صورة اصحاب الکساء

اشارة

صُورَةُ أَصْحَابِ اَلْكِسَاءِ بَيْنَ تَجْنِي اَلنَّصِّ وَ اِسْتِبَاحَةُ اَلْخَطَّابِ اَلاِسْتِشْرَاقِيُّ هِنْرِيٌ لاَمنْس أُنْمُوذُجَا

دراسة تحلیلیة نقدية

تأليف : شهید کریم محمد الكعبي

العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية يعني بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

صُورَةُ أَصْحَابِ اَلْكِسَاءِ

بَيْنَ تَجْنِي اَلنَّصِّ وَ اِسْتِبَاحَةُ اَلْخَطَّابِ اَلاِسْتِشْرَاقِيُّ

هِنْرِيٌ لاَمنْس أُنْمُوذُجَا

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

ص: 5

العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية يعني بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

صُورَةُ أَصْحَابِ اَلْكِسَاءِ

تأليف: د. شهید کریم محمد الكعبي

الناشر: العتبة العباسية المقدسة

الإخراج الفني: نصير شکر

المطبعة : دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأولى 1437ه-/ 2015م

ص: 6

الاهداء

إليكم سادتي يا أصحاب الكساء ..

أرفع يميني التي أثقلتها ذنوبي ..

حاملا هذه البضاعة المزجاة بذل الخشوع..

راجيا أن تضعوني من كرمكم حيث وضعت نفسي من جميل رجائكم..

متوسلا بكم أن أكون غدا من يؤتى كتابه بيمينه ...

شهید

ص: 7

ص: 8

اَلْمُقَدِّمَةُ اَلْمُرْكَزُ

بدأت بوادر الاستشراق بعدما أحس الغرب بتفوق الإسلام سياسيا وثقافيا واجتماعيا، فبدأ علماء الغرب وآباء الكنيسة بدراسة الإسلام، بغية التعرف عليه، وتوسعت دائرة الاستشراق بمرور الزمن شيئا فشيئا، فأخذت طابعا سياسيا استعماريا تارة، وتبشيريا تارة أخرى، بحسب الأوقات والفترات التي مر بها الاستشراق.

وقد فوجئ العالم الإسلامي بالاف الكتب والدراسات التي تخص جميع جوانب حياته الفردية والاجتماعية والدينية وغيرها، وقد تنوعت وتوسعت هذه الدراسات بحسب حاجة الغرب من جانب، والتطورات الحاصلة في العالم الإسلامي من جانب آخر.

وقد اهتم المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بمتابعة نشاط المستشرقين، ورفد المكتبةالإسلامية بدراسات تحليلية نقدية لمعالجة ما يطرحه المستشرقون من أفكار ورؤيی مختلفة.

وبهذا الصدد وقع الاختيار على طباعة اطروحة الدكتور شهید کریم محمد الكعبي، باسم (صورة أصحاب الكساء بين تجني النص واستباحة الخطاب الاستشراقي، هنري لامنس انموذجا، دراسة تحليلية نقدية) حيث عالج فيها المؤلف ما طرحه (لامنس) من شبهات حول أصحاب الكساء علیهم السلام بالاعتماد على أهم المصادر الإسلامية لدى الفريقين.

ص: 9

ونحن إذ نقدم هذا الكتاب إلى قرائنا الكرام؛ نتمنى أن يحظى بقبولهم وأن نلتقي معهم في حلقات أخرى تعنى بتحليل ونقد الاستشراق والمستشرقين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآلهالطاهرین..

النجف الأشرف

15 رجب الأصب 1436ه-

***

ص: 10

تقريظ

بقلم الأستاذ الدكتور جواد كاظم النصرالله

بسم الله الرحمن الرحيم

شهدت الجزيرة العربية مطلع القرن السابع الميلادي حدثا تأريخيا ترك آثارا بعيدة المدى زمانيا ومکانيا، ذلك هو بعثة النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله، إذ سرعان ما امتدت تعاليم الدين الإسلامي على مساحات شاسعة تقطنها شعوب تدین بديانات وحكومات عديدة، فقد أولئك الكثير من مصالحهم السياسية والاقتصادية. وفي أقل من قرن امتدت دولة الإسلام لتصل إلى جبال البرانس في فرنسا غربا، وتخوم الهند والصين شرقا.

هذا الحدث كان مثار تساؤل الأجيال عبر التاريخ، فتم تناول سر هذا الحدث قديما وحديثا، من قبل معتنقي هذا الدين ومن قبل مناوئيه على حد سواء، ولما لم يستطع البعض مواجهته عسكريا وفكريا، لجأ البعض إلى محاولة تشويه صورة هذه الحركة التاريخية، فكان للقاء المصالح ما بين الطلقاء وأهل الكتاب أثر كبير في محاولة تشويه صورة ومسار هذا الدين.

فعمل مسلمة أهل الكتاب على محاولة تزييف حقيقة الدين الإسلامي من خلال التأكيد على أن ما جاء به النبي محمد صلی الله علیه و آله لا يخرج عما جاء في التوراة والإنجيل، وهذا يعني أنه مقتبس منهما، وتم اختراع مسميات يهودية ونصرانية

ص: 11

ک-(بحيری) و (ورقة بن نوفل) و(عداس) وغيرهم، ووضع لهم أدوار في حياة النبي صلی الله علیه و آله؛ ليكون هؤلاء ممن تتلمذ على أيديهم النبي محمد صلی الله علیه و آله واطلع على تعاليم التوراة والإنجيل.

ولم يقتصر الأمر على شخص النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله وإنما تعداه لأهل بيته علیهم السلام، إذ أن النبوة لم تحط الخطوة الأولى إلا مع الإمامة، فبعد تلقي النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله الأمر الإلهي بالبدء بدعوته وأن تكون «وَأَنذِر عَشيرَتَ الأَقرَبينَ»، جمع بني هاشم ودعاهم لما أمره الله عز وجل، آخذة بيد أمير المؤمنين إلي قائلا كما ورد في تاريخ الطبري: «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»، فكانت خطى النبوة والإمامة واحدة، ونتج عن ذلك ما عرف بمصطلح أهل البيت عليهم السلام الذين خصهم القرآن بمزيد من التقديس والتكريم، وعرفوا بأهل الكساء.

كل ذلك كان موضع اهتمام عبر التاريخ وتعددت القراءات التفسير هذا الحدث التاريخي، ومنها القراءة الاستشراقية التي وإن بدأت منذ الأيام الأولى لهذا الحدث المهم، لكنها ازدادت في العصور الأخيرة التي تمكن بها الغربيون من التوجه والسيطرة على العالم الإسلامي، لأسباب شتى تأتي العوامل العقائدية في مقدمتها، إذ فقدت الكنيسة شعوبا ومساحات كانت تدين بالولاء لها، مما أفقدها الكثير من الامتيازات الدينية والاقتصادية في العراق وبلاد الشام ومصر وأفريقيا وجنوب غرب أوربا.

مما جعل الكنيسة تقف موقفا معاديا من الإسلام ودينه، توجته با عرف ب-(الحرب الصليبية) التي شحنت بها الفرد المسيحي بالعداء للإسلام ودينه،

ص: 12

وخلقت جيشا من حملة العلم على مختلف المستويات لتشويه صورة النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله ودينه الحنيف، وكان من بينهم المستشرق اليسوعي (هنري لامنس).

يصنف هنري لامنس من أشد أعداء النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله والدين الإسلامي، ولقد كان لتوجهاته العقائدية - كونه مبشرا مسيحيا - فضلا عن استيطانه بلاد الشام التي كانت ولازالت موطنا للنصرانية، وللموقف السلبي الذي اتخذه معاوية والطلقاء من النبي وأهل بيته عليهم السلام، ولاتخاذه الشام مقرا لدولته، كل ذلك جعل من هنري لامنس يميل إلى جانب معاوية ممجدا له وللأمويين قبال موقفه المعادي للنبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله وأهل بيته، لذا کرس هنري لامنس جهوده الفكرية ضد النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله وأهل بيته من أصحاب الكساء (أمير المؤمنين والسيدة فاطمة وولديها الحسن والحسين عليهم السلام).

وكان هنري استفاد من الروايات التي وضعت إثر التقاء المصالح الأموية - الإسرائيلية، إذ غدت بلاد الشام موطنا آمنا لرجالات اليهود والنصارى الذين فقدوا رجالاتهم بسيف أمير المؤمنين عليه السلام ، الذين وضعوا كثيرا من الروايات التي تحط من قدر النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله وأهل بيته، وترفع من مقام معاوية والأمويين، وشکل معاوية لجنة من الصحابة والتابعين تتلمذوا على يد رجالات اليهود والنصارى مقتبسين منهم الروايات الموضوعة، ثم قاموا بنشرها في الوسط الإسلامي، فما كان من المجتمع إلا ويتقبلها ظنا أنها عن الصحابة الذين أخذوها عن النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله ، ولو علم الناس أنها موضوعة لما روجها الكثير.

من هنا كانت خطوة الدكتور شهید کریم محمد الكعبي في دراسته للسيرة النبوية من خلال قراءة استشراقية لهذه السيرة، ومع وجود قراءات استشراقية إيجابية عن السيرة النبوية، لكنه تناول أخطر هذه القراءات وهي قراءة المستشرق

ص: 13

(هنري لامنس) الذي يمكن القول انه فاق من سبقه في عداءه للنبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله

وأهل بيته، موظفا مناهج البحث العلمي الحديثة بما يخدم توجهاته العدائية تلك، وتبين من خلال الدراسة الدقيقة للباحث كيف أن (لامنس) كان يتتبع الروايات الضعيفة والموضوعة ويوظفها ويترك الروايات الصحيحة التي ترويها نفس المصادر، وكان لا يقدم إلا صورة سلبية عن النبي وأهل بيته مما يدل على توجهاته العدائية.

لقد بذل الباحث جهودا مضنية في تقديم صورة عن الاستشراق وطبيعته، ثم تناول بشكل مفصل السيرة الذاتية للمستشرق (هنري لامنس) ليضع القارئ أمام حقيقة هذا المستشرق وجذوره اليسوعية، ثم حلل منهجه في التعامل مع النصوص الخاصة بسيرة النبي صلی الله علیه و آله وأهل بيته عليهم السلام .

بعدها استعرض الباحث بشكل مفصل في فصول خمس أصحاب الكساء حسب الصورة التي قدمها هنري لامنس، وكان منهج الدكتور شهید قائم على استعراض النصوص التي قدمها (هنري لامنس) عن كل واحد من أصحاب الكساء، ثم يقوم بنقد تلك النصوص وبيان زيفها ووضعها، ثم يقوم بتقديم الرواية الصحيحة.

لقد أبان الباحث أن (هنري لامنس) اعتمد الرواية الشامية التي مثلت الرؤية الأموية الممزوجة بالرؤية الإسرائيلية، والغريب أن هذه الرؤية أخذت طريقها إلى کتب الصحاح والسنن والتاريخ، حتى غدت تمثل اتجاها فكريا قائما إلى اليوم، مزق شمل الأمة، وكأن التأكيد على هذه الرؤية الإسباغ مشروعية على مقررات السقيفة وما تلاها.

ص: 14

وختاما، كان لي شرف الإشراف على هذه الأطروحة عن رؤية استشراقية عن أصحاب الكساء، إذ وجدت في الباحث الدكتور شهید محبا للبحث والمعرفة، فكان نعم النصير لأصحاب الكساء بقلمه ولسانه، أسأل الله أن تكون في سجل أعماله، وأن تكون سببا يوصله بالنبي الأكرم وأصحاب الكساء علیهم السلام إذ كل سبب ينقطع يوم القيامة إلا السبب المتصل بالنبي الكريم، وآمل أن أرى له نتاجات أخرى في مقام نصرة النبي وأهل بيته الذين أمرنا بموتهم، ولعل هذه الدراسة تأتي في سياق مودة أهل البيت علیهم السلام.

وآخر دعوانا أن الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أ.د. جواد كاظم النصر الله

أستاذ الفكر الإسلامي ورئيس قسم التاريخ

البصرة / كلية الآداب

ص: 15

ص: 16

اَلْمُقَدِّمَةُ وَ تَحْلِيلُ اَلْمَصَادِرِ

شكل الاطار الديني على امتداد المسار الاستشراقي خط الشروع لانطلاق صور الخطاب الضدية، التي ترتد بفواعل انتاجها لشعور داخلي يقرر حالة التمايز والتفوق في الهوية الدينية بين المسيحية والإسلام؛ ولذا ظل هذا النوع من الخطاب الاستشراقي مع ما بذل من محاولات ومساع نادرة خجولة لتعديل مساره أو تغييره، ومع تبدل صوره وأدواره ينبعث من ذلك الإحساس وتلك الرغبة؛ فهو نتاج لتخارج ثقافة وسلطة معرفية يوجهها إحساس التفرد والأسبقية والتمركز الديني!

ولذا تستهدف هذه الدراسة اختبار شريحة واسعة ومتنوعة من نصوص حملت بين طياتها خطابا ضديا حاول إرساء قواعد مشروع كبير منظم و منهج، يستهدف تقويض صورة «المثال/ الإنسان الكامل» في الإسلام وممثلة بالنبي وأهل بيته عليهم السلام للاحتفاظ بفرادتها لما يقابلها في المعتقد المسيحي، وصاحب هذا المشروع هو المبشر والمستشرق هنري لامنس الذي لاحظ - كما عديد من المبشرين - أن التبشير بات ورقة محترقة لا تستحق ما يبذل عليها من جهد وإمكانات؛ فكان أن اختط لنفسه طريقة خاصة في محاربة الإسلام ومحاولة صرعه؛ فخلافا لكل المبشرين والمستشرقين الذين يهاجمون الإسلام بوصفه بنية عقائدية واحدة، حتى في بيئاته ومكوناته الأكثر بعدا عن

ص: 17

روحه وحقيقته، كبيئته وإطاره الأموي والعباسي وما شابه، كان «Lammens» قد أفرط - أيها إفراط في تمجيده المنقطع النظير للأمويين، في الوقت الذي غالا - في كثير من الأحيان لحد السماجة والصفاقة - في تشويه صورة النبي وأهل بيته!

طرح غريب يتجاوز ظاهره من إحداث الفرقة بين المسلمين، بل هو في هذه الجزئية غير مبرر من الأساس؛ فهذان المكونان ما التقيا ولن يلتقيا فمحال أن يلتقي خطان متضادان متعاكسان في اتجاهها، نزع الأول للانجرار لكل ما هو جاهلي وثني وجاهد الثاني - وما زال - لاستنقاذ الأمة من ربقة الجاهلية والعبودية والتحجر. ولذا لم تجد - حتى المنظومة الاستشراقية الضدية المماثلة - سببا مقنعا يفسر هذا الطرح، فصيغ استغرابها وتعجبها على لسان الفرنسي« Paul Casanova = پول كازنوفا (ت1926 م)»(1)بأن قال: «كانت نفسية الأمويين على الإطلاق مركبة على الطمع في الغنى إلى حد الجشع، وحب الفتح بقصد النهب، والحرص على التسود للتمتع بملذات الدنيا، لذلك حق لنا أن نعجب لكاهن كاثوليكي کالأب «Lammens» يتطوع للدفاع عن أولئك الشاكين النهابين، ساخرا من علي الذي مكروا به! وليس أغرب من هذه المباحث التي يظهر فيها هذا المؤلف المطلع على تاريخ ذلك العصر اطلاعا حريا بالإعجاب، تشیعه لأولئك على هؤلاء، والتي تتعاقب فيها المرافعات

ص: 18


1- مستشرق فرنسي، جزائري المولد. سافر إلى باريس سنة (1879م) وتعلم بمدرسة اللغات الشرقية الحية. وعين أمينا لقسم النقود الشرقية، ثم مدرسا للعربية وآدابها بجامعة فرنسا عام (1909 م). زار مصر ثلاث مرات: الأولى عام (1889 م) وبها كتب بحثا عن (قلعة القاهرة) والثانية خلال (1892 - 1909م) بوظيفة مساعد مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، والثالثة عام (1925 م) منتدبا لتدريس الأدب العربي وفقه اللغة في الجامعة المصرية، وتوفي بعد سنة واحدة في القاهرة. أهم آثاره: اشتراكه في تحقيق كتاب (الخطط للمقريزي) وترجمته وتأليفه كتاب (إعادة تخطيط مدينة الفسطاط في جزأين (1913 و 1916م). وكتاب (محمد وانتهاء العالم. باريس / 1910م) وغيرها. الزركلي: الأعلام، 2/ 78؛ يحيى مراد: معجم اسماء المستشرقين، 549- 550.

الدفاعية والبيانات الاتهامية يزحم بعضها بعضا. لن نقف لتمحيص هذه الصور الشاذة أو لمقارنتها بالصور التي نقلتها لنا كتب الأخبار. أما وقد عرف القارئ ترکیب هذه الآلة البسيطة التي أخرجت تلك الصور فحسبه أن يدفع حركتها في الاتجاه المعاكس لتخرج الحقيقة كما هي»(1). ويبدو أن هذه المسألة هي النواة التي نمت حولها وتشاطرت جنبات ذلك الخطاب، ولاشك في أنها أبعد غورا، وأكثر عمقا من ظاهر يوحي بتحمس مسيحي لامتداد وتمثل بائن حملته تقاسيم الدولة الأموية.

تفترض الدراسة أن «Lammens» وقف مليا عند حقيقة الفرادة التي مثلتها حادثة المباهلة وإن كان أشار إليها بإشارة مقتضبة قائلا: «وحدث استغل بدقة وفطنة من قبل الشيعة. وهو اللقاء بين محمد ومسيحيي نجران، والذي انتهى بالمباهلة وكانت هذه الحادثة إحدى الحوادث النادرة التي حدد فيها أبو القاسم مكانة علي وفاطمة وابنيها بوضوح»(2).ويبدو أنها مثلت الحافز الأساس لتصدير الخطاب التقويضي العنيف، الذي سيصل في كثير من جزئياته حد التوتر والتعصب الشديدين، وسینزح ب- «Lammens» لبذاءة اللسان وقبيح القول!؛ لأن المباهلة حدثت بسبب التضاد بين النبي مستشرق فرنسي، جزائري المولد. سافر إلى باريس سنة (1879م) وتعلم بمدرسة اللغات الشرقية الحية. وعين أمينا لقسم النقود الشرقية، ثم مدرسا للعربية وآدابها بجامعة فرنسا عام (1909 م). زار مصر ثلاث مرات: الأولى عام (1889 م) وبها كتب بحثا عن (قلعة القاهرة) والثانية خلال (1892 - 1909م) بوظيفة مساعد مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، والثالثة عام (1925 م) منتدبا لتدريس الأدب العربي وفقه اللغة في الجامعة المصرية، وتوفي بعد سنة واحدة في القاهرة. أهم آثاره: اشتراكه في تحقيق كتاب (الخطط للمقريزي) وترجمته وتأليفه كتاب (إعادة تخطيط مدينة الفسطاط في جزأين (1913 و 1916م). وكتاب (محمد وانتهاء العالم. باريس / 1910م) وغيرها. الزركلي: الأعلام، 2/ 78؛ يحيى مراد: معجم اسماء المستشرقين، 549- 550. ونصاری نجران حول جوهر العقيدة المسيحية المحرفة «إِنَّ مَثَلَ عِیسَی عِندَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ کُن فَیَکُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ فَلَا تَکُن مِّنَ الْمُمْتَرِینَ (60) فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ (61)» [آل عمران: 61]. ولا شك في أن هذا التقابل (الإسلامي / النصراني) إنما وضع الديانة المسيحية - المحرفة - على المحك، للمرة الأولى - منذ 6 قرون - ضمن دائرة الاختبار المباشر والعلني قبالة مكون ازاحي مثال، وعرضها لسخرية عدم القدرة على إثبات

ص: 19


1- آتين دينيه: الشرق في نظر الغرب. ضمن کتاب «آراء غربية في مسائل شرقية. لعمر فاخوري»، 104.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 97

الوجود، ونفخ بشدة إلى حد التطاير ركام كم هائل من مبتدعات العقيدة التي يحملها النصاري عن السيد المسيح، ومن ثم انهيار المسلمات الحتمية للبناء العقائدي المؤسس على دعوى الألوهية وعقيدة الصلب؛ فسرعان ما انتهت المباهلة قبل بدئها(1). وإذا بتلك المتبنيات العقائدية التي تمتلك هذه «القرون الست» من التجذر والانغراس كمعتقد فرد مثال، بني على أثر مسيرة طويلة من التضحية والدماء كان يقدمها - حسب الانحراف المسيحي - رأس تلك العقيدة وأساسها. أي: السيد المسيح. وإذا بهذا الصرح الغائر التجذر والضارب في عمقه الزماني والمعنوي ينهار في لحظة واحدة . إذن هذا التقابل مثل هزيمة كبرى ستقرع - على الدوام - مسارب الفكر المسيحي، وتشكل إحساس خانقا خبره وعرفه كل من يعتقد بالفرادة الرسولية المسيحية.

ومع أن «Lammens» لم يمنح هذه الجزئية مساحة كبيرة في خطابه إلا أنها احتلت مساحة واسعة من الحضور في الفكر الاستشراقي؛ فاستهدفها «Louis Massignon = لويس ماسينيون 1883 - 1992م»(2) بدراسة خاصة تحت عنوان «La Mobahala -

ص: 20


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 573 - 584؛ ابن شبة: تاريخ المدينة، 2/ 580 - 586؛ البلاذري: فتوح البلدان، 76 - 78؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 2/ 95.
2- درس الطب وفن النحت و تخصص في الأخير؛ فكان ممن أسهم في توجه ماسينيون لدراسة الآثار والفن والإسلامي؛ فدرس العربية وسافر إلى الجزائر ومصر والمغرب ومن هناك بدأت انتاجاته الاستشراقية التي كان أولها (لوحة جغرافية للمغرب تبعا لليون الأفريقي 1906م) وعهد إليه بمهمة التنقيب في العراق خلال المدة (1907 - 1908م) فاهتم بشخصيتي الحلاج وسلمان المحمدي، وآثار إيوان كسرى وغيرها. وانتهت حفائره في الصحراء باكتشاف قصر الأخيضر. وكتاب ضخم مع عدد من المقالات عن تلك البعثة. ثم قدم دراساته عن الحلاج خلال المدة (1911 – 1914م). والتحق بالجيش الفرنسي في سوريا وفلسطين خلال الحرب العالمية الأولى. وبعدها عاد للتدريس في باريس، ليكتب اطروحته للدكتوراه بعنوان (عذاب الحلاج: شهيد التصوف في الإسلام 1922م). کما کتب بحوثا ودراسات كثيرة أخرى عن الشخصيات الصوفية والإسلامية الأخرى. كسلان المحمدي والسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام . بدوي: موسوعة المستشرقين، 529 - 535.

المباهلة» أصدرها في (ميلان عام 1944م) وقد ترجمها ونشرها «د. عبد الرحمن بدوي» في ضمن الكتاب الذي ألفه من عمليات جمع وترجمة مماثلة تحت عنوان «شخصيات قلقة في الإسلام» خلال الصفحات (159 - 182).

كان مما قاله (Massignon = ماسينيون) في هذه الدراسة أنه: « في العدالة بين الناس يتم توكيد الحقيقة إما بالقسم أو المباهلة، أو بالاستدلال اليقيني أو بالالتجاء التحكمي إلى العمل. وفي الجماعة الإسلامية شعيرة خاصة للملاعنة الشرطية المتبادلة تسمى «المباهلة» وتحدث عن أصلها اللغوي، وطريقة وموجبات أدائها أو اللجوء إليها، ثم قال: والسبب الرئيسي في تشريع المباهلة عند الشيعة هو أنهم يجدون فيها، وهم الفرقة التي يسود فيها نظام الأمراء، الوسيلة الوحيدة لإرغام إخوانهم في الدين على الاعتراف. والأصل التاريخي لهذه الشعيرة أنه عند مقبرة البقيع بالمدينة دعا محمد وفد نجران من النصارى إلى المباهلة في المكان المعروف «الكثيب الأحمر» وقد عقد محمد على أثر ذلك اتفاقا سياسيا «صلح / مصالحة» صار - بعد تجديد خلفائه له وتعديله - النموذج الأول للامتيازات التي يسرت للطوائف المسيحية في الدولة الإسلامية البقاء فيها طوال ثلاثة عشر قرنا نظير دفع الجزية. وقد حاول الكتبة النصارى أن يستبدلوا بالنص الأصلي الذي أوردته وتناقلته كتب الفتوح، نصا أكثر تلاؤما مع مطالبهم»(1).

وأشار (Massignon = ماسينيون) إلى مسألة غاية في الأهمية، هي: «أن هذا الاتفاق مع أهل نجران كان الوحيد الذي لم يكن من شأن موت محمد أن يبطله؛ وهذا لأنه شارك فيه ضامنون عاشوا بعده وحافظوا عليه، ولم يكونوا مجرد شهود على صحة توقيعه ماديا، إبان حياته، بل كانوا أيضا أبدالا حقيقيين، هم (آل محمد) صاروا أبدالا عنه بنطق سابق لصيغة شعائرية»(2). أي صيغة المباهلة: أنفسنا = النبي والإمام علي /

ص: 21


1- 162 - 160
2- 162

أنفسكم. نساءنا = فاطمة / نساءكم. أبناءنا = الإمامين الحسن والحسين / أبناءكم.

وعاد لحادثة «المباهلة» في بحث آخر فقال: «لهذه المحاكمة، التي فيها إظهاره الوحيد لإخلاصه المطلق، جمع النبي «أهله / الخمسة» الذين دثرهم بدثاره، وهم «عداه» حفيداه وابنته وزوجها رهائن على إيمانه برسالته النبوية. ومنذ ذلك الحين استحال عند بعض صحابة النبي ما كانوا يحملون من مودة نحو الخمسة إلى حب عبادة، فقد قدموا آل علي لأن قرابتهم الدموية المتفاوتة في قربها من النبي قد تحولت بنوع من الشعيرة العلنية «المباهلة» نقلت كل أملهم في العدل بعد موت النبي؛ وفريق آخر أبغضهم ناقلين إلى آل علي تأثرهم بموتاهم الكفار الذين قتلوا في بدر بأمر من الرسول بيد علي»(1).

تفترض الدراسة أن العقدة المسيحية من الإسلام ككل تشكلت لدى « Lammens»، وتركزت في هذه الذوات المقدسة الخمس، والتي فضلا عن كونها تمثل (العائلة المقدسة المثال) قبالة المثالية المسيحية (الأب / الابن / الأم / روح القدس) فإن كلا منها يعطي مثالا قائما بنفسه وبحد ذاته، قادرا على إزاحة ما يقابله في المثالية المسيحية «النبوة / البنوة / البتولية» وبتفصيل أكبر على نطاق المزايا والخصائص والمفردات التي ستتضح خلال مسار الدراسة إن شاء الله.

وعليه تأتي هذه الدراسة لتفحص نسيج الخطاب الاستشراقي الذي قدمه «Lammens» لصورة النبي وأهل البيت عليهم السلام فلم أعثر حتى اللحظة على دراسة مختصة بتفصیلات ما قدمه - مع سعة النطاق التدويني الذي غطاه خطابه الاستشراقي، وشهرته بوصفه أكثر مستشرقي العصرالحديث عنفا وتعصبا - إلا على أربع مقالات لم تمس سوى الإطار العام لدراساته، وكانت ركزت - من دون خوض

ص: 22


1- سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران. ضمن كتاب «شخصیات قلقة في الإسلام. عبد الرحمن بدوي»، 44 - 45.

بالتفاصيل والجزئيات - على الروح المتطرفة التي تضمنتها تلك الدراسات وهي المفردة ذاتها التي ركز عليها من ترجم له في المعاجم والدراسات الاستشراقية وهذه المقالات هي:

1/ مقالة المستشرق (Karl Heinrich Bekher = کارل هاینرش بیکر)(Prinzipielles zu Lammens Sirastudien = مبادئ دراسة لامنس للسيرة) التي نشرها في مجلة الاستشراق الألمانية: Der Islam (Kultur desIslamischen Orients Zeitschrift and = تاريخ الشرق الإسلامي وحضارته) وتختصر عادة بكلمة ( Der Islam = الإسلام). وقد استغرقت (6 صفحات = 263 - 269) من عدد المجلة

الصادر عام (1913 م).

2 و3/ مقالتا المستشرق (Theodor Noldeke = تيودور نولدكة) ( Die Tradition Uber das Leben Muhammeds = الحديث وصلته بحياة محمد) و( Kleine Mitteilungen und Anzeigen = أخبار وانتقادات) وخصصها لنقد کتاب ( Le Berceau de Islam = مهد الإسلام) الذي صدر في (روما / 1914م). وقد نشر هاتين المقالتين في مجلة (Der Islam = الإسلام) في عددها الصادر عام (1914 م). استغرقت الأولى الصفحات (160 - 170)، والثانية الصفحات (205 - 212).

4 / مقالة الباحث والمؤرخ اللبناني «كال الصليبي» « Islam and Syria in the writings of Henri Lammens. = الإسلام وسوريا في كتابات هنري لامنس». وهي منشورة في كتاب (Historians of the Middle East = مؤرخو الشرق الأوسط» المتكون من عمليات جمع مماثلة من قبل المستشرقين «Bernard Lewis و P. M. Holt

. ونشر في «1964 . London: Oxford University)۔

ولا شك في أن فقر الخطاب النقدي المتعامل مع دراسات المستشرق (Lammens = لامنس)واقتصار تلك المقالات على الإطار العام لنتاجه الاستشراقي

ص: 23

كان من الصعوبات التي اكتنفت مجريات هذه الدراسة، فضلا عن شحة تسليط الأضواء الأكاديمية البحثية على موضوعة الاستشراق بشكل عام حتى وقت قریب، بتراتب على مستوى التدريس أو الاخضاع المشاريع الماجستير والدكتوراه أو البحوث والمؤتمرات والندوات الفكرية والأنشطة العلمية الأخرى وكذلك عدم امتلاك الآليات والعدة المنهجية التي يأتي في مقدمتها فقر التواصل مع لغات الخطاب الاستشراقي.

على أن الخطاب الاستشراقي نال في الجامعات ومراكز البحوث العربية اهتماما واضحا، إذ دبجت مئات الكتب والبحوث والمقالات فتبينت سعة هذا الفرع المعرفي وما أعد له من مراكز وأقسام و کلیات و مجلات ودوريات ومؤتمرات، وأحست بفارق الأميال الكثيرة في الطريق الذي بدأت جامعاتنا تتنكب جادته للحاق بسابقاتها المغربية والمصرية واللبنانية والسعودية وغيرها، وبالمسافة الهائلة التي تفصلها وتفصلنا عن منتجي الاستشراق منذ انطلاقاتهم في الأندلس على بعد «14 قرنا» فأغرتني تلك الجهود التي لم تعرف الكلل ولا الملل فكان أن وضعت بصمات وعلامات دلالة ممتدة على طول المسافة التي مرت على علاقتها بالاستشراق؛ لأن أسهم بما أستطيع في هذا المضار.

لقد أفصح الخطاب الاستشراقي بعد ولوجه غرف السياسة العالمية، وتشاکله مع منظومات الإعلام العالمية، عن أنه مازال يتمسك بمهمة تحديد أطر العلاقة بين الغرب والشرق ورسمها، فهذا ما تنبئ به لوحة فنان الاستشراق الحديث اليهودي البريطاني الأمريكي المعاصر « Bernard Lewis = برنارد لويس» بشأن تركيبة الشرق الأوسط الجديد وخرائطه، الذي يريد بناءه على الأساس الديني والمذهبي والعرقي والقومي؛ لتفتيت العالم الإسلامي إلى دويلات دينية ومذهبية وقومية وعرقية صغيرة؛ بعد أن عجزت إسرائيل والحكومات والمؤسسات السياسية الغربية والأمريكية الراعية والداعمة لها أن تجد مكانا وحقا شرعيا في التواجد على أساس القومية. وكان

ص: 24

صاغها منذ ثمانينات القرن العشرين، ووافق عليها الكونغرس الأمريكي بالإجماع عام (1983م) في جلسة سرية، وتم تقنين هذا المشروع واعتماده وادراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية لسنوات مقبلة(1).

كانت الحكومات والمؤسسات السياسية الغربية والأمريكية وبالتعاون مع الحركة الصهيونية منذ عام (1916 م) تحاول إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وظل هذا المشروع قائما حتى العقد التاسع من القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت والدم والجهد العربي والإسلامي يكافح وينافح دون تحقيق ذلك. فكان أن أنتج وتبني العقل الاستشراقي - المدبر للسياسة الأمريكية والغربية تجاه الشرق - سيناريو أسرع وأسهل، وأكثر مقبولية لإقامة هذه الدولة والكيان الغاصب. وهو السيناريو القائم على العمل لإقامة تلك الدولة على الأساس الديني، تماشيا مع نبوءة توراتية تتحدث عن نبي الله إبراهيم عليه السلام تقول: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات»(2).

وعليه يبدو أن ما سمي بالربيع العربي الذي أغرق الأمة بحمامات الدم وخلف أطنانا من الخراب والدمار والأشلاء، ويمكن ضم ما قبله من الدفع باتجاه إشعال حروب إقليمية كالحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الأولى والثانية، وإخراج وحش الإرهاب من قفص إنتاجه الغربي الأميركي، والسماح له بالتكشير عن أنيابه في أفغانستان والمحيط العربي. ما هو إلا علامات دالة وخطوط ومرتكزات أساس لتطبيق خطة (Bernard Lewis = برنارد لويس) وخريطته وإعادة صياغة سايكس بيكو جديدة، تأخذ فيها إسرائيل استحقاقها المدعى في التهام المنطقة وفق أسس الترسیم الجديد، الذي ربما لن يثير رفضا إسلاميا وعربيا بما أن العالم العربي ومحيطه الإقليمي

ص: 25


1- ينظر : محمد إسماعيل: الاستشراق بين الحقيقة والتضليل، 63 -67.
2- سفر التكوين 15 / 18.

سيوزع ويقسم على أساس ديني و مذهبي فمن حق إسرائيل (الديانة / العقيدة) أن تأخذ حقها كما الآخرون، ولا مبرر حينها لاعتراضهم. وبهذا يتضح أن الخطاب الاستشراقي الذي كان مسؤولا عن رسم أطر العلاقة بين الشرق والغرب ما فتى يريد أن يكون اللاعب الأول في إعادة رسم أطر هذه العلاقة وقواعدها في الوقت الحاضر.

قاد تراتب الموضوعة لدراستها بمقدمة وسبعة فصول. خصص الأول منها البيان ماهية الخطاب وامتداده وسعة المجال الذي يغطيه فجاء بعنوان «الاستشراق: الخطاب وصور المغايرة» وقف فيه على مفهوم الاستشراق بوصفه خطابا بدأ بالتحرك في ضمن أطر ضمنت تدفق مساره وتماهيه مع كل منها؛ مما أفصح عن مرونة تقولب منحت هذا الفرع المعرفي سريان مفعوله، وتبدل أطواره وصوره مع الحفاظ على أثره وحضوره وتحكمه الفاعل في ترسيم أنساق العلاقة بين الشرق والغرب وصورها فكانت هذه المفردات نقاط المشروع التي تحرك ضمنها الفصل.

وجاء الفصل الثاني تحت عنوان «الخطاب وإسقاطات التبشير» نظرا لخصوصية الدراسة ولأن الاستشراق - بشكله العام - لم يرغب بالانعتاق من إملاء الشحن الطائفي والضدية الدينية وتغذيتها ودفعهما، التي تنزع لإلغاء الآخر! وفي أقل الفروض لإنزاله بمنزلة أدنی! وبما أن شرائح الاختبار لهذه الحقيقة هي نصوص المبشر المستشرق اليسوعي (Lammens) ضمن دراساته السيرية المتعلقة بالنبي و أهل البيت علیهم السلام كان لابد من الحديث عن نتاجه الاستشراقي و مصادره البحثية، وآلية تعامله مع النصوص، وبيان قيمة آرائه؛ فشكلت هذه المحطات مفاصل هذا الفصل وجزئياته .

أما ثالث الفصول فقد خصص لدراسة صورة النبي صلی الله علیه و آله ضمن تعاملات الخطاب فجاء بعنوان «تقويض صورة النبي المثال» وهنا شكل الخطاب الاستشراقي ميزة خاصة ل-«Lammens» تمثلت بتناول السيرة النبوية بنبرة نقدية حادة جدا، صائغة بذلك تمايز الخطاب النقدي الساعي لخلخلة ثقة الوعي الغربي بكل ما يتعلق بالسيرة

ص: 26

كأساس تدویني وتطبيقات وصفات وأحداث عملية وملموسة منقولة عبر القنوات التدوينية.

وكان رابع الفصول «تقويض صورة المرأة المثال» موجها لتسليط الضوء على المشروع التقويضي لصورة السيدة فاطمة عليها السلام كونها نموذجا للمرأة المثال؛ للاحتفاظ بفرادة الصورة البتولية المثالية لمريم العذراء عليها السلام وهو ما شكل تمایزا آخر لخطاب «Lammens» بالتركيز على التواجد النسوي في السيرة النبوية من خلال صورة السيدة الزهراء عليه وبذلك الخطاب اللاذع البذيء الصياغة! خلافا للآخرين الذين دأبوا على دراسته من خلال الحياة الزوجية للنبي صلی الله علیه وآله.

أما خامس الفصول فكان بعنوان «تقويض صورة البطل والحاكم المثال» وقد خصص لتفكيك ونقد الخطاب الموجه لتقويض صورة الإمام علي عليه السلام وتقديمها بذلك الشكل الضعيف الهزيل، الذي يتضاءل أمام شخصية أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وبعض الشخصيات الأخرى!

ووجه الفصل السادس «تقويض صورة الخليفة والقائد المثال» لنقد ورد الخطاب الموجه ضد صورة الإمام الحسن عليه السلام تلك الصورة التي لم تتوفر إلا على حزمة من الشتائم والسباب واجترار الأكاذيب التي روجتها وسائل الدعاية والرواية والتدوين الأموي والعباسي، والتي لم تكن لتخفى على بسطاء المطلعين وقراء التاريخ، فضلا عن (Lammens» وهو ممن قلبوا صفحات التاريخ الإسلامي وأتوا على الغاية فيها، إلا أنه تعامل مع تلك المرويات بأريحية تامة، نمت عن تحيز واضح ومفضوح؛ لأنه كان يستثار من كل جزئية مهما بدت بسيطة إذا ما تضمنت اعترافا بفضيلة أو حقيقة لأحد الأئمة عليهم السلام.

وكان سابع الفصول «تقويض صورة الثائر والمضحي المثال» يحاول الكشف عن الرغبة العنيدة لدى «Lammens» بإزاحة صورة الإمام الحسين عليه السلام بوصفه مثالا

ص: 27

عالميا يمنح من يطالع سيرته ويتعرف بعض أحواله مثلا أعلى في التضحية لأجل المبدأ والحرية والكرامة وعزة النفس والإباء. وهي صورة تزاحم كثيرا صورة المضحي والفادي المتمثلة في المخيال المسيحي بالسيد المسيح؛ فكان لابد من إزاحتها للاحتفاظ بفرادة الاعتقاد بهذه المثالية.

وقد اعتمدت الدراسة على مصادر متعددة، كان يقدمها مؤلفات المستشرق «Lammens» على شكل كتب وبحوث ومقالات، وهي:

1- کتاب : (Etudes sur le regne du Calife Omaiyade Moawia Ler = دراسات عن حكم الخليفة الأموي معاوية الأول)، وقد أصدره على شكل مقتطفات في دورية (Melanges de la faculte Orientale = منوعات الكلية الشرقية). في المجلدات الثلاثة الأولى 1906 / 1907 / 1908م).

2-بحث Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet =القرآن والسنة كونت حياة محمد).

وقد نشره في مجلة (Recherches de Science religieuse = أبحاث العلوم الدينية. العدد الأول/ باريس / 1910 م) وحاول فيه جاهدا تقويض صورة النبي صلی الله علیه و آله وتشويهها عبر تصيد النصوص وتحريفها والالتواء عليها وتأويلها واستلابها.. الخ. من دون أن ينسی شحنها بذيء القول وفاحش اللفظ؛ مفصحا بذلك عن مكنونات تعصب وحقير واضحين وصريحين.

3- بحث ( L'age de Mahomet et La Chronologie de La Sira = عمر محمد والتسلسل التاريخي للسيرة) وقد نشره في (Journal Asiatique = المجلة الآسيوية . العدد السابع عشر / باریس/ 1911 م). وفكرته الأساس مناقشة مسألة عمر النبي صلی الله علیه و آله حين تلقيه الوحي، ومحاولة نقض أن ذلك تم في سن الأربعين، وتأخيره لعشر سنوات أي في الثلاثين من عمره؛ للوصول إلى حكم مفاده أنه كان على خلاف الأنبياء الذين

ص: 28

جرت السنة الإلهية في أن يبعثوا بعمر الأربعين!

4 - بحث (il sincere? - Mahomet Fut = هل كان محمد صادقا؟ ) وقد نشره في مجلة (Recherches de Science religieuse = أبحاث العلوم الدينية. العدد الثاني / باريس / 1911 م). وهو دليل آخر على تطرفه وتعصبه في اختيار عنواناته أو مشاكله البحثية؛ فهو ينطلق من الفكرة الأساس التي طالما ألح عليها المستشرقون والمبشرون، وافترضوا حولها مئات الافتراضات، فاجتر بعضا من تلك الافتراضات والطروحات وصاغها بأسلوبه وطريقته الخاصة من قفز على الحقائق والمنطق والعقل.

5 - کتاب ( Fatima et les Filles de Mahomet, notes critiques pour letude de la Sira = فاطمة وبنات محمد: آراء نقدية حول السيرة. روما / 1912م) وهو أهم كتبه وأكثرها تحاملا وتعصبا، فقد بالغ فيه بتهكمه وبآرائه المتطرفة وتحليلاته المغرضة المتعلقة بالتدوين السيري سيما الخاص بالنبي و أهل البيت علیهم السلام والتي كانت محل استهجان ورفض المستشرقين أنفسهم.

کتاب (Le califat de Yazid Ler = خلافة يزيد الأول). بيروت / 1922م). نشره على شكل مقتطفات أو أجزاء في (Melanges de la faculte Orientale = منوعات الكلية الشرقية خلال أعداد السنوات (1910 - 1922م) وهو الآخر يطغى بالكلام الخارج عن حدود اللياقة والأدب بحق الإمام الحسين وصحابته : والذي إن دل على شيء فإنما يدل على بعده عن النية باستعراض الأحداث التاريخية وتحليلها!

6- کتاب ( L'Islam et Croyances et Institutions = الإسلام: عقائد ونظم. بيروت / 1926 م) ثم طبع مرتين خلال (1941 - 1942م) وترجم لأكثر من لغة. وقد ادعى في مقدمته أنه سيكون علميا وموضوعيا، وحسن النية في طروحاته ولكنه كان كسابق دراساته مليئة بالتعصب والكراهية، ولم يغادر فيه أساليبه القديمة في

ص: 29

التأويل والالتواء، والاختلاق واعتماد الشواذ والضعاف من النصوص والروايات.

7- مقالته عن الإمام علي عليه السلام (A propos de Ali ibn Abi Talib = فيما يتعلق بعلي بن أبي طالب. في مجلة (Melanges de la Universite Saint Joseph = منوعات جامعة القديس يوسف عام، 1921م).

8- مقالته عن الإمام الحسن عليه السلام في (Encyclopaedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية). الطبعة القديمة التي صدرت خلال المدة (1913 - 1936م) تحت عنوان ( Hasan - A1 = الحسن. مج3 / 274).

9- مقالته عن الإمام الحسين عليه السلام في (Encyclopaedia of Islam = دائرة

المعارف الإسلامية) الطبعة القديمة، تحت عنوان ( Husain - Al = الحسين. مج3/ 339.)

هذه الدراسات العشر هي المصادر الأساس التي تعاملت معها الدراسة . وتجدر الإشارة هنا إلى أن (Lammens) كان قد اعتمد أسلوب السرد في طرح موضوعاته؛ فغابت العنوانات الفرعية ،والجزئيات التي تعطي القارئ فسحة من الوقت لتركيز أفكاره، والانسياب بين مفاصل الموضوعات بشكل أكثر سلاسة ويسر. فعادة ما كان يعنون الفصل بعنوان رئیس، ثم يبدأ بسرد الأحداث، والأفكار التي يطرحها من دون توقف حتى نهاية الفصل. وكذلك هي البحوث فمثلا في بحثه (ilsincere? - Mahomet Fut = هل كان محمد صادقا؟ ) اكتفي بهذا العنوان، وراح يسرد الأحداث والأفكار والطروحات على مدى (65 صفحة) من دون توقف ومن دون أن يتخللها عنوان فرعي. وكذلك فعل في بحثه « Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة كيف كنت حياة محمد؟ » وهكذا، وقد شكلت هذه الطريقة صعوبة بارزة للدراسة؛ إذ كان من الواجب امتصاص أو استشفاف الأفكار الرئيسة، والطروحات الأساسية،

ص: 30

تتضمنها هذه الحزم النصية الممتدة، وصياغتها في ضمن عنوانات، تستطيع الاحاطة بمضامينها؛ لتسهيل عرضها، ومن ثم مناقشتها، والوقوف على مدى صحتها، وأصالتها، وتاريخيتها.. كما أن هذه الطريقة، هي ما أدت لطول النصوص المقتبسة؛ فقد كان يمهد للفكرة بسرد تاريخي و تحليلي وينتخب شواهد معينة، ومن ثم يأتي بها وحينئير لا يمكن عرضها من دون المقدمات التي وضعت لتقريرها. بمعنى أن النص المقتبس، سيصاب بالإرباك أو عدم الوضوح والدقة؛ إذا ما حاولنا اختصاره بشكل أكبر. وكذلك الحال بالنسبة للردود و النقود التي وجهت لطروحاته وأفكاره.

كما تطلب تفحص بنية الخطاب المقدم اعتماد المصادر الموظفة في دراسات «Lammens» العشر المتقدمة؛ لغرض المقارنة والمقابلة وكشف مدى التلاعب الذي حاق بالنص الأصلي، واجتزاءه، ومدى الخروج عليه، واستلاب معناه، وعكسه وتكذيبه واستبداله واستباحته وامتهانه، عبر آليات فرض الخطاب. وبطبيعة الحال تنوعت تلك المصادر وامتدت على مستوى واسع من فروع التدوين، متنقلة بين كتب الحديث والسيرة والتاريخ والتراجم والمعاجم والموسوعات والادب والمعارف، والدراسات الاستشراقية والنقدية وغيرها. وسيشار إليها هنا بشكل مختصر؛ فثمة تفصیلات أخرى عن هذه المصادر، عمد فيها لرصد المصادر الأساس التي اعتمدها (Lammens) في دراساته.

ولاريب في أن دراسة بهذا المضمون تحاول رصد التقاطع والتضاد بين المسيحية - المحرفة - والإسلام لابد من أن يتصدر قائمة مصادرها القرآن الكريم؛ ولغرض الاحتجاج والمقابلة لابد من أن يكون المصدر الثاني هو الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

أولا - كتب الحديث: كان من أهمها وفي مقدمتها كتاب (المسند. لأحمد بن حنبل) إذاتخذه (Lammens) مصدر أساسا في الاستشهاد والإرجاع للنصوص

ص: 31

الحديثية لما حواه من غث الحديث والرواية وشاذها وضعيفها وموضوعها، ووظف نصوصا وروایات مشابهة من مصادر حديثية أخرى؛ فاقتضى الرجوع إليها بغية الوقوف على حقيقة تلاعب الخطاب وتوظيفاته ومقدار تجني النص الأصلي، ومن هذه المصادر: صحيح البخاري، وشرحيه: فتح الباري لابن حجر، وعمدة القاري. للعيني، صحيح مسلم، صحيح ابن حبان، سنن الترمذي، سنن أبي داود، سنن النسائي، ومعاجم الطبراني الثلاثة، ومستدرك الحاكم النيسابوري، و کنز العمال للمتقي الهندي. وقد جنحت الدراسة إلى الاحتجاج على (Lammens) وتفنيد خطابه من خلال ما وظفه من مصادر، وهي بشكل كامل المصادر المنتمية للمدرسة المخالفة لأهل البيت عليهم السلام إذ لم يعتمد أي مصدر شيعي. وانطلاقا من مبدأ ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم وتوخيا لاختراق الخطاب الموجه من العمق وبشكل مباشر؛ آثرت الدراسة أن تعتمد مصادر المدرسة نفسها، وفي بعض الأحيان ذات الطبعات التي استخدمها.

ثانيا - كتب السيرة: ويأتي في مقدمتها كتاب «السيرة النبوية. لابن هشام» وكان (Lammens) قدمه على أنه مؤلف محابي للإمام علي اللا ليوحي بنوع من الوثاقة والحجية لكل استلالاته والتقاطاته السلبية من هذا الكتاب !؛ ولذلك كان لزاما الرجوع إلى المصادر السيرية الأخرى: كدرر ابن عبد البر، وعيون الأثر لابن سید الناس، وسيرة ابن كثير، وسيرة المقريزي = إمتاع الأسماع، وسيرة الحلبي = إنسان العيون.. المقابلة النصوص وترجيحها. وفي الموضوعة ذاتها ولكن تحت عنوان المغازي كان لمغازي الواقدي، الذي عده هو الآخر من الشيعة للأسباب ذاتها، حضورا في ثنايا الدراسة.

ثالثا كتب الطبقات والأنساب والتراجم: فضلا عن سردها تراجم الشخصيات التي تتناولها، فهي تقدم معلومات وأخبارا تاريخية عامة حتى بالإمكان تبين تاریخ

ص: 32

متكامل عن المساحات الزمنية التي تحرك خلالها الأشخاص المترجم لهم، فضلا عن أن بعضها عقد جزءا مختصة بالسيرة مثلا كما فعل (ابن سعد في طبقاته الكبرى) فكان هو و(البلاذري في أنسابه) من المصادر المهمة في الدراسة. وينظم إليها كتاب نسب قریش، لمصعب الزبيري، وكتاب جمهرة نسب قریش، للزبير بن بكار، وكتابي الاستيعاب والاستذکار، لابن عبد البر، وأسد الغابة، لابن الأثير، والإصابة في تمييز الصحابة، ولسان الميزان لابن حجر، وسير أعلام النبلاء ومیزان الاعتدال وتذكرة الحفاظ للذهبي، وكتب الجرح والتعدیل مثل: ضعفاء العقيلي، وكامل ابن عدي . ولاختصاص الدراسة بميدان الاستشراق اعتمد على الموسوعات الاستشراقية حضور في معظم صفحاتها لترجمة الأعلام ومنها: موسوعة المستشرقين. لعبدالرحمن بدوي، المستشرقون، لنجيب العقيقي، ومعجم أسماء المستشرقين ليحيى مراد.

رابعا - كتب التاريخ: يأتي في مقدمتها تاريخ الرسل والملوك للطبري؛ إذ تلقفه المستشرقون منذ صدور طبعته الأولى في مدينة ليدن الهولندية بتفصيل سيأتي في محله . وكتاب تاريخ مدينة دمشق لابن عساکر، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وكتاب البداية والنهاية لابن كثير، وكتاب تاريخ الخميس للديار بكري، وكتاب المنتظم لابن الجوزي وغيرها.

خامسا - كتب اللغة والأدب والمعارف: توجب العودة إليها المتابعة بعض النصوص الأدبية التي وظفها الخطاب، ولتفسير مغمضات بعض الكلمات وتبیان معانيها، وهي بالتأكيد قائمة طويلة نذكر منها: كتاب العين للفراهيدي، وكتاب الصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي، وكتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتابي: المعاني الكبير، والشعر والشعراء لابن قتيبة، وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه

ص: 33

الأندلسي، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب عيون الأخبار، لابن قتيبة وغيرها.

سادسا - کتب الاستشراق: سواء ما ألفه المستشرقون وترجم إلى العربية، أو ما ألفه المسلمون والعرب للرد على كتابات المستشرقين أو لتفحص هذا الميدان المعرفي بصورة عامة ومعالجته. فكان من أهمها: كتاب تاريخ حركة الاستشراق للمستشرق يوهان فوك وكتاب صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى لريتشارد سوذرن، وكتاب جاذبية الإسلام. لمکسیم رودنسون، وكتابا المستشرق آتین دینیه محمد رسول الله. والشرق في نظر الغرب. وكتاب أحزاب المعارضة الدينية والسياسية في صدر الإسلام ليوليوس فلهوزن، وكتاب تاريخ الاستشراق وسياساته لزکاري لو كمان. ومما دیجه العرب والمسلمون حول هذه الموضوعة استعانت الدراسة بشريحة واسعة من الكتب يأتي في مقدمتها: کتاب الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق لإدوارد سعيد وكتاب فلسفة الاستشراق لأحمد سایلوفتش، وكتاب نقد الخطاب الاستشراقي لساسي سالم الحاج.

سابعا - كتب العقيدة والمقارنة بين الأديان : كان لها حضور واسع في رسم نقاط التقارب والتباعد والتقاطع والتوازي بين المسيحية والإسلام. ولما كانت الدراسة تسير في مضمار الخطاب الديني، كان من الضروري الوقوف على بعض منها: ككتاب تاريخ القرآن لنولدکه، وكتاب العقيدة والشريعة لجولدتسيهر، وكتاب محمد في الترجوم والتلمود والتوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب وأصحاب الديانات لهشام محمد طلبة.

هذا فضلا عما كتب في موضوعات متفرقة، وهي الأخرى قائمة طويلة منها ما وظف في رصد تاریخ بعض المصادر ککتاب: معجم المطبوعات العربية لإليان سرکیس، وكتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين. ومنها ما اختص بموضوعات

ص: 34

سیاسية ككتاب البعثات اليسوعية لطلال عتريسي، ومنها ما اختص بموضوعة المصطلحات الحداثوية والنقد الأدبي ككتاب دليل الناقد الأدبي لميجان الرويلي وسعد البازعي.

تبقى الإشارة هنا لما يتعلق بعنوان الدراسة بدءا بالنص، وهو يعني في مفهومه اللغوي: السير الشديد أو منتهى الشيء، قولهم: نصصت ناقتي، أي جعلها تسير بشدة حتى يستخرج أقصى ما عندها. نصصت الحديث إلى فلان، أي رفعته إليه. ونصصت الرجل، إذا استقصیت مسألته عن الشيء حتى تستخرج ما عنده. ونص كل شيء: منتهاه (1).

أما في الاصطلاح: فهو مفهوم حديث في الفكر العربي المعاصر. وهو ليس وليد هذا الفكر، إنما هو كغيره من مفاهیم كثيرة أخرى وافدة من الحضارة الغربية بوصفها نتاجا لتلاقح الحضارات والثقافات الإنسانية. فكلمة «Textus» اللاتينية متأتية من الفعل (texere = نص). وهو يعني في العربية (نسج). ومثلما يتم النسج من خلال مجموعة من العمليات المفضية إلى تشابك الخيوط وتماسكها مكونة قطعة قماش متينة متماسكة، فالنص نسيج من الكلمات يترابط بعضها ببعض لتؤدي معنى ما، وهو أيضا مجموع الملفوظات اللغوية، أو عينة من السلوك اللغوي الذي يمكن أن يكون مكتوبا ويمكن إخضاعه للتحليل.

على أن هذا لا يعني أن النص: وحدة نحوية مثل الجملة أو شبه الجملة مثلا فمعيار الكم ليس ضروريا بتحقق النص؛ إذ قد يكون كلمة أو جملة أو عملا أدبيا کاملا، وبتعبير أدق وأوضح: هو عبارة عن «وحدة دلالية» وهذه الوحدة، ليست وحدة شكل، بل وحدة معنى (2).

ص: 35


1- ينظر : الجوهري، الصحاح، 3/ 1058.
2- ينظر: الصبيحي: محمد الأخضر، مدخل إلى علم النص، 18 - 21.

ولذا فإن النص يشكل المظهر الشكلي المجرد للخطاب، بينما يعني الأخير. أي الخطاب: الممارسة الفعلية، الاجتماعية للنص (1).

والنص المعني بالدراسة هو الخطاب المثبت بواسطة الكتابة، بما هو وسيلة الترويض الفكر نحو تبني أيديولوجيات المذاهب العقدية، والسياسية وحتى الشخصية، والدعاية لها، من قبل من يصدر ذلك النص. سواء كان ذلك متعلقا بالنص الأصلي - المصدر الأول. أو بالنص الثاني - المنتج من قبل الخطاب الاستشراقي بالاعتماد على آليات الخطاب.

أما التجني: فهو التجرم، جنى عليه. يجني جناية. وهو أن يدعي فلان على فلان ذنبا لم يفعله. أي تقول عليه شيئا هو بريء منه(2). ويراد منه تجني النص ورواته وكتابه على أصحاب الكساء.

وأما الاستباحة: فمتأتية من البوح وهو: ظهور الشيء. يقال: باح به صاحبه بوحا وبؤوحا. والإباحة: شبه التهبي. استباحوه: انتهبوه. (3)وإباحة الشيء. أنه ليس بمحظور فأمره واسع غير مضيق (4). ويراد منها استباحة النص والتصرف العبثي وغير المسؤول بمفهومه وتركيبه ودلالته من قبل «Lammens». وكأنه ينتهب ذلك النص ويتصرف به كيف يشاء، فيقطعه، ويستلبه، ويغير دلالاته، ويلتوي على مفهومه، ويؤوله ويكذبه، ويحرفه.

ولابد من أن يشار هنا للقصدية سواء من منشئ النص الأول - الراوي أو المؤرخ. أو الثاني = Lammens. والقصد هو ما يريده منشئ النص من خلال تعبيره.

ص: 36


1- الصبيحي: مدخل إلى علم النص، 73.
2- ابن منظور: لسان العرب، 14/ 154 - 155.
3- الفراهيدي: العين، 311/3
4- ابن فارس: معجم مقاییس اللغة، 1/ 315.

أي هدف النص (1). وهو يتضمن أيضا موقف وغاية منشئ النص (2)، فلكل منتج خطاب غاية يسعى لبلوغها، أونية يريد تجسيدها. وتكمن أهمية هذا الجانب في أنه يمثل جزءا مهما من دلالة الخطاب. بمعنى أن هذا القصد يؤثر في بنية النص وأسلوبه ؛ فيختار الكاتب لنصه الوسائل اللغوية الملائمة لتحقيق قصده؛ فتجسيد القصد يقتضي وضع خطة معينة تجعل النص يتسم بالترابط والاتساق، ويسير باتجاه غاية محددة (3).

وعلى هذا الأساس تكون قصدية النص لا تتمثل في مجرد الدلالة الكامنة فيه، وإنها تتعداه إلى نية منشئ النص في إيصال هذه الدلالة إلى المتلقي (4).

ولأن الدراسة اضطلعت ببيان هذه الحيثيات وتداخلاتها صير لابتنائها على أساس عرض ومناقشة إيحائيتين في وقت واحد ممثلة بثنائيات «النص / الخطاب».

وأخيرا.. لئن كانت هذه الدراسة، تفصح عن هيبة أمل، في تقرير ما حاولت تقريره؛ فذاك لجميل ما اعتذر به القاضي عبد الرحيم البيساني (5)حين قال: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زید کذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم

ص: 37


1- سعید بحيري: علم لغة النص، 146.
2- بو جراند: النص والخطاب والإجراء، 103.
3- ينظر: الصبيحي: مدخل إلى علم النص، 73.
4- عبد الراضي: أحمد محمد، نحو النص بين الأصالة والحداثة، 89.
5- أحد قضاة السلاطين الأيوبيين في مصر، اختص منهم بصلاح الدين الأيوبي. كان أبرز من يجيدون الكتابة وصناعة الإنشاء في وقته. ولد في عسقلان عام 529 ه. نسب إلى مدينة (بيسان) الواقعة بين حوران وفلسطين؛ لإقامته وأبيه هناك. ثم انتقل إلى مصر واتصل بقضاتها وسلاطينها فأصبح من أكابر قضاتها وأدبائها. مات بمصر سنة 596 ه-. یاقوت الحموي: معجم الأدباء، 4/ 123 - 127؛ معجم البلدان، 1/ 527؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6 / 139 - 142.

العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر»(1).

لذا أضع هذه البضاعة المزجاة بين يدي قارئها فليوسع العذر، وليهدي لسواء السبيل؛ فقديما قال الصولي (2): «المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من منشئه»(3).

ص: 38


1- حاجي خليفة: کشف الظنون، 1/ 18.
2- أبو إسحاق بن العباس بن محمد بن صول البغدادي، كان جده صول مولى ليزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وهو الأدباء والشعراء المشهورين والكتاب المذكورين. توفي في سامراء عام 243ه-. ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 44 - 47. وكان كاتبا للمعتصم والواثق والمتوكل العباسيين. ابن حجة الحموي: ثمرات الأوراق، 222
3- ابن حجة الحموي: ثمرات الأوراق، 222.

اَلْفَصْلُ اَلاَوَلُ: الاستشراق: الخطاب وصور المغايرة

اشارة

ص: 39

ص: 40

مَدخَل

كان إدوارد سعيد(1) أول من فهم الاستشراق وتعامل معه، وصاغه على أنه خطاب معرفي موجه / سلطة معرفية. بعد أن استعار من (Michel Foucault = میشیل فوکو 1926 - 1984م) (2)عدته المنهجية في فهم الخطاب = Discourse. على نحو

ص: 41


1- مفکر وناقد أدبي فلسطيني الولادة أميركي الجنسية. ولد في القدس عام (1935م) وتوفي في أميركا عام (2003م). أتم دراسته الجامعية في أميركا، فحصل على الماجستير عام (1960م) وعلى الدكتوراه (1964م) من جامعة (Harvard = هارفارد) وأصبح استاذا للغة الإنجليزية والأدب المقارن في الجامعات الأميركية. من أهم مؤلفاته: کتاب (جوزيف كونراد وخرافة السيرة الذاتية / 1966م. وهو أطروحته للدكتوراه)، کتاب الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق / 1978م)، کتاب ( العالم والنص والناقد / 1983م)، كتاب (المثقف والسلطة / 1994م). إدوارد سعيد: الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، 20 - 32 (المترجم).
2- ولد في فرنسا ودرس الفلسفة وأصبح أحد اساتذتها البارزين. انتدب للعمل بجامعة تونس عام (1966م). ثم رجع إلى فرنسا ليشغل كرسي الفلسفة عام (1970م)، وليتخصص في تاريخ أنساق الفكر. ومن ثم ليؤسس تخصص جديدا أسماه (أركيولوجيا المعرفة = علم آثار المعرفة = إعادة النظر في وضع المعرفة واستخدام مفاهيم العلم. أهم مؤلفاته كتاب ( Histoire de la folie a lage classique = تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. 1961م) وكتاب (Naissance de la Clinique = مولد العيادة. 1963م)، وكتاب (Les mots et les choses = الكليات والأشياء. 1969م)، وكتاب (Archeologie du Samoir = أركيولوجيا المعرفة. 1969م) وکتاب ( TOrdre du discours = نظام المقال أو الخطاب). عبد الوهاب جعفر: البنيوية بين العلم والفلسفة عند میشیل فوکو، 24 - 28؛ عبد الرزاق الدواي: موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، 128.

ما عرضها في كتابيه «علم آثار المعرفة والتأديب والعقاب» فقال: «ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لونا من ألوان الخطاب، فلن نتمكن مطلقا من تفهم المبحث البالغ الانتظام الذي مكن الثقافة الأوربية من تدبير أمور الشرق - بل وابتداعه - في مجالات السياسة وعلم الاجتماع، وفي المجالات العسكرية والأيدولوجية والعلمية والخيالية في الحقبة التالية لعصر التنوير»(1). فكان كتابه «الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق» نقلة حاسمة في تحليل العلاقة بين المعرفة والقوة، وأداء الخطاب الاستشراقي العام لوظيفة سیاسية وتصويرية خدمت السياسات الاستعمارية، والنظرة الغربية الاستعلائية بشكل عام، وشكلت جزء لا يتجزأ من مناخات صعود الهيمنة الغربية على الشرق (2).

والخطاب بصورته المبسطة : كل کلام تجاوز الجملة الواحدة، سواء كان مكتوبا أو ملفوظا. غير أن الاستعمال الاصطلاحي تجاوز ذلك إلى مدلولات غير ملفوظة. ومثال ذلك أن يقول شخص لآخر: «ألا تزورني» فالسامع لا يفهم من هذه الجملة أنها سؤال، على الرغم من أن ذلك هو البنية أو الشكل النحوي لها، وإنما يفهم منها أنها دعوة للزيارة. وقد اتجه البحث فيما يعرف بتحليل الخطاب إلى استنباط القواعد التي تحكم مثل هذه الاستدلالات أو التوقعات الدلالية. غير أن للخطاب مفهوما آخر فاق المفهوم الألسنى أو اللفظى، للبحث في أهميته النقدية، وهو ما تبلور في كتابات (Michel Foucault = ميشيل فوكو) إذ استطاع أن يحفر لهذا المفهوم سیاقا دلاليا اصطلاحيا مميزا عبر التنظير والاستعمال المكثف فهو يحدد الخطاب على أنه شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه(3). كما أن له دورا واعيا يتمثل في الهيمنة التي يمارسها في حقل معرفي أو مهني أصحاب ذلك الحقل؛ على

ص: 42


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، 46.
2- إدوارد سعيد: تعقيبات على الاستشراق، 26 (المترجم).
3- ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، 164.

أهلية المتحدث وصحة خطابه ومشروعيته وما إلى ذلك من ملابسات تشير إلى أن انتاج الخطاب وتوزيعه ليس حرة أو بريئا كما يبدو ظاهره(1). وهو في مجال الاستشراق عبارة عن ثقافة سلطوية غربية متنامية حول الشرق، اكتسبت مؤسساتها وقواعدها ومتخصصيها؛ لإعادة صياغة الشرق وفق الرغبة والتصور والإحساس بالتعالي والتفرد المعرفي الغربي.

وبالعودة للأنساق المعرفية التي دبجت حول الظاهرة الاستشراقية، منذ أن بدأ إدراكها كظاهرة معرفية تحاول فهم الشرق وتفسيره وصياغته وفق أنماط متعددة متباينة. نجدها تقلبت بين وجه من أوجه التبشير والتنصير، أو الحرب على الإسلام، وصورة من صور الاستعمار السياسي أو الغزو والتغريب الثقافي، أو شكل من أشكال العلمانية ودعوى الخروج على الدين، وتارة جنوح للغرائبية والرومانسية والشاعرية التي يتوافر عليها الشرق وأخرى ملاحقات وتنقيب عن مواطن اللغات القديمة، وشعوبها، وآثارها وتراثها وحضارتها بحثا عن أصالة منشودة للكتاب المقدس، أو اختبارا لواقعيته وصدقه وعلميته وقدمه. انجرارا الميدان «Anthropology الأنثروبولوجيا = علم الإنسان» وبحث علاقة الإنسان بمحيطه من خلال عمليات الاستكشاف والحفريات، والتعرف على الأعراق الإنسانية والعادات والأعراف والتقاليد والطقوس والأنظمة(2).

وصولا لتصنيف المجتمعات الإنسانية على أساس تلك المفردات وغيرها الطبقات وأعراق وأصول مختلفة يمنح فيها التفوق للعنصر الغربي (3) ومیدان

ص: 43


1- میجان: دلیل، 156.
2- سامي خشبة: مصطلحات فكرية، 34 - 36.
3- ينظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، 324، 325. وعن علاقة الأنثروبولوجيا بالاستشراق. ينظر: الجابري: صلاح: تفكيك الاستشراق، 25 - 77.

Philology = الفيلولوجيا = فقه اللغة»(1)کسرد لقصة حياة الكلمة ومغامراتها وما اكتسبته من انطباعات مختلفة من الأحداث والأمكنة التي استعملت فيها، وكانت نجاحاته الكبرى تتمثل في «النحو المقارن» وإعادة تصنيف اللغات في أسر منفصلة، والرفض النهائي للقول بأن اللغة لها أصول إلهية. بعد أن اكتشف العلماء أن اللغات المزعومة «العبرية بصفة خاصة» لاتمتلك العراقة الأزلية والأصل الرباني، وفقدانها المنزلة الإلهية لنصوصها المقدسة بعد اكتشاف الأسبقية الزمنية «للسنسكريتية: إحدى أقدم اللغات الهندية» على اللغة العبرية، وانتفاء فكرة وجود لغة أولى أعطاها الرب للإنسان في جنة عدن؛ مما أدى لابتعاد موقع أولى بدايات الحضارة إلى مناطق شاسعة البعد شرقي الأراضي المذكورة في الكتاب المقدس. وإخلاء الساحة للقول بوجود لغة أم «کالهندية الأوربية أو السامية» واستخدام «السنسكريتية» كدالة ومعيار للمقابلة وهو ما أنتج لاحقا نظرية «الأصل السامي» التي انتجها فقه اللغة، الذي بات يمثل للعلوم الإنسانية ما تمثله الفيزياء والكيمياء للعلوم الخاصة بالأجسام (2).

ص: 44


1- أبرز المشتغلين على الاستشراق من هذا المنظور المعرفي هو الفرنسي: (Ernest Renan = آرنست رينان 1823 - 1892م). وقد عني خصوصا بتاريخ المسيحية وتاريخ شعب إسرائيل. أقام في لبنان وتجول في فلسطين ومصر، بحثا عن الآثار الفينيقية وحياة المسيح. من أهم كتبه (ابن رشد والرشدية. وهي اطروحته للدكتوراه عام 1852 م). كان موقفه من الإسلام شديد التعصب وقد بين ذلك في محاضرته الإسلام والعلم التي ألقاها في السوربون عام (1883 م) وادعى فيها أن الإسلام يضطهد العلم والفلسفة! بدوي: موسوعة المستشرقين، 311 - 314. قام رينان بتدعيم الخطاب الاستشراقي الرسمي وتنظيم الأفكار التي أتی بها، وإنشاء مؤسساته الفكرية والدنيوية، وتطويعه حتى يلائم فقه اللغة. وتطويع فقه اللغة والاستشراق حتى يلائها الثقافة الفكريا لعصره! وهو ما مكن الأبنية الاستشراقية من الاستمرار فكرية، وزاد من إبرازها للعيان. إدوارد سعيد: الاستشراق، 223 - 237. ولعل أبرز الأعمال الاستشراقية التي وظف فيها فقه اللغة هو کتاب تاریخ القرآن لنولدكة، 14، 19 (المترجم).
2- إدوارد سعيد: الاستشراق، 223، 224.

وتزداد الأنساق اتساعا لتصل إلى صورة المقابل الثقافي الذي من خلاله تحدد صورة الآخر؛ بعده صورة تجمع في إطارها خبرة وشخصية وفكرة مضادة، وانتهاء بهيمنة ثقافية وفكرية وحضارية قوامها صراع الحضارات (1). الذي بات بديلا أكثر حداثة عن صراع الغرب المسيحي مع الشرق الإسلامي. ويمارس فرضها اليوم من خلال المؤسسات والمنظمات السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، وتصدر في الصحف والمجلات والكتب والإعلانات والدعايات والقنوات التلفزيونية وشبكات الانترنت، والمناهج الدراسية والشركات الصناعية، بل حتى في إعادة تشكيل ودعم المنظمات الإرهابية والمتطرفين. وبالنتيجة هناك إعادة انتاج وتصدير للخبرة والمعرفة والفكر والثقافة والسيطرة الغربية ضمن شبكة متنوعة من القنوات وخطوط النقل، يتجاوز حدود المعنى والأفق المحدود للظاهرة، ليتماهي بأشكال متعددة وصور متغايرة، من دون أن يفقد جوهره الأساس وكونه سلطة معرفية موجهة من ذات أعلى، صائغة بذلك وجها آخر من وجوه الاستشراق قوامه التمثيل والتماثل. وما لهذا المسار الطويل أن يؤطر إلا ضمن نظام الخطاب والسلطة المعرفية الموجهة.

ص: 45


1- على نحو ما عرضه (صموئيل. بي. هانتیجتون) في الإسلام والغرب آفاق الصدام. والمؤلف هو أستاذ نظم الحكومات، ومدير معهد (جون إم أولين للدراسات الاستراتيجية) في جامعة هارفارد الأميركية. وقد وضع الدراسة في إطار مشروع عن (البيئة الأمنية المتغيرة والمصالح القومية الأميركية). هانتیجتون: الإسلام والغرب، 4 (المترجم).

(1)المعنى وتحديد الهوية: الاستشراق في الفكر الغربي

من الواضح أن التجذير اللغوي لكلمة استشراق يحيل إلى الفهم الجغرافي لجهة الشرق، فهي مشتقة من مادة شرق: شرقت الشمس تشرق شروقا وشرقا: طلعت(1) والمقطع الأول (أست-) يضاف إلى كلمة (شرق) ليدل على الطلب بشكل عام. أي طلب شيء غير موجود لحظة الطلب. فكلمة استأذن تعني طلب الإذن. وكلمة استغفر تعني طلب المغفرة. والاستشراق: مصطلح مولد سکه العرب المحدثون مقابلا للكلمات ( Orientalistik - Orientalism - Orientalism

) في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، مستندين في ذلك إلى الأصل في هذه الكلمة وهو (Orient) وتعني الشرق قبالة كلمة (Occident) التي تعني الغرب. فهي كلمة ذات دلالة جغرافية وفلكية في آن واحد؛ ففي الجغرافية تعني ما يقع في جهة الشرق من المتحدث، وفي الفلك تعني ما يقع في الجهة التي تشرق منها الشمس(2). وبما أن أصل الكلمة أوربي فمن المفترض أن يشير إلى دراسة البلاد التي تقع شرق أوربا جغرافيا وفلكيا. ولكن ما يسمى في أوربا بالدراسات الاستشراقية أو العلوم الشرقية إنها تتناول المنطقة الواقعة في الجنوب والجنوب الشرقي من أوربا! إذن فالمنطقة لا تنطبق عليها صفة الشرق من حيث المفهوم الجغرافي المعبر عنه بكلمة «East بالإنجليزية و بكلمة (Est) بالفرنسية وبكلمة (Ost) بالألمانية. فلابد من البحث عن دلالة أخرى لمفهوم الشرق

ص: 46


1- الفراهيدي، العين 5 / 38 - 39؛ الجوهري: الصحاح 4 / 1500 - 1501؛ ابن فارس: معجم مقاییس اللغة 3/ 264.
2- أحمد رشید رضا: معجم متن اللعة، 3/ 310؛ الشاهد: محمد، الاستشراق ومنهجية النقد. في مجلة الاجتهاد عدد 22 / 1994م)، 195. اصطيف: عبد النبي: نحو استشراق جديد، في مجلة الاجتهاد ( العدد 50 لعام 2001م)، 35.

المقصود في الدراسات الاستشراقية. ففي اللغة الألمانية يشار لمنطقة الشرق المقصودة بالدراسات الشرقية بكلمة أخرى تمتاز بطابع معنوي وهي (Morgenland = بلاد الصباح والصباح تشرق فيه الشمس، وتدل هذه الكلمة على تحول من المدلول الجغرافي الفلكي إلى التركيز على معنى الصباح الذي يتضمن معنى النور، واليقظة، ومقابل ذلك يستخدم في اللغة نفسها كلمة (Abenadland = بلاد المساء) لتدل على الظلام والراحة. وهذه الكلمات الألمانية هي الترجمة الحرفية لمعنى كلمة (Orient = الشرق) وكلمة (Occident = الغرب).

وعند البحث عن المدلول اللغوي الأصلي لكلمة (Orient) في اللغات الأوروبية، نجد معناها في اللغة اللاتينية (Oriant = يتعلم أو يبحث عن شيء ما) وبالفرنسية (Orienter = وجه أو هدى أو أرشد). وبالإنجليزية (Orientation - Orientate = توجيه الحواس نحو اتجاه أو علاقة ما في المجال الفكري أو الروحي). وفي الألمانية (Sich Orientieren = يجمع معلومات أو معرفة عن شيء ما). وهكذا تشترك كل الترجمات لكلمة (Orient = الشرق (في أن معناها يتمركز حول طلب العلم والمعرفة والإرشاد والتوجيه. واستخدام كلمة بهذه الدلالة كاسم العلوم تبحث في منطقة معينة تعني اعترافا بأن العلم - المعرفة، الإرشاد. وهو يطلب من هذه المنطقة، وأن وصفها بالشرق يعني أنها المنطقة التي أشرقت فيها شمس المعرفة ، وليست الشمس بمعناها الحسي المعروف. ولعل هذا ما يفسر اختيار المستشرقة الألمانية (Hunke Sigrid = زیغرید هونکه) (1) هذه العبارة عنوانا لكتابها ( Allhs mai = Sonne Uber Dem Abendland Unser Arabisches Erbe شمس الله تشرق علی

ص: 47


1- قامت بعدد من الزيارات للبلدان العربية، واستقرت لمدة سنتين في مراكش، من أهم آثارها: کتابها المذكور في أعلاه، واطروحتها لنيل الدكتوراه من جامعة برلين (أثر الأدب العربي في الآداب الأوربية)، و(الرجل والمرأة). يتناول جانبا من الحضارة الإسلامية. زغريد هونكة: شمس الله، 7-8 (المترجم).

الغرب). وليس شمس العرب. كما وردت في الترجمة الخاطئة لهذا العنوان؛ فمحتوى الكتاب مبني على المعرفة الإسلامية - الإسلام وعلمائه وعلومه - وليس المعرفة العربية وآداب ولغة العرب وربط الشمس بمعنى العلم والمعرفة بلفظ الجلالة يعني بالضرورة العلوم الإسلامية، وكونها تشرق تعني أنها مصدر المعرفة للغرب. على أن كلمة الشرق هنا ذات مدلول معنوي لا مادي. هذا فضلا عن إن ارتباط الشرق والشروق بالعلم كان حاضرا في المصطلحات العلمية القديمة متمثلا فيما عرف عند المتصوفة بالإشراق الذي تأسست عليه نظريتهم في المعرفة، فهي معرفة إشراقية تفيض على الإنسان من مصدرها الإلهي (1).

يبقى أن الخلاف يدور حول منتجي الاستشراق والضابطة أو مجموعة الضوابط التي تحدد من هو المستشرق؟ والذي يبدو لأول وهلة غاية في البساطة؛ فهو العالم الذي يقوم ببحث الشرق ودراسته. ولكن الأمر يتعقد إذا ما نظرنا لآلاف من منتجي الاستشراق فوجدانهم شرقيين بأصولهم ونشأتهم وثقافتهم، ولغيرهم من غربيين وأميركيين أقاموا في الشرق لأوقات طويلة أو لمدى حياتهم، فدرسوه و بحثوه، وقدموا مئات الأعمال التي تزخر بها المؤسسات الاستشراقية، أو للشرقيين الذين أقاموا في الغرب وأميركا، وقدموا خبرتهم ومعرفتهم عن الشرق بعد انخراطهم في المؤسسات الاستشراقية.

فبحسب الاحتكام إلى الجغرافيا كيف لنا أن نصنف «Lammens» الذي استقر في لبنان منذ عمر الخامسة عشرة حتى وفاته عن عمر ناهز الخامسة والسبعين ؟ بل إنه يدعى الانتماء اللبناني! أو المستشرقين ذوي الأصول العربية ممن درسوا وعاشوا في البلدان غير العربية مثل ( Kh. Ph, Hiti = فيليب حتي خوري 1886 -

ص: 48


1- الشاهد: الاستشراق ومنهجية النقد، 196 - 198. وكان (الخربوطلي) أشار لشيء من هذه الحقيقة . المستشرقون والتاريخ الإسلامي، 11 - 21.

1978 م)(1). ففي الوقت الذي يصنفه «نجيب العقیقی» ضمن المستشرقين. كان عمر فروخ من الرافضين لذلك فقال: «الدكتور فليب حتى عربي اكتسب الجنسية الأمريكية عام (1924م) ثم عاش منذ ذلك الحين في الولايات المتحدة وتوفي فيها، وقد كتب معظم كتبه باللغة الانجليزية، وله مواقف تشبه مواقف المستشرقين. ولكنه ليس مستشرقا إن كل ما فعله لا يخرجه من تربيته العربية الأولى. ربما كان عربيا مخطئا أو ظالما لقومه، ولكنه ليس مستشرقا»(2).وكذلك باقي اللبنانيين الذين ترجم لهم العقيقى وهو بضمنهم (3)؟! وهو ما أثار استغراب غيره من الباحثين في شؤون الاستشراق؛ فمن الغريب أن يدرج العقيقى نفسه في عداد المستشرقين مع انه يتحدث عنهم بصيغة الآخرين فيقول: «لقد بلغ المستشرقون من تعليم لغاتنا وحفظ تراثنا والكشف عن آثارنا وإحيائها بالنشر والترجمة والتصنيف ذلك المبلغ؛ لمنهج ومميزات ووسائل لم تتوافر لنا» (4)

كما أن منتجي الاستشراق الشرقيين ممن يعارضون هذا التصنيف ويرفضون استعمال هذا المصطلح، فمؤسس الاستشراق الروسي ( Ignatij Julianovic

ص: 49


1- ولد في لبنان، وتخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت عام (1908م)، وحصل على الدكتوراه من جامعة کولمبيا الأمريكية عام (1915م)، وعين معيدا في قسمها الشرقي خلال المدة (1915 - 1919م)، ثم استاذا لتاريخ العرب في الجامعة الأمريكية ببيروت خلال المدة (1919 - 1925م)، ثم استاذا مساعدا للآداب السامية في جامعة برنستون الأمريكية خلال المدة (1926 - 1929م)، وأستاذا عام (1944م)، ورئيسا لقسم اللغات والآداب الشرقية خلال المدة (1944 - 1954م). له مجموعة من المؤلفات منها: أصول الدولة الإسلامية. 1916م)، (سوريا والسوريون. 1929م)، (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين. 1951 م)، (الإسلام والعرب. 1973م). نجيب العقيقي:المستشرقون، 3/ 148 - 151؛ يحيى مراد: معجم، 312- 314.
2- المستشرقون ما لهم وما عليهم. مقال في مجلة الاستشراق (العدد الأول، 1987م)، 56.
3- المستشرقون، 317/3 -335.
4- المستشرقون، 3/ 598.

Krackovskij = إجناتي يوليانوفتش کر تشكوفسكي 1883 - 1951م)(1) وغيره من المستشرقين الروس (2)يفضلون استعمال مصطلح الاستعراب(3). يقول الروسي (Landin = لوندين)(4) : «نحن الروس وجميع الذين في الساحة الروسية القيصرية السابقة، نحن شرقيون بأنفسنا، وجزء من أراضينا موجود في آسيا، وثلثي حدودنا مع دول آسيوية مثل تركيا والصين، وكذلك المناطق الإسلامية التي كانت قديما ولايات للخلافة العربية. في روسيا الحضارة الإسلامية جزء من تراثنا. أغلبية الناس في روسيا مسيحيون أرثوذكس، والدين الثاني في روسيا هو الإسلام؛ لذلك نحن ندرس تراثنا لأن الحضارة الإسلامية جزء من تراثنا»(5).

ص: 50


1- ولد في مدينة فلنا - عاصمة جمهورية لتوانيا - وانتقل مع عائلته إلى طشقند، بعد أن اسندت لأبيه وظيفة المفتش العام للمدارس في آسيا الوسطى، فتعلم اللغة الأوزبكية إلى جانب لغته الروسية، وبعد خمس سنوات رجعت العائلة إلى فلنا. فأكمل دراسته هناك، ودخل كلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبرج ودرس العبرية والتركية والحبشية والعربية والفارسية. وأنهى دراسته الجامعية برسالة عن خلافة المهدي العباسي. ثم عمل على مخطوطة لديوان الأخطل، فقدم بحثا عن الخمر في ديوان الأخطل ودرس المتنبي والمعري والآداب المسيحية والإسلامية والعلاقة بينهما في الشرق. وكتب بحثا عن شعر أبي العتاهية، ورسالة للماجستير عن شعر أبي الفرج الوأواء الدمشقي. ثم سافر إلى سوريا ولبنان ومصر، فأتقن لغة التخاطب باللهجة اللبنانية. وفي مصر عثر على مخطوطة من تأليف المعري، وهي رسالة الملائكة التي يهاجم فيها الأخير تصور الفقهاء للملائكة، فدرسها لفترة طويلة، ونشرها عام (1932م). من أهم كتبه: تاريخ الأدب الجغرافي العربي. بدوي: موسوعة المستشرقين، 468 - 471.
2- العقيقي: المستشرقون 3/ 67 - 117.
3- عبد الفتاح، فاطمة: إضاءات على الاستشراق الروسي، 14.
4- تخص في دراسة الكتابة السباية. من أهم آثاره: نقش تاريخي في جنوب الجزيرة من القرن السادي الميلادي من مأرب. وكتاب (فجر الشرق. 1954م) وكتاب (الجاهلية العربية. 1956م)، وكتاب (تاریخ النقوش الحميرية. 1908م)، وكتاب (طبقات المجتمع في جنوب الجزيرة العربية. 1959م). العقيقي: المستشرقون، 3/ 109.
5- فاطمة عبد الفتاح: إضاءات على الاستشراق الروسي، 25.

على أن هذا الرفض لم يقتصر على المستشرقين الشرقيين؛ فقد قال المستشرق البولندي المعاصر (Janos Dantski = يانوش دانيتسكي): منذ سنوات طويلة يعيش الاستشراق في أزمة واضحة، واسبابها مختلفة، وتشخيصها ليس بالأمر الهين، إلا أنه يمكن تمييز مجموعتين أساسيتين من هذه الأسباب، الأولى: متصلة بالهيكل الداخلي لهذا الحقل من المعرفة، والثانية: تنبع من التطورات العامة التي نشأت إثر فصل علوم الاستشراق عن بقية العلوم؛ مما ادى لتقسيم مفتعل لا مبرر له. وتنبع الأزمة الداخلية العلم الاستشراق من تردد المستشرقين وحيرتهم فيما يخص عملهم هذا؛ فالاستشراق الكلاسيكي كان قد تفرغ بالدرجة الرئيسة لثقافات العالم الآخر البعيد والمجهول والغريب. ومثل هذا اللاتحديد لمادة البحث في الاستشراق كان مبررة آنذاك ولم يثر أية شكوك طرائقية. إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية أصبح الشرق غير بعيد ولا غريب. وقبل كل شيء لم يعد خاضعة لهيمنة الغرب، وشيئا فشيئا أخذ يصير شريكا لكن في المرتبة الثانية، وبذلك لم يعد مادة بحث فقط بل قائم بالبحث أيضا. وينشأ هنا سؤال: هل هؤلاء الناس هم مستشرقون أيضا؟ يصعب أن نسمي المؤرخ العراقي للأدب العراقي أو العربي مستشرقا. ازاء هذا الشيء ليس ثمة أساس كي نسمي الفرنسي أو الإنجليزي مستشرقا؛ فهم جميعا مؤرخو الأدب العراقي فحسب. كما يمكن بالطبع للفرنسي والعراقي والإنجليزي أن يكونوا مؤرخي الأدب الألماني بدون أن يحملوا هوية المستغربين، فعالم الرياضيات الهندي أو الصيني، اليوم ليس بباحث للغرب الرياضي، بل هو عالم رياضيات فحسب. هل هناك صواب في تقسیم کل میدان من میادین المعرفة إلى استشراقي واستغرابي. بعبارة أخرى: هل ثمة علم اجتماع شرقي منفصل عن الآخر الغربي؟ هذه الأسئلة والشكوك نابعة من تلك الأزمة الداخلية للاستشراق، والمستشرقون ذاتهم أدركوا هشاشة اسمهم في عالم القرية الشاملة اليوم. وتكون التورطات الخارجية لوجود للاستشراق بوصفه حقلا مستقلا للمعرفة. اخطر بكثير من أحوال القلق الداخلي الذي يصيب المستشرقين؛ فوجود الاستشراق لا يقود

ص: 51

إلى تقسيم العلوم بل العالم إلى منطقتين منفصلتين إن لم نقل متعارضتين: الشرق والغرب. بيد أن الشرق لا يتعدى كونه مادة غير مستقلة. ومثل هذا التقسيم بالغ الخطورة؛ فهو يؤدي - لا محالة لنشوء أحكام ذاتية للغاية؛ فالمستشرق ينظر إلى العالم الشرقي من خلال ثقافته وميراثه وبذلك يعرضه للتشويه والأضواء الزائفة(1).

وقال المستشرق الأمريكي المعاصر (Bernard Lewis = برنارد لويس)(2): «كانت كلمة الاستشراق في الماضي مستخدمة بمعنيين اثنين: الأول - يدل على مدرسة في الفن، على مجموعة من الفنانين ترجع أصول معظمهم إلى أوربا الغربية. كانوا عبارة عن رحالة إلى الشرق وأفريقيا الشمالية. يقيمون فيهما لمدة ويرسمون ما يرونه أو ما يتخيلونه. وكانوا يفعلون ذلك بطريقة غرائبية مدهشة. الثاني - وهو المعنى الأكثر شیوعا، وهو إنه يعني اختصاصا علميا؛ فقد كان هناك مختصون بالحضارة اليونانية، وهناك مختصون بالتراث العبراني ممن يدرسون العبرية، ثم راح المستشرقون فيما بعد یرکزون اهتمامهم على لغات أخرى، وكان هؤلاء العلماء في بداية أمرهم فقهاء لغة فيلولوجيين يهتمون بالتحصيل والدراسة وطبع النصوص وتفسيرها. ولم يكن مصطلح المستشرق غامضا وغير دقيق إلى الحد الذي يبدو عليه اليوم. ولم يكن هناك إلا منطقة واحدة للدراسة، هي تلك التي تدعى الآن بالشرق الأوسط. وكانت هي الجزء

ص: 52


1- الاستشراق بين الشرق والغرب، في مجلة (الاستشراق. العدد الأول، 1987م)، 51، 52.
2- ولد في لندن عام (1916م) ودرس في جامعتها، وفي جامعة باريس، وحصل منها على شهادة الدبلوم في الدراسات السامية عام (1937م). ومن ثم على الدكتوراه من جامعة لندن عام (1939م)، وأصبح استاذ الدراسات الخاصة بالشرق الأدنى في جامعة برنستون. وللتاريخ الإسلامي في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، وعمل في العديد من الجامعات الأميركية والبريطانية. من أهم مؤلفاته: كتاب (أصول الإسماعيلية. 1940م)، وكتاب (تركيا اليوم. 1940م)، وكتاب (تاریخ اهتمام الإنجليز بالعلوم العربية. 1941 – 1944م)، وكتاب العرب في التاريخ. 1950م)، وكتاب (تاريخ الإسلام. 1970م)، وكتاب ( العنصرية واللون الإسلامي. 1971م)، وكتاب (الإسلام من النبي محمد حتى أسر القسطنطينية. 1974م). وغيرها. يحيى مراد: معجم، 622 - 624.

الوحيد من الشرق الذي يستطيع الأوربيون أن يتباهوا بمعرفته إلى حډ ما»(1).

وكان الجدل القائم حول نقد الاستشراق وغياب الهوية العلمية التي يعيشها، دفع بإحدى أهم مؤسسات الاستشراق الحديث - The Encyclopedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية (2)- بعد أن أغفلت إدراج المصطلح في موضوعاتها لعقود طويلة أن تناقش الموضوع فعهدت للمستشرق ( J. Waardenburg - جان جاك واردنبورغ) (3) بكتابة مقالة عنه، فعالجه تحت عنوان (Mustashrikun = المستشرقون) ظهرت عام (1992م) في «مج7 / 735 - 753» قال فيها: كلمة Mustashrik = مستشرق تعني: أولئك الذين يدرسون الشرق ويصبون اليه ويصبحون مثل الشرقيين. فكلمتا ( Orient / Orientals = مشرق | مشرقيون) تنحيان لأن تكون لها دلالة معنوية أكثر من كلمتي ( East / Easterners = الشرق / الشرقيين) وبالنتيجة فإن كلمة: Mustashriklin = مستشرقون) تحمل معنى أوسع مما يحمله المصطلح الغربي الحالي (Orientalists = أورينتالستس) أي: العلاء المتضلعون بالدراسات الشرقية(4).

ص: 53


1- اصطيف: نحو استشراق جدید، 37، 38.
2- أنتجت من قبل مجموعة كبيرة ومتعاقبة من أجيال المستشرقين. وقد أصدرت بالألمانية والإنجليزية والفرنسية وبطبعتين: الأولى امتد إصدارها خلال (1913 - 1936م) بخمس مجلدات والثانية بالفرنسية والإنجليزية خلال (1956 - 2005م). ب-13 مجلد.
3- ولد في هولندا عام (1930م) عني بدراسة الدين الإسلامي وبدأ يتعلم اللغة العربية عام (1953م) وبعد تخرجه من دراسة اللاهوت في أمستردام، واصل دراسته للدين الإسلامي في لندن ولاهاي وباریس. حصل على الدكتوراه بأطروحة عن كبار المستشرقين والإسلام. زار تونس وإيران والعراق وسوريا والأردن ومصر، ومن ثم اختير لتدريس العربية والتاريخ الإسلامي في جامعة كاليفورنيا خلال المدة (1964 - 1968م). ثم أستاذة الدراسات الإسلامية والأديان في جامعة أو تراخت منذ (1968م). أهم مؤلفاته: الإسلام في مرآة الغرب 1961م، الجامعات في العالم العربي اليوم. 1966م، التقارب في الدراسات الدينية. 1973 - 1974م، الإسلام 1973م التصوف في الإسلام. 1974 - 1975 م). يحیی مراد: معجم، 719.
4- volume 7, p. 735.

وفيما بعد أصبح مصطلح (Orientalism = الاستشراق) هو المعنى الأوسع ويعني التوجه نحو الثقافة الشرقية. وباستعماله في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانلمصطلح (Mustashrik = مستشرق) معنى ثقافي وعلمي على حد سواء؛ فالمستشرقون الثقافيون - بضمنهم الرسامون والكتاب - هم أولئك الذين يستمدون إلهامهم من الشرق. أما المستشرقون العلميون فهم المتخصصون باللغات والثقافات الشرقية، لتمييزهم عن (الكلاسيكيين) المتخصصين باللغات والثقافات الكلاسيكية (اللاتينية واليونانية).

ونظرا لأن مثل هذا المستشرق أكثر من مجرد متخصص باللغات، فقد كان إنسانيا يفترض أنه يمتلك معرفة حقيقية معمقة لواحدة أو أكثر من ثقافات المشرق ويكرس نفسه لدراسة اللغات والآداب الشرقية في الماضي والحاضر، فضلا عن المعالم الثقافية الأخرى في ميداني الأدب والآثار، ويفترض كذلك أن بحثه عن المعرفة الرصينة يميزه عن غيره من المستشرقين الثقافيين، الذين كانوا أنصارا متحمسين للمشرق. وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان مصطلح (Orient = المشرق) يمثل الشرق الأدنى تحديدا، ولكنه كان يتضمن ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، وبطريقة التعبير الفرنسية، شمالي أفريقيا أيضا. وكان الشرق القديم يعني الشرق الأدنى. وخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، توسع نطاق مفهوم المشرق ليشمل آسيا كلها، محتفظا بمعنى الثقافات غير المعروفة إلى حد بعيد التي تتحدى الرجل الغربي الاستكشافها. وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، كان الاستشراق يدل في معناه الأوسع على اتجاه ثقافي محدد في أوربا وأمريكا الشمالية، وبمعناه الضيق كان يعني دراسات شرقية تجريبية (1).

ص: 54


1- volume 7, p. 735.

ونظر (Arthur John Arberry = آرثر جون آربري 1905 - 1969م)(1) لسعة الاستشراق فبين صعوبة تحديد الأطر اللازمة لتعريفه؛ فشأنه شأن كثير من فروع المعرفة والعلوم، قد تخطى حدوده إلى ميادين تنتمي في حقيقتها إلى علوم أخرى مستقلة عنه وإن كانت مجانسة له؛ فالمستشرق يشارك في عمله عالم الآثار، والحفريات والمؤرخ، وعالم الصرف والاشتقاق، وعالم الأصوات، والفيلسوف وعالم اللاهوت والموسيقى والفنان (2). أما الألماني (Rudi Paret = رودي بارت 1901 - 1983م)(3)

ص: 55


1- مستشرق إنجليزي برز في التصوف الإسلامي والأدب الفارسي. ولد في إنجلترا. أمضى دراسته في بورتسموث، ونظرا لتفوقه حصل على منحة دراسية لدراسة الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية في جامعة كمبردج. فتفوق فيها، ودرس أيضا العربية والفارسية. فحصل على زمالة بحثية إلى القاهرة فوصلها عام (1931م). وتولى رئاسة قسم الدراسات القديمة (اليونانية واللاتينية في مصر لمدة سنتين (1932 ۔ 1934م). وزار فلسطين ولبنان وسوريا. من أهم آثاره: (ترجمة مسرحية مجنون ليلى للشاعر أحمد شوقي. 1933م)، (نشر تحقيق لكتاب التعرف على أهل التصوف. 1934م)، ونشر كتاب (المواقف والخطابات) في التصوف، وترجمه للإنجليزية. وفي عام (1936م) حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كمبردج. ثم تابع اهتمامه بتحقيق و نشر وفهرست المخطوطات العربية. وألف كتاب المستشرقون البريطانيون 1943م). وتولى تدريس اللغة الفارسية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، فأصدر كتاب (قراءة في اللغة الفارسية الحديثة. 1944م)، وكتاب (الأدب الفارسي الكلاسيكي. 1958م)، ثم كتاب (الشعر العربي. 1965م)، وكان خلال المدة (1950 - 1955م) انشغل بمحاولة ترجمة القرآن الكريم، فأصدر ترجمة لبعض الآيات، ومن ثم أصدر ترجمة مفسرة للقرآن الكريم.. بدوي: موسوعة المستشرقين، 5- 7.
2- المستشرقون البريطانيون 7 - 8، نقلا عن: سایلوفتش: أحمد، فلسفة الاستشراق، 22.
3- درس اللغة العربية، فحصل على الدكتوراه الأولى عام (1924م) والثانية عام (1929م) فعين مدرسا مساعدا في قسم الدراسات الشرقية. ثم شغل کرسي علوم الإسلام والساميات في جامعة بون، وانخرط في خدمة الجيش في ليبيا، فأسر خلال (1942 - 1946م) ثم أطلق ورجع للتدريس بجامعة توبنجن حتى أحيل على التقاعد عام (1968م). من أهم مؤلفاته: ترجمته للقرآن للغة الألمانية والتعليق عليه. ثم كتب رسائل صغيرة منها: محمد والقرآن. والإسلام والتراث الثقافي. وكتاب (الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية). وبصورة عامة كان بارت موضوعيا في طروحاته وحديثه عن الإسلام، وعمل على تعريف الأوربيين بحقائق القرآن والإسلام. بدوي: موسوعة المستشرقين، 62 - 63.

فقد عرف الاستشراق على أنه: علم يختص بفقه اللغة. وأشار التغير في المدلول الاصطلاحي لكلمة الشرق بالنسبة للمستشرقين الألمان فقال: «الظاهر أن اسم الشرق تعرض لتغير في معناه فالشرق بالقياس إلينا نحن الألمان، يعني العالم السلافي، العالم الواقع خلف الستار الحديدي كما كان يسمى في الماضي، وهذه المنطقة يختص بها علماء بحوث شرق أوربا، أما الشرق الذي يختص به الاستشراق فمكانه جغرافيا في الناحية الجنوبية الشرقية بالقياس إلينا، وذلك الاصطلاح يرجع إلى العصر الوسيط، بل إلى العصور القديمة، التي كان يتوقع فيها أن البحر المتوسط يقع في وسط العالم، وكانت الجهات الأصلية تحدد بالنسبة إليه.

ولما انتقل مركز الأحداث السياسية بعد ذلك من البحر المتوسط إلى الشمال بقي مصطلح الشرق برغم ذلك يشير للدول الواقعة شرق البحر المتوسط. كما تعرضت لفظة الشرق لتغير آخر في معناها، أو لتوسع في مدلولها، بعد توسع الفتوحات العربية الإسلامية. فمثلا زحف المسلمون باتجاه الغرب نحو الأندلس، ومن قبلها نحو مصر وشمال أفريقيا، فتعرب القبط في مصر والبربر في غربها بصورة تدريجية، ومنذ ذلك الحين صارت مصر وبلدان شمال أفريقيا ضمن الشرق، وامتد الاستشراق إلى الشمال الغربي من أفريقيا أي بلاد المغرب، في حين أن تسمية الاستشراق، تختص بالبلاد الشرقية»(1).

وأطلق عليه المستشرق (Michel Guidi = ميخائيل جویدي 1886- 1940م)(2)

ص: 56


1- الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، 13.
2- ولد في روما في بيت كان مقصدا للباحثين في العلوم العربية والإسلامية والسامية عامة، فقد كان أبوه متضلعا في الفيلولوجيا العربية والسامية. التحق بجامعة روما في خريف عام (1909م) وتخصص في الدراسات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية والأدب اليوناني على وجه الخصوص. فقدم أول أعماله في هذا المجال وهو دراسة عن حياة الامبراطور قسطنطين أو الأباطرة الرومان الذين اعتنقوا المسيحية. ثم تعلم القبطية المصرية فكتب في موضوعها اطروحة الدكتوراه عام (1909م). ثم تخصص بالعربية والإسلام، وتعلم اللغة السنسكريتية والفارسية. أقام في القاهرة لعام كامل بصحبة أبيه الذي صار استاذا في الجامعة الأهلية في المصرية. وفي عام (1919 م) كلف بتدريس اللغة العربية والأدب العربي في جامعة روما. ثم استدعي للتدريس في الجامعة المصرية خلال المدة (1926 - 1929م) كأستاذ الفقه اللغة العربية. ثم عاد لروما ليتولى إدارة مجلة الدراسات الشرقية وتدريس مادة التاريخ والنظم الإسلامية. أهم مؤلفاته: نشر وترجمة كتاب النزاع بين الإسلام والمانوية لابن المقفع. إلى اللغة الإيطالية. وكتب بحثين عن اليزيدية وبحثا عن الخوارج وألف (تاريخ الدين الإسلامي. 1936م). و(تاريخ العرب وحضارتهم حتى وفاة محمد. 1951م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 218 - 221.

تسمية علم الشرق». وقال: «إنه الوسيلة لدرس كيفية النفوذ المتبادل بين الشرق والغرب، وانه ليس مقصورا على مجرد دراسة اللغات، أو اللهجات، أو تقلبات تاریخ بعض الشعوب. وانه باب من أبواب تاريخ الروح الإنساني، وليس صاحب علم الشرق الجدير بهذا اللقب بالذي يقتصر على معرفة بعض اللغات المجهولة، أو يستطيع أن يصف عادات بعض الشعوب، بل هو من جمع بين الانقطاع إلى درس بعض أنحاء الشرق، وبين الوقوف على القوى الروحية الأدبية التي أثرت على تكوين الثقافة الإنسانية. وهو من تعاطى درس الحضارات القديمة، ومن أمكنه أن يقدر شان العوامل المختلفة في تكوين التمدن في القرون الوسطى مثلا أو في النهضة الحديثة، وعلم الشرق هذا هو علم من علوم الروح الإنساني، يتعمق في درس الشعوب الشرقية ولغاتها، وتاريخها، وحضارتها، ثم يستفيد من الأبحاث الجغرافية والطبيعية التي لها ارتباط بالحياة الروحية، ويستفيد من الأساليب التي أوجدها علماء الفيلولوجی ويقابل بين نتائج أبحاثه الخاصة وبين ما سبق من دروس العلماء الذين ذللوا الطريق على فهم العالم القديم الكلاسیکی، وصار بذلك أوسع العلوم موضوعا، ومن أبعدها مدى واستحق حقيقة أن نسميه: درس تاریخ الروح الإنساني من جهة نظر الشرق؛ لأن إظهار قوى الروح واستعدادها يختلف باختلاف الزمان والمكان»(1).

ص: 57


1- علم الشرق وتاريخ العمران، 6 - 9.

(2)الاستشراق في الفكر العربي

أما بالنسبة للباحثين العرب فقد حاول بعضهم اختزال الاستشراق بدراسة الإسلام وحضارته. قال (مالك بن نبی) معرفا بالمستشرقين: هم الكتاب الغربيون الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وحضارته(1).

وأضاف بعضهم الآخر للتعريف أحكاما كان من المفترض أن تبحث بحثا مستقلا باعتبارها خصائص للاستشراق أو مميزات المرحلة من مراحله أو أنها مزية المدرسة استشراقية دون أخرى، وجمع بعض آخر بين ربطه بالإسلام ربطا وجوديا، وبين إضافة الحكم القيمي على نتاجه كله، فعرف على أنه: «دراسات أكاديمية يقوم بها الغربيون من أهل الكتاب للإسلام والمسلمين من شتى الجوانب: عقيدة، وثقافة، وشريعة، بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه»(2).

وهكذا تتسع وتضيق تعاريف الاستشراق عند الباحثين والدارسين العرب أمثال: «أحمد حسن الزيات»(3). و«حسين الهراوي»(4). و«على حسنى الخربوطلي»(5) و «ساسي سالم الحاج» (6). و«شوقي أبو خليل»(7).

ص: 58


1- إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي، 5.
2- لخضر شایب: نبوة محمد في الفكر الاستشراقي المعاصر، 27، 28.
3- تاريخ الأدب العربي، 512.
4- المستشرقون والإسلام، 12 - 16، 79.
5- المستشرقون والتاريخ الإسلامي، 22
6- نقد الخطاب الاستشراق، 1/ 17 - 21.
7- الاسقاط في مناهج المستشرقين، 5.

وقد استعرض «أحمد سایلوفتش» شريحة واسعة منها(1). وبذلك نجد أن كل الخطوط التي حاول المختصون والباحثون وصلها بين منتجي الاستشراق - المستشرقين - وبين موضوعه - الشرق والشرقيين - تلتقي عند نقطة الانطلاق التي حددها إدوارد سعيد بحديثه عن الاستشراق على أنه: سلطة مارست قوتها بأساليب مختلفة، وعبر تحققات متنوعة حددتها الظروف التي انتجت بها، وهي بصورة عامة تسعى لإبراز شعور داخلى ينتجه الاستشراق، إزاء موضوع خارجي هو الشرق ويحكم هذا الإبراز النزعة الاستعلائية والإحساس بالتفوق الجنسي العنصري والثقافي؛ فهو أسلوب للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي بين الشرق والغرب (2). أو نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه(3).

بمعنى آخر: هو تعبير عن تخارج الثقافة الغربية عن الشرق، ورسمها في الخارج بوصفها ثقافة تسلط وإلغاء وإقصاء، وهذا الإلغاء لا يتم تنفيذه بممارسة نوع من الإنكار الحضاري السلبي المباشر، وإنها عن طريق إعادة تقديم الآخر بصورة تمثيلية تحقق القناعات التي تحملها ثقافة الغربي ورغبته عن الشرق! فهو إذن نوع من إعادة الصياغة للآخر، وفق معايير الفوقية، العرقية، المركزية الغربية، الهوية المتفوقة... الخ(4).

ص: 59


1- أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو - يوغسلافيا. فلسفة الاستشراق، 21 - 32
2- إدوارد سعيد: الاستشراق، 43، 44.
3- إدوارد سعيد: الاستشراق، 45، 46.
4- إدوارد سعيد: الاستشراق، 43 - 45.

(3)الاستجابة والتماهي: أطر إنتاج الخطاب

اشارة

كانت حركة الاستشراق - كما رأينا في مفهومها - ذات شمول واتساع ولم تتقيد بروابط أو محددات أو أطر معرفية خاصة؛ ما جعلها متعددة المفاهيم. إذن هي - بلاشك - متنوعة الاستجابة لمحركات انتاجها، ومتناهية مع ضرورات أو عوامل نشوئها. وبصورة عامة يمكن أن يلحظ تماهي الخطاب الاستشراقی واستجابته للمحددات «النفسية / التاريخية والاقتصادية / الأيديولوجية / الدينية / الاستعمارية / العلمية»الراغبة بتفحص الشرق والتعامل معه. على أن تلك الأطر أو المحددات التي نیا ضمنها الاستشراق متداخلة فيما بينها، فالمحرك الديني يتداخل مع السياسي، والأخير مع التاريخي والاستعماري والأخير مع الاقتصادي، وتتداخل المحركات النفسية مع العلمية، وهي تتداخل جميعا في ضمن الأيديولوجيا الموجهة لكل منها، وبالإجمال فهي تتداخل وتتشابك فيما بينها حتى أنه ليس من السهولة فصل بعضها عن بعض. إنما استلزم التفريق تنوع المشارب الفكرية والمناخات الملائمة لنمو الخطاب الاستشراقي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من الدراسات السابقة قد دأبت على استعمال لفظة «دوافع» للتعبير عن أسباب تواجد الاستشراق. ولكن يبدو أن هذه اللفظة لاتعبر - ربما باستثناء الدافع العلمي - بشكل دقيق عما أريد لها التعبير عنه؛ فليس كل من يمتلك الدافع النفسي للتعرف على الشرق والشرقيين ينتج خطابا أو صورة استشراقية؛ فالشرق زاره ملايين من الغربيين ولكن بضعة آلاف منهم من أنتج صورة وخطابا عنه. وكذلك ليس كل من جاء إلى الشرق بدافع تاریخی واقتصادي و دینی و سیاسی و تجاري أنتج صورة ونصا استشراقيا، وإلا فقد جاب الشرق بحسب هذه الدوافع عدد لا حصر له من الغربيين، ولكن عددا قليلا منهم أنتج تلك الصورة وذلك الخطاب. كما أن أعدادا من الشرقيين لا حصر لها جابت الغرب للدوافع أعلاه،

ص: 60

ولكن قلة قليلة منهم، من رجع ليدون صورة ونصا خطابيا عن الغرب. بمعنى أن الدوافع التي حرکت هذا الكم الهائل من الناس ليست هي بحد ذاتها المسؤولة عن انتاج الخطاب، إنما هي وفرت ظرفا وبيئة مناخية وإطارا مناسبا لخلق الصورة والنص الاستشراق من قبل من يمتلك القدرة والرغبة في انتاجه. هذا فضلا عن تداخل الدوافع فيما بينها، وامتزاجها بشكل كبير بحيث ليس من السهولة أن يعزى النص الاستشراقي لأي منها. وعليه آثرت الدراسة استعمال لفظة «أطر - اطار» لأنها تبدو أكثر سعة، وتمنح انتاج النص الاستشراقی مجالا أوسع في صدوره ونوعيته وحراکه ضمنها.

أولا الإطار النفسي: البحث عن الذات والرغبة في معرفة الآخر:

استثار الشرق - بما يمثل من عنصر مجهول - الطبيعة الكامنة في نفوس الغربيين؛ فالإنسان ميال بطبعه لمعرفة المجهول. باختلاف الدوافع التي تقف وراء البحث عن ذلك المجهول. فبعض يهوى الرحلات الاستكشافية بحثا عن عالم آخر غامض، وبعض بیهوى البحث عن الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية القديمة لاكتشاف حقائق خفيت على الأجيال الماضية، وبعض بیهوى الاهتمام بالآثار والحفريات بحثا عن حضارة قديمة يظهرها للناس (1)، وبعض تتملكه الرغبة النفسية في السيطرة على الآخرين، وجرهم لما يعتقده ويعتنقه من عقائد وأفكار وسياسة وفلسفة، أضف إلى ذلك الميل للتفوق على الآخرين، الذي يستلزم البحث عن كل جزئیات حياتهم للمقارنة والمقابلة،واستكشاف قوة وسلامة ورجاحة عقائده وأفكاره وسياسته ومجمل فلسفته في الحياة. وهي استثارات تنمو بنمو العقل والقدرة على البحث في علل الأشياء، وعلاقة بعضها ببعض(2). وقد تجلت الاستشارات النفسية للاستشراق في

ص: 61


1- زکریا هاشم: المستشرقون والإسلام، 5.
2- الخربوطلي: المستشرقون والتاريخ والإسلامي، 22، 23؛ سایلوفتش: فلسفة الاستشراق، 41.

الفن الرومانسي بشكل واضح، إذ وجد متنفسه في الشرق، مما قاد كثيرا من الرومانسيين للتوجه نحو الشرق؛ بحثا عن مثل جمالية رومانسية في مسلمات الشرق الأخلاقية في الصورة كما في الفكرة؛ ولذا استحوذ النزوع نحو تصویر عالم الشرق ببنيته الروحية والمادية على اهتمام الرومانسية الأوربية بكل مدارسها، وفي شتى أجناسها الفنية؛ ولذا زار الشرق في النصف الأول من القرن التاسع عشر حوالي (150) فنانا فرنسيا، وقد شكل الاستشراق تيارا أساسيا داخل الحركة الفنية التشكيلية الفرنسية استقطب غالبية فنانيها؛ لأن الشرق لم تكن قد دخلته الحضارة الرأسمالية بعد، ولم تفسد العلاقات المادية البرجوازية الانسجام بين مسلماته الأخلاقية والجمالية. فشكلت غرابة الشرق صورة العالم الرومانسي المنشود الذي يصبو إليه نزوعهم الداخلى نحو الرائع. وهو مهبط الوحي والديانات وموطن الشاعرية والفروسية والصوفية .. فبحثوا فيه عن صدي المفاهيم الجمالية الرومانسية(1). وبذلك أسهم الفنانون والرحالة بإثراء الخطاب الاستشراقي بنصوص وصور عدة، كان من شأنها أن ترسی قواعد خطاب الاستشراق و تغذیه - في أحيان كثيرة - بصور منبعثة من الخيال والأساطير والحكايات الشعبية، مما أدى لأخطاء جسيمة في ذلك الخطاب.

ثانيا - الإطار التاريخي: علاقة الغرب بالشرق:

كانت العلاقة بين الشرق والغرب - عبر تاريخها الطويل - تأخذ اتجاهات مختلفة من حب ولقاء، وهجوم وعداء، وقد حاول كل من القطبين السيطرة على الآخر؛ فالتاريخ يحكي قصة الصراع المتواصل الذي كان في بداياته على شكل منافسات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين ثم علاقات الحرب والاحتلال بين الفرس الأخمينيين واليونان، وقد قذفت تلك الفتوحات بالإغريق والرومان إلى المسرح الشرقي؛ فنتج

ص: 62


1- بیطار: زینات: الاستشراق الفرنسي في الفن الرومانسي، 7- 13.

التقاء حضاري بين هذين العالمين المتمایزین. وهكذا ولد الأثر والتأثر وأخذ یمارس دوره بين الحضارات الإنسانية. وقام اليونانيون بإرسال ألواح من بابل إلى اليونان، فترجمها العلماء اليونان وعرفوا علوم الفلك وتقويم البلدان. كما استقر كثيرا من فلاسفة اليونان في الإسكندرية وغيرها، وأنشأت المدارس العلمية في مدن بلاد الشام وغيرها ما أسهم في نشوء الحضارة الهلنستية التي تميزت بها بلدان الشرق الأدنى قبل المسيحية بثلاثة قرون(1).

وبظهور الإسلام كقوة سياسية وتوسعه في النطاق الجغرافي الذي كان موحدا قبل الإسلام تحت ظل الإمبراطورية البيزنطية المسيحية؛ تخلخلت أسس التوازن ففقدت بيزنطة مستعمراتها في آسيا وشمال أفريقيا على أيدي المسلمين، ثم اضطرت للتخلى عن آسيا الصغرى للسلاجقة في القرن التاسع، وبسقوط صقلية فقدت السيادة على البحر، وفي الغرب فتح المسلمون معظم أسبانيا، ولم يبق منها سوى شمالها الغربي الذي شنت منه فيما بعد حروب الاسترداد(2). ولذلك كان المسلمون يشكلون تهدیدا للعالم المسيحي؛ فقد نظر الأوربيون في مطالع القرون الوسطى لهذا التحول، على أنه هياج لشعب غیر مسیحی، عرف بالسلب والنهب، واستطاع أن يجتاح أراضي واسعة، وينتزعها من قبضة المسيحية. وهكذا شوهت وحملت بترسبات ذلك الصدام معرفة كل طرف عن الآخر؛ فكتب (القس بيد) قبل وفاته عام (735م) في تاريخه الكنسي: في ذلك الوقت قام الوباء الموجع المتمثل بالسر اسنة(3)بتخريب مملكة بلاد الغال، بعد

ص: 63


1- ویل دیوارنت: قصة الحضارة، 36/7 - 39، 42-47؛ لوکان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 51- 54.
2- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 15؛ لوکان: تاريخ الاستشراق و سیاسته، 61 - 66.
3- كلمة متأتية من اللفظ اللاتيني (Saracens) وهي منقولة عن الكلمة اليونانية (sarakenos) وتعني ساكني الخيام، ظهرت للمرة الأولى في مؤلفات القرن الأول الميلادي، وقصد بها البدو الذين كانوا يعيشون منذ أزمان طويلة على أطراف المناطق المزروعة ما بين النهرين ويهددون طرق التجارة أو يحمونها بتكليف من الروم أو الفرس، ويدخل في التسمية الأنباط وأهل الحيرة وتدمر. وقيل أن الكلمة متأتية من لفظة (sharqi = شرقي) . لأن هؤلاء البدو كانوا يعيشون في شرق الإمبراطورية الرومانية. وهناك من يعيد الكلمة إلى سارة زوجة إبراهيم علیه السلام . وهو رأي مرفوض لأن العرب أولاد هاجر أم إسماعيل عليه السلام. والكتاب المسيحيون في أوربا العصور الوسطى كانوا يسمون العرب بالإسماعيليين، ومن عبروا للأندلس والمتواجدين في جنوب فرنسا وصقلية ب- (Saracenus = السراسنة) على اعتبار أنهم مخربين ونهابين وسلبة. مکسیم رودنسون: الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية، 80؛ ريتشارد سودرن: صورة الإسلام في أوربا في القرون الوسطى، 53 - 55؛ لوكان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 68 - 70.

مجازر أليمة وبائسة، لكنهم سرعان ما لقوا عقابهم الذي يستحقونه على غدرهم(1). ويعني بذلك هزيمة المسلمين في معركة (بلاط الشهداء / بواتييه 114 ه-/ 732م)(2).

وقد أطلق دخول المسلمين لإسبانيا العنان لمؤثرات ثقافية إسلامية وعربية أحرجت الدين المسيحي؛ لذا كان لابد للمسيحيين من أن يكونوا صورة أوضح عن أسيادهم الجدد. ومن ثم كان للحروب الصليبية أثر بارز في رسم صور الانعكاس بين أوربا والشرق، فوجدت حاجة ملحة للحصول على صور مسلية ومرضية للأيدولوجية الغربية المسيحية عن الإسلام فمثل بالصفة الكريهة والشكل الفج، وكل ما هو غريب وقبيح. وأطلق العنان حرا لجهل الخيال المتعصب، واستعين بأساطير من الفولكلور العالمي والأدب الكلاسیکی، وحتى بالمصادر وبالقراءات المعكوسة للنصوص.

فمثلا: (Gulbert Von Nogent = غیلبرت نوغنت. ت 1124 - 1130م) الذي قدم تقريرا موجزا عن النبي صلی الله علیه و آله عد بمثابة أول سيرة أوربية له يعترف: بأنه الايمتلك مصادر مكتوبة، وإنه كان يعتمد على آراء العامة، وأنه لا يمتلك أية وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب في نقده الأيد لوجي إلا أنه يعلل ذلك بالقول: لا جناح

ص: 64


1- رودنسون: الصورة العربية، 29، 30؛ جاذبية الإسلام، 15 -16.
2- رودنسون: جاذبية الإسلام، 16. وعن المعركة ينظر: المزروع: وفاء عبد الله: جهاد المسلمين خلف جبال البرتات، 108 - 136.

على الإنسان إذا ما ذكر بالسوء من يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء(1).

وقد رسمت معالم الإطار التاريخي للخطاب الاستشراقی بإصدار الترجمة الأولى للقرآن الكريم عام (1143م) بتشجيع (Petrus Venerabilis = بطرس المبجل 1092 - 1156م). وهو راهب ولاهوتي فرنسي، ورئیس دیر کلوني (2)وبكتابين كان ألفها ضد الإسلام عقيب عودته من إسبانيا عام سنة (1143م) وطبعا عام (1869م) (3). وكانت ترجمته للقرآن تزخر بالأخطاء الجسيمة في المعنى والمبنى، ولم يكن أمينا في ترجمة المفردات، ولم يتقيد بأصل السياق، ولم يقم وزنا لخصوصيات الأسلوب(4) ولم يكن أمينا في ترجمة المفردات. فمثلا قوله تعالى في [سورة الهمزة]: «وَیْلٌ لِّکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِی جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ یَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ» و ترجمها إلى: الذي سيخلده ماله؛ بحذف كلمة يحسب. وبهذا أعطى معنی مغايرا تماما للآيات(5) .

وقد أراد بهذه الترجمة: هداية المسلمين لمحاسن الديانة المسيحية. وبيان أن الإسلام ما هو إلا هرطقة (6)مسيحية هي آخر الهرطقات وأشدها ضررا(7). وكان

ص: 65


1- سودرن: صورة الإسلام، 68؛ رودنسون: الصورة العربية، 33 - 34؛ جاذبية الإسلام، 16 - 21؛ زکاري لوكان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 84.
2- شيد في جنوب فرنسا عام (910م) واتخذه الرهبان الإسبان في القرن الثاني عشر الميلادي مرکزا للترجمة، ونقل الثقافة العربية. العقيقي: المستشرقون، 112.
3- يوسف جيرا: تاریخ دراسة العربية، 8 يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 17 - 19؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 110 - 111.
4- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 19.
5- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 19.
6- هو ان يتبنى المسيحي رأيا دينيا مناقضا للإيان الكاثوليكي. أو يستمر على خطيئة مخالفة للإيمان وينفصل بشكل مکشوف عن الكنيسة. أو أن ينكر المسيحي بإصرار - بعد أن يكون تلقى العباد - إحدى الحقائق التي تتعلق بالإيمان الإلهي والكاثوليكي أو شك بها. ج. ويتلر: الهرطقة في المسيحية، 17، 23.
7- سوذرن: صورة الإسلام في أوربا في القرون الوسطى، 17، 18. (المترجم).

يقول: «إذا بدا أن العمل الذي أدعو إليه غير ضروري الآن لأن العدو لن يتأثر بهذا السلاح. أجيب أن بعض الأعمال تتم من أجل ضرورات الدفاع فإذا لم يكن بهذا الطريق إعادة المسلمين إلى المسيحية الصحيحة، فلا أقل من أن يستفيد العلماء المسيحيون من عملنا في مجال دعم إيمان المسيحيين السذج، الذين يمكن أن تضير هذه الصغائر عقيدتهم»(1).

ثم تولد في أوربا إحساس بالحاجة لملء الفراغ الذي شغله المسلمون؛ بوصفهم أوصياء على التراث اليوناني في مجالات الطب والفلسفة والعلوم الطبيعية. ولذلك بدأت حركة الترجمة والنقول إلى اللاتينية (2). وهكذا ولد الخطاب الاستشراقي في إطار الواقع التاريخي للعلاقة بين الشرق والغرب.

