة وإلّا وحدها لاتكفي وتكون مجرّد ادّعاء فلابدّ هذا الإدّعاء أن يتجلّى بالصلاة والزكاة بالأخص في بيت اللّه وفي المساجد .

ثمّ تشير الآية إلى الشرط الخامس وهو : وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فلابدّ أن يكون قلبه مليء بعشق اللّه ولا يحسّ بمسؤوليّة إلّافي امتثال أمر اللّه ولا يرى لا من عبيده أثراً في مصيره إلّااللّه تعالى ولا يخش أحداً غيره تعالى .

وهناك آداب مذكورة في محلّها للمسجد لابدّ من رعايتها ، منها :

فضل قراءة القرآن وآدابه

عن الإمام الباقر عليه السلام : لكلّ شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان (1) .

فمن الاُمور التي ورد التحريض عليها في شهر رمضان وبالأخص في العشرالأواخر منه قراءة القرآن حيث تعدل قراءة آية واحدة منها ختم القرآن كلّه .

في الحديث عن النبي : أفضل العبادة قراءة القرآن (2) .

الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يقول : اللّه اللّه في القرآن لا يسبقنّكم بالعمل به غيركم .

وأمّا آداب القرآن :

1 - إجلاله وتعظيمه وإحترامه لأنّه كلام الخالق العظيم ، ويستحبّ قراءته فجراًوفي شهر رمضان .

عن النبي صلى الله عليه و آله : القرآن أفضل من كلّ شيء دون اللّه ، فمن وقّر القرآن فقد وقّر اللّه ،ومن لم يوقّر القرآن فقد استخفّ بحرمة اللّه . (جامع الأخبار) .

2 - قراءته وفهم وتدبّر معانيه والإستفادة منه وقراءته بخشوع وحزن وشوق .

عن النبي صلى الله عليه و آله : أصدق القول وأبلغ الموعظة وأحسنُ القصص ، كتاب اللّه . (أمالي

ص: 309


1- . الكافي - ج2 ؛ وأمالي الصدوق ص2 .
2- . مجمع البيان - ج1 .

الصدوق) .

3 - وضعه في المكان المناسب له زيادة في الإحترام .

4 - التأنّي وعدم الإسراع في قراءته .

5 - إبتداء السور القرآنيّة بقول «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» أو «أعوذ باللّه السّميع العليم من الشيطان الرّجيم» أو «بسم اللّه الرحمن الرحيم» .

6 - الطّهارة عند التّلاوة .

7 - عدم مس كلمات القرآن إلّابعد الوضوء .

8 - إستقبال القبلة عند القراءة .

9 - قراءة القرآن ترتيلًا .

10 - التأثّر بالآيات القرآنيّة والذوبان فيها ، وإذا مرّ بآية فيها عذاب توقّف وتعوّذمن النّار ، وإذا مرّ بآية فيها نعيم توقّف وسأل اللّه الجنّة .

عن النّبي صلى الله عليه و آله : ليس القرآن بالتّلاوة ولا العلم بالرّواية ، ولكن القرآن بالهداية والعلم بالدّراية . (كنز العمّال) .

11 - يتعلّم ويعلّم قراءة القرآن بحضور حلقات ودروس القراءة في المساجد أوالبيوت أو المجالس .

12 - يقرأ في كلّ يوم خمسين آية من القرآن .

وغير ذلك ممّا يطول بناالبحث ، ولكن نختم الكلام بذكر بعض الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام في فضل القرآن :

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : نوّروا بيوتكم بتلاوة القرآن ولا تتخذوها قبوراً كما فعلت اليهود والنصارى ، صلّوا في الكنائس والبيع وعطّلوا بيوتهم ، فإنّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره واتّسع أهله وأضاء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الدنيا (1) .

عن الإمام الصادق عليه السلام : ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ وجلّ ... ومصحف معلَّق قد وقع .

ص: 310


1- . اصول الكافي - ج2 ص446 .

عليه غبار لا يُقرأ فيه (1) . .

عن النّبي صلى الله عليه و آله : إنّ أحقّ النّاس بالتخشّع في السرّ والعلانية كالم القرآن وان احق الناس في السر والعلانية بالصّلاة والصّوم لحامل القرآن ، ثمّ نادى بأعلى صوته : يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه ، ولا تعزَّز به فيذلّك اللّه ، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزيدك اللّه به ، ولا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به (2) .

عن النّبي صلى الله عليه و آله : القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرِب (3) .

عن النّبي صلى الله عليه و آله : من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذّاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مأتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ... (4)

القرآن حرز

في اصول الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال :والذي بعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالحقّ وأكرم أهل بيته ، ما من شيء تطلبونه من حرز : من حرقٍ أو غرقٍ أو سَرقٍ أو إفلاتِ دابّةٍ من صاحبها أو ضالَّةٍ أو آبقٍ إلّاوهو في القرآن ، فمن أرادذلك فليسألني عنه .

قال : فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرني عمّايُؤمن من الحرق والغرق ؟

فقال : إقرأ هذه الآيات : اَللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ (5) ، وَ ما

ص: 311


1- . بحار الأنوار .
2- . الكافي - ج2 ، ص 442 ؛ البحار - ج92 .
3- . كشف الأسرار .
4- . ثواب الأعمال و عقاب الأعمال للصدوق ؛ الأخلاق و الآداب الإسلاميّة ص 767 .
5- . سورة الأعراف - آية 196 .

قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (1) .

فمن قرأها فقد أمن الحَرَق والغَرَق .

قال : فقرأها رجلٌ واضطرمت النار في بيوت جيرانه وبيتُه وسطها فلم يصبه شيءٌ .

ثمّ قام إليه رجلٌ آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! إنّ دابّتي استصعبت علَيّ وأنا منهاعلى وَجَل .

قال : إقرأ في اذنها اليمنى : وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (2) .

فقرأها فذلّت له دابّته .

وقام إليه رجلٌ آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! إنّ أرضي أرضٌ مسبعةٌ وإنّ السباع تغشى منزلي ولا تجوز حتّى تأخذ فريستها .

فقال : إقرا : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (3) .

فقرأهما الرجل فاجتنبه السباع .

ثمّ قام إليه آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! إنّ في بطني ماءً أصفر ، فهل من شفاءٍ؟

فقال : نعم ، بلا درهم ولا دينار ولكن اكتب على بطنك آية الكرسي وتغسلهاوتشربها وتجعلها ذخيرةً في بطنك فتبرءُ بإذن اللّه عزّ وجلّ .

ففعل الرجل فبرأ بإذن اللّه .

ثمّ قام إليه آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! أخبرني عن الضالّة ؟

فقال : إقرأ يس في ركعتين وقل : يا هادي الضالّة رُدّ علَيّ ضالّتي . .

ص: 312


1- . سورة الزمر - آية 67 .
2- . سورة آل عمران - آية 83 .
3- . سورة التوبة - الآيتان 128 و129 .

ففعل فردّ اللّه عزّ وجلّ عليه ضالّته .

ثمّ قام إليه آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! أخبرني عن الآبق .

فقال : إقرأ أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ - إلى قوله : - وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (1) .

فقالها الرجل فرجع إليه الآبق .

ثمّ قام إليه آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! أخبرني عن السرق فإنّه لايزال قد يُسرق لي الشيء بعد الشيء ليلًا ؟

فقال له : إقرا إذا آويت إلى فراشك قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا -إلى قوله : - وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (2) .

ثمّ قال أميرالمؤمنين عليه السلام : من بات بأرض قفر فقرأ هذه الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ - إلى قوله : - تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (3) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين .

قال : فمضى الرجل فإذا هو بقريةٍ خرابٍ فبات فيها ولم يقرأ هذه الآية فتغشاهُ شيطان وإذا هو آخذ بخَطْمه ، فقال له صاحبه : انظره واستيقظ الرجل فقرأ الآية ، فقال الشيطان لصاحبه : أرغم اللّه أنفك أحرسهُ الآن حتّى يُصبح فلمّا أصبح رجع إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فأخبره وقال له : رأيتُ في كلامك الشفاء والصدق ومضى بعد طلوع الشمس فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعاً في الأرض (4) .

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قُرّاء القرآن ثلاثةٌ :

رجلٌ قرأ القرآن فاتّخذه بضاعةً واستدرّ به الملوك واستطال به على النّاس (5) . .

ص: 313


1- . سورة النور - آية 40 .
2- . سورة الإسراء - الآيتان 110 و111 .
3- . سورة الأعراف - آية 54 .
4- . اصول الكافي - ج2 ص457 .
5- . يعني استجلب بسبب القرآن المال من الملوك واستطال على الناس بكثرة المال وعزّة السلاطين له .

ورجلٌ قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القِدح (1) فلا كثّر اللّه هؤلاء من حملة القرآن .

ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داءِ قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع اللّه العزيز الجبّار البلاء ،وبأولئك يديل (2) اللّه عزّ وجلّ من الأعداء وبأولئك ينزل اللّه عزّوجلّ الغيث من السماءفواللّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر (3) .

أهمّيّة الدعاء في العشر الأواخر

إنّ للدعاء أثر عظيم في حياة الإنسان المؤمن ولقضاء حوائجه وحسن عاقبته ولذلك اعطيت أهمّيّة كبيرة في آيات القرآن والروايات الإسلاميّة . قال تعالى : قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ (4) .

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام : كثرة الدعاء أفضل ، وقرأ هذه الآية (5) .

ثمّ إنّ الدعاء وسيلة مؤثّرة في إصلاح النفس ، والإرتباط القريب بين اللّه والإنسان بالأخص في شهر رمضان المبارك وبالأخص لو التفت الداعي إلى بعض شروط الدعاء كي يحرز رضا اللّه تعالى واستجابة دعائه . من هذه الشروط :

أوّلًا : معرفة المدعو .

الشرط الثاني : تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى ، ذلك لأنّ الإنسان حينما يذهب باتجاه أحد ، ينبغي أن يملك الإستعداد للقائه .

الشرط الثالث للدعاء : هو جلب رضاه من يدعوه الإنسان ، ذلك لأنّه لا يحتمل

ص: 314


1- . القدح - بالكسر - : السهم قبل أن يراش وينصل يعني حفظ الحروف وضيّع الحدود .
2- . أدال اللّه بني فلان ما من عدوهم أي جعل الكرّة لهم عليهم .
3- . اصول الكافي - ج2 ص459 .
4- . سورة الفرقان - آية 77 .
5- . تفسير الصافي ذيل هذه الآية .

التأثير بدون ذلك إلّانادراً .

وأخيراً فالشرط الرّابع لاستجابة الدعاء : هو أن يستخدم الإنسان كلّ قدرته ،وقوّته واستطاعته في عمله ، ويؤدّيه بأعلى درجة من الجدّ والإجتهاد ، ثمّ يرفع يديه ويوجّه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ماوراء ذلك .

ذلك لأنّه ورد صريحاً في الرّوايات الإسلاميّة ، أنّ الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤدّيه بنفسه ، ثمّ يتوسّل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه .

من هنا ، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجماليّة والجلاليّة ،ووسيلة أيضاً للتوبة من الذنب ، ولتطهير الروح ، وسبب أيضاً لأداء الحسنات والجدّوالإجتهاد إلى منتهى الإستطاعة .

لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلّاعلى ضوء ما قلناه ، مثلًا :نقرأ في رواية عن النّبي صلى الله عليه و آله «الدعاء سلاح المؤمن ، وعمود الدين ، ونور السماوات والأرض» (1) .

وعنه، صلى الله عليه و آله و سلم : إنّ في ابن آدم ثلاثمائة وستّين عرقاً ، منها مائة وثمانون متحرّكة ومنها مائة وثمانون ساكنة ؛ فلو سكن المتحرّك لم ينم ولو تحرّك الساكن لم ينم ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا أصبح قال : الحمد للّه ربّ العالمين كثيراً على كلّ حال ثلاثمائة وستّين مرّة ، وإذا أمسى قال مثل ذلك (2) .

وعن أميرالمؤمنين علي عليه السلام : «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاءما صدر عن صدر نقي ، وقلب تقي» (3) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام : «الدعاء أنفذ من السنان» (4) .

فضلًا عن كلّ ذلك ، فإنّ من الطبيعي أنّ حوادث تقع في حياة الإنسان ، فتغرقه في .

ص: 315


1- . اصول الكافي - ج2 أبواب الدعاء ، باب أنّ الدعاء سلاح المؤمن .
2- . اصول الكافي - ج2 ص365 .
3- . اصول الكافي - ج2 أبواب الدعاء ، باب أنّ الدعاء سلاح المؤمن .
4- . المصدر السابق .

اليأس من حيث الأسباب الظاهريّة ، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز ،ووسيلة مؤثّرة في مواجهة اليأس والقنوط .

لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة ، يمنح الإنسان قدرة وقوّة وأملًاوطمأنينة ، وأثراً لايمكن إنكاره من الناحية النفسيّة (1) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : جاء الفقراء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقالوا : يا رسول اللّه !إنّ الأغنياء لهم ما يعتقون وليس لنا ، ولهم ما يتصدّقون وليس لنا ، ولهم ما يجاهدون وليس لنا .

فقال صلى الله عليه و آله : من كبّر اللّه عزّ وجلّ مائة مرّة كان أفضل من عتق مائة رقبة ، ومن سبّح اللّه مائة مرّة كان أفضل من سياق مائة بدنةٍ ، ومن حمد اللّه مائة مرّة كان أفضل من حُملان مائة فرس في سبيل اللّه بسرجها ولجمها وركبها ، ومن قال لا إله إلّااللّه مائة مرّة كان أفضل النّاس عملًا ذلك اليوم إلّامن زاد .

قال : فبلغ ذلك الأغنياء فصنعوه .

قال : فعاد الفقراء إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالوا : يا رسول اللّه ! قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه .

فقال صلى الله عليه و آله : ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء (2) .

فضل الدعاء للمؤمنين

وينبغي للمؤمن أن لا ينسى أهمّيّة الدعاء لإخوانه المؤمنين والمؤمنات سواءالأحياء منهم والأموات ، وقد عقد الكليني في اصول الكافي باب مفصّل حول دعاءالإخوان لإخوانهم المؤمنين بظهر الغيب ، منها :

عن الإمام الصادق عليه السلام قال : دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدُرّ الرزق ويدفع المكروه .

ص: 316


1- . الأمثل ، ج11 ، ص328 .
2- . اصول الكافي - ج2 ص366 .

وعن أبي جعفر قال في قوله تعالى : وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (1) قال : هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب فيقول له الملك : آمين ،ويقول اللّه العزيز الجبّار : ولك مثل ما سألت وقد اعطيت ما سألت بحبّك إيّاه .

رأى أحد الأصحاب عبداللّه بن جُندب في الموقف في مكّة ، فلم أر موقفاً كان أحسن منه موقفه ما زال مادّاً يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خدّيه حتّى تبلغ الأرض ، فلمّا انصرف الناس قلت له : يا أبامحمّد ! ما رأيتُ موقفاً قط أحسن من موقفك .

قال : واللّه ما دعوت إلّالإخواني وذلك أنّ أباالحسن موسى عليه السلام أخبرني أنّ من دعا لأخيه بظهر الغيب نُودي من العرش : ولك مائة ألف ضِعفٍ فكرهتُ أن أَدَعَ مائةَ ألف مضمونةٍ لواحدة لا أدري تستجاب أم لا .

ولذلك الزهراء عليها السلام تقول لولدها الحسن عليه السلام حيث رآها في نصف الليل في محرابهاتدعو للمؤمنين ، فسألها عن ذلك ، فقال : بني ! الجار ثمّ الدّار .

بني امية وهتكهم حرمة المسجد الحرام

نعود إلى الآية التي تلونا أوّل المجلس التي تقول : إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ولا يخفى أنّ أفضل مساجد اللّه هو بيته والمسجد الحرام.

فوظيفة المسجد هو توحيد مشاعر المسلمين تحت لواء لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه عليّ ولي اللّه ، واللّه أراد من بيوت العبادة أن تكون محلّ لصهر النّاس وتأهيلهم لأداءواجباتهم تجاه الباري عزّ وجلّ ولذلك أصبحت بيوت العبادة مكرّمة وبالأخص بيت اللّه الحرام ولكن مع الأسف إذا راجعنا التاريخ نجد أعظم بيوت اللّه تعرّض للإعتداء حيث تعرّضت الكعبة الشريفة بالمنجنيق والإحراق من قبل الحجّاج وغيره ، وكذلك مسجدالنبي وقبره الشريف في المدينة تعرّض في أيّام مسلم بن عقبة عندما أرسله يزيد بن معاوية إلى المدينة دخل المدينة استباحها ثلاثة أيّام واُهين مسجد النبي صلى الله عليه و آله وهذه

ص: 317


1- . سورة الشورى - آية 26 .

الاُمور من أعمال بني اميّة هي التي دفعت الحسين عليه السلام إلى أن يخرج من المدينة ومن مكّة المكرّمة إلى كربلاء كي لا يستباح به حرمة هذه الأماكن المقدّسة لأنّه كان يعلم لوكان يبقى في المدينة أو في مكّة يقتلوه ولو كان متعلّق بأستار الكعبة كما صنعوا بعبداللّه بن الزبير وصلبوه وفي داخل البيت الحرام ، ولذلك الحسين خرج مع عياله ونسائه وقال :خُيِّر او خِيْرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه كأنّي بأوصالي تُقطّعُها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ... الخ .

جائه أخوه محمّد بن الحنفيّة ، قال : أخي ! إنّ أهل العراق قد عرفت غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبل وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى فإن أطعت رأيي فأقم بمكّة وكن في الحرم المُشرَّف .

فقال : يا أخي ! قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت .

فقال ابن الحنفيّة : فإن خفت ذلك فسِر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البرّ ، فإنّك أمنع الناس به ، ولا يُقْدَرْ عليك .

فقال الحسين عليه السلام : واللّه ياأخي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني .

ثمّ قال : يا أخي ! سننظر فيما قلت .

فلمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأتاه وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها وقال له : يا أخي ! ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟

قال : بلى !

قال : فما الذي حملك على الخروج عاجلًا ؟

قال : قد أتاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعدما فارقتك وقال : ياحسين ! اخرج إلى العراق فإنّ اللّه شاء أن يراك قتيلًا مخضّباً بدمائك .

فقال محمّد : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، فإذا علمت أنّك مقتول فما معنى حملك هؤلاء النساء معك ؟

ص: 318

فقال عليه السلام : لقد قال لي جدّي : إنّ اللّه عزّ وجلّ قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتّكات .

فجعل يبكي بكاءً شديداً ، وجعل يقول : أودعتك اللّه يا حسين ، في دعة اللّه ياحسين .

فايزي

لاوين عازم بالسفر يبن الأماجيد *** إگضيه الحجك ياعزيزي او عيّد العيد

گلّه ابوالسجاد او دمع العين تبديد *** حجّي وسعيي في طفوف الغاضريّه

حجّي ماهو في الحج حجي بيوم عاشور *** صدري الكعبة والحجرنحري المنحور

وحجر النبي إسماعيل ذبح ابني المبرور *** أمّا طوافي حول اخيام خليّه

تلهّف على عضيده وجذب ونّه وتحسّر *** او شمّه ابنحره او للثره خرّوتعفّر

و گلّه يخويه اشهلحچي گلبي تفطّر *** سلبت روحي من جسدها ابها لمواعيد

ثمّ التفت إلى زينب ونادها بصوتحزين ودموع جارية :

گلها يزينب سفرتچ تصعب عليّه *** مرتاب گلبي من طفوف الغاضريّه

وعگب الخدرخوفي يودّونچ سبيّه *** وتمشين حسره ميسّره للفاجر ايزيد

* * *

أاُخيّ إنّ اللّه شاء بأن يرى *** جسمي بفيض دم الوريد خضيبا

ويرى النساء على الجمال حواسراً *** أسرى وزين العابدين سليبا (1) .

ص: 319


1- . مجمع المصائب - ج1 ص83 .

المجلس الخامس والعشرين: مناسبة ميلاد النبي سليمان بن داود في الخامس والعشرين من شهر رمضان

اشارة

نتعرّض لذكره عليه السلام وقصّة الهدد وبلقيس ومعلومات اخرى .

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (1) .صدق اللّه العليُّ العظيم

بمناسبة ولادة النبي سليمان بن داود على نبيّنا وآله وعليه السلام في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك على ما رواه صاحب كتاب وقائع الشهور والأيّام (2)نجعل حديثنا في هذا المجلس عن النبي سليمان وبعض ما جرى له باختصار مفيد .

ولد النبي سليمان عليه السلام ونشأ في بيت اللّه ( المقدس ) وتولّى أمرالنبوّة والملك في حياة أبيه بأمر منه وله من العمر إثنا عشر سنة بالرغم من وجود أخيه الأكبر ادونياس كماذكر ذلك اليعقوبي في تاريخه (3) .

وتزوّج بنت فرعون ملك مصر ثمّ تزوّج بعد ذلك بلقيس ملكة سبأ في اليمن كماسيأتي .

وكان اللّه قد أوحى إلى النبي سليمان عليه السلام لمّا كان يرفع إليه من العمل الصالح - أن سلني يا سليمان ما أحببت .

ص: 320


1- . سورة النمل - الآيتان 20 و21 .
2- . ص182 و183 للبيرجندي .
3- . تاريخ اليعقوبي - ج1 ص45 .

فقال النبي سليمان : أعطني قلباً حكيماً لأحكم بالعدل وأفهم الخير والشر .

فقال اللّه سبحانه : طلبت هذا ولم تطلب مالًا ولم تطلب أنفس (موت) أعدائك ولم تطلب طول العمر فقد استجبت لك وأعطيتك ما لم تطلب من الأموال والعتاق والكرامة وأنت إن سلكت في طريقي وحفظت شرائعي ووصاياي كما حفظهما أبوك اطيل عمرك واُعظّم أمرك (1) .

ونستفيد من طلب النبي سليمان عليه السلام درسين :

الأوّل : إنّ الإنسان إذا استهدف المثل العليا في حياته وفي مقدّمتها العدل حصل على ماسوى ذلك ممّا يرغب ويطلب .

الثاني : إنّ اللّه مكّن لأولياءه مالم يمكّن منه سواهم من الدنيا ، وصرفه ذلك عن بعض أولياءه ليس إهانة بل لأنّ ما عنده خيرٌ وأبقى .

نرجع إلى الآية التي تلوتها أوّل المجلس ، قال تعالى : وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ .

ملك النبي سليمان عليه السلام

في الحديث (2) : كان النبي سليمان إذا قعد على كرسيّه جاءته جميع الطير التي سخّرها اللّه تعالى له فتظلّ الكرسي والبساط مع جميع من عليه من حرارة الشّمس ،فغاب عنه الهدهد من بين الطير ، فقال ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين لاعذبنه عذاباً شديداً ... الخ .

وقيل في تعذيبه له من أنّه ينتف ريشه أو يجعله مع أضداده في قفص واحد أويذبحه ليعتبر به غيره من أبناء جنسه أو أن يأتي بحجّه تبيّن عذره ، وإنّما كان حريصاًعلى وجوده وتفقّده وقد غضب عليه لغيبته لأنّه كان دليله على الماء ، ولا ريب من أنّ كلّ

ص: 321


1- . نفس المصدر ص46 .
2- . الانبياء حياتهم قصصهم للعاملي ، ص431 .

صنف من الطيور وسائر الحيوانات له خصوصيّة وفيه الفوائد . وقد كانت الجنّ والإنس والشياطين وبقيّة أنواع الطير والوحوش وسائر الحيوانات ولم يكن فيها من يعرف الماءتحت غطائه غير الهدهد ، وكما قيل تحت الهواء غير الطير ... الخ .

وفي الحديث عن الصادق عليه السلام : اعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان ومعرفة جميع اللغات ومنطق الطير والبهائم والسباع ، وكان إذا شاهد الحروب تكلّم بالفارسيّة ، وإذا قعد لعمّاله وجنوده وأهل مملكته تكلّم بالروميّة ، وإذا خلا بنسائه تكلّم بالسريانيّة والنبطيّة ، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربّه تكلّم بالعربيّة ، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلّم بالعبرانيّة ... الخ .

وفي المجمع عن الصادق عن أبيه عليهما السلام أنّه قال : اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر ، فملك أهل الدنيا كلّهم من الجنّ والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع واُعطي علم كلّ شيء ومنطق كلّ شيء ،وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة التي لم يسبق لها نظير .

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال : إنّ سليمان عليه السلام قد حجّ البيت ومعه الجن والإنس والطير والرياح ، وكسا البيت القباطي وهو أوّل من كسا البيت الشريف الثياب .

