مقاله فی الاستصحاب

اشارة

مقاله فی الاستصحاب

تأليف : حجّة الإسلام على الإطلاق

العلّامة المحقّق السيّد محمّد باقر الشفتي قدس سره

( 1180 - 1260 ق )

تحقيق: السيّد محمّد الرضا الشفتيّ - الشيخ حسين حلبيان

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

مقدّمة التحقيق

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وآله الطيّبين الطاهرين.

و بعد، فهذه رسالة شريفة في الاستصحاب، تأليف أحد أعلام الطائفة وأعيانها، وهو العلّامة الأصولي والفقيه الربّاني الحاجّ السيّد محمّد باقر بن محمّد نقي الشفتي، المعروف بحجّة الإسلام على الإطلاق، أعلى اللَّه مقامه في دار السلام .

هذه الرسالة مشحونة بالتحقيقات والفوائد الفريدة، ولقد اشتملت على ثلاثة مباحث :

الأوّل : في تعريف الاستصحاب .

والثاني : في أقسامه .

ص: 7

والثالث : في حجّيّته و عدمها .

والظاهر أنّ المؤلّف رحمه الله لم يتمّها .

ذكر المصنّف قدس سره هذه الرسالة في كتابه « مطالع الأنوار » بقوله :

« ... من أراد أن يظفر على حقيقة الحال، فعليه بمطالعة الرسالة الّتي كتبناها في الاستصحاب » (1).

لمحة من حياة المؤلّف قدس سره

هو السيّد محمّد باقر بن السيّد محمّد نقي ( بالنون ) الموسويّ النسب، الشفتي الرشتيّ الجيلانيّ الأصل واللقب، الغرويّ الحائريّ الكاظميّ العلم والأدب، العراقي، الاصفهاني البيدآبادي المنشأ والموطن والمدفن والمآب، الشهير في الآفاق بحجّة الإسلام على الإطلاق، من فحول علماء الإمامية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ومن كبار زعماء الدين وأعلام الطائفة .

و أمّا نسبه الشريف هكذا : محمّد باقر بن محمّد نقي ( بالنون ) بن محمّد زكي بن محمّد تقي ( بالتاء ) بن شاه قاسم بن مير أشرف بن شاه قاسم بن شاه هدايت بن الأمير هاشم بن السلطان السيّد علي قاضي بن السيّد علي بن السيّد محمّد بن السيّد علي بن السيّد محمّد بن السيّد موسى بن السيّد جعفر بن السيّد إسماعيل بن

ص: 8


1- مطالع الأنوار: 1 / 136 .

السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن السيّد أبي القاسم بن السيّد حمزة بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام (1).

ولد على أصحّ الأقوال في سنة 1180 أو 1181 ه (2) في قرية من قرى: « طارم العُليا »، وانتقل إلى شفت و هو ابن سبع سنين (3).

ثمّ هاجر إلى العراق لطلب العلوم الدينيّة والكمالات النفسانيّة في حدود سنة 1197 ه ، أو قريبًا من ذلك، و هو ابن ستّ أو سبع عشرة سنة (4)، فحضر في أوّل أمره على الأستاذ الأكبر الآقا محمّد باقر الوحيد البهبهاني قدس سره في كربلاء (5)، ثمّ على أستاذه العلّامة المير سيّد علي الطباطبائي قدس سره صاحب الرياض، وأجازه الرواية عنه .

ثمّ رحل إلى النجف الأشرف، و أقام فيها سبع سنين، و حضر فيها على العلّامة الطباطبائي بحرالعلوم قدس سره، والشيخ الأكبر صاحب كشف الغطاء رحمه الله، وله الرواية عنه.

ص: 9


1- هكذا ذكره صاحب الترجمة في ديباجة كتابه « مطالع الأنوار : 1 / 1 ».
2- روضات الجنّات : 2 / 102 ؛ تاريخ اصفهان : 97 .
3- بيان المفاخر : 1 / 24 و 25 .
4- روضات الجنّات : 2 / 102 .
5- صرّح بذلك صاحب الترجمة قدس سره في بعض إجازاته، حيث قال : ... عن المولى الساطع ... الّذي فزنا بالاستفادة من جنابه في أوائل التحصيل في علم الأصول، و قرأنا عليه من مصنّفاته ما هو مشهور بالفوائد العتيق ... مولانا آقا محمّد باقر البهبهاني ( كتاب الإجازات : مخطوط ).

ثمّ سافر إلى الكاظميّة فحضر فيها على السيّد المحقّق المُحسن البغداديّ المقدّس الأعرجي رحمه الله قليلًا، فقد قرأ عليه القضاء والشهادات، وأقام عنده مدّة من الزمان، وله الرواية عنه.

و لمّا حلّت سنة 1205 ه و قد تمّ بها على المترجم في العراق ثمان سنين بلغ فيها درجة سامية و مكانة عالية، رجع إلى ديار العجم (1) و ورد اصبهان (2) وسكنها.

ثمّ اتّفق له في سنة 1215 ه الارتحال من اصفهان إلى قم، أيّام زعامة المحقّق القمّي رحمه الله، فحضر مجلسه بما ينيف على ستّة أشهر (3)، وكان يقول : أرى لنفسي الترقّي الكامل في هذه المدّة القليلة بقدر تمام ما حصل لي في مدّة مقامي

ص: 10


1- كما نصّ عليه نفسه قدس سره في حواشي بعض إجازاته، قال : قد حُرِمنا من شرافة مجاورة العتبات العاليات - على مشرفها آلاف التحيّة والصلوات - وانتقلنا منها إلى ديار العجم في سنة خمس ومائتين بعد الألف، وكان مولانا مولى الكلّ آقا محمّد باقر البهبهاني في الحيات، ثمّ انتقل إلى الفردوس الأعلى في سنة ستّ ومائتين بعد الألف قدّس اللَّه تعالى روحه السعيد ( كتاب الإجازات : مخطوط ).
2- قال المترجم له قدس سره في حاشية بعض إجازاته ما هذا كلامه : « انتقل المرحوم المغفور مير عبدالباقي إلى دار الآخرة - قدّس اللَّه تعالى روحه - في أوائل ورودي في اصبهان في سنة سبع و مائتين بعد الألف من الهجرة »؛ (كتاب الإجازات : مخطوط ).
3- قال سيّدنا المترجم رحمه الله في حاشية كتابه «مطالع الأنوار: ج 1» : «اعلم: انّه اتّفق لي في سنة مائتين وخمس عشر بعد الألف الإرتحال من اصبهان إلى بلدة قم، ومكثت فيها أربعة أشهر أو أكثر، وكنت مشتغلًا بكتابة هذا المجلّد من الشرح، إلخ».

بالعتبات العاليات، فكتب له الميرزا قدس سره إجازة مبسوطة مضبوطة كان يغتنم بها من ذلك السفر المبارك (1).

و حجّ بيت اللَّه الحرام في سنة 1231 ه (2) من طريق البحر، و كان ذلك أيّام محمّد علي باشا المصريّ، و كانت له زيارة خاصّة له، فأخذ منه « فدك » وكفّل بها سادات المدينة (3). و كذلك حدّد المطاف على مذهب الشيعة للمسلمين في مكّة المكرّمة (4).

و في سنة 1243 ه (5) أخذ في بناء المسجد الأعظم باصبهان (6)، و أنفق عليه ما يقرب من مائة ألف دينار شرعيّ تقريبًا من أمواله الخالصة، و مال بقبلته إلى يمين

ص: 11


1- أنظر روضات الجنّات : 2 / 100 .
2- صرّح بذلك نفسه قدس سره في مناسكه ( مناسك الحج : مخطوط ).
3- قصص العلماء : 145 ؛ وقد أشار بذلك الميرزا حبيب اللَّه النيّر رحمه الله ضمن مرثيته للمترجم قدس سره بقوله: ميراث أولاد الزهراء استرد لهم من غاصبي فدك في طوفه الحرما ( أنظر معادن الجواهر : 1 / 23 ).
4- تاريخ اصفهان : 97 .
5- صرّح بهذا التاريخ معاصره الأديب الفاضل الميرزا محمّد علي الطباطبائي الزوّاري، المتخلّص بوفا (المتوفّى سنة 1248 ق) في تذكرته الموسومة بالمآثر الباقريّة : ص 232، الّتي جمع فيها بعض من القصائد والمقطّعات الّتي أنشدها الشعراء في مدح حجّة الإسلام قدس سره ووصف مسجده الأعظم .
6- أنشأه في محلّة « بيدآباد » وهي من محلّات أصفهان العظيمة .

قبلة سائر المساجد يسيرًا، و جعل له مدارس و حجرات للطلبة، وأسّس أساسًا لم يعهد مثله من أحد العلماء والمجتهدين .

عاش - قدّس اللَّه نفسه الزكيّة - ثمانين سنة تقريبًا، ثمّ أجاب دعوة الإلهيّة - على أصحّ الأقوال و أشهرها - في عصيرة يوم الأحد، الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1260 ه (1) بعد صلاة الظهر بمرض الاستسقاء، و دفن بعد ثلاثة أيّام من وفاته في البقعة الّتي بناها لنفسه في جانب مسجده الكبير باصبهان، و هي الآن مشهد معروف و مزار متبرّك .

له مؤلّفات كثيرة، و رسائل متعدّدة، كلّها تفصح عن تضلّعه في شتّى العلوم المختلفة خصوصًا الفقه والرجال، و تظهر منها جامعيّته من المعقول والمنقول، و إليك أسماء بعضها :

ص: 12


1- هذا التاريخ مطابق لما كتبه صاحب الروضات رحمه الله في بياضه ( أنظر مقدّمة النهريّة : 20 ) ؛ وكذا مطابق لما كتبه العلّامة الشيخ محمّد جعفر بن محمّد إبراهيم الكرباسي ( المتوفّى سنة 1292 ق ) في ظهر كتابه : منهج الرشاد في شرح إرشاد الأذهان ( فهرس مخطوطات مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي: 6 / 79 الرقم 90). وضبطه كذلك العالم الفاضل الشاعر رضا قليخان هما الشيرازيّ ( المتوفّى 1290 ق )، فقال في تاريخ وفاته: در اول حمل و دويم ربيع دويم زدامگاه جهان شد بسوى دار سلام بلفظ تازى تاريخ رحلتش گفتم چو بشمرى مأتين است و ألف و ستّين عام ( ديوان هما : 104 ).