ثالثا – الإطار الاقتصادي: الكشوف الجغرافية والبحث عن الأسواق:

كان العالم الإسلامي مجالا اقتصاديا ذا أهمية قصوى بالنسبة لعدد كبير من التجار الأوربيين (3) وكان لحركة الكشوف الجغرافية (4)الأوربية أثرها الواضح

ص: 66


1- سوذرن: الإسلام في أوربا، 18 - 82؛ رودنسون: الصورة العربية، 35، 36.؛ جاذبية الإسلام، 23؛ ساسي: نقد الخطاب، 1/ 44.
2- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 16.
3- سایلوفتش: فلسفة الاستشراق، 45.
4- ابتدأت بمغامرات فردية في القرون الوسطى. وفي نهاية (القرن الثالث عشر الميلادي / السابع الهجري) اضطرت أوربا للبحث عن طرق تجارية أخرى؛ بعد أن أغلق الطريق إلى الشرق الأقصى عبر أراضي الدولة العثمانية في الشرق الأدني بسبب الحروب مع المغول. وهكذا أخذت فكرة الوصول إلى الشرق بالدوران حول أفريقيا تتعمق شيئا فشيئا في أوروبا. وكان ظهور البرتغاليين كقوة عسكرية وتجارية قد ساعد في تسريع هذا المشروع. وكان الأمير هنري الملاح (1393 - 1460م) من بين أبرز الشخصيات التي دفعت باتجاه تحقيق ذلك. وبعد (11 سنة) من وفاته، تمكن البرتغاليون من عبور خط الاستواء عام (1471م) وتم استعمار جزر الرأس الأخضر. واستطاعت البعثات التتعرف على خرائط عربية يظهر فيها رأس الرجاء الصالح. وقد تحقق بعد ذلك الكشف المنشود على يد الملاح البرتغالي ( Vasco De Gama = فاسكو داجاما) الذي نجح في إتمام أول رحلة بحرية إلى الهند عام (903ه-/ 1998 م). وفي الجانب الآخر كان (Christopher Colmubus = کریستوف کولمبس) قد أتم رحلاته إلى أمريكا، ووصلها قبل (ديجاما) بخمس سنوات. جورج هاراب: الموجز في تاريخ الكشف الجغرافي، 132- 140؛ ویل دیوارنت: قصة الحضارة، 23 / 52 - 55؛ أحمد: نصير: شركة الهند الشرقية الإنجليزية، 28 - 29.

والعميق في اكتشاف الشرق والتعرف على كنوزه المادية والثقافية وكان البرتغاليون هم السباقون في هذا المجال، فوصلت قوافلهم وأساطيلهم إلى ساحل أفريقيا، وأخذت تدور حول القارة السمراء. حتى عبرت إلى الشرق عن طريق رأس الرجاء الصالح بمساعدة بعض البحارة العرب المتمرسين بمعرفة خطوط التجارة البحرية والأنواء الجوية، وقد استقطب اكتشاف الطرق الجديدة الموصلة إلى الهند اهتمامات الدول الأوربية قاطبة، فسعت للوصول إلى تلك الأصقاع للاستئثار بخيراتها ومواردها فأسست الشركات التجارية الضخمة كشركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ عام (1009 ه- / 1600م) (1) والجمعية البريطانية لاكتشاف أفريقيا سنة (1203ه-/ 1788م) التي قامت بدورها بتشجيع البعثات العلمية - ظاهريا - وارسالها للقارة الأفريقية للكشف عن المصالح التجارية(2).

كان من نتيجة تداخل وحيوية الإطار الاقتصادي في إنتاج الخطاب الاستشراقي، أن أنجبت الخبرة والرغبة والمعرفة الاستشراقية التي اصطحبها (نابليون) مشروع قناة السويس أو (قناة دي ليسبس - قناة السويس بعد محاولات ومشاريع عدة على يد (Ferdinand de Lesseps = فردیناند ماتيو دي ليسبس 1805 - 1894م) الذي بقي في مصر لأربع سنوات بعد جلاء القوات الفرنسية منها. قام خلالها بالاطلاع على المشاريع المتقطعة للقناة، ثم عاد إليها عام (1854 م) وواصل

ص: 67


1- عن نشأتها ونشاطها التجاري ينظر : أحمد نصير: شركة الهند الشرقية الإنجليزية، 29 - 50.
2- ينظر : فردريك هورنان: الرحلة من القاهرة إلى مرزق، 7 - 11.

العمل على المشروع الذي كتب له النجاح بعد خمسة عشر عاما أي في عام (1277 ه-/ 1860م)(1).

وهكذا كان الاقتصاد عاملا مهما في تشجيع الدراسات الاستشراقية ونموها، ودعمها من قبلالحكومات الغربية، لتضع نتاجها الاستشراقي في خدمة تلك المصالح؛ فقد جاء في المذكرة التي رفعها جمع من العلماء سنة (1049 ه/ 1639 م) إلى المسؤولين في (جامعة كمبردج) والتي طلبوا فيها إنشاء كرسي للدراسات العربية والإسلامية: «إن المركز يضع نصب عينيه خدمة مصالح الملك والدولة وذلك بالعمل من أجل ازدهار تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وتوسيع حدود الكنيسة في الوقت المناسب، ونشر هدى الدين المسيحي بين أولئك الذين ما يزالون يتخبطون في ظلمات الجهالة»(2).

رابعا - الإطار الاستعماري: توظيف الخبرة والمعرفة الاستشراقية:

سخرت الحكومات الغربية مجاميع من المستشرقين والمبشرين لخدمة مشاريعها التوسعية، وصراعها مع الشرق الإسلامي، إذ كان لابد من توفير الدراسات المفصلة لإعطاء فكرة عن هذه الأصقاع، فقام المستشرقون والمبشرون برحلات عديدة لبلاد الشرق واختلطوا بأهلها، وقدموا لحكوماتهم ما تحتاج من معلومات لفهم عقليته وأمزجته وتفاصيل حياته ومواطن القوة والضعف فيه(3). وأكثر الأمثلة حيوية على ذلك: أن سبق التغلغل البريطاني في الهند رحالة ومستشرقين من الغرب جابوا تلك الأصقاع وكتبوا عنها تقارير وافية اعتمدتها الدول الاستعمارية لتكون خارطة طريق

ص: 68


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، 164.
2- الزيادي: ظاهرة انتشار الاسلام، 85.
3- لوکان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 158 - 160؛ ساسي: نقد الخطاب، 1/ 57.

الغزو الشرق؛ فقد سبق التواجد البريطاني في الهند رحلتي ( AbrahamHyacint Anquetil Duperron = إبراهام هياسنت أنكتيل ديبرون 1731م - 1805م) و (William Jones = وليم جونز 1746 - 1794م) (1)الذي عده المستشرق ( Arthur Arberry = آرثر آربري) المؤسس الذي لا نزاع عليه للاستشراق)(2).

کما اعتمد نابليون في غزوه مصر عام (1798م) على كتابات الرحالة الفرنسي (Volney = فولني) الذي رحل إلى مصر وبلاد الشام وألف كتابين هما «رحلة في مصر وسوريا وتأملات في الحرب الجارية مع الأتراك» وبين فيها أن الطموح الاستعماري الفرنسي يمكن تحقيقه في الشرق الأدنى. وقد أشار نابليون بصراحة لآرائه في الحملة الفرنسية على مصر، والتي سجلها في كتابه (الحملتان على مصر وسوريا 1798 - 1799م) ومنها: إنه كان يعتقد بوجود ثلاثة حواجز أمام الهيمنة الفرنسية على الشرق، وإن على فرنسا أن تخوض ثلاث حروب لأجل ذلك، الأولى ضد انجلترا، والثانية ضد الباب العالي العثماني، والثالثة وهي أصعبها ضد المسلمين (3).

ومن الأمثلة الواضحة على ارتباط المستشرقين بالاستعمار، وفاعلية هذا الارتباط ما قام به المستشرق البريطاني (Tomas Edward Lawrence = توماس إدوارد

ص: 69


1- ولد في لندن ودرس الشعر والأدب الكلاسيكي. واستطاع تعلم اللغة العربية بمفرده، ثم دخل جامعة أكسفورد عام (1764م) وتخرج وهو يتقن العربية والفارسية والتركية. كما درس القانون وصار محاميا عام (1774 م). في عام (1784 م) أسس (جمعية البنغال الآسيوية) التي كان غرضها تشجيع الدراسات الاستشراقية. وتعلم اللغة السنسكريتية؛ لتحضير مدونة كبيرة في القانون الهندي والشريعة الإسلامية، لكنه لم ينجز منها إلا كتابين: (نظم القانون الهندي. 1976م) و(المواريث في الشريعة الإسلامية. 1792م). وترجم عدد من القصائد من اللغات الآسيوية. وبعض الكتب المتعلقة بأحكام التشريع الإسلامي، والأدب العربي، ووالقانون والأدب الهندي. بدوي: موسوعة المستشرقين، 207 - 209.
2- ادوارد سعيد: الاستشراق، 147 - 150؛ ساسي: نقد الخطاب، 1/ 61، 62.
3- ادوارد سعيد: الاستشراق، 153، 154؛ ساسي: نقد الخطاب، 1/ 62.

لورانس 1888 - 1935م)(1) وقد كلف بمهمة حماية قناة السويس من غزو الأتراك، وتأجيج نار الثورة العربية ضدهم. ورسم خرائط لشبه جزيرة سيناء، فألف دليلا عن منطقة سيناء کی تستعمله الجيوش في تنقلاتها(2). وقد تحدث عن ذلك قائلا: «أمضيت سنوات طويلة قبل الحرب وأنا أذرع بلاد الساميين شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، لأتعلم عادات القرويين، وتقاليد العشائر والحضريين في كل من سوريا والعراق. وقد أرغمني فقري على معايشة الطبقات الدنيا التي نادرا ما التقى أبناؤها بالأوربيين من مسافرین وسیاح... أضف إلى ذلك أن سفراتي تلك زودتني بمعرفة واسعة بالقوى السياسية التي كانت حبيسة في الشرق الأوسط. ولاحظت بشكل خاص في كل مكان الإشارات والعلامات الأكيدة لتفسخ وانهيار الامبراطورية التركية العثمانية»(3).

خامسا - الإطار الأيديولوجي: هيمنة الخطاب:

أول من صاغ مفهوم الأيديولوجيا هو الفيلسوف الفرنسي ( Destutt De Tracy = دیتوت دی تراسي 1754 - 1836م) (4). وهي كلمة مكونة من مقطعين

ص: 70


1- تلقى تعليمه في أكسفورد، ثم التحق بالجيش الملكي بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبلغ رتبة مقدم في الجيش، وعمل في سلاح الطيران الملكي. من أشهر مؤلفاته: (أعمدة الحكمة السبعة.1922م) و (ثورة في الصحراء العربية. 1927م) و (القلاع الصليبية. 1936م). وقد ترجمت كتبه هذه إلى اللغة الفرنسية. وألف عنه مجموعة من الكتب. لورنس: أعمدة الحكمة السبعة، 5 (المترجم)؛ یحیی مراد: معجم، 619.
2- انتوني ناتنغ ولويل ثوماس: لورانس لغز الجزيرة العربية، 4، 5.
3- لورانس: أعمدة الحكمة السبعة، 25 - 30.
4- فیلسوف فرنسي، وأرستقراطي بارز في عهد الثورة الفرنسية، صاغ اللفظة عام (1796م). وبعد (16 عام) سجن وكاد يقتل، بسبب لومه نابليون على التراجع عن موسكو. وقد اعترض نابليون على الأيدولوجية التي صاغها دستویت؛ لأنها تغفل دراسة القوانين المعروفة للقلب الإنساني ودروس التاريخ، وتقف ضد امكانية الحتمية التاريخية، واعتقد أنها تدعو للثورة على النظام القائم، وتدعو للماركسية، وأن الأيديولوجيين يضللون الشعب. ديفيد هوکس: الإيدولوجية، 45 - 46 أنور أحمد: النظرية والمنهج في علم الاجتماع، 3، 4.

وتعني: علم الأفكار(1). وقد استعملت بمفهوم أوسع بعدها: علم دراسة الأفكار والمعاني واستخداماتها، وعدم تنزيهها من الغرض والمصلحة، واعتبارها تمويهات واعية، تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع أو فكرة ما متفقة مع مصالح من يقدمها، متراوحة تلك التمويهات بين التحريف والكذب والخداع المقصود أو غير المقصود. وأنها نظام للأفكار الباطنة التي يمكن اعتبارها امتدادا للبناء العلوي للطبقة الحاكمة، ومحاولة التبرير السيطرة الطبقية(2).

وقد لعبت الأيديولوجيا دورا فاعلا في نمو وتوجيه الخطاب الاستشراقي، كما أسهم بدوره في منح الأيديولوجية الغربية أسباب تواجدها وفاعليتها؛ لكونها تعبر عن حاجة الإنسان الأوربي لطرف نقیض يكتشف من خلاله ذاته، ويسقط عليه كل المبررات السلبية، لأنها تعبر عن علاقة عقل حضاري راق بموضوع خام بحاجة إلى فهم وبناء وهو موضوع الشرق؛ وعليه فالاستشراق لا ينفك عن الايديولوجيا، بل هو الوليد الشرعي لها(3)، لأن المستشرق ينطلق من قناعات ورؤى وأحكام مسبقة خاصة قال المستشرق (Maxim Rodinson = مکسیم رودنسونه 1915 - 2004م)(4):

ص: 71


1- أنور: النظرية والمنهج، 3؛ العروي: عبد الله، مفهوم الإيديولوجيا، 9.
2- کارل مانهایم: الإيديولوجيا واليوتوبيا، 129 - 130؛ ديفد هوکس: الإيديولوجية، 46، 47.
3- صلاح الجابري: تفكيك الاستشراق، 71.
4- ولد في باريس، وحصل على الدكتوراه في الآداب وشهادة المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية، ثم عين أستاذا في المعهد الإسلامي في لبنان خلال (1940 - 1941م) ومحررا و أمين مكتبة في دائرة بعثة فرنسا الحرة في المشرق. ثم في بعثة الآثار الدائمة في المشرق خلال (1941 - 1946م)، ومقيما في المعهد الفرنسي في دمشق، ومحاضرة في المدرسة العليا للآداب في بيروت، وأمينا للمكتبة الوطنية (1948 - 1955م) ثم مديرا للدراسات في المدرسة العلمية للدراسات العليا قسم العلوم التاريخية واللغوية منذ عام (1955م). أهم آثاره: (جهود فرنسا الأثرية في الشرق. 1943م) و(محمد. 1961م) و(الإسلام والرأسمالية. 1966م) و (إسرائيل والرفض العربي 75 سنة من التاريخ. 1968م) و(الماركسية والعالم العربي. 1972م) وغيرها العديد من الكتب والمقالات والأبحاث. يحيی مراد: معجم، 394 - 396

إن النظرة المسبقة والحكم المسبق موجودان على الدوام ولا يمكن التخلص منها؛ إذ إن المستشرق ينتمي لحضارة أخرى غير الحضارة التي يدرسها، فالنظرة المسبقة موجودة شئنا أم أبينا. موجودة بشكل جبري لا نستطيع التخلص منه، بل هي السمة المميزة للدراسات الاستشراقية عن الدراسات التي يقوم بها أبناء البلدان الشرقية الإسلامية الحضارتهم وثقافتهم(1). كما أكد الأثر الفاعل للايديولوجيا في توحيد الجهود الأوربية، واصطفافها لتقاتل جنبا إلى جنب مع الإسبان لاستعادة الأراضي الاسبانية من أيدي المسلمين؛ وقرر أن الدوافع الأيدولوجية كانت أكثر فاعلية من الحروب الصليبية نفسها في بيان وبروز الصورة العدائية للإسلام الذي نظر له وحورب على أنه قبل كل شيء بنية سياسية أيديولوجية معادية(2). على أن الايديولوجيا ما برحت حاضرة فاعلة حتى اليوم؛ إذ يقدم الكاتب السويدي «Ingmar Karlsson = إنجار کارسلون» في كتابه «Islam och Europa Samlevnad eller Konfrontation = الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة» صورة أيديولوجية عديدة ومتنوعة لأشخاص ومؤسسات إعلامية وفكرية غربية عن العرب والمسلمين(3).

سادسا - الإطار العلمي: الحاجة للمعرفة:

كان وما زال هو الأخفت صوتا بين أطر الخطاب الاستشراقي فالقلة القليلة من المستشرقين من أقبلوا على الاستشراق بدافع العلم، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الأديان والحضارات الشرقية والتعامل معها وفي مقدمتها الإسلام وحضارته؛ لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف فكانت أعمالهم وأبحاثهم

ص: 72


1- الجابري: تفكيك الاستشراق، 11 - 12.
2- الصورة العربية، 31؛ جاذبية الإسلام، 17 - 18؛ لوکان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 61.
3- کارسلون: الإسلام وأروبا تعایش أم مجابهة، 13 - 15.

أقرب إلى الحقيقة والمنهج العلمي. ولذا تأثر عدد منهم بالحضارة الإسلامية، ومنهم من اهتدى للإسلام وآمن برسالته. وقد عبرت الثقافة الإسلامية إلى أوربا المسيحية عن طريق ثلاثة معابر هي: «إسبانيا وصقلية وسوريا» وبلغت خلال عهود التواجد الإسلامي في الأندلس أوج ازدهارها؛ بفضل مركز الترجمة الذي أنشئ في طليطلة على يد رئيس أساقفتها (Raymnd = رایموند الأول 1126 - 1151م»(1)والذي أصبح فيما بعد رئيسا لأساقفة إسبانيا كلها(2).

وقد حافظ المسلمون - بوصفهم أوصياء - على التراث العلمي لليونان في مجالات الفلسفة / الرياضيات / الطب / الفلك والعلوم الطبيعية وقاموا بإثرائها(3). وقد استعرض الباحث يونج کویلر شواهد عديدة على هذه الحقيقة(4). وقد كان البابا «سلفستر الثاني 938 - 1003م»(5) من أوائل الأوربيين الذين نقلوا العلوم الإسلامية إلى الغرب (6)وعبر المستشرق الفرنسي (Guillaume Postel = غليوم

ص: 73


1- رينهرت دوزي: المسلمون في الأندلس، 125 - 127.
2- أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ، 233، 234؛ مونتغمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، 84؛ العقيقي: المستشرقون، 1/ 90، 91.
3- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 13، 16؛ رودنسون: الصورة العربية، 37، 38؛ جاذبية الإسلام،21.
4- محمد خلف الله: الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، 257. وكان جمع بحوث المؤتمر في هذا الكتاب. ويقع بحث کویلر في الصفحات (232 - 258).
5- اسمه (جربر دي أورلياك) درس في الأندلس حتى أصبح أوسع علماء عصره ثقافة بالعربية والفلك والرياضيات، ثم رجع إلى روما، فانتخب حبرا أعظم باسم سلفستر الثاني خلال المدة (999 - 1003م) فكان أول بابا فرنسي الجنسية. وقد أمر بإنشاء مدرستين للغة العربية الأولى في روما والثانية في فرنسا. مونتغمري وات: فضل الإسلام، 81، 82؛ زغريد هونكة: شمس الله، 80 - 84؛ العقيقي: المستشرقون، 2/ 120.
6- عاشور: سعيد عبد الفتاح: أوروبا العصور الوسطى، 2/ 217 - 218؛ مونتغمري وات: فضل الإسلام، 88-89؛ زغريدهونكة: شمس الله، 83 - 84

بوستيل 1505 - 1581م) (1)عن إعجابه بالطب العربي فقال: «ليس هناك أحد يستطيع أن يرفض وسائل علاج الطب العربي، فابن سينا يقول في صفحة واحدة أو صفحتين أكثر مما يقوله جالینوس في خمسة أو ستة مجلدات كبيرة»(2).

وقد تجلى الإطار العلمي للاستشراق بأنقى صوره على يد (شهيد الأدب العربي الألماني (Johann Jakob Reiske = يوهان جاکوب رایسكة 1716 - 1774 م) الذي حقق ونشر العديد من الكتب. وأعلن رفضه لمصطلح شرقی؛ لأنه غير دقيق، ورأى استبداله بلفظ محمدي أو إسلامي؛ لأن الأمر يتعلق بتاريخ المسلمين ليس فقط بالشرق وإنا حتى في المغرب وأروبا. وكان يرى أن ظهور النبي وانتصار دینه هما من أحداث التاريخ التي لا يستطيع العقل الإنساني إدراك مداهما، وهوبرهان على تدبير قوة إلهية قديرة. ويرى أن الإمام على عليه السلام هو الأحق بالخلافة وأنه حرم من حقه في الوراثة للخلافة واضطر لأن يناضل طوال (24 سنة) دفاعا عن حقه في الخلافة نتيجة الدسائس هيأة المنتخبين، وبسبب المؤامرات التي حيكت ضده. وكان يرى أنه أحسن أمير عرفه العالم الإسلامي وأنه كان مقداما وشجاعا وعادلا، ولكنه أطيح به من قدر معاكس، ولكراهة السيدة عائشة له وهي السيدة الطموح للسلطة والمجد. وكان يرى

ص: 74


1- تعلم عددا من اللغات الأوربية والشرقية؛ سافر إلى مصر وتركيا، وألحق في السفارة الفرنسية في تركيا وتولى التدريس في الكوليج دي فرانس لوقت قصير. من أهم مؤلفاته: کتاب (هجاء حروف 12 لغة مختلفة 1538م) و(النحو العربي 1539م) و (جمهورية الترك.154) کما اهتم بشراء وترجمة بعض المخطوطات والكتب العلمية الطبية والفلكية. وتنامت لديه فكرة تنصير العالم ككل، فسافر شرقا وغربا، وحاول نشر أفكار غريبة أدت به في النهاية إلى أن يسجن لمرتين الأولى (1556 - 1559م) والثانية (1592 - 1565م). ثم تخلى عن أفكاره شيئا فشيئا فعاد لممارسة حياته الطبيعية، والتدريس. يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 47 - 54؛ العقيقي:المستشرقون 1 / 158 - 159؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 135 - 138.
2- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 49 - 50؛ بدوي: موسوعة 135؛ زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية، 30.

في صراعه مع معاوية نموذجا لصراع الخير مع الشر، وانتصار المكر على القوة، والشر على الحق؛ ولذا أبغضه اللاهوتيين واتهمته الكنيسة بالزندقة! وهكذا كان «Reiske علامة مضيئة في تاريخ الاستشراق حتى وفاته عام (1774م) (1). وكذلك مواطنه المستشرق (Heinrich Ferdinand Westenfeld= هاینرش فيردناند وستنفلد 1808 - 1899 م) الذي نشر لوحده ما يعجز عن نشره مجمع علمی کامل، وقد كف بصره لكثرة البحث والعمل على نشر النصوص العربية لمدة (60 سنة) (2) و( Gustam Leberecht Fhegel = غوستاف فلوجل 1802 - 1870م) الذي ألف (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) مقدما بذلك أول فهرس من نوعه. كما ترجم ونشر کتاب (کشف الظنون لحاجي خليفة) وأعطاه من جهده وعمره (11 - 13 سنة) المراجعة المخطوطات في فينا / باريس / برلين. و (الفهرست لابن النديم) الذي عمل عليه لمدة (25سنة)(3). وبصورة عامة كان ما نشره المستشرقون الألمان وحدهم يعادل ما نشره المستشرقون الإنجليز والفرنسيون معا(4).

سابعا - الإطار الديني: العقيدة مرتكز أساس لتوجيه الخطاب:

صنف ريتشارد سودرن حقب الاستشراق لمقاطع وفواصل زمنية سمیت بحسب انغماسها، وتحملها بترسبات الواقع الذي انتجها فنعت الانطلاقات الأولى ب- «حقبة الجهل» وما بعدها به «حقبة التعقل والأمل» وما بعدها با «لحظة الرؤيا»(5).

ص: 75


1- يوهان فوك: تاريخ الاستشراق، 110 - 123؛ المنجد: المستشرقون الألمان 17 - 25؛ بدوي: موسوعة 303_298
2- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 198 - 199؛ المنجد: المستشرقون الألمان، 1/ 8؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 399 - 402.
3- بدوي: موسوعة المستشرقين، 411 - 413.
4- المنجد: المستشرقون الألمان، 1/ 8.
5- صورة الإسلام في أوربا في القرون الوسطى، 35، 77، 115.

وعرضها مکسیم رودنسون وكأنها مراحل مخاض الولادة الاستشراق بدء بحقبة «جهل الخيال الظافر أو الصراع بين عالمين» ومن ثم حقبة «التعايش السلمي أو المقارب» ثم حقبة «الموضوعية» وصولا إلى ولادة الاستشراق (1). ولا شك في أن هذه التصنيفات أو التقطيعات وإن كانت صحيحة إلى حد ما، ستصدم أيها صدمة إذا ما لحظت طبيعة الثقافة الاجتماعية السائدة آنذاك وانعدام اختلاط الثقافات والمجتمعات وامتزاجها كما هي اليوم، وشحة توفر الإمكانات والمواد وندرتها وصعوبة التعامل معها آنذاك، قبالة توافرها سهولة الوصول إليها اليوم وتحول العالم إلى قرية صغيرة يختلط فيه الغربي والشرقي على حد سواء، ويمارس كل في بلد الآخر عباداته وطقوسه وتقاليده، وكل لديه في بلد الآخر مؤسساته الدينية.. الخ. لا شك سيصدم هذا التصنيف إذا ما وجد أنه مع كل هذه الإمكانات المعرفية، ما يزال هناك عدد من (Nogent = نوغنت) القرون الوسطى من يتحدثون عن الإسلام والمسلمين بلغته، وأسلوبه وبلا مصدريته، مع كل ما يستطيعون الحصول عليه، وما هو متوافر من المعرفة والمعاينة الدائمة والتفاعل مع الآخر!؟؛ إذ لا يزال الفكر الغربي ينطلق من تصنيفات اللاهوتي (Augustin = أوغسطين الكبير 354 - 430م) للقارات الثلاث وشعوبها التي تستقر فيها وفقا لأسماء أبناء نوح عليه السلام بالاعتماد على ما ورد في سفر التكوين في التوراة عن الطوفان الكبير: (يافث = Japheth) ومنه تناسلت الشعوب الأوربية. و (سام = Shem ومنه يشتق السامیون = Semite) وذريته في آسيا. و(حام = Ham) وذريته في أفريقيا(2). فأوروبا أرض (یافث) والإغريق والمسيحيين. وآسيا أرض (سام) والشعوب السامية ومع أنها هي التي أنجبت الأنبياء، والبطاركة والشعب المختار والمسيح نفسه! ولكنها باعتبارها أراضي المختونين الموالين للقوانين

ص: 76


1- رودنسون: جاذبية الإسلام، 20 - 41؛ الصورة العربية، 29 - 52.
2- تنظر قصة الطوفان وتفرق أبناء نوح (ع) في (سفر التكوين الكتاب المقدس، 79 - 85.

القديمة - قبل ظهور المسيح - فهي شعوب محكوم عليها بالدونية !؟؛ انطلاقا من قول الكتاب المقدس: ملعون کنعان - ابن حام أو هو حام نفسه - «عبدا يكون لعبيد إخوته، مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا له! ليوسع الله ليافث وليسكن في خيام سام، ولیکن کنعان عبدا له».(1) وهذه الطريقة الهرمية في تصنيف شعوب العالم وأعراقه وتثبيت مكانها في مخطط مقدس للأشياء ستكون معيار ومتبنی نظرة الأوربيين للشعوب الأخرى وتبرير استعباد الأفارقة(2). وقد أشارت لذلك الباحثة « Maria Rosa Menocal = ماريا روزا مینوکال» في كتابها « The Arabic Role in Medieval Literary History: A Forgotten Heritage - الدور العربي في تاريخ الأدب القروسطي: تراث منسي»(3).

النحاول أن نرسم خطا بيانيا بين السمة الازدرائية التي نظر بها الأوربيون - في القرون الوسطى - للمسلمين، وتحدثوا بها عنهم، وبين مدعي التنور والحضارة في القرنين (20- 21) فهناك كان العربي والمسلم: متوحشة، وثنيا، بدائيا، شهوانيا.. ولم تختلف هذه النعوت في مضامينها وألفاظها؛ إذ يتحدث «Earl Cromer = إيريل کرو مر 1861 - 1971م» الحاكم الفعلي لمصر (1892 - 1908م) في كتابه ( Modern Egypt - مصر الحديثة): عن هوة لا يمكن عبورها بين الغرب (المنطقي)، والشرق (اللامنطقي الفاتن)، بين العقل الأوربي المنظم المدرب المتناسق والعقل الشرقي العبثي غير المتناسق ! ؟(4)

أما بالنسبة للإسلام فقد قال : الإسلام عظیم کدین؛ إذ علم الناس أن يعبدوا

ص: 77


1- سفر التكوين 18/9 - 27.
2- لوکان: الاستشراق وسياساته، 59 - 60.
3- لوكان: الاستشراق وسياساته، 80-81
4- إدوارد سعيد: الاستشراق، 89 - 95.

إلها واحدا عبادة طاهرة وكانوا من قبل يعبدون آلهة عديدة بلا طهر. أما كنظام اجتماعي، فهو فشل كامل؛ فهو يخضع النساء، وكل الحياة الاجتماعية لقانون دیني غير مرن، ويتسامح مع العبودية، ولا يتسامح مع غير المؤمنين، وهو لا يمكن إصلاحه؛ لأن ذلك يعني تحوله لشيء آخر(1).

ولكن من الغريب أن صاحب العقلية المنطقية والذكي بالفطرة، والمتعلم.. لم يكن يستطيع مع كل هذه المؤهلات المدعاة أن يتعلم العربية مع مدة إقامته الطويلة في الشرق وادعاء اختباره الحياة المصرية خصوصا عن كثب وقرب (2).

وكذلك المستشرق البريطاني (Hamilton Gibb = هاملتون جب 1895 - 1971م)(3) ينطلق من فرضية وجود عقل عربي أو مسلم ثابت و ممیز، مشتق من العقل السامي الأكثر بدائية، قبالة عقل غربي أكثر تطورا فقال: إن مشكلة الإسلام الحقيقية تكمن في أنه انعطف إنعطافة خاطئة بشكل كارثي قبل ألف عام؛ حين قادت السمات الفطرية للعقل السامي أو العربي المسلمين اللاهوتيين العرب إلى رفض الفكر العقلاني الإغريقي. ومن ثم ما زال المسلمون اليوم مشبعين بميل مضاد للعقلانية بشكل جوهري، يجعلهم غير قادرين على التوافق مع الحداثة، وإصلاح هذا الخلل

ص: 78


1- لوكان: الاستشراق وسياساته، 165 - 167.
2- لوکمان: الاستشراق وسياساته، 165.
3- تعلم في أدنبره، وتخصص في اللغات السامية: العربية والعبرية والآرامية. ثم التحق بمدرسة اللغات الشرقية في لندن، وحصل في عام (1922م) على الماجستير. خلال عامي (1926 - 1927م) زار الشرق والشال الأفريقي، ثم تولى كرسي اللغة العربية والأدب العربي المعاصر في جامعة لندن، وأصبح أحد محرري دائرة المعارف البريطانية خلال المدة (1956 - 1956م). ثم مديرا لمركز دراسات الشرق الأوسط. أهم مؤلفاته: (فتوح العرب في آسيا الوسطى. 1923م)، (الأدب العربي. 1926 م) ترجمة کتاب تاریخ ابن القلانسي إلى اللغة الإنجليزية، (المجتمع الإسلامي والغرب 1950م). وغيرها من الكتب والمقالات في التاريخ والأدب الإسلامي. بدوي: موسوعة المستشرقين، 174 - 175.

الفادح العميق الجذور يتطلب أن يعيد العقل الإسلامي تشکيل نفسه جوهريا باعتناق العقلانية التي اعتنقها الغرب قبل ذلك بزمن طويل، والتي تقوم عليها قوة علمه وفلسفته وتقنيته(1).

وبالانتقال السريع إلى أحداث هجمات (11 / سبتمبر - أيلول / 2001م) وتفجير برجي التجارة العالمية، نجد تحرك المؤسسات السياسية الأمريكية بسرعة وفاعلية كبيرة لاستغلال الغضب الجماهيري على المتطرفين الإسلاميين، لتعميمه على الإسلام بصورة عامة، وفي هذا الإطار لعب المستشرق (Bernard Lewis = برنارد لویس) دورا مهما في صياغة التصور الغربي - وبحسب التصورات العتيقة للاستشراق - عن الإسلام والمسلمين؛ فقد دعي لمقابلة الرئيس الأميركي بوش ونائبه تشيني واعضاء مكتب سياسة الدفاع اللاعب المحوري داخل وزارة الدفاع الأميركية، فقدم الهم (Lewis) فهمه للشرق الأوسط والعالم الإسلامي والدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة فيها، وحرض على استخدام التدخل العسكري في العراق للإطاحة بنظام صدام، وأكد المستمعيه - أنه بعد تحقيق ذلك ستتمكن الولايات المتحدة - وبلا صعوبة حقيقية - من إعادة سبك العراق ليصبح بلدا ديمقراطيا، ويفيد کمرشد ونموذج للمنطقة كلها. وكان طرح رؤيته للتاريخ الإسلامي في كتابه «= What Went Wrong?: Western Impact and Middle Eastern Response أين الخطأ ؟: التأثير الغربي ورد فعل الشرق الأوسط» فتحدث عنه وعن الغرب كما لو كانا كينونتين بديهيتين متميزتين مصمتتين، فملء الكتاب بالتعميمات الكاسحة والتأكيدات غير المدعمة بالدليل! وصور الإسلام على أنه - في كل زمان ومكان - منطو على نفسه، وغير مهتم بالثقافات الأخرى، ومشبع بالشعور بالتفوق الذي تعرض للتحدي الفظ

ص: 79


1- صدر کتاب (Cromer) عام (1908م) بينما صدر کتاب Gibb» عام (1972م). لوکمان: تاریخ الاستشراق وسياساته، 165، 187 – 189.

في القرن التاسع عشر من جانب التكنولوجيا والأسلحة والأفكار المتفوقة للغرب. وأن المسلمين فشلوا جوهريا في الاستجابة بشكل سليم لتحديات الحداثة؛ فبدلا من ذلك ظلوا متدينين ميالين للسلطوية ومنتفخين بالاشمئزاز والغضب! وأن هذه الهجمات هي الطور الأخير في النضال المتواصل بين الإسلام والمسيحية. وربط في کتاب آخر كتبه بعد أحداث (11 / سبتمبر)، ونشر في أوائل (2003م) تحت عنوان The Crisis of Islam: Holy War and Unholy Terror = أزمة الإسلام: الحرب المقدسة والإرهاب الآثم» بين الإسلام والإرهاب، واعاد فرضية فشل المسلمين في التأقلم مع الحداثة والتحضر؛ ومن هنا أتت النزعة الإسلامية الإرهابية. وهكذا أصبح (Lewis) الخبير المفضل لدى الحكومة ودوائر السياسة والإعلام الأميركي، ومضى كتاباه في طريقهما لأن يصبحا الروايات المعيارية والرسمية لتصورات العقل الغربي عن الإسلام والعقل العربي والإسلامي وعن «النحن والهم»والحرب بين العالمين: المؤمن والكافر(1) . وعليه فهي تحتل ما احتلته كتابات (Cromer - کرومر)، ومن قبلها كتابات القرون الوسطى في صياغة الوعي الأوربي إزاء الإسلام. هكذا أخذت كتاباته ومن هم على شاكلته صياغة مفهوم: أن مصالح الولايات المتحدة وحليفتها أو بالأحرى ربيبتها إسرائيل تتقارب وتتوحد؛ فقد حل الإسلام محل الاتحاد السوفيتي في مقام التهديد الأخطر لكليهما؛ وإذن فيجب العمل معا لمواجهة هذا التهديد بكل الوسائل الضرورية(2)، ولهذا تنبه السياسيون ووسائل الإعلام الغربية والأمريكية غداة انهيار الكتلة الشيوعية إلى القيمة التسويقية للإسلام بوصفه خطرا جديدا يهدد الغرب! فظهرت موجات من المقالات الصحافية والكتب والبرامج التلفزيونية تتلخص موضوعاتها ب-: «الخطر الأخضر / الأصولية العالمية / التحدي

ص: 80


1- لوكیان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 393 - 395.
2- لوکان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 400 - 402.

الإسلامي / سيف الله / الإسلام ضد الحداثة / الإنتفاضة العالمية / الحرب الدينية / الجهاد الإسلامي.. » في الوقت الذي ليس من السهل الحديث عن نهوض إسلامي!؛ فالحركات الإسلامية الحاضرة أسست على أساس المصالح الإقليمية لصناعها، والتناقضات والعداء بين مختلف الفصائل لهو أكثر وأعمق من عدائها للغرب. وفي الوقت الذي وجهت تلك المقالات نحو المحيط العربي، نراه لا يمثل سوى «15٪» من مجموع المسلمين في العالم، والدول الإسلامية الكبرى خارج العالم العربي كإندونيسيا والهند. ولذا من الخطأ الحديث عن الإسلام ككتلة واحدة وهو موزع بين خمسين دولة من الشرق إلى الغرب(1) .

هكذا يهاجم المسلمين، وبالمقابل تشجب و تدان أي انتقادات توجه لإسرائيل ووحشيتها وجرائمها ضد الفلسطينيين. المسلم يصور على أنه إرهابي ومتوحش، ودينه يدعو للقتل، في حين لم يفكر أحد من المسلمين في تقييم اليهودية والمسيحية - الحقيقيتان - على أساس فقرات يمكن بسهولة تطويعها لهكذا أحكام؛ فقد مر بنا الفقرات التي تتحدث عن استعباد يافث للآخرين في العهد القديم، وفي الإنجيل يقول السيد المسيح: «لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا، جئت لأفرق بين المرء وأبيه والبنت وأمها، والكنة وحماتها، فيكون أعداء الإنسان أهل بيته»(2).وجاء في العهد القديم: «وأما مدن تلك الشعوب التي يعطيك الرب إلهك إياها میراثا، فلا تستبق منها نسمة، بل حرمهم تحريما: الحيثيين والأموريين والكنعانيين..»(3).

وبالاقتراب من شواهد أكثر مساسا بالإسلام كشريعة وديانة وتطبيقات

ص: 81


1- أنجار کارلسون: الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة، 6، 26.
2- متي 10/ 34 - 36.
3- التثنية 16/20 - 18.

عبادية، فإننا نجد الخط البياني يصل دون تعرجات ملحوظة من القرون الوسطى حتى الآن، تاركا على طول مساره علامات متشابهة ومتطابقة في شكلها ومضمونها؛ فمنذ ذلك الوقت عد الإسلام: هرطقة مسيحية، وليس ديانة ساوية، وتأليف ومزج بين بعض الفلسفات والأعراف القديمة، واقتباسات من الديانات السابقة، وأن القرآن کتاب بشري، وأنه ليس هناك وحي، وأن النبي كاذب، مخادع، شهواني. وهكذا وصولا إلى المستشرق (Ignaz Goldziher = اجنتس جولد تسيهر 1850 - 1921م)(1) الذي يقول: «إن نمو الإسلام مصطبغ بالآراء الهلنستية، ونظامه الفقهي الدقيق يشعر بنظام الأثر الروماني القديم. محمد لم يبشر بجديد من الأفكار؛ فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها واستقاها؛ بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، وقد تأثر بهذه الأفكار فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، وصار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا، وجاءت دعوته كنتيجة لما كان يراه من عبادة للأصنام واضطهاد للفقراء، فأسسها على أساس التوبة والندم واليوم الآخر، واختلق القرآن استجابة للمشروع الإصلاحي الذي هو بصدد تنفيذه»(2). ومرورا ب- (Henri Lammens = هنري لامنس) الذي كانت طروحاته أشد عداوة وتعصبا وتطرفا، وأكثر انشدادا وتطابقا مع خطاب القرون الوسطى وتوافره على العقدة المتأصلة من الإسلام. وليس انتهاء عند تمثل طروحاته وخطابه الفج من قبل

ص: 82


1- ولد لأسرة يهودية، ودرس في بودابست، وبرلين، وجامعة ليبستك، وحصل على الدكتوراه منها عام (1870م)، عن شارح يهودي شرح التوراة في العصور الوسطى. ثم إنه عاد إلى بودابست ليدرس في جامعتها عام (1872 م)، ثم أرسل ببعثة دراسية إلى فينا وليدن والشرق، فأقام في القاهرة وفلسطين وسوريا. ثم عاد إلى بودابست ليشغل بعض المناصب هناك، وليعكف على التأليف وتدريس اللغات السامية. أهم مؤلفاته: (الظاهرية: مذهبهم وتاريخهم 1884 م) و(دراسات إسلامية بجز أين 1889، 1890م) و(محاضرات في الإسلام أو العقيدة والشريعة في الإسلام 1910م) و(اتجاهات تفسير القرآن أو مذاهب التفسير عند المسلمين 1920م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 197 - 203
2- العقيدة والشريعة في الإسلام، 17 - 58.

المستشرقة الفرنسية المعاصرة والاستاذة المحاضرة في جامعة باريس الثامنة Jacqueline Chabbi = جاكلين شابي» اليهودية الأصل في كتابيها « Le Seigneur des Tribus L'islam Mahomet = رب القبائل: إسلام محمد 1997 م) وهو مستخلص من رسالتها المقدمة لنيل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام (1992م)، تحت إشراف المستشرق الفرنسي اليهودي (Cahen Claude = کلود کاهن) (1). و( Le Coran decrypte: Figures Bibliques en Arabie = القرآن المفكك: صورة توراتية في الجزيرة العربية 2008م) الذي حاولت فيه تركيز الطروحات القر وسطية وطروحات « Lammens» بأن القرآن ليس إلا تقليد للتوراة والإنجيل، ومجموعة منتخبة من التراث الأدبي والفكري والفلسفة والقوانين القديمة. كما أنكرت النبوة والوحي، وعدت النبوة المحمدية صناعة أيديولوجية، وأسطورة عربية، وتمثلا معرفيا للثقافات القديمة حاكتها الأذهان العربية، وكرستها الظروف الاجتماعية، ورعتها النظم السياسية، فإذا بمحمد الإنسان يتحول إلى النبي الأسطورة! وهذه الآراء العتيقة والبائسة هي ما جعلتها تحتل مركز الصدارة في الاستشراق الفرنسي المعاصر، وينثال عليها الثناء والتكريم من كل حدب وصوب (2).

ص: 83


1- ولد في باريس، ودرس بها، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، وبالمدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية، وبكلية الآداب في جامعة باريس، فحصل على شهادة الدكتوراه عام (1960م) عين استاذا في كلية الآداب بجامعة (استراسبورج 1945 - 1959م)، ثم استاذا في (السوربون 1959 - 1979 م). وصار رئيسا للجمعية الآسيوية الفرنسية خلال المدة (1974 - 1985م). اهم مؤلفاته: (شمال سورية في عصر الحروب الصليبية 1940م) وهو اطروحته للدكتوراه. و(المدخل إلى تاريخ الشرق 1961م) و(الإسلام: منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية 1970م). وعدد من المقالات في المجلات والدوائر الاستشراقية. بدوي: موسوعة المستشرقين، 460 - 461.
2- فرحات: عبد الحكيم: نبوة محمد (ص) في الفكر الاستشراقي الفرنسي المعاصر: جاكلين شابي أنموذجا 12 -8

على أنه يجب علينا الاعتراف بأن سلفيي المسلمين قد أسهموا بشكل كبير في تواصل هذه النظرة، واکسائها بشيء من الواقعية؛ فهم لم يستطيعوا الانعتاق من جمود الفكر الديني، وتبني تكفير الآخر لا لشيء إلا لأنه لا يتفق معهم في فهم الشريعة وتطبيقها! ولم يكفوا منذ بدأ هذا التيار على أيدي الخوارج، ومن ثم إرساء قواعده كمذهب منفصل على يدي أحمد بن حنبل وأتباعه، وتجديده بصورته التكفيرية والإلغائية العنيفة المقيتة على يدي ابن تيمية، وتحوله لبلاء على الإنسانية جمعاء، وبلاء على الإسلام خصوصا على أيدي أذناب الغرب: محمد بن عبد الوهاب و آل سعود، ومنظمات الإرهاب والقاعدة التي نشأت بتخطيط وإعداد وتغذية وإشراف ودعم مباشرين، ورسم سياسات وأهداف أوربية - بريطانية - بحتة أوكلت مهمة تنفيذها ومتابعة سيرها للجاسوس البريطاني (مستر همفر) (1)، لضرب الإسلام بوصفه قوة ممانعة إزاء التوسع البريطاني.

وعليه فالمسألة لا تتعلق بالزمن وتبدل الأدوار، بقدر تعلقها بالصراع الديني عبر مسار العلاقة بين الشرق والغرب؛ فهي الآن مازالت تفصح عن قلق ذلك اللاهوتي الممتعض من تأثر المسيحيين بالإسلام(2) وهو الامتعاض والقلق الذي ورثه المبشرون المعاصرون عن أسلافهم اللاهوتيين والصليبيين حين قالوا: إن تبشیر هم هو تنفيس عن الانهزامات التي مني بها الصليبيون طوال قرنين من الزمان أنفقوهما في محاولة الاستيلاء على بيت المقدس، وانتزاعه من أيدي المسلمين. وأنهم ورثة الصليبيين؟ وأنهم رجعوا تحت راية الصليب ليستأنفوا التسرب التبشيري والتمدين المسيحي، وليعيدوا تحت ظل العلم الفرنسي، وباسم الكنيسة مملكة المسيح (3). لقد دعا

ص: 84


1- ینظر بهذا الخصوص کتاب:مذکرات مستر همفر:الجاسوس البریطانی فی البلاد العربیة
2- سوذرن: صورة الإسلام، 58 - 59؛ لوکمان: تاريخ الاستشراق، 71.
3- البهي: محمد، المبشرون والمستشرقون، 7.

(Roger Bacon = روجر بيكون 1214 - 1293م)(1)، للقيام بتبشير حقيقي لهداية الكفار الذين تغص بهم الأرض إلى الطريق الحق حسب تعبيره؛ لأن الحروب الصليبية باتت عديمة الجدوى؛ ولأنها وإن حققت انتصارات عسكرية فلا يمكن احتلال الأرض كلها. ولذلك فالمسيحية لن تنتشر بغير التبشير السلمي والموعظة، وإن ذلك يتطلب معرفة لغات الشعوب المراد تبشيرها، وأديانها وعقائدها، وامتلاك الحجج المؤسسة على المعرفة لدعوتهم إلى المسيحية(2). وأمام الطلبات والدعوات المتعددة اللاهوتيين والمستشرقين لتدريس اللغات الشرقية في الجامعات الأوربية (3) أنشئ أول كرسي اللغة العربية في جامعة باريس عام (1539م) وأصبح (Guillaume Postel = غليوم بوستيل) أستاذ له(4). ومن ثم أنشئ في هولندا في جامعة ليدن خلال (1590 - 1593م) وأكسفورد عام (1638م)(5). والتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار، فمكن لهم واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، واقنع المبشرون والمستشرقون زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون منطلقا للاستعمار الغربي في الشرق وقاعدة له، وبالمقابل أمن الاستعمار الحماية للمبشرين والمستشرقين وزودهم بالمال والسلطان، فنشأ الاستشراق في أول أمره على أكتاف المبشرين، ثم اتصل

بات

ص: 85


1- لاهوتي وطبيب وفيلسوف إنجليزي. سافر إلى إيطاليا بحثا عن المخطوطات الطبية العربية، ولتعلم اليونانية. وقد دعا لتشجيع تدريس اللغات الشرقية في جامعات أوربا. نشر العديد من المؤلفات في الفلسفة والطب والرياضيات وغيرها. يوسف جيرا: تاریخ دراسة العربية في أوروبا، 9- 10.
2- سودرن: صورة الإسلام، 100 - 101؛ يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 26؛ لوکان: تاریخ الاستشراق، 90.
3- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 26 - 32؛ رودنسون: جاذبية الإسلام، 33 - 42؛ الصورة العربية، 44 - 46.
4- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 49؛ رودنسون: جاذبية الإسلام، 43؛ الصورة العربية، 53 لوکمان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 96 – 98.
5- رودنسون: جاذبية الإسلام، 43؛ الصورة العربية، 54.

بالاستعمار(1) . ولعله لا تعوزنا الأدلة في بيان الترابط بين هذه الخطوط الثلاث؛ فقد غدا الأمر بحد ذاته موضوعة للتأليف(2).

هذه الأطر - باستثناء العلمي منها - التي تحرك ضمنها الخطاب الاستشراقي تفصح عن أن المستشرقين كانوا يكتبون في ضمن حواضن وبيئات محكومة بإبر از حالة التضاد والتفوق الغربي وسيأتي أن نصوص (Lammens = لامنس) تبوح بشعور نفسي مثار. وحتمية تاريخية تفرض السبق، واصطفاف وولاء صريح لسياسة فرنسا في الشرق. كما تفصح عن إحساس مشبع بالأيديولوجيا التي تؤسس لفكرة عدم قدرة المسلمين - وسابقيه ومعاصريه من المستشرقين - على تفكيك وتحليل النص العربي والإسلامي، ومعرفة مواد و عوامل بنائه بصورة صحيحة، وتغص بحنق ديني طافح تغذیه روح تبشيرية متطرفة متعصبة، أملت علیه خشونة صياغات خطابه الرافض الشخوص الدراسة بوصفها ذوات مثال، وللإسلام بوصفه بنية عقائدية، وللقرآن بوصفه کتابا سماويا.

ص: 86


1- النملة: الاستشراق والتنصير، 12.
2- على سبيل المثال: كتاب ( التبشير والاستعمار في البلاد العربية. مصطفی خالدي وعمر فروخ 1953م)، وكتاب (المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام. محمد البهي) وكتاب (أجنحة المكر الثلاثة: التبشير - الاستشراق - الاستعمار. عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني 1975م) وكتاب (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة. أنور الجندي 1983م).

(4) التأسيس الأكاديمي والتحول

اشارة

اختلف المعنيون بالاستشراق من مستشرقين وغيرهم حول نشأته وبداياته، وأدلوا بآراء شتی منها:

أولا - أرجعها «أحمد درویش» إلى العام الخامس قبل الميلاد؛ عبر تقديم كاتب يوناني لمسرحية «الفرس» التي تحكي انتصار اليونانيين على الفرس الشرقيين في معركة «سلامیس» عاد المسرحية أقدم عمل استشراقي (1).

ثانيا - رأي بعضهم أنه نشأ مع ظهور الإسلام؛ وهجرة المسلمين إلى الحبشة، وسؤال النجاشي وبطاركته عن حقيقة الإسلام والفرق بينه وبين المسيحية. كما كانت الرسائل التي بعث بها النبي صلی الله عليه و آله إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة فرصة أخرى التعرف النصارى على الإسلام، ومن ثم احتكاك المسلمين بالرومان في معركتي مؤتة وتبوك (2)

ثالثا - رجح فريق أنه كان مرتبطة بفتح العرب لإسبانيا وصقلية، وتوغلهم إلى قلب أوروبا؛ واختلاط عامل الخوف من المنافس القوي مع رغبة الاطلاع على نمط حياته ومعارفه؛ فغدت إسبانيا وصقلية القناتين الرئيستين المرور عناصر الثقافة العربية الإسلامية لأروبا، ووضعتا حجر الأساس للتواصل الثقافي بين أوربا والعالم الإسلامي(3). أي: الاستشراق. وقد أشار بعض الباحثين لصعوبة إعطاء تاريخ محدد

ص: 87


1- الاستشراق الفرنسي والأدب العربي، 23.
2- ينظر : هيكل: محمد حسين، حياة محمد، 21 - 30؛ الشرقاوي: محمد عبد الله، الاستشراق المعاصر، 7، 26
3- جورافسكي: الإسلام والمسيحية، 39-40؛ المقداد: محمود، تاريخ الدراسات العربية في اسبانيا، 15-16.

لبداية الاستشراق(1)؛ فهو قديم بقدم العالمين الشرقي والغربي وبقدم تفاعلهما معا. وقال بعض آخر بإمكانية تحديد البدايات الرسمية له عندما أرسي كفرع معرفي له قواعده وأساسياته. تميزا له عن الاستشراق غير الرسمي أو غير الأكاديمي، فهناك مباحث ونصوص وكتابات ورؤى وصور إلا أنها سابقة لظهور الاسم، وهي تدور في فلك الاهتمام والجهد الفردي، وهو ما عارضه آخرون على اعتبار أن المصطلح في ذاته لا يعني أكثر من إقرار أمر واقع، وإطلاق وصف على نصوص كانت قائمة بالفعل قبل ظهور المصطلح(2). على أن هذا الخلاف حول الظهور الرسمي وغير الرسمي أو غير الأكاديمي للاستشراق، يعود ليأخذ حيزا في مناقشات المختصين والباحثين في تحديد ما افترض أنه بدايات رسمية وأكاديمية للاستشراق؛ فطرحت في ذلك آراء عدة يمكن إجمالها بما يأتي:

أولا - يعود (Waardenburg = واردنبورغ) ببدايات الاستشراق للمراحل الأولى للصراع الديني بين المسيحية والإسلام في الأندلس، وإقبال رجال الدين النصارى على تعلم العربية وترجمة المؤلفات ويمنح لقب المستشرق الأول أو مؤسس الاستشراق الغربي للإسباني (Raymund Lall = رایموند لول) الذي جمع إضافة الحماسته التبشيرية معرفة واسعة باللغة العربية ومقدرة فلسفية وشعرية خلاقة؛ ولرغبته في إظهار الحقيقة المسيحية عمل على مشروع تأسیس مدارس اللغات الشرقية للمبشرين المسيحيين المستقبليين(3). فأسست بقرار مجمع مدينة «فيين بفرنسا.

ص: 88


1- السايح: أحمد عبد الرحيم: الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي، 17؛ السباعي: محمد مصطفی: الاستشراق والمستشرقون، 17؛ سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق، 56؛ زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية، 18 - 19؛ الزيادي: محمد فتح الله: ظاهرة انتشار الإسلام وموقف بعض المستشرقين منها، 62؛ إسماعيل علي: الاستشراق، 14 - 15؛ فاروق عمر: الاستشراق والتاريخ الإسلامي، 30.
2- السايح: الاستشراق، 20؛ زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية، 19 - 21.
3- The Encyclopedia of Islam,p. 737

1312 م» في: باريس / أكسفورد / بولونيا / وأفينيون / سلامنکا. فكانت بداية الانطلاق حركة الاستشراق (1). وكان (Lall = لول) درس الفلسفة والكيمياء لتحويل المعادن إلى ذهب؛ لتمويل الحملات الصليبية، ووضع مخططا عسكريا لاحتلال الأرض المقدسة، وتنقل بين أوربا والمغرب العربي وأفريقيا للتبشير بالمسيحية فرجم من قبل المسلمين حتى الموت عام (1351م) (2).

ثانيا - يرى (Henri Lammens = هنري لامنس) أن الأحبار الرومانيين قرروا دراسة اللغة العربية وآدابها في مدارسهم في القرن (الثالث عشر الميلادي / السابع الهجري) وقاموا بذلك لمدة قصيرة. ودرست العربية في فرنسا عامي (1519 - 1520م). أما بقية الدول الأوربية فكان علم العربية فيها مجهولا(3).

ثالثا - پری بعضهم أن الاستشراق نتيجة لدراسة أجيال متعاقبة عديدة ويمكن القول أن بداياته ترجع إلى القرن الثاني عشر الميلادي / السادس الهجري)؛ إذ تم خلاله ترجمة القرآن إلى اللاتينية لأول مرة عام (538 ه- / 1143م) وخلاله ألف أول قاموس لاتيني عربي (4).

رابعا - پری (Rodinson = رودنسون) أن ولادة الاستشراق مرتبطة بدراسة العربية استجابة لحاجات العمل التبشيري في العصور الوسطى جاعلا من مواطنه (Postel - بوستيل) وتلميذه (Joseph Scaliger = يوسف سكاليجر1540 -

ص: 89


1- السايح: الاستشراق 19؛ اسماعيل علي: الاستشراق بين الحقيقة والتضليل 15؛ إدوارد سعيد: الاستشراق، 100؛ الشرقاوي: الاستشراق والغارة على الفكر الإسلامي، 6 - 11؛ عريبي: محمد ياسين: الاستشراق وتغريب العقل، 132؛ زقزوق: الاستشراق والخلفية، 18.
2- يوسف جيرا: تاریخ دراسة العربية، 10 - 12.
3- مجلة المشرق، (السنة الرابعة 1901م. العدد 15) 1029 - 1030.
4- يوسف جيرا: تاریخ دراسة اللغة العربية، 4 - 6؛ رودي بارت: الدراسات العربية، 9؛ يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 15.

1609م) (1) الرائدين في هذا المجال ومن عام (1539م) مناسبة لولادة الاستشراق بإنشاء أول كرسي لدراسة العربية في باريس، على الرغم من أن كلمة الاستشراق لم تكن عرفت بعد. فكلمة مستشرق ظهرت في انجلترا حوالي سنة (1779 م) وفي فرنسا حوالي سنة (1799م) وأدرجت في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام (1838م)(2).

خامسا - يشير (Arberry - آربري) لأسبقية انجلترا في اعتماد لفظة (مستشرق) عندما يقرر أن أول استعمال لها كان عام (1930م) عندما أطلقت على أحد أعضاء الكنيسة الشرقية. وفي (1691م) وصف (Samuel Clarke = صموئیل کلارك1625 - 1669م)(3) بأنه استشراقی نابه؛ لأنه عرف بعض لغات الشرق (4)

سادسا - يؤرخ «زکاري لوكمان» لظهور الاستشراق من خلال الربط بينه وبين بروز العثمانيين قوة سياسية وعسكرية مهيمنة وقادرة على اكتساب تقدير كثير من المراقبين والمتعلمين الأوربيين واحترامهم؛ إذ شهدت هذه الحقبة مثل هذه التقييمات النزيهة الموضوعية، بل المفتونة أحيانا، وبدأت أولى مراحل ظهور فرع متميز في

ص: 90


1- ولد في باريس، ودرس اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والفارسية والسريانية. كان كاثوليكيا ثم تحول إلى البروتستانتية. سافر إلى إيطاليا وألمانيا وهولندا ليتولى هناك كرسي الدراسات الكلاسيكية عام (1563م). كان واسع الاطلاع على تقاويم البلدان ومخطوطات الشروح التوراتية اليهودية؛ مما جعله يقدم على التأليف في العهد القديم وشروحه. أهم مؤلفاته: كتاب (إصلاح الأزمنة. ظهر بثلاث طبعات 1583 و1598 و 1629). يوسف جیران تاریخ دراسة اللغة العربية، 21؛ يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 58 - 61.
2- جاذبية الإسلام، 43 - 52؛ الصورة العربية 52 - 64.
3- تخرج من جامعة أكسفورد، وعين أول مشرف على مطبعتها. من أهم نتاجاته: مشاركته في نشر التوراة عام (1657م)، وأعداد (معجم الأماكن ذات الأسماء العربية) للنشر وكذلك أجزاء من القاموس الفارسي التركي. يحيی مراد: معجم، 580.
4- المستشرقون البريطانيون، 7، 8. نقلا عن: سایلوفتش،فلسفة الاستشراق، 22، 23.

الدراسات الإنسانية يركز اهتمامه على دراسة الشرق ولغاته وأديانه وتواريخه وثقافاته (1)

الاستشراق الحديث.

بدأ المستشرقون في النصف الأول من القرن التاسع عشر بإنشاء الجمعيات المتابعة الدراسات الاستشراقية؛ فأسست الجمعية الآسيوية في باريس عام (1822م) والجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وإيرلندا عام (1823م) والجمعية الشرقية الأمريكية عام (1842م) والجمعية الشرقية الألمانية عام (1845م) وسرعان ما نشطت هذه الجمعيات بإصدار المجلات والمطبوعات المختلفة(2). كما شهد القرن التاسع عشر بداية عقد المؤتمرات الدولية للمستشرقين؛ مما أتاح لهم فرصة زيادة التنسيق وتوثيق أواصر التعاون فيما بينهم، والتعرف بصورة مباشرة على أعمال بعضهم البعض، مما يسهم في تجنب ازدواج العمل؛ حرصا على تجميع الجهود، وعدم تبديدها في أعمال متكررة(3). وكان أول مؤتمرا دوليا للمستشرقين عقد في باريس عام (1873م) ومنذ ذلك الحين أخذت تعقد هذه المؤتمرات بصورة منتظمة، فبلغ عددها حتى عام (1968م) ثلاثين مؤتمرا

دوليا عدا المؤتمرات والندوات واللقاءات الإقليمية (4)التي يرجع عقد بعضها لوقت سابق على عقد المؤتمر الدولي الأول للاستشراق؛ فقد عقد أول مؤتمر للمستشرقين الألمان عام (1849م)(5). وبتحول

ص: 91


1- لوکمان: تاريخ الاستشراق، 96 – 98.
2- عن هذه المجلات والمطبوعات ينظر: العقيقى: المستشرقون 3/ 22، 39، 59 - 64، 129، 227، 426 - 394 ،389 - 377 ،363
3- زقزوق: الاستشراق والخلفية، 43 - 44.
4- العقيقي: المستشرقون، 3/ 365 - 370.
5- زقزوق: الاستشراق والخلفية، 44.

مركز الثقل وقيادة العالم من أوربا إلى أميركا يمم الاستشراق وجهه صوبها واجتذبت هي كثيرا من المستشرقين إليها، وبذا تكون الحركة الاستشراقية قد دخلت طورا جديدا ومعاصرا(1)؛ فقد عمل على توظيف الخطاب الاستشراقي وصياغته ليتاشی مع ما سمي «Cultural Relations Policy = سياسة العلاقات الثقافية» وعن ذلك يفصح أحد المسؤولين الأميركان بقوله: «إن العملية الهائلة لتجميع المطبوعات المتميزة بلغات الشرق الأدنى المهمة الصادرة خلال (1900 - 1950م) والنظر فيها وفحصها إجراء يتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وهو من أجل فهم أميركي أفضل للقوى التي تناوئ أو تناقض الفكرة الأميركية، وأهم هذه القوى المناوئة لأميركا في المنطقة قوتان هما: الشيوعية والإسلام»(2).

وهكذا أصبح الشرق في أعقاب الحرب العالمية الثانية قضية إدارية ومسألة خاصة بالسياسات الأميركية، لأقضية عامة شاملة على نحو ماكان يمثله الشرق بالنسبة لأوروبا على امتداد قرون طويلة. كما دخل «عالم الاجتماع والخبير الجديد» فتكفلا بحمل لواء الاستشراق الذي لم يشذ عن اتخاذ مواقف العداء الثقافي والمحافظة عليها؛ فالخطاب الاستشراقي الحديث ينحدر من أصلاب مدارس اللغات التي أنشأها الجيش في أثناء الحرب وبعدها، ومن اهتمام الحكومات والشركات المفاجئ بالعالم غير الغربي، والمنافسة مع الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة، والآثار الباقية للمواقف التبشيرية في الشرق، وهو بصورة عامة مازال يحتفظ في معظم أنشطته العامة والتفصيلية، وبالنظرة الاستشراقية التقليدية التي نشأت وترعرعت في أوربا(3). وأخذ الخطاب الاستشراقي في المرحلة الأمريكية ملامح جديدة منها:

ص: 92


1- الشرقاوي: الاستشراق المعاصر، 10.
2- إدوارد سعيد: الاستشراق، 450؛ الشرقاوي: الاستشراق المعاصر، 10- 11.
3- إدوارد سعيد: الاستشراق، 444 - 451.

الاهتمام بدراسة المجتمعات الإسلامية دراسة ميدانية / دراسة ما سموه بالإسلام الشعبي / التركيز على بحوث الطرق الصوفية / الاهتمام بتتبع المعتقدات الشعبية في المجتمعات الإسلامية والخلافات القائمة بينها / ودراسة مدى صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق، ومدى تقبل المجتمعات الإسلامية لها / دراسة الإسلام السياسي والحركات السياسية الإسلامية، ومناقشة برامجها. وهكذا فإن الاستشراق المعاصر لم يعد يعبأ بنشر التراث و تحقيقه كما كان يفعل المستشرقون من قبل (1).

ص: 93


1- الشرقاوي: الاستشراق المعاصر، 11 - 12.

(5)نبذ المصطلح وجدلية البقاء والانتهاء

مع اكتساب الخطاب الاستشراقي لتلك الملامح الجديدة؛ قرر الغرب التوقف عن استعمال مصطلح «إستشراق» لما ينطوي عليه هذا المصطلح من حمولات تاريخية ودلالات سلبية من وجهة نظر الشرق، ولأنه لم يعد يفي بوصف الباحثين في العالم الإسلامي. قال (Bernard Lewis = برنارد لويس): منذ عدة سنوات ارتفعت صيحات المطاردة ضد المستشرقين، وتم تفريغ اصطلاح الاستشراق من مضمونه السابق، وځلع عليه مضمون جدید قوامه المعالجة غير المتعاطفة، أو العدائية لشعوب الشرق. أصبح اصطلاح مستشرق شيئا لا يبعث على الرضا؛ فلم يعد دارسو الشرق عاكفين على التعمق في فرع معرفي واحد، وإنما تفرعت دراساتهم للعديد من فروع المعرفة. كما أن المنطقة التي يدرسونها تمتد فيما وراء الشرق الأوسط إلى أرض لم يتركز عليها اهتمام أوروبا من قبل لتشمل الحضارات الشاسعة والنائية للهند والصين. وكان هناك اتجاه متعاظم بين المختصين بهذه الدراسات الاستخدام توصیفات أكثر دقة؛ ففقدت كلمة (مستشرق) قیمتها بالفعل وتم التخلي عنها، وفي المؤتمر الدولي التاسع والعشرين الذي عقد في باريس عام (1973م) وهي الذكرى السنوية المائة لعقد المؤتمر الأول في باريس اتضح أن هناك إجماعا على تسقيط هذا التوصيف. بل أراد بعضهم حقا وضع نهاية لسلسلة المؤتمرات، على اعتبار أن المهنة لم يعد لها وجود، وأن المؤتمر بالتالي قد استنفد أغراضه. وبعد سجال بين المعارضين للإلغاء والداعين إليه، تم إلغاء المصطلح رسميا، واستبدل باسم «المؤتمر الدولي للعلوم الإنسانية في آسيا وأفريقيا الشمالية» هكذا تم إلغاء اصطلاح مستشرق وألقي به على كومة قامة التاريخ(1).

لم تكن الأسباب أو الحجج التي قدمها القائمون على إنتاج الخطاب

ص: 94


1- مسألة الاستشراق (مجلة الاستشراق العدد الثاني شباط 1987م)، 116 - 118.

الاستشراقي لتبديل المصطلح حقيقية وواقعية بالمرة؛ فقد شهدنا ذلك الخطاب منذ ادعاء انفلاته من أغلال الكنيسة وتوجيهاتها، ومن ثم ميله للابتعاد عن الإيحاء بمعاني الفوقية والتعالي، وإرث الاستعمار، والتعامل بخطاب أكثر اتزانا وتقديرا لموضوعه، ونبذ التفكير بالعقلية القديمة تماما، مازال محملا بأحكام العصور الوسطى وتصوراتها عن الإسلام والمسلمين والعرب، فضلا عن عوالق عصر الاستعمار الحديث، وقد مر استعراض شريحة واسعة من النصوص التي تؤكد هذه الحقيقة، ولا بأس أن نضيف هنا: أنه جاء في أحد الكتب المدرسية الأمريكية تعريف للدين الإسلامي على أنه : «دين يسمى الإسلام، بدأ في القرن السابع، وكان الذي بدأه تاجر غني في الجزيرة العربية يدعى محمد، وقد زعم أنه نبي، ووجد أتباعا له من بين سائر العرب، وقال لهم: إن الله قد اصطفاه لحكم العالم، وبعید وفاة محمد، جمعت تعاليمه وسجلت في كتاب يسمى القرآن، وهو الذي أصبح الكتاب المقدس للإسلام»(1). وتؤكد المستشرقة الأمريكية المعاصرة (Margaret Marcus = مارجريت مارکوس): إن الأقسام المنتشرة في أوربا وأميركا، والمتخصصة في دراسة الإسلام وفهمه، إنها تقوم بذلك من أجل تحقيق غاية واحدة هي: التمكن من العدو لتدميره، وتلك المعاهد ومراكز البحث مشغولة اليوم بتكوين أتباع للغرب في الأقطار الإسلامية واحدا تلو الآخر، لإجهاض القضية الإسلامية من داخلها، وإحباط أي محاولة لبعث حقيقي إسلامي(2). ومهما يكن ما زالت الكتب تكتب، وتقيم حججها في الغالب على ما قاله المستشرقون القدامى أو المحدثون، ومعنى هذا أن الاستشراق حتى وإن لم يكتب له البقاء بالصورة القديمة، إلا أنه ما يزال حيا، حاضرا في الحراك الأكاديمي من خلال ما أرساه من مذاهب وقضايا معرفية وأيديولوجية، ومن خلال كونه صور مغايرة متعددة .

ص: 95


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، 439 - 440.
2- الشرقاوي: الاستشراق المعاصر، 42.

(6) صورة الخطاب الإعلامي والصحافي

أخذت هذه الصورة المغايرة للاستشراق تبرز بشكل مثير وجذاب في العقود الثلاثة الأخيرة؛ مع تطور تقنيات الاتصال سیما في أوقات الأزمات المفاجئة التي يكون فيها الشأن الإسلامي مناط الحديث والخبر والصورة في الإعلام الغربي؛ فالخطاب الاستشراقي الصحافي هو أحد إفرازات المؤسسة الاستشراقية الحديثة، ويشتغل في إطار مجموعة من الكتاب الصحفيين الذين هم أقرب للعمل الاستشراقي من العمل الصحفي الخالص و بالأحرى هم كتاب صحفيون مالوا لاحتراف مهنة الاستشراق، وهم في الأغلب لا يميلون للدراسات الإسلامية التقليدية والمتخصصة التي تعتمد على الكتب كمصادر ومراجع لأبحاثهم، وإنما يعتمدون على الدراسات الميدانية المؤسسة على منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، فيسعفون وسائل الإعلام الغربية بكل ما تحتاج إليه من مادة صحفية تهم القضايا الإسلامية المرتبطة بالوقائع والأحداث التي تقع في البلاد الإسلامية، أو البلدان الغربية أيضا عندما يتم افتعال أزمات ذات صلة بالإسلام والمسلمين. وغالبا ما تتسم هذه المعلومات بعدم الدقة والموضوعية؛ نتيجة للسرعة والاستعجال في تقييم الأحداث، ولأنها تريد الانتشار السريع، ولأن الخلفيات الثقافية في ميدان الإسلاميات لهذا النوع من المستشرقين عادة ما تكون ضعيفة، ولا ترقى إلى مستوى يخول الحديث والنقاش حول قضايا دقيقة ترتبط بالتشريعات والتاريخ الإسلامي. على أن هناك بعضا من هؤلاء المستشرقين يعززون مواقعهم الثقافية بالاضطلاع بدراسات ميدانية في بعض الدول الإسلامية، وهي دراسات غالبا ما تكون مقترحة ومحمولة من المراكز البحثية حول مجتمعات العالم الإسلامي في الجامعات الغربية التي تعمل على تكوين خبراء مناطق لا يتم ابتعاثهم إلى البلد الإسلامي المحدد إلا بعد أن يلقن ویزود بكم هائل من

ص: 96

الأفكار والمعلومات عن الإسلام والمسلمين(1). وربما أرسل المستشرق الصحفي إلى بلد إسلامي غريب عليه من دون أي إعداد مسبق أو خبرة تؤهله للمهمة المنوطة به، بل يكمن المؤهل الوحيد في براعته في التقاط الأشياء والأحداث بسرعة. وهكذا يكون هؤلاء المستشرقون الصحفيون أكبر مصنع منتج للصور النمطية المسيئة للإسلام والمسلمين؛ فالمادة الإعلامية التي يتم انتاجها - والتي هي في الغالب أبعد ما تكون عن الموضوعية والنزاهة - تعد مصدرا أساسا لوسائل الإعلام الغربية المكتوبة والمسموعة والمرئية. بل إن الرسوم الكاريكاتورية تستمد خلفيتها من دراسات المستشرقين الصحفيين. والأخطر في كتابات هؤلاء أنها تتوفر على وسائل دعائية و ترویج هائلة تتمثل في استغلال وسائل الإعلام المختلفة؛ إذ تتمكن بذلك من الوصول لأكبر عدد من الناس، كما أن الكتب التي يصدرها هؤلاء في الموضوعات الإسلامية ذات الصلة بالقضايا المعاصرة تطبع وتوزع وتترجم بالاف النسخ ويمكن العثور عليها حتى في المطارات الدولية وبعض الأكشاك الضخمة عکس کتب المستشرقين التي تطبع بأعداد محدودة ولا تكاد تباع سوى في المكتبات العلمية. وهكذا بدل أن تكون الدراسات الاستشراقية الصحفية عنصر توازن ومصدر معرفة متوازنة، ووسيلة للتواصل الحضاري بين الإسلام والغرب في عالم طغى فيه أسلوب الإثارة الدرامية والتمويه بالتضليل الإعلامي التي كرستها وسائل الإعلام المختلفة، نجد أنه يتم التعاون والتنسيق والتنافس أحيانا بهدف إنتاج صورة نمطية جديدة عن الإسلام والمسلمين موغلة في الازدراء والتشويه؛ لتعطي الخبر نكهة الإثارة والحماس!(2). أما في السينما والتلفزيون فترتبط صورة العربي إما بالفسوق أو الخيانة وسفك الدماء، فهو يظهر في صورة صاحب الشهوة الجنسية الطاغية، المنحل المنحط، القادر على حياكة

ص: 97


1- عزوزي: حسن: الأسباب التاريخية للصور النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين، 10- 11.
2- عزوزي: الأسباب التاريخية للصور النمطية، 11 - 13.

مؤامرات خبيثة بارعة، لكنه في جوهره يتلذذ بتعذيب غيره، خؤون، وضيع. وعادة ما يأخذ في السينما الغربية: دور تاجر الرقيق، وسائق الجمال، والصراف، والوغد، وخلف جميع هذه الصور یکمن التهديد بخطر الجهاد، أو الخوف من أن المسلمين أو العرب سوف يستولون على العالم(1).

على أنه جرى تركيز هذه الصورة للعربي والمسلم، وأضيفت إليها مفردات ودلالات مثل: القاتل / الإرهابي / السادي / المروج لثقافة العنف والقتل. وخصوصا بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر 2001م) ومن ثم تحول هذه الصور إلى حقيقة واقعية ملموسة عن طريق تقديم الإسلام من خلال نموذج القاعدة ومنظمات الإرهاب والقتل السلفية، وهم يقطعون الرؤوس والأجساد بطريقة وحشية بدائية، ويحرقونها باسم الدين والإسلام، ومع ترديد عبارات الجهاد والتكبير والشهادة يفترسون - کما الذئاب الجائعة والوحوش الكواسر - مخالفيهم في العقيدة والمذهب، يسحبون الجثث في الشوارع ويعزفون على أنات إزهاق الأرواح أناشيد الانتصار. فإذا كان الخطاب الاستشراقي أو تخارج الثقافة الذي صاغ صورة الإسلام والمسلمين في القرون الوسطى وما تلاها على أنه هرطقة ينتظم في إطارها شعب هائج عرف بتسمية: (Saracenus = السراسنة / أعداء مملكة الله والمسيح / أعداء التسامح والصفاء الروحي / غزاة / برابرة / متوحشين.. الخ. فيا عليه اليوم لإثبات هذه القناعات وترسيخها في المخيلة الغربية سوى تسليط الأضواء الإعلامية على صنيعة الغرب، وذيوله من منظمات الإرهاب والقاعدة من سراسيي القرن الحادي والعشرين؛ فهم قد كفوه مؤونة تشويه الإسلام.

ص: 98


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، 438 - 439.

(7) صورة التمثيل والتماثل

يراد بالتمثيل هنا: إعادة بناء الشرق بعیدا عن واقعه، ووفق مسلمات ذهنية غريبة عن ذلك الواقع، يراد لها أن تحل محل الحقيقة الواقعية. بمعنی استبعاد الواقع التاريخي والنفسي للشرق، واستبداله بصورة خيالية ابتكرتها مخيلة الإنسان الغربي؛ لإعادة ترتيب الأحداث بما يرضي الإحساس بالفوقية والغرور الغربيين؛ فإعادة صياغة الشرق هنا لا تمثل استحضارا للشرق، بقدر ما هو إقصاء وإلغاء له، وإعادة إنتاج لشرق متخیل و مخلوق ذهنيا وإسقاطيا.

أما التماثل: فهو العمل على دخول المجتمعات الشرقية الإسلامية محور المدنية الغربية !! ولما كانت المدنية الغربية تمظهرات خارجية للعقل الغربي، فإن أي عرق يراد له تبني مدنية أخرى عليه أن يتبني التكوين العقلي لتلك المدنية !(1). أي المدنية الغربية . بمعنی مسخ هوية الشعب الثقافية وصياغتها وفق منظور الآخر.

هكذا يتم التعامل مع الشرق على أنه واقع افتراضي، ومهما فعل فهو ليس إلا ذلك الهجين المخلق عبر مخيلة المستشرق، ومنظار الخطاب الاستشراقي الذي أكسبه على الدوام صورة بشعة، قوامها أنه غير قابل للتطور، وأن أصالته ما هي إلا نسخة منحطة من الثقافة الغربية(2).

وبهذا يظهر أننا أمام صورة استشراقية قرووسطية أخرى، ولكنها تلبس مسوح المدنية والحداثة والمعاصرة، يظل الشرقي فيها بالمستوى الأدنى، وأنه غير قادر على

ص: 99


1- الجابري: تفكيك الاستشراق، 19 - 22.
2- إدوارد سعيد: في مقالة كتبها لمجلة (تايم الأميركية، بتاريخ (16 /4/ 1997م) على أثر نقد کتابه (الاستشراق). تعقيبات على الاستشراق، 28.

تمثيل ذاته؛ ومن ثم لابد أن يقاد ويوجه من ذات عليا هي الذات الغربية! إذن الخطاب الاستشراقي لايزال حاضرا وقائما عبر مسلماته القديمة التي لايرغب بالتراجع عنها؛ فهو وإن اختلفت تسمياته ومفاهيمه مايزال كائنا معرفيا حيا له حضوره في الساحة الثقافية من خلال كونه منظومة خطاب سلطوي مرئي ومسموع ومقروء أي إنه وإن تعددت أشكاله بين أكاديمي وصحفي وإعلامي وسياسة تمثيل وتماثل، ورسم کاریکاتیري أو دعاية إعلانية، فهو يمثل خطاب ثقافية موجهة من ذات متفوقة لذات أدنى، وهو يستمد حيويته وديمومته من وجود التمايز بين الذاتين. ومن خلال كونه يمثل استجابة للثقافة التي أوجدته أكثر من استجابته لموضوعه المفترض، وكذلك من خلال كونه اهتماما ثقافيا وإطارا معرفیا لعلاقة الغرب بالشرق.

ص: 100

اَلْفَصْلُ اَلثَّانِي: الخطاب و إسقاطات التبشیر

اشارة

ص: 101

ص: 102

مَدخَل

وظف الخطاب الديني في دخول المسلمين إلى الأندلس کما وظفته الكنيسة في طردهم منها، والقيام بالحروب الصليبية في الشرق؛ لاسترداد الأماكن المقدسة. وقد أثارت محاولات توغل الفتوح الإسلامية إلى قلب أوربا عبر جبال البرت = البرتات)(1) التي تقع جنوب غرب أوربا كحدود طبيعية فاصلة بين اسبانيا وفرنسا(2) قلق الدول الأوربية، وفي مقدمتها فرنسا الوجه الأبرز لأوروبا وقوتها الكبرى حينها؛ إذ لو انتصروا في معركة ( Poitiers بواتييه = بلاط الشهداء 732م / 114ه-) لانتشر الإسلام واللغة العربية في فرنسا وسائر البلاد الأوربية(3)، ولذلك نرى المستشرقين أطروا على ذلك الانتصار أيما إطراء، فوصف بأنه: «أنقذ المسيحية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة، وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق للجنس الآري على السامي، وأنه لولا ذلك الانتصار لكانت فرنسا جزءا من بلاد الإسلام، ولقضي على

ص: 103


1- برت وجمعها برتات: كلمة لاتينية من الأصل (Portus = ممر أو Puerto = ميناء أو Porta = باب أو Porte, Puerta= مدخل). الحجي: التاريخ الأندلسي، 96. وجبل البرت هو الحاجز الذي يفصل بين الأندلس والأرض الكبيرة وفيه الأبواب. المقري: نفح الطيب، 1/ 128 - 133.
2- عن فتوح المسلمين هناك ينظر: المزروع: جهاد المسلمين خلف جبال البرتات من القرن الأول إلى القرن الخامس الهجري.
3- جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي،107/1

المسيحية، ولكان صوت الأذان يدوي فيها بدلا من أجراس الكنائس، ولكان القرآن يدرس فيOxford - أكسفورد»(1).

كانت المساحة الأبرز لإدارة حوار العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في أوربا تنتظم بشكل أساس خلال إطار الخطاب الديني، ولذا نجد البابا (Urban II = أوربان الثاني) يبتهج فرحا عند سقوط طليطلة عام (478 ه- / 1085 م) تحت سيطرة الملك الإسباني (Alfonso VT = ألفونسو السادس 465 - 502ه-/ 1072 - 1109م)(2) ويقول: «لنا أن نبتهج ابتهاجا عظيما من أعماق قلوبنا، وأن نحمد الله كثيرا لأنه أنعم على الشعب المسيحي بنصر مؤزر في عهدنا»(3)، وقال عند تقدم الجيوش المسيحية في صقلية (4)وإسبانيا: «الله مدبر الأمر كله وبحكمته وجبروته يغير الأحوال، ويقضي على الدول، وفقا لمشيئته وإرادته»(5).

ووقف في فرنسا وبالتحديد في مدينة (Clermont = كليرمون) عام (488 ه- / 1095م) ليوجه الخطاب الديني الذي أعلن من خلاله عن بدء الحملات الصليبية قائلا: الصليبيين يحاربون بإلهام من الله، وينفذون مشيئته، وانهم نواب الله الذي يرعاهم، وأنهم يعملون في سبيل الله، وإن السلطة المسؤولة عن الحملة هي الله، لأن الحملة سائرة في طريق الله! وكانت الحملة تصبو لتحقيق هدفين رئيسين هما: تخليص الكنائس الشرقية بصفة عامة وكنيسة بيت المقدس بصفة خاصة من الاضطهاد والدمار والخراب الذي يمارسه المسلمون، وتخليص بیت المقدس من حالة العبودية التي

ص: 104


1- المزروع: جهاد المسلمين، 129 - 130.
2- الحجي: التاريخ الأندلسي، 329 - 331
3- جونثان رايلي: الحملة الصليبية الأولى، 37.
4- فتحت بعد حملات طويلة خلال (212 - 286ه- / 826 - 902م). وسقطت عام (484ه-/1091م). الزهراني: الحياة العلمية في صقلية، 36- 93
5- جونثان رايلي: الحملة الصليبية الأولى، 37.

يعيشها(1). وقد أشاد المؤرخ الفرنسي (Rene Grusset = ريني جروسیه) بالدور الريادي لفرنسا في الحروب الصليبية. وعد حملة «Louis IN = لويس التاسع» حملة صليبية فرنسية خالصة(2). وكان لتلك لحروب وتأثيرات التحريض الكنسي والتطلعات الاستعمارية، الأثر الأول والأخير في صياغة الخطاب الاستشراقي الديني واستمراره بصورته الأكثر فجاجة وعدائية تجاه الإسلام والمسلمين. ومع الاتصال المباشر الذي حدث بين أوروبا وبلدان العالم العربي والإسلامي على اثر اکتشاف (رأس الرجاء الصالح عام 1488 م) وتدفق المستشرقين بعناوينهم المتعددة من علماء ومنقبين ومبشرين؛ وفتح مراكز التبشير، ومن ثم تأكيد هذا التواجد والاتصال في القرن التاسع عشر من خلال غزو نابليون لمصر وفتح قناة السويس واحتلال الجزائر عام (1833م) وتونس عام (1881 م) ثم تواجدها في المغرب والشام بعد فرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان خلال المدة (1920 - 1949م) والسعي لخلق وإيجاد دولة لبنان الكبير (3).

ص: 105


1- جونثان رایلي: الحملة الصليبية الأولى، 38 -40
2- نصري: أحمد، آراء المستشرقين الفرنسيين بالقرآن 19.
3- ينظر : درویش، الاستشراق الفرنسي والأدب العربي، 11؛ عتريسي: البعثات اليسوعية، 27.

(1)البعثات اليسوعية.. لقاء التبشير والاستعمار والاستشراق

كان تواجد المراكز التبشيرية يعني توفر المختبر العملي للاستشراق؛ فقد أعدت فرنسا جيشا من المبشرين والمستشرقين للعمل في أفريقية وبلاد الشام وقد بلغ عدد المبشرين المرتبطين بالمقام البابوي قبل الحرب العلمية الأولى (73000) مبشرا كان ثلاثة أرباعهم من الفرنسيين الذين توجهوا إلى سوريا، وجلهم قد توجه للتخصص في الاستشراق لرسم مناهجه بما يخدم الأهداف الثقافية والسياسية لفرنسا(1). فسارت الرغبة الاستعمارية الفرنسية في سوريا ولبنان جنبا إلى جنب مع العمل التبشيري؛ فالتقت أهدافها في المؤسسات والمراكز التعليمية الاستشراقية التي أنشأتها البعثات اليسوعية الموكلة بمهمة: فرض الحضارة الغربية على القسم الباقي من العالم(2).

وكان لجبل لبنان قبل أن تلحق به أقضية ومناطق من سوريا ليکون دولة (لبنان الكبير) وفيما بعد حصة وفيرة من نشاط البعثات بسبب كاثوليكيتها من جهة، والحضور الفرنسي السياسي والعسكري والاقتصادي من جهة أخرى. وهي عوامل أدت إلى إلحاق سكان الجبل المسيحيين بفرنسا على جميع المستويات(3). وقد اختلف المؤرخون حول تاريخ وصول البعثات اليسوعية إلى بلاد الشام. فقال الأب (جيروم) - مسؤول إحدى البعثات اليسوعية التي وصلت سوريا عام (1625م) -: إن بعثتهم هي الأولى من بين جميع البعثات والنشاطات الفرنسية التي تغطي الأرض السورية. وهناك من يرى إن بداية وصولهم كانت عام (1638/ 1650/1656/1654م)(4).

ص: 106


1- المقدادي: الإسلام وشبهات المستشرقين، 107.
2- عتريسي: البعثات اليسوعية، 26.
3- عتريسي: البعثات اليسوعية، 27.
4- عتريسي: البعثات اليسوعية، 24، 65.

ويظهر أن هذا الاختلاف ناجم عن التباين في أوقات تمركزهم في مناطق بلاد الشام؛ إذ تواجدوا في حلب عام (1625م) وفي دمشق عام (1634م) وفي صيدا عام (1644م) وفي طرابلس عام (1645م) وفي عينطورة عام (1653م). وبعد إلغاء رهبانيتهم خلال المدة (1773 - 1814م) عادوا إلى بيروت عام (1831م) وكيفا عام (1833م) وعزير عام (1846م). وتفرقوا بين أقطار الشرق وشيدوا الأديرة (1)، وأسسوا بعض المراكز التعليمية ومنها: كلية (عينطورة) وكلية (Ravenne) وحلقة ( ST Elie)(2)

وكانت فرنسا - بداية الأمر - رافضة لليسوعيين الذين تبعثهم روما للتبشير ولاترحب بحضورهم لبلاد الشام؛ لأنها تعد نفسها مسؤولة عن حماية مسيحيي المشرق أمام الباب العالي العثماني، وإذا ما تواجد اليسوعيون فإنهم ليس من السهل أن ينصاعوا لفرنسا الدولة المدنية؛ نظرا لتمتعهم بحماية المقام البابوي ومسؤوليتهم عن تنفيذ مشاريعه الدينية التي تختلف مع توجهات فرنسا الدولة الليبرالية. وعليه فتواجد اليسوعيين في سوريا ولبنان يعني انتقال مبرر التواجد الفرنسي فيها إلى المقام البابوي ممثلا بهم، يضاف لذلك أن فرنسا تريد الإبقاء على علاقاتها الطيبة مع موارنة لبنان - الأكثر مسالمة والأقل حدة وحماسة نحو تغير الواقع الموجود والارتباط بالبابوية - ولذا بدأ اليسوعيون يثيرون المشاكل بوجه فرنسا بتحريضهم الفلاحين والأهالي الموارنة على المطالبة بتكوين دولة مسيحية، واتهام فرنسا بمساندة العثمانيين - المسلمين - ضد المسيحيين(3). وكان الموارنة قد سبقوا اليسوعيين للاستيطان في مناطق لبنان بزمن طويل جدا وهم طائفة تنسب إلى الأسقف مارون الذي يرقى تواجده في لبنان إلى

ص: 107


1- العقيقي: المستشرقون، 3/ 284
2- عتريسي: البعثات اليسوعية، 68 - 70
3- عتريسي: البعثات اليسوعية، 68 - 71.

أواخر القرن الأول الميلادي وذلك بعد أن عينه القديس بطرس أسقفا على طرابلس عقيب احتلاله لها(1) على أن هناك أشخاصا متعددين كانوا قد عرفوا باسم مارون. وهناك من نسبهم إلى مدينة مارون وأيضا توجد أكثر من مدينة بهذا الاسم(2)، والظاهر أن هذه المدن إنما سميت باسم شخص مارون ومن ثم فالأصل هو نسبتهم إليه. وهناك رأي يقترب بظهور الموارنة إلى أيام الإمبراطورين (جستنيان 527 - 565م) و(موريق أوموریس 582 - 602م،»(3)فقد ذكر أن الموارنة تعرضوا لغزو «یوستنیان - جستنيان» فتصدوا له وفرقوا كتائبه وكان مارون حاکما و مطرانا لمنطقة جبل لبنان والبترون وسواحل البحر(4). ويظهر أن ذلك كان بسبب قول الموارنة بالمشيئتين ورغبة جستنيان بتوحيد الآراء الدينية في أرجاء الإمبراطورية وجمع السلطات الدينية والمدنية بيده (5). وقيل حدث الغزو في عهد «موريق = موريس» قال المسعودي، ت 346ه-/ 957م): موريق وظهر في أيامه رجل يعرف بارون إليه تنسب المارونية، وأمرهم مشهور بالشام وغيرها، أكثرهم بجبل لبنان، وكان له در عظیم یعرف به شرقي حماة ذو بنيان عظيم حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيها الرهبان، وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم، فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع؛ بتواتر الفتن. وكان مارون قد أحدث آراء بان بها عمن تقدمه من النصارى في المشيئة وغيرها وكثر متبعوه(6). وذكر ذلك في التواريخ النصرانية المهتمة بجمع تاريخ الطائفة فقال (أسطفان الدويهي. ت 1704م) الموارنة: ينتسبون إلى

ص: 108


1- هنري لامنس: تسريح الأبصار فيها نحوي سوريا ولبنان من الآثار، 1/ 103 - 108.
2- الدويهي: تاريخ الطائفة المارونية، 13 - 17.
3- العريني: السيد الباز، الدولة البيزنطية، 895.
4- الدويهي: تاريخ الطائفة المارونية، 8-9.
5- العريني: السيد الباز، الدولة البيزنطية، 97-99.
6- التنبيه والإشراف، 131 - 132، وقد نقل عنه ابن الأثير هذه المعلومة. الكامل في التاريخ، 1/ 333.

مارون الراهب الذي كان في دولة موريق ملك الروم، وأنشأ بدعة الطبيعئين والمشيئة الواحدة، وأفسد بمقولته هذه ناسا كثيرين. والذين قالوا بقوله وانقادوا لهذيانه سموا موارنة باسمه، ولما مات دفنوه بأرض حماة قريبة من العاصي. وبنوا على اسمه دیرا ولقبوه بدیر مارون. وهناك آراء أخرى حول شخصية مارون هذا ووقت ظهوره(1).ويبدو أن هذا التباين ناتج من تعدد من سمي بهذا الاسم.

وبالعودة للبعثات اليسوعية يلاحظ أنها انبثقت عن «جمعية يسوع»، التي أسسها القديس الإسباني (Ignace de Loyota = إجناس دي لويولا 1492 - 1556م) عام (1534م) بعد مدة صاخبة بالمشاكل في حياته الخاصة وظروف تأسيس الجمعية، وكان ولد في أسرة تنتمي لنبلاء مقاطعة الباسك، وعاش في شبابه عيشة لهو وترف وانغماس في الملذات، حتى أن صديقه الأب (=Laine = لاینز) الذي خلفه في رئاسة الجمعية عام (1556م) قال عنه: إنه كان أسيرا لهفوات الجسد. وقال هو عن نفسه:فحتى السادسة والعشرين ترکت نفسي لملذات الحياة. وقد حدث التحول الكبير في حياته أثناء مرضه؛ إذ طالع خلال ذلك بالصدفة حياة المسيح والقديسين؛ فتأثر بذلك تأثرة دفعه للاهتمام الديني وولد في نفسه شعورا بالندم لحياته الماضية، إلا أنه عاش عاما کاملا آخر من الشك والقلق قبل أن يقرر السفر إلى القدس فوصلها بعد سفر طويل، ثم عاد إلى إسبانيا وسافر إلى باريس ليتابع دراسته فيها؛ فحصل على شهادة في الفنون، وبدأ يجمع الشبان حوله، وتوثقت علاقته مع ستة منهم فتوجه معهم ذات يوم إلى (مونمارتر) وكان ذلك عام (1534م) وهناك حلفوا حلفا مقدسا مثل النواة الأولى الجمعية يسوع وقرروا أنهم: إذا لم يتمكنوا من الذهاب إلى الأراضي المقدسة، فإنهم سيتوجهون إلى البابا ليقرر لهم أين وكيف يمكن أن يسهموا في مجد الله وخلاص النفوس (2).

ص: 109


1- الدويهي: تاريخ الطائفة المارونية، 3- 12.
2- عتريسي: البعثات اليسوعية، 28 - 29.

وفعلا لم يتمكن (= Loyola = لويولا) ورفاقه من الذهاب إلى القدس؛ بسبب الصراع بين الأتراك والغرب، فتنقلوا بين اسبانيا وإيطاليا، وفي طريق العودة إلى روما عام (1538م) شعر بتغير في نفسه وأن الله الأب، يضعه مع المسيح ابنه، وهو لا يمكن أن يشك في ذلك مطلقا؛ فقرر بعد هذه الرؤيا أن يطلق على مجموعته اسم (جمعية يسوع). ولم تحصل هذه الجمعية من البابا والكرادلة على الإذن الشرعي بممارسة الوعظ والتبشير إلا عام (1540م) وتوفي(Loyola = لويولا) بعد (16 سنة) من رئاسته لهذه الجمعية عام (1556م)(1).

وقد امتد نشاط هذه الجمعية منذ تأسيسها حتى منتصف القرن (18م | 12ه-) لمختلف بقاع العالم، فوصلت بعثاتها التبشيرية إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا وبلاد الشام والصين وغيرها، وعملت تلك البعثات على تعليم الشباب وتشييد الأديرة والكنائس، وممارسة الوعظ الديني، والتدريس.. ، ثم إنهم تركوا المسائل الدينية والروحية، وانخرطوا في السياسة، وصاروا يشتركون في حياكة المؤامرات السياسية، وارتبطوا بالاستعمار في تلك البلدان، وكونوا مقاطعات خاصة بهم؛ مما جعل البروتستانت وغيرهم يسعون لإسقاطهم، وفعلا تم ذلك بقرار بابوي من روما يمنع هذه الجمعية من العمل، فطردوا من البرتغال عام (1759م) ومن فرنسا عام (1762م) ومن إسبانيا (1767م) ومنعت الجمعية عام (1773م). إلا أن هذا الحصار والمنع لم يستمر طويلا، فقد عاد ملوك أوربا، وسمحوا لليسوعيين مع بداية القرن التاسع عشر بتجديد نشاطهم، فعادت الجمعية لنشاطها العلني على مستوى العالم عام (1814م) بعد (41 سنة) من الانقطاع (1773 - 1814م). أما في فرنسا فقد استمر منع اليسوعيين لفترات أطول، وتعرضوا وبيوتهم وممتلكاتهم عام | (1885م) لحملات عنيفة من العداء، أحرقت فيها بيوتهم وممتلكاتهم، وطردوا من

ص: 110


1- عتريسي: البعثات اليسوعية، 29

أنحاء فرنسا كلها، ولم يسمح لهم بالعودة لمزاولة نشاطهم إلا عام (1923م) (1).

حدث التقارب بين فرنسا واليسوعيين بعد اقتراب الأخيرين من النمسا بوصفها قوة كاثوليكية لمواجهة الضغط الفرنسي؛ فخشي الفرنسيون استفحال أمرهم اعتمادا على المد النمساوي. هذا فضلا عن دخول التبشير البروتستانتي على الخط، وتواجده الملحوظ في بيروت، مما يمثل تهديدا حقيقيا للنفوذ الفرنسي الكاثوليكي؛ نبات القلق من فقدان جمعية يسوع هاجسا من تحولها هي الأخرى لقوة معادية ؛ فلجأت فرنسا أمام هذه الظروف المتسارعة والخطيرة لتبدیل سیاستها مع اليسوعيين، مقابل تقديم بعض الضمانات لفرنسا بعدم استهداف منافسيهم؛ فعقدت فرنسا اتفاقا مع روما، تم بموجبه تسوية توزيع مدارس اليسوعيين في لبنان، على أن يصبح النشاط اليسوعي متمما لا منافسا، ولم تر فرنسا بعد ذلك في اليسوعيين قوة معادية بل رسل حضارة تتوافق مع المصلحة الفرنسية، وبالمقابل لبي اليسوعيون الرغبة الفرنسية، وانتقلوا بعملهم من التحريض والتشويش على فرنسا إلى طليعة المدافعين عن القضية الفرنسية، ولم يعد سرا - في سوريا وفلسطين - أن رجال الدين بمؤسساتهم المدرسية هم الذين رفعوا إلى أعلى درجة مقبولية التواجد الفرنسي هناك(2).

وقد عمل اليسوعيون على فتح الكليات والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام..؛ للتقرب للناس وكسبهم لمصلحة فرنسا، وهذا ما يؤكده قولهم: «سيكون الفرنسا هنا في كل وقت جيش متفان»(3).وكان الغرض من تأسيس كلية الطب أن ينشر من خلالها النفوذ والحضارة الفرنسية، فالغاية الأولى للمؤسسين أن يجعلوا منها

ص: 111


1- عتريسي: البعثات اليسوعسة، 29-33. وينظر: عمر فروخ ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار،،167 - 166
2- عتريسي: البعثات اليسوعية، 72-73.
3- عتريسي: البعثات اليسوعية، 91.

فكرة سياسية ومؤسسة دعائية(1). وقد استطار المبشرون اليسوعيون فرحا لما أصبح لبنان متصرفية، يحكمها النصارى الأوربيون بعد عام (1860م). وكانت فرنسا تؤمن بأن النفوذين الديني والسياسي في جبل لبنان احتكار لها دون سائر الدول الأوربية؛ ولذلك أرادت تركيز التواجد اليسوعي الكاثوليكي في سوريا ولبنان على حساب التواجد البروتستانتي(2). فصال اليسوعيون وجالوا في منطقة الانتداب الفرنسي بعد أن التقت مصالحهم التبشيرية مع مصالح الاستعمار الفرنسي، حتى أنهم كانوا يصرحون بذلك فيقولون: أيها المبشرون، هذه فرص لم تسنح لكم من قبل. وبذلك وظفت فرنسا كل إمكاناتها لخدمة اليسوعيين؛ مقابل تعهدهم بالعمل لمصلحة التواجد الفرنسي في سوريا ولبنان(3).

ثم دعمت هذه العلاقة السياسية المستترة بثوب الدين، بتعهد العلاقات التجارية والإرساليات، وبإنشاء المكاتب بين فرنسا ولبنان، ووسعت بناء الكنائس والأديرة والمدارس والجامعات، وبدأت فرنسا تستقبل رجال الدين اللبنانيين وتعلمهم في مدارسها الدينية؛ ليعودوا إلى لبنان ويخدموا السياسة الفرنسية هناك، هذا مع استمرار تدفق المبشرين والأساتذة والمعلمين اليسوعيين إلى لبنان(4).

وهكذا تشابكت المصالح التبشيرية والاستشراقية والاستعمارية؛ فبعد أن أضحى التبشير عنوانا ممجوجا وغير مرحب به، حل محله الاستشراق ليقوم بها كان يقوم به التبشير؛ فاقنع المبشرون والمستشرقون زعماء الاستعمار، بأن المسيحية ستكون منطلقا، للاستعمار الغربي في الشرق، وبالمقابل أمن الإستعمار الحماية للمبشرين

ص: 112


1- عتريسي: البعثات اليسوعية، 150
2- عمر فروخ: التبشير والاستعمار، 150 - 151
3- عمر فروخ: التبشير والاستعمار، 151 - 152، 157
4- عمر فروخ: التبشير والاستعمار، 153 - 154.

والمستشرقين، وزودهم بالمال والسلطان؛ فكانت الإرساليات التبشيرية مقدمات الاستعمار وطوالعه الممهدة، كما اعتمد التبشير على الاستشراق في الحصول على المعلومات عن المجتمعات المستهدفة، سيما بعد اكتساب التنصير مفهوما و معنى أوسع من مجرد الإدخال في النصرانية، ويمكن رصد النشاط الاستشراقي اليسوعي من خلال المؤسسات الآتية:

1) المطبعة الكاثوليكية في بيروت (دار المشرق للنشر. لاحقا) وقد أسست عام (1852م) واستخدمت الحروف العربية عام (1874م) وطبعت الكتب والمجلات والنشرات، بالعربية، والتركية، والأرمينية، والقبطية، والحبشية، والسريانية حتى ضاهت أشهر المطابع في الشرق والغرب، وقد نشر عدد كبير من المستشرقين مصنفاتهم فيها

2) المكتبة الشرقية: تكونت نواتها في غزير عام (1863 م) ثم نقلت إلى جامعة القديس يوسف في بيروت، ثم استقلت ببناء رحب وأنيق على الطراز العربي، وهي تحتوي على (2058 مخطوط شرقي) وقد تنوعت مخطوطاتها بين مسيحية وإسلامية، وتاريخية وجغرافية وفلكية وطبيعية ورياضية وموسيقية وطبية وكيميائية وفلسفية وغيرها. والمكتبة على صلة بالمكتبات الشرقية في العالم، وتتبادل معها الدوريات والمجلات والمصنفات في المجالات كافة.

3) المكتبة العربية السكولاستيكية: وهي مخصصة لنشر النصوص الفلسفية العربية التي ترجمت إلى اللاتينية؛ لوضع مادة دراسية بين أيدي فلاسفة ولاهوتي الغرب، ونصوص لغوية للمعنيين باللغة العربية في العصر الوسيط.

4) منوعات الكلية الشرقية (Melanges de la Faculte Orientale): وهي دورية صدرت خلال المدة (1906 - 1921م) باللغة الفرنسية وبعض مباحثها باللغة الإنجليزية، وقد أسهم في تحريرها عدد من المستشرقين.

ص: 113

5) المكتبة الأثرية والتاريخية: أصدرت عددا من المجلات أهمها: جريدة البشير: وهي جريدة تصدر باللغة العربية. امتد إصدارها خلال المدة (1870 ۔ 1947م) ومجلة المشرق(1): وهي مجلة ثقافية تهتم بالعلوم والآداب والفنون أسسها (لويس شیخو) وتصدر باللغة العربية أيضا. وقد امتد إصدارها خلال المدة (1898۔ 1970 م). ثم عادت للصدور عام (1991م) بواقع مرتين في السنة (كانون الثاني / يناير - وتموز / يوليو)(2)وفي عام (1961م) أصدر المركز الثقافي الجامعي التابع للآباء اليسوعيين في بيروت مجلة بعنوان: (أعمال وأيام) ونشر مجموعة بعنوان: (رجال ومجتمعات الشرق الأدنى) وفي عام (1971م) أنشئ (معهد الدراسات للعالم العربي الحديث) لبحث ونشر ما يعني بالعالم العربي وخصوصا المظاهر الاجتماعية والاقتصادية (3).

6)جامعة القديس يوسف: أبرز المؤسسات التعليمية التي أنشأها اليسوعيون، وقد أبصرت النور بعد موافقة الحكومة الفرنسية على مشروعها الذي تقدموا به عام (1883م). وفتحت بداية بكلية طب فرنسية، تولى اليسوعيون إدارتها في حين تولت الحكومة الفرنسية الإشراف المالي، وإرسال الهيأة التعليمية فيها وفي عام (1889م) فتحت كلية الصيدلة والهندسة، ثم أنشأت الكلية الشرقية عام (1905م) وكلية الحقوق عام (1913م)(4). وقد دفع التوسع في مؤسسات اليسوعيين التعليمية؛ الاستقبال الطلبة الأوربيين الراغبين بتعلم اللغات والآداب الشرقية؛ لتأسيس المطبعة الكاثوليكية؛ لطبع و نشر التراث الشرقي والمؤلفات الاستشراقية (5).

ص: 114


1- العقيقي: المستشرقون، 3/ 285 - 387
2- دلیل دار المشرق لسنة 2012، 62
3- العقيقي: المستشرقون، 3/ 287
4- العقيقي: المستشرقون، 3/ 284 - 316.
5- العقيقي: المستشرقون، 3/ 129 - 133

ومن ثم أصدرت هذه الجامعة دورية بعنوان «= Melanges de laUniversite Saint Joseph منوعات جامعة القديس يوسف»، وقد حلت محل منوعات الكلية الشرقية عام (1922م) ولما أنشئ معهد الآداب الشرقية راح ينشر سلسلة بعنوان مباحث معهد الآداب الشرقية».

وعلى العموم عمل من هذه المؤسسات التعليمية وتخرج عدد كبير من المستشرقين اليسوعيين خصهم «نجيب العقيقي» باثنتين وثلاثين صفحة من مؤلفه الضخم والثري في موضوعه المستشرقون، وترجم لأربع وستين مستشرقا منهم(1).

ص: 115


1- 316- 284 /3

(2)هنري لامنس.. المبشراليسوعي والمستشرق

كان من أبرز مستشرقي الرهبان اليسوعيين، وخريجي جامعة القديس يوسف وأساتذتها: المستشرق البلجيكي المولد، الفرنسي الجنسية، اللبناني الإقامة والوفاة القس المبشر الأب (Henri Lammens = هنري لامنس 1862 - 1937م) أو(هنریکوس) کا جاء في نتاجه الاستشراقي الأول (فرائد اللغة: في الفروق 1889م). ولا يعرف بالضبط لماذا تخلى عن اسمه هذا، وغادره منذ ذلك العام، وبات يعرف ب-(هنري لامنس) کا لا يعرف إن كان هذا اسمه فقط أم اسمه واسم أبيه؛ فكل من ترجم له وتحدث عنه لم يتطرق لبيان ذلك. ويبدو أنه منذ مجيئه إلى لبنان وهو بعمر الخامسة عشر، كان قد قطع علاقته بعائلته في بلجيكا. وكان ولد في مدينة (Gent = خنت أو غاند) البلجيكية في أول (يوليو/ تموز 1862م)(1)لأب كان مدمن على الخمرة؛ فيترك زوجته مع أولادها الستة ويضمنهم «Lammens» ولا قوت لهم. وعلى الرغم من الظروف القاسية التي عاشها دخل المدرسة الابتدائية، ولاحظ معلموه تمیزه الظاهر فحصل على موافقة بالانضمام إلى المدرسة الرسولية بإشراف يسوعي في (Turnhout) وهي أرض تربية المبشرين. وبعمر الخامسة عشر غادر إلى لبنان، وتحديدا في(مارس - آذار / 1877م) وبدأ حياة الرهبنة في السنة التالية في دير لليسوعيين في قرية «غزير» في جبل لبنان. وبعد سنتين التحق بجامعة القديس يوسف لدراسة الخطابة واللغات ثم تقدم لدراسة الفلسفة في عام (1883م)(2). وبعد أن أمضى خمس

ص: 116


1- فردينان توتل: الأب هنري لامتس، مجلة المشرق (السنة 35/ العدد 19/ نیسان - حزيران 1937م)،162؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 503.
2- Lammens, Henri Jesuit and historian of Islam: http://www. kaowarsom.be/nl/notices Lammens_Henri Stijn Knuts

سنوات في«جامعة القديس يوسف»، كان من أوائل خريجيها عام (1884م) وبعد سنتين أي: في عام (1886م) صار أستاذا لمادة الخطابة والبيان في الجامعة نفسها. وخلال المدة (1886 - 1891م) ظهرت أولى نتاجاته الاستشراقية متمثلة بكتابه(فرائد اللغة في الفروق. بواقع 528 صفحة. طبع في المطبعة الكاثوليكية عام 1889م)(1).

وخلال المدة (1891 - 1897م) تنقل شرقا وغربا؛ لدراسة علم اللاهوت، وإكمال تشكيل ثقافته الدينية اليسوعية ثم عاد بعدها إلى بيروت عام (1897م) ليتولى تدريس مادتي التاريخ والجغرافيا في جامعة القديس يوسف، ولما أسس (معهد الدروس الشرقية) بكلية اليسوعيين عام (1907م) تولى تدريس مادة التاريخ الإسلامي فيه(2).

وفي (1897 - 1907م) قام برحلات عديدة في سوريا ولبنان وفلسطين، وأخذ ينشر مقالات عن تلك الرحلات يبين فيها تاريخ، وآثار سكان المناطق التي زارها ودياناتها. كما تعمق بالبحث الأثاري عن المسيحيين الأوائل في بلاد الشام ومناطق تواجدهم، وبحث عن مواقع التاريخ الصليبي؛ فعرض على نطاق واسع وبشكل رشيق وساحر تاريخهم في الشرق الأوسط، في المجلات الكاثوليكية الفرنسية وفي مجلة (البشير) التي تولى إدارتها مرتين: الأولى عام (1894م) والثانية خلال المدة (1900 - 1903م) ومجلة (الشرق) التي تولى إدارتها عام (1927م)(3). وبدا(Lammens) عضوة مرتبطة بادعاء فرنسا في سوريا ولبنان، وبات مدافعا قويا عن الطموحات الفرنسية فيها؛ إذ انتقد وبشدة أعمال منافسي فرنسا. وقد أكد عدم نزاهته

ص: 117


1- توتل: الأب هنري لامنس، 163؛ العقيقي، المستشرقون، 3/ 293 - 295.
2- توتل: هنري لامنس، 163- 164؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 503.
3- توتل: الأب هنري لامنس، 163، 164؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 503.

من خلال تورطه مع مدير متحف بروکسل وبمساعدة من الحكومة البلجيكية بتهريب مجموعة من الآثار من سوريا إلى بلجيكا(1).

وفي عام (1915م) وبعد أن أمضى ثلاث سنوات في المدرسة أو الكلية اليسوعية في مصر، تم تعيينه أستاذا للغة العربية في المعهد البابوي في روما، فعمل في أجواء يسودها الدفاع عن الكاثوليكية وأثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى انتقل من روما إلى المدرسة اليسوعية في القاهرة والإسكندرية، وبقي هناك حتى عام (1919م) إذ عاد إلى لبنان للتدريس في جامعة القديس يوسف، وليشارك من هناك في دعم المشروع الاستعماري الفرنسي في سوريا ولبنان، عبر مقالاته مثل «العلائق الأولى بين فرنسية وسورية»(2)، وكتابه (تاريخ سوريا)(3) . وهو بشكل عام قدم معلومات كثيرة لفرنسا من خلال أعماله وجهوده الاستشراقية(4)وغدا المدافع عن سياستها في بلاد الشام عموما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (5). وفي الثلاثينات من القرن العشرين أصيب بمرض الشلل وبقي يصارعه حتى وفاته في (23/ أبريل - نيسان / 1937م)(6).

ص: 118


1- Lammens, Henri,Jesuit and historian of Islam: http://www. kaowarsom.be/nl/notices_Lammens_Henri Stijn Knuts.
2- مجلة المشرق (العدد 19. لسنة 1916م)، 49 - 55.
3- K. S. Salibi: Islam and Syria in the writings of Henri Lammens. In Historiansof the Middle East. p.332.
4- الأعسم: عبد الأميرة الاستشراق من منظور فلسفي عربي معاصر، (مجلة الاستشراق، العدد الأول،1987م)، 21،
5- فوزي: فاروق عمر، الاستشراق والتاريخ الإسلامي، 58
6- K. S. Salibi: Islam and Syria. p,332

(3)النتاج الاستشراقي ل-«هنري لامنس»

دار نتاج (Lammers) حول عدة محاور أهمها «السيرة النبوية وبدايات العهد الأمويه على أنه قدم لدراسته للسيرة النبوية بدراسات عن الطبيعة الجغرافية والتاريخية والدينية للجزيرة العربية و عرب قبل الإسلام. وقد تنوعت تقدیماته تلك بين كتب مطولة، ومقالات قصيرة، وجرته محاولات إثبات افتراضاته لتسليط بعض الضوء على القرآن الكريم والسنة النبوية. ومع أنه لم يكن عالم آثار إلا أنه خصص جانب من اهتماماته لآثار سوريا ولبنان، فكتب عن بعض عنواناتها عدة مقالات. كما تتبع آثار الصليبيين وكتب عن تاريخهم في الشرق. وبالجملة أنتج كتابات عديدة باتت - سيما ما يخص سوريا ولبنان وعرب قبل الإسلام - مصدرا للعديد من المستشرقين(1). وقد بلغت مصنفاته بين مقال وكتاب (185 باللغة الفرنسية و 127 باللغة العربية)(2). ومنها ما كتبه في مجلة المشرق، وسندرجها من فهارس المجلة للمجلدات (44 الأولى = 1898 - 1950م).

ص: 119


1- Gaudefroy Demombyns Nouvelles. archeologiques, vol. 19pp, 103 - 104.
2- العقيقي: المستشرقون، 3/ 296

الصور

ص: 120

الصور

ص: 121

الصور

ص: 122

الصور

ص: 123

الصور

ص: 124

الصور

ص: 125

الصور

ص: 126

الصور

ص: 127

الصور

ص: 128

الصور

ص: 129

الصور

ص: 130

الصور

ص: 131

الصور

ص: 132

كما أسهم بثمانين مقالا في دائرة المعارف الإسلامية بطبعتها القديمة التي صدرت في ليدن خلال المدة (1913 - 1934م) ومصنفات أخرى عديدة. وهي مجموعة في فهرس مصنفاته في منوعات جامعة القديس يوسف (مج/340/21-355)(1)ومن أشهر مؤلفاته التي أصبحت مرجعا للعديد من الدراسات الاستشراقية یخص بالذكر:

ص: 133


1- العقيقي: المستشرقون، 3/ 296-294.

1) کتاب (La Syrie: prcis historique = سوريا: ملخص تاريخي) في جزأين نشرته المطبعة الكاثوليكية ببيروت عام (1921م) رغم أنه بحاجة إلى كثير من التنقيح، إلا أنه بعد الجرد الأفضل لتاريخ سوريا منذ الفتح العربي حتى زمن المؤلف. وقد ألفه بطلب من الجنرال الفرنسي (= Gouraucغوراك) فبعد الحرب العالمية الأولى أصبح (Lammens) مناديا وداعيا للسياسة الفرنسية الاستعمارية في بلاد الشام، وقد وظف خبراته ومعرفته الاستشراقية في خدمة الأهداف الفرنسية هناك؛ كما وظف علاقاته وخصوصا مع بعض تلامذته القدماء، الذين أصبح بعضهم من الزعماء السياسيين الأوائل في لبنان؛ للتأثير على بعض القرارات السياسية لمصلحة فرنسا ولذا تمتع باحترام السلطات الفرنسية وتقديرها(1)، وربما كان منحه الجنسية الفرنسية تقدیرا ونتيجة لتلك الخدمات.

2) کتاب (موجز تاريخ سوريا ولبنان) صدر بطبعتين عربية بمساعدة الأبوين اليسوعيين «فردينان توتل وخليل إدة»وفرنسية بمساعدة (رينة موترد وفردينان توتل) نشرته المطبعة الكاثوليكية (1932- 1939م) عالج مدة ثلاثة عشر قرنا ونصف لم يذكر للعرب والإسلام محمدة واحدة، وبالمقابل امتدح الصليبيين وأشاد بدورهم(2).

3) کتاب « Le Berceau de Islam L'A rabie Occidentale A La Veille deL'Hegire Le Climat Les Bedouins = مهد الإسلام. غربي الجزيرة العربية قبيل الهجرة، الجزء الأول: المناخ والبدو. روما / 1914م» والكتاب بجزأين، ولكن لم يظهر منه سوى هذا الجزء بواقع (371صفحة).

4) کتاب (La Mecque a La Veille de L'Hegire= مكة قبيل الهجرة) بيروت (1923 - 1924م). بواقع (342 صفحة).

ص: 134


1- K. S. Salibi: Islam and Syria. pp 332 - 333.
2- العفاني: سيد حسين، أعلام وأقزام في ميزان الفكر الإسلامي 2/ 460

5) کتاب (La Cite Arabe de Taifa La Veille de L'Hegire

= الطائف العربية قبل الهجرة، بيروت / 1922) بواقع (215 صفحة) . وهناك جرد لمؤلفاته في

(منوعات جامعة القديس يوسف، مج21/ 340 - 355). على أنه في مؤلفاته التي مهد بها لدراسته السيرة لم يأت بشيء جديد إنا لخص أبحاث المستشرقين وعلماء الآثار في هذه الموضوعات(1).

وهو بصورة عامة قد أفسد نتاجه الغزير بغروره وتعصبه الواضح؛ فأفكاره متأتية من ازدرائه للإسلام وللعرب بشكل عام؛ وقد شن هجمات وحشية على الرمز الإسلامي وعد الإسلام في جميع كتاباته حدثا تاريخيا مخيبا شمل الأمة السورية وبعد أن واجهت سوريا هذا التأثير الذي لا يقاوم كان عليها استيعابه وتعديله بشكل أقل اعتراضأ أو تناقضا مع شخصيتها المسيحية التي كانت مطالبة بالحفاظ عليها؛ ولذلك لجأت إلى جبل لبنان - وهنا جاء بنظرية لبنان الملجأ(2) - کما صور الحملات الصليبية على أنها مهلة مرحب بها؛ نتيجة الحكم القمعي على أيدي المسلمين في سوريا، وأعلن أن الانتداب الفرنسي هو الخيار الوحيد لتحقيق الاندماج والوحدة للأمة السورية(3)

ص: 135


1- بدوي: موسوعة المستشرقين، 504. وينظر: توتل: الأب هنري لامنس،167،166، 171.
2- عنها ينظر: إبراهيم علامة: الأب لامتس مخترع لبنان http://adloun.org/Inventeur DuLiban, aspx
3- K. S. Salibi: Islam and Syria. p. 330 -333 وعن مؤلفاته ينظر أيضا: العقيقي: المستشرقون، 3/ 296-294

(4)المصادر البحثية ل-«هنري لامنس»

مما يحسب ل-«Lammens »سعة اطلاعه العجيبة؛ ولذا وظف في بحوثه ودراساته شريحة واسعة جدا من المصادر، التي بقي يطالعها بنهم حتى أواخر أيامه، ولكن مطالعاته تلك لم تكن هي الغاية(1). بمعنى أنه لم يبالغ في المطالعة والقراءة الأجل المعرفة والتعلم إنها ليلتقط من تلك القراءات ما يدعم به أفكاره وطروحاته المسبقة، وفرق شاسع بين أن تكون لديك فكرة ورأي - سيما إن كان عدائيا أو موجها ضد الآخر - مسبق ثم تجهد نفسك بالبحث لتدلل هذا الرأي وتركزه؛ من خلال التقاط ما يتفق معك مما قرأت ونبذ ما يخالفك، وبين أن تقودك قراءاتك و مطالعاتك الترجيح رأي على الآخر أو طرح فكرة جديدة بالاحتكام للنص دون دوافع مسبقة.

قاد «Lammens» لهذه المطالعات الكثيرة، والمتنقلة بين كتب اللغة والأدب والحديث والتاريخ والعقائد واللاهوت، والسير، والتراجم، وغيرها؛ محاولة تفسير (المعضلة الإسلامية) أو بالأحرى محاربتها، تلك المحاربة التي تطلبت منه جهودا مضنية بذلها طوال حياته بالمطالعة والتأليف. وكان شغله الشاغل هو تحطيم الثقة بالإسلام وشخوصه المبرزين؛ فانكب على دراسة الكتب الإسلامية في أصولها العربية، ومن ثم في مؤلفات المستشرقين السابقين والمعاصرين له، فاستوعب أقوالهم، واستقصى مبادئهم، واقتبس منها ما رآه صالحا لدراساته، وموافقا لما ينشده. کما قرأ الشعر العربي القديم، وأعمل الروية في دواوين الشعراء، کالأخطل والبحتري، وأبي

ص: 136


1- کما يدعي الأب فردينان توتل في مقاله: الأب هنري لامنس، 165-173، وكان فسر هذه الأفكار علىأنها موضوعية وتحر للحقيقة من ولكن لامتس يشهد عليه بتعصبه وتطرفه آلاف الصفحات المشبعة بالحقد والمسودة بأصناف الشتائم والسباب والتحامل والكذب والافتراء، والتي اختطها بيمينه، لتكون دليلا وشاهدا حيا ومائلا اليوم على كذب دعوی صاحبه و مديحه الزائف.