وفي البصائر عنه عليه السلام عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال لابن عبّاس : إنّ اللّه تعالى علّمنامنطق الطير كما علّم سليمان بن داود عليه السلام ، ومنطق كلّ دابّة في برّ أو بحر .

وعن الكاظم عليه السلام أنّه قال : إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولابهيمة ولا شيء فيه روح ، ومن لم تكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام .

النبي سليمان والهدهد

إنّه لمّا تفقّد الهدهد فلم يجده فتهدّده إن لم يأته ببيّنة تعذره ، فلمّا جاءه سأله عن غيبته فأخبره أنّه كان من سبأ في بلاد اليمن وأخبره عن ملكته وملكها العظيم على تلك الاُمّة وأنّهم صابئة وثنيّون يعبدون الشمس من دون اللّه تعالى وأنّ لملكتهم عرشاً عظيماًفيه أنواع الزينة والجواهر ، ثمّ إنّ سليمان أراد أن يعرف صدقه من كذبه ، فأعطاه كتاباً

ص: 322

ليوصله إلى تلك الملكة .

فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها فألقاه على سريرها فأخذته فإذا فيه : إنّه من سليمان وإنّه بسم اللّه الرحمن الرحيم ألّا تعلوا علَيّ وائتوني مسلمين .

فلمّا رأته بلقيس ملكة سبأ ونظرت إليه وعرفته وفهمت ما أراده النبي سليمان عليه السلام ،جمعت رجال دولتها وأهل مشورتها وأطلعتهم على الكتاب ، فلمّا سمعوا كلامه وفهموامراده أخذتهم العصبيّة وحرّكتهم الحميّة وثاروا وتحمّسوا وقالوا لها : نحن اولو قوّة واُولوبأسٍ شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ؟

فلمّا سمعت مقالتهم عرفت أنّهم في غرور عظيم وأنّ الأمر يحتاج إلى التأمّل والعقل ، ولم تغتر بما أبداه رجالها من الحماس وإظهار البسالة وقالت لهم : إنّ دخول الملوك إلى بلادنا لم يكن من الأمر السهل على أهلها ، فإنّهم إذا دخلوا قرية أفسدوهاوجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون . وكان رأيها أن ترسل له هدية تصانعه بهاوتستزلّه وتتقرّب إليه وتتودّده بسببها ثمّ تنظر بمَ يرجع المرسلون ويستلزم ذلك اطلاع الرسل على ملك سليمان ومقدار مقدرته وأنّه اهل لما هدّدهم به من إذلالهم بحضورهاإليه خاضعة سامعة مطيعة بلا تردّد ، لتكون على بيّنة من أمرها حتّى إذا فعلت أمراً فعلته بعد تقدير عواقبه ، فلمّا وصلت رسلها إلى سليمان بالهديّة لم يقبلها وردّها عليهم وتوعّدهم بأن يرسل إليهم بجنود لا قِبل لهم بها وأنّ عاقبة أمرهم خروجهم من بلادهم أذلّة صاغرين (1) .

هدايا بلقيس إلى سليمان عليه السلام

قيل : إنّها أهدت إلى سليمان ممالك ووصايف ألبستهم لباساً واحداً حتّى لايعرف الذكر من الاُنثى .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّه قال : وقيل : أهدت إليه مائتي غلام ومائتي جارية ألبست

ص: 323


1- . نفس المصدر ، ص433 .

الغلمان لباس الجواري وألبست الجواري لباس الغلمان - وقيل غير ذلك - ولمّا رجعت الرسل إلى الملكة علمت عظمة سليمان وقوّته وأشفقت على قومها وعزمت على الذهاب إليه بنفسها مع أعيان رجالها ، ثمّ توجّهت إلى فلسطين بلاد سليمان ووصلت إلى عاصمته اُورشليم القدس ، وقد صحبت معها هديّة عظيمة .

ثمّ إنّ النبي سليمان عليه السلام لمّا علم بقدرتها شيّد لها صرحاً عظيماً ومرد أرضه بالزجاج ، ولمّا قربت من دياره أراد أن يظهر لها عظمة سلطانه وعزّ نبوّته وعظم نعم اللّه تعالى عليه ما بهرها فأمر بإحضار عرشها من عاصمتها قبل وصولها إليه ليكون جلوسهاعليه في الصرح الذي أعدّه لها ، فسأل جنوده عن قوي يأتيه به فانتدب له عفريت من الجنّ وقال له : أنا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين ، فقال الذي عنده علم الكتاب انا اتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ، وكان قد أحضره ووضعه في الصرح الذي هُيّىء لاستقبالها ، فلمّا نظر سليمان ورآه مستقرّاً عنده قال : هذا من فضل ربّي ليبلوني ... الخ .

والذي عنده علم من الكتاب وقد أحضره قبل أن يرجع إليه طرفه هو وصيّ سليمان آصف بن برخيا وكان عنده الإسم الأعظم فدعى اللّه تعالى به فتحوّل من مكانه إلى صرح سليمان بقدرة اللّه تعالى وهو على كلّ شيء قدير (1) .

عرش بلقيس عند النبي سليمان عليه السلام

قال سبحانه حاكياً قول سليمان : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (2) ولعلّ تنكير العرش لها هو تغيير بعض أوضاعه وتبديل بعض زينته مع الإحتفاظ بهيأته أو تغطيته وإخفاء صورته وهيأته مع كونها جالسة عليه واللّه أعلم .

فلمّا جاءت ورأت العرش ، قيل لها : أهكذا عرشك ؟

قالت : كأنّه هو .

ص: 324


1- . نفس المصدر ، ص434 .
2- . سورة النمل - آية 41 .

ولمّا أرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنّت الزجاج ماء فكشفت عن ساقيها لئلّا تبتل ثيابها بالماء ، واُخبرت بأنّ ما ظنّته ماء إنّما هو زجاج ، ثمّ قالت : ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان للّه ربّ العالمين .

وروي أنّه أمر سليمان قبل قدومها فبني قصر ضخم من زجاج أبيض وأجرى من تحتهم الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلمّاأبصرته ظنّته ماء راكداً فكشفت عن ساقيها ... الخ .

والمذكور عند أهل السير والتفاسير والقصص من أنّ سليمان تزوّج بها وأتاه منهاولد .

وكان مقدار عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله وارتفاعه في الهواءثلاثون ذراعاً كما عن ابن عبّاس رضى الله عنه ، وكان مقدّمه من الذهب مرصّعاً بالياقوت الأحمروالزمرّد الأخضر ومؤخّره من الفضّة ومكلّل بألوان الجواهر وعليه سبعة أبيات على كلّ بيت باب مغلق ، هكذا قيل ، واللّه أعلم .

قال سبحانه : وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (1) .

سليمان وبناء القدس والمسجد الأقصى

ولقد مرّت الإشارة فيما صدر عنه من الأبنية الضخمة بواسطة تسخير الجن والشياطين له وأنّه لمّا شرع داود عليه السلام ببناء بيت المقدس ولم يتمّه أحبّ أن يتمّه سليمان بعده . فسليمان جمع الجنّ والشياطين فقسّم عليهم الأعمال فأرسل بعضهم بتحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه ، وأمر ببناء المدينة من الرخام والصفائح من الصخر وجعلها إثني عشر ربضاً ، أي محلّة على الظاهر ، وأنزل كلّ سبط من الأسباط في ربض منها ، فلمّا فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجّه الشياطين فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها وفرقة وظّفهم لتعليق الجواهر والأحجار أو

ص: 325


1- . سورة النمل - آية 43 .

تنبيتها وتثبيتها في أماكنها ، وفرقة يأتون بالمسك والعنبر وسائر الطيب ، وفرقة يأتون بالدرر من البحار حتّى اجتمع عنده من تلك الأصناف الشيء الكثير مالا يحصى له عدّإلّا اللّه تعالى ، ثمّ أحضر أهل الصنائع والمهرة في العمل وأمرهم بنحت تلك الأحجارحتّى يصيّرها ألواحاً ، وأحضر الصاغة ومن يعالج تلك الجواهر واللآلىء وبنى المسجدبالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ونصب عمده وأساطينه بالمها .

قصة موت النبي سليمان عليه السلام

قال سبحانه : فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (1).

فلقد اختلفوا في تفسير الآية الكريمة وذهبوا في تأويلها كلّ مذهب واستبعدوا أن يموت النبي سليمان عليه السلام ويبقى مدّة مجمّداً وعلى عصاه متّكئاً ولا يعلم موته أحد حتّى وصيّه آصف والعلماء والخاصّة وأهل بيته ونساءه ، وكان له ألف امرأة بين مهيرة ووصيفة من حرّة وأمة وأولاده ، هذا وكيف تستغني عنه النّاس وأهل الحاجة والمظلوم ومن يقصده من أهل مملكته وغيرها وهو المرموق المنظور والرئيس على ملوك الدنياوتحتاجه القضاة والاُمراء والقادة والجنود ، وكيف يخفى موته على الشياطين ، ثمّ إنّه هل من كرامة له عند اللّه تعالى أن يبقى هذه المدّة الطويلة المقدّرة بسنة أو أكثر بلا غسل ولاأكفان ولا حنوط ولا صلاة عليه ولا دفن ، ومن كرامة كلّ مؤمن على اللّه تعالى وعلى أهله وعند المؤمنين في جميع الشرائع تعجيل ذلك كلّه ، وهل هذا الأمر من خصائصه وماالحكمة في ذلك ؟ أو أنّ هناك مصلحة عظيمة تستوجب ذلك وتندكّ تلك المفاسد إلى جنب تلك المصلحة وبوجودها كلّ ذلك وارد وقد فرض وله قائل .

والوارد عن الرضا عن أبيه عن أبيه عليهم السلام : إنّ سليمان بن داود عليه السلام قال ذات يوم لأصحابه : إنّ اللّه تعالى وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي فسخّر لي الريح والإنس

ص: 326


1- . سورة سبأ - آية 14 .

والجنّ والطير والوحوش وعلّمني منطق الطير وآتاني من كلّ شيء ومع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل وقد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي فلا تأذنوا لأحد علَيّ لئلّا يرد علَيّ ما ينغّص يومي .

قالوا : نعم .

فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره ووقف متّكئاًعلى عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما اوتي فرحاً بما اعطي ، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره ، فلمّا بصر به سليمان عليه السلام قال له : من أدخلك إلى هذا القصر وقد أردت أن أخلو فيه اليوم ، فبإذن من دخلت ؟

قال الشاب : أدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت . فقال : ربّه أحقّ به منّي ، فمن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت . قال : وفيما جئت ؟ قال : جئت لأقبض روحك .

قال : إمض لما امرت به فهذا يوم سروري وأبى اللّه عزّ وجلّ أن يكون لي سروردون لقائه .

فقبض ملك الموت روحه وهو متّكىء على عصاه فبقي سليمان متّكئاً على عصاه وهو ميّت ما شاء اللّه والنّاس ينظرون إليه وهم يقدّرون أنّه حي ، فافتتنوا فيه واختلفوافمنهم من قال قد بقي سليمان عليه السلام متّكئاً على عصاه هذه الأيّام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب إنّه لربّنا الذي يجب أن نعبده ، وقال قوم : إنّ سليمان ساحر وإنّه يرينا أنّه واقف متّكىء على عصاه يسحر أعيننا وليس كذلك . وقال المؤمنون : إنّ سليمان هو عبد اللّه ونبّيه يدبّر اللّه أمره بما يشاء .

فلمّا اختلفوا بعث اللّه عزّ وجلّ الاُرضة فدبّت في عصاه فلمّا أكلت جوفهاانكسرت العصا وخرّ سليمان من قصره على وجهه ، فشكرت الجنّ للاُرضة صنيعهافلأجل ذلك لا توجد الاُرضة في مكان إلّاوعندها ماء وطين ، وذلك قوله عزّ وجلّ : فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ . فالمنسأة العصا ، والمروي أنّ الآية نزلت هكذا : (فلمّا خرّ تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في

ص: 327

العذاب المهين) لأنّ بعض الإنس كانوا يزعمون أنّ الجنّ يعلمون الغيب ، وفي قضيّة موت النبي سليمان عليه السلام على ما وصفناه علم كذبهم أو خطأهم فيما يعتقدون (1) .

سليمان يعرّف مقام آصف وأنّه الحجّة بعده

عن الإمام الهادي عليه السلام أنّه قال : الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف لكنّه أحبّ أن يُعرَّف الجنّ والإنس بمقامه وأنّه الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر اللّه تعالى ففهمه اللّه تعالى ،وذلك لئلّا يختلف في إمامته ونبوّته من بعده لتأكيد الحجّة على الخلق (2) .

يستفاد من هذا أنّ نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله لم يكن عاجزاً عمّا قام به عليّ بن أبي طالب عليه السلام من عجيب الأعمال كقلع باب خيبر ودحوها في الهواء كما هو المشهور في التاريخ فقدكان ذلك ونحوه في مقدور النبي صلى الله عليه و آله نفسه ، وإنّما كان ذلك لعلي كما كانت تلك لآصف ليعرّف النّاس ذلك من الدلائل على أنّه الحجّة من بعده .

قال عبدالباقي العمري البغدادي :

وباب خيبر لو كانت مسامره *** كلّ الثوابت حتّى القطب لانقلها

يريد أنّ ذلك كان بإرادة ربّانيّة نفذت على يد الإمام علي عليه السلام ، والإرادة الربّانيّة لايمنعها شيء ، كما نفذت الإرادة الربّانيّة في قلع عرش بلقيس ونقله .

يا قالع الباب الذي عن هزّها *** عجزت أكفٌّ أربعون وأربعُ

يا هازم الأحزاب لا يثنيه عن *** خوض الحمام مدجّج ومدرَّع

لولاحدوثك قلتُ إنّك جاعل ال *** أرواح في الأشباح والمتنزّعُ

لولا مماتك قلت إنّك باسط *** الأرزاق تقدرُ في العطاءوتوسعُ

أنا في مديحك ألكن لاأهتدي *** وأنا الخطب الهزبريُّ المصقعُ

أأقول فيك سميدعٌ كلّا ولا *** حاشالمثلك أن يقال سميدعُ

ص: 328


1- . نفس المصدر ، ص434 .
2- . الأنبياء ؛ حياتهم قصصهم للعاملي .

بل أنت في يوم القيامة حاكم *** في العالمين وشافع ومشفّعُ

واللّه لولا حيدرٌ ما كانت الدنيا *** ولا جمع البريّة مجمعُ ... الخ (1)

* * *

يمهر النبي اسليمان *** يمحضر عرش بلقيس

يا رافع لابن مريم *** عيسى او گبل عيسى ادريس .. (2) .

ص: 329


1- . القصائد العلويّة السبع ص41 ط 1955 م لابن أبي الحديد المعتزلي .
2- . سلوة الذاكرين للفتلاوي ص13 .

المجلس السادس والعشرون: حول فلسفة إمتحان وإبتلاء الإنسان

اشارة

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (1) .

صدق اللّه العليُّ العظيم

البلاء سنّة الحياة

إنّ من جملة قوانين اللّه تعالى على الأرض وسنّته في هذه الدنيا سنّة البلاء ، فهي تجري على جميع البشر ويحسّها كلّ إنسان ويتلمّسها كلّ عاقل .

بل الحياة قائمة على هذه السنّة والقانون ، بل يبدو من جملة الآيات والروايات أنّه غاية الخلق ، وإحدى أهدافه كقوله تعالى : إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (2) ، ذكر المفسّرون أنّ اللام في (لنبلوهم) لام الغاية : أي غاية وجودالزينة على الأرض هو للإمتحان والبلاء .

وهناك آية اخرى تبيّن أنّ علّة اختلاف الإسم والألسن واللُّغات هو الابتلاء كقوله تعالى : وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ (3) .

أميرالمؤمنين عليه السلام يقول : ولسنا للدّنيا خلقنا ، ولا بالسّعي فيها امرنا ، وإنّما وضعنا

ص: 330


1- . سورة الملك - آية 2 .
2- . سورة الكهف - آية 7 .
3- . سورة المائدة - آية 48 .

فيها لنبتلى بها (1) .

وفي كلمة اخرى يبيّن الإمام أنّ البلاء من طبع الدّنيا وديدنها وسجاياها البارزة .قال عليه السلام : دارٌ بالبلاء محفوفة ، وبالغدر معروفة (2) .

لماذا الإختبار الإلهي ؟

وبعد معرفة هذه الحقيقة يبرز سؤال مهمّ يدور في أذهاننا وهو : لماذا نُبتلى ؟ بمعنى آخر : ما هي فلسفة الإبتلاء ؟

لماذا نرى اناساً يتعذَّبون ، وآخرون لا يتعذَّبون ؟ اناس كثيري البلاء ، وآخرين قليلي البلاء ؟ فهل غابت عدالة اللّه ، هذا ما نريد الإشارة إليه .

فنقول : في مجال الإختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة ، وأوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الإختبار . فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم ، فهل أنّ اللّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الإختبار لعباده ، وهو العالم بكلّ الخفايا والأسرار ؟!وهل هناك شيء خفي عنه حتّى يظهر له بهذا الإمتحان ؟!

والجواب أنّ مفهوم الإختبار الإلهي يختلف عن الإختبار البشري .

إختباراتنا البشريّة - هي كما ذكرت آنفاً - تستهدف رفع الإبهام والجهل والإختبارالإلهي قصده «التربية» .

في أكثر من عشرين موضعاً تحدّث القرآن عن الإختبار الإلهي ، باعتباره سنّة كونيّة لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة ، ونقلها من القوّة إلى الفعل و بالتالي فالإختبار الإلهي من أجل تربية العباد ، فكما أنّ الفولاذ يتخلّص من شوائبه عند صهره في الفرن ، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديّات .

الإختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير ، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة ،

ص: 331


1- . نهج البلاغة - كتابه لمعاوية .
2- . نهج البلاغة -خطبة 226 .

كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو ، ثمّ تصارع هذه البذرة كلّ المشاكل والصعاب بالتدريج ، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديدوالحرّ اللافح ، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب .

ومن أجل تصعيد معنويات القوّات المسلّحة ، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعيّة ، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحرّ والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة .

وهذا هو سرُّ الإختبارات الإلهيّة (1) .

الإختبار الإلهي عام

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية وكلّ الموجودات الحيّة تطوي مسية تكاملها حتّى الأشجار تعبّر عن قابليّاتها الكامنة بالأثمار ، من هنا لابدَّ أن نعلم أنّه ليس البلاء والإمتحان وليد هذا العصر أو ذاك ، بل هو قديم بقدم الدّهر . إبتداءاً منذ أن خلق اللّه آدم وخلق الخلق ، بل منذ عالم الذرّ ، كما قال تعالى : وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ (2) .

إذن الإختبار والإمتحان على الإنسان يوم كان في عالم الذرّ ، وعرض عليهم الإيمان باللّه ورسوله وولاية أهل البيت عليهم السلام ؛ فمن كانت طينته طيِّبة قُبل ، ومن كانت خبيثة رُفض ، وإنّما الدّنيا فرصة ثانية وساحة اخرى للإختبار منحها اللّه لعباده ، ورحمه بهم لكي يؤمنوا ويعودوا إليه .

ثمّ تدرّج البلاء فاختبر إبليس بعد ما عَبَدَ اللّه سنين فأكرمه اللّه وجعله في صفوف الملائكة ، ولكن امتحنه بالسّجود لآدم فأبى واستكبر فاستحقّ اللّعنة ، لمّا خلق اللّه آدم

ص: 332


1- . تفسير الأمثل - ص442 .
2- . سورة الأعراف - آية 172 .

قال : فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ (1) .

ثمّ امتحن أبونا آدم : وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (2) .

ونوح عليه السلام ابتُلي بقومه ، وسمّي نوح لكثرة نوحه ونياحته على قومه ، حتّى شكا اللّه الغم ، فأمره أن يأكل العنب الأسود فإنّه يذهب بالغم .

إبراهيم عليه السلام ابتُلي بذبح ولده ، أيّوب عليه السلام ابتُلي بالمرض ، ونبيّنا ابتُلي بقومه حتّى قال : ما اوذي نبيٌّ مثل ما اوذيتُ ، وكذلك الأئمّة الأطهار .

ثمّ إنّ البلاء لم يكن مقتصراً على فئة من فئات خلق اللّه ، بل إنّما هو شامل حتّى الجنّ ، كما ابتلي إبليس وجميع البشر ، رجال ، نساء معصوم وغير معصوم ، بل شمل حتّى الحيوانات منذ اللَّحظة الاُولى عند ولادتها ، يولد الخطور والبلاء معها ، فلمّا تنظر إلى انثى الغزال ما أن يقع وليدها الأرض تراه يعدو خلفها بعد لحظات ودقائق ، ولمّا نسأل علماءالحيوان يقولون : لأنّه أحسّ بالخطر والخوف ، حتّى الطيور ، الإمام الصّادق عليه السلام : ما من طير يصاد إلّابتركه التّسبيح (3) .

حتّى النّبات قد يتعرَّض للبلاء عندما يقطع الماء ، أو ألاسماء والأملاح عنه فتراه يصفر ويموت .

ما هو موقف النّاس من الإبتلاء والإمتحان ؟

عادة النّاس يكرهون البلاء ويخشونه ، ويتهرّبون من كلّ عمل ويحسّون فيه خطراًعلى مصالحهم ، ويفرّون من كلّ شيء يحتمل فيه بلاء ، أو يُشتمّ منه رائحته ، وذلك لأنّ البشر بطبيعتهم يميلون إلى الراحة عوضاً عن التّعب ، ولذلك بعض النّاس إذا أصابهم خير

ص: 333


1- . سورة الحجر - آلايات 29 - 31 .
2- . سورة البقرة - آية 35 .
3- . خصائص المفيد .

ونعمة وسراء إعترفوا بكرم ربّهم وفضله ، وإن أصابتهم ضرّاء وشدّة كفروا باللّه واتّهمواربّهم كما قال تعالى : فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَ أَمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (1) .

أمّا المؤمن فينظر إلى جميع الاُمور بمنظار رضا اللّه وسخطه ، فلو كان رضا اللّه من البلاء والمشقّة فضّله على الرّاحة والاُنس ، وهكذا العكس ، فأبرز علامات المؤمن كثرة البلاء ، فهو قرينه وديدنه الذي لا ينفكّ عنه بحال من الأحوال ، بل يستفاد من الروايات أنّه :

لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يبتلى فيصبر عليه ، لأنّ حقيقة الإيمان هو إنتصارقوى الخير في داخله على قوى الشر ، أي الوقوف بجانب العقل ضدّ الشهوة والهوى وهذا بحدّ ذاته ، بلاء ومعاناة وأمر صعب محفوف بالمكاره .

قال الصّادق عليه السلام : إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة ، أمّا إنّ ذلك إلى مدّه قليلة وعافية طويلة (2) .

وهذا مصداق كلمة الإمام على أنّه ما ترك له الحقّ من صديق ، فالإيمان إذاً يعني البلاء .

قال الصّادق عليه السلام : المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّاعُرض له أمرٌ يحزنه يُذكّربه .

وعنه عليه السلام : ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلّاوله جارٌ يؤذيه ، ولو أنّ مؤمناًفي جزيرة من جزائر البحر لابتعث اللّه له من يؤذيه (3) .

إذن - البلاء يلزم المؤمن كلزوم اللَّيل والنّهار ، بل بعض الروايات كراهة انقطاعه عنه ، بل فيه سخط اللّه عليها .

قال الصّادق عليه السلام : كان علي بن الحسين عليه السلام يقول : إنّي لأكره للرجل يعافى فيفي

ص: 334


1- . سورة الفجر - آلآيتان 15 و16 .
2- . اصول الكافي
3- . اصول الكافي

الدنيا فلا يصيبه من المصائب .

قصّة بيضة تقع على وتد فلا تنكسر

قال الصادق عليه السلام : دُعي النبي صلى الله عليه و آله إلى طعام فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق الحائط قد باضت وإذا وقعت البيضة على وتدٍ في حائط فثبتت عليه ولم تسقطوتنكسر .

فتعجّب النبي منها .

فقال الرجل : أعجبت من هذه البيضة يا رسول اللّه ؟ فوالذي بعثك بالحق ما رزئتُ شيئاً قط أي ما اصبتُ بمصيبة أو نقيصة .

فنهض رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولم يأكل من طعامه شيئاً وقال صلى الله عليه و آله من لم يرزأ فما للّه فيه من حاجة (1) .

ثمّ إنّ البلاء سريع النزول على المؤمن سرعة السيل إلى الوادي بل بفاجئة واحداًتلو الآخر فعن الصادق عليه السلام قال : إنّ في كتاب عليّ عليه السلام : وإنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض .

عوامل النجاح في الإمتحان

هنا يتعرّض الإنسان لاستفهام آخر ، وهو أنّه إذا كان القرار أن يتعرّض جميع أفرادالبشر للامتحان الإلهي فما هو السبيل لإحراز النجاح والتوفيق في هذا الإمتحان ؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية : وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ* اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (2) وفي آياتٍ اخرى .

ص: 335


1- . اصول الكافي
2- . سورة البقرة - الآيات 155 - 157 .

1 - أهمّ عامل للإنتصار أشارت إليه الآية بعبارة : وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ ،فالآية تبشّر بالنجاح اولئك الصابرين المقاومين ، ومؤكّدة أنّ الصبر رمز الإنتصار .

2 - الإلتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كلّ المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف ، وهذاالمعنى تضمّنته عبارة : إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .

«كلمة الاسترجاع» هذه خلاصة كلّ دروس التوحيد ، والإنقطاع إلى اللّه ،والإعتماد على ذاته المقدّسة في كلّ شيء وفي كلّ زمان . وأولياء اللّه ينطلقون من هذاالتعليم القرآني ، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد ، وكي يجتازوا مرحلة الإختبار بسلام في ظلّ الإيمان بمالكيّة اللّه والرجوع إليه .

قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام في تفسير الإسترجاع : «إنّ قولنا : إنّا للّه إقرار على أنفسنا بالملك ، وقولنا : إنّا إليه راجعون إقرارٌ على أنفسنا بالهُلك» (1) .

3 - الإستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتيازوالإختيار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن . فالسائرون على طريق اللّه يبتقدمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنّة لوضوح النهج والهدف لديهم . وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح ، يقول سبحانه : وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (2) .

4 - التدقيق في تأريخ الأسلاف ، وإمعان النظر في مواقفهم من الإختبارات الإلهيّة ، عامل مؤثّر في إعداد الإنسان لاجتياز الإمتحان الإلهي بنجاح .

لو عرف الإنسان بأنّ ما اصيب به ليس حالة شاذّة ، وإنّما هو قانون عام شامل لكلّ الأفراد والجماعات ، لهان الخطب عليه ، ولتفهم الحالة بوعي ، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات . ولذلك يثبّت اللّه سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين باستعراض تأريخ الماضين ،وما واجهه الأنبياء ، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم ، يقول .

ص: 336


1- . نهج البلاغة - الكلمات القصار - رقم 99 .
2- . سورة العنكبوت - آية 69 .

سبحانه : وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ (1) .

ويقول تعالى : وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا (2) .

5 - الإلتفات إلى حقيقة علم اللّه سبحانه بكلّ مجريات الاُمور ، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة .

المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالإرتياح حينما يعلمون أنّهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرّجين ، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمّل الصعاب .

إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك ، فما بالك بتأثير استشعار رؤية اللّه لما يجري على الإنسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة ؟! ما أعظم القوّة التي يمنحها هذاالاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمّل مشاقّ المحنة !

حين واجه نوح عليه السلام أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك ، وجاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له : وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا (3) .

وعبارة «بأعيننا» كان لها - دون شك - وقع عظيم في نفس هذا النبي الكريم ،فاستقام و واصل عمله حتّى المرحلة النهائيّة دون الإلتفات إلى تقريع الأعداء واستهزائهم .

وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين ، كلّ واحد منهم قدوة على ساحة الإمتحان الإلهي .

فقد روي أنّ امّ عقيل كانت امرأه في البادية فنزل عليها ضيفان وكان ولدها عقيل مع الإبل ، فاُخبرت بأنّه ازدحمت عليه الإبل فرمتْ به في البئر فهلك . فقالت المرأة للنّاعي إنزل واقضِ ذِمام القوم ودفعتْ إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرَّب إلى القوم الطّعام فجعلوا يأكلون ويتعجّبون من صبرها . .

ص: 337


1- . سورة الأنعام - آية 10 .
2- . سورة الأنعام - آية34 .
3- . سورة هود - آية 37 .

قال الرّاوي : فلمّا فرغنا خرجت إلينا وقالت : يا قوم هل فيكم من يحسن من كتاب اللّه شيئاً ؟

فقلت : نعم .

قالت : فاقرأ علَيّ آياتٍ أتعزّى بها عن ولدي .

فقرأتُ : وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ* اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ - إلى قوله - مُهْتَدُونَ .

فقالت : السلام عليكم ، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعاتٍ ثمّ قالت : اللّهمّ إنّي فعلت ما أمرتني فأنجزْ لي ما وعدتني . ولو بقي أحدٌ لأحدٍ - قال : فقلتُ في نفسي : لبقي ابني لحاجتي إليه - فقالت : لبقي محمّد صلى الله عليه و آله لاُمّته ، فَخَرَجَتُ (1) .

الرضا بقضاء اللّه تعالى

عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال : الصّبر والرّضا عن اللّه رأسُ طاعةِ اللّه ، ومن صبرورضي عن اللّه فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كَرِهَ لم يَقْضِ اللّهُ عزّ وجلّ له فيما أحبّ أوكره إلّاما هو خيرٌ له (2) .

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قال اللّه عزّ وجلّ : إنّ من عبادي المؤمنين عباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلّابالغنى والسّعة والصحّة في البدن فأبلوهم بالغنى والسعة وصحّة البدن فيُصلح عليهم أمر دينهم ، وإنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لايصلح لهم أمرُ دينهم إلّابالفاقة والمسكنة والسُّقم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسُّقم فيُصلح عليهم أمرَ دينهم وأنا أعلم بما يصلح عليه أمرُ دين عبادي المؤمنين ، وإنّ

ص: 338


1- . تفسير الأمثل ، ج1 ، ص448 .
2- . دلّ بحسب المفهوم على أنّ من لم يصبر ولم يرض قد يقضي اللّه عليه ما هو شرّ له فلابدّ من القول بأنّ المفهوم غير معتبر . أو القول بأنّ ما قضاه شرٌّ له لفقده أجر الصبر والرضا أو في نظره بخلاف الصابر والراضي فإنّه خيرٌ في نظرهما وفي الواقع . قال المجلسي رحمه الله : المراد أنّ الصبر والرضا وقعا موقعهما لأنّ المقضى عليه لا محالة خيرٌ له ، اصول الكافي ، ج ص50 .

من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رُقاده ولذيذ وساده فيتهجّد لي الليالي فتُتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنّعاس الليلة والليلتين نظراً منّي له وإبقاء عليه ،فينام حتّى يُصبح فيقوم وهو ماقتٌ لنفسه زارىءٌ عليها ولو اخلّي بينه وبين ما يُريد من عبادتي لدخله العُجب من ذلك فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعُجبه بأعماله ورضاه عن نفسه حتّى يظنّ أنّه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حدّ التقصير ، فيتباعد منّي عند ذلك وهو يظنّ أنّه يتقرّب إليّ ، فلا يتّكل العاملون على أعمالهم التّي يعملونها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم وأفنَوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنهَ عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنّعيم في جنّاتي ورفيع درجاتي العُلى في جواري ولكن فبرحمتي فليثقواوبفضلي فليفرحوا وإلى حُسن الظنّ بي فليطمئنّوا ، فإنّ رحمتي عند ذلك تُداركهم ، ومنّي يُبلّغهم رضواني ، ومغفرتي تُلبسهم عفوي ، فإنّي أنا اللّه الرّحمن الرّحيم وبذلك تسمّيتُ (1) .

وقال أبو عبداللّه عليه السلام : قال اللّه عزّ وجلّ : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلّاجعلته خيراً له ، فليرضَ بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه يا محمّد من الصدّيقين عندي .

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال : إنّ فيما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران عليه السلام : ياموسى بن عمران ! ما خلقتُ خلقاً أحبُّ إليّ من عبدي المؤمن فإنّي إنّما أبتليه لما هوخيررٌ له واُعافيه لما هو خيرٌ له وأزوي عنه ما هو شرٌّ له لما هو خيرٌ له وأنا أعلم بما يصلَحُ عليه عبدي فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي وليرضِ بقضائي أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري .

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال : عجبتُ للمرء المسلم لا يقضي اللّه عزّ وجلّ له قضاءً إلّاكان خيراً له وإن قُرِضَ بالمقاريض كان خيراً له وإنْ مَلِكَ مشارقَ الأرضِ ومغاربها كان .

ص: 339


1- . اصول الكافي ، ج2 ، ص50 .

خيراً لهُ .

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : أحقُّ خلقِ اللّه أن يُسلّم لما قضى اللّه عزّ وجلّ من عرف اللّه عزّوجلّ (1) ، ومن رَضِي بالقضاء أتى عليه القضاءُ وعَظَّمَ اللّهُ أجرهُ ، ومن سخط القضاءمضى عليه القضاء وأحبط اللّه أجرهُ .

الحسين عليه السلام وبلاء كربلاء

فقد ورد عن سيّدالشهداء عليه السلام أنّه قال بعد أن تفاقم الخطب والبلاء أمامه في كربلاء ،واستشهد أصحابه وأهل بيته قال : هَوَّن عَلَيّ ما نزل بي أنّه بعين اللّه (2) .

نعم ، لم يمرّ بلاء على البشريّة وامتحان كما مرّ على أهل البيت و بالأخص أبو عبداللّه الحسين عليه السلام في كربلاء ولذلك لمّا وصل الحسين عليه السلام كربلاء وقف جواده ولم يخط خطوة .

يقول العلّامة المجلسي : إلى أن بدّل سبعة أفراس ، ثمّ قال : أصحابي ! ما اسم هذاالأرض ؟

قالوا : تسمّى نينوى ، عموراء ، الغاضريّات .

عدّدوا الأسماء للإمام والحسين عليه السلام ينتظر ذلك الإسم المعهود الذي أخبره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

ثمّ قال : وهل لها اسم آخر ؟

قالوا : تسمّى كربلاء !

فتنفّس الصّعداء وقال : «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ، أصحابي إنزلوا فهاهنا محطّ رحالنا ، هاهنا مسفك دماءنا ، هاهنا تسبى نساؤنا ، هاهنا تحرق خيامنا» .

ص: 340


1- . اي من عرف اللّه حق معرفته وعرف حكمته وعدله ولطفه واحسانه فهو احق ان يسلم ما قضاه اللّه عليه من غيره لان التسليم له تابع للمعرفة وكلما كانت المعرفة اكمل واكثر كان التسليم اولى واجدر ، اصول الكافي ، ج2 ، ص51 .
2- . بحار الأنوار - ج45 ص46 .

إنچان هذي كربلا بشروا بلايه *** نزلوا تره لاحت علامات المنايه

لازم ابجانب هالنهر نگضي ظمايه *** واجسادنه تبگي على الغبره سليبه ... الخ

* * *

نزلنه ابكربله بالشوم لاهل *** لا أعمامي البگت لاهل

إهلالك ريت يا عاشورلاهل *** هلّيت ابچتل گومي عليّه

ص: 341

المجلس السابع والعشرون: مناسبة وفاة العلّامة محمّد باقر المجلسي قدس سره

اشارة

مَن يُلهه المُرديان المالُ والاملُ *** لم يَدر ما المنجيان العلمُ والعملُ

يامنفقَ العمر فيى عصيان خالقة *** افق فانك من خمر الهوى ثَمِلُ

أنفاسُ نفسِك اثمانُ الجنانِ فلا *** تَشري بهالهباً في الحشر يشتعلُ

خذ رشدنفسِك من مرآة عقلك لا *** بالوهم من قبل أن يغتالك الاجلُ

الاترى اولياءاللّه كيف قَلَتْ *** طيبَ الكرى في الدياجي منهم المُقَلُ

يدعون ربهم في فكّ عنقهم *** من رق ذنبهم والدمع منهملُ

خُمص البُطون طوى ذُبل الشفاة ظمىً *** عُمش العيون بُكا ماغَبَّها الكُحَلُ

يقال مرضى وما بالقوم من مرضٍ *** أو خولطوا خبلا حاشاهم الخَبَلُ

تعادل الخوف فيهم والرجاءفلم *** يفرط بهم طمع يوما ولاوجلُ

ان ينطقوا ذكروا او يصمتوافكروا *** او يغضبوا غفروا او يقطعواوصلوا

او يظلموا صفحوا او يوزنوارجحوا *** او يسالوا سمعوا او يحكمواعدلوا

لا يسيل لهم دمع على بشر *** الا على معشر في كربلاقتلوا

افدي الحسين صريعاً لاصريخ له *** الا صرير نصول فيه تنتقل

والرأس مرتفع من فوق منتصب *** يبكي على حمله المريخ والحمل

والشمر مشتغل في ذبحه عجل *** والسبط منجدل يدعووينتفل

ص: 342

قال اللّه الحكيم في محكم كتابه الكريم :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (1) .صدق اللّه العليُّ العظيم

أثر العلم في الاُمّة

من الاُمور الواضحة في رسالات السّماء تكريم الدّين للعلم والعلماء ، ولهذاالتكريم سببان :

الأوّل : إنّ العلم هو الاُسلوب الرئيسي الأوّل لبناء الحضارة الإنسانيّة .

والسّبب الثاني : إنّ العلم هو الاُسلوب الثّاني أيضاً لتربية وتزكية الحضارة الإنسانيّة .

بعبارة اخرى : إنّ الحضارة تتقوّم بأمرين :

الأمر الأوّل : هو عبارة عن التعليم .

والأمر الثاني : عبارة عن التزكية والتربية والإعداد .

فالاُمّة من جهة تحتاج إلى علم حتّى تستطيع أن تدفع به غوائل الجهل وآفاته ، وأيضاً - تحتاج إلى تزكية روحيّة وإلى تربية معنويّة ، تستطيع بها أن تسموا عن الدناياوترتفع من مستوى الحيوان إلى مستوى الإنسانيّة المكرّمة .

أمّا إنّ العلم سبب لبناء الحضارات فبالتأكيد إنّ أخطر آفة يُبتلى بها المجتمع هي آفة الشُّبهات والأباطيل والأضاليل والخرافات والأساطير التي إذا سيطرت على المجتمع هدّت قِوى ذلك المجتمع ، فيحتاج المجتمع لدفع هذه الآفات والشبهات ، إلى

ص: 343


1- . سورة العلق - الآيات 1 - 5 .

قدرة ومقدرة علميّة يستطيع بها التغلّب على تلك الشُّبهات .

وكمثال على ذلك نحن نجد اليوم المجتمع الذي يعيش في عصرنا الحالي ، في الحقيقة نستطيع أن نقول بكلّ صراحة بأنّه مجتمع غالباً غير توّاق للعلم والثّقافة بالمعنى الصّحيح ، بل العلم يكاد أن يكون قد تحوَّل إلى وسيلة لنيل المنصب والوظيفه وأخذالشهادة ، حتّى يبني الإنسان مستقبله المادّي والدنيوي قبل كلّ شيء ، هذا هو الهدف الرئيسي في مجتمعنا المعاصر اليوم .

وبناءاً على هذا يبقى المجتمع في نفس الوقت خالٍ عن القوانين والمبادي العلميّة التي يستطيع بها أن يواجه التحدّيات الفكريّة للعقيدة من جهة والتحديّات الاُخرى للشريعة من جهة اخرى .

أثر العقيدة والقانون الصحيح في المجتمع

كلّ امّة لا يمكن أن تقوم لها حضارة أو سعادة إلّابعقيدة صحيحة من جهة وقانون صحيح من جهة اخرى .

وهذا لا يتحقّق إلّابالعلم وطلب العلم ، وإلّا تبقى الاُمّة تواجه فراغاً عقائديّاً من جهة ، وفراغاً فكريّاً من جهة اخرى .

فإذا واجهت الاُمّة ذلك ، من الطّبيعي المتربّصون على الأبواب ، يبدئون يعبئون أذهان الشّباب بنظريّات فاسدة ومنحرفة ، سواء في جانب الاعتقاد ، أو في جانب التقنين والتشريع ، أو في جوانب اخرى ، فيبقى الشباب في المجتمع أسير النظريات الفاسدة من قبيل نظريّة دارون وفرويد وغيرهم فتأخذ تشقّ طريقها في هذا المجتمع الفارغ وتسبّب انحراف الاُمّة من حيث لا تشعر كما حدث لكثير من المجتمعات .

إذن : الفراغ يولد مشكلة عقائديّة من جهة ومشكلة تشريعيّة من جهة اخرى ، بينماالمجتمع إذا ارتفع مستواه العلمي يتمكّن أن يحقّق العقيدة الصحيحة من جهة ، و يحصل على القانون الصحيح من جهة اخرى ، فإذا تحقّق ذلك ، فيصعب إقتياده من قبل الأعداء والمتربّصين ، وذلك لأنّ المجتمع يكون سهل الإقتياد لكلّ مطبل ومهول ، إذا عاش الجهل

ص: 344

والفراغ .

فالمجتمع إذا تعلّم يكون أقرب إلى شاطىء السّعادة ، بينما الجهل والفراغ يؤدّي إلى نفوذ المتلاعبين والدجّالين والمتصيدين بالماء العكر ، فيقتادون الشعوب بسهولة ،ويمتصّون دماء الشّعوب وثرواتهم ، بل يمنّون على الشّعوب بأنّهم يُحامون عن الشعوب ،فهم أوّلًا يسلبون الشّعوب وثرواته وإمكاناته ، ويجعلون منهم كتلة من الفراغ ، ثمّ يخلقون لهم مشاكل ، ويشغلون بعضهم مع بعض ، ثمّ يأتون بحجّة الدفاع عن البعض من البعض الآخر ، وبحجّة الحماية عنهم يجعلون لهم قوانين ما أنزل اللّه بها من سلطان ويحكمون بالقمع والحديد على المتعلّمين الواعين ، ويعيشون مكرّمين بعنوان أنّهم يحامون عن حقوقهم بل المجتمع يصفق لهم ويحترمونهم . كلّ ذلك ناشىء من الجهل والفراغ ، فالاُمّه إذا لم يكن عندها رصيد علمي يمكن استغلالها واستحواذ خيراتهاوكرامتها بكلّ بساطة .

قصّة كرامة صاحب العلم

ينقل أنّ أحد الأشخاص قصد أحد الملوك حتّى يعمل عنده ، فرفضه ولم يقبل أن يشتغل عنده ، فذهب وسلك سبيل طلب العلم ، ثمّ بعد مدّة صار عالماً وصار له شأن محترم ، ثمّ استدعاه الملك ليعمل عنده وعرض عليه الشغل عنده من دون مانع .

قال له العالم : أنا أخطأت حينما جئت إليك أوّل مرّة للعمل عندك وأنت رفضتني ،لقد كنتُ أظنّ أن لا باب إلّابابك ، أمّا بعد طلب العلم رأيت أنّني على خطأ ، فإنّ باب اللّه وباب العلم أفضل الأبواب ، فلو أنّك الآن تصوغ لي الدنيا ذهباً وفضّة فإنّي غير مستعدّللعمل عندك .

والسّبب في ذلك لأنّه ارتفع مستواه العلمي فشعر بالكرامة والعزّ بسبب طلب العلم ، وهكذا الدين فإنّه عن طريق تكريم العلم يريد أن يكرم الإنسان ويرفع مستواه حتّى يشعر بالكرامة عن طريق العلم .

ص: 345

تكريم الإنسان بالعلم

القرآن الكريم ينصّ على تكريم الإنسان بالعلم عن طريقين واُسلوبين : الاُسلوب الأوّل ، يقول : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (1) ، ثمّ يحصر التّقوى بالعلماء ، لأنّ الجاهل ما يسعه أن يكون متّقياً بمعنى الكلمة ، لأنّ التّقوى تحتاج إلى بصيرة والبصيرة تحتاج إلى علم ، فالتقوى بتمام المعنى تحتاج إلى بصيرة وعلم - نعم ربّما يكون عنده شيء من التقوى إذا لم يكن عالماً - .

وعلى ما مرّ فالقرآن يقول : إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (2) ، والتّقوى هي مقياس التكريم ، كما قال تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ فينتج من الجمع للآيتين أنّ أكرم الإنسانيّة كلّها هم العلماء ، لأنّ التقوى محصور بهم ، فالأكرميّة تكون للعلماء .

والآية التي تَلَوتها تقول : اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فإنّ من جملة القوانين الاُصوليّة في علم اصول الفقه تقول : إنّ تعليق الحكم بالوصف يُشعر بالعليّة .

فلمّا وصف اللّه تعالى نفسه بالأكرميّة ، جعل مناط الأكرميّة مربوطة بالتعلّم وطلب العلم ، فلمّا قال تعالى : وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، إنتقل إلى العلم والتعلّم بالقلم ، كأنّه إشارة إلى أنّ مناط الأكرميّة هو عبارة عن العلم و التعلّم بالقلم ، وتعليم الإنسان ما لم يعلم ، ثمّ إنّ الأكرميّة مختصّة للّه تعالى ، واللّه هو الذي أفاض على الإنسان الوجود ، ثمّ كرّم الإنسان بالعقل ، وكرّمه بنعم كثيرة ، كما قال : وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها (3) .

لكن القرآن في هذه الآية الشّريفة انتخب التعليم والتعلّم على سائر نعمه ، فلم يقل :إقرأ وربّك الأكرم ، الذي أفاض عليك الوجود ، أو الذي أعطاك العقل ، أو الذي رزقك ،هناك كثير من النعم أفاضها على الإنسان ، ولكنّ اللّه اختار من كلّ النعم كمناط وملاك للأكرميّة اختار العلم ، حيث قال : وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ

ص: 346


1- . سورة الحجرات - آية 13 .
2- . سورة فاطر - آية 38 .
3- . سورة النّحل - آية 18 .

يَعْلَمْ يعني أنّ أظهر ملاك لأكرميّة اللّه تعالى هو : أنّه علّم بالقلم .

ولذلك اللّه تعالى خصّ الإنسان بذلك من بقيّة موجوداته ، لأنّ المكلّف في عالم الوجود هو الثقلان وهما الإنسان والجن ، لكنّ القدرة العلميّة التي وهبها اللّه للإنسان لم يهبها للجنّ مع وجود القدرة عندهم .

ولكنّ الإنسان قدراته العلميّة أكثر وأكبر من قدرة بقيّة المخلوقات ، ولذلك قال اللّه تعالى : عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ، ولم يذكر الجان .

ثمّ إنّ من كرم اللّه تعالى للإنسان من تعليمه ما لم يعلم ، حيث علّم الإنسان سبيل الرّشد من سبيل الغي ، وبيّن له الطّريق كما قال تعالى : إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً (1) .

ثمّ إنّ اللّه تعالى تكفّل للإنسان العامل بعلمه ، أن يُلهمه كثيراً من المعلومات من غيرتعلّم فيما إذا عمل بعلمه .

في الخبر الذي يرويه الصّدوق عن الصّادق عليه السلام : من عمل بما علم ، كفي علم ما لم يعلم ، فهذه الإلهامات للإنسان كلّها من لطف اللّه تعالى من دون درس وتعلّم ، ولذلك نجدهناك أشخاصاً ملهمين في المجتمع .

فهذه كلّها من تعليم اللّه ما لم يعلم .

جهاد العالم بالعلم

العالم مجاهد في نظر الشريعة ثلاث مرّات : المرّة الاُولى : مجاهد بعلمه ، وثانياً :مجاهد بتزكية نفسه ، وثالثاً : مجاهد لحفظه لكرامة العلم .

أمّا إنّه مجاهد بالعلم ، وذلك لأنّ العلم الحقيقي هو ذلك العلم الذي يستهلك من صاحبه وجوده خاصّةً علم الشّريعة ، لأنّه علم مستمر لا ينتهي بفترة من الزّمن ،وبالأخصّ مرحلة الإجتهاد ، فإنّه يحتاج من طالب العلم استمراريّة وجهاداً ، لأنّ

ص: 347


1- . سورة الإنسان - آية 3 .

الإجتهاد عمليّة معقّدة وصعبة يحتاج إلى إتقان طائفة من العلوم بشكل كامل حتّى يكون صاحب رؤية علميّة ، ثمّ بعد ذلك يقترن به اللُّطف الإلهي فيصل إلى هذه المرتبة ، فكلّ ذلك يحتاج إلى جهاد ، يحتاج إلى أن يحبس نفسه على الدّرس ، ويتحمّل الغُربة والوحدة والوحشة وسهر اللّيالي .

ولابدّ من أن يفوت على نفسه كثيراً من فرص الرّاحة والنّعومة ، وربّما يضحّي بزهرة شبابه حتّى يصل إلى مرتبة الإجتهاد .

إذن هو مجاهد عن طريق العلم ، ولذلك القرآن يعتبر طلب العلم نفرٌ كالنفر إلى الجهاد ، كما قال تعالى : وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (1) ويستعمل نفس الكلمة في الجهاد ، كما قال تعالى : اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2) .

فاللّه عزّ وجلّ أيضاً يسمّي السّعي لطلب العلم نفر ، فيعتبر كلّ منهما نفير ، تارة إلى القتال ، وتارة إلى طلب العلم .