1 - مطالع الأنوار في شرح شرائع الإسلام

2 - تحفة الأبرار الملتقط من آثار الأئمّة الأطهار

3 - المصباح الشارقة في الصلاة

4 - السؤال والجواب

5 - القضاء والشهادات

6 - مناسك الحجّ

7 - الردّ على رسالة تعيين السلام الثالث في النوافل

8 - إقامة الحدود في زمن الغيبة

9 - رسالة في اشتراط القبض في الوقف

10 - رسالة في أحكام الغُسالة

11 - رسالة في تطهير العجين بتخبيزه و عدمه

12 - رسالة في الأراضي الخراجيّة

13 - رسالة في أحكام الشكّ والسهو في الصلاة

14 - رسالة في طهارة عرق الجنب من الحرام

15 - رسالة في صلاة الجمعة

16 - رسالة في حكم صلح حقّ الرجوع في الطلاق الرجعي

ص: 13

17 - رسالة في حكم الصلاة في جلد الميتة المدبوغ

18 - رسالة في عدم جواز التقليد عن المجتهد الميّت

19 - رسالة في تحديد آية الكرسي

20 - رسالة في زيارة عاشوراء و كيفيّتها

21 - الحاشية على الوافي

22 - الزهرة البارقة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة

23 - رسالة في تقديم اليد على الاستصحاب

24 - الحاشية على تهذيب الوصول

25 - الحاشية على أصول معالم الدين

26 - الرسائل الرجاليّة

27 - الحاشية على رجال الطوسي

28 - رسالة في أصول الدين

29 - سؤال و جواب عن بعض عقائد الشيخيّة

30 - الحلية اللّامعة للبهجة المرضيّة

ص: 14

منهج التحقيق

اعتمدنا في تحقيق هذه المقالة الفخيمة على نسختين خطّيتين :

1 - النسخة الأولى لمكتبة مدرسة الفيضيّة بقم المقدّسة، ضمن المجموعة المرقّمة 1290 ؛ تقع هذه النسخة في 10 ورقة، بخطّ النستعليق ؛ وقد رمزنا لها ب « ف ».

2 - النسخة الثانية للمكتبة المرعشيّة بقم المقدّسة، تحت رقم 8593 ؛ تقع هذه النسخة في 3 ورقة، بخطّ النسخ ؛ وقد رمزنا لها ب « م ».

وكان منهج التحقيق وفق المراحل التالية :

1 - ضبط النصّ وتقويمه وترقيمه .

2 - استخراج الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة .

3 - استخراج الأقوال وكلمات الفقهاء الّتي نقلها المؤلّف من مصادرها الّتي ذكرها إن وجدت، و إلّا فمن مصادر أخرى .

4 - تقطيع النصّ إلى فقرات و مقاطع مع إضافة بعض العناوين المناسبة بين معقوفين [ ].

ص: 15

ونسأل اللَّه تبارك و تعالى أن يوفّقنا لإحياء سائر آثار المؤلّف رحمه الله، جزاء لجزيل خدماته المباركة في إحياء الشريعة المطهّرة .

كما و نسأله - سبحانه - أن يتقبّل كلّ ذلك منّا خالصًا لوجهه الكريم وموجبًا لثوابه الجسيم، انّه هو الجواد الكريم، وأن ينفعنا به يوم حشرنا، انّه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين .

ص: 16

مقالة في الاستصحاب

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم وانّه المعين

نحمدك يا من تنزّه عن استصحاب الحال عظمته، و تفرّد بأصالة البقاء والدوام سلطنته، و نصلّي على حبيبك المتمجّد بأصالة عدم التغيّر شريعته وآله وأصحابه الّذين باستصحابهم يقام طريقته .

و بعد، يقول العبد الملتجئ إلى باب سيّده الغافر ابن محمّد نقي الموسويّ محمّد باقر :

هذه مقالة في الاستصحاب، تحقيق الحال فيه يستدعي التكلّم في مباحث :

ص: 17

ص: 18

البحث الأوّل: في تعريف الاستصحاب

اشارة

الأوّل : في تعريفه، فقد اختلف كلام الأصحاب في تعريفه (1) ؛

التعريف الأوّل: للاستصحاب

فقيل :

إنّه إبقاء حكم ثبت على ما كان (2).

و فيه : انّ الاستصحاب وصف لذلك الشي ء الثابت و لهذا يقال : إنّ هذا الحكم

ص: 19


1- في « م »: فقد اختلف كلماتهم فيه .
2- أنظر أنيس المجتهدين: 1 / 401 ؛ و تجريد الأصول: 84 ؛ وجامعة الأصول: 171 .

كان ثابتًا، فيستصحب إلى أن يثبت (1) الخلاف ؛ والإبقاء من فعل المبقي و وصفه، فكيف يجعل أحدهما حدًّا والآخر محدودًا مع أنّ الحدّ محمول على المحدود و مقتضى الحمل الإتّحاد ؟!

و أيضًا : إذا حكم المجتهد بثبوت الحكم الأوّل في ثاني الحال لدلالة دليله على ثبوته فيها، يصدق عليه أنّه إبقاء حكم (2) ثبت على ما كان، مع أنّه ليس من الاستصحاب في الاصطلاح .

و أيضًا : انّ المبقي للحكم إنّما هو الشارع، لا المجتهد، والافتقار إلى الاستصحاب انّما هو بالنسبة إلى المجتهد، لا إلى الشارع .

وأيضًا : الاستصحاب كما يكون في الحكم يكون في الموضوع، فالحكم بأنّه إبقاء حكم إلى آخره، يوجب خروج الاستصحاب في الموضوع عن الحدّ، مع أنّه من أفراد المحدود .

وأيضًا : يصدق على إبقاء الحكم في الوقت الأوّل على حاله و عدم تغييره فيه كما لايخفى، و على إبقائه في الثاني ولو مع القطع بزواله .

و يمكن الجواب أمّا عن الأوّل : فبأنّا لا نسلّم أنّ الاستصحاب وصف لذلك الشي ء الثابت، لكونه من مصدر الاستفعال، و هو للطلب، و معناه : طلب مصاحبة

ص: 20


1- في « م »: ثبت .
2- في « ف »: حكم ما .

شي ء، فهو لا محالة وصف للطالب، و قولهم : « إنّ هذا الحكم كان ثابتًا فيُستصحَب »، ليس الفعل فيه مبنيًّا للفاعل، بل للمفعول، والمُستصحِب المجتهد، فيصدق عليه بسبب حكمه بمصاحبة الحكم في ثاني الحال أنّه سبق لذلك الحكم، فيصحّ تفسير الاستصحاب بالإبقاء .

وأمّا عن الثاني : فبأنّا لا نسلّم عدم كونه من الاستصحاب ؛ غاية ما في الباب عدم الافتقار إليه لشمول الدليل للحالتين، فلو تمسّك أحد بالاستصحاب فيه أيضًا فلايكون فيه بأس، لكون عمدة أدلّته - و هي النصوص الآتية - شاملة لما نحن فيه أيضًا كما ستقف عليه، فيكون الاستصحاب حينئذٍ دليلًا آخر للحكم، كما إذا تعدّدت الأدلّة لمدلول واحد ؛ والافتقار إنّما هو بالنسبة إلى البعض، و غيره مؤكّد، فليكن ما نحن فيه أيضًا كذلك (1).

لكن يتوجّه عليه : انّ للحكم بثبوت الحكم في الحالة الثانية على هذا التقدير منشئين، أحدهما : شمول الدليل لهما، و ثانيهما : ثبوت الحكم في الحالة الأولى بناءً على الاستصحاب ؛ والانتقاض إنّما هو بالنسبة إلى الأوّل، لصدق التعريف المذكور عليه، مع أنّه لا شبهة في عدم كونه من أفراد الاستصحاب ؛ والجواب المذكور مبنيّ على الثاني كما لايخفى .

و أمّا عن الثالث : فبأنّ المبقي الحقيقيّ وإن كان هو الشارع فيما إذا كان الحكم ثابتًا في نفس الأمر، لكنّ المجتهد لمّا حكم ببقاء الحكم في الحالتين للمكلّفين،

ص: 21


1- كذلك » لم يرد في « ف ».

يمكن إطلاق الإبقاء بالنسبة إليه على أنّه قد يتخلّف (1) حكمه حكم نفس الأمر، فيكون هو المبقي، فتأمّل .

و أمّا عن الرابع : فلأنّ الحكم هنا ليس على معناه الاصطلاحيّ، بل المراد به وصف الشي ء و حالته، فيندرج تحته الاستصحاب في الموضوع أيضًا، إذ في قولك في الخزف : انّه كان أرضًا، فالأصل بقاء الأرضيّة إلى أن علمت المخالفة، استصحبت الأرضيّة، و هي حالة من الأحوال ؛ و كذا غيرها ممّا يكون منسلكًا بهذا المنوال .

و أمّا [ عن ] الخامس : أمّا بالنسبة إلى الأوّل فلكونه خلاف الظاهر، وأمّا بالنسبة إلى الثاني فلأنّ البحث عن الاستصحاب إنّما هو لاستنباط الحكم الشرعيّ ؛ و معلوم أنّ مع العلم بزواله لا يذهب أحد إلى إبقائه، و محض الاحتمال لا التفات إليه .

ص: 22


1- في « ف »: قد يختلف .

التعريف الثاني للاستصحاب

و قيل :

إنّه إثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلًا على ثبوته في الأوّل (1).

و يتوجّه عليه أكثر (2) ما تقدّم، و يجاب بما يجاب .

و يتوجّه على ظاهره أيضًا : انتقاض عكسه بخروج بعض أقسامه، و هو ما يتمسّك به في إثبات اللغات في بعض الموادّ (3)، كما إذا علم وضع اللفظ لمعنى في العرف ولم يعلم حاله في الشرع واللغة، فنحكم (4) بالاتّحاد لأصالة عدم التغيّر

ص: 23


1- زبدة الأصول: 243 .
2- جاء في حاشية « ف » : المراد بالأكثر هو الوجه الأوّل والثالث والرابع والوجه الأخير من وجهي الخامس، فيختصّ الإيراد الثاني بالتعريف الأوّل ... [ هنا كلمة لم تقرأ ]، بل في ثبوت الحكم في ثاني الحال فيما إذا دلّ الدليل على ثبوته في الحالتين، انّما هو على ذلك الدليل، لا على ثبوته في الأوّل وكذا الخامس غير ما ذكر، وهو ظاهر، منه .
3- جاء في حاشية « ف » : انّما قال: في بعض الموادّ، إذ لو علم حال اللفظ في اللغة ولم يعلم في الشرع أو العرف، لم يكن الأمر كذلك، بل هناك إثبات الحكم في الوقت الثاني تعويلًا على ثبوته في الأوّل، منه .
4- في « ف »: فتحكم .

و عدم تعدّد الوضع، فيثبت الحكم الثابت في الزمان الثاني في الأوّل، لا الثابت في الزمان الأوّل في الثاني .

و أيضًا التعويل في الحكم بثبوت الحكم في الزمن الثاني إنّما هو على النصوص الآتية، لا على ثبوته في الأوّل .

والجواب عن الأوّل : بأنّ ظاهره وإن أوهم ذلك، لكنّه ليس استصحابًا للوضع الثابت في العرف في زمان تقرير اللغة، بل للعدم السابق على تقرير اللغة إلى زمانه وكذا بعده .