تمام، وأمية بن أبي الصلت وغيرهم. وقرأ كتاب الأغاني (17 - 18 مرة) والقلم بیده!(1). فالتقط من دواوين الشعراء وسيرهم تلميحات، واشارات تاريخية وظفها في بحوثه ودراساته عن الإسلام والسيرة، مع ما للجانب الحماسي والوصفي المفتقر إلى الواقع غالبا في الموروث الأدبي، ولكن بما أنه يحقق الغاية التي يبتغيها، فلا بأس باعتماده، فعمل على استغلال واصطياد سوانح الشعر العربي القديم في تأويل بعض مفردات السيرة! فنراه يبني نظرية تستغرق عشرات الصفحات على بيت شعري توسل قائله بما جادت به قريحته الممتدة كامتداد الصحراء، في لحظة زهو وافتخار، أو فورة حماس، أو لحظة غضب وهجاء

وقرأ «Lammens» البيئة الجغرافية والاجتماعية التي نشأ بها الإسلام، في مؤلفات البلدانيين وغيرهم، وحاول مد الخطوط بينه وبين الجاهلية والديانات السابقة؛ لتقرير إطروحة الاقتباس منها وتمثلها، وقرأ مصادر الحديث، والفقه، وكان محور اعتماده منها على الضعيف والشاذ والموضوع والمحرف.. الخ؛ وليتصيد أيضا ما حاولت مؤسسة الحديث صناعته واختلاقه، والابتعاد بشهادات صدوره إلى عصر الرسالة إسنادا لبعض الآراء والمذاهب الفقهية، وليلتقط ما فلت من خواطر المحدثين والفقهاء، والسجالات الدائرة بينهم، وتذرع كل طائفة بحججها وأحاديثها؛ ليخلص للتدليل على الانتقادات والطعون العديدة التي يثيرها، وخصوصا فرضية البناء التكاملي أو المرحلي للدين، والعقائد الإسلامية!؛ لسلبه ميزة التكامل الذاتي في عهد النبوة، قبالة المسيحية التي أرسيت قواعدها بعد مئات السنيين. ولعل أبرز الأدلة وأصدقها على ذلك أن كانت مصادره أحادية الجانب، منتمية لمدرسة واحدة؛ ففي موضوعة الدراسة لم يستخدم مصدرا شيعيا واحدا مع مناقشته أمور تخص العقيدة الشيعية إذ اعتمد فقط على مصادر مدرسة الخلفاء في تقییم موضوع غاية في الحساسية

ص: 137


1- توتل: الأب هنري لامنس، 166؛ العقيقي: المستشرقون 3/ 293

والتقاطع في آن واحد! ويمكن تبویب مصادره على العموم بما يلي:

أولا - كتب السيرة النبوية: يأتي في مقدمتها كتاب (السيرة النبوية لابن هشام. ت 218 ه-). وكان حققه، ونشره المستشرق الألماني ( Heinrich Ferdinand Wuestenfeld = هاینرش فيردناند وستنفلد) خلال المدة (1858- 1860م) ثم ترجم إلى الألمانية وطبع في مدينة (شتوتجارت. 1864م)(1). وكتاب «تاریخ الخميس في أحوال أنفس نفیس. للديار بكري، ت 966ه-» ويقع في مجلدين، وقد طبع في مصر عام (1283 ه- / 1866م)(2). وكان اعتمد طبيعة القاهرة لعام (1302 ه- / 1885م). وكذلك «کتاب المغازي. للواقدي. ت 207 ه-» و كان المستشرق ( Von Alfred Kremer = فون ألفرد کریمر 1828 - 1889 م،»(3) قد نشر ثلث هذا الكتاب في كتابه الذي ألفه عن المغازي عام (1856م) بعنوان « History of Mohammed's campaigns»(4)ويظهر أنه جزء من «کتاب المغازي» مع مقدمة وشروح بالإنجليزية كان «Kremer» قد ألحقها بأصل الكتاب ونشره خلال (1855 - 1856م) في الهند. ثم أعاد نشره في برلين / 1888م)(5)؛ إذ عثر على مخطوط غير كامل لهذا الكتاب في

ص: 138


1- سزکین: فؤاد، تاريخ التراث العربي، مج1، ج2/ 108؛ وينظر : سرکیس: معجم المطبوعات العربية، 1 / 277؛ بدوي: موسوعة، 401
2- الزركلي، الأعلام، 8/ 289
3- مستشرق نمساوي عمل كقنصل في مصر، وبيروت فعرف بمزاوجته بين السياسة والاستشراق، أهم نتاجاته؛ نشره بالإضافة لكتاب المغازي، كتاب (الاستبصار في عجائب الأمصار، فينا 1852م) و کتاب الأحكام السلطانية للماوردي)، ومن مؤلفاته: كتاب (آثار اليمن. ليبزيج / 1865م) و (تاريخ الفرق في الإسلام. ليبزيج / 1868 م) وكتاب (الملامح البارزة لتاريخ الثقافة في الإسلام. ليبزيج / 1873م).یحیی مراد: معجم أسماء المستشرقين، 578 - 579.
4- سزکین: تاريخ التراث، مج1. ج2/ 102.
5- سرکیس: معجم المطبوعات، 2/ 11911، وذكر أن النشرة الثانية كانت عام (1882م)؛ یحیی مراد،578

دمشق فقام بنشره(1). کما نشر المستشرق (Julius Wellhausen = یولیوس فلهوزن 1844 - 1918م)(2)مختصرة للكتاب باللغة الألمانية في برلين عام (1882م) واعتمد عليه في كتابه (Mohammed in Medina = محمد في المدينة)(3) وكان «Lammens»اعتمد على هاتين الطبعتين.

ثانيا - كتب الحديث: أبرزها كتاب (المسند أحمد بن حنبل.ت 241 ه-) وهو يضم حوالي (28 - 30 ألف حديث(4). طبع في (6 أجزاء) في القاهرة عام (1895 م)، وهي الطبعة التي اعتمدها «Lammens». وكتاب (الجامع الصحيح. للبخاري. ت 256 ه-)، وأقدم نسخة مخطوطة متوفرة له هي قطعة المستشرق اليسوعي (Alphonse Mingana = ألفونسو منجانا 1881 - 1937م)(5) . وكان نشرها قبل وفاته بعام واحد في (كمبردج 1936م)(6) . وقد روى البخاري (1341) حديث من دون إسناد متصل کامل (معلقة)(7). وقد اعتمد «Lammens» على طبعة المستشرقين

ص: 139


1- هور فتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، 119، 120
2- من أبرز المستشرقين الألمان، درس اللغات السامية ونقد التوراة، وفي عام (1872م) صار أستاذا ذا كرسي في جامعة (جريفسفلد) في ألمانيا، لكنه سرعان ما اضطر للتنازل عن كرسيه بسبب ما أثارته كتاباته في نقد التوراة من جدل في الأوساط الدينية والعلمية الأوربية؛ فتنقل بين الجامعات الأوربية التدريس اللغات الشرقية، أهم مؤلفاته: کتاب (تاریخ بني إسرائيل. برلين / 1878م)، وكتاب (تأليف الأسفار الستة، والأسفار التاريخية في الكتاب المقدس، برلين / 1899م) وكتابي (أحزاب المعارضة السياسية والدينية في صدر الإسلام، برلين / 1903م)، و(الدولة العربية وسقوطها، برلين /1902 م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 408 - 410
3- هورفتس: المغازي الأولى ومؤلفوها، 120؛ سزگین: تاريخ التراث، مج1. ج2/ 100
4- سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 90؛ سزکین: تاريخ التراث، مج1، ج3/ 218.
5- تعلم في المعهد السرياني الكلداني للدعوة في الموصل واستقر في إنجلترا منذ عام (1910م). بدوي موسوعة المستشرقين، 568.
6- سزکین: تاريخ التراث، مج1، ج1/ 228.
7- حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري، ابن الصلاح: مقدمة ابن الصلاح و محاسن الاصطلاح، 167

(L. Krehl = کریل 1825 - 1901م»(1)و«T. W. luymboll= تيودور ولیم جوانبول 1802 - 1861م(2). وهي تقع في أربعة أجزاء، وقد اكتمل طبعها في ليدن عام (1908م)(3). فقد نشر (Krehh = كريل) الأجزاء الثلاثة الأولى منها خلال المدة (1862 - 1868م) وأكمل «Jaymboll = جوانبول» نشر الجزء الرابع عام(1908)(4)

ثالثا - كتب التراجم: من أبرزها كتاب «الطبقات الكبرى. لابن سعد. ت 230ه-»، وكان ألفه على غرار كتاب أستاذه الواقدي؛ إذ اشتدت الصلة بينهما في بغداد، وألف الأول كتبا من تصانيف الثاني، سيما أنه كاتبا له (5). وكان هذا الكتاب حقق من قبل مجموعة من المستشرقين، في مقدمتهم المستشرق (Karl Eduard Sachau = کارل إدوارد سخاو 1845 - 1930م)(6). ومن ثم طبع و نشر في (8 مجلدات) في

ص: 140


1- مستشرق ألماني، تخرج من جامعة ليبزيج، أهم آثاره: معاونته على نشر الجزأين الأولين من (نفح الطيب للمقري)، ونشر ثلاثة أجزاء من (صحيح البخاري). وألف كتابا بعنوان (حياة محمد ودعوته. ليبزيج /1885 م)، یحیی مراد: معجم، 578
2- مستشرق هولندي، درس تاريخ الشرق وآدابه واللغة العربية في ليدن و غيرها. أهم آثاره: کتاب (تاریخ السامريين، 1848م) ونشر وترجم (مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع. ليدن / 1850 - 1859م) و (النجوم الزاهرة، لجزأين الأولين، ليدن / 1852 - 1861م). يجيي مراد: معجم، 276 -277
3- سزکین: تاريخ التراث، مج1، ج1/ 228.
4- سرکیس: معجم المطبوعات العربية، 1/ 536؛ مجی مراد: معجم، 578.
5- ابن النديم، الفهرست، 111، 112؛ هورنتس: المغازي الأولى، 126 - 131؛ سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 116
6- مستشرق ألماني، تعلم العربية وعين أستاذا للغات السامية في جامعة فينا، ثم للغات الشرقية في برلين.سافر إلى الشام والعراق، أهم نتاجاته: تشره لطبقات ابن سعد، وكتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وكتاب (تحقيق ما للهند من مقولة) وكلاهما للبيروني، و(المعرب من الكلام الأعجمي. للجواليقي). الزركلي: الأعلام، 5 / 211

مدينة لندن الهولندية خلال المدة (1904 أو 1905 - 1917 م) ثم نشر مجلد تاسع ضم فهارس للمجلدات الثيان الأولى خلال المدة (1921-1928م)(1). وقد وقعت هذه المجلدات التسع بأربعة عشر قسما(2) . وشكلت أحد أهم الكتب التي اعتمدها «Lammens» في دراساته لتاريخ السيرة النبوية، والقرن الأول الهجري. کما اعتمد کتاب «الاستيعاب في معرفة الأصحاب. لابن عبد البر. ت463ه-». وكان طبع بجز أين في (حیدر آباد) خلال (1318 - 1319 ه-/ 1900-1901)(3)

وكذلك كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة. لابن الأثير. ت 630 ه- وكان ذكر فيه (7500 ترجمة) واستدرك ما فات من تقدمه وبين أوهامهم. طبع بخمسة أجزاء في المطبعة الوهبية، مصر / 1286ه- / 1869م)(4)وهي الطبعة التي اعتمدها « Lammens »کما اعتمد أيضا كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر، ت852ه-) ويقع في (20 جزء) وجمع فيه ما في الاستيعاب وأسد الغابة) واستدرك عليها، عني بطبعه (Aloys Sprener = ألويس شبرنجر 1813 - 1893 م)(5). وطبع في المكتبة الهندية خلال المدة (1848 - 1887م) ومن ثم طبع في

ص: 141


1- سرکیس: معجم المطبوعات،116/1؛ سزكين: تاريخ التراث، مج1. ج2/ 113.
2- سرکیس؛ معجم المطبوعات، 1/ 116،
3- سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 159
4- سرکیس : المطبوعات العربیة 37/1
5- مستشرق نمساوي، ثم تجنس بالجنسية الإنجليزية عام (1838 م)، اشتهر بكتابه (حياة محمد). حصل على شهادة الماجستير في اللاهوت عام (1841 م) من جامعة ليدن عن رسالة بعنوان (أوليات الطب العربي في عهد الخلافة)، من أهم آثاره: ترجمة مروج الذهب عام (1842م)، ولم يصدر منه سوى جزء واحد، سافر إلى الهند ومصر والشام والعراق؛ للاطلاع على المخطوطات؛ تحضيرا الكتابة مؤلفه الأشهر(حياة محمد)، فصدر القسم الأول منه في الهند / 1851م). وصدر القسم الثاني بعنوان (حياة محمد و تعاليمه، بثلاثة أجزاء، ليدن / 1861 - 1865م). باللغة الألمانية. بدوي: موسوعة المستشرقين،32-28

مصر عام (1905م)(1).

رابعا - كتب التاريخ العام: يأتي في مقدمتها كتاب «تاريخ الرسل والملوك. للطبري. ت 310ه-»، وكان يشرف على طبعه ونشره المستشرق الهولندي ( Michael Jan De Goeje = ميشيل دي غويه 1836 - 1909م»(2)ويعد من أعظم أعماله وأشهرها، وقد وضع البرنامج والخطة لتحقيق هذا المصدر المهم والثري في التاريخ الإسلامي، ووزع العمل بين مجموعة من المستشرقين، وتولى هو بنفسه قسما كبيرا من العمل الذي بدأ عام (1869م). ثم قام بمراجعة تحقيقات زملائه، وأجرى تصحيحات عديدة لها، وتوج جهده بمجلدين يشتملان على مقدمة ومعجم وفهارس وتصحيحات، فصدر العمل بثلاثة عشر مجلدا أصيلا، ومجلدين ملحقين خلال المدة (1879 - 1901م)(3)وفي ثلاث سلاسل(4)، فسارع المستشرقون لاستغلال المادة التي قدمها الطبري؛ لأنها تختزل (ثلاثة قرون) من عمر الإسلام والمسلمين، مضافا لما قدمه عن تاريخ قبل الإسلام وبدئ الخليقة. ثم أعيد نشر الكتاب مع صلته بالتصوير في ليدن وبيروت وطبع في القاهرة عام (1328 ه-/ 1910م) بثلاثة عشر جزءا، ثم بثمانية أجزاء عام (1939م) ثم حققه امحمد أبو الفضل إبراهيم» وطبع و نشر في

ص: 142


1- سرکیس؛ معجم المطبوعات، 1/ 78؛ نجی مراد: معجم، 471
2- من أبرز المستشرقين الهولنديين، درس في جامعة ليدن، وتخصص في الدراسات الشرقية، وحصل علىشهادة الدكتوراه عام (1860م) عن دراسته (نموذج من الكتابات الشرقية في وصف المغرب مأخوذ من كتاب البلدان لليعقوبي). وعين عام (1866م) أستاذا مساعدا في الجامعة نفسها. ومن أثاره المهمة تحقيقه ونشره لكتاب (فتوح البلدان. للبلاذري، بثلاثة أجزاء. ليدن / 1863 - 1866م). وكان أبرز أعماله: الاشراف والمشاركة في تحقيق و نشر تاريخ الطبري. خلال المدة (1879 - 1901م). بدوي موسوعة المستشرقين، 230 - 237
3- بدوي: موسوعة، 231؛ سرکیس: معجم المطبوعات، 2/ 1230؛ سزگین: تاريخ التراث، مج1. ج/ 163
4- ينظر تفاصيل ذلك عند: بدوي، موسوعة، 409

القاهرة عام (1960م)(1) . كما اعتمد کتاب «تاريخ اليعقوبي. ت بعد 292ه-» وهو يقع في جزأين: الأول في تاريخ ما قبل الإسلام، والثاني في تاريخ ما بعده حتى سنة (252ه-) وقد طبع في ونشر في مدينة ليدن الهولندية عام (1883م)(2)باعتناء وتحقيق المستشرق Martimus Theodorus Houtsman = مارتنیز تيودورس هوتسما 1851- 1943م»(3)، وكذلك كتاب «الكامل في التاريخ. لابن الأثير. ت 630ه-» وكان ابتدأ فيه من أخبار أول الزمان حتى سنة (628ه-) وهو يقع في (12 جزء). وقد طبع في ليدن عام (1851 - 1871م) باعتناء المستشرق «Karl Johann Tornberg = کارل يوهان تورنبرج 1807 - 1877 م»(4)الذي ألحق به جزأين آخرين حويا فهارس للكتاب، وكان نشرهما خلال المدة (1874 - 1876م)(5). وكذلك كتاب «مروج الذهب و معادن الجوهر. للمسعودي. ت 346ه-» الذي ترجم أو أجزاء منه للعديد

ص: 143


1- الطبری، تاریخ27/1 - 30 (المحقق)؛ سرکیس: معجم المطبوعات،1230/2؛ سزكين: تاریخ التراث، مج1، ج2/ 163
2- سرکیس: معجم المطبوعات، 2/ 1950، 1951؛ بدوي: موسوعة، 616.
3- مستشرق هولندي درس في جامعة ليدن، وحصل على الدكتوراه في اللاهوت عام (1875م) بدراسةعنوانها: (النزاع حول العقيدة في الإسلام). يالهولندية، خلال المدة (1874 - 1890م) عمل كمساعد محافظ لقسم المخطوطات الشرقية في مكتبة جامعة ليدن، کیا درس اللغة الفارسية والتركية. وفي عام (1890م) عين كأستاذ اللغة العبرية في جامعة (أوترخت الهولندية). أهم آثاره: (الأخطل مادح الأمويين. 1878م)، وحقق كتاب (الأضداد لابن الأنباري. 1881م) و (تاريخ اليعقوبي 1883 م).بدوي: موسوعة المستشرقين، 616
4- مستشرق سويدي، أهم نتاجاته: إضافة لتحقيقه كتاب الكامل لابن الأثير، تألیف کتاب (أولية حكم المرابطين بحسب كتاب روض القرطاس. أيالا / 1839م) و (مختارات من كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، أيسالا/ 1834 - 1835م). ونشر وترجم کتاب (أخبار ملوك المغرب الابن أبي زرع وكذلك روض القرطاس. أيسالا/ 1843 - 1846م) وكذلك (رواية ابن الأثير عن فتح العرب لإسبانيا. 1865 م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 161، 162.
5- سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 37

من اللغات كالفارسية والإنجليزية واللاتينية، ونشر بباريس على يدي ( Barbier De Meynard = باربييه دي مینار 1872 - 1908م)(1)و(Pavet De Courteille = بافيه دي کورني 1821 - 1889 م)(2). مع ترجمة فرنسية بتسع مجلدات خلال (1891 ۔ 1877م). ثم طبع الكتاب طبعة منقحة بجزأين خلال (1962 - 1965م) مع ترجمة راجعها المستشرق (Charles Pella = شارل بيلا 1914 - 1992م)(3). ثم طبع في مطبعة (بولاق الأميرية) عام (1283ه- / 1866م) والقاهرة عام (1302 ه- / 1884م)(4). وكان «Lammens» استعمل الطبعة الأولى.

خامسا - كتب الأدب: يأتي في مقدمتها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ت356ه-» وكان قرأه (17 او 18 مرة) والقلم بيده (5)، ولعل الاهتمام بكتاب الأغاني، وألف ليلة وليلة وأشباهها، هو للبحث عن الصور الماجنة، وقولبة المجتمع

ص: 144


1- مستشرق فرنسي، عمل كقنصل فرنسي في إيران، واستاذا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية باريس عام (1863 م)، وللغة الفارسية في الكوليج دي فرانس عام (1875م)، وللعربية عام (1885م)، أهم نتاجاته تحقیق و ترجمة كتاب مروج الذهب. و(لوحة أدبية لخراسان و بلاد ما وراء النهر في القرن الرابع الهجري، 1861م) و(شذرات تاريخية تتعلق بإبراهيم بن المهدي، 1869م). بدوي: موسوعةالمستشرقين، 60
2- مستشرق فرنسي، تخصص باللغات الشرقية والساميات والآداب التركية، أهم نتاجاته: كتاب (المعجم العربي التركي 1870 م) وكتاب (صعود محمد ومعجزاته. في أجزاء متعددة. 1888م) وغيرها. يحیي مراد: معجم، 356 - 357
3- مستشرق فرنسي، درس العربية في باريس، وحصل على الدكتوراه فيها، وصار مدرسة في مراكش، ثم فيباريس، أهتم خصوصا بالجاحظ، وكانت دراسته للدكتوراه عن تنشته والبيئة العلمية في البصرة، ثم کتب عنه: (الجاحظ في بغداد و سر من رأی، روما / 1952 م) و(الإمامة في مذهب الجاحظ. پاریس / 1961م) و (رد الجاحظ على النصارى. باريس / 1970م) و(الجاحظ ومذهب الخوارج 1970م).بدوي: موسوعة، 117 - 120
4- سزکین: تاريخ التراث، مج1، ج2/ 182-183؛ سرکیس، معجم المطبوعات،1744/2
5- العقيقي: المستشرقون 3/ 293

الإسلامي كله في ضمن هذه الصور(1). طبع به (20 جزء) في (مطبعة بولاق) الأميرية عام (1285 ه-/ 1868م) وطبع الجزء (21) باعتناء المستشرق (R. Brunnow= رودولف برونو 1858 - 1917م)(2) عام (1887 م) ثم طبع للكتاب فهرس بعنوان«جداول الأغاني الكبير»، باعتناء المستشرق (lgnazio Guidi = إغناطيوس جویدي) خلال (1318 ه-/ 1900م) (3).

ومنها كتاب «العقد الفريد. لابن عبد ربه. ت 328ه-» ويقع بثلاثة أجزاء وكان طبع في (مطبعة بولاق) الأميرية خلال (1876 - 1884م)(4). وكتاب «البيان والتبيين، للجاحظ، ت 255ه-» ويقع بثلاثة أجزاء أيضا طبع (الجزء الأول) منها في القاهرة، في المطبعة العلمية عام (1893م) والجزء الثاني خلال المدة (1893 - 1894م) والجزء الثالث في المطبعة (الجالية) عام (1905م) وقد وقف على طبعه وفهرسته (محب الدين الخطيب) ثم طبعت منتخبات منه في (مكتبة الرغائب 1910م)(5).

ومنها أيضا كتاب (عيون الأخبار. لابن قتيبة الدينوري. ت. 276 ه-) وهو يحوي موضوعات متعددة في: السلطان والحرب والسؤدد والأخلاق والطبائع وغيرها. وكان طبع الجزء الأول منه في المطبعة الشرفية بمصر عام (1907م) ومن ثم طبع باعتناء المستشرق الألماني (Carl Brockelmann = کارل بروکلمان 1868 ۔

ص: 145


1- الجندي: سموم الاستشراق، 10۔11؛ التبشير والدعوات الهدامة، 80
2- مستشرق ألماني، درس العربية واللغات السامية في ألمانيا، وعمل أستاذا في جامعة (برنستون) الأميركيةعام (1910م)، من أهم مؤلفاته: كتاب (الخوارج. ليدن / 1884م) وكتاب (منتخب نثر العرب.برلين / 1895م) وكتاب عن حفريات حوران، وغيرها. نجی مراد: معجم، 162.
3- سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 338.
4- سرکیس: معجم المطبوعات،163/1
5- سرکیس: معجم المطبوعات، 1/ 667

1956م)(1)بأربعة أجزاء: کتاب السلطان. برلین / 1900م / کتاب الحرب. ستراسبورج / 1903م / کتاب السؤدد 1906م وكتاب الطبائع. 1908م. ستراسبورج». وكان «Lammens »اعتمد طبعة (Brocketmam = بروکلمان «للكتاب. كما اعتمد كتابه «الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء» وقد طبع في لیدن بداية عام (1875 م) ثم مع ملحوظات للمستشرق «De Goeje = دي غويه) عام (1902م). وهي الطبعة التي اعتمدها «Lammens». وكذلك اعتمد على كتابه «المعارف، الذي نشره المستشرق الألماني (=Waestenfeld وستنفلد) في مدينة (جيتنجن) الألمانية عام (1850م)(2).

کما اعتمد على القرآن الكريم والمعجم المفهرس لألفاظه الذي أعده المستشرق« Gustav Fluegel = غوستاف فلوجل» وهو أول فهرس يوضع لألفاظ القرآن الكريم، وهو بعنوان «نجوم الفرقان في أطراف القرآن» وكان رتبه على حروف المعجم وطبع في مدينة (ليبزيج / 1842 / 1875 / 1898م)(3). وعلى تفسير الطبري «جامع البيان» وهو يقع في (30 جزء) وكان طبع في المطبعة الأميرية في (بولاق) في مصر خلال المدة (1904 - 1911م)(4).

ص: 146


1- درس العربية والعبرية في المدرسة الثانوية في ألمانيا ودرس اللغات الشرقية والفيلولوجيا الكلاسيكية:اليونانية واللاتينية، وسافر إلى (برسلاو) لإكمال دروسه الشرقية، ومن ثم إلى (ستراسبورغ) للدراسة على يدي نولدکه، وهناك عين مدرسا في المدرسة البروتستانتية، ثم رجع إلى (برسلاو) لدراسة الدكتوراه، فحصل عليها عن كتاب (ابن الجوزي: تلقيح فهوم أهل الأثر) عام (1893 م). أهم نتاجاته: کتاب (تاريخ الأدب العربي، 1897 - 1902 م) وهو يقع بخمس مجلدات. وكتاب (موجز النحو المقارن للغات السامية 1907 - 1913) وکتاب (علم اللغات السامية) وقد ظهر بطبعتين (1906 و1916). بدوي: موسوعة المستشرقین، 98 - 105
2- بدوي: موسوعة المستشرقين، 100
3- سرکیس: معجم المطبوعات، 2/ 1459؛ يدوي: موسوعة المستشرقين، 412.
4- سرکیس: معجم المطبوعات،1231/2

کما اعتمد «Lammens» على العديد من الدراسات الاستشراقية السابقة والمعاصرة له، والمبثوثة في الكتب والمجلات والدوريات الاستشراقية بمختلف اللغات الأوربية. ومما يلاحظ على «Lammens» أنه رغم تمكنه غير المردود من اللغة العربية، وتواجده في الشرق والبلاد العربية، واطلاعه على العديد من المخطوطات والمصادر الإسلامية في المكتبات العربية والعالمية، لم يقم على خلاف كثير من المستشرقين بنشر أو تحقيق أو ترجمة أي من المصادر العربية والإسلامية! وهذا الأمر يبدو لافتا للنظر، ف-«Lammens» کما تقدم في عرض مصادره، اعتمد على العديد من المصادر الإسلامية التي حققها ونشرها وترجمها المستشرقون، فهل يا ترى لم تستثره تلك الجهود المشكورة بأن يسهم بشيء في هذا المضمار؟ فقلما نجد مستشرقا لم يسهم بإخراج أو تحقيق أو نشر أو فهرست أو الاعتناء بطبع كتاب أو مصدر ما من المصادر الإسلامية، بل إن جهودهم الأبرز إنما كانت تصب في هذا الحقل.

وبطبيعة الحال كان «Lammens» على علم وإطلاع بتداخل عدة عوامل: من أهواء وميول وفلسفات، وتوجيهات سياسية ومذهبية، بل حتى إلحادية .. في الرواية التاريخية والحديثية، وهو على علم أيضا بأن سيرة النبي و أهل البيت عليهم السلام وتاریخ الإسلام بر مته قد تعرض لألوان من التحريف والتزييف، کما اليهودية والمسيحية. قال تعالى:«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ ۚ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللَّهَ شَیْئًا ۗ وَسَیَجْزِی اللَّهُ الشَّاکِرِینَ»(1)، وقال النبي صلی الله علیه و آله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم »(2).

فإذا كان هذا حال التشريع والدين، في حال التاريخ والموروث الإسلامي

ص: 147


1- آل عمران 144.
2- البخاري: صحيح، 8/ 151

الذي لا شك تنازعته عوامل ومؤثرات شتى، كان من شأن كل منها أن صبغته باللون الذي ينسجم مع ذوقها، ويخدم مصالح من يقوم بتصديرها، وهذا ما لا يريد المستشرقون أن يضعوه في حساباتهم؛ لأنه يسقط - بلمحة واحدة - البناء التراكمي المشوه والبغيض الذي شادوه منذ القرون الوسطى وحتى اليوم.

فهذا (Emil Dermenghem = إيميل در منغم) يعترف بأن هناك مذاهب إلحادية في النصرانية: «والحق أنه كان في الشرق مذاهب قالت بعبادة مريم، كانوا يقدمون الخبز إلى مریم عبادة ثم يأكلونه، كما كان يصنع المشركون مع الآلهة سيريس، وما كان يقع في سبيل النصرانية الشرقية من المنازعات المذهبية موجب للخزي، فقد صار النصارى يضطهد بعضهم بعضا في سبيل غريب الآراء ومعقدها بعد أن كان عبدة الأوثان يضطهدونهم، وأخذوا يقتلون ويسجن بعضهم بعضا، وينفي بعضهم بعضا، في سبيل معنى إحدى الكلمات، ككلمة الطبيعة في المسيح مثلا. وكان الجميع ينتقلون بذلك من دائرة العقل إلى دائرة الجدل»(1).على أن انحرافات المسيحية لم تكن خاصة بالجانب الشرقي دون الغربي، إنما شملت صلب العقيدة ككل. وعليه فالموضوعية تحكم بأن يضعوا الرواية الإسلامية في ضمن إطارها، ولا يعدوا الشاذ والموضوع والمحرف.. من صلب العقيدة، ويهاجمون الإسلام ورسوله على أساسه.

وقال المستشرق الألماني المعاصر (M. Hoffman= مراد هوفيان)(2): قد بات

ص: 148


1- حياة محمد، 132 - 139
2- ولد في ألمانيا عام (1931م) لأسرة كاثوليكية. أتم دراسته في: (نيويورك و ميونخ وهارفارد). عمل في الخارجية الألمانية، وخبيرا نوويا في حلف شمال الأطلنطي، وسفيرا لألمانيا في الجزائر والمغرب حتى عام (1994م). ظل كائوليكيا لمدة خمسين سنة، ثم اهتدى للإسلام عام (1980م). وكان تزوج امرأة تركية مسلمة، ومنذ ذلك الوقت اهتم بالإسلام والكتابة عنه، والتنقل شرقا وغريا لحضور المؤتمرات وإلقاء المحاضرات، أهم مؤلفاته (الإسلام کیدل. القاهرة / 1992م) و(الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود القاهرة / 2000م) و (رحلة إلى مكة. الرياض / 2001م). الإسلام كبديل، 245 - 251؛ الإسلام في الألفية الثالثة، 14.

واضحا من القرن السادس الميلادي أن المسيحيين واليهود المتفرقين في جميع أنحاء العالم، عاجزون عن تصحيح التحريفات التي ألحقوها بديانتهم، وبخاصة تصور شعب الله المختار عند اليهود، والطبيعة الإلهية للمسيح عند المسيحيين. لم تعرف المسيحية الأولى فكرة الثالوث، أو حتى تلميحات عنها، حتى عند بولس الرسول المؤسس الحقيقي للمسيحية.

وهذا القول ليس مثارا للدهشة؛ لأن القول المؤسس لفكرة الثالوث في الرسالة الأولى ليوحنا.. لم يظهر إلا عام (380م) في إسبانيا وهي: ثلاثة موجودون هم شهود في السماء: الأب والكلمة وروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد. ولقد تمكن الباحثون منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، من إثبات أن هذه الآية - بالإضافة للإصحاح الذي يتحدث عن الزانية في إنجيل يوحنا - تعد من حالات التزوير البينة والواضحة والمهمة جدا في العهد الجديد، وإنك لتجد على سبيل المثال في الطبعة الكاثوليكية للعهد الجديد هذه الفقرة موضع الخلاف في الرسالة الأولى ليوحنا وهي بين قوسين معقوفتين، وإشارة في الهامش تقول: هذه الفقرة موضوعها ومضمونها صحيح ولكنها إضافة وتكملة متأخرة(1).

وأضاف (مراد هوفمان): «أن مسالة بشرية أو إلوهية السيد المسيح إنما ابتدعت في المسيحية بعد ثلاثة أو أربعة قرون، وإنها كانت ظهرت بتأثير من فكرة الثالوث في الميثلوجيا المصرية والأفلاطونية، وبتأثير من موضة لاهوت الروح، ثم ظهرت فكرة الكلمة بتأثير من المجمع الثاني في القسطنطينية، وبهذا تسللت تصورات هلينية، واكتسبت من خلال ترسيخها لفكرة الثالوث موقعا مسيطرا، وكان تبني مسألة إلوهية المسيح إنما جاء بعد (مجمع نيقية) الذي عقد عام (325م) والذي دعا له شخص وثني! غیر معمد! لا علم له باللاهوت! وهو الإمبراطور الروماني (قسطنطين الكبير 324 -

ص: 149


1- الإسلام في الألفية الثالثة، 153 - 154.

337م ) (1) و کان الاخیر دعا لذلک لمصالح سیاسیة لا اکثر » (2)

ومع ما تقدم هذه الحقائق من اغراء لمهاجمة العقیدة المسیحیة و شخص السید المسیح علیه السلام الا ان المسلمین لم یستغلوها لیقینهم بان السید المسیح علیه السلام بریء من هذه المبتدعات و انها لا تمت للمسیحیة الاصلیة بای صلة . فالاناجیل تبتعد فی اوقات تالیفها عن عهد عیسی علیه السلام و عن بعضها البعض باوقات طویلة فانجیل «مرقس» لم یکتب الا بعد مرور ( 65 - 70 سنة) و انجیل (متی) لم یدون الا بعد (70 سنة) و ابتعدت کتابة انجیل (لوقا) الی ( 80 - 85 سنة) و (یوحنا) الی ( 65 - 90 سنة) (3)!

و هذا «هیم ماکبی» وهو من مورخی واستاذة الادیان فی لدن یولف کتابا بعنوان «بولس و تحریف المسیحیة» یبین فیه بالادلة و البراهین ان المسیحیة التی ارسل بها السید المسیح علیه السلام انما حرفت واستبدلت تماما بمسیحیة «بولس الیهودی» اذ ان الاخیر هو منن طور عقائد المسیحیة و اخرجها بشکلها الحالی . فلم یکن هناک اعتقاد بربوبیة المسیح علیه السلام و الهیته ولم یکن هناک فداء وخلاص و صلب و خطیئة و قربان مقدس ولم یکن هناک الکنیسة التی غدت مرتعا للکهنوت والرهبان و موسسة للتوسط و الشرک کما الف «اندریه نایتون» وهو الآخر من ابرز علماء التاریخ والادیان و امضی (30 عاما) فی تدریس « علم الادیان المقارن» فی جامعات فرنسا و غیرها وهو استاذ للتاریخ الفنی فی جامعة اکسفورد و مختص ببحث العناصر الوثنیة

ص: 150


1- عنه ینظر جبیون : اضمحلال الامبراطوریة الرومانیة و سقوطها 375/1 387 الناصری : احمد علی : تاریخ الامبراطوریة الرومانیة 428 - 454 .
2- هو فمان الاسلام کبدیل 156 و ینظر : الناصری : تاریخ 441 - 445 هیلین ایلیربی : الجانب المظلم 34 - 35 العبادی : سارة حامد : التحریف والتناقض فی الاناجیل 48 - 53 و ینظر : الکتاب المقدس ( مدخل الی العهد الجدید) 7 - 15.
3- عنایة : عزالدین : نحن والمسیحیة فی العالم العربی و فی العالم 181 عرض مسالة المسیحیة فی الصفحات ( 179 - 200 )

في الديانة المسيحية، وزميليه «إدغار ویند» و«کارل غوستاف يونغ»، وهو من أبرز وأشهر العلماء المتخصصين في دراسة العلاقة بين علم النفس والمسيحية، هؤلاء العلماء المتخصصون الثلاثة، وهم كلهم مسيحيون، وعاشوا في بيئات مسيحية، ولم يتأثروا بالإسلام، ولم يعرفوه أو يبحثوا فيه، انتهوا إلى تأليف (الأصول الوثنية للمسيحية)! کما استعرض «محمد طاهر البيروتي ومحمد عبد الله الشرقاوي» معظم تلك العقائد الوثنية في كتابهما «العقائد الوثنية في الديانة النصرانية»، وأخضع الفرنسي ««موريس بوكاي» کلا من العهد القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) و(القرآن الكريم) المباحث علمية، خرج منها بحصيلة زيف «التوراة والإنجيل» وتقاطعها مع القوانين والحقائق العلمية والعقلية، واحتفاظ القرآن بديمومته وحقيقته الإلهية ومواكبته للقوانين العلمية والعقلية، وعدم تقاطعه مع أي منها، ولو أردنا تتبع مسألة تشويه المسيحية وتحريفها الطال بنا المقام، ولكن المستشرقين وخصوصا المبشرين مثل «Lammens» يتغافلون عن هذه الحقائق ولذلك قال المستشرق الفرنسي (Louis Massignon = لويس ماسينيون):«ما كان سيبقي لامنس من الأناجيل لو طبق عليها منهجه النقدي الذي مارسه على القرآن؟»(1).

ص: 151


1- عزوزي: حسن، آليات المنهج الاستشراقي في الدراسات الإسلامية، 62

(5)آليات تعامل «لامنس» مع النصوص

اشارة

غالبا ما يجد المسلم في الدراسات الاستشراقية التي تتجه صوب معالجة العقيدة الإسلامية، وشخصية النبي والنبوة، والوحي والقرآن بعد أن أغراها نجاح دراساتها ومناهجها في اليهودية والمسيحية وكتبها المحرفة خروجا على مسلماته وبداهاته ومحاولة لتشويهها؛ فنحن هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثرات تند عن حدود مملكة العقل وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف، ومن ثم فإن محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود لنتائج خاطئة حينا ولا لاستعصاء بعض الظواهر حينا آخر فحسب، بل هو محاولة معرفة المجهول الذي لا سبيل لمعرفته كمحاولة معرفة الروح التي تعجز قدرة الإنسان عن بلوغ حقيقتها «وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَمَا أُوتِیتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلً»(1).نعم يبقى بالإمكان البحث والتنقيب في المادة المكتوبة من حيث كونها مادة تاريخية مدونة، ومقدار توافقها مع الفهم المعاصر وانعكاسها للتعبير عن الواقع التاريخي. بمعنی کونها - غالبا - فهم الراوي والمحدث والمؤرخ وإدراكه و تخيله لحقيقة ما، لا أصل الحقيقة نفسها. على سبيل المثال: يجب أن تفهم وتفسر الروايات الواردة بشأن نزول الوحي - مع فرض كونها إسرائيلية - على أنها فهم وصياغة الراوي وتخيله للوحي والإيحاء، لا على أنها حقيقة الوحي والإيحاء بحد ذاته. لكن المستشرقون لا يعترفون بذلك!؛ لأنه يعني التعجيل بانهيار الكم الكبير والبناء الهائل من النصوص والآراء والأقوال مذ تعرفت اليهودية والمسيحية على الإسلام وحتى اليوم. وهو يعني من زاوية أخرى أنهم - طوال هذه السنين - كانوا يجرون بحوثهم ودراساتهم على كائن آخر، ليس هو الإسلام أو النبوة، إنما هو

ص: 152


1- الإسراء / 85

انعكاسها في الفكر الروائي عند بعض الرواة، والمؤرخين. وبالنتيجة فهم يحللون الشريحة والعينة الخطأ، ومع كون النظرة العلمية هي النظرة العقلية الحديثة القائمة على انجازات العلم، وعلى الاعتقاد بإمكانية تطبيق طرقه في مجالات كثيرة، وأنه يجب تقبل نتائج العلم اليقينية، والإيمان بصحة تطبيق المنهج العلمي على معظم مجالات الحياة. إلا أنه يجب استثناء مجالات أخرى أهمها مجال القيم؛ لأن القول بأنه لا منهج إلا المنهج العلمي يؤدي لنظرة علانية للكون لا مجال فيها للقيم الخلقية والدينية(1).

غير أن غالبية المستشرقين لم يلتزم الحيادية، والعلمية، والمنهجية، التي يدعونها في بحوثهم، مما يؤشر لازدواجية وخلل واضح في الطرح؛ ولذلك قال المستشرق الفرنسي (Dominik Sordail = دومنيك سوردیل)(2): إن دراسة الإسلام دراسة موضوعية قلما وجدت بين العلماء الغربيين الذين يترددون في وضع الوحي القرآني على أثر الوحي السابق الذي شوهه المؤتمنون عليه. بل بالعكس فهم يعملون على إبراز أوجه الشبه الممكنة بين نبوءة محمد والدعوات السابقة فيقعون صراحة وعلنا في الجدل الديني، فتبدر عنهم في موضوعه مواقف ومشاعر شخصية، قد حرفتها أهواء عصرية ذات صبغة سياسية، وهناك بعض الطروحات التي لم تنفك تغذي، لهذا الشأن بحوثا ومناقشات، وتمكن بذات الوقت من استشفاف خلفية من الصراعات الدينية ما تزال حية، بعد أن سبق لها أن تحكمت إلى حد كبير بالمواجهات التي حصلت في العصر الوسيط(3).

وقال الكاتب البريطاني (George Bernard Shaw = جورج برنارد شو

ص: 153


1- مونتغمري وات: محمد في مكة، 40 - 41
2- ولد عام (1921م). من أهم نتاجاته: (سيرة ابن المقفع 1954م) و(قضاة البصرة 1955م) و(مشاكل تاريخ الوزارة العباسية 1957م) ونشره لكتاب الوزراء والكتاب للجهشياري 1955م) وبعض الكتب الأخرى، نجی مراد معجم، 455 - 456
3- الإسلام في القرون الوسطى، 21- 22.

1856 - 1950م)(1): لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك إما جهلا وإما تعصبا. إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمد ودينه، وقد قرأت حياة رسول الإسلام جيدا ولم أجد فيها إلا الخلق كما يجب أن يكون. وأصبحت أضع محمد في مصاف الرجال الذين يجب أن يتبعوا. ولما قرأت دین محمد، أحسست أنه دين عظيم، وأعتقد أن هذا الدين العظيم، سیسود العالم ذات يوم قریب مقبل. لقد قرأت ما كتبه كهنة العصور الوسطى فوجدتهم قد أظهروا الإسلام بشكل لا يمت للحقيقة بصلة؛ استنتجت أنهم خائفون على مناصبهم. أدركت أن محمدا رسول الإسلام إنما جاء برسالة لا شبيه لها وما كان يريد من وراء ذلك منصبا أو جاها. ولو أن محمدا في هذا العالم اليوم، لاستطاع بقوة إقناعه أن يحل كل مشاكله، وأن يجعل الحب والسلام هم الحياة (2).

وكان ل-«Lammens »کیا الآخرين آلياته في التعامل مع الإسلام والتدوين السيري، وقد انطلق في دراسته لذلك التدوين من نزعات واسقاطات نفسية لا تتوافر على أدنى مستويات الانصاف والموضوعية والعلمية؛ فقد دل في دراساته كلها على رفض وتشكيك وريبة في كل مسحة إيجابية في ذلك التدوين؛ فلم تكن السيرة عنده إلا مجموعة من الأحاديث الساذجة، والاختلافات، والخدع والتلفيقات(3). انطلق من فكرة تقويض المثل الأعلى، وقتل نموذج الإنسان الكامل، ومن خطاب الفرادة المثالية التي يجب أن لا تنافس، ولا تقابل!؛ ولذا نراه يقول: كان محمد رجل جزيرة العرب ومثلها الأعلى، لكنه بالحقيقة مثل أعلى مسكين لا نلبث أن نعرف ظاهره وباطنه.

ص: 154


1- كاتب مسرحي بريطاني، بدأ حياته موسيقيا ثم توجه للكتابة المسرحية، وذاع صيته بما اشتهر به منسخريته من الأوضاع القائمة، وقد أراد بعضهم منه أن يكتب مسرحية عن حياة النبي (ص) فرفض ذلك؛ لما يكنه من تقدير واحترام له. أحمد حامد: الإسلام في فكر هؤلاء، 13.
2- أحمد حامد: الإسلام في فكر هؤلاء، 13۔ 15.
3- ينظر:27,133- 26 .Fatima et les Filles deMahomet.pp

ويصرخ امتعاضا من تأثيره والقرآن في الناس فيقول: لماذا جاء القرآن فجأة ليقطع التأثير اللطيف الذي أخذ الإنجيل يحدثه في ابن البادية(1). ويمكن تبویب آليات خطابه النقدي بما يلي:

أولا - آلية الإسقاط والمقابلة:

أي إسقاط ومقابلة الحالة المنتمية لزمان ومكان معينين، على واقع تاريخي منتم الزمان ومكان آخرين، أو اسقاط الواقع المعاصر أو المعاش على الوقائع التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ؛ فيفسرها في ضوء خبراته وتعاملاته، ومشاعره، وفهمه الخاص؛ مما يؤدي لتفسيرات مادية بحتة لا صلة لها بالحقيقة التاريخية والروحية(2) فنجده يصف النبي صلی الله علیه و آله بأنه: برجوازي/ مدير ثروة /رجل أعمال فقال: رجال الأعمال كانوا يخشون الثورة، خصوصا عندما يكونوا ممسكين بزمام السلطة، بوصفه عضوا في دار الندوة شاطرهم محمد هذه المخاوف حتما لكنا وجدناه برجوازيا صغيرا، مديرا بسيطا لثروة خديجة، لم تكن لدى أبا القاسم نفس الأسباب التي تجعله يخشی آثار أزمة داخلية على الصيرفة والبورصة(3).

وفسر النبوة على أنها سياسة محنكة استطاعت التأثير في الآخرين ليكونوا من أتباعها ! فقال: «إذا كانت السياسة هي من استخدام الرجال للوصول إلى الغاية، فقد كان أبو القاسم يمتلك ذلك بشكل لافت ولكن في السيرة الذاتية الرسمية، جرى التعتيم على تفاصيل دسائسه السياسية البارعة، وعطلت من خلال الحرص الدائم على طرح كل سيء من وجهة نظر الدعاية الدينية. ابتداء من الهجرة، كل حياته كانت

ص: 155


1- Le Berceau de Islam, pp. 4.190
2- الديب: المنهج، 99 - 100
3- Mahomet fut - il sincere, p,39

تكشف عن وجود دبلوماسي محنك(1).

ووصف النبي صلی الله علیه و آله بأنه قاتل مأجور يلجأ للقتل كل أعوزته دبلوماسيته وحنكته السياسية في تحقيق غاياته فقال: « إن هذا المكي قليل الشجاعة والذي لا يجب العنف، لم يتردد في اللجوء إلى ذلك في محاولة للتغطية على فشل دبلوماسيته أو عندما يشعر أنه الأقوى. عرف التاجر الأمين كيف يصوغ كلامه ويتصرف في الظل كقاتل مأجور»(2).

وتفنن برسم صورة (محمد الملك) فقال: «مثل غيره من الحكام الإمبراطوريين كان محمد يمتلك تابعين ومستشارين ومؤذنين وكان هؤلاء ملحقين بجهاز الإعلام الديه، وهم أعوانه الأكثر نشاطا من مستشاريه المحليين المكلفين بالإعلانات والاستدعاءات للاجتماعات والمجالس والصلاة»(3).

وادعي: « إن بيت النبي كان مزدانا بالصور: في غرف استقباله، وفوق الزرابي والستائر والأبواب، وفي بيوت زوجاته، وفوق قطع القماش المخصصة للباسهن، وفوق قبب الخواتيم مثل تلك التي أعطاها لعقيل، وفوق الأدوات التي يستخدمها النبي، وحتى بالنسبة للدمى المخصصة للعب عائشة المدللة(4). وادعى أن بلالا كان :«يسير أمام النبي حاملا فوق رأسه عودا عليه ثوب؛ ليحميه من حرارة الشمس، وقد كان هذا العبد الذي دسه أبو بكر على النبي من أجل معرفة أخباره مكلفا بحراسة النبي العاشق للاستعراض والذي كلما ارتقى المنبر وقف أسفل العرش والسيف مصلت بيده»(5).ولكي يحكم هذه التصورات ويعطيها بعدا تجذيريا يقذف بها إلى

ص: 156


1- Mahomet fut-il sincere,pp,44 - 45.
2- Malomnet fut - il sincere, p.48.
3- Fatima it les filles de Mahomet, P. 19.
4- Fatima it les filles de Mahomet, P. 75
5- Fatima it les filles de Mahomet, P. 69

عصر النبوة ادعى أن ذلك لم يغب عن: «فراسة البدو الشديدي الملاحظة عموما، فقال شیخ طيء زر بن سدوس: إن هذا الرجل يسعى إلى ملك العرب»(1) .

على أن المستشرقين أنفسهم عانوا عليه لجوءه لهذه الآلية المفضوحة وفي مقدمتهم (Karl Heinrich ekker = کارل هاینرش بكر 1876 - 1933)(2)؛ إذ قال: إحساسي يقول إن «Lammens »يخلط ما بين التاريخي وغير التاريخي في الإصدارات الخاصة الكثيرة التي تصور حياة محمد وصحبه بطريقة جذابة؛ فهو يرسم لمحمد صورة بملامح كتلك التي اعتدنا عليها من العصر الأموي المتأخر، يظهره كملك على عرش يحيط به حراسه الخاصين وأمناء خزائنه، وهو بأرجوانه وصولجانه. الكثير من هذه الأحاديث جاءت لتبرير أفعال المتأخرين من الأمويين قبالة مطالب أهل البساطة والتواضع، إني أعتبر مسائل الزينة من المشاكل المتأخرة أيضا، وهي في غالبها بدع، لكنها، كما قلت: يمكن اعتبارها أخبارا تاريخية بعض الأحيان. أريد أن أؤكد هنا أن ما

جاء به « Lammens» غير موضوعي، يبدو لي أن جميع هذه المواريث ابتدعت للاستفادة منها كدلائل لصالح الصور في العصر الأموي المتأخر لكنه ينظر إليها كوثائق تاريخية تبين أن مثل هذه الأقمشة الثمينة شيء معتاد في حياة النبي اليومية. أعتقد أن هذا غير ممكن البته، ولا اعتقد أنني قد ذهبت بعيدا حين رميته بعدم الاتساق في تطبيق نظريته؟ فحجر الأساس الذي يبني عليه طروحاته يبدأ حين يجد ما هو مغرض من الحديث (3).

ص: 157


1- Fatima it les filles de Mahomet, P. 61
2- نال الدكتوراه عام (1899م) وسافر إلى باريس وإسبانيا، وهناك بدأت دراساته الشخصية في المشرقيات،ثم سافر إلى القاهرة وتمكن من إجادة اللغة العربية، ورجع إلى ألمانيا عام (1901) مارا بإيطاليا واليونان واسطنبول. ورجع إلى مصر في نفس العام وبقي فيها حتى عام (1907). انشأ (مجلة تاريخ الشرق الإسلامي وحضارته، واختصارها (Der Islam1 = الإسلام عام 1910م) وبقي مهتما بالدراسات الاستشراقية حتى وفاته في (10/ فبراير / 1933م). يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 337؛ بدوي، موسوعة المستشرقين،116-113
3- Prinzipielles zu Lammens Sirastudien. Der Islam. 1913. pp.268-269

ثانيا - آلية قسر المفاهيم المعنوية للخضوع للمدركات العقلية والحسية:

يعتمد هنا على أحد المذاهب الفكرية التي كانت سائدة في أوربا وهو المذهب العقلي» الذي ينسب للفيلسوفوالرياضي الفرنسي (Rene Descartes = رينيه دیکارت 1596 - 1650م)(1)

. إذ وضع بعض القواعد العقلية لبحث حقائق الأشياء:

1) عدم قبول شيء على أنه حق، مالم يعرف يقينا أنه كذلك. بمعنى أنه يتجنب السبق إلى الحكم قبل النظر، ولا يدخل في أحكامه إلا ما تمثل أمام عقله في جلاء و تمیز، بحيث لا يكون لديه أي مجال في وضعه موضع الشك.

2) أنه يقسم المشاكل التي يختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، ليتسنى له حلها على خير الوجوه

3) أن يسير أفكاره بدة بأبسط الأمور، وأسهلها معرفة؛ كي يتدرج للوصول إلى معرفة أكثرها ترتيبا.

4) أن يعمل في كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة، والمراجعات الشاملة، ما يجعله على ثقة من أنه لم يغفل شيئا (2).

وقد استعمل المستشرقون هذا المنهج بإفراط كبير؛ فحاكموا عقليا أمورا لا يمكن للمرء إدراكها عن الطريق العقل، والحواس؛ فهي لا تخضع لقانون

ص: 158


1- ولد في فرنسا من أسرة تنتمي لطبقة النبلاء المتوسطين. درس الفلسفة والرياضيات على يد أحد الرهبان اليسوعيين، فنشأ كاثوليكي المذهب، سافر إلى هولندا وألمانيا وغيرها، وذاعت شهرته كفيلسوف وعالم كبير. اهتم بكتابة رسالته (العام) التي كرر فيها فكرة كروية الأرض الغاليلو. وبعد شياع الفكرة طبع كتابه في هولندا وترجم إلى اللغات الأوربية الأخرى. وكتب رسائل في الهندسة والفلسفة والسياسة، والأخلاق، دیکارت: مقال عن المنهج، 77 - 107 (المترجم)؛ یوسف کرم: تاريخ الفلسفة الحديثة62- 58
2- يوسف كرم: الفلسفة الحديثة، 190 - 192

المعقولات ولا المحسوسات كقضية الوحي والنبوة وأصل القرآن وما شابه. فلم يكونوا علميين ولا أمناء لا في تطبيقهم للمنهج، ولا في اختيارهم العناصر التي أخضعت وعولجت من خلاله؛ إذ أشار دیکارت: أن هذا المنهج لا يمكنه اختبار جميع العناصر. ولا يمكن وضع كل الأشياء تحت مجهره وعلى طاولة تشريحه؛ فقد استثنی حقيقة النبوة والوحي الإلهي من المعارف الاكتسابية قائلا: « أني لا أضع الوحي الإلهي من بينها؛ إذ إن هدایته لیست على درجات، وإنما يرفعنا دفعة واحدة إلى إيمان لا يتزعزع»(1).

كان « Lammens» کالعديد من المستشرقين قد طبق، وعالج موضوعة النبوة من خلال هذا المنهج، فنراه يقول في كتابه: «Islam Beliefs and Institutions = الإسلام: عقائد ونظم» - الذي ادعى في استهلاله: أنه كتاب حسن النية، وأنه عرض موضوعي للإسلام وعقائده ونظمه -: « مر محمد وهو في الثلاثين من عمره بأزمة دينية قادت بعد«رؤيا ليلية» هذا الرجل الجدي ذو العقل الحكيم إلى التحول. بشر بالتوحيد وآمن بفكرة البعث، وجد نفسه متفقا مع نقاط اليهود والمسيحيين؛ ولأنه كان معتقدا بوجود إله واحد فقط، فيمكن أن يكون هناك وحي مقدس واحد من المستحيل استثناء العرب منه؛ ولذلك شعر بأنه مدعوا للتبشير بهذه الحقائق الخالدة بين أهله ومواطنيه. بقي التاريخ الدقيق والظروف الفعلية لنشوئه الديني، وكيف إنه بالتدريج آمن بأنه اختير لدور النبي مجهولا، وليس لدينا معلومات حول هذا الموضوع عدا الإشارات الغامضة لذلك في القرآن، أوضحتها السيرة وأطالت فيها في مواقع لا تحصى»(2).

ومن أمثلة تطبيق «Lammens» لهذا المنهج بشكله المتعسف قوله: «إن لقب «الأمين» هو بمثابة جائزة ممنوحة له من الرأي العام؛ إذ كانت الأمانة نادرة جدا في هذا

ص: 159


1- یوسف کرم: الفلسفة الحديثة، 34، 39.
2- Islam: Beliefs and Institutions. pp 25-26

الوسط من المرابين الجشعين الذين يتباهون بأنهم لا يلتزمون بعهودهم الأكثر قدسية، يجب أن تقاس أمانته مقارنة بأتباعه، يجب علينا أن نستبدل المداخلات وعمليات الظهور الغامضة بتفسير عقلاني، نحن أبناء القرن العشرين قد يبدو لنا (أمينا قرشيا) رجل لا أخلاق له»(1)

کا استعار «Lammens»من (Descartes = دیکارت) منهجه الشكی ولكنه بالغ فيه أيما مبالغة؛ فاستعمله بشكله المفرط حتى أعلن المستشرقون أنفسهم أنه لا يشك ليصل إلى الحقيقة إنما ليقضي على الثقة بالرواية الإسلامية!؛ فقد شكك بثوابت تاريخية تسال النقل والعقل عل ثبوتها وصحتها ومن ذلك ادعاؤه في مقالته عن الإمام الحسن علیه السلام في دائرة المعارف الإسلامية - الطبعة القديمة -: «أن السيرة تظهره أثيرا عند جده بنوع خاص، وقد نشأت روايات كثيرة مشكوك فيها حول هذا الموضوع»(2).وقال في مقالته عن الإمام الحسين علیه السلام: «و تصور الروايات الحسين کما تصور أخاه الحسن غارقا في فيض من عطف جده لأمه»(3).

کما شكك بمنزلة السيدة فاطمة عليها السلام فقال: «نملك عن فاطمة سيرتها التي تفتقر للحقيقة التاريخية، ما منحها قيمة أو مكانة قياسا لأخواتها تاریخ ولادتها بفرض مشكلة ليس لها حل: ترتيب فاطمة بين بنات الرسول يجعلها البنت البكر أو الأولى، وقد طالبوا بهذا الحق الذي ربما يكون لأم كلثوم التي لم تكن مهمة بالنسبة للرواية . الاحترام لأفراد العائلة ولد في القرن الثاني ولا يعني هذا بأنها مسألة تاريخية بل صناعة مكانة، إذ أعطيت اهتماما خاصا لرفع مكانة «وجه فاطمة الكئيب» فزوجها وأبناؤها احتلوا المكانة الأولى بالنسبة لواضعي هذه النظرية أي نظرية العائلة المالكة أوعائلة

ص: 160


1- Malomnet fit - il sincere ?. pp,6-7.
2- Encyclopaedia of Islam, vol. 3.P.274.
3- Encyclopaedia of Islam, vol. 3,P,339

الرسول(1). بل إن كل كتاباته بهذا الخصوص إنما قامت على التشكيك المفرط واللامعقول. وسيأتي مناقشة هذه الطروحات في محلها من الدراسة.

ثالثا - آلية الإلغاء والتفسير المادي للأحداث:

وهو تعامل مستمد من فکر (Marke Karl= کارل مارکس 1818 - 1883م)(2)الذي يلغي ما للقيم الروحية والأخلاقية من أهمية في حراك التاريخ الإنساني، وتطور الأحداث التاريخية في حياة المجتمعات البشرية. وقد جاء المستشرقون بهذا الفكر ليدرسوا قضية تقع بتفاصيلها وخطوطها العريضة خارج نطاق هذا الفكر؛ فمثلا حين يفسر أحد المستشرقين الروس «إسلام الأنصار»، وإيمانهم بالنبوة أنه: بسبب معاداتهم للمرابين والدائنين من قريش الذين كانوا يستغلون المقترضين المدنيين(3). ولعلنا نجد من هشاشة هذا التفسير ما يجعلك تعجب من تفكير هؤلاء الذين يدعون العلم، وإنهم أخيرا وجدوا تفسيرا لأحداث التاريخ الإسلامي؛ فجريا على مذهبهم كان بإمكان الأنصار مساومة قريش كلها لامر ابيها فقط، وأن يشترطوا عليهم ما يشاءون مقابل عدم إيواء مسلمي مكة، أو الاتحاد مع القرشيين على محاربتهم، أو أن يسلموهم القریش مقابل قروض طويلة الأمد، وبدون فوائد حتى، فضلا عن تخلصهم من تبعات قبول المسلمين، التي كان من أولها التضحية بنصف هذه الماديات المزعومة؛ إذ

ص: 161


1- Fatima it les filles de Mahomet,pp,8,15-16
2- ولد من أبوين يهوديين، أعتنقا البروتستانتية قبل ولادته بأربع سنين. درس الفلسفة، وأعجب بجدل(هيجل) ولكنه أنكر إفراطه في التصوير فاعتنق المادية. أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة (بون) واهتم بالعمل السياسي والاجتماعي عام (1841م). حرر مع صديقه (فردريك انجلز) بیان الشيوعيين حاول تنظيم الحزب الاشتراكي في ألمانيا، ولكنه اضطر أن يلجأ إلى لندن عام (1848م). حيث كتب أغلب وأهم مؤلفاته هناك، أسس الفكر أو المذهب الاشتراكي في الاقتصاد، وغدت الماركسية والمادية أكمل تعبير عنه. یوسف کرم: تاريخ الفلسفة، 401 - 402
3- الماجد: سعد عبد الله، موقف المستشرقين من الصحابة، 33 - 34.

بات على كل فرد من الأنصار أن يقتسم مأكله ومسكنه مع فرد من المهاجرين، ثم إن كانت غاياتهم ودوافعهم مادية، فعلى ماذا يعول من هذه الماديات بعد أن يتقدم أحدهم ليقتل في ساحات الجهاد!؟

كان «Lammens»، من المتعسفين في تفسير أحداث التاريخ والسيرة وفق هذه الآلية؛ فنراه يفسر النبوة على النحو الآتي: «لم يقدم محمد نفسه على الفور بوصفه نبيا ساميا ذا شأن، مثل إبراهيم خليل الله أو مثل موسی وعیسی، مؤسسي دينين، شرفا بوحي سام وبكتاب. سيتوجب عليه انتظار السور المدنية حيث أخذ بسهولة لقب نبي وجعله ممنوحا من الله، ابتداء من نجاحاته العسكرية كان المفهوم الجديد نتاجا متأخرا الفكر النبي، إيحاء ولد من الظروف التي شهدتها حياته من إخلاص أنصاره وأصدقائه، نتيجة طبيعية، وضرورية تقريبا، للتحدث عن انتصاراته الكبيرة غير المتوقعة وللتمجيد الفطري لشخصه، في المدينة تجرأ صراحة على تشبيه نفسه بإبراهيم وذلك بسبب الكعبة، لكي يستأنف عمل هذا السلف الكبير لدفع أتباعه على فتح مكة. في البداية اكتفى بأن يكون رسولا، نذيرا، بشيرا، مرسل إلى شعب العرب. زعم أنه مكلف من الله لتحذير الكفار من خطر التشكيك. يجب أن يذكر بفكرة الحياة الأخرى، دون أن تكون لديه القدرة على أن يأتي بمعجزات على سبيل المثال، مثل عيسى الذي كلم الموتی. مهمة متواضعة تتناسب معه؛ لم يتعهد الله بأن يرسل أحد الملائكة لتأكيد صحة وصدق رسالته»(1).

وصور الهدنة بين الإمام الحسن: ومعاوية على أنها صفقة تجارية جاءت استجابة للصفات التي يتصف بها فقال: «يلوح أن الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي: الميل للشهوات، والافتقار للنشاط والذكاء، وأثبت أنه كثير السرف،

ص: 162


1- Maho met fut - il sincere?p, 36

وتملكت الحسن فكرة واحدة هي: الوصول إلى تسوية مع الأمويين، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جراء تنازله عن الخلافة، فطلب لنفسه مبلغا من خمسة ملايين، ودخل مقاطعة من بلاد فارس، وكل طلباته قد تمت الموافقة عليها، ولكن حفيد النبي كانت لديه الوقاحة ليجاهر بالندم كونه لم يطالب بالضعف. توفي الحسن في المدينة بذات الرئة؛ ولعل افراطه في الملذات هو الذي عجل بمنيته، وقد بذلت محاولة لإلقاء تبعة موته على رأس معاوية»(1)وسيأتي بيان تهافت هذه الطروحات وتناقضاتها في محلها من الدراسة

رابعا - آلية العكس وقلب النصوص:

هي أن ينظر في النصوص والوثائق والروايات، فإذا ذكرت شيئا لا يتفق مع توجهه وغايته البحثية، حاول عکسها لنقيضها تماما، وبحسب هذه الآلية تكون أوثق الأخبار، وأصدق الحقائق منقلبة إلى ضدها، وكلما كانت الأخبار أوثق بدت الرغبة في عکسها قوية جامحة، من ذلك الذي يعتمد هذه الآلية. وقد كان «Lamens» أكثر المستشرقين اعتمادا عليها بوصفها آلية أساس في التعامل مع النصوص التي لا تتفق وتوجهاته. ولما كان بحاجة لعقلنة ما يقوم به حسب هذه الآلية وتبريره؛ تبنى الفكرة التي تقول: «البشر يعملون غالبا على كتان عيوبهم والظهور بنقيضها» ! إذن فنحن بحاجة لعكس التاريخ وكتابته من جديد، وعكس صورة الطبيعة كلها عكسا تاما فجميع القديسين أشرار، وجميع الأنبياء طالحون، وجميع الشجعان جبناء. وقد أراد أحد الظرفاء أن يسخر من أتباع هذا المنهج فألف رسالة قال فيها أن «نابليون»، لم يوجد قط وأن تاريخه أسطورة ملفقة ابتدعتها فرنسا لتغطية ضعفها الحربي (2). وبحسب هذا

ص: 163


1- Encyclopaedia of Islam, vol. 3,P,274
2- ينظر: دينيه، الشرق في نظر الغرب، 89 - 100؛ محمد رسول الله، 50 (المترجم)؛ محمود عبد الحليمأوربا والإسلام، 128

التفكير لا يبقى جديرا بالاحترام إلا الجبناء والطغاة والأشرار والجهال لأنهم يخفون حقيقتهم المناقضة لما يظهرون عليه. على أن هناك جانبا من الموروث التاريخي قد عکس تماما؛ فكثيرا ما سرقت ألقاب وفضائل، وكثيرا ما ألصقت نهم وقبائح، فصور الجبان شجاعا، والشجاع جبانا، والغادر الفاجر حکيما، والمؤمن التقي قليل الحكمة والحزم! ومن تطبيقات «Lammens» لهذه الآلية، أنه على خلاف جميع المصادر التي تنص على كثرة تعبد النبي صلی الله علیه و آله حتى جاءه الخطاب في سورة طه «طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَی (2)» وكثرة خشوعه وزهده وتقشفه ومواساته للفقراء في المأكل والملبس ادعي: أنه كان على العكس من ذلك تماما: «كان كثير الأكل، وقليل النشاط والعبادة، و كثير النوم، وأنه كثفت جسمه الملذات، وخدرت أعضاؤه؛ فأصبح مهددا بداء السكتة»(1).وأقام كتابه «Fatima it les files de Mahomet = فاطمة وبنات محمد» على أنها وزوجها وولديها: لم يكونوا محبوبين من قبل النبي صلی الله علیه و آله وأنها كانت أكبر من عمرها الذي تدعيه السيرة، وأنها أقل منزلة من عائشة والأخريات من نساء النبي صلی الله علیه و آله وأنها عانت سنوات طويلة من العنوسة بسبب شكلها غير الجميل وأنها كانت رافضة للإمام علي علیه السلام لفقره ومظهره غير الجميل.

خامسا - آلية الأثر والتأثر :

هي آلية اتبعها غالبية المستشرقين؛ إذ أفرغوا الإسلام، والقرآن، والفقه الإسلامي، من أصالته وذاتيته وأحالوه لمصادر خارجية كالنصرانية واليهودية والجاهلية والبابلية والمجوسية والرومانية وغيرها. وكان (Lammens) كغيره من المستشرقين قد تغافل عن وحدة مصدر التشريع لكل الديانات، وأنها لا مناص تتفق مع بعضها بخطوطها العريضة وبعض تفاصيلها، كما العهد القديم والجديد مثلا

ص: 164


1- Qorani et Tradition, pp. 19.21. Mahomet fit - il sincere ?. p. 54.

فتشابه بعض الأحكام والأوامر والنواهي أمر طبيعي يحكم به العقل والمنطق؛ فهذا المسيح نفسه يقول: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل»(1)، ولذا فالمسألة ليست مسألة أخذ اللاحقة عن السابقة أو تأثرها بها ولا مسألة سطو فکري و تقلید، بقدر كونها منهج تکاملي وسلسلة إصلاحية ترتبط كل حلقة فيها بما سبقها وبما يتلوها حتى ختمت بالإسلام ولكن المستشرقين يتغافلون عن هذه الحقيقة؛ لإقناع أنفسهم ومن يشاركهم العقيدة بالثبات على عقائدهم ولتشكيك المسلمين بعقائدهم؛ علهم ينجحون في تنصيرهم أو انتزاع القدسية الإسلامية من نفوسهم. ومن نماذج تطبيق «Lammens» لهذا الآلية قوله: «بمساعدة زهوه، واعتداده بالنفس، اعتبر محمد عمل فكره، ونتائج حججه حول المقدمات المنطقية، والمعطيات التي زوده بها أصدقاؤه المسيحيين واليهود، وحيا من السماء، مثل الأساطير النبوية التي أدرجت في القرآن، في عصره كانت الألسن تتداول أقوالا مأثورة منسوبة إلى لقمان الوهمي، تحت اسم حكمة لقان، في اجتماعات المجالس، وتحت خيمة بائعي الخمور، كان الرواة الرحل يقصون بالتفصيل حكاية الاسكندر، هذه الأماكن وهذه الحكايات بدت له كمصادر جديدة للوحي النبوي والتأكيد استنتاجاته الخاصة» (2).وبذلك عد الإسلام «تكييفا عربيا للوحدانية التوراتية»(3).وهي فكرة دأب المستشرقون على تردیدها.

ومن المضحك أن المستشرقين يرمون الإسلام بدائهم؛ فالمسيحية المختلقة على اختلاف كتبها وأناجيلها في جميع فروعها عبادة وطقوس، ماهي إلا انحراف عن الوحدانية إلى التثليث. يقول «فرانز غريس في: تبدد أوهام قسيس»: «إن البحوث

ص: 165


1- متی17/5
2- Mahomet fut-il sincere?. pp. 19-20.
3- Islam: Beliefs and Institutions. pp. 25-26

والاستقصاءات العلمية أثبتت، وأقامت البرهان والدليل على أن ثانين إصحاحا من التسعة والثمانين للأناجيل الأربعة، ما هي إلا صورة ونسخة عن حياة وتعاليم (کرشنا)(1) و(بوذا)(2). فيا لها من نتيجة محزنة للنصارى وحصيلة مفجعة للنصرانية، وياله من منظر ومشهد أليم لأجل شخص المسيح، إن العالم النصراني أخذ بالسقوط والانهيار، إنه يغطس ويغوص، ويرسب ويسوخ، إن عید میلاد (Agni = أغني، الابن الوحيد ل-(Sawistri = ساويستري) أي الأب السماوي، احتفل به منذ أربعة آلاف عام قبل میلاد يسوع المسيح»(3) .

وقال الأستاذ «رودلف سیدل» وهو عالم لاهوتي بروتستانتي وأستاذ في جامعة ليبزيج الألمانية في كتابه «أسطورة بوذا»: من «28»، إصحاحا التي يتألف منها إنجيل مني، إصحاحان فقط هما «22 و 24» خاليان من النصوص الهندوسية. ومن إنجيل مرقس الذي يتكون من «16» إصحاحا، فإن إصحاحين أيضا هما «7 و 12» غير منقولين. وفي إنجيل لوقا، الإصحاح (16 و 17 و 20» فقط من مجمونع «24» إصحاحا التي يتشكل منها الإنجيل المذكور هي ليست منتحلة. وإنجيل يوحنا المتضمن (21»إصحاحة فإن الإصحاحين «10 و 17» فقط خاليان من النقل. ويؤيد ذلك مؤرخ الأديان، والعالم البروتستانتي «هایل» إذ يذكر «36 نصا» في الكتاب المقدس مقتبسة |

ص: 166


1- آلهة وثنية هندية، يعتقد أنه ابن الآلهة العذراء دیفاكي، وهو عندهم خالق كل شيء، وأصل الوجود! البيروقي: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، 172. وقد عقد المؤلف مقارنة بين عقائد الهنود بکرشنا وعقائد النصارى بالمسيح، فخرج يتطايقات غطت (15صفحة) ! 185 - 200
2- آلهة وثنية هندية، أعتقد أنه ابن الآلهة العذراء مايا، وإنها حملت به بغير مضاجعة بحلول روح القدس على العذراء مايا، فصار رحمها كاليلور الشفاف و ظهر بوذا فيه كزهرة جميلة. البيروتي: العقائد الوثنية، 203. وعقد بين عقيدة الهنود به، وعقيدة النصارى في المسيح، مقارية و تطابقات غطت (17 صفحة)، 203۔220
3- شوقي أبو خليل: الاسقاط في مناهج المستشرقين، 22.

عن العقائد الوثنية منها: تجسد يسوع / الطفل يسوع في الهيكل / قصة مريم المجدلية الخاطئة / ومعجزة المشي على الماء. وكذلك العالم «برنهارد سبيس» الضليع بالسنسكريتية والخط المسماري؛ إذ يقرر أن الأمثال التي في الأناجيل بأجمعها - تقريبا - هي نسخ عن أمثال الهندوسيين والسومريين والآشوريين. وخصوصا سلسلة الأمثال التي تتعاقب في الإصحاح«13» من إنجيل متي. وخلص الأستاذ والعالم اللاهوتي البروتستانتي الألماني «هیلشر »بعد دراسة امتدت لعشرين عامة حول «بولس» إلى: إن أعمال الرسل التي تحتوي تاريخ الرسل، إنما هي تزوير وتزييف وتلفيق وتمويه اختلقته وصاغته الكنيسة النصرانية بعد العام «145» لميلاد يسوع المسيح(1).

سادسا - آلية النفي والتكذيب:

أمام رغبة «Lammens» الشديدة في التدليل على ما ذهب إليه من آراء غير معقولة، عمل على نفي ثوابت تسالم العقل والنقل على صحتها وثبوتها، ومن ذلك محاولة نفيه مكانة العائلة النبوية واحترامها على أنه ولد في القرن الثاني الهجري(2) متغافلا عن أن المسلمين ومنذ عهد النبي إنما يحفظون ويقرأون قوله تعالى«إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا»(3)وقوله تعالى«قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»(4). وغيرهما كثير، وأحاديث نبوية كثيرة، وصريحةواضحة في هذا المقام، وحاول خلافا لكل المصادر السيرية والتاريخية - والاستشراقية في أحيان كثيرة - نفي تحنث النبي وتعبده في غار حراء وزهده وتقشفه فقال: «ليس هناك ما يثبت هذه العزلة؛ فهي لا تنسجم مع هلع محمد من الوحدة، ومن نفوره

ص: 167


1- شوقي أبو خليل: الاسقاط، 22 - 24
2- Fatima it les filles de Mahomet. pp, 15-16
3- الأحزاب 33
4- الشوری 22

المشهور من حياة الزهد والتقشف. نحن نعتقد أن هذه العزلة هي بالأحرى تقلید حرفي لعزلة موسى في سيناء، وعزلة المسيح في الصحراء قبل حياته العامة، كانت الجبال المقدسة كثيرة حول مكة، عندما جعلت السنة من هذه الجبال مكانا لعزلة النبي، فإنها أرادت بذلك أن تضفي طابع القداسة الإسلامية عليها؛ لذلك، نعتقد أنه يحق لنا أن نشطب جبل حراء من قصة الدعوة الربانية الأولى»(1) .

وقد اعتمد لإثبات ذلك بحجج هي أشد إضحاكا من النتيجة التي قررها ۔ وسيأتي بيان ذلك ، وهكذا تجد المستشرقين الذين يدعون العلمية والحذاقة والخبرة والمنهجية وامتلاك الأدوات والآليات والوسائل لحل وتفسير أصعب الأمور وأكثرها جدلا، يدلون بآراء وتأويلات غاية في التهافت وكأنك تنظر إلى هذا الكيان الضخم إعلاميا: درس اللغات الشرقية، والفلسفة واللاهوت، واللغات الأوربية الحديثة، ودخل أرقى الجامعات العالمية، وفعل كذا وأنجز كذا... الخ. يتهاوی و كأنه ذرة رمل صغيرة عندما يتذرع بحجج واهية تفقده النظرة إليه بوصفه عاقلا، فضلا عن كونه متعلما أو عالما.

سابعا - آلية الانتقاء وتصيد النصوص:

كثيرا ما يلجأ إليها المستشرقون في أبحاثهم ودراساتهم للتدليل على ما يبتغونه فيختارون مصادرهم، وينتقون الروايات والأحاديث، وفق ما يريدون أن يفضون إليه من نتائج. أي أنهم يعدون النتائج مسبقا، ويضعون لكل بحث أو دراسة ما يتوخونه من نتائج، ومن ثم يتصيدون النصوص الضعيفة والشاذة والمحرفة والمكذوبة التي تؤيد مقاصدهم، أو يمكن تفسيرها بما يؤيد نتائجهم المسبقة، وكان قوام البحوث والدراسات التي أجراها «Lammens» معتمد على هذه الآلية، بل إنه كثيرا ما لجأ إلى

ص: 168


1- .Mahomet fut-il sincere?. p,1

الكذب والإيحاء بوجود روایات وأخبار تاريخية تدل على ما يذهب إليه، ثم يبني على ذلك نتائج وتقريرات، ويحاول التدليل على صحتها. ومثال ذلك ما سطره من آراء حول السيدة فاطمة وزواجها من الإمام عليها السلام وطبيعة العلاقة بينهما وبين النبي صلی الله علیه و آله إذا اجتر ما سطرته وروته أقلام المؤرخين المأجورين، ووضاع الحديث الذين اشتراهم معاوية وبنو أمية وبنو العباس لتشويه الحقائق وتزييف التاريخ، وزاد عليها بأن أغرقها بغلوه وشکه المفرط؛ فادعى أنها لم تكن راغبة بالزواج من أمير المؤمنين علیه السلام، وأنه كان يقسو عليها، وأنها أرغمت على ذلك، وأنها إنما قبلت لأنها لم تخطب من قبل أي شخص، وهي لم تمدح مثل زينب التي قال عنها النبي صلی الله علیه و آله : إنها أفضل بناتي أو أكفأ بناتي، وأنها كانت دائمة التعاسة والحزن، وأنها محدودة الذكاء فلم تستطع الوقوف بوجه خصم ذكي كعائشة. وإن النبي صلی الله علیه و آله لم يكن يحبها وزوجها؛ لأنه كان محدود القدرات ولذلك تخلص منه أبو طالب علیه السلام واحتفظ بجعفر الذي كان أكفأهم جميعا وإن عائلة أبو طالب علیه السلام الذي مات كافرا لم تكن مهمة، وأنها استمرت حتى الفتح معادية للإسلام، وأن الإمام عليا علیه السلام لم يهاجر بصحبة الفواطم (1)إلى غير ذلك من الأراجيف المؤلمة؛ لأن أغلبها إنها كتب بأيدي من يدعون الإسلام، وتناقلتها أفواههم وأقلامهم، وهم يدعون الأمانة في النقل والتوثيق وأنهم أئمة في التاريخ والحديث وكثير من العلوم؛ فكانت سلاحا بيد «Lammens» ومن حذا حذوه.

وقد وضع «Lammens» قاعدة غريبة وادعى أنها علمية ومنطقية لرفض ما صادفه من روايات وأخبار تمتدح أهل البيت علیهم السلام وهي أن هذه الروايات والأحاديث كانت تصدر من محدثين ومؤرخين شيعة أو يميلون للتشيع. كأبي مخنف واليعقوبي مثلا، فهلا طبق هذه القاعدة وهذا الحكم على الروايات والأحاديث الصادرة من

ص: 169


1- بث هذه الآراء ومثيلاتها على امتداد کتابه: Fatima et les Filles de Mahomet) = فاطمة وينات محمد) بواقع (170 صفحة).

مؤرخين ومحدثين، ثبت بالدليل أنهم يبغضون أهل البيت عليهم السلام وينصبون لهم العداء، وأنهم ممن يكتبون ويحدثون مقابل الأموال «كأبي هريرة، وعمرو بن العاص، وعروة بن الزبير، والأشعري، وسمرة بن جندب، والزهري»وغيرهم ممن ابتلي التاريخ الإسلامي والمسلمون بمزاميرهم وأناجيلهم، ومن مؤرخين اعتمدوا مروياتهم مثل:«ابن هشام، وابن سعد، والطبري وغيرهم ممن اعتمدهم « Lamments»؟! وهلا طبق هذه القاعدة على الروايات المادحة لأهل البيت علیهم السلام الواردة في مصنفات مخالفيهم !؟

ص: 170

(6)دراسات «لامنس» السيرية في موازين نقد المختصين والباحثين

يعد «Lammens» من أشد المستشرقين تعصبا وحقدا على الإسلام والمسلمين، وأكثرهم ازدراء للعرب، حتى صرح كثيرون بعدم أمانته العلمية فهو «لاينسی عواطفه فيما يكتب عن النبي والإسلام، وإنه كان مبشرا ولم يكن عالما، وإنه معروف بتهكمه وإرهاقه للنصوص وتحميلها أكثر مما تحتمل، فإذا وجد للإسلام موضعا للفضل حاول لي عنق النص والحقيقة لينسب ذلك الفضل لمصادر غير إسلامية»(1). ولذا قال مؤرخ حركة الاستشراق الألماني (Johann Fuck = يوهان فوك): تعرضت العلوم الإسلامية لحقبة متطرفة من الشكوك والنقد اللاذع شأن غيرها من الفروع التاريخية الأخرى بوصفها نتيجة محتمة لمذهب النقد التاريخي، ولاسيما أن المعضلات المرتبطة بشخصية محمد ونشوء الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام، قدمت حقلا شاسعا للتأويل التأملية. أحد أبرز ممثلي هذا الاتجاه البلجيكي (هنري لامون س. ي). بتحريض من نقد (Goldziher = جولد تسيهر ) للأحاديث الصحيحة، حاول أن يقدم الدليل على أن النقولات التاريخية الإسلامية تدين بوجودها من حيث الجوهر إلى اتجاهات الفئات والأحزاب المتصارعة. بصفته قسيسا كاثوليكيا رفض «Lammens » نبوة الرسول رفضا تاما، بل ذهب لأبعد من ذلك حين رفض أيضا القول بصدقه، وهو في كتابه «فاطمة وبنات محمد» قدم الروايات السلبية الخاصة بالرسول، وهكذا فقد كانت الصورة المرسومة جانبية بالضرورة، ولم تتمكن سواء غزارة المصادر ولا حنكة العرض، من سد ثغرات ضعف الحجج المقدمة(2).

ص: 171


1- العفاني: أعلام وأقزام، 2/ 458۔
2- تاریخ حركة الاستشراق، 306 - 307.

وقد تسارعت الانتقادات الاستشراقية لأعمال «Lammens» بمجرد طفوها على السطح الاستشراقي؛ ورؤية الكم الكبير من التحيز والتعصب وعدم الانصاف والبعد عن العلمية والموضوعية في الطرح؛ فكان من أوائل منتقديه المستشرق الألماني الكبير «Karl Heinrich Bekker = کارل هاینرش بیکر» في مقالته ( Principieles au Lammens Sirastudien = مبادئ دراسة لامنس للسيرة»، التي نشرها في مجلة الاستشراق الألمانية «Der Islam «Zeitschrift und «Kultur des Islamischen Orients : تاريخ الشرق الإسلامي وحضارته»، التي تختصر عادة بكلمة «Der Islam = الإسلام»، وقد استغرقت الصفحات (263 - 269) من عدد المجلة الصادر عام (1913م) أي بعد مدة يسيرة جدا من صدور دراسة «Lammens»:Fatima et les Filles de Mahomet, notes critiques pour l'etude de la Sira = فاطمة وبنات محمد: آراء نقدية حول السيرة. روما / 1912م».

کا انتقده المستشرق الألماني Theodor Noldeken = تيودور نولدكة 1836 - 1931م)(1)

في مقالتيه «Die Tradition Uber das Leben Muhammeds = الحديث وصلته بحياة محمد» في الصفحات (160 - 170) وه Kleine Mitteilungen und Anzeigen = أخبار وانتقادات) في الصفحات (205 - 212) وقد خصصها لنقد

ص: 172


1- تخصص في دراسة اللغات الشرقية القديمة في جامعة جوتنجن، وكان أبوه يريد منه أن يصبح مستشرقا،فتخصص بالاستشراق وفي عام (1856م) حصل على شهادة الدكتوراه بمؤلفه حول (نشوء وتركيب السور القرآنية) الذي كان الفه للمشاركة في مسابقة الجامعة العلمية ففاز بها وبدرجة الدكتوراه. سافر إلى فرنسا وهولندا للاطلاع على المخطوطات والمصادر في مكتباتها، وفي عام (1858م) قطع سفرته هولندا ورجع إلى برلين للمشاركة بمسابقة أكاديمية المخطوطات الباريسية عن موضوعة تاريخ القرآن فألف كتابه (تاریخ القرآن) وهو بعمر الثانية والعشرين واستطاع الفوز بالمسابقة. عام (1861م) أصبح أستاذا محاضرا في جامعة جوتنجن، ثم أخذ يتقل بين الجامعات، ويدرس العهد القديم واللغة الآرامية. حتى وفاته في صبيحة يوم عيد الميلاد عام (1930م). المنجد: المستشرقون الألمان، 1/ 115 - 118.

كتابه (Le Berceau de Islam = مهد الإسلام) الذي صدر في (روما / 1914م). وكان (Noldeke = نولدکه) نشر هاتين المقالتين في عدد مجلة (Der Islam = الإسلام) الصادر عام (1914م) أي في نفس السنة التي صدر بها كتاب «Lammens» المذكور. وقد انصبت انتقاداتهم حول طروحاته المبالغة والمتطرفة حول الصور التاريخية الشخوص الدراسة، وحول نظريته المتطرفة في بنائية السيرة والتي عرضها في كتابه الأخير وبحثه (Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة كؤنت حياة محمد؟) والتي تتلخص بادعائه: أن مفاصل السيرة وأحداثها بنيت على أساس النص القرآني ووقعه، وعليه فليس هناك مصدران أو أكثر السيرة حياة النبي، إنما هو القرآن فحسب، وهذا الأخير هو من تأليف محمد، ومن ثم فسيرته لا تمتلك الأرضية التاريخية، وهي مجرد تلفيقات مغرضة، أما الأحاديث والسنة، فهي الأخرى شروح وتأويلات مشبوهة للمزاعم الواردة في الكتاب المقدس لدى المسلمين، وليس التحقق منها أو إضافة معلومات لها؛ فقد نسجت السنة واختلفت على وقع النص القرآني أساطير وأسماء ممثلي تلك المسرحية. وسيأتي تفصيل هذه النظرية في محله.

ابتدأ (Bekker = بکر) مقالته بیان نظرية وتفسير «Lammens» للسيرة النبوية فقال: بما أنه سبق وأن أطلقت بعض التحذيرات، فإن عمل «Lammens» الأخير« Fatima et les Filles de Mahomet, notes critiques pour l'etude de la Sira»=فاطمة وبنات محمد: آراء نقدية حول السيرة» يمنحني الفرصة في أن أبرز شکو کې، بشكل أكثر تفصيلا بشأن تعامله مع المصادر التاريخية، والسيرة بتفاصيلها العريضة على أنها ليست مصدرا تاريخيا مستقلا، وأنها ليست سوى مادة حديثية مترابطة مع بعضها البعض، وأما أحاديث الآحاد فهي إما شروحات تأويلية لإشارات قرآنية، أو أنها بدع عقائدية فقهية متأخرة؛ فالمصلحة العقائدية والتأويلية أقدم عهدا من المصلحة التاريخية، وهذه الأخيرة لاتطفو على السطح إلا حين يكون الكلام عن المصادر

ص: 173

التاريخية المسيحية التي تؤيد ألوهية وإعجاز عيسى، أو عندما تكون هناك مصادر تاريخيه تبدو وكأنها موافقة لمؤسس الإسلام. أما المأثور التاريخي الحقيقي فنادر جدا، فالمرء يعمد إلى الإشارات القرآنية ويطيل النظر فيها، وقبل كل ذلك يجمع ما هو موجود من أحاديث عقائدية وفقهية ثم يرتبها تاريخيا. وبهذه الطريقة تتكون السيرة هذه هي باختصار هي نظرية «Lammens» في السيرة والتي نوافق عليها إجمالا؛ فالتفسير والحديث والسيرة تحتوي على المادة لكنها ذاتها مرتبة طبقا لوجهات نظر مختلفة (1).

ثم بين (Bekker = بكر) أوجه نقده لتلك النظرية فقال: الجديد في طرح «Lammens» هو كون السيرة نتاج التفسير والحديث، ولم تكن «السيرة» مصدرا «اللتفسير والحديث»وحتى لو أبدیت موافقتي على هذه النظرية، فإنني أريد أن أنوه في الحقيقة إلى عدم ذكر شيء عن السرد التاريخي الحقيقي، لأنه حتى وأن كانت العناية بالتاريخ - والتي بدورها قادت إلى جعل السيرة صيغة أدبية - قد ظهرت إلى الوجود في وقت متأخر، فإن التفسير والحديث ذاتها يحويان على الكثير من السرد التاريخي؛ إذن فالسؤال يدور حول الأسس التاريخية لنشأة الإسلام التي أدت بدورها إلى التساؤل عن القيمة التاريخية للحديث والتفسير. فيما يخص التفسير فإن هناك شیان لابد من التفريق بينهما: الأول - النصوص ذات التوجه العقائدي التي ترمي إلى تأویل شيء ما وهذه ليست من التاريخ بشيء، والثاني - النصوص التي تعنى بالتفسير لا غير. فلو وجدت مثلا، في مواطن معينة، إشارات تاريخية لمعارك كبدر أو أحد أو غيرهما؛ فإن هذا دليل على أنه كانت هناك رواية تاريخية توازي القرآن وتبينه؛ وعليه فقد كانت هناك رواية بعيدة عن أي توجه (مغرض)، لكنها كانت رواية نابعة من الشرق فجمعت بين الحقيقة والمجاز، كما هو حال كل الموروث التاريخي القديم(2).

ص: 174


1- Prinzipielles zu Lammens Sirastudien. In: Der Islam p, 263.
2- Principielles zu, pp. 263 - 264

ويضيف (Bekker = بكر): أن الشيء ذاته نجده في الحديث؛ فلا ريب ولا شبهة أن معظم الحديث هو عبارة عن بدع - لتبرير توجه معين - أضفت لونا ملائما لصورة الإسلام في عصره الذهبي فيما بعد، وهذا التوجه بدوره عديم الفائدة من الناحية التاريخية، لكن إلى جانب ذلك هناك وفرة غزيرة من الأحاديث التي تفسر أخبار عن إشكالات مستقبلية، وهذه تكون الأساس الصورة تاريخية حقيقية عن بدايات الإسلام. والتمييز هنا يكون عن طريق الحدس التاريخي فحسب؛ وعليه فالنتائج ستكون غير موضوعية. فلو أن «Lammens» الشكاك قد توصل إلى نتائج غاية في الإيجابية، فعندها يكمن الخطر في أن تعتبر هذه النتائج حقيقة موضوعية، وبالنتيجة فإن استنتاجاته غير موضوعية ألبته، ويبدو لي قبل كل شيء أن شكوك «Lammens» ليست منطقية وأنها تنتهي حيث تبدأ المصادر بعضد نظريته؛ ولعظم شکوکه، فإنني لا أريد أن أنحو نحوه في نهجه التاريخي (1).

ثم يسوق بعض الأمثلة عن شكوك «Lammens» المبالغ فيها، وتفسيراته المتعسفة وغير الموضوعية للأحداث فيقول: أريد أولا أن أقدم النتيجة التي أفضى إليها بحث «Lammens» : ليس لدينا معرفة أكيدة عن فاطمة سوى أنها بنت النبي، وكانت متزوجة من علي، وهي أم لأحفاد النبي الموروث المدني الذي يدور حول أبي بكر وعمر جعل دورها يتراجع لحساب عائشة، لكن المدرسة العراقية بتمجيدها لعلي هي أيضا الأولى التي رسمت صورة فاطمة المثالية، وهنا أصبحت فاطمة أسوة للمرأة الإسلامية، لكنها في التراث غير شيعي لم يكن لها إلا القليل من آثار المحبة والتعاطف (2). ثم يعلق على هذه الفرضيات فيقول: لو قلنا إن شعائر التمجيد مردها إلى الشيعة؛ ولذلك فإنها لا تمت للتاريخ بشيء، فيجب اعتبار الوصف السيئ لصورة

ص: 175


1- Principielles zu, pp. 264- 265.
2- rinzipielles zu. p. 265

فاطمة في أحاديث التيار الأرثوذكسي (1)هو الآخر ليس من التاريخ بشيء؛ فقد تكون هذه الإساءات مجرد رد فعل على تمجيد الطرف الأخر. إن (Lammens) ينظر في طروحاته إلى كل الصفات السيئة أنها حقائق تاريخية دون الخوض فيها، ومما يبعث على الدهشة هو أن نسمع في آخر جملة من الكتاب: إن الأمر قد يكون عكس ذلك. إن الصفات السيئة في حياة المقدسين ممكن أن تؤرخ لصالحهم في كل الأحوال، وكذلك فيما يخص حياة النبي فلابد للمرء من أن يسجل بعض التحفظات، لكن هل على من يعلم الأثر الذي خلفته معركة صفين، ومن یخبر من قبل (Lammens) عن تصحيفات أتباع علي، أن يؤمن من دون تحقيق أن أعداء العلويين كانوا ينتهجون نهجا تاريخيا موضوعيا عندما يحاولون إظهار دور فاطمة وكأنه دور سطحي أو عندما يعطوها القليل من الملامح اللطيفة؛ فالعرب يتحاربون فيما بينهم عندما يهين بعضهم أمهات بعض، لكن فاطمة أبقيت بعيدة عن الفواحش؛ ذلك لأنها بنت الرسول محمد، لكنها صورت وكأنها لم يكن لها أثر على الرسول، وأنها لم يكن لها أدني هيبة عنده، وأن طلعتها ليست ذات تأثير ولم تكن زيجتها مع العدو اللدود - للطرف الآخر - علي مليئة بالسعادة، ولم تكن تتمتع بالاحترام في هذه الزيجة، وبهذا النوع من الأحاديث تم ضرب أتباع علي دون المساس بالرسول، الذي طالما جهد نفسه في أن يخلق علاقة متوازنة بين ابنته وزوجها عديم الفائدة(2)

ويضيف: لا بد لنا من أن لا ننسى أن عليا قد لعن على المنابر في بداية نشأة

ص: 176


1- هي عبارة يونانية تتألف من جذرين هما: (orthos = مستقيم أو قویم) و (doxa = رأي أو مذهب)وهي تدل على نزعة التشدد في الكنيسة المسيحية وكل سلوك تمليه أي عقيدة جامدة أو إيمان أعمى. واستعملها التاريخ المسيحي بمعنى (العقيدة القويمة) الملتزمة حرفية النص التوراتي والإنجيل و نقلها المستشرقون من اللاهوت المسيحي إلى اللاهوت الإسلامي وأطلقوها على (أهل السنة والجماعة). كلود کاهن: الإسلام، 93 (المترجم)۔
2- Prinzipielles zu. p. 266

الحديث. «Lammens» من جهته يبين لنا حساسية العلويين إزاء هذه الطرائف التي تبدو وكأنها غير مؤذية في غالبها حين ساق لنا مثلا واضحا بهذا الخصوص، من دون أن يخرج بأي استنتاجات. إنني أفوق «Lammens» الشكاك في شكي بهذه النقطة فلا أهمية لكل الأحاديث التي تتعلق بعلي وعائلته من حيث المضمون، بل هي تفيد في معرفة توجه القائل لهذه الأحاديث فحسب، كما أن «Lammens» ينطلق من حقيقة لا طعن فيها وهي أن الحديث أسهم في رفع عدد أولاد النبي؛ فجعل من الألقاب أسماء الأشخاص آخرين، وبهذا فربما تكون رقية وأم كلثوم أسماء لذات الشخص. وعليه فربما تكون أسماء أولاد الرسول مجرد بدعه، لأن محمدا لم يكن له أن يكون أبترا طبقا للنص القرآني [يعني سورة الكوثر] إنني أشكك كثيرا في كون كل السيرة الذاتية المتعلقة ببنات الرسول اللاتي وجدن حقا وما رافق هذه السير من تفاصيل كثيرة مضافا إليه تسلسل هذه البنات من الناحية العمرية أن تكون محاكة لأهداف مغرضة.«Lamments» يرى في ذلك أنه تركيبة مصطنعة. بالتأكيد هناك عمليات تلميع قد طرأت على بعض الأشياء لكن كما كبيرا من هذه المتناقضات جاء نتيجة النقص المعرفي، التي أراد أن يتجاوزها كل بطريقته ولأن كتابة التاريخ كان ينقصها الفكر الناقد، فأخذ الناس الأخبار المتوارثة وبدأوا بالتوفيق بينها(1).

وانتقد (Bekker = بکر) الصورة القائمة التي رسمها «Lammens» للسيدة فاطمة عليها السلام فقال: استنادا إلى بعض الأحاديث غير اللطيفة حول مفاتن فاطمة البدنية يرسم لنا «Lammens» صورة مقززة عن هذه الشخصية المسكينة الباكية. لكن عالم الدموع صفة مألوفة في حياة القديسين، وضعفها البدني ربما يكون بدعة قبال السمنة كمعيار للجال أكثر منه كحقيقة تاريخية. صورها على أنها عانس عديمة الجاذبية، فكان لابد لها من رجل، فاضطر أبوها أن يزوجها من البطين التافه الشأن، القريب

ص: 177


1- Prinzipielles zu Lammens Sirastudien. p,266

المسكين المسمى علي، لكن بعد العلامة الفارقة التي تركتها معركة صفين فلا حاجة عندها أن نسأل «Lamments» عن هذا الوصف؛ فقد استعان في وصفه لهذه الزيجة بطرق ابن إسحاق والواقدي. وهو ينتقی روایات مغرضة ويعمل منها صورة تاريخية وهذه هي ذات الطريقة التي اعتمدتها كتابة التاريخ الإسلامي. «Lammens» يجد المتعة في إظهار أقرباء الرسول بصورة محتقرة ومبتذلة؛ ففيما يخص عليا والسيدة فاطمة فإن هناك ما يكفي من النعوت المبثوثة في بطون الأحاديث، وهذه الأحاديث غاية في الفظاعة من جانب تلك المجموعة التي لاتعرف الرحمة، فاستطاع «Lammens» بحنكته الاستعراضية أن يجمع هذه المعطيات المتفرقة مع بعضها(1).

ويخلص (Bekker = بکر) لتقرير أن «Lammens»:انقلب من مؤرخ إلى مهاجم ذي نزعة عقدية؛ فتكون شعور مسيحي معارض للإسلام وجد في فرضية«Lammens» متكأ له؛ فكل النعوت السيئة بحق حرم النبي أو علي هي من التاريخ بالنسبة له، وعليه أليس من الغريب أن ندعي من جهة أن أهم الحقائق التي تتعلق بحياة عائلة الرسول هي مختلقة ومحرفة، ومن جهة أخرى ندعي تاريخية التفاصيل المتعلقة بمحيط النبي من حياة زوجاته وما يختص بحياة علي وفاطمة؟ أنا أشك كثيرا في تاريخية كل التاريخ المتعلق بحرم النبي، وبما أن «Lammens» يشكك بتاريخية تفسير الأحداث الكبرى في الإسلام. أفلا تستحق تلك الأحداث التي لم يشهد بها شاهد أن يشك بها. وإحساسي يقول إنه يخلط ما بين التاريخي وغير التاريخي وظهر ذلك جليا في الفكرة الرئيسية للكتاب. (Lammens) يرسم لمحمد صورة بملامح كتلك التي اعتدنا عليها من العصر الأموي، يظهره كملك على عرش يحيط به حراسه الخاصين وأمناء خزائنه وهو بأرجوانه وصولجانه. الكثير من هذه الأحاديث جاءت لتبرير أفعال المتأخرين من الأمويين قبال مطالب أهل البساطة والتواضع. إني أعتبر مسائل الزينة

ص: 178


1- Prinzipielles zu. pp,267-268

من المشاكل المتأخرة أيضا. وهي في غالبها بدع. أريد أن أؤكد هنا أن ما جاء به «Lammens» غير موضوعي، يبدو لي أن جميع هذه الموروثات ابتدعت للاستفادة منها كدلائل ضد أو لصالح الصور في العصر الأموي المتأخر. لكنه ينظر إليها كوثائق تاريخية، ولا أعتقد أنني قد ذهبت بعيدا حين رميته بعدم الاتساق في تطبيق نظريته؛ فهو يرى كل شيء مغرضا ومختلقا، وحجر الأساس الذي بني عليه طروحاته يبدأ حين يجد ما هو مغرض من الحديث (1).

وكان مما سجله (Noldeke= نولدکه) من انتقادات على طروحات (Lammens) السيرية وآرائه قوله: لقد سبق أن وقفت مدافعا بوجه الشكوك المبالغ بها التي أطلقها «Lammens» إزاء سيرة حياة محمد. صحيح أن السيرة لصيقة بالتفسير لكنها مجال قائم بذاته. إن شكوك « Lammens» التي أطلقها مبالغ فيها، وموقفي مخالف لآرائه؛ وعليه فإنني لا أجد أسبابا كافية لأشكك ، كما شكك هو في كون كنية النبي «أبو القاسم» قد حملها نسبة إلى ابنه الأول قاسم. كما أنني أذهب إلى عدم احتمالية ضياع المعاني الحرفية للكني في ذلك الزمان؛ فالاسم «قاسم» لا يبدو وكأنه ضرب من الخيال، والشيء ذاته ينطبق على أسماء مثل زينب ورقية وأم كلثوم، في حين أنني أعترف بخيالية أسماء مثل طاهر وطيب. إن شحة ما ورد عن «قاسم» مقارنة بأسماء أخرى بدل بوضوح على أن نسبة الوفيات بين الأطفال كان مرتفعة ارتفاعا رهيبا. في الوقت الذي نزلت به سورة (108) التي احتوت على عبارة «الأيتر» لم يبد أن محمدا كان لديه ولد. لكن من الممكن أن تكون كنيته هذه غير راجعة إلى ولد موجود حقيقة كما هو الحال فيما بعد. فكنية أبو القاسم قليلة التداول ويمكننا أن نعترف إجمالا أننا لا نعرف شيئا عن فترة نبوة محمد المكية، ولكننا هنا لابد من أن نحذر من أن نخلط الحابل بالنابل، فالسيرة فيها بعض الصحة عن تلك الحقبة(2).

ص: 179


1- Prinzipielles zu. pp,268 - 269.
2- Die Tradition Über das Leben Muhammeds. pp, 160 - 163

وقال عن صعوبة الظروف التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة، ومحاولة النبي صلی الله علیه و آله بداية نقلها إلى الطائف وما تعرض له المسلمون من شدة الحصار الذي فرض عليهم في شعب «أبي طالب»، وهي التفصيلات التي يرفضها (Lammens) وینکر وقوعها من الأساس، قال: المثبت تاريخيا كذلك هو محاولة محمد أن يجد ملاذا في الطائف بعد أن صعب عليه هذا في مكة، لا أستطيع أن أكون تصورا بخصوص حصار بني هاشم، فلابد من حقيقة ما أسست لهذه المعلومة، وباختصار يجب علي أن أصرح بحزم ضد القول بأن السيرة ما هي إلا ذيل من ذيول تفسير القران. والحق أن السيرة لصيقة بالتفسير لكنها مجال قائم بذاته، أعتقد أن كل ما نقل عن سيرة الأوقات الأولى لمرض الرسول موثوق بها، بخلاف ما قيل من آراء في الفترة الأخيرة، وأكرر هنا أن حياته واضحة لنا تماما بصغيرها وكبيرها بدء من بعد الهجرة، فلا تحتوي السيرة في سنیها الأولى على الكثير من الأساطير، وحتى لو وجدت هذه فأنه يمكن طرحها بسهولة، لكن الأمر مختلف تماما في الإنجيل، فما وصلنا من سيرة محمد تاريخي جدا، على عكس ما وصلنا عن عیسی(1).

وقال في مقالته الثانية (Kleine Mitteilungen und Anzeigen = أخبار وانتقادات):

«أن «Lammens» لا ينظر إلى محمد ومقربية والإسلام بنزاهة ومن دون تحيز، وهو ما يصعب على رجل مثله، لكن لابد للمؤرخ من أن يتحلى بالنزاهة وعدم التحيز؛ فهو يعطي انطباعا وكأنه مشتك وليس كقاض نزيه، وهو متعاطف كثيرا مع الأمويين»(2)

کا انتقده المستشرق الألماني (Friedrich Schwaly= فريدرش شفالي 1863 -

ص: 180


1- Die Tradition. pp,163 - 170.
2- Kleine Mitteilungen und Anzeigen, P,205

1919م)(1)في إعداده للطبعة الثانية من كتاب (Geschichte des Qorans = تاریخ القرآن) فقال: «من المغالاة أن يجعل «Lammens» نشوء كامل الحديث المتعلق بحياة محمد وظهوره قائم على أساس التنبيهات القرآنية، ويبعد عن الاحتمال أن ينبت من جذر واحد مصدر متنوع مضمونا وشکلا واتجاها»(2) وتحدث عن تأليفه السيري ونقده المصادر وشکه المفرط وعدم ثقته بها فقال: يسلك الباحث الناشئ (Lammens) أكثر المسالك تطرفة في هذا الميدان. وهو يتبع (Caetane = کابتاني و Goldziher = جولد تسيهر». وقد صاغ رأيه في النقاط التالية:

- يقدم القرآن الأساس التاريخي الوحيد للسيرة.

- لا تقدم الرواية تكملة لذلك، بل تطويرا مشكوكا فيه.

-قيمة إحدى الروايات تناسب درجة استقلالها عن القرآن.

- يعترف بوجود رواية شفاهية غامضة في العهد المدني.

ثم علق على هذه الفرضيات فقال:

هذه الفرضيات أحادية الجانب ومبالغ فيها، لأن دائرة الروايات الصحيحة يمكن أن تمد على نحو أوسع، ولأن هناك أيضا روایات مصاحبة حول الوحي القرآني، ولأن الروايات المختلقة ذات طبيعة متنوعة، بحيث يبعد عن الاحتمال، كما يبدو، أن يكون أصلها من الجذر الوحيد للقرآن، لم يفد اختبار الحجج التي قدمها «Lammens» إلا للتأكيد؛ إذ لا توجد من بين المجموعات المختلفة التي وزع فيها مواد الرواية إلا

ص: 181


1- أحد أبرز تلامذة وأصدقاء نولدکه، وقد كلفه بإعادة تحضير الطبعة الثانية من كتابه؛ فأعاد طبعها بعد تحقيقها والتعليق عليها بمجلدين خلال المدة (1909 - 1919م). كما نشر کتاب المحاسن والمساوئ للبيهقي بثلاثة مجلدات عام (1902م) وأشترك في نشر كتاب (الطبقات. لابن سعد سعد) عام (1912 م). العقيقي: المستشرقون،416/3؛ مقدمة كتاب تاريخ القرآن، 31 (المترجم).
2- تاریخ القرآن، 380

رواية واحدة - أول الآيات التي نزلت على محمد - رد إلى إشارات قرآنية حصرا، أما في المجموعات الأخرى: تاريخ الطفولة، مراحل الحياة، عدد الأبناء، الغزوات؛ فتدخل في الاعتبار جميع المصادر غير القرآنية الممكنة، أو تكاد لا تلاحظ أية علاقة بالقرآن کما هو الحال عند الحديث عن أسماء النبي ونسائه وشمائله، يكمن خطأ المؤلف الرئيس في أنه يعمم ملاحظات فردية صحيحة، وضع بعضها آخرون من دون سبب وجيه ويبتذلها(1).

وقال عن أعمال أو دراسات «Lammens» بالجملة أنها: «ليست خالية من سوء الظن المبالغ فيه من ناحية، ومن التناقض والتحيز الديني من ناحية أخرى. إيمان محمد القويم برسالته الربانية الذي يعتبره «Lammens»غير ممكن سيكولوجيا، هو الشرط الحتمي لنجاحه الدائم»(2).

وانتقد طروحاته في كتابه (Fatima et les Filles de Mahomet = فاطمة وبنات محمد) فقال:

«في دراسة شاملة له حول فاطمة وبنات محمد الأخريات، يعتبر «Lammens» المعالم المبهجة واللطيفة للأشخاص الذين يتناولهم تحسينا مغرضا لهم، بينما يأخذ من المصادر كل ما هو قبيح وسيء من غير تمحيص، فينتج لفاطمة وعلي صورا کاریکاتورية فعلا، أما محمد نفسه فيقدم لنا بنوع خاص من المتعة باعتباره أميرا شرقيا بهيا، وأكولا، ومجنونا بالأطفال، وفي هذا بطبيعة الحال مبالغة كبيرة كما هي الحال أيضا في تلك الروايات التي تشير إلى فقر بيت النبي کما تظهر هذه العينات، ينبغي أن تستعمل أعمال «Lammens» بحذر»(3).

ص: 182


1- تاریخ القرآن، 13 4 - 414
2- تاریخ القرآن، 428
3- تاریخ القرآن، 429

وقال المستشرق البريطاني «Montgomery Wat = مونتغمري وات 1909 -2006»(1).

:

انتهى «Lammens» في دراساته إلى أن كاد يرفض تماما أحداث الفترة المكية. ولكن العلماء الذين جاءوا بعده يعتقدون بشكل عام أنه قد بالغ كثيرا في تشککه، أن آراءه شديدة التطرف؛ فهو لم يستطع أن يدلل على صحة نظريته إلا عن طريق لي الحقائق والشواهد، وبالمغالاة في فرضياته واستنتاجاته، وكانت معالجته للمصادر معالجة غير سليمة؛ فقد رفضها، ورضي أن ينساق وراء أفكاره وأحكامه المسبقة، ولم يخضع للمبادئ الموضوعية، وحاول افتراض صدق النظرية التي حاول إثباتها، وكانت افتراضاته ضارة وغير صحيحة(2).

وقال المستشرق الفرنسي (Gaston Wiet = جاستون فييت 1887 .

ص: 183


1- مستشرق اسكتلندي بريطاني شهير، درس اللغة العربية في جامعة (أدنبره في إسكتلندا)، وبدأ اهتمامهبالإسلام عام (1937م) بسبب علاقة شخصية بينه وبين طالب مسلم من (لاهور) كان قدم إلى (جامعة ادنبره) لدراسة الطب البيطري: فتشارك هو و(وات) السكن في شقة واحدة لمدة (6-8 أشهر). وكان هذا الطالب يجري نقاشات مع (وات) عن الإسلام والمسلمين مما دفع الأخير للبحث عن الإسلام والتعرف عليه بصورة أكبر؛ فذهب إلى القدس التي كانت حينها تحت الانتداب البريطاني كاختصاصي في الشؤون العربية والإسلامية في الأسقفية الأنجليكانية هناك، وأمضى هناك ثلاث سنوات في البحث والدراسة. نال درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية عن دراسته الموسومة (القضاء والقدر في فجر الإسلام وضحاه: القرون الثلاثة الأولى. أدتيره / 1944م). ، ودرس اللغة العربية وآدابها منذ عام (1947م). أصدر مجموعة من المؤلفات التي حاول فيها ۔ حسب قوله - أن يكون موضوعيا وعلميا، وأن يبين للمسلمين أن ليس كل الدارسين الغربيين معادين للإسلام. من أشهرها: (محمد في مكة أدنبره / 1952م) و(محمد في المدينة، أكسفورد / 1956م) و(الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر. أدنبره / 1969م) و (تأثير الإسلام في أوربا في العصر الوسيط أدنبره / 1972م). وات: الإسلام والمسيحية،12 - 24؛ القضاء والقدر، 40 (المترجمان).
2- محمد في مكة، 44،62، 299 - 300، 305.

1971م)(1) في جلسة تعي «Lammens» في (1937/5/10م): إنه من الصعب أن نقبل کتاب فاطمة وبنات محمد بثقة ومن دون تحفظ؛ فإن التعصب والاتجاه العدواني يسودانه إلى حد كبير(2) .

وأكد المستشرق الفرنسي «Gaudefroy Demombyms = جيودفري ديمو مبين 1862 - 1957م»(3) على أن هناك بعض التحفظات على النتائج التي استخلصها «Lamments» من بعض الوثائق؛ وذلك لأنه يطلق العنان لانتقاداته الحادة، ولأنه يتجاوز الحقيقة بعض الأحيان بسبب انفعالاته(4).

ص: 184


1- مستشرق فرنسي، درس العربية والفارسية والتركية في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس، سافر إلى مصر، وانضم إلى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية خلال المدة (1909 - 1911م)، وذهب إلى الصعيد والدلتا في بعثة (1911 - 1912م)، درس العربية والتركية في كلية الآداب في جامعة (ليون) الفرنسية، وكلية الآداب في الجامعة المصرية، وأثناء الحرب العالمية الأولى عمل ضابطا مترجما، وبعد الحرب عمل في المفوضية الفرنسية في سوريا، وشغل منصب مدير دار الآثار العربية في القاهرة (1926 - 1952م). أهم نتاجاته؛ نشر وترجم أربعة أجزاء من كتاب (المواعظ والآثار للمقريزي، القاهرة / 1911 - 1926م)، کتاب (مواد لجغرافية مصر، بجزأين 1914، 1919م) وكتاب (فتح مصر والمغرب والأندلس 1920م)، جی مراد: معجم، 538 - 540.
2- العفاني: أعلام وأقزام، 2/ 458
3- ولد في فرنسا، وسافر إلى الجزائر وأقام بها؛ للدراسة في كلية الأدب. ثم سافر إلى باريس؟ ليلتحق بمدرسةاللغات الشرقية الحية؛ فتضلع بالعربية، ثم عاد إلى الجزائر عام (1895م)، ليعمل مديرة المدرسة تلمسان؛ فأقام هناك لمدة (3 سنوات)، ثم عاد إلى باريس ليتولى منصب أمين مكتبة مدرسة اللغات الشرقية، وليدرس العربية في المدرسة الاستعمارية التي أنشأت منذ عام (1889 م). شغل منصب کرسي اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية، والعديد من المناصب الأخرى في فرنسا وغيرها، اهتم باللهجات والعادات المغربية، والدراسات الإسلامية والأدبية العربية. من أهم مؤلفاته:: (مراسم الزواج عند أهل الجزائر 1900م) و(الحج إلى مكة 1923م). المقداد: تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، 202-208
4- Nouvelles archeologiques. Vol. 19. pp, 103 - 104

وقال المستشرق الفرنسي المعاصر (Dominik Sordail = دومنيك سوردیل): إن المستشرقين عندما يعملون على ابراز أوجه الشبه الممكنة بين نبوءة محمد والدعوات السابقة يقعون صراحة في الجدل الديني، الذي ليس هو من شأن المؤرخ، وإن كان يصعب عليه في أغلب الأحيان تفاديه. إن احتمالات النزاع الكامنة يشعر بوجودها كل أولئك الذين يهتمون بالإسلام فتبدر عنهم في موضوعه مواقف ومشاعر شخصية حرفتها أهواء عصرية ذات صبغة سياسية. لم يتردد اليسوعي الفرنسي «Lammens» في وصف الإسلام بأنه تكييف عربي للوحدانية التوراتية، وشك في أخلاص محمد (1).

وقال الكاتب (Stijn Knuts = ستيفن كنوتس): «إنه حاول استبدال التصور الإيجابي التقليدي عن حياة النبي بالصور السلبية وبين نفسه كمستشرق كاثوليكي متعصب، ينتقد الإسلام وأبطاله بشدة مقابل مدحه للمسيحية والتأثيرات الغربية على العالم الإسلامي، فكان ينتقد الإسلام نقدا لاذعا، وكان حاد الطباع بانتقاداته وجدالاته الانفعالية، وعمله غير متفق مع قواعد النقد النزيه. كان مفرطا بمعتقداته الكاثوليكية؛ فغدت استنتاجاته دينية الاستيحاء أكثر منها علمية وموضوعية، وقد وصف على أنه واحد من أسوأ أعداء الإسلام، وكان ملتزما تجاه الإمبريالية الأوربية والاعتقاد بسيادة الحضارة الغربية، وقد شارك في دعم مشروع الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان، وبالجملة كان ذا نظرة سلبية للإسلام، وقد تم إيقاف کتابته سيرة ذاتية اللنبي محمد من قبل البابوية بسبب سمعته الثابتة ضد الإسلام»(2).

وكتب المستشرق الفرنسي «Maxim Rodinson = مکسیم رودنسون» بحثا استعرض فيه أهم الدراسات التي خصصت لدراسة السيرة النبوية في الغرب والشرق

ص: 185


1- الإسلام في القرون الوسطى، 21-29
2- http://www.kaowarsom.be/nl/notices Lammens, Henri, Jesuit and historian of Islam.

وعلق عليها، فكان مما علق به على كتابات (Lammens) قوله: بينما لم يخصص مستشرق عملا بأكمله لسيرة محمد في تلك الفترة، ظهر رجل هيمن على الدراسات الأوربية المتعلقة بمحمد خلال الثلث الأول من القرن العشرين ذلكم الرجل هو«هنري لامنس» البلجيكي اليسوعي فرنسي المشاعر، الذي رشحت حرفته الكهنوتية على اتجاهه الاستشراقي، البحوث المقبولة لديه هي فقط تلك التي تظهر عدم الرضا بمحمد وأهل بيته، تحيزه العميق، وانتهاكه لحرمة النصوص لم تكن بالأمر الهين، كما أن أخطاءه قد أدته للإدلاء بأحكام فاسدة، كان ممتلئا بالاحتقار الرهيب للإسلام ولمجده الزائف ولرسوله، ولعرب الصحراء الذين كانوا في تقديره جبناء متبجحين، نهبة، مخربين(1).

وقال المستشرق (Francesco Gabrieli = فرانشيسكو گبریيلي 1904 - 1996م)(2): إن «Lammens» صوت معزول عن الإجماع المعاصر للحكم التاريخي على محمد، وينطوي على مفارقة تاريخية إزاء تلك الآراء التي ترى النبي من دون تحامل مذهبي؛ ففي الوقت الذي دحض فيه بل هدم الثقة بالحديث الإسلامي من جهة، فإنه من جهة أخرى يقبل كثيرا من الأحاديث التي تلائم و تناسب طروحاته، فقدم أصول

ص: 186


1- الشرقاوي: الاستشراق في الفكر الإسلامي،146،145
2- مستشرق إيطالي، اهتم بالدراسات الإسلامية واللغة العربية وآدها سيما الشعر الجاهلي حتى اصبح من أبرز أساتذة هاتين المادتين في جامعة روما. انتخب عام (1948م) عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي بدمشق، كتب عددا من الدراسات عن التاريخ والحضارة الإسلامية وتاريخ الحروب الصليبية. من أهم مؤلفاته: دراسته عن شخصية الرسول بعنوان: محمد والإسلام. وهي دراسة ضمن کتاب (تاريخ العالم)؛ إذ أوكلت إليه مهمة كتابة هذا الجزء من الكتاب. وكتب العديد من المواد في دائرة المعارف الإسلامية بطبعتيها القديمة والجديدة. ومن مؤلفاته المهمة الأخرى كتاب (محمد والفتوحات الإسلامية). وقد ترجم من الإيطالية إلى الإنجليزية على يد (فرجينيا لولنغ و روز امتد لينل) وعنها ترجمه الدكتور (عبد الجبار ناجي) إلى العربية. گیرييلي: محمد و الفتوحات الإسلامية،13 - 14 (المترجم).

الإسلام على أنها أصول مركبة من خدع وحيل وألغاز ظالمة واستبدادية، وكان محمد بالنسبة إليه نبي كذاب، کالوصف الذي كان سائدا في أوربا في العصور الوسطى باستثناء مسألة وهي إن تحامل کتاب العصور الوسطى وتحيزهم كان مدعوما بجانب من الخرافات والتلفيقات الصبيانية، في حين إن مؤرخ القرن العشرين قد أسس وغذی وأشبع موقفه التحاملي بمعرفة تامة وشاملة بالمصادر الإسلامية الأصيلة المباشرة، إلا أنها جميعا قد فسرت وأولت بالميل والنية المعادية نفسها، فكان استنتاجه المحتوم الذي لا يمكن تجنبه هو أن الإسلام كان خطأ وغلطة في التاريخ، وأنه انحراف عن أمر العناية الإلهية للعقيدة المسيحية المغروسة والمثبتة حديثا(1).

وقال المستشرق الفرنسي (Paul Casanova = پول كازنوفا ت 1926م): اکانت نفسية الأمويين على الإطلاق مركبة على الطمع في الغنى إلى حد الجشع، وحب الفتح بقصد النهب، والحرص على التسود للتمتع بملذات الدنيا، لذلك حق لنا أن نعجب لكاهن كاثوليكي کالأب «Lammens» يتطوع للدفاع عن أولئك الشاكين النهابين، ساخرا من على الذي مكروا به، وليس أغرب من هذه المباحث التي يظهر فيها هذا المؤلف المطلع على تاريخ ذلك العصر اطلاعا حريا بالإعجاب، تشیعه الأولئك على هؤلاء، والتي تتعاقب فيها المرافعات الدفاعية والبيانات الاتهامية زحم

بعضها بعضا، لن نقف لتمحيص هذه الصور الشاذة أو لمقارنتها بالصور التي نقلتها النا كتب الأخبار، أما وقد عرف القارئ ترکیب هذه الآلة البسيطة التي أخرجت تلك الصور فحسبه أن يدفع حركتها في الاتجاه المعاكس لتخرج الحقيقة كما هي»(2). كما انتقده - وغيره من المستشرقين المتعصبين والمتطرفين - المستشرق الفرنسي ( Emil Dermenghem = إيميل در منغم)، فنص على أن الأوهام والأباطيل حالت ولزمن

ص: 187


1- محمد و الفتوحات الإسلامية، 74 - 75.
2- آتين دينيه: الشرق في نظر الغرب. في آراء غربية في مسائل شرقية.،104.

طویل دون دراسة الإسلام في أوروبا دراسة علمية وموضوعية. وذكر بعض العناوين الاستشراقية التي درست الإسلام في أوروبا وبضمنهم «Lammens».

ثم علق على ذلك بقوله: «ومن المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم رسما و كانت كتبهم عامل هدم على الخصوص. ومن المحزن أن لا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة. ومن دواعي الأسف أن كان الأب «Lammens» الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين، من أشدهم تعصبا، وأنه شوه کتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام، فعند هذا العالم اليسوعي، الذي أفرط في النقد فوجه آخرون مثله إلى النصرانية، أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن، فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين نهادمها بحكم الضرورة بدلا من أن يؤيد أحدهما الآخر، نعم، قد يكون الحديث موضوعا لتفسير آية من القرآن أو لجعلها محمولة على معنی معين أو لتأكيد ظاهر حكمها، ولكن هناك أحاديث صحيحة على ما يحتمل، فليس على المؤرخ، الذي لا يفكر في قواعد النقد، إلا أن يركن إليها»(1).

وقال المستشرق الفرنسي (Etienne Dinet = آتین دینیه): «والحق إن مثل «Lammens» في الاستشراق کمثل بطرس الناسك في الحروب الصليبية، وإنه ليقوم من الناحية العلمية بما كان يقوم به بطرس في ناحية الدعاية الحربية؛ فقد كان أسلوبه شبيها بأساليب الرهبان في القرون الوسطى. لقد ضاق ذرعا برؤية الإسلام ينتشر ويبسط ظله على أفريقية وآسيا، فإذا به يسخط على القدر نفسه ويقول: لماذا جاء القرآن فجأة، ليقضي على التأثير اللطيف الذي كان الإنجيل قد أخذ يحدثه في ابن البادية»(2).ووصف مؤلفاته بأنها كانت غاية في التطرف والتعصب والافتراء، بل إنه كتب بعضها

ص: 188


1- حياة محمد10 - 12.
2- الشرق کما يراه الغرب، 97 - 99.