إذن القرآن يريد أن يقول : إنّ طلب العلم هو قسمٌ من أقسام الجهاد ، وكما يقول الشاعر :

معلّم الأجيال إنَّك فاتحٌ *** فيها وجندك جيلُك المتعلِّمُ

ولهذا الإمام الصّادق عليه السلام عبّر عن العلماء بأنّهم مرابطون في الثّغر ، إذن أوّل جهادهو عبارة عن الجهاد في العلم .

جهاد العالم بالتزكية

بعد الجهاد الأوّل وهو الجهاد بالعلم كما مرّ ، يأتي دور الجهاد الثاني وهو الجهادبالتزكية .

ص: 348


1- . سورة التوبة - آية 122 .
2- . سورة التوبة - آية 41 .

فلابدّ للعالم الربّاني أن يربِّي المتعلّم وطالب العلم قبل أن يعلِّمه ، يربِّيه تارة بقوله ،وتارة بفعله ، ولا شك تربية الفعل أعمق وأرسخ من تربية القول ، ولذلك ورد في الحديث :كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم ، إشارة إلى الفعل والعمل دون القول لأنّه أوقع بالنّفس .

وثانياً : العالم العامل يعكس مصداقيّة للمبادي الّتي يحملها ، والتي تعلّمها وبيّن للنّاس أنّها مبادي صادقة وحقّة وواقعيّة ، وبالعكس تماماً إذا ما خالف فعله قوله ، لأنّه يكون سبباً لضلال النّاس ، ويصوّر للنّاس إنّ الأشياء التي يقولها ليست لها صحّة وواقعيّة ،وإلّا لعمل بها هو أوّلًا .

ولهذا الإمام عليه السلام يصنّف المجتمع إلى ثلاث أصناف ، يقول : عالم ربّاني ، ومتعلِّم على سبيل نجاة ، وهمجٌ رعاع .

فالعالم إذا لم يكن ربّانيّاً سوف يدخل في قسم الهمج الرعاع ، لأنّه لا يوجد قسم رابع ، فإذا لم يكن عالماً ربّانياً ، ولا متعلِّم على سبيل نجاة ، فيدخل في القسم الثّالث وهوالهمج الرعاع .

فهو ولو كان عالماً ولكنّه ليس ربّانياً حسب تقسيم الإمام عليه السلام . ولذلك في الحديث :رُبّ حامل فقه غير فقيه ، أو ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

بل كم من إنسان أهلكه جهله وعلمه معه لا ينفعه ، لأنّه صيّر علمه جهلًا .

الإمام علي عليه السلام يقول : إذا علمتم فاعملوا ، وإذا عرفتم فاقبلوا ، ولا تصيّروا علمكم جهلًا وعرفكم نكرى .

الإمام الصّادق عليه السلام يقول : ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت ، ومعنى ذلك هو إنّ الموت يقين ليس فيه شكّ ، لكن في سلوك غالب النّاس يشعرون وكأنّ الموت شكّ لا يقين فيه ، وكأنّ الموت كتب على غيرهم .

وإذا سألتهم عن الموت يقولون : إنّه حقّ ويقين ، ولكن من ناحية العمل والسلوك ترى عمله عمل شاك بالموت ، لا عمل موقن بالموت ، هذا معنى تحويل العلم إلى جهل حيث قال الإمام عليه السلام : لا تجعلوا علمكم جهلًا ، ولا عرفكم نكرى .

إذن بناء الحضارة كما قلنا بأمرين : الأوّل : بالعلم ، وثانياً : بالتزكية . قال تعالى :

ص: 349

وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (1) ، حيث بدأ بالتزكية قبل التعليم لأهمّيّة التزكية على التّعليم .

ولذلك لابدّ للعالم أن يخالف هوى نفسه ، كما في الحديث والتوقيع المعروف للإمام الحجّة عليه السلام حيث قال :

وأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمرمولاه ، فللعوام أن يقلّدوه .

وحيث نحن في هذا اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك والذي يصادف فيه ذكرى وفاة العلّامة محمّد باقر المجلسي والذي كان إماماً في وقته في علم الحديث ، وسائر العلوم ، وهو الذي روّج الحديث ونشره لاسيّما في الديار العجميّة مضافاً إلى جهاده في العلم والعمل وتصلّبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقدفارق الحياة سنة الحادية عشرة بعد المائة والألف وكان عمره إذ ذاك أربع وسبعين سنة ومرقده الشريف الآن في أصفهان في الباب القبلي من أبواب جامعها الأعظم .

حكاية من تلميذ العلّامة المجلسي

نقلًا عن بعض فقهاء النجف الأشرف إنّه قال نقلًا بالمعنى : وجدت في بعض إجازات السيّد نعمة اللّه الحسيني الجزائري قال :

إنّي لمّا جُلْتُ في أطراف البلاد لتحصيل مراتب الكمال وفزت بما فازت به أسماع أفئدة السالكين إلى اللّه تعالى من أفواه الرجال ، ثمّ سمعت بطلوع كوكب اجتهاد مولاناالمجلسي الباقر لعلوم الأديان من افق بلدة أصفهان ، عطفت عنان الهمّة نحو صوبه الأقدس بقصد الغوص في بحار أنواره والإقتباس من ضياء آثاره ، فلمّا وردت ماءمدين حضوره المسعود واستفدت من بركات أنفاسه الشريفة زائداً على ما هو المقصود ،وأطلعت على خفايا زوايا اموره ، وصرت من شدّة التقرّب إلى جنابه المعظّم كأحد من

ص: 350


1- . سورة آل عمران - آية 164 .

أهل دوره ، وطال مقامي لديه ، وقوي تجسّري عليه ، وكنت قد رأيت منه في هذه المدّة آثار العظمة والجلال والتزيّن بأنواع ما يكون في الدنيا من أثواب التجمّل بالحلال حتّى ظهر لي أنّ سراويل جواريه وإمائه الموكّلات بأمر مطابخه كانت من أقمشة ووبر قشمير ،فوقع منه في صدري شيء يسير وضاق خلقي من كثرة عكوف مثله على هذه الدنياواعتنائه الكثير بشأن ما قد زهد فيه أئمّة الهدى عليهم السلام فاغتنمت خلوة منه رحمه الله وتكلّمت معه كثيراً في ذلك .

فلمّا رأيت قصور نفسي عن المصارعة لمثله في العمليّات وعجزي عن المقاومة معه في ميدان المجالات ، قلت : يا مولانا ! جنابك تقول ما شئت و أنت غوّاص بحارالأنوار وأنا في جنبك بمنزلة الذرّة فما دونها ، فإن كان رأي مولانا تركنا الحجاج في مثل هذا المجال ، وعاهدنا اللّه تعالى على أن يأتي من كان منّا وقع موته قبل موت صاحبه في منام الآخر (1) ليخبره بعد ما أذن له في الكلام عن حقيقة ما انكشف له في تلك النشأة الناظرة أوضاعها إلى البواطن من الاُمور (2) فتقبّله منّي وقام كلّ منّا عن الآخر .

ثمّ إنّه كان من القضاء الإتّفاقي بعد أيّام قلائل أنّ مرض رحمة اللّه تعالى عليه مرضاً كان فيه حتفه فانكسرت خواطر جميع أهل الاسلام في رزيّته وعظمت مصيبته في قلوب عموم أحبّته وخصوص أهل بلدته فاُغلقت المساجد والأسواق واُقيمت مراسم التعزية إلى سبعة أيّام طباق ، وكنت أنا أيضاً من جملة المشتغلين بمراسم ذلك العزاءذاهلًا عمّا وقع بيني وبينه من المعاهدة والبناء حتّى انقضى الاُسبوع من يوم رحلته (3) .

حكاية رؤية المجلسي بعد موته

فأتيت تربته الزاكية فيمن أتاها بقصد زيارته فلمّا قضيت الوطر من البكاء ،والتحسّر عليه وقراءة ما تيسّر من القرآن والدعاء لديه غلبني المنام عند مرقده الشريف

ص: 351


1- . على أن يجي كلّ منّا تقدّم موته على صاحبه في منام الآخر - خ ل .
2- . المنجلية أكمامها عن باطن الأمر - خ ل .
3- . تاريخ العلماء للشيخ الحكيمي ، ص90 .

فرأيت في الواقعة كأنّه خارج من مضجعه المنيف واقف على حفرته في أجمل هيئته وأتمّ زينته فتذكّرت أنّه كان ميّتاً ، فعدوت إليه وسلّمت عليه والتزمت بإبهامي يديه وقلت : ياسيّدي ! بلغ المجهود وحان حين الموعود فأخبرني بما قد ساقت المنيّة إليك ورأيته عندالموت وبعد الموت بعينيك وسمعته باُذنيك ، ثمّ عمّا ظهر من حقيقة الأمر المعهود عليك .

فقال : نعم يا ولدي ، إعلم أنّي لمّا مرضت مرض الموت أخذت العلّة منّي تتزايدوتشتدّ آناً فآناً إلى أن بلغ مبلغاً لم يكن في وسع البشر تحمّله فشكوته إلى اللّه تعالى في تلك الحالة العجيبة وتضرّعت إليه وقلت : يا ربّ ! إنّك قلت في كتابك لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (1) وقد علمت أنّه قد نزل بي يا رب في هذه الساعة ما قد تكادني ثقله وألمّ بي من الكرب والوجع الشديد ما قد بهظني حمله ففرّج عنّي برحمتك فرجاً عاجلًاقريباً ومُنَّ علَيّ بالنّجاة من هذه العلّة والخلاص من هذه الشدّة - أعاذنا اللّه وجميع المؤمنين من كرب السياق وجهد الأنين ، وترادف الحشارج ، وأعاننا عليه بفضله وجوده وكرمه وإحسانه - .

قال : فبينا أنا في هذه الحالة إذ أتاني آتٍ في زيّ رجل جليل وجلس عند رجلي وسألني عن حالي ، فقلت له مثل ما شكوت منه إلى ربّي ، فلمّا سمع منّي الكلام وضع كفّه على أصابع رجلي وقال : ما ترى ؟ هل سكن الوجع منك ؟ قلت : أرى خفّاً وراحة فيماوضعت راحتك عليه وشدّة فيما يعلوه من بدني ، فأخذ يرتقي شيئاً فشيئاً إلى الفوق ويسأل منّي الحال واُجيبه بمثل ذلك المقال إلى أن بلغ موضع القلب من صدري فرأيت الألم قد انتقل بالمرّة من جسدي وإذا بجسدي جثّة ملقاة في ناحية بيتي وأنا واقف بحذائه أنظر إليه مثل المتعجّب الحيران ، والأهل والأحبّة والجيران من حول النعش في الصراخ والعويل يبكون ويندبون ويلتزمون الجسد بأنواع الشجون وأنا كلّما أقول لهم :ويحكم إنّكم كنتم مشغولين عنّي وأنا في مثل تلك الفجيعة الكابرة والبليّة العظمى والآن تندبون وتنوحون علَيّ ، وقد ارتفع ما كان بي من الألم وليس بي والحمد للّه من بأس ولا .

ص: 352


1- . سورة البقرة - آية 286 .

سقم وهمّ لا يستمعون قولي ولا يصغون إلى نصيحتي ولا يدعون شيئاً من الجزع إلى أن تهيّأ الجميع فجاؤوا بالعمارية ووضعوا النعش فيها وحملوها إلى المغتسل فبلغني عندذلك أيضاً من الوحشة والفزع ما بلغني إلى أن أقاموا عليّ الصلاة ثمّ حملوها إلى هذه التربة التي ترى وأنا في خلال جميع هذه الأحوال سالك قدّام الجنازة حتّى أرى مايصنعون بها فلمّا نزلوا الجسد ووضعوه في ناحية من هذا الموضع وجعلوا يعالجون موضع الحفيرة كنت أقول في نفسي : لو أدخل في هذه الحفيرة لفارقته ولم أصبر المقام معه تحت التراب ثمّ لمّا حملوه إليها وأدخلوه القبر لم أصبر المفارقة عنه لشدّة انسي به ،ودخلت على أثره الحفيرة من غير اختيار فإذا بمنادٍ ينادي : يا عبدي يا محمّد باقر ! ماذاأعددت للقاء مثل هذا اليوم وجعلت اعدّد له ما كان قد صدر منّي من الأعمال الحسنة والباقيات الصالحات وهو لا يقبل منّي ويعيد علَيّ هذا النداء وأنا مضطرب ولهان لا أجدمفرّاً ممّا كان منّي ولا مفزعاً أتوجّه إليه في أمري .

فبينا أنا في هذه الدهشة العظمى إذ تذكّرت أنّي كنت يوماً راكباً على بعض المواضع مارّاً من السوق الكبير بأصبهان فرأيت النّاس قد اجتمعوا حول رجل من المؤمنين كان متّهماً عند أهل البلد بفساد المذهب مع أنّي كنت أعلم بصلاحه وسداده ولاأفشيه عند أحد أتقاه من موضع الريبة ، فلمّا رأيت النّاس يضربونه ويسبّونه ويطالبون منه حقوقهم وهو لا يقدر على إعطاهم شيئاً ويستمهلهم وهم لا يمهلونه ويقعون في عرضه وبدنه وواحداً منهم يدقّ على رأس ذلك المؤمن بباطن نعله ويقول : أدري أنّك عاجز عن قضاء ديونك ولكن أدقّ على رأسك حتّى أطفىء نائرة قلبي منك ، فلم أصبر على ذلك وقلت : إلى متى أتّقي عن هذا الخلق المنكوس ولم أتّقِ الخالق الجليل في إعانة أضعف عبيده الملهوف ، فوقفت عند رأسه وصحت على وجوه المتعرّضين له وقلت لهم : ويحكم هلمّوا معي حتّى أقضي ما كان لكم عليه من الدين وحملته معي إلى المنزل وأخذت في إعزازه وإجلاله وتدارك ما فات منه وقضيت ديونه وكفيت شؤونه ، وحقّقت له الرجاء بمالا مزيد عليه ، ثمّ إنّي عرضت تفصيل ذلك على ربّي فتقبّله منّي وغفر لي به وسكن النداءوأمر لي بفتح باب من الرحمة تلقاء وجهي إلى جنّات الخلود يجيئني منه الروح

ص: 353

والريحان وطريف هواء الجنان في كلّ حين ، ووسّع في مضجعي الذي تراه إلى حيث ماشاء اللّه وأنا متنعّم منذ ذلك الوقت بأنواع النّعم متمتّع من عند إلهي الأرحم الأجلّ الأكرم وأستأنس ممّن يجيء إلى زيارتي من المؤمنين أنتفع بدعوات الصالحين وقراءات المتقين وأراهم من حيث لا يرونني وأنا في هذا المقام الأمين . فيا أيّها السيّد الشريف لولم يكن لي العزّة والعظمة في الدنيا وما رأيته فيَّ من النعيم الأوفى حيث كنت تحاججني باعتكافي على هذه الدنيا وما زهد فيه أئمّة الهدى كيف كان يمكنني تأييد مثل ذلك المؤمن الفقير وتخليصه من أيدي ذلك الخلق الكثير لولا ما كان فيّ من النعيم الأوفى .

قال السيّد رحمه الله : فانتبهت من المنام وعلمت أنّ ما كان يفعله في حياته كان عين مصلحة الدين ومنفعة الإسلام والمسلمين (1) . نعم ، هكذا قضى اللّه حاجتي على ماتعاهدناه في حياته وذلك عند مرقده الشريف وإلى الآن مرقده ملجأ الخلائق في أصفهان واستجابة الدعاء تحت قبّته المنيعة وفي تلك البقعة المباركة أيضاً مقابر جماعة من الصالحين غيره منهم والده وصهرهما وابن صهرهما وابن أخيه وابن بنته وغيرهم يقصدهم الزائرون وجرّبت مراراً بلوغ المقصود من بركات تلك التربة ولكن مهما بلغ الأمر فإنّها لا تصل إلى مقام وتربة أبي عبداللّه الحسين حيث حتميّة قضاء الحوائج واستجابة الدعاء تحت قبّته ، نسأل اللّه أن يوفّقنا لزيارته حيث الحرم الطاهر الشريف ،ولسان حالنا يقول :

لقبر سليل فاطمةٍ أتينا *** وسبعاً في جوانبه سعينا

فيا سعدُ استمع وأطع إلينا *** إذاشئت النجاة فزر حسيناً

لكي تلقى الإله قرير عيني *** إذا علم الملائكُ منك عزما

تروم مزاره كتبوك رسما *** وحرمت الجحيم عليك حتماً

لأنّ النار ليس تمسُّ جسماً *** عليه غبار زوّار الحسين

بأبي أنت واُمّي يا أباعبداللّه يشهد اللّه على ما نقول فإنّ قلوبنا شائقة للحضور عند .

ص: 354


1- . نفس المصدر السابق ، ص92 .

حرمك الطاهر .

لك قبّةٌ يابن النبي منيرةٌ *** ودار حماًللمستجير مجيرةٌ

فلمّا دهتنا في الملمّات حيرةٌ *** بقبرك لذنا والقبور كثيرةٌ

ولكن من يحمي النزيل قليلُ ***

يعزّ عليك يا أباعبداللّه أنت الذي تقضي حوائج النّاس وتفرّج الهموم والحال أنت شهيد مفارق الحياة يعزّ عليك أن تسمع صوت اختك زينب وأنت حيّ وهي تناديك بضعيف الصوت وتستغيثك وتقول : أخي أباعبداللّه حيٌّ أنت أم ميّت ؛ فإن كنت حيّاً فهذه الخيل هجمت علينا ، وإن كنت ميّتاً فأمرنا وأمرك إلى اللّه .

وگفت على التلّ الحزينه ابگلب مفتوت *** او شبچت على راس ابعشره او صاحت ابصوت

يحسين دگعدحرگوا العدوان البيوت *** او سلبوا براقعنه يخويه اوفرهدونه

جواب لسان الحال عنه او صعّدانفاس *** يمخدرة حيدر ابونه صعب الامراس

كثرالعتب شيفيد في جثه بلا راس *** روحي تراه ذاب گلبي يامصونه ... الخ

ص: 355

المجلس الثامن والعشرون: مناسبة وداع شهر رمضان المبارك

اشارة

هنّ بالعيد إن اردت سِوائي *** ايُّ عيدٍلمُستباح العَزاءِ

ان في ماتمي عن العيد شغلاً *** فاله عني وخلّني بشجائي

فاذا الناسُ عيّدوابسرور *** كان عيدي بزفرةٍ وبكاءِ

واذا ادْمنوا الشرابَ فشربي *** من دُموعي ممزوجةً بدمائي

وقليل لو متُّ همّاًووجداً *** لمصاب الغريب في كربلاء

آه يا كربلاءُ كم فيك من كرب *** لنفس شجيةٍ وبلاءِ

االذُّالحياة بعد قتيل الطفّ *** ظلماً اذاً لقلّ حيائي

كيف لا تسكُبُ الدموع جفوني *** بعد تخضيب شبه بالدماء

تطأُ الخيلُ جسمهُ في ثرى الطف *** وجسمي يلتذُّ لينَ الوطاء

بابي زينبٌ وقد سُبيت بالذل *** من خدرها كسبي الاماء (1)

ص: 356


1- . القصيدة للشيخ علي بن حماد البصري رحمه الله ، مجمع المصائب ، ص191 .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في وداع شهر رمضان :

اللّهمّ لا تجعله آخر العهد من صيامنا إيّاه ، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولاتجعلني محروماً (1) .

قال جابر بن عبداللّه الأنصاري رضى الله عنه : دخلتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في آخر جمعة من شهر رمضان ، فلمّا بصر بي قال : يا جابر ! هذه آخر جمعة من شهر رمضان فودِّعه وقل :اللّهمّ لا تجعله آخر العهد من صيامنا إيّاه ... الخ ، فإنّه مَن قال ذلك ظفر بأحد الحُسنيين ؛إمّا ببلوغ شهر رمضان من القابل ، أو بغفران اللّه ورحمته (2) ، يعني إمّا اللّه تعالى يوفّقه ويطيل في عمره حتّى يأتي شهر رمضان المقبل ويصوم ويحصل على ثواب الصّيام ، أوأنّ اللّه تعالى يغفر له ويرحمه .

وداع شهر رمضان

في الواقع في هذه الليلة هناك بعض المسائل لابدّ أن نتوجّه إليها ، المسألة الاُولى هي : من آداب الإنسان المؤمن يستحب له أن يودّع شهر رمضان بحفاوة وتكريم كمااستقبله بحفاوةٍ وتكريم .

لأنّ من تمام أدب الصُحبة أن يودِّع الإنسان صاحبه إذا رحل عنه وغادره ، ومن تمام أدب الضّيافة - ونحن في هذا الشّهر أضياف عند اللّه ، كما قال النّبي صلى الله عليه و آله : هو شهرٌدُعيتم فيه إلى ضيافة اللّه تعالى ، أن يودّع الضّيف مضيِّفه إذا غادره ورحل عنه وأنّ هذاالشّهر المبارك والكريم الذي حلّ فيه الإنسان ضيفاً مكرَّماً عزيزاً في رحاب اللّه تعالى ،أوشك على الرّحيل ، فالمفروض بالإنسان المؤمن أن يودِّع هذا الشّهر وأن يحسن عمليّة توديعه .

وقد وردت مجموعة من الأدعية ، عن النّبي صلى الله عليه و آله وعن الأئمّة عليهم السلام في كيفيّة وداع

ص: 357


1- . مفاتيح الجنان في أعمال آخر الشهر من رمضان ص237 .
2- . المصدر السابق .

شهر رمضان المبارك ، منها الدُّعاء الوارد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في الصّحيفة السجّاديّة الذي هو دائرة معارف لجميع العلوم والذي لا يُهتمّ به .

يقول الاُستاذ المطهّري : إنّ من الكتب المظلومة هو كتاب الصحيفة السجّاديّة حيث أنّه قلّما يقرأ وذنبه لأنّه على شكل وطريقة الدعاء ونحن لا يوجد عندنا حالة لقراءة الدعاء لضعف إيماننا .

فعلى كلّ فيستحبّ للإنسان المؤمن أن يدعو اللّه به في هذه اللّيلة فإنّه فيه مفاهيم ومضامين تربويّة لكلّ إنسان صائم قد تخرج من مدرسة شهر رمضان المبارك ، لأنّ المدرسة الرمضانيّة فيها عطاء ودروس وتكاليف للإنسان ، فهذا الدّعاءيعلِّم الإنسان كيف يتعامل مع عطاء ودروس مدرسة شهر رمضان المبارك.

فمن جملة ما ورد في وداع شهر رمضان عن الإمام زين العابدين عليه السلام في الصحيفة السجّاديّة ، دعاء الخامس والأربعون «... وقد أقامَ فينا هذا الشّهر مقامَ حَمْدٍ وصَحِبَناصُحبةَ مبرور ، وأربحنا أفضل أرباح العالمين ، ثمّ قد فارقنا عند تمام وقته وانقطاع مدّته ،ووفاءِ عَددهِ ، فنحنُ مودِّعوه وداع مَن عَزَّ فِراقُهُ علينا ، وغَمَّنا وأوحشنا انصرافُهُ عنّا ،ولَزِمنا له الذِّمامُ المحفوظ ، والحُرمةَ المرعيّةُ ، والحقُّ المقضِيُّ ، فنحن قائلونَ ، السّلام عليك يا شهر اللّه الأكبر ، ويا عيدَ أوليائه ، السّلام عليك يا أكرمَ مصحوبٍ من الأوقات ،ويا خير شهرٍ في الأيّام والسّاعات ، السّلام عليك من شهر قَرُبت فيه الآمالُ ونُشرت فيه الأعمال ، السّلام عليك من قرينٍ جلّ قدرهُ موجوداً ، وافجع فقده مفقوداً ومرجوٍّ آلم فراقه ، السّلام عليك من أَليفٍ آنسَ مُقبلًا فَسَرَّ ، وأوحش مُنقضِياً فَمَضَّ ، السّلام عليك من مُجاوِرٍ رَقَّت فيه القلوب وقَلَّتْ فيه الذُّنُوبُ ... الخ .

هذه المسألة الاُولى في البحث ، وأمّا المسألة الثانية .

مفهوم العيد في الإسلام

لمّا يرحل عنّا شهر رمضان يأتي العيد مباشرةً ، ما معنى العيد ؟

العيد معناه هو : اليوم الذي توزع فيه الجوائز ، وتقدّم فيه نتائج الأعمال للعباد ، إن خيراً بخير ، وإن شرّاً بشر .

ص: 358

فالعيد هو للفائزين والرّابحين والذين انتصروا في علميّة جهادهم في هذا الشّهرالعظيم ، فإنّ الشقي من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم .

في الدّعاء نقرأ : إلهي ربح الصّائمون ، وفاز القائمون ، ونجى المخلصون ، هؤلاء هم الذين يعيشون فرحة العيد ، لأنّهم يعيشون فرحة التمتّع بعطاء اللّه عزّوجلّ .