توضيحه هو : انّ وضع الألفاظ للمعاني أمر حادث، و كذا نقل اللفظ من معنى إلى آخر، وكلّ حادث مسبوق الوجود بالعدم، فعدم كلّ حادث سابق على وجوده، فالعدم السابق إنّما يمكن رفع اليد إليه عنه (1) فيما إذا علم انتقاضه بالوجود، فنقول : عدم وضع اللفظ لمعنى كان معلومًا، وإنّما علم انتقاض هذا العلم فيما نحن فيه بالنسبة إلى المعنى العرفيّ، و أمّا غيره فلا، كما هو المفروض .

فلو حكم بكون المعنى اللغويّ مغايرًا للعرفيّ يلزم رفع اليد عن العدم المعلوم من غير أن يعلم انتقاضه، و هو غير مجوّز، فيستصحب العدم السابق على تقرير اللغة إلى زمانها ؛ و كذا فيما بعده، فيحكم بعدم ثبوت الوضع للمعنى المغاير في زمان تقرير اللغة، و كذا بعده تعويلًا على ثبوته في الزمان السابق عليه .

ص: 24


1- في « ف »: منه .

و كذا الكلام بالنسبة إلى عدم التغيّر و عدم تعدّد الوضع، فالاستصحاب إنّما هو بالنسبة إلى العدم السابق على اللغة إلى زمانها مثلًا، و سيجي ء ما له ربط بالمقام.

و عن الثاني : بأنّ مدلول النصوص الدالّة على حجّيّة الاستصحاب جواز التعويل على الحكم السابق، فالاستصحاب : إثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلًا على ثبوته في الزمن الأوّل، والتعويل عليه في ذلك بتلك النصوص .

التعريف الثالث للاستصحاب

و قيل :

إنّه عبارة عن الحكم باستمرار أمر كان يقينيّ الحصول في وقت [ أو حال و مشكوك البقاء بعد ذلك الوقت أو الحال ] (1).

وقد اشتمل هذا التعريف على لفظي : اليقين والشكّ، ففيه باعتبارهما مؤاخذة، أمّا بالنسبة إلى الأوّل فلأنّ الاستصحاب كما يكون في الأحكام الثابتة من الأدلّة القطعيّة - كالإجماع المحقّق والعقل القاطع و غيرهما - كذا يكون في الأحكام الثابتة من الأدلّة الظنّيّة، بل الأوّل بالنسبة إلى الثاني قليل جدًّا، فالقول بأنّه الحكم

ص: 25


1- الرسائل الأصوليّة للوحيد البهبهاني قدس سره: 423 ؛ ومفاتيح الأصول: 634 ، نقلًا عن الوحيد .

باستمرار أمر كان يقينيّ الحصول، يوجب خروج الاستصحاب في الأحكام الظنّيّة الحصول (1).

و أمّا بالنسبة إلى الثاني فلأنّه سيجي ء انّ الاستصحاب كما يكون في الزمان الّذي يكون ثبوت الحكم الثابت فيه مشكوكًا، كذا يكون في الزمان الّذي يكون ثبوته فيه مظنونًا و في الّذي يكون ثبوته فيه موهومًا، فتخصيصه بالأوّل يوجب خروج القسمين الأخيرين عن حدّه (2).

ويمكن الجواب عن الأوّل : بأنّ كون الحكم مظنونًا، لا ينافي قطعيّة حصوله، إمّا بأن يكون المراد أنّ الظنّ بذلك الشي ء قطعيّ الحصول، أو يكون المراد قطعيّ العمل به .

وعن الثاني : بأنّ المراد من الشكّ ما قابل القطع، فيشمل الأقسام الثلاثة بأسرها، فتأمّل .

ص: 26


1- في « م »: الظنّيّ الحصول .
2- في « ف »: من حدّه .

التعريف الرابع للاستصحاب

و قيل :

إنّه الحكم ببقاء الشي ء على ما كان حتّى يثبت خلافه (1).

و كفاك ما قدّمناك من التكلّم في التعاريف الثلاثة عن التكلّم فيه، بل التكلّم في التعريفين الأوّلين عن التكلّم في الثالث زيادة على ما مرّ .

مختار المؤلّف في تعريف الاستصحاب

فأنت إذا أحطت خبرًا بما ذكرناه يظهر لك إمكان الحكم بصحّة الحدود المذكورة بأسرها، لكن أحسنها : ثانيها، لكن بعد تبديل الحكم فيه بالأمر و نحوه

ص: 27


1- أنظر الرسائل الفقهيّة للوحيد قدس سره: 233 ؛ وفيها: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتّى يثبت خلافه. وقريب من هذا التعريف ما ورد في «كشف الغطاء: 1 / 200 » من انّه الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله.

بأن يقال : إنّه إثبات أمر في الزمان الثاني تعويلًا على ثبوته في الأوّل ؛ يظهر الوجه بعد التأمّل .

و إن شئت قلت : إنّه الحكم ببقاء الشي ء المشكوك البقاء في زمان لثبوته في الزمن السابق عليه .

و بعبارة أخرى : الحكم ببقاء الشي ء الثابت في زمان لم يعلم بقائه فيه ولا عدمه فيه .

ص: 28

البحث الثاني: في أقسام الاستصحاب

اشارة

والبحث الثاني : في أقسامه، فاعلم : انّ الاستصحاب ينقسم إلى حال العقل، واستصحاب حال الشرع، لأنّ ذلك الشي ء الثابت المستصحب إمّا أن يعلم ثبوته من العقل، أو من الشرع ؛ والحكم ببقاء الأوّل يسمّى بالأوّل، و ببقاء الثاني بالثاني.

و على التقديرين إمّا أن يكون المحكوم ببقائه عدم الشي ء أو وجوده .

و على التقادير إمّا أن يكون ذلك الشي ء حكمًا شرعيًّا، أو موضوعه و متعلّقه، فالأقسام ثمانية :

ص: 29

القول في أقسام الاستصحاب و انّها ثمانية

الأوّل : أن يكون الاستصحاب في العدم الّذي هو حال العقل و متعلّق الحكم الشرعيّ، مثل : أصالة عدم تعدّد الوضع في اللفظ، لما عرفت من أنّ وضع الألفاظ حادث، والعقل قاض بمسبوقيّة الحوادث بالعدم ؛ و أصالة عدم النقل فيما إذا علم وضع اللفظ في العرف، لا اللغة ؛ و أصالة عدم المخصّص والمقيّد للعامّ والمطلق، لكون اقترانهما بهما و ذكرهما أمرًا حادثًا ؛ و كذا عدم المعارض للدليل ؛ و عدم الجارح والمذكّي للراوي، و أشباهها .

والمراد بمتعلّق الحكم : الأمر الخارج عنه الّذي له مدخل في ثبوته، والأمور المذكورة كذلك كما لايخفى .

والثاني: مثل الأوّل إلّا انّ المستصحب هو الحكم، كما إذا شكّ في حرمة شي ء فيقال: الأصل عدمه، لقضاء العقل بعدمها قبل البلوغ، فيستصحب ؛ وكذا الوجوب و غيرهما .

والثالث : أن يكون الاستصحاب في العدم المعلوم من الشرع، و هو متعلّق الحكم، كأصالة عدم التذكية، لكون الحيوان في حال الحياة غير مذكّ شرعًا ؛ وعدم دخول الوقت ؛ وعدم انقضاء الحول ؛ و عدم انتقال المال من المالك ؛ و عدم زوال التغيّر ؛ و أمثالها .

ص: 30

والرابع : مثل الثالث إلّا انّ المستصحب نفس الحكم ؛ كأصالة عدم جواز الصلاة والإفطار فيما شكّ في دخول الوقت والليل ؛ و عدم جواز العقد على الزوجة فيما شكّ في انقضاء العدّة ؛ و عدم زوال النجاسة ؛ و عدم جواز الاشتغال بالنوافل فيما إذا شكّ في براءة الذمّة عن الفريضة ؛ و غير ذلك .

والخامس : أن يكون الاستصحاب في الوجود المعلوم من العقل، و هو متعلّق الحكم ؛ كأصالة بقاء المعنى اللغويّ والشرعيّ على ما كان، فيما علم كلّ منهما بالعلائم المقرّرة لذلك، لا بالاستماع من الواضع، مع احتمال العموم، كما ستقف على وجهه ؛ وأصالة بقاء الحياة فيما شكّ أنّ الملاقاة بالرطوبة كانت بعد زواله، أم لا، فتأمّل ؛ و نحو ذلك .

والسادس : مثل الخامس إلّا انّ المستصحب نفس الحكم الشرعيّ ؛ كالأحكام الثابتة من العقل إذا شكّ في ثبوتها لما يوجب ذلك .

والسابع : أن يكون الاستصحاب في الوجود المعلوم من الشرع، و هو متعلّق الحكم ؛ كأصالة بقاء وقت الصلاة ؛ و غيرها من الأمور الموقّتة ؛ و أصالة بقاء النصاب ؛ و بقاء القلّة أو الكثرة في الماء ؛ و بقاء التغيّر ؛ و نحو ذلك .

والثامن : أن يكون الاستصحاب في الوجود المعلوم من الشرع، وهو نفس الحكم ؛ كأصالة جواز الأكل فيما شكّ في الانفجار ؛ و وجوب إتيان الموقّتة فيما شكّ في خروج أوقاتها ؛ و بقاء النجاسة فيما

ص: 31

شكّ في زوالها، و (1) بقاء الطهارة في كلّ ما شكّ في نجاسته، و منه الجلد المشتبه بين كونه من المذكّى و غيره ؛ وأشباهها، فإنّه أكثر من أن يحصى .

ثمّ الاستصحاب - كما مرّ - هو الحكم ببقاء الثابت، فحصره في القسمين إنّما يصحّ إذا انحصر طريق العلم بالثبوت بالعقل و (2) الشرع، أو لم يكن الحكم ببقاء الثابت من غيرهما استصحابًا، و كلاهما غير صحيح .

أمّا الأوّل : فلأنّه كما يعلم الثبوت بهما، كذا يعلم بالحواسّ ؛ كما إذا احسّ تغيّر أحد أوصاف الماء المعهودة بالنجاسة، فإنّ الشارع حكم بالنجاسة عند تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، و تحقّق التغيّر إنّما يعلم بالحواسّ ؛ فإذا شكّ في زوال التغيّر بسبب ممازجته بما يساويه في الصفة نقول بأنّ هناك حينئذٍ استصحابين : استصحاب النجاسة - و هو استصحاب الحال المعلومة من الشرع واستصحاب التغيّر - واستصحاب الحالة المعلومة من الحسّ - و هو استصحاب في متعلّق الحكم .

وكذا الحكم ببقاء النصاب، فإنّ تحديده إنّما يعلم من الشرع ؛ وأمّا تحقّقه في خصوص هذا الموضع، فإنّما يعلم بالحسّ، فاستصحابه عند الشكّ في بقائه استصحاب حال الحسّ ؛ وكذا استصحاب رطوبة الثوب مثلًا، و هكذا الحال في كلّ ما يكون على هذا المنوال ؛ و منه ما إذا سمع من الواضع أنّه وضع اللفظ لمعنى

ص: 32


1- في « ف »: أو .
2- في « ف »: أو .