بأسلوب أبعد عن اللياقة، وليس مجري قلمه بألفاظ اللطف والتأدب إلا مع خصوم النبي، وأعداء الإسلام؛ فقدم صورا كاذية سود بها صفحات الشخصيات الإسلامية الجليلة، واعتذر بأنه نقل بعض حماقاته؛ إلا أنه كان يرى ضرورة كشف القناع عن مهاوي السخف التي توقع کراهة الإسلام في التصانيف الضخمة التي دبجها والتي قد توهم الآخرين شهرته ومؤلفاته، وأضاف: بلغنا كثير من الأخبار عن زهد النبي وتقشفه، ولكن الأب «Lammens» يضرب بهذه الأخبار عرض الجدار. ولا يسلم قط بزهد مؤسس الإسلام وتقشفه. فإذا عثر خلال مطالعاته بخبر مفرد رواه (أحمد بن حنبل) وفيه أن محمدا أكل في مأدبة كتفي ضأن [وسيأتي الحديث عن هذه الرواية ] غلب عليه الفرح الشديد بهذه اللقية الفريدة، وبادر إلى وصف الرسول بأنه رجل أكول! وإذا لم يعثر خلال الأبحاث الطويلة على خبر واحد يصرفه في وجوه غایاته استغني عنه، وثبت على مزاعمة الباطلة التي يسوقها إلى القراء برشاقة لا عسر فيها. إنه رجل مبتلى ببغض الإسلام، وهو إنها كتب هذه الآراء ومثيلاتها وهو في حالة الهذيان التي تنشأ عن مثل علته(1).

وانتقدت المستشرقة الإيطالية (Vaccia Vangeliier = فيشيا فاغليري 1893 - 1989م)(2)، آراء وطروحات «Lammens» وموقفه من السيدة فاطمة علیها السلام ووصفت أقواله بأنها تنم عن حقد وخبث(3).

ص: 189


1- الشرق کما يراه الغرب، 101-111.
2- ولدت في إيطاليا، ودرست في جامعة روما، وحصلت منها على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة العربيةعام (1915 م)، وقامت بتدريس اللغة العربية ولهجاتها بالمعهد الشرقي في نابلي بإيطاليا ابتداء من عام (1935م)، وتسلمت إدارة المعهد منذ عام (1940م) حتى وفاتها. أهم مؤلفاتها: كتاب (الإسلام. تابلي /1946م) وكتاب (مطالعات عربية. تایلي / 1951م) وكتاب (المسلمين في سردينيا 1965م)وغيرها. الماجد: سعد عبد الله، موقع المستشرقين من الصحابة، 130.
3- عبد الجبار ناجي: التشيع والاستشراق، 408-409

وبالجملة كانت كتاباته قد شوهت صورة الاستشراق فهو يبدو شتاما لعانا أكثر منه مؤرخا وباحثا، وتتسم كتاباته بقدر كبير من التعصب والحقد والكراهية وانعدام الموضوعية كما كتابات رهبان القرون الوسطى، وهكذا أضعف تعصبه الديني وتزمته من أهمية دراساته حول السيرة، حتى عد بعض المستشرقين كتاباته انتكاسة، أو ردة في میدان الدراسات الاستشراقية التي بدأت تتجه بصورة تدريجية وبطيئة نحو الموضوعية(1).

ص: 190


1- عزوزي: آليات المنهج، 62-63

(7)آراء «لامنس» بين التبني والرفض

قدم «Lammens» خلال دراساته المتعلقة مسحا شبه كامل للتاريخ العربي منذ قبل الإسلام حتى بدايات العقد السابع الهجري! ومن طبيعة الدراسات الاستشراقية أنها كانت تتوافر على ترويج هائل، يضمن لها سرعة الانتشار، لتبني الدوائر والمؤسسات الاستشراقية عملية نشر تلك الدراسات في مختلف الدول عن طريق: المؤتمرات الدولية / المجلات / الدوريات العالمية. ولعل أبرز دليل على ذلك أن كانت المؤسسة الاستشراقية الضخمة «Encyclopedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية » تصدر بلغات ثلاث: فرنسية وإنجليزية وألمانية؛ لتضمن انتشارا أوسع لموادها، ومشاركات أوسع من قبل المستشرقين. فيما يخص الأبحاث والدراسات المتعلقة بتاريخ سوريا ولبنان وآثارهما، وتاريخهما القديم والمعاصر وطبيعتها الجغرافية وما إلى ذلك، لا شك كانت ل- «Lammens»اسهامات ليس من السهل تجاوزها أو التغاضي عنها؛ ولذا كانت مصادر غاية في الأهمية لمن يتناول موضوعات مماثلة. أما في جنبة التاريخ الإسلامي فبالرغم من الكم الهائل من الانتقادات التي دمجها المستشرقون حول أعمال «Lammens» إلا أن بعض منهم تابعه، وأخذ بآرائه في كثير من القضايا ! فمع اللهجة الشديدة التي تحدث بها (Emil Dermenghem = إيميل در منغم) نجده يردد ما قاله في كثير من الموضوعات، ولكنه لا يشير إلى الأخذ عنه؛ فقد تابعه على رأيه في موضوعة «اسم النبي»وأنه سمي بداية «قثم» - وأول من قال بها المستشرق ( Aloys Sprener - ألويس شير نجر) . فقال: « إن الاسم الأصلي للنبي هو قثم، ولم يلبث هذا الاسم أن عدل عنه بعد ولادته بوقت قصير أو حين بعثته إلى محمد الذي هو لقب نبوي أكثر من أن يكون اسما»(1).

ص: 191


1- حياة محمد، 12 - 13.

وفي موضوعة مكة التجارية، وانتشار حالات الريا والمعاملات المحرمة والصرافة بشروط قاسية والاحتكار، التي خلقت أزمات اجتماعية سحقت الطبقات الفقيرة من المجتمع؛ فكانت أحد الأسباب التي دعت النبي لتشريع تحریم تلك المعاملات! فقال بعد استعراضه للجنية الاقتصادية في حياة المكيين:

«كان يضارب في أعمال الصرافة، وفي هبوط أثمان السلع الأجنبية وصعودها، وحول وصول القوافل وتأخرها، وحول الزرع والحصاد، وحول الديون قبل آجالها، وحول القطاع والغنائم، وكانت الغلال تحتكر، وكان يباع ما لا وجود له من السلع..، حفزت هذه المساوئ محمدا إلى تحريم الربا والنسيء وتجارة النقود مع إعجابه بذكاء بني قومه»(1).

وتابعه على فكرة أن أبا طالب علیه السلام لم يكن يحب الإمام عليا وجعفرا علیهما السلام وأنه كان قليل المداراة لهما؛ ولذلك تخلى عنها في الأزمة الاقتصادية التي أصابته، وإنه لم يكن مؤمنا، بل كان من المعارضين للدعوة! وكذلك حمزة علیه السلام الذي حمله على الإسلام دافع العصبية القبلية، وانتصاره لابن أخيه بعد أن اعتدي عليه. وتابعه في فكرة تأثر النبي بالنصرانية والنصارى وأخذه عنهم(2).

وأعاد أفكاره بشأن زوجات النبي صلی الله علیه و آله وإنهن كن فريقين، الأول من: عائشة المدللة المحبوبة المغامرة الجريئة.. ، وحفصة، وهما تعملان لخدمة مشاريع أبويهما في الوصول إلى السلطة، والثاني مكون من: أم سلمة وزينب والأخريات وتساندهن السيدة فاطمة وعلي، وإن عائشة غالبا ما كانت تخرج منتصرة من الخصامات والجدالات التي تدور بين هذين الحزبين، وكان لها تأثير قوي في موازنة نفوذ علي

ص: 192


1- حياة محمد، 44. وينظر تمهيده أو مقدماته لهذه النتيجة خلال الصفحات 33- 44
2- حياة محمد، 68، 117- 114 ، 126-124

والسيدة فاطمة، وأن النبي سد الباب الذي يصل بينه وبين بيت علي والسيدة فاطمة انتصارا منه لعائشة (1)وغيرها من الآراء.

وممن أخذ ببعض آرائه أيضا المستشرق الألماني الشهير (Carl Brocketmamn = کارل بروکلمان)؛ إذ اقتبس منه رأيه بشأن عمر النبي9 فقال: السنا نعلم علم اليقين السنة التي ولد فيها النبي، والمشهور أنه ولادته كانت حوالي سنة (570م) ولكن الذي لا شك فيه أنها متأخرة عن ذلك بعض الشيء».كما ردد رأيه بشأن تواضع مكانة عائلة النبي «بني هاشم» ضمن العوائل الملكية أو القرشية الأخرى! وردد رأيه بشأن أسطورية كافة الأحداث المتعلقة بطفولة النبي صلی الله علیه و آله وعدم حقيقة سوى كونه نشأ يتيما فقیرا(2).

وكرر أفكاره بالنص أيضا بشأن عدم أهلية الإمام الحسن عليه السلام للخلافة! وكيف أنه كان تنازل عن الخلافة مقابل الأموال، وأن معاوية كان الأجدر في تولي السلطة، وأنه بالاعتماد على العنصر السوري استطاع أن يشيد الدولة الإسلامية، وأنه استطاع كسب حتى خصومه الهاشميين عن طريق الأموال.

وكرر آراءه بشأن الإمام الحسين عليه السلام وكيف أنه كان مغامرا لم يحسب بشكل جيد ظروف ثورته وعواقبها، وأن الأمويين لم يكن في نيتهم أن يقتلوه، وأنهم حاولوا بشتى الوسائل توخي قتله؛ حتى أنهم منعوه من الماء رجاء أن يسلمه العطش للتنازل عن أفكاره الطموحة؛ ولكن اعتماده على حصانة كونه ابن بنت النبي قد غرته كثيرا فأدت لمقتله، وأن يزيد حزن على ما قام به جيشه؛ فأسرع لإكرام السبايا وارجاعهم إلى المدينة (3).

ص: 193


1- حياة محمد، 311 - 315.
2- تاريخ الشعوب الإسلامية، 32۔ 33.
3- تاريخ الشعوب الإسلامية، 121، 123، 127 - 128.

وممن تمثل آرائه المستشرق البريطاني (Dwight Donaldson = دوایت دونالدسون)(1) . فقد کرر طروحاته فيما يتعلق بصفات الإمام الحسن عليه السلام وشخصيته الشهوانية وانشغاله بالزواج والطلاق والملذات وافتقاره للقوة المعنوية والشجاعة والقابلية العقلية، وعدم كفاءته السياسية، وسوء علاقته مع أبيه، وتنازله عن الخلافة مقابل الأموال وهدايا معاوية، وكذلك رأيه بسبب موته وغيرها من الآراء(2).

وممن تابعه على افكاره وطروحاته أيضا المستشرق اليهودي الفرنسي ( Cahen Claude = کلود کاهن)؛ فکرر رأيه بشأن تواضع عائلة النبي(3)، ومكانة الحسن والحسين عليها السلام(4).

وقد مر بنا أن تلميذته المستشرقة اليهودية الفرنسية المعاصرة ( Jacqueline Chabbi = جاكلين شابي» كانت هي الأبرز بين المستشرقين المعاصرين الذين تمثلوا طروحات «Lammens» و آراءه بشكل أساس، وكأنها إعادة صياغة لها ولكن بلغة أكثر حداثة، وملاءمة لروح العصر في كتابها ( Le Seigneur des Tribus L'islam Mahornet = رب القبائل: إسلام محمد 1997م). وهو مستخلص من بحثها المقدم النيل الدكتوراه عام (1992م) تحت إشراف المستشرق الفرنسي اليهودي ( Cahen

ص: 194


1- درس على يد مجموعة من المستشرقين، في جامعة هارفارد ومدرسة كندي للبعثات، وغيرهما، زار إيران ومكث فيها لمدة (16 سنة) كما زار العراق أيضا. تخصص في الفلسفة الإسلامية وسير الأئمة الشيعة فكتب عنهم اطروحته التي ترجمت تحت عنوان (عقيدة الشيعة) و كان أكمل کتابتها في مدينة مشهد عام (1933م). فكانت أهم مؤلفاته الاستشراقية، ومن مؤلفاته الأخرى: كتاب (محمد و الغزالي 1918 - 1919م) وكتاب (سلمان الفارسي 1929 م) وكتاب (الزواج العرفي في الإسلام 1936م) وغيرها.ينظر فاتحة كتابه عقيدة الشيعة؛ نجی مراد: معجم، 342
2- ينظر : عقيدة الشيعة، 89-90
3- الإسلام منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية، 32.
4- الإسلام، 63 - 64.

Claude = کلود کاهن)، وكتابها ( Le Coran decrypte: Figures Bibliques en Arabie = القرآن المفكك: صورة توراتية في الجزيرة العربية 2008م). الذي حاولت فيه تركيز فكرة أن القرآن ليس إلا تقليد للتوراة والإنجيل، ومجموعة منتخبة من التراث الأدبي والفكري والفلسفة والقوانين القديمة. كما أنكرت النبوة والوحي، وعدت النبوة المحمدية صناعة أيديولوجية، وأسطورة عربية، وتمثل معرفي للثقافات القديمة حاكتها الأذهان العربية، وكرستها الظروف الاجتماعية، ورعتها النظم السياسية، فإذا بمحمد الإنسان يتحول إلى النبي الأسطورة. وكانت هذه الآراء هي ما جعلتها تحتل مركز الصدارة في الاستشراق الفرنسي المعاصر! ويتثال عليها الثناء والتكريم من كل حدب وصوب (1).

وقد بين زميله وصديقه «الأب فردیناند توتل اليسوعي» سر إعجابه بالأمويين، وسر تبنيه النزعة القومية - السورية - في كتاباته، فكثيرا ما كان يذكر ألفاظا مثل:(السوريين / العراقيين / الجيش السوري / الجيش العراقي / سكان سوريا الأصليين / المستوطنين في سوريا / السوريين الأصليين / العنصر السوري / الأمة السورية / العنصر العربي) .. الخ. قال «تونل» إنه كان متخصصا في تاريخ سوريا ولبنان: «وأي درس أحب إليه من هذه المنطقة التي عاش فيها منذ صباه. طاف أيام العطلات المدرسية، مشارق بلادنا ومغاربها، من بلاد أنطاكية والجبل العجيب إلى بلاد حمص، حيث تقفى آثار الصليبيين، فكتب عن تلك البقاع وأخبرنا عن سكانها القدماء وعن الحاليين، ووقف، واستوقف القارئ لا للبكاء على الأنقاض والرثاء العقيم، ولكن لإحياء ذكر السلف، والإشادة بأمجاد الأولين استحثاثا على الشغل وكان يعود من جولاته كالفلاح من حصاده، متأبطا حزمة التعليمات، فيدرس سنابلها ويغربلها

ص: 195


1- فرحات: عبد الحكيم: نبوة محمد في الفكر الاستشراقي الفرنسي المعاصر: جاكلين شابي أنموذجا، 8-12،14-64.

ويضيفها إلى أهرائه، ومنها أخرج مؤلفاته في الدولة الأموية، فبين بالاستناد إلى أوثق المصادر محاسن السوريين، وان لمعاوية الأموي الفضل في تأسيس الدولة العربية، وفي تنظيم البلاد التي فتحها المسلمون، وكان العنصر السوري فيهم كالخميرة من العجين فمنه جیش معاوية جيوش الفتوحات، وعليه اعتمد الثقافته وذكائه وطاعته، وبه أوصى ابنه يزيد قبل الوفاة، وعامل أهل الذمة بالحكم والرفق، وأحسن السياسة. ومس الأب لامنس في دروسه مواضع فتحت باب الجدل بينه بين الأدباء، فعالج أصلية الروم الملكيين في بلادنا، وبين أنهم آراميون أصلا، وأن الطوائف المسيحية كلها من أصل آرامی، وسار إلى أبعد من ذلك داعيا السوريين أجمعين إلى القول بأصلهم الآرامي الجامع بين عناصرهم(1). وكان عالج هذه الموضوعة في مقالته «الروم الملكيون - نبذة في أصلهم وجنسيتهم» التي كتبها في مجلة المشرق الكاثوليكية(2).

ولعل انطلاقاته في إثبات رأيه الأخير ترتكز على الرأي أو الحقيقة القائلة: إنه لم يكن بين كل الأباطرة البيزنطيين الذين حكموا الإمبراطورية الشرقية إمبراطور واحد ينحدر من أصل روماني خالص !؛ إذ كان العديد منهم من أصل عربي، وبالخصوص سوري، وكان بينهم من هو من أصل سلافي أو يوناني(3). ومن الراجح أنه يريد مد الجسور بين الواقع الآرامي، والإمبراطوري البيزنطي الذي كانت تعيشه سوريا، وبين واقعها العربي الذي عاشته في عهد الأمويين، على أنه امتداد له، وتمثل لثقافته، ومن ثم وصولا للإشعار بإحساس الانتهاء الآرامي والبيزنطي المسيحي لا العربي الإسلامي. فقد كان من بين أسباب إعجابه ببني أمية أن دولتهم لادينية، ولأنهم أقاموا ملكهم في الشام وتأثروا بالمدنية القديمة التي قامت في ربوعه إذ يؤكد «Stijn Knuts = ستيفن

ص: 196


1- توتل: الأب هنري لامنس، 172 - 174.
2- في عددها السادس الصادر في السنة الثالثة عام (1900م)، ، 267-273
3- لنتون: رالف، شجرة الحضارة، 2/ 237

کنوتس»: انه في هذه الدراسات، کرس الكثير من الانتباه للدور المسيحي في نجاح الأمويين وسيطرتهم على الحكم، إن قدرتهم على بناء إمبراطورية قوية؛ إنها كان بسبب تفاعلهم مع التواجد المسيحي في بلاد الشام؛ ولذلك هو صار ينتصر لدولتهم، وينتقد منافسيهم من العلويين والعباسيين (1).

ونستطيع أن نضيف أنه إنما امتدح الأمويين لأنه إنما أراد أن يذم من حيث يمدح، فهو عندما يشيد بالأمويين ويمتدحهم مع ما عرف من استهتارهم بالدين والقيم الأخلاقية والإنسانية، وعندما يشيد بامتداد دولتهم الظالمة المبنية على الجور والعدوان ! إنما يريد القول إن هذه الدولة هي نموذج الإسلام الذي لا يقيم لأي من قواعده وتشريعاته وسلوكياته وأوامره ونواهيه أي وزن، فهو يخترقها بكل سهولة عندما يرغب بذلك، وبالنتيجة فإن منظومته الدينية والأخلاقية ليست ناجعة في ضبط وتطويق سلوكيات الفرد والمجتمع وتعاملاته، ومن ثم فهي ليست منظومة ناجعة التقديم حياة أفضل لمجتمعها فضلا عن الإنسانية التي تدعي أنها جاءت لتحقق لها العدل والمساواة والإصلاح الشامل، وبالنتيجة فهي لا تستحق أن تنسب إلى مصدر إلهي، وهي إنما حققت نجاحها بسبب تأثرها بالمنظومة المسيحية واقتباسها منها، ولأنها قامت على أنقاض دولتها، ولولا عمل هذه الدولة وتناغمها مع هذه المنظومة؛ ما كان لها أن تستطع الوصول لما وصلت إليه. وهذا ما يؤيده قول أحد كبار المستشرقين الألمان في (الأستانة) لبعض المسلمين ومن بينهم أحد شرفاء مكة: « أنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا (برلين) ! قيل له: لماذا؟، فقال: لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كله، ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عربا مسلمين»(2).

ص: 197


1- Lammens, Henri Jesuit and historian of Islam
2- محمد رشید: تفسير المنار،260/11؛ الوحي المحمدي، 282؛ أيورية: شيخ المضيرة، 201 (هامش 3).

ولربما أوضح (Wellhausen) سبب تطوع «Lammens» للدفاع عن معاوية والانتصار له؛ إذ بين أنه كان راعيا للمسيحيين ومقربا لهم، سيما قبيلة كلب النصرانية الذين كانوا أصهاره، وعماد جيشه في حربه مع أمير المؤمنين7 فقد كانوا توطنوا هناك منذ قرون، وكانوا معرضين لتأثير الحضارة اليونانية والرومانية والكنيسة المسيحية ولم تكن مظاهر الدولة المنظمة ولا روح الطاعة الحربية والسياسية معاني جديدة عليهم. وكانت لهم أسرة قديمة من الأمراء دانوا لها بالطاعة دهرا طويلا، ثم آل ما عودوه من الطاعة إلى معاوية باعتبارهم الوارث الشرعي لأسرتهم السابقة، وكانوا يعترفون بشرعية الرياسة الإنسانية القائمة، ولم يمتحنوها بالرجوع إلى مقاییس القرآن وإلى المبادئ التي يجب أن تقوم عليها الحكومة التيوقراطية. وكانوا يطبعون أميرهم أينما وجههم؛ لأنهم لم يكونوا في داخل أنفسهم يبالون بالإسلام أكثر مما يبالي هو نفسه . وكان معاوية يقيم في دمشق، في المنطقة التي كانت تسكنها کلب، غير بعيد من مقر ملوكهم السابقين، وتزوج امرأة من أشراف كلب، وجعل ابنها يزيد وريثا لعرش الدولة فكانت كلب كلها تشعر أنها أصهار للخليفة وأخوال لولي عهده، ويستطيع الإنسان أن يفترض أن الصلة التي نشأت بين معاوية وبينهم أيام كان واليا كان لها أثر في علاقته بأهل الشام من غير العرب الذين ظلوا على النصرانية، ولم يكن المسلمون في الشام يعيشون بمعزل وفي مستعمرات مخصصة لهم. بل كانوا يعيشون بين أبناء البلاد في المدن القديمة مثل: دمشق وحمص وقنسرين وغيرها، بل كانوا أحيانا يقاسمونهم بيت لله، نصفه مسجد ونصفه کنیسة. وكان التراث المسيحي في فلسطين والشام موضع تقدير كبير من جانب المسلمين، وفي بيت المقدس نصب معاوية نفسه خليفة، وصلى بعد ذلك على جبل الجلجلة، ثم صلى عند قبر السيدة مريم، على أن معاوية لم يكن في قلبه تعلق عميق بالإسلام، وكان من حيث هو سياسي متسامحا مع رعاياه المسيحيين. وقد نال محبتهم وعرفانهم لفضله، وكانوا يشعرون أنهم تحت حكمه في عافية لا تقل عما كانوا عليه تحت حكم الرومان، ويتكلم وقد برهن عليها معاوية بأن بني لأهل

ص: 198

الرها كنيستهم التي هدمها الزلزال. وكان (سرجون بن منصور) من أكبر مستشاريه نفوذا، وقد أورثه ابنه يزيد، وكان (سرجون) نصرانيا. ويستطيع الإنسان أن يأسف من أن معاوية، بدلا من أنه صار خليفة، لم يقتصر على الشام فيؤسس هناك دولة وطنية، ربما كانت تكون أثبت دعائم من تلك الدولة العالمية التي لا تنتمي إلى أمة معينة والتي انهار فيها سلطان العرب في المشرق. ويجوز أنه خطرت له هذه الفكرة، لكنه أحس ان تنفيذها مستحيل، لأنه كان لا بد له في ذلك من أن يتنصل من الإسلام وينضم إلى الكنيسة المسيحية، وذلك أن الإسلام في ذلك الحين لم يكن يسمح بوجود دولة خاصة(1).

إذن ليس من الغريب، أن يتطوع «Lammens» للدفاع عن معاوية وبني أمية، وهنا يبدو استغراب (Casanova = کازنوفا) وتعجبه من تعصب «Lamnens»وانتصاره للأمويين سذاجة منه، أو تأخرا بخطوات كبيرة عن إدراك وفهم الغاية الكبيرة للأخير.

وقد عمل على مثل هذا الأسلوب المستشرق «Massignon = ماسینیون» فهو عندما كرس حياته لدراسة الحلاج(2) لم يكن ذلك تأثرا خالصا منه بالمذهب الصوفي

ص: 199


1- تاريخ الدولة العربية، 126 - 129.
2- أبو مغيث الحسين بن منصور، أصله من فارس، نشأ بواسط ثم قدم إلى بغداد وخالط الصوفية ودرس على أيديهم، وتنقل بين البصرة والأهواز ومدن بلاد فارس، والهند وما وراء النهر وغيرها. منهم من بنسبه إلى الشعوذة والغلو والسحر والزندقة والدعاء النبوة والتناسخ والحلول. له مجموعة من الأشعار التي يوحي ظاهرها ببعض هذه المعاني، سجن لمدة طويلة وعذب ليرجع عما يقول، ولكنه أصر على آرائه؛ فأمر المقتدر العباسي (295 - 320ه-) بقتله وإحراقه بالنار. فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، وحرقت جثه بالتار، وتصب رأسه للناس على سور السجن ببغداد، وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه. وكان ذلك عام (309ه-). الخطيب البغدادي: تاریخ بغداد، 8/ 112 - 135.

الإسلامي؛ فهو على الأرجح كان يسعى لربط الإسلام بفكرة الإفتداء المسيحي عن طريق الحلاج!؛ فقد عد مسألة تقبل الحلاج لفكرة الصلب المشابه للصلب المسيحي، علامة لاكتمال إسلام الحلاج لتزوعه السامي وتخلصه من حالة الجدب الروحي، ولذا تحدث بوصفه الحق، الذي يحاكي التجسد المسيحي، أي البشري والمقدس في مكان واحد؛ وعليه اعتقد أن هناك سلسلة متواصلة ومستمرة من الإبدالات بين الإسلام والمسيحية، فالإسلام هو بدل ناقص للمسيحية في الشرق، أي لا يعوضها كليا - رغم کونها دیانتان سماویتان - وإن وجود الحلاج وامثاله من حين لآخر بصنع نوعا من الابدالات المتكررة؛ فالإسلام والمسيحية يتبادلان عملية الزحزحة فيما بينهما!؛ ولذلك قال في إحدى رسائله للأب «أنستانس الكرملي»:«لا تنسى کتابي عن الحلاج، سوف أرسل لك نسخة من أدلتي عن مسيحيته، لم انته من عملي حول الحلاج، أرغب أن أضع مبادئه حول ألوهية المسيح غير المتوقعة في الإسلام تحت الضوء - هذه المبادئ التي ولدت لديه من حاجة إلى مرشد معصوم يمتلك «امتلاء روحيا»- كي لا يظل الطرق «الطرق الصوفية»إنها مبادئ مثابة من قبل موت مشع على الصليب »(1).

ص: 200


1- ماسينيون في بغداد: رسائل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى الأب انستاس ماري الكرملي، 3939-40،146،168.

اَلْفَصْلُ اَلثَّالِثُ: تقویض صورة النبی المثال

اشارة

ص: 201

ص: 202

مَدخَل

تبنى الاستشراق - سيما في إطاره الديني - مهمة إنتاج الصراع بين المسيحية والإسلام وإدارته بما تمثله الأولى من انتهاء عقدي ينزع لتقديم الإسلام بوصفه مشكلة سياسية وثقافية تمتلك عنصر التحدي أو المزاحمة والمقابلة، وتقديم البديل المناقض لمعتقد الفرادة الرسولية التي يدعيها الطرف الآخر؛ ولذا كان تفسير الإسلام يغذی دائما بنوع من الضغط والإلحاح في الخطاب الاستشراقي الموجه وفق إطار معتقد الضدية لتصنيفة على أنه بنية فكرية متطفلة، أو على أنه خروج عن العقيدة الحقة، بمعنى تبني المقولة القديمة الحديثة: الإسلام هرطقة مسيحية هي آخر الهرطقات وأشدها ضررا.

وجد «Lammens» أن ذلك إنما يتحقق من خلال مشروع «تقويض الصور المثالية لنبي الإسلام وأهل بيته» لأنهم يمثلون جوهر الإسلام ولبه، ولأن سيرهم مع مرور الوقت وتكشف الحقائق، وظهور النصوص والأبحاث التي تستجلي وقائع التاريخ، وتزيح عن التفكير الغربي انكفاءات وظلال توجيه الخطاب الديني؛ فتفصح عن صور مثالية براقة ما عهد التاريخ الإنساني مثل جوهريتها وصفائها، وهي فضلا عن ذلك تقدم للإنسانية بدائل تمثل واقتداء لا نظير لها، وتمنحها خيارات وحلول

ص: 203

أفضل في كل مناحي الحياة؛ فهناك صورة «الرسول / النبي المثال» الذي استطاع خلال مدة يسيرة نقل بيئة فكرية تعيش مرحلة الانغلاق ومجتمع متفكك لا يجد ما يعزز أواصر ارتباطات مكوناته، بل إن أنظمة الحياة فيه من تقاليد الثأر والحروب والطبقية وغيرها توغل بعيدا في تعزيز انشقاقاته. فاستطاع نقله خلال سنوات قلائل الأن يكون أمة تتقاسم المأكل والمأوى وتربط مكوناتها امتزاجات أكثر وأبعد أثرا من رابطة النسب والدم والعصبية. رابطة مع أنها لا تمتلك الأثر المادي المحسوس، إلا أنها أقوى بكثير من تلك الروابط اللصيقة بالجسد والنسب والعرف والتقليد. إنها العقيدة التي استطاعت دون استخدام أي سلاح أو قوة مرئية ضاغطة أن تفكك أواصر ارتباطات موغلة في القدم، وتشكل ركيزة أساس لحياة ذلك المجتمع، ومثال ذلك تفتيت نمط حياة الغزو والسلب والتقاتل على أتفه الأسباب؛ إذ هجر المسلمون الآباء والأمهات والأخوة والعشيرة والأقارب، بل إنهم جردوا السيف بوجه هذه الارتباطات في ساحات الحرب. إذن فتضامن الولادة والقرابة والنسب لم يعد يساوي شيئا قبالة عبارتي التشهد التي تدخل قائلها حضيرة الدين الجديد، وهكذا تهاوت بدائيات وجفاوات العهد القديم على الرغم من تصلبها ونحتها عميقا في مسارب الفكر والعادة والتقليد العربي (1).

إن هذا النبي الذي استطاع قلب کيان ذلك المجتمع الجاف المتعصب، كان يعایش الفقراء، ويحيا حياتهم، ويساعد المحتاجين، ويمارس أعماله وخصوصياته بيده،

ص: 204


1- يؤكد القرآن الكريم هذه الحيققة وأثرها في العديد من النصوص القرآنية، قال تعالى «هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِّنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ» الجمعة/ 2، «وَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا مَّا أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَکِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ »الأنفال / 63، «قُلْ إِن کَانَ آبَاؤُکُمْ وَأَبْنَاؤُکُمْ وَإِخْوَانُکُمْ وَأَزْوَاجُکُمْ وَعَشِیرَتُکُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسَادَهَا وَمَسَاکِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْکُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّی یَأْتِیَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ » التوبة / 26.

وكان من الرقة واللطف والتواضع وکریم الخلائق والصفات ما تألف معها شرائح واسعة ومتباينة من مجتمع شبه الجزيرة العربية (1).

وهو - فضلا عن ذلك - لا يكتنف شخصيته التعقيد المتمثل باللاهوتية الرسولية في المسيحية المحرفة.

لا شك في أن هذا الأثر والقرب والتجانس الخلقي يحفز الآخر لتلمس الاضاءات التي بالإمكان عکسها وتوظيفها، وتبصر حقيقة تلك النبوة بعيدا عن ضغط التوجيهات والأنماط الصورية المكتسبة بفعل المناكفات الدينية التي نحتت مسلمات الصورة النبوية الإسلامية القائمة في الفكر الغربي.

ومن أمثلة ذلك ما قاله الأديب والشاعر الفرنسي الشهير (Lamartine = لامارتين 1790 - 1869م)(2) معبرا عن اعجابه بهذه الذات: أنه نبي أقل من إله وأعظم من رجل(3).

وما قاله الفيلسوف والأديب الإنجليزي الشهير (Thomas Carlyl - توماس

ص: 205


1- وهي الأخرى حقيقة وثقها القرآن الكريم أيضا، قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ کُنتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَی اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ» آل عمران / 159.
2- رحل إلى الشرق على متن باخرة مع (15 بحار) وعدد من الأصدقاء ومكتبته العامرة في (تموز 1832م) وتزامنت مع سقوط الجمهورية اليونانية، والحرب المصرية التركية بين محمد علي والسلطات العثمانية. زار لبنان والقدس ودمشق، ومن ثم رجع إلى فرنسا ورشح نفسه للانتخابات البرلمانية وفاز فيها في (تشرين الأول 1833م). في عام (1848م) أصبح رئيسا مؤقتا للجمهورية. ثم سقط أمام حزب المحافظين؛ فرجع لكتابة الدواوين الشعرية، كما كتب عن تاريخ فرنسا وثورتها، وألف (تاریخ تركيا) بثمانية أجزاء، تحدث فيه عن الإسلام والنبي الأكرم. لامارتين: مختارات من كتاب رحلة إلى الشرق. ترجمة: جمال شحید 8-10 (المترجم). وللاستزادة ينظر : بيير جوردا: الرحلة إلى الشرق، 25 - 55.
3- إيميل در منغم: حياة محمد، 11.

کارلایل 1795 - 1881م)(1) الذي خصص محاضرته الثانية في كتابه الأبطال «وعبادة البطولة في التاريخ = On Heroes, Hero Worship, and amp; the Heroic in History »الموضوعة «البطل في صورة رسول الإسلام محمد»: «لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مائتي مليون من الناس من امثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا. أفكان احدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والاحصاء أكذوبة وخدعة؟! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بله ومجانيين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها أن لا تخلق، فوا أسفاه ما أسوا هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة. هل رأيتم قط معشر الاخوان أن رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا وينشره. إن الرجل الكاذب لايقدر أن يبني بيتا من الطوب إذا لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك؛ في ذلك الذي يبنيه ببیت وإنما هو تل من الانقاض، وكثيب من أخلاط المواد. نعم وليس جديرا أن يبقى على دعائمه إثني عشر قرنا يسكنه مائة مليون من الأنفس»(2)

ص: 206


1- فیلسوف ومؤرخ وأديب إنجليزي، دخل الجامعة في الثالثة عشر من عمره، وأصبح مدرسا لمادة الرياضيات، ثم مدير مدرسة، ثم واصل تعليمه حتى أصبح من أبرز شخصيات القرن التاسع عشر. ألف العديد من الأعمال من أهمها كتابه: الأبطال والبطولة في التاريخ 1841م. وكتابه: فلسفة الملابس. وكتابه: الثورة الفرنسية، وغيرها. کارلايل: الأبطال (المترجم)؛ محمد المثل الأعلى، 8 (المترجم)؛ يحيى مراد. معجم، 548.
2- الأبطال، 48- 50؛ محمد المثل الأعلى، 9 - 11.

وما قاله العالم الفلكي والرياضي الأميركي ( Michale. H. Hart = مایکل هارت) حين ضعه على رأس قائمة المائة شخص الأكثر أثر في التاريخ في كتابه « The 100A Ranking of the most influential Persons in History = المائة: تصنيف رتب الأشخاص الأكثر أثرا في التاريخ: «لقد اخترت محمدا في أول هذه القائمة، ولابد من أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره بوصفه واحدا من أعظم الديانات، وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد (13 قرن) من وفاته فإن أثر محمد ما يزال قويا متجددا، وأكثر هؤلاء الذين اخترتهم قد ولدوا ونشأوا في مراكز حضارية، ومن شعوب متحضرة سیاسيا وفكريا إلا محمدا فهو قد ولد في منطقة متخلفة من العالم القديم، بعيدة عن مراكز الحضارة والثقافة والفن، وقد مات أبوه وهو لم يخرج بعد إلى الوجود، وأمه وهو في السادسة من عمره، وكانت نشأته في ظروف متواضعة، وكان لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتحسن وضعه المادي إلا في الخامسة والعشرين من عمره.

كان البدو في شبه الجزيرة العربية مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين أيضا، ولكن محمد استطاع لأول مرة في التاريخ، أن يوحد بينهم، وان يملأهم بالإيمان، وان يهديهم جميعا بالدعوة إلى الإله الواحد. وربما بدا شيئا غريبا حقا أن يكون محمد في رأس هذه القائمة رغم أن المسيحيين ضعف عدد المسلمين، وربما بدا غريبا أن يكون محمد هو رقم واحد في هذه القائمة بينها عيسى هو رقم «3» وموسى هو رقم «16» ولكن لذلك أسباب من بينها أن دوره أعظم وأخطر في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى في الديانة المسيحية؛ فهو المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول شریعته والسلوك الاجتماعي، وأصول المعاملات بين المسلمين في حياتهم الدينية والدنيوية، كما أن القرآن نزل عليه وحده، وفيه

ص: 207

وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وآخرتهم، وكان محمد على خلاف عیسی رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا، وكان يعمل في التجارة ويرعى الغنم، وكان يحارب ويصاب في الحروب ويمرض.. ثم مات، ولما كان محمد قوة جبارة فيمكن أن يقال أنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ، وهذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أؤمن بأن محمدا هو أعظم الشخصيات أثرة في تاريخ الإنسانية كلها»(1).

وللحيلولة دون هذا الاقتراب، والفحص القريب أو البعيد آثر «Lammens» وهو ينقل صورة النبي وأهل بيته علیهم السلام للمتلقي الغربي - باعتباره مختصا وخبيرا ومعايشا أقرب - تشويهها بالكامل؛ كونهم مثالا يلبي حاجة المجتمع المستلهم، قبالة الامتزاج المسيحي المتمثل بالأب والأم والابن وروح القدس، فضلا عن الاشراقات التي تقدمها هذه الذوات في الجوانب الأخرى من قبيل صور: الإنسانية، الطهارة والنقاء الروحي، الرحمة، العلم، البطولة، النبل، الحكمة، التواضع، الصبر، الزهد.. ، التي تمنح «الحاكم / القائد / الخليفة / الرجل المثال / المرأة المثال / الأم المثال» وهي الاخرى بتوفر اها على هذه المقومات تمثل اغراء حيا وملحا لتعرفها وتفحصها، وتمثلها فيما يمكن سحبه على واقع الحياة الحاضرة.

إن حقيقة إغراء تلك الذوات واضحة التأثير فهذا «کارلیل» المتقدم يقول:

«أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونتعشقه؛ فإنه فتی شریف القدر، كبير النفس يفيض وجوده رحمة وبرا، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قتل بالكوفة غيلة؛ وإنما جنى ذلك على نفسه بشدة عدله حتى حسب كل إنسان عادلا مثله، وقال قبل موته حينما أمر في قاتله: إن أعش فالأمر إلي، وإن أمت

ص: 208


1- المائة، 13 - 19.

فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى»(1).

وقال المستشرق (Baron Bernard Carra De Vaux = البارون برنارد کرا دي

فو 1867 - 1953م)(2):

«حارب علي بطلا مغوارا إلى جانب النبي، وقام بمآثر معجزات، ففي موقعة بدر كان علي وهو في العشرين من عمره، يشطر الفارس القرشي شطرين بضربة واحدة من سيفه، وفي أحد تسلح بسيف النبي ذي الفقار، فكان يشق المغافر بضربات سیفه ويخرق الدروع، وفي الهجوم على حصون اليهود في خيبر، قلقل علي بابا ضخما من حديد، ثم رفعه فوق رأسه متخذا منه ترسا. أما النبي فكان يحبه ويثق به ثقة عظيمة، وقد قال ذات يوم، وهو يشير إلى علي: من کنت مولاه فعلي مولاه. علي هو ذلك البطل الموجع المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن

ص: 209


1- الأبطال، 68 - 69؛ محمد المثل الأعلى، 35. وهذا اللفظ في وصية الإمام عليه السلام في قاتله ابن ملجم يذكره: المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 3/ 147. وكان نص على تحذير الأشعث بن قيس وغيره للإمام عال من نية ابن ملجم ! فاجابه إنه لم يقتله بعد!؛ ولذا لا يجوز قتله! 3/ 146. ونقل غيره تفاصيل أخرى في نص الوصية منها: یا بنی عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن إلا قاتلي. أنظر یا حسن إن أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور. الطبري: تاریخ، 5/ 148؛ ابن الأثير: الكامل، 3/ 391. وأوصى بأن يحسن إليه مادام حيا، وأن يطعم ويسقي مما يأكل ويشرب أهله!الطبري: تاریخ، 5 / 145.
2- ولد في مدينة (بار) الفرنسية، وتعلم في باريس، ثم دخل كلية الهندسة عام (1886م) وتخرج بشهادة الدبلوم، ثم عكف على البحث التاريخي وكتابة الشعر ودراسة اللغات الشرقية، وأصبح استاذا في المعهد الكاثوليكي في باريس لتدريس اللغات الشرقية، وكان أحد مؤسسي مجلة المشرق المسيحي. أهم مؤلفاته: کتاب (عقيدة الإسلام. باريس / 1909م) وكتاب (العبقرية السامية والعبقرية الآرية في الإسلام. باريس / 1897 م) وكتاب (مفكروا الإسلام. وهو يقع بخمسة أجزاء خلال المدة 1921 - 1926م) وكتاب (ابن سینا. باريس / 1900 م) وكتاب (الغزالي. باريس / 1902 م). كما حقق وترجم بعض الكتب العربية الفلسفية والتاريخية. بدوي: موسوعة المستشرقين، 462 - 463.

في مطاويها سر العذاب الإلهي»(1).

ومع ملاحظة أن هذه النصوص صدرت من أناس معاصرین ل- «Lammens» ولهم قاماتهم البحثية والفكرية التي لاتنكر في الغرب وفي العالم بأسره، نجد الأخير حاول سلوك الطريق الأقصر، لكبح جماح ذلك الحراك الكشفي المتبصر، الذي يحاول الافلات من انغلاقات وانكفاءات الصور النمطية المتراكمة منذ مئات السنين؛ فراح يعكس الحقائق ويمسخ الوقائع، ويتلاعب بمفاهيم الأخلاق ويقلبها رأسا على عقب فيؤثر الحيلة والغدر على الاستقامة والوفاء، والمسلك النفعي والانتهازي، الذي يبرر لغاياته كل الوسائل المتاحة مهما كانت وضيعة وقذرة على الاستقامة والنبل، والشجاعة والمروءة والكرم!؟ فلا يكاد يبصر إضاءة اثبتها التاريخ لأحدهم إلا وكذبها، وحرفها وبالمقابل يشحذ همته وقلمه وفكره لتبرير صفحات طوال مليئة بجرائم الأمويين وموبقاتهم، التي تندي جبين الإنسانية والفطرة السليمة يهاجم في الإمام علي علیه السلام تواضعه وزهده و کریم خلقه ونبله ومروءته حتى مع أعدى أعدائه، ويعدها محدودية في الفكر، ويحيي في معاوية دسائسه ومكره وانتهازيته! يمجد في معاوية ماديته وغدره ونكثه للعهود والمواثيق، وتسلطه على الرقاب بقوة السيف، وملق المصالح والدسائس والغدر وشراء الذمم، ويستهزئ ويکیل الشتائم للإمام الحسن علیه السلام ، وحكمته وكرمه، ونظرته الثاقبة للأحداث، وتوخيه الحفاظ على أرواح المسلمين وأعراضهم، وإدارته الصراع بسياسة تنظر لأبعد من مستوى السلطة والعرش والخلافة ! يعجبه في يزيد مجونه وجرائمه وتهتكه، ويزعجه في الإمام الحسين علیه السلام تمنعه وعزة نفسه وكرامته وشجاعته وبسالته، وثورته على الظلم والعبودية والضيم! يكبر في عائشة مكرها ودسائسها وصبيانيتها، وعدم اتزانها وينعی على فاطمة علیها السلام شدة إيمانها وورعها وطهارة روحها وصفائها!؟

ص: 210


1- جورج جرداق، 806 - 808.

وجد «Lammens» أن هذا العكس والقلب التام للحقائق والتشويه الكامل الصور هذه الذوات، ربما يكون من شأنه أن يقيد ويحجم أو على الأقل يبطئ من حراك واغراء تكشف تلك الصور والوقوف على حقيقتها التاريخية في الغرب، بفعل الإشارات القوية والاضاءات الجريئة لأقلام وعقول فكرية لها حضورها وتأثيرها وجمهورها في المجتمع الغربي مثل: لامارتين / کارلایل / برنارد شو / مايكل هارت وغيرهم.

إذن فكتابات «Lammens» في هذه الجنبة كانت تفتقر تماما للقيمة العلمية، والرصد السليم، وتفوح برائحة التعصب والتطرف والعداء والحقد؛ فقد انطلقت من مبدأ كونها دفاعية وقائية، لم يخطط لها - كما يدعي - أن ترصد حقيقة التدوين السيري والتاريخي المتعلق بمواضيعها، وتفسير مغمضاته، وتفكيك عوامل نشوئه، إلا في الجنبة التي يلمح فيها توهج لنقاء صورة ما؛ فيسارع لتكذيبها، وتفسيرها على أنها نمو متأخر في مسار الرواية التاريخية، وأنها إنها صيغت بدفع عوامل مذهبية وسياسية، واصطفاف ومیل من قبل الرواة أو المؤلفين وسنحاول رصد خطابه التقويضي للصور التاريخية لشخوص الدراسة عبر الأفكار والرؤى الأساسية التي بثها ضد كل صورة منها.

ص: 211

(1)خلخلة الأساس التدويني للسيرة

صرح «Lammens» في مستهل بحثه: « Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة: كيف کونت حياة محمد» عن غاية البحث الأساس فقال: تحت عنوان سيرة، أي حياة، جمعت كتابات تهتم بأعمال محمد، تستمد مادتها بالدرجة الأولى من الحديث أو السنة الإسلامية. لم يعد هناك من يشك بالطابع المغرض جدا لهذه السيرة، مع ذلك مايزال المختصون الغربيون بالشؤون الإسلامية يولونه أهمية كبرى، للاقتناع بذلك يكفي تصفح السير الذاتية الأخيرة لمحمد؛ فهي تنبع من الحديث بالمحصلة، شأنها شأن السير القديمة. مختص بالشؤون السامية بوزن السيد «نولدکه» أعلن التخلي عن سبر أغوار الغموض الذي يكتنف شخصية محمد. لتوضيح فكرنا بدقة مع علمنا بمخالفة هذا الأسلوب لما هو متعارف عليه نبدأ بذكر الاستنتاجات التي نريد أن يلتفت إليها مؤرخو النبي المستقبليون:

- يشكل القرآن القاعدة التاريخية الوحيدة للسيرة.

- السنة تقدم الشرح المشبوه للمزاعم الواردة في الكتاب المقدس لدى المسلمين، وليس التحقق منها أو إضافة معلومات لها، كما يعتقد حتى هذا الحين؛ فقد نسجت السنة واختلقت على وقع النص القرآني أساطير وأسماء ممثلي المسرحية.

- تقاس قيمة السنة على أساس استقلالها عن النص القرآني الذي كان مصدرإلهام لتنوع الحديث.

- بالنسبة للحقبة التي عاشها النبي في المدينة، نقر بوجود سيرة شفوية غامضة. ومنذ البداية شوهت هذه السيرة؛ بجعلها متوافقة تماما مع القرآن، الذي أصبح الأساس الوحيد للمعرفة المقدسة. عندما تعلق الأمر برسم ملامح الشخصية التاريخية

ص: 212

للنبي، حاول رواة السيرة استنباط السيرة من خلال القرآن. وإذا كانوا قد اهتموا بشهادات المعاصرين؛ فذلك لجعلها متناسقة مع تأكيدات «كتاب الله». بالنسبة للسنة الشفوية المتعلقة بالقرن الأول للهجرة، أصبح الإطار الضيق للقرآن مصدر قلق وخوف. شهود العيان أنفسهم انتهى بهم الأمر إلى أن لا يروا إلا بعيون محمد. كانوا على قناعة أنهم يتذكرون - عندما يصبحون - الصدى اللاشعوري للسور التي ترسخ محتواها في ذاكرتهم؛ بفعل التلاوة المستمرة. أما الشعراء، فلم تكن لديهم حظوة عند النبي؛ وقد احتفظت السيرة من نتاجات هؤلاء بمقتطفات وجدت أنها تؤكد نظريتها. أما ما تبقى، فلم يستحق عناء الاحتفاظ به، أو توجب حذفه باعتباره تجديفا. بهذا الشأن فإن نهج ابن هشام، واعترافاته ذات المغزى، يمكن أن تفيدنا للبرهنة على ما ذهبنا إليه.

- مع ذلك تحتفظ السنة بقيمة خاصة بها؛ لأن تفسير القرآن لم ينجز بعد؛ إذا عندما تزعم السيرة الإسلامية أنها مصدر معلومات مستقل، وأنها نتيجة استقصاء واسع النطاق قام به المعاصرون حول حياة النبي العربي، فإننا نستقبل ذلك بريبة وشك واجه به أصحاب محمد ذرابة لسان أبي هريرة التي لا تنضب، عادينها واحدة من أكبر خدع التاريخ التي احتفظت الحوليات الأدبية بذكرها(1).

بداية فرضية «Lammens» هذه تم إسقاطها، وهي لما تأخذ طريقها بعد في مسار الميدان الاستشراقي؛ إذ أجهز عليها من قبل عدد من المستشرقين - كما مر - وكان ممن فندوها أيضا الألماني «Friedrich Schwally = فريدرش شفالي». فقد قال: يسلك الباحث الناشئ (Henri Lammens = هنري لامنس) أكثر المسالك تطرفا في هذا الميدان..، وقد صاغ رأيه في النقاط الآتية:

ص: 213


1- Qoran et Tradition. pp, 5-7

1/ يقدم القرآن الأساس التاريخي الوحيد للسيرة.

2/ لا تقدم الرواية تكملة لذلك، بل تطويرا مشكوكا فيه.

3/ قيمة إحدى الروايات تناسب درجة استقلالها عن القرآن.

4/ يعترف بوجود رواية شفاهية غامضة في العهد المدني.

هذه الفرضيات أحادية الجانب ومبالغ فيها؛ لأن دائرة الروايات الصحيحة يمكن أن تمتد على نحو أوسع، ولأن هناك أيضا روایات مصاحبة حول الوحي القرآني، ولأن الروايات المختلقة ذات طبيعة متنوعة، بحيث يبعد عن الاحتمال، کما يبدو أن يكون أصلها من الجذر الوحيد للقرآن. لم يفد اختبار الحجج التي قدمها «Lammens» إلا للتأكيد؛ إذ لا توجد من بين المجموعات المختلفة التي وزع فيها مواد الرواية إلا واحدة - أول الآيات التي أنزلت على محمد - رد إلى إشارات قرآنية حصرا أما في الموضوعات الأخرى: تاریخ الطفولة، مراحل الحياة، عدد الأبناء، الغزوات ۔ فتدخل في الاعتبار جميع المصادر غير القرآنية الممكنة أو تكاد لا تلحظ أية علاقة بالقرآن كما هو الحال عند الحديث عن أسماء النبي ونسائه وشمائله. يكمن خطأ المؤلف الرئيس في أنه يعمم ملاحظات فردية صحيحة، وضع بعضها آخرون، من دون سبب وجيه، ويبتذلها(1).

ومن الواضح أن نظرية «Lammens» في نسف السيرة النبوية، استندت على قراءة عكسية أو منقوصة، وتضخيم متعمد لنص ابن هشام - في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق - الذي يقول: وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم.. وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق، مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء..، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع

ص: 214


1- تاریخ القرآن، 413 - 414.

الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا بروايته(1).

إذن « Lammens» بني نظريته على أساس أن «ابن هشام» حاول تخليص السيرة من التمدد والتضخيم غير المبرر الذي قدمه ابن إسحاق من خلال استنباطها من القرآن، والروايات الشفوية المتناقلة خلال القرن الأول الهجري، والأشعار المنتمية لتلك الحقبة التاريخية؛ فابتعد كثيرا عن إطار السيرة، وأدخل فيها زيادات وتفرعات لا تمت لها بصلة مسببا ذلك التمدد! ربما كان هذا الحكم صحيحا، لو توافرت لنا نسخة كاملة من سيرة ابن إسحاق، وقارناها بتهذيب ابن هشام، وحصلنا على نفس النتيجة التي توخاها ابن هشام في تهذيبه. ربما كان صحيحا لو كان هناك جزم بصحة سيرة ابن إسحاق ككل، وبعد مؤلفها عن أجواء التأليف الموجه، وتوخيه أخذها من مصادرها الأصيلة! على أن هذا لا يعني انعدام وجود الرواية الصحيحة، أو الراوي الموثوق بروايته، إنما يعني أن الظروف المحيطة بالمؤلف، أو توجهه الشخصي، لم يكن يسمح بكتابة الحقيقة كاملة، أو أخذها من مضانها الموثوقة فقط! بل إنه حاول توثيق الضعيف والشاذ والمنحول، واصطناع فضائل و مزايا لأشخاص قبالة تغييبها، ومحاولة إنكارها وتكذيبها في أشخاص آخرين !؛ لإرضاء جهة أو مذهب معينين أو للتبرير المعتقده أو غير ذلك من العوامل المؤثرة في التأليف. وربما كان صحيحا لو أن ابن هشام هذب لأجل التهذيب أو لتخليص السيرة من التمدد والتضخيم غير المبرر لا غير !؛ وإلا فهو يقول: إنه حذف أشياء يسوء الناس ذكرها، وأشياء يشنع الحديث بها!؟ فما الذي يسوء بعض الناس ذكره؟ وما الذي يشنع الحديث به؟ وما الذي لم يقر له بروايته ؟! كان مما يسوء الناس ذكره؛ فحذفه ابن هشام خبر «وَأَنذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ»(2)، فقد روى الطبري عن ابن إسحاق أنه قال: إن النبي صلی الله علیه و آله جمع أقاربه

ص: 215


1- السيرة النبوية، 1/ 2.
2- الشعراء / 213.

بعد نزول تلك الآية، وأطعمهم ثم قال لهم: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي، ووصيي، وخليفتي.. ، فأحجم القوم عنها جميعا . فقال علي : أنا يا نبي الله أكون وزیرك عليه فأخذ برقبته، وقال: إن هذا أخي، ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1).

وهنا يتضح جليا سبب تهذیب ابن هشام وحذفه لهذا الخبر من سيرة ابن إسحاق. وعلى هذا يقاس ما عداه. أما مسألة الشعر، وجمع أو اختیار ما توافق منه مع متبنيات السيرة فهو ما حدا بالمستشرقين لجمع دواوين شعراء الجاهلية، وعلى وجه الخصوص شعر «أمية بن أبي الصلت» فقد جمع المستشرق السويسري « Fridrich Schulthess = فريدرش شولتهس 1868 - 1922م»(2) ما تبقى من أشعار منسوبة إليه عام (1911م)، ليأتي بعده المستشرق الفرنسي (

CI. Huart = کلمان هیار 1854 - 1927م)(3) ويتلقف هذه الأشعار ويؤسس لنظرية أخذ النبي صلی الله علیه و آله عنه بعض المبادئ

ص: 216


1- الطبري: تاریخ (طبعة ليدن) 3/ 1171 - 1173؛ (طبعة الأعلمي - بيروت) 2/ 62، 63.
2- ولد في سويسره ودرس اللاهوت، واللغات والآداب الشرقية، وحصل على الدكتوراه من جامعة (جيتنجن) الألمانية عام (1894م). أهم نتاجاته: نشر (دیوان حاتم الطائي. ليستك / 1897م) وما تبقى من (شعر منسوب لأمية بن أبي الصلت. لیبستك / 1911 م) وترجم بعضها للألمانية. وفي السريانیات: کتاب (نموذج من رواية سريانية لحياة القديس أنطوان. لیبستك / 1894م). وهي اطروحته للدكتوراه. وكتاب (الجذور المشتركة في السريانية. برلين / 1900م) وغيرها. يوهان فوك: تاریخ حركة الاستشراق، 301؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 379.
3- تخرج من مدرسة اللغات الشرقية، وعين مترجما مبتدئا في قنصلية فرنسا بدمشق عام (1875 م) ثم في الأستانة ومن ثم أصبح قنصلا ومترجما و أمين سر في وزارة الخارجية. شارك في العديد من مؤتمرات المستشرقين وعين قنصلا لفرنسا في الجزائر. درس اللغة العربية والفارسية والتركية وتفسير القرآن في مدرسة اللغات الشرقية. وأصبح مديرا المدرسة الدراسات العليا هناك. من أعماله: ترجمة لكتاب البدء والتاريخ للمقدسي (1899 - 1919م)، وتاريخ بغداد في العصر الحديث (1901م)، وتاريخ الآداب العربية (1902م) وتاريخ العرب (1912 - 1913م). يحيى مراد، معجم، 711- 713.

القرآنية(1) ، وليرددها من بعده « Lammens» وغيره من المستشرقين.

لاشك في أن «Lammens» إتكأ وبمهارة بحثية - مغرضة - لا يستهان بها، على بعض النصوص الواردة في المصادر التاريخية والحديثية؛ لإثبات نظريته التي كانت صحيحة في إطارها العام، أو أحد وجوهها؛ فهناك عدد من الجزئيات في السيرة، وظفت إشارات قرآنية. بمعنى آخر أن القرآن قدم رواية تاريخية وظفت في ضمن إطار السيرة، كوصفه للمجتمع المكي قبل الإسلام وما توافر عليه من عادات وتقاليد وأعراف وواقع ديني بدائي، واجتماعي رخو ممزق، وكحديثه عن حيثيات نزول الوحي، أو وصف، وبيان أحوال أو أحكام أو تشريعات في العهد المكي، أو قضية الهجرة، أو معركة بدر أو الأحزاب أو حنين وغيرها من الأحداث التي صاحبها نزول نص قرآني. فاعتمدت ورويت على أساس أنها موثقة قرآنيا، وربما جر بعضها ليوافق حادثة معينة أو فئة أو شخص معين. لكن «Lammens» بالغ وأفرط في استنتاجاته؛ فهو عندما يقول: أن السيرة نتاج إشارات قرآنية وشعرية فقط، إنما يريد الوصول إلى نتيجة: أن السيرة مجرد أسطورة، أو أقرب للأسطورة، وأن ليس هناك رواية تاريخية

خاصة بحياة النبي صلی الله علیه و آله إلا هذه السيرة المفتعلة، والمبنية من خلال التقاط تلك الإشارات؛ ومن ثم هي سيرة وهمية لا وجود لتطبيقاتها على أرض الواقع، وإن ما تحتويه من إضاءات في تمجيد شخصه ما هي إلا اختلاقات روتها السنة بعد استلهامها من توجيه النبي نفسه، والذي كان أودعها في القرآن! ؛ لتأكيد تاريخية هذه الإضاءات وواقعيتها! وإلا فهو ليس مصداقا لما قيل عنه - في الجانب الإيجابي طبعا ؛ فهو يقول: «تقدم لنا السنة الشرح المشبوه للمزاعم الواردة في الكتاب المقدس لدى المسلمين، وليس التحقق منها أو إضافة معلومات إليها، كما يعتقد حتى هذا الحين؛ فعلى وقع

ص: 217


1- يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، 301؛ الهراوي: المستشرقون والإسلام، 21؛ بدوي: موسوعة المستشرقين، 379.

النص القرآني، نسجت السنة بمغالاة أساطير، مكتفية باختلاق أسماء ممثلي المسرحية والإسهاب في الموضوع الأساسي الأولي. يقتصر عمل السنة على هذا الهدف المزدوج الهائل الذي يفوق إلى حد بعيد جهد الكتب المقدسة المخالفة للشرائع المسيحية»(1). ويضيف أنه: «لا يمكننا أن نشید كثيرا بمثابرة الأجيال الكثيرة من المتبحرين الذين اقترنت أسماؤهم بهذا العمل العقيم، من القرن الثاني إلى القرن التاسع الهجري. بالنظر لعدم وجود التاريخ، الذي ينبغي أن يشتمل على الاعترافات التي فاتتهم، فإن حماسهم الورع قد زود الأدب العربي بأثر فريد من نوعه حقا»(2).

أخضع «Lammens» لهذه الرؤية شريحة واسعة من العينات النصية والموضوعية في السيرة والسنة النبوية، وانتهى إلى القول: إن كتابة السيرة لا تستند المرجعين متوازيين ومستقلين يكمل أحدهما الآخر، ويضبط بعضها البعض، بل فقط للقرآن الذي فسرته السنة حرفية، حسب أفكار معدة سلفا وبذلك فأن المعلومات المستفيضة المتعلقة بطفولة وشباب محمد يجب أن تدرج ضمن إطار الأسطورة باستثناء سمة واحدة: صفته كيتيم فقير. وبالنسبة لمؤرخي محمد المستقبليين، يلغى هذا التأكيد آلاف الصفحات من هذه الوثائق الخيالية؛ فهو يختصر بسطر واحد الثلاثين سنة الأولى من حياة واحد من أكثر الرجال غرابة في الشرق. إن بداية حياته بوصفه نبيا تقودنا إلى أرض أقل رخاوة، ولكنها تقتصر فقط على المعلومات التي أراد هو شخصيا تقديمها لنا. خلال المدة التي قضاها في المدينة بشكل خاص، شكل القرآن محور حياته العامة والخاصة. كان هذا المحور صدى لميوله، لحالات کرهه، لميوله السياسية، الدليل على مصائبه الزوجية، لميله للمغامرات الحالمة، مثل المؤامرة التي حيكت مع زینب زوجة زيد ولده بالتبني (3)

ص: 218


1- Qoran et Tradition. pp, 5-6.
2- p,8. Qoran et Tradition.
3- Qoran et Tradition. Pp, 25-26

وقد مر بنا سابقا تفنيد المستشرقان الألمانيان الكبيران (Bekker = بكر) و(Noldeke = نولدکه) لهذه النظرية كما رفضها المستشرق (Montgomery Wat = مونتغمري وات» فقد قال: «انتهى «Henri Lammans» في دراساته إلى أن كاد يرفض تمامأ أحداث الفترة المكية، ولكن العلماء الذين جاءوا بعده يعتقدون بشكل عام أنه قد بالغ كثيرا في تشككه»(1).

وكانت نظرته المخالفة لما ذهب إليه « Lammens» في تفسير السيرة النبوية تقول: إن المصادر الرئيسية عن حياة محمد هي:

أولا: القرآن أو الكتاب الذي يضم الوحي الذي تلقاه من الله.

ثانيا: الأعمال التاريخية لكتاب القرنين الهجريين الثالث والرابع

كما يجدر بنا أن نذكر أيضا مجموعات الأحاديث أو الروايات المختلفة لأقوال وأفعال محمد، مثل صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بن حنبل، فان هذه الكتب تحتوي مادة تهم المهتم بالتاريخ بالرغم من أن اهتمام جامعي الأحاديث الآنف ذكرهم كان فقهيا بالمقام الأول. وتحتوي كتب التراجم التي ظهرت بعد ذلك وتتناول حياة الصحابة مثل أسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، على مادة تساعد على فهم الأحداث.. أحسن وصف يمكن أن توصف به السيرة النبوية لابن هشام، أنها رواية منقحة من سيرة ابن إسحاق، كما أن هناك من سبق ابن إسحاق، إلا أن إسهامه في كتابة سيرة محمد هو الأكثر أهمية وتأثيرا. وقد جمع ابن إسحاق كل المعلومات التي كانت متاحة تقريبا بما فيها الشعر القديم، ثم رتب مادته واختار منها ما جعله يكتب قصة مترابطة(2). وتحدث عن بعض المصادر الإسلامية، وخلص للقول: لقد كان من المعتاد لفترة من الوقت، التأكيد على أن القرآن هو المصدر الأساسي للفترة المكية.

ص: 219


1- محمد في مكة، 44.
2- محمد في مكة، 41 - 43.

لا شك في أن القرآن معاصر لهذه الفترة ولكن إذا استبعدنا صعوبة تحديد الترتيب الزمني للأجزاء المختلفة فيه، وعدم وضوح كثير من النتائج المتعلقة بذلك؛ لأنه نزل مفرقا ومنجما، فهو لايعطي لنا الصورة الكاملة لحياة محمد والمسلمين في الفترة المكية. وما فعله کتاب سيرة محمد من الغربيين فعلا هو أنهم افترضوا صحة الخطوط العريضة لصورة الفترة المكية كما وردت في السيرة النبوية، واستخدموها كإطار يدخلون فيه المادة القرآنية بقدر الإمكان ولكن المنهج الأفضل هو: اعتبار القرآن والروايات التقليدية الأولى يكمل كل منهما الآخر في صياغة تاريخ هذه الفترة، وإذا كان القرآن يقدم أساسا الجانب الفكري للمجموعة الضخمة من التغيرات التي حدثت في مكة وما حولها، فيجب أن نضع في حساباتنا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذا أردنا الحصول على صورة متوازنة (1).

إذن (Montgomery Wat = مونتغمري وات) هو الآخر ينسف نظرية « Lammens» من الجذور. وكذلك فعل متخصص آخر، قضى شطرا كبيرا من حياته في بحوث السيرة ومؤلفاتها، وهو المستشرق الألماني الشهير (Joseph Horovits =جوزيف هورفوتس1874 - 1931م) (2)فقال: في الأدب العربي ميادين ثلاثة، ينبغي

ص: 220


1- محمد في مكة 43 - 47.
2- مستشرق ألماني يهودي تعلم في جامعة برلين، وعين مدرسا فيها عام (1902م). واشتغل في الهند خلال المدة (1907 - 1911م) مدرسا للغة العربية في كلية (علیكرة الإسلامية) ومن ثم امينا للنقوش الإسلامية في الحكومة الهندية البريطانية. فكان ثمرة هذا العمل أن نشر مجموعة (النقوش الهندية الإسلامية 1909 - 1912 م) ثم عاد إلى ألمانيا لتدريس اللغات السامية في جامعة (فرنكفورت) منذ عام (1914م) حتى وفاته. أهم نتاجاته: اطروحته للدكتوراه الأولى عام (1898م) عن كتاب المغازي للواقدي، كما تولى تحقيق أجزاء من طبقات ابن سعد، وهي المتعلقة بغزوات النبي (ص). و (کتاب مباحث قرآنية 1926م) وأسهم في نشر أجزاء من كتاب أنساب الأشراف للبلاذري، ونشر هاشميات الكميت الأسدي عام (1904م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 621.

أن تعد مصادر لأقوال النبي وأفعاله، وهي كتب الحديث والسيرة والتفسير، والعنصر الرئيس في كل واحد من هذه الميادين، هو الرواية المسندة، التي ترد في كل منها بصورة واحدة، صورة متن الحديث يتقدمه الإسناد. ولكن الكتب المنتمية للميادين الثلاثة يختلف بعضها عن بعض، في نظام عرض المجموعة الكبيرة من الروايات التي تضمها؛ فمجموعات الحديث ترتبها حسب الموضوعات - كما في المصنفات التي منها الكتب الستة - أو حسب أسماء الصحابة الذين ترفع لهم الأحاديث - كما في كتب المسانید کمسند أحمد بن حنبل – أما كتب السيرة فتورد الروایات مرتبة على السنين، بحسب وقوع الحوادث التي تشير إليها الأحاديث، وأما كتب التفسير بالمأثور، فتوردها شرحا للآيات القرآنية التي تتصل بموضوعها. ومن الطبيعي أن لا تحتوي الكتب الممثلة لكل من الميادين الثلاثة مادة متحدة في كل منها؛ وإنما تختلف كثيرا في اختياراتها من تلك المادة الواسعة؛ باختلاف أشخاص مؤلفيها وميولهم الخاصة من ناحية، ومقياس النقد الذي يصطنعونه للتحقق من صحة الروايات من ناحية أخرى (1).

وهكذا تتكسر نظرية «Lammens» حول السيرة بمجرد ملاقاتها الواقع النقدي للمختصين والباحثين.

ص: 221


1- المغازي الأولى ومؤلفوها، 1.

(2)الصفات الجسمانية.. خيال الرواية وتوظيف الخطاب

تصيد «Lammens »كثيرا من الإشارات المعنوية أو المجازية، أو المفسرة ماديا، أو اعتمادا على ظاهر القول، من قبل المدرسة الروائية والتدوينية السلطوية؛ التي احتاجت لإكمال حبك وتبرير تفسيراتها تلك، بأن تختلق لها أحاديثا نبوية أو روایات الأحداث من الحياة اليومية أو الأسرية للنبي صلی الله علیه و آله أو بالعكس. أي: إن تلك المرويات - المفتعلة لخدمة توجه أو فئة معينة - احتاجت لتبرير أقوى من كونها مجرد رواية لحدث معين، قد يسهل الطعن بها أو تكذيبها، على أساس أنها وظفت لإظهار منقبة، أو بيان فضل، أو إثبات مدعی؛ فأريد لها أن تسند بنص قرآني أو حديث نبوي؛ لاكتساب المناعة والتصديق والسريان، سيما إن كانت من نوع الفضائل الشخصية.

هذه هي حقيقة النصوص التي تصيدها «Lammens» في هذه الجزئية، وهي ليست بخفية عليه؛ إلا أنه أثبتها كما هي، ووظفها بعلاتها؛ ليصل من ورائها لما يبتغيه من تشويه وتشكيك، وتقويض للصورة المثال السيد المرسلين، تاركا - وكأنه لایری - عشرات من النصوص التي اتفق عموم المسلمين على القطع بصحتها، وعدم تطرق الشك إليها ولو بمقدار !؟ نعني النصوص القرآنية التي تتحدث عن صفة النبي صلی الله علیه و آله وخلقته، وطبيعته البشرية التي تناقض ما تصوره الروايات التي تصيدها. فضلا عن مئات النصوص الحديثية والسيرية والتاريخية التي تؤدي هي الأخرى لهذا المعنى، ولكن آلية اعتماد الضعيف والشاذ والموضوع، والانتقاء التي انتهجها إنها كانت تبحث عن هذه النصوص بعينها.

ولذا نجده يتجاوز ذلك الكم الهائل المتراكم ويقول: يشكل الوجود المسبق الروح محمد رکنا مهما من أركان السنة، ومعتقدا تقره السيرة، ولكنه ذو أصل أفلاطوني

ص: 222

وغنوتسي(1). إن هذان الأخيران تبنيا أيضا هذه الفكرة في بعض النصوص التي أسيء فهمها، حيث يخاطب الله المؤمنين: «إنا أرسلنا إليكم نورا». هذا الموضوع طور فيما بعد وطبق على النبي بوصفه كائنا حيا، وهكذا كان جسده يشع نورا لدرجة أنه يرى وسط الظلمات الدامسة. ذات ليلة، سمح هذا النور لعائشة أن تعثر على دبوس ضائع. إن جسد محمد صلی الله علیه و آله ليس له ظل؛ تألقه يجعل ضیاء القناديل يتضاءل أمامه. ولكونه مصدر ضیاء قوي، وكان بمقدوره أن يرى من ظهره في الليل كما في النهار. الأكثر من ذلك، أنه كان يمتلك عينا مادية حقيقية وسط ظهره أو بين الكتفين - لا أحد يعرف أين تقع بالضبط - ملابسه لا تمنعها من الرؤية. هذا المثال يسمح لنا بتقييم ثراء وأساليب، والمنطق الخاص للسنة المتمسكة بلغة تفسر بشكل منحرف(2).

فأما الوجود المسبق لروح النبي صلی الله علیه و آله ، فهو مالم يحصره القرآن والسنة بشخصه؛ فهو مما يشترك فيه جميع البشر، إذ دلت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، على وجود عالم ملکوتي «عالم الذر» كان قد سبق العالم المادي المحسوس.

قال تعالى:«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِن بَنِی آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَی أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ ۖ قَالُوا بَلَی ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّا کُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِینَ»(3)وفي آية أخرى «کَیْفَ تَکْفُرُونَ بِاللَّهِ وَکُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْیَاکُمْ ۖ ثُمَّ یُمِیتُکُمْ ثُمَّ یُحْیِیکُمْ ثُمَّ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ»(4).

ص: 223


1- هي فكرة استوحاها من بحوث (Goldziher = جولد تسيهر). ينظر كتابه العقيدة والشريعة، 19. وغنوص تعني: معرفة أشياء دينية تسمو على مستوى عامة المؤمنين، أو مستوى العقيدة الرسمية، ثم تحول مدلولها إلى المعتقدات السرية والخفية والملحدة أحيانا. والغنوصية: مذهب تلفيقي يجمع بين الفلسفة والدين، ويمزج بين الأفكار الإفلاطونية وبعض التعاليم الشرقية كالمزدكية والمانوية. المعجم الفلسفي، 133.
2- Qoran et Tradition. , pp, 8-9
3- الأعراف / 171.
4- البقرة / 27.

هذا فضلا عن أن «الإنجيل» هو الآخر قد أقر بالوجود المسبق لعيسی عليه السلام فقد جاء في «إنجيل يوحنا» في محاورة بين «يسوع واليهود» عندما دعاهم للإيمان به فرفض بعضهم وآمن بعضهم الآخر؛ فقال لمن آمن به:

«إن أنتم ثبتم في قولي فأنتم تلاميذي حقا وتعرفون الحق والحق يصير كم أحرارا. قالوا له: نحن ذرية إبراهيم ولم يستعبدنا أحد قط فكيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارا. أجاب يسوع، وقال لهم: الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد الخطية.. قد علمت أنكم ذرية إبراهيم، ولكنكم تطلبون قتلي؛ لأن كلامي ليس ثابتا فیکم.. أجابوا وقالوا له: إن أبانا هو إبراهيم. فرد يسوع: الحق الحق أقول لكم إن من يحفظ قولي لا يرى الموت إلى الأبد. فقال له اليهود: الآن علمنا أن بك جنونا. قد مات إبراهيم والأنبياء وأنت تقول: إن من يحفظ قولي لا يذوق الموت إلى الأبد. فلعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات ومن الأنبياء الذين ماتوا. من تجعل نفسك؟ أجاب يسوع، وقال: إن كنت أنا أمجد نفسي فليس مجدي شيئا. إبراهيم أبو كم اشتهي أن يرى يومي فرأي وفرح. فقال له اليهود: لم يأت لك بعد خمسون سنة وقد رأيت إبراهيم. قال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم إنني قبل أن يكون

إبراهيم»(1).

بهذا يتضح أن الوجود السابق للأرواح قد ثبت في المسيحية والإسلام، يبقى أننا نقول: إن الأسبق في هذا الوجود کان وجود روح نبينا الأكرم صلی الله علیه و آله ونوره ويبقى ل-«Lammens» أن يدعي أن المسلمين فقط هم من يقولون بذلك، وله أن ينكر ولايعتقد به، فهذه الأمور لا يمكن إثباتها تاريخيا. أما الروايات التي تصف جسد

ص: 224


1- 8/ 31- 58. وتقع هذه الفقرات في طبعة عام (1864م) للأناجيل في الصفحات، 123 - 124. كما تحدث عن كون عیسی عليه السلام نورا للعالم ومن لا يتبعه يعش في الظلام، 109، 122. وباختلاف بسيط في الالفاظ في الطبعة الثالثة في دار المشرق الكاثوليكية ببيروت (1994م)، 316- 318

النبي صلی الله علیه و آله بأنه مصدر ضیاء مادي، ويشع في الظلمة، ومن خلاله عثرت عائشة على إبرة كانت أضاعتها في إحدى الليالي، فهي لم تكن تريد محاكاة أو السير عل منوال قوله « الاش قد با گم ره ټن ربكم وأزلنا إليكم ورا بيتا»(1) لإيجاد فضيلة الشخصه كما تظنن «Lammens» بقدر ما كانت تبحث عن إيجاد فضيلة ومنقبة للشخوص الذين أدعي حصول هذه الكرامة لهم؛ فقد روي أن عائشة قالت: «استعرت إبرة كنت أخيط بها ثوب رسول الله، فسقطت عني الإبرة، فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله؛ فتبينت الإبرة لشعاع نور وجهه؛ فضحكت؛ فقال: يا حميراء! مم ضحكت؟ قلت: كان كيت وكيت، فنادى بأعلى صوته: يا عائشة! الويل ثم الويل - ثلاثا - لمن حرم النظر إلى هذا الوجه»(2).

وعلى منوال هذه النوايا التبريرية، الباحثة عن خلق الفضائل واصطناعها البعض شخوص السيرة ، يندرج ما روي من أن أسيد بن حضير(3) وعباد ابن بشر(4): كانا عند النبي في ليلة ظلماء حندس - شديدة الظلمة - فلما خرجا من عنده أضاءت عصا أحدهما فكانا يمشيان بضوئها فلما تفرقا أضاءت عصا هذا

ص: 225


1- النساء / 147.
2- الأصبهاني: دلائل النبوة، 3/ 962؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 310. وزاد فيه قول النبي صلی الله علیه و آله: ما من مؤمن ولا کافر إلا ويشتهي أن ينظر إلى وجهي، ورواه عنه: المتقي الهندي: کنز العمال، 11 / 453. دون الإشارة للحادثة المرتبطة به، ثم رواه کاملا، 12 / 29.
3- بن سماك الأنصاري الأوسي. أسلم بعد العقبة الأولى وقيل الثانية. اختلف في مشاركته بدر. كان له أثر كبير في بيعة أبي بكر في السقيفة؛ لذلك كان يكرمه ولا يقدم عليه أحدا. مات سنة (21ه-). خليفة بن خياط: تاریخ خليفة، 106؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 92.
4- بن وقش الأنصاري الأوسي ثم الأشهلي يكنى أبا بشر وقيل أبو الربيع أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير. شارك في المعارك كلها مع النبي (ص) توفي في معركة اليمامة سنة (11ه-). ابن الأثير: أسد الغابة، 99/3 - 100؛ خليفة بن خياط: تاریخ، 74.

وعصا هذا(1)

وكان من الكرامات التي حاكها «أسيد بن خضير» لنفسه أو حيكت له أنه قال: قرأت ليلة سورة البقرة، وفرس لي مربوط، ويحيى ابني مضطجع قريب مني وهو غلام، فجالت الفرس، فقمت وليس لي هم إلا ابني، ثم قرأت، فجالت الفرس، فقمت وليس لي هم إلا ابني، ثم قرأت، فجالت الفرس، فرفعت رأسي، فإذا شيء کهيئة الظلة في مثل المصابيح مقبل من السماء فهالني، فسكت، فلما أصبحت غدوت على رسول الله فأخبرته فقال: تلك الملائكة دنوا لصوتك ولو قرأت حتى تصبح

الأصبح الناس ينظرون إليهم(2).

من المستبعد جدا عدم وقوف «Lammens» على هذه النية التبريرية، والغاية المتوخاة لوضع هكذا روایات وأحاديث، إلا أنه فضل أن يعدها حقائق مقتنع بها من قبل المسلمين جميعا، وأن رواتها و مؤرخيها كانوا يعون واقعیتها بتصور واضح و تام؛ ليجوز من خلالها لتقويض صورة النبي المثال. ولم تقف وسائله عند هذا الحد؛ إذ عمل على تركيب الألفاظ الواردة في الروايات ومزجها ليصل لما يريد قوله!؛ فقال: «إن المسلمين أحصوا عدد الشعرات البيضاء الموجودة على صدغي النبي، فوجدوا أنها تقرب من عشرين شعرة»(3). وهناك ثمان روایات وردت في هذا الباب وهي:

ص: 226


1- احمد بن حنبل، مسند، 3/ 190، 191؛ النسائي: السنن الکبری 68/5 ؛ فضائل الصحابة، 42؛ ابن حبان: صحيح ابن حبان، 5/ 378؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك 3/ 288؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 9/ 87؛ ابن الأثير: أسد الغابة،101/3؛ المزي: تهذيب الكمال، 3/ 251؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 6/ 31؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 95؛ تغلیق التعليق، 4/ 79؛ العيني: عمدة القاري، 27/16
2- البخاري: صحيح، 6 / 106؛ النسائي: السنن الکبری، 13/5 ؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 9/ 91؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 92، 93.
3- Qoran et Tradition. P, 19.

- عن أنس بن مالك أنه سئل: هل خضب رسول الله ؟ قال : يبلغ ذلك. إنما كان شيبا في صدغيه.

- وعنه قال : ما عددت في رأس رسول الله ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء .

- وعن جابر بن سمرة(1) وقد سئل عن شيب النبي فقال: كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيب، وإذا لم يدهن رئي منه شئ.

- عن عبد الله بن عمر قال: إنها كان شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة بيضاء.

- قال أبو بكر: یا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس کورت.

- عن أبي جحيفة (2)قال: يا رسول الله نراك قد شبت. قال: قد شيبتني هود وأخواتها.

- عن أبي رمثة(3) قال: أتيت النبي وعليه ثوبان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر.

- قيل لجابر بن سمرة: أكان في رأس رسول الله شیب؟ قال: شعرات في مفرق رأسه إذا دهن واراهن الدهن (4)

ص: 227


1- ابو عبد الله بن جنادة السوائي، من حلفاء بني زهرة، نزل الكوفة وتوفي بها في عهد عبد الملك بن مروان. ابن سعد، الطبقات، 205/6 - 206.
2- اسمه وهب بن عبد الله. توفي النبي صلی الله علیه و آله وهو ولم يبلغ الحلم،. توفي بالكوفة خلال (72 - 75ه-). ابن سعد: الطبقات، 6 / 63 - 64.
3- وقع في اسمه اختلاف كبير، فقيل رفاعة بن يثربي، وقيل حبيب بن حيان، وقيل الخشخاش العنبري. ابن حبان: الثقات، 3/ 82؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 310؛ ابن ماکولا: إكمال الكمال، 1/ 522.
4- تنظر هذه الروايات عند: الترمذي: الشمائل المحمدية، 35 - 37.

من الواضح أنه يمكن الجمع بين الروايات المتقدمة، فإذا خضب الرأس بالحناء أو غيرها، يصبح لون الشعر أسودا، ويختفي ما به من شيب وبعد مدة قليلة، تفقد هذه الحناء أو الصبغة فاعليتها بداية من منطقة الصدغين؛ باعتبارها معرضة للماء على الدوام، أكثر من باقي مناطق الرأس، فتظهر الشعرات البيضاء شيئا فشيئا، كما أنها تفتقد اللون الأسود تدريجيا، فتمر بمرحلة يصبح فيها الشعر أحمرا، أو أن صبغة الحناء من الأساس هي ذات لون أحمر داكن، فتنتج اللون الأحمر مع مرور الوقت، كما أن الشعر إذا دهن اصطف بعضه إلى بعض، فغلب اللون الأسود على اللون الأبيض أو الأحمر، وإذا لم يدهن تفرق الشعر، فيبين الشعر الأبيض من الأسود. لكن «Lammens» عمل توليفته الخاصة من هذه الروايات، فأخذ من الرواية الأولى (كان شيب في صدغيه) وأخذ من الرواية الرابعة (كان شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة بيضاء) ودمج بينهما؛ لما تنتجه صورة أن يكون الرجل ذا شعر أسود، وله شیب قليل في صدغيه من شكل جمالي، حاولت السيرة النبوية - حسب ادعائه - نسجه للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله. ومن ثم عضد هذه التوليفة بالقول: ما هي قيمة هذه الكتابات الموجهة لشريحة كبيرة بين المسلمين؟ هذه الحقيقة تثير لدينا الريبة. في العصر المسيحي القديم، وجد لمسيحيون أنفسهم منقسمين بشأن الجمال الجسدي للمسيح. تجهل الشائل هذه الحيرة والتردد، توجههم العام أن يقدموا لنا محمد «كأجمل الرجال» الصورة المثالية للكمال البشري(1). لتوليد هذه القناعة، تصرف مؤلفو الشمائل بالطريقة الآتية: بدءوا البحث في نتاجات الشعراء العرب القدماء؛ من أجل وضع مواصفات وقواعد الجمال لدى الرجال، مثلما تخيلها على الأقل شعراء شبه الجزيرة العربية القدماء. الثغرات المتبقية تم ملؤها من خلال الرجوع إلى النتاجات الوصفية الكثيرة المكرسة لجمال المرأة والتي وردت في قصائد الشعراء. بعد ذلك، طبقت نتائج هذا البحث على الملامح

ص: 228


1- أحال في الهامش لقوله تعالى : «وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ» . القلم / 4.

الشخصية للنبي. من الواضح أن مؤلف هذا الكتاب (الشمائل الترمذي) استلهم كتاباته من الشعراء، رغم جهوده لإخفاء منشأ هذه الاستعارات. على غرار الفلاسفة العرب القدماء، اكتفى في نهاية كل حدیث بالاستشهاد بأبيات شعرية كشواهد، عندما استخدمها كنقطة انطلاق، طبق هو وزملاؤه نفس الأسلوب على آيات القرآن. عندما نراه يبدأ بوضع أسس فرضية. أي الكمال الأخلاقي والجسدي لمحمد، ثم يؤكد كل ذلك باستشهاد بنص مقدس. في هذه البرهنة، ينبغي أن لا ننسى أن القرآن يشكل الحجة الرئيسة. تقول عائشة: أخلاق النبي؟ ولكنها موجودة في القرآن. يبدأ كتاب السنة بالتماس ذكريات من بقي من العصر البطولي، بل بفتح كتاب الله لكي يكتشفوا فيه ما كانوا يريدون رؤيته، حتى إذا تطلب الأمر جعل أفكارهم المسبقة تتوافق مع المعلومات الصحيحة تقريبا، أو حتى ابتكارها. إن الاستشهاد بأقوال كبار الدجالين: عائشة، ابن عباس، أبو هريرة، في كتاب الشمائل يعزز هذا الاستنتاج بما أنه وصف ب- «السراج المنير / النور» كان لابد من أن تكون لمحمد صفات تنسجم مع هذا الوصف: كان وجهه أبيض يلمع «كالمرآة»، كان فخذاه شفافين. زعم أنه «خاتم الأنبياء»(1) وهذا المصطلح، فتح الباب أمام مغالاة حقيقية في التفسير، وروايات کيفية. من المحتمل أن واضع القرآن، أراد أن يجعل نفسه الأخير في تسلسل الأنبياء، وربما آخر حلقة في سلسلة تجليات الوحي فوق الطبيعية. تم تبني هذا المعنى، وفوق بشرة محمد، زعم أنه شوهد مکان خاتم نبوي، دون أن يكون هناك إجماع على طبيعته: كيس دهني، نتوء الحمي، خصلة شعر؟، ولا حتى على مكانه بشكل دقيق: بين الكتفين، على الظهر؟ لم يشكك أحد من كتاب السنة في هذه الحقيقة الجسدية المتمثلة بهذا الوسم الرائع (2).

ص: 229


1- إشارة لقوله تعالى: «مَّا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِکُمْ وَلَکِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ ۗ وَکَانَ اللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمًا» الأحزاب / 40.
2- Qoran et Tradition. Pp, 19-21

أولا - قوله تعالى تعالى «وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ» لا يشير إلى الجمال المادي بقدر ما تشير للأخلاق الكريمة الكاملة؛ والجمال المعنوي؛ ولعل هذا واضح في جواب عائشة المتقدم. فالنبي صلی الله علیه و آله كان مصداقا، وشاهدا حيا وحاضرا، لكل الأخلاق الحميدة التي تضمنها القرآن؛ ولذا من الطبيعي أن يحاول المسلمون استنباط صفته وخلقه من خلال القرآن. وهو يدعو المسلمين جميعا لأن يتخلقوا بأخلاقه. أي المضامين الخلقية التي يتضمنها القرآن الكريم.

ثانيا - أما ما ادعاه من أخذ هذه الأوصاف و تجميعها من نتاجات الشعراء، فهو ممالم يقم عليه ولا حتى دليل واحد! فكلامه مجرد تخمينات لا أكثر! ثم إن «الترمذي» قد صحح بعض الروايات وضعف أخرى! فما المقياس بذلك إن كانت هذه الأوصاف مستندة لنتاجات شعرية؟ هذا فضلا عن كونها صادرة عن أشخاص معاصرين، ولم يتخيلها المؤلفون تخيلا. نعم ربما كان بعضها غير دقيق أو غير صحيح، لأن بعضهم أراد لنفسه! أو أريد له! الانخراط في زمرة الذين تشرفوا بروؤية النبي صلی الله علیه و آله والمحدثين أو الرواة.

ثالثا - القرآن الكريم يصف الأنبياء بأنهم بشر كسائر الناس، لا يختلفون عنهم في خلقتهم المادية. قال تعالى في سورة إبراهيم«قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِیدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا کَانَ یَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِینٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُکُمْ وَلَکِنَّ اللَّهَ یَمُنُّ عَلَی مَن یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا کَانَ لَنَا أَن نَّأْتِیَکُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَی اللَّهِ فَلْیَتَوَکَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)» وفي سورة الإسراء «أَوْ یَکُونَ لَکَ بَیْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَی فِی السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِیِّکَ حَتَّی تُنَزِّلَ عَلَیْنَا کِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّی هَلْ کُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن یُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَی إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا» وفي سورة المؤمنون «وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِینَ کَفَرُوا وَکَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُکُمْ یَأْکُلُ مِمَّا تَأْکُلُونَ مِنْهُ وَیَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)

وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا

ص: 230

مِّثْلَکُمْ إِنَّکُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (34)» ، وقال تعالى : «ذَلِکَ بِأَنَّهُ کَانَت تَّأْتِیهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَیِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ یَهْدُونَنَا فَکَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَی اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِیٌّ حَمِیدٌ » التغابن / 6.

رابعا . أما مسألة كون وجهه يلمع كالمرآة. وأن: فخذيه شفافين. فهو مما لم يرد في وصفه. وهو من اختلاق «Lammens» فيما ورد في ذلك أنه صلی الله علیه و آله: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. له نور يعلوه، مسح القدمين ينبو عنهما الماء، أبيض كأنما صيغ من فضة. أفلج الثنيتين، إذا تكلم رئي کالنور يخرج من بين ثناياه(1).

فتلاعب «Lammens» بهذه الأوصاف واستلب مدالیلها وقدمها للغربيين الذين لا يعرفون مرونة اللغة العربية، وعمقها وأساليبها المجازية في التشبيه فقلب: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. إلى: يلمع كالمرآة، وبإمكان أي شخص أن ينظر لنفسه من خلال وجه النبي! وكذلك فعل مع: سائل الأطراف. أي ممتدها، ومع: مسح القدمين ينبو عنها الماء. أي أن قدميه ملساوان لينتان ليس فيهما تكسر ولا شقاق إذا صب عليهما الماء سال عنهما(2). فحول هذه الصفات وقلبها إلى: كان فخذاه شفافين. وكأنه يتحدث عن جسم شبحي أو هلامي؛ لما في هذا الوصف عند المتلقي الغربي من إيحاء بأن المسلمين يتحدثون عن نبي خرافي، هو أقرب للاسطورة منه إلى الحقيقة.

خامسا . أما مسألة أن النبي كان بمقدوره أن يرى من ظهره في الليل كما في النهار. وأنه كان يمتلك عينا مادية حقيقية وسط ظهره أو بين الكتفين - لا أحد يعرف أين تقع بالضبط - وأن ملابسه لا تمنعها من الرؤية! فهو مما نسجه على ما ورد في كتب الحديث من أنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وأنه أنب أحد المصلين خلفه،

ص: 231


1- الترمذي: الشمائل، 19 - 25.
2- ابن الأثير: غريب الحديث، 2/ 434، 4/ 327؛ ابن منظور، لسان العرب، 2/ 594؛ الزبيدي: تاج العروس، 4/ 208.

وقد رآه لا يحسن صلاته: يا فلان! ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ؟!؛ فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي کما أبصر من بين يدي (1)؛ إذ لا يوجد في الموروث الإسلامي بكل حقوله من يدعي أن النبي كان يمتلك عينا في ظهره أو مؤخرة رأسه، إنما هذا من تقولات «Lammens» المخجلة.

ثم إن خصوص الحالة بالصلاة - على فرض صحة الرواية - هو مما يشير أن المسألة لا تعدو كون حقيقة ذلك الإبصار إنما يتحقق بالنظر بطرف العين إلى الخلف. وأما إذا ذهبنا للتعميم، فهذه الكرامة بسيطة جدا قياسا بها منح للأنبياء السابقين؛ إذ كان عيسی عليه السلام يحيي الموتى، ويبرء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، ومن قبله موسی عليه السلام كان يحيل عصاه ثعبانا بإذن الله، ومن قبلهما سلیمان عليه السلام كان يكلم الطير والحيوانات، وتأتمر الريح والجن بأمره، وهكذا هي معاجز الأنبياء. لا تحتاج لتحققها لعلة التحرك أو وسيلة الإيقاع، فما الحاجة لعين مادية باصرة في ظهره أو بين كتفيه. إن بعضا من يمارسون أنواعا من الرياضات الروحية والطقوس التعبدية أو السحرية ليستطيعون إبصار بعض الأمور التي لا يستطيع غيرهم إبصارها، أتراهم يتمكنون من ذلك بعين ثالثة أم رابعة أم عاشرة. أم يدركون أمورا أخرى بحاسة سادسة أم سابعة؟

ص: 232


1- الأصبهاني: دلائل النبوة، 2/ 623 - 625؛ ابن حبان: صحيح،25/14 ؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 2/ 330 ،329

(3)تسمية النبي.. المغالطة والقصد

ردد «Lammens» کما ومستشرقون كثر أن النبي صلی الله علیه و آله سمي في بداية حياته قثما ، ثم غير اسمه فيما بعد لمحمد. ولكنه لا يكتفي بالإلماح لهذه الالتقاطة على أنها رصد تاريخي وحسب؛ إنما يبحث عن تأویلات تسبغ على هذه الالتقاطة ما يزيحها لدائرة القصدية الدقيقة، ليرتب عليها نتائج تندرج ضمن متوخيات الخطاب التقويضي فقال: «كان محمد قد سمي عند ولادته قثم. ولكن كتاب الله منحه اسم أحمد أو محمد، ليس بدون نية تبريرية [قال في الهامش] مقارنة مع روح القدس التي أعلنها المسيح. ومن ثم لم تشأ السيرة أن تعرف له اسما غيره»(1).

كان عماد الفرضية التي يدعيها «Lammens» هو الاستناد للرواية التي تقول: لما مات قثم بن عبد المطلب قبل مولد النبي بثلاث سنين وهو ابن تسع سنين وجد عليه عبد المطلب وجدا شديدا، فلما ولد النبي ساه قثيا، حتى أخبرته أمه آمنة: أنها أمرت في منامها أن تسمیه محمدا فسماه محمد(2). وما يروى من أنه قال: «أتاني ملك، فقال: أنت قشم، وخلقك قيم»(3). وعلى هذا الأساس عد المؤرخون (قثم أو أبو قثم) ضمن أسمائه وكناه؛ لأن قثم بن عبد المطلب مشكوك في وجوده أصلا؛ إذ لم يعده بعض المؤرخين في ضمن أولاد عبد المطلب ، وأشار بعضهم الآخر لوجود اختلاف في عدد أولاد عبد المطلب(4) وبضمنهم قثم. قال ابن عبد البر: اختلف في أعيام رسول الله ؛

ص: 233


1- Qoran et Tradition. p,9
2- الحلبي: السيرة الحلبية، 131/1 .
3- ابن الأثير: غريب الحديث، 16/4 ؛ الصالحي الشامي: سبل الهدی،244/1 ، 497
4- ابن هشام: السيرة النبوية، 1 / 71؛ ابن قتيبة: المعارف، 118؛ ابن حبان: الثقات، 1/ 32 - 35؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 1/ 62.

فقيل: عشرة، وقيل: اثنا عشر. ومن جعلهم إثني عشر جعل عبد الله أباه، الثالث عشر من بني عبد المطلب. وقال هم: أبو طالب والحارث والزبير، وعبد الكعبة، وحمزة، والعباس والمقوم، وحجل واسمه المغيرة، وضرار، وقثم، وأبو لهب والغيداق. فهؤلاء إثنا عشر رجلا. ومن جعلهم عشرة أسقط عبد الكعبة، وقال هو المقوم، وجعل الغيداق وحجلا رجلا واحدا. ومن جعلهم تسعة أسقط قثم(1). ولعل هذا ناشئ من الخلط بين الألقاب والأسماء، ومع ذلك فإن:

1/ قثم أو القثم معناه الجامع للخير أو للفضائل، أو الكامل الخلق، أو الكريم المعطاء (2)

2/ الرواية الأولى تقول: إن عبد المطلب، عدل عن هذا الاسم بمجرد إخبار آمنة له، أنها أمرت أن تسمیه محمدا، ولعل هذا - إن صح - كان في اليوم الأول الولادته؛ فالمولود يسمى حين ولادته، إن لم يكن سمي قبل ذلك، وعلى هذا الأساس تسقط تسمية قثم، فلم يرد أنه نودي بها أو أن عبد المطلب أصر عليها.

3/ في الرواية الثانية التسمية جاءت من قبل ملك. أي بعد نزول الوحي، وبعدما عرف عن النبي أنه يتصف بها يؤدي إليه هذا اللفظ وهو في هذا لم يختلف عما عرف به من أسماء وألقاب أخرى، جرت العادة عند كتاب السير والشمائل على عدها ضمن هذا الباب. قال المقريزي: باب أسماؤه وكناه وألقابه: هو سيد ولد آدم، أبو القاسم، وأبو إبراهيم، وأبو قثم، وأبو الأرامل، محمد رسول الله، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم(3). وواضح أن

ص: 234


1- الاستیعاب، 370/1 ، 371؛ وينظر : ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 369؛ الصالحي الشامي: سبل الهدی، 11 / 82 - 85.
2- ابن منظور، لسان العرب، 12/ 462؛ وينظر : ابن الأثير: غريب الحديث، 4 / 16.
3- إمتاع الأسماع 5/1

قثما من الأسماء الوصفية : فكل صفة أسم وليس كل أسم صفة(1). وكان لقبه الصادق الأمين كما هو متعارف لا قثم.

4/ ومما يثبت تهافت نظرية «Lammens» أنه كان عرف بأكثر من اسم في القرآن، ومنها: طه، يس، أحمد، محمد. وإذا كان الأمر كما يدعي، ومع امتلاكه هذا الحزين من الأسماء، كان على السنة، ومن باب الأولى أن تتبنى تسمية أحمد لا محمد ليطابق المصداق اللفظي لبشارة عيسى عليه السلام بحسب القرآن «وَإِذْ قَالَ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْکُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ یَأْتِی مِن بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَیِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِینٌ» (2).

5/ يبدو أن تركيز «Lammens» وغيره من المستشرقين على تسمية (قثم) كان يتوخى إلغاء تبشير الإنجيل بشخصه أو التشكيك به فعلى أساس أنه قثم يبتعد التصريح الإنجيلي المندرج تحت اللفظ اليوناني «Periqlyte أو Periclytos = بر قلیط / بريقليطوس» بمعنى «أحمد أو أكثر حمدا وشهرة» والتي عرفها المسيحيون إلى «Paracle أو = Paraclteos بار قلیط / بارقليطوس» وقالوا: أنها تعني المعزي أو الشفيع وهو روح القدس (3). وقد قال يوحنا: «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقلیط آخر ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يروه، ولم يعرفوه، وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم. لست أدعكم يتامی. من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلا، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي. الكلمة التي تسمعونها ليست لي بل للأب الذي أرسلني. والفارقلیط روح القدس الذي يرسله أبي بإسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذکر کم

ص: 235


1- أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية 314 - 315.
2- الصف / 6.
3- سلامة غنمي: محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، 269، 272 - 278.

كل ما قلته لكم. لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقلیط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على الخطيئة وعلى البر، وعلى الحكم»(1).

وقد نص القس والبرفسور وأستاذ اللاهوت المهتدي للإسلام «عبد الأحد داود» أن التفسير الحرفي لكلمة (Periqlytos) كما في قاموس ألكسندر اليوناني الفرنسي Qu'on peut entendre de tous : یقول (Alexqnder, dicti onaaire Grec Francais) les Cotes' qu'il est facile a entendre. Tres célèbre, pregleitos = tres célèbre, illustre, glorieux: = preiqleys, tres célèbre, illustre, glorieux, = from

Kleitos, gloire renomee, celebrite . هو اسم مركب ذو مقطعين الأول: (peri) والثاني (Kleitos) مشتق من التمجيد أو الثناء ويكتب (Periqleitos) أو (Periclytos). مما يعني تماما اسم أحمد باللغة العربية أي أكثر ثناء وحمدا؛ فالمدلول الحرفي للاسم اليوناني يعادل بدقة كلمتي أحمد ومحمد (2). کما صرحت طبعة الآباء اليسوعيين للكتاب المقدس عام (1969م) بأن كلمة (بریکلیتوس) تعني أحمد(3). أضف لذلك أن (القمص سرجيوس) ورغم محاولاته الحثيثة في تفنيد كل النبوءات الواردة في التوراة والإنجيل، بشأن النبي قال علنا: نعم إن هناك في اليونانية كلمة.. ونطقها بالعربي بیرکلیتس وترجمتها إلى العربية المحمود أو المشهور، أما الكلمة التي وردت في إنجيل يوحنا. فهجاؤها اليوناني.. ونطقها بالعربي باراکلیتس وترجمتها إلى العربية المعزي وهي تختلف في الحروف والنطق(4) .

ص: 236


1- الفقرات / 14، 15، 16.
2- محمد کما ورد في كتب اليهود والنصاری، 197؛ سلامة غنمي: محمد والأنبياء، 282 - 283.
3- طلبة: هشام محمد، محمد (ص) في الترجوم والتلمود والتوراة، 194.
4- هل تنبأت التوراة أو الإنجيل عن محمد، 11.

والمسلمون يقرون بالفرق بين الكلمتين، ولكن من الأكيد والثابت أن يد التحريف اليهودية والمسيحية، قد امتدت للتوراة والإنجيل فحرفتهما بشكل كبير جدا، وكان من ذلك تحريف هذه الكلمة. على أن هذا الاستدلال أو الاحتجاج، ليس بجديد البتة؛ فقد احتج به الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام على اليهود والنصارى في مناظرته المشهورة (1).

كما أن كلمة «Eudokia = يودوكيا» اللاتينية الواردة في إنجيل لوقا. ماهي إلا: محمد / أحمد. وتعني أيضا: الشيء الذي يتاق إليه، والمتطلع إليه، واللطيف، والبهيج النفس، والمحبوب، والمحترم، والمستحق للثناء(2). ولا تكاد تخلو نبوءة مسيحانية في العهد القديم من ذكر الحمد أو الصحراء أو كلاهما؛ مما يعطي إشارات للنبي وصحراء الحجاز. وهي تؤدي إلى معنى «البرقليط = أحمد / محمد». كما أن أصل كلمة «مشتهى» العبري هو: حمدا Himada. وهي تعني أحمد، أي سوف يأتي (حمدا / أحمد) لكل الأمم، وقد أثبتت هذه اللفظة في نسخة القديس (جيروم) للكتاب المقدس (3). وكذلك عبارة «ابن الإنسان» الواردة في الأناجيل المسيحية هي أكثر انطباقا على النبي صلی الله علیه و آله من أي شخص آخر(4).

ص: 237


1- الصدوق: عيون أخبار الرضا، 139 - 150.
2- عبد الأحد داود: محمد كما ورد في كتب اليهود والنصاری، 137، 144 - 148.
3- طلبة: محمد، 189 - 194.
4- عبد الاحد داود: محمد کما ورد في كتب اليهود والنصاری، 205 - 226.

(4) عمر النبي.. تأكيد النص وفرضية الخطاب

أطال «Lammens» الحديث في هذه المسألة؛ إذ تناولها في بحثه « Qoran et

Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة: كيف ألفت حياة محمد». ومن ثم عالجها مرة أخرى بعد عام واحد فقط أي عام (1911م) في بحث مستقل ضمن الجريدة الآسيوية «Journal Asiatique المجلد 17» تحت عنوان «

L'age de Mahomet et la Chronologie de la Sira = عمر محمد والتسلسل التاريخي للسيرة. بواقع 41 صفحة على أنه لم يأت بشيء جديد في الموضوع، باستثناء إضافات بسيطة كان أدخلها على مناقشة «Noldeke = نولدکه» لهذا الموضوع(1).

وكان عرضه للموضوع على النحو التالي: إليكم الطريقة التي تصرفت بها السنة لصياغة رأي حول عمر النبي، كانت على علم كاف بالمدة التي قضاها في المدينة : حوالي (10 سنوات). في واحدة من فقرات القرآن(2) يخاطب محمد مشركي مكة «لبثت فيكم عمرا من قبل». قرر کاتبو السيرة بما يخدم مصلحة حسابهم: أن مفردة من قبل تعني الفترة التي سبقت الوحي، وإن مصطلح عمرا يعادل بالضبط (40 سنة)، يصبح المجموع (50 سنة) بعد إضافة السنوات العشر التي قضاها في المدينة (40 سنة) رقم مقدس! من أجل تبنيه بشكل نهائي، استذكر المختصون بالأحداث التاريخية بعض الآيات التي حدد فيها القرآن (40 سنة) تقريبا كفترة للتطور الكامل للأفكار الدينية. بقي تحديد مدة الإقامة في مكة بعد نزول الوحي، من أجل النجاح في ذلك اقتطفت

ص: 238


1- تاریخ القرآن، 61 - 64.
2- يعني قوله تعالى:«قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَیْکُمْ وَلَا أَدْرَاکُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِیکُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»يونس / 16.

السيرة بيتا من قصيدة مختلفة لشاعر مثير للجدل صرمة أبو قيس(1) .

ثوى في قريش بضع عشرة حجة *** يذکر لو يلقى صديقا مواسيا

إن هذا التعبير الغامض بضع عشر سنين، هو نفس حسابات السيرة؛ يمكن أن يعني ( 13/10 ) بل وحتى (15 سنة) أي «10+40 +10 / 13 / 10» ومن هنا جاءت الأرقام «60/ 63 / 65 سنة» وهي أكثر الأرقام شيوعا لعمر محمد (2).

و قد کرر هذه التخمینات فی بحثه L'age de Mahomet et la Chronologie ) a

de la Sira = عمر محمد و التسلسل التاريخي للسيرة» فقال:

كان محمد نفسه يجهل عمره، ويبدو أنه لم يكن مهتما بذلك. لم يكن على معرفة بحساب السنين، مثلما كان العرب قبل الإسلام.. يحرصون دائما على الحفاظ على الأرقام المتناظرة، كما هو الحال بالنسبة لبدر : (70 قتيلا / 70 أسيرا)، وكذلك السبعين قرشيا الذين قتلوا في بدر يقابلهم (70 مسلما) سقطوا في أحد. الافتراض الأكثر شيوعا هو أن محمد ربما كان عمره (50 سنة) عند الهجرة. عندما تريد السنة تحديد هذا الرقم بدقة أكبر فإنها تتردد بين (53 / 55 سنة)، وهي أيضا غير متأكدة من عمر النبي المضبوط عند موته: (63 / 65 سنة). كان محمد يرفض دائما إعطاء أرقام، مثلما تجنب دائما ذكر أسماء علم.. من أجل ذلك تكون عبارات غامضة مثل «سنين /

ص: 239


1- بن أبي أنس بن مالك من بني النجار. يكنى أبا قیس؛ فغلبت عليه کنيته وربما سماه البعض صرمة بن مالك فنسبه إلى جده. كان رجلا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، وقال أعبد رب إبراهيم. فلم يزل بذلك حتى قدم النبي صلی الله علیه و آله المدينة فأسلم وهو شيخ كبير. ابن قتيبة: المعارف، 61؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 2/ 737؛ الاستذکار، 1/ 32 - 33؛ 8/ 328؛ التمهيد، 3/ 17. وينظر : ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 357؛ الطبري: تاریخ، 2/ 385 - 386
2- Qoran et Tradition. p, 10

بضع سنين» كافية لهذه العقول غير الدقيقة كثيرا. في الحقيقة إننا جمعنا علامات استفهام، كما بينا الطابع المصطنع، وغياب الحس النقدي للأساليب التي بينتها السيرة. كانت النتيجة سلبية: هل يمكن لهذه النتيجة أن تزعزع الثقة، وتدفع الباحثين للتفتيش عن حل باتجاه آخر؟ لا يمكن رفض كل شيء دفعة واحدة، لأن ذلك ربما يجعلنا نضحي بأجزاء صغيرة مهمة من الحقيقة التاريخية المبعثرة فيها. بدلا من هدم البناء الهائل الذي شيدته السنة، سنكتفي بتفکیکه حجرا تلو آخر؛ لكي نتفحص قيمة المواد التي استخدمت في بنائه. عمل ممل ولكن لا يمكن الاستغناء عنه. المواد الواجب تفحصها هائلة جدا. إن عملية التفحص هذه ما زالت في بداياتها الأمر الذي لا يسمح لنا بإعطاء جواب نهائي(1).

بداية لا بد أن نقرر عدم استطاعة (Noldeke = نولدکه) و «Lammens» أن يأتيا برأي حاسم مقنع حيال الموضوع، والارقام المتبناة، وكان دليلهما الأوحد هو ذلك البيت الشعري لصرمة بن قيس.

نعم زاد الأخير على الموضوع تلك الحسابات الرياضية والمقابلات، والنبرة الأكثر حدة وتشككا واتهاما بالافتعالية والاختلاق! وهنا يتضح الفرق جليا بين المناقشات الهادئة والموضوعية والعلمية إلى حيز ما لدى الأول، والهجومية المتعصبة المغرضة لدى الثاني. فبالمقارنة بين ما بدأ وختم به «Lammens» كلامه، وبدأ وختم به الأول مناقشته للموضوع؛ إذ قال: «المسلمون ينقلون الكثير من المعلومات عن فترات مختلفة من حياة محمد، لكن هذه المعلومات يختلف بعضها عن البعض الآخر، وكثيرا ما نلاحظ للأسف أن أصحابها لا يعترفون طوعا بجهلهم بعض الأمور، بل يتحزرون حولها متمسكين بمبادئ غير ثابتة، وليسمح لنا بأن نعرض مثالا واحدا على ذلك، [ثم بدأ يستعرض الروايات والآراء المنقولة حول عمر النبي وخلص للقول: ]كل المصادر

ص: 240


1- Journal Asiatique, XVII. 1911. pp, 209-250

تقریبا تجمع على أنه بعث نبيا وكان عمره أربعين سنة. ازاء هذه الأهمية التي يعيرها الشرقيون للرقم (40) لايمكن الرهان على صحة هذه المعلومة. أما أنه قضى في مكة أكثر من عشر سنوات نبيا، فهذا ما تطلعنا عليه كلمات قصيدة معاصرة [وذكر البيت المتقدم وقال] يمكننا أن نثق ببيت كهذا أكثر منه بعشرین رواية، ولا أجرؤ على الجزم في ما إذا كانت مدة مرحلته النبوية الأولى استمرت (13 / 15 سنة) لكننا سنبقي على الرقم المذكور أخيرا، وهو المتعارف عليه عموما»(1). وهكذا يتضح البون واسعا بين المناقشتين والطرحين؟!

وقد اعترف بهذه المفارقة «Lammens» نفسه فقال: «مختص بالشؤون السامية بوزن السيد «نولدکه» أعلن من جانبه التخلي عن سبر أغوار الغموض الذي يكتنف شخصية محمد. لتوضيح فكرنا بدقة مع علمنا بمخالفة هذا الأسلوب لما هو متعارف عليه نبدأ بذكر الاستنتاجات التي نريد أن يلتفت إليها مؤرخو النبي المستقبليون»(2)

ومن الواضح جدا أن كلام «Lammens» لا يعدو كونه مجرد تخمينات لا أكثر، بل إنه يعترف في نهاية دراسته، أنه لم يصل إلى نتيجة حاسمة في الموضوع. وغاية ما في الأمر أنه كان يريد أن ينقض مسألة البعثة بعمر الأربعين سنة؛ لأن العرب يعتقدون - حسب زعمه - بأن الرجال إنما يكتمل نموهم العقلي في سن الأربعين، وأن الأنبياء عادة ما يبعثون في هذه السن؛ فاختير هذا الرقم من قبل كتاب السيرة ليمنح للنبي حين تلقيه الوحي، وإلا فهو كان في عمر الثلاثين، وعلى هذا الأساس فهو ليس نبيا. وهذا الرأي بطبيعة الحال متهافت أشد التهافت، فالنبوة لا ترتبط ولا تحدد بعمر معين. قال تعالى في سورة مريم «فَأَشَارَتْ إِلَیْهِ ۖ قَالُوا کَیْفَ نُکَلِّمُ مَن کَانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا(29)

ص: 241


1- تاریخ القرأن، 61 - 64.
2- Qoran et Tradition. p, 5

قَالَ إِنِّی عَبْدُ اللَّهِ آتَانِیَ الْکِتَابَ وَجَعَلَنِی نَبِیًّا (30)»،«یَا یَحْیَی خُذِ الْکِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَیْنَاهُ الْحُکْمَ صَبِیًّا (12)»فهل يؤمن المسلمون بثقافتهم وأعرافهم، أم بكتابهم المقدس وأساس دينهم، ودستور حياتهم !؟ وهل يحتج عليهم في مسائل مرتبطة بدينهم بإرث يفترض أنهم غادروه، وشجبه القرآن!؟ أم بهذا الأخير؟! ثم بأي مقياس يكون اعتقاد بلوغ الأربعين راسخا وعلميا، ولا يكون التعبد بالنص الشرعي - الاعتقاد بنبوة الأنبياء وبضمنهم يحیی وعیسی - ملزما ومقنعا وكفيلا بمغادرة ضابطة السنين الأربعين ؟! فليس بالضرورة أن يبلغ النبي سنة معينة ليؤتى النبوة. هذا من جانب. ومن جانب آخر. المسلمون يؤمنون بتقدم النبوة على البعثة! غاية ما في الأمر أنه لم يؤمر في التبليغ وإلا فهذه كتب المسلمين تروي: إني عند الله لخاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته (1). ثم إن عبارة «بضع عشر» تحتمل الأعداد (3 - 9)؛ فبضع في العدد بكسر الباء: هو ما بين الثلاث إلى التسع. تقول: بضع سنين، وبضعة عشر رجلا، وبضع عشرة امرأة ؛ فإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع لا تقول بضع وعشرون(2). أي إن الرقم «3» لا يدخل في ضابطة (بضع)؛ لأن النيف: من واحد إلى ثلاثة. والبضع: من أربعة إلى تسعة. ولا يقال (نيف) إلا بعد عقد، نحو عشرة ونيف، ومائة ونيف، بخلاف البضع فإنه يستعمل مستقلا(3). وعليه فتحدید (60 / 63 سنة). لم يأتي بالاعتماد على لفظة «بضع سنين»؛ إذ لا يعبر عنها بالبضع وإنما بالنيف. يبقى الرقم (65) وهو المستبعد.

ص: 242


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 149/1؛ ابن حنبل: مسند 4/ 127؛ البخاري: التاريخ الصغير 1/ 39؛ عمرو بن أبي عاصم: کتاب السنة 139؛ ابن حبان: صحيح 4/ 313؛ الثقات 5/ 128؛ ابن ابي حاتم الرازي: تفسير ابن أبي حاتم 1 / 239؛ الطبراني: المعجم الكبير 18 / 252، 253؛ مسند الشاميين، 341/2 ؛ الطبري: مجمع البيان 1 / 774؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك 601/2 ؛ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق، 1/ 168؛ ابن كثير: السيرة النبوية 1 / 288؛ المقريزي: إمتاع الأسماع 3 / 170. وروي الحديث بألفاظ أخرى.
2- الجوهري: الصحاح، 3/ 1186.
3- أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية، 553.

فإجماع المسلمين على أنه بعث في الأربعين. ولبث في مكة (13 سنة) وفي المدينة (10 سنين) فتوفي عن (63 سنة) (1).

ص: 243


1- ابن سعد، الطبقات، 1/ 161؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 444 خليفة بن خياط: تاریخ خليفة، 28 أحمد بن حنبل، مسند، 1/ 236؛ ابن حبيب: المحبر، 10 - 12؛ البخاري: صحيح، 4/ 163؛ 5/ 144؛ مسلم: صحيح، 7/ 87؛ الدينوري: الأخبار الطوال، 74، اليعقوبي: تاریخ، 2/ 22، 39، 114؛ الطبري: تاریخ، 2/ 290 - 293؛ الطبراني: المعجم الكبير، 11 / 330؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 328؛ الاستیعاب، 1/ 32 - 33؛ التمهيد، 3/ 17؛ النووي: شرح صحیح مسلم، 15/ 99؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 1/ 388؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 1 / 64؛ ابن حجر: فتح الباري، 8 / 114؛ الصالحي الشامي: سبل الهدی، 2/ 225.

(5) الأبوة.. دعوى الأمنية العقيمة

لعلها من أبرز المواضيع التي شرق بها المستشرقون وغربوا؛ فرتبوا عليها نتائج وبحوث واندراجات؛ زحفت بالموضوعة نحو علة تعدد الزوجات والشهوانية المدعاة! والبحث عن البقاء والاستمرار من خلال رجاء تحقق هذه الأمنية! ومن ثم اختناقها وتكسرها في نفس النبي وروحه واللجوء لبثها؛ بفعل التفريغ العاطفي! والتأمل المر الموجع في أمنية جاز وقتها، واستحال منالها! في آي القرآن الكريم كما يدعي « Lammens» ! وتوخيا لاستصحاب هذا المتبنى العريض أسهب «Lammens» في هذه الموضوعة أيما إسهاب !؛ إذ عالجها على دفعتين: الأولى في بحثه ( Qoranet Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة: كيف ألفت حياة محمد»، والثانية في كتاب كتابه « ,Fatima et les Filles de Mahomet notes critiques pour letude de la Sira = فاطمة وبنات محمد آراء نقدية حول السيرة» الذي صدر في (روما عام 1912 م). أي: بعد سنتين فقط من المعالجة الأولى. وهذا الكتاب بالجملة كان محل رفض ونقد!؛ المستشرقين أنفسهم(1).

كانت نظرية «Lammens» حول هذه المفردة تتلخص: بأن العرب كانوا يفخرون بأبوتهم لعدد كبير من الأولاد، وهذا ما يؤيده تخارجات هذه الحقيقة في النص القرآني حين يعد «المال والبنون زينة للحياة الدنيا» ولأن النبي حرم من الأولاد، سعی أولا للزواج بأكثر من امرأة، ولما لم يحصل على ما تمناه، وظلت هذه الامنية عقيمة في نفسه، سعت السنة لتدارك ذلك ومحاولة الإكثار من عدد أولاده من خلال

ص: 244


1- تنظر: نقود وردود المستشرقين عليه، في الفصل الثاني، موضوعة: دراساته السيرية في موازين نقد المختصين والباحثين.

الكنى التي كني بها! ؛ فقال: طبقا لعادات العرب، الفخورين بإثبات أبوهم، نال محمد كنية أبو القاسم، ابنه البكر. تشكل الأبوة عزاءا متواضعا لمحمد. كان لديه بنات لا يرفعن كثيرا من مقامه، وذوات وضع صعب، باستثناء زينب. لم تمنحه خديجة سوى ابن واحد، وهذا ما تثبته كنيته أبا القاسم. وبتعبير أدق من خلال هذه الكنية، خلصت السنة إلى وجود القاسم الذي بقي مجهولا تماما. بالنسبة للسيرة بدا هذا الابن الوحيد غير كاف، غير جدير بالنبي؛ لأن القرآن أشار إلى أن الذرية الكثيرة هي واحدة من خصائص الأنبياء، ومن هنا جاءت الجهود لتحديد أشقاء لقاسم، وصل الأمر إلى حد مضاعفتهم وتسميتهم بأسماء حقيقية ومميزة: طاهر، طيب، هذه الحيل الصبيانية وصلت في النهاية إلى (12 طفل) إجمالا، وإلى ثمانية أولاد. إنه انتصار للمنطق العاطفي. عند قراءة القرآن من المستحيل أن لا يصاب المرء بالدهشة من الشعور المؤلم الذي كان يشعر به محمد؛ بسبب النكبة الأبوية التي حلت به، وبسبب احتجاجاته على صفة الأبتر، ومن جراء حبه للأولاد «زينة الحياة الدنيا» والذين وضعهم بمصاف المال بين الأشياء الجديرة بالحسد، ومن هنا جاءت السلسلة الطويلة من النوادر التي تظهر النبي وهو يمزح مع أحفاده حتى وهو يصلي. إن فطنة وحذاقة السنة كانت بمثابة الموجه بهذا الخصوص، ولكنها كانت مخطئة بلجوئها إلى التزييف أسلوبها المألوف الإظهار مزاياها(1).

ويضيف: «إن حماس محمد، أو رغبته الملحة بالأبوة، وتشويه صورة خصومه، والتغني بأمجاده وفضائله؛ هي ما جعلته يتهم العرب بوأد البنات !؛ وإلا فهذه العادة البربرية لم تكن موجودة في الجزيرة العربية، إلا في إشارات السنة التي تذکر حالات قليلة جدا، وغالبا ما تكون مجهولة، إذا استثنينا بعض زعماء تميم. في أوقات المجاعة استطاع آباء منحرفون التخلص من بناتهم في شبه الجزيرة العربية القاسية، ولكن هل

ص: 245


1- Qoran et Tradition. pp, 11-14.

كانت هذه الممارسة عامة؟ وهل كان يصل بهم الأمر إلى دفنهن وهن أحياء؟ نحن نشك بأن السنة فسرت ماديا التساؤل القرآني بخصوص الأب الذي أبلغ أن زوجته ولدت بنتا: «هل سيتركها تعيش أم يدفنها حية؟». أن إلغاء هذه العادة لا يمكن أن ينسب إلى أبي القاسم»(1).

وقال في افتتاحية كتابه « Fatima et les Filles de Mahomet, notes critiques pour letude de la Sira = فاطمة وبنات محمد آراء نقدية حول السيرة»: من بين الحسرات التي تركت غصة في قلب محمد حتى آخر حياته، لابد من أن نضع في المقام الأول رغبته في الأبوة، ربما كان يعدها واحدة من السمات المميزة لأسلافه من الأنبياء، منح نفسه زوجات أكثر مما هو مسموح لأتباعه، لم تمنحه أية واحدة منهن مولودا ذكرا ، يخلد ذكره، كان يعلق أهمية كبيرة على هذه النعمة الإلهية، شانه شأن جميع الساميين. إن هذا اليتيم في طفولته لم يعرف قط أبويه، ولم يشاطر شقيقا اللعب. إن انشغاله بهذه الأمور يمكن أن يكون مستوحى من معارضته الشديدة لقتل الأطفال. يمكن للمرء أن يلمس في كل صفحات القرآن ذلك الحب للأطفال، الصبية منهم على وجه الخصوص، فهو يصفهم بأنهم زينة الحياة الدنيا، ويضعهم إلى جانب المال و كل ما هو جميل في العالم. الله فقط يقسم بين عباده البنات والبنين محابية إياهم كما يشاء، أو يحكم عليهم بالعقم. يشكل هؤلاء الأطفال اختبار حقيقي لقلب المؤمن. كان يتخيل باستمرار أنه يسمع هذه الشتيمة: (الأبتر). كيف يبقى غير مكترث لهذه التلميحات المعادية؟ كانت تجعله يفقد رباطة جأشه، ويلعن بالاسم من يسبه، وهذا ما يتعارض مع ما اعتاد عليه. أدركت السنة الإسلامية ذلك تماما. في جهودها الرامية إلى مضاعفة عدد أطفال محمد، من المستحيل تجاهل هذه المواساة لهذه المصيبة والتي جاءت بعد وفاته، جهود بائسة بالمحصلة!؛ استخدمت للدفاع عنه من أجل التصديق بوجود:

ص: 246


1- Qoran et Tradition. pp, 13 - 14.