قال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام : العيد هو لمن قبل اللّه صيامه وقيامه ، وكلّ يوم لايُعصى اللّه فيه هو عيد ، هذا هو مفهوم العيد في الإسلام .

فكلّ يوم ينتصر فيه الإنسان على عدوّه الشيطان هو عيد ، وكلّ يوم يقترب فيه الإنسان من ربّه عزّ وجلّ فهو عيد .

كلّ يوم يبتعد فيه الإنسان عن الذنوب والمعاصي فهو عيد ، كلّ يوم يعيش فيه المؤمنون حالة الاُخوّة والمحبّة وتجتمع فيه كلمتهم ويتوحّد فيه صفّهم ، وتلتقي فيه قوَّتهم فهو يوم عيد .

ففرحةُ العيد هي في الإرتباط باللّه تعالى ، وزيادة الإيمان ، ورحمة المساكين ،فينبغي أن نشارك المساكين والمظلومين آلامهم وأتعابهم ، هذا معنى العيد .

هناك كثير من النّاس المحتاجين المستضعفين المحرومين ينبغي أن نشاركهم في آلامهم ومشاكلهم ، هذا هو معنى العيد . كثير من النّاس يأخذون يوم العيد يوم لعب ولهو ،أو معصية اللّه تعالى ، ولا يستفيدون منه للقرب الإلهي .

ورد في الحديث أنّه مرّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في يوم الفطر بقوم يلعبون ويضحكون ، فوقف على رؤوسهم ، فقال : إنّ اللّه جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه ،فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته ، فسبق قوم ففازوا وقصَّر آخرون فخابوا ، فالعجب كلّ العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ، ويخسر فيه المبطلون ،وأيم اللّه لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغول بإحسانه ، والمسيء مشغول بإسائة ،ثمّ مضى (1) .

وقد ورد أيضاً في الدعاء الخامس والأربعين من أدعية الصحيفة السجاديّة للإمام .

ص: 359


1- . تحف العقول ص167 .

زين العابدين عليه السلام حيث يقول : «... وبارِكْ لنا في يوم عيدِنا وفِطرِنا ، واجعلهُ من خيرِ يومٍ مرّ علينا اجلبه لعفوٍ ، وأمحاهُ لذنبٍ ، واغفر لنا ما خفي من ذنوبنا وما عَلَنَ ، اللّهمّ اسْلَخْنابانسلاخِ هذا الشّهر من خطايانا ، وأخرجنا بخروجه من سيّئاتنا ، واجعلنا من أسعد أهله بِهِ ، وأجزلهم قِسْماً فيه ، وأوفرهم حظّاً منه ... الخ» .

وعن الإمام الصّادق عليه السلام عن أبيه عن جدّه قال : خطب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام للنّاس يوم الفطر فقال :

أيّها النّاس ! إنّ يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون ، ويخسر فيه المسيئون ، وهوأشبه يوم بيوم قيامتكم ، فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلّاكم ، خروجكم من الأجداث إلى ربّكم ، واذكروا بوقوفكم في مصلّاكم وقوفكم بين يدي ربّكم ، واذكروابرجوعكم إلى منازلكم رجوعكم إلى منازلكم في الجنّة أو النّار ، واعلموا عباد اللّه إنّ أدنى ما للصائمين والصّائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان : أبشرواعباد اللّه فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم ، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون .

وقال الامام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام لبعض أصحابه : إذا كان ليلة الفطر فصلِّ المغرب ثلاثاً ، ثمّ اسجد وقل في سجودك : يا ذاالطّول ، يا ذا الحول ، يا مصطفى محمّدوناصره صلِّ على محمَّد وآل محمّد ، واغفر لي كلّ ذنب أذنبته ونسيته وهو عندك في كتابٍ مبين ، ثمّ تقول مائة مرّةٍ : أتوب إلى اللّه ، وكبّر بعد المغرب والعشاء الآخرة .

وصلاة الغداة وصلاة العيد كما تكبّر أيّام التشريق تقول : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله الّا اللّه ، واللّه أكبر ، اللّه أكبر ، وللّه الحمد ، اللّه أكبر على ما هدانا ، والحمد للّه على ما أبلانا ،ولا تقل فيه ، ورزقنا من بهيمة الأنعام ، فإنّ ذلك إنّما هو في أيّام التشريق (1) .

وأمّا المسألة الثالثة :

نتائج وثواب صيام شهر رمضان

ينبغي بنا جميعاً أن نلتفت إلى حصيلة أعمالنا في هذا الشّهر المبارك ، فما هي

ص: 360


1- . آمالي الشيخ الصدوق ص100 .

النتائج ؟ وماذا حصلنا طيلة هذا الشّهر ؟ فيجب أن نحاسب أنفسنا ، لأنّنا طيلة هذا الشهركنّا في تجارةٍ رابحة مع اللّه تعالى ، وكان رأس المال في هذه التّجارة هو الإيمان باللّه تعالى ، فهل زاد إيماننا بالللّه عزّ وجلّ ؟ هل ربحنا من هذه التجارة أم لا ؟ فإنّ اللّه تعالى يفتح أبواب الرّحمة في آخر شهر رمضان بشكل أوسع .

فقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام : إنّ للّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان سبعين ألف ألف عتيق من النّار ، كلًّا قد استوجب النّار ، فإذا كان آخر ليلة من شهررمضان ، أعتق اللّه بمثل ما أعتق بجميع الشّهر .

فيجب أن يحاسب الإنسان نفسه في هذه الليلة ويتوب إلى اللّه تعالى ، إذا كان قدقصّر في هذا الشّهر المبارك ، فإنّ اللّه قد أعدّ للصّائم في هذا الشّهر من الثواب ما لا يحصه أحد ، فإنّ اللّه تعالى قد بيّن لكلّ عمل من الأعمال ، ولكلّ فريضة من الفرائض ، بيّن مقدارثوابه إلّاالصّوم ، فقال تعالى : الصّومُ لي وأنا اجزي به ، هكذا أعدّ اللّه تعالى لعباده من الثواب .

نذكر حديث عن النّبي صلى الله عليه و آله ، وهذا الحديث نذكره تيّمناً وبركةً ، لأنّه فيه من الأجروالثّواب ، والعطاء الجميل الذي أعدّه اللّه تعالى لعباده الصّائمين ، حتّى نعرف عظمة الأجر والثواب للصّائم .

ذكره الشيخ في آماليه ص48 ، وفي كتاب ثواب الأعمال ، والبحار ، عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عبّاس : ما لمن صام شهر رمضان وعرف حقّه ؟

قال : تهيّأ يابن جبير حتّى احدّثك بما لم تسمع اذناك ولم يمرّ على قلبك ، وفرّغ نفسك لما سألتني عنه فما أردته فهو علم الأوّلين والآخرين .

قال سعيد بن جبير : فخرجت من عنده فتهيّأت له من الغد فبكرت إليه مع طلوع الفجر فصلّيت الفجر ثمّ ذكرت الحديث فحوّل وجهه إليّ فقال : إسمع منّي ما أقول ،سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : لو علمتم ما لكم في رمضان لزدتم للّه تبارك وتعالى شكراً :

إذا كان أوّل ليلة غفر اللّه عزّ وجلّ لاُمّتي الذنوب كلّها ؛ سرّها وعلانيتها ، ورفع لكم ألفي ألف درجة ، وبنى لكم خمسين مدينة .

وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم يوم الثاني بكلّ خطوة تخطونها في ذلك اليوم عبادة سنة

ص: 361

وثواب نبي ، وكتب لكم صوم سنة .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم الثالث بكلّ شعرة على أبدانكم قبّة في الفردوس من درّة بيضاء في أعلاها إثنا عشر ألف بيت من النّور وفي أسفلها اثنا عشر ألف بيت في كلّ بيت ألف سرير على كلّ سرير حوراء يدخل عليكم كلّ يوم ألف ملك مع كلّ ملك هديّة .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم الرابع في جنّة الخلد سبعين ألف قصر ، في كلّ قصرسبعون ألف بيت ، في كلّ بيت خمسون ألف سرير ، على كلّ سرير حوراء بين يدي كلّ حوراء ألف وصيفة ، خمار إحداهنّ خير من الدنيا وما فيها .

وأعطاكم اللّه في يوم الخامس في جنّة المأوى ألف ألف مدينة ، في كلّ مدينة سبعون ألف بيت ، في كلّ بيت سبعون ألف مائدة ، على كلّ مائدة سبعون ألف قصعة ، وفي كلّ قصعة ستّون ألف لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم السادس في دار السلام مائة الف مدينة ، في كلّ مدينة مائة ألف دار ، في كلّ دار مائة ألف بيت ، في كلّ بيت مائة ألف سرير من ذهب طول كلّ سريرألف ذراع ، على كلّ سرير زوجة من الحور العين عليها ثلاثون ألف ذؤابة منسوجة بالدرّ والياقوت ، تحمل كلّ ذؤابة مائة جارية .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم السابع في جنّة النّعيم ثواب أربعين ألف شهيد وأربعين ألف صدّيق .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم الثامن عمل ستّين ألف عابد وستّين ألف زاهد .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم التاسع ما يعطي ألف عالم وألف معتكف وألف مرابط .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم العاشر قضاء سبعين حاجة ويستغفر لكم الشمس والقمر والنجوم والدواب والطير والسباع وكلّ حجر ومدر وكلّ رطب ويابس والحيطان في البحار والأوراق على الأشجار .

وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم يوم أحد عشر ثواب أربع حجّات وعمرات ، كلّ حجّة مع نبيّ من الأنبياء ، وكلّ عمرة مع صدّيق أو شهيد .

وجعل اللّه عزّ وجلّ لكم يوم اثني عشر أن يبدّل اللّه سيّئاتكم حسنات ويجعل حسناتكم أضعافاً ، ويكتب لكم بكلّ حسنة ألف ألف حسنة .

ص: 362

وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم يوم ثلاثة عشر مثل عبادة أهل مكّة والمدينة ، وأعطاكم اللّه بكلّ حجر ومدر مابين مكّة والمدينة شفاعة .

ويوم أربعة عشر فكأنّما لقيتم آدم ونوحاً وبعدهما إبراهيم وموسى وبعده داودوسليمان وكأنّما عبدتم اللّه عزّ وجلّ مع كلّ نبيٍّ مائتي سنة .

وقضى لكم يوم خمسة عشر حوائج من حوايج الدنيا والآخرة ، وأعطاكم اللّه مايعطي أيّوب واستغفر لكم حملة العرش وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أربعين نوراًعشرة عن يمينكم وعشرة عن يساركم وعشرة أمامكم وعشرة خلفكم .

وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ يوم ستّة عشر إذا خرجتم من القبر ستّين حلّة تلبسونهاوناقة تركبونها وبعث اللّه إليكم غمامة تظلّلكم من حرّ ذلك اليوم .

ويوم سبعة عشر يقول اللّه عزّ وجلّ إنّي قد غفرت لهم ولآبائهم ورفعت عنهم شدائد يوم القيامة .

وإذا كان يوم ثمانية عشر أمر اللّه تباك وتعالى جبرئيل وميكائيل و إسرافيل و حملة العرش والكرّوبيّين أن تستغفر لاُمّة محمّد صلى الله عليه و آله إلى السنة القابلة وأعطاكم اللّه عزّوجلّ يوم القيامة ثواب البدريّين .

فإذا كان يوم التاسع عشر لم يبق ملك في السماوات والأرض إلّااستأذنوا ربّهم في زيارة قبوركم كلّ يوم ومع كلّ ملك هدية وشراب .

فإذا تمّ لكم عشرون يوماً بعث اللّه عزّ وجلّ إليكم سبعين ألف ملك يحفظونكم من كلّ شيطان رجيم ، وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم بكلّ يوم صمتم صوم مائة سنة وجعل بينكم وبين النّار خندقاً وأعطاكم اللّه ثواب من قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم بكلّ ريشة على جبرئيل عبادة سنة وأعطاكم ثواب تسبيح العرش والكرسي ، وزوّجكم بكلّ آية في القرآن ألف حوراء .

يوم أحد وعشرين يوسّع اللّه عليكم القبر ألف فرسخ ويرفع عنكم الظلمة والوحشة ويجعل قبوركم كقبور الشهداء ، ويجعل وجوهكم كوجه يوسف عليه السلام بن يعقوب عليه السلام .

ويوم اثنين وعشرين يبعث اللّه عزّ وجلّ إليكم ملك الموت كما يبعث إلى الأنبياءويدفع عنكم همّ الدنيا وعذاب الآخرة .

ص: 363

ويوم الثلاثة وعشرين تمرّون على الصّراط مع النبيّين والصدّيقين والشهداءوكأنّما أشبعتم كلّ يتيم من امّتي وكسوتم كلّ عريان من امّتي .

ويوم أربعة وعشرين لا تخرجون من الدّنيا حتّى يرى كلّ واحد منكم مكانه من الجنّة ويُعطى كلّ واحد ثواب ألف مريض وألف غريب خرجوا في طاعة اللّه عزّ وجلّ وأعطاكم ثواب عتق ألف رقبة من ولد إسماعيل .

ويوم خمسة وعشرين بنى اللّه عزّ وجلّ لكم تحت العرش ألف قبّة خضراء على رأس كلّ قبّة خيمة من نور ، يقول اللّه تبارك وتعالى : يا امّة محمّد ! أنا ربّكم وأنتم عبيدي وإمائي استظلّوا بظلّ عرشي في هذه القباب وكلوا واشربوا هنيئاً فلا خوف عليكم ولاأنتم تحزنون . يا امّة محمّد ! وعزّتي وجلالي لأبعثتكم إلى الجنّة يتعجّب منكم الأوّلون والآخرون ولأتوّجنّ كلّ واحد منكم بألف تاج من نور ، ولأركبنّ كلّ واحد منكم على ناقة خلقت من نور وزمامها من نور وفي ذلك الزمان ألف حلقة من ذهب في كلّ حلقة ملك قائم عليها من الملائكة بيد كلّ ملك عمود من نور حتّى يدخل الجنّة بغير حساب .

وإذا كان يوم ستّة وعشرين ينظر اللّه إليكم بالرحمة فيغفر اللّه لكم الذنوب كلّهاإلّاالدماء والأموال ، وقدّس بينكم كلّ يوم سبعين مرّة من الغيبة والكذب والبهتان.

ويوم سبعة وعشرين فكأنّما نصرتم كلّ مؤمن ومؤمنة وكسوتم سبعين ألف عاري وخدمتم ألف مرابط وكأنّما قرأتم كلّ كتاب أنزله اللّه عزّ وجلّ على أنبيائه .

ويوم ثمانية وعشرين جعل اللّه لكم في جنّه الخلد مائة ألف مدينة من نور ،وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ في جنّة المأوى مائة ألف قصر من فضّة وأعطاكم اللّه عزّوجلّ في جنّة الفردوس مائة ألف مدينة في كلّ مدينة ألف حجرة ، وأعطاكم اللّه عزّ وجلّ في جنّة الجلال مائة ألف منبر من مسك في جوف كلّ منبر ألف بيت من زعفران ، في كلّ بيت ألف سرير من دُرٍّ وياقوت ، على كلّ سرير زوجة من الحور العين .

فإذا كان يوم تسعة وعشرين أعطاكم اللّه عزّ وجلّ ألف ألف محلّة في جوف كلّ محلّة قبّة بيضاء ، في كلّ قبّة سرير من كافور أبيض على ذلك السرير ألف فراش من السندس الأخضر ، فوق كلّ فراش حوراء عليها سبعون الف حلّة وعلى رأسها ثمانون ألف ذؤابة كلّ ذؤابة مكلّلة بالدرّ والياقوت .

ص: 364

فإذا تمّ ثلاثون يوماً كتب اللّه عزّ وجلّ لكم بكلّ يوم مرّ عليكم ثواب ألف شهيدوألف صدّيق وكتب اللّه عزّ وجلّ لكم عبادة خمسين سنة ، وكتب اللّه عزّوجلّ لكم بكلّ يوم صوم ألفي يوم ، ورفع لكم بعدد ما أنبت النيل درجات ، وكتب عزّ وجلّ لكم براءة من النّار وجوازاً على الصّراط وأماناً من العذاب وللجنّة باب يقال له الريّان لا يفتح ذلك إلى يوم القيامة ثمّ يفتح للصائمين والصائمات من امّة محمّد صلى الله عليه و آله ، ثمّ ينادي رضوان خازن الجنّة : يا امّة محمّد ! هلمّوا إلى الريّان ، فيدخل امّتي في ذلك الباب إلى الجنّة فمن لم يغفرله في رمضان ففي أيّ شهر يغفر له ؟ ولا حول ولا قوّة إلّاباللّه وحسبنا ونعم الوكيل .

تمام الصوم إعطاء زكاة الفطرة :

قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : تمام الصوم إعطاء الزكاة يعني الفطرة ، كماأن الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم من تمام الصلاة ، لان من صام ولم يؤد الزكاة فلا صوم له إذا تركها متعمداً ، وايضاً لا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ان اللّه تعالى قد بدأبها قبل الصلاة فقال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى... .

وقد ابرز عليه السلام أهميّة زكاة الفطرة والفت الأنظار الى الآية الكريمة التي ذكرالمفسرون أنها نزلت فيها ، وهي قوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى .

فجاء حديثه عليه السلام هذا جامعاً الزكاة والصلاة في هذا الشأن وجعلها بمنزلة الصلاة لأهميتها بل في الآية المباركة قدمها على الصلاة كما قال الإمام الصادق عليه السلام : ان الله قد بدأ بها قبل الصلاة .

والزكاة في اللغة بمعنى الطهارة ومنه قوله تعالى : أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً (1) ، ومنه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها (2) ، وبمعنى النمو كما قال تعالى ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ (3)وقد تطلق على العمل الصالح مجازا لغة وحقيقة شرعاً كما قال تعالى وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ

ص: 365


1- . سورة الكهف ، الآية 73 .
2- . سورة الشمس ، الآية 9 .
3- . سورة البقرة ، الآية 232 .

وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (1) .

وأما زكاة الفطرة على وزن فِعله بالكسر من الفطر ، واصله الشق ، واستعمل بمعنى الخلق ، فهي حين اذن بمعنى الخلق اي الحالة التي عليها الخلق ، بل لعل منه اطلاقها على الاسلام ولو مجازاً باعتبار كونه حاله لا ينفك الخلق عنها ، وهو المراد من قوله صلى الله عليه و آله و سلم (2)كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه والمراد بهاعلى الأول زكاة الأبدان على معنا كونها مطهر لها من أوساخ المعاصي ، أو منميه لها ، أوصدقة لحفظها من الموت ونحوه كما يؤمي اليه قول الصادق عليه السلام (3)لمعتب : اذهب فأعط عن عيالنا الفطرة اجمعهم ، ولا تدع منهم أحداً ، فانك أن تركت منهم أحدا تخوفت عليه الفوت ، قلت : وما الفوت ؟ قال : الموت .

وتقسيمهم الزكاة الى مالية وبدنية ، وعلى الثاني زكاة الاسلام والدين ، ومن ثم وجبت على من اسلم قبل الهلال من دون توقف على حول ولا صوم .

وزكاة الفطرة هي القسم الثاني من الزكاة الواجبة بعد زكاة الأموال التي فرضها اللّه في كتابه وكذلك الأحاديث النبوية والآيات في الحث على إتيانها ، فمنها قوله تعالى : أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ففي كتاب المعتبر سمي أي ذلك الحق المخصوص زكاة لأنه به يزداد الثواب ، ويطهر المال من حق المسلمين ، وفي انه ينبغي ملاحظة المناسبة بين المعنيين مع قطع النظر عن وجوبها ومشروعيتها ، فيقال في مناسبة الطهارة أنها تطهرالمال مما فيه من الشبه الواقعية ، حتى ورد (أن من اخرج زكاة ماله ووضعها في موضعهالم يسأل من أين اكتسب ماله) وتطهر النفس من الأخلاق الردية كالبخل والشح والقساوة وما نحوهما .

وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم : « من أدى ما افترضه اللّه عليه فهو اسخى الناس » (4) .

وقال الصادق عليه السلام : « أحب الناس الى اللّه اسخاهم كفاً واسخى الناس من أدى زكاة .

ص: 366


1- . سورة مريم ، الآية 31 .
2- . مسند احمد ، ج12 ، ص120 الرقم 7181 وصحيح مسلم ، ج8 ص52 .
3- . الوسائل باب (5) من ابواب زكاة النفطرة الحديث .
4- . الوسائل - الباب 2 من ابواب ما تجب فيه الزكاة ، ح7 .

ماله » .

وفي مناسبة النمو أنها تورث بركة في المال وتنمية كما هي العادة في كل شيءنظيف مما هو مبني على النمو ، وفي الخبر الصدقة تزيد في المال ، تقضي الدين ، وتخلف البرك ، قال في البيان (هي مصدر زكى اذا نمى، فان اخراجها يوجب بركة المال وتنميه ،وكذلك تطهر المال من الخبث ، والنفس من البخل) .

الزكاة أخت الصلاة

ثم ليعلم أن الزكاة أخت الصلاة وقد قرنهما اللّه تعالى في كتابه مشعراً بعددم قيام الصلاة ممن لم يؤدي الزكاة « وصلاة فريضة خير من عشرون حجّة ، وحجة خير من بيت مملوء ذهبا ينفقه في بر حتى ينفذ ، فلا أفلح من ضيع عشرين بيتاً من ذهب بخمس وعشرين درهماً فان من منع الزكاة وقفت صلاته حتى يزكي » (1) « وبينما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد اذ قال : قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان حتى اخرج خمسة نفر فقال اخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكون » (2) بل من منع قراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم وسأل الرجعة عند الموت وهو قوله تعالى : رَبِّ ارْجِعُونِ... .

وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم « من منع قراطاً من زكاة ليمت أن شاء يهوديا وان شاءنصرانيا » (3) ، بل « ما من احد يمنع من زكاة ماله شيئاً الا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعباناًمن النار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب ، وذلك لقوله تعالى : سَيُطَوَّقُونَ » (4) .

« وانما وضعت الزكاة اختيباراً للاغنياء ومعونة للفقراء ، ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقيى مسلم فقير محتاجاً ، ولا استغنى بما فرض اللّه له ، وان الناس ما افتقرواولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا الا بذنوب الأغنياء ، وحقيق على اللّه أن يمنع رحمته

ص: 367


1- . الوسائل - الباب 3 من أبواب ما تجب فيه الزكاة - ح17 .
2- . الوسائل - الباب 3 من أبواب ما تجب فيه الزكاة - ح17 .
3- . الوسائل - الباب 4 من أبواب ما تجب فيه الزكاة - ح5 .
4- . الوسائل - الباب 3 من أبواب ما تجب فيه الزكاة - ح3 .

ممن منع حق اللّه في ماله واقسم بالذي خلق الخلق وبسط الفرزق انه ما ضاع مال في برأو بحر الا بترك الزكاة وما صيد صيدٌ في بر ولا بحر الا بتركه التسبيح في ذلك اليوم ، وان أحب الناس الى اللّه اسخاهم كفا ، واسخى الناس من ادى زكاة ماله ، ولم يبخل على المؤمنين بما اقترض اللّه لهم في ماله » (1) .

وكما ذكرنا أن الزكاة لغة بمعنى الطهارة لكونها مطهرة للمال من الأوزار المتعلقة بسبب تعلق حق اللّه به أو مطهرة للنفوس من الأوساخ الأخلاقية الرذيلة من البخل وترك مواساة المحتاج ، ثم أن من شأن المطهر أن يزيل الأوساخ كالماء للنجاسة ، لذا كانت الزكاة محرمة على بني هاشم تشريفاً لهم ، لذا قال صلى الله عليه و آله و سلم : « انما هذا المال من الصدقة أوساخ للناس » (2) ، ووجه نسبتها الى الأيدي في هذا الخبر لان الأموال المعطاة في الأكثر تمر على اليد وتكون باليد .

ومن الفقهاء من يقول بجواز اعطاء الهاشمي من زكاة الأموال في حال ضررشديد ، ولهذا لما كانت الصدقة هي أوساخ الناس ولا تحل لبني هاشم ، كانت العقيلة زينب عليها السلام في السبي ، تأخذ التمر والجوز والخبز الذي كان يتصدق به أهل الكوفة على يتامى الحسين عليه السلام وتقول لهم : - والأطفال جياع وهم في بكاء وهي تمسك دمعتها عن الشماتة - يا أهل الكوفة الصدقة علينا حرام ... الخ ، فكانت تأخذ ذلك وترمي به الى الأرض ولسان حالها :

تتصدّق الوادم علينه *** او عطايا الخلق كلهامن ايدينا

او ما خاب ظنّه اليعتنينه *** يظل كل سنه يروح ويجينه

حسافه الدهرهالخان بينه *** أخونه انچتل واحنا انسبينا

وأشد من ذلك وأعظم هو نداء المنادي .. هؤلاء السبايا من الخوارج (3) . .