معيّن، ثمّ شكّ في نقله عنه .

و أمّا الثاني : فلأنّ مقتضى النصوص الآتية العموم .

والجواب أمّا على القول بأنّ الحواسّ ليست مدركة، بل المدرك في الأشياء بأسرها العقل وإنّما هي آلته في الجزئيّات، فظاهر ؛ إذ الاستصحاب حينئذٍ استصحاب للحالة العقليّة، فيندرج تحته .

وأمّا على القول بأنّها مدركة، فلأنّ الأمور المحسوسة معلومة للعقل أيضًا، لكن بالواسطة، فيكون الأمور المعلومة بالحواسّ معلومة للعقل أيضًا، فيندرج تحته، فتأمّل.

ثمّ لايخفى عليك أنّه ليس المراد من الحالة العقليّة ما يقابل الشرعيّة (1)، أي : ما لم يعلم ثبوته من الشرع، بل ما علم من العقل، سواء عاضده الشرع، أم لا .

وكذا المراد من الحكم الشرعيّ أعمّ من الطلبيّ والوضعيّ، فقد يجتمع كثير من الأقسام المذكورة في مورد واحد باعتبارات مختلفة ؛ مثلًا إذا علم تغيّر الماء ثمّ شكّ في زواله لما تقدّم أو لغيره، فهناك يتحقّق استصحاب حال العقل في متعلّق

ص: 33


1- جاء في حاشية « ف » : إذ لو كان المراد من العقليّة ذلك، لا وجه للتقسيم على النحو المذكور، بل اللازم أن يقال: انّ الاستصحاب ينقسم إلى استصحاب حال العقل وحال الشرع، و على التقديرين إمّا أن يكون المستصحب وجود الشي ء أو عدمه، وعلى تقدير استصحاب حال العقل إمّا أن يكون الاستصحاب في متعلّق حكم العقل، أو في حكم العقل نفسه، وهكذا بالنسبة إلى حال الشرع، فتأمّل، منه.

الحكم وجوديًّا و عدميًّا بأن يقال : إنّ الأصل بقاء التغيّر، أو عدم زواله .

وكذا حال الشرع إذا فرض إخبار الشارع بتحقّق التغيّر ؛ و كذا استصحاب حال الشرع في الحكم طلبيًّا أو وضعيًّا بأن يقال : إنّ مقتضى الأصل حرمة استعماله، أو وجوب الاجتناب عنه، أو بقاء نجاسته .

ثمّ على تقدير أن يكون المراد من الحالة العقليّة ما ذكر، هل النسبة بينها و بين الحالة الشرعيّة العموم من وجه، بأن يكون المراد من الحالة العقليّة ما علم ثبوته من العقل، سواء عاضده الشرع، أم لا ؛ و من الشرعيّة ما علم ثبوته من الشرع، سواء تمكّن العقل من دركه، أم لا ؟

الظاهر ذلك، لكن لا بمعنى أن يكون عموم العقليّة بالنسبة إلى ما لم يكن وظيفة الشرع بيانه - كالأحكام العقليّة الصرفة - لخفاء فرض اندراجه مورد الاستصحاب، كما يظهر للمتأمّل .

ولاستلزامه اختلال القسمة على النحو المذكور ولو في بعض الموارد حينئذٍ لايلزم أن يكون استصحاب الحالة العقليّة منحصرًا في الحكم الشرعيّ و متعلّقه، بل بمعنى أن يكون عمومها بالنسبة إلى ما لم يعلم من الشرع ثبوته وإن كان من وظيفته، فعلى هذا يكون الحكم الشرعيّ في القسمة أعمّ ممّا أخذ من الشرع و ممّا يكون من شأنه ذلك، فتأمّل .

ص: 34

القول في الفرق بين أصالة العدم وأصالة البراءة

و ممّا ينبغي التنبيه عليه هو : انّ استصحاب العدم والنفي هل يكون متّحدًا مع أصالة البراءة، أم لا ؟

والظاهر من المحقّق والشهيد الثاني - قدّس اللَّه روحهما - الأوّل، حيث قال الأوّل بعد أن ذكر استصحاب النفي في الحكم الشرعيّ :

و هو التمسّك بالبراءة الأصليّة (1).

و قال الثاني بعده أيضًا :

و هو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة (2).

والتحقيق : أنّ أصالة البراءة لها معنيان :

الأوّل : أن يلاحظ فيه براءة الذمّة السابقة، و هي متّحدة مع استصحاب النفي في الحال مع ظهور الفرق بينهما من حيث انّ المستصحب في الأوّل العدم، و في الثاني في الوجود .

ص: 35


1- أنظر المعتبر: 1 / 31 .
2- تمهيد القواعد الأصوليّة والعربيّة: 271 .

والثاني : أن يراد منه انتفاء الحكم في الحال لانتفاء الدليل على ثبوته مع قطع النظر عن ملاحظة السابق، لدلالة العقل والشرع على انتفاء التكليف عند عدم البرهان، و عدم العتاب عند انتفاء البيان .

و بالجملة : انّ الأوّل من أقسام الاستصحاب، فلا يقول به مَن لم يقل بحجّيّته، بخلاف الثاني، بل الظاهر أنّه اتّفاقيّ عند المجتهدين .

و يدلّ عليه - مضافًا إلى ما ذكر - قوله تعالى : « و ما كنّا معذبّين حتّى نبعث رسولًا » (1)، و قوله تعالى : « و ما كان اللَّه ليضلّ قومًا بعد إذ هديهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون » (2)، و قوله تعالى : « ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة » (3)، و غير ما ذكر (4) من الآيات المتكثّرة .

و ما روي عن التهذيب : أيّما امرء ركب والجهالة فليس عليه شي ء (5).

و عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام (6) : هل جعل في الناس أداة ينالون بها

ص: 36


1- الإسراء: 15 .
2- سورة التوبة: 115 .
3- الأنفال: 42 .
4- في « ف »: وغيرها .
5- لم نجده بهذه العبارة، بل فيه: « أيّ رجل ركب أمرًا بجهالة فلا شي ء عليه » ؛ تهذيب الأحكام: 5 / 73 ح 47 .
6- في المصدر: عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أصلحك اللَّه، إلخ .

المعرفة ؟ قال : فقال : لا . فقلت : هل (1) كلّفوا على (2) المعرفة ؟ فقال: لا على اللَّه البيان « لا يكلّف اللَّه نفسًا إلّا وسعها » (3)، «ولا يكلّف اللَّه نفسًا إلّا ما آتاها » (4). [ قال: ] (5) و سألته عن قوله تعالى : « و ما كان اللَّه ليضلّ قومًا بعد إذ هديهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون » (6)، قال : حتّى يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه (7).

و عنه أيضًا قال : سألت أبا عبداللَّه عليه السلام : من لم يعرف شيئًا هل عليه شي ء ؟ قال : لا (8).

و عنهم عليهم السلام : الناس في سعة ما لا يعلمون (9). و ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (10).

ص: 37


1- في المصدر: « قلت: فهل ».
2- على » لم يرد في المصدر .
3- البقرة: 286 .
4- الطلاق: 7 .
5- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
6- التوبة: 115 .
7- الكافي: 1 / 163 ح 5 باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .
8- )8( الكافي: 1 / 164 ح 2 باب حجج اللَّه على خلقه .
9- )9( الكافي: 6 / 297 ح 2 باب نوادر ؛ والمحاسن: 2 / 452 ح 365 ؛ وفيهما: هم في سعة حتّى يعلموا.
10- )01( الكافي : 1 / 164 ح 3 باب حجج اللَّه على خلقه .

و في الخبر المشتهر عن النبيّ صلى الله عليه وآله: رفع عن أمّتي ما لا يعلمون (1).

و غير ما ذكر من الأخبار .

ص: 38


1- التوحيد للشيخ الصدوق قدس سره: 353 ؛ والخصال: 417 ح 9 ؛ وفيهما: رفع عن أمّتي تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون، إلخ .

البحث الثالث: في حجّيّة الاستصحاب و عدمها

اشارة

و قد كثر التشاجر بين العلماء في هذا المرام إلى أن تحقّق بينهم ثمانية أقوال، الأوّل - و لعلّه المشهور - : الحجيّة في جميع الأقسام المذكورة، و هو المختار.

القول في النصوص الدالّة على حجّيّة الاستصحاب

والمستند فيه وجوه :

الوجه الأوّل

الأوّل : النصوص المتكثّرة الواردة عن العترة الطاهرة - عليهم آلاف السلام والتحيّة .

ص: 39

الرواية الأولى

منها : الصحيح المرويّ في أوائل كتاب الطهارة من التهذيب عن زرارة قال: قلت له : الرجل ينام و هو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء .

قلنا (1) : فإن حرّك إلى جنبه شي ء ولم يعلم به ؟ قال: لا حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجي ء من ذلك أمر بيّن، و إلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدًا (2)، ولكن ينقضه بيقين آخر (3).

أقول : الخفقة - بالخاء المعجمة والفاء والقاف، كضربة - : حركة الرأس بسبب النعاس (4).

وجه الاستدلال : انّا نرتّب قياسًا (5) على هيئة الشكل الأوّل في كلّ مورد من

ص: 40


1- في المصدر: قلت .
2- في المصدر: أبدًا بالشكّ .
3- تهذيب الأحكام: 1 / 8 ح 11 باب الأحداث الموجبة للطهارة .
4- أنظر لسان العرب: 10 / 80 .
5- في « ف »: القياس .

موارد الاستصحاب، فنقول : هذا الأمر كان يقينًا (1)، و كلّما كان كذلك لايجوز انتقاضه بالشكّ، فهذا لايجوز .

أمّا الصغرى فلأنّ الكلام على تقديره، و أمّا الكبرى فلعموم قوله عليه السلام: « لاينقض اليقين بالشكّ أبدًا ».

والمناقشة عليه من وجوه (2) :

الأوّل : انّ استفادة العموم من الحديث مبنيّ على كون المفرد المحلّى باللام للعموم، و هو ممنوع .

و على تقدير التسليم نقول : إنّ استفادته منه و من أمثاله إنّما هو عند انتفاء العهديّة، و هنا ليس كذلك، لما قرّره النحاة من أنّ النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأوّل (3)، كما في قوله تعالى: « مصباحٌ المصباحُ في زجاجة الزجاجة » الآية (4)، و قوله تعالى : « كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا * فعصى فرعون الرسول » (5)، و مقتضى ذلك كون اليقين فيما نحن فيه إشارة إلى اليقين في الوضوء .

ص: 41


1- كذا في النسختين، والصواب ظاهرًا : يقينيًّا .
2- إلى هنا انتهى ما في نسخة « م » .
3- أنظر مغني اللبيب: 2 / 656 .
4- النور: 35 .
5- المزّمل : 15 و 16 .