طاهر، مطهر، طیب، مطيب، عبد العزي، عبد مناف. تفتقر السنة الإسلامية التقليدية نفسها للإجماع بهذا الخصوص. إذا كان يحق للقاسم الصغير بالوجود، فذلك ربما بفضل كنيته أبو القاسم، من هنا جاء الحق باستنباط ذلك(1).

وقال بخصوص ولده إبراهيم علیه السلام وبناته الأخريات: بالنسبة لكنية إبراهيم، هل تم إثباتها بشكل قاطع؟ في الوقت الذي كان العمل جاريا لتثبيت الخطوط العريضة للسيرة، كان يشار إلى مقصورة في المدينة تسمى مقصورة أم إبراهيم. إن أم إبراهيم هذه يهودية على الأرجح. لم يكن معاصر و محمد في الحجاز قد اعتادوا على حمل أسماء إنجيلية. أشارت رواية محلية في المدينة فيما بعد أن الأمر يخص خليلة محمد القبطية، وإن موضوع ابنه الثاني إبراهيم، الذي مات وهو صغير جدا، غير مفهوم مثل موضوع القاسم الصغير. لم تشكك السيرة أبدأ ببناته الأربع زینب، فاطمة، رقية، أم کلثوم. الاثنتان الأخيرتان فارقتا الحياة، من دون ترك ذرية، أسمائهن من الأسماء الشائعة جدا في ذلك الوقت. لم يكن الأمر صعبا فيما يتعلق بتفسير السيرة الذاتية للشقيقتين. من المستحيل تجاهل الأقوال الشائعة بعد أن تزوجهما ابنا أبو لهب، ثم طلقتا من قبلهما. انتهى المطاف بالاثنتين إلى حریم عثمان، الرجل المسخر من الله لإنقاذ أبي القاسم من مآزقه المالية والسياسية في الحديبية، في تبوك، وفي مواطن أخرى (2).

لا شك في أن «Lammens» كان متطرفة في استنتاجاته أيما تطرف؛ فكتب التاريخ والسير تروي - مع التحفظ على أبوته لأم كلثوم ورقية وزينب - أن السيدة خديجة ولدت: «القاسم والطاهر وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب» ثم ولد له من السيدة مارية القبطية ولده إبراهيم. نعم هناك بعض الروايات تجعل من: الطاهر والطيب = وهو عبد الله. شخصين أو ثلاثة أشخاص، وهناك من تضيف المطيب،

ص: 247


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 1 - 3.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. P, 3

وعبد العزى وعبد مناف. وهي روایات ساقطة أنكرها علماء النسب والسيرة والتاريخ (1). ولكن «Lammens» يقطع بصحة الروايات الضعيفة! بل إنه يدعي أنها وضعت لتأكيد أبوة النبي! متغافلا عن أسباب الوضع الحقيقية لهذه الروايات والأخبار!؛ فهي إنما وضعت لإعلاء منزلة بعض الأشخاص، سواء كانوا من نساء النبي أو أهلهن !؛ فهذا معاوية يدعى خال المؤمنين، وأم حبيبة أخته لم تلد! وهذه السيدة عائشة عليها السلام يدعى لها ولد سقط يسمى عبدالله و به کانت تکنی، وهو خبر جزم بكذبه(2)؛ لأنها إنما كانت تكنى بابن أختها عبد الله بن الزبير، وإلا فهي ما ولدت قط ولا أسقطت(3). فهل يصب إيجاد هذا السقط بمصلحة النبي أم بمصلحة السيدة عائشة؟ لا شك في أنه يصب بمصلحتها، سيما إذا ما قابلناه باعتراضها على ذكر السيدة خديجة 3 فقد روي أنها قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله، فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك؛ فقال: اللهم هالة، فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قریش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها»(4). وقد قطع - مسلم والبخاري - ذيل الرواية الذي يقول: «فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر أرحمة أم عذاب» (5)ومن

ص: 248


1- ابن سعد، الطبقات، 8/ 212، 217؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1 / 16؛ 5 / 436؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 3/ 125 - 126؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 367؛ المزي: تهذيب الكمال، 1/ 191؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 5/ 333 - 341؛ الصالحي الشامي: سبل الهدی، 11 / 16 - 18.
2- ابن الجوزي: الموضوعات، 9/2 ؛ النووي: الأذكار النووية، 295؛ الزيعلي: تخريج الأحاديث والآثار، 3/ 43؛ ابن حجر: تهذيب التهذیب، 386/12 ؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 11 / 18؛ المناوي: فيض القدير، 4/ 147.
3- ابن الجوزي: الموضوعات، 2/ 9.
4- البخاري: صحيح، 4/ 223؛ مسلم: صحيح، 7/ 134.
5- ابن حبان: صحیح، 15/ 468؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 286/4 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 158؛ السيرة النبوية، 2/ 135.

ذكر هذا الذيل قطع بدوره بقيته، التي تقول: «ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء»(1). فهل يشك أن هذا القطع في الرواية لم يكن يراد منه مراعاة مكانة السيدة عائشة؟؛ وإن نسبة السقط لها يصب في مصلحتها بالدرجة الأساس! وكذلك الحال لما أدعي من وجود ولدين له باسم «عبدالعزي وعبد مناف». إذ روى الهيثم بن عدي(2) عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: ولدت خديجة: عبد العزى وعبد مناف والقاسم. قال الهيثم: قلت هشام: فأين الطيب والطاهر؟ قال: هذا ما وصفتم أنتم يأهل العراق! فأما أشياخنا فقالوا: عبد العزى وعبد مناف (3). وقد دافع البعض عن هشام بن عروة، ونسبوا هذا الإدعاء إلى الهيثم بن عدي (4). وسواء كان من اختلق هذه الأسماء (هشام) أو (الهيثم) أو (عروة) - وإن كان الأقرب أنه هشام أو أبوه عروة، لما فيه من إعلاء لمنزلتهما !؛ بأن يسمي النبي ولده باسم جدهما «عبد العزى» فهو: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام

ص: 249


1- ابن حنبل، مسند، 6 / 118؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 53؛ الطبراني: المعجم الكبير، 23 / 13؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1824؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 195؛ الذهبي: تاریخ الإسلام، 1/ 238؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 13 / 182؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 3/ 158؛ السيرة النبوية، 2/ 136؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 224/9 ؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 103، 107؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12 / 132.
2- أبو عبد الرحمن بن عبد الرحمن، ولد بالكوفة ونشأ بها ثم انتقل إلى بغداد فاستوطنها حتى وفاته. كان من العلماء بالسير وأخبار العرب، إلا أنه يوصف بالكذب والضعف. العقيلي: ضعفاء العقيلي، 4/ 352؛ ابن حبان: المجروحين، 3/ 92 - 93؛ ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال، 7/ 104.
3- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 172؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/ 79؛ ابن حجر: لسان الميزان، 6 / 210؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 11 / 17 - 18.
4- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 172؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/ 79؛ ابن حجر: لسان الميزان، 6/ 210؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 17/11 - 18.

بن خویلد بن أسد بن عبد العزي. ولا شك أنها وظفت لمصلحة من يريد أن يبين صلته بالنبي !؛ وإلا فبمقتضى نظرية «Lammens» كان الأولى أن يسمى الأولاد بأسماء إسلامية أو لطيفة. أو على الأقل يبقى على أسمي الطيب والطاهر! وعليه فزيادة عدد أولاد النبي كانت متعلقة بغير النبي؛ لرفع منزلة من تعلقت به هذه الأسماء؛ وإلا في المصلحة التي تتوخاها السنة للنبي من تسمية ولديه بأسماء جاهلية !؟ ولا أحسب هذا المعنى كان غائبا عن تفكير «Lammens» ! ولكنه بحسب منهجه في قراءة السيرة النبوية، اختار التفسير المغرض لتلك الروايات!

ومن التأويلات المغرضة، التي حاول من خلالها « Lammens» لي عنق الحقيقة قوله: بالنسبة لزوجات محمد، لماذا يتوقف العدد عند «9 نسوة» ؟ من المؤكد أن الرقم يفوق هذا العدد؛ إذ تتحدث السيرة عن «23 زوجة». إن الأرقام التي تعطيها السنة، تستند إلى النص القرآني «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِی الْیَتَامَی فَانکِحُوا مَا طَابَ لَکُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَی وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَکَتْ أَیْمَانُکُمْ ۚ ذَلِکَ أَدْنَی أَلَّا تَعُولُوا»(1)، إن جمع هذه الأرقام يعطينا بالضبط الرقم (9) . إن محمد لم يكن في نيته ربط أتباعه بأربع زوجات. استفاد كبار الصحابة كثيرا من هذه الرخصة. يقول القرآن «أطيعوا الرسول إذا دعاكم» نتج عن هذا النص سلسلة من الأحاديث التي تضمنت وجوب التوقف عن كل شيء، حتى الصلاة، من أجل تلبية نداء محمد. تم توسيع نطاق هذا الوجوب إلى ما هو أبعد من ذلك. لا يمكن لامرأة يشتهيها أن ترفض يده. إذا كانت متزوجة، يجب على زوجها أن يطلقها. ينبغي أن يتزوجها الرسول طوعا أو كرها، ضد إرادة المرأة وعائلتها. ألم يقل الله: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (2).

واضح أن «Lammens» هنا - كغيره من المستشرقين - أراد النفوذ للطعن

ص: 250


1- النساء / 3.
2- Qoran et Tradition. pp, 14 - 15

بالنبي صلی اله علیه و آله خلال حياته الزوجية؛ إذ أثار موضوع زوجات النبي تأملات كثيرة في الغرب، تتسم بالبذاءة والصفاقة، وبكثير من مشاعر الحسد، التي فشل الكتاب في إخفائها(1). ولكن أنى له ولهم ذلك؟!؛ فهو ومن هم على شاكلته يدعون الشهوانية الجسدية في تلك الزيجات!؛ ولذلك ادعى أنه كان ميالا للمغامرات الحالمة ومن أبرزها المغامرة التي حيكت مع زینب بنت جحش، زوجة زید بن حارثة، وكيف أنه برر هذه المسألة وشبيهاتها بنصوص قرآنية، كانت تحكي صدي ميوله الخاصة(2).

من اللامنطق واللامعقول تصور - أو ادعاء - أن النبي أو أي شخص آخر يبحث عن المتعة الجسدية عند شيخوخته! وهو لم يعر لها أدنى أهمية في ذروة شبابه !؛ فالمتعارف عليه - وستتماشى مع هذا المأثور -: أنه تزوج بالسيدة خديجة عليها السلام وهي بعمر الأربعين! وهو في ريعان شبابه بعمر الخامسة والعشرين! وبقي مكتفيا ووفيا لها طيلة (25 سنة) وهما يعيشان بأتم وفاق، وألفة وصفاء وغبطة، يخلص لها الحب وحدها، قاضيا عنفوان شبابه، وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة(3)، ولم يقدم على الزواج إلا بعد وفاتها وقد بلغ الخمسين من العمر !؛ وإذن يخطئ من يظن أن محمدا كان ينعم بالملاذ في حديقة من المتع الدنيوية. إن اختيار سودة أو عائشة لم يكن يستند إلى المفاتن الجسدية لأي منهما(4). وهو فضلا عن ذلك ظلت أخلاقه ثابتة لا تتبدل، أيا كان العمل الذي يعمله، سواء أكان يرعى غنمه في سكون البادية، أم يبيع عطوره أو أنماطه في دمشق، ولم تتبدل أمانته، ولم يتغير صدقه، بل بقيت فضائله ثابتة على الأيام، حتى لقب «بالأمين»، ولم تفتنه النساء قط، ولم تفتنه الشهوات. إنه أخفر من

ص: 251


1- کارین آرمستونج: محمد، 219.
2- Qoran et Tradition. p, 26 .
3- کارلیل: محمد المثل الأعلى، 26 - 27.
4- کارین آرمستونج: محمد، 219-220.

عذراء في خدرها. كانت خديجة بالنسبة إليه سيدة فاضلة، يكن لها كل إعجاب واحترام وتبجيل، وفي الحقيقة ما كان للنساء في حياة محمد من أثر وتأثير، وما كان محمد من الجرأة التي تؤهله لأن يتقدم إلى أية فتاة. كان محمد حييا = كثير الحياء. فكان على خديجة أن تقوم بالأمر كله. كانت خديجة تحب زوجها حبا شديدا، وكان زوجها يبادلها ذلك الحب الصادق، بل لعل حب زوجها إياها كان أعمق من حبها إياه، فقد انفردت برعايته وحبه خلال الإحدي والعشرين سنة التي قضياها معا، ولم تشاطرها قلبه امرأة أخرى، مع أنه كان من المألوف في بلاده تعدد الزوجات، ومهما قيل في حياة محمد العاطفية، كانت خديجة المرأة والأولى والأخيرة في حياته(1).

وبعيدا عن إجهاد أنفسنا في البحث، وتقصي كلمات المنصفين، أو المعجبين بشخص النبي صلی اله علیه و آله فما مثله من يستدل على فضله بكلام من سواه نقول: إن رجلا بمكانته وأمانته، وطيب خلقه، واشتهار فضائله في الجاهلية، لا شك كان بإمكانه التزوج من أجمل جميلات العرب، ثم من كان يعرض عليه الملك والمال والجاه والسلطان، فيرفضه بقوله الخالد: «لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته»(2).ألم يكن بإمكانه قبول تلك الملذات المزعومة من دون أدنى تعب أو جهد؟! ولم لم يحاول أولئك إغراءه عن طريق النساء؟ ولو نظرنا إلى تلك الزيجات لوجدناها أبعد ما تكون عن مجرد التفكير باللذة، فضلا عن البحث عنها؛ وإلا فهو قد قضى جل حياته مع زوجة تكبره بخمس عشرة سنة، وبقي يتحسر على فراقها، ويتمنى لو أنها لم تفارقه، أمام من أدعي أنها أحب زوجاته إليه، حتى غارت منها وهي ميتة! ورغم أنها تدعي أنها لم تكن

ص: 252


1- بودلي: الرسول (حياة محمد)، 42 - 51.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 172؛ الطبري: تاریخ، 2/ 67؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 64؛ ابن سید الناس: عيون الأثر، 1/ 132.

إلا عجوزا حمراء الشدقين، فكان رده القاطع المشوب بنبرة المتوجع لفراقها: إنها أفضل زوجاتي، ولم يبدلني الله بخير منها(1). فلنرى من تزوج بعدها، وهل تحقق فيهن قصد الشهوانية المدعاة؟

1/ سودة بنت زمعة: بن قيس بن عبد شمس.. بن عامر بن لؤي. وكانت امرأة ثقيلة ثبطه(2) - أي بطيئة .. إذن هي لم تكن جميلة، فضلا عن كونها كبيرة بالسن، وفي أذنها ثقل(3) . كما أنها كانت متزوجة من ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو من بني عامر بن لؤي. فأسلمها وهاجرا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فتنصر ومات هناك(4). وقيل رجع إلى مكة فيات بها مسلما(5). فبقيت سودة مع أبيها وأخيها اللذين كانا لايزالان على الشرك(6). فكان زواجه منها؛ جبرا لكسرها! ورحمة لشيخوختها! وقمة في المواساة لأرملة كبيرة بالسن، لا تملك من الجمال ما يلفت النظر إليها، أسلمتها محنة

ص: 253


1- البخاري: صحيح، 4 / 223؛ مسلم: صحيح، 134/7 ؛ ابن حنبل، مسند، 6 / 118؛ الطبراني: المعجم الكبير، 23 / 13؛ ابن حبان: صحيح، 15 / 468؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 4 / 1824؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 1/ 238؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 13 / 182؛ ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 158؛ السيرة 2/ 135، 136؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 224؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 103، 107؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12/ 132.
2- ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1867. وينظر : ابن سعد، الطبقات، 8/ 56؛ احمد بن حنبل، مسند، 6 /99، 164؛ البخاري: صحيح، 2/ 178؛ مسلم صحیح، 4 / 76؛ النسائي: سنن، 5 / 266؛ البيهقي: السنن الکبری، 5/ 124.
3- أبو يعلى: مسند، 90/13 ؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 4 / 315؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6/ 33.
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 53؛ الطبري: تاریخ، 2/ 411؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 307؛ ابن حاتم: الدر النظيم، 186.
5- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 247؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 381؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 58 /2
6- إسحاق بن راهويه: مسند، 2/ 598؛ الطبراني: المعجم الكبير،31/24 ؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 11 / 237؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 3/ 162؛ السيرة النبوية، 2/ 143.

الاغتراب لمحنة الترمل (1)، مع أب وأخ مشرکین یهزءان بها، وربما يحاولان إرغامها على ترك الإسلام، ومع ذلك بقیت الزوجة الوحيدة له لمدة أربع سنين(2). وكان تزوجها في السنة العاشرة للبعثة. أي قبل ثلاث سنين من الهجرة(3). فهل زواج مثل هذا تقف وراء شهوة ورغبة جسدية أم رحمة إنسانية انعدم نظيرها في الدنيا !؟ بل إن سودة نفسها قالت: «ما بي على الأزواج من حرص، ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجا لك(4). وفي لفظ: «و إني لا أريد ما تريد النساء»(5).

2/ عائشة بنت أبي بكر. روت أن النبي تزوجها وهي بعمر تسع سنين (6). ولكن ربما اصطدم هذا الخبر بما يروى من أنها كانت مخطوبة، أو تذكر لجبیر بن مطعم بن عدي. وأن أبا بكر قال للنبي صلی الله علیه و آله حين خطبها: دعني أسلها منهم. وروت هي أن ذلك حدث في السنة العاشرة للبعثة = قبل الهجرة بثلاث سنين أيضا. إلا أنه لم يدخل بها حتى هاجر إلى المدينة، وبعد مضي ثمانية أشهر، وكانت بلغت حينها تسع سنين (7). فيا ترى كم كان عمرها حين خطبت لجبیر بن مطعم؟! ومن جانب آخر، من الثابت والمنقول أن جبیر بن مطعم كان سيدا لوحشي الذي قتل حمزة سيد الشهداء علیه السلام في معركة أحد بل إنه هو من أمره بذلك، وكافأه على فعله بأن أعتقه(8). أي إنه: كان

ص: 254


1- بنت الشاطئ: نساء النبي، 62.
2- الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/15 ؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 33.
3- ابن سعد، الطبقات، 10/ 53.
4- ابن حجر: الإصابة 196/8
5- ابن حبان: الثقات، 1/ 56؛ الطبراني: المعجم الكبير، 24 / 32؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 4 / 1867؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 382؛ المزي: تهذيب الكمال، 35/ 201؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 33
6- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 644؛ ابن قتيبة: المعارف، 134؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 382.
7- ابن سعد: الطبقات، 10 / 58 - 60.
8- ابن إسحاق: سيرة، 302/3 -303؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 91/2 ؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 /1564؛ الدرر، 153.

كبيرا بالسن. وكان مشركا؛ إذ أسلم يوم الفتح!(1).

فكيف يجوز لأبي بكر أن يعطي ابنته المسلمة لكافر ؟! على فرض أن عائشة - بحسب روايتها السابقة - تكون قد ولدت في السنة الرابعة للبعثة أي: إنها ولدت في بيت مسلم!؟ فضلا عن ذلك هي لم تكن ذات حسن وجمال؛ فقد ورد أن أخاها محمد بن أبي بكر قال لها عقب معركة الجمل: لست بأحسنهن وجها، ولا بأكرمهن حسبا(2). وذكر : أنها كانت سوداء(3) أو أدماء(4)! وكان في وجهها أثر للجدري(5). ولم يصفها عمر بالجمال في الوقت الذي وصف به زینب بنت جحش عندما عاتب ابنته حفصة: «لعلك تراجعين النبي بمثل ما تراجعه به عائشة. إنه ليس لك مثل حظوة عائشة ولا حسن زینب»(6).كما لم يكن لها جمال السيدة الأرملة أم سلمة؛ إذ قالت: «لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنت حزنا شديدا؛ لما ذكروا لنا من جمالها. قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها، فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي في الحسن والجمال. قالت: فذكرت ذلك لحفصة. فقالت: لا والله إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون فتلطفت لها حفصة حتى رأتها. فقالت: قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب وإنها لجميلة. قالت: فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غيرى»(7).

ص: 255


1- خليفة بن خياط: طبقات، 548؛ ابن قتيبة: المعارف، 285؛ ابن حبان: الثقات، 3/ 50؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 2/ 56.
2- ابن اعثم، الفتوح، 2/ 483.
3- العقيلي: ضعفاء العقيلي، 2/ 155؛ ابن معين: تاریخ ابن معين، 1/ 369؛ ابن عدي: الكامل، 3/446
4- أحمد بن حنبل: العلل، 1/ 442؛ البخاري: التاريخ الصغير، 2/ 96؛ التاريخ الكبير، 104/4 ؛ الذهبي: میزان الاعتدال، 2/ 243؛ ابن حجر: لسان المیزان، 3/ 125.
5- ابن حجر: لسان الميزان، 4/ 136؛ الفتني: تذكرة الموضوعات، 108.
6- محمد بن سعد، الطبقات، 8/ 189.
7- ابن سعد، الطبقات، 92/10 ؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 209.

3/ حفصة بنت عمر بن الخطاب. كانت متزوجة من خنیس بن حذافة السهمي، وقد مات عنها بعد معركة بدر على أثر جراحة أصابته فيها، فلما ترملت عرضها عمر على أبي بكر فلم يقبل بها، ثم عرضها على عثمان فقال: لا أريد أن أتزوج، فذهب يشتكيهما إلى النبي !؛ فما كان من صاحب الخلق العظيم، ومثال الرحمة إلا أن يقبل تلك الأرملة زوجا له(1). على أنها تكن بأجمل من سابقتيها كما يبين قول أبيها التقدم، بل إنه زجرها في يوم من الأيام بسبب سوء خلقها قائلا: یا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله .. والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك، ولولا أنا لطلقك فبكت أشد البكاء (2).

4 / زینب بنت خزيمة. كانت متزوجة من عبيدة بن الحارث بن المطلب، فاستشهد في معركة بدر. وقيل : كانت متزوجة من قبله بأخيه الطفيل بن الحارث (3). ولم تكن بأفضل حالا من سابقاتها. تزوجها بدافع الشفقة والمواساة، ولم تبق معه إلا مدة يسيرة؛ إذ توفيت بعد شهرين أو ثلاثة (4)، وقيل بعد ثمانية أشهر (5). وقد قيم المستشرق البريطاني (Bodley = بودلي) هذا الزواج بقوله: «وتبع زواج محمد من حفصة زواج آخر، وكان زواجا شكليا أكثر من أي شيء آخر، كانت العروس أرملة عبيدة بن الحارث، ابن عم محمد، كان قد سقط في بدر، وكان اسمها زینب بنت خزيمة، وكانت متوسطة العمر طيبة خيرة، وما ضمها محمد إلى نسائه إلا بدافع الشفقة»(6).

ص: 256


1- ابن سعد، الطبقات، 10 / 80 – 81؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 384؛ الذهبي: تاریخ، 4 / 43؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 33 - 34؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 46 - 47.
2- مسلم: صحيح، 4 / 188؛ ابن حبان: صحیح، 497/9 ؛ ابن حجر: فتح الباري، 25/9 .
3- ابن سعد، الطبقات، 115/8
4- خليفة بن خياط: تاریخ خليفة، 38؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1853.
5- ابن سعد، الطبقات، 8/ 115؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6/ 52.
6- حياة محمد، 192.

/ أم سلمة هند بنت أمية بن المغيرة المخزومية. كانت متزوجة من ابن عمها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكانت وزوجها من السابقين للإسلام. وهاجرا إلى الحبشة، ثم رجعا بعد تمزيق الصحيفة. وأرادت الهجرة للمدينة مع زوجها فمنعها أهلها، وفرقوا بينهما، ووقف بنو عبد الأسد مع أخيهم أبي سلمة؛ فمنعوه وأجبروا أصهارهم المخزوميين على إعطاء سلمة لأبيه فهاجر به إلى المدينة. وبقيت أم سلمة تعاني مرارة فراق زوجها وولدها، حتى أنها كانت تخرج كل يوم إلى الأبطح(1) تبكي وتنتظر أن يأتيها زوجها حتى المساء! وبقيت على تلك الحال لما يقرب من سنة كاملة! حتى مر بها رجل من بني عمومتها فجاء لأهلها ولامهم على التفريق بين تلك الزوجة المسكينة وولدها وزوجها، فأذنوا لها فلحقت بزوجها(2). وبعد سنتين فقدته على أثر جرح كان أصيب به في أحد(3). فلم يبق لهذه المسنة المؤمنة المهاجرة وأطفالها معين أو مواسي في دار الهجرة غير رسول الله. ولذلك نجدها تقول حينها يخطبها : أنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال (4). وفي لفظ: «ما مثلي تنكح فلا ولد في، وأنا غيور ذات عيال»(5).

6/ زینب بنت جحش ابنة عمته. وكان زوجها لربيبه زید بن حارثة، ثم تزوجها بعد أن طلقها زيد، وهي في الخامسة والثلاثين؛ لإثبات تشريعات إلهية. وقد

ص: 257


1- مسيل واسع فيه دقاق الحصى. الجوهري: الصحاح، 1/ 356.
2- ابن الأثير: أسد الغابة، 5 / 588. ثم ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 322؛ الذهبي: تاریخ الإسلام، 312/1 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 3/ 208.
3- ابن سعد، الطبقات، 10/ 85 – 86؛ الطبري: تاریخ، 414/2 ؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4/ 1682.
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 88 - 91؛ أحمد بن حنبل: مسند 4/ 28؛ ابن كثير: السيرة النبوية 3/ 175؛ البداية والنهاية 104/4
5- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 6/ 235؛ ابن سعد، الطبقات، 10/ 88 - 91؛ النسائي: سنن، 5/ 293؛ البيهقي: السنن الكبرى، 7/ 301

أسهب المستشرقون في محاولات الطعن والتشنيع من خلال هذه الزيجة، اعتمادا على روایات تبريرية أرادت توظيف هذه المسألة لمصالح شخصية(1). قال المستشرق البريطاني (Montgomery Watt = مونتغمري وات): لو أراد محمد مجرد الزواج من زینب لجعل هذا الزواج خالصة أو ميزة خاصة به، ولما كان قد سن بهذه المناسبة قانونا عاما(2). كان هذا الزواج وسيلة لترسيخ حکم شرعي، وإلغاء عادات مترسخة مخالفة لروح الإسلام، ومن ثم مجازاة لامرأة، سحقت على كبريائها وتزوجت وهي الشريفة في قومها من مولى لم يكن له في تلك البيئة الاجتماعية المتعصبة التي تسخر وتستهجن بالمولى وكانه ليس له حق في الحياة! وإلا فزيد لم يكن ليحلم مجرد حلم بالتزوج من مثيلاتها! وإذا بدين الرحمة والمساواة يكسر تلك التقاليد البالية، ويضع القوانين الإلهية موضع التنفيذ والتطبيق، وتكون تلك المرأة - وهي بنت عمة النبي والسيدة القرشية الجليلة - هي معول الهدم لذلك الصرح التقليدي الضارب في الجاهلية والتعصب، فما كان من محض الرحمة والعطاء، إلا أن يكافى تلك المرأة بأن يجعلها - بعد أن خاضت هذا الامتحان الصعب - زوجة لأشرف خلق الله في الأرض! وما كان منه، وهو من بعث رحمة للعالمين إلا أن يستجيب لذلك التشريع الإلهي، ملقيا بالحراجة المتكونة على أثره وراء ظهره. قال تعالى حاكيا حيثيات هذه المسألة في سورة الأحزاب:« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِی أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَیْهِ أَمْسِکْ عَلَیْکَ زَوْجَکَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِی فِی نَفْسِکَ مَا اللَّهُ مُبْدِیهِ وَتَخْشَی النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَی زَیْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاکَهَا لِکَیْ لَا یَکُونَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ حَرَجٌ فِی أَزْوَاجِ أَدْعِیَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَّا کَانَ عَلَی النَّبِیِّ مِنْ حَرَجٍ فِیمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ خَلَوْا

ص: 258


1- سبق أن نوقشت الموضوعة من قبل: الألمعي: مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي بزينب بنت جحش، 9 - 79؛ هیکل: حياة محمد، 333 - 336. وغيرهما.
2- محمد في المدينة، 503 (هامش رقم 2).

مِن قَبْلُ ۚ وَکَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38) الَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَیَخْشَوْنَهُ وَلَا یَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَکَفَی بِاللَّهِ حَسِیبًا (39) مَّا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِکُمْ وَلَکِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ ۗ وَکَانَ اللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمًا». وقد صرح المستشرق البريطاني « Montgomery Watt = مونتغمري وات» بأن مسألة الشهوانية: اتهام أوربي مسيحي يسقط إذا ما فحصناها تحت أضواء الأفكار السائدة في عصر محمد، وأن الحكم على النبي في هذا الموضوع يمكن أن يعرف من خلال موقف أتباعه منه؛ فلم يكن رأي معاصريه فيه سيئا بسبب تلك الزيجات المتعددة، بل كان ذلك في نظرهم ما يوافق رجلا له مثل تلك القوة السياسية، وحتى في قضية زينب بنت جحش، لم يصدم معاصري محمد من جانب شهواني في ذلك الزواج، إنما استغربوا لأنه كان لا يجوز في نظرهم؛ لأنهم كانوا يعدون الابن الربیب کالابن الصلبي، وكان القرآن ينم عن أن محمدا في أول الأمر لم يكن يرد الزواج من زینب؛ لأنه خشي استهجان الرأي العام، ثم رأى أن هذا الزواج واجب يفرضه الله عليه، فقد دلل زواجه من زینب أنه لا مانع من الزواج من زوجة الولد المتبنى المطلقة، وكان الهدف من عقد هذا الزواج أن يقضى على سيطرة ذلك الوهم القديم على سلوك الناس. لم يكن إذن في حياة محمد الجنسية على العموم ما يحمل معاصريه على الحكم عليه بأنه لا يتفق مع نبوته؛ فلم يكن ينظر إليه على أنه شهواني أو تبع نساء، ومن الممكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك معتمدين على المبادئ المقبولة في زمن محمد، فتحول الأمثلة الدالة على عدم الوفاء والشهوانية إلى موضوعات مدح وثناء، فقد كان محمد في عصره وجيله مصلحا للشؤون الاجتماعية والقيم الأخلاقية، فقد أوجد نظاما جديدا يساعد الأمة الإسلامية على الشعور بالأمن والطمأنينة، كما افتتح تنظيما اجتماعيا جديدا، وأقام إطارا دينيا تجري في ضمنه حياة سدس الجنس البشري اليوم، وليس ذلك عمل خائن أو فاحش(1) . ولكن من الغريب أن «Warr =

ص: 259


1- محمد في المدينة، 501 - 506.

وات» يعود بعد مدة وجيزة من نفيه الشهوانية الجنسية؛ ليحاول استخدام هذا الموضوع للطعن الصريح !؛ إذ عاد في كتابه: (Mahomet prophete et home d'Etat =

محمد النبي ورجل الدولة. الصادر عام 1962» ليقول: «إن إصلاح النبي أمر مرغوب فيه، ولكن هل كان الأمر مستعجلا ؟، ولا شك أن السبب الأساسي لهذه القصة أنه رآها عارية»(1).أي إن نسخ عرف الزواج بزوجة الولد بالتبني لم يكن أمرا مستعجلا إلى هذا الحد! وإن السبب الرئيس لهذه الزيجة هو أنه رآها عارية فأعجب بها!

على أننا يجب أن نعترف وبمرارة وألم كبيرين أن «Lammens» و « Montgomery Watt = مونتغمري وات» وغيرهم من المستشرقين قد جرأوا على هذا الغمز والطعن وصياغة «تلك المغامرات الحالمة» على حد تعبير الأول؛ لأنهم وجدوا جذور هذه المطاعن والأكاذيب وخطوطها العريضة وتفصيلاتها في تراث المسلمين أنفسهم!

فهذا «إمام المؤرخين الطبري» يقول: إن زینب بنت جحش فيها ذكر رآها رسول الله، فأعجبته وهي في حبال مولاه، فألقي في نفس زید کراهتها؛ لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها(2).

بل إن بعضهم قال: «فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنها وقعت في نفسه(3)! بل أكثر من ذلك؛ إذ قال «البغوي»: « فأبصر زینت قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش، فوقعت في نفسه، وأعجبه حسنها»(4)!. وزاد القرطبي على ذلك قوله: « فأبصر زینب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها! وقيل: إن الله بعث ريحا فرفعت الستر، وزینب

ص: 260


1- شايب: نبوة محمد، 424 - 420.
2- جامع البيان، 22/ 17.
3- الثعلبي: الكشف والبيان، 8/ 47؛ الواحدي: الوجيز، 2/ 866.
4- معالم التنزيل، 3/ 531.

متفضلة(1) في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زینب أنها وقعت في نفس النبي، وذلك لما جاء يطلب زیدا»(2).

7/ جويرية بنت الحارث اليهودية. من يهود بني المصطلق. وكانت من جملة الأسيرات في تلك الغزوة، فخيرها النبي صلی الله علیه و آله - بعد أن جاء أبوها الحارث بن أبي ضرار، وهو من سادات بني المصطلق؛ يطلب فداءها - بين المكوث مع المسلمين والرجوع مع أبيها، فاختارت البقاء والإسلام(3)، فما كان من صاحب الحلق العظيم؛ إلا أن يرد عليها مكانتها الاجتماعية التي كانت تتمتع بها فعرض عليها الزواج ليرفع عنها حراجة الأسر والغربة، ففرحت جويرية بذلك أيها فرح فأسلمت وأصبحت زوجة لرسول الله. فكانت سببا مباركا في خلاص بني قومها من الأسر، فيما كانت امرأة أعظم بركة منها على قومها(4)!

8/ صفية بنت حيي بن أخطب اليهودية. وهي من أسيرات یهود بني النظير، و أيضا خيرها النبي بين اللحوق بأهلها، أو الإسلام والبقاء مع المسلمين، فاختارت الإسلام والزواج ب النبي صلی الله علیه و آله (5). وكانت متزوجة من سلام بن مشکم فارس قومها وشاعرهم، ثم خلف عليها كنانة بن الربيع فقتل في خيبر(6). فعوضت عن

ص: 261


1- بمعنى: لابسة للثياب التي تبتذل للنوم لأنها فضلت عن ثياب التصرف. والتفضل: الترشح، وأن يخالف اللابس بين أطراف ثوبه على عاتقه. تفضلت المرأة في بيتها إذا كانت في ثوب واحد. أو إذا لبست ثياب مهنتها. ابن منظور، لسان العرب، 526/11
2- الجامع، 14/ 190.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 645 - 646؛ ابن سعد، الطبقات، 10/ 113 - 116.
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 113 - 114؛ البيهقي: السنن الکبری، 9/ 75؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 5/ 420؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 73.
5- ابن سعد، الطبقات، 10/ 117 - 116؛ البيهقي: السنن الكبری، 9/ 151؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 41 /3
6- ابن سعد: الطبقات، 10/ 116 - 117؛ ابن قتيبة: المعارف 138؛ ابن عبد البر، الاستیعاب 1871؛ ابن الأثير: أسد الغابة 490/5

زوجيها المشركين اليهوديين، بزوج هو أشرف وأكرم الخلق في الأرض، وعن أهلها اليهود بأن تكون من أمهات المسلمين، ومن سيدات نسائهم، بل إن النبي صلی الله علیه و آله شجعها على الافتخارعلى بعض نسائه !؛ إذ روت: دخل على رسول الله وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام فذكرت ذلك له، فقال: ألا قلت و كيف تكونان خيرا مني وزوجي محمد وأبي هارون، وعمي موسى. وكان الذي بلغها أنها قالتا: نحن أكرم على رسول الله منها؛ نحن أزواجه وبنات عمه(1).

9/ أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان. وكانت قد أسلمت في مكة مع زوجها عبيد الله بن جحش، غير مبالية بنقمة أبيها، وأهلها من بني أمية. وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، إلا أن عبيد الله مات هناك، وذكر أنه ارتد عن الإسلام، وتنصر في الحبشة، وإذا بهذه المرأة تجد القضية التي فارقت، وتنكرت للأهل والأحبة والديار، واحتملت الغربة والتشرد، ومخاطر السفر لأجلها، قد فقدت من يعينها عليها ويعوضها عما فقدته لأجلها، فما كان من النبي صلی الله علیه و آله إلا أن يواسي هذه المرأة المهاجرة، وهي في دار الغربة، ويسارع للحيلولة من دون فقدانها عنصر المقاومة بأن تزوجها(2)، فكان زواجه منها نصرة لها ولقضيتها.

10/ مارية بنت شمعون القبطية. أهداها وأختها سيرين المقوقس حاكم مصر للنبي6 عام (7ه-) ولما لم يكن من خلقه اقتناء العبيد والجواري، وبيع الناس وشرائهم، أكرمها غاية الإكرام بأن تزوجها؛ فرفع عنها حرج کونها جارية تهدی کما تهدى أي سلعة أخرى، وزوج أختها من حسان بن ثابت(3).

ص: 262


1- ابن سعد، الطبقات، 10/ 122 - 123؛ الترمذي: سنن الترمذي 5 / 367، 368؛ ابن الأثير: أسد الغابة 491/5 ؛ ابن حجر: الإصابة 8/ 211.
2- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/ 223 - 224؛ 2/ 645؛ ابن سعد، الطبقات، 10 / 94 - 96؛ ابن حبيب: المحبر 76؛ الطبري: تاریخ 2/ 414 - 415.
3- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4/ 38؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1912؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 129 - 130.

11/ ميمونة بنت الحارث الهلالية. وكانت وهبت نفسها للنبي صلی الله علیه و آله عند دخوله مكة، فقبلها وتزوجها وكانت قبله متزوجة من رجلين(1). وهكذا نجد أن تلكم الزوجات اللائي أدعى «Lammens» وغيره أنه تزوجهن ليمنحنه الأولاد أو لشهوانية جسدية ومغامرات حالمة! ماهن إلا مجموعة من الأرامل المنكسرات، أحاطت بهن ظروف صعبة، ولم يشتهرن بالجمال ولا صغر السن ! أو مشركات أسلمن، وغادرن ما كن يتمتعن به عند أهليهن، سيما إن كانوا من سادات القوم؛ أو جارية أهديت له؛ فأنف وهو صاحب الخلق العظيم أن يكون ممن يستعبد الآخرين!؛ فجازاهن بأن ضمن لهن ارتفاع قدرهن، ومنحهن القوة والدافع للتمسك بالإسلام، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفائدة المتحصلة من اقتداء المسلمين بهذا السلوك والخلق النبوي الرفيع، فكلما أحاطت ظروف سيئة بامرأة ذات مكانة، ضمها إليه، وما كان للشهوة موضع يلحظ، وقد أدركت النسوة القادمات هذه الحقيقة، سيما أيام الحصار المضروب على الدعوة، والأزمات الخانقة التي يتعرض لها المسلمون عامة، وأهل البيت النبوي خاصة، فما تيسر للمؤمنين ونبيهم طعم الراحة، وما أشقی ربات البيت عندما يكون رب البيت أبا لأمة كبيرة وملاذا للمستضعفين واللاجئين وناشدي العون في الصباح والمساء. ومع ذلك يجب علينا أولآ تنظيف تاريخنا وتفاسيرنا من هذه الروايات المسيئة، وأني لنا ذلك، ونحن نكتفي بالهتاف والزعقات وشتم الغرب، إزاء ما يظهروه من صور وأفلام مسيئة للرسول، كما حدث مع الفيلم الأمريكي الذي يعطينا دليلا واضحا بأن الغرب ما يزال يلبس تلك المسوح، ويفكر بتلك الطريقة، ويتبنى تلك الأفكار الاستشراقية، وما نزال نحن المسلمون في الموضع نفسه، نكتفي بالتفرج والشتائم! حتى أننا لم نفكر بجدية أكبر في الإجابة على التساؤل الذي طرحه

ص: 263


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 646؛ ابن سعد، الطبقات، 10/ 128؛ الطبري: تاریخ، 2/ 615؛ ابن حجر: الإصابة، 322/8

(Montgomery Wate = مونتغمري وات» منذ عام (1952م) حين قال: «يعلن المسلمون أن محمدا هو مثال الوفاء والأخلاق للإنسانية جمعاء وهم بذلك يدعون الرأي العام العالمي إلى الحكم على محمد، ولم تثر هذه المسألة حتى الآن سوى اهتمام ضئيل في الرأي العام العالمي. فهل نستطيع أن نستخلص من حياة محمد وتعاليمه مبادئ تستطيع المساعدة على تكوين أخلاق المستقبل الموحدة؟ لم يجب العالم حتى الآن على هذا السؤال؟، ولا يمكن أن ينظر لما قاله المسلمون لدعم تقديسهم لمحمد، إلا أنه عرض أولي للدفاع لم يقنع سوى القليل من غير المسلمين، وسوف تتأثر الطريقة التي سيحكم بها العالم على محمد بالطريقة التي يتصرف بها المسلمون اليوم، ولا تزال لهم إمكانية في تقديم دفاعهم بشكل أفضل وأكمل لسائر العالم، فهل بإمكانهم الالتفات إلى حياة محمد، واستخلاص القيم العامة بعد فصلها عن التأثيرات الخاصة، واكتشاف مبادئ أخلاقية تكون إضافة فعلية لتحسين حالة العالم اليوم؟، أو هل يستطيعون، على الأقل، إذا كان ذلك كثيرا عليهم، أن يظهروا أن نبيهم يقدم، بحياته، أحد النماذج الممكنة للإنسان المثالي الذي يعيش في عالم موحد القيم الأخلاقية ؟ إذا قدم المسلمون دفاعا بارعا، فهناك مسيحيون على استعداد للاستماع إليهم والأخذ عنهم كل ما يمكن أخذه»(1).

ص: 264


1- محمد في المدينة، 508 - 509.

(6) النبي الأمي.. واقع النص والفهم المغاير

لم يدع « Lammens» هذه الجدلية تمر دون أن يفسرها على المرور في منعرج تشکیکه الواهي!، عبر آلية الانتقاء، وتبني طرف واحد من الآراء التفسيرية المتعلقة بالموضوع! واشباعه بنبرة التشكيك والافتعالية الغائية من قبل السيرة!؛ فنراه يقول: «يطلق القرآن على محمد صفة الأمي. لم يحدد المعنى القرآني لهذا المصطلح. لم يمنع هذا السنة من تبني مصطلح غير المتعلم. هذا التفسير الفلسفي فتح الباب أمام سلسلة من الأحاديث التي تظهر محمد يجهل القراءة والكتابة، يمكن للمرء أن يتبين من دون عناء البعد التبريري لهذه الحجة. أمي ولكن له كتاب لا مثيل له «القرآن» الذي يفوق قدرات الإنس والجن مجتمعين!

مع ذلك احتفظت السنة بنوادر نرى فيها محمد يقرأ ويكتب. في الحديبية مثلا، وأمام رفض علي، قرر أن يكتب بنفسه نص الصلح مع أهل مكة، حتى في القرآن ليس من المستحيل اكتشاف آثار معرفته بالكتابة. حتى أنصار المدرسة التقليدية الإسلامية كانوا يقررون بافتراض جهل محمد، وماذا عن الشعر؟ يبعد الله بشدة صفة شاعر عن نبيه. لإبراز هذا الادعاء، تفننت السنة في الإكثار من القصص التي يبدو فيها محمد بعيدة كل البعد عن الإيقاع الشعري، غير قادر على إلقاء بیت شعر واحد، من دون أن يؤثر ذلك على طريقة نطق الكلمات وهذه مثلبة يرثى لها في عصر كان أكثر البدو جهلا قادرا على نظم الشعر»(1).

مشكلة «Lammens» أنه لم يجرب أن يكون موضوعيا وعلميا؛ فهو عندما يتجاوز حقل معرفي واسع، له ما للسيرة والسنة من قدم وهو التفسير ويرى أن قيمة

ص: 265


1- Qoran et Tradition. pp, 21-22

السنة تقاس على أساس مدى استقلالها عن النص القرآني، ومن ثم من المعيب أو التزوير أن يشكل التفسير أو القرآن، رکنا أو مصدر من مصادر السنة والسيرة النبوية! إنما يريد الانتقاص من شخص النبي صلی الله علیه وآله بأي طريقة! وإلا هل بإمكانه والمسيحيين أن يكتبوا سيرة لعیسی علیه السلام دون الاعتماد على الإنجيل وشروحه؟! أم هل بإمكان أحدنا أن يكتب سيرة قائد أو عالم أو دین ما، دون الاعتماد على تشريعات ذلك القائد أو العالم أو الدين؟! نعم تبنت السيرة بالاتكاء على ظاهر النص القرآني «الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوبًا عِندَهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِیلِ یَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنکَرِ ... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ »(1) معنی أمية النبي = عدم معرفة القراءة والكتابة. ولكن يبدو أنها لما جوبهت بالاحتجاج على أن ذلك يقتضي طعنة أو نقصا بمقومات الشخصية النبوية؛ لجأت لتعضيد هذا التبني بالقول: إنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة ولكنه جاء بكتاب معجز لا مثيل له، يفوق قدرات الإنس والجن فيا كان من «Lammens» إلا أن يسارع لتوظيف هذا الفهم أو الرأي توظيفا ملتويا! ويقدمه للآخرين تقديما معکوسا! من خلال إدراجه ضمن متبنيات السيرة الافتعالية والتبريرية المحتالة ! في حين أن المقصود أو الفضيلة في هذا المتبنى إنما تعود بالجانب الأكبر للقرآن نفسه! لأنه إنها بلغ به - مع ما يتضمنه من إعجاز لغوي ونحوي وعلمي - عن طريق شخص يفترض أنه أمي، ومن ثم يستحيل عليه، وعلى كل المخلوقين من إنس وجن الإتيان بمثله!

و «Lammens» وغيره إنا يتبنون هذا الفهم المعكوس! أو يقعون في هذا اللغط والخطأ، لأنهم يصرون على تبني فكرة بشرية القرآن! فحجية ظاهر النص - في الآيتين السابقتين ومثيلاتهما - لا تكاد ترجح معنی خاصا! كما اعترف بذلك «Lammens» ! بل

ص: 266


1- الأعراف / 157 - 158. ثم ينظر: ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 128؛ الصالحي الشامي: سبل الهدی، 1/ 435.

إن ظواهر بعض النصوص بما فيها النص المتقدم، تكاد ترجح معرفته للقراءة والكتابة؛ فبمقتضى قاعدة الظاهر، يكون وصف الأمي مخصوص بكتب اليهود والنصارى - التوراة والإنجيل - !؛ ففيها أعطي وصف نبی آخر الزمان بأنه أمي كما في الآية المتقدمة! وبمقتضى هذه القاعدة، يكون كل غير أهل الكتاب أميين لا يعرفون القراءة والكتابة؛ فالقرآن يحكي قولهم« وَمِنْ أَهْلِ الْکِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِینَارٍ لَّا یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَیْهِ قَائِمًا ۗ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَیْسَ عَلَیْنَا فِی الْأُمِّیِّینَ سَبِیلٌ»(1). كما يكون عموم العرب لا يعرفون القراءة والكتابة !؛ لأن القرآن يقول:«هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِّنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ»(2). وبمقتضى هذه القاعدة يكون أساس المفاضلة في قوله تعالى «فَإِنْ حَاجُّوکَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِیَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ وَالْأُمِّیِّینَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَیْکَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِیرٌ بِالْعِبَادِ »(3). غير بليغ وغير دقیق! وهذا ما يستحيل في القرآن؛ فمن مقومات اعجازه البلاغة والدقة. فعند المقارنة بين شخصين أو فئتين لابد من توفر وجه مقارنة موحد، بمعنى صفة أو مزية يتوافر عليها طرفا المقارنة، ولكن بنسب متفاوتة؛ ليصح وجه المقارنة؛ على أساس امتلاكها بنسبة أكبر عند هذا الطرف أو ذاك، فلا نقول لفلان: أنت أفضل من فلان لأنك شجاع وهو بخيل، أو لأنك نحيف وهو جبان! أو لأنك مؤمن وهو لا يعرف القراءة والكتابة. وفي الآية كان مقياس الأفضلية هو التسليم لله ، في حين كان المتفاضلون هم: «النبي والمسلمون / الذين أوتوا الكتاب / الأميون»! فيها وجه الربط بين الذين عندهم کتاب = أي دين. وبين: الأميين = الذين لا يعرفون

ص: 267


1- آل عمران / 74.
2- الجمعة / 2.
3- آل عمران / 19.

القراءة والكتابة. وبين: النبي والمسلمين ؟! إلا أن يكون معنى الأميین = الذين ليس لهم کتاب = أي دين سماوي. وهو حال العرب قبل البعثة النبوية (1).

ولعل ما يستشهد به أصحاب الرأي القائل بعدم معرفة النبي صلی الله علیه و آله للقراءة والكتابة (2) من قوله تعالى «وَمَا کُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن کِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِیَمِینِکَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» (3)يكون مساويا إن لم يكن متضائلا أمام احتمالية أن يكون المعنى = عدم امتلاكه أو قراءته لكتاب سابق / كتابته لكتاب فيقرأه على الناس. أو إن عدم قيامه بذلك؛ لعجزه عن الإتيان بمثل القرآن، لا عن عدم معرفته القراءة والكتابة !؛ فالأحرى أن يعرف القراءة والكتابة، ولكن غاية الأمر أنه لم يتعلمها من أحد!؛ في مقياس التفرد في عدم معرفة القراءة والكتابة والإتيان بشيء معجز ونحن نرى ونعايش المئات ممن لم يعرفوا القراءة والكتابة، ولم يتعلموها في المدارس، ولكنهم حصلوها بجهد وتعلم ذاتي! أو أنهم لا يجيدونها وهم عالقة في الميكانيك، والرسم والشعر والحاسوب .. الخ.

نعم مقياس التفرد في أن يكون جاء بالمعجز دون تعلمه على يد أحد! ومع ضم بعض الأخبار الواردة في أنه كان يكتب، بل كتب كما في الحديبية مثلا يترجح المعنى أعلاه. إذن فالمسألة ليست مسألة إطراء، أو محاولة لاقتناص فضائل من قبل السيرة أو السنة كما يدعي «Lammens »بقدر ما هي مسألة خلاف في الاحتكام لظواهر القرآن، وإسنادها بأحاديث ومرويات منتمية للعهد النبوي، أو الاحتكام لبواطن وتأويلات النصوص القرآنية، أو عدم الركون كليا لظاهر النص في بعض الحالات؛ فالسنة

ص: 268


1- هذا الطرح يتفق مع تفسير ابن إسحاق لهذه المسألة. تنظر : سيرة ابن إسحاق، 2/ 62 - 63.
2- الطبري: جامع البيان، 7/21 - 9؛ البيهقي: السنن الكبری، 42/7 ؛ البغوي: معالم التنزيل، 1/ 88؛ الرازي: مفاتح الغيب، 15 / 23، 24/ 79؛.
3- العنكبوت / 48.

ليست مجمعة على أمية النبي، والمسألة محل خلاف بين علماء المسلمين(1) وقد نقل هذا الخلاف عدد من المصادر التي استخدمها «Lammens» نفسه(2). لكنه ولأمانته العلمية !؟ لم يشر لذلك لا من قريب ولا من بعيد!

كذلك الحال بالنسبة للشعر فلربما لم ينظمه؛ لئلا يصدق وصف المشركين له بالشاعر، لا لأنه غير قادر على قول الشعر. أو لعلة كونه لا ينطق عن الهوى. ومن ثم توخيا لتداخل - عند المسلمين - ما ينبعث من إحساس نفسي خاص من النبي صلی الله علیه و آله مع النص الموحي.

ص: 269


1- النحاس: معاني القرآن، 1/ 425 - 426؛ السمرقندي: بحر العلوم، 1/ 569؛ الثعلبي: الكشف والبيان، 4 / 291 - 292؛ الشريف المرتضى: رسائل المرتضی، 1/ 108؛ السمعاني: تفسير السمعاني، 430/5 ؛ الراغب الأصفهاني: مفردات غريب القرآن، 23 / 24؛ الشريف الجرجاني: الحاشية على الكشاف، 12؛ ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز، 2/ 462؛ الطبرسي: مجمع البيان، 4/ 373؛ ابن الجوزي: زاد المسير، 3/ 184؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 159/9 ؛ ابن حيان الأندلسي: البحر المحيط، 402/4 ؛ ابن حجر: فتح الباري، 4 / 108.
2- على سبيل المثال: المقريزي، إمتاع الأسماع 13/ 100 - 107.

(7) النبي الأكول.. كذب صريح وامتهان فاضح

لم يراع «Lammens» أمام رغبته الجامحة بتقويض صور النبي المثال، أن يقدم طرح متزنة أو متينة يليق به كباحث! وخصوصا عندما لا يجد ما يخدم طروحاته، ويعوزه ما يلتوي عليه أو ما يمكن أن يتلاعب به من ألفاظ وتفسير لبعض النصوص! فنراه يقول: عندما نتصفح سير محمد العديدة، نندهش كثيرا من المكانة التي تحتلها الولائم فيها. نراه مع أو بدون عائشة ينتقل من دعوة إلى أخرى، ولم يرفض أية دعوة؛ - هذه التفاصيل موجودة في السيرة دليلا على تواضعه - يأكل فيها بشهية كبيرة اللحم والقرع والثريد، كل أصناف الطعام في الجزيرة العربية، باستثناء السحالي المشوية تؤكد السيرة أن النبي كان حريصا على أن لا يرفض شيئا في المائدة. كان يأكل كثيرا ومن كل شيء. بطبيعة الحال، تتعارض هذه الأوصاف مع زهد المصلح العربي، ذلك الزهد الذي تحتفي به العقيدة الإسلامية في مواضع أخرى. هنا بشكل خاص ينبغي أن نفترض وجود إلهام قرآني. طبقا لكتاب الله، الناس الذين عاصروا محمد صدموا بهذه العادات المبتذلة لنبيهم؛ «فهو مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق». ردا على ذلك، أنزل الله الله «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِی إِلَیْهِمْ...وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِی إِلَیْهِمْ»(1). في خضم تحمسها أرادت السنة الاستناد إلى هذا التبرير الإلهي، من دون التساؤل فيما إذا كانت واقعيتها لا تتجاوز الهدف، اعتقدت أن ما يشجعها بهذا الشأن دعوات القرآن العديدة «للأكل والشرب» والاستمتاع بالطيبات وأولها الطعام، وبالأخص اللحوم(2).

كان ما اتكأ عليه «Lamens» في هذا الطرح هو: ابتذال عدد من الآيات القرآنية

ص: 270


1- الانبیاء / 7- 8.
2- Qoran et Tradition. pp, 23-24

والنصوص السيرية، واعتماد الموضوع منها وتضخيمه والالتفاف على ما لا يحتمل الالتفاف عليه! إلا أن الهوى يعمي ويصم! حتى نجد من يدعي العبقرية والتعملق العلمي يتخبط في طروحاته أيها تخبط! فلنرى ما توسل به لإثبات وجهة نظره:

أولا - ما ابتذله من آيات قرآنية مثل«یَا أَیُّهَا النَّاسُ کُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلَالًا طَیِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُّبِینٌ»(1)، وقوله تعالى«وَکُلُوا مِمَّا رَزَقَکُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَیِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِی أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ»(2) وقوله «وَهُوَ الَّذِی أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَیْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُکُلُهُ وَالزَّیْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَیْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ کُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(3) وغيرها في هذا المضمون.

ثانيا - المرويات التي قال : عندما نطالعها نندهش كثيرة من المكانة التي تحتلها الولائم فيها، وأنه كان مع عائشة أو بدونها ينتقل من دعوة إلى أخرى. وقال في الهامش: تفاصيل ذلك مبثوثة في كتب السيرة. وحدد منها كتاب «زاد المعاد لابن قیم الجوزية. ت1 75ه-» من دون ذكر شواهد أو أرقام صفحات. وعند تتبع تلك المرويات في الكتاب المذكور، تجد أن غاية تلك المرويات هو:

1/ ما رواه أنس بن مالك من: أن النبي دعي من قبل أحد الخياطين في المدينة، الطعام صنعه، فأجاب واستصحب معه أنسا فقدم لها الخياط خبزا من شعير، ومرقا فيه دباء = ثمرة اليقطين (4)، وقديد = اللحم المملح المجفف في الشمس (5). قال أنس:

ص: 271


1- البقرة / 168
2- المائدة / 88.
3- الأنعام /141
4- ابن منظور، لسان العرب، 8/ 269.
5- ابن منظور: لسان العرب، 344/3

فرأيت النبي صلی الله علیه و آله، يتتبع الدباء من حوالي الصحفة(1).

2/ ما روي من أن النبي صلی الله علیه و آله قال: «سید طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم» .

وفي لفظ: «خير الإدام في الدنيا والآخرة اللحم»(2). وكلاهما يتقاطع مع ما جاء في القرآن عن ثمار الجنة وطعامها، ونعيمها الذي لا يقاس به غيره!

3/ ما روي أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائرالطعام»(3). وهو ظاهره الوضع أيضا. فما التجانس بين الثريد والنساء !؟ وهل عقمت بلاغة النبي صلی الله علیه و آله وفصاحته أن تأتي بتشبيه أليق و أنسب من هذا!؟ ثم ما أفضلية الثريد على سائر الطعام !؟ وهل كل الناس تفضله !؟ لا شك ولاريب في أن هذا القول يريد السير على منوال حديث أفضلية السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام على نساء العالمين. وسيأتي بيان ذلك حين الحديث عن سيرتها.

4 / ما روي أنه قال: وددت أن عندي خبزة بيضاء ملبقة بسمن ولبن، فقام رجل منهم فجاء بذلك. فقال: في أي شيء كان هذا السمن ؟ قال الرجل: في عكة(4) ضب. فقال: ارفعه(5). أي إنه كان يتمنى أبسط الطعام ولا يجده!

5/ ما رواه ثوبان(6) : أنه ذبح شاة للنبي، وهما في سفر أو في حجة الوداع، فقال

ص: 272


1- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، 4/ 371.
2- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، 340/4 .
3- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، 340/4 - 341. ينظر بیان اختلاق هذا الحديث عند: انتصار العواد: السيدة فاطمة الزهراء، 429 - 432.
4- إناء أصغر من القربة. الفراهيدي: العين، 1 / 66.
5- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، 4 / 278 - 279.
6- بن بجدد أو جحدر. يكنى بأبي عبد الله وقيل: عبد الرحمن. وهو من حمير من اليمن. وقيل: من السراة بين مكة واليمن. وقيل: من سعد العشيرة من مذحج. وقع في الأسر، فاشتراه النبي، وأعتقه، فبقي يخدمه. وخرج بعد وفاته إلى الشام، وتوفي بها سنة (54ه-). ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 249.

له: أصلح لحمها. قال ثوبان: فلم أزل أطعمه منه إلى أن وصلنا إلى المدينة (1). وليس يدري أين ذهبت جموع المسلمين التي حضرت حجة الوداع، لتشارك في أكل تلك الشاة! وتعجل في تخليص ثوبان المسكين من مشقة حملها؟! وإن كانا في سفر فما من عادتهم حمل هكذا طعام! إلا إن كان ثوبان هو الآخر يريد البحث کا سابقه أنس بن مالك عن متعلقات وإشارات تركز قربه من النبي صلی الله علیه و آله !

وقد عاد «Lammens» لهذه المسألة فقال: «كانت فاطمة قادرة على إزالة أو رفع حالة البؤس التي كان يعاني منها أبو القاسم. وذلك بأنها أعطته قطعة من الخبز، وهي الأولى التي يأكلها منذ ثلاثة أيام؛ إذ إن الجوع كان يلزمه وضع حجر على بطنه، لكن الوثائق لا توضح لنا كيف وافق الأنصار أن يعيش الرسول في هذا الوضع المأساوي، بالرغم من أنهم استقبلوه بحفاوة كبيرة، وكان ينتقل من حفلة إلى أخرى، وكان في هذه الاحتفالات أو الأعياد، يأكل اللحم والثريد والقرع الأكلة القرشية، وعند عودته من إحدى تلك الدعوات وجد سلة من التمر، أرسلتها إحدى العوائل المدنية فأكلها، وكان عندما يتلقى دعوة لتناول الطعام يضع شرطا بأن تصاحبه عائشة، ولا نجد في أي موقف أو دعوة أنه وضع هذا الشرط لصالح فاطمة أو علي»(2).

وهو هنا احتج بما رواه أنس بن مالك من دعوة ذلك الخياط وأكله القرع في الرواية السابقة، مستندا هذه المرة لرواية أحمد بن حنبل لهذا الخبر. وكان مالك هنا أضاف له: أن أمه (3) بعثته بمكتل = زنبيل (4) فيه رطب إلى رسول الله، فلم يجده - وكان قد ذهب مع ذلك الخياط .. قال أنس: فأتيته فإذا هو يأكل فدعاني لأكل معه.

ص: 273


1- ابن الجوزي: زاد المعاد 2/ 288، 4/ 348.
2- Fatima et les de Mahomet pp,43-44.
3- ابن سعد، الطبقات، 8/ 434 - 434؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1940.
4- ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 4/ 150.

قال: فوضع له ثرید بلحم وقرع، وإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه، وأدنيه منه، فلما طعم رجع إلى منزله، فوضعت المكتل بين يديه، فجعل يأكل ويقسم حتى فرغ من آخره(1).

باستبعاد الآيات القرآنية من قائمة حجج «Lammens» !؛ لأنها لا تشير إلى دعواه لا من قريب ولا من بعيد!؛ وإلا هل يفهم من قوله تعالى «مَّا الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّیقَةٌ ۖ کَانَا یَأْکُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ کَیْفَ نُبَیِّنُ لَهُمُ الْآیَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّی یُؤْفَکُونَ »(2) أن عيسی ومريم علیهما السلام كانا كثيري الأكل؟ ثم إن الآيات لیست مخصوصة بالنبي كما حاول أن يوحي بذلك! إذ خوطب فيها جميع الناس بلا استثناء. وإذن يتبقى لديه الروايات وتحديدا الرواية الأولى فهي الأساس الذي أفضى من خلاله لتقرير دعوی کثرة الأكل! وهنا لابد من الإشارة إلى أن «Lammens» في جميع التواءاته، وحججه، لا يتحدث عن قناعة! بمعنى أنه غير مقتنع بما يقول!؛ لأنه يعلم تمام العلم مدى كذب حججه وتلفيقها! فهو يعلم أن رواية أنس بن مالك فضلا عن أنها لا تدلل على ما ذهب إليه ! فهي إنما اختلقت ووضعت لتخلق مكانة وقربا لأنس من النبي صلی الله علیه و آله ولتشير إلى مدى ملازمته له!؛ بدليل أنها جاءت بصيغتين مختلفتين تماما وبدليل أن أنسا أعاد مضمون الرواية في حادثة ومكان آخر! وكانت محل استهجان، وتكذيب، من قبل من يسعی لإبراز فضائله، ويعتقد بعظيم مكانته! فقد روى الحاكم النيسابوري أن أنس قال: «كنا مع رسول الله في سفر، فنزلنا منزلا، فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفورة، المثاب لها، فأشرفت على الوادي، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ! فقال لي: من أنت؟ قلت: أنس بن مالك خادم رسول الله. قال: أين هو؟

ص: 274


1- مسند، 3/ 108.
2- المائدة / 75.

قلت: هو ذا يسمع كلامك. قال: فأته واقرأه مني السلام. وقل له: أخوك الياس يقرئك السلام. فأتيت النبي، فأخبرته، فجاء حتى لقيه، فعانقه، وسلم عليه، ثم قعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول الله إني إنما آكل في كل سنة يوما، وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت، فنزلت عليها مائدة من السماء عليها خبز وحوت وکرفس، فأكلا وأطعماني، وصلينا العصر، ثم ودعه، ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء»(1).

وقد علق الذهبي على هذه الرواية بالقول: «فما استحيى الحاكم من الله يصحح مثل هذا»(2). وفي لفظ: «هو موضوع قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب، ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا» ! (3). وخرجها ابن الجوزي في الموضوعات. وقال: «هذا حديث موضوع لا أصل له»(4).

وقال ابن كثير: «هذا حديث ضعيف بالمرة، والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين وهذا مما يستدرك به على المستدرك فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه، ومعناه لا يصح أيضا»(5).كما نقل الصالحي الشامي تكذيب العلماء لهذه الرواية، وبیان وضعها(6).

على أن الحاكم النيسابوري لم يكن يريد من نقله للرواية تصحيحها! فخرافيتها أوضح أدلة كذبها! ولكنه كان يريد بيان: أنها - بحسب الشروط الموضوعة لتخريج الأحاديث في الصحيحين: البخاري ومسلم - كان من المفترض أن تخرج فيهما؛ لأنها

ص: 275


1- المستدرك، 2/ 617. وينظر: ابن أبي الدنيا: الهواتف، 79؛ القرطبي: الجامع،116/15؛ ابن حجر : الإصابة، 2/ 263-264.
2- میزان الاعتدال، 441/4 ؛ ابن حجر: لسان المیزان، 6 / 296.
3- سبط ابن العجمي: الكشف الحثيث، 282؛ السيوطي: الدر المنثور، 5 / 286
4- الموضوعات، 1/ 200.
5- البداية والنهاية، 1/ 395؛ قصص الأنبياء، 2/ 244.
6- سبل الهدى والرشاد، 6 / 435.

مستكملة لتلك الشروط بحسب عنوان الكتاب وموضوعه(1). ومن هنا يتضح أن هاتين الروايتين، لا أساس لهما من الصحة، وأنها إنها وضعتا لمصلحة أنس بن مالك. وسواء كان هو من أختلقهما أو شخص غيره فهما ساقطتان! ومن ثم فإن احتجاج « Lammens» ساقط بسقوط الرواية. ومن جانب آخر. لا يوجد في الخبر، إشارة لا من قريب، ولا من بعيد لاصطحاب عائشة في تلك الدعوة! مما يدلل على أن هذه الجزئية من اضافات «Lammens» على الرواية! ولا أحسب النصوص التاريخية شهدت - عند مستشرقي العصر الحديث - ابتذالا، وتحريف بهذا المستوى، ولا أظن الاستشراق الحديث، شهد خداعا، وعدم اتزان بالطرح بهذا المستوى، من ادراج ماتقدم ضمن أدلة الاحتجاج بهكذا موضوع !؟ ثم بأي منطق تكون الأخبار المتواترة والمستفيضة، في زهد النبي صلی الله علیه و آله وتقشفه وكثرة عبادته، ومواساته للجياع حتى يشد حجر المجاعة على بطنه كما اطلع على ذلك « Lammens» ؛ فازداد حنقا وكرها ورغبة في عکسها بأي منطق تكون كاذبة وغير صحيحة؟! وتنسف على أساس خبر مختلق کاذب، صححه وحمله مالم يحتمل!؟ بل أضاف إليه ما أخرجه من نص تاريخي محدد بألفاظ وزمان ومكان إلى طبيعة حياة يومية! لا وجود لها إلا في رغبته الملحة! في تحويل ذلك الخبر الفرد إلى دعوات واحتفالات! وأعياد وتنقلات مشروطة من بيت لآخر بصحبة عائشة! في حين أن «كتب سير محمد» العديدة التي يدعي «Lammens» أنه يدهش حينما يتصفحها؛ بسبب المكانة التي تحتلها الولائم فيها؟! تروي أنه صلی الله علیه و آله كان يؤثر غيره بها لديه ويبيت هو واللائي معه على الطوي! فقد ورد عن السيدة فاطمة عليها السلام أنها: «ناولت النبي كسرة من خبز شعير، فقال: هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام»(2)

ص: 276


1- المستدرك، 1/ 2-3
2- أحمد بن حنبل، مسند، 3/ 213؛ ابن عساکر، تاریخ، 4/ 122؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 6/ 59؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 312/10

وقال الإمام الحسن علیه السلام: كان النبي يواسي الناس بنفسه، حتى جعل يرقع إزاره بالأدم، وما جمع بين غداء وعشاء ثلاثة أيام حتى قبضه الله تعالى»(1). وقال الإمام الباقر علیه السلام: «والله ما شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية منذ بعثه الله إلى أن قبضه»(2). وقالت عائشة: «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين حتى قبض»(3)، وقالت: «لقد مات رسول الله وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين»(4). وقالت: «ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا؛ ولكنه كان يؤثر على نفسه»(5). وقالت: «ما شبع رسول الله ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبیله»(6).

فإذا كانت هذه حاله المعاشية مع الزوجة التي حرصت على أن تخلق، وتشيع مكانتها الخاصة عند النبي صلی الله علیه و آله ! على أنها الزوجة المدللة والمفضلة لديه! حتى بات مسلما لدى كثير من الناس أنها كذلك! فكيف مع باقي نسائه ؟ وهل ثمة من يشك بعد أن يجتمع مع هذه الحياة المتقشفة الزاهدة بأبسط ملذات الدنيا المباحة، نهم للطعام وكثرة للأكل؟!

ص: 277


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 143؛ ألصالحي الشامي: سبل الهدى، 311/7 .
2- الكليني، الكافي، 130/8
3- ابن راهويه: مسند، 3/ 881؛ الترمذي: الشمائل المحمدية، 84.
4- مسلم: صحیح، 8/ 219؛ الترمذي: سنن، 9/4 ؛ ابن حبان: صحيح ابن حبان، 14/ 273.
5- ابن حجر: فتح الباري، 240/11
6- أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 42؛ مسلم: صحیح،217/8 ؛ الترمذي: سنن، 9/4 ؛ البيهقي: السنن الكبری، 7/ 47.

(8)أحداث السيرة.. التاريخانية ودعوى الافتعال

يشكك «Lammens» في مجمل أحداث، السيرة النبوية وجزئياتها، باستثناء ما يخدم توجهاته، وسعيه الحثيث في تحطيم، وتقويض الصورة المثالية، والشخصية التاريخية الواقعية للنبي صلی الله علیه و آله !؛ من خلال محاولات نسف التدوين السيري؛ اعتمادا على آلية النفي العشوائية العبثية !؛ فمثلا هو ينفي أن يكون النبي صلی الله علیه و آله والمسلمون الأوائل قد تعرضوا للتعذيب والاضطهاد في مكة، فيقول: «بالنسبة للتبشير [يستخدم مصطلح التبشير للتعبير عن جهود نشر الدعوة الإسلامية !؛ ربما للإيحاء أنها استلهمت على غرار المسيحية ] تعطي السنة النبوية في مكة، والسور المكية، وهي الأكثر عددا في القرآن، مؤشرات مهمة: في تأكيد المقاومة التي واجهها المصلح. وجدت السنة فيها اضطهادا حقيقيا، من وجهة نظرها، أصبحت هذه الفترة عصر الموت الإسلامي. في كل القرآن لم يذكر محمد الحذر جدا سوى اسمي رجلين: أبو لهب الذي كان نموذج الرجل المضطهد، الذي يقف وراء كل المؤامرات ضد الإسلام الفتي «كل نبي يجب أن يواجه ملحدا كخصم له» اختارت السنة أبا لهب هدفا لتوبيخها»(1).

ويضيف: أن زيارة الطائف ومحاولة نشر الدعوة فيها، جاءت محاكاة(2) للنص القرآني(3). لوقت قريب كنت أصدق بالواقعية التاريخية للمعلومات التقليدية المتعلقة بالأحداث الكبرى في الإسلام: بدر / تبوك / حنين. بالنسبة لبدر، لدينا رواية جيدة

ص: 278


1- Qoran et Tradition. Pp, 11-12.
2- Qoran et Tradition. p, 12
3- يعني قوله:«وَهَذَا کِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَکٌ مُّصَدِّقُ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ یُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَی صَلَاتِهِمْ یُحَافِظُونَ» الأنعام / 92. و . «وَکَذَلِکَ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ قُرْآنًا عَرَبِیًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ یَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَیْبَ فِیهِ ۚ فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَفَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ» الشوری / 7.

منسوبة ل-«عروة بن الزبير» تؤكد بوضوح كيف أن المسلمين، وأولهم محمد آمنوا، من دون أن يعلموا ذلك، بمعركة عندما فكروا فقط بنهب قافلة. ولكن هذه التفاصيل المهمة موجودة ضمنا في المؤشرات القرآنية المتعلقة ببدر، ويحق للمرء أن يتساءل عن مدی استقلالية هذا الأمر، وعدم الترابط بين الواقعتين «900 - 1000» قرشي هزموا على يد «300 مسلم» يرتعدون من الخوف! كل معجزة بدر تكمن في هذا التناقض ! إذا كانت المعجزة لا تثير اهتمامنا فإننا يجب أن نفتش عن منشأ هذه المعطيات المتعلقة بالقوة العددية للعدو، وكما يؤكد القرآن(1) كان المسلمون في بدر وبفضل «الرحمة الإلهية» يجهلون التفوق العددي الساحق لقريش. إن السنة الراغبة في إبراز المعجزة، والمبهورة بالرقم «ألف فارس من الملائكة» استنتجت من ذلك عدد العدو. التدابير غير البطولية كثيرا للبدريين أكدها محمد. في ظل هذا الوضع، فإن أهل مكة الأفضل تسلیحا، والذين كانوا يمتلكون الخيل ويقاتلون من أجل إنقاذ ثروتهم وشرفهم، ما كانوا ليهزموا على يد مجموعة من قاطعي الطرق.. ينبغي استرجاع كل القصة التقليدية اليوم بدر. وكما هو الحال في أحد، حيث توجب على النبي تأبين أصحابه الذين سقطوا في المعركة، كان لابد للنبي من أن يخصص ليوم بدر سورة كاملة، أنشودة انتصار حقيقية لم يبق من هذا المديح سوى مقاطع متداخلة بشكل غريب في السورة الثامنة مع تطورات متناثرة. اعتمادا على هذه البقايا التي استكملت برعونة. سعت السنة، دون نجاح، إلى صياغة قصة مقبولة لمعركة بدر(2).

ويضيف مشككا بأحداث معركتي تبوك وحنين: القصة التقليدية لمعركة حنين ليست أقل غموضا. خلافا لبدر، كان عدد المسلمين كثيرا هذه المرة «12 ألف مقاتل»

ص: 279


1- يعني قوله تعالى: «إِذْ یُرِیکَهُمُ اللَّهُ فِی مَنَامِکَ قَلِیلًا ۖ وَلَوْ أَرَاکَهُمْ کَثِیرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ وَلَکِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ یُرِیکُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَیْتُمْ فِی أَعْیُنِکُمْ قَلِیلًا وَیُقَلِّلُکُمْ فِی أَعْیُنِهِمْ لِیَقْضِیَ اللَّهُ أَمْرًا کَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَی اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)» الأنفال / 43 - 44.
2- Qoran et Tradition. Pp, 16-17

!لماذا تحولت نتيجة المعركة ضدهم في البداية؟ «لمعاقبتهم على ثقتهم بكثرتهم» سبب روحاني يقدمه القرآن(1). الحديث بسط هذا الأمر بإسهابه المعهود، ولكن من دون إضافة شيء جوهري للتلميحات المقتضبة التي ورد ذكرها في كتاب الله. من المستحيل فهم السبب الكامن وراء فرار بدو هوازن بدلا من مواصلة القتال بعد النجاح الباهر هجومهم الأول. ألا ينبغي تفسير ذلك بتدخل قوى غير مرئية؟ كما حصل في بدر، هذا الدعم غير المتوقع حدد النصر. طبقا للسنة، نقلا عن الشهود، شوهدت الرؤوس وهي تقطع، والأسرى المكبلين بالقيود، دون معرفة من الذي سطر هذه المآثر. نحن على علم بالمعلومات المفصلة بإسهاب من قبل الحديث عن المقدمات التي سبقت غزوة تبوك، التي واجهت معارضة شديدة. كثيرون بقوا في المدينة «القاعدون». الحديث غير وضعهم إلى ما لا نهاية، محاولا إضفاء طابع مأساوي على عزل هؤلاء المسلمين الخاملين. هنا يمكن أن تنتهل السيرة كتاباتها المعروفة بالإسهاب من المؤشرات الوفيرة الواردة في «سورة رقم 9/ التوبة». إن هذه الخدع الأدبية تمنح الحياة لتشدقات القرآن المجهولة. سيرة مصطنعة عندما نفكر بغياب المعنى التاريخي الذي يميز السنة(2).

إن التفكير والتفسير بهذه الطريقة، يكفي لأن نقتلع من أذهان كل المسلمين وجود عيسى المسيح علیه السلام وكل الأنبياء السابقين !؛ لأننا إنها أشعرنا وأخبرنا بوجودهم عن طريق القرآن، فضلا عن الأخبار بأن المؤتمنين على رسالاتهم قد حرفوها وزينوها، كما أن التفكير بهذه الطريقة التي أقل ما يقال عنها أنها متهورة؛ سيؤدي لنسف كل ما ورد في الإنجيل عن عیسی علیه السلام ! وكل الأنبياء السابقين! إذا ما وضعنا في الحسبان

ص: 280


1- يعني قوله تعالى :«لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللَّهُ فِی مَوَاطِنَ کَثِیرَةٍ ۙ وَیَوْمَ حُنَیْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنکُمْ شَیْئًا وَضَاقَتْ عَلَیْکُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُم مُّدْبِرِینَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَکِینَتَهُ عَلَی رَسُولِهِ وَعَلَی الْمُؤْمِنِینَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِینَ کَفَرُوا ۚ وَذَلِکَ جَزَاءُ الْکَافِرِینَ» : التوبة / 26 - 25
2- Qoran et Tradition. Pp, 17-18

الفارق الزمني بينه وبين كتابة الإنجيل! فإذا كانت السيرة وهي ملتصقة بزمان النبي، وتهتدي بإشارات الكتاب الذي ترکه کاذبة ومفتعلة ومختلقة ! فما حال ما يتعلق بحياة وتعاليم المسيح في الإنجيل، وقد كتب بعد قرن ونصف من وفاته على أقل التقادير (1). ولعل هذه الحقيقة ومثيلاتها، هي ما جعلت المستشرق الفرنسي «Massignon = ماسنيون» يتخوف من أن يطبق هذا المنهج الشكي على الإنجيل فقال: «ما كان سيبقي « Lammens» من الأناجيل لو طبق عليها منهجه النقدي الذي مارسه على القرآن»(2). كما رفض المستشرق «Emil Dermenghem = إيميل در منغم» هذه المنهجية الشكية المفرطة واستهزأ بها؛ فقال: « عند هذا العالم اليسوعي، الذي أفرط في النقد؛ فوجه آخرون مثله إلى النصرانية، أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن، فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة بدلا من أن يؤيد أحدهما الآخر! نعم، قد يكون الحديث موضوعا لتفسير آية من القرآن أو لجعلها محمولة على معنى معين أو لتأكيد ظاهر حكمها، ولكن هناك أحاديث صحيحة على ما يحتمل، فليس على المؤرخ، الذي لا يفكر في قواعد النقد، إلا أن يركن إليها»(3)

يختتم «Lammens» بحثه « Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة كيف کونت حياة محمد» بالقول: «هذه الأمثلة ستكون كافية، كما نعتقد، لتوضيح طبيعة وقيمة مقترحاتنا؛ فهي تعرض بطريقة جديدة معنى السيرة. إن كتابة هذه الأخيرة لا يستند إلى إلى مرجعين متوازيين

ص: 281


1- ناقش الفرنسي (موريس بوكاي) هذه الحقيقة بدراسة مستفيضة أثبتت خرافية كثير من الأحداث، وتقاطع كتب التوراة والإنجيل مع مقررات العلم وتأخر تدوينهما بأوقات طويلة عن زمن أنبياء اليهود والسيد المسيح! التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. 13 - 103.
2- عزوزي: آليات المنهج الاستشراقي في الدراسات الإسلامية، 62.
3- حياة محمد، 11 - 12.

ومستقلين، يكمل أحدهما الآخر، ويضبط بعضهما البعض، بل إلى القرآن فقط! وقد فسرته السنة حرفيا حسب أفكار معدة سلفا، وبذلك فأن المعلومات المستفيضة المتعلقة بطفولة وشباب محمد يجب أن تدرج ضمن إطار الأسطورة، باستثناء سمة واحدة: صفته كيتيم فقير. بالنسبة لمؤرخي محمد المستقبليين، يلغي هذا التأكيد آلاف الصفحات من هذه الوثائق الخيالية؛ فهو يختصر بسطر واحد الثلاثين سنة الأولى من حياة واحلي من أكثر الرجال غرابة في الشرق. إن بداية حياته كنبي تقودنا إلى أرض أقل رخاوة، ولكنها تقتصر فقط على المعلومات التي أراد هو شخصيا تقديمها لنا»(1). فرضية عريضة طويلة، حاولت نسف الموروث السيري من الجذور، ولكن « Lammens» لم يقم عليها أي حجة مبررة، أو دليل يرجح أي من تلك الجزئيات التي ناقشها !؛ فكانت محل استهجان ورفض المنظومة الاستشراقية نفسها!

ص: 282


1- pp, 25-26

(9)الصادق الأمين.. النص وتأويل الخطاب

ناقش «Lammens» في بحث له مطول تحت عنوان il sincere? - Mahomet fut» = هل كان محمد صادقا؟ باريس / 1910م» أي بعد عام واحد من صدور البحث السابق «Qoran et Tradition: Comment Fat compose La vie de Mahomet = القرآن والسنة : كیف کونت حياة محمد. باريس / 1911 م) مسألة صدق النبي صلی الله علیه وآله وأمانته فكان التمهيد في البحث الأول: أن حاول تحطيم الثقة بالسيرة النبوية. ليأتي دور البحث الثاني: في إتمام جوهر نظريته وهو تحطيم الثقة بشخص النبي صلی الله علیه وآله نفسه ! ولا شك أن العنوان الذي اختاره لبحثه كاف لمعرفة توجهه وغايته! إذ تفوح منه رائحة الضدية والقصدية الموحية بموضوعه ولكن يأبى الله إلا أن يصدق قوله «وَإِذْ یَمْکُرُ بِکَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِیُثْبِتُوکَ أَوْ یَقْتُلُوکَ أَوْ یُخْرِجُوکَ ۚ وَیَمْکُرُونَ وَیَمْکُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَیْرُ الْمَاکِرِینَ »(1) في «Lammens» ومن كان على شاكلته! فهو بدلا من أن يزعزع الثقة بشخص النبي صلی الله علیه وآله قدمه - من حيث لا يشعر - على أنه شخص حري بالإعجاب والإتباع بغض النظر عن کونه نبي! بل إنك لتلمس في حديثه حيرة ما بعدها حيرة في التعامل مع شخص ما استطاع أن يطوقه بقلمه مع مئات الصفحات التي دبجها حول الموضوع؛ ولذلك نراه يقول: «هل يمكن أن ننكر على محمد المكسب المتحقق من إيماني أولي على الأقل؟ نحن لا نعتقد ذلك. كيف استطاع أن يزرع هذا الإيمان في نفوس أتباعه؟ إن هذه النتيجة التي حققها، والمكر الفظ والتصنع المستمر، كل ذلك لا يكفي لتفسير هذا الأمر. في المدينة، ازداد عدد أتباعه كثيرا وذلك بفضل نجاحاته العسكرية والدبلوماسية وسياسته البارعة، ولكن في مكة، ماذا كان شعور الجماعة الإسلامية الصغيرة التي

ص: 283


1- الأنفال / 30.

عانت طويلا من الاضطهاد؟ فهي لم تر وصول العون الموعود من الله، ولا معاقبة أعدائهم التي كان يعلن أنها وشيكة الوقوع(1)، ولكن ما هي القوة التي كانت تمكنهم من مقاومة الشعور الباعث على الإحباط من جراء الشقاء الذي يعيشونه إضافة إلى الشعور بخيبة الأمل؟ لم تكن شخصية النبي الجديد تقدم أي شيء لرفع معنويات أهل الجزيرة وحماسهم من العرب آنذاك. فلم يكن متميزا لا بالثراء ولا بالمآثر البطولية ولا بالشعر، ربما استطاع أن يفرض ذلك بالكهانة، ولكنه لم يكن كاهنا ولا ساحرا» (2).

ولعل صعوبة التعامل تلك كانت مما استشفه المستشرق الفرنسي المعاصر «Dominik Sordail = دومنيك سوردیل» حين قال: كانت شخصية محمد موضوع تقديرات متنوعة، وإذ لم يعد واردا في الوقت الحاضر، اعتبار محمد دجالا، كما فعل «فولتير»، ولا الشك في إخلاصه وصفائه، كما فعل في الماضي «هنري لامنس»، فإن شخصيته ما تزال تقدم، لأولئك الذين يدرسونه، نواحي غامضة قليلا أو مبهمة. إن تصرف محمد في كل ظرف تقريبا، يرتكز على التعليمات النبوية التي جعل نفسه المؤتمن الوحيد عليها، وكون محمد قد برر بنفس الطريقة بعضا من سات سلوكه، قد أحرج بعض المؤرخين المحدثين تجاه مسائل أخرى، خصوصا وأن محمدا قد اتخذ أحيانا

ص: 284


1- يعلق في الهامش: يوم القيامة، يشهد جميع الأنبياء تعذيب خصومهم. كثير من هذه الموضوعات ورد ذكرها في القرآن؛ لرفع معنويات المؤمنين.. حيث ورد ذكر التنبؤ بعقاب مكة. ولكن متى يأتي هذا العقاب ؟ كان خصومه يسألون. يجيب القرآن بحجة واهية (سورة الحج. آية 47) اليوم الواحد يعادل ألف سنة. وهنا يتبين أن تطرفه أدى به لإنكار ضرورة علمية. فبداية هناك فرق بين دول العالم في الوقت، يطول ويقصر تبعا لبعدها وقربها عن بعضها البعض. ثم إن الفرق بيننا وبين أقرب جيراننا من المجموعة الشمسية وهو القمر يبلغ (30 يوم) أي إن من يولد على الأرض ويبلغ من العمر (30يوما) يكون عمر من يولد معه في نفس اليوم على القمر (يوم واحد) ! فكيف بمن يولد في أبعد الكواكب عنا؟، أو خارج مجموعتنا الشمسية؟ والثانية في حساباتنا قد لا تكفي لأن ننطق برقم أو اسم معين، أو أن نقوم بحركة بسيطة، في حين أنها كافية لأن يقطع الضوء (300000 کم) !
2- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 1-2

أحكاما تنسخ أو تلغي قرارات سابقة. المؤلفون المحدثون الذين يرون - كما فعل «مونتغمري وات» - في محمد نبيا شبيها من بعض النواحي بأنبياء العهد القديم يركزون على أن أدبيات زمن محمد لم تكن كأدبياتنا، وآخرون يركزون أكثر، عندما يثيرون نفس القضايا، على الخلافات التي تفصل العالم المسيحي عن العالم الإسلامي، وآخرون، فضلوا - من عهد قريب - تقديم محمد على أنه صاحب أيدلوجية، وليس «عبقريا دينيا» أو نبيا، «فمکسیم رودنسون» الذي يعتمد هذا الرأي في رؤية الأشياء، لم يتردد في تشبيه النبوءة الإسلامية بواحدة من هذه «الخرافات الأسطورية التي تتاشی مع التاريخ، والتي تدعمها القوة» خرافات تعجز الحقيقة عن مواجهتها.. وهكذا مانفكت الصورة التي يكونها الباحث حول الأهداف التي عمل لها محمد والظروف التي قبل فيها النص القرآني، تتغير تبعا للآراء الشخصية التي يكونها أي دارس. إن محمدا يبدو عندها كمؤسس حقيقي لدين، وشخصيته التي كانت من القوة بحيث ترکت شعورا دائما وباقيا في الذين عرفوه، يجب أن ينظر إليها بصورة مستقلة عن أنماط القيم التي يستند إليها الغرب المعاصر عموما(1). وهذه الكتابات المجردة من المعاني الروحية والدينية، والتي هي في عمومها لا تتكئ على غير الظن والتخمين والتشكيك المقصود والمفتعل! هي ما حدت لظهور كتابات مثل «هل محمد عبقري مصلح أم نبي مرسل؟ لمحمد شيخاني» وهي ماجعلت (Michale Hart = مایکل هارت) يضعه على رأس أعظم مائة شخص في العالم(2). و(Thomas Carlyl = توماس کارلايل» ليصنفه من بين أول وأعظم أبطاله المائة(3). وبالمستشرق «Wate = وات» لأن يقول: «إنه من أعظم رجال أبناء آدم»(4). وبالشاعر الفرنسي (Lamartine = لامارتين) لأن يصفه

ص: 285


1- الإسلام في القرون الوسطى، 29-33.
2- المائة: تقویم لأعظم الناس أثر في التاريخ، 13 - 19.
3- الأبطال وعبادة البطل، 48 - 86
4- محمد في المدينة، 512.

على: أنه نبي أقل من إله وأعظم من رجل(1) . ولعل مما يسقط طرح « Lammens» قول المستشرق الفرنسي (Cahen Claude = کلود کاهن): «لعل محمدا من بين مؤسسي الأديان كافة، هو الشخصية التي يتوفر حولها، أكبر قدر من المعلومات التاريخية . بامكاننا الحديث عنه مع كل ما نرغب من التفاصيل والمعلومات الدقيقة. يصعب علينا اليوم أن نقدر حق قدره رجلا كان من جهة أول مؤسس دین عظيم جدید، وشديد الارتباط بعصره، ومن جهة ثانية في نظر المسلم العادي، محمد رسول الله، نبي مختار ليبلغ الرسالة إلى الناس. يصعب تلخيص مأثرة محمد، ورسالته بإيجاز وعلى نحو ما أنجزهما تدريجة على مدى عشرين عاما من النبوة»(2).

لم يرغب «Lammens» أن يعترف بهذه الحقيقة الساطعة!؛ فراح يقول: نود التطرق للمشكلة المعقدة المتعلقة بصدق محمد وبمعتقده الشخصي، وذلك خلال المدة الزمنية التي ربما يكون قد تلقى فيها رسالته النبوية، طبقا لما جاء في السنة. الرأي الشائع أنه كان في الأربعين من العمر حينذاك، وبما أن حياة محمد قد أطيل أمدها عشر سنوات - کیا نعتقد - فإنه أظهر بمظهر الشاب أكثر إبان تلقيه التكليف الإلهي، ربما تكون هذه المهمة قد أوكلت إليه عقب مکوث طويل في غار بجبل حراء المجاور لمكة. ليس هناك ما يثبت صحة هذه العزلة وحقيقتها؛ فهي لا تنسجم مع هلع محمد من الوحدة، ومع نفوره المشهور من حياة الزهد والتقشف، نحن نعتقد أن هذه العزلة هي بالأحرى تقلید حرفي لعزلة موسى في سيناء وعزلة المسيح في الصحراء قبل حياته العامة. كانت الجبال المقدسة كثيرة حول مكة. عندما جعلت السنة من هذه الجبال مكانا لعزلة النبي، فإنها أرادت بذلك أن تضفي طابع القداسة الإسلامية عليها. بذات الطريقة تصرفت تجاه أشجار الحرم المقدسة. فقد جعلتها تخاطب النبي. وهذه هي

ص: 286


1- إيميل در منغم: حياة محمد، 11.
2- الإسلام، 31- 36.

طريقتها في تغيير آثار الوثنية؛ لذلك نعتقد أنه يحق لنا أن نشطب جبل حراء من قصة الدعوة الربانية الأولى!(1).

لا شك في أن تطرف «Lammens» حاد به عن طريق البحث العلمي تماما والمسؤولية في الاستدلال! وإلا فهل كان يظن أنه العبقري الفرد؟! والمطلع الوحيد على التراث التدويني للمسلمين؟! أو أن من الصعوبة ملاحقة أدلته، وتعكزاته من قبل الآخرين؟! فمن غير المنطقي أن تحاول نفي حقيقة تاريخية متواترة وثابتة بدون دلیل! ولا لشيء إلا لأنها لا تعجبك! فهل يسمى عاقلا من يقول اليوم: أن المسيح لم يوجد ولم يخلق قط ؟! أم هل يسمى عاقلا من يقول أنه لم يأت برسالة سماوية، رغم أنها شوهت ما شاء لأهل الكتاب تشويهها؟! ليس ذلك الشخص أقل بعدا عن المنطق من « Lammens» وهو يحاول نفي تعبد النبي صلی الله علیه و آله في غار حراء بالاستناد لحديث بعيد، بعد المشرق عن المغرب، عما رتب عليه من نتائج! أو بالأحرى عما كان يريد - معاندة وقسرا - ترتيب ما رتب عليه! وكان انتقاه من «سنن الدارمي» كما وثق لكلامه . والحديث مروي في باب «أن الواحد في السفر شیطان» ! إذ روي عن النبي صلی الله علیه و آله أنه قال: «لو يعلم الناس ما في الوحدة؛ لم يسر راكب بليل وحده أبدا»(2). وفي لفظ أحمد بن حنبل: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم؛ لم يسر راكب بليل وحده أبدا»(3). وفي كلا اللفظين والألفاظ المشابهة الأخرى تكون الحجة على «Lammens» لاله!

فأولا - هو يدعي في بحوثه أن الحديث، والسنة بأجمعها، موضوعة لتفسير القرآن، ولذلك فهو يعلن في غير مكان قطيعته وعدم ثقته في الحديث! ومن جانب

ص: 287


1- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 1
2- سنن الدارمي، 2/ 289.
3- مسند، 2/ 120. وينظر: البخاري: صحيح، 4 / 17؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 101/2 ؛ البيهقي: السنن الكبری، 5/ 257.

آخر يستشهد به فيما يخدم طروحاته!

ثانيا - على فرض صحة الحديث فكل المصادر التي روته تتفق أنه وارد في باب السفر أي إنه مقيد لا مطلق. وهو من باب الزجر أو النهي التأديبي أو الإرشادي لما يخشى على الشخص المنفرد من خطورة الطريق والمرض وغيره، أو لأن المنفرد سيما إذا كان ضعيف الإيمان، وكان في طريق أو بلد لا يعرف فيه ربما يتساهل في فعل ما لا يحل له أو يتغاضى عما يجب عليه، فإن كان معه رفیق ربما منع أو نبه أحدهما الآخر.

ثالثا - الحديث يقول بصريح العبارة «لو يعلم الناس ما في الوحدة / في لفظ الدارمي» و«لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم / في لفظ أحمد بن حنبل». على أنه اختار لفظ الأول؛ لأنه لا يحوي العبارة الأخيرة: «ما أعلم» لإيهام القارئ برجاحة ما ابتنى عليه من نتائج! ومع ذلك فكلا اللفظين يثبتان أنه قد خبر الوحدة وعاشها وعرف ما فيها، ولذلك حذر منها؛ وإلا كيف يحذر من شيء هو لم يجربه ولم يعرفه. فضلا عن أن لفظ أحمد والآخرين يضيف كلمة «ما أعلم».

رابعا - كتب الحديث طافحة بالأخبار عن تقشف النبي وزهده وتواضعه وتبسطة في المأكل والملبس، بل إنها عقدت في ذلك فصولا وأبوابا(1) . فبأي مقیاس يكون ما تواتر عبر مئات السنين وآلاف الكتب والرواة مكذوبا ومفتعلا، وخرافيا !؟ وما يدعيه «Lammens» منطقيا وحقيقيا وأولى بالتصديق ؟!

خامسا – لو تنزلنا فرضا وتماشينا مع طرح « Lammens» وقوله: نحن نعتقد أن هذه العزلة هي بالأحرى تقلید حرفي لعزلة موسى في سيناء وعزلة المسيح في الصحراء قبل حياتها العامة! لنا أن نسأله: من أخبر المسلمين - وبضمنهم کتاب السيرة والسنة

ص: 288


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 111 - 296؛ ابن ماجة: سنن، 2/ 1373 - 1388؛ النووي: شرح صحیح مسلم، 18 / 93 - 118؛ الهيثمي: مجمع الزوائد 10 / 218 - 219؛ السيوطي: الديباج على مسلم، 6/ 271 - 289.

الذين يدعي أنهم حاكوا قصة العزلة في حراء، استنادا للإشارات القرآنية عن عزلة موسی وعیسی علیه السلام ؟ أليس القرآن أليس النبي ؟. أفلم يكن حريا به - عقلا ومنطقا - أن يتشبه بهم في تلك العزلة، ليقنع أتباعه أنه على شاكلة أولئك الأنبياء؟! سيما وأنه أمرهم بضرورة الإيمان بهم، وأنه خاتمهم، وأنه بعث ليكمل رسالاتهم! وإن لم يكن كذلك فيما كان أحرى به أن لا يذكر تلك التفصيلات والأخبار بشأن عزلتهما وغيرهم من الأنبياء !؛ كي لا تتخذ عليه حجة بأنه ليس على شاكلتهم !؟ إذن فالعقل والمنطق - وجريا على قاعدة «Lammens» نفسه - يحتمان أن النبي صلی الله علیه و آله كان يتعبد في «حراء». هذا فضلا عن كونها من المسلمات التي يقرها المسلمون والمستشرقون. قال المستشرق الفرنسي (Emil Dermenghem = إيميل در منغم): «أخذ محمد یزید رغبة عن الاجتماع بالناس، وصار يجد في عزلته في غار حراء ما تقر به عينه، فيقضي الأسابيع فيه، ومعه زاد قليل، وأصبح له بالصوم والسهر، وإمعان النظر في الفكرة الواحدة ما تهيم به روحه، وأضحى لا يفرق جيدا بين تعاقب الليل والنهار، وبين اليقظة والمنام، وغدا يقضي طويل الساعات جاثيا في الظلام»(1). وعلى الرغم من أن (Montgomery Wat = مونتغمري وات) يعد التحنث في غار حراء، وسيلة للهروب من حر مكة! إلا أنه يقول: «ليس هناك ما يدعو للشك في أن محمدا كان يذهب إلى حراء»(2). وقد بين المستشرق الفرنسي (Etienne Dinet = آتین دینیه) ما لعزلة محمد - حسب العنوان الذي اختاره للموضوعة - وذاك التعبد من أثر كبير في صقل الروح الدينية والسمو العرفاني التوحدي للنبي، فقال: «بم كان يشغل محمد نفسه لقد غرس الله في قلبه حب الوحدة؛ ثم إنه كان شغوفا بفضاء الله الواسع يسبح فيه، فریدا، أني شاء. ما سبب میله هذا؟ لاشك أن تلك الوحدة الكالحة التي تحيط بمكة كانت تحيي فيه ذكريات طفولته

ص: 289


1- حياة محمد 77.
2- محمد في مكة 109.

السعيدة. غير إن روحه التي اصطفاها الله كانت تجد متعة أسمى وأروع، في الهرب من الانحلال الأخلاقي والضلال الديني اللذين سادا العرب آنذاك. كان يستسلم إذن الرغبة قوية عنيفة تسيطر على نفسه، وتتجه به نحو الوحدة والعبادة، فيسير في الشعاب الرملية. أو يصعد الجبال الصخرية ليجلس على قمتها ويترك بصره وخياله يضلان الفضاء الجدب القاحل. كان يجلس ساکنا لا حراك به، تمر عليه الساعات تلو الساعات وهو غارق في تأمل وجداني عميق، صامت»(1).

اذن لا تكاد تجد «Lammens» في كل طروحاته إلا مصداقا حيا لقوله تعالى - «یُرِیدُونَ أَن یُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَیَأْبَی اللَّهُ إِلَّا أَن یُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ»(2). ومصداقا لما صرح به المستشرق (Etienne Diner = آتین دینیه) من أنه أكثر المستشرقين اغراقا في اعتماد منهجا وآلية العكس! منهجا وآلية أساس في التعامل مع النصوص والروايات !؛ فيأتي لأوثق الأخبار، وأصدق الأنباء فيقلبها متعمدا إلى عكسها، وكلما كانت الأخبار أوثق وأصدق بدت قوية جامحة رغبته في قلب تلك الحقيقة و عکسها! اعتمادا على تبني متهور، صبياني، عبثي ! مفاده: أن البشر يعملون غالبا على كتمان عيوبهم، والظهور بنقيضها !؟ وهذا بطبيعة الحال ليس منهج للعقلاء؛ وإلا لكنا بحاجة لعكس التاريخ وكتابته من جديد، وعكس صورة الطبيعة كلها عكسا تاما!(3). ويظهر أن تطرف «Lammens» أبى إلا أن يجعله مصداقا لقاعدة حبل الكذب قصير؛ فقد عاد في البحث نفسه - ليثبت تلك العزلة! ويقول في معرض حديثه عن بدايات الوحي، بالحرف الواحد: «في الحقيقة أنه سمع صدى فكره الخاص وتأملاته الفردية الطويلة»(4). أضف لذلك أن النظرة الاستشراقية المتزنة تقول: إننا

ص: 290


1- محمد رسول الله، 103 - 111.
2- التوبة 32.
3- الشرق في نظر الغرب، 96 - 113؛ محمد رسول الله، 50؛ محمود عبد الحليم، أوربا والإسلام 128.
4- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 43

لانجد ما دونه معاصري موسى، أو بوذا، ولا نعرف إلا بعض شذرات عن حياة المسيح بعد رسالته، ولا نعرف شيئا عن الثلاثين سنة التي مهدت الطريق للسنوات الثلاث التي بلغ فيها أوجه، ولكننا نجد أن قصة محمد واضحة كل الوضوح؛ ففي سيرة محمد نجد التاريخ بدل الظلال والغموض، ونعرف شيئا كثيرا عن محمد، کما نعرف ذلك عن رجال عاشوا في أزمان أكثر قربا من زماننا، وما كان تاريخه الخارجي وشبابه وأقاربه وعاداته، خرافة من الخرافات، ولا شائعة من الشائعات، وما كان تاريخه الداخلي، وقد وضح بعد رسالته، برواية مبهمة لمبشر غامض أو مشوش فين أيدينا الآن كتاب معاصر، فريد في أصالته وفي سلامته، لم يشك في صحته كما أنزل، أي شك جدي، وهذا الكتاب هو القرآن، وهو اليوم کاکان يوم كتب لأول مرة، تحت إشراف محمد(1).

لا يرغب الخطاب التقويضي الذي يمارسه « Lammens» الإذعان لصوت المنطق والحقيقة! ضاربا عرض الجدار أي مناقشة علمية هادفة فهمه الوحيد هو إلغاء مفردة الصادق الأمين من سجلات السيرة النبوية، واستبدالها با يعاكس ذلك، ويناقضه في أفعال النبي وأقواله، وبالتأكيد هو يحتاج للتلاعب بمفاهيم الصدق والأمانة، والقفز على العقل والمنطق، ومسخ جيل من الإنسانية وتعريته من أخلاقه وسماته ولذلك نجده يقول: هنالك أمر آخر يستحق أن نتوقف عنده. إن الإنسانية لم تبد دائما القدر ذاته من الأهمية والاحترام لمسألة الصدق والأمانة. يبدو أن محمدا قد حصل فعلا على لقب الأمين من مواطنيه في مكة. نحن رجال القرن العشرين، ربما يبدو لنا الرجل الأمين لئیما في حضارتنا، أسهمت ألفا سنة من المسيحية والفلسفة في توضيح مفهوم الصدق البشري وتنقيته إلى أبعد حد. سواء كان الصدق موجودا أم غير موجود، لا يمكن أن يشوبه ولو جزء صغير جدا من الازدواجية ووجهات النظر المنتفعة. لم يرتق العرب

ص: 291


1- بودلي: الرسول، 7۔ 8.

أبدا إلى هذا الحد في فكرهم. كما هو الحال في لغتهم.. فيما يتعلق بالخصال الأكثر تقديرا بالنسبة لهم: الضيافة / الكرم / الشجاعة.. أصبنا بصدمة عندما لاحظنا كثيرا من الخلط ومن الاعتبارات الغريبة. بطلهم عنتر كان يتملص من الموت عن طريق الهرب. أما حاتم، المثل الأعلى في الكرم البدوي، فإنه كان يستغل کرمه ويوحي لضيوفه بأن يمتدحونه. جميع هؤلاء هم شخصیات محبوبة في الأساطير العربية. تقدم السيرة النبوية أمثلة عدة تدعم هذه النظرية. إن استخدام محمد للمكر الفظ واللجوء إلى القتل السياسي، والكذب الذي يخدم مصلحته، لم يثر غضب أصحابه. في أرض الجزيرة العربية جميع الوسائل تعد خدع حرب، تلك الحرب التي تمثل الحالة الطبيعية للمجتمع لقب الأمين هو بمثابة جائزة ممنوحة من الرأي العام. كانت الأمانة نادرة جدا في هذا الوسط من المرابين الجشعين الذين يتباهون بأنهم لا يلتزمون بعهودهم الأكثر قدسية. يجب أن تقاس أمانته مقارنة بأتباعه. يجب علينا أن نستبدل المداخلات وعمليات الظهور الغامضة بتفسير عقلاني !(1).

ولكن «Lammens» لا يعير وزنا لأدنى درجات المنطق والعقلانية، فبأي منطق يكون من يخرج من بيئة تعج بالمرابين الجشعين والمتحللين أخلاقية، ومن لا يعرفون الصدق والأمانة وهو يحمل أصدق وأدق مضامين الصدق والأمانة، والرحمة والإنسانية ومقت الجشعين والمرابين والتحلل الأخلاقي، وينوء بهموم الطبقات الفقيرة والمسحوقة في ذلك المجتمع، لا يستحق أن يسمي صادقا وأمينا؟، بدعوى أن قومه لا يعرفون أولا يميزون بين تدرجات الخصال والصفات الحميدة!؛ لأنهم يعتقدون أن الإنسانية بأكملها تتألف من الأسود والأحمر، أو من الأحمر والأبيض، وأنهم لا يعرفون تدرج الألوان، شأنهم شأن صحاريهم التي ينطفئ فيها نور الشمس الساطع بشكل مفاجئ دون المرور بأوقات الفجر البطيئة وأوقات الغسق الطويلة!؟ فما

ص: 292


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 4-7

داموا لا يملكون مقیاسا متدرجا في الحكم على الأشياء والمظاهر فإنهم غير جديرين بالحكم صفات وأخلاق الآخرين! وكان مما وظفه «Lammens» للوصول إلى هذا الحكم، هو ذيل الآية «فَمَنِ اضْطُرَّ فِی مَخْمَصَةٍ غَیْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ»(1). وقضية عمار بن یاسر (رض) وتعذيبه وأبويه قال تعالى: «مَن کَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِیمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمَانِ وَلَکِن مَّن شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْرًا فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ»(2). أي - حسب تعبيره: الارتداد عن الدين عند وجود قوة قاهرة(3). من خلال هذه التعكزات؛ طرح فكرة أن مجتمعا كهذا: لم يكن قادرا على تصور الكمال الأخلاقي كما الأوربيين(4). وعليه فهو غير منطقي في منحه النبي صلی الله علیه و آله لقب: الصادق الأمين!

بداية تجدر ملاحظة أن «Lammens» هنا ناقض فكرته السابقة بشأن أسطورية الأحداث السيرية، المتعلقة بالعهد المكي، وكذب ما تدعيه السيرة من تعرض المسلمين الأوائل للتعذيب والاضطهاد على أيدي القرشيين، ونسفها من الأساس!؛ فإما أن تكون قضية عمار (رض) حقيقة واقعية، بين حيثياتها وملابساتها القرآن الكريم، وإما أن تكون خيالية لا وجود لها! ومن ثم لنا أن نسأل: ما المبرر من خلقها؟! ولنا أن نفترض هنا لو أن «Lammens» كان يعيش بين قبائل أكلة لحوم البشر، وهو الوحيد الذي يمتنع عن ذلك؛ لأنه يرى ذلك تدنيس للفطرة الإنسانية. هل نمتدحه ونكبر فيه إنسانيته التي وجدها رغم عيشه في تلك البيئة الوحشية الحيوانية؟ أم نقول أنه كان مخادعا وشاذا، وكان يجب - لكي نقتنع بعدم جنونه - أن يكون مثل بني قبيلته! فجريا على هذه القاعدة يكون كل الأنبياء مخادعين وماكرين لأنهم إنما بعثوا لأمم وثنية،

ص: 293


1- المائدة / 3.
2- النحل / 106.
3- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 5-6.
4- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 5-6.

وسيئة الأخلاق ليهدوها إلى طريق الحق، ومن ثم فإن أعمالهم الصالحة قياسا بسيئات مجتمعاتهم، قد تبدو بسيطة واعتيادية في مجتمعات أكثر صلاحا من مجتمعاتهم! ثم ليت «Lammens» أخبرنا من أين جاء بفرية أن العرب لا يميزون بين تدرجات الخصال والصفات الحميدة؟! وهم يملكون - في لغتهم - من مفردات التعبير عن الأشياء وجزئياتها ما يندر تواجده في غيرها !؟ نعم هو برر لهذا بقوله أنهم: «لم يرتقوا أبدا إلى هذا الحد في فكرهم. كما هو الحال في لغتهم الغنية بشكل لافت للنظر. غالبا ما تشح الفوارق الدقيقة في المعنى للتعبير عن الظواهر الغريبة عن حياتهم الاعتيادية. هذا الفراغ خلف أدوات بدائية في الإدراك، ودراسة المشاكل النفسية»(1).

ولا ننسى أن المقياس الذي اعتمده كان أنهم: يسمون عنترا بطلا وهو يتملص من الموت، ويسمون حاتما كريما وهو يطلب من ضيوفه أن يمدحوه! أما مسألة أن القرآن يعفي من كل مسؤولية المؤمنين الذين يجدون أنفسهم مرغمين على أكل لحوم محرمة بما فيها المقدمة للأصنام، وأنه يسمح بالارتداد عن الدين مع الحفاظ على الإيمان في القلب. فذلك لأن الإسلام دين العقل والفطرة الإنسانية وهي ترى الحفاظ على حياة الإنسان والحيلولة دون موته جوعا، أولى من أن لا يأكل من ذلك الطعام ما يحول دون موته. فلو أن « Lammens »رمي في جزيرة لا يوجد فيها طعام إلا ما هو محرم عليه وشارف على الهلاك. هل أن عقله وعقيدته يسمحان له بأن يميت نفسه جوعا؟ أم يوجبان عليه عدم إهلاكها ؟ فإن وجب الفعل الأول كان دينه بلا رحمة وبلا إنسانية وأولى أن لا يتبع لأنه أجبره على الموت، بل أماته بسبب تشدده وعدم احترام إنسانيته وضعفه. ثم إن هذا الفعل قد حدث مع عيسى علیه السلام وتلاميذه فقد جاء في الإنجيل: «في ذلك الوقت مر يسوع في السبت من بين الزروع، فجاع تلاميذه، فأخذوا يقلعون السنبل ويأكلون، فرآهم الفريسيون فقالوا له: ها إن تلاميذك يفعلون

ص: 294


1- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 4

ما لا يحل فعله في السبت، فقال لهم: أما قرأتم ما فعل داود حين جاع هو الذين معه؟ كيف دخل بيت الله وأكلوا الخبز المقدس وأكله لا يحل له ولا للذين معه، بل للكهنة وحدهم. أوما قرأتم في الشريعة أن الكهنة في السبت يستبيحون حرمة السبت في الهيكل ولا ذنب عليهم»(1).

وكذلك الحال بالنسبة لنطق كلمات الكفر - من دون الاعتقاد بها - للحفاظ على النفس المحترمة، والحيلولة دون قتلها، كما حدث مع عمار بن یاسر رضی الله عنه. فالمنطق والعقل يحكمان بجواز ذلك في ظرف مشابه.

ثم إن الأديان والأنبياء جميع قد وعدوا من أرسلوا إليهم بالمغفرة في حال التوبة عن ذنوب ارتكبوها عصيانا، فكيف إذا كان هناك ظرف قاهر أجبر الإنسان على ارتکاب هذا الفعل؟! أليس «Lammens» يؤمن بأن عيسی علیه السلام صلب وتحمل الأذى!؛ لاستنقاذ الآخرين من معاصيهم، وذنوبهم التي ارتكبوها عصيانا ومعاندة ؟!؛ ولذلك يسمونه الفادي والمعزي والمطهر.. الخ. فكيف إذا كانوا قد أجبروا على فعل تلك المعاصي؟!

ثم أليس هذا العهد القديم يقول تحت عنوان «التكفير عن الخطايا المرتكبة سهوا»: «وإن سهوتم فلم تعملوا بجميع هذه الوصايا التي أمر الرب بها موسى، فإن خفيت الخطيئة على عيون الجماعة سهوا، فلتصنع الجماعة كلها من عجل البقر محرقة رائحة رضا للرب؛ فيكفر الكاهن عن جماعة بني إسرائيل، فيغفر لهم؛ لأن ذلك سهو.. فالشعب كله خطي سهواها»(2). ويقول أيضا: «في التوبة والراحة، كان خلاصكم، وفي الطمأنينة والثقة كانت قوتكم، لكنكم لم تشاءوا»(3). وتحت عنوان (إسرائيل ناکر

ص: 295


1- متي 1/12 - 5.
2- سفر العدد، 22 - 30.
3- سفر أشعيا، 15/30

الجميل): «لكنك لم تدعني با يعقوب، وسئمتني يا إسرائيل، لم تأتني بحمل محرقاتك، ولم تكرمني بذبائحك. بل أنت استبعدتني بخطاياك، وأسأمتني بآثامك . أنا أنا الماحي معاصيك لأجلي ، وخطاياك لا أذكرها»(1). ويقول: «ليترك الشرير طريقه، والأثيم أفكاره وليرجع إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا فإنه يكثر العفو»(2).

وهذا مزمور توبة خاص يقول: «يد الرب لا تقصر عن الخلاص، وأذنه لا تثقل عن الساع؛ لكن آثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم، وخطايا كم حجبت وجهه عنكم؛ فلا يسمع؛ لأن أكفكم تلطخت بالدم، وأصابعكم بالإثم، وشفاهكم نطقت بالكذب، وألسنتكم تمتمت بالإثم. ليس من مدع بالبر ولا محاكم بالصدق؛ لأن أعمالهم أعمال إثم، وفعل العنف في أكفهم، أرجلهم تسعى إلى الشر، وتسارع إلى سفك الدم البريء. وقد رأى الرب فساء في عينيه أن لا يكون حكم هناك. ودهش أن لا يتدخل أحد فذراعه هي أنجدته، وبره هو أيده؛ فلبس البر کدرع، وخوذة الخلاص على رأسه، وارتدي ثياب الانتقام لباسا، وتجلبب بالغيرة رداء»(3).

وهذا مختصر کتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الفرنسية يعقد فصلا کاملا في الارتداد يسميه «سر التوبة والمصالحة والغفران والاعتراف: الهداية أو الارتداد» يقول فيه: «لماذا يوجد سر المصالحة بعد المعمودية؟ لأن الحياة الجديدة التي منحناها في المعمودية لم تلغ ضعف الطبيعة البشرية. ولا الميل إلى الخطيئة «أي الشهوة» . وضع المسيح هذا السر لارتداد المعمدين الذين ابتعدوا عنه بالخطيئة»(4). ومن قبله قال الإنجيل: «خذوا الروح القدس، فمن غفرتم خطاياهم تغفر لهم، ومن أمسكتم عليهم

ص: 296


1- سفر أشعيا، 43/ 22 - 25.
2- سفر أشعيا، 7/55 - 11.
3- سفر أشعيا، 1/59 -17.
4- في صفحة، 94. والكتاب من تأليف: الكردينال جان أونوره / رئيس أساقفة مدينة تور الفرنسية.

الغفران يمسك عليهم»(1). ويضيف رئيس أساقفة مدينة «تور الفرنسية»: أن نداء المسيح للمرتدين لا يزال يدوي، وأن الارتداد معركة مستمرة في الكنيسة كلها. وأن التوبة هي: «ميل القلب المنكسر» بدافع من نعمة الله إلى تلبية محبة الله الرحيمة. إنها تنطوي على توجع، وعلى كره للخطيئة المقترفة، وعزم ثابت على أن لا نعود نخطأ من بعد، وثقة بعون الله «(2).

وهكذا راح الكاردنال الفرنسي يتحدث عن الارتداد والتوبة وأشكالها، وما يجب على التائب، ومقدمات، وكيفية قبول توبته خلال الصفحات (94 - 97). هذا مع مراعاة أن المعصية والارتداد هنا أرتكب عمدا وعصيانا، أو لنقل دون وجود ظرف قاهر ! فكيف مع وجوده؟ بالنتيجة القرآن لم يبتدع بهذا الخصوص شيئا لم يعرف من قبل. فهذا القرآن ينطق بالحق «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَی اللَّهِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِن قَرِیبٍ فَأُولَئِکَ یَتُوبُ اللَّهُ عَلَیْهِمْ ۗ وَکَانَ اللَّهُ عَلِیمًا حَکِیمًا »(3).

وبالتالي فإن التواء « Lammens» على النصوص والروايات، لم يؤدي به إلا الإثبات أنه من أعجز الناس عن تصور الكمال الأخلاقي، ومن أعجز الناس عن الموضوعية، وقول الحقيقة؛ وإلا فلماذا في الإسلام تخلق هذه المسائل - حسب تعبيره -: مجتمعا لم يكن قادرا على تصور الكمال الأخلاقي. وإن تسمية ذلك المجتمع للنبي صلی الله علیه و آله بالصادق الأمين هي بمثابة جائزة مجانية! في حين لا تخلق في المسيحية مجتمعة كهذا. وهو عندما يسمي عیسی علیه السلام بالمسيح / روح القدس / الفادي / المعزي / المطهر.. الخ. لاتكون تسمياته تلك بمثابة جائزة مجانية!

واضح أن «Lammens» لايريد أن يعترف بأن صدق النبي صلی الله علیه و آله الله كان من النوع

ص: 297


1- إنجيل يوحنا، 20/ 22 - 23.
2- مختصر التعليم المسيحي، 95.
3- النساء / 17 - 18.

الذي قال عنه القرآن وطبقه هو والمسلمون على أرض الواقع «مِّنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَی نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن یَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلًا»(1)، ومن النوع الذي رفض معه أن يعطى الرئاسة والمال والجاه، وتواتر عنه القول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني! والقمر في يساري! على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»(2).

ص: 298


1- الأحزاب / 23.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 172؛ الطبري: تاریخ، 2/ 67.

(10) النبوة والوحي.. الاعتراف الخطير

لا شك في أن من أولويات الخطاب الاستشراقي التقويضي إنكار النبوة والوحي الإلهي وتكذيبهما؛ لما يترتب على الاعتراف بهما من تقويض لأركان الديانة المسيحية من الأساس؛ ولذا جوبهت هذه الحقيقة المرة! على امتداد المسار الاستشراقي، والمواجهة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ومن قبلهما من معاصري نزول الوحي والبعثة النبوية، قوبلت باتهامات عدة، انطلاقا من العناد الجاهل المتعصب، والدفاع عن الذات والإرث البالي، والانغلاق والتحجر الذي يرفض التحول والتغيير حفاظا على الهوية، والمصلحة المادية، والكيان الذي كشف زيفه وظلاميته نور الإسلام. وكان القرآن الكريم حکی بعض تلك الاتهامات: شاعر / مجنون / کاهن / ساحر / أسطوري. ثم جاء الاستشراق ليبدلها بنوبات من الصرع / هستيريا / عصاب / تقليد لليهودية والمسيحية / تمثل لآراء فلسفية وعقائدية: هندية وفارسية ويونانية قديمة! الخ. وكل هذه الفرضيات، التي ثبت تناقضها وفشلها علميا، لم ترض «Lammens» الذي يكاد يصرع أمام من قال عنه القرآن «واليك لعوَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ»(1) ، وعما بلغ به في سورة التكوير «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ (19) ذِی قُوَّةٍ عِندَ ذِی الْعَرْشِ مَکِینٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِینٍ (21) وَمَا صَاحِبُکُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِینِ (23) وَمَا هُوَ عَلَی الْغَیْبِ بِضَنِینٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَیْطَانٍ رَّجِیمٍ (25) فَأَیْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِکْرٌ لِّلْعَالَمِینَ (27) لِمَن شَاءَ مِنکُمْ أَن یَسْتَقِیمَ ». ونفى عنه أن يكون: ساحرا / معلما من شخص آخر / کاهنا.. الخ.

أراد «Lammens» أن يأتي بتفسير جديد إذ ليس أمامه إلا أن يحاول ذلك مهما كانت محاولاته بائسة وواهية. فقال: هل أرادوا أن يجعلوا منه مصابة بالعصاب،

ص: 299


1- القلم / 2- 4.

وعرضة لنوبات صرع وأزمات هستيرية؟ مؤلفون جادون قبلوا بذلك. البعض الآخر من الذين ليسوا أقل جدية اعتقدوا أنه يجب الاعتراض على ذلك. مثلما لاحظ هؤلاء الأخيرون، أن الذاكرة تكون معطلة لدى المصابين بالصرع، في حين نرى العكس لدى محمد بعد الرؤى التي يشاهدها. لا نعلم شيئا تقريبا عن الثلاثين سنة الأولى من عمره. يبدو أنه من غير المسموح لنا أن نعتمد على هذه الظواهر المرضية في طفولته والتي أوردتها السيرة النبوية، بعد أن استبعدنا بالكامل هذه الوثيقة الإسلامية عن الطفولة(1). وهكذا يلحظ «Lammens» في حيرة من أمره إزاء هذه الحقيقة الإلهية التي اطفأت، وهزمت كل التقولات القديمة والحديثة، فيؤثر الانسحاب من الميدان، ولكن ليس قبل أن يحاول ذر الرماد في عين الحقيقة والآخرين!؛ فيقول: هناك اعتقاد أنه يمكن إبراز «حالة من الهيجان الذي يولد حالات نفسية». من المرجح أننا إزاء عدد من الأمراض، التي تعود إلى مرحلة سن النضج في حياة النبي. إن حالات الحرمان التي عانى منها محمد والإهمال الذي تعرض له في طفولته، إضافة إلى العيوب الوراثية في عائلته؛ ربما تسمح لنا أن نستنتج وجود عيوب في التكوين ونقص في الاتزان. کما لاحظنا في مكان آخر «بعض الحواس نمت بشكل غير طبيعي في المزاج العصبي للنبي لسوء الحظ، كانت الأكثر فظاظة». ملذاته الحسية العميقة لم تعد موضوع نقاش. بعض کتابات السيرة تشتمل على هذه الفقرة: «كيف كان النبي يخشى الجو الغائم والعاصف». كان ينهض بسرعة، يذهب ويجيء مستسلما لحالة من الهيجان الشديد، ولكن، كما كان يقول أصحابه، إن الريح والغيوم تجدد شباب الإنسان. هذا ما كان يجب أن يكون عليه الحال، سیما تحت سماء الحجاز اللاهبة، كان محمد يتغير لونه وترتجف أعضائه خصوصا عندما يضرب إعصار أو عندما يسمع دوي الرعد. كان يقيم «صلاة الريح» من وجهة نظره، البرهان الخاص بالرحمة الإلهية. كان إنزال المطر

ص: 300


1- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 9.