ص: 368


1- . الوسائل - الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة - ح6 .
2- . كنز العمّال ، ج3 ، ص285 .
3- . اللهوف لابن طاووس .

المجلس التاسع والعشرون: حول ولادة الامام الحجّة عليه السلام

اشارة

عن حذيفة اليماني قال : خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الى ان قال : لو لم يبق من الدُّنياالا يوم واحد لطوّل اللّه عزّوجلّ ذلك اليوم حتى يبعث اللّه رجلاً من ولدي اسمه اسمي ثم ضرب بيده على الحسين عليه السلام وقال هو من ولدي هذا (1).

نسب السيدة نرجس

من المناسب ان نجعل ختام مجالس هذا الكتاب حول الزهراء عليها السلام وولدها الامام الحجة عليه السلام ولا بأس اولاً أن نذكر شيئاً من ترجمة حياة والدة الامام المهدي عليه السلام (2)السيدة نَرجِسْ عليها السلام .

وقبل كلِّ شيء نذكر أسماءها ، فقد ذكر المحدّثون لها ثمانية أسماء : نَرجِس ،سَوسَن ، صَيقل أو صقيل ، حديثة ، حكيمة ، مَليكة ، ريحانة ، وخَمْط .

واشهرُ اسمائها : نَرجِسْ ... وكُنْيَتُها : ام محمّد .

وأنَّ تعدُّد الأسماء لا يدلُّ على تعدُّد المُسمّى ، كما أنَّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كانت لها أسماء عديدة لأسباب ومناسبات متنوّعة ، وكذلك بالنسبة للسيدة نرجس فإن نَرجس : اسم لبعض الأزهار العَطِرة ، والخَمط : نوع من شجر الأراك له حمل وثَمرٌ يُؤكل ،قال تعالى : ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ (3) ، وسَوسَن : أيضاً من أنواع الأزاهير ذات الرائحة الطيّبة والفوائد الكثيرة المذكورة في كُتُب الطِب ، والصقيل : هو الشيء الأملس ، فلا مانع

ص: 369


1- . عقد الدرر عن الحافظ ابن نعيم وينابيع المودة ، ص488 .
2- . وذلك نقلاً عن كتاب الامام المهدي عليه السلام من المهد الى الظهور للعلامة السيد كاظم القزويني ص118 .
3- . سورة سبأ ، الآية 16 .

من أن تسمّى المرأة بأسماء متعدّدة لمناسبات مختلفة ، ولعلّ هناك أسباب وحِكَم ومَصالح سياسية أو اجتماعية قد خفيت علينا .

واما بالنسبة لحسبها ونسبها ، فقد رُويَ عن بِشرِ بن سليمان النخّاس ، وهو من وُلدأبي أيوب الأنصاري ، وأحد مُوالي (1) أبي الحسن - الهادي - وأبي محمد العسكريين (2)وجارُهما بِسُرَّ من رأى ، قال :

كان مولانا أبو الحسن الهادي عليه السلام فقَّهني في علم الرقيق (3) فكنتُ لا أبتاع (4) ولاأبيع إلاّ بإذنه ، فاجتَنبتُ بذلك موارد الشبهات حتى كمُلت معرفتي فيه ، وأحسنتُ الفرق بين الحلال والحرام ، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسُرَّ من رأى ، وقد مضى هويٌّ (أي :ساعة) من الليل إذ قَرَعَ الباب قارعٌ ، فإذا أنا بكافور الخادم ، رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام يدعوني اليه فلَبستُ ثيابي ودخلت عليه ، فرأيته يُحدّث ابنه أبا محمدواخته حكيمة من وراء الستر ، فلما جلست قال :

يا بِشر : إنَّك من ولد الأنصار ، وهذه الموالاة لم تَزَل فيكم ، يرثُها خلفٌ عن سلف ،وأنتم ثقاتنا أهل البيت ، واني مزكّيك ومشرّفك بفضيلةٍ تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة بها : بسرٍّ اطلِعُكَ عليه ، واُنفّذك في ابتياع (5) أَمَة .

قصّة نرجس مع النخّاس

فكتب كتاباً ملصقاً بخطٍّ رومي ولغةٍ روميّة ، وطبع عليه بخاتمه ، وأخرج شنتقةً(أي صُرّةً توضع فيها النقود) صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً ، فقال : خُذها وتوجّه بهاالى بغداد ، واحضر معبر الصُراة (6) ضَحوة يوم كذا ، فإذا وصلت الى جانبك زوارق (7)

ص: 370


1- . أي أحد الموالي للإمام .
2- . العسكري : لَقَب الإمام الحادي عشر ، وقد يُطلق على أبيه الإمام الهادي عليه السلام .
3- . الرقيق : المملوك من الجواري والعبيد .
4- . لا أبتاع : أي لا أشتري .
5- . ابتياع : أي شراء .
6- . معبر : اي الجسر الذي يعبر الناس عليه . الصراة : اسمٌ لنهرين في بغداد ، هما : الصراة الكبرى ،والصراة الصغرى ، ذكر ذلك ياقوت الحموي في كتابه (مُعجَم البُلدان) .
7- . زوارق - جمع زورق - : السفينة الصغيرة .

السبايا ، وبرزن الجواري منها ، فستُحدقُ بهنَّ طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس ، وشراذم من فتيان العراق ، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمربن يزيد النخّاس عامَّة نهارك الى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا ، لابسة حريرتين صفيقتين (1) تمتنع من السفور ولمس المعترض والإنقياد لمن يحاول لمسها ،ويشغل نظره بتأمُّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق ، فيضربها النخّاس ، فتصرخ صرخةً روميَّة ، فاعلم آنهاتقول : وا هتك ستراه ، فيقول بعض المبتاعين : عليَّ بثلاثمائة دينار ،فقد زادني العفاف فيها رغبةً ، فتقوله له - بالعربية - : لو برزت في زيِّ سليمان بن داودوعلى مثل سرير مُلكه ما بدت لي فيك رغبة ، فاشفق على مالك .

فيقول النخّاس : فما الحيلة ؟ ولابدَّ من بيعك ؟

فتقول الجارية : وما العجلة ؟ ولابدَّ من اختيار مبتاعٍ يسكن قلبي اليه والى وفائه وأمانته .

فعند ذلك .. قم الى عمر بن يزيد النخّاس وقل له : إنَّ معي كتاباً مُلصقاً لبعض الأشراف ، كتبه بلغة روميَّة وخطٍ رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه ، فناولهالتتأمَّل منه اخلاق صاحبه ، فان مالت اليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك .

قال بشر : فامتثلت جميع ما حدَّه (2) لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية .

فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءاً شديداً ، وقالت لعمر بن يزيد : بِعني من صاحب هذا الكتاب ، وحَلَفت بالمُحرِجة المغلَّظة (3) أنّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها .

فما زلت اشاحُّه في ثمنها حتى استقرَّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير في الشتنقة (أي الصرَّة) الصفراء ، فاستوفاه منّي وتسلّمت منه .

ص: 371


1- . « صفيقتين » : يُقال ثوب صفيق : أي كثيفٌ نسجه .
2- . حدّه : اي عرَّفه وبيَّنه .
3- . المحرجة : أي القسم واليمين التي تضيِّق على الحالف ، بحيث لا يبقى له مجال عن برّ قسمه . قوله « المغلَّظة » : اي الموكّدة من اليمين والقسم .

الجارية ضاحكةً مستبشرة ، وانصرفت بها الى حجرتي التي كنت آوي اليها ببغداد .

فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها عليه السلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها ، وتُطبقه على جفنها (1) ، وتمسحه على بدنها ، فقلت - تعجُّباً منها - أتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟

فقالت : أيّها العاجز ، الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء ! أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك : أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم ، واُمّي من ولد الحواريّين (2) تنتسب الى وصيِّ المسيح : شَمعون .

انبّئك العجَبَ العجيب : إنَّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه ، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة ، فجمع في قصره من نسل الحواريّين ومن القسّيسين والرهبان ثلاثمائة رجل ، ومن ذوي الأخطار (3) سبعمائة رجل ، وجمع من امراء الأجناد و قوّاد العساكر ونُقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف ، وابرز من بهو (4) مُلكه عرشاًمصنوعاً (5) من اصناف الجواهر الى صحن القصر ، فرفعه فوق أربعين مرقاه .

فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان (6) وقامت الأساقفة (7) عُكّفاً ، ونشرت أسفار الإنجيل (8) تساقطعت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض ، وتقوّضت الأعمدة فانهارت الى القرار ، وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه فتغيّرت الوان الأساقفة وارتدعت فرائصهم ، فقال كبيرهم - لجدّي : ايها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس .

ص: 372


1- . تطبقه على جفنها : أي تضعه على عينها .
2- . الحواريّون : هم خواصُّ أصحاب النبي عيسى عليه السلام .
3- . ذوي الأخطار - جمع الخطر - أصحاب الشرف ، والشخصيّات البارزة .
4- . البهو : هو البيت المقدّم أمام البيوت ، والذي يُعبّر عنه ب (قاعدة الإستقبال) .
5- . وفي نسخة : مصوغاً .
6- . الصلبان : جمع صليب ، وقد تقدّم تعريفه .
7- . الأساقفة - جمع اسقف - : هو الرئيس الديني عن النصارى ، وهو أعلى مرتبة من القسيس .
8- . أسفار - جمع سفر - : جزء من اجزاء الإنجيل .

الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني (1) .

فتطيّر جدّي من ذلك تطيُّراً شديداً (2) وقال للأساقفة : أقيموا هذه الأعمدة وارفعواالصلبان وأحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه (3) لاُزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده .

فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأوّل ، وتفرّق الناس ، وقام جدّي فيصر مغتمّاً ، ودخل قصره ، واُرخِيَت الستور .

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب السيدة نرجس من المسيح

وعلى ما مر رأيت في تلك الليلة كأنَّ المسيح وشمعون وعدّه من الحواريّين قداجتمعوا في قصر جدّي ، ونصبوا فيه منبراً يُبارى السماء عُلوّاً وارتفاعاً في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه ، فدخل عليهم محمد صلى الله عليه و آله و سلم مع فتيةٍ وعدّةٍ من بنيه ، فتقدّم المسيح اليه فاعتنقه ، فقال (4) له محمد صلى الله عليه و آله و سلم : يا روح اللّه إني جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته المليكة لإبني هذا ، وأومأ بيده الى أبي محمد ابن صاحب هذا الكتاب .

فنظر المسيح الى شمعون وقال له : قد أتاك الشرف ، فَصِل رَحِمَك بِرَحِم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، قال : قد فعلت ، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد صلى الله عليه و آله و سلم وزوّجني من ابنه وشهدالمسيح عليه السلام وشهد أبناء محمد صلى الله عليه و آله و سلم (5)والحواريّون .

فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل .

ص: 373


1- . الملكانية : من المذاهب المسيحيّة .
2- . تطيّر : أي تشاءم .
3- . المنكوس جدّه : أي المقلوب حظُّه ، والمقصود : أنَّ قيصر لما رأى ما جرى في زواج ابن أخيه أراد أن يزوّج السيدة نرجس من أخ ذلك العرّيس .
4- . الموجود في المصدر : « فيقول » عوضاً عن « فقال » .
5- . وفي نسخة « بنو محمد » .

وضُرب صدري بمحبة أبي محمد (1) حتى امتنعتُ من الطعام والشراب ، وضعفت نفسي ، ودقّ شخصي ، ومرضت مرضاً شديداً ، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلاّ أحضره جدّي وسأله عن دوائي ، فلمّا برح به اليأس قال : يا قُرّة عيني هل تشتهين شيئاً ؟

فقلتُ : يا جدّي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة ، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من اسارى المسلمين ، وفككت عنهم الأغلال ، وتصدّقت عليهم ، ومننت عليهم بالاخلاص ، لَرَجوت أن يهب المسيح واُمُّه لي عافية وشفاءاً .

فلما فعل ذلك جدّي تجلّدت في اظهار الصحّة في بدني ، وتناولت يسيراً من الطعام ، فسرَّ بذلك جدّي ، وأقبل على إكرام الاُسارى وإعزازهم .

فرايت ايضاً - بعد أربع ليالٍ - : كأنَّ سيّدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان ، فتقول لي مريم : هذه سيدة نساء العالمين ، واُمُّ زوجك أبي محمد ، فأتعلَّق بها وأبكي وأشكوا اليها إمتناع أبي محمد من زيارتي .

فقالت لي سيّدة النساء : إنَّ ابني لا يزورك وأنت مشركة باللّه وعلى مذهب النصارى ، وهذه اختي مريم تبرأ الى اللّه من دينك ، فإن ملتِ (2) الى رضى اللّه عزّوجلّ ورضى المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمد إياك فقولي : اشهدُ أن لا إله إلاّ اللّه وأنَّ أبي محمّداً رسول اللّه .

فلما تكلّمتُ بهذه الكلمة ضمّتني سيدة النساء الى صدرها ، فطيّبت لي نفسي وقالت : الآن توقّعي زيارة أبي محمد إياك فإنّي منفّذته إليك .

فانتبهتُ وأنا أقول : واشوقاه الى لقاء أبي محمد ، فلما كانت الليلة القابلة جاءنتي أبو محمد عليه السلام في منامي ، فرأيته كأنِّي أقول له : جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حُبّك ؟ فقال : ما كان تأخيري عنك إلاّ لشركك ، وإذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة الى أن يجمع اللّه شملنا في العيان ، فما قطع عني زيارته بعد ذلك الى هذه الغاية .

قال بشر : فقلت لها : وكيف وقعت في الأسر ؟ .

ص: 374


1- . ضُرب صدري : أي الزم واُحيط بمحبّة أبي محمد .
2- . مِلتِ : أي رغبت .

فقالت : أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أنَّ جدّك سيُسيّر جيشاً الى قتال المسلمين يوم كذا ، ثم يتبعهم ، فعليك باللحاق بهم متنكّرةً في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا .

ففعلتُ ، فوقعت علينا طلائح المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت ،وما شعُر أحدٌ - بي بأني ابنة ملك الروم الى هذه الغاية - سواك ، وذلك بإطلاعي إياك عليه .

ولقد سألني الشيخ - الذي وقعت اليه في سهم الغنيمة - عن اسمي ، فأنكرته وقلت :نرجس ، فقال : اسم الجواري .

فقلت : العجب انّك روميّة ولسانك عربي ؟ (1)

قالت : بَلَغ من ولوع (2) جدّي وحمله إيّاي على تعلّم الآداب أن أوعز الى امرأة ترجمانة في الإختلاف اليّ ، فكانت تقصدني صباحاً ومساءاً ، وتفيدني العربية حتى استمرّ عليها لساني واستقام .

قال بِشر : فلما انكفأتُ (3) بها الى ( سُرّ من رأى) دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري عليه السلام (4)فقال لها : كيف أراك اللّه عِزَّ الإسلام وذلَّ النصرانيّة (5) وشرف أهل بيت محمد صلى الله عليه و آله و سلم ؟ قالت : كيف أصف لك - يابن رسول اللّه - ما أنت أعلم به منّي ؟ قال : فإني اُريدُ (6) أن اكرمك ، فأيّما أحب اليك : عشرة آلاف درهم ؟ أم بشرى لك بشرف الأبد ؟قالت : بلى البُشرى . قال عليه السلام : فأبشري بولدٍ يملك الدنيا شرقاً وغرباً ، ويملأُ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً . قالت : ممّن ؟ قال عليه السلام ممّن خطبك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

ص: 375


1- . هذا كلام بِشر وسؤاله منها .
2- . الولع : شدة الحب والتعلُّق بشيء . الإختلاف اليَّ : اي التردُّد يُقال : اختلف الى المكان : أي تردّد ،وجاء اليه المرة بعد الاُخرى .
3- . انكفأت : اى رجعت .
4- . سبق أن ذكرنا أن لقب « العسكري » قد يُطلق على الإمام الهادي والد الإمام الحسن العسكري عليهما السلام .
5- . اشارة الى انتصار المسلمين على جيش قيصر جدّ نرجس .
6- . وفي نسخة : اني احبّ .

له ، ليلة كذا من شهر كذا ، من سنة كذا بالروميّة (1) . قالت : من المسيح ووصيّه ؟ قال : ممّن زوّجك المسيح ووصيُّه ؟ قالت : من ابنك أبي محمد ؟ فقال : هل تعرفينه ؟ قالت : وهل خَلَت ليلة لم يرني فيها منذ الليلة التي أسلمتُ على يد سيدة النساء : امِّه (2) ؟

فقال أبو الحسن الهادي عليه السلام : يا كافور ادعُ لي اختي حكيمة ، فلما دخلت عليه قال لها :ها هيه ، فاعتنقتها طويلاً ، وسرَّت بها كثيراً ، فقال لها أبو الحسن عليه السلام : يا بنت رسول اللّه خذيها الى منزلك ، وعلِّميها الفرائض والسُنن ، فإنّها زوجة أبي محمد واُمّ القائم عليه السلام (3).

ميلاد الإمام المهدي عليه السلام

روى الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) باسناده : عن حكيمة (بنت الإمام الجواد عليه السلام ) قالت : بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام فقال : يا عمّة اجعلي افطارك الليلة عندنا ، فإنها ليلة النصف من شعبان ، وانَّ اللّه تبارك وتعالى سيُظهر في هذه الليلة الحجَّة ، وهو حجَّته في أرضه - وفي رواية : فإنه سيولد - المولود الكريم على اللّه عزَّوجلّ ، الذي يحيي اللّه عزّوجلّ به الأرض بعد موتها .

قالت (حكيمة) : فقلت : ومَن امّه ؟ قال لي : نرجس ، قلت له : جعلني اللّه فداك مابها أثر (4) ؟ فقال : هو ما أقول لكِ ، قالت : فجئتُ فلما سلَّمتُ وجلست جاءت (نرجس)تنزع خُفِّي (5) وقالت لي : يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت ؟ (6) فقلت : بل أنت سيدتي

ص: 376


1- . أي بالتاريخ الميلادي ... لا التاريخ الهجري .
2- . يُعبَّر عن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ب « امّ الأئمّة » لأنَّ الأئمة الأحد عشر أبناؤها .
3- . روى هذا الحديث الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) والشيخ الطوسي في (كتاب الغيبة) بألفاظ متقاربة ، ونحن جمعنا بين الروايات بقدر المستطاع واخترنا احسن الوجوه .
4- . أي : ما بها أثرٌ من الحمل ، لأن اللّه تعالى أخفى فيها أثر الحمل ، كما صرّحت بذلك الأحاديث ، كما أخفى اللّه ذلك في امّ النبي موسى عليه السلام ولم يظهر عليها أثر الحمل ولم يعلم بها أحد الى وقت ولادتها ، لأن فرعون كان يشق بطون النساء الحبالى في طلب موسى .
5- . كانت العادة المتعارفة في ذلك الزمان أنَّ صاحبة البيت كانت تنزع خُفَّ المرأة الزائرة التي جاءت الى بيتها احتراماً وإكراماً وتقديراً لها .
6- . كلمة « كيف أصبحت » أو « كيف امسيت » كانت تُستعمل في ذلك الزمان مكان كلمة « كيف حالك » في زماننا .

وسيدة أهلي ، فأنكرت قولي وقالت : ما هذا يا عمَّة ؟! (1) ، وفي رواية اخرى : فجاءتني نرجس تخلع خُفِّي ، فقالت : يا مولاتي ناوليني خُفَّك ، فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي ،واللّه لا أدفع اليك خُفِّي لتخلعيه ، ولا لتخدميني ، بل أنا أخدمُك ، على بصري (2) ، فسمع أبومحمد عليه السلام ذلك ، فقال : جزاك اللّه - يا عمَّة - خيراً .

قالت حكيمة : فقلت لها : يا بُنيَّة إنَّ اللّه سَيَهَب لك - في ليلتك هذه - غُلاماً سيداً في الدنيا والآخرة ، فجلست (نرجس) واستحيت ، فلما أن فرغت من صلاة العشاء أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلما كان في جوف الليل قمت الى الصلاة ، ففرغت من صلاتي وهي (أي : نرجس) نائمة ليس بها حادث ، ثم جلست مُعقِّبة (3) ، ثم اضطجعت ،ثم انتبهت فزعةً وهي راقدة ، ثم قامت فصلّت ، فدخلتني الشكوك ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام من المجلس (أي : من حُجرته التي كان جالساً فيها) : لا تعجلي يا عمَّه فإنَّ الأمر قد قرُب .

وفي رواية : فوثبت سوسن (أي : نرجس) فزعةً ، وخرجت وأسبغت الوضوء ، ثم عادت فصلَّت صلاة الليل حتى بلغت الوتر (4) فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرُب ، فقُمت لأنظر ، فإذا بالفجر الأول قد طلع (5) فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد عليه السلام فناداني من حُجرته : لا تشُكِّي ، فاستحييت من أبي محمد وممّا وقع في قلبي ، ورجعت الى البيت .

ص: 377


1- . « فأنكرت » : أي تعجّبت من قولي لها : « بل أنت سيدتي وسيدة أهلي » أي : كيف يسوغ للسيدة حكيمة وهي بنت الإمام وافخت الإمام وعمَّة الإمام أن تخاطب جارية بهذه الكلمات ؟ وأما قول نرجس : « يا عمّة » فهو باعتبار أن السيدة حكيمة عمَّة زوجها ، فكما كان الإمام العسكري يخاطبها « يا عمّة » كذلك خاطبتها نرجس بكلمة « يا عمَّة » .
2- . قولها « على بصري » كالقول المتعارف في هذا الزمان « على عيني » .
3- . معقّبة : أي مشتغلة بتعقيبات الصلاة كالأدعية والأوراد وتلاوة القرآن وغيرها .
4- . الوتر : آخر ركعة من صلاة الليل .
5- . الفجر الأول : هو البياض « الضوء » الذي يظهر في الاُفق - في جانب المشرق - ثم يزول ويأتي مكانه الظلام ، ويُعبَّر عنه أيضاً ب « الفجر الكاذب » .

وأنا خجلة ، فاذا هي (أي : نرجس) قد قطعت الصلاة ، وخرجت فزعة ، فلقيتها على باب البيت ، فقلت لها : هل تحسّين شيئاً مما قلت لك ؟

قالت : نعم يا عمَّه إنِّي أجد أمراً شديداً .

قلت : اسم اللّه عليك ، اجمعي نفسك ، واجمعي قلبك فهو ما قلت لك ، لا خوف عليك إنشاء اللّه ، فأخذت وسادةً فالقيتها في وسط البيت ، وأجلستها عليها ،وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة ، فقبضت على كفِّي وغمزت غمزاًشديداً (1) ثم أنَّت أنَّةً وتشهَّدت ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام وقال : إقرئي عليها : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فاقبلتُ أقرأُ عليها كما أمرني ، فأجابني الجنينُ من بطنها يقرأ كما أقرأ ،ففزعت لما سمعت ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام : لا تعجبي من أمر اللّه عزّوجلّ إنَّ اللّه (تبارك وتعالى) يُنطقنا بالحكمة صغاراً ، ويجعلنا حُجَّةً في أرضه كباراً ، فلم يستتمّ الكلام حتى غُيبت عنِّي نرجس ، فلم أرها ، كأنَّه ضُرب بيني وبينها حجاب (وفي رواية : ثم أخذتني فترة ، وأخذتها فترة) فعدوتُ نحو أبي محمد عليه السلام وأنا صارخة ، فقال لي : ارجعي يا عمَّه ،فانَّك ستجدينها في مكانها ، فرجعت فلم ألبث أن كُشف الحجاب الذي كان بيني وبينها ،وإذ أنا بها عليها من أثر النور ما غشى بصري ، واذا أنا بوليِّ اللّه (صلوات اللّه عليه) مُتلقّيماًالأرض بمساجده - وعلى ذراعه الأيمن مكتوب : جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (2) - وهو (اي الإمام حال كونه ساجداً) يقول : « أشهد أن لا اله الاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنَّ جدّي محمّداً رسول اللّه ، وأنَّ أبي أمير المؤمنين وليُّ اللّه » ثم عدَّ الأئمة إماماً إماماً الى أن بلغ الى نفسه ، ثم قال : « اللهمَّ أنجز لي ما ودعتني ، وأتمم لي أمري ،وثبّت وطأتي واملأ الأرض بي عدلاً وقِسطاً » ثم رفع رأسه - من الأرض - وهو يقول : شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ، قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (3) ثم عَطَسَ فقال : « الحمد للّه ربّ العالمين ، وصلى اللّه على .