و على تقدير التسليم نقول : غاية ما يلزم من ذلك أن يكون قوله عليه السلام: « لاتنقض الشكّ (1) بالشكّ »، بمنزلة قوله : لا تنقض كلّ اليقين بالشكّ ؛ ومفهومه: رفع الإيجاب، و هو كما يكون في ضمن السلب الكلّي كذا يكون في ضمن السلب الجزئي، فيجتمع مع الإيجاب الجزئي كما في قولنا : كلّ أهل بلد ليس بعالم ؛ والاستدلال إنّما يتمّ على الأوّل كما لايخفى .

و يحتمل أن يكون الحديث من قبيل الثاني، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

والجواب أمّا عن حديث استفادة العموم من المفرد المحلّى باللام، فهو انّ حمل المفرد على العموم في أمثال المقام ممّا لا محيص عنه، أمّا على القول بكونه موضوعًا لذلك (2)، فظاهر ؛ و أمّا على العدم (3) فللقطع بعدم إرادة الماهيّة من حيث هي، بل من حيث تحقّقها في ضمن الفرد .

فحينئذٍ إمّا يحمل على العموم، أو على البعض المعيّن، أو غيره، لا سبيل إلى الأخيرين، أمّا الأخيرين فلمنافاته الحكمة والإغراء بالجهل ؛ وأمّا على الأوّل فلانتفاء المخصّص على تقديره، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب .

و أيضًا : الظاهر أنّ اللام حقيقة في الجنس، فيختلف حكم المفرد المحلّى بها

ص: 42


1- كذا في المخطوطة، والصواب: اليقين .
2- جاء في حاشية « ف » : كما ذهب إليه الشيخ وابن إدريس، منه .
3- جاء في حاشية « ف » : وهو الأقوم .

فيما إذا كان المطلوب إيجاده و عدمه، إذ على الأوّل يكفي في صدق الامتثال إيجاده في ضمن فرد من أفراده كما لايخفى ؛ و على الثاني لايتحقّق الامتثال إلّا بتركه في ضمن جميع الأفراد، فيلزمه العموم، و لهذا يقال : إنّ النهي يفيد التكرار والدوام، بخلاف الأمر ؛ و ما نحن فيه من هذا القبيل .

و أمّا عن حكاية إعادة النكرة معرفة، فهو انّه حكم أغلبيّ لا لزوميّ ؛ و بالجملة فيما لم يترجّح خلافه بمرجّح، والمرجّح لانتفاء العهديّة فيما نحن فيه موجود .

بيانه هو : انّ اليقين في الحديث لو كان إشارة إلى اليقين في الوضوء خاصّة، لكان مفهومه : عدم جواز نقض اليقين الوضوئيّ بالشكّ ؛ و هذا المعنى كان مفهومًا من قوله عليه السلام: « فإنّه على يقين من وضوئه »، بناءً على أنّه بمنزلة التعليل للحكم المذكور، فيعمّ جميع موارده، فلا حاجة لإفادة هذا الحكم إلى قوله : « لا ينقض » إلى آخره .

بخلاف ما إذا كان المراد منه مطلق اليقين، فإنّ المفهوم منه حينئذٍ فائدة جديدة جليلة ؛ و حمل كلام الحكيم على أكثر فائدة أولى، والتأكيد مرجوح بالنسبة إلى التأسيس .

و بالجملة : لو كان المراد خصوص عدم جواز نقض الوضوء، لكان المناسب أن يقال: فإنّه على يقين من وضوء، إذ هو مع إفادته هذا المعنى مناسبة له لايوهم خلاف المقصود، بل المقصود من قوله عليه السلام : « و إلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولاينقض اليقين بالشكّ أبدًا »، إفادة حكم كلّي شامل للمدّعى و غيره بقياس على

ص: 43

هيئة الشكل الأوّل، فيكون قوله : « ولا تنقض » إلى آخره بمنزلة : وكلّ يقين لاتنقض بالشكّ، كما لايخفى على من له أنس بأساليب الكلام .

و صرف الكلّية إلى كلّ يقين في الوضوء مع مخالفته للظاهر، قد عرفت حاله .

و أيضًا : انّ لفظ : « الشكّ » فيه نظيرٌ للفظ : « اليقين »، فلو كان الثاني إشارة إلى خصوص اليقين السابق، يكون الأوّل - أي الشكّ - إشارة إلى الشكّ السابق، وهو الشكّ الّذي يوجبه النوم ؛ و لمّا لم يمكن منه إرادة هذا المعنى لمخالفته للواقع ولمناسبة أن يقال في الاستدراك : ولكن ينقضه بيقين آخر أو شكّ آخر، كذلك يظهر منه عدم كون المراد من اليقين اليقين السابق فقط، فيكون شاملًا له ولغيره ؛ أي : يكون شاملًا للوضوء و غيره، و هو المطلوب، فتأمّل .

وأمّا حكاية رفع الإيجاب الكلّي، فنقول بعد تسليم الاستغراق : لا وقع لهذا الكلام، لظهوره في الأفراد، فعلى هذا يكون المدلول : لا ينقض شيئًا من اليقين و فردًا من أفراده بالشكّ، لا سيّما مع التأكيد بالتأبيد .

و أيضًا : لو كان المراد من رفع الكلّي فيما نحن فيه ما يتحقّق في ضمن السلب الجزئيّ (1)، يكون « لاينقض اليقين بالشكّ » في قوّة : لا ينقض بعض اليقين به ؛ وهو مع استلزامه الإغراء بالجهل فيما إذا كان المراد من البعض : أعمّ من يقين الوضوء و غيره، و خلوّ الكلام عن الفائدة إذا كان المراد الأوّل كما تقدّم، يفسده

ص: 44


1- كذا ظاهرًا .

الاستدراك المذكور، أي : اللازم حينئذٍ أن يقال : ولكن ينقضه بيقين آخر و شكّ ؛ إذ حينئذٍ كما يكون اليقين ناقضًا لليقين، يكون الشكّ ناقضًا لبعض أقسامه أيضًا، فعدم ذكر الشكّ في الاستدراك قرينة على أنّ المراد من السلب هو السلب الكلّي، لا سلب الكلّ .

و أيضًا : انّ الحكم في قوله عليه السلام : « ولكن ينقضه بيقين آخر » كلّيّ متحقّق في الأفراد بأسرها كما لايخفى، فيلزم أن يكون في : « لاينقض اليقين بالشكّ » أيضًا، لكونه استدراكًا منه، ولكون الضمير في الاستدراك: « ولكن ينقضه » عائدًا إلى اليقين في : « لاينقض اليقين » ؛ و إرادة العموم من الراجع يستلزم إرادة العموم من المرجع، إذ المخالفة مخالفة الظاهر .

الوجه الثاني

والوجه الثاني هو : انّك قد عرفت أنّ الاستصحاب عبارةٌ عن الحكم ببقاء الشي ء، سواء كان بقائه مشكوكًا أو مظنونًا أو موهومًا، و قوله عليه السلام: « لاتنقض اليقين بالشكّ » يدلّ على الحكم بثبوت الحكم فيما إذا كان مشكوكًا فيه .

و كذا الحال فيما إذا كان مظنونًا، بناءً على أنّ عدم جواز [ نقض ] (1) اليقين

ص: 45


1- ما بين المعقوفين أثبتناه لاستقامة المعنى .

بالشكّ يدلّ على عدم جواز نقضه بالوهم بطريق أولى، لكن يبقى الحال فيما لو كان موهومًا، لعدم ثبوته لا من المنطوق ولا من المفهوم.

والجواب : انّه مبنيّ على أنّ المراد من الشكّ في الحديث معناه المصطلح، وهو: تساوي الاحتمالين المتقابلين و تردّد الذهن بينهما من [ دون ] ترجيح، وهو ممنوع، لكنّه اصطلاحًا خاصًّا (1)، فلا يجوز أن يكون محلًّا للألفاظ الواردة في الكتاب والأخبار .

و على فرض تسليم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه أو شيوعه في المعنى المعروف نقول: إنّ ذلك إنّما هو إذا لم يكن مدخولًا للنفي، أو مقابلًا لليقين ؛ وأمّا إذا كان كذلك - كما في قولنا : هذا الشي ء ثابت بلا شكّ، أو من غير شكّ، و نحوهما - فلا، بل المراد منه حينئذٍ ما قابل اليقين (2)، فيشمل الظنّ والوهم أيضًا ؛ و هو مسلّم ولو في محاورات المتشرّعين كما لا يخفى .

و ما نحن فيه من القبيل الثاني، فلا يكون الشكّ فيه محمولًا على المعنى المصطلح، بل على المعنى المذكور، فعلى هذا يكون مقتضى قوله عليه السلام: « لاتنقض

ص: 46


1- كذا في المخطوطة، والصواب: إصطلاح خاصّ .
2- جاء في حاشية « ف »: فعلى هذا معنى قولنا هنا كذلك من غير شكّ : من غير أن يظنّ انّه كذلك، أو يشكّ، أو يوهم فيه، بل كونه كذلك مقطوع به، أو من غير أن يظنّ انّه على خلافه، أو يشكّ فيه، أو يوهم، والأوّل أظهر؛ وبالجملة: ... [ هنا كلمة لم تقرأ ] قولنا هذا ثابت بلا شكّ إلى قولنا بلا تأمّل فيه، منه .

اليقين بالشكّ » عدم نقض اليقين بغير اليقين، فيدلّ على عدم نقض (1) بالظنّ أيضًا، و هو المدّعى .

مضافًا إلى قوله [ عليه السلام ] : « ولكن ينقضه بيقين آخر » ؛ و هو قرينة أخرى على ما ذكر، إذ لو لم يكن المراد من الشكّ المعنى المذكور، يكون الظنّ أيضًا ناقضًا، فيلزم أن يقال : ولكن ينقضه بيقين آخر أو ظنّ .

مضافًا إلى شهادة السياق عليه، فلاحظ حتّى يظهر لك وجهه .

الوجه الثالث

اشارة

والوجه الثالث : انّك عرفت ممّا أسلفناه عدم اختصاص [ الاستصحاب ]بالأشياء المتيقّن الثبوت، لجريانه ولو فيما ثبت من الأدلّة الظنّيّة، بل هو أغلب ؛ والقدر الثابت من قوله عليه السلام : « لاتنقض اليقين بالشكّ » هو الأوّل، فلا يتمّ التقريب .

والجواب : قد عرفت ممّا سلف أنّ مدلوله عدم جواز نقض شي ء من اليقين بغيره، والأحكام الظنّيّة جواز العمل بها - بل وجوبها - قطعيٌّ قبل طريان الشكّ، فيستصحب بعده بأن يقال : إنّ جواز العمل - بل وجوبه - بذلك الشي ء متيقّن، وكلّ متيقّن لايجوز نقضه بغيره، فيتمّ الاستدلال .

ص: 47


1- كذا في المخطوطة، والصواب: نقضه .