من دون أن ترافقه دوي الصاعقة. عند مروره بجانب مبنی مرتفع، كان يحث الخطى خشية أن يسحق بسبب سقوط أسوار. أصبح ذلك بمثابة وسواس. على كل الأرصفة الترابية في المدينة، كان يعتقد إنه یری یهودی متوثبين لرميه. كسوف الشمس أو خسوف القمر، كانا يثيران انفعالات غير طبيعية لدى هذه الشخصية ذات الطبع العصبي.. ولكن الهلع من الكسوف والخسوف كان يتشاطره مع جميع معاصريه(1).

لجأ «Lammens» للتسويف وحشو الكلام والتظننات ناقلا - لجملة دوافع وأسباب - اسقاطات تجربته التي عاشها في طفولته! إذ سبق وأشرنا: أنه ولد لأب مدمن على الخمر؛ فيترك زوجته مع أولادها الستة وبضمنهم « Lammens» ولا قوت لهم؛ مما اضطره للعمل منذ طفولته. فهو من عانی حالات الحرمان والإهمال في طفولته. وهي بالتأكيد تصطف مع دوافع خطابه التقويضي الأخرى لتخلق فيه هذه النفسية المريضة العصبية، التي فقدت اتزانها؛ فراح يدعي وجود عيوب وراثية، ونقص في التكوين، وإنه كان يخشى الجو الغائم.. الخ. من التجنيات التي لم يقم عليها ولا شاهدا واحدا؛ إذ يعود في الجملة الأخيرة ليقول: ولكن الهلع من الكسوف والخسوف كان يتشاطره مع جميع معاصریه! بمعنى أنه لم يكن مختلفا عن بني قومه. هذا أولا. وثانيا هذه الحالة تستدعي الخوف؛ لأنها علميا تعني: وجود خلل أو اضطراب في دوران الأرض والقمر حول الشمس، ولو استمر هذا الاضطراب لأخل بالنظام الضوئي على الأرض !؛ وهذا ما استوجب عقلا . في المقام الأول - التوسل ودعوة المسؤول عن تنظيم حركة الكون أن يرجع الأمور إلى نظامها الطبيعي. أما مسألة أنه عند مروره بجانب مبنی مرتفع، كان يحث الخطى خشية أن يسحق بسبب سقوط أسوار! فهذا مما حاکه - حسب ما أشار في الهامش - اعتمادا على ما يروى : أنه عندما توجه إلى تبوك، مر بمساكن ثمود فقال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن

ص: 301


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 10-11

تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، وتقنع بردائه وهو على الرحل «(1). وهو حديث مرسل(2). وضعيف(3). وبغض النظر عن صحة وقوع الحادثة والحديث فهما لا يؤديان إلى ما رتب عليهما من نتائج؛ إذ لم يرد فيه أنه مر بجانب مرتفعات صخرية أو أسوار فخشي سقوطها عليه؛ فأسرع في السير. مما يعني أنها من تصرفات «Lammens» في النص ! وفضلا عن هذا وذاك، أليس تمتد الآن على طول الطرق علامات تحذير من عدم المرور بالمنطقة الفلانية أو تجاوزها بسرعة لأنها منطقة نشاط بركاني مثلا، أو انهيار ثلجي أو نشاط زلزالي أو رمال متحركة .. الخ. أفيكون الاستجابة لهذه التحذيرات وسواسا، وانفعالات غير طبيعية، وعصبية ومزاجا حاد وهلعا غير مبرر؟! وتزداد حيرة «Lammens» أمام ما ادعاه من وجود «حالة من الهيجان الذي يولد حالات نفسية» التي من المفترض أنها تولد تصرفات و حركات غير منتظمة، ومنتمية للبيئة أو الحاضنة الفكرية للشخص نفسه، في حين أن التفاصيل - مع الشك في كثير منها - المصاحبة لنزول الوحي لا تنجد نظريته تلك !؛ ولذلك نجده يقول: كيف نثق بهذا الوصف الذي تنم المبالغة فيه عن جهد أرعن، وعن عدم خبرة في الأمور الصوفية ؟ أليست هذه محاولات صبيانية من جانب السنة لتفسير أساليب تدخل فوق الطبيعي؟ كان محمد يعتقد حينذاك بأنه يسمع أصواتا، ویری نورا. تسكن حركته، يظهر الزبد فوق شفتيه ويشعر بثقل في أعضاء جسمه. هل صعد؟ يجد نفسه مرغما على ترك ناقته التي لم تعد قادرة على حمله، أو بالأحرى خارت قواها من هول الوحي. إن الطابع المغرض لهذه الأوصاف يقلل من قيمتها كثيرا. إذا كانت جديرة بالثقة، يمكن أن نتساءل حينذاك. فيما إذا كان الإخراج المصاحب لنزول الآيات مقصودا من جانب

ص: 302


1- أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 66؛ البخاري: صحيح، 4 / 121؛ النسائي: سنن، 6 / 373؛ البيهقي: معرفة السنن والآثار، 2/ 256.
2- ابن عبد البر: التمهید، 13 / 145.
3- ابن عدي: الكامل في الضعفاء والمتروکین، 4 / 345.

المريض (1). إذن فهو يناقض نفسه ويفند تحليله للنبوة والوحي!؛ فهو إنما ابتني فكرة وجود «حالة من الهيجان الذي يولد حالات نفسية» على أساس هذه الاخراجات المصاحبة لنزول الوحي، والتي اختلقتها أفواه ودونتها أقلام من يدعون الانتماء للإسلام، وتقديس نبيها على العموم إذا كان «Lammens» يرفض هذه الاخراجات مشكورا، ويعدها مفتعلة ومغرضة إذن فهو ينسف من الأساس نظرية وجود «حالة من الهيجان الذي يولد حالات نفسية». وقد سلف القول: أن «Lammens» بتحامله ومحاولته النيل من شخص النبي صلی الله عليه و آله أسهم بتقديمه - بصرف النظر عن النبوة والعصمة - ومن حيث لا يشعر بمنزلة لا أقل مما وصفه الشاعر الفرنسي (Lamartine = لامارتین): «إنه نبي أقل من إله وأعظم من رجل»(2)، وأنه شخص حري بالإعجاب والإتباع. ولعلنا نلمس ذلك من خلال حيرته في كل آرائه حول الشخصية النبوية، سيما عندما نجده يقول: محمد كان مبرادا جدا؛ لذلك وصفه القرآن بالمزمل والمدثر. كان يتعرق بشكل غير طبيعي حتى في أشد الأوقات برودة. كانت جبهته وإبطيه تتصبب عرقا. لا شيء حاسم في كل هذا، لا شيء يسمح بأن نثبت علميا وجود مرض عصاب، أو اضطراب فكري. إذا كان أبو القاسم قد عانى من عيوب بدنية، لايمكن إثبات ذلك بشكل قاطع، لا طبقا للقرآن ولا طبقا للسنة المفسرة بدقة وإحكام. في العمر الذي نحن بصدده، كان المصلح يبدو عصبي المزاج، مندفعا، ذا مزاج حسي، خائفة دون أن يكون إليه أي نزوع للبطولة. نلاحظ وجود ثغرة مهمة بالنسبة لشخصية كانتتعتقد أنها مدعوة لحل المشكلة الدينية: القدرة على التجرد المنطقي، كذلك الاندفاعات التي تكشف عن داخله، كان يعتبرها آتية من الخارج ومستوحاة من السماء. لم يكن يسيطر على إيمانه، ولكنه استسلم لغريزة الفطرة التي كانت تجره تارة

ص: 303


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 11-12
2- إيميل درمنغم: حياة محمد، 11.

بهذا الاتجاه وتارة باتجاه آخر. هناك اعتبارات أخرى تزيد أكثر من تحفظاتنا وعدم ثقتنا. مع تعودنا على المنطق والسلوك المنطقي نعتقد أنه يجب أن يكون الفرد مالكا لقدراته الفكرية وأن يكون لديه إدراك حسي واضح لأفعاله ونتائجها الأخلاقية. نحن نتصور محمد، بعد زيارته المزعومة لجبل حراء، عائدا وهو مدرك تماما لدوره کنبي، مع مشروع إقامة دين جديد(1).

بداية لا بد من الإشارة هنا إلى أن «Lammens »مع فساد طرحه! فهو لا يملك أصالته ! ؛ فهو إنما أعاد صياغة ما كتبه «Noldeke = نولدکه» حيال الموضوع(2)، ولكن بأسلوبه ولغته الخاصة، مع إضافات طفيفة. ومع عدم اعترافه و سابقه بنبوة النبي صلی الله علیه و آله نجدهما يتحدثان عن شخص باعتماده - كما يعبر الأخير - على وجود: «حالة من الهيجان الذي يولد حالات نفسية وعصبية في المزاج والاندفاع، مع عدم توفر أي نزوع للبطولة» !؟ يأتي بدين يشتمل على منظومة عقائدية وفكرية وأخلاقية، بل قل منظومة حياتية متكاملة شاملة، من شأنها إصلاح حياة الفرد والمجتمع من كل الجوانب ! ويجدر هنا أن نتذكر القاعدة التي وضعها «Lammens» قبل قليل لقياس صدق النبي وأمانته وهي أنه: عاش في مجتمع لم يكن قادرا على تصور الكمال الأخلاقي!؛ ولذا فإن تسميته بالصادق الأمين هي بمثابة جائزة ممنوحة من ذلك المجتمع!؛ لأن الصدق والأمانة كانت نادرة في ذلك المجتمع. بالنتيجة فإنه بمجرد أن يبدي أقل درجة من درجات الصدق والأمانة يلقب بهذا اللقب !؛ ولذلك كان يجب أن تقاس أمانته مقارنة بأتباعه في الخير مثلما هو الشر. فهو لم يكن يمتلك حسا مرهفا وراسخا !(3). إذن كيف استطاع هذا الشخص، المنطلق من بيئة فكرية ضحلة بهذا الشكل، وبالاعتماد على

ص: 304


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 13-14
2- ينظر: تاريخ القرآن، 4 - 7.
3- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 6-7.

حاضنته الفكرية الخاصة، أن يأتي بهذه المنظومة !؟ هذا ما جعل «Lammens» وكل المستشرقين الذين لا يعترفون بالنبوة يصطدمون ويتقاطعون عند هذه النقطة مع فرضياتهم حيالها! ولكي يخرج من هذا المأزق ويحافظ على سريان مفعول فرضياته قال: نعتقد أنه يحق لنا أن نشطب جبل «حراء» من قصة الدعوة الربانية الأولى (1). وأضاف أن النبي: تعين عليه مخالطة اليهود في المدينة لكي يعطوه أفكارا أكثر وضوحا. وإن الإسلام الذي بشر به في مكة في السنوات الأولى، اكتفى بإصلاح ديني واجتماعي المؤسسات قريش. وإن الأمر لم يتجاوز إعادتهم إلى دين الأنبياء السابقين المخالف لدين

قصي جد قریش. وأنه وظف لحسابه عقيدة الحنفية من خلال توسيع نطاقها، وابتکار شخصیات حنفية مستاءة من عبادة الأصنام، إلا أنهم لم يفكروا في تكوين تكتل، واكتفوا بامتلاكهم الفردي للحقيقة. فاستغل ذلك وحاول اجتذابأنصار الديانات التوحيدية إليه، بعد أن تصور بسذاجة إنه يعمل بنفس الاتجاه. وفي المدينة اكتشف العلاقة بين إبراهيم وإسماعيل، وعلاقة الاثنين بالكعبة وبمكة، وهو اكتشاف جوهري النظريته الإسلامية! وإن هذه المعلومات المكملة، كان يحصل عليها من يهود المدينة، وإن معرفته بأنهما بنيا الكعبة شكلت جزءا من جهوده في جعل دينه مستقلا، وقطع صلته بأهل الكتاب أي اليهود والمسيحيين (2).

أراد «Lammens »إرجاع الوحي والنبوة لقدرات ذاتية شخصية وبصورة عامة الميدان علم النفس «سيكولوجيا النبوة» أو الظروف النفسية للوحي، ويكفي لتفنيد هذا الرأي: أنه ليس هناك میدان لتجربته! فعلم النفس الصناعي مثلا يجد تطبيقاته وسط المصانع وبين العمال، وقياس الفعل ورد الفعل والاستجابة وما سوى ذلك، يتم على أفراد موجودين فعلا. وعلم نفس التربية تجري اختباراته في المدارس ورياض الأطفال

ص: 305


1- Mahomet fut – il sincere ?. p, 1.
2- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 14-16.

وغيرها. أما مع النبوة والأنبياء فكيف يتسنى اختبار ذلك؟! وحتى إن أجريت تطبيقات من هذا النوع على بعض القديسين، والصوفيين، الذين يمارسون بعض الرياضات الروحية، والدراويش (1). فلن تأتي بشيء جديد قطعا، فهل بالإمكان معرفة كيف تجلى الوحي لمريم عليها السلام من خلال تجربة تجرى على إحدى القديسات أو الراهبات في الكنيسة مع العلم أن مريم عليها السلام ليست سوى امرأة اعتيادية خصها الله ببعض من كراماته اللامتناهية. فإذا كان ذلك مستحيلا مع غير الأنبياء فكيف يكون معهم؟ ثم إن الوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، في حين أن الوحي الإلهي يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، بل هو غير قابل للتفكير، والحالات النفسية لا تنتج يقينا کاملا إنما تتأرجح بين الشك واليقين، في حين أن اليقين بالوحي يقينا کاملا ومطلقا، فهو حالة فريدة لا تخضع للتجربة أو التفكير، ومتيقنة لامجال معها للشك. وحالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لاشعورية ولا إرادية، والوحي ظاهرة شعورية، تتسم بالوعي والإدراك التامين؛ ولذا فهو يختص بالأنبياء، والإلهام والكشف ليسا كذلك فهما عامان وشائعان بين الناس (2). ولذلك يعترف (Emil Dermenghem = إيميل در منغم) أن: «من المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة، فمن المستشرقين من قال: إن محمدا كان فوق معاصريه مختلفا عنهم على كل حال، ومنهم من قال: إنه كان يشابههم من كل وجه..، وأراد بعضهم إكتناه صاحب ذلك الخلق العجيب؛ فذهب إلى أنه كان مصابا بالصرع، ومن دواعي الأسف أن كان «الأب لامنس» من أشدهم تعصبا، وأن شوه كتبه وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام»(3).

ص: 306


1- مونتغمري وات: محمد في مكة، 26.
2- الصغير: المستشرقون والدراسات القرآنية، 41 - 42.
3- حياة محمد، 10- 11.

نعود هنا لقاعدة «Lammens» من أنه يجب أن تقاس أمانته وصدقه مقارنة بأصحابه، فظاهرة الوحي القرآني مرئية ومسموعة ولكنها خاصة بالنبي وحده؛ في اتفق - ولو لمرة واحدة - أن سمع أصحابه صوت الوحي، ولاحدث أن رأوا هذا الكائن الوحي، ومع ذلك أدركوا صحة ما نزل عليه وصدق ما أوحي إليه؛ فقد كان يرى ويسمع، ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد، أما من حوله فهم لا يرون ولا يسمعون. على أن هذه الرؤية والسماع ربما لا يتمان بحاستي السمع والبصر الماديتين، أو لنقل المتشابهتين بينه وبين الحاضرين حوله فالمحتضر مثلا يرى ويسمع ما لا يراه ولا يسمعه من بقربه، وإلا لتمكن أولئك وهؤلاء من الرؤية، والسماع(1). بالنتيجة نجد أن «Lammens» إنما يتحدث عن معجزة بشرية، لم ولن توجد على وجه الكرة الأرضية منذ خلقت وحتى نهاية الدنيا !؟ فشخص بقدرات بدنية وفكرية بشرية ذاتية، محدودة، يعيش في بيئة فكرية أقل ما يقال عنها أنها جاهلية جهلاء استطاع التأليف والمزج بين هذه المعطيات البسيطة؛ ليأتي منها بدين جديد يقلب موازين الدنيا طولا بعرض، وينشئ عقيدة اعتنقها وما يزال مليارات الناس ومن مختلف الشعوب، بل إنها باتت البديل الوحيد - في تصور بعض الغربيين - لتخليص العالم من مشاكله(2)، لجدير بأن يتبع فضلا عن أن يقدس ويحترم! ولذلك نجد أن كتاباته رفضت ولم تقبل، بل نقدت نقدا لاذعا من قبل المستشرقين! ربما - عند بعضهم - ليس بدافع المحبة أو الاحترام منهم للإسلام ونبيه !! إنها الفساد طريقتها وتطرفها المفضوح، في التعامل والاستنتاج کما في نص در منغم المتقدم .

ص: 307


1- ينظر : الصغير، المستشرقون والدراسات القرآنية، 44.
2- مثل الألماني. د. مراد فيلفريد هوفيان. في كتابيه: (الإسلام كبديل والإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود. ظهر الأول عام 1992م. عندما والثاني عام 2000م. والفرنسي موريس بوكاي (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. ). مضافا لما حوته العديد من الكتب ضمنا.

(11)القرآن الكريم.. الاعجاز والتجربة البشرية

کر «Lammens» هنا ما سبق أن قاله (Noldeke = نولدکه) في كتابه: (تاریخ القرآن) وتحديدا في موضوعة (نبوءة محمد والوحي) التي عالجها في الصفحات (30- 52) حتى أنه كان يقتبس منه اقتباسا، ومما يسقط اجتراراته في هذا الموضوع اعتراف (Noldeke = نولدکه) نفسه بأنه: لم يصل لنتائج حاسمة في مناقشاته وبحوثه المتعلقة بالموضوع !؛ فقد سئل قبل وفاته: إن كان يشعر بالندم لأنه قضى معظم سنوات حياته في هذا التخصص، ولم يعكف على دراسة علم يعود بالفائدة العلمية على الجنس البشري، كدراسة الطب، أو الزراعة أو أي فرع معرفي غير الدين واللغات والفلسفة؟ فأجاب: إذا كان من ندم فلأنني درست علوما لم أظفر منها في النهاية بنتائج حاسمة قاطعة !(1)

ومن الغريب أن «Lammens» نفسه يعترف بذلك !؛ ويقول: «إلى ماذا أفضت العديد من البحوث المواضبة المتبحرة؟ مختص بالشؤون السامية بوزنالسيد «نولدکه » أعلن من جانبه التخلي عن سبر أغوار الغموض الذي يكتنف شخصية محمد»(2). وهي حقيقة كان قررها من بعده زميله الأب «فردینان توتل» عندما قال: أن نولدکه بعد أن تحقق من العقبات القائمة المعتورة في طريقه لمعرفة شخصية النبي، أجفل عن مواصلة البحث، وقال: إنه عدل نهائيا عن محاولة كشف القناع عن سر الشخصية النبوية(3). إذن فمبتني النظرية الأول يعترف بأنه فشل في تقديم تفسيرات ونتائج منطقية وحاسمة! ولكن «Lammens» يعاند هذه الحقيقة بعد أن أدرك أنه واقع بين

ص: 308


1- العالم : عمر لطفي: المستشرقون والقرآن، 7؛ الغزالي: مشتاق: دراسة في تاريخ القرآن، 32.
2- Qoran et Tradition. p, 5
3- في مقاله: الأب هنري لامنس، 166.

کاشتين: فمن جانب: لا يمكنه مهما عمل أن يغطي أو يقلل من قيمة الأثر الذي تمخضت عنه البعثة. ومن جانب آخر: لاتطاوعه نفسه على الاعتراف بالنبوة عزا الأمر إلى عقليته وذكائه وحنكته السياسية!

فقال: من أجل فهم هذه الأوهام، يجب أن نسبر أغوار عقلية محمد وتلك اللحظة الحرجة في حياته. ربما يكون من السخف محاولة إنكار أو التقليل من شأن ذكائه يشكل العرب شعبا منفتحا جدا، وكان محمد أكثر معاصریه انفتاحا. في المدينة أبدى مهارات حقيقية كرجل دولة ودبلوماسي على وجه الخصوص، ولكن هذا الذكاء المرن جدا لا يخلو من ثغرات تثير الدهشة؛ سببها غياب التعليم والتهذيب النظاميين. إن هذا اليتيم العصامي الذي علم نفسه بنفسه، والذي ترعرع في الوسط المكي المتعدد الأجناس، والقوميات، انتهى المطاف بفکره، الذي تطور بالمصادفة، إلى التآلف مع عدم الانضباط ومع اللامنطق، وإلى سلوك طريق العاطفة والأحاسيس، والمصالح الآنية الضيقة. إن هذه النزعة المتميزة وهذه السهولة في التآلف مع اللامنطق فاقمها أكثر اعتداد بالنفس وزهو لا حدود له. لم يمنع ذلك المؤلف من الاعتماد على القوة التي لا تقاوم لقياسة المنطقي. عندما يفضي عدم تماسك الأفكار إلى إثارة دهشة وحيرة أكثر الناس صبرا، يصرخ «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَی جَبَلٍ لَّرَأَیْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْیَةِ اللَّهِ»(1). في المدينة أوضح له اليهود والمسيحيون فظاعة ادعاءاته بخصوص إبراهيم والمغالطات التاريخية المرتكبة بهذا الشأن. أجابهم بنبرة المنتصر «یَا أَهْلَ الْکِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِی إِبْرَاهِیمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِیلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ »(2). كان ذلك بمثابة التعرض لسخرية الخصوم وتهكمهم. بنبرة الواثق من نفسه والمقتنع. تحدى هؤلاء الأخيرين بتأليف سورة واحدة. إن هذا الضلال الذي يرثى له كان يصوره على أنه

ص: 309


1- الحشر / 21.
2- آل عمران / 65.

أعجوبة العجائب. كان يؤكد بأنهم لن ينجحوا في ذلك حتى لو تدخل الجن في هذا الأمر. إذن كان يؤمن بسمو عبقريته المؤيدة من السماء! ربما يكون محمد قد أنكر إمكانية مضاهاة القرآن ليس ب-«تصور شعري أو بلاغي ذي قيمة موازية» وإنما بعمل مواز للقرآن من حيث الجوهر. وهذه مهمة مستحيلة بالنسبة لخصومه نظرا لطبيعة الموضوع. للدفاع عن الوثنية القديمة، بما أنه اتخذ موقفا مؤيدا لوحدانية الله، كانت تنقصهم القناعة الصميمية، فجعل الآلهة تتحدث مباشرة كان يبدو لهم بمثابة هجاء أو شيءغير معقول. هل يتحمسون للوحدانية ويكتفون بالاعتراض على صفة النبي التي يحملها محمد؟ بقي لهم سبیل واحد يتمثل بتقليد القرآن الذي كان يزعمون مضاهاته، والنسخة لا يمكن مقارنتها بالأصل. ازاء مواطنيه كان إيمان محمد أصيلا. ابتكر لغة أصيلة لايمكن تقليدها(1).

يظهر أن (Montgomery Wat = مونتغمري وات) استشعر تهافت هذا الطرح فلم يستسغه ورد عليه قائلا: لقد نفي كارليل(2) منذ أكثر من مئة سنة تهمة الخداع عن محمد، ومن ثم جعل العلماء يرفضونها أكثر فأكثر، ومع ذلك لا تزال، في بعض الأحيان، يتهم بها محمد. وأقصى ما يصل إليه هذا الرأي القول: بأن محمدا لم يكن يؤمن با يوحى إليه، وأنه لم يتلق الوحي من مصدر خارجي عنه، بل إنه ألف الآيات عن قصد، ثم أعلنها للناس بصورة خدع بها الناس، وجعلهم يتبعونه، فضمن لنفسه بذلك من السلطة ما يرضي طموحه وحبه للمتعة. ومثل هذه النظرة للأمور غير معقولة. وذلك لأنها لا تفسر لنا بصورة مرضية لماذا كان محمد، في الفترة الملكية مستعدا لتحمل جميع صنوف الحرمان، ولماذا فاز باحترام رجال شديدي الذكاء، وذوي أخلاق مستقيمة. كما أن ذلك لا يجعلنا نفهم كيف نجح في تأسيس ديانة عالمية

ص: 310


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 16-19
2- الأبطال، 48 - 49؛ محمد المثل الأعلى، 9 - 11.

أنجبت رجالا قداستهم واضحة للعيان. لا يفسر كل ذلك بصورة مرضية إلا إذا افترضنا صدق محمد. أي أن نعتقد بأنه: كان مقتنعة حقا بأن القرآن ليس ثمرة خياله، بل إن كل ما نزل عليه، كان من الله فهو بذلك حق(1).

أضف لذلك إن من يقرأ القرآن الكريم، يجد فيه آيات كثيرة تجرد الرسول صلی الله علیه و آله من أن يكون له فيه تدخل وتصفه بأنه كان لا يدري ما الكتاب، وتبين المنة عليه أن أوتيه بعد أن كان لا يتوقع أو لا يعلم ما سينزل عليه، قال تعالى: «وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَیْکَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَعَلَّمَکَ مَا لَمْ تَکُن تَعْلَمُ ۚ وَکَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکَ عَظِیمًا »(2). وقال :«وَکَذَلِکَ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا کُنتَ تَدْرِی مَا الْکِتَابُ وَلَا الْإِیمَانُ وَلَکِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِی بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّکَ لَتَهْدِی إِلَی صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ »(3). وقال: «وَإِذَا تُتْلَی عَلَیْهِمْ آیَاتُنَا بَیِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِینَ لَا یَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَیْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا یَکُونُ لِی أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِی ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَی إِلَیَّ ۖ إِنِّی أَخَافُ إِنْ عَصَیْتُ رَبِّی عَذَابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ »(4). فهل يصح في الأذهان أن أحدا يبتكر بعبقريته أمرا هو: مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول: ليس هذا الفخر فخري وما هو من صنعي؟! لا شك في أن هذا يخالف العقل والمنطق ويجافي العرف والعادة، وينافي مقررات علم النفس والاجتماع؛ فإن النفوس البشرية مجبولةعلى الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها، ومطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها. فما كان له أن يزهد في هذا المجد الخالد أو يتنصل من نسبته إليه لوكان من وصفه ووضعه، وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به، ولما جاء به !؛ لأنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد

ص: 311


1- محمد في المدينة، 495. ولكنه يعود ليلتوي، ويأول هذه الحقيقة تأويلا مضحكا في الصفحة التالية!
2- النساء / 113.
3- الشوری / 52.
4- يونس / 15.

فليس شيء أوجه، ولا أعلى، ولا أمجد، من أن يكون هذا القرآن كلامه، وإن كان يطلب هداية الناس، فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه، ويتحدى كل جيل وقبيل بيانه، ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه . ولو كان القرآن من تأليفه لأثبت به الوهيته بدلا من نبوته! و إذن لكانت تلك الألوهية أبلغ في نجاحه وشهرته وسيطرته، وأرجى في ترويج ديانته؛ لأن الناس تبهرهم الألوهية أكثر مما تبهرهم النبوة، ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أنهم أتباع رسول!؛ فهو مع ذلك لم، ولن يخرج يوما من أرض العبودية ولم، ولن يرتقي يوما إلى سماء الربوبية. ولهذا كان أعداء الرسل كثيرا ما يعظم عليهم أن يخضعوا لرجل منهم وكانوا يعجبون أن يوحى إلى بشر مثلهم، ويقترحون أن يروا الله جهرة، أو تنزل لهم الملائكة عيانا. فلو كان هو صاحب هذا التنزيل لخرج عن مستوى الخلق جملة. ولظهر في أفق الألوهية، يطل على العالم بعظمة تنقطع دونها الأعناق، وتخضع لها الرقاب، وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات. ولكنه اعترف بعبوديته آنذاك، وتبرأ من حوله وقوته، إزاء هذا الكتاب وغيره من المعجزات، وخوارق العادات(1). ثم ما تصنع مع الإعجاز العلمي للقرآن؟!الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لا يمكن لعقلية مخلوقة أن تأتي بمثله!؛ فأخذ بلب وعقول الغربيين قبل الشرقيين!؛ فأني لشخص عاش في البادية الجرداء، ولعله لم يسبق له أن رأي نهرا في حياته أن يقرر، منذ «أربعة عشر قرنا»: أن ماء البحار يختلف عن ماء الأنهار، أو أن الماء المالح يختلف بخواصه الفيزيائية عن الماء العذب، وأن هناك منطقة حاجزة تمنع اختلاط الأول بالثاني في مناطق التقائهما ! قال تعالى :« وَهُوَ الَّذِی مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَیْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا »(2). وقال في سورة الرحمن «مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیَانِ (19)

ص: 312


1- الزرقاني: محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، 311/2 - 314.
2- الفرقان / 53.

بَیْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا یَبْغِیَانِ (20) ليأتي العلم الحديث بعد« 14 قرن» ويثبت، بخاصية التصوير الحراري والأقمار الصناعية، أن هناك خيطا أبيضة رفيعا يفصل البحار عن بعضها، وليثبت بالتحليلات والدراسات العلمية: حقيقة اختلاف ماء البحر عن ماء النهر، وعدم اختلاطها؛ بسبب وجود منطقة حاجزة(1)! وغيرها من الحقائق العلمية التي ذكرها القرآن الكريم من قبيل: كروية الأرض، وحركة الشمس والأرض والقمر، وخلق الإنسان، والحيوان والنبات وسائر ما موجود في الكون.

ص: 313


1- زاید: فهد خليل: الإعجاز العلمي والبلاغي في القرآن، 40 - 42؛ يوسف الحاج أحمد: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، 427؛ ألجميلي: الإعجاز العلمي في القرآن، 27 - 28.

(12)دعوى الانتحال من اليهودية والمسيحية

هي طريقة رد بائسة، قديمة؛ إذ اتهم النبي بها منذ بواكير نزول القرآن، من قبل مشركي مكة!؛ فقد تذرعوا بهذه الحجة لما صدمتهم حقيقة القرآن ونوره الجلي، ولما أعيتهم الحيلة في التصدي لعظمة القرآن، ونفوذه للعقول والأرواح !؛ فقال تعالى حاكيا قدم هذا الاتهام «وَقَالُوا أَسَاطِیرُ الْأَوَّلِینَ اکْتَتَبَهَا فَهِیَ تُمْلَی عَلَیْهِ بُکْرَةً وَأَصِیلًا»(1)، وبمباشرة والتصاق أكبر بهذه الدعوى الاستشراقية«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِیٌّ مُّبِینٌ»(2) . وقد عمل «Lammens» للتدليل على انتشار اليهودية والمسيحية في شبه الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية. وكان هذا هو الهدف، والغرض الأساس من تأليفه الكتاب « Le Berceau de Islam L'A rabie Occidentale A La Veille de L'Hegire Le ClimatLes Bedouins = مهد الإسلام. غربي الجزيرة العربية قبيل الهجرة» الذي نتجت عنه صورة للجزيرة العربية وهي تموج بالمسيحيين!ليحيل إلى أثر هذا التواجد في نشأة الإسلام. ولاشك أنه، ومجموعة من المستشرقين، لم يحتكموا المنطق العقل!؛ وإلا لوضعوا في الحسبان: أن اليهود والمسيحيين وهم من أشد المتضررين - لعنادهم و فساد عقائدهم - آنذاك من البعثة النبوية ونزول القرآن، لم يستثمروا – لعلمهم بفسادها - والحالة أن الظروف مهيأة لذلك، بعدما جاء مشرکو مكة بهذه الفكرة، هذه الفرية في مواجهة الدعوة الإسلامية ؟! فلم يؤثر أن أحدا من اليهود أو النصارى قال للنبي: إنك إنما أخذت هذه الأمور عنا، فكيف تدعي بأنها توحي إليك !؟ بل الحقيقة خلاف ذلك وهي: أنه بين لهم وقرعهم؛ لأنهم أفسدوا عقائدهم، ودينهم، ومالوا بها

ص: 314


1- الفرقان / 5.
2- النحل / 103.

عن الطريق الصحيح. فلو كانوا هم من علموه ما قال! كان الأولى بهم أن يعارضوه على ما زاد وغير ما أخبروه به !؟ ولاتخذوا ذلك وسيلة ضده!؟ أو على الأقل يخبروا قريشا بما قالوه له، ويعلموهم طريقة الرد عليه، ونقاط الضعف في دعواه؟! ثم إن كانوا هم من زودوه بهذه المعارف، فلم لم يقوموا هم بتأليف القرآن ؟! أو تأليف سورة أو آية من مثله؟! سيما وإن القرآن تحداهم مرارا وتكرارا بهذه الحقيقة !؟

وعلى العموم لا تشذ فكرة «Lammens» في هذه الجزئية، عن غيره من المستشرقين (1)؛ فهو يدعي أن هذه الخبرة أنتجت جراء المعايشة الطويلة للموحدين! فقال: تعایش محمد طويلا مع الموحدين: حنفيين وغيرهم، وبمساعدة زهوه، واعتداده بنفسه، عد عمل فكره، ونتائج حججه حولالمقدمات المنطقية والمعطيات التي زوده بها أصدقاؤه المسيحيون واليهود، وحيا من السماء وتخيل أنها توحي إليه من الله، وإنها جديدة تماما. اعتقد أنه يعرف دينهم أكثر مما يعرفونه هم؛ فأراد أن يقنع اليهود بتحريف نصوص التوراة فمثلا: في عصره كانت الألسن تتداول أقوالا مأثورة منسوبة للقمان الوهمي تحت اسم حكمة لقمان. في اجتماعات المجالس، وتحت خيمة بائعي الخمور، كان الرواة الرحل يقصون بالتفصيل حكاية الإسكندر. هذه الأماكن وهذه الحكايات بدت له كمصادر جديدة للوحي النبوي، ولتأكيد استنتاجاته الخاصة. في يوم من الأيام اكتشف توافق استنتاجاته الشخصية مع بعض عقائد الديانات التوحيدية الكبرى. في هذه المصادفة، المذهلة بالنسبة له، اعتقد أنه وجد آخر وأسمى دليل على صدقه وعلى تهيؤه للرسالة النبوية. ظن نفسه مكملا لإبراهيم وموسى الذي کشف له أهل الكتاب عن وجوده(2). خلال تأملاته المنفردة في مكة، ألف لنفسه ما

ص: 315


1- على سبيل المثال: نولدکه: تاريخ القرآن، 4 - 19.
2- يستشهد بقوله تعالى«فَإِن کُنتَ فِی شَکٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَیْکَ فَاسْأَلِ الَّذِینَ یَقْرَءُونَ الْکِتَابَ مِن قَبْلِکَ ۚ لَقَدْ جَاءَکَ الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ فَلَا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ» یونس / 94.

يشبه الملخص لتاريخ الإنسانية الديني: يبعث الله الأنبياء في فترات زمنية متباعدة تقريبا لإعادة الأمم إلى التوحيد، وبما إن أحدا لم يصغ إليهم. تنهي الكوارث أو العقابات جميع هذه البعثات النبوية. ولكن الله لا يتعب من أن يعيد الكرة، كما إن القرآن لا يكل من تكرار هذه القصص التاريخية الرتيبة. يبدو أن المنسيين الوحيدين في هذا التقسيم النبوي هم العرب، أو بالأحرى شبه الجزيرة العربية التي يعرفها محمد بشكل خاص. كان لا بد من اصطفائه ليعالج هذا الإهمال. مثله كان نوح ويونس يدعوان إلى عبادة إله واحد، ويعلنان عن عقاب وشيك مثله، كانا يريان نفسيهما مهملين ومضطهدين. قواسم مشتركة جديدة! كان عقله وفكره يتحمسان عندما يتفکر بها. لم يعد هناك شك محتمل! شکل آخر حلقة في سلسلة الرجال الخارقين الذين يختارهم الله. إنه «خاتم النبيين». عند وصوله إلى المدينة، اندهش بسذاجة من رؤية اليهود يرفضون دعوته الواضحة. فسر عنادهم بغيرة هؤلاء الأجانب من العرب الذين من الله عليهم أخيرا بنبي منهم. بهذا الشكل تبدو مشكلة صدق محمد أقل صعوبة. نجد أنفسنا إزاء ظاهرة إيحاء ذاتي، وإزاء شخصية تمتلك قدرة رهيبة على أن يبصر بذاته، شخصية معتادة على قراءة ما تتمنی اکتشافه(1).

يظهر أن «Lammens» قد نسي أنه قبل قليل أن النبي: وظف لحسابه عقيدة الحنفية، من خلال توسيع نطاقها، وابتکار شخصیات حنفية مستاءة من عبادة الأصنام؟(2). أي شكك أن يكون هناك حنفاء في مكة. ثم جاء ليعلن عن تواجدهم هنا: تعایش محمد طويلا مع الموحدين: حنفيين وغيرهم؟! کما نسي أنه قد حذف «غار حراء» من قصة الدعوة الربانية الأولى. ونفى لجوء النبي صلی الله عليه و آله إلى الوحدة والعزلة في مكة !؟: نعتقد أنه يحق لنا أن نشطب جبل حراء من قصة الدعوة الربانية الأولى! وقال:

ص: 316


1- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 19-21
2- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 15-16

أنه على العكس كان يخاف الوحدة! هلوعا منها! وإن السنة اختلقتها كمحاكاة وتقليد العزلة موسى في سيناء، والمسيح في الصحراء(1) . فجاء هنا لیقول: أنه خلال تأملاته المنفردة في مكة، ألف لنفسه ما يشبه الملخص لتاريخ الإنسانية الديني !؟ ثم إنه لم يرد أن مكة كانت تحوي جالية يهودية أو مسيحية ليجالسهم النبي ويكون عنهم شبه الملخص التاريخي. ثم إن الجزء الأكبر من القرآن نزل في مكة، والمسلمون عندما هاجروا إلى المدينة، كانوا يحملون برنامجا دينيا شبه متکامل، بمعنى أنه لم يكن بحاجة لإشارات من اليهود أو المسيحيين أو غيرهم. وليت «Lammens»دلنا أين وجد رواية مجالستهم والقصاصين تحت خيمة بائعي الخمور!؟ لا شك أنها صورة منبعثة من خيال القرون الوسطى بامتياز! استحضرتها مخيلته وتأملاته وقراءاته الطويلة في مندرجات المنافحة الصليبية البائسة مع الإسلام. ولطالما أولع «Lammens» بهذه الصور، فنراه يقول في مكان آخر: «أن النبي عندما تحول إلى رئيس دولة قرر المجازفة بكل شيء، وترك الحظ يقوده من بدر إلى أحد، من أحد إلى حصار المدينة، وأخيرا إلى فتح مكة. مصلح، نبي، رئيس دولة، قائد حرب، فاتح، هل كان أبو القاسم قد استشف هذه المراحل عندما عاد من رؤيته الأولى متغنجا على ركبتي خديجة»(2).

ثم إن الشخصيات التي تحدث عنها القرآن كلقمان الحكيم، وذي القرنيين، وغيرهما، والذين قدمهم القرآن على أنهم أنبياء أو عباد صالحون، إن لم يكن لليهود والمسيحيين علم ومعرفة بهم، مع أنهم أصحاب دیانات سابقة، فكيف بالقصاص التافهين تحت خيمة بائعي الخمور، فمن أين جاء هؤلاء البسطاء بهذه المعلومات؟ لم يقدم لنا « Lammens» إجابة لذلك. ثم من هم هؤلاء القصاصون؟! ومن أين عرفوا هذه المعلومات؟! الإجابة الوحيدة في القرآن فقط، قال تعالى:«تِلْکَ الْقُرَی نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَیِّنَاتِ فَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا بِمَا کَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ کَذَلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلَی قُلُوبِ الْکَافِرِینَ

ص: 317


1- Mahomet fut – il sincere ?. p, 1.
2- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 53

تِلْکَ الْقُرَی نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَیِّنَاتِ فَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا بِمَا کَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ کَذَلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلَی قُلُوبِ الْکَافِرِینَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَیِّنَاتِ فَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا بِمَا کَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ کَذَلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلَی قُلُوبِ الْکَافِرِینَ»(1). وقال تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن کُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِینَ»(2).

لم يكن اليهود والمسيحيون ولا غيرهم يعلمون حقيقة تلك القصص والأخبار؛ لأنهم لم يبقوا على كتب أنبيائهم، بل حرفوا شرائعهم وسيرهم، حتى ما عادوا يهتدون لما هو صحيح وما هوكذب واختلاق وتزوير؛ ولذلك أسقط ما في أيديهم بعدما وبخهم القرآن الكريم على ما أقترفوه بحق أنبيائهم، وما قدمه من بدیل واقعي وحقيقي لتلك الصور النبوية المشوهة كان اليهود قدموا هارون عليه السلام - والعياذ بالله - على أنه هو من صنع العجل ودعا اليهود لعبادته بعد غياب موسی عليه السلام!؛ إذ جاء في سفر الخروج / الإصحاح 32 / الفقرات 1 - 10»: «ورأى الشعب أن موسى قد تأخر في النزول من الجبل، فاجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فإن موسی، ذلك الرجل الذي أصعدناه من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابه . فقال لهم هارون: انزعوا حلقات الذهب التي في آذان نسائكم وبنیکم وبناتكم، واتوني بها؛ فنزع كل الشعب حلقات الذهب التي في آذانهم، واتوا بها هارون، فأخذها وصبها في قالب، وصنعها عجلا مسبوكا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل، التي أصعدتك من أرض مصر، فلما رأى هارون ذلك، بنی مذبحا أمام العجل ونادي قائلا: غدا عيد الرب؛ فيكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقربوا ذبائح سلامة، وجلس الشعب يأكل ويشرب، ثم قام يلعب». |في حين نزه القرآن هارون عليه السلام عن هذا الفعل؛ فهو نبي مرسل ليدعو الناس العبادة الله لا لعبادة العجل، قال تعالى حاکيا حقيقة ذلك الحدث في سورة طه :

ص: 318


1- الأعراف / 101.
2- يوسف / 3.

وَمَا أَعْجَلَکَ عَن قَوْمِکَ یَا مُوسَی (83)قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَی أَثَرِی وَعَجِلْتُ إِلَیْکَ رَبِّ لِتَرْضَی (84)قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَکَ مِن بَعْدِکَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِیُّ (85)فَرَجَعَ مُوسَی إِلَی قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ یَا قَوْمِ أَلَمْ یَعِدْکُمْ رَبُّکُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَیْکُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن یَحِلَّ عَلَیْکُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّکُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِی (86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَکَ بِمَلْکِنَا وَلَکِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِینَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَکَذَلِکَ أَلْقَی السَّامِرِیُّ (87)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُکُمْ وَإِلَهُ مُوسَی فَنَسِیَ (88)أَفَلَا یَرَوْنَ أَلَّا یَرْجِعُ إِلَیْهِمْ قَوْلًا وَلَا یَمْلِکُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ یَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّکُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِی وَأَطِیعُوا أَمْرِی (90)قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَیْهِ عَاکِفِینَ حَتَّی یَرْجِعَ إِلَیْنَا مُوسَی (91)

قَالَ یَا هَارُونُ مَا مَنَعَکَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا (92)أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَیْتَ أَمْرِی (93)قَالَ یَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْیَتِی وَلَا بِرَأْسِی ۖ إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَیْنَ بَنِی إِسْرَائِیلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِی (94)قَالَ فَمَا خَطْبُکَ یَا سَامِرِیُّ (95)قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ یَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَکَذَلِکَ سَوَّلَتْ لِی نَفْسِی (96)قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَکَ فِی الْحَیَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَکَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ وَانظُرْ إِلَی إِلَهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عَاکِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِی الْیَمِّ نَسْفًا».

وقدموا لوط على أنه - والعياذ بالله - قد زنا بابنتيه، إذ جاء في سفر التكوين / الإصحاح 19 / الفقرات 30 - 38» تحت موضوعة: «أصل الموآبيين والعمونيين» ما نصه: «وصعد لوط من صوعر، وأقام في الجبل هو وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يقيم في صوعر، فأقام في مغارة هو وابنتاه، فقالت الكبرى للصغرى: إن أبانا قد شاخ، وليس في الأرض رجل يدخل علينا على عادة الأرض كلها، تعالي نسقي أبانا خمرا، ونضاجعه ونقيم من أبينا نسلا؛ فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، وجاءت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنیامها ولا قيامها، فلما كان الغد، قالت الكبرى للصغرى: ها أنا ذا قد ضاجعت أمس أبي، فلنسقه خمرا هذه الليلة أيضا، وتعالي أنت فضاجعيه لنقيم من ابينا نس؛ فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغرى فضاجعته، ولم يعلم بنیامها ولا قيامها، فحملت ابنتا لوط من أبيهما، وولدت الكبرى ابنا وسمته موآب،

ص: 319

وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغرى أيضا ولدت ابنا وسمته بنعمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم».

وقدموا داود7 في «سفر صموئيل الثاني / الإصحاح / 11، الفقرات 1 - 27»:على أنه تمشى على سطح قصره، فرأى زوجة أوريا الحثي وهي تستحم، وكانت غاية في الجبال، فأعجب بها، وأرسل إليها، فجيء بها، فاضطجع معها، ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، فأرسلت إلى داود، وأخبرته بحملها، فأرسل داود وراء أوريا، وكان في الحرب مع القائد يوآب، وطلب منه أن يذهب إلى بيته، ليضاجع زوجته؛ لتضيع جريمته وينسب الحمل لأوريا، لكن أوريا لم يذهب إلى البيت، ونام على باب قصر داود مع العبيد. فقال داود: أماجئت من السفر، فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟، فأجاب أوريا: التابوت، وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يو آب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لأكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر، فما كان من داود إلا أن دعاه، وأسكره عله يذهب إلى بيته، ويضاجع زوجته، فلم ينجح هذه المرة أيضا؛ إذ أن أوریا رفض الذهاب إلى البيت ونام مع الخدم والعبيد، فما كان من داود إلا أن كتب إلى قائده یوآب کتابا، وأرسله بيد أوريا، وكان فيه: أن يجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديد، ويرجعوا من وراءه؛ ليضرب ويموت، ففعلوا ذلك ومات أوریا، فلما مضت المناحة أرسل داود لزوجته، وضمها إلى بيته، وصارت امرأة له، وولدت له ابنا. في حين كان وصف القرآن لنبي الله دواد علیه السلام أنه كان كثير العبادة والخشوع والتضرع وكثير الأوب والرجوع إلى الله(1) مع ما منح من أسباب القوة والسلطان، والعلم. قال تعالى: «اصْبِرْ عَلَی مَا یَقُولُونَ وَاذْکُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَیْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ»(2) وقال تعالى «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَیْمَانَ

ص: 320


1- الطوسي: التبيان، 8/ 549؛ الطبري: جامع البیان، 23 / 162-163.
2- سورة ص / 17.

وَکُلًّا آتَیْنَا حُکْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ یُسَبِّحْنَ وَالطَّیْرَ ۚ وَکُنَّا فَاعِلِینَ »(1)و«وَلَقَدْ آتَیْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ یَا جِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَالطَّیْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِیدَ »(2).

وقدم المسيحيون عيسى عليه السلام على أنه - والعياذ بالله - يدعي الألوهية! ويشرب الخمر ! وينتهر أمه مريم العذراء عليها السلام ويوبخها! إذ جاء في إنجيل «يوحنا» ما نصه : «وفي اليوم الثالث، كان في قانا الجليل عرس وكانت أم يسوع هناك. فدعي يسوع أيضا وتلاميذه إلى العرس، ونفدت الخمر، فقالت ليسوع أمه: ليس عندهم خمر، فقال يسوع: مالي ومالك أيتها المرأة لم تأت ساعتي بعد»(3).وفي إنجيل متي»: «وبينما هو يكلم الجموع إذ أمه وإخوته قد وقفوا في خارج الدار يريدون أن يكلموه، فقال له بعضهم: إن أمك وإخوتك واقفون في خارج الدار يريدون أن يكلموك فأجاب: من أمي ومن إخوتي؟، ثم أشار بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي؛ لأن من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي»(4).في الوقت الذي يصفه القرآن أنه بار رحيم بأمه، قال تعالى في سورة مريم «قَالَ إِنِّی عَبْدُ اللَّهِ آتَانِیَ الْکِتَابَ وَجَعَلَنِی نَبِیًّا (30) وَجَعَلَنِی مُبَارَکًا أَیْنَ مَا کُنتُ وَأَوْصَانِی بِالصَّلَاةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِی وَلَمْ یَجْعَلْنِی جَبَّارًا شَقِیًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَیَّ یَوْمَ وُلِدتُّ وَیَوْمَ أَمُوتُ وَیَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا (33)ذَلِکَ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِی فِیهِ یَمْتَرُونَ (34) مَا کَانَ لِلَّهِ أَن یَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَی أَمْرًا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُ کُن فَیَکُونُ (35)» . ومن هنا يتضح أن اليهود والمسيحيين، لم يمتلكوا معلومات تمكنهم من مجارات المعلومة القرآنية، بشأن أنبيائهم السابقين - بل إنهم أدركوا أن القرآن يقدسهم أجل تقديس، بمقابل ما حطوا من منزلتهم ! -، فإذا

ص: 321


1- الأنبياء / 79.
2- سبأ / 10.
3- .4 -3 /2
4- 49 - 46/12

كان هذا الحال مع أنبيائهم، فكيف مع باقي الشخصيات كلقمان الحكيم والإسكندر وغيرهم! وبالعودة لكلام «Lammens» السابق من: أن تلك الشخصيات مجرد وهم حاكه الرواة الرحل: في عصره كانت الألسن تتداول أقوالا مأثورة منسوبة للقان الوهمي، تحت اسم حكمة لقان. في اجتماعات المجالس، وتحت خيمة بائعي الخمور، كان الرواة الرحل يقصون بالتفصيل حكاية الإسكندر، هذه الأماكن وهذه الحكايات بدت له مصادر جديدة للوحي النبوي، ولتأكيد استنتاجاته الخاصة. في يوم من الأيام، اكتشف توافق استنتاجاته الشخصية مع بعض عقائد الديانات التوحيدية الكبرى، في هذه المصادفة، المذهلة بالنسبة له، اعتقد أنه وجد آخر وأسمى دليل على صدقه وعلى تهيئه للرسالة النبوية. اعتبر نفسه مكملا لإبراهيم وموسى الذي كشف له أهل الكتاب عن وجوده(1). وكان «Lammens» استدل على هذه الدعوى بقوله تعالى :«فَإِن کُنتَ فِی شَکٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَیْکَ فَاسْأَلِ الَّذِینَ یَقْرَءُونَ الْکِتَابَ مِن قَبْلِکَ ۚ لَقَدْ جَاءَکَ الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ فَلَا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ »(2)، وبما أخبر به القرآن الكريم عن قصص الأنبياء: نوح وإبراهيم وموسى وهود ولوط وصالح وشعيب عليهما السلام وتعبيره في سورة الشعراء «وَإِنَّهُ لَفِی زُبُرِ الْأَوَّلِینَ (196)أَوَلَمْ یَکُن لَّهُمْ آیَةً أَن یَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِی إِسْرَائِیلَ (197) »وفي كلا الموضعين الحجة على «Lammens»فالسؤال في الآية الأولى، فضلا عن كونه مستغن عنه. ولكن مع فرضية حصوله فهو إنما كان من باب زيادة التأكيد لا أكثر؛ وإلا فالآية تقول صراحة: أن هناك معلومة أو شيء أنزل على النبي صلی الله علیه و آله مباشرة! ولم يأخذه ممن يقرءون الكتاب! نعم هو أعطي الخيار بأن يسأل من يقرأون الكتاب! ومع رجاحة الاستغناء عن السؤال؛ فما أنزل إليه هو الحق؛ بدليل أن المعنيين بالسؤال لم يعترضوا على المعلومات التي قدمها القرآن الكريم؛ لأنها بينت كذب وزيف معلوماتهم، وإلا

ص: 322


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 17-20
2- يونس / 94.

كيف تؤمنوا بشخصيات هذه سلوكياتهم! أما الآيتان في السورة الثانية، فهما يؤدیان الذات المعني. أي: إن القرآن الكريم قد زود النبي صلی الله علیه و آله، بمعلومات يمكن الاحتجاج بها على بني إسرائيل وغيرهم !؛ لأنها بخطوطها العريضة - وإن حرفت - موجودة في كتبهم ولا يستطيعون إنكارها! نعم هم ادعوا أن إبراهيم علیه السلام كان يهوديا أو نصرانيا، فأجابهم القرآن الكريم بنفي ذلك (1). وبحسب قاعدة «Lammens» يكون اليهود والمسيحيون قد أخذوا معلوماتهم عن إبراهيم علیه السلام من أشخاص آخرين، قصاص أو أهل ديانة أخرى؛ فهم لم يكونوا موجودين ولا توراتهم في وقته ! فلماذا عندما يتحدث القرآن عن شخصيات وأنبیاء سابقين يكون أخذ عن اليهود والمسيحيين ! وعندما يتحدثون هم عنهم لا يكونوا أخذوها من أحد!؟

ص: 323


1- آل عمران / 95 - 66.

(13)الدعوة الإسلامية المغامرة والظروف

عندما لا تسعف «Lammens»الوسائل في لي عنق الحقيقة! نراه يعلقها على الصدفة والمصادفة! فلما لم يكن له بد من الاعتراف بنجاح النبي صلی الله علیه و آله في استقطاب المسلمين، على مختلف طبقاتهم؛ راح يتفنن في إظهارها على أنها محض صدفة وجدت الظروف المناسبة لنموها! وما أكثر تلك الصدف، والمصادفات عند « Lammens »!؛ فها هي توصله إلى القول: نحن نعلم أن الأقلية المتنفذة في قريش كانت تبدي تشدد إزاء الضعفاء. فقط الأرستقراطية، بالولادة أوبالمال، كانت تمتلك وتسيطر على مقاليد التجارة العليا والحكم. هذه الطبقة استبعدت عن السلطة قريش الضواحي. باحتجاجه على هذا الأحتكار وبدفاعه عن الكادحين وعن الطبقة البرجوازية الصغيرة؛ كان بمقدور محمد أن يتفاخر بكسبه تعاطفات مع قضيته. كانوا جميعا من صغار التجار، مثل والد عائشة، وعبدالرحمن بن عوف، أو من عوام الشعب مثل عمرو وأبو عبيدة، هذا الأخير لا يمتلك ثروة وليس لديه عائلة تقريبا. لم يكن أي واحد منهم يدير مصرفا كبيرا في مكة، أو ينتمي لدار الندوة ولا حتى يمني النفس بالوصول إلى هناك ذات يوم. طبقة مؤلفة من العبيد والمعتوقين ومن الذين لا وطن لهم، مغامرون جذبهم إلى مكة الأمل في الاغتناء، أو جلبهم تجار الرقيق: بلال، صهيب، سالم، عار. بدا الدستور المكي إزاء هؤلاء الخارجين على القانون بلا رحمة ولا شفقة. كانت حياتهم عرضة لكافة أشكال العنف؛ فلم يكن هناك ما يشدهم إلى المدينة، كما أنهم كانوا بلا حماية. في هذا المجتمع ذي الأطر الضيقة، كان الفرد يجد نفسه مضحيا من أجل الجماعة. الويل لمن لا تؤمن له الأعراف والتقاليد وروابط الدم مكانا في المجتمع. من وقت لآخر كان يظهر في مكة أناس لتصحيح الخطأ، من خلال إقامة حلف ما. إن هذه المحاولات غير المنسقة كانت تجهض أو تصطدم بالفساد العام. ماذا

ص: 324

كان يعوزهم؛ لكي ينجحوا؟ زعيم مرموق، وبرنامج معد بشكل جيد. أراد محمد أن يكون هذا الشخص وتصور أنه يمتلك هذا البرنامج. لماذا لا يغامر ؟ لم يكن لديه ما يخسره؛ لأنه لم يكن شيئا ولا يمتلك شيئا. إذا نجح، ستكون عائلته بالتبني بنو هاشم، ممتنة منه، وفي حالة الفشل، كان بمقدوره الاعتماد على حمايتهم. مرة أخرى لم تكن هذه الخطة تتضمن أية بطولة. ولكن كم كانت ذات مغزى تلك القناعة والدوافع الشخصية والمصالح الدينية الخسيسة الم يكن أبو القاسم على خطأ عندما اتخذ صفة«النبي العربي» كلما كان يتقدم، كان يظهر أكثر ذلك القرشي ذو البصيرة النافذة لينتهي به المطاف إلى ابتلاع النبي (1).

يظهر أن «Lammens» قد نسي أنه في بحثه الأول، قد شكك في تعرض المسلمين الأوائل في مكة - سيما الضعفاء منهم - للعذاب ! فقال: «إن السنة وجدت في الاضطهاد الذي واجهه المصلح، اضطهادا حقيقيا، ومن وجهة نظرها، أصبحت هذه الفترة عصر الموت الإسلامي. وفي كل القرآن لم يذكر محمد الحذر جدا سوی اسم أبي لهب، الذي كان نموذج الرجل المضطهد الذي يقف وراء كل المؤامرات ضد الإسلام الفتي»(2).بمعنى لم يكن هناك تعذيبلضعفاء المسلمين في مكة!؛ وإلا لذكر الشخصيات التي تقوم بذلك، ولم يقتصر على أبي لهب ؟ بينما جاء هنا ليقول: «بدا الدستور المكي تجاه هؤلاء الخارجين على القانون بلا رحمة ولا شفقة. كانت حياتهم عرضة لكافة أشكال العنف»(3). وهكذا نراه ينفي الاضطهاد والتعذيب هناك لأنه پرید نفيه! ويثبته هنا لأنه يريد أن يجعله السبب الرئيس في إسلام هؤلاء المعذبين وإن النبي صلی الله علیه و آله استغل شقاءهم لحسابه الخاص !؛ فأنشأ من خلالهم دعوة الإسلام! هذه هي السيرة الأكثر عقلانية التي يدعي «Lammens» أنه يقدمها لقرائه !؟ متغافلا عن أن

ص: 325


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 22-24.
2- Qoran et Tradition. pp, 11-12.
3- Mahomet fut – il sincere ?. p, 23

النبي صلی الله علیه و آله كان بإمكانه الحصول على ما يريد مقابل ترك الدعوة! ومن خلال الموقع الذي تعهدت قريش أن تمنحه له، كان بإمكانه تحسين وضعية هؤلاء الضعفاء، وإجراء الإصلاحات، وتجنيب نفسه وأصحابه كل هذه المصاعب ! وكم كان حريا بهم أن تجنبوا أنفسهم تلك العذابات، وذلك العنف الذي تعرضوا له بعد أن أسلموا؟! كان المنطق والعقل - بحسب فرضية «Lammens »- يفرض، ويحكم، أن يبقوا على علاقاتهم جيدة بأسيادهم، أو على الأقل، أن لا يغامروا بالانضمام لتلك الدعوة، أو على العكس يحاربوها؛ ليحظوا بما حظي به العبد «وحشي» مثلا؟! ثم إن أساس الدعوة النبوية، كان توحيد الله والإيمان به، ونبذ عبادة الأوثان والأصنام، وما كان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي إلا نتيجة منطقية للدعوة، بمعنى أن محاربة الاحتكار والظلم والاعتداء على الضعفاء والمساواة.. ما هي إلا تحصيل حاصل للإيمان بالله . أما ما كان تدعوله الأحلاف، فيما كان يتعدى، في أفضل الأحوال - كما في حلف الفضول(1) - نصرة المظلوم. ويظهر أن «Lammens» في غمرة تفلسفه، نسي أن الدعوة النبوية إنها احتضنت ونمت في المدينة وليس في مكة، فإذا كان لأهل مكة - المسحوقين / المظلومين / العبيد.. الخ - قد رحبوا بهذه المغامرة لانتشالهم من أوضاعهم المزرية، فما بال سكان المدينة يخفوا للترحيب بها واحتضانها، ويبذلون أموالهم وأنفسهم دونها؟! ومن الغريب المضحك أنه يعود ليقول: «لولا العقيدة، لما كان محمد قد نجح في كسب تأييد الأنصار، غير المكترثين لإصلاح النظم القرشية، ولتحسين وضع الكادحين في مكة»(2).لم يكن «Lammens »ممن يذعنون لصوت المنطق والعقل! ألم يسأل نفسه: كيف المغامرة خدمتها الظروف أن تحيا كل هذه

ص: 326


1- سمي الفضول لفضله. تعاهدت فيه بعض بطون قریش کبني هاشم، وبنو أسد وبنو زهرة وغيرهم على إنصاف المظلومين. وكان سببه أن رجلا من اليمن جاء إلى مكة ببضاعة له، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، ولم يعطه ثمنها؛ فناشد قریشا ظلامته؛ فأنصفوه. محمد بن حبيب: المنمق، 52 - 53.
2- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 22

السنين؟! أم هل شهد تاريخ الأرض مغامرة مماثلة، تحافظ على سريان مفعولها وقوتها وحضورها بعدما غادرت ظروف نجاحها الأول بأكثر من (14 قرن) أم هل يظن «Lammers» أنه بهذه المغالطات سيحط من قداسة النبي صلی الله علیه و آله، أظنه على العكس قدمه كشخصية خارقة للعادة لم ينجب التاريخ مثلها وللمسلمين ما زادهم قناعة بأنه شخص حير عقول أعدائه قبل أتباعه!

يعود «Lammens» للكذب الصريح فيدعي أن النبي: هاجم بشدة التوقير الوثني للكعبة وللحجر الأسود! تركزت هجماته على هذه النقطة. يزخر القرآن بآيات بليغة عن بذاءة وفظاظة دين قریش «الكعبة هي العدو» ! هذا هو الأمر الذي تلقاه أول المنتمين في المدينة. بقيت الكعبة مثار اهتمامه. هذه المرة ليس من أجل مهاجمتها، بل من أجل فتحها. بعد تحقق هذه النتيجة، لم يعد يهتم لا بالكعبة ولا بالحج. قبل أشهر معدودة من وفاته، قرر القيام بهذا الواجب الذي صوره على أنه أعلى درجات الدين. لم يفهم الأنصار السذج أي شيء من هذه التدابير. في يوم استلام مكة، اعتقدوا أنهم يشهدون هدم هذا المكان المخصص لعبادة الأصنام. في أي وقت من عمره، لم يبد محمد نوایا عدائية ضد الكعبة. من يستطيع أن يتصور الإسلام بدون الحجر الأسود،بدون الحج. الكثير من الممارسات المشبعة جدا بالخرافات الوثنية. أيد محمد الطقوس التي تمارس في الحرم وتمنى استمرارها. أكد أنه تلقى الأمر من السماء بأن يبقى مخلصا وذلك في فترة كان ما يزال يجهل فيها بناؤها المزعوم من قبل إبراهيم.. من حيث المبدأ، كان موقفه إزاء آلهة مكة ينقصه الحزم. فمع أنه اعتبرها أدنى من الله، إلا أنه سعی لئن يخصص لها مكانة في نظامه. كذلك عزا للكعبة تنظيم القافلتين التجاريتين السنويتين الكبيرتين. إذن لم يشجب رب محمد المكانة الشرفية التي تعطيها قريش لأصنامها، طالما أنه كافأهم بهذا الشكل الرائع؟(1).

(1) يستشهد بقوله تعالى«إنَّما أُمِرتُ أن أَعبُدَ رَبَّ هذِهِ البَلدَةِ الَّذِي حُرَّمَها وَلِهَ كُلَّ شَيٍ وأُمِرتُ أنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

ص: 327


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 24-27

کلام «Lammens» هنا مجرد خلط للأوراق لا أكثر؛ فالفرق شاسع جدا بين أن تنتقد الممارسات العبادية والدينية القرشية في الكعبة، وأن تكون الكعبة هي العدو؟ وأن يكون الهجوم موجها نحوها كبناية! فهل ثمة عاقل يهاجم حجر؟! وأين هي الآية التي هوجمت فيها الكعبة كبناء؟! وكم هي مخجلة تلك الدعاوي !؛ وإلا كيف يدل قوله تعالى:«إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِی حَرَّمَهَا وَلَهُ کُلُّ شَیْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ»(1) وقوله تعالى«وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَی مَعَکَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَکِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا یُجْبَی إِلَیْهِ ثَمَرَاتُ کُلِّ شَیْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لَا یَعْلَمُونَ»(2) وقوله تعالى:«أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَیُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ یُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ یَکْفُرُونَ »(3)وقوله تعالى في سورة قريش:«فَلْیَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَیْتِ (3)الَّذِی أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ »، على توقير للطقوس والعبادة الوثنية التي تمارس في مكة؟ أم كيف تدل على مهاجمة للكعبة؟ فهذه الآيات إنما تقرع المشركين لعدم إيمانهم بالله الواحد رب البيت الحق، الذي أظهر لهم كثيرا من الكرامات في بلدتهم هذه، والذي بفضله أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، إلا أنهم دنسوها بأن جعلوها مقرا لعبادة الأوثان والأصنام! بالنتيجة هذه الآيات فيها تسفيه وتقريع لمشركي مكة لا مكافأة بشكل رائع كما يدعي « Lammens» ولا شك أنه تحاشی ذکر أي من الآيات لأنها تكشف كذبه وتفضحه. ثم إن العقل يحكم، بأن لا تهاجم الأوثان والأصنام، بما هي جمادات غير عاقلة إنها ينتقد الفكر البشري الذي يتوسل بهذه الجمادات، ويتخذها ربا من دون الله .

ص: 328


1- النمل / 91.
2- القصص / 57.
3- العنكبوت / 67.

(14)من محمد النبي إلى محمد الملك

يمعن «Lammens» في مخالفة المنطق والتعقل، ومغادرة أطر البحث العلمي، أو الاستعراض التاريخي على الأقل؛ لحد ينفر المستشرقين قبل المسلمين ! كما يمتهن النصوص التاريخية ويستبيحها بصورة عجيبة، من دون أدنى وخز لضمير؟ أو مراعاة الأدنى مستويات الأمانة العلمية! أو على الأقل الأخلاق البحثية! يستبيح تلك النصوص ويشوهها!؛ من خلال استخدام مدلولات لفظية حديثة، تسهم في رسم صورة مغايرة لواقع النص! ومن خلال الإضافة على النص ما ليس فيه من الأساس !! ليؤدي به إلى المعنى الذي يريده!؛ فقد حاول جاهدا رسم صورة «محمد الملك» من خلال التلاعب ببعض النصوص فقال: «ومثل غيره من «الحكام الإمبراطوريين» كان محمد يمتلك تابعين ومستشارين ومؤذنين، وكان هؤلاء ملحقين بجهاز الإعلام لديه، وهم أعوانه الأكثر نشاطا من مستشاريه المحليين المكلفين بالإعلانات والاستدعاءات للاجتماعات والمجالس والصلاة»(1).

وقال أيضا: إن بيت النبي كان مزدانا بالصور، في غرف استقباله، وفوق الزرابي، والستائر والأبواب، وفي بيوت زوجاته، وفوق قطع القماش المخصصة للباسهن، وفوق قبب الخواتيم مثل تلك التي أعطاها لعقيل، وفوق الأدوات التي يستخدمها النبي، وحتى بالنسبة للدمى المخصصة للعب عائشةالمدللة (2). وادعى أن بلالا: كان يسير أمام النبي، حاملا فوق رأسه عودا عليه ثوب؛ ليحميه من حرارة الشمس، وقد كان هذا العبد الذي دسه أبو بكر على النبي من أجل معرفة أخباره مكلفا«بحراسة النبي العاشق للاستعراض»، والذي كلما ارتقى محمد المنبر وقف عند

ص: 329


1- Fatima it les filles de Mahomet. P, 19.
2- Fatima it les filles de Mahomet. P, 75.

أسفل العرش، والسيف مصلت بيده!(1)! ولكي يحكم هذه المفتريات، ويعطيها بعدا تحذيريا، ويقذف بها إلى عصر الرسالة! ادعى أن ذلك لم يغب عن: فراسة البدو الشديدي الملاحظة عموما؛ فقال شيخ طيء زربن سدوس: إن هذا الرجل يسعی إلى ملك العرب (2).

بداية لم تكن تلك التنظيمات الإدارية معروفة ولا معمول بها في عهد النبي صلی الله علیه و آله وهي إنها نشأت فيما بعد في العهد الأموي والعباسي فلم يكن للنبي صلی الله علیه و آله لا مستشارين ولا جهازا إعلاميا ولا تابعين أو أعوان مقربين دون غيرهم، ولا مكلفين بالاستدعاءات والإعلانات! هذا فضلا عن أن بعض التعابير اللفظية المستعملة لتلك العنوانات الإدارية والتنظيمية، إنها تنتمي للعصر الحديث واطلاقها على ذلك العصر يعطي إيحاءات مغايرة تماما لحقيقته الواقعية وهذا ما توخاه « «Lammens »من استعمالها . لم يكن أي شيء مما ذكر « Lammens» موجودا. لم يكن إلا بلال يؤذن للصلاة فيجتمع المسلمون ليؤدوا صلاتهم أو ليستمعوا لأمر ما. هذا المؤذن والأذان تحول عند « Lammens» إلى: تابعين / مستشارين / مؤذنين / ملحقين بجهاز الإعلام / أعوانا أكثر نشاطا من غيرهم / مستشارين محليين / مكلفين بالإعلانات والاستدعاءات للاجتماعات والمجالس !؟ ولا يختلف الأمر في دعواه أن بيت النبي صلی الله علیه و آله كان مزدانا بالصور: في غرف استقباله، وفوق الزرابي والستائر والأبواب، وفي بيوت زوجاته وفوق قطع القماش المخصصة للباسهن، وفوق الخواتيم، وفوق الأدوات التي يستخدمها، وفوق ألعاب عائشة !؟؟ فدلیله الذي أفضى من خلاله لتقرير ذلك !؛ هو ما يروى أن النبي صلی الله علیه و آله قال: أتاني جبريل7 فقال: إني كنت أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت الذي أنت فيه؛ إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت

ص: 330


1- Fatima it les filles de Mahomet. P,69.
2- Fatima it les filles de Mahomet. P,61

قرام ستر فيه تماثيل. فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منه وسادتان توطان، ومر بالكلب فيخرج (1). ومايروى عن عائشة أنها قالت: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول اللهصلی الله علیه و آله يا عائشة حوليه؛ فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا(2)

وعلى فرض صحة الخبرين، فهما لم يتعديا وجود قطعة قماش فيها صور معينة، وقد تم إتلافها بسرعة، بل إن الخبر الثاني ليكاد ينفي وجود الخبرالأول بالمرة! فإذا كان النبي صلی الله علیه و آله يأمر عائشة بأن تبعد سترا فيه صورة لطائر؛ لأنه يذكره بالدنيا، فكيف يوافق على وجود ستر فيه تماثيل لخيول ورجال(3). وإذا كان جبريل عليه السلام قد بلغه بضرورة عدم اتخاذ هذه الستور فيفترض أنه أمر عائشة أن تتلفها ولا تستخدمها لاحقا. وإذا كان هو يكره ذلك من قبل أن يأتيه الوحي ويخبره، فيفترض أنه منع نساءه من استخدام هكذا ستور؟ وبصرف النظر عن كل ذلك فالخبران لا يؤديان إلى ما ذهب إليه «Lammens» من تواجد الصور في غرف الاستقبال، وغرف زوجاته، وفوق الأبواب، والزرابي، والستور، والخواتم، والدمى المخصصة لعائشة وليس يدرى أين وجد هذه الصورة!؟ - غرف الاستقبال، الدمى أو ألعاب عائشة، والأدوات !؟

أما بالنسبة لدعواه أن بلا كان يحمل فوق رأس النبي صلی الله علیه و آله ثوبا ليقيه من حرارة الشمس، فواضح أنه إنما أراد الإيحاء بتماثل هذه الحالة مع ما كان يفعل مع أباطرة الرومان، وملوك فارس، من قيام العبيد بحمل الرياش الناعمة فوق رؤوسهم و تحريكها للترويح عنهم بهوائها! وعلى فرض صحة الخبر، فهو لا يعدو كون بلال

ص: 331


1- أحمد بن حنبل: مسند، 2/ 35.
2- أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 241.
3- النسائي: السنن الكبرى، 504/5 ؛ ابن سلمة: أحمد بن محمد، شرح معاني الآثار، 4/ 287؛ العيني: عمدة القاری، 11/ 224.

كان يشفق على النبي صلی الله علیه و آله من حرارة الشمس فضلل له بثوبه أو ثوب آخر، مندون أن يؤمر بذلك - على فرض صحة الخبر - وإلا فهو خبر منقطع السند أو مجهول فنصه: عمن رأى رسول الله، أنه راح إلى منى يوم التروية والى جانبه بلال، بيده عود عليه ثوب يظل به رسول الله(1). فمن هو الذي رأى بلالا يفعل ذلك؟ لا يدري! ثم إن كتب السيرة لم تذكر أن ذلك الفعل قد تكرر ثانية. أي أن «Lammens» التقط هذه الإشارة المفردة، وكبرها مئات المرات ووزعها على مجمل حياة النبي صلی الله علیه و آله ليجعل منها طابعا عام ملازما لحياته في المدينة! ليوحي بأنه يتحدث عن ملك من الملوك أو إمبراطور من الأباطرة!

أما دعواه أن بلالآ: كان يجلس تحت العرش، وهو مصلت السيف بيده! وأنه كان مكلفا بحراسة النبي العاشق للاستعراض !؟ فهي الأخرى صورة من إنتاج « Lammens» تعكزا على ما قاله «الحرث بن حسان الشيباني البكري»(2): قدمنا المدينة، فإذا رسول الله على المنبر، وبلال قائم بين يديه، متقلد السيف، وإذا رايات سود، فسألت ما هذه الرايات؟ فقالوا عمرو بن العاص قدم من غزاة (3). فالحادثة لا تشير لا من بعيد ولا من قريب للحراسة أو الاستعراض والمراسيم الامبراطورية والملوكية ! ولا لاتخاذ بلال حارسا شخصيا ولا لتكرر هذا الفعل منه ! ولا لوقوفه على الدوام شاهرا سيفه تحت المنبر الذي جعل منه «Lammens» عرشا! وفوق هذا وذاك الخبر يتحدث عن خروج المسلمين إلى إحدى الغزوات، أو رجوعهم منها، ومن ثم من الطبيعي أن يكونوا كلهم متقلدين سيوفهم، والبعض ربما يلوح بها أو أخرجها من

ص: 332


1- أحمد بن حنبل: مسند5/ 268
2- ترجم له تحت اسم حريث. وكان هو موفد بني بكر بن وائل للنبي في عام الوفود. ابن سعد، الطبقات، 9 /56؛ البخاري: التاريخ الكبير، 261/2
3- احمد بن حنبل، مسند، 3/ 481.

أغمادها! لكن « Lammens» الذي يبحث عن هذه الصور ومثيلاتها، لا يدع الخبر يمر من دون أن يضيف عليه تعديله ولمسته الخاصة. وبطبيعة الحال كان قول «زر بن سدوس زعيم طيء»، مما أجريت عليه تعديلات « Lammens »!

أولا - صاحب هذه المقولة ليس زر بن سدوس وإنها وزر. ولم يذكر أبو الفرج وهو المصدر الذي اعتمده «Lammens» أسم أبيه إنما ذكره باسمه فقط. وهو لم يكن من زعماء طيء. نعم ذكر أن عمر بن الخطاب سأل عن زعمائهم وأهل النجدة فيهم فعد له مجموعة أشخاص من بينهم زيد بن سدوس النبهاني.

ثانيا - كان ما قاله وزر: «إني لأرى رجلا ليملكن رقاب العرب، ووالله لا يملك رقبتي أبدا. فلحق بالشام، فتنصر وحلق رأسه، فمات على ذلك»(1). فحول «Lammens» قوله إلى: «إن هذا الرجل يسعى إلى ملك العرب» ! هذه هي الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعامل معها عند «Lammens». حول الرؤية الاستشرافية التقرير مؤكد، لسعي وطموح لملك العرب!؛ ليوحي أن هذا الانطباع كان يدور في أذهان كثيرين من أبناء القبائل العربية! ومن ثم ليعضد نظريته عن محمد الملك.

وقد كان المستشرق الألماني الكبير «Bekker = بكر» من أوائل منتقدي هذه الصورة المفتعلة!؛ إذ قال: إن «Lammens» يخلط ما بين التاريخي وغير التاريخي؛ فهو يرسم لمحمد صورة بملامح كتلك التي اعتدنا عليها من العصر الأموي المتأخر، يظهره كملك على عرش يحيط به حراسه الخاصون وأمناء خزائنه. هو بأرجوانه وصولجانه. الكثير من هذه الأحاديث جاءت لتبرير أفعال المتأخرين من الأمويين قبالة مطالب أهل البساطة والتواضع. إني أعتبر مسائل الزينة من المشاكل المتأخرة أيضا، وهي في غالبها بدع. أريد أن أؤكد هنا أن ما جاء به «Lammens» غير موضوعي. يبدو

ص: 333


1- الأغاني، 17 / 250 - 252.

لي أن جميع هذه الموروثات ابتدعت للاستفادة منها كدلائل لصالح الصور في العصر الأموي المتأخر. لكنه ينظر إليها كوثائق تاريخية. لا أعتقد أنني قد ذهبت بعيدا حين رميته بعدم الاتساق في تطبيق نظريته؛ فهو يرى كل شيء مغرضا ومختلقا. وحجر الأساس الذي يبني عليه طروحاته يبدأ حين يجد ما هو مغرض من الحديث (1).

وقد أضاف «Lammens» لهذه الصورة الملكية قوله: «عندما أصبح سيد مكة، اصطف النبي حتما إلى جانب الرأسماليين، أعداؤه بالأمس إن مساعدة رجال المال من مخزوميين وأمويين، أصبحت بالنسبة له لا غنى عنها لتنفيذ خططه اللاحقة والبدء بالاقتراض الداخلي اللازم لحملته ضد هوازن »(2).وذكر - في الهامش - إنه: اقترض من كل واحد مبالغ تتراوح بين «40 - 60 ألف درهم» ! من دون أن يحيل إلى أي مصدر؛ لأنه من إضافاته على الحادثة! الشيء الصحيح الوحيد في كلامه هو: أن المسلمين قاموا بحملة عسكرية ضد قبيلة هوازن! أما التفاصيل فهي من ذلك المعين الصليبي الذي لا ينضب أبدا. فكل ما ورد في الموضوع: أن الحملة، كانت في فصل الصيف، وشدة الحرارة، ونضج المحاصيل والثمار، ووقت ضيق وعسرة على المسلمين؛ مما جعل كثيرا منهم يتثاقل عن هذه الحملة؛ فحض أهل الغني على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغني واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها (3).

وبغض النظر عن أن تصوير حالة المسلمين بهذا الشكل من العسر والضيق، ربها مبالغ فيه ولا سيما أن الوقت كان وقت نضج المحاصيل والثمار! وأن المسلمين قطعوا شوطا طويلا منذ تسع سنين، وهم مستقرون في المدينةوتحسنت أحوالهم كثيرا

ص: 334


1- Prinzipielles zu. pp, 268-269.
2- Mahomet fut – il sincere ?. p, 31
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 4/ 945؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 253؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 6/4

خاصة بعد خیبر وفتح مكة.. الخ. وبغض النظر أيضا عن التركيز على شخص عثمان بن عفان في هذا الإنفاق دون باقي من أنفقوا و محاولة تخليد ذلك بأحاديث نبوية تتنافي والعقل والسنة والقرآن. ومنها: «ماضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم»(1)و: «ما على عثمان ما عمل بعد هذا»(2).بغض النظر عن هذه العوالق والزيادات المفتعلة كلها؛ فهي أحاديث تحمل البصمة الأموية لتبرير ما فعله عثمان فيما بعد الروايات لم تشر لاقتراض مبالغ تتراوح بين« 40 - 60 ألف درهم» ولا لرأسماليين أو تجار أو مخزوميين ولا لاقتراض داخلي أو خارجي كل ذلك لم يكن ولم يحدث. نعم ورد أن النبي صلی الله علیه و آله استأجر أو استعار سلاحا ودروعا من (صفوان بن أمية)(3). وهو يومئذ في مدة الأمان التي منحها إياه النبي صلی الله علیه و آله بعد هربه من مكة على إثر فتحها، واستسلام قريش فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك. قال: ليس بهذا بأس، فزوده بمائة درع، وما يكفيها من السلاح(4). لكن «Lammens»جاء لهذه الجزئية فنفخ فيها من روحه الصليبية،ليحولها لاقتراضات ! واصطفافات مع أعداء الأمس، ومبالغ تتراوح بين «40 - 60 ألف درهم»!

ص: 335


1- أحمد بن حنبل، مسند، 5 / 63؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 94/9 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 7/5 ؛ السيرة النبوية، 6/4
2- أحمد بن حنبل، مسند، 4 / 75؛ الترمذي: سنن، 5 / 289؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 6 / 98؛ ابن كثير: السيرة، 7/4
3- بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي. قتل أبوه ببدر کافرا. هرب صفوان يوم الفتح، فأمنه رسول الله، فرجع وخلال هذه المدة استعار منه الدروع!؛ ولذلك نراه يقول: طوعا أو كرها؟ ثم إنه أسلم بعد ذلك. توفي في مكة عام (42ه-). ابن عبد البر، الاستیعاب، 2/ 718- 722.
4- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 440؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 5 / 518.

(15)بين الإقليمية والعالمية.. تدرج النبوة

نحت في الوعي المسيحي أن النبوة المحمدية ماهي إلا زعم يفتقر لأدلة ثبوته ومصداقيته! وأن القرآن ماهو إلا اقتباسات مغلوطة ومشوهة عن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد!

ولاشك في أن «Lammens» ممن يحاولون الحفاظ على هذا المنحوت وتغذيته، والعمل على استمرار ترسخه في الفكر الغربي. وهذه هي الغاية الكبرى لخطابه التقويضي. فادعى فكرة التدرج: وهي أن النبي صلی الله علیه و آله اكتفى بداية بتأدية دور الرسول والنذير والمبشر. وفي المدينة اتخذ لقب النبي أسوة بإبراهيم وموسى وعيسى: فقال: لم يقدم محمد نفسه على الفور کنبي سامي ذي شأن، مثل إبراهيم، خليل الله، أو مثل موسی وعیسی، مؤسسين دينيين شرفا بوحي سام، وبكتاب ! سيتوجب عليه انتظار السور المدنية؛ إذ أخذ بسهولة لقب نبي وجعله ممنوحا من الله. ابتدءا من نجاحاته العسكرية. كان المفهوم الجديد نتاج متأخر لفكر النبي، إيحاء ولد من الظروف التي شهدتها حياته، من إخلاص أنصاره وأصدقائه، نتيجة طبيعية وضرورية تقريبا للتحدث عن انتصاراته الكبيرة، غير المتوقعة، وللتمجيد الفطري لشخصه. في المدينة، تجرأ صراحة على تشبيه نفسه بإبراهيم؛ وذلك بسبب الكعبة؛ لكي يستأنف عمل هذا السلف الكبير، من أجل أن يدفع أتباعه أخيرة على فتح مكة، ولكنه لم يحترس من الكشف عن هذا الدافع الأخير، وربما الرئيسي. في البداية، اكتفى بأن يكون رسولا نذیرا، بشیرا، مرسلا لشعب (العرب) لم يكن بعد قد جاءهم بشیر. ريم أنه مكلف من الله لتحذير الكفار من خطر التشكيك. يجب أن يذكر بفكرة الحياة الأخرى، من دون أن تكون لديه القدرة على أن يأتي بمعجزات مثل عيسى الذي كلم الموتی. مهمة متواضعة تتناسب معه!؛ لم يتعهد الله بأن يرسل أحد الملائكة لتأكيد

ص: 336

صحة رسالته وصدقها(1).

يتغافل المستشرقون عن حقيقة غاية في الأهمية وهي أن تواريخ الديانات لم تتحدث عن تجل واضح وصريح لمسألة الوحي كما في نبوة نبينا الأكرم صلی الله علیه و آله. فما هي حيثيات نزول الوحي على إبراهيم وموسى وعيسی؟! ولعل دليل ذلك عدم مناقشة مسألة الوحي في تاريخ الديانات كلها كما حدث وما زال يحدث في الإسلام فلا أحد يملك أي إشارات أو معلومات عن طبيعة ذلك الإيحاء؟ ثم هل يوجد كتاب سماوي نال من الاهتمام - من المسلمين وغيرهم - كما نال القرآن الكريم ؟! في السمو الذي لم يتوفر في وحي المسلمين وكتابهم؟! وهل هناك أحد من الأنبياء: لم يقدم نفسه على أنه منذر، وبشير، ومرسل من الله لهداية من بعث إليهم وهل مهمة الأنبياء شيء غير هذا؟! يمضي «Lammens» بمحاولة التقليل من شأن النبي صلی الله علیه و آله وبساطة الدور المناط به! وأنه طرح فكرةوجود إله وحساب وعقاب و جزاء فقط، وأنه لم يمتلك معجزات، بل اعترف بعجزه عن الإتيان بها !؛ مستشهدا: بسؤال المشركين عن قرب قيام الساعة؟ وجوابه أنه لا يعلم؟ ولست أدري هل أجاب أحد الأنبياء عن هذا السؤال؟ وهل يدخل هذا في إطار المعجزة؟! الأدهى من ذلك أنه استعمل السيرة النبوية لابن هشام مصدرا لهذا الحدث وابن هشام يذكر: أن الشجر والحجر كانا يخاطبان النبي صلی الله علیه و آله ويقولان السلام عليك يارسول الله(2). كما اعتمد على كتب مسلم البيهقي / ابن عبدالبر كمصادر وهم جميعا يرون: أن النبي أمر شجرتين أن ينقادا بين يديه فانقادتا، ثم أمرهما بالرجوع فرجعتا(3)!

واعتمد على البخاري والترمذي وهما يرويان: أن إعرابيا جاء إلى النبي وقال:

ص: 337


1- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 36
2- السيرة النبوية، 1/ 234 - 235.
3- صحیح، 8/ 234؛ التمهید، 1/ 222؛ السنن الکبری 1 / 94.

بما أعرف انك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟ فدعاه، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي. ثم قال: ارجع ! فعاد، فأسلم الأعرابي(1) . وروى أمير المؤمنين 7: أن مشركي مكة طلبوا أن يريهم معجزة دلالة على نبوته، فأمر شجرة أن تنقلع بعروقها، وتأتي إليه، فانقلعت وجاءت! ثم أمرها أن تنشطر إلى شطرين فانشطرت، ثم أمرها أن ترجع کما كانت، فعادت لحالتها الأولى (2). لا شك في أن « Lammens »مر على هذه الأخبار ومثيلاتها، إلا أنه أغمض عينه، وصم أذنيه، وعدها منصنع السنة، والسيرة! والكتاب و الرواة المتحيزين. وهكذا لا تكاد تقرأ، أي صفحة، أو أي سطر كتبه «Lammens»، إلا وأدركت الحقد الجارف الذي يكنه للإسلام ونبيه! ذلك الحقد الذي لا أغالي إن قلت أنه لم يكتب به أحد من المستشرقين المحدثين! فهاهو قد ضاق ذرعا برؤية الإسلام ينتشر شيئا فشيئا؛ فإذا به يسخط على القدر نفسه فيقول: «لماذا جاء القرآن فجأة، ليقضي على التأثير اللطيف، الذي كان الإنجيل قد أخذ يحدثه في ابن البادية»(3)، ويلعن القدر مرارا وتكرارا ويقول: «لولا الإسلام، لاستطاع اليهود والنصارى أن يقتسموا الجزيرة العربية»(4)؛ ولذلك حكم على الإسلام على أنه: «مجرد إصلاح للسامية في شكلها الأكثر حدة، والأكثرالتصاقا بالأرض » (5).

أراد « Lammens» بطرحه فكرة التدرج النفوذ لطرح فكرة أدق وأعمق وهي: إلغاء عالمية الدعوة الإسلامية، وحصرها بجغرافية شبه الجزيرة، وبالقومية العربية!؛ فقال بهذا الخصوص: «في نهاية حياته، كان المصلح المكي يتوق بنفسه لتوسيع نطاق

ص: 338


1- التاريخ الكبير، 3/ 3، سنن الترمذي، 5 / 254.
2- شرح نهج البلاغة، 13/ 213.
3- Le Berceau de Islam, pp. 4,190.
4- L'Arabie occidentale a la veille de l' Hegire. p, 54
5- Fatima it les filles de Mahomet. P,82

دعوته لتشمل «جميع الناس» ليس الكون كما أريد فهم ذلك، بل الجزيرة العربيةالمعروفة بالنسبة لمحمد، وإلى كل البقاع التي نجحت دبلوماسيته في بسط نفوذه فيها، وإقامة علاقات معها. كان لابد لمنطق الثورة من أن يجعله يستخلص هذه الاستنتاجات. في البداية كان يعتقد أنه مدعو لإنذار أقاربه فقط، ثم وسع مهمته لتشمل مكة «أم القرى ومن حولها» بسبب وجود العلاقات التجارية مع تلك المناطق! وأنه طيلة الفترة المكية لم يكن يلمح أفقا آخر لنشاطه كمصلح، وكانت جرأة كبيرة أن يكسب الحجاز بأكملها؛ فقد تفوق على مواطنيه المتشددين بنزعتهم الفردية، والعاجزين عن رؤية ما هو أبعد من القبيلة. وأنه كان يعتبر النبوة ذات طابع محلي؛ فالأنبياء يرسلون لمنطقة أو قبيلة بعينها، وبما أن أهل قريش لم يأتهم نبي من قبل؛ فقد تأكدت له هذه الخصوصية. بداية نزعته القومية اقتصرت على مكة، ثم وسع نطاق جهوده؛ لهداية المنطقة بأكملها، وقد خدمه في ذلك طموحه الخاص، وتوافق برنامجه الأساسي مع الرسالات السماوية السابقة، ولذلك كان مصرا على قناعته: أنه رسول البشرى السارة لمواطنيه. ولذلك صار يعرض وبشكل مکرر تاريخ الأنبياء السابقين، وأخبارهم التي راح يستقيها من اليهود والمسيحيين ! حتى انتهى به المطاف إلى الاعتقاد أنه: الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة الغامضة التي تربط الأرض بالعالم فوق الطبيعي، وإلى أن يعلن نفسه «خاتما للنبيين»، وهنا يتبين كم كان مستعدا لكي يوحي لنفسه . المنطق لا يسمح بأن نقر بشرعية هذه العملية الإنسانية جدا والعربية الخالصة»(1).

ثم يعود ويتساءل: هل ما تقدم سبب كاف لنفي حقيقة النبوة ؟! لم يبدأ محمد عمله من دون وجود قناعة ما! من أين استمد القوة لكي يتحمس من أجل عقيدة صعبة، كما فعل ذلك مع عقيدة مثل يوم القيامة؟! لكي يحفظ نفسه أمام العداء العام الذي استقبل بداياته؟ كيف نجح في أن يوصل الإيمان إلى مريديه؟، ما هو الإسلام .

ص: 339


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 39-46

إذا؟، كيف أقنع شخصيات من بني أمية وبني مخزوم وغيرهم ممن لا يمتلكون سذاجة المدنيين! أن يؤمنوا به ويتأثروا برسالته ويصدقوه؟ كان ذلك عمل السياسة. دبلوماسية كفوءة، طوقت بحلقاتها الضعيفة هؤلاء البدو السلابة، الغيورين على رخاء قریش، والمرنين إزاء المصلحة والخوف. المعاندون كانوا يستبعدون بالقوة، أو يجيدون بدسائس الجمهورية. ترعرع محمد في وسط من التجار، ورجال المال المتنفذین، جميعهم دبلوماسيين، جميعهم معتادون على المضاربة والتحايل، جميعهم يؤمنون بتفوق الذكاء على القوة الفظة. إذا كانت السياسة هي من استخدام الرجال في الوصول إلى الغاية، كان أبو القاسم يمتلك ذلك بشكل لافت. جرى التعتيم على تفاصيل دسائسه السياسية البارعة، وعطلت من خلال الحرص الدائم على طرح كل سيء من وجهة نظر الدعاية الدينية. كل حياته كانت تكشف عن وجود دبلوماسي محنك (1).

تقدم أن المستشرقين فندو هذه الطروحات! ولا بأس أن نضيف هنا ما قاله المستشرق (Sir Tomas Arnold = سير توماس آرنولد 1864 - 1930م)(2): «كان الإسلام منذ بدء ظهوره دین دعوة من الناحية النظرية أو الناحية التطبيقية، وقد كانت حياة محمد تمثل هذه التعاليم ذاتها، ولم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل للعالم أجمع نصيبا فيها، ولما لم يكن هناك غير إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دین واحد يدعى إليه الناس كافة»(3).وقال المستشرق البريطاني (William Muir =

ص: 340


1- Mahomet fut – il sincere ?. pp, 46-49
2- مستشرق بريطاني، تعلم في لندن، ودخل جامعة كمبردج عام (1882 م). درس الكلاسيكيات واللغات الشرقية، وتاريخ الإسلام. ثم انتدب إلى الهند لتدريس الفلسفة الإسلامية فأمضى فيها عشر سنوات (1888 - 1898م). فألف هناك أهم مؤلفاته: (الدعوة الإسلامية 1896م). عام (1930م) دعته الجامعة المصرية للتدريس فيها، فدرس فيها لأقل من سنة، ثم رجع إلى بريطانيا وتوفي بعد وقت قصير. بدوي: موسوعة المستشرقين، 9- 10.
3- الدعوة إلى الإسلام، 22 - 37.

وليم موير 1819 - 1905م)(1).

أظهر محمد في شبابه استقامة وعفة نادره في أخلاقه مقارنة بسكان مكة، وقد تجنب الانحلال والممارسات الفضة مع الأصدقاء والمقربين، فكان له عقل مصقول وذوق رفيع، وكان متحفظا ومعتدلا، عاش مع ذاته، وكان يمعن النظر في مكنونه القلبي في ساعات الفراغ، التي كان يقضيها الرجال من المراتب الدنيا في الرياضة وحياة الصخب، لقد تخلق محمد في شبابه بمزايا مشرفة؛ فنالت شخصيته استحسان واحترام قومه حتى صار يعرف بینهم بالأمين. وقف نبي الجزيرة العربية لثلاث عشرة عاما بوجه الزجر والتخويف والرفض والاضطهاد متمسكا بإيمان لا يتزعزع يدعو الناس إلى التوبة ويشجب الهة قومه الوثنين، وحوله ثلة قليلة من الرجال والنساء المؤمنين، يجابه الاهانة والترهيب والخطر بالصبر والثقة بالمستقبل، ولما جاء الوعد بالامن من الحي الاقصى تريث حتى غادر جميع اتباعه من ثم اختفى عن انظار قومه الجاحدين القساة. وقد أظهر محمد عطفا وایانا باتباعه فقد عرف عنه صداقاته الدائمة وكرمه وسعة صدره في الحياة العامة، كما تمكن من الاستحواذ على قلوب الساخطين عليه برشاقة وحسن توقيت )(2).

قال الفيلسوف البريطاني( BertrandRussell = برتراند راسل 1872 -

ص: 341


1- مستشرق ومبشر وموظف إداري بريطاني. اشتغل في الادارة المدنية لشركة الهند الشرقية، فأمضى وقتا طويلا في الهند، تقلب خلالها بعدد من المناصب الإدارية؛ فتعلم اللغة العربية، وعنى بالتاريخ الإسلامي. كانت مؤلفاته تفح بروح التبشير ومنها: (شهادةالقرآن على الكتب اليهودية والمسيحية 1856م) وكتاب (حياة محمد وتاريخ الإسلام. بأربع مجلدات. لندن / 1856 - 1861م)، وكتاب (حوليات الخلافة. ومن ثم طبع ثانية تحت عنوان: الخلافة نشأتها وانحلالها وسقوطها 1853 - 1891 م) وكتاب (القرآن: تأليفه وتعاليمه 1877م)، وكتاب (الجدال مع الإسلام 1897 م). بدوي: موسوعة المستشرقين، 578 - 579.
2- العليلي: حيدر مجيد: الوحي والقرآن والنبوة في رؤية ولیم میور، 67.

1970م)(1): إن ديانة النبي كانت توحیدا بسيطا ليس فيه التعقيد الذي نراه في عقيدتي «الثالوث والتجسيد»، ولم يزعم النبي لنفسه أنه إلهي، ولا زعم أتباعه له هذه الطبيعة الإلهية نيابة عنه. وقد أعاد تحریم ما كان اليهود قد حرموه من قبل. أي نحت التماثيل، کا حرم شرب الخمر، ولم يسمح باضطهاد المسيحيين أو اليهود، أهل الكتاب کما يسميهم القرآن. أي: أولئك الذين اتبعوا تعاليم كتاب من الكتب المنزلة(2).

وقال الأديب وأستاذ كرسي اللغة العربية بجامعة كمبردج البريطاني (ألين نیکولسن 1868 - 1945م) عن القرآن: «له بلاغة مؤثرة في الوجدان، لا يمكن إلا أن تكون قوة، تؤكد للمتلقي، أن هذا الذي يقال، لا يمكن أن يكون من صنع بشر، کما يدعي البعض، وناهيكم عن أن هذا الكتاب «القرآن الكريم» دستور إلهي فعلا، فهو يقنن الحياة بعيدا عن حياة الغاب، إلى حياة التحضر الكامل.. لذا استحق القرآن أن يكرم، لأنه بالفعل الكتاب الإلهي، الذي يجب على البشر جميعا، العمل به لأنه جاء لخيرهم. والمتتبع لحياة النبي محمد، يجد أنه عاش حياة غير عادية؛ إذ تحمل المشاق التي تفوق ما تحمله الأنبياء والمرسلون من قبله جميعا، ومع ذلك كان صامدا، صابرا، معلما مرشدا، داعيا إلى الحقيقة التي تم اختياره لها. لذا نجح نجاح غير عادي أيضا في تحويل العقلية العربية من سحيق التخلف الذي عاشته، إلى طريق النور، الذي كلفه الله بإيجاده لهؤلاء القوم، وغيرهم من الأقوام الأخرى»(3).

ص: 342


1- أحد أشهر الفلاسفة الإنجليز في العصر الحديث. وبسبب دعواته للسلام ومعارضته للحرب الحرب العالمية الأولى فصل من الكلية وأجبر على دفع غرامة مالية، ومن ثم سجن لستة شهور ألف خلالها كتابه (مدخل إلى الفلسفة الرياضية) وشرع بتأليف كتابه (تحليل العقل). وبعد الحرب عاد للتدريس، وتنقل بين الصين وروسيا وأمريكا؛ لتدريس الفلسفة. اشتهر بمواقفه الداعية لنزع السلاح النووي، ودخل السجن بسبب ذلك وهو في التاسعة والثمانين من عمره، وكان ذلك عام (1961م). ألف أكثر من ستين كتابا في الفلسفة. فؤاد کامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، 17 - 21.
2- تاريخ الفلسفة الغربية، 2/ 182.
3- أحمد حامد: الإسلام ورسوله، 37.

وقال الفيلسوف الفرنسي (Jean Jacques Rousseau = جان جاك روسو 1712 - 1778م)(1): «لم ير العالم حتى اليوم رجلا استطاع أن يحول العقول، والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد، إلا محمدا. ولو لم يكن بدأ حياته صادقا أمينا ما صدقه أقرب الناس إليه، خاصة بعد أن جاءته السماء بالرسالة، لنشرها على بني قومه الصلاب العقول والأفئدة. والرجال، أمثال محمد، ممن تؤهلهم السماء يملكون كل أمور الحياة، لأنهم يصنعون الحياة السوية. ولو أن محمدا، عاش مدة أطول مما عاش، لأصبح الإسلام ورسوله سادة العالم»(2).

وقال المستشرق الفرنسي المسلم (Casriws Cte H. de = هنري دي کاستري 1850 - 1929م)(3): «إن ديانة القرآن تمكنت من قلوب جميع الأمم اليهودية والمسيحية والوثنية، وهو ما يقنعنا بأن في الإسلام جاذبية وقوة انتشار، ولقد يستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي محمد من مطالعة التوراة والإنجيل؛ إذ لو قرأ تلك الكتب لردها؛ لاحتوائها على مذهب التثليث، وهو مناقض لفطرته، ومخالف

ص: 343


1- ولد في مدينة جنيف لعائلة تنتمي لأصول فرنسية، وعاش فيها حتى السادسة عشرة بروتستانتي المذهب، ثم بدأ حياة التشرد والفقر، والتجول والتنقل بين سويسرا وفرنسا وبريطانيا، وغيرها، وتحول إلى المذهب الكاثوليكي، ثم هاجم کلا المذهبين في كتباته؛ مما ادى لملاحقته وحرق كتبه، ومطاردته في أغلب المدن الأوربية! ودخل بجدالات عنيفة مع فولتير وغيره من فلاسفة ورجال دين وسياسين؛ وهذا الواقع الذي عاشه فرض عليه عدم الاستقرار والتنقل المستمر حتى وفاته في باريس، على اثر مرض مزمن في المرارة. أندريه کریسون: روسو: حياته - فلسفته - منتخبات، 8- 50.
2- أحمد حامد: الإسلام ورسوله، 46.
3- كان مقدما في الجيش الفرنس في الجزائر، فعاش بين الجزائرین زمنا طويلا؛ فكانت تلك المعايشة سبب إسلامه، وقد تحدث عن حيثيات هذه التجربة والتحول في كتابه (الإسلام خواطر وسوانح). أهم مؤلفاته إضافة للكتاب السابق: کتاب (الأشراف السعديون 1921م) وكتاب (الدنمارك والمغرب من 1750 إلى 1767م) وكتاب (سادة المغرب السبعة 1924م). الإسلام خواطر وسوانح، 3- 6، 21۔ 27؛ يحيى مراد: معجم، 356.

لوجدانه منذ خلق، فظهور هذا الاعتقاد بواسطته - في جزيرة العرب - دفعة واحدة، هو أعظم مظهر في حياته كما أنه بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته، وأمانته في نبوته. إذن ثبت مما تقدم أن محمدا لم يقرأ كتابا مقدسا، ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه»(1)

ص: 344


1- الإسلام خواطر وسوانح، 10، 39 - 42.

(16)بين السياسي والديني.. تحولات مسار النبوة

يحاول «Lammens»بیان تحكم السياسة والدبلوماسية بمسار الدعوة الإسلامية، وقد شكلت النقلات العقدية والتشريعية في المدينة مجالات واسعة التنظيرات «Lammens» وإيحاءاته، بتطور مفهوم الدعوة والنبوة الإسلامية ومضمونها؛ نتيجة لتأثير الاتصال بالمحيط الديني والاجتماعي الجديد في وعي النبي!؛ فقال: كان موحدا مقتنعا، ولكنه متعطش للنجاحات السهلة، لذلك لم يتأخر في السعي لعقد اتفاق مع مشركي قريش. في المدينة تفاخر بأنه وجد صيغة تعايش مع أهل الكتابين. كان يعرف بشكل غامض جدا نظامهم الديني، رغم أنه كان يدعي العكس. كان يأمل في البداية أن يجعلهم عونا له. جرب أولا تحريم الخمر قبل أن يجعله تحريما نهائيا لم يجعل لا من الصيام ولا من الصلاة اليومية أمرا ملحا، ولم يمنحهما في أي موضع أهمية مثل تلك الأهمية التي منحت للزكاة التي جعل منها ممارسة وحقيقة عملية. أما الهدف الأولي من فرض الحج فكان لإدامة وإحياء فكرة فتح مكة. إن هذا الحساب الدنيوي كان بداية للطقوس الدينية. رغم كل شيء، كان يعتمد على عامل الزمن في تحقيق غاياته (1).

لاریب أن دعوی «Lammens» مخالفة للواقع التاريخي والعلمي، وتناقض ماكان قرره سابقا. فبداية لم يكن النبي الله هو من سعی لعقد الصلح مع مشركي قريش في الحديبية وإنما الظروف هي من اضطرت المشركين - بسبب نجاحات المسلمين وتنامي قوتهم - لطلب عقد الصلح. فما كان من نبيالسلام، خصوصا وأنه والمسلمين، إنما كانوا متوجهين لأداء مناسك العمرة وبشكل سلمي إلا أن يوافق على

ص: 345


1- Mahomet fut _ il sincere ?. p, 50

طلب قريش في عقد الصلح؛ إظهارا لسماحة الإسلام، ومنهجيته في الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة. ثم أن الواقع التاريخي يثبت أن «Lammens» لا يتحرج أن يبدو مفتقرا للحس التحليلي والنقدي !! عندما ينساق وراء عاطفته وتحامله!؛ إذ إن عقد صلح الحديبية إنما تم في أثناء مسيرة جموع المسلمين إلى مكة وعند اقترابهم منها؛ فقد ذكر المؤرخون أن: أهل مكة لما علموا بتوجه المسلمين إلى مكة، راعهم ذلك، وقالوا: يريد أن يدخل علينا بجنوده معتمرا، فتسمع به العرب، وقد دخل علينا عنوة، وبينناوبينه من الحرب ما بيننا! والله لا كان هذا أبدا. ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا رسلهم، وطلبوا عقد الصلح، فأجابهم النبي لذلك(1).

فلو كان السعي لهذا الصلح من قبل النبي صلی الله علیه و آله ومخطط له منذ وقت سابق، فما الداعي للخروج للعمرة؟ ألم يكن الأولى أن يعقد الصلح وهو في المدينة؟ سيما إذا ما علمنا أن عقد هذا الصلح قد شكك بعض المسلمين بنبوة النبي وصدقه! وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب حتى أنه قال: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا بالمسلمين؟ فقال: بلی! فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: إلزم غرزه!؛ فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله! ولقي عمر من القضية أمرا كبيرا، وجعل يرد على رسول الله الكلام! ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني. قال عمر: فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياء، فيما أصابني قط شي مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذ. فكان ابن عباس. يقول: قال لي عمر في خلافته وذكر القضية: ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذ، ولو وجدت ذلك اليوم

ص: 346


1- الواقدي: المغازي، 2/ 593 - 606؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 311/2 - 316.

شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضية خرجت(1).

فلو كان الصلح قد خطط وسعي إليه مسبقا ! فما كان أغنى من إدخال الشك إلى قلوب المسلمين ؟! إن هو قام بذلك فجأة أليس من الأحرى اخبارهم بالأمر!؟ على الأقل كي لايظنوا به الظنون!

أما دعوى: أنه في المدينة تفاخر بأنه وجد صيغة تعايش مع أهل الكتاب. وأنه كان يعرف بشكل غامض جدا نظامهم الديني، رغم أنه كان يدعي العكس. وأنه كان يأمل في البداية أن يجعلهم عونا له! فذلك لأنه رسول الله وخاتم الأنبياء، وكان يتوجب عليه دعوة الجميع إلى الإسلام، وإلا فهو ليس محتاج لمساعدتهم في شيء! خصوصا وأنهم على الدوام، لم يكونوا إلا معارضين، ومشاركين في حياكة الدسائس والمؤامرات!

أما مسألة التدرج في تشريع الأحكام. فهو أمر منوط بمصدر التشريع، وبلا شك، لا يمكن إقامة بناء تشريعي متكامل دفعة واحدة! وإلا لكلف الناس ما لا يطيقون، ولما استحق الإسلام أن يكون دین رحمة وتعقل، ثم إنها حال طبيعية في جميع الديانات، أم هل أن السيد المسيح علیه السلام أصدر تعليماته، ووصاياه الأخلاقية كلها في يوم واحد؟! أما أنه لم يجعل، لا من الصيام، ولا من الصلاة اليومية أمرا ملحا، ولم يمنحها في أي موضع أهمية مثل تلك الأهمية التي منحت للزكاة التي جعل منها ممارسة وحقيقة علمية! فهو مخالفة صريحة للواقع والنصوص القرآنية والروائية؛ وإلا فالنبي أمر وأمر بالصلاة، وصلى هو والإمام علي والسيدة خديجة: وهو لا يزال في مكة (2)،

ص: 347


1- الواقدي: المغازي، 2/ 606 - 607؛ الصنعاني: عبد الرزاق، المصنف، 5/ 339 - 340؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 316-317؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 509 - 510؛ أحمد بن حنبل، مسند، 4 / 330 - 331؛ البخاري: صحيح، 3/ 182؛ مسلم: صحیح، 5/ 175 - 176؛ البيهقي: السنن، 220/9
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 243 - 247.

وأجمع العلماء - وإن كان هناك ثمة تحفظ على الآلية أو الطريقة - على أنها فرضت في ليلة المعراج (1)! إلا أن بعض الأحكام - وبطبيعة الحال - تحتاج بداية لترويض للنفوس الجامحة، وحديثة العهد بالكفر أو الشرك، حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم وعقولهم! فلو أن «Lammens »دعا شخصا ما للمسيحية، هل يطلب منه تأدية كل تعاليم المسيحية - مع أنها مزورة ومحرفة وليس فيها كثير عناء - دفعة واحدة؟! ثم إن فريضة الزكاة، إنما فرضت على المسلمين، بعد أن صار عندهم ما يزكونه! بمعنى أنهم أمروا بالصلاة ومن ثم الزكاة قال تعالى :«وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّکَاةَ وَارْکَعُوا مَعَ الرَّاکِعِینَ »(2)وقال تعالى : «وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّکَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِکُم مِّنْ خَیْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ»(3). وهكذا نجد الصلاة دائما مقدمة على الزكاة.

بدافع الرغبة الشديدة في تركيز فكرة «التحول في الشخصية النبوية» تبني «Lammens» الدفاع المصطنع عن اليهود، وطرح فكرة تصفيتهم وتشريدهم والاستيلاء على أرضهم بالقوة، استجابة لمصالح وطموحات شخصية ومادية، ورغبات سياسية، ومن دون وجه حق أو سبب يذكر ! فقال: إن هذا المكي، قليل الشجاعة، والذي لا يحب العنف، لم يتردد في اللجوء إلى ذلك في محاولة التغطية على فشل دبلوماسيته، أو عندما يشعر أنه الأقوى! عرف التاجر الأمين كيف يصوغ كلامه ويتصرف في الظل كقاتل مأجور، يباغت أعداءه بسرعة هائلة. خلال السنوات الأولى من إقامته في المدينة، كافح بشكل مستمر ضد الأعداء الخارجيين، أهل قريش، وضد خصومه في الداخل: اليهود وقوميو المدينة، الذين ساهم بالمنافقين. انتظر سنوات لكي يسيطر على الوضع. كان يتعين عليه إشباع المطامع والطموحات التي أججتها دعواه

ص: 348


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 407 - 408؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 2/ 55.
2- البقرة / 43.
3- البقرة / 110.

التبشيرية. توجب عليه أيضا تعويض المهاجرين الذين اقتلعوا من موطنهم، وتم توطينهم في واحة يثرب. اقتطع سيف النبي جزءا من أرض يثرب على حساب مصالح السكان الأصليين من اليهود، الذين جردوا من أراضيهم بالخيانة والقوة. لم يكن محمد في أي لحظة طيب القلب، بل متعصب. عاد محمد إلى طبيعته البدائية، الحسية جدا. ابتداء من فتح مكة، والأحداث اللاحقة، أصبح سيد الحجاز، مالك عقارات انتزعت من اليهود، متسلما للضرائب المفروضة على المدن التجارية(1).

تطوع « Lammens» للدفاع عن اليهود؛ ما ظن أنه يجد في ذلك تجريما - حسب تناوله للأحداث - للنبي والمسلمين !؛ إذ قدم الأحداث على أنها تصفيات سرية واغتيالات على يد قتلة مأجورين!وأطماع متنامية، وتجريد بالقوة والاكراه! بل قلب الأحداث رأسا على عقب ونسبة الخيانة للمسلمين لا لليهود.

والغريب أنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لموضوعة الصحيفة والعهد مع اليهود وكأن شيئا من هذا لم يكن !؟ وهو بهذا فضلا عن كونه خالف إجماع مصادره الإسلامية التي اعتمدها فيما سبق من جزئیات دراساته! فهو أيضا خالف إجماع المستشرقين على وجود الصحيفة، وأن النقاش إنما يجري حول وقت صدورها، أو حقيقة شمولها للقبائل اليهودية الثلاث: «قینقاع / قريظة / النضير».

فبداية جاء في كتاب «الأغاني» الذي أولع «Lammens» بمطالعته، وتصيد شواذه وغرائبه، واعتمده مصدرا أساسا في بحوثه ودراساته ما نصه: «وكانت يهود قد حالفت قبائل الأوس والخزرج، إلا بني قريظة وبني النضير، فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم، فأرسلت إليهم الأوس والخزرج كل يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس وحالفوهم، والتي حالفت قريظة والنضير من الأوس أوس الله وهي: خطمة، وواقف

ص: 349


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 53 54

وأمية، ووائل، فهذه قبائل أوس الله»(1).

وبضم هذا النص لما ورد في صحيفة المدينة التي رواها (ابن إسحاق) وذكر فيها اليهود تحت عنوان المكونات القبلية التي تحالفوا معها ومن بينها: يهود الأوس «قريظة / النضير» و«بنو قینقاع» حلفاء «عبدالله بن أبي سلول» زعيم المنافقين الخزرجي، واعترافه بذلك الولاء عندما حاصرهم المسلمون(2). كل ذلك يؤدي بما لا يقبل الشك - بحسب مصادر «Lammens» - إلى أنه كان هناك عهد و میثاق بين المسلمين واليهود وقد نقضوه وخانوه، وغدروا بالمسلمين؛ فحقت للأخيرين محاربتهم واجلاؤهم عن المدينة.

وهذا المستشرق الألماني (Julius Wellhausen = يوليوس فلهوزن) وهو أيضا أحد أبرز وأهم من اعتمدهم «Lammens» في بحوثه حتى أعاد العديد من طروحاته سيما في تبني الدفاع عن الأمويين يقول: «حفظت لنا الأيام من العصر الأول بعد الهجرة، قبل موقعة بدر، کتابا لمحمد، بين بعض النقط الكبرى في القانون الذي ينظم الحياة العامة والسياسية، وكان معمولا به في المدينة أول الأمر»(3). وذكر عددا من المرجحات التي من شأنها أن جعلته يؤمن بصحة الوثيقة، وإنها ترجع لوقت سابق المعركة بدر (4)

ووافقه على ذلك المستشرق الإيطالي الأمير (Leone Caetane = ليوني کايتاني)

ص: 350


1- الأغاني، 24/2 . ويؤيده قول (أبو الهيثم بن التيهان) في بيعة العقبة الثانية: «یا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال [يعني اليهود]حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا»؟ ابن هشام: السيرة، 1/ 442.
2- ابن هشام، السيرة، 2/ 48.
3- تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، 11.
4- بدوي: دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره، 92.

هو الآخر أحد أهم مصادر «Lammens وأضاف لحجج وأدلة «فلهوزن» على عقد الصحيفة قبل معركة بدر، حججا أخرى رجحت كثيرا من رأيه(1). وهذا المستشرق اليهودي والمتخصص في الدراسات اليهودية (Israil Wolfensohn = إسرائيل ولفنستون 1899 - 1980م)(2) . يقر بعقد النبي بعد قدومه إلى يثرب معاهدة أو عقودة ودية مع اليهود، ويضيف:

«إن هذه المعاهدة كانت تشتمل على البطون اليهودية الكبيرة أيضا من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع.. ، وعلى كل حال فليس من شك في أن النبي قد عقد العقود والعهود مع العرب واليهود بعد حضوره إلى يثرب، فعلى ذلك أميل إلى الاعتقاد بأنها كانت أكثر من معاهدة واحدة.. فإن عقد معاهدات كثيرة مع بطون كثيرة قد يكون في مصلحة الرسول أكثر من عقد معاهدة واحدة تضم جميع البطون لأن المعاهدات الكثيرة تقسم قوة البطون وتضعفهامن الوجهة السياسية والحربية، بينما يكون الاعتداء على بطن من البطون المجتمعة في معاهدة واحدة كأنه اعتداء على جميعها، وقد نرى الرسول يحارب بطنا من البطون دون أن تتحرك البطون الأخرى، وكأن الحرب التي تقع بين المسلمين والبطن من بطون اليهود لم تمس صحيفتها

ص: 351


1- بدوي: دفاع عن محمد، 93، 94.
2- يلقب بأبي ذؤيب؛ ولد لعائلة يهودية قدمت من روسيا البيضاء، واستقرت في القدس عام (1809م). درس في المدارس الدينية اليهودية، ثم دخل دار المعلمين، وأنهى دراسته فيها عام (1916م). عام (1922م) التحق بجامعة القاهرة. فحصل على الدكتوراه فيها، عن دراسته: القبائل اليهودية في البلاد العربية، تحت إشراف طه حسين. وقد صدرت على شكل كتاب تحت عنوان: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام عام (1927م). سافر إلى ألمانيا والنمسا ودرس الفلسفة، وحصل على الدكتوراه من جامعة فرانكفورت عام (1933م). عن موضوعة كعب الأحبار. ثم عاد للقاهرة للتدريس في دار العلوم وليعمل سكرتيرا للجالية اليهودية هناك. وغير اسمه لإسرائيل بن زئيف. كان له نشاط واضح في الحركة الصهيونية، وألف العديد من الكتب والدراسات عن اليهود وتاريخهم. کعب الأحبار، 25 - 44 (المترجم).

ولم تنقض شروطها»(1).

کا ناقش المتخصص في الدراسات اليهودية «مارك. ر. كوهين»(2) موضوعة اضطهاد - حسب تعبيره - اليهود بين المسيحية والإسلام، وخلص إلى نتيجة أن الإسلام، كان أكثر تسامحا من المسيحية مع اليهود. وقال بالنص: «تميزت العلاقات الإسلامية - اليهودية في القرون الوسطى بكونها أقل عنفا من العلاقات المسيحية اليهودية»(3).ولاشك من أن المسلمين إنها حاربوا محاربيهم من اليهود، ولم يحاربوا عقائدهم على خلاف المسيحية التي حاربت واضطهدت اليهود، والعقيدة اليهودية ! كما أن اليهود - حسب الاعتقاد المسيحي - هم المسؤولون عن صلب السيد المسيح، والذي عد من قبل أتباعه بمثابة تعطيل للخطة الإلهية، ورغم التأويل الإيجابي الخلاصي الذي قدمه المسيحيون لقضية الصلب في سياق مفهوم الفداء البشري! فإن حادثة الصلب ظلت تعد فعلا غير مغفور ينبغي استحضاره على الدوام. وقد بين «مارك. ر. كوهين» فرق التعامل في الإسلام فقال: «إن الذين قبلوا بالحكم العربي من أهل الكتاب ضمن لهم حق الإقامة والأمان في دار الإسلام مقابل خضوعهم ودفعهم الجزية، وفي مرحلة تالية فإن المسلمين قد عاملوا اليهود بامتهان، ولكن من غير الموقف المتوتر بين المحبة والكراهية الذي عقد علاقة المسيحية ب-«کفارها»من اليهود، فخلو الإسلام من هذا الغموض ومن خيبة الأمل الأخروية المسيحية عندما تملكت زمام

ص: 352


1- تاريخ اليهود، 112 - 121. بداية بنو قینقاع فيها بين بدر وأحد. ابن هشام: السيرة، 2/ 47 - 49. ثم النضير بعد محاولتهم الغدر بالنبي وقتله، في السنة الرابعة. ابن هشام: السيرة، 2/ 190 - 192. ثم قريظة بعد مشاركتهم في الأحزاب. ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 233 - 240.
2- استاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون) في أميركا. من مواليد عام (1943م)، وأحد أعلامالبحث التاريخي حول اليهود في القرون الوسطى بين الهلال والصليب: وضع اليهود في القرون الوسطى، 4. (المقدم).
3- بين الهلال والصلیب 78.

القوة؛ قد جعل هذا الإسلام أقل ميلا من المسيحية إلى اضطهاد اليهود وأكثر استعدادا لحضور يهودي في حيزه، بل على العكس من ذلك إذ سمح لليهود أن يزدهروا بل حتى ليشاركوا في الحياة السياسية والثقافية»(1).

إذن لا خلاف بين المستشرقين حول وجود صيغة اتفاق بين المسلمين واليهود في المدينة وإلى هنا يتضح أن «Lammens» لم يكن ينوي مناقشة حوادث تاريخية، بقدر ما كانت غايته تشويه الحقائق وتغييبها؛ فمن الطبيعي أن يشذ في طروحاته وآرائه ويخالف الإجماع، وهكذا يتبين فساد طرحه، بل وانعدم التاريخية فيه!؛ فهو يناقش أحداث تاريخية من دون الرجوع للمصادر! فيكتب مما يعتمر في صدره ونفسه المشبعة بالتطرف والحقد! وبغض النظر عن كون هذه المسألة من المسلمات عندنا - أي إن اليهود هم من غدروا بالمسلمين، فعاملهم المسلمون بحسب القواعد الشرعية - وبغض النظر عن كون المصادر التاريخية الإسلامية قد تواتر فيها نقل خبر الصحيفة والإشعار بعقدها بمجرد وصول النبي إلى المدينة، يبقى القول: إن اتساق الأحداث، وعفويتها - في المصادر التي اعتمدها «Lammens» وغيرها - لتشعر وتشير بكل صراحة، ووضوح لوجود اتفاق مسبق! ومن ثم خرق هذا الاتفاق من قبل اليهود!

فهذا «الديار بكري» في كتابه «تاريخ الخميس». وهو من مصادره المهمة، يتحدث عن إجلاء يهود بني قينقاع، مستعرضا آراء المؤرخين السابقين في الحادثة، وملخصا ذلك بالقول: إن رسول الله لما قدم المدينة وادع اليهود علىأن لا يعينوا عليه أحدا، وإن دهمه بها عدو نصروه. فلما انصرف من بدر أظهروا له الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمد من يحسن القتال، فلو لقانا لاقي عندنا قتالا لايشبهه قتال أحد. ثم أظهروا له نقض العهد. وذكر قصة تلك المرأة التي جاءت لسوق بني قينقاع، فاعتدى

ص: 353


1- بين الهلال والصليب، 81- 83.

عليها اليهود؛ فثار لها أحد المسلمين وقتل اليهودي الذي اعتدى عليها، ومن ثم تجمع اليهود وقتلهم الرجل المسلم، وتحصنهم ومن ثم محاصرتهم من قبل المسلمين، وأنهم كانوا حلفاء ل «عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول» فتبرأ (عبادة) من حلفهم وقال: يا رسول الله. أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. في حين تشفع بهم زعيم المنافقين (عبدالله بن أبي سلول) ففي عنهم، وأجلوا من المدينة إلى الشام (1). وهذا ما اتفق عليه مؤلفو السير في أمر بني قينقاع(2).