ص: 378


1- . غمزت : أي كبست وعصرت يدي عصراً شديداً .
2- . سورة الإسراء / آية 81 .
3- . سورة آل عمران / آية 18 - 19 .

محمّد وآله ، زَعَمَتِ الظلمةُ أنَّ حُجَّة اللّه داحضةٌ لو اذِنَ لنا في الكلام لزالَ الشك .

قالت حكيمة : فأخذت بكتفيه فضممته إليَّ ، وأجلسته في حجري ، فإذا هو نظيف منظَّف ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام : هلُمّي إليَّ بابني يا عمَّه ، فجئت به اليه ، فأجلسه على راحته اليُسرى ، وجعل راحته اليُمنى على ظهره ، ثم أدخل - الإمام العسكري - لسانه في فيه ، وأمرَّ يده على رأسه وعينيه وسمعه ومفاصله ، ثم قال له : تكلَّم يا بُني !!

وفي رواية : يا بُني انطق بقدرة اللّه تكلّم يا حجّة اللّه وبقيّة الأنبياء ، وخاتم الأوصياء ، تكلّم يا خليفة الأتقياء .. فتشهّد الشهادتين وصلى على النبي والأئمّة الطاهرين واحداً واحداً ، ثم سكت بعد وصوله الى اسم أبيه ، ثم استعاذ من الشيطان الرجيم وتلى هذه الآية : بسم الله الرحمن الرحيم ، وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (1)(2) .

عقيقة الإمام المهدي عليه السلام والإطعام

العقِيقَة : هي الذبيحة - من شاةٍ أو بَقَرٍ أو إبل - تُذبَحُ بعد ولادة المولود ، وهي مستحبَّة شرعاً ، وقد عقَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ولَدَيه : الحسن والحسين عليهما السلام بكبشين في اليوم السابع من ولادتهما (3) .

والعقيقة تُعتبر فداءاً للطفل ، وتأميناً على حياته ، فقد ورَدَ في الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم : « كلُّ امرئٍ مَرتَهَن بعقيقَته » (4) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام : « كلُّ مولودٍ مُرتَهَن بالعقيقة » (5) .

ص: 379


1- . سورة القصص / آية 5 - 6 .
2- . الامام المهدي من المهد الى الظهور ، للسيد كاظم القزويني ص140 .
3- . فرائد السمطين للحمويني الشافعي ، ج2 ، ص104 - 105 ، طبع لبنان 1400 هجرية ، ذخائر العُقبى للطبري الشافعي ، ص118 ، طبع مصر 1356 هجرية ، وغيرها .
4- . بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج104 ، ص126 ، طبع طهران 1389 هجرية .
5- . مكارم الأخلاق للطبرسي ، ص226 ، طبع لبنان 1392 هجرية .

وما أبدَعَ هذا التعبير ، وأجمل هذا البيان ، فإن اللّه تعالى إذا وهب المولود للوالدين فإنه يمكن أن يعيش الطفل ، ويمكن أن يسترجع اللّه هبته فيموت الطفل في وقت مُبكِّر ،فاذا عُقَّ عنه بعقيقة ، فإنه يعيش ، لأن العقيقة بمنزلة الرهان .

وإنطلاقاً من هذه الحقيقة ، فإن الإمام العسكري عليه السلام عَقَّ عن الإمام المهدي عليه السلام بثلثمائة عقيقة (1) .

وقد امتاز الإمام المهدي عليه السلام بهذه المزيَّة عن جميع الأوّلين والآخرين ، إذ لم يذكرالتاريخ أنَّ مولوداً عُقَّ عنه بثلثمائة عقيقة ، سوى الإمام المهدي عليه السلام .

وتجد - هنا - سرّاً عظيماً ، فإنَّ العقيقة الواحدة إذا كانت نافذة المفعول في طول عمر المولود بالعمر الطبيعي المتعارف - وهو ما بين الستين والسبعين مثلاً - ، فإنَّ المولودالذي قدَّر اللّه تعالى له أن يعيش ألفاً ومئات السنين - مع كثرة أعدائه - يتطلَّب أن يُعَقَّ عنه بمئات الذبائح لنفس الغَرَض .

ولا منافاة في أن يكون اللّه تعالى هو الحافظ والحارس للإمام المهدي عليه السلام خلال قرون حياته ، وفي نفس الوقت يُعَقُّ عنه بهذه الكمية والعدد الوافر ، تحقيقاً للهدف ، لأن العقيقة لها آثارها الوَضعية .

والبحث يتطلَّب شيئاً من الشرح والتفصيل ، ولكنَّه يستدعي مجالاً أوسع .

وقد قام الإمام العسكري عليه السلام بهذه العملية التي تُعتبر :

1 - تمديداً لطول عُمر ولده الإمام المهدي عليه السلام .

2 - إعلاماً لشيعته بولادة الإمام المهدي المنتظر .

ولم يكتف الإمام العسكري عليه السلام بذلك ، بل أمر عثمان بن سعيد - وهو من أخصِّ أصحابه - بأن يشتري عشرة آلاف رِطل (2) من الخُبز ، وعشرة الاف رِطل من اللحم ، .

ص: 380


1- . اكمال الدين للشيخ الصدوق ، ج2 ، ص106 ، طبع طهران المطبوع مع الترجمة الفارسية سنة 1396 ه .
2- . الرِطل : وزنٌ يختلف بإختلاف البلدان ، والمراد منه هنا : هو الرطل العراقي ، والرطل العراقي الواحد :يساوي 610 327 غرام ، أمّا عشرة آلاف رطل : فتساوي 3276 كيلو غرام .

ويوزِّعها على بَني هاشم لنفس الغَرَض (1) .

وربما أرسل الإمام العسكري عليه السلام شاةً مذبوحة الى بعض أصحابه ، وقال له : هذه من عقيقة إبني محمد (2) .

وأرسل الى ابراهيم - وهو من أصحابه - بأربعة أكبش ، وكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عُقَّ هذه عن إبني محمد المهدي ، وكُلْ ، هَنَّأَكَ اللّه ، وأطعِم من وجدت من شيعتنا (3) .

ويُخبر الإمام العسكري عليه السلام بعض ثقاة شيعته بولادة الإمام المهدي عليه السلام ويأمره بالكتمان ، بل ويكتب رسالة الى الشيخ أحمد ابن اسحاق القُمِّي - وهو من أجلاّء أصحابه- يُبشّره بولادة ولده الإمام المهدي عليه السلام ، بل ربما كان يُري ولده لبعض أصحابه الثقاة ،تأكيداً لهذه الحقيقة .

قصة وموضوع السرداب

مسألة السرداب التي عظّمها أعداء الإسلام والتشيع واعتبروا الاعتقاد بالغيبة مع كل أصالتها واشتهارها وتواترها خرافةً ، هي ليست كما يعتقد الشيعة من أن المهدي عليه السلام غاب فيه ، بل هي أنه في المناطق الحارة من الحرّ الشديد عادة تُبنى في البيوت سراديب عميقة وتُشاهد الآن سراديب كهذه بكثرة في الأقسام الصحراوية من قم ودزفول . وقدكان سائداً في العراق وخصوصاً النجف وسامراء منذ القديم إيجاد سراديب عميقة كهذه ولا زال بعضها موجوداً في مناطق مختلفة .

مسألة السرداب في سامراء في بيت الإمام الحسن العسكري عليه السلام هي من هذاالقبيل ، أوجد في ذلك البيت للوقاية من الحرّ ، وفي الحقيقة استفاد ثلاثة أئمة من هذاالبيت ومن هذا السرداب ، أي الإمام الهادي والحسن العسكري وإمام العصر (عج) . لذا

ص: 381


1- . إكمال الدين للشيخ الصدوق ، ج2 ، ص431 ، طبع طهران سنة 1395 هجرية .
2- . إكمال الدين للشيخ الصدوق ، ج2 ، ص432 ، طبع طهران سنة 1395 هجرية .
3- . بحار الأنوار للشيخ المجلسي الطبعة الحديثة ، ج51 ، ص28 ، طبع طهران سنة 1393 هجرية .

فإنّ لهذا البيت وهذا المكان قداسة وشرافة خاصة لأهل التقوى وأتباع أهل البيت . ولدى كلّ شعوب العالم ، حتى في عصرنا الحاضر ، يحافظ على محلّ سكن الرجال العظام والقادة الكبار ، وبشكله الأول ، وتُحفظ آثارهم وأبنيتهم بوصفها آثار قديمة ، وتعتبرمظهراً لثقافة ومدنية الأمة ، وكل يوم يزورها الزوّار والسُيّاح ، أليس حفظ وقداسة هذاالمحل للشيعة على طول التاريخ أمراً طبيعيّاً ومستحسناً ؟!

في السفر الى الهند نرى ، أن بيت غاندي القائد الفقيد للهند في بمبي بقي على حالته السابقة نفسها ، اضافة الى ذلك فإن كل وسائل حياته وعمله بقيت محفوظة كما كانت تعرضها على المشاهدين بافتخار شديد ، والأروع من ذلك أن غاندي قبل موته بشهرين أو ثلاثة كان في نيودلهي ضيفاً في بيتٍ وقد حافظوا على الساحة التي كان يجلس فيهاكل يوم ليتحدّث الى الحاضرين ، والمكان الذي قتل فيه ، حفظوه على ما كان عليه تماماً ،بل إن محلّ أقدامه وآثار مشيه حفظت بشكل جميل من غرفته الى محل جلوسه الذي قُتل فيه ، بشكل يعجب كل زائر خاصة بعد توضيح المرشدين المختصين لكل ذلك .

ألا يجب أن يحفظ السرداب والبيت الذي سكنه ثلاثة من أئمة الشيعة العظام وفيه ذكرى طفولة إمام العصر وحياة الإمام العاشر التبعيدية ، والإمام الحادي عشر ؟ ألا يجب أن يكون لذلك المكان قدسيّة واحترام ؟ أيعتبر عمل الشيعة هذا خرافة ، ولأجل ذلك ينتقد اعتقادهم الراسخ والمبرهن بالإمام المهدي عليه السلام ، والذي قبلته كل الفرق الإسلاميّة ؟!

ليست مسألة السرداب بالشكل الذي تمسك به أعداء الإسلام أو الجهلاء من الناس ، وسحقوا به الشيعة ، إننا لا نعتقد أبداً بأن صاحب الزمان سيظهر من هناك ، وحتى الأشخاص الذين كتبوا حول ذلك وعن زيارة الإمام المهدي عليه السلام هناك ، لا يقصدون ذلك ، بل المقصود هو زيارة المكان الذي سكن فيه وتوقف عنده ومع تجديد الذكرى هناك من الأفضل أن يُدعى للإمام في ذلك المحلّ ويُقرأ بالسلام والصلوات ، فماالإشكال في هذا الفعل ؟

التوقف والدعاء في صحن ومرقد الإمام العاشر والحادي عشر والصحن الذي

ص: 382

خلف المرقد .. والصحن الذي فيه السرداب ، هو محلّ سكن هؤلاء الأئمّة الثلاثة ، فإن الزيارة والتوقف فيى بيت هو تعبير القرآن : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) يعيد ذكرى الإمام ويجدد العهد والبيعة له ، وعلامة لمعرفة منزلة وقدر الإمام ،وبالأخص في هكذا موارد ، فإنه عامل للإستعداد لنهضة قائد العدالة والمصلح العالمي الكبير ... !! (2)

فالمنحرفون والمستهزئون يكتبون ما يريدون بلا رادع ديني ولا حياء ولا خجل ولا خوف من اللّه وقد بلغ الجهل والحقد باحدهم الى ان ينظم شعراً في هذا الموضوع ويقول :

ما آن للسرداب أن يلد الذي *** سميتموه بزعمكم انساناً

* * *

وأجابه أحد الشعراء قائلاً :

ما آن للسراداب أن يلد الذي *** صيرتموه بزعمكم ما كانا

هو سر ربّ العالمين وأنتم *** غيّبتموه بزعمكم انسانا

فعلى عقولكم العفاء لأنّكم *** بجحوده كذّبتم القرآنا

لو لم تثنو العجل ما قلتم لنا *** ثلثتم العنقاء والغيلانا

فالحجّة المهدي صاحب عصرنا *** حي ولكن لا تروه عيانا

كالخضران انكرتموه جحدتم ال *** توراة والانجيل والفرقانا (3) .

ص: 383


1- . سورة النور / آية 36 .
2- . بقية اللّه خير لكم إن كنتم مؤمنين ، ص71 لجماعة من العلماء .
3- . الكشكول مهدي السويج ، ص81 .

المجلس الثلاثون: حول فاطمة الزهراء عليها السلام

اشارة

مسك الختام

لمصائب الزهرا هجرت المضجعا *** واذلت قلبي من جفوني ادمُعا

افكان من حكم النبي وشرعه *** ان تُضرب الزهراء ضرباً موجِعا

أوصى الاله بوصل عترة أحمدٍ *** فكأنما اوصى بها أن تُقطَعا

اللّه ما فعلوا بآل نبيّهم *** فعلاًله عشر الاله تضعضعا

أبدواعداوتهم لها وَعَدوا على *** ميراثهافابتُزَّ منها اجمعا

قادوا علياً بعده بنجادِهِ *** ومن البتول الطهر رضّواالأضلعا

وضعت وراء الباب حملاً لم يكن *** قد آن لولا عصرها ان يوضعا

ومضوا بكافِلِها يُهَرول ُطيّعا *** لولا الوصيّة لم يُهَروِل طيّعا

خرجت تعثَّرُ خلفهم تدعوهمُ *** خلُّوا ابن عمي أو لأكشف للدُعا

رجعوا اليها بالسياطفسوّدوا *** بالضرب منها متنها كي تَرجعا (1)

ص: 384


1- . للسيد صالح الحلّي .

في الحديث القدسي عن اللّه عزّوجلّ : يا فاطمة وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بالفي عام ان لا اعذِّب محبّيك ومحبّي عترتك بالنار (1) .

حيث أن هذا المجلس هو ختام مجالس شهر رمضان المبارك ، رأينا من المناسب أن يكون مسك الختام عن سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام ، راجياً من اللّه تعالى أن يتقبّل منّا هذا الجهد المتواضع ، ويكون ذخراً لآخرتنا ان شاء اللّه تعالى .

مقام الزهراء عليها السلام

إنَّ سيدتنا فاطمة الزكيّة سلام اللّه عليها جوهرة الخلقة ، وثمرة النبوّة ، وصفوة الولاية ، فهي عليها السلام أفضل من جميع البشر حتّى الأنبياء والرسل عليهم السلام ما خلا أبيها وبعلهاصلوات اللّه عليهما وآلهما ؛ وعلى ذلك دلائل كثيرة وبراهين جليّة من الآيات والأخبار ،وذلك لأنّ كلّ ما دلّ على أفضليّة النبي وأمير المؤمنين عليهما السلام فهو بعينه دالّ على أفضليّتها عليها السلام لأنّهم مخلوقون من نور واحد ، ومرتضعون من ثدي واحد ، وهذا ثابت في الأخبار ، ونحن نتبرّك بذكر بعضها : فمن الآيات : آية التطهير (2) ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى شهد في هذه الآية لها بالعصمة والطهارة بما لا مزيد عليه ، لأنّه تعالى أذهب عنها جميع أنواع الرجس الظاهريّة منها والباطنيّة ومن المعاصي والسيّئات الصغيرة منها والكبيرة ،حتى حديث النفس بما لا يريد اللّه ، ومن إخطار ما يكرهه سبحانه بالبال ، فهي عليها السلام بنصّ هذه الآية طاهرة طهارة حقيقيّة عن كلّ عيب ونقص على الإطلاق ، إذ كلّ ما تفرضه من الوسوسة وحديث النفس والخواطر فهو داخل في الرجس ، وهي عليها السلام قد طهرت منه ،فهي عليها السلام في أعلى مراتب العصمة والطهارة .

ص: 385


1- . سفينة البحار ، ج2 ، ص375 .
2- . سورة الأحزاب / آية 33 .

وأمّا الأنبياء ما عدا أبيها عليه وعليهم السلام فليس في القرآن ما يدلُّ على عصمتهم وطهارتهم على هذا النحو الذي ذكره سبحانه وتعالى لأهل البيت عليهم السلام ، فلم تساوعصمة الأنبياء عليهم السلام عصمة الزهراء سلام اللّه عليها ، فكان لها الشرف الفائق والفضل الرائق عليهم (1) .

ما نقله العلاّمة المجلسي رحمه الله ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : وهي الصدّيقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاُولى (2) .

قال المحقّق البارع أبو الحسن النجفيّ في كتابه القيّم « ملتقى البحرين » (3) في ذيل هذا الحديث : إنّ المراد من القرون هي قرون جميع الأنبياء والأوصياء واُممهم من آدم فمن دونه حتى نفس خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه وآله أجمعين ؛ يعني ما بعث اللّه عزّوجلّ أحداً من الأنبياء والأوصياء حتى أقرّوا بفضل الصدّيقة الكبرى ومحبّتها ،ويؤيّده ما ذكره السيد قدس سره (4)في « مدينة المعاجز » عنه عليه السلام : « ما تكاملت النبوّة لنبيّ حتى أقرّ بفضلها ومحبّتها » .

وأيضاً ما ذكره رحمه الله في ص19 عن جابر عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قلت : لم سمّيت فاطمة الزهراء « زهراء » ؟ فقال : لأنّ اللّه عزّوجلّ خلقها من عظمته ، فلمّا أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها ، وغشّت أبصار الملائكة ، وخرّت الملائكة للّه ساجدين وقالوا : إلهنا وسيّدنا ، ما هذا النور ؟ فأوحى اللّه اليهم : هذا نور من نوري ،وأسكنته في سمائي ، خلقته من عظمتي ، اخرجه من صلب نبيّ من أنبيائي ، افضّله على جميع الأنبياء ، وأخرج من ذلك النور أئمّة يقومون بأمري ، يهدون الى حقّي ، وأجلعهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي . .

ص: 386


1- . وإن شئت تفصيل ذلك فراجع كتاب « الإمام عليَّ بن ابي طالب عليه السلام » عند البحث عن آية التطهير ، للشيخ احمد الرحماني الهمداني .
2- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص105 .
3- . المصدر ، ص40 .
4- . يعني السيد البحراني صاحب « تفسير البرهان » .

ومنها ما ذكره أيضاً العلاّمة المجلسي رحمه الله في « مرآة العقول » (1) في مولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن محمد بن سنان قال : « كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة (أي في معرفة الأئمّة عليهم السلام وأحوالهم وصفاتهم) فقال : يا محمد ، إن اللّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيّته ، ثمّ خلق محمداً وعليّاً وفاطمة (سلام اللّه عليهم أجمعين) فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها ، وأجرى طاعتهم عليها ، وفوّض امورهاإليهم ، فهم يحلّون ما يشاؤون ، ويحرّمون ما يشاؤون ، ولن يشاؤوا إلاّ أن يشاء اللّه تبارك وتعالى ، ثمّ قال : يا محمد هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها محق ، ومن لزمها لحق ، خذها اليك يا محمّد » .

ومنها أيضاً ما ذكره المجلسي رحمه الله عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : لولا أنّ اللّه تعالى خلق أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه (2) .

وعنه عليه السلام : لو لم يخلق اللّه عليَّ بن أبي طالب ما كان لفاطِّه كفوٌ (3) .

وفي خبر آخر : لولاك لما كان لها كفوٌ على وجه الأرض (4) .

وعن أبي عبداللّه عليه السلام : لولا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تزوّجها لما كان لها كفو الى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه (5) .

ثمّ قال رحمه الله : يمكن أن يستدلّ به على كون عليّ وفاطمة عليهما السلام أشرف من سائر اولي العزم سوى نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم ، لا يقال : لا يدلّ على فضلهما على نوح وابراهيم عليهما السلام لاحتمال كون عدم كونهما كفوين لكونهما من أجدادها عليها السلام ، لأنّا نقول : ذكر آدم عليه السلام يدلّ على أنّ المراد عدم كونهم أكفاءها مع قطع النظر عن الموانع الاُخر ، على أنّه يمكن أن يتشبَّث بعدم القول بالفصل (6) ... .

ص: 387


1- . المصدر ، ج5 ، ص190 .
2- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص107 .
3- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص107 .
4- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص107 .
5- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص10 - 11 .
6- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص10 - 11 .

ومنها ما ذكره المحدّث الكبير والعلاّمة الخبير الطبريّ رحمه الله : عن أبي جعفر عليه السلام : ولقدكانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق اللّه من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة (1) .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم : لما خلق اللّه آدم وحوّا تبخترا في الجنّة ، فقال آدم لحوّا : ماخلق اللّه خلقاً هو أحسن منا فاوحى اللّه الى جبرئيل : ائت بعبديَّ الفردوس الأعلى ، فلمادخلا الفردوس نظر الى جارية على درنوك من درانيك الجنّه وعلى رأسها تاج من نور ،وفي اذنيها قرطان من نور ، قد اشرقت الجنان من نور وجهها ، فقال آدم : حبيبي جبرئيل !من هذه الجارية التي قد اشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال : هذه فاطمة بنت محمدنبيّ قد اشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال : هذه فاطمة بنت محمد نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان ، قال : فما هذا التاج الذي على رأسها ؟ قال : بعلها علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : فما القرطان اللذان في اذنيها ؟ قال : ولداها الحسن والحسين ، قال آدم :حبيبي ! اخلقوا قبلي ؟ قال : هم موجودن في غامض علم اللّه قبل ان تخلق بأربعة آلاف سنة (2) .

السرّ في تقبيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يدها

قد يجدر بنا البحث هنا عن علّه هذا التكريم من النبي صلى الله عليه و آله و سلم اياها الذي قد زاد عن الوصف والبيان حتى يتعجب منه الإنسان ؛ مع أنّا نعلم أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل الناس حكمة ، وأصوبهم رأياً وأكملهم عقلاً ، وأصلحهم علماً وعملاً ، وأنَّ فعله صلى الله عليه و آله و سلم هو عين الحكمة والصواب ، وأنَّ قوله الفصل و ما هو بالهزل ، وكان مدينة العلم والحكمة ؛ وقديكرّر هذه الأقوال الأفعال حتّى أنكرت عليه عائشة تقبيله نحرها ويدها وأمثال ذلك ،وقال صلى الله عليه و آله و سلم في جوابها : « لمّا اسري بي الى السماء أكلت من ثمار الجنّة ، فخلق اللّه منها فاطمة ، فكلّما اشتقت الى رائحة الجنّة شممتها » ، وغير خفيّ أنَّ هذا الجواب

ص: 388


1- . دلائل الإمامة ، ص28 .
2- . كشف الغمّة ، ج1 ، ص456 .

مطابق لفكرها وعلى قدر عقلها ؛ فلابدّ لها من أسرار اخر وعلل سواه تشبه علمه وحكمته .

وعندي أنَّ هذا النحو من الحبّ الغزير والإكرام الكثير ليس منشأها محض الولادة والقرابة الظاهريّه ، إذ ليس هذا الحدّ من العلاقة في متعارف الناس ؛ بل السرُّ الأعظم فيهاإظهار شأنها للاُمّة وما تنطوي عليه من الشؤون والفضائل والأخلاق التي أبانهاقوله صلى الله عليه و آله و سلم : « فاطمة منّي وأنا منه » ؛ وبذلك جعلها مثلى لطريق الحقّ ، وعلماً يهدى به في ظلم الفيافي ، واُنموذجاً كاملاً للإنسانيّة ، وميزاناً للحقّ والباطل في هجوم اللوابس والفتن التي ستوقع بعده صلى الله عليه و آله و سلم .

ولولاها لما بقيت للنبوَّة بقيّة ، كما أشار اليه أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لها : « ياأبنة الصفوة وبقيَّة النبوَّة » ، وقد جعلها اللّه عزّوجلّ سيّدة النسوان وجعل حياتها امتداداًلحياة أبيها صلى الله عليه و آله و سلم واستمراراً لأهدافه العالية من حيث مجاهداتها أمام الّذين جعلواالإسلام وسيلة الى أغراضهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة بعد وفاة أبيها صلى الله عليه و آله و سلم ، وتظافرواعلى هضم الإسلام شيئاً فشيئاً .

كيف لا ، وقد نقل ابن أبي الحديد في شرحه : قال له (عليّ عليه السلام ) قائل : يا أميرالمؤمنين أرأيت لو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ،أكانت العرب تسلّم اليه أمرها ؟ قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ ... ولولا أنَّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة الى الرياسة ، وسلّماً الى العزّ والإمرة لما عبدتَ اللّه بعد موته يوماً واحداً ... (1) .