على أنّه يمكن دعوى الإجماع المركّب، لأنّا لم نجد مع شدّة اختلافهم في المسألة تأمّلهم من الجهة المذكورة .

و من هنا ظهر الجواب عمّا لو أورد : انّ مورد الصحيح في الحكم الوضعيّ الثبوتيّ، لوضوح أنّ مدلوله الحكم ببقاء الطهارة عند الشكّ، فكيف يتمسكّ به في حجّية الأقسام بأقسامه المذكورة بأسرها ؟

و ذلك لأنّ التعويل في الاستدلال إنّما هو على قوله عليه السلام : « لاتنقض اليقين بالشكّ » بالتقريب المتقدّم، لا على مورده، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المحلّ.

هذا مع أنّ ما سنذكره من النصوص الأخر ناطقةٌ بصحّة ما أوردناه من الأجوبة المذكورة، كما ستقف عليه إن شاء اللَّه تعالى .

ص: 48

إيراد كلام لدفع إيهام

اشارة

اعلم : انّ اقتران شي ء بالقيود المتبائنة يستدعي أن يكون كلّ واحد من المقيّدات مع القيود قسمًا لذلك الشي ء، و أن يكون كلّ واحد من تلك الأقسام قسيمًا للآخر .

فعلى هذا نقول : الصورة الحاصلة في الذهن إمّا أن لايكون محتملًا للنقيض، أو يحتمله ؛ والأوّل يسمّى باليقين، فهو على هذا أعمّ من العلم والجهل المركّب .

والثاني إمّا أن يكون احتمال النقيض مساويًا، أو مرجوحًا، أو راجحًا .

والأوّل يسمّى بالشكّ، فهو على ما تقدّم عبارةٌ عن تساوي الاحتمالين المتقابلين و تردّد الذهن بينهما من دون ترجيح .

والثاني بالظنّ، فهو عبارة عن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض .

والثالث بالوهم .

ولا شبهة في تباين كلّ واحد من القيود المذكورة مع الآخر، فيلزم أن يكون كلّ واحد من اليقين والشكّ و غيرهما مقابلًا للآخر ؛ والمتقابلان هما اللّذان لايمكن اجتماعهما في محلّ واحد من جهة واحدة .

فعلى هذا نقول : إنّ اليقين بشي ء - كالطهارة مثلًا - لا يجتمع مع الشكّ فيه لما

ص: 49

علمت، فلهذا اختلف العلماء في معنى نقض اليقين بالشكّ المذكور في الصحيح المذكور و غيره على أقوال :

القول الأوّل

الأوّل : ما ذكره الشهيد في الذكرى حيث قال :

قولنا : اليقين لا يرفعه الشكّ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في الزمان الواحد، لامتناع ذلك ؛ ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر، بل المعنى به : انّ اليقين الّذي كان في الزمن الأوّل لايخرج عن حكمه بالشكّ في الزمن الثاني، لأصالة بقاء ما كان، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد، فيرجّح الظنّ عليه كما هو مطّرد في العبادات، انتهى كلامه (1).

محصّله : انّ من الأمور المعتبرة في التقابل : وحدة المتعلّق والزمان، و هنا وإن تحقّق الأوّل، لظهور أنّ متعلّق اليقين والشكّ الطهارة، لكنّ الثاني غير متحقّق، لأنّ اليقين في الزمان [ السابق ] (2) والشكّ في اللاحق، فمعنى عدم نقض اليقين

ص: 50


1- ذكرى الشيعة: 2 / 207 .
2- ما بين المعقوفين أثبتناه لاستقامة المعنى .

بالشكّ : عدم رفع اليد عن مقتضاه في الزمان الّذي بدّل اليقين بالشكّ .

ثمّ إنّ قوله : « فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشك في زمان واحد »، منظور فيه، لأنّه كما يمتنع اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد، كذا يمتنع اجتماع الظنّ والشكّ أيضًا كما تقدّم .

والجواب عنه هو : انّ مقصوده أنّه يؤول الحال إلى اجتماع الظنّ بعد الالتفات إلى مقتضى الاستصحاب والشكّ مع قطع النظر عنه، فزمان الظنّ والشكّ واحد، لكن ليس من جهة واحدة، بل من جهتين ؛ أو يقال: إنّ مراده من الشكّ الوهم .

و هذان وإن كانا لايخلوان من بُعد، لكن قوله : « الشكّ في أحد الطرفين (1) يرفع يقين الآخر »، يرفع الاستبعاد، إذ كيف يتصوّر ممّن حكم بأنّ الشكّ في أحد الطرفين يرفع يقين الآخر، الحكم باجتماع الظنّ والشكّ بمعناه من جهة واحدة، مع أنّه كما أنّ الشكّ في أحد الطرفين يرفع يقين الآخر به، كذا يرفع الظنّ الآخر به ؛ لما عرفت من أنّه كما يكون الشكّ مباينًا لليقين، كذا يكون مباينًا للظنّ من دون تعقّل فرق بينهما أصلًا .

فلابدّ أن يكون مراده أحد الأمرين المذكورين لا سيّما الثاني، فإنّه ليس فيه إلّا استعمال لفظ : « الشكّ » في الوهم، فليس فيه إلّا استعمال اللفظ في غير معناه الظاهر مع قيام القرينة .

ص: 51


1- في المصدر: النقيضين .

و لعمري انّ أمثال هذه الإيرادات على مثله خروجٌ عن مسلك الصواب، و عدولٌ عن جادة الإنصاف .

القول الثاني

والثاني : ما ذكره شيخنا البهائي، حيث قال بعد أن أورد ما ذكره شيخنا الشهيد :

والمراد باليقين في قوله عليه السلام : « لاينقض اليقين أبدًا بالشكّ » أثر اليقين، أعني : استباحة الصلاة الّتي هي مستصحبة من حين الفراغ من الوضوء . والمراد بالشكّ : ما يحصل للمكلّف من (1) أوّل وهلة قبل ملاحظة الاستصحاب المذكور، انتهى كلامه (2).

محصّله : انّ الظاهر من عدم نقض اليقين بالشكّ، إبقاء اليقين ؛ و هو غير ممكن، إذ المفروض أنّه شاكّ ؛ و يمتنع الحكم بإبقاء اليقين مع الشكّ في متعلّقه، لاستلزامه أن يكون المشكوك متيقّنًا حين كونه مشكوكًا، فلابدّ أن يكون المراد ما يمكن الحكم باستقراره واجتماعه مع الشكّ .

و أثر اليقين كذلك، لوضوح إمكان الحكم باستباحة الدخول في العبادة

ص: 52


1- في المصدر: في .
2- مشرق الشمسين : 185 .

المشروطة بالطهارة عند الشكّ فيها عقلًا و قد حكم الشارع به ؛ و قوله : « قبل ملاحظة الاستصحاب » يدلّ على أنّ بعد ملاحظته لا يبقى مشكوكًا، و هو ليس بلازم، بل قد يبقى بعدها مشكوكًا، بل موهومًا، كما إذا ظنّ النوم المستولي أو غيره من الأحداث الناقضة للطهارة، فإنّ ملاحظة الاستصحاب حينئذٍ لا يوجب أن يكون النوم مثلًا موهومًا و إن كان بقاء أثر الطهارة حينئذٍ مظنونًا أو متيقّنًا، لدلالة الشرع على أنّ النوم المظنون غير ناقض .

والفرق بينه وبين المعنى الأوّل هو : انّ على الثاني حذف مضاف، أو إطلاق السبب على المسبّب، بخلافه على الأوّل .

و يمكن أن يقال بانتفاء الفرق بينهما، والدليل عليه قول الشهيد : « بل المعنى به : انّ اليقين الّذي كان في الزمن الأوّل لايخرج عن حكمه بالشكّ » ؛ و معلومٌ أنّ حكم اليقين فيما نحن فيه هو استباحة الدخول في الصلاة، و هو المعنى الثاني، وأمر الاختلاف في العبارة هيّن، فتأمّل .

القول الثالث

والثالث : ما يظهر ممّا ذكره صاحب المدارك :

ص: 53

فيما (1) تيقّن الحدث و شكّ في الطهارة : المراد بالحدث هنا : ما يترتّب عليه الطهارة - أعني : نفس السبب، لا الأثر الحاصل من ذلك - فتيقّن (2) حصوله بهذا المعنى لاينافى الشكّ في وقوع الطهارة بعده وإن اتّحد وقتهما، انتهى (3).

فنقول : فيما تيقّن الطهارة و شكّ في الحدث، المراد بالطهارة : نفس الفعل، لا الأثر الحاصل من ذلك ؛ و تيقّن حصولها بهذا المعنى لاينافي الشكّ في وقوع الحدث بعدها .

والفرق بينه و بين الثاني ظاهر، أمّا بينه و بين الأوّل هو: انّ بناء الأوّل [ على ]انّ ظرف اليقين : الزمان السابق، و ظرف الشكّ : [ الزمان ] اللاحق، فقد اختلف الزمان، فلا تنافى .

و في الثاني ظرفهما - و هو زمان الحال - [ واحد ]، لكنّ المتعلّق مختلف، إذ متعلّق اليقين : نفس الطهارة مثلاً ؛ و متعلّق الشكّ : بقائها، أو وقوع الحدث بعدها ؛ و هما متلازمان، أي : تيقّن في الحال أنّه أتى بالطهارة في السابق، و شكّ في الحال بقائها .

و هذا هو الظاهر، إذ الظاهر من : « لاينقض اليقين بالشكّ » انّه عند اجتماعهما

ص: 54


1- في المصدر : فيمن .
2- في المصدر: وتيقّن .
3- مدارك الأحكام: 1 / 235 .

في وقت واحد لايرفع اليد عن اليقين بالشكّ، لكنّ التفصيل بين نفس الفعل وأثره ممّا لا يظهر وجهه، إذ كما يكون تحقّق نفس الفعل في السابق متيقّنًا في الحال، كذلك أثره .

وكما شكّ في الحال بقاء نفس الفعل في الحال، كذلك شكّ في بقاء أثره، فالحكم بأنّ المراد بالحدث نفس السبب لا الأثر، ليس بسديد، إلّا أن يقال : إنّ الأمر وإن كان كذلك في نفس الأمر، لكنّ الظاهر من سياق الصحيح المذكور انّ متعلّق اليقين نفس الفعل، فتأمّل .

و يتوجّه عليه : انّ الحكم ببقاء نفس الفعل والسبب لايخلو عن تكلّف ظاهر، بخلاف الأثر كما لايخفى على المتأمّل .

القول الرابع

والمعنى الرابع : ما سيجي ء عند بيان ما ذهب إليه المحقّق الخوانساريّ (1).

ص: 55


1- لم يف بما وعد، والأسف أنّه قدس سره لم يتمّ الكتاب .

الرواية الثانية

اشارة

و منها : صحيحة زرارة أيضًا المرويّ في باب : « تطهير الثياب والبدن من النجاسات » من زيادات التهذيب، حيث قال في جملتها :

قلت : فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت ولم (1) أر شيئًا، ثمّ صلّيت فرأيت فيه ؟

قال: تغسله و لا تعيد الصلاة .