و بالابتعاد لأكثر من ذلك نجد أن معاقبة بني قينقاع قد مرت دون أن تحدث ردة فعل عند الآخرين !؛ ففي معركة أحد عرض بعض الأنصار: أن يستعينوا ببعض حلفائهم من اليهود! فقال النبي صلی الله علیه و آله : «لا حاجة لنا فيهم»(3).وفي لفظ: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك»(4). فلو لم تكن اتفاقية الدفاع المشترك سارية المفعول، لما عرض الأنصار ذلك العرض! بل أبعد من ذلك؛ إذ يروى أن مخيريق اليهودي طلب من اليهود نصرة النبي صلی الله علیه و آله فلم يجيبوه، فخرجوقاتل في أحد حتى قتل(5) ! فلولم يكن هناك أجواء اتفاق أو تفاهم بين المسلمين واليهود، لما طلب مخبريق من اليهود نصرتهم! أو لاستغل المسلمون تنامي قوتهم، وارتفاع معنوياتهم، بعد معركة بدر

ص: 354


1- تاریخ الخميس، 1/ 409 - 410.
2- الواقدي: المغازي، 1/ 176 - 180؛ بن هشام، السيرة النبوية، 2/ 47 - 449 الكلاعي: الاكتفاء في مغازي رسول الله و الثلاثة الخلفاء، 2/ 79 - 81؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 3/ 385 - 386؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 5/3 - 6؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 8/ 346- 347؛ ألصالحي الشامي: سبل الهدى 4/ 179 - 180.
3- ابن هشام، السيرة النبوية،2/64
4- المقريزي: إمتاع الأسماع، 1/ 135.
5- ابن هشام، السيرة النبوية ، 2/ 88 - 89

وحاربوا اليهود جميعا، أو لاستغل اليهود، فرصة المشاركة مع قريش في أحد للانتقام من المسلمين. وبالانتقال لإجلاء بني النضير، نجد «الديار بكري» يقول: لما غزا أحد، وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله. ركب «کعب بن الأشرف» في أربعين من اليهود فأتوا قریشا. ودخل أبو سفيان المسجد الحرام في أربعين من قريش وكعب في أربعين من اليهود، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق، بين الأستار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة. فلما علم النبي بذلك، بعث إليهم أن يخرجوا من المدينة، وأعطاهم مدة «عشرة أيام» ليرحلوا. ولكن «ابن أبي بن سلول» أرسل إليهم بأن لا يخرجوا، ووعدهم بأن ينصرهم، هو وبني قريظة، وحلفاءهم من غطفان؛ فطمع «حيي بن أخطب»، وهو صاحب عهدهم بذلك؛ فأرسلوا للنبي: إنا لا نخرج!؛ فاصنع ما بدا لك!؛ فكان ذلك سبب محاصرتهم وإجلائهم(1).

وذكر السمهودي في كتابه وفاء الوفا وهو الآخر من مصادر « Lammens» : أن بني النضير، أجمعوا على الغدر، فبعثوا للنبي: أن أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك. فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلی الله علیه و آله فرجع وصبحهم بالكتائب. وفي خبر آخر: أن محاصرتهم كانت في صبيحة مقتل «کعب بن الأشرف» أحد زعمائهم (2)، لأنه كان يهجو النبي صلی الله علیه و آله والمسلمين ويحرض عليهم، وذهب إلى مكة ورثي قتلاهم في بدر؛ ليحرضهم على المسلمين (3). وأما فيما يخص بني قريظة، فقد ورد: أنهم شاركوا مع المشركين في

ص: 355


1- تاریخ الخميس، 1/ 460 - 461.
2- وفاء الوفا بأحوال دار المصطفی، 1/ 230؛ وينظر : ابن حجر: فتح الباري، 7/ 255؛ تاریخ الخميس، 462 - 461/1
3- ينظر : الواقدي، کتاب المغازي 184/1 - 190.

الأحزاب، بل إنهم ومن لجأ إليهم من بني النضير كحيي بن أخطب مثلا، هم من استحث قريشا على حرب المسلمين!؛ فاستحقوا بذلك الحرب والجلاء(1).

أما دعواه: أن سيف النبي اقتطع جزء من أرض يثرب على حساب مصالح السكان الأصليين من اليهود، الذين جردوا من أراضيهم بالخيانة والقوة.. وأن النبي لم يكن في أي لحظة طيب القلب، بل متعصب!

فالتاريخ ينقل أنه وفي خضم صراعه مع اليهود، لم يكن إلا مثالا لمحض الرحمة، والعاطفة الإنسانية النبيلة، فينقل لنا أنه: عاتب بلالا؛ وقد رآه يمر بصفية بنت حيي بن أخطب، وابنة عم لها على جثث قتلى من اليهود! فلما رأتهم التي مع صفية، صکت وجهها وصاحت، وحثت التراب على رأسها، فقال النبي لبلال حيث رأى من اليهودية ما رأي: يا بلال نزعت منك الرحمة حين تمر بامرأتين على قتلاهما!(2).

ص: 356


1- الواقدي: المغازي، 441/2 - 525؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 190 - 243؛ تاریخ الخميس، 1/ 498 - 480
2- ابن إسحاق: سيرة، 5 / 246؛ ابن هشام، 2/ 336؛ الطبري: تاریخ، 3/ 14؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 49/5 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 224/4 ؛ السيرة النبوية، 374/3

(17)وفاة النبي.. مقالات القرون الوسطى من جديد

الايتوقع من «Lammens»هنا أقل من تردید مفتريات القرون الوسطى!؛ فقال : إن سليمان المصغر هذا الذي غلظ قلبه، وأصابه الخدر بسبب الملذات المادية، والذي كانت تترصده السكتة الدماغية. وجد نفسه غير قادر على الإسراف في الملذات التي قضت على جميع بواعث طاقته[ويضيف في الهامش دون ذكر أي مصدر]یشير الحديث إلى هجوم أولي. في السنوات الأخيرة من حياته. منعته السمنة من ممارسة الأعمال الشعائرية: تفاصيل تكتمت عليها السنة بعناية»(1).

ويمضي في سرد قصته الخرافية الخاصة فيقول: إنه شعر في نهاية حياته أن القدر وضعه على رأس حركة خارجة عن سيطرته، وتتجاوز أحلامه الأكثر تفاؤلا، وإن تقدمه في السن ووهن صحته حرمه من السيطرة على الوضع. ولذلك عندما اعتبرته الإنسانية باستثناء أتباعه، نبيا وهميا، يجب أن ينظر إلى هذا الحكم الإجمالي بتحفظ. وإنه بدأ بخدع نفسه في البداية، وكان ضحية الهلوسة الاعتداد بالنفس. كان محمد يعتبر نفسه نبيا عظيما، وكان يطمح أن يكون نبي العرب. أما أتباعه، فقد جعلوا منه المرشد الأعلى للإنسانية(2).

هكذا نجد « Lammens» على الرغم مما كان تحت تصرفه من وسائل المعرفة ، وما توافر لديه من مصادر تاريخية، وتمكنه غير المردود والمنكر من اللغة العربية، لم يرد الاحتكام لا للرواية ولا للمنطق والعقل!؛ فراح يكتب مما يجيش في صدره من حقد وحنق على الإسلام ونبيه الكريم! وكأنه نسخة ثانية طبق الأصل عن ذلك المسيحي

ص: 357


1- Mahomet fut – il sincere?. Pp, 54-55.
2- Mahomet fut _ il sincere?. Pp, 55-56

الذي عاش في ظلامية القرون الوسطى وتطرفها الجارف (Gulbert Von Nogent = غیلبرت نوغنت» الذي قدم تقريرا موجزا عن النبي كان بمثابة أول سيرة أوربية له خارج إسبانيا الإسلامية فاعترف هناك: بأنه لا يمتلك مصادر مكتوبة، وإنه كان يعتمد على آراء العامة، وأنه لا يمتلك أي وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب في نقده الأيديولوجی! إلا أنه يعلل ذلك بالقاعدة التي تقول: لا جناح على الإنسان إذا ما ذكر بالسوء من يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء(1).

يكفي أن نضع هاتين الصورتين المتجنيتين على الحقائق والتاريخ! بين يدي القراء، ليحكموا،ويقرروا: أي المؤلفين كان أكثر ظلامية وانشدادا لروح التطرف، والتعصب المقيت، وأي منهما كان أبعد عن روح الحضارة، والتقدم، ومناهج البحث التاريخي والعلمي؟ مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «Nogenc = نوغنت» اعترف أنه لا يمتلك مصادر مكتوبة، وأنه اعتمد آراء العامة، وأنه شوه تلك السيرة العطرة! في حين يأتي، مدعي التنور والتحضر، والتعقل والفهم، وامتلاك روح النقد العلمية، والمنهجية البحثية التي لا تقارع، والتمكن من التاريخ والسيرة الذي لا يجاری وهو يملك آلاف المصادر، وبامكانه الولوج لآلاف المكتبات! .. الخ. ليكتب بمعزل تام عن أدنى مصدر من تلك الأطنان من الكتب ؟! وذلك لأن «Lammens» كان يقود مشروعا ضخما!؛ لتقويض صورة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله بوصفه نبيا ورسولا، وإنسانا مثالا، لكل المنضوين تحت الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. وتقويض صورة الإسلام كدين رحمة ومحبة ومودة وتعقل ومنطق، ومواكبة للروح العلمية والتقدم الذي يشهده العالم، ولما كانت صورة النبي العظيم تتجلى وتتكشف، وتقشع بحقيقتها الإلهية تراكمات الصور المسيئة والمشوهة التي

ص: 358


1- سودرن: صورة الإسلام، 98؛ رودنسون: الصورة العربية، 33 - 34؛ جاذبية الإسلام، 16 - 21؛ زکاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته، 84.

دبجها التضاد «اليهودي - المسيحي» على مر القرون، وتقدم لأهل الكتاب نموذجا حيا فردا، قادرا على إجراء التحول والتغيير، وتقديم الحلول المنطقية لكل المشاكل العالقة في العالم، إذا ما اتبعت وطبقت تعاليمه وتوصياته بشكل دقيق وصحيح، وتواصل هز الثقة المسيحية وزعزعتها بهويتها التي باتت تتلاشى شيئا فشيئا؛ فيا كان من «Lammens» ومن هم على شاكلته إلا أن يفزعوا لنصوص

أسلافهم، فيستخرجوها من مكامنها، ويعيدوا تأهيلها، وتقديمها بأشكال وأغلفة جديدة!؛ علها تتدارك - بمهاجمتها الطرف الآخر وتشويه صورته - بعض الثقة بألهوية المسيحية!

ص: 359

ص: 360

اَلْفَصْلُ اَلرَّابِعُ: تقويض صورة المرأة المثال

اشارة

ص: 361

ص: 362

مَدخَل

قدمت دراسية «Lammens»«Fatima et les Filles de Mahomet, notes critiques pour letude de la Sira = فاطمة وبنات محمد: آراء نقدية حول السيرة» من قبل المستشرقين أنفسهم، على أنها من بين أكثر الدراسات الاستشراقية تطرفا، واصطباغا بروح التعصب، والشك المفرط وغير المبرر! وهي فضلا عن كونها كتبت بدوافع مغرضة تمثلت بمحاولته تحطيم الثقةبالسيرة النبوية والصورة التاريخية للأشخاص المتناولين ضمنها، فهي إنما خرجت خلال منظار العقدة المسيحية والنظرة الازدرائية للمرأة من قبل الرهبان والقساوسة المسيح! ومن رحم تلك الرؤية الألغائية لها. تلك الرؤية التي ما انفكت تنزل المرأة بمنزلة أدنى! وكونها سببا في كسب الخطيئة والإثم !؛ فإليها تنسب الذنب الأول في الخروج من الجنة، وذلك بعد أن وسوست لها الحية بالأكل من تلكم الشجرة، فوسوست هي بدورها لآدم في أن يأكل منها: «المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت»(1)؛ ولذلك قال الرب الإله للمرأة: الأكثرن مشقات حملك تكثيرا(2). هكذا أصبحت خطيئة حواء سببا في الطرد من الجنة وانتقال هذه الخطيئة لكل البشرية؛ إذ تبنت الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي عقيدة وراثة الذنب الأصيل وانتقاله، ولكي يغفر الله هذه الخطيئة ضحى المسيح بنفسه وقتل

ص: 363


1- سفر التكوين، 3/ 12.
2- التكوين، 3/ 16.

مصلوبا !؛ فتسببت المرأة إذن بقتل ابن الإله وبسقوط البشر جميعا من الفردوس! ولذلك عدت (Helen Ellerbe = هيلين إيليربي) تلك النظرة المجحفة من الجوانب المظلمة في المسيحية. ونقلت عددا من أقوال القديسين وآباء الكنيسة المسيحية منها:

كتب القديس «Clement = کلیمنت» في القرن الثاني للميلاد: ينبغي على كل امرأة أن تشعر بالعار، من خلال التفكير أنها امرأة. وأوضح الأب الكنسي «Tertilian = تيرتولیان» لماذا تستحق النساء عدهن کمرذولات ومخلوقات بشرية أدنى: أولا تعرفين بأنك حواء، وقضاء الرب على جنسك هذا الذييعيش في هذا الجيل الجريمة لابد بالضرورة من عيشها أيضا. أنت باب الشيطان، وأنت لست سوى البائعة لتلك الشجرة، وأنت أول من تخلى عن الشريعة اللاهوتية، وأنت التي أقنعته، وهو الذي لم يكن الشيطان شجاعا بما فيه الكفاية حتى يهاجمه، وأنت التي دمرت بصورة فائقة السهولة صورة الرب، وبسبب ذلك إنك تستحقين الموت، حتى لقد توجب على ابن الرب أن يموت. وعبر آخرون عن هذه النظرة بفظاظة أكثر، فقال (Boethius = بوثيوس»: المرأة هيكل بني على بالوعة قاذورات. وأعلن «Odo = أودو»: إنك أن تعانق امرأة هو أنك تعانق جوالق من السماد. وأشار «Thomas Aquinas = توماس الأكويني» في القرن الثالث عشر الميلادي: إن الرب أقترف خطأ جسيما في خلقه للمرأة! ما كان ينبغي خلق أي شيء في بداية التأسيس فيه عيب أو غش، لذلك توجب عدم خلق المرأة وقتها(1). وكانت المرأة المسيحية التي تموت أثناء المخاض، قد تحرم أحيانا من الحصول على دفن مسيحي، ومن تبقى حية يتوجب عليها أن تقضي (40 يوما إذا كان المولود ذكرا)، و(80 يوما) إذا كانت المولودة بنتا، بعد ولادتها حتى يعاد قبولها في الكنيسة!؛ لأنهما مدنسة! ولم يستثن من هذا التدنيس - عند البعض - حتى مریم علیه السلام !؛ إذ احتاجت إلى التطهير بعد ولادتها ليسوع(2)!

ص: 364


1- إيليربي: الجانب المظلم في المسيحية، 47 - 50، 131 - 133.
2- إيليربي: الجانب المظلم في المسيحية، 151، 174 - 175. وينظر : نرفال: رحلة إلى الشرق، 4/ 3.

هذه النظرة الازدرائية للمرأة في المسيحية قبالة المنزلة والاحترام والمكانة التي منحها لها الإسلام، شكلت تمايزا واضحا في التعامل بين الديانتين، فرغب « Lammens» بتجريد المرأة عموما والإسلامية خصوصا من «النموذج المثال» الذي قدمته فاطمة الزهراء علیها السلام بعظیم مقامها وسمو مكانتها وفضلها كتواجد لامتزاج النبوة بالإمامة، وبالتالي قطبا و محورا للمنظومة الدينية الإسلامية الحقة. فتواجدها بهذا الثقل بكافة مفاصل تاريخ الدعوة والرسالة الإسلامية، ومحطاتها المهمة كالمباهلة وحادثة الكساء، وحادثة الهجوم على الدار وغيرها، لاشك بين عظم المنزلة والدور الذي يحتله التواجد النسوي في الرسالة الخاتمة وهذا ما أحرج بدوره الحضور النسوي الذي أريد له الوقوف عند مريم العذراء علیها السلام.

ومن الجدير أن نشير هنا لطبيعة العلاقة الباردة أو المتشنجة، التي قدمها الإنجيل بين عيسى ومريم العذراء علیها السلام كقطبي تمثل في الديانة المسيحية. فقد قدم المسيحيون عيسى علیه السلام على أنه ينتهر أمه العذراء علیه السلام ويوبخها!؛ إذ جاء في الإنجيل ما نصه: «وفي اليوم الثالث، كان في قانا الجليل عرس وكانت أم يسوع هناك. فدعي يسوع أيضا وتلاميذه إلى العرس، ونفدت الخمر، فقالت ليسوع أمه: ليس عندهم خمر، فقال يسوع: مالي ومالك أيتها المرأة؟ لم تأتي ساعتي بعد»(1). وقدم على أنه يفضل تلامذته عليها!؛ فقد جاء في إنجيل متي: «وبينما هو يكلم الجموع، إذ أمه وإخوته قد وقفوا في خارج الداريريدون أن يكلموک، فقال له بعضهم: إن أمك وإخوتك واقفون في خارج الدار، يريدون أن يكلموك. فأجاب: من أمي ومن إخوتي؟، ثم أشار بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي؛ لأن من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي»(2). وإذا ما وضعنا هذه الصورة، قبالة صورة الترابط والقرب

ص: 365


1- يوحنا، 2/ 3- 4.
2- .49 - 46/12

والتماهي بين النبي وفاطمة علي نستشعر أن هذا البون بين الصورتين، كان حاضرا كأحد العوامل الضاغطة، والملحة على «Lammens» في أن يحاول تشويه هذه الصورة، وتزييفها! لما تمثله من اندماج، وتلاحم، صيغ على شكل نصوص قرأنية - كما في آية التطهير والمباهلة -، وأحاديث نبوية - كفاطمة بضعة مني، أم أبيها، روحي التي بين جنبي، يرضي الله لرضاها.. الخ -، وروايات وأحداث تاريخية - سيأتي استعراض بعض منها - بين صورة المثالين الإسلامين، وبالطبع هذا ما ينسحب على الإمام علي والحسنين:. وما تشكله الصورة الأخيرة، من واقع، وحقيقة أكثر منطقية، واتزانا، ورجاحة في أن تستلهم وتتمثل من قبل الآخرين. هذا مضافا لانطلاقه من مبدأ أن التبشير إن لم يستطع اجتذاب المسلمين نحو المسيحية، فلا مندوحة من تجريدهم من تلك النماذج، فمن شأنه أن يجرد المسلمين والديانة الإسلامية مقومات وجودها، وركائزها الأساس، ويحجم من الاغراء الذي تقدمه هذه الذوات للمسيحيين الذين ينشدون التعرف على الإسلام وشخوصه بموضوعية أكبر وبمعزل عن تجاذبات العلاقة التي خلفتها كتابات رجال الدين المسيحي، عبر تاريخ العلاقة الصدامية الطويل، الذي لاشك أسهم في تشويه حقيقة ذلك الدين وشخوصه الأساس. ولذا استكملت دراسة «Lammens» أسباب تعصبها والروح المغرضة التي غذي بها كل حرف منها، فغدت محل رفض المستشرقين قبل غيرهم ولذا قال المستشرق الفرنسي (Gaston Wiet = غوستاف ویت) في جلسة نعي «Lammens » بعد (17 يوم) من وفاته: إنه من الصعب أن نقبل کتاب فاطمة وبنات محمد بثقة ودون تحفظ؛ فإن التعصب، والاتجاه العدواني، يسودانه إلى حد كبير (1). وسنحاول التركيز على أهم الأفكار التي طرحها في دراسته هذه.

ص: 366


1- العفاني: أعلام وأقزام 2/ 458. ومرت العديد من الأمثلة الرافضة في موضوعة دراساته السيرية في موازين نقد المختصين والباحثين.

(1)القيمة والمكانة في التدوين.. تلاعب الخطا

ببين «Lammens» في مستهل كتابه الطريقة أو النية التي سيتعامل بها مع الصورة التاريخية للسيدة فاطمة علیها السلام وهي الطريقة المشبعة بالتشكيك وتكذيب الحقائق والواقع التاريخي المتعلق بشخصها فكذب واستبعد من النصوص والوثائق التاريخية كل ما وجده يتعارض مع رؤاه ومرجعياته الثقافية، وبالمقابل قطع بوثاقة كل ما يتفق مع ما يذهب إليه، بل راح يضيف على النصوص ويؤولها كما يحلو له، وراح يصنف المؤرخين بحسب ما يقتضيه طرحه فيصنف من يعادي أهل البيت عليهم السلام ومن يقف معهم أو مع شيعتهم على طرفي نقيض - فلا يذكر فضائلهم وأخبارهم، وفي أبسط الأحوال يكذبها ويخفيها كرها - على أنه متشيع ومحب للعلويين !؛ إذا ما فلتت مع سوانح فكره حقيقة ما، وتضمنت أدني مديح، أو إبراز لفضائلهم ومكانتهم! بمعنی أنه لم يكتف بعكس النصوص التاريخية وقلبها وإعادة تدويرها، بل راح يعطي شهادات الحب والبغض والمحاباة من عنده لأولئك المؤرخين! ليوهم القارئ بأنه كان موضوعيا وعلميا في طرحها سيما وأنه يدعي محاولة الوصول إلى صورة أوضح عن شخصية فاطمة، وسيرتها التاريخية !؛ فقال: لأجل الحصول على صورة واضحة ودقيقة عن شخصية فاطمة، يجب علينا تجريد تلك الشخصية من الأكاليل الذهبية التي عقدها المؤرخون على مفرقها. وأن نعرض لها وفقا للنقد التاريخي المعاصر، فقد كانت فاطمة في حياتها، وفي بيت والدها تعامل معاملة عادية، سواء من والدها أو من الصحابة وغيرهم، ولم نرها تتمتع بحظوة واحترام يفوقان ما كانت تتمتع به بدویات ذلك الزمن. لم يكن لها أي مكانة أو دور مهم تلعبه، ولا أي اعتبار أو سمو في ذلك المجتمع الأعرابي. ولم يكن شأنها في بيت والدها خطيرا ظاهر الأثر، بل نجدها أقل شأنا من عائشة وحفصة وزينب وغيرهن من أزواج النبي ولإثبات ذلك يكفي النظر

ص: 367

لحجم الملف الذي منحه لها قدماء المحللين، كما في كتاب السيرة لابن هشام، فقد نالت شخصية فاطمة إشارتين فقط في كل هذا المصنف، مع أنه محاب لعلي. كما أن ابن سعد في طبقاته ترجم لعلي دون أن يذكر اسم زوجته مطلقا، وفي مسند ابن حنبل الكبير وخلال «230 صفحة»من المسند، لم نجد المؤلف يكرس لفاطمة سوى صفحة واحدة، وهي غير ذات قيمة. كما أن ظهورها كان قليلا في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني المشهور بولائه للعلويين، ثم بدأ ظهورها عند اليعقوبي، والمسعودي في «مروج الذهب» ومن تبعهم. إن التعظيم لأهل البيت بدأ في الواقع خلال القرن الثاني الهجري(1).

غالبا ما كانت استدلالات «Lammens» تتم بهذه الكيفية!؛ فهذه طريقته في نفي أو إثبات ما یرید! وسنجده دائما عندما يذكر المؤرخون شيئا یدین بني أمية، أو من التزم هو الدفاع عنهم من مناصرين للأمويين وغيرهم. ويثبت فضيلة أو مزية للنبي صلی الله علیه و آله أو لأحد من أهل البيت علیهم السلام سنجده يسارع لنفيها وتكذيبها بدعوى أنها وردت في مؤلفات الشيعة! أو رواها رواة شيعة! وعليه فهي بعيدة كل البعد عن الحقيقة التاريخية. في حين لم يطبق هذا المنهج على استدلالاته هو! وهكذا عندما يذكر المؤرخ شيئا إيجابيا عن سيرة فاطمة عليها السلام يكون شيعيا لا يعتد بكلامه ! وعندما يغيب دورها ويمحو فضائلها، يكون مؤرخا من الطراز الأول! ويكون ما يقوله هو عين الحقيقة والصواب! إذن «Lammens»لايتحرج من أن يصنف المؤرخين بحسب ما يشتهي !! إذا ما وجد ذلك سبيلا للتمويه! وإقناع القارئ بما يدعيه !؛ فليس يدری متی صار (ابن هشام) محابيا لعلي عليه السلام وكان أول شيء حذفه من سيرة ابن إسحاق عندما هذبها هو خبر وحديث الدار! فقد نقل الطبري هذا الخبر عن ابن إسحاق فقال: عندما نزل قوله تعالى«وَأَنذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ»(2)دعا النبي يا بني عبد المطلب وصنع

ص: 368


1- Fatima et les Filles de Mahomet, P. 15
2- الشعراء 214.

لهم طعاما، ثم أخبرهم بنبوته وقال: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم.. فأحجم القوم عنها جميعا فقال علي بن أبي طالب: أنا يا نبي الله أكون وزیرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي، ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1). ولاشك أن «Lammens» يعلم ما لهذا الخبر من مركزية في سيرة الإمام عليه السلام . فكيف يكون ابن هشام محابيا وهو يحذف هذا الخبر من سيرة ابن إسحاق ؟! كيف يكون محابية وهو قد غيبه وغيب جهاده تماما في حروب الإسلام منذ بدر وحتى حنين، واعتذر عن ذلك ببيان منهجه في تهذيب السيرة قائلا: «وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق .. ، أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره»(2)، فكان مما يسوء الناس ذكره حديث الدار! وبذلك دل على أنه كان محابيا لمن يسوؤهم ذكر الإمام علیه السلام لا محابيا للإمام نفسه! أما أن ابن سعد ترجم لعلي عليه السلام ولم يذكر فاطمة عليه السلام فلأنه أراد تجنب تكرار المعلومة وتغطية أكبر جزء ممكن من أخبار الشخصيات المترجم لها!؛ إذ أفردها بترجمة خاصة ضمن عنوان ذكر بنات رسول الله بعشر صفحات في حين جاءت ترجمة الأخريات كلهن، وبضمنهن زینب التي يدعي أنها نالت من الاهتمام ما لم تنله فاطمة بعشر صفحات فقط !(3). على أن هذا لا يعني أنه كان منصفا لها! أما أن ابن حنبل لم يكرس لها إلا صفحة واحدة(4). فذلك تمويه وحجة لا تقل عن سابقتها فتلك الصفحة التي أراد «Lammens» أن يوهم الآخرين بأنها ترجمة لها، هي ما اختاره ابن حنبل مما روته فاطمة عليه السلام من الأحاديث حسب منهجية كتابه،. وهذا لا يعكس شيئا من مكانة الراوي لسببين رئيسين هما:

ص: 369


1- الطبري: تاریخ، 2/ 319- 321.
2- السيرة النبوية، 1/ 2.
3- الطبقات، 20/10 - 40.
4- مسند، 282/6 - 283.

1/ اعتراف المسلمون جميعا بكثرة الأحاديث الموضوعة؛ فقد ظلت أبواب الحديث مفتحة قرونا على مصراعيها، يخرج منها كل يوم ألوان مختلفة من الأحاديث التي يتفنن الوضاع في صوغها وإسنادها؛ فكثرت الأحاديث المنسوبة، والموضوعة كثرة هائلة(1)حتى بلغت مئات الألوف(2)! مما جعل «شعبة بن الحجاج. ت 160ه- »

ص: 370


1- روي مالك (100 ألف حديث) واختار منها في الموطأ (10 آلاف) ! ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة، حتى رجعت إلى (500 حدیث). السيوطي: جلال الدين، تنویر الحوالك، 6؛ أبو رية: محمود، أضواء على السنة المحمدية، 269. واستمر في تنقيحه، فكان جملة ما فيه من الآثار عن النبي والصحابة والتابعين (1720 حدیث) ، المسند منها (600 حدیث)، والمرسل (222 حديث)، والموقوف - الذي ينتهي سنده إلى الصحابة - (613 حديث)، ومن أقوال التابعين (285 حدیث) ! أبو رية: أضواء، 270. وقال البخاري: ما كتبت في كتاب الصحيح حديثا الا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين، وقال: خرجت الصحيح من (600 ألف حديث). وقال: أحفظ (100 ألف حديث صحيح و(200 ألف) غير صحيح. وقال: ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو (200 ألف حديث). وقال: لو قيل لي تمن لما قمت حتى أروي (10 آلاف حديث) في الصلاة خاصة. وسئل: أتحفظ جميع ما أدخلت في مصنفاتك فقال لا يخفى على جميع ما فيها. ابن حجر: مقدمة فتح الباري، 5 / 488. وقد أنفق البخاري (16 عام) في جمع كتابه الذي أسماه (الجامع الصحيح)، جمع فيه (7397 حديثا) وبإضافة الأحاديث المعلقة - التي لم يذكر فيها السند من بدايته - والموقوفة والمتابعات - المروي من طريق آخر - يصبح العدد (9082 حديثا) وغير الموقوفة - التي ينتهي سندها إلى الصحابة - والمقطوعة التي ينتهي سندها إلى التابعين أو ما دونهم -، وإذا حذف المكرر، واقتصر على الأحاديث الموصولة السند کانت (2762 حديث)، وقد اتهم (80 راويا) من رواته بالضعف! على أنه لم يكتب صحيحه کاملا بل أكمل بعد وفاته! أما (صحیح مسلم)، فقد كان (160 راوية) من رواته متهمين بالضعف، وبلغت أحاديثه (7275 حديثا) مع المكررة، ومن دونها نحو ( 4 آلاف حدیث). أما (مسند أحمد بن حنبل) فحوى نحو (40 ألف حديث) منها (10 آلاف حديث) مکرر، وفيه كثير من الأحاديث الضعيفة، سيما أحاديث مناقب بني أمية [ وهذا ما جعل«Lammens» يتخذه مصدرا أساسا في دراساته ]. ينظر: أحمد أمين، ضحى الإسلام، 2/ 112 - 122؛ أبو رية: أضواء، 272 - 303. وعن انواع الحديث ينظر: ابن الصلاح، مقدمة، 906 - 918 .
2- أبو رية: أضواء، 165 - 166.

أحد أشهر أئمة الحديث يقول: «تسعة أعشار الحديث كذب»(1). وكان يقول: «ما أنا مغتم على شيء أخاف أن يدخلني النار غيره»(2).وقال الحافظ (الدارقطني ت 385ه-) «ما الحديث الصحيح في الحديث، إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود»(3).

وقال أحمد أمين: «ومن الغريب أننا لو اتخذنا رسما بيانيا للحديث لكان شكل «هرم» طرفه المدبب هو عهد الرسول، ثم يأخذ في السعة على مر الزمان، حتى نصل إلى القاعدة، أبعد ما نكون على عهد الرسول. مع أن المعقول كان العكس. فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه، ثم يقل الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا، ولكنا نرى أن أحاديث العهد الأموي أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد الأموي»(4).إذن فكثرة الرواية لا تعكس مكانة الراوي، وإلا لكان أبو هريرة أفضل المسلمين، فهو أكثرهم رواية للحديث على الرغم من أنه لم يصحب النبي صلی الله علیه و آله إلا سنة واحدة وبضعة أشهر(5)!

2/ من المعروف أن «أحمد بن حنبل» - مثل مؤلفي الصحاح والمسانید ورواتهم - إنما ينتمون لمدارس فقهية ومذهبية سعت جاهدة لتطويق، وتحجيم وتغييب المرجعية الدينية ل أهل البيت علیهم السلام ومذهب التشيع بصورة عامة! وتقديم شخوص بديلة عنهم في مجال الرواية الحديثية والفقهية والتفسيرية، وحتى التاريخية؛ لارتباط هذه المدارس الفقهية بالسلطة السياسية التي صادرت حقوق أهل البيت علیهم السلام وساندت تلك المذاهب في أن يشق كل منها طريقه الخاص به(6).

ص: 371


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 9 / 105.
2- ابن سعد، الطبقات، 280/9
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 105/9 ؛ أبو رية: أضواء، 166.
4- ضحى الإسلام، 2/ 123 - 129.
5- أبو رية: شيخ المضيرة، 69،135؛ أضواء، 8.
6- ينظر : أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، 1/ 170 - 186

فإذا كان «Lammens» وأمثاله ممن يفترض أنهم خارج دائرة صراع المذاهب الإسلامية لم يتحر الموضوعية والحقيقة - بل زيفها وحرفها وشوهها ، فكيف بأقطاب ذلك الصراع؟!

ليس من المنطقية بمكان أن تستدل على تواضع، وخمول مكانة شخص ما من خلال عدم ذكر من يقف معه على طرفي نقيض لفضائله ومزاياه، وتبيانها بشكل جلي ! بل إن العكس غالبا ما يكون هو الصحيح؛ ولذا ليس من الغريب أن يقتصر أحمد بن حنبل - وكذا أصحاب الصحاح والمسانيد - على نتف من الأحاديث المروية عن فاطمة، و أهل البيت علیهم السلام سيما ما يتعلق منها بمكانتهم ومنزلتهم، وعظيم حقهم..

بل إن ورود بعض فضائلهم في كتاب «ابن حنبل» وغيره ممن لا يعتقدون بالعصمة، لهو دليل دامغ وكافي على علو مكانتهم وعظيم منزلتهم! فعلى الرغم من السعي الحثيث لمحو تلك الفضائل وتكذيبها ومعارضتها - كما نص على ذلك المدائني. ت 225ه-)(1)، ظلت تلك الفضائل محفورة في ذاكرة المسلمين حتى غدت

ص: 372


1- قال: كتب معاوية أن برئت الذمة من روی شیئا من فضل أبي تراب وأهل بيته! فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا! ويبرؤون منه! ويقعون فيه وفي أهل بيته. وكتب إلى عماله: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، و قربوهم، واكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروى كل رجل منهم.. حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه . . ثم كتب: أن الحديث في عثان قد كثر وفشا في كل مصر.. فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة.. فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.. حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر! وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم، وحتی رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وعلموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم.. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 11 / 44 - 46. وللاستزادة ينظر: النصر الله، هيأة كتابة التاريخ (مجلة رسالة الرافدين، العدد 2008/8 ، 89 - 117

موضوعا ولونا من ألوان التأليف(1). ومع ذلك التقاطع نجد ابن حنبل يروي أن النبي صلی الله علیه و آله: «كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة یا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(2). وأنه قال: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(3)، وقال: «إنها فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها»(4).وقال: «فاطمة مضغة مني يقبضني ما قبضها ويبسطني ما بسطها وان الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري»(5).وأنه سئل: من أحب إليك؟ قال: فاطمة»(6).وأنه كان: «إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة»(7).وأنه جاء إلى دار فاطمة عليها السلام «ومعه علي وحسن وحسين آخذا كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدني عليا وفاطمة، فأجلسها بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه أو كساء، وتلا: إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق»(8). وأنه قال: «حسبك من نساء

ص: 373


1- على سبيل المثال: کتاب المعيار والموازنة في فضائل أمير المؤمنين: لأبي جعفر الإسكافي ت 240ه- و کتاب فضائل أهل البيت علیهم السلام لأحمد بن حنبل ت 241ه- و کتاب فضائل أمير المؤمنين: لابن عقدة ت 332ه-، وكتاب خصائص أمير المؤمنين: للنسائي ت303ه-، وكتاب مناقب أمير المؤمنين: لابنالمغازلي ت 483ه-، وكتاب المناقب: للخوارزمي ت 568ه-، وكتاب الروضة في فضائل أمير المؤمنين: لشاذان بن جبرئيل ت 660 ه-.
2- مسند، 3/ 259، 285؛ فضائل أهل البيت (باب: فضائل فاطمة بنت رسول الله)، 485 - 486.
3- مسند، 3/ 80.
4- مسند، 4 / 5؛ فضائل أهل البيت، 475 - 477.
5- مسند، 4 / 323؛ فضائل أهل البيت، 480.
6- مسند، 5/204.
7- مسند، 275/5
8- مسند، 4 / 107. وروي ذلك عن أم سلمة وانه حدث في دارها. 292/6 ، 304.

العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون»(1). وروي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله سيدات نساء أهل الجنة أربع: مریم بنت عمران وفاطمة بنت رسول الله وخديجة بنت خویلد وآسية امرأة فرعون(2). وأنه قال لحذيفة بن اليمان وقد سمعه يناجي أحدا: أما رأيت العارض الذي عرض لي. فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة، فاستأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة(3).

أما أن أبا الفرج الأصفهاني لم يذكرها كثيرا في كتابه الأغاني رغم ميوله العلوية؟، فهذا تحامق من «Lammens»؛ فهل يستدل على تواضع مكانة مريم عليها السلام إذا ما طالعنا كتابا في الجغرافيا أو الفن التشكيلي أو المسرحي، ولم نجد لها ذكرا في ذلك الكتاب ؟ ! فموضوعة الكتاب بعيدة كل البعد عن أن يتطرق لسيرة السيدة فاطمة عليها السلام . ومع ذلك تتسامى تلك الشخصية العظيمة، لتفضح « Lammens» وتبين مدى بعده عن الحقيقة والأمانة العلمية !؛ فقد روى أبو الفرج: أن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط7 دخل على عمر بن عبد العزيز، وهو حديث السن، وله وفرة، فرفع مجلسه، وأقبل عليه، وقضى حوائجه، ثم اخذ عكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال له: أذكرها عندك للشفاعة، فلما خرج، لامه أهله وقالوا: فعلت هذا بغلام حديث السن ! فقال: إن الثقة حدثني كأني أسمعه من في رسول الله قال: إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها. وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها. قالوا: فيا معنی غمزك بطنه وقولك ما قلت؟ قال: إنه ليس أحد من بني هاشم إلا وله

ص: 374


1- فضائل أهل البيت (باب: فضائل فاطمة بنت رسول الله)، 478 - 479، 482 - 483.
2- فضائل أهل البيت، 481، 484.
3- مسند، 391/5

شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا(1). کما روی حادثة المباهلة مع نصاری نجران بفاطمة وعلي والحسنین علیها السلام(2). وذكر أنها كانت تكنى بأم أبيها(3). وروى أن عبدالله بن الحسن افتخر على أبي جعفر المنصور بأمه فاطمة فأفحمه وأسكته (4).

إذن فاحتجاجات «Lammens» أوهي من أن يحتج بها فكانت مما أثار نظيره في خدمة المصالح الدينية الكنسية المستشرق «Louis Massignon = لويس ماسنیون» فقدمها بمنزلة قديسة تشابه غالبا مرتبة العذراء مريم عليه السلام لدى المسيحيين، وعاب على «Lammens» أنه كان يكتفي بدراسة نتف معزولة من الحوادث، وبين أنها كانت المرأة التي تمتعت بالقرب من النبي والامتيازات التي منحها لها أبوها. بل أنها كانت تمثل بدايات الإسلام الكوني (5). وقال في موضع آخر: «ولما كانت فاطمة تعد تجسيدا ثانيا لروح مریم، فإن «ابتهال» فاطمة يناظر انتصار المرأة التي تمثل كنيسة الشهداء الذين غضبوا لإمهال العدالة الإلهية في رؤيا يوحنا»(6). كما تحدث عن بعض الآراء الفلسفية والتأويلية التي تشير إلى العلاقة بين مريم العذراء والسيدة فاطمة عليها السلام (7). ورد عليه صراحة في موضع آخر فقال متحدثا عن حادثة المباهلة: « لهذه المحاكمة، التي فيها إظهاره الوحيد لإخلاصه المطلق، جمع النبي «أهله / الخمسة» الذين دثرهم بدثاره وهم عداه: حفيداه، وابنته وزوجها، رهائن على إيمانه برسالته النبوية، ومنذ

ص: 375


1- الأغاني، 9/ 263.
2- الأغاني، 6/12- 8.
3- الأغاني، 16/ 137.
4- الأغاني، 21/ 122.
5- L. Veccia Vaglieri. The Encyclopaedia of Islam (new edition). V II, p, 841.
6- لويس ماسينيون: الإنسان الكامل في الإسلام وأصالته النشورية. ضمن (الإنسان الكامل في الإسلام. لعبد الرحمن بدوي)، 130.
7- الإنسان الكامل في الإسلام وأصالته النشورية، 137، 138 (الهامش).

ذلك الحين استحال عند بعض صحابة النبي ما كانوا يحملون من مودة نحو الخمسة إلى حب عبادة، فقد قدموا آل علي لأن قرابتهم الدموية المتفاوتة في قربها من النبي قد تحولت بنوع من الشعيرة العلنية «المباهلة» نقلت كل أملهم في العدل بعد موت النبي؛ وفريق آخر أبغضهم ناقلين إلى آل علي تأثرهم بموتاهم الكفار الذين قتلوا ببدر بأمر من الرسول بيد علي [و علق في الهامش] وأمام مثل هذا التمجيد والعبادة، تكون اعتراضات لامنس لا أساس لها بعد»(1).

وأفاض الباحث الأميركي المعاصر (Ruth Rowe = روث روي) البحث في مسألة قدسية السيدة فاطمة عليها السلام وأوجه الشبه بينها وبين مريم العذراء عليها السلام في رسالته التي قدمها لكلية الدراسات العليا - قسم دراسات الشرق الأوسط) في جامعة (Arizona = أريزونا الأميركية عام 2008م) تحت عنوان « Lady of the Woman of the Worlds exploring Shi'l piety and identity through a consideration of Zahra' - Fatima AL) = سيدة نساء العالمين: استكشاف تقوى الشيعة وهويتهم من خلال دراسة فاطمة». ومن ذلك قوله: «أرى أن فاطمة هي بالنسبة للمسلمين بمثابة حامل للقدسية الإلهية على الأرض؛ ولذا ضمنت لها هذه المكانة دور القديسة الإسلامية التي توصل قدسية الرب إلى أولئك الذين ينقصهم القرب العائلي من الرسول أو القرب الروحي للرب»(2).وأشار لآراء عدد من الباحثين بهذا الخصوص، فقال: لاحظت «Margaret Smith = مارجريت سمث» في كتابها حول المرأة الصوفية المشهورة رابعة العدوية، بأنه قبل أن تبرز الصوفية كطريقة في الممارسة الإسلامية كانت نساء مثل فاطمة وآمنة «أم الرسول» تصنفان قديستين. وقال: إن الباحثة المهتمة

ص: 376


1- سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران. ضمن كتاب (شخصیات قلقة في الإسلام. عبد الرحمن بدوي)، 44، 45. وكان أفرد حادثة المباهلة ببحث خاص نشره في ميلان عام (1944م). وأشار فيه لما يتعلق بالنظرة القدسية للسيدة فاطمة. بدوي: شخصيات قلقة، 159 - 182.
2- Lady of the Woman of the Worlds, p. 10

بالدراسات الإسلامية (JoanWallach Scott = جوان ولاش سکوت»ترى أن فاطمة كشخصية تاريخية نسوية لم يتم نسيانها أبدا، بل يتم اعادة تخيلها مرات لا تحصى في ذاكرة النساء والرجال على حد سواء. وأن الباحثة «= Barbara Sowasser باربارا ستواسر» تفسر الصفة القدسية التي تقدم بها فاطمة كواحدة من أفضل نساء العالم في الجنة كمريم العذراء وآسيا زوجة فرعون: بأنها محاولة لتوحيد هؤلاء النساء المقدسات بالأنوثة المثالية النقية الخاصة بالأم العذراء(1).وهكذا فإن طروحات «Lammens»مرفوضة من قبل المستشرقين قبل غيرهم.

ولا شك في أن حادثة المباهلة وحدها بما شكلته من محورية وارتكاز للإسلام، كافية لبيان مقدار الأهمية والمركزية التي كانت تمثلها مع أبيها وبعلها وولديها:؛ فقد كان هؤلاء الخمسة قوام أو قطبية الإسلام ككل، في قبالة النصاری! وبالنتيجة قيمتهم ومكانتهم في نفوس المسلمين، ولاسيما المعاصرين، إنما هي قيمة ومكانة النبي اياه والإسلام بحد ذاته! وهذا ما تنبه له الباحث (Rowe Ruth = روث روي) فقال: «إن هذا الموقع لفاطمة في قلب الرسول، يعني القرب الفعلي العائلي له بالدم والقرب القائم على تعظيمه لها مما شرف وكرم شخصیتها، وذلك في انعکاس حدیث «البخاري» الذي يقول فيه محمد: إن كل من يغضب فاطمة يغضبني. إن هذا القرب الروحي الفعلي من النبي محمد أقدس شخص في الإسلام، أسهم في ظهور فاطمة كشخصية دينية محورية»(2).ثم إن جميع المسلمين يتلون آناء الليل واطراف النهار في الكتاب الذي تسالوا على تكفل الرب بحفظه، وعصمته عن الخطأ والزلل، قوله تعالى:«قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی »(3). وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث

ص: 377


1- Lady of the Woman of the Worlds, pp. 10 - 38.
2- Lady of the Woman of the Worlds, p. 41.
3- الشورى 23.

النبوية التي تقرن مودة أهل البيت علیهم السلام وتبجيلهم بالنبي والإسلام نفسه! وإن تم مصادرة حقهم؛ استجابة لروح العصبية والجاهلية ومعاندة للإسلام! بل أن تلك المنزلة والأفضلية معترف بها من أعدى أعدائهم، قبل محبيهم!

1/ روى عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب سأله يوما فقال: « كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته یعنی عبد الله بن جعفر قلت: خلفته يلعب مع أترابه. قال: لم اعن ذلك، إنما عنيت عظیمكم أهل البيت، يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم. قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه؟ قلت: نعم، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك»(1).

2/ قال معاوية في جوابه على كتاب بعثه له محمد بن أبي بكر: «من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر: قد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه، ثم قام بعده عثمان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله،وإن يكن جورا فأبوك أسسه ونحن شركاؤه، وبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا، فعب أباك ما بدا لك أو دع»(2).

ونظرا لما يمثل هذا النص من وثيقة خطرة، تفضح مدرسة الخلفاء وتبين فساد حكوماتهم، قام مؤرخو السلطة بكتمانه وعدم التطرق له! قال الطبري: «أن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولي مصر مکاتبات جرت بينهما، كرهت

ص: 378


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 12 / 20، 21.
2- البلاذري: أنساب، 3/ 166، 167؛ نصر بن مزاحم المنقري: وقعة صفين، 120، 121؛ ابن أبي الحديد: شرح، 3/ 190.

ذكرها لما فيها مما لا يحتمل سماعها العامة !»(1). وتابعه على ذلك ابن الأثير(2)، وابن خلدون(3)، وتحدث ابن كثير بتشنج صريح وواضح زاد فيها على صاحبيه فاتهم كل من يقول بالوصية بأنه: جاهل وغبي ومن سفلة الناس (4).

ص: 379


1- تاریخ، 4/ 557.
2- الكامل في التاريخ، 3/ 273.
3- العبر، 2/ 650.
4- البداية والنهاية، 7/ 251 - 252.

(2)الصفات الجسمانية.. استهداف شكل المثال

حاول «Lammens»على امتداد كتابه أن يختصر حياة فاطمة علیها السلام في إطار قوامه ضعف الشخصية والبنية الجسمانية الهزيلة النحيفة والمريضة الصفراء! ومن ثم محدودية الفكر والفاعلية في الحياة فقال:

«من ناحية الشكل لم نجد فاطمة أفضل حالا، فقد كانت واهية البنية، ونحيفة، صفراء، شاحبة اللون، دائمة العلل، وقد أقعدتها عللها عن الأعمال الشاقة التي كانت تقوم بها النساء العربيات آنذاك؛ ولذلك ماتت وهي شابة. وترجع تعاستها إلى فترات سابقة، حيث أدركت عدم اهتمام محمد بها، وحتى المؤرخون المؤيدون لعلي نادرا ما يتباهون بجمال فاطمة، بعكس أختها رقية، حيث طوروا حول هذه الأخيرة مجموعة من القصص أو الكتابات التي تتحدث عن جمالها، وقد قيل أن عثان وهو أجمل رجال قریش إنها اعتنق الدين الجديد بهدف الزواج منها، وكان الناس في الحبشة يقفون لكي يتأملوا جمالها، وقد انتهى بها الأمر إلى أن تقف محاصرة، وهي تلعن معجبيها المتطفلين . الأمر مختلف مع فاطمة، إذ حرمت حتى من الاطراء الذي كان محمد يبديه لأبنته الأخرى «زینب» فلم تحصل فاطمة، في أي لحظة أو مكان على نفسالمدح الذي حصلت عليه أختها. قال عنها النبي: بأنها أفضل بناته أو أكفأهن. وعندما روی «عروة بن الزبير» هذا الحديث بمحضر «علي بن الحسين» ثارت ثائرة الأخير وقال: أنت تريد أن تنتقص من قدر فاطمة. أما بالنسبة لذكائها فإننا نادرا ما نجد من يمدحها ، وفي هذه الحالة كان من الصعب عليها الكفاح ضد خصم ذكي كعائشة»(1).

ص: 380


1- Fatima et les Filles de Mahomet, pp. 16-18

ابتنى «Lammens» هذه الصورة على ما يروى عن «عروة بن الزبير» عن عائشة: أن النبي لما قدم إلى المدينة، خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في اثرها، فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وأهريقت دما، فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية. فقالت بنو أمية: نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص، فقال رسول الله لزيد بن حارثة: ألا تنطلق تجيئني بزينب؟! قال: بلى يا رسول الله. قال: فخذ خاتمي، فأعطاه إياه، فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ فقال: لأبي العاص. فقال: فلمن هذه الأغنام؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئا، ثم قال له: هل لك ان أعطيك شيئا تعطيه إياها، ولا تذكره لأحد! قال: نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي فادخل غنمه، وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا، قال: فسكتت حتى إذا كان الليل

خرجت إليه، فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيري، قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه حتى أتت. فكان رسول الله. يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت في. فبلغ ذلك (علي بن الحسين) فانطلق إلى عروة، فقال: ما حديث بلغني عنك، تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة! فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وإني أتنقص فاطمة حقا لها، وأما بعد فلك أن لا أحدث به أبدا (1).

وما رواه الديار بكري: أن فتيان أهل الحبشة كانوا يعترضون لرقية، ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا !(2).

أولا - بغض النظر عن حقيقة بنوة زينب ورقية فإن في الروايتين ما يوجب

ص: 381


1- الدولابي: الذرية الطاهرة، 71 - 73؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 201/2 ؛ الديار بكري: تاریخ الخميس، 1/ 273 - 274.
2- تاریخ الخميس، 1/ 275.

الوقوف عندهما. فإذا كانت زینب ولدت والرسول بعمر «30 عام»(1). فمن غير المعقول أنها تزوجت وأنجبت لزوجها أبي العاص بن الربيع (2)بنته أمامة وولده علي وهي دون عمر «10 سنوات»، فقد بعث النبي وهو بعمر «40 سنة» وكانت زينب من المسلمات الأوائل، ومن المحال أن تزوج لرجل مشرك! فالثابت أن أبا العاص بقي على شرکه(3). ثم من المستبعد أن تبقى ابنتها أمامة «34 سنة» من دون زواج، حتى تزوجها الإمام علي عليه السلام بعد شهادة السيدة فاطمة عليها السلام عام «11ه-» ؟!

ثانيا - ما معنى بقائها مع أبي العاص طوال المدة المكية «13 سنة» وهو مايزال مشرکا؟! ألم يفسخ إسلامها عقد الزواج بينها ولذلك قال البعض - وإن ضعف رأيهم - إنها أسلمت وهاجرت مع أبيها رسول الله إلى المدينة (4)! ثم لماذا لم يتصرف أبو العاص کما تصرف ولدا أبي لهب: عتبة وعتيبة مع رقية وأم كلثوم بعد أن أسلمتا؟ !

ثالثا - ما معنى أن يرسل زید بن حارثة ليأتي بزينب ؟! فلماذا لم يأخذها النبي صلی الله علیه و آله معه أو ينسق أمر هجرتها مع المسلمين الذين خرجوا إلى المدينة؟ أومع الإمام علي علیه السلام عندما هاجر بالفواطم؟ ثم كيف يستطيع زید بن حارثة وهو المولى الذي لا يتمتع بأي تقدير عند قريش المشركة! والذي لم يشتهر - حتى ذلك الحين بأن له بأس شديدا يخوله خوض هكذا مخاطرة وتأدية هكذا مهمة - أن يأتي بها؟ وهل الأمر بهذه السهولة والبساطة! وما معنى أن يعطيه خاتمه، فهل زينب لا تعرف زید بن حارثة إن رأته أو وصف لها؟ ثم من هو ذلك الراعي؟ وهل هو لا يعرف زيدا؟ ولا يعلم

ص: 382


1- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4/ 42؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1839.
2- أسمه مهشم بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمه هالة بنت خویلد، اسلم في السنة السابعة، توفي عام (12ه-). ابن سعد، الطبقات، 5/5 - 8.
3- ينظر: ابن سعد، الطبقات، 31/10 -34؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 /1701 - 1704.
4- ابن سعد، الطبقات، 31/10 ، 32؛ ابن الجوزي: تلقيح، 32 - 33؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 247؛ الزيعلي: نصب الراية، 4/ 261.

بإسلام سيدته وكفر سیده؟ وما الداعي للاطمئنان إليه لهذا الحد؟ ألم يتوقع أنه سيخبر أبا العاص بذلك؟ ثم هل يحق للنبي أن يسترد ابنته بهذه الطريقة؟ وهل هذه طريقته في التعامل مع أحداث مشابهة أو الطريقة المناسبة لتخليص زینب ؟!

رابعا - يظهر أن رواية هجرتها تلك قد نسيت ولديها! فلم تشر لهما لا من قريب ولا من بعيد!؟ فهل هاجرا معها؟! أم بقيا مع أبيها أبي العاص؟! ثم متى هاجران والتحقا بأمهما؟! فهناك من يروي أن النبي صلی الله علیه و آله أردف عليا ابن زینب وراءه يوم فتح مكة !(1). وعلى فرض أن عليا مات وهو صغير(2) ! تبقى تلك الإشكالات متعلقة ببنتها إمامة.

خامسا - الرواية وردت عن عروة بن الزبير، ويكفي أن نقول هنا: أن «أبا جعفر الإسكافي المعتزلي. ت 240ه-»قال: « إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير»(3).

ولعل ما يؤكد كذب هذه الرواية واختلاقها أن جاء في ذيلها: فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال ما حديث بلغني عنك. تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة! فقال: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وإني انتقص فاطمة حقا هو لها، وأما بعد ذلك أن لا أحدث به أبدا. فهنا اعترف عروة أنه جاء بهذا الحديث لغاية في نفسه،

ص: 383


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1134؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 5 / 355؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 246/2 ؛ ابن حجر: الإصابة، 4 / 469.
2- ابن سعد: الطبقات، 10 / 31.
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 4 / 63؛ أبو رية: أضواء، 189. وللاستزادة ينظر: النصر الله: هيئة كتابة التاريخ برئاسة معاوية، مجلة رسالة الرافدين، 89- 117.

وإلا لماذا يتراجع ويعد بعدم روايته مجددا؟! وقد حاول البعض تأويل ذلك بأن الأفضلية في الرواية لا تعني الأفضلية المطلقة؛ لأنها ثابتة في اختصاصها بفاطمة عليها السلام(1).

أما ما يتعلق برقية وعثمان فقد ابتنى «Lammens» هذه القصة الخيالية على التقاطه لخبرين - ظاهرا الوضع - الأول: ما تقدم من أنها كانت لشدة جمالها يعترضها فتيان الحبشة فدعت عليهم فماتوا جميعا! وليس يدرى لم لم تستغل السيدة رقية هذه الكرامة في الدعوة على مشركي مكة الذين أجبروها والمسلمين الآخرين على ترك وطنهم وأهلهم، بل عذبوهم وقتلوهم؛ مما اضطرهم للهجرة والتعرض لإزعاج الفتيان الأحباش! الذين كان عقابهم صارما جدا قياسا بمشركي مكة! والثاني: ما يروى عن أسامة بن زيد أنه قال: بعثني رسول الله إلى عثمان بصحفة فيها لحم فدخلت عليه، ورقية جالسة فما رأيت اثنين أحسن منهما فجعلت مرة انظر إلى رقية ومرة انظر إلى عثمان فلما رجعت قال لي النبي: أدخلت عليهما قلت: نعم قال: فهل رأيت زوجا أحسن منهما قلت لا يا رسول الله، لقد جعلت مرة انظر إلى رقية ومرة انظر إلى عثمان!؟ رواه الطبراني، وقال: كان هذا قبل نزول الحجاب. وفيه راو لم يسم (2)؛ ففيه حدثنا مولى لعثمان عن أسامة! فمن مولى عثمان هذا؟، فمن الغريب أن لا يعرف، وهو يروي حدیث بفضل مولاه! يظهر أن الرواية تريد إيجاد علاقة زوجية ونسبية، مقابلة لعلاقة الإمام علي والسيدة فاطمة بالنبي.. ولسوء حظ عثمان أن كل الأخبار التي حاولت تجميل صورته، جاءت عن رواة مجهولين أو متروكين أو ضعاف! عن عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان فما رأيت قط ذكرا ولا أنثى أحسن وجها منه. رواه

ص: 384


1- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4 / 44.
2- الطبراني: المعجم الكبير، 1/ 79؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق،21/39- 22؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 80؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 11 / 34.

الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك! عن موسى بن طلحة قال: كان عثمان يوم الجمعة يتوكأ على عصا وكان أجمل الناس. رواه الطبراني عن شيخه المقدام بن داود وهو ضعيف! عن عبد الله بن عون القاري قال: رأيت عثمان بن عفان أبيض اللحية. رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن سعد قال: رأيت عثمان بن عفان أصفر اللحية. رواه الطبراني عن مقدام بن داود وهو ضعيف (1). ومع فرض صحة الأحاديث السابقة، فإذا لم يكن ففي رصيد زينب ورقية سوى هذين الحديثين، ففي رصيد فاطمة عليها السلام عشرات الأحاديث المتواترة! وليس من المنطق تجاوزها لحديثين مع صراحة وضعهما، أو على الأقل مع ما بها مما يثير الشك! ولذا قالت المستشرقة الإيطالية «Vaglieri = فاغليري»: لم تكن فاطمة ضعيفة البنية ومريضة، وغير مهمة، كما صورها «Lammens» الذي رسم صورة قائمة بالكامل لبنت النبي، بناء على حديثين قد يكونان يشيران لأوضاع معاصرة فقط !؛ لأن هناك حقائق أخرى: ولادتها لخمسة أطفال، وقيامها بواجبات منزلية شاقة، ورحلتها من مكة. مما يدل على أنها كانت تتمتع بصحة جيدة(2).

أما أنها كانت شخصية هزيلة وضعيفة، ودائمة العلة، وصفراء اللون، شاحبة الوجه، وغير قادرة على أداء واجباتها البيتية والزوجية والأعمال التي كانت تقوم بها النساء العربيات أو البدويات آنذاك ! فكل هذا من نسج (Lammens) وهو أوهی من طرحه السابق؛ وإلا فهي لم تلقب (أم أبيها) إلا لأنها أخذت ذلك الدور منذ طفولتها، فكانت طفلة صغيرة في عمرها، ولكنهاأما معطاء جلدة شامخة، وكأنها صقلتها السنون، وخبرتها الخطوب، في مساندة أبيها والوقوف بجنبه ضد طغيان قریش وجبروتها. فهي منذ الوهلة الأولى لتصادم قريش مع النبي صلی الله علیه و آله كانت حاضرة في

ص: 385


1- الصالحي الشامي: سبل الهدى، 11 / 34
2- The Encyclopaedia of Islam (new edition). VII, p. 845.

الميدان، تلتقف بيديها الصغيرتين ما يلقي على ظهر أبيها، وهو ساجد يصلي، من فضلات جزور ذبحه أحد طواغيت مكة لأحد أحجارها! في الوقت الذي أحجمت عن ذلك - خوفا - أكف الرجال من الصحابة الأوائل!؛ فقد اعتذر «عبدالله بن مسعود» عن ذلك فقال: إن النبي كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بنی فلان يضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي وضعه على ظهره، وأنا أنظر لا أغني شيئا، لو كانت لي منعة طرحته. قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره (1). وقد علق ابن حجر على موقف عبدالله بالقول: وانما قال ذلك لأنه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هذليا حليفا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارة، وفي رواية: أنا أرهب أي أخاف منهم. وعلى موقف فاطمة عليها السلام بالقول: فيه قوة نفس فاطمة من صغرها لشرفها في قومها ونفسها(2). ومرة أخرى يعترض أحد كفار قريش طريقه فينثر على رأسه التراب، فيدخل رسول الله صلی الله علیه و آله بيته والتراب على رأسه فيجد أم أبيها لتطيب نفسه وتحثه على المقاومة والصبر؛ فقامت إليه وجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، فيقول لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك. ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب(3).

ولم تطب نفس الراوي «عروة بن الزبير» أن يصرح بهذا القرب والتوحد النبوي الفاطمي في القضية والمبدأ، فقال: فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل..

ص: 386


1- أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 393؛ البخاري: صحيح، 1/ 65؛ مسلم: صحيح، 5/ 179 - 180؛ ابن خزيمة: صحیح، 386/1 ؛ ابن حبان: صحيح، 14 / 530؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 1/ 219 - 217. وينظر : البلاذري: أنساب، 1/ 125.
2- فتح الباري، 302/1-304
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 416..

على أن هذا المقدار كاف للدلالة على أنها السيدة فاطمة علیها السلام لاغيرها؛ لأن الحادثة وقعت بعد موت أبي طالب علیه السلام ويفترض - کما مر - أن زينب كانت عند زوجها أبي العاص ورقية مع زوجها عثمان وهما في الحبشة. أما أم كلثوم فوجودها يفرض مشكلة، وهي أن ابن سعد يقول: أنها بعد أن طلقت من عتيبة ابن أبي لهب أسلمت وبقيت مع أبيها في مكة، ثم هاجرت معه إلى المدينة(1)!.والمعروف أن النبي صلی الله علیه و آله يصحب معه أحدا من أهل بيته حين هجرته، كما أنها لم تذكر ضمن مهاجري الحبشة، ولا ضمن الفواطم اللائي هاجر بهن الإمام علي علي وكأنها شخصية أريد لها أن تظهر ليمنح عثمان لقب «ذو النورين»(2)ومن ثم تختفي!؟

بالنتيجة ما ينسجم مع واقع الأحداث أنه لم يكن معه إلا السيدة فاطمة علیها السلام فهي بلا شك من قامت بذلك.

وإن كانت وهي في مكة، تميط عن أبيها ما يرمي عليه، وتصبره وترفع من معنوياته، فهي في المدينة معه جنبا إلى جنبا في ساحات الوغى، تمسح الدماء عن وجهه الشريف، وتهون عليه ما ينزل به وكأنها تقول: إن خلفك فاطمة وستمتص ما

ص: 387


1- الطبقات، 10/ 37، 38
2- الغالب على الظن كمحاكاة للقب زوج البتول وأبو السبطين وذو الجناحين = جعفر الطيار، وذو الشهادتين = خزيمة بن ثابت، وعلى غرار لقب ذات النطاقين = اسماء بنت أبي بكر وذو اليدين = الخرباق بن عمرو أو ذو الشالين = عمیر بن عمرو، اللذان اختلقهما أبو هريرة ليروي حادثة سهو النبي في الصلاة! ينظر : أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 234 - 235؛ 271، 284؛ الدارمي: سنن، 1/ 352، البخاري: صحیح، 1/ 123، 175، مسلم: صحیح، 2/ 86- 87؛ النسائي: سنن، 3/ 23 - 24؛ البيهقي: السنن الكبرى، 2/ 358. وقد ارتبك بأمرهما فقيل أنهما شخصان مختلفان، وأن ذي الشمالين قتل في معركة بدر. البيهقي: السنن الکبری، 2/ 366؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 2/ 478؛ ابن حجر: فتح الباري، 3/ 77. وذو النور = الطفيل بن عمرو الدوسي منقبيلة أبي هريرة. ابن عبد البر: الاستیعاب، 2/ 77 - 478. وهذه الذوات ظهرت أول ما ظهرت على لسان أبي هريرة! ولعل ذي النورین لقب يصدق على الإمام علي علیه السلام كإشارة للحسن والحسين 8.

بك من ألم وتضمد ما بك من جراح، فقد روي أنه: «لما كان يوم أحد، وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبي اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير فأحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك»(1).

کما قادت بعض النساء للمشاركة في مساندة الرجال بحمل الماء وسقيه، وتضميد الجرحى فقد خرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء وكن قد جئن أربع عشرة امرأة منهن فاطمة عليها السلام يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحی، ویداوینهم(2).

-أما في بيتها فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: « إن فاطمة كانت تدق الدرمك(3) بين حجرين حتى مجلت يداها»(4).وأضاف عليه السلام أنها: «جرت بالرحی حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتی دنست ثيابها، وأصابها من ذلك ضر»(5).وقدد

ص: 388


1- الواقدي: المغازي، 1/ 249، 250؛ البخاري: صحيح، 5/ 38؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 324؛ النسائي: السنن الكبری، 391/5 ؛ الطبراني: المعجم الكبير، 6/ 153؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 1/ 153؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 286؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 249، 519.
2- الواقدي: مغازي، 1/ 249؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 1/ 153.
3- هو الدقيق الحواري أو النقي. الفراهيدي: كتاب العين، 5/ 429؛ الجوهري: الصحاح، 4/ 1583؛ ابن منظور، لسان العرب، 10 / 481.
4- البلاذري: أنساب، 2/ 385؛ ابن حجر: فتح الباري، 11 / 106؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 15 / 499 - 498
5- أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 41/2 . وباختلاف بسيط في اللفظ عند أبي داود: سنن، 2/ 489 ۔ 490؛ الصدوق: علل الشرائع، 2/ 366؛ من لا يحضره الفقیه، 1/ 320؛ الحلي: تذكرة الفقهاء، 3/ 266-265 ؛ مختلف الشيعة، 2/ 184؛ المتقی الهندی: کنز العمال، 508/15

نقل أحد أهم مصادر «Lammens» التي اعتمدها في هذا الكتاب(1) تواتر هذه الحقيقة في كتب الحديث!

- وروي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: إن فاطمة كانت حاملا، فكانت إذا خبزت أصاب التنور بطنها(2). وبسبب كثرة أعمالها ومهامها، ذهبت إلى النبي صلی الله علیه و آله تسأله أن يعطيها خادما أو خادمة تساعدها في أعمالها، فأجابها: أولا أدلك على خير من ذلك! إذا أويت إلى فراشك تسبحين الله تعالى ثلاثا وثلاثين، وتحمدينه ثلاثا وثلاثين، وتکبرینه اربعا وثلاثين «(3). وكأنه يقول لها: إنك فاطمة الصبر، فاطمة الجلد، فاطمة المواساة، فاطمة التي يجب أن تدخر كل راحة في الدنيا؛ لتكون سيدة النساء في الآخرة! ما أجله من عطاء منك يا رسول الله ؛ إذ أردت لها أن تخلد بتسبيحاتها خلود العصور والأزمان!

- وفي مجال التصدي للقضية، وانتزاع الحق المسلوب، كان للزهراء3صولات وجولات أحرجت السلطة القرشية وأفقدتها توازنها وأرعبتها أيما رعب؛ فلما تقمص أبو بكر الخلافة: لاثت خمارها على رأسها وأقبلت في لمة من حفدتها تطأ ذيولها..، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار فنيطت دونها ملاءة.. ، فقالت: لقد جاء کم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ

ص: 389


1- السيوطي: الثغور الباسمة، 24. وذكر أن النبي علمها أن: (تسبح الله 33 و تحمده 33 و تكبره 34) وعلق على ذلك بالقول: حديث صحيح مشهور، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة مطولة ومختصرة. الثغور الباسمة، 25 - 36.
2- أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 2/ 41.
3- ابن سعد: الطبقات، 10 / 25 - 29؛ البخاري: صحيح، 6/ 192 -193؛ أبو داود: سنن، 2/ 489 أبو يعلى الموصلي: مسند، 1 / 419؛ أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 41/2 ؛ البيهقي: السنن الكبری، 294/7 ؛ ابن حجر: الإصابة، 2/ 267 - 268.

النذارة صادعا بالرسالة، مائلا على مدرجة المشركين.. ، يهشم الأصنام وینکث الهام، حتى هزم الجمع وولوا الدبر..، وكنتم على شفا حفرة من النار.. ، أذلة خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي، وبعد ما مني بهم الرجال وذوبان العرب، ومردة أهل الكتاب، کلما حشوا نارا للحرب أطفاها، ونجم قرن للضلال، وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بحده..، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلة النفاق..، تزعمون أن لا إرث لنا! أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. ويها معشر المهاجرين، أأبتز إرث أبي ؟؟ أفي الكتاب أن ترث أباك ولا أرث أبي !؟ لقد جئت شيئا فريا.. ، تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم. وزعمتم أن لا حق ولا إرث لي من أبي ولا رحم. أفخصكم الله بآية أخرج نبيه منها؟! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون! أو لست انا وأبي من أهل ملة واحدة؟ ! أم لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي! أفحكم الجاهلية تبغون..، أأغلب على إرثي جورا وظلما!(1).

وقالت مخاطبة الأنصار: «معشر البقية، وأعضاد الملة، وحصون الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي! أما قال رسول الله صلی الله علیه و آله المرء يحفظ في ولده ! ، تقولون مات رسول الله! فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه، وبعد وقته، واظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته.. ، أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع، تلبسكم الدعوة، وتثملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدة، ولكم الدار .. وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله، وأهل الإسلام، والخيرة التي اختار لنا أهل البيت .. فأنی حرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الاقدام، وأسررتم بعد الاعلان!

ص: 390


1- ابن طيفور: بلاغات النساء، 12 - 17؛ ابن الأثير: منال الطالب، 501 - 506؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 211/16 - 212.

لقوم نكثوا ایمانهم أتخشونهم؟ ! فالله أحق أن تخشوه إن کنتم مؤمنين.. ، وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم، ولكن قلته فيضة النفس ونفثة الغيظ وبثة الصدر، ومعذرة الحجة.. ، فبعين الله تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون»(1).وتحدثت بنحو ذلك لنساء المدينة عندما جئن يزرنها(2).

وغدت دارها مركزا لتجمع المعارضين مما يفصح عن مرکزيتها في توجيه الرأي الإسلامي المعارض للانقلاب(3). فقد ورد: أن عليا والزبير كانا يدخلان على فاطمة، فیشاورانها ويرتجعان في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب، خرج حتى دخل على فاطمة، فقال: والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، إن أمرهم أن يحرق عليهم البيت (4).

وبسبب فاعلية ذلك الحضور والتواجد أصدر أبو بكر أوامره لعمر بن

ص: 391


1- ينظر: ابن طيفور: بلاغات النساء، 17 - 18؛ ابن الأثير: منال الطالب، 505 - 507؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 212/16 ، 13.
2- ابن طيفور: بلاغات النساء، 19، 20.
3- ينظر: عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5 / 422؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 656، 658؛ أحمد بن حنبل: مسند، 1 / 55؛ ابن أبي عاصم: المذكر والتذكير، 91؛ الطبري: تاریخ، 202/3 ، 203، 200؛ ابن حبان: الثقات، 2/ 156؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 18 / 4، 30، 40/ 248؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 327؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2/ 23، 45، 50، 56؛ الذهبي: تاریخ الإسلام، 3/ 6؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/ 226؛ السيرة النبوية، 4 / 88؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/ 133؛ العيني: عمدة القاري،10/24
4- ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 527؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 5/ 651.

الخطاب بأن يخرجهم من البيت بالقوة، ويقاتلهم إن هم رفضوا البيعة، وإن اضطرته الأمور يحرق الدار عليهم: «بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب؛ ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت تحرق دارنا؟، قال: نعم، او تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة»(1). وفي نص آخر: «فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده . التخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة! فقال: وإن»(2).

ولذا قال من قال بمبايعة الإمام علي عليه السلام لأبي بكر(3): أنه لم يبايع حتى توفيت فاطمة عليها السلام ، فقد: «كان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما توفيت انصرفت وجوه الناس عن علي، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ثم توفيت. قال معمر: قال رجل للزهري: أفلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم حتی بایعه علي، فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر»(4). وكان تواجد فاطمة عليها السلام هو ما منع أبا بكر أو حال بينه وبين أن يجبر الإمام علي عليه السلام على البيعة: « فأخرجوا عليا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بایع، فقال: إن أنا لم أفعل دان

ص: 392


1- ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، 5 / 13.
2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/ 30.
3- الإمام لم يبايع لا لأبي بكر ولا لعمر! وذلك باعتراف عمر نفسه!؛ إذ قال لابن عباس في حوار مطول: قال أبو بكر: قال رسول الله صلی الله علیه آله ما نورث ما تركنا صدقة. فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا.. ! ثم توفي أبو بكر، وأنا ولي رسول الله وولى أبي بكر، فرأيتاني كاذبا آثما غادرا خائنا.. !». مسلم: صحيح، 5/ 152؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 298؛ ابن حجر: فتح الباري، 6 /144.
4- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5 / 472 - 473؛ البخاري: صحيح، 5 / 83؛ مسلم: صحيح، 5/ 154، الطبري: تاریخ، 3/ 208؛ ابن حبان: صحیح، 11 / 153؛ 16/ 573؛ البيهقي: السنن الکبری، 6/ 300.

فماذا؟ قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو تضرب عنقك، فقال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله. قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساکت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه»(1).

وذكر ابن الأثير عن عائشة قولها: «كان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة أي جاه وعز، فقدهما بعدها»(2).وقال ابن عبد ربه الأندلسي: إن عائشة قالت: «لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها»(3). لأن سيف الإمام علیه السلام أذل قريشا وطغيانها، وأوطأ أنوفها وخدودها المصعرة التراب.

قالت فاطمة علیه السلام : «وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته وتنمره في ذات الله»(4).

وبسبب تلك المواقف الجريئة و تحول دارها لمركز نشط لتلك المعارضة المشروعة أقدمت الحكومة القرشية على مهاجمة دارها وإحراقها وضرب السيدة فاطمة علیها السلام وعصرها بين الحائط والباب، وإسقاط جنينها؛ بغية إسكاتها.

ولكنهم خنقوها وما خنقوا ذلك الصوت، الذي ظل يلاحقهم ويصرخ في آذانهم متوعدا إياهم بعذاب أليم، وخزي في الدنيا والآخرة، وهو ما جعل رأس تلك السلطة أبو بكر، وهو بين حين الألم، ولواعج الندم - عند احتضاره - يضع ذلك الفعل الشنيع في أول قائمة ما ندم عليه فيقول:

ص: 393


1- الإمامة والسياسية، 1/ 30-31
2- النهاية في غريب الحديث، 5/ 159.
3- العقد الفريد، 5 / 14.
4- ابن طيفور: بلاغات النساء، 20؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 233.

«أما إني لا آسي على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله عنهن، فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمةوتركته وأن أغلق على حرب»(1).

أما أنها كانت صفراء الوجه وشاحبة اللون على الدوام. ففي ذلك إفراط كبير . نعم لا ينكر أنها بعد وفاة أبيها عاشت أقسى وأصعب أيام حياتها؛ فبعد فقد ذلك الوالد الحنون، الذي فتق جروح فقد الأم العطوف الشفوق، لم تحفظ حرمتها وهجم على دارها وأحرق بابها، وربت وسر ضلعها، وأسقط جنينها - وهي أفضل من خلق من النساء وبنت أفضل الرجال - من قبل من نقلهم أبوها من حياتهم البهيمية إلى حياة البشر الآدميين! فأصروا على أن يتسافلوا لما دون حالتهم الأولى.

كانت الجروح كبيرة، تركت أثرها في ذلك القلب الحزين، فاجتمعت عليها علة الجسد وعلة الروح.

وعليه فالحالة الطبيعية أن تشكو خيبة أملها وتبكي لتلك الآلام وتتضاءل صحتها يوما بعد يوم فينحل جسدها ويصفر لونها.

إلا أن «Lammens» أراد لتلك الحالة أن تصاحبها منذ ولادتها وحتى وفاتها! وهذا ما پرده أنها لقبت بالزهراء. قال ابن الأثير مفسرا معنى ذلك:

«الزهراء: تأنيث الأزهر، وهو النير المشرق من الألوان، وأراد به إشراق نور

ص: 394


1- اليعقوبي: تاریخ، 2/ 137؛ الطبري: تاریخ، 3/ 430؛ ابن عبد ربة:العقد الفريد، 5/ 21؛ الطبراني: المعجم الكبير، 1/ 62؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 30/ 418 - 422؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2/ 47 - 48؛ الذهبي: میزان الاعتدال، 3/ 109؛ تاريخ الإسلام، 3/ 118؛ الهيثمي مجمع الزوائد، 5 / 202 - 203؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 631/5 - 632.

إيمانها، وإضاءته على إيران غيرها»(1).

ونقل عن أنس بن مالك أنه قال: كانت أشبه الناس برسول الله، بيضاء مشربة حمرة كأنها القمر ليلة البدر أو شمس تغرب غماما(2). وقالت السيدة عائشة: «ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله، في قيامها وقعودها من فاطمة، كانت إذا دخلت على النبي، قام إليها، فقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها»(3).

أما أن النبي صلی الله علیه و آله كان يفضل عائشة! فباعتراف الأخيرة نفسها أن فاطمة عليه السلام كانت أحب الخلق إليه؛ فقد سئلت: من كان أحب الناس إلى رسول الله ؟ قالت: ابنته فاطمة (4). وفي لفظ : أما من الرجال فعلي، وأما من النساء ففاطمة(5).

بل إن عائشة غارت منها، وحسدتها لهذه المنزلة! فقد روت: كنا عند رسول الله في مرضه الذي مات فيه، ما يغادر منا واحدة، إذا جاءت فاطمة تمشي، ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله شيئا. فلما رآها قال: مرحبا بابنتي، فأقعدها عن يمينه أو عن يساره، ثم سارها بشيء فبكت فقلت لها: خصك رسول الله من بيننا بالسرار وأنت تبكين! ثم سارها بشيء فضحكت، فقلت لها: أقسمت عليك بحقي أو بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره. فلما توفي النبي سألتها فقالت: أما

ص: 395


1- منال الطالب، 508.
2- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 161/3 ؛ السهمي: تاريخ جرجان، 129.
3- الترمذي: سنن، 361/5 ؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4 / 272؛ الزيعلي: نصب الراية، 6/ 156؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 50.
4- الطبراني: المعجم الكبير، 404/22 ؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 49.
5- السهمي: تاريخ جرجان، 213؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 11 / 428؛ الزمخشري: ربيع الأبرار، 2/ 167؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 261 - 264؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 13/ 253؛ ابن كثير: تفسير، 3/ 493، 494؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 11 / 334.

الآن فنعم (1).

وهذا أحد أهم مصادر «Lammens» ينص صراحة على أنه: كان يحبها حبا شديدا، جعل عائشة تغار منها؛ لكثرة ما كان يقبلها(2). فإما أن يكون ما تنقله المصادر التاريخية والحديثية صحيحا وحقيقيا، وإما أن يكون ما يقوله «Lammens» هو الصحيح. وعندها علينا التخلي عن الموروث التدويني والاعتماد عليه !

ص: 396


1- الطيالسي: مسند، 196، 197؛ ابن راهويه: مسند، 5/ 5، 6؛ أحمد بن حنبل، مسند، 6/ 282؛ البخاري: صحيح، 4 / 183؛ مسلم: صحيح، 7/ 143؛ ابن ماجة: سنن، 1/ 518؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 143 - 144؛ النسائي: سنن، 4 / 252؛ 5/ 147؛ کتاب الوفاة، 20 - 21؛ خصائص، 82- 83؛ الطبراني: المعجم الكبير، 22 / 418 - 419؛ كتاب الأوائل، 84؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 155؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5/ 522؛ الزيعلي: تخريج الأحاديث والآثار، 4/ 322؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 246/5 ؛ ابن حجر: فتح الباري، 8/ 103 - 104؛ العيني: عمدة القاري، 16/ 153؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 50 - 51.
2- الديار بكري: تاريخ الخميس، 277/1 . وقد استفاضت الباحثة انتصار العواد ببيان أفضلية الزهراء. ينظر: السيدة فاطمة الزهراء، 347 - 505.

(3)الحزن والبكاء.. الواقع والتهويل

لكي يكمل «Lammens» لوحته القائمة تماما ويشوه إشراقة الصورة البتولية، عمل على سلبها روح الأمل والمقاومة، لتبدو ضعيفة مسكينة، لاتقوى ممارسة حياتها بشكل طبيعي. وهي غارقة منذ طفولتها وحتى وفاتها بفيض من الكآبة والألم والدموع والشكوى والحزن، لأسباب ذاتية، متعلقة بشخصها، وطبيعتها !؟ وطبعا من دون أن ينسي تحميل النبي صلی الله علیه و آله والإمام علي عليه السلام سبب ذلك الحزن، والألم ودوام الكآبة !؟ فقال:

«من بين شخصيات السيرة لا نجد شخصا يبكي أكثر من فاطمة، فقد كانت حزينة على الدوام، وأمسى سكب الدموع صفة مميزة لها، منذ مشهد حدادها على أمها خديجة. لم يكن ذلك بسبب شخص أبي بكر، كما لم تكن تلك الدموع دموع وازع ديني. بالنسبة للسيرة كانت صفة الحزن، ولبس ثوب الحداد مما لا يمكن تجاهله داخل العائلة العلوية. وقد نفست فاطمة عن قنوطها بالشكوى إلى السماء؛ وذلك لكي تجلب نحوها اهتمام أصحاب السير على أقل تقدير. رب سائل يسأل كيف يهدف البعض لإضفاء أهمية على هذه الشخصية التي هي عبارة عن ظل لامرأة نائحة. أمكن ذلك من خلال التنبؤ بالتعاسة لها ولذريتها، إذ تعود تعاستها لفترات سابقة»(1).

لا شك في أن في هذا الوصف مبالغة كبيرة جدا، تنم عن إفراط «Lammens»وتطرفه ومبالغته في تشويه الصورة التاريخية للسيدة فاطمة عليها السلام ! وإلا فهي عليها السلام ما بدت قوتها، وصمودها وحضورها الفاعل والمحوري في تاريخ الإسلام والتشيع

ص: 397


1- Fatima et les Filles de Mahomet, pp. 16-17.

بشكل خاص، إلا في هذه (6 – 8 أشهر)(1) - على أعلى التقديرات - التي أعقبت وفاة رسول الله 6وسبقت وشهادتها عليها السلام . هذه الأيام القلائل التي لا نبالغ إن قلنا إنها أرست قواعد الإسلام الأصيل. نعم كان للألم والدمع والشكوى نصيب من ذلك الحضور إلا أنه كان وسيلة وليس غاية. كان وسيلة لإبداء المظلومية والتعريف بالقضية، وإيقاف المسلمين على حجم الجرم الذي ارتكب بحق النبي وأهل البيت عليهم السلام وإشعارهم بمدى الانقلاب والخروج على الإسلام، والعودة لاحتكامات الجاهلية الجهلاء، وتذكيرهم بمسؤولياتهم إزاء قادتهم وأئمتهم الحقيقيين.

كان مكملا لتلك الصرخات والاحتجاجات التي كانت تقرع آذان المسلمين؛ التستكمل تمزيق غشاوة أبصارهم، وجلد ضمائرهم التي مالت للدعة والخذلان والنكوص والتقاعس، وموت الهمة والحمية على الدين. فأصبحت تلك الدموع

ص: 398


1- قيل توفيت بعد (30 ليلة). اليعقوبي: تاریخ، 2/ 115. وقيل بعد (40ليلة). البلاذري: أنساب، 2/30. وقيل بعد شهرين). ابن كثير: البداية والنهاية، 5/ 330. وقيل بعد (70يوم أو 75 ليلة). ابن شبة: تاريخ المدينة، 1 / 108؛ خليفة بن خياط: تاریخ، 59 - 60؛ ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/ 31؛ البلاذري: أنساب، 2/ 30؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1894 - 1898. وقيل بعد (3 أشهر). ابن سعد، الطبقات، 29/10 ؛ خليفة بن خياط: تاریخ، 60؛ البلاذري: أنساب، 2/ 30؛ الطبري: تاریخ، 3/ 240؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 162؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1894؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 260. وقيل بعد (95ليلة). الدولابي: الذرية الطاهرة، 152. وقيل بعد (6 أشهر). عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5 / 472؛ ابن سعد، الطبقات، 10 / 28؛ خليفة بن خياط: تاریخ، 59، 60؛ البلاذري: أنساب، 2/ 30؛ الضحاك: الآحاد والمثاني، 5 / 355؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 151، الطبري: تاریخ، 3/ 208، 240؛ الطبراني: المعجم الكبير، 22/ 398؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 162؛ الأصبهاني: حلية، 2/ 43؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 300؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1894؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 260 - 261. وقيل بعد (8 أشهر). خليفة بن خياط: تاریخ، 59 - 60؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1894؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 260. وقد أجمل هذه الآراء: ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1893 - 1899؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 57 - 60؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 278

والصرخات أقسى من حز المدى في الضمائر. قال ابن قتيبة : ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبتاه یا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليا(1).

وحتى الذين تحجرت ضمائرهم وتبلدت أحاسيسهم ومن كانوا جفاة قساة كما رمال الصحراء، فقد روي أن أبا بكر وعمر حاولا استرضاءها وتوسلا بالإمام علي علیه السلام لذلك، ولكن من دون جدوى، فبقي إرضاؤها أمنية تتلجلج في نفس الأول وندم يفتك خوالج شعوره؛ لأنه أيقن بعد فوات الأوان أن فاطمة عليها السلام يرضى الله الرضاها ويغضب لغضبها، وأن من آذاها آذى النبي صلی الله علیه و آله وأن من آذى النبي فقد آذى الله . فقد ورد - بصرف النظر عن صحة الخبر من عدمه ف- «Lammens» يحتكم لمجرد الورود -: أن عمر قال لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علية فكلماه، فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله. والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة، فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا:

ص: 399


1- الإمامة والسياسة، 1/ 30.

نعم. سمعناه من رسول الله. قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه! فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة. ثم انتحب يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله. لأدعو الله عليك في كل صلاة أصليها. ثم خرج باكيا(1).

ولفضح، هذا الموقف، وإحراجه للسلطة القرشية، حاول بعضهم الاعتذار لهما، وادعاء أن أبا بكر ظل يترضى السيدة فاطمة عليها السلام حتى رضيت؛ فرووا عن الشعبي(2)الذي ولد بعد الحادثة ب (6 - 9 سنوات) ! أنه قال: «لما مرضت فاطمة عنها أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: تحب أن آذن له؟، قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة الا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت»(3).وقد علق البيهقي على هذا الخبر

ص: 400


1- ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، 1 / 31.
2- شخصية متلونة متقلبة قل أن شهد التاريخ الإسلامي مثلها، روی انه ولد سنة (16 أو 17 ه-). خليفة بن خياط: تاریخ، 94؛ الطبري: تاریخ، 24/4. وقيل بعد (6 سنوات) من خلافة عمر بن الخطاب. كان بداية يميل إلى مذهبالتشيع، ثم صار يهاجمه ويقول: لو كانت الشيعة من الطير كانوا رخما، ولو كانوا من الدواب كانوا حميرا، ثم خرج مع المختار! ثم ترکه وولى هاربا إلى البصرة، حيث مال إلى مصعب بن الزبير ومدحه، وصار من أقرب المقربين إليه! ثم تبدل ولاؤه نحو عبد الملك بن مروان قاتل مصعب! وأخيه بشر بن مروان في العراق، ثم تملق للحجاج حتى صار من رجال بلاطه، ثم خرج عليهم مع محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث، ثم صالحه! كان يدعي انه يحفظ كثيرا من الحديث رغم أنه لا يعرف الكتابة، تولى قضاء الكوفة لعمر بن عبد العزيز، توفي عام (103 او 104 ه-). ابن سعد: الطبقات، 8/ 365 - 374؛ المزي: تهذيب الكمال، 14/ 28 - 40؛ أيلرلنغ ليدوك بيترسن: علي ومعاوية في الرواية العربية المبكرة، 26 - 29 (المترجم).
3- البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 301؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 221؛ تاريخ الإسلام، 3/ 47؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/ 310؛ السيرة النبوية، 4/ 575؛ العيني: عمدة القاري، 20/15

بالقول: «هذا مرسل حسن بإسناد صحيح»(1). وما يثبت عدم رضاها علیها السلام أن السيدة عائشة قالت: «فهجرته فاطمة فلم تکلمه حتى ماتت»(2).

وفي نص آخر: « فغضبت فاطمة، وهجرته؛ فلم تکلمه حتى ماتت، فدفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكره»(3). وعائشة - فضلا عن كونها معاصرة للحدث - فهي غير متهمة في أبيها، كما المصادر التي روت ذلك.

من هنا يتبين مدى خطورة، وفاعلية وحجم الدور الذي أنيط بالسيدة فاطمة علیها السلام في الدفاع عن ثوابت الإسلام وكشف ما تعرض له الإسلام من قفز على مبادئه وتشريعاته وتجاوز لأوامر النبي صلی الله علیه وآله ونواهيه، وخروج على سنته! وما كان من وسيلة تملكها فاطمة علیها السلام في تحقيق ذلك أنجع من أن تبدي شكواها، وتبث حزنها، وتقرع المسلمين، وتلومهم على ذلك الخذلان. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى. كان لما جرى عليها هي خاصة؛ سببه في أن يملا الحزن والوجع قلبها وجسدها، فكانت تسكب دموع الألم والعلة، وتبث حزنها وشكواها الأبيها وهي محتضنة قبره، وقد أقعدها الألم، وأوهی جسدها كسر الضلع وإسقاط الجنين.

ومن جهة ثالثة. كان للأثر الروحي والتعبدي في حياتها حضور كبير في إكسابها

ص: 401


1- السنن الکبری، 301/6
2- البخاري: صحيح، 8/ 3؛ ابن حبان: الثقات،164/2 - 165؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 306/5 -307؛ السيرة النبوية، 4 / 567.
3- عبدالرزاق الصنعاني: المصنف، 3/ 521، 5/ 472؛ ابن سعد، الطبقات، 28/10 - 30؛ ابن شبة: تاريخ المدينة، 1/ 110؛ البخاري: صحيح، 5 / 82؛ مسلم: صحيح، 5 / 154؛ الطبري: تاریخ، 2 / 208؛ الطبراني: مسند الشاميين، 4/ 198؛ ابن حبان: صحیح، 11 / 153؛ 14/ 573؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 300؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 306/5 - 307؛ السيرة النبوية، 4 / 567

تلك الشخصية المتبرمة من الدنيا والتواقة للآخرة ونعيمها الأبدي، فكانت تجهد نفسها بالعبادة حتى تتورم قدماها من طول وقوفها للصلاة، ويصفر وجهها وينحل جسمها لكثرة الصيام، والسهر، والعبادة. قال (الحسن البصري): «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورمت قدماها»(1). وقال أبو نعيم الأصبهاني في ترجمتها: «ومن ناسكات الأصفياء، وصفيات الأتقياء، فاطمة رضي الله تعالى عنها. السيدة البتول، البضعة، الشبيهة بالرسول، ألوط أولاده بقلبه لصوقا، واولهم بعد وفاته به لحوقا، كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة»(2).

إلا أن «Lammens» حاول جر النصوص وليها وتمديدها؛ لتوحي بما يدعيه، واستبعد جميع هذه الأسباب ليأتي بأسبابه الخاصة حيال الموضوع !!

ص: 402


1- الزمخشري: ربيع الأبرار، 2/ 274.
2- حلية الأولياء، 2/ 39.

(4)الأسرة المثال.. العلاقة وصياغة الخطاب

رأينا «Lammens» يدعي أن السبب في حزن السيدة فاطمة عليها السلام وبكائها كان عدم اهتمام النبي صلی الله علیه وآله بها! ومن ثم تزويجه إياها بالإمام علي عليه السلام بغير رغبة منها! وقسوة الأخير تجاهها! وعيوبها الشخصية. وهذا ما أراد من خلاله الإيحاء بترابط استنتاجاته وتحليلاته المعدة سلفا !؛ من خلال اقتناص حقيقة كونها بعد وفاة أبيها وفي أخريات أيامها ال-«30 ليلة - 8 أشهر» فمدد تلك الأيام القلائل لتشمل كل حياتها ! ثم استبعد وكأنه لم ير كل ما صرحت به المصادر السابقة ليجعل النبي والإمام علي عليها السلام مضافا للعيوب الخلقية الخاصة سببا لتلك التعاسة الدائمة وذلك الحزن الطويل!

كما أراد الخروج بنتيجة أنها لم تكن من النساء المرغوب فيهن عند معاصريها؛ ولذا لم يرغب أي من المسلمين بالزواج بها !؛ إلا علي بن أبي طالب؛ لأنه كان على شاكلتها، ثم أنه سرعان ما مل منها، وصار يعاملها بقسوة، فضلا عن حالة الفقر المدقع الذي كانت تعيشها في بيته. طرح يعتمد مبدأ استدراج المخاطب واحتواءه للانسياق ضمن تصور تسلسل المعطيات المقدمة للأحداث وصولا للاقتناع بتاريخية النتائج المترتبة عليها!

وعليه يقول: إن إعادة فتق الجروح بالنسبة لفاطمة هو مما وقع على عاتق علي،وكان السبب فيها ذلك التاجر القرشي، غليظ القلب، الذي يملك موهبة إسكاب دموع الآخرين. عندما ندرك عدم اهتمام محمد بها، وقساوة علي تجاهها والذي يمكن ان نعطيه العذر لقساوته على رفيقته غير المحظوظة. في يوم من الأيام عبر محمد عن أسفه أن «أسامة بن زيد»لم يخلق أنثى؛ لأن النبي كانت لديه رغبة في أن يغطي أسامة

ص: 403

بالجواهر . لماذا لم نسمعه يعبر عن مثل تلك الرغبة لصالح فاطمة عليها السلام(1).

ويضيف مشككا بالسيرة، وأنها أرادت أن تعلل تأخر زواج السيدة فاطمة عليها السلام بكثرة خطابها وصغر سنها فقال: وهذا التأخر في الزواج يتوجب علينا أن لا نرجعه إلى قلة خطابها، بل لكثرتهم وأهمية تلك الشخصيات الطامحة في الزواج منها، وكيف أنهم يتنازعون فيما بينهم هذا الشرف، وكان في مقدمتهم أبو بكر وعمر وبقية الصحابة. وفي هذه المنازعات، حلم علي في أن يجد نفسه في طابور خطاب فاطمة ولكن بردت همته وهو ينظر مبهورا الجاه والحظوة التي كان يتمتع بها منافسوه. ولكن لماذا خيب محمد آمال جميع هؤلاء الوجهاء؟ إن الجميع لديهم في بيوتهم حريم أخريات، لذلك كره محمد أن يضيع ابنته عديمة الخبرة بزجها في تلك الأوساط الصاخبة. وبدأ محمد بتزيين رفضه لهؤلاء متعللا بالعمر الصغير جدا لطفلته، متناسيا أنه قد تزوج من عائشة وهي بعمر تسع سنوات. في حين إننا نجد الشيعة يذكرون الإذلال، والاهانة التي تعرضت لهما بنت النبي من قبل الخليفتين، في اليوم الثاني لوفاة والدها. هؤلاء هم المسلمون، يكتبون القصيدة على طريقة الهجاء العربي القديم، ومن ثم يقومون بتشذيبها. السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم يبد أيا من الباحثين - المسلمين - عدم قناعتهم، بعدم الأمانة لدى المؤرخين، منذ وقت مبكر (2).

أما ما يدعيه «Lammens »من أن فاطمة عليها السلام لم تكن تحظى باهتمام النبي صلی الله علیه وآله فقد تقدم بیان مخالفة ذلك للمصادر التاريخية وأما أنه كان يفضل عليها أسامة بن زيد، فهذا ما بناه على ما يروى من : أنه تعثر في الباب وجرح وجهه فسال دمه، فأمر النبي عائشة أن تغسل وجهه فاستقذرته، فقام إليه وجعل يمص الدم ويمجه ويقول: لو كان

ص: 404


1- Fatima et les Filles de Mahomet,pp. 17-29.
2- Fatima et les Filles de Mahomet, pp. 17-29.

أسامة جارية لحليتها ولكسوتها، حتى أنفقها(1). يعطي «Lammens» الدليل تلو الدليل على أنه لم يكن أمينا ولا علميا، لا في نقله للنصوص ولا في تحليلها ومناقشتها ولا في إبداء آرائه، ففي هذه الجزئية نقف على دليل آخر لامتهان النصوص التاريخية واستباحتها وصولا للإيحاء بفكرة ما! فغاية ما في الاستدلال الذي أتى به «Lammens» على فكرة أفضلية أسامة، والرغبة بتغطيته بالجواهر. أن أسامة بن زيد كان على خلاف أبيه زيد الشديد البياض. كان أسمر شديد الأدمة(2). أو بالأحرى شديد السواد(3) مثل القار(4)، وأفطس الأنف(5). فقال النبي صلی الله علیه وآله: «لو كان أسامة

جارية لزيناه وجهزناه وحبناه إلى الأزواج »(6).

وروى الواقدي إن ولدا لأسامة بن زيد دخل على النبي صلی الله علیه وآله وهو في بيت أم سلمة، وكان الولد أسودا . فقالت أم سلمة: یا رسول الله لو كان هذا جارية ما نفقت.

ص: 405


1- ابن سعد، الطبقات، 4/ 57؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 533؛ أحمد بن حنبل: مسند، 6 / 222؛ ابن ماجة: سنن، 1/ 635؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 8/ 72، 73؛ ابن حبان: صحيح، 15 / 532؛ الجصاص: أحكام القرآن، 3/ 513؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 67/8 ، 68؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 65؛ المزي: تهذيب الكمال، 2/ 343، 344؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 503.
2- الضحاك: الآحاد والمثاني، 1/ 198؛ القرطبي: الجامع، 10 / 259؛ 14 / 239؛ ابن الأثير: أسدالغابة، 2/ 227.
3- أبو داود: سنن، 1/ 505 - 506؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 19 / 351؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/ 222؛ الزيعلي: نصب الراية، 4 / 46؛ ابن حجر: فتح الباري، 12 / 49؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 88؛ العظيم آبادي: عون المعبود، 6 / 255؛ الشوكاني: نيل الأوطار، 7/ 80
4- أبو داود: سنن، 1 / 506.
5- ابن عبد البر: الاستیعاب، 1/ 76؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 1 / 66؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1/ 294؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 500؛ تاريخ الإسلام، 4 / 177؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 8/ 243؛ النووي: المجموع، 18 / 33؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 274.
6- القرطبي: الجامع، 14/ 239.

فقال: بلى، إن شاء الله يجعل لها سكان من ورق، وقرطان، ويجعل على المسلمين حلوق، فكأنه ذهب (1). وقال: إن أسامة كان قد أصابه الجدري أول ما قدم المدينة وهو غلام، وكان مخاطه يسيل على فمه، فتقدرته عائشة(2). إذن فالنص الذي يستشهد به « Lammens» هو نص فرضي، أي لا أساس له على أرض الواقع! وهو فوق هذا وذاك، لا يؤدي لما رتب عليه من نتائج!؛ فالشكل غير الجميل لأسامة هو الذي جعل النبي صلی الله علیه وآله يفترض أنه لو كان جارية لألبسها الذهب والجواهر ليزينها ويجملها علها تجد من يتزوجها.

لم تكن هذه الحقيقة غائبة عن «Lammens»؛ فمصدره الذي نقل عنه هذا الخبر يصرح: أن أسامة كان أسود أفطس الأنف، وأن النبي صلی الله علیه وآله سر سرورا كبيرا حتى تبرق أسارير وجهه؛ لأنه سمع أحد صحابته، وقد نظر لأسامة وأبيه زيد وهما نائیان وقد غطيا وجهيها وبدت أقدامهما فقال: بعض هذه الأقدام من بعض(3). أي إنه فرح لأن ذلك الصحابي شهد بتشابه قدمي أسامة مع قدمي أبيه زيد. وإنه نظر في يوم من الأيام الوجه أسامة فضحك وقال: «لو أن أسامة جارية لحليتها وزينتها حتى أنفقها»(4).بل إن ابن سعد يصرح أن النبي صلی الله علیه وآله ما كان يمدح أسامة بأنه أحب الناس إليه إلا ويعقب

ص: 406


1- المغازي، 3/ 1125.
2- المغازي، 3/ 1125.
3- ابن سعد، الطبقات، 4 / 58. وينظر: الشافعي: كتاب الأم، 6/ 266؛ الطيالسي: مسند، 206؛ الواقدي: المغازي، 3/ 1126؛ عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 7/ 448 - 449؛ أحمد بن حنبل: مسند، 6 / 38، 226؛ الضحاك: الآحاد والمثاني، 1/ 198؛ البخاري: صحيح، 4 / 213، 12/8- 13؛ البيهقي: السنن الكبرى، 262/10 ؛ مسلم: صحيح، 4/ 172؛ أبو داود: سنن، 1/ 550 الترمذي: سنن، 3/ 298؛ ابن حبان: صحيح، 9/ 413؛ 10 / 533؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 7/ 175؛ الاستیعاب، 4 / 1461.
4- ابن سعد: الطبقات، 4 / 57 - 59.

بالقول: بأنه يستثني فاطمة فهي أحب إليه من أسامة وأبيه(1). إذن فمصادر«Lammens»ونصوصه التي يستشهد بها هي من تكذبه، وتفضح تأويلاته البعيدة غاية البعد عن روح النص، والحادثة التاريخية ونطاقها و مناسبتها.

أما تشککه بخطبة أبي بكر وعمر للسيدة فاطمة عليها السلام فهذا من اجتهاداته الكثيرة أمام النص الصريح المتواتر!؛ فقد ورد أنها خطباها فردهما النبي صلی الله علیه وآله فلما أدركت فاطمة مدارك النساء، خطبها أكابر قریش من أهل السابقة، والفضل في الإسلام والشرف والمال، وكان كلما ذكرها رجل من قريش، أعرض رسول الله عنه بوجهه، حتى كان الرجل منهم يظن في نفسه أنه ساخط عليه، أو قد نزل على رسول الله فيه وحي من السماء، ولقد خطبها أبو بكر فقال له: يا أبا بكر أمرها إلى ربها، وخطبها عمر بن الخطاب، فقال له كمقالته لأبي بكر(2).

وفي نص آخر أنه ردهما بالقول: إنه ينتظر بها القضاء (3). وكانت مصادر«Lammens»هي الأخرى أكدت وقوع هذه الخطبة من قبل أبي بكر وعمر(4). ولكنه يكذب تلك الأخبار.

ويدعي «Lammens» أنه وجد تناقضا في تصرفات النبي صلی الله علیه وآله وأن كتاب السيرة حاولوا التغطية على هذا الأمر، إلا أن حصافته كباحث وناقد للرواية استطاعت فك رموز هذه التشكيلة الروائية واكتشاف تناقضها فقال: إن النبي برفضه تزویج فاطمة

ص: 407


1- الطبقات، 4 / 61.
2- المناقب، 343.
3- ابن سعد، الطبقات، 10 / 20؛ البلاذري: أنساب، 402/1 ، 2/ 30؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 5/ 351؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12/ 112؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 471.
4- البلاذري: أنساب، 1/ 402 - 403؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 5/ 520؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 361/1 - 362؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 39 - 41.

على أساس صغر سنها، ناقض نفسه بشكل يرثى له. فلو فرضنا أنا صغرنا عمر فاطمة إلى أقصى حد وقت الهجرة، فإنها ستكون بلا شك قد تعدى عمرها آنذاك عمر عائشة ونحن في حقيقة الأمر نجد أنفسنا أمام مسرحية الهدف منها إخفاء العنوسة والعزوبة الطويلة التي عانت منها فاطمة، لقد فعل ذلك كي ينقذ اعتباره واعتبار ابنته بين الناس، غير مبال في سبيل ذلك بأي ثمن يدفعه. ولكن ما هي مصلحته في أن يمنحها أخيرا، وبقوة لعلي؟ إن هناك اشکالات على العديد من الأسباب والتوضیحات المزعومة التي ساقها لذلك، فقد كان رده: لم يكن لي أي دور في هذا الأمر، لأن الله هو من أمر بهذا الزواج، ونعتقد بأن تدخل السماء في أبسط أمور حياة النبي المنزلية إنما هو شيء لا يقبله العقل، وفي هذا الخصوص نتذكر أيضا الإسهاب واللوائح المسطرة في القرآن لزواجه من زینب بمرسوم سماوي (1).

ومجددا لم يكن بجعبته ما يستند إليه في هذا الطرح؛ فلجأ لفرضياته التي لاتستند لأدني دليل أو قرينة تاريخية، وراح يحلل الواقع الاجتماعي، وأعراف الزواج وتقاليده عند العرب وكأنه الخبير الأوحد في هذا المجال، وكأن تلك الضوابط شرائع سماوية وقوانين تحكم المجتمع، ولا يمكن تجاوزها و الخروج عليها لإشعار القارئ بتاريخية ما يتحدث عنه. فقال: إن العمر المعروف آنذاك للزواج بالنسبة للنساء العربيات يتراوح بين (9 - 12 سنة) ويبدأ أهل الفتاة بالقلق على مستقبل ابنتهم حينما تبلغ عشر سنوات. نری کتابنا يبذلون قصارى جهدهم لتصغير عمر فاطمة حين زواجها.. ، فقد أكثروا وبخجل تردید رقم (15 سنة أو 15 سنة ونصف) تاركين المجال لإمكانية أن يكون الرقم أكبر من ذلك. وفي الحقيقة أننا وجدنا أن من بين قدامی الكتاب من يتكلم عن أنها وقت زواجها قد بلغت (18 سنة) ومع أن هذا الرأي يقترب قليلا من الحقيقة إلا أنه لا يمثلها. فإذا افترضنا أن فاطمة عاشت حسب

ص: 408


1- Fatima et les Filles de Mahomet, pp. 29-30

متوسط الآراء (30 سنة) فإنها تكون تجاوزت ال (20 سنة) عند حدوث معركة بدر. ولو فرضنا جدلا أنها لم تكن قد تجاوزت عمر الزواج المألوف آنذاك، فما معنى أن تفترض بعض الروايات أنها أكبر سنا من زوجها. كما أن النبي بلغ من العمر (25سنة) وهو بعد لم يدخل حياة الزوجية، فإن حالة علي وفاطمة كانت حالته.. ، لغرض أن يزوج جميع بناته، نجد أبا القاسم قام باتباع مبدأ «السبق للبنت الكبرى في الزواج وعلى افتراض أن فاطمة هي الثانية في تسلسل أخواتها، فإنها طبعا لم تسبق أم كلثوم التي تزوجت من عثمان في المدة الواقعة بين بدر وأحد. رغم كل هذه التناقضات والفوضى المتعمدة في نقل الأخبار، فإن وثائقناأوضحت ما حاولوا كتمانه محاباة لمحمد في أنه كان من الصعب عليه أن يجد من يتزوج بناته(1).

أما ما يتعلق بعمرها حين زواجها، فلم يكن متوقعا من «Lammens» إلا أن يأخذ بأضعف الروايات، وبالتأكيد تلك التي تميل لتكبير عمرها حين زواجها !؛لتسلبها فضيلة أنها ولدت بعد البعثة؛ إذ لاشك في أن لذلك مزية وفضيلة كبيرة،حاول التدوين السيري المضاد لأهل البيت طمسها وتغييبها! کما حاولت روایات شبيهة سلب زوجها فضيلة ولادته في جوف الكعبة(2).

وكان اعتمد الأرقام الأعلى من مجمل الآراء التي قدمها السيوطي: قيل إن عمرها - حين وفاتها - أربع وعشرون سنة، وقيل: إحدى وعشرون، وقيل: ست وعشرون، وقيل: سبع وعشرون، وقيل: ثمان وعشرون، وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: ثلاث وثلاثون، وقيل : خمس وثلاثون(3). فافترض - ليدعم رأيه طبعا ۔ أنها توفيت بعمر «30 سنة» ليقول أنها تزوجت بعد أن تجاوزت عمر «20 سنة» على

ص: 409


1- Fatima et les Filles de Mahomet,pp, 31 – 34
2- ينظر: النصر الله، فضائل الإمام علي المنسوبة لغيره: الحلقة الأولى: الولادة في الكعبة.
3- الثغور الباسمة، 59.

اعتبار أنها تزوجت في السنة الثانية للهجرة، وتوفيت في السنة الحادية عشرة. كما افترض أنها البنت الثانية من حيث الترتيب، رغم أن المصادر - وبضمنها مصادره الأساس - تؤكد أنها الصغرى! وتقول: «اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي أيتهن أكبر وأصغر! اضطرابا يوجب ألا يلتفت إليه في ذلك، والذي تسكن اليه النفس على ما تواترت به

الأخبار في ترتيب بنات رسول الله، أن زينب الأولى ثم الثانية رقية ثم الثالثة أم کلثوم ثم الرابعة فاطمة والله أعلم»(1).للاختلاف في وقت ولادتها بين آراء ثلاث(2):

الرأي الأول: يقول بولادتها قبل البعثة بثلاث أو أربع (3)، أو خمس(4)، أو ست أو إحدى عشر سنة(5). وهو الذي تبناه «Lammens» وبقوة سيما في الرقم الأخير؛ لأن قوام طروحاته حيال شخصية فاطمة عليها السلام مبتنية عليه. وهو ما يرد لاضطراب أصحاب هذا الرأي بتحديد سنة الولادة. ولما تواتر في كتب السيرة والحديث، أنها كانت ما تزال جويرية = جارية صغيرة في الوقت الذي اشتدت وجاهرت فيه قريش بعداوتها للنبي صلی الله علیه و آله. أي بعد موت أبي طالب عليه السلام فقد ورد أن بعض أشقياء قريش

ص: 410


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1893؛ المزي: تهذيب الكمال، 35/ 248؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 361/12 ، الإصابة، 8/ 293؛ وينظر: الطبراني: المعجم الكبير، 397/22 ؛ الهيثمي: مجمع الزوائد،9/ 211؛ السيوطي: الثغور الباسمة، 57.
2- استفاضت الباحثة: «انتصار عدنان العواد» بمناقشة هذه الآراء في دراستها: السيدة فاطمة: دراسة تاريخية، 39 - 108.
3- أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، 59. قال عمرها حين زواجها (18) وباحتساب المدة بين زواجها وولادتها تكون ولدت قبل البعثة بثلاث أو أربع سنين.
4- ابن سعد، الطبقات، 10 / 20؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 152؛ ابن عبد البر: الإستیعاب، 4 / 1899
5- ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1899. اعتمادا على تحديد سنها حين وفاتها ب (30- 35 سنة) .

قال: «أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجئ به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية فأقبلت تسعى..»(1). وتنص كتب السيرة أنه لم يؤذ إلا بعد وفاة أبي طالب عليه السلام ولذلك تروي: «ما نالت مني قريش شيء أكرهه حتى مات أبو طالب»(2). وقد مر بنا تعليق ابن حجر على هذه الحادثة: «فيه قوة نفس فاطمة من صغرها»(3).أي إنه يؤكد أنها كانت صغيرة السن حين ذاك. وسنرى أي الروايات تتفق وهذه الحقيقة.

على العموم احتج «Lammens» با رواه ابن سعد نقلا عن الواقدي عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن العباس بن عبد المطلب أنه دخل على الإمام علي وفاطمة عليها السلام و هي تقول: أنا أسن منك فقال العباس: أما أنت يا فاطمة فولدت وقریش تبني الكعبة. والنبي ابن خمس وثلاثين سنة. وأما أنت يا علي فولدت قبل ذلك بسنوات (4).

وبما رواه أبو الفرج الأصفهاني عن ابن سعد عن الواقدي عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة من أنها تزوجت بعمر 18 سنة (5).

ص: 411


1- البخاري: صحیح، 131/1 - 132؛ مسلم: صحيح، 5/ 180؛ البيهقي: السنن الکبری، 7/9 - 8؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 1/ 217؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 4/ 183؛ 12 / 102 - 105؛ ابن حجر: فتح الباري، 302/1 ؛ العيني: عمدة القاري، 3/ 173؛ 306/4
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 416؛ الطبري: تاریخ، 2/ 343، 344؛ ابن الأثير: الكامل، 91/2 ؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 1/ 171 - 172.
3- فتح الباري، 304/1
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 27.
5- مقاتل الطالبيين، 59.

فأما الرواية الأولى: ففضلا عن عدم منطقيتها، وإلا كيف يعقل ألا يعرف الإمام علي والسيدة فاطمة عليها السلام مقدار سنهما وهب أنهما لا يعرفان متى ولدا، فهل من المعقول أن لا يعرفا من الأكبر منهما، حتى أخبرهما العباس بذلك ؟! ولم لم يسألا عن ذلك؟! فضلا عن ذلك الرواية منقطعة في إسنادها؛ إذ لا يعرف الراوي بين العباس والإمام الباقر عليه السلام . وأما رواتها فهم:

1/ أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة: من الغريب أن «الواقدي» كان أول من طعن به فقال: «تروى عنه العجائب»(1). وقال في مكان آخر: «كان كثير الحديث وليس بحجة»(2). وقال عنه ابن معين : ليس حديثه بشيء(3). وقال أحمد بن حنبل:«كان يضع الحديث وليس حديثه بشيء، كان يكذب»(4)، وقد اتفق على كذبه بين العلماء (5). وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه ولا الاحتجاج به بحال(6).

2/ يحيى بن شبل: ذكر عدد من الأشخاص تحت هذا المسمى من دون أن يترجم لأي منهم(7). قال (الذهبي: لا يعرف)(8). ورغم أنه يروي عن الإمام الباقر عليه السلام لم يترجم له في ضمن صحابته. إذن فهو مجهول لا يعرف.

ص: 412


1- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 66 / 28.
2- المزي: تهذيب الكمال، 104/33
3- تاریخ ابن معين، 1/ 116.
4- العلل، 1/ 510.
5- ينظر: العقيلي: الضعفاء الكبير،271/2 - 272؛ الرازي: الجرح والتعدیل، 306/7 ؛ ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال، 7/ 296؛ ابن الجوزي: الموضوعات، 1/ 142.
6- كتاب المجروحين، 3/ 147.
7- البخاري: التاريخ الكبير، 8/ 282؛ الرازي: الجرح والتعديل، 9/ 157؛ ابن حجر: تقريب التهذيب، 305/2 ؛ تهذيب التهذیب، 200/11
8- میزان الاعتدال، 4 / 385.

أما الراوية الثانية. فوردت عن: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: وهو مولى لعثمان بن عفان، وقد نهى أحمد بن حنبل عن حديثه(1). وقال له الزهري: «قاتلك الله يا ابن أبي فروة تجيئنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة، ولكن وجدت أحاديث كثيرة أرسلها بعض التابعين عن النبي لأسباب دعتهم إلى ذلك»(2)، وضعفه النسائي(3) وقال عمرو بن عاصم: إنه مولى لبني أمية وهو متروك(4). وطعن ابن معين في وثاقته(5) وقال الزيعلي: هو متروك بالاتفاق (6). وقال ابن حجر: متروك وله مناكير(7).

أما الآراء التي ابتعدت بولادتها حتى «6 - 11 سنة » فقد وردت عن الزبير بن بکار (8). إذ روى: أن عبد الله بن الحسن بن الحسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي(9)، فقال هشام لعبد الله : يا أبا محمد كم بلغت فاطمة بنت رسول الله من

ص: 413


1- البخاري: التاريخ الكبير، 1/ 396. وقال في موضع آخر: متروك. الضعفاء الصغير، 21.
2- العجلي: معرفة الثقات، 1/ 113. وينظر: العقيلي: الضعفاء الكبير، 102/1
3- کتاب الضعفاء والمتروکین، 154.
4- کتاب السنة، 393.
5- تاریخ ابن معین، 1/ 167.
6- نصب الراية، 1/ 117.
7- القول المسدد، 100.
8- أبو عبد الله بن بکر بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، كان أحد علماء النسب وصنف كتبا عديدة أهمها كتاب (أنساب قریش)، تولى القضاء بمكة، ومات وهو قاض عليها عام (256). ابن خلکان: وفيات الأعيان، 2/ 311، 312
9- أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي. كان هو وأبوه من علماء النسب المشهورين، ورواة الأخبار، وهو من اهل الكوفة، وقد طعن علماء الرجال بوثاقته،. توفي خلال (204 - 206 ه-). العقيلي: الضعفاء، 4/ 339؛ ابن حبان: المجروحين، 3/ 91؛ الخطيب البغدادي: تاریخ، 14 / 45 - 46. ويرجح أن الطعن بوثاقته متأت من كونه كوفي، ومنسوب للتشيع! ينظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ، 1/343؛ میزان الاعتدال، 304/4 ؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 53/26 - 55.

السن؟ فقال: ثلاثين سنة. فقال لهشام بن الكلبي: كم بلغت من السن؟ فقال: خمس وثلاثين سنة. فقال هشام لعبد الله: اسمع الكلبي يقول ما تسمع وقد عني بهذا الشأن! فقال عبد الله: سلني عن أمي، وسل الكلبي عن أمه(1).

تشعر الرواية أنها من قبيل اضطرارات ابن الكلبي للكذب؛ فلفظ النص ومضمونه يشيران إلى أن هشام بن عبد الملك إنها حول السؤال لابن الكلبي مع الإشعار بضرورة إعطاء رقم يفوق 30 سنة، ففهم الكلبي هذه الرسالة وقال 35 سنة . ولعل هذا ما ترجحه قرينة أن ابن الكلبي، حدث عن حالة مشابهة اضطر معها إلى أن يكذب أولى كذباته في النسب، قال: أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله القسري سألني عن جدته أم كرز، وكانت أمة بغيا لبني أسد يقال لها: زرنب، فقلت له: هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر بن قعين، فسر بذلك ووصلني(2). فضلا عن ذلك يكفي لإسقاط الرواية أنها مرسلة وأن ابن عبد البر إنما ذكرها من باب إجمال الآراء، لا من باب الاعتداد بها أو تصحيحها، بدليل أنه قال: «اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي أيتهن أكبر وأصغر! اضطرابا يوجب ألا يلتفت اليه في ذلك والذي تسكن اليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات رسول الله، أن زینب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة والله أعلم»(3). أي إنه أول من أسقط روایته! وفوق هذا وذاك الزبير بن بکارمتهم فيما يرويه عن أهل البيت (4)، إذ لم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما يذكره، وكان يبغض أمير

ص: 414


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1899.
2- أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 13/22
3- ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1893؛ المزي: تهذيب الكمال، 35/ 248؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 391/12 ، الإصابة، 8/ 263.
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 5 / 129.

المؤمنين7 وغير مأمون فيها يدعيه على بني هاشم (1). بالنتيجة اختار « Lammens» ما رآه مناسبا لما أراد الذهاب إليه من دون مناقشة تعارضه مع باقي المنقول، بل أسقط ما روي بخلاف ذلك.

الرأي الثاني : يقول بولادتها عام البعثة. اعتمادا على ما رواه اليعقوبي أنها توفيت بعمر 23 سنة(2). وما رواه ابن حجر أنها: تزوجت في السنة الثانية للهجرة، وهي بعمر خمس عشر سنة وخمسة أشهر ونصف(3). والروايتان كلتاهما مرسلتان.

الرأي الثالث: يقول بولادتها بعد السنة الأولى(4)، أو الثانية(5)، أو الخامسة للبعثة النبوية (6). فأما الأول فقد جاء في رواية مرسلة وأما الثاني فوارد عن عبد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي وهو غير معروف. وأما الأخير فواردعن:

1/ عبد الله بن جعفر : أبو العباس بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري القمي. شيخ القميين ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين، وسمع أهلها منه فأكثروا، وصنف كتبا كثيرة(7). ثقة من أصحاب الإمام الحسن العسكري7 (8).

2/ سعد بن عبد الله: أبو القاسم بن أبي خلف الأشعري القمي، من علماء الشيعة وفقهائهم. سافر في طلب الحديث، ولقي الإمام الحسن العسكري عليه السلام(9). كان

ص: 415


1- المسائل السروية، 86-87
2- تاریخ، 2/ 115.
3- ابن حجر: تهذيب التهذیب، 391/12 .
4- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 161/3 ؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1893.
5- المفيد: مسار الشيعة، 54.
6- الكليني، الكافي، 1/ 457. على أن هذا الرأي ورد في أحد أهم مصادر «Lammens» وهو: الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 278. إلا أنه لم يشر له!
7- النجاشي: الرجال، 219.
8- الحلي: خلاصة الأقوال، 194.
9- النجاشي: رجال، 177.

جلیل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة توفي خلال (299 - 301ه-)(1) .

3/ إبراهيم بن مهزیار: أبو إسحاق الأهوازي. أحد مصنفي الإمامية(2). ومن صحابة الإمامين الجواد والهادي عليها السلام (3).

4 / علي بن مهزیار : أبو الحسن الأهوازي، روي عن الإمامين الرضا والجواديا عليهما السلام واختص بصحبة الجواد والهادي عليهما السلام وتوكل لهم في بعض النواحي، وخرجت إلى الشيعة فيه توقيعات بكل خير، وكان ثقة في روايته لا يطعن عليه، صحيحا اعتقاده وصنف عددا من الكتب المشهورة(4).

5/ الحسن بن محبوب: أبو علي السراد، ويقال: الزراد، كوفي، ثقة. روى عن الإمام الرضا عليه السلام وعن ستين رجلا من أصحاب أبي عبدالله عليه السلام وكان جلیل القدر، ويعد في الأركان الأربعة في عصره، وله كتب كثيرة(5). توفي عام (224 ه-) (6).

6/ هشام بن سالم: أبو محمد الجواليقي. قال عنه النجاشي: ثقة ثقة(7). وهو من صحابة الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام(8).

7/ حبيب السجستاني: كان من الخوارج ثم دخل المذهب وصار من أصحاب السجاد والباقر والصادق عليهم السلام منقطعا إليهما(9).

ص: 416


1- الحلي: خلاصة الأقوال، 156.
2- النجاشي: رجال، 16.
3- الطوسي: الرجال، 374، 383.
4- النجاشي: الرجال، 253.
5- الطوسي:الفهرست، 96.
6- الحلي: خلاصة الأقوال، 97.
7- الرجال، 434.
8- الطوسي: الرجال، 318؛ اختيار معرفة الرجال، 2/ 637؛ الحلي: خلاصة الأقوال، 289.
9- الطوسي: اختيار معرفة الرجال، 2/ 637؛ الحلي: خلاصة الأقوال، 132 .

إذن هي سلسلة إسناد کل رواتها ثقات ومعتمدون ومن أصحاب الأئمة عليهم السلام وقد استمدوا معلوماتهم من أبناء فاطمة عليها السلام أنفسهم. وعليه قدم لنا الكليني رواية تتفق مع ما سبق أن أوردته كتب الصحاح والمسانید، من أن السيدة فاطمة عليها السلام كانت ما تزال جويرية في الوقت الذي مات فيه أبو طالب عليهم السلام واشتداد عداوة قريش للنبي 6 فتأريخ ولادتها بالسنة الخامسة للبعثة النبوية يعني أنها كانت بعمر الخامسة عند وفاته، وهو ما يتوافق تماما مع كونها ما تزال جويرية. هذا فضلا عن أن روایات مدرسة الخلفاء مضطربة في أسانيدها ومتونها، وشقط رواتها أخصائي علم الرجال والجرح والتعديل في المدرسة نفسها، مقابل اتزان رواة مدرسة أهل البيت عليهم السلام ووثاقتهم والمنطق يحكم بأن أهل الدار أدرى بها في الدار.