وروي عن إمامنا القائم عليه السلام في حديث سعد بن عبداللّه في علّة إسلام بعض المغتصبين للخلافة : بل أسلما طمعاً ، لأنّهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمّا كانوايجدون في التوراة وسائر الكتب المتقدّمة الناطقة بالملاحم ... وبايعاه طمعاً في أن ينال كلٌّ منهما من جهته ولاية بلد ... (2) . .

ص: 389


1- . شرح النهج ، ج20 ، ص298 .
2- . بحار الأنوار ، ج52 ، ص86 .

وعن زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام : واللّه لو تمكّن القوم أن طلبوا الملك بغير التعلُّق باسم رسالته كانوا قد عدلوا عن نبوّته (1) .

وأنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد يعلم ذلك كلّه بتفرُّسه وعلمه بما في اللوح ، وكان يجب عليه الإنذار بها ، ونصب عَلَم يهدى به في تلك الفيافي ؛ فقد كرّر على مسامع الحاضرين والغائبين الذين يبلغهم كلامه : « فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن أحبّها فقدأحبّني » ، فبهذا البيان وما شابهه - وكم لها من مشابه - كشف عن الاُمّة ما ابهم عليه في الحوادث والفتن التي وقعت بعده ؛ بحيث من وقف على جانب فاطمة كان على الحقّ ومن أبدى وجهه لها كان على الباطل .

ولعمري لولا فاطمة عليها السلام لم يعرف المنافقون الظالُّون الذين تقمّصوا الخلافة الكبرى ، وعموا عن نصّ الولاء ، وأغضبوا ربّ العلى ؛ إذ كانت عليها السلام ترغم أنف المعاندين بحجّتها ، وتفحم مغاليطهم براهينها ، وترفع لثام النفاق عن وجوههم بخطاباتها .

نعم وهذا هو السرُّ الأعظم في تقبيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يدها ووجهها وبين ثدييها ، وفي إكرامه إيّاها أشدّ اكرام ، بل هذه الأفعال تنبئ للظرفاء والمدقّقين عن الكوادح التي أخذت بتلابيبها بعد وفاة أبيها ، من الضرب على وجهها ، ودفع المسمار في صدرها ،واسقاط جنينها و ... المصائب التي مرّت عليها (2) .

الزهراء تلتقط شيعتها

في حديث طويل قال أبو جعفر عليه السلام : واللّه يا جابر ، آنهاذلك اليوم (يعني القيامة)لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحبّ الجيد من الحبّ الرديء ، فإذا صار شيعتهامعها عند باب الجنّة يلقي اللّه في قلوبهم أن يلتفتوا ، فإذا التفتوا فيقول اللّه عزّوجلّ : ياأحبّائي ما التفاتكم وقد شفّعت فيكم فاطمة بنت حبيبي ؟ فيقولون : يا ربّ أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم ، فيقول اللّه : يا أحبّائي ارجعوا وانظروا من أحبّكم لحبّ

ص: 390


1- . « بيت الأحزان » ، ص57 ، نقلاً عن ابن طاووس رحمه الله في كتابه « كشف المحجّة » .
2- . فاطمة بهجة قلب المصطفى ص115 .

فاطمة ، انظروا من أطعمكم لحبّ فاطمة ، انظروا من كساكم لحبّ فاطمة ، انظروا من سقاكم شربةً في حبّ فاطمة ، انظروا من ردّ عنكم غيبةً في حبّ فاطمة ، خذوا بيده وأدخلوه الجنّة .

قال أبو جعفر عليه السلام : واللّه لا يبقى في الناس الاّ شاكٌّ أو كافر أو منافق ،الحديث (1) .

وقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها : والذي نفسي بيده إنها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية اللّه ، وعيناها من نور اللّه ، وخطامها من جلال اللّه ،وعنقها من بهاء اللّه ، وسنامها من رضوان اللّه ، وذنبها من قدس اللّه وقوائمها من مجد اللّه ،ان مشت سبّحت وان رغت قدّست عليها هودج من نور فيه جارية انسيّة حوريّه عزيزة ،الى ان قال صلى الله عليه و آله و سلم : جبرئيل عن يمينها وميكائيل عن شمالها ، وعليٌّ امامها ، والحسن والحسين ، وراءها واللّه يكلأها ويحفظها ؟ فيجوزون في عرصة القيامة ، فإذا النداء من قبل اللّه جلّ جلاله : معاشر الخلائق غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم ، هذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله و سلم نبيّكم ، زوجة علي اماكم ام الحسن والحسين ، فتجوز الصراط وعليهاريطتان بيضاوان ، فإذا دخلت الجنّة ونظرت الى ما اعدّ اللّه لها من الكرامة ... قال :فيوحي اللّه عزّوجلّ اليها : يا فاطمة ! سليني اعطك ، وتمنّي عليَّ ارضك ، فتقول : الهي !انت المنى وفوق المنى ، اسألك ان لا تعذب محبّي ومحبّ عترتي بالنار (2) .

شهادة الزهراء عليها السلام

اعلم أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم افتجع له الصغير والكبير ، وكثر عليه البكاء ،وقلّ العزاء ، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب ، ولم تلق إلاّ كلّ باك وباكية ، ونادب ونادبة ، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب ، والأقرباء والأحباب ، أشدَّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من مولاتي فاطمة

ص: 391


1- . بحار الأنوار ، ج43 ، ص65 ، فاطمة الزهراء عليها السلام بهجة قلب المصطفى ، ص67 .
2- . تأويل الآيات ، ج2 ، ص484 ، فاطمة الزهراء عليها السلام بهجة قلب المصطفى ، ص64 .

الزهراء عليها السلام ، وكان حزنها يتجدّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدُّ .

فجلست سبعة أيّام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، كلُّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوّل ، فلمّا كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صبراً إذ خرجت وصرخت ، فكأنّها من فم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تنطق ؛ فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجَّ الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كلّ مكان ، واُطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات النساء ، وخيّل الى النسوان أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد قام من قبره ، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ،وهي عليها السلام تنادي وتندب أباه : وا أبتاه ! وا صفيّاه ، وا محمّداه ! وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل واليتامى ، من للقبلة والمصلّى ، ومن لابنتك الوالهة الثكلى .

ثمّ أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا نظرت الى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، الى أن اغمي عليها ، فتبادرت النسوان اليها فنضحن الماءعليها وعلى صدرها وجبينها حتّى أفاقت .

ولم تزل على ذلك الى ان مضى لها بعد موت أبيها سبعة وعشرون يوماً واعتلت العلّه التي توفيت فيها وذلك من هجوم القوم على دارها وعصرها بين الحائط والباب وكسر ضلعها وسقوط جنينها ... الخ من المصائب التي جرت عليها ، واقبل أميرالمؤمنين عليه السلام يريد المنزل اذ استقبلته الجواري باكيات حزينات فقال لهن : ما الخبر ، ومالي اراكن متغيرات الوجوه والصور ؟ فقلن : يا أمير المؤمنين أدرك ابنة عمّك الزهراء عليها السلام وما نظنّك تدركها .

فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام مسرعاً حتى دخل عليها ، وإذا بها ملقاة على فراشها -وهو من قباطيّ مصر - وهي تقبض يميناً وتمدُّ شمالاً ، فألقى الرداء عن عاتقه والعمامة عن رأسه ، وحلّ أزراره ، وأقبل حتى أخذ رأسها وتركه في حجره ، وناداها : يا زهراء !فلم تكلّمه ، فناداها : يا بنت محمّد المصطفى ! فلم تكلّمه ، فناداها : يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء ! فلم تكلّمه ، فناداها : يا ابنة من صلّى بالملائكة في

ص: 392

السماء مثنى مثنى ! فلم تكلّمه ، فناداها : يا فاطمة كلّميني فأنا ابن عمّك عليُّ بن أبي طالب .

قال : ففتحت عينيها في وجهه ونظرت اليه وبكت وبكى وقال : ما الذي تجدينه فأنا ابن عمّك عليُّ بن أبي طالب .

فقالت : يا ابن العمّ إنّي أجد الموت الذي لابدّ منه ولا محيص عنه ، وأنا أعلم أنّك بعدي لا تصبر على قلّه التزويج ، فإن أنت تزوّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي يوماً وليلة ، يا أبا الحسن ولا تَصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين ، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان امّهما ، فالويل لاُمّة تقتلهماوتبغضهما .

قالت : فقال لها عليٌّ عليهما السلام : من أين لك يا بنت رسول اللّه هذا الخبر ، فقالت : يا أباالحسن رقدت الساعة فرأيت حبيبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصر من الدُّرِّ الأبيض فلمّارآني قال : هلمّي إليَّ يا بنيّة فانّي اليك مشتاق ، فقلت : واللّه إنّي لأشدُّ شوقاً منك الى لقائك ، فقال : أنت الليلة عندي ، وهو الصادق لما وعد ، والموفي لما عاهد .

فإذا أنت قرأت يس ، فاعلم أنّي قد قضيت نحبي ، فغسّلني ولا تكشف عنّي فإنّي طاهرة مطهّرة ، وليصلِّ عليَّ معك من أهلي الأدنى فالأدنى ومن رزق أجري ، وادفنّي ليلاً في قبري ؛ بهذا أخبرني حبيبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

فقال عليٌّ : واللّه لقد أخذت في أمرها وغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها ، فواللّه لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة ، ثمَّ حنّطتها من فضلة حنوط رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكفّنتهاوأدرجتها في أكفانها ، فلمّا هممت أن اعقد الرداء ناديت يا امَّ كلثوم ! يا زينب ! يا سكينة !يا فضّة ! يا حسن ! يا حسين ! هلمّوا تزوّدوا من امّكم ، فهذا الفراق ، واللقاء في الجنّة .

فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام وهما يناديان : وا حسرتا لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنامحمد المصطفى وافمّنا فاطمة الزهراء ، يا امَّ الحسن يا امَّ الحسين إذا لقيت جدّنا محمدالمصطفى فأقرئيه منّا السلام وقولي له : إنّا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا .

فقال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام : إنّي اشهد اللّه أنها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها

ص: 393

وضمّتهما الى صدرها مليّاً وإذا بهاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن ارفعهما عنها فلقدأبكيا واللّه ملائكة المساوات ، فقد اشتاق الحبيب الى المحبوب ، قال : فرفعتهما عن صدرها وجعلت أعقد الرداء وأنا انشد بهذه الأبيات :

فراقك أعظم الأشياء عندي *** وفقدك فاطم أدهى الثكول

سأبكي حسرة وأنوح شجواً *** على خلّ مضى أسنى سبيل

الا ياعين جودي واسعديني *** فحزني دائم أبكى خليلي

* * *

أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة *** وصاحبها حتى الممات عليلُ

لكلِّ اجتماع من خليلين فرقة *** وكل الذي دون الفراق قليلُ

وانَّ افتقادي فاطماً بعد أحمد *** دليل على أن لايدوم خليلُ (1)

تمّ بعون اللّه تعالى

في 20 جمادي الثاني 1423 هجري

مهدي تاج الدين .

ص: 394


1- . فاطمة الزهراء بهجةُ قلب المصطفى ، ص538 ، عن بحار الأنوار ، ج43 ، ص174 .

الفهرس

المقدّمة :5

المجلس الأوّل

حول أهمّيّة شهر رمضان والإنقطاع فيه إلى اللّه تعالى

فلسفة صيام شهر رمضان9

رمضان شهر التّبتّل والإنقطاع10

فوائد الكفّ عن الطّعام عند الأطبّاء11

الصَّوم وقاية وعلاج من بعض الأمراض13

أهمّيّة الصّوم عند الأنبياء عليهم السلام وسائر الشّرائع14

صيام الإمام زين العابدين عليه السلام 15

المجلس الثاني

خطبة النّبي صلى الله عليه و آله و سلم في مستهلّ شهر رمضان المبارك

بُني الإسلام على الصّوم21

الصّوم وترويض النَّفْس23

الصوم عند الاُمم السّابقة25

أهمّيّة الصّوم عند المسلمين26

ص: 395

أحاديث أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان27

صيام وعبادة السيّد نفيسة27

المجلس الثالث

حول الدّعاء وصلته بالصَّوم

معنى الدعاء32

فلسفة الدعاء33

سبب العجز عن الدعاء35

الدعاء عند العرفاء39

استجابة دعاء الإمام الحسين عليه السلام 40

الحسين وعلي الأكبر عليهما السلام 41

المجلس الرابع

مناسبة هلاك قائد التتار جنگيزخان في الرابع من شهر رمضان المبارك

وخلاص البلاد الاسلامية منهم في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك

جرائم التتار على المسلمين45

موقف الشيخ الطوسي من المغول47

فكر وحركة الشيخ الطوسي في إنقاذ الإسلام49

إنشاء جامعة إسلاميّة كبرى في ظلّ حكومة هولاكو50

ولاء الطوسي لاهل البيت عليهم السلام 53

المجلس الخامس

مناسبة تتويج الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد في الخامس من شهر رمضان

السبب في رفض الإمام الرضا عليه السلام الخلافة56

ص: 396

حوار الإمام الرّضا عليه السلام والمأمون في الخلافة وولاية العهد57

إكراه الإمام الرضا عليه السلام على قبول ولاية العهد58

مراسم البيعة58

كرامات الإمام الرّضا عليه السلام بعد البيعة60

الإمام الرّضا عليه السلام ورفع الأستار62

الإمام عليه السلام يرجوا من اللّه تعالى تعجيل وفاته63

شهادة الإمام الرّضا عليه السلام بالسُّم64

المجلس السادس

اليوم السادس من شهر رمضان مناسبة نزول التوراة على موسى عليه السلام

التوراة كتاب هدىً ونور67

النبي صلى الله عليه و آله يطبّق حكم اللّه على يهوديّ وجيه69

في نزول التوراة وعبادة العجل70

اليهود والمصير الخطير72

اليهود والمسكنة الدائمة73

مصير اليهود المظلم74

بشارة من علي عليه السلام للمسلمين75

عليٌّ والتوراة76

المجلس السابع

ذِكرى وفاة أبي طالب عليه السلام في السابع من شهر رمضان المبارك

الهداية بيد اللّه وحده79

إيمان أبي طالب والضجيج حوله80

بعض الأدلّة على إيمان أبي طالب84

ص: 397

آثار أبي طالب العلميّة والأدبيّة85

الطّريق الثاني لإثبات إيمان أبي طالب : مواقفه86

وصيّة أبي طالب عند وفاته88

الطريق الثالث لإثبات إيمان أبي طالب : أقربائه89

حديث الضحضاح90

كتمان إيمان أبي طالب91

لماذا الإفتراء على أبي طالب ؟92

وفاة أبي طالب عليه السلام 93

المجلس الثامن

مناسبة خروج النبي صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة لفتح مكّة في الثامن من شهر رمضان المبارك

صلح الحديبيّة سبب لفتح مكّة95

أحداث فتح مكّة99

أبو سفيان وعظمة جيش الإسلام102

مفاتيح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه و آله 103

جزاء النبي صلى الله عليه و آله في أهل بيته104

المجلس التاسع

ذكرى مناسبة ولادة النبي يحيى بن زكريّا عليهما السلام في التاسع من شهر رمضان

زكريّا يطلب من اللّه ذرّيّة صالحة108

زكريّا عليه السلام يطلب علامة على البشارة109

بلوغ زكريّا عليه السلام أمله110

هل العزوبة فضيلة ؟111

النبوّة في الطّفولة112

ص: 398

شهادة يحيى بن زكريّا عليهما السلام 113

زكريّا ويحيى والحسين :114

المجلس العاشر

ذكرى وفاة السيّدة خديجة الكبرى سلام اللّه عليها

منزلة خديجة عند اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله 117

العلل الحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنّبي صلى الله عليه و آله 121

هل تزوّجت خديجة بأحد قبل النّبي صلى الله عليه و آله ؟123

زواج النّبي صلى الله عليه و آله بخديجة عليها السلام 125

أوّل امرأة آمنت بالنّبي صلى الله عليه و آله بعد نزول الوحي127

مواقف خديجة عليها السلام في الدّعوة الإسلاميّة128

وفاة خديجة عليها السلام ووصاياها129

المجلس الحادي عشر

منزلة المرأة في الإسلام

لماذا شاع وأد البنات في الجاهليّة ؟133

قصص الوأد135

منزلة المرأة في الإسلام وإعادة اعتبارها138

موانع مساوات المرأة مع الرجل140

جهاد المرأة في الإسلام وقصّة سُودة الهَمْدانيّة141

المبادرة التكتيكيّة للإمام الحسين عليه السلام لزوجين مسكينين145

ص: 399

المجلس الثاني عشر

مناسبة تاريخيّة وهي مؤاخاة النّبي صلى الله عليه و آله و سلم

مع وصيه عليٍّ عليه السلام في الثاني عشر من شهر رمضان

من مآسي الاُمّة عدم المؤاخاة بينهم151

الإسلام والمؤاخاة152

المؤاخاة بين النبي وأميرالمؤمنين عليهما السلام 153

نِعْمَ الأخ المواسي لأخيه154

المجلس الثالث عشر

بمناسبة نزول الإنجيل في الثالث عشر من رمضان

وهلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

عيسى عليه السلام لم يدّعي غير الرّسالة الإلهيّة157

بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا)158

إنتقال قسّيس مسيحي كبير إلى الإسلام159

هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد) ؟162

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي163

رأس الحسين عليه السلام يُطاف به في أزقّة الكوفة166

المجلس الرابع عشر

مناسبة شهادة المختار بن أبي عبيدة الثقفي

في الرابع عشر من شهر رمضان

تنزيه المختار من التّهم169

قصّة قيام المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله 172

في ما فعله المختار بقتلة الحسين عليه السلام 175

ص: 400

هلاك عمر بن سعد عليه اللعنة177

مقتل وهلاك عبيداللّه بن زياد عليه اللعنة179

هلاك حرملة وخبر المنهال مع المختار181

المجلس الخامس عشر

مناسبة ذكر ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام 185

نشأة الإمام الحسن عليه السلام وتربيته186

عبادة الإمام الحسن عليه السلام 188

كرم الإمام الحسن عليه السلام وسخائه190

حلم الامام الحسن عليه السلام 191

شدّة محبّة النّبي صلى الله عليه و آله للحسنين عليهما السلام 194

شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام 196

المجلس السادس عشر

حادثة صلح الامام الحسن عليه السلام مع معاوية

هل الاسلام دين حرب أم صلح ؟200

تصميم الامام الحسن عليه السلام لقتال معاوية201

سبب عدم اختيار الامام الحسن الشهادة كاخيه الحسين عليهما السلام 203

شروط الصلح207

شهادة الامام الحسن عليه السلام وموعظته لجنادة210

ص: 401

المجلس السابع عشر

حول مناسبة واقعة بدر

في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك

كيفيّة إخراج النّبي صلى الله عليه و آله المسلمين للقتال مع ضعفهم وقلّتهم215

تقديم القتال على الصّوم الأوّل للمسلمين217

خروج النّبي صلى الله عليه و آله للقتال219

الإستعداد للقتال221

انتصار المسلمين222

المجلس الثامن عشر

مناسبة حفر الخندق في شهر رمضان وواقعة الأحزاب

معركة الخندق226

برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كُلِّه228

كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ عليه السلام 231

اخت عمرو واُخت الحسين زينب عليها السلام 233

المجلس التاسع عشر

مناسبة جرح الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام والتنصيص على خلافته عليه السلام

الاُسلوب العقلي على خلافة أميرالمؤمنين عليه السلام 235

الاُسلوب الثّاني في الاستدلال هو :237

الاُسلوب الثّالث : التنصيص غير المباشر على إمامة أهل البيت عليهم السلام 237

الاُسلوب الرابع : التنصيص المباشر على إمامة وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام 238

حديث المنزلة240

ص: 402

ملخّص نصّ حديث واقعة الغدير243

قصّة الحارث بن النعمان الفهري ونزول العذاب244

جرح الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام 244

المجلس العشرون

حول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم

متى بدأ البحث في الإمامة ؟251

هل البحث في هذا الموضوع يثير الخلاف ؟252

ما هي الإمامة ؟254

التكامل المعنوي إلى جانب وجود القادة الإلهيين255

الإمام واسطة الفيض الإلهي256

شروط الإمام الخاصّة وصفاته256

مَن المسؤول عن تعيين الإمام ؟259

هل للاُمّة أنْ تختار خليفة رسول اللّه ؟260

اعتراف يهودي على خلافة عليّ عليه السلام بلافصل261

عليّ عليه السلام وليلة عشرين من شهر رمضان262

المجلس الواحد والعشرون

مناسبة شهادة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام

من إنجازات الإمام في ظلّ حكومته العادلة : منح الحرّيّات269

واجهة العدالة الاجتماعيّة في حكومته عليه السلام 271

الشعبة الثالثة ابتكاراته في العدالة الإجتماعيّة274

ضرار بن ضمرة ووصفه عليّاً عليه السلام 275

وصيّة امير المؤمنين عليه السلام 276

ص: 403

المجلس الثاني والعشرون

حول علم امير المؤمنين علي عليه السلام

عليٌّ عليه السلام عنده علم الكتاب282

علم أبي بكر284

سؤال يهودي من أبي بكر286

علم عمر بن الخطاب287

علم أمير المؤمنين عليه السلام 288

كاد يهلك ابن الخطّاب لولا عليٌّ عليه السلام 290

عليٌّ عليه السلام أفضل من جميع الأنبياء إلّاالنبي محمّد صلى الله عليه و آله 291

رجلٌ محبٌّ يموت على قبر عليٍّ عليه السلام 292

المجلس الثالث والعشرون

في فضل ليلة القدر ونزول القرآن الكريم

محتوى سورة القدر295

فضيلة السّورة296

ليلة القدر ونزول القرآن297

ما هي الاُمور التي تُقدَّر في ليلة القدر ؟297

أية ليلة هي ليلة القدر ؟298

لماذا خفيت ليلة القدر ؟299

نزول القرآن الدفعي والتدريجي300

ليلة القدر خير من ألف شهر300

لماذا نزل القرآن في ليلة القدر ؟302

الإمام الحسين عليه السلام وليلة القدر305

ص: 404

المجلس الرابع والعشرون

في أهميّة العشر الأواخر من شهر رمضان

تعمير المساجد بالحضور فيه306

فضل قراءة القرآن وآدابه309

القرآن حرز311

أهمّيّة الدعاء في العشر الأواخر314

فضل الدعاء للمؤمنين316

بني امية وهتكهم حرمة المسجد الحرام317

المجلس الخامس والعشرين

مناسبة ميلاد النبي سليمان بن داود

في الخامس والعشرين من شهر رمضان

ملك النبي سليمان عليه السلام 321

النبي سليمان والهدهد322

هدايا بلقيس إلى سليمان عليه السلام 323

عرش بلقيس عند النبي سليمان عليه السلام 324

سليمان وبناء القدس والمسجد الأقصى325

قصة موت النبي سليمان عليه السلام 326

سليمان يعرّف مقام آصف وأنّه الحجّة بعده328

المجلس السادس والعشرون

حول فلسفة إمتحان وإبتلاء الإنسان

البلاء سنّة الحياة330

ص: 405

لماذا الإختبار الإلهي ؟331

الإختبار الإلهي عام332

ما هو موقف النّاس من الإبتلاء والإمتحان ؟333

قصّة بيضة تقع على وتد فلا تنكسر335

عوامل النجاح في الإمتحان335

الرضا بقضاء اللّه تعالى338

الحسين عليه السلام وبلاء كربلاء340

المجلس السابع والعشرون

مناسبة وفاة العلّامة محمّد باقر المجلسي قدس سره

أثر العلم في الاُمّة343

أثر العقيدة والقانون الصحيح في المجتمع344

قصّة كرامة صاحب العلم345

تكريم الإنسان بالعلم346

جهاد العالم بالعلم347

جهاد العالم بالتزكية348

حكاية من تلميذ العلّامة المجلسي350

حكاية رؤية المجلسي بعد موته351

المجلس الثامن والعشرون

مناسبة وداع شهر رمضان المبارك

وداع شهر رمضان357

مفهوم العيد في الإسلام358

نتائج وثواب صيام شهر رمضان360

ص: 406

تمام الصوم إعطاء زكاة الفطرة :365

الزكاة أخت الصلاة367

المجلس التاسع والعشرون

حول ولادة الامام الحجّة عليه السلام

نسب السيدة نرجس369

قصّة نرجس مع النخّاس370

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب السيدة نرجس من المسيح373

ميلاد الإمام المهدي عليه السلام 376

عقيقة الإمام المهدي عليه السلام والإطعام379

قصة وموضوع السرداب381

المجلس الثلاثون

حول فاطمة الزهراء عليها السلام

مقام الزهراء عليها السلام 385

السرّ في تقبيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يدها388

الزهراء تلتقط شيعتها390

شهادة الزهراء عليها السلام 391

المحتويات395

ص: 407

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.