قلت : لم ذلك ؟

قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدًا .

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه، فلم (2) أدر أين هو، فأغسله ؟

قال : تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك .

قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي ء أن أنظر فيه ؟

ص: 56


1- في المصدر: فلم .
2- في المصدر: ولم .

قال : لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك .

قلت : إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة ؟

قال : تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه، ثمّ رأيته وإن لم تشكّ، ثمّ رأيته رطبًا قطعت الصلاة و غسلته، ثمّ بنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ (1).

و هو مرويّ في باب : « علّة غسل المني إذا أصاب الثوب » من العلل، بسند صحيح، بأدنى اختلاف في اللفظ، لا في المعنى (2).

و في موضعين من هذا الحديث دلالة على المدّعى :

الموضع الأوّل

الأوّل : قوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدًا ».

ص: 57


1- تهذيب الأحكام: 1 / 422 ح 8 .
2- علل الشرايع: 2 / 361 ب 80 .

و قوله : « فرأيت فيه »، يحتمل وجهين :

الأوّل : أن لا يكون عالمًا بسبق النجاسة على الصلاة، لاحتماله أن يكون (1) تلك النجاسة متأخّرة عن الصلاة .

و لعلّه الظاهر من الجواب ؛ و دلالته على المدّعى حينئذٍ ظاهرة، إذ حاصله : انّك كنت في تلك الحالة متيقّنًا على طهارة ثوبك و بدنك قبل تلك الحالة، ثمّ ظننت النجاسة، ثمّ صلّيت، ثمّ رأيت النجاسة ولا تعلم أن يكون النجاسة تلك النجاسة المظنونة، لاحتمال تأخّرها عن الصلاة .

فحينئذٍ لو حكمت بنجاسة الثوب مثلًا قبل الصلاة، كنت ناقضًا لليقين بالشكّ، فالطهارة مستصحبة إلى تيقّن النجاسة، و هو بعد الصلاة، لا قبلها .

والوجه الثاني : أن يكون عالمًا بكون النجاسة قبل الصلاة ؛ و لعلّه الظاهر من السؤال، و حينئذٍ يكون الوجه في عدم إعادة الصلاة هو : أنّ النجاسة النفس الأمريّة من غير علم المكلّف بها غير مضرّ بصحّة الصلاة، لانتفاء الشرطيّة المطلقة، فليس على هذا إلّا الصلاة في النجاسة المظنونة مع تيقّن سبق الطهارة، وهو غير مضرّ، لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ ؛ و على التقديرين دلالته على المرام متحقّقة كما لايخفى .

ثمّ إنّ الإيرادات السالفة و إن كانت متوجّهة في هذا المقام أيضًا، إلّا انّها مجابة

ص: 58


1- كذا في المخطوطة، والصواب : لاحتمال أن تكون .

بما تقدّم، بل الأمر في هذا الحديث بالنسبة إلى بعض الوجوه المتقدّمة أسهل .

بيان ذلك هو : انّه قد تقدّم أنّ الاستصحاب عبارةٌ عن الحكم ببقاء الثابت، سواء كان ثبوته مظنونًا، أو مشكوكًا، أو موهومًا ؛ و دلالة هذا الحديث على حجّيّته في جميع الأقسام بأسرها مبيّنة، إذ السؤال مفروض فيما إذا كان بقاء السابق موهومًا، لكون إصابة النجاسة مظنونة، فحكمه عليه السلام بعد رفع اليد عن مقتضى اليقين السابق مع موهوميّته يدلّ على عدم رفع اليد عنه فيما إذا كان مشكوكًا أو مظنونًا بطريق أولى كما لايخفى .

إن قلت : كما انّ الظنّ موجودٌ في السؤال، كذلك الشكّ مأخوذ في الجواب حيث قال عليه السلام: « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت »، و هكذا بعده ؛ و كما يمكن أنّ الأوّل قرينة لصرف الثاني عن ظاهره، كما يمكن العكس، فما المرجّح ؟

قلنا: قد عرفت ممّا قدّمناه منع ظهور الشكّ في المعنى المعروف فيما إذا ذكر في مقابلة اليقين كما فيما نحن فيه، فيبقى ظهور الظنّ في معناه سالمًا عن المعارض، لاسيّما بعد تقويته بقوله : « ولم أتيقّن ذلك ».

و على فرض التسليم نقول : إنّ صرفك الشكّ عن ظاهره أولى من العكس، لكون استعماله في غيره أكثر من استعمال الظنّ في غير معناه كما لايخفى، فرفع اليد عن ظاهر الشكّ متعيّن إمّا بحمله على الظنّ لموافقة السؤال، فيكون دلالته على عدم نقض اليقين بالشكّ والوهم بطريق أولى ؛ أو على الأعمّ منه و غيره

ص: 59

وبالجملة : ما قابل اليقين، فيكون دلالته على عدم نقض اليقين في الأقسام المذكورة بالعموم والإطلاق، بل بالمنطوق والمفهوم ؛ أمّا الأوّل ففي الجميع كما عرفت، و أمّا الثاني ففي القسمين المذكورين .

توضيحه هو : انّه مع حمل الشكّ في الجواب على ما قابل اليقين له بالنسبة إلى عدم نقض اليقين بالشكّ والوهم دلالتان :

إحداهما : بالمنطوق ؛ و هو الدلالة عليه بالإطلاق .

والأخرى : بالمفهوم ؛ و ذلك لأنّ استفادة حكم السؤال من الجواب ممّا لاشبهة فيه .

و لمّا كان المفروض فيه ظنّ إصابة النجاسة، يدلّ الجواب على إبقاء الحكم فيما كان خلافه مظنونًا، فيستفاد إبقاء الحكم فيما كان خلافه مظنونًا، أو مشكوكًا بالفحوى كما لايخفى.

و يمكن المناقشة فيه : بأنّ دلالة المنطوق وإن كانت مسلّمة، لكن [ دلالة ] (1) المفهوم ممنوعة، لأنّ الظنّ و إن كان مأخوذًا في السؤال، لكن قوله : « فنظرت فلم أر فيه »، يدلّ على عدم بقائه على ظنّه الحاصل له أوّلًا ؛ والجواب إنّما هو جواب لهذا السؤال .

إلّا أن يقال : إنّ استلزام النظر والتفحّص و عدم رؤية النجاسة لإنقلاب الظنّ

ص: 60


1- ما بين المعقوفين أثبتناه لاستقامة المعنى .

بالشكّ والوهم على فرض التسليم إنّما هو إذا كانت النجاسة ذات جرم ظاهر ؛ وأمّا إذا لم يكن كذلك - كرشحات البول مثلًا - فلا ؛ و ترك استفصاله عليه السلام بين هذا و غيره دليلٌ على ثبوت الحكم في الموضعين .

الموضع الثاني

والموضع الثاني: قوله عليه السلام : « انّه لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » ؛ والأمر فيه بعد ما سبق من الإيراد والجواب ظاهر .

ص: 61

الرواية الثالثة

و منها : الصحيح المرويّ في الكافي (1) عن زرارة أيضًا، عن أحدهما عليه السلام قال: قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في اثنين (2) و قد أحرز الثنتين .

قال : يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شي ء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شي ء عليه، ولاينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ باليقين (3)، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين و يتمّ على اليقين، فيبنى عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الأحوال (4).

ص: 62


1- الكافي: 3 / 351 و 352 ح 3 باب السهو في الثلاث والأربع .
2- في المصدر: اثنتين .
3- في المصدر: في اليقين .
4- في المصدر: الحالات .

الرواية الرابعة

و منها : الصحيح المرويّ في باب : « ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لايجوز » من زيادات التهذيب، عن عبداللَّه بن سنان قال : سئل أبو عبداللَّه عليه السلام وأنا حاضر: انّي أعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيرد عليّ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه ؟

فقال أبو عبداللَّه عليه السلام : صلّ فيه ولاتغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّى فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه (1).

وجه الاستدلال هو : انّ قوله عليه السلام : « فإنكّ أعرته إيّاه و هو طاهر »، تعليلٌ لعدم وجوب الغسل، مآله : انّ عدم وجوب الغسل إنّما هو لتيقّن سبق الطهارة، فيعلم منه لزوم إبقاء الطهارة السابقة في كلّ ما تحقّق ذلك، فيتعدّي إلى كلّ ما كان على هذا المنوال وإن لم يكن في ثوب العارية، بل في أيّ شي ء كان .

فنقول : إنّ عارية الثوب للذمّيّ مع العلم بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير مضافًا إلى نجاسة بدنه، يستلزم الظنّ بملاقاته للثوب مع الرطوبة، فيلزم منه الظنّ بالنجاسة، لاحتمال السؤال كون زمان العارية ساعة أو ساعتين أو ساعات، بل

ص: 63


1- تهذيب الأحكام: 2 / 362 ح 27 .

يوم أو يومين أو أيّامًا ؛ و ترك تفصيله عليه السلام بين هذه الأفراد يدلّ على اشتراك الجميع في الحكم، فمدلوله : بقاء الحكم السابق فيما إذا كان موهوم البقاء، فيدلّ على بقائه فيما كان مشكوك البقاء أو مظنونه بطريق أولى كما لايخفى .

و لك أن تقول : إنّ ذلك كلّه مسلّم، لكنّ المتحصّل منه استصحاب الطهارة السابقة في كلّ مورد تحقّق العلم بها ؛ و لا يعلم منه الدلالة على حجّية الاستصحاب في الأقسام المذكورة بأسرها، لوضوح اختصاص مفهوم التعليل - و هو تيقّن سبق الطهارة - في بعض الموارد كما لايخفى، فتأمّل .

ص: 64

الرواية الخامسة

و منها : ما رواه في كتاب الصوم من التهذيبين عن عليّ بن محمّد القاساني قال: كتبت إليه و أنا بالمدينة أسأله (1) عن اليوم الّذي يشكّ فيه من شهر رمضان هل يصام أم لا ؟

فكتب عليه السلام : اليقين لايدخل فيه الشكّ، صم للرؤية [ وأفطر للرؤية ] (2).

و ليس في سنده من يتأمّل في شأنه إلّا عليّ بن محمّد القاساني، فإنّ المحكيّ عن رجال الشيخ أنّه بعد أن وثّق عليّ بن شيرة، قال بلا فصل :

انّ عليّ بن محمّد القاساني ضعيف اصبهاني (3).

فيعلم منه أنّ بنائه على انّهما متغايران .

والظاهر من النجاشي أنّهما واحد، حيث قال في رجاله :

عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني أبوالحسن، كان فقيهًا مكثرًا من الحديث فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى، و ذكر أنّه سمع منه

ص: 65


1- أسأله » لم يرد في التهذيب .
2- تهذيب الأحكام: 4 / 159 ح 17 ؛ الاستبصار: 2 / 64 ح 12 .
3- رجال الطوسي: 388 الرقم 5712 .