ولضرب أسس هذا الزواج أو صورة هذين الزوجين المثاليين لجأ «Lammens»للكذب الذي يجيده أكثر من أي شخص آخر، وعمل على الإيحاء بعدم وجود الرضا والقناعة والتكافؤ بين الزوجين منذ اللحظة الأولى، مدعيا أنه يستند في تقييم تلك الحقيقة لشهادات المعاصرين! ولكن دون الاشارة لأي مصدر!؟

فقال : حسب ما يراه معاصروها فإن فاطمة جازفت بمكانتها كونها قبلت أن تكون قرينة لعلي؛ فعلي بدا منقادا بقصوره الذاتي الذي عد سمة بارزة من سمات شخصيته. وهو على أية حال رفض دفع أي مهر متذرعا بفقره، فتوجب على النبي أن يصر على تذكيره بالدرع الجميل الذي كان قد تأمله فيه في معركة بدر، وبغياب كامل لأي معلومات مباشرة تحدد لنا تاريخ هذا الزواج، يعطينا هذا الأمر تأكيد بأنه وقع بعد السنة الثانية للهجرة. أمر النبي عليا في أن ينفق ثلثي المهر المتواضع (400 درهم) في شراء العطور، وما تبقى من المهر في تأثيث منزل الزوجية الجديد، بمثل هذه الطريقة كان كتابنا يظنون انهم يستطيعون أن يصوروا لنا كيف كانت الفاقة التي كان عليها هذان الزوجان الشابان. هؤلاء الكتاب في الحقيقة جعلوا من محمد ذلك الرجل المغفل

ص: 417

عندما حاولوا أن يظهروه نموذجا للشخص الذي يضمن الحرية للزوجين في اختيار أحدهما الآخر فلسوء الحظ أنهم بإصرارهم على إظهار دور النبي أكبر من دور الخطيبين قد قللوا من امتياز الحرية هذا. ولأن الصمت يعني الرضا، فإن فاطمة بدت وقد التزمت الصمت بعد أن استشارها أبوها حول زواجها المستقبلي من علي. إنه صمت المفاجأة والذهول! إذ إن البنت المسكينة لم يبد عليها أنها كانت تنتظر مثل هكذا مقترح، ولم تتأخر في ابداء عدم رضاها، وبشكل مسموع قائلة: أتريد تزويجي من معدم؟ وتوجب على محمد أن يصمت، ثم لأجل تهدئتها توسل بتعداد صفات علي: أقدمهم إيمانا وأكثرهم علما، الله هو الذي اختاره زوجا لها. وإذا كان محمد مقتنعا بذلك المدح فإنه لم ينل أي اهتمام من ابنته! برغم كون زوج المستقبل ابن عمها ونشأ بجنبها في بيت والدها، وبرغم المخاطر الكثيرة التي تعرض لها وهو ينقلها من مكة، إذن يجب علينا أن نتساءل لماذا لم تقم فاطمة وزنا لكل ذلك الماضي؟، إنه القلب وما بیهوی. ولماذا تقاوم والدها في كلامه البليغ فيما يخص علي؟ إن بنت النبي لم تكن جميلة المنظر، فإن عليا هو الآخر أبعد ما يكون عن الجمال الرجولي في منظره. كان العرب يحبون في أبطالهم طول القامة، وكان الهاشميون معروفين بطول قاماتهم، وهذا ما لم يوجد عند خطيب فاطمة، في الأعلى جذع قصير جدا، وأسفله حدبة مفرطة، وبرزت ذراعاه النحيفتان بشكل يثير السخرية. وفي المنتصف يتوسط رأس ضخم، مع عينين هامدتين وأرمدتين، مع انف أفطس وهذا الأنف كان يميز عليا عن بقية بني هاشم، الذين كانوا ذوي أنوف طويلة تشرب قبل الشفاه، وقد صاحت إحدى النساء عندما شاهدته للمرة الأولى: يا له من شخص غريب، كأنه كسر ثم جبر. إذن هذه هي المواصفات الجسمية لخطيب فاطمة، أضف على ذلك فقدان تام للذكاء يغلب على كفة جميع صفاته الأخرى، وفي النهاية فقر مدقع، وهي سمة كان يعرف بها جميع أبناء أبي طالب، وقد تحجج علي بفاقته؛ كي لايدفع مهرا لفاطمة في بادئ الأمر، مما جعل محمدا

ص: 418

يضمر له الضغينة، كما أن ذلك يعد بداية تتسم بسوء الحظ للحياة الزوجية القادمة(1).

واضح أن «Lammens» هنا ناقض نفسه بشكل يرثي له بما راح مهوله ويمتهنه ويعيد صياغته، من أخبار ونصوص واهية، تدعي أن السيدة فاطمة عليها السلام لم ترغب بالزواج من أمير المؤمنين عليه السلام وأنها قالت محتجة على أبيها رسول الله صلی الله علیه و آله: تزوجني من معدم أو فقير. فعدد بعض صفات الإمام عليه السلام فقبلت وهي مكرهة أو غير مقتنعة تماما.

فهو بداية وقبل كل شيء تناقض صريح لما كان اذعاه قبل قليل من أنها لا تملك أدنى مستويات الجمال ونحيفة الجسم، وصفراء اللون؛ ولذا لم تخطب من قبل! وتعدت سن الزواج من دون أن تجد من يرغب بخطبتها ! فالمنطق والعقل يحكمان بأنها تمتلئ فرحا وغبطة وهي ترى، أخيرا من يتقدم لخطبتها؟

لست أدري كيف لمن يدعي أنه منطقي أن يجمع بين هذه المتناقضات؟!

على أن «Lammens» لم يكن له في هذه الصورة إلا إعادة انتاجها - بشكل أكثر إساءة وبذاءة - من خلال التقاط بعض الاشارات والأخبار المبثوثة في الموروث الإسلامي من الأقلام الأموية والعباسية التي ما آلت جهدا في تشويه صورة أهل البيت عليهم السلام، ومن ثم تجميعها وقولبتها ضمن الاطار والغرض الخاص لهذا الكتاب، وقد اعتمد في تصدير هذه الصورة المسيئة - بحسب توثيقاته في الهامش - على روايتين: الرواية الأولى - وردت عند البلاذري. وهي تدعي أن السيدة فاطمة عليها السلام قالت: «یا رسول الله زوجتني ضخم البطن أعمش العين(2). وهو يروي الخبر عن:

1/ عبد الرحمن بن صالح الأزدي: أبو محمد الكوفي، اختلف فيه، فقيل: كان

ص: 419


1- Fatima et les Filles de Mahomet,pp. 34-38.
2- أنساب الأشراف، 2/ 354.

شيعيا. وقيل: كان يقرض عثمان، وكان يقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وثقه ابن معين، وقال أبو داود: ألف كتابا في مثالب الصحابة رجل سوء. وقال ابن عدي : احترق بالتشيع، وقال أبو أحمد الحاكم: خولف في بعض حديثه. مات سنة (235 ه-) (1)

2/ وكيع بن الجراح: بن مليح بن عدي بن الفرس بن سفيان الرؤاسي. وصف بأنه ثقة مأمون عالم رفيع، كثير الحديث حجة(2). خصه الرازي بترجمة موسعة أكد فيها على سعة علمه وحفظه للحديث(3). وكان ولد عام (129 ه-)، وتوفي عام (196 أو 197 ه-). وكان أبوه الجراح مسؤولا عن بيت المال للمهدي العباسي (4)

3/ شريك: بن عبد الله بن أبي شريك وهو الحارث بن أوس من قبيلة النخع،كان من الشخصيات المعروفة في الكوفة؛ فولاه أبو جعفر المنصور القضاء عليها وتوفي المنصور وهو في منصبه، فأقره المهدي عليه. مات عام (177 ه-) وكان كثير الحديث، ويغلط كثيرا(5) . وقد تغير حفظه بآخر عمره، وكان ربما يدلس عن الثقات، وهو وإن كان صدوق فهو يخطئ كثيرا(6) ، ولذا أورده العقيلي في الضعفاء(7). ووصف بأنه: كثير الحديث صاحب وهم يغلط أحيانا وكان يخلط في الحديث وله أغاليط (8).

ص: 420


1- الذهبي: میزان الاعتدال، 2/ 569. وينظر: ابن حجر: تهذيب التهذیب، 6 / 178 - 179.
2- ابن سعد: الطبقات، 8/ 517.
3- الجرح والتعديل، 1/ 219 - 232.
4- ابن حبان: الثقات، 562/7
5- ابن سعد: الطبقات، 499/8 - 500.
6- العجلي : معرفة الثقات، 1/ 119.
7- الضعفاء الكبير، 2/ 193 -194.
8- الرازي: الجرح والتعديل، 4 / 364-367.

4/ أبو إسحاق السبيعي: عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد بن ذي يحمد بن السبيع.. ، ولد عام (33ه-) (1). وتوفي عام (128ه- أو 129 ه-)(2). ذكر ابن حبان(3) والذهبي: أنه كان مدلسا، وأضاف الأخير : أن معاوية فرض له (300 درهم أو دينار في الشهر) وأنه ما أفسد حديث أهل الكوفة غيره، وإن أهل العلم تركوا حديثه(4) ، والتدليس قسمان:

الأول - أن يروي عمن عاصره ما لم يسمع منه؛ لإيهام الناس بأنه سمعه منه! وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره؛ لكونه ضعيفا أو صغيرا تحسينا لصورة الحديث وهذا القسم مکروه جدا ذمه أكثر العلماء.

الثاني - أن يسمي شيخه أو ينسبه أو يصفه أو يكنيه بما لا يعرف به!؛ كراهة أن يعرف؛ ويحمله على ذلك كونه ضعيفا أو صغيرا أو يستنكف أن يروى عنه لمعنى آخر أو يكون مكثرا من الرواية عنه، فيريد أن يغيره؛ كراهة تكرير الرواية عنه على صورة واحدة، وكراهة هذا القسم أخف(5). وقد روي عن (شعبة) أنه قال: «لأن أزني أحب إلى من أن أدلس! وأن التدليس في الحديث أشد من الزنا ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أدلس(6)! فإذا كان التدليس بتلك الصورتين مذموما عند العلماء فكيف بمن لا يذكر ممن أخذ الخبر وهو لم يكن حاضرا وقت حدوثه أليس هذا كذبا صريحا؟! فالراوي الأول - أبو إسحاق السبيعي - يبتعد بولادته عن زمن وقوع

ص: 421


1- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/ 393
2- ابن سعد، الطبقات، 8/ 431 - 432.
3- الثقات، 5/ 177.
4- سير أعلام النبلاء، 5/ 398. وكان خصه بترجمة طويلة خلال الصفحات: 392 - 401؛ میزان الاعتدال، 3/ 270.
5- النووي: شرح صحیح مسلم، 1/ 33.
6- ابن عبد البر: التمهید، 1/ 15 - 17.

الحادثة ب-(31 سنة) فهو لم يولد بعد حين تزوجت فاطمة من الإمام علي عليه السلام ولنقل أنه بدأ بتحديث من أخذوا عنه بعد أن بلغ (30 سنة) مما يعني ازدياد الفاصل الزمني بين روايته وبين الحادثة إلى حوالي (60 سنة). هذا فضلا عن كون الرواة من عمال العباسيين وأجرائهم في الرواية.

الرواية الثانية: اعتمد فيها على (المتقي الهندي ت 975ه-). وفيها أنها قالت: يا رسول الله زوجتني من رجل فقير ليس له شيء. فقال: أفما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الجنة رجلين أحدهما أباك والآخر زوجك(1).

بداية كلا الروايتين تفيدان أن كلام فاطمة مع النبي صلی الله علیه و آله، و إنما كان بعد زواجها، بدليل قولها: زوجتني. ولم تقل: تريد تزويجي / ستزوجني. وسيأتي أن تلك المحاورة إنها تمت بعد الزواج، وفي بيت فاطمة عليها السلام وأنها إنها نقلت له كلام النساء اللائي المنها على قبولها الزواج بأمير المؤمنين عليه السلام. ولكن « Lammens» استغل هذه الرواية للتشويه . کما فعل ذلك الرواة والمؤرخون المأجورون مع قول النبي صلی الله علیه و آله: فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها. حين جعلوا سببه أن الإمام عليه السلام أراد خطبة بنت أبي جهل فقال النبي صلی الله علیه و آله هذا الحديث! ولنا وقفة مع هذه الموضوعة تأتي في محلها. على أنه تجدر الاشارة هنا إلى أن «Lammens» ما فتئ يدل على أنه كان انتقائيا؛ لغايات أكثر ما تكون بعدا عن روح البحث العلمي !؛ فهو لم يحدد ضابطة لقبول الخبر ورده إلا هوى نفسه، وغايات بحثه! فيأخذ ما يظنه يسند طرحه - وإن كان مكذوبا - ويقدمه على أنه حقيقة لا جدال فيها! ويغض البصر عما يخالفه، وإن كان صحيحا متواترا!؛ فقد ورد في الصفحة التي أشار إليها في الهامش - استخدمنا ذات الطبعة التي استخدمها - أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة، فأبي عليهما النبي، فقال عمر: أنت لها يا علي(2). وكنا رأيناه

ص: 422


1- منتخب کنز العمال، 5/ 39.
2- منتخب کنز العمال، 5/ 38.

قبل قليل ينفي ذلك. وبالعودة لرواية لمتقي الهندي نجده اتبع منهجية حذف سلاسل الاسناد توخيا لعدم الإطالة في الكتاب لأنه اختصار لكتابه کنز العمال الذي هو بالأصل إعادة ترتيب لكتاب جامع الجوامع للسيوطي(1). وقد أشار في نهاية الرواية أنها مأخوذة من الخطيب البغدادي (2)، الذي بدوره يرويها عن:

1/ أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن شاده المؤدب بأصبهان، وأخته أم سلمة أسماء. لم أعثر على ترجمتهما، ولكنهما كما في أصل الرواية عند البغدادي - سمعا من الراوي الثاني بطريقة الإملاء. أي: إنه أملا عليهما الخبر.

2/ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان: المعروف بأبي الشيخ. صاحب کتاب «طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها». ولد سنة (274ه-) في أصفهان، ونشأ في بيئة علمية، إذ كان أبوه وجده لأمه وخاله من المحدثين فيها، ثم قام بعد من الرحلات العلمية لطلب الحديث، وصف بغزارة علمه وسعة حفظه ووثاقته وصدقه في الحديث. توفي سنة (369ه-)(3).

3/ أبو يحيى عبد الرحمن بن سلم الرازي(4).

4 / محمد بن غيلان: أبو أحمد المروزي. وثقه الرازي (5). وأورده ابن حبان في الثقات وقال: مات في رمضان عام (239ه-) (6). سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ثقة أعرفه بالحديث، صاحب سنة، وكان نزل بغداد وحدث بها(7).

ص: 423


1- تنظر مقدمة المؤلف، 1 - 8.
2- تاریخ بغداد، 4 / 417 - 418.
3- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 16 / 276 - 280.
4- لم نعثر على ترجمته.
5- الجرح والتعدیل، 291/8
6- 202/9
7- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13 / 89، 90؛ المزي: تهذيب الكمال، 27 / 305-309.

5/ أحمد بن صالح المقرئ: أبو جعفر ابن الطبري، ولد في مصر عام (170ه-)وتوفي فيها عام (248ه-) (1). أحد أبرز شيوخ البخاري في الحديث، وثقه بعضهم وذمه آخرون(2). كان النسائي سيء الرأي فيه: ذكره مرة فقال ليس بثقة ولا مأمون، وسئل عنه يحيى بن معين فقال: كذاب يتفلسف رأيته يخطر في الجامع بمصر(3). قال عنه أبو داود السجستاني: ليس هو كما يتوهمون من الجلالة، كان متكبر شرس الخلق، يرفض أن يحدث غير الملتحين(4). ويظهر أنه إنما وثق لأنه أبرز شيوخ البخاري !

6 / إبراهيم بن الحجاج: قال الذهبي: نكرة لا يعرف(5).

7/ عبد الرزاق: أبو بكر بن همام بن نافع الحميري الصنعاني، روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.. ، كان مولده سنة (126ه-). ومات بعد أن فقد البصر عام (211 ه-). كان ممن جمع، وصنف، وحفظ، وذاكر، وهو صاحب كتاب (المصنف) قيل أنه كان من يخطئ إذا حدث من حفظه، وعيب عليه أنه يميل إلى التشيع(6)! ؛ولربما كان هذا سبب إيراده عند العقيلي في الضعفاء (7)! رغم أن علماء الرجال اتفقوا

ص: 424


1- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 4 / 423.
2- الرازي: الجرح والتعديل، 2/ 56؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 4 / 417 - 423؛ المزي: تهذیب الكمال، 1/ 340 - 354؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 160/12 - 177؛ میزان الاعتدال، 1/ 103 - 106؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 1/ 36 - 34؛ مقدمة فتح الباري، 383.
3- النسائي: كتاب الضعفاء والمتروكين، 157؛ المزي: تهذيب الكمال، 1 / 345، 346؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 12 / 165 - 166؛ میزان الاعتدال،104/1 ؛ تاريخ الإسلام، 18 / 44 - 50؛ ابن حجر: مقدمة فتح الباري، 383؛ تهذيب التهذیب، 1/ 35.
4- المزي: تهذيب الكمال، 1 / 345 - 349.
5- میزان الاعتدال، 1/ 26.
6- ابن حبان: الثقات، 412/8
7- کتاب الضعفاء الكبير، 3/ 107-111.

على وثاقته (1).

8/ معمر: يكنى بأبي عروة، كان من أهل البصرة ثم انتقل إلى اليمن فنزل بها. توفي في (150/ 153ه-) (2)، وله (58 سنة). أي: إنه ولد عام (92 - 95ه-). ذکر عنه أنه قال: خرجت مع الصبيان وأنا غلام إلى جنازة الحسن البصري فطلبت العلم سنة مات الحسن. وقيل: طلب العلم وهو بعمر (14 سنة) (3). وثقه جماعة(4). وقيل: إن ما حدث به في البصرة فيه أغاليط(5).

9/ ابن أبي نجيح: أبو عبد الله بن يسار، كان قليل الحديث. قال الواقدي : توفي سنة تسع ومائة(6). وقال ابن معين (7): كان يرمى بالقدر، وكان يجالس عمرو بن عبيد فأفسده(8). أورده العقيلي في الضعفاء، وقال: إن البخاري اتهمه بالقدر والاعتزال، وإن مجاهدا قال لبعضهم: ألم أرك مع ذاك الحمار یعنی بن أبي نجيح (9)! ومن الغريب أنه روى الخبر عن مجاهد!

10/ مجاهد: بن جبر أبو الحجاج مولى قيس بن السائب المخزومي، روي عنه أنه عرض القرآن على بن عباس (3مرات) ليتفقه، ويسأله عن كل آية فيم نزلت

ص: 425


1- ابن حجر: مقدمة فتح الباري، 418.
2- ابن سعد، الطبقات، 8/ 105، 106.
3- البخاري: التاريخ الكبير، 7/ 378، 379.
4- العجلي: معرفة الثقات، 2/ 29؛ الرازي: الجرح والتعديل، 8/ 255 - 257؛ المزي: تهذيب الكمال، 311 - 303/28
5- الرازي: الجرح والتعديل، 8/ 257؛ الباجي: سليمان بن خلف، التعديل والتجريح، 2/ 817، 818؛ المزی: تهذيب الكمال، 309/28
6- ابن سعد، الطبقات، 8/ 34.
7- تاريخ يحيى بن معين، 1 / 59.
8- أحمد بن حنبل: العلل، 2/ 538؛ العجلي : معرفة الثقات، 2/ 64.
9- کتاب الضعفاء الكبير، 2/ 317، 318.

وكيف كانت. وقيل: عرضه (30 مرة). صاحب التفسير المعروف ب (تفسير مجاهد). ذكر أن العلماء كانوا يتقون تفسيره؛ لأنه كان يسأل أهل الكتاب، ومن ذلك قوله: إنه ذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت ورأي هاروت وماروت! وإن النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم! وإن الغلام من قوم عاد لا يحتلم حتى يبلغ مائتي سنة. توفي بمكة (102 - 104 ه-)(1). وهو يرويه عن عبد الله بن عباس. إذن في إسناد الخبر الثقة والضعيف والكاذب و المجهول. أما من حيث المتن: فقد صرح بعض رواته بأنه حديث غريب. وفي مقدمتهم راويه الأصلي الخطيب البغدادي. فقد قال بعد أن أورده: «هذا حديث غريب من رواية عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وغریب من حديث معمر بن راشد عن ابن أبي نجيح، تفرد بروايته عنه عبد الرزاق، وقد رواه عن عبد الرزاق غير واحد»(2). وقال ابن حجر (3): إن الخبر باطل! على أنهم إنها رفضوه؛ لما تضمنه ذيله من مدح للإمام علي علیه السلام !؛ بدلیل تشنيعهم على عبد الرزاق بأنه يتشیع. وقول ابن الجوزي: «هذا حديث تفرد به عبد الرزاق، وكان منسوبا إلى التشيع، وقد اتهمه أقوام! وإن كان قد أخرج عنه في الصحيح، فقال عباس بن عبد العظيم لما قدم من صنعاء: والله تجشمت إلى عبد الرزاق وإنه لكذاب والواقدي أصدق منه، وقال أبن عدي: حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه أحد عليها ومثالب لغيرهم مناكير، وقد ذكرنا أن معمرا كان له ابن أخ رافضي فيجوز أن يكون من إدخاله»(4).

وهذا لا يعني أن الخبر صحيح بالجملة؛ فهناك خلط بين وكبير في الخبر! إذ ورد بصيغ أخرى منها: ما رواه ابن أبي شيبة: عن الفضل بن دكين عن شريك عن أبي

ص: 426


1- الأصبهاني: حلية الأولياء، 3/ 279، 310.
2- تاریخ بغداد، 4 / 418.
3- لسان المیزان، 1/ 45.
4- العلل المتناهية، 224 - 225.

إسحاق: « قالت فاطمة: یا رسول الله زوجتني حمش الساقين عظيم البطن أعمش العين. قال: زوجتك أقدم أمتي سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما»(1).

وقد تقدمت ترجمة شريك وأبا إسحاق. أما الفضل بن دكين: فهو ابن حماد بن زهير، ويسمى الفضل بن زهير؛ فينسب إلى جد أبيه أبو نعيم، وهو أحد شيوخ البخاري(2). ويسمى أيضا الملائي. وهو مولى لآل طلحة بن عبيد الله التيمي. ولد عام (130 ه-) وتوفي في الكوفة عام (219ه-). وصف بأنه أتقن أهل زمانه، وأنه ثقة مأمون كثير الحديث حجة(3). ورواه بصيغة ثانية عن:

1/ خالد بن طهمان: أبو العلاء الخفاف السلولي. من أبناء العامة إلا أنه يروي عن الإمام الصادق7 (4). ضعفه العقيلي(5). وقال الرازي: ليس به بأس، محله الصدق (6). وثقه ابن حبان(7). ونقل ابن عدي تضعيف البعض له، وقال: لم أر في مقدار ما يرويه حديثا منكرا(8). ذكره الذهبي فيمن خرجت أحاديثهم في كتب الصحاح، وقال: صدوق شيعي(9). كما ذكره ابن حجر وقال: صدوق رمي بالتشيع (10).

ص: 427


1- المصنف، 505/7
2- ابن حجر: فتح الباري، 318/10
3- ابن سعد، الطبقات، 8/ 523؛ ابن حبان: الثقات،319/7 ؛ الباجي: التعديل والتجريح، 3/ 1181 -1182
4- النجاشي: رجال، 151.
5- الضعفاء الكبير، 11/2.
6- الجرح والتعديل، 3/ 196، 337.
7- الثقات، 6 / 257.
8- الكامل، 3/ 19 - 20.
9- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، 1 / 365
10- تقريب التهذيب، 1/ 259.

2/ نافع بن أبي نافع: أبو عبد الرحمن البزاز مولى أبي أحمد بن جحش أخو زینب بنت جحش، من أهل المدينة (1). وصف بأنه ثقه(2). ذكره الذهبي فيمن خرجت احادیثهم في كتب الصحاح (3).

3/ معقل بن يسار: أبو عبد الله بن عبد الله بن معبر.. وهو صاحب نهر معقل أمره عمر بن الخطاب بحفره فحفره، وكان قد تحول إلى البصرة فنزلها وبنى بها دارا وتوفي بها(4). وهو الذي غدر بمسلم بن عقيل عليه السلام . توفي في عهد زیاد بن أبيه بعد عام (60ه-)(5)

قال معقل: إن النبي صلی الله علیه و آله قال له: «هل لك أن نعود فاطمة؟.، فدخلنا عليها، فقال لها النبي: كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال أسفي واشتد حزني، وقال لي النساء: زوجك أبوك فقيرا لا مال له! فقال: أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علم وأفضلهم حلما؟ قالت: بلى، رضیت یا رسول الله»(6).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: دخل النساء عليها فقلت: يا بنت رسول الله، خطبك فلان وفلان، فردهم، وزوجك فقيرا، لا مال له! فلما دخل عليها أبوها، رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمة، إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما. وما زوجتك إلا بأمر من

ص: 428


1- ابن حبان: الثقات، 5 / 468.
2- معرفة الثقات، 2/ 64؛ الرازي: الجرح والتعدیل، 8/ 453؛ الذهبي: الكاشف،، 2/ 315.
3- الکاشف، 2/ 315.
4- ابن سعد، الطبقات، 149/5
5- خليفة بن خياط: الطبقات، 79.
6- أحمد بن حنبل، مسند، 5 / 26؛ أبو جعفر الإسكافي: مناقضات العثمانية - طبع بذيل كتاب العثمانية للجاحظ - 289 - 290؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 13 / 227.

السماء. أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة(1).

وهكذا يتضح أن هناك خلطا واسعا في الخبر ألفاظه ومضامينه، وأن الصحيح منها أن النساء اللائي دخلن على فاطمة علیها السلام هن من المنها لأنها رفضت الزواج من رجال أغنياء تقدموا لخطبتها وتزوجت الإمام علیه السلام وهو فقير لا مال له! فلما سألها النبي صلی الله علیه و آله عندما زارها ورآها حزينة - لأن النساء لا يعرفن قدر من تزوجت - أخبرته بما قالته أولئك النسوة، فطيب خاطرها با ذكر لها من فضائل الإمام علیه السلام ، وإلا فهي أعلم بفقر الإمام علیه السلام وقلة ما في يده، وقد درجا في بيت واحد. أم كانت لا تعلم بذلك حتى تزوجته!؟ ثم هل هي ممن يهتمون لفقر أو غنی، ودنيا زائلة ؟! أليست مدرسة الخلفاء هي من تنقل قول الحسن البصري بحقها: «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة. كانت تقوم حتى تورمت قدماها»(2).ألم تصفها تلك المدرسة بأنها: من ناسكات الأصفياء، وصفيات الأتقياء. كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة(3). فضلا عن عشرات الأحاديث التي جئنا سلفا عل بعض منها هذا من جانب.

ومن جانب آخر. فإن ورود الخبر من طريق رواة المدرسة المخالفة لأهل البيت3 لهو خير دليل على وقوع الحدث، وإلا فليس أدل على حدوثه من وروده عنهم. ومن ثم توظيفه من قبل أبي جعفر الإسكافي للرد على كتاب العثمانية للجاحظ الذي ألفه ليطعن في أفضلية الإمام علیه السلام وأحقيته بالخلافة. ثم بأي مقياس تكون الروايات

ص: 429


1- أبو جعفر الإسكافي: مناقضات، 289 - 290. وبألفاظ مقاربة عند الطبراني: المعجم الكبير، 11/ 77؛ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، 42/ 135؛ الذهبي: میزان الاعتدال، 1/ 26؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 112؛ ابن حجر: لسان الميزان، 1 / 45.
2- الزمخشري: ربيع الأبرار، 2/ 274.
3- حلية الاولياء، 2/ 39.

التي تنقل اعتراض السيدة فاطمة علیها السلام صحيحة ولا جدال فيها، والروايات التي لاتشير إلى ذلك كاذبة وغير تاريخية ومن نسج الشيعة، ولا يشار إليها حتى كأنها لم توجد مع العلم أنها وردت في نفس المصادر التي اعتمدها «Lammens» وأخذ منها الروايات التي وظفها في دعواه !؟ قال ابن سعد: خطب على فاطمة فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله إن عليا يذكرك فسكتت فزوجها(1).

كان تصيد «Lammens» لهذه الأخبار مکشوفا ومفضوحا، وقد رفضه المستشرقون قبل المسلمون؛ ولذلك رد عليه المستشرق الألماني الكبير (Bekker = بكر) قائلا: لو قلنا إن شعائر التمجيد مردها إلى الشيعة ولذلك فإنها لا تمت للتاريخ بشيء، فيجب اعتبار الوصف السيئ لصورة فاطمة في أحاديث التيار الأرثوذكسي أنه ليس من التاريخ بشيء أيضا؛ فقد تكون هذه الإساءات مجرد رد فعل على تمجيد الطرف الآخر. إن « Lammens» ينظر في طروحاته إلى كل الصفات السيئة كحقائق تاريخيه من دون الخوض فيها، إن الصفات السيئة في حياة المقدسين ممكن أن تؤرخ لصالحهم في كل الأحوال، هل على من يعلم الأثر الذي خلفته معركة صفين أن يؤمن دون تحقيق أن أعداء العلويين كانوا ينتهجون نهجا تاريخيا موضوعيا عندما يحاولون إظهار دور فاطمة وكأنه دور سطحي أو عندما يعطونها القليل من الملامح اللطيفة؟ صورت وكأنها لم يكن لها أثر على الرسول، وأنها لم يكن لها أدني هيبة عنده، وأن طلعتها ليست ذات تأثير ولم تكن زيجتها مع العدو اللدود (علي) مليئة بالسعادة ولم تكن تتمتع بالاحترام في هذه الزيجة، وبهذا النوع من الأحاديث تم ضرب أتباع علي دون المساس بالرسول، الذي طالما جهد نفسه في أن يخلق علاقة متوازنة بينه وبين ابنته. يجب ألا ننسى أن عليا قد لعن على المنابر في بداية نشأة الحديث. استنادا إلى بعض الأحاديث غير اللطيفة حول مفاتن فاطمة، يرسم لنا «Lammens »صورة مقززة عن هذه

ص: 430


1- الطبقات، 20/10

الشخصية المسكينة. لكن عالم الدموع صفة مألوفة في حياة القديسين، وضعفها البدني ربما يكون بدعة قبال السمنة كمعيار للجمال أكثر منه كحقيقة تاريخية. «Lammens»يجد المتعة في إظهار أهل بيت الرسول بصورة محتقرة ومبتذلة. فيما يخص علي وفاطمة فإن هناك ما يكفي من النعوت المبثوثة في بطون الأحاديث، وهي غاية في الفظاعة من جانب تلك المجموعة التي لا تعرف الرحمة، فاستطاع «Lammens »بحنكته الاستعراضية أن يجمع هذه المعطيات المتفرقة مع بعضها، وانقلب عندها لمؤرخ مهاجم ذا نزعة عقدية. فتكون شعور مسيحي معارض للإسلام وجد في فرضية«Lammens »متكأ له، فكل النعوت السيئة بحق حرم النبي أو علي هي من التاريخ بالنسبة له. وعليه أليس من الغريب أن ندعي من جهة أن أهم الحقائق التي تتعلق بحياة عائلة الرسول هي مختلفة ومحرفة، ومن جهة أخرى ندعي تاريخية التفاصيل المتعلقة بمحيط النبي من حياة زوجاته وما يختص بحياة علي وفاطمة؟ أنا أشك كثيرا في تاريخية كل التاريخ المتعلق بحرم النبي. وبما أن «Lammens» يشكك بتاريخية تفسير الأحداث الكبرى في الإسلام، أفلا تستحق تلك الأحداث التي لم يشهد بها شاهد أن يشك بها؟ إحساسي يقول أن « Lammens» يخلط ما بين التاريخي وغير التاريخي. لا اعتقد أني قد ذهبت بعيدا حين رميته بعدم الاتساق في تطبيق نظريته. فهو يرى كل شيء مغرضا ومختلقا . وحجر الأساس الذي يبني عليه طروحاته يبدأ حين يجد ما هو مغرض من الحديث(1)

أما دعوی «Lammens» أن الإمام علیه السلام رفض دفع أي مهر، فهذا من القفز على النص؛ فالمصادر بالإجماع تؤكد أنه كان خجلا لعدم امتلاكه الأموال اللازمة لدفع المهر. ولما لم تكن الأموال تهم تلك الذوات المقدسة، سارع النبي صلی الله علیه و آله لرفع الحرج عن الإمام علیه السلام فقال : يكفي أن يكون ثمن درعك مهرا لفاطمة علیها السلام وإلا فهي أغلى من

ص: 431


1- Der Islam, pp. 265-269

الدنيا بما فيها. فضلا عن أنهم أولى الناس بالتبسط والتواضع في المهور وتکالیف الزواج. ف النبي صلی الله علیه و آله ما برح ينادي: «خير الصداق أيسره»(1). «من يمن المرأة تسير خطبتها صداقها»(2). « تیاسروا في الصداق»(3).

ولكن «Lammens» يرفض قبول تلك الحقائق والبديهيات لأنها مما يتقاطع مع ما يريد الوصول إليه في هدم صورة هذه المرأة المثال وتقويضها. وأظنه بحث طويلا من دون أن يعثر على ما يستطيع استغلاله والالتفاف عليه في هذا الموضوع! فراح يدعي حدوث ما يؤيد كلامه، ويستهزئ ! ويثير الاستغراب والتشكيك؛ فقال: حسب ما يراه معاصروها فإن فاطمة جازفت بمكانتها كونها قبلت أن تكون قرينة لعلي؛ فعلي بدا منقادا بقصوره الذاتي الذي عد سمة بارزة من سمات شخصيته، وهو على أي حال رفض دفع أي مهر متذرعا بفقره، فتوجب على النبي أن يصر على تذكيره بالدرع الجميل الذي كان قد تأمله فيه في معركة بدر، وبغياب كامل لأي معلومات مباشرة تحدد لنا تاريخ هذا الزواج، يعطينا هذا الأمر تأكيد بأنه وقع بعد السنة الثانية للهجرة. أمر النبي عليا في أن ينفق ثلثي المهر المتواضع (400 درهم) في شراء العطور، وما تبقى من المهر في تأثيث منزل الزوجية الجديد، بمثل هذه الطريقة كان كتابنا يظنون انهم يستطيعون أن يصوروا لنا كيف كانت الفاقة التي كان عليها هذان الزوجان الشابان.

ص: 432


1- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 182؛ البيهقي، السنن الكبرى، 7 / 232؛ السيوطي: الجامع الصغير، 1/ 62.
2- أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 77، 91، الطبراني: المعجم الصغير، 169/1 ؛ ابن حبان: صحیح، 9/ 405، الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 181؛ البيهقي: السنن الکبری، 235/7 ؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 4 / 255؛ السيوطي: الجامع الصغير، 1/ 383؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 11 / 99، 16 /322
3- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 6/ 174؛ الزمخشري: الفايق في غريب الحديث، 3/ 421؛ ابن الأثير : النهاية في غريب الحديث، 1/ 386؛ 5/ 296.

هؤلاء الكتاب في الحقيقة جعلوا من محمد ذلك الرجل المغفل عندما حاولوا أن يظهروه کنموذج للشخص الذي يضمن الحرية للزوجين في اختيار أحدهما الآخر. لسوء الحظ إنهم بإصرارهم على إظهار دور النبي أكبر من دور الخطيبين قد قللوا من امتياز الحرية هذا(1).

أراد «Lammens»من خلال عرضه و فرضياته السابقة، الوصول لتقديم شخصيتي فاطمة والإمام علي عليه السلام على أنها مثال الثنائي المركب من العقد والمشاكل الخلقية والنفسية والعائلية، قبالة كونهما الزوجين المثاليين والترابط الطبيعي ونقطة التقاء النبوة والإمامة والنواة الأولى لبيت النبوة / العائلة المقدسة / آل الرسول / أهل البيت / أقطاب حادثة المباهلة. بالنتيجة كل ما يمثله هذا البيت أو هذا الثنائي من قيمة دينية وروحية لا شك لها أثرها حتى في نفوس أعدى أعدائهم. أراد«Lammens »أن يحطم صورة هذا الثنائي من خلال تقديمه بتلك الصورة البائسة، وسلبه ما رشح وتركز في الأذهان من قيمة تستمد خصوصيتها ومثاليتها من خصوصية النبي صلی الله علیه و آله ومثاليته بادعاء سلبية العلاقة بين الإمام والنبي صلی الله علیه و آله وتقديم صهرية عثمان بن عفان للنبي 6 على بنتيه رقية وكلثوم على أنها هي الأفضل. في حين شكك في افتتاحية كتابه بموضوعة تلك الصهرية، وتحدث عنها بلغة تهكمية واضحة !؟ مرجحا أن نقطة الانطلاق في ذلك الموضوع إنها جهزت من تلقيبه بذي النورين ! فقد قال بهذا الصدد: أن رقية وأم كلثوم بعد أن طلقتا من ابني أبي لهب انتهى المطاف بالاثنتين إلى حریم عثمان، الرجل المسخر من الله لإنقاذ أبي القاسم من مآزقه المالية والسياسية في الحديبية، وفي تبوك، وفي مواطن أخرى، عندما تملص أبو بكر وعمر. كما هو الحال بالنسبة لأم کلثوم، وقبل أن ترى الأموي المشفق يخلق لها وضعا مميزا، كان لابد من أن تشعر بنت محمد بالملل والضجر من هذا الترمل الذي لا ينتهي. وأن تنتظر أن يفتح لها موت

ص: 433


1- Fatima et les Filles de Mahomet, pp. 34, 35

شقيقتها الملاذ الذي قدمه ابن عفان! كيف يمكن التوفيق بين الوفاء الأعمى الذي عبر عنه الصحابة بأنهم كانوا يتنازعون على شعر وبصاق محمد!؟ وبين أنهم كانوا يترددون في إيواء بنت النبي لديهم؟ ! يبدو أن كتاب السيرة لم يلاحظوا هذا التناقض بين المبدأين في الرواية التي يفضلونها. منذ البداية أبعدت السيرة رقية وذلك بإرسالها إلى الحبشة . ورأيناها تظهر مجددا للحظة، ثم بعد عودته من بدر، وصل محمد متأخرا ليحضر مراسيم دفنها.. ، لم يرد ذكر أم كلثوم إلا مرة واحدة في أقدم نسخة من السيرة وصلت إلينا. مر طيف هاتين الشقيقتين بشكل غير مفهوم من دون أن يكون لها حضور في سجل التاريخ! ويبقى لقب زوجهما المشترك ذو النورين: ماذا يعني هذا اللقب بالضبط؟ ما قدم هذه التسمية؟ لماذا ليس له ذكر في الجزء الذي خصصه ابن سعد الذكر الخليفة الثالث في طبقاته؟ هناك صحابي غير معروف يدعى طفيل الدوسي کان يحمل لقب ذي النور. تفسر السنة للقب: أنه إشارة إلى ابنتي النبي لا يعتد به؛ لأن هذا اللقب كان شائعا بين المعاصرين رجال ونساء!: إحدى بنات أبي بكر كانت تسمى ذات النطاقين، ومن بين الصحابة كان هناك من يلقب بذي اليدين، وذي الشمالين. لكل هذه الألقاب، وجدت الأحاديث والتفسيرات الملائمة لمصلحة حامليها. في حالة عثمان يمكن أن يكون التفسير موفقا: فهو يدعم أطماع الأمويين في الحكم، واحترامهم لعثمان، ونهج السيرة الحريصة على منح النبي شرف أبوة واسعة(1).

إذن «Lammens» هنا ولأجل تجريد النبي صلی الله علیه و آله من شرف الأبوة الواسعة شكك بوجود تينك البنتين. في حين يوظف وجودهما في الموروث التاريخي - وكأنه حقيقة لا جدال فيها - في موضع آخر!؛ لأنه رأى أن وجودهما يخدم طرحه في هذا الموقع! فنراه يقول: تحجج علي بفاقته كي لا يدفع مهرا لفاطمة في بادئ الأمر!؛ مما جعل محمدا يضمر له الضغينة! كان ذلك بمثابة بداية تتسم بسوء الحظ للحياة الزوجيةالقادمة !

ص: 434


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 1-3.

تضايق النبي من تعارض موقف علي هذا مع موقف أصهاره من بني أمية: زوج زینب [ أبو العاص] او زوج أم كلثوم ورقية عثمان «ذو النورين». هم على الأقل يعرفون كيف تكون قيمة الرجل الذي يرتبط بعائلة النبي بقرابة. وعلى العموم فإننا نجد في هذا الزواج مشكلة انعدام وجود الحب الحقيقي. إن النبي كان قد شعر بعمق بأنه أذل ابنته المقيمة عنده وقد بلغت ما يقرب العشرين سنة، وهي بذلك تعادل في عمرها عمر عائشة مرتين وزيادة، بل حتى أكبر بشكل عام من عمر جميع المخطوبات وقتذاك من بنات العرب الاعتياديات. ونجد كذلك بأن شريك حياتها هو أبعد ما يكون عن صفات الرجل اللامع، أما النبي فإن كان قد قبل بعلي زوجا لابنته، فإنه إنما فعل ذلك بدون أدنى شك ليخلص ابنته من طريقها المسدود. وهو من جهة أخرى قد اشترط في عقد الزواج على علي أن لا يتزوج على ابنته امرأة أخرى، وهو الشرط الذي كان قد أقر به عند زواجه من خديجة، وكان وقتها قد شعر به کمنقصة لنفسه. كل هذه المخاشنات المتبادلة تساعدنا على إدراك قلة الهمة والاستعداد للاحتفال بهذا العمل السري من قبل أصحاب الشأن الرئيسيين، فلم تكن هناك إشارات تدل على أن هذا الزواج سيكون زواجا سعيدا. يفضل الكتاب المسلمون إمعان النظر في مراسيم هذا الزواج والتي يشرف عليها النبي بنفسه، ونجد في أوصافهم المطنية هذه كثيرا من الأمور التي تدل على قلة معرفتهم بالتسلسل التاريخي للأحداث، وكذلك نرى رغبتهم الجامحة للتعظيم من شأن أفراد العائلة الهاشمية. ونراهم تلقوا كثيرا لحساب بلاط بغداد، وما كانوا يراعون الأمانة المطلوبة. بناء على هذه التكهنات، فإن زواج علي وفاطمة سوف لن يكون سعيدا على مستوى المنزل بسبب الفاقة والبؤس. وبدا الشقاق يأخذ طريقه بينهما. وفي الوقت الذي كانت المجوهرات تغطي أمامة بنت زینب، وأسامة بن زيد! كان محمد يبدي نوعا من عدم الاهتمام بفاطمة؛ فلم تتردد عن مواجهته بذلك ولكنه لم يكترث لها. وفي الوقت الذي بدأت مصادر الغني تتوالى على النبي، حيث استغنی من الغنائم والغارات على قوافل قريش ومن جلد اليهود ومن المضاربات التجارية. كان

ص: 435

-الخلاف بين علي وفاطمة يسبب له من جانب آخر الكثير من المنغصات وغالبا ما كان يجد نفسه مجبورا على التدخل بينها، ولكن من دون أن يصل إلى الإصلاح بين الطرفين(1).

النقطة الرئيسة التي نسج عليها «Lammens» طرحه هذا هي التقاطه لبعض الأخبار الموضوعة التي ادعت سوء العلاقة بين الإمام والسيدة فاطمة عليها السلام ولذا سنعرض عما رتبه من أثر، وآراء وإسهاب في الكلام، على تلك الأخبار لأنها بمثابة ذيول لها، فضلا عن أن آراءه بحد ذاتها غير جديرة بالوقوف عندها؛ وإن إسقاط أساسها يعني تهاوي كل ذلك البناء الذي قد يتصوره بعضهم ضخما. كان انطلاق «Lammens»- وبحسب إشاراته في الهامش - معتمدا على روايات ثلاث أوردها أحمد بن حنبل في مسنده (2) عن المسور بن مخرمة. وهو بدوره يدعي أن الإمام زين العابدین علیه السلام حدثه بذلك.

الرواية الأولى - أن عليا خطب ابنة أبي جهل، فوعد بالنکاح، فأتت فاطمة النبي، فقالت: إن قومك يتحدثون انك لا تغضب لبناتك، وإن عليا قد خطب ابنة أبي جهل. فقام النبي فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنها فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن تفتنوها! وذكر أبا العاص بن الربيع فأكثر عليه الثناء، وقال: لا يجمع بين ابنة نبي الله وبنت عدو الله فرفض علي ذلك.

الرواية الثانية - أن عليا خطب ابنة أبي جهل، وعنده فاطمة ابنة النبي، فلما سمعت بذلك أتت النبي فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا

ص: 436


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 38-52
2- على أن الخبر ذكر في مصادر أخرى، وبألفاظ مختلفة، كما أنه نوقش وفند من قبل: علي الميلاني في: رسالة في حدیث خطبة علي بنت أبي جهل 7- 45؛ النصر الله، الإمام علي: رؤية اعتزاليه، 139 - 183. فسيقتصر على مناقشة ما احتج به «Lammens».

علي ناكح ابنة أبي جهل. قال المسور: فقام النبي، فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني فصدقني، وأن فاطمة بنت محمد بضعة مني، وأنا أكره أن يفتنوها، وأنها والله لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل واحد أبدا! قال: فترك على الخطبة.

الرواية الثالثة - أن المسور لقي الإمام زين العابدین 7 بعد عودته من الشام، فقال له: هل أنت معطي سيف رسول الله؛ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه، وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه ابدا حتى تبلغ نفسي. إن عليا خطب ابنة أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ محتلم، فقال: إن فاطمة بضعة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها. قال: ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه، فأحسن، قال: حدثني فصدقني، ووعدني فوفي لي، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع ابنة رسول الله، وابنة عدو الله مكانا واحدا ابدا(1).

بداية عرف عن كتب المسانيد أن جرت عادة مصنفيها على جمع كل ما أثر عن الصحابة، وبإفراد حدیث کل صحابي على حدة، من دون الالتفات لصحة أوعدم صحة ما يروى عن هذا الصحابي أو ذاك! فالمهم في هذه الكتب هو الجمع فقط !؛ ولذلك لا يسوغ الاحتجاج بها يرد فيها مطلقا(2).

قال ابن الصلاح: «كتب المسانید غير ملتحقة بالكتب الخمسة - التي هي: الصحيحان، وسنن أبي داود، وسنن النسائي وجامع الترمذي - وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقا: كمسند أبي داود الطيالسي، ومسند

ص: 437


1- 326/4
2- أبو رية: أضواء على السنة، 297.

أحمد بن حنبل، ومسند الدارمي؛ فعادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه، غير متقيدين بأن يكون حديثا محتجا به. فلهذا تأخرت مرتبتها - وإن جلت الجلالة مؤلفيها - عن مرتبة الكتب الخمسة وما التحق بها من الكتب المصنفة على الأبواب»(1).وقال النووي: «وأما مسند أحمد بن حنبل، وأبي داود الطيالسي وغيرهما من المسانید، فلا تلتحق بالأصول الخمسة، وما أشبهها في الاحتجاج بها والركون إلى ما فيها»(2).

وقال إمام الحنابلة ومجدد فقههم ابن تيمية عن مسند أحمد بن حنبل: «هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي - الذي رواه عن ابنه عبد الله - زاد عن شيوخه زیادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة.. ، فهم ينقلون من هذا المصنف، فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله رواه أحمد نفسه، ولا يميزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي. ثم يظنون أن أحمد إذا رواه فقد رواه في المسند، فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط.. ، وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحا يجب العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها»(3).

وقال في طبعة أخرى: «وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك ليعتبر بها ويستشهد بها، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ. وقد يكون صاحبه كذابا في الباطن ليس مشهورا بالكذب بل يروي كثيرا من الصدق فیروى حديثه، وكثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه بل يعجز عن ذلك

ص: 438


1- مقدمة ابن الصلاح و محاسن الاصطلاح، 183 - 184.
2- المنهل الراوي، 47.
3- منهاج السنة، 399 - 400.

فيروي ما سمعه کما سمعه، والدرك على غيره لا عليه..، وكل من عرف العلم - يعلم: أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه يقول إنه صحیح - ولا كل حديث رواه في مسنده يقول إنه صحيح، بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه، وقد يكون في بعضها علة تدل على أنه ضعیف، بل باطل»(1).

وقال في موضع آخر: «تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرجابن الجوزي، هل في المسند حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أن يكون في المسند حديث موضوع وأثبت ذلك أبو الفرج، وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبو الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المتحدث لم يتعمد الكذب بل غلط فيه، وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق الذي تعمد صاحبه الكذب»(2).

وكان أحمد بن حنبل يقول: «إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا»(3).وقال ابن تيمية: إنه كان يجوز أن يروي في الفضائل ما لم يعلم أنه ثابت! إذا لم يعلم أنه كذب(4).

وقال ابن أبي شامة: إن أصحاب الإمام أحمد يحتجون بالأحاديث التي رواها في مسنده، وأكثرها لا يحل الاحتجاج بها وإنما أخرجها الإمام أحمد حتى يعرف من أين الحديث مخرجه والمنفرد به أعدل أم مجرح «(5).

ص: 439


1- أبو رية: أضواء على السنة، 298 - 299.
2- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، 132 - 133.
3- ابن حجر: القول المسدد، 20.
4- قاعدة جليلة، 134.
5- الباعث على إنكار البدع والحوادث، 73.

وقال ابن الجوزي: سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح؟ فقلت: نعم فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فکر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوي، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني يعظمون هذا القول!ويردونه ويقبحون قول من قالها فبقيت دهشا متعجبا، وقلت في نفسي: عجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضا ؛؛ وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد! وليس كذلك؛ فالإمام أحمد روی المشهور والجيد والرديء، ثم هو قد رد كثيرا مما روى، ولم يقبل به، ولم يجعله مذهبا له[ وقال لابنه عبد الله] : قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه..، وقد أخبر عن نفسه، كيف طريقه في المسند، فمن جعله أصلا للصحة فقد خالفه وترك مقصده ..، وقد غمني في هذا الزمان أن العلماء؛ لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روي(1).

وقال (أحمد محمد شاكر) في تقديمه لمسند أحمد بن حنبل: »إن الإمام أحمد شرع في جمع المسند فكتبه في أوراق مفردة، وفرقه في أجزاء منفردة على نحو ما تكون المسودة، ثم جاء حلول المنية قبل حصول الأمنية، فبادر بإسماعه لأولاده وأهل بيته، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه، فبقي على حاله، ثم إن ابنه عبد الله ألحق به ما يشاكله، وضم إليه من مسموعاته ما يشابهه ويماثله، فسمع القطيعي من كتبه من تلك النسخة. على ما يظفر به منها قوقع الاختلاط من المسانيد والتكرار من هذا الوجه قديما «(2).

ص: 440


1- صيد الخاطر، 300- 301
2- أبو رية: أضواء على السنة، 301.

وكان وجود تلك الأحاديث الضعيفة والمكذوبة هو ما دفع ابن حجر ليؤلف كتابه القول المسدد في مسند أحمد فقد قال في مقدمته: سألني بعض أصحابنا، من مقلدي مذهب الإمام أحمد بن حنبل، في سنة خمسين وسبعمائة أو بعدها بيسير أن أفرد له ما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل من الأحاديث التي قيل فيها، إنها موضوعة، فذكرت له أن الذي في المسند من هذا النوع أحاديث ذوات عدد ليست بالكثيرة، ولم يتفق لي جمعها، فلما قرأت المسند في سنة ستين وسبعمائة، وقع كلام: هل في المسند أحاديث ضعيفة أو كله صحيح؟ فقلت: إن فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وإن فيه أحاديث يسيرة موضوعة، فبلغني بعد ذلك أن بعض من ينتمي إلى مذهب الإمام أحمد أنكر هذا إنکارا شديدا، من أن فيه شيئا موضوعا، وعاب قائل هذا. ونقل عن الشيخ تقي الدين بن تيمية، أن الذي وقع فيه من هذا، هو من زيادات القطيعي، لا من رواية الإمام أحمد، ولا من رواية ابنه عبد الله عنه؛ فحرضني قول هذا القائل على أن جمعت في هذه الأوراق، ما وقع في المسند من رواية الإمام أحمد ومن رواية ابنه عبد الله مما قال فيه بعض أئمة هذا الشأن إنه موضوع، وبعض هذه الأحاديث مما لم يوافق من ادعى وضعها على ذلك، فأبينه مع سلوك الإنصاف (1).

فإذا كان هذا حال مسند أحمد بن حنبل من حيث كونه کتاب حديث فما درجة مقبوليته في الجنبة التاريخية؟

أما ما يتعلق بالمسور بن مخرمة على وجه الخصوص، فهو: أبو عبد الله بن مخرمة بن نوفل من بني زهرة بن كلاب القرشي. ولد في السنة الثالثة للهجرة؛ إذ كان عمره (8 سنوات) عند وفاة النبي صلی الله علیه و آله . كان من أنصار عثمان بن عفان، ومن سعي مع خاله عبد الرحمن بن عوف لإيصاله إلى السلطة، ومن ثم كان مبعوثه إلى معاوية لمرتين؛

ص: 441


1- القول المسدد، 8.

ليعلمه أنه محصور، ويأمره أن يبعث إليه جيشا سريعا يمنعونه. كان ممن لام معاوية وذمه لأنه لم يسارع لنجدة عثمان (1)، ويبدو أنه انحاز لمعاوية فيما بعد(2). كان من المنحرفين عن علي 7وكان الخوارج يعظمونه وينتحلون رأيه. وقد لحق بآل الزبير وحضر حصار عبد الله فأصابه حجر المنجنيق فمات(3).

أما ما يتعلق بالخبر فلعل ما يؤكد عدم حجيته أن أحمد بن حنبل رواه في كتاب العلل (4).

والعلة في اصطلاح المحدثين أسباب قادحة في صحة الحديث. والحديث المعلل والمعلول: هو الحديث الذي أطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهرة السلامة منها ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنظم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم لغير ذلك؛ بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه. على أن العلة قد تقع في إسناد الحديث أو في متنه، وقد يقدح ما يقع في الإسناد في صحة الإسناد والمتن کلاهما، كما في التعليل بالإرسال والوقف. وقد يقتصر على القدح في الإسناد دون المتن. وقد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل، ولذلك نجد في كتب العلل كثيرا منالجرح بالكذب والغفلة

ص: 442


1- ابن سعد، الطبقات، 521 - 524.
2- الزبير بن بكار: جمهرة نسب قريش وأخبارها، 313- 314؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 5 / 245.
3- الزبير بن بكار: جمهرة، 313.
4- 351/3

وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح. ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة، الضابط حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحیح معلول كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ(1).

هذا فضلا عن أن الاختلاف في ألفاظ الخبر ومناسبته لهو مما يوجب التوقف فيه؛ فمع ورود الخبر من شخص واحد، نجده يرد بصيغ مختلفة عن بعضها، وفي الثالثة بمناسبة لم تذكر في الروايتين الأوليين !؟ وبحسبها تحدث بالخبر بعد مضي أكثر من 50 سنة. فهل ظل هذا الخبر محفوظا في ذاكرة المسور طوال هذه السنين، من دون أن يبوح به؟ من الغرابة أنه لم يحدث به طوال هذه الخمسين سنة! وهو في هذه الصيغة، يصرح بما يتقارب مع الأسباب الموجبة للعلة، المقتضية رفض الحديث. فقد تفرد المسور بن مخرمة برواية هذا الخبر، على الرغم من أنه يدعي أن النبي صلی الله علیه و آله، قال: ما قال من التعريض والتقريع بالإمام وهو يخطب المسلمين في مسجد المدينة، فهل كان المسور هو الحاضر الوحيد، أم السامع الوحيد!؟

اضف لذلك فإن مسألة العمر تفرض إشكالا آخر؛ ولذلك قال ابن سيد الناس: «وقع في هذا الحديث قوله عن المسور وأنا يومئذ محتلم! وهو وهم!؛ فإن المسور من ولد في السنة الثانية من الهجرة بعد مولد ابن الزبير بأربعة أشهر فلم يدرك من حياة النبي إلا نحو الثمانية أعوام ولا يعد من كانت هذه سنه محتلما«(2).

وقال ابن حجر: «والمسور لم يحتلم في حياة النبي؛ لأنه ولد بعد ابن الزبير فيكون عمره عند وفاة النبي ثماني سنين ! أو يحمل قوله محتلم على المبالغة والمراد التشبيه وإلا

ص: 443


1- ابن الصلاح: مقدمة، 259 - 262.
2- عيون الأثر، 366/2

فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم إلا أن يريد بالتشبيه أنه كان كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ»(1).

هذا فضلا عن عدم اتساق مفاصل الرواية، فبينا كان المسور يطلب الاحتفاظ بسیف الرسول - ولست أدري هل أبقى القوم شيئا للعائلة النبوية لم ينهبوه ليبقوا على ذلك السيف !؟ - تتحول الرواية مباشرة للتحدث عن تلك الخطبة المزعومة، مما يكشف عن ارتباك واضح في متن الرواية. فيما الرابط بين الموضوعين؟! ثم إنه لم يحدد أي من بنات أبي جهل خطبها الإمام عليه السلام وإن كانت المصادر التي ترجمت لجويرية قالت إنها هي من خطبت من قبله(2).وأضافت أنها تزوجت بعد ذلك من عتاب بن أسيد(3). وولدت له ولده عبد الرحمن في أواخر حياة النبي صلی الله علیه و آله مما يعني أنها تزوجت على أعلى التقادير خلال (9 - 10ه-) ولابد من أن الخطبة المزعومة قد حدثت قبل هذا التاريخ؛ فيكون حينها عمر المسور بن مخرمة، على أعلى التقادير (6 - 7 سنوات). أي إنه أقرب لأن يكون طفلا منه لأن يكون محتلما !؟

أليس من الغريب أن يختص طفل صغير برواية حادثة بلغت من الأهمية أنها أثارت من تسالم المسلمون على أنها سيدة نساء العالمين !؟ و من تسالوا على أنه لا ينطق عن الهوى، وأنه رحمة للعالمين!؟ إذ لا نجد لها أي ذكر في أدبيات المسلمين إلا من خلال رواية هذا الطفل الصغير؟؟ وعليه فإن ولوجها للتدوين من هذا الطريق دون غيره يؤكد كذبها وعدم حدوثها من الأساس.

ص: 444


1- فتح الباري، 9/ 286
2- ابن سعد، الطبقات، 249/10 ؛ الزبير بن بكار: جمهرة نسب قریش، 471؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 3/ 308؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 531؛ ابن حجر: الإصابة 8/ 72.
3- أسلم يوم الفتح مكة، فاستعمله النبي على أهلها، فبقي بمنصبه حتى وفاته في نفس اليوم الذي توفي به أبي بكر. ابن سعد، الطبقات، 6/ 34- 35.

هذا فضلا عن أن النص القرآني تارة والحديث النبوي تارة أخرى يفندان هذه الدعوى جملة وتفصيلا ولما توحيه من تعكر صفو العلاقة بين أفراد البيت النبوي. فقد شهدت تلك العلاقة حالة من الانسجام والوئام، دعت أصدق القول بأن يشهد بمثاليتها وتجانسها، وتماهي ذواتها مع بعضهم البعض. إذ روى أحمد بن حنبل أن النبي صلی الله علیه و آله: أقبل، ومعه علي وحسن وحسين، آخذا كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدني عليا وفاطمة فأجلسهمما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه أو قال: كساء ثم تلا «إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيَذْهَبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهلَ البَيتِ ويُطَهِّرُكُم تَطْهِيراً»(1).وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق(2). ولتأكيد تلك المشاكلة وتركيزها في نفوس المسلمين كان بعد نزول تلك الآية «يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»(3).

ومن ثم أكد القرآن الكريم سريان حقيقة ذلك التاهي واستمراره؛ فصدح بعد

ص: 445


1- الأحزاب / 33.
2- مسند، 4 / 107. وينظر: ابن أبي شيبة، المصنف، 501/7 ؛ إسحاق بن راهويه: مسند، 3/ 678؛ مسلم: صحيح، 130/7 ؛ الترمذي: سنن، 5/ 30 - 31؛ النسائي: خصائص أمير المؤمنين، 85؛الدولابي: الذرية الطاهرة، 149 - 150؛ الطبري: جامع البیان، 9/22؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 433؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 416؛ 3/ 133؛ البيهقي: السنن الكبرى، 2/ 149 - 152؛ الواحدي النيسابوري: أسباب النزول، 239؛ الخوارزمي: المناقب، 60 - 61.
3- مسند، 3/ 259، 285؛ فضائل أهل البيت، 485 - 486. وينظر : ابن أبي شيبة، المصنف، 7/ 527؛ الترمذي: سنن، 5/ 31؛ الضحاك: الآحاد والمثاني،360/5 ؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 7/ 60؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 56، 402؛ الطبري: جامع البیان، 9/22 ؛ الخوارزمي: المناقب، 60؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 521/5 - 522؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 395؛ المزي: تهذیب الكال، 35/ 250 - 251؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 134؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 224؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 387/5 - 388.

سنين خمس - على اعتبار ارتباط حديث الكساء بآية التطهير المنتمية لسورة الأحزاب التي حكت حيثيات المعركة في السنة الخامسة، وما يشعر به جو الرواية من صغر سن الحسنان يوم المباهلة - أي في السنة العاشرة بأن الإمام علي7نفس رسول الله6 وأن ولديه هما أبناء رسول الله وأن فاطمة عليها السلام هي ذلك الرباط الوثيق والنواة، التي امتزجت وتكونت من خلالها ذلك التماثل. قال تعالى: «فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ»(1).

وفيها بين هاتين الشهادتين نجد ذلك التماهي ووحدة الذات لا يستثني إلا النبوة، فيصرح النبي صلی الله علیه و آله أن المدينة - بما تمثله من مركز قيادة للدولة، والأمة الإسلامية حينها، لايصلح أمرها إلا ببقائه، أو بقاء الإمام علي عليه السلام؛لأن تواجده فيها يقوم مقام تواجد النبي صلی الله علیه و آله، فيخاطبه بعد أن يستخلفه في المدينة ويسير إلى تبوك(2) في السنة التاسعة للهجرة: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي(3). ومن ثم يشدد ويؤكد أن عليا عليه السلام کنفسه فيكلفه بتبليغ سورة براءة ويقول: لا يبلغ عني غيري أو رجل مني(4). وثالثة يشركه في منزلة الولاية على المسلمين، فيصرح في حجة

ص: 446


1- آل عمران / 61.
2- موضع أو حصن بين وادي القرى والشام. قيل هو موضع الأيكة التي ذكرت في القرآن في قصة شعيب (ع). یاقوت الحموي: معجم البلدان، 14/2 ، 15.
3- الطيالسي: مسند، 29؛ أبو جعفر الإسكاني: المعيار والموازنة، 219 - 221؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 496؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 179؛ 3/ 32؛ 6 369، 438؛ مسلم: صحيح، 12/7 ؛ ابن ماجة: سنن، 1 / 45؛ الترمذي: سنن، 304/5 ؛ النسائي: فضائل، 53؛ السنن الكبری، 44/5 -45؛ أبو يعلى الموصلي مسند، 2/ 87، 99؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 396.
4- أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 3؛ النسائي: السنن الكبری،129/5 ؛ خصائص، 53؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 100؛ الطبري: جامع البيان، 10 / 85؛ تاریخ، 3/ 123؛ ابن حبان: صحيح، 15 / 17؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 14/ 322؛ ابن حجر: فتح الباري، 8/ 239.

الوداع: من کنت مولاه فعلي مولاه. ويرفع عقيرته بالدعاء له: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(1).

إذن فالمشاكلة والتاهي بين الذاتين المقدستين قائمة، ومستوعبة، بأوضح وأصدق تجلياتها، ما افترض من بعد تقریبي لزمن وقوع الخطبة المزعومة. وإلا أن يمتدح النبي صلی الله علیه و آله شخصا بالأمس، ويعرض به واليوم! أو يمتدحه اليوم وهو بالأمس يعرض بها من دون ارتكابه ما يوجب التعريض به ! ففيه إساءة لشخص النبي صلی الله علیه و آله قبل أن تكون إساءة لشخص الإمام عليه السلام. ولكن هذا لم يكن ليهم واضعي هذه الرواية ومروجيها! فكم أساءوا للنبي صلی الله علیه و آله ليمدحوا رؤوس الكفر والنفاق فضلا عن التعريض بالإمام علي عليه السلام. فهذا أبو هريرة يجعل من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله الذي يصفه القرآن بأنه على خلق عظيم سبابا وشتاما ولعانا ! يسب المسلمين ويشتمهم ويلعنهم ويجلدهم عندما يغضب؛ ليوجد فضيلة لمعاوية، ويجمل شيئا من صورته فيروي أنه قال:

اللهم إنما محمد بشر يغضب، کما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو شتمته أو جلدته، فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة !(2)، وفي لفظ : فأيما مؤمن سببته(3).

ص: 447


1- الإسكافي: المعيار والموازنة، 211 - 212؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 499، 503؛ أحمد بن حنبل : مسند، 1/ 118 - 119؛ 4 / 368 - 373؛ 5/ 370؛ ابن ماجة: سنن، 1/ 43؛ النسائی: فضائل الصحابة، 15؛ خصائص، 112 - 128؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 376؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 109، 116، 371.
2- أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 493 ، مسلم: صحیح، 8/ 26؛ ابن حبان: صحيح، 14 / 447؛ البيهقي: السنن الكبری، 61/7
3- البخاري: صحيح، 7/ 157؛ مسلم: صحیح، 8/ 26؛ ابن حبان: صحيح، 14/ 446 البيهقي : السنن الکبری، 61/7

وفي رواية عن عائشة قالت: «دخل علي النبي رجلان فاغلظ لهما وسبهما! قالت: فقلت: يا رسول الله لمن أصاب منك خيرا ما أصاب هذان منك خيرا! فقال: أوما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل؟ قال: قلت: اللهم أيما مؤمن سبته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له مغفرة وعافية و كذا وكذا»(1).

كل هذا الطعن بشخص النبي صلی الله علیه و آله ليخرجوا معاوية من دائرة، قول النبي صلی الله علیه و آله وقد رأى أبا سفيان يركب جملا، ومعاوية يقوده، ويزيد يسوقه: «لعن الله القائد والراكب والسائق»(2)، وأن بني أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن (3)، وقوله: لا أشبع الله بطنه (4)

ولم يخجل ابن كثير من التصريح بذلك!! فقال: وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه. أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا كان يأكل في اليوم سبع مرات یجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل، فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا! وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك! وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة. أن رسول الله قال: اللهم

ص: 448


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 89/7 ؛ أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 45.
2- الطبري: تاریخ، 10/ 57 - 58؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 15 / 175.
3- الطبري: تاریخ، 10/ 57 - 58؛ السمعاني: تفسير، 3/ 256؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 9/ 220؛ ابن كثير: تفسير، 3/ 52؛ ابن حجر: فتح الباري، 8/ 302؛ السيوطي:الدر المنثور، 4 / 191؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 1/ 51. وينظر : الثعلبي، الكشف والبيان، 9/ 13؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 1/ 360؛ الرازي: مفاتح الغيب، 28 / 23؛ القرطبي: الجامع، 16 / 197؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 4 / 148.
4- الطيالسي: مسند، 359؛ مسلم: صحیح،27/8 ؛ ابن حيان: طبقات المحدثين بأصبهان، 3/ 34؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1421.

إنما أنا بشر فأيما عبد سيبته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة، وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة. فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية! ولم يورد له غير ذلك(1).

ومثال ذلك ما حرف من تكنية النبي صلی الله علیه و آله للإمام علي عليه السلام بأبي تراب. ففي الوقت الذي تشير المصادر تكنيته بها في غزوة ذات العشيرة في السنة الثانية للهجرة؛ إذ روي عن عمار بن یاسر أنه قال: كنت أنا وعلي ابن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلما نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل، فقال لي علي ابن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون؟ فقلت: إن شئت. فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل، وفي دعاء من التراب فنمنا، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله يحركنا برجله، وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله لعلي بن أبي طالب: مالك يا أبا تراب؛ لما يرى عليه من التراب(2).

حاول بعضهم تحریف ذلك بادعاء أنه إنما کني بهذه الكنية لأنه خاصم فاطمة عليها السلام وخرج من البيت ونام في التراب، فجاء النبي صلی الله علیه و آله وأيقظه ولقبه بذلك اللقب. أو أنه كان عندما يغضب على فاطمة عليها السلام يضع التراب على رأسه فلقب بأبي تراب(3).

ص: 449


1- البداية والنهاية، 128/8
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 599 - 600؛ أحمد بن حنبل، مسند، 4 / 264؛ النسائي: السنن الکبری، 5/ 153؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 114/3 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 32/ 243؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 364/1 . وباختصار عند: ابن سعد، الطبقات، 9/2 ؛ البلاذري: أنساب الأشراف 345/1
3- البخاري: صحیح، 1/ 114، 4/119/7،208 ، 140؛ مسلم: صحيح، 124/7 ؛ البيهقي : السنن الكبری، 2/ 446؛ الديار بكري: تاريخ الخميس،364/1

ويكفي لتكذيب كل هذه المفتريات أن الحسن البصري - وهو من أنصار الأمويين ومحبيهم - علق على ذلك فقال: حاول بنو أمية عن طريق خطبائهم أن يسبوه بهذه الكنية على المنابر، وجعلوها نقيصة له ووصمة عليه، فكأنها كسوه بها الحلي والحلل(1). وليس ثمة شك في أن الأمويين والعباسيين حاولوا جاهدين إزاحة صورة الإمام علي 7 من التاريخ حتى أن كبار فقهائهم كانوا لا يجرأون على ذكر اسمه أو آرائه الفقهية! وهذا ما صرح به الحسن البصري - فقيه الأمويين - وأبي حنيفة النعمان - فقیه العباسيين -. كان الأول يقول: أخبرنا أبو زينب!؛ لأن من كان يذكره باسمه يعاقبه بنو مروان! وقال الثاني: كان علي لايذكر في ذلك الزمان باسمه، وكانت العلامة فيه بين المشايخ أن يقولوا قال الشيخ كذا؟(2).

على أية حال يظهر أن واضعي الخبر تناسوا أن المرأة ظلت مشركة حتى السنة الثامنة للهجرة! وأسلمت كما أسلم قومها كرها وخوفا، حتى أنها قالت وقد سمعت بلالا يصدح بالأذان على ظهر الكعبة: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة. وروي أنها قالت: لقد رفع الله ذكر محمد وأما نحن فسنصلي ولكن لا نحب من قتل الأحبة»(3).وقالت: «لقد جاء لأبي الذي جاء لمحمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه»(4). إذن فهي بقيت تحمل قناعات الشرك وإن أعلنت ظاهرا الإسلام. فكيف يقدم من لم يشرك بالله طرفة عين على خطبة مشركة؟! والقرآن قد نهى المسلمين عن ذلك. فمن باب أولى أن لا يتقدم المسلمون لخطبة الكوافر والمشركات. فكيف

ص: 450


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11/1 - 12.
2- المكي: مناقب الإمام الأعظم، 171/1
3- ابن الأثير: الكامل، 2/ 254؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 17 / 283؛ المقريزي : إمتاع الأسماع، 1 / 396
4- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 17 / 283؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 13 / 385؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3/ 55.

بمن هو روح وجوهر الإسلام؟! نعم تصبح الأمور كذلك عندما يعجز الأمويون عن إيجاد ما يقدحون به عليا علیه السلام. ولعل رائحة الوضع الأموي تنفث بوضوح من ذیل الرواية وما تضمنه من مدح لأبي العاص، بأنه وفي وصادق، قبالة الإمام الذي لم يكن كذلك بزعم الرواية!

- فهو ذلك الشخص الذي بقي مكذبا و معاندا لله ولرسوله طيلة (13 سنة) في مكة!

- وهو ذلك الشخص الذي وقف متفرجا دون حراك وهو يرى من أدعي أنه كان وفيا لها - زینب بنت رسول الله - وهي تضرب من قبل هبار بن الأسود(1)، الذي لم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وأهريقت دما!؟ وفي رواية أنه ضربها على ظهرها بالرمح، وكانت حاملا فأسقطت جنينها(2). فلم يذكر التاريخ أنه حرك ساكنا، أو كان له حضور أو اعتراض ولو بحرف واحد حيال ذلك، وهي لا تزال زوجته كما يدعي.

- وهو ذلك الشخص الذي خرج محاربا لله ولرسوله في بدر! فأسر في المعركة، فافتدته - حسب ما يدعي المؤرخون - زوجته زينب بنت رسول الله بقلادة أمها خديجة علیها السلام فأطلق سراحه كرامة لها ولأمها!

- وهو الذي لم يؤثر فيه وفاء زوجته، وهذا الكرم والتسامح النبوي؛ فأصر على

ص: 451


1- ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. من أعدى أعداء الإسلام، حتى أنه قال: لو أسلمت قريش كلها لم أسلم! سيما بعد أن قتل أخواه زمعة وعقيلا في معركة بدر. وكان أهدر دمه لعداوته لله ورسوله، ثم إنه بعد أن كسرت شوكة قريش جاء معتذرا وأعلن إسلامه فعفي عنه. ابن سعد، الطبقات، 6 / 60 -62
2- ابن سعد، الطبقات، 6 / 61؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 71- 73؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 201؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 3/ 147 - 148؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 2/ 121 - 122؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 273 - 274.

البقاء على الشرك، حتى خرج في قافلة لقريش فأسره المسلمون، فاستجار بزینب فأجارته وساعدته ثانية، ولا يعلم ما سر تمسكها به لعشرين سنة !؟

- وهو ذلك الشخص الذي لم يسلم حتى السنة السابعة، ولكن من الغريب أنه يعود ليختفي من جديد! في الوقت الذي لم يمهل الموت زينب لتهنأ بعودة زوجها إليها!؛ إذ ماتت بعد مدة يسيرة من عودته! في حين يواصل {الصادق الوفي} اختفاءه ! ولا يظهر في أي من حروب المسلمين حتى وفاته عام (12ه-)!(1). إذن إن هناك ثمة ظن بوجود علاقة نسبية بين أبي العاص وبين النبي صلی الله علیه و آله فمن الأكيد أن ليس ثمة شك بأن ما رواه المسور بن مخرمة محض كذب لا أكثر.

ص: 452


1- ابن سعد، الطبقات، 5/5 - 8؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 247.

(5)صورة المرأة الولود وإقصاء الخطاب

قدمت فاطمة علیها السلام على رأس النساء الأربع المکمل في مسار الإنسانية :فاطمة، مریم، خديجة، آسية(1). وكان «Lammens»كثيرا ما أكد على الرغبة السامية في الحصول على عدد كبير من الأولاد. وعليه فأمام غزارة الولادة - على قصر المدة - عند السيدة فاطمة علیها السلام وكونها دليلا وحجة واضحة بينة على كذب كل مزاعم « Lammens» السابقة بشأن ضعفها، وشخصيتها الهزيلة لم يكن أمامه إلا التشكيك بها ونفيها. فحقيقة ولادتها لمجموعة من الأبناء، شكلت إزعاجا للصورة التقويضية المتبناة سيما وأنه يعمل القضاء على كل ملمح حسن يراه في تلك السيرة، التي تبنى تلوينها بألوان قاتمة تماما ! عبر آليات الانتقاء والتكذیب وتضليل المخاطب بدعوی تواجد تلك الحقائق في مصادر الاصطفاف المذهبي فحسب، مضافا لعملية الاستدراج والتوجيه، اعتمادا على هشاشة التكوين المعرفي للمخاطب حيال الموضوع! فادعي: أن ولادة الحسنين لم تأتي بأي علامات تحسن في الوضع العائلي المليء بالمشاكل؛ ففاطمة الضعيفة لم تجد القوة الكافية لإرضاع ولديها؛ فألقى أصحاب السير المتملقين العبء على أم الفضل زوجة العباس. وقد أهملوا أن يأخذوا في الحسبان عدم البروز الديني الذي كانت تتصف به شخصية العباس، الذي ظل مقيما في مكة حتى وقت

ص: 453


1- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 11 / 430؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 293؛ الترمذي: سنن، 5/367؛ النسائي: فضائل الصحابة، 74؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 402؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 497؛ 3/ 157 - 158؛ ابن حجر: فتح الباري، 6 / 321. ثم ينظر: ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 527؛ البخاري: صحيح، 4 / 183، 209، 219؛ الترمذي: سنن، 5/ 326؛ الضحاك: الآحاد والمثاني، 5 / 366، النسائي: السنن، 4/ 252؛ فضائل الصحابة، 58؛ ابن البطريق العمدة، 384؛ ابن حجر: فتح الباري 6/321 ، 82/7 ؛ 8/ 103.

الفتح. فكيف استطاعت زوجة العباس أن تتواجد في منزل فاطمة لاعبة دور المرضعة الخاضعة؟ وإذن فكل الوسائل كانت مباحة ووجيهة عند أولئك الكتاب؛ مادامت تؤدي لنسيان ما كان يظهره العباسيون وأتباعهم من ازدواجية تجاه العلويين. وتمنح الوثائق التاريخية فاطمة ولدا ثالثا غير الحسن والحسين وهو محسن، ومع وجوده الافتراضي فإن لدى الكتاب ما يكفي من الحذاقة في جعله يختفي في وقت مبكر جدا. وبشكل عام فإن الشيعة هم من حاولوا إثبات وجوده؛ رغبة من أنصار علي هؤلاء في تكثير فضائل فاطمة واعطائها مزية كثرة الإنجاب. ونتيجة لأفكاره العدوانية التي ملأت رأسه نجد أن عليا رغب بتسمية أولاده باسم «حرب» وهو اسم يدل على التعلق بالحروب، ولكن لم تلاق هذه الرغبة قبولا من قبل صهره الذي بادر بإبدال الاسم إلى أسماء أولاد هارون! أما بالنسبة للحالة المادية للبيت الجديد فهناك أساطير علوية تدعي بأن بيت فاطمة الجديد ما كان ينقصه المال!؛ ففي ذلك الوقت كانت فاطمة قادرة على رفع حالة البؤس التي كان يعاني منها أبو القاسم، إذ قدمت له قطعة من الخبز، وكانت هي الأولى التي يأكلها منذ ثلاثة أيام. حاولت مجموعة أنصار علي، وأهل البيت اختلاق أحداث خرافية ترسم من خلالها أن فاطمة لعبت دورا في معركة أحد، فقد ذكر الواقدي بأنها كانت تضمد جروح النبي في وسط المعركة، ومن الصعوبة تصور إمكانية حضور امرأة هناك، وخاصة إذا كانت تلك المرأة هي زوجة علي الواهنة! وكان لموت حمزة في تلك المعركة الأثر الأكبر في إعادة فتح مصادر دموع فاطمة، ومنذ ذلك الوقت داومت على عادة الذهاب إلى أحد لزيارة قبره كل يومين لأجل البكاء عليه. فكان يتوجب على أم العائلة المريضة أن تحمل أطفالها وتقوم بسفرة شاقة مشيا على الأقدام لتصل هناك. في الوقت الذي كانت ثقافة زيارة القبور غير معروفة بل غير جائزة في صدر الإسلام بدليل أن معاصري فاطمة سرعان ما نسوا موضع قبرها بالضبط؛ عازين سبب ذلك لضياع آثاره، وكذلك فعلوا مع قبر زوجها، وهذا يدل على أن الإسلام في بداياته لم يكن يهتم بالموتى. وبعد مصرع جعفر مثلت

ص: 454

فاطمة دور الباكية المفجوعة، وهل من شخص يجيد لعب هذا الدور أفضل منها(1).

واضح أن «Lammens» ليس فقط يأبى إلا أن يخالف المتواتر النقلي، بل يخالف المنطق العقلي؛ ويناقض نفسه أيضا فبداية العقل والمنطق يحكمان بأن ولادة الحسنين عليهما السلام فضلا عن كونهما يمثلان الامتداد الطبيعي للنبي صلی الله علیه و آله فهما بمثابة التعويض الطبيعي لديه، وهو الأمر الذي كثيرا ما شرق وغرب فيه «Lammens» فادعى أنه كان يعيش تحت وطأة ملاحقة صفة الأبتر، وأنه تزوج بأكبر عدد ممكن من النساء؛ عله يحصل على ولد ذكر يخلد ذكراه؛ لأن هذه المسألة كانت من أولى مدعيات التفاخر في محيط الجزيرة العربية، حتى أنه خلد ذلك في نصوص القرآن، التي تتحدث عن أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وأنه لما يئس من تحقق تلك الأمنية، حاول إيجاد نوع من التعويض بتحريم الوأد، وتبني زيد بن حارثة..! وعليه فبمقتضى تحليله تكون ولادتهما استقبلت من العائلة النبوية بأكثر لحظاتها سرورا وبهجة؟ فهو من قال: إن حبه لأبنيها الحسن والحسين لا ينال منه أدنى شك؛ فوفاة بنات خديجة الواحدة بعد الأخرى واخيرا وفاة ولده إبراهيم ومعاينته لقبورهم التي دفنوا فيها في عمق وادي البقيع الرطب، بالقرب من داره، جعل أولاد فاطمة يمنحوه الأمل الوحيد بحمل اسمه، وهو الهدف الذي يطمع به كل الساميون(2).

وأما من جهة الأبوين فلا شك في أن فرحهما و سرورهما جاوز حد الوصف وهما يمنحان النبي صلی الله علیه و آله بهجة قلبه. وكان من شرف تلك الأبوة أن تفاخر بها الإمام علي علیه السلام معاوية؛ فقد روي أن معاوية كتب قائلا: يا أبا الحسن إن لي فضائل كثيرة، كان أبي سيدا في الجاهلية، وصرت ملكا في الإسلام، وأنا صهر رسول الله، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي، فقال علي : أبالفضائل يفخر علي، ابن اكلة الأكباد! ثم

ص: 455


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 39-46.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 87-88.

قال: اكتب یا غلام:

محمد النبي أخي وصهري *** وحمزة سيد الشهداء عمي

وبنت محمد سکنی وعرسي *** منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ابناي منها *** فمن منكم له سهم كسهمي

فقال معاوية: أخفوا هذا الكتاب! لا يقرأه أهل الشام؛ فيميلون إلى ابن أبي طالب(1).

والأشد غرابة مما تقدم أن (Lammens) يستشهد على عدم إضافة ولادة الحسنين علیهما السلام شيئا من التغيير على ما يدعيه من العلاقة السيئة بين أفراد البيت النبوي! بما أورده (المتقي الهندي في (منتخب کنز العمال 92/5 ؛ 92/6 ) وكان ما أورده هناك أن النبي قال:

- سألت ربي تعالى أن لا يدخل أحدا من أهل بيتي النار فأعطانيها.

- أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي.

- مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.

- من صنع إلى أحد من أهل بيتي يدا کافأته عليها يوم القيامة.

- من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمها كان معي في درجتي يوم القيامة.

- النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي.

- وعدني ربي في أهل بيتي من أقر منهم بالتوحيد ولي بالبلاغ أن لا يعذبهم.

- أثبتكم على الصراط أشدكم حبا لأهل بيتي ولأصحابي.

ص: 456


1- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 521؛ یاقوت الحموي: معجم الأدباء، 1812/4 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 9/8 -10؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 184/21 ؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13/ 112. وينظر: ابن حجر: الصواعق المحرقة، 204.

- إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي،ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

- ما بال أقوام إذا جلس إليهم أحد من أهل بيتي قطعوا حديثهم. والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرئ الايمان حتى يحبهم لله ولقرابتي.

- نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي.

- أنا حرب لمن حاربکم وسلم لمن سالمکم قاله لعلي وفاطمة والحسن والحسين.

- أنا وفاطمة والحسن والحسين مجتمعون ومن أحبنا يوم القيامة نأكل ونشرب حتى يفرق بين العباد.

- إن أول من يدخل الجنة أنا وأنت وفاطمة والحسن والحسين، قال علي: فمحبونا؟ قال: من ورائكم.

- إن فاطمة وعليا والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن.

- إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم، وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي، ويل للمكذبين بفضلهم. من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله.

- من أحب أن يبارك له في أجله وأن يمتعه الله با خوله فليخلفني في أهلي خلافة حسنة، ومن يخلفني فيهم بتك أمره وورد علي يوم القيامة مسودا وجهه.

- يا أنس إن الله تعالى أعطاني الكوثر الليلة، طوله ستمائة عام، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب منه أحد قبلي، ولا يطعمه من خفر ذمتي، ووتر عترتي، وقتل أهل بيتي

- يا أيها الناس! إني فرطکم وإنکم واردون علي الحوض، حوضي عرضه مابين

ص: 457

صنعاء وبصري، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيها، الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض!

يبدو أن «Lammens» يريد القول: إن هذه الأحاديث من وضع الشيعة وإنهم وضعوها لتعويض عدم تمتع العائلة بمحبة المسلمين وتقديرهم! وإلا لما كان هناك داع لهذه التأكيدات! ولكن عليه أولا أن يلغي عقول قرائه أو أن يجد حيلة أكبر لإقناعهم بأن: «أحمد بن حنبل / أبي داود السجستاني / الترمذي / النسائي / ابن ماجة / الحاكم النيسابوري / الطبراني / الخطيب البغدادي / أبي نعيم الأصبهاني / این عساكر / البيهقي.. كلهم شيعة!؛ لأن الأحاديث التي أوردها المتقي الهندي في منتخب کنز العمال مأخوذة من مصنفاتهم بحسب ثبت الرموز في أواخرها(1).

أما أن فاطمة عليها السلام لم تكن قادرة إرضاع الإمام الحسن عليه السلام فهو يناقض نفسه بنفسه! ويبقي على رأيه في المسألة وهو في غاية الاضطراب والتفكك !؛ فقد استبعد أن تكون المهمة أوكلت لأم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب (2)، لأنها لم تحضر وزوجها إلى المدينة إلا في وقت متأخر؛ إذ بقيا على شرکهما في مكة حتى السنة الثامنة للهجرة(3). إذن فهو حين حضورها كان بلغ السنة الخامسة من عمره! وإن كان الارضاع متعلقا بالإمام الحسين عليه السلام كما في رواية (4)، يكون حينها بلغ سنته الرابعة!

ص: 458


1- عن تلك الرموز أو الاختصارات تنظر مقدمة المؤلف، 1/ 7-8
2- ابن سعد، الطبقات، 10/ 264؛ أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 34؛ البلاذري:أنساب الأشراف، 4 / 85؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 20، 23؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 14/ 114؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 2/ 10، 3/ 242؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 1 / 418، 419.
3- ابن سعد، الطبقات، 10 / 264.
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 264؛ الطبراني: المعجم الكبير، 25/ 26؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 45.

وكان ابن حجر شكك بذلك الارضاع؛ اعتمادا على الفارق العمري بين قثم، والإمام الحسن علیه السلام(1). ومع أن من ترجم لقثم بن العباس لا يسعفنا في بيان وقت ولادته أو عمره حين ولادة الإمام الحسن علیه السلام إلا أن هناك إشارة تؤدي لإدراك الفارق العمري بينهما! وتزيد من تأكيد عدم حصول الارضاع. فقد روى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنه كان وقثم وعبيد الله ابنا العباس يلعبون، فجاء النبي صلی الله علیه و آله. فجعل عبد الله أمامه - يتضح أنه كان راكبا - ثم قال: ارفعوا هذا يعني قثم، فجعله وراءه، ثم استحیی النبي صلی الله علیه و آله من عمه العباس أن حمل قثم وترك عبيد الله وكان أحب إلى العباس من قثم (2)

وبالعودة إلى تاريخ ولادة عبد الله بن جعفر نجد أنه ولد في الحبشة(3). وعبید الله بن العباس كان أصغر من أخيه عبد الله بسنة واحدة وكان الأخير وقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي عام (68ه-) وهو ابن (71سنة)(4). أي: إن عبيد الله ولد قبل الهجرة بسنتين. وإن كان قثم بن العباس ولد بعد أخيه عبيد الله وهو ما يوحي به ترتيبهم عند ابن سعد والزبيري والبلاذري(5) .وكذلك ما توحي به رواية لعبهما مع عبد الله بن جعفر، يكون ولد قبل الهجرة بسنة، وبالنتيجة يكون عمره حين ولادة الإمام الحسن علیه السلام أربع سنوات. إذن فمن المستحيل أن تكون أمه - أم الفضل -

ص: 459


1- الإصابة، 5/ 320، 321.
2- ابن سعد، الطبقات، 6 / 349، 350؛ البخاري: التاريخ الصغير،171/1 ؛ ابن حجر: الإصابة، 4/331. وباختصار عند: المصعب الزبيري: نسب قریش، 1/ 27.
3- ابن سعد، الطبقات، 462/6 ؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 214؛ ابن قتيبة: المعارف، 206؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 299؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 880؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 27 / 250؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 9/ 34؛ 11 / 71؛ ابن حجر: الإصابة، 15/8 ؛ تهذيب التهذيب، 149/5
4- ابن سعد، الطبقات، 6 / 345 - 348؛ المصعب الزبيري: نسب قریش، 1/ 26 - 27.
5- الطبقات، 6 / 320 - 351؛ نسب قریش، 26 - 28؛ أنساب الأشراف، 4 / 31- 90.

أرضعت الإمام الحسن علیه السلام بلبن ولادته. وبما أن المصادر لم تذكر أي شخصية غيرها في موضوعة الارضاع؛ بهذا يتأكد أن فاطمة علیها السلام هي فقط من تولت إرضاع أبنائها ومن الغريب أن «Lammens» رغم شکه، ولهجته الساخرة والشديدة حيال المسألة وترجیحه أنها إنها وضعت ووظفت لتحسين الوضع وتخفيف حدة الخلافات والعداوة بين العباسيين في بغداد والخلافة الفاطمية في مصر (1)- ولنا وقفة مع هذا الترجيح - لا ينفي القصة، بل راح يبني عليها نتائجه الخاصة، ويقرر بلهجة المطمئن المقتنع تماما! أن فاطمة علیها السلام لم تستطع أن ترضع أولادها! من دون أن يقدم بديلا لمن قام بعملية الارضاع تلك ؟! والأدهى من ذلك أنه يعود للاستخفاف بالعقلية العربية الإسلامية التي استغفلها، واستغل سذاجتها مؤلفو تلك السير! فيقول: وقد نجح كتاب السيرة نوعا ما في استغلال سذاجة العقلية العربية الإسلامية، وقد أسهمت هذه السذاجة بالجرم مع أولئك الكتاب الراغبين بإزاحة كل ما يعرقل طريقهم من عقبات، ولغرض التخلص من صرامة الرأي العام واستهجانه!(2).

أما أن الشيعة فقط من يقولون بوجود المحسن. فهذا من المخالفات والمغالطات الصريحة والعديدة التي ادعاها «Lammens» فبغض النظر عن كونه ولدا أم أسقط يوم مهاجمة الدار. نرى المصادر السنية وبضمنها مصادر « Lammens »الأساس تتحدث عن وجوده؛ فقد روت عن الإمام علي علیه السلام أنه قال: لما ولد الحسن سميته حربا فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حربا. قال: بل هو حسن. فلما ولد الحسين سميته حربا فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حربا . قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث سميته حربا، فجاء النبي، فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حربا. قال: بل هو محسن، ثم قال: سميتهم بأسماء ولد هارون شبر

ص: 460


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p,41.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 41

وشبير ومشبر (1).

إذن ما يدعيه «Lammens» يناقض الحقيقة وعموم المصادر التاريخية! والأدهی من ذلك أنه ينفي وجود المحسن، عندما يريد الاشعار بضعف فاطمة عليها السلام البدني، وأنها لم تكن ولودة لضعفها، ويعترف بوجوده عندما يوظف الرواية للإشعار بأن الإمام علي كانت تتملكه الأفكار العدوانية! فيقول: نتيجة لأفكاره العدوانية، التي ملأت رأسه، نجد أن عليا رغب بتسمية أولاده باسم حرب. وهو اسم يدل على التعلق بالحروب، ولكن لم تلاق هذه الرغبة قبولا من قبل صهره، الذي بادر بإبدال الاسم إلى أسماء أولاد هارون! فكم هي منهجية مفتقرة لأدنى مقومات البحث التاريخي، وكم هي طروحات متناقضة متضاربة متقاطعة، عارية عن أدنى درجات الموضوعية والعلمية هذه التي يقدمها «Lammens».

أما دعواه أن الكتاب الشيعة حاولوا إظهار بيت علي وفاطمة بأنه بیت میسور اقتصاديا ولم يكن ينقصه المال! فهذا من تهويلاته الكثيرة التي يبتنيها على أي إشارة يلتقطها مهما كانت واهية؛ وإلا هل يعني تقديم قطعة من الخبز أن بيت السيدة فاطمة

ص: 461


1- ابن سعد، الطبقات، 6 / 356؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 98؛ البخاري: الأدب المفرد، 177 - 178؛البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 404؛ 2/ 411؛ ابن أبي خيثمة: التاريخ الكبير، 2/ 87؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 99؛ ابن حبان: صحیح، 410/15 ؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 96 – 97؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 165؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6/ 166؛ 7/ 63؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 1/ 384؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13 / 170 - 171، 14/ 118؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 10/2 ؛ 4/ 308؛ ابن منظور، لسان العرب، 4 / 393؛ المزي: تهذيب الكمال، 6/223؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 5 / 94؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 366/7 -367؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 2/ 275؛ ابن حجر: الإصابة، 191/6 - 192؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 660؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 359/9 ؛ 11 / 55 - 56 الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 583. وينظر : الطبري: تاریخ، 153/5 ؛ ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، 14، 33.

عليها السلام كان يعيش رفاها اقتصاديا ولا يعوزه المال؟! أما نفيه لدور السيدة فاطمة عليها السلام في معارك الإسلام الأولى! فهو اجتهاد قبالة النص بدون دليل يذكر! أما أن معاصري السيدة فاطمة والإمام علي عليهما السلام سرعان ما نسوا موضع قبريهما!؛ لضياع آثارهما، ولأن الإسلام في بداياته لم يكن يهتم بالموتی وزيارة القبور؛ فهذا من القفز على النص! وتأويلاته المغرضة وما أكثرها!؛ فمن الثابت أن السيدة فاطمة عليها السلام دفنت في الليل، وبصورة شبه سرية - بطلب منها؛ لأنها لم ترد لمن ظلمها أن يحضر جنازتها - اقتصرت على أهل بيتها وبعض شیعتهم؛ فقد روي عن السيدة عائشة وغيرها أنها قالت: دفنت فاطمة بنت رسول الله ليلا ، دفنها علي، ولم يشعر- وفي لفظ لم يؤذن - بها أبي بكر حتى دفنت! وصلى عليها علي(1). أما الإمام عليه السلام فهو الآخر شیعه أهل بيته وبعض شیعته، وأخفي قبره، مخافة أن ينبشه الخوارج، فلم يعرف موضعه (2).

ص: 462


1- الصنعاني: المصنف، 5 / 472؛ ابن سعد، الطبقات، 10 / 30؛ ابن شبة: تاريخ المدينة، 1/ 197؛ البخاري: صحيح، 5 / 82، 83؛ الطبري: تاریخ، 2/ 448؛ ذيل المذيل، 91؛ ابن حبان: صحيح، 11/ 153؛ الثقات، 2/ 170؛ الطبراني: مسندالشاميين، 4/ 198؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 162؛ أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 42/2- 43؛ البيهقي: السنن الكبرى، 4/ 29؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 6/ 46؛ 16 /280؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 4/ 568؛ البداية والنهاية، 307/5 ؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 278؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 687.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 257؛ ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/ 181؛ ابن عساکر، تاریخ، 42/ 566؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 651؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 365/7 ؛ اليافعي: مرآة الجنان، 1/ 89؛ العيني: عمدة القاري، 2/ 148؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء، 141، الصواعق المحرقة، 206؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 350.

(6)فاطمة عليها السلام وعائشة.. تحيز النص وتقرير الخطا

عمل « Lammens» على التقاط الأخبار والأحاديث المروية، والموضوعة على لسان أو لحساب عائشة (1)، وتوظيفها؛ لإبراز هامشية الدور والمكانة التي تحتلها السيدة فاطمة عليها السلام مقابل قوة حضور وفاعلية السيدة عائشة. وطبعا هو لم يفعل ذلك انتصارا للأخيرة، إنها رغبة بإزاحة صورة السيدة فاطمة عليها السلام کمرأة مثال تزاحم العذراء مريم عليها السلام على أنه يعلم - تمام العلم - أن تلك الملتقطات والرواشح إنما أفرزها السعي الطويل والحثيث، ضمن المؤسسة السياسية والروائية والتدوينية لعزل وتغييب وتشويه صور أهل البيت عليهم السلام ومرجعياتهم الدينية والفكرية كعنصر فاعل في مسار الأحداث التاريخية الإسلامية. ولكنه لم يكن ممن ينشدون الوصول إلى الحقيقة، فقدم تلك الروايات على أنها مسلمات وحقائق تاريخية لا جدال ولا نقاش فيها !؛ ليعرض فكرة فشل فاطمة عليها السلام - رغم محاولاتها المتكررة - في إثبات وجودها وحضورها ضمن دائرة صراع وتكتلات نساء أبيها!؛ وليقول إن هذه المرأة التي فشلت في إثبات وجودها، وتأثيرها في هذه الدائرة الضيقة! هي لاشك أفشل وأعجز من أن تثبت وجودها وحضورها وفاعليتها على نطاق التكامل النسوي العالمي؛ وإذن فهي لا تصلح أن تكون امرأة مثالا لغيرها من النساء. وليوحي بهذه الفكرة، ويركزها، عمل على تشويه صورتها بالكامل، وراح يتفنن بتلوين الصورة واللقية الثمينة التي منحتها إياه - وللأسف - مصادرنا الإسلامية للبيت النبوي، على أنه بيت تحيطه الدسائس والمكائد من كل مكان! وأنه كان منقسما بين حزبين رئيسين هما: حزب عائشة وحفصة

ص: 463


1- ينظر: البلاذري، أنساب الأشراف، 409/1- 420؛ العسكري: أحاديث أم المؤمنين عائشة، 1/ 58 -126؛ 2/ 32 - 107، 165- 285.

ومن خلفها أبويهما. وهو الحزب الأقوى والأرجح دائما (1). وحزب أم سلمة والأخريات من زوجاته. واللائي غالبا ما كن يحظين بدعم فاطمة وتأييدها، ولكن من دون جدوی!؛ لعدم كفاءتها، وحب النبي وميله لعائشة! وعلى هذا الأساس خلص إلى القول: إن فاطمة فاقدة للقدرة التي تؤهلها للنجاح في مهام أكثر حساسية، مثل تدخلها في حل المخاصمات التي تنشب بين حریم والدها! هذه البنت لرجل السياسية محمد كان ينقصها الدهاء الواجب توفره في مثل هذه الأمور! ففي بيت أبي القاسم كان هناك حزبان: الأول - حزب عائشة وحفصة، بنتي أبي بكر وعمر، هاتين الدساستين اللتين يتصفان بالمكيدة والمؤامرة. بمواجهة الحزب الثاني: المكون من أزواج الرسول الباقيات المنقسات فيما بينهن، واللائي يجمعهن کرههن لعائشة!؛ بسبب المنزلة التي تحتلها عند الرسول، وبسبب اليأس الذي أصابهن من عدم نجاح احتجاجاتهن عند النبي ضد عائشة! قررن دعوة فاطمة للتدخل، وإيصال تلك الاحتجاجات إلى أبيها ! وكان هذا الاختيار فاشلا وبائسا! وافقت فاطمة على القيام بهذه المهمة، في الوقت الذي كانت علاقة زوجها بعائشة سيئة! فوضعت نفسها وزوجها في موقف سيء للغاية، في مواجهة تلك المرأة ذات الحظوة، أملا في استرداد بعض الاهتمام الذي استولت علیه بنت أبي بكر المتحكمة بشكل كامل. التقت فاطمة بأبيها فقالت له: إني أرسلت من قبل نسائك للمطالبة بالمساواة في المعاملة مع بنت ابن أبي قحافة. فرد محمد: هذا جيد بنيتي، ولكن سعادتي غير سعادتك! وقال لها بحزم: عليك القبول بتصرفاتي تجاه عائشة! انسحبت فاطمة من مهمتها بعد هذا الكلام، وقد أدركت أنها فشلت في مهمتها! فذهبت إلى النساء الأخريات، وأخبرتهن بفشل مهمتها، فصرخن بأجمعهن: لقد خاب سعينا. أما فاطمة فعزمت على عدم التدخل في هذه المسألة مرة

ص: 464


1- كانت هذه الحالة هي الفكرة الأساس التي حاك عليها نظريته حيال الخلافة، في مقالته: « Le Triumvirat Abou Bakr, Omar, et About Obaida = الثالوث: أبو بكر، عمر، وأبي عبيدة). وينظر : ,Melanges de laFaculte Orientale, IV, pp ,113-144

ثانية. وفي أحد الأيام جاء محمد لكي يدخل بيت عائشة، وكان ذلك وقت الغروب، وكانت إحدى زوجاته الأخريات متواجدة هناك وهي أم سلمة، ولم يلاحظ هو وجودها على الرغم من إشارات عائشة التي أجهدت نفسها في محاولة جلب انتباهه لذلك! لم تتمالك أم سلمة نفسها! فصرخت: ونساءك الأخريات أليس لهن قيمة في نظرك؟! وتوجهت مباشرة إلى عائشة تكيل لها الشتائم، وعبثا حاول النبي تهدئتها، ولما يئس من ذلك! قال لعائشة: سبيها وردي على إهانتها ! فلم تتأخر مع مهارتها في إجبار أم سلمة على السكوت! وهرعت أم سلمة غاضبة إلى علي وفاطمة وقالت: إن عائشة تشتمكم، وقالت كذا وكذا، وكالت بحقكم أعظم الاهانات؛ فتوجه علي إلى زوجته قائلا: اذهبيإلى أبيك لتحتجي على موقف عائشة تجاهنا. ونفذت فاطمة الأمر، وبعد أن سمعها محمد علق مجيبا: أقسم برب الكعبة، إنها المفضلة لدى أبيك ! وعندما علم علي بنتيجة المقابلة، توجه بدوره لمقابلة صهره، فقال له: ألا يكفيك أن عائشة شتمتنا، فتقول لفاطمة: أنها المفضلة لديك! فأسرع أبو القاسم لسد الباب الذي يؤدي من محل إقامته إلى بيت فاطمة؛ لكي يضع حدا لتلك المخاصمات. هاتين الحادثتين أسهمتا في تراجع تقييم على لزوجته، ولتراجع التوافق بينهما في الحياة الزوجية؛ فمن الناحية الفكرية كان كلاهما قصير النظر، وغير قادر على فهم ضرورة التسامح المتبادل، ولذلك كان لعلاقتهما مع الرسول وأزواجه، دور في تغذية الشقاق بينهما(1).

لم يقم (Lammens) هنا بأكثر من إعادة صياغة الروايات بلغته وطريقته الخاصة؛ فقد كفاه مؤونة تقرير ما قرره الروايات والأخبار الموضوعة في الفضائل، والتي بثها (أحمد بن حنبل) وغيره في الموروث الإسلامي! فما كان على «Lammens»سوى تصيدها وإعادة انتاجها، وتوظيفها بالشكل الملائم !؛ فقد روي عن عائشة أنها قالت: اجتمعن أزواج النبي، فأرسلن فاطمة إلى النبي، فقلن لها: قولي له: إن نساءك

ص: 465


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 46-48.

ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة! فدخلت على النبي، وهو معي، فقالت له: إن نساءك أرسلنني إليك، وهن ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة! فقال لها النبي: أتحبيني؟ قالت: نعم. قال: فأحبيها، فرجعت إليهن، فأخبرتهن ما قال لها، فقلن: إنك لم تصنعي شيئا، فارجعي إليه، فقالت: والله لا أرجع إليه فيها أبدا، فأرسلنزینب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي. فقالت: إن أزواجك أرسلنني إليك. وهن ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم أقبلت على تشتمني. فجعلت أراقب النبي، وأنظر إلى طرفه هل يأذن لي في أن أنتصر منها، فلم يتكلم، فشتمتني، حتى ظننت أنه لا يكره أن أنتصر منها، فاستقبلتها، فلم ألبث أن أفحمتها. فقال لها النبي: إنها ابنة أبي بکر(1).

وروي عنها أنها قالت: كانت عندنا أم سلمة فجاء النبي، عند جنح الليل، فذكرت شيئا صنعه بيده، وجعل لا يفطن لأم سلمة. وجعلت أومئ إليه حتى فطن. فقالتأم سلمة: أهكذا الآن. أما كانت واحدة منا عندك إلا في خلابة كما أرى وسبتني. وجعل النبي ينهاها فتأبي. فقال: سبيها، فسبتها حتى غلبتها. فانطلقت أم سلمة إلى علي وفاطمة. فقالت: إن عائشة سبتكما. فقال علي لفاطمة: اذهبي إليه فقولي : إن عائشة قالت لنا وقالت لنا. فاتته فذكرت ذلك له. فقال لها النبي: إنها حبة أبيك ورب الكعبة. فرجعت إلى علي، فذكرت له الذي قال لها. فقال: أما كفاك إلا أن قالت لنا عائشة وقالت لنا، حتى أتتك فاطمة فقلت لها إنها حبة أبيك ورب الكعبة(2).

ص: 466


1- أحمد بن حنبل: مسند، 6 / 88، 150 - 151. وينظر : عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 11 / 431 ۔432؛ إسحاق بن راهويه: مسند، 2/ 343 - 344؛ البخاري: الأدب المفرد، 123؛ مسلم: صحيح، 7 / 135 - 137؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 415؛ النسائي: سنن، 65/7 - 66، البيهقي: السنن الکبری، 299/7
2- أحمد بن حنبل، مسند، 130/6

يكفي لرد هذين الخبرين أنهما واردان عن عائشة نفسها؛ فهي كثيرا ما حاولت، أو حاول الآخرون، تجميل صورتها في الحديث النبوي وفي علاقتها بالنبي حتى أنها رسمت - أو رسم على لسانها - أجواء خاصة عن الحياة اليومية والعلاقة الزوجية بينها وبين زوجاته الأخريات. وكان «Lammens» نفسه يشك بها ورد عنها!؛ فقد قال: «يمكن أن يؤخذ على التفاصيل الواردة في السنة حول أسلوب، وظروف التكليف الإلهي الأول الذي تلقاه محمد، أنها نقلت بواسطة عائشة، التي تعد موضع شك حتى بين المسلمين»(1).

وقد مر بنا أنه عدها من أول «كبار الدجالين»في معرض تشکیکه بما ورد في السنة من صفات النبي صلی الله علیه و آله فقال: ينبغي ألا ننسى أن القرآن يشكل الحجة الرئيسة . تقول عائشة: أخلاق النبي؟، ولكنها موجودة في القرآن. لم يبدأكتاب السنة بالتماس ذكريات من بقي من العصر البطولي، بل بفتح كتاب الله لكي يكشفوا فيه ما كانوا يريدون رؤيته؛ حتى إذا تطلب الأمر جعل أفكارهم المسبقة تتفق مع المعلومات الصحيحة تقريبا أو حتى ابتكارها. إن الاستشهاد بأقوال كبار الدجالين: عائشة، ابن عباس، أبو هريرة، في كتاب الشمائل يعزز هذا الاستنتاج (2).

إذن بحسب قاعدة «Lammens» وكون كلامها مشكوكا فيه، وهي أول كبار الدجالين! وهي تحدث عن صفات غيرها وفضائلها، فلماذا لا تكون كذلك وهي تحدث عن مكانتها وفضائلها !؟ أليس من الأولى أن يكون كلامها مشكوكا فيه وهي تحاول خلق المكانة والفضائل لنفسها؟!؛ سيما وأن في الجانب الآخر كما كبيرا من النصوص والروايات الموثوقة التي تدينها وتبين خلاف ما تدعيه! وأنها لم تكن في يوم من الأيام تحظى عند النبي صلی الله علیه و آله بما تحاول الإشعار به ! وعليه « Lammens» هو أول من

ص: 467


1- Qoran et Tradition,P. 14.
2- Qoran et Tradition, P. 20

نسف تقريراته السابقة. ومع ذلك كان من وثاقة النصوص الدالة على تواضع مكانة عائشة، وتدنيها دون مستوى أي من زوجاته الأخريات ! أن تصدرتها الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم:

«یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَکَ ۖ تَبْتَغِی مَرْضَاتَ أَزْوَاجِکَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِیمٌ (1)قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَکُمْ تَحِلَّةَ أَیْمَانِکُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاکُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ (2)وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِیُّ إِلَی بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِیثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَیْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَکَ هَذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِیَ الْعَلِیمُ الْخَبِیرُ (3)إِن تَتُوبَا إِلَی اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِیلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِینَ ۖ وَالْمَلَائِکَةُ بَعْدَ ذَلِکَ ظَهِیرٌ (4)عَسَی رَبُّهُ إِن طَلَّقَکُنَّ أَن یُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَیْرًا مِّنکُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَیِّبَاتٍ وَأَبْکَارًا (5)»

ولعل ذيل الآية الأخيرة ليبين بوضوح تام تواضع مكانة «عائشة وحفصة» اللتين أتفق على أن الآيات نزلت بحقهما(1) ، فقد هددتا بالطلاق والاستبدال بمن هن خير منها: مسلمات / مؤمنات / قانتات / تائبات / عابدات / سائحات. مما يعني أنها كانتا يفتقران لهذه الصفات وإذن فعلام تكون عائشة كما تدعي أفضل أزواجه؟! وقد مر بنا أنها وبخت لأنها ذكرت السيدة خديجة بسوء. ثم إن مصادر المدرسة التي تبنت خلق الفضائل لها وروت الخبرين المتقدمين هي ذاتها تروي(2): أنها كانت

ص: 468


1- عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا على أن اسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله تعالى: أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبکما. حتى حج، وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق، قلت: يا أمير المؤمنين. من المرأتان اللتان قال الله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبکما. فقال: واعجبا لك يا ابن عباس. قال الزهري: کره والله ما سأله عنه، ولم يكتمه عنه، قال: هي حفصة وعائشة. أحمد بن حنبل: مسند، 1 / 33؛ البخاري: صحیح، 3/ 103 - 104؛ 70/6 ؛ مسلم: صحيح، 4 / 192؛ الترمذي: سنن، 5 / 93؛ الطبري: جامع البیان، 204/28 - 207؛ البيهقي: السنن الکبری، 7/ 37.
2- بصرف النظر عن حقيقة تلك المرويات أو صحتها وعدمها؛ فالاحتكام هنا لورود النصوص التي تعكس تلك المكانة من عدمها.

ممتعضة جدا لأن النبي صلی الله علیه و آله لم يدافع عنها في قضية الأفك التي روت أنها حدثت معها! وعبرت عن ذلك بقولها لأبيها بعد نزول قوله تعالى «إِنَّ الَّذِینَ جَاءُوا بِالْإِفْکِ عُصْبَةٌ مِّنکُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّکُم ۖ بَلْ هُوَ خَیْرٌ لَّکُمْ ۚ لِکُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اکْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِی تَوَلَّی کِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِیمٌ »(1)فقالت: «بحمد الله لا بحمدك ولا حمد صاحبك يا أبتاه ألا عذرتني»(2).

وبغض النظر عن كون النبي صلی الله علیه و آله يعلم ببراءتها أو لا يعلم، فإنه لم يدافع عنها ضد متهميها لمدة شهر كامل! ولم يجلس معها، واكتفى بأن قال لها: إن کنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، ثم توبي إليه؛ فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه! فطلبت من أبيها أن يرد على النبي فلم يدر ما يقول، فطلبت من أمها ذلك فلم تفعل شيئا(3)، ولذلك قالت: بحمد الله لا بحمدك ولا حمد صاحبك! إذن - بحسب المصادر التي تبنت خلق الفضائل لها _ لنا أن نسأل : أين الحب المبالغ فيه لها وأين فضلها ومكانتها عنده، وهو لا يكترث لها في أشد ما تكون حاجتها إليه! وأين تلك المكانة وهي تروي: كان بيني وبين رسول الله کلام، فقال: بمن ترضين أن يكون بيني وبينك !؟ أترضين بابي عبيدة بن الجراح!؟ قلت: لا ذاك رجل لين يقضي لك علي! قال: أترضين بعمر بن الخطاب !؟ قلت: لا إني لأفرق من عمر، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله والشيطان يفرق منه! فقال: أترضين بأبي بكر !؟ قلت: نعم! فبعث إليه، فجاء، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : اقض بيني وبين هذه! قال: أنا يا رسول الله !؟ قال: نعم! فتكلم رسول الله فقلت له: أقصد یا رسول الله! قالت: فرفع أبو بكر يده، فلطم وجهي لطمة بدر منها أنفي ومنخراي دما! وقال: لا أم لك فمن يقصد إذا لم

ص: 469


1- النور/ 11.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 419/1
3- أحمد بن حنبل، مسند، 196/6 ؛ البخاري: صحيح، 3/ 156؛5/ 59 ، 8/6 ؛ مسلم: صحیح، 8/116

يقصد رسول الله. فقال النبي: ما أردنا هذا، وقام فغسل الدم عن وجهي وثوبي بيده(1). وأين تلك المكانة والحب، وهو يخبرها بأنها ستخالف أمره وتنبحها كلاب الحوأب(2) فتخجل بسبب قيامها بذلك من أن تدفن بجنبه ؟! وتوصي عند احتضارها: ادفنوني مع أزواج النبي؛ فإني كنت أحدثت بعده(3). بل إنها: تتمنى لو أنها كانت حجرة أو مدرة أو شجرة أو نبات من نبات الأرض أو نسيا منسيا!(4). وهكذا هي التناقضات كبيرة وكثيرة، لم تستطع لا السيدة عائشة ولا المؤسسة الروائية والتدوينية - التي تبنت خلق الفضائل لها أو لغيرها كعمر وأبي بكر في رواية تحكيم الأخير بينها وبين النبي - أن تجيب عنها!. أو أن تقدم تبريرات معقولة بصددها! نعم لا شك في أن السيدة عائشة، إكمالا لسعيها في إيصال أبيها للسلطة ومن ثم اصطفافها الجانب الخلافة، وصيرورتها مرجع إفتاء وقناة تشريعية للأحكام لتلك السلطة؛ فقد كانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان، وإلى أن ماتت. وكان عمر، وعثمان يرسلان إليها فيسألانها عن الشيء(5). حتى أنها استقلت بالفتوى في عهديهما(6)، كانت بحاجة

ص: 470


1- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 11 / 239؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 30/ 251؛ وباختصار عند: ابن سعد: الطبقات، 10 / 79؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 417؛ ابن حبان: صحیح، 9/ 491؛ ابن عدي: الكامل، 66 – 67؛ الهيثمي: موارد الظمآن، 4/ 257؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 2/ 225
2- ابن أبي شيبة: المصنف، 708/8؛ إسحاق بن راهويه: مسند، 2/ 32، 3/ 892؛ أحمد بن حنبل: مسند، 6/ 52، 97؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 8/ 282؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 126؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 6/ 234؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 120؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 7/234؛ 8/ 289؛ ابن حجر: فتح الباري، 13 / 45.
3- ابن سعد، الطبقات، 10/ 73؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 708/8 ؛ ابن قتيبة: المعارف، 134؛ ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفرید، 5/ 79.
4- ابن سعد، الطبقات، 10/ 72- 75.
5- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 415.
6- ابن سعد: الطبقات، 322/2 - 323.

کما السلطة لتجميل صورتها، وزيادة الثقة بما ينقل عنها! ؛ عن طريق إظهار مدى قربها والتصاقها ب النبي صلی الله علیه و آله وبالنتيجة انتمائها كمرجعية دينية لذلك الجو التشريعي المعصوم! ومن ثم ارتباط تلك السلطة بذلك الجو عن طريق اعتمادها! وأصبحت هذه الحالة اكثر إلحاحا خصوصا بعد خروجها - على الأقل - على الخلافة الشرعية التي انتخبها المسلمون في معركة الجمل ! وما سبه طموحها السياسي اللامشروع من فتنة بين المسلمين! ومن ثم توظيف معاوية لذلك التنافر بينها وبين خلافة الإمام علي و أهل البيت علیهم السلام وتقريبها أيضا كورقة رابحة ومرجعية بديلة! إذن فالمنطق يحكم بأن لها، أو لمن أراد الاستتار وراءها، عددا من الأسباب والمبررات لخلق الفضائل لها وما النصالذي اعتمده «Lammens» إلا واحدة من تلك الفضائل المختلقة. وإلا من أولى برسول الله صلی الله علیه و آله من العدل بين أزواجه؟!

وهل يعقل أنه كان يجور على الأخريات في المعاملة !؟ حتى وصلت الحالة إلى احتجاجهن العلني والصريح والمطالبة بأن يكون عادلا في تعامله معهن ؟! ثم هل من المعقول أن النبي صلی الله علیه و آله الذي ينهى المسلمين عن أن يكونوا سبابين شتامين، متنابزين بالألقاب، هل يعقل منه أن يترك زوجاته تسب وتشتم إحداهما الأخرى بمحضر منه وهو لا يحرك ساكنا، بل إنه يأمر إحداهن أن تشتم الأخرى؟! وهل في ذلك فضيلة الإحداهما والقرآن يأمر بالتأدب بين يدي النبي صلی الله علیه و آله، وخفض الصوت بمحضره؟! وهل يليق هذا الحال بزوجتي نبي؟! أم هل يليق بنبي ؟! يبدو أن من وضع تينك الروايتين - سواء كانت عائشة أم غيرها - لم يراع أنه أساء للنبي صلی الله علیه و آله وازواجه، قبل أن يختلق - كما ظن - فضيلة لعائشة ! وأي فضيلة في سلاطة اللسان؟!

أما ما ادعاه «Lammens» من أن النبي صلی الله علیه و آله سارع إلى سد الباب الذي يؤدي من محل إقامته إلى بيت فاطمة، فهذه واحدة من إضافاته واستباحاته المخجلة؛ فقد اعتمد في ذلك - كما في هامشه - على السمهودي (ت.911ه-) في كتابه وفاء الوفا

ص: 471

بأخبار دار المصطفى. وعند الرجوع لما ذكره الأخير، وجدناه يتحدث عن: سد ذلك الباب وغيره، بعد التوسعة التي أجريت على المسجد النبوي في عهد المهدي العباسي (158 - 169 ه-)! وكان ما قاله: الباب الثاني هو باب علي، كان يقابل بيته الذي خلف بيت النبي، وقد سد أيضا عند تجديد الحائط.. ، ويحتمل أن بيت علي كان ممتدا في شرقي حجرة عائشة إلى موضع الباب الأول، فسمي باب علي بذلك..(1).

هذا فضلا عن أن المصادر التاريخية لتذكر صراحة أن النبي صلی الله علیه و آله أمر بسد جميع الأبواب إلا باب الإمام علي عليه السلام فغدا ذلك فضلا ومزية خاصة له. فقد روي أنه: كان لنفر من أصحاب رسول الله، أبواب شارعة في المسجد. فقال يوما: سدوا هذه الأبواب، إلا باب علي. فتكلم في ذلك الناس. فقام رسول الله صلی الله علیه و آله فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي. وقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته(2). وروي عن سعد بن أبي وقاص قال: «أمرنا رسول الله بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي»(3)، وروي عن ابن عباس قال: أمر رسول الله بأبواب المسجد فسدت، إلا باب علي (4). وفي رواية: وأمر بسد الأبواب غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو

ص: 472


1- .214 - 212 /2
2- أحمد بن حنبل، مسند، 4 / 369؛ النسائي: السنن الكبرى، 5/ 118؛ خصائص، 68؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 125؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 2/ 137؛ 4 / 235 - 236؛ الذهبي: میزان الاعتدال، 4/ 235؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/7 - 13؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3/460
3- أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 175؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 114؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/7 ؛ العيني: عمدة القاري، 16/ 176.
4- النسائي: السنن الکبری، 5/ 119؛ الطبراني: المعجم الكبير، 12 / 78؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 138؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/7

جنب ليس له طريق غيره(1). فكانت مسألة إبقاء بابه مفتوحا على المسجد منقبة كبری من مناقبه؛ يحسده عليها الآخرين(2)، ويعملون على خلق مثلها لغيره! ولما لم يستطع ابن کثیر نفي هذه الحقيقة التاريخية!؛ عللها تعليلا ملتويا فقال: «إن رسول الله سد أبواب المسجد وفتح باب علي؛ لاحتياج فاطمة إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها، فجعل هذا رفقا بها»(3).

إذن هذا ما تقوله وتصرح به المصادر التاريخية - غير المحابية لعلي عليه السلام -ومن بينها نص «Lammens» الذي اعتمده في دعواه! وللقراء أن يقيموا مدى مصداقية الأخير، وأمانته العلمية !؟ وكم كان يستخف بعقول الآخرين! لإثبات دعواه!

ص: 473


1- أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 331؛ النسائي: السنن الكبرى، 5/ 113؛ الطبراني: المعجم الكبير، 2/ 246؛ 12 / 78؛ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 99؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 115؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/7.
2- ينظر: ابن أبي شيبة: المصنف، 7 / 50؛ أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 26؛ ابن المغازلي: مناقب، 166 - 170؛ ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، 42/ 122؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 214/3 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 377/7 ؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 120 - 121؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 13؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13/ 110.
3- البداية والنهاية، 379/7

(7)الأيام الأخيرة.. مصادرة المواقف

عمل (Lammens) على امتداد کتابه، على طبع حياة السيدة فاطمة عليها السلام وسيرتها منذ بواكيرها حتى وفاتها بطابع الانزواء عن المجتمع، والانطواءعلى النفس، و اعتیاد و ألفة الحزن والبكاء والكآبة والعبوس!

بمعنى تجريدها من أدنى إشراقة، وأثر وحضور على امتداد حياتها القصيرة. فكان قوام صورتها هو: دوام البكاء والحزن والضعف والشكوى. فلا تكاد تفارق وجهها دموع جارية! ولا أنفاسها نشجات، وحسرات مبثوثة أودت في النهاية بحياتها! بمعنى أنه أراد لموتها أن يكون طبيعيا و متوقعا، مع ذلك الجسم النحيل الضعيف والدائم العلة، والوجه الأصفر الشاحب!؟؛ ليسلبها تلك المواقف المحورية والأساس في فرز