مذاهب منكرة، و ليس في كتبه ما يدلّ على ذلك، له كتاب التأديب .

إلى أن قال :

أخبرنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن طاهر قال: حدّثنا محمّد بن الحسن قال: حدّثنا سعد عن عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني بكتبه (1).

وقال العلاّمة في الخلاصة بعد أن نقل عن الشيخ التوثيق والتضعيف :

والّذي يظهر [ لنا ] (2) انّهما واحد (3).

واستدلّ عليه بما نقلنا عن النجاشي .

وكيف [ كان ] فإن كانا واحدًا - كما هو الظاهر - وجاز التعويل على توثيق الشيخ فيما نحن فيه، فالحديث صحيح ؛ و إلّا فحسنٌ للمدح الّذي مدحه النجاشي إيّاه ؛ و يؤيّده ما نقل من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى عنه ولم يستثن روايته (4).

و على أيّ حال، فالحديث معتمد، و دلالته بعد ما أسلفنا القول في مثله ظاهرة، بل بالنسبة إلى بعض الوجوه المتقدّمة أولى .

ولا يخفى على من تأمّل هذه النصوص المعتبرة وما شابهها بعين الإنصاف و عدل عن مسلك الجور والاعتساف، يظهر عليه الجواب ظهورًا بيّنًا أنّ تكرّر هذه

ص: 66


1- رجال النجاشي: 255 و 256 .
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
3- خلاصة الأقوال : 364 .
4- أنظر تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال : 259 .

المقالة في نصوص متكثّرة قرينةٌ ظاهرة و أمارة باهرة على أنّ مقصودهم عليهم السلام منها إعطاء قاعدة كلّية يستفاد منها أحكام جزئيّات متكثّرة، فالمناقشة فيها باختصاصها بموارد مخصوصة ممّا لا يقبله الطباع السليمة .

الرواية السادسة

اشارة

و منها : ما رواه الصدوق في الخصال باسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : حدّثني أبي عن آبائه عليهم السلام : انّ أميرالمؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه و دنياه .

إلى أن ذكر عليه السلام من جملة ذلك : من كان على يقين فشكّ، فيمض (1) على يقينه، فإنّ الشكّ لاينقض اليقين (2).

و عن العلاّمة المجلسي أنّه رواه في البحار في مَن شكّ في شي ء من أفعال الوضوء، عن الخصال، عن أبيه، عن سعد بن عبداللَّه، عن محمّد بن عيسى اليقطيني، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسين الراشد (3)، عن أبي بصير و محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام : مَن كان على يقين

ص: 67


1- في المصدر: فليمض .
2- الخصال: 619 ح 10 .
3- في المصدر: الحسن بن راشد .

فشكّ، فليمض على يقينه، فانّ الشكّ لاينقض اليقين (1).

و نقل انّه ذكر أنّه رأى رسالة قديمة مفردة فيها هذا الخبر بطريقين صحيحين ؛ و عنه انّه رواه عن تحف العقول أيضًا مرسلًا (2)، ثمّ قال :

و أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة القدماء، واعتمد عليه الكليني و ذكر أكثر أجزائه متفرّقة، وكذا غيره من المحدّثين (3).

و دلالته على المدّعى من الظهور غير مفتقرة إلى البيان ؛ و يظهر منه صحّة ما ذكرناه آنفًا من أنّ مقصودهم عليهم السلام من تلك المقالة إعطاء قاعدة كلّية، كما لايخفى على ذي سداد و فطنة .

ص: 68


1- بحار الأنوار: 77 / 359 ح 2 .
2- انظر تحف العقول: 109 .
3- بحار الأنوار: 10 / 116 و 117 ؛ ونقله عنه في الفوائد الحائريّة: 279 .

القول في شبهة الأخباريّين والجواب عنها

والمحكيّ عن رؤساء الأخباريّين (1) بعد ذكر جملة من النصوص المذكورة أنّه قال :

لا يقال : هذه المقالة (2) تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام اللَّه تعالى، كما ذهب إليه [ المفيد ] والعلاّمة [ من أصحابنا والشافعيّة قاطبة ]و تقتضى بطلان قول أكثر علمائنا [ والحنفيّة بعدم جواز العمل به ] (3).

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الأصوليّين والفقهاء، و قد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة (4).

ص: 69


1- هو المحقّق الأسترآبادي في الفوائد المكّيّة، وهذا الكتاب جزء من التراث المفقود في العصر الحاضر، وقد ذكره العلّامة المجلسي قدس سره في عداد مصادر كتابه بحار الأنوار: 1 / 20 .
2- في المصدر: القاعدة .
3- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
4- نقله عنه في الفوائد الحائريّة: 280 ؛ والوافية: 212 ؛ وجامعة الأصول: 201 ؛ والحاشية على استصحاب القوانين: 230 ؛ وانظر الفوائد المدنيّة: 143 .

و محصّل جوابها فيها - على ما قيل - يرجع إلى شيئين :

الأوّل : انّ مدلول النصوص الحكم ببقاء الموضوع على حاله فيما إذا لم يحصل فيه تغيّر وإنّما تبدّل اليقين بالشكّ ؛ والّذي سمّوه استصحابًا راجع بالحقيقة إلى إجراء حكم موضوع آخر يتّحد معه بالذات و يغايره بالقيد والصفات ؛ و من المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد الموضوع والمسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين .

والثاني: انّه قد تواتر الأخبار بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الأمّة ورد فيه حكم، ويحصر الحكم بين الرشد و بين الغيّ و ما يجب فيه التوقّف .

و لعلّ مراده أنّ مقتضى المقالة الأولى ورود الحكم في الموارد الّتي سمّوها بالاستصحاب و غيرها ؛ و هو غير معلوم لنا، و إلّا لم نفتقر إلى الاستصحاب، فعلى هذا يجب فيه السكوت، لأنّ مقتضى المقالة الثانية أنّ ما لم رشده (1) و لا غيّه يجب فيه التوقّف، و ما نحن فيه من هذا القبيل .

الجواب عن الأوّل

والجواب أمّا عن الأوّل : فلأنّ مراده إمّا أن يكون النصوص غير دالّة على

ص: 70


1- كذا في المخطوطة، و لعلّ الصواب: لم يظهر رشده .

استصحاب الحكم، لكون مدلولها استصحاب الموضوع - كما يؤمى إليه قوله : « لا يقال : إنّ هذه القاعدة تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام اللَّه تعالى » - فإن (1) كان بعض كلماته غير ملائم لذلك، ففيه : انّ مورد بعضها في الطهارة بمعنييها : الطهارة عن الحدث - كما في الصحيح الأوّل - و عن الخبث - كما في الثاني والرابع - و أيضًا : انّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المحلّ .

و إن كان مراده أنّ القائلين بالاستصحاب يقولون به فيما إذا تغيّر الموضوع بالكلّية و يندرج تحت حقيقة أخرى، ففيه : انّ عدم ثبوت مثله من النصوص وإن كان مسلّمًا، لكن لم يقل أحد من القائلين بالاستصحاب بذلك .

و إن أراد أنّهم يقولون به فيما اذا حصل تغيّر مّا في الموضوع، لكن لا بحيث أن يندرج تحت حقيقة أخرى، فهو مسلّم، لكن لا نسلّم أنّه لم يثبت من النصوص ذلك، لوضوح أنّ قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه »، شاملٌ له قطعًا، بل مورد كثير فيها ذلك، إذ الطهارة المتيقّنة بعد أن زال وصف التيقّن منها يصدق عليها أنّها ممّا حصل فيه اليقين كما لايخفى ؛ و هكذا الحال في غيرها .

ص: 71


1- كذا في المخطوطة، والصواب ظاهرًا : وإن .

الجواب عن الثاني

و أمّا عن الثاني : فبالمنع إن أراد ورود الحكم في كلّ موضع بخصوصه كما لايخفى ؛ وليس المراد من النصوص ذلك .

و إن أراد الأعمّ من ذلك، فهو مسلّم و غير مناف لما نحن بصدده، لأنّ النصوص المذكورة قد دلّت على حكم الموارد الّتي نتمسّك فيها بالاستصحاب بالعموم، فيكون تلك الموارد ما علم الحال فيه، لا من المشتبه .

[ إلى هنا انتهى ما في نسخة « ف » ، ولم نظفر على نسخة أكمل منها

و لعلّ اللَّه تعالى يحدث بعد ذلك أمرًا ].

ص: 72

فهرس المطالب

مقدّمة التحقيق 7

لمحة من حياة المؤلّف قدس سره 8

منهج التحقيق 15

البحث الأوّل : في تعريف الاستصحاب 19

التعريف الأوّل 19

التعريف الثاني 23

التعريف الثالث 25

التعريف الرابع 27

مختار المؤلّف في تعريف الاستصحاب 27

ص: 73

البحث الثاني : في أقسام الاستصحاب 29

القول في أقسام الاستصحاب و انّها ثمانية 30

القول في الفرق بين أصالة العدم و أصالة البراءة 35

البحث الثالث : في حجّيّة الاستصحاب و عدمها 39

القول في النصوص الدالّة على حجّيّة الاستصحاب 39

الرواية الأولى 40

إيراد كلام لدفع إيهام 49

الرواية الثانية 56

الرواية الثالثة 62

الرواية الرابعة 63

الرواية الخامسة 65

الرواية السادسة 67

القول في شبهة الأخباريّين والجواب عنها 69

فهرس المطالب 73

ص: 74

فهرس منشورات مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام قدس سره :

1 - مطالع الأنوار في شرح شرائع الإسلام ( 6 ج )

2 - تحفة الأبرار في أحكام الصلاة و مسائلها ( 2 ج )

3 - بيان المفاخر في ترجمة حجّة الإسلام الشفتي ( 2 ج )

4 - الإمامة في إثبات الإمامة لأهل البيت عليهم السلام ( 1 ج )

5 - الرسائل الرجاليّة في أحوال رواة الأحاديث ( 1 ج )

6 - إقامة الحدود في زمن الغيبة ( 1 ج )

7 - العصيريّة في أحكام الخمر والعصير ( 1 ج )

8 - كتاب الغيبة في الإمام الثاني عشر القائم الحجّة عليه السلام ( 2 ج )

9 - پرسش ها وپاسخ ها پيرامون عقائد شيخيّه ( 1 ج )

10 - منتخب الصّحاح المستخرج من الصحيحين و ... ( 1 ج )

11 - الحلية اللّامعة في شرح البهجة المرضيّة ( 2 ج )

12 - أربع رسائل فقهيّة حول مسألة سلام النافلة ( 1 ج )

13 - احكام شكّ و سهو ( تتمّه كتابِ تحفة الأبرار ) ( 1 ج )

14 - فقه نينوا ( پرسش وپاسخ درباره زيارت عاشورا و ... ) ( 1 ج )

ص: 75

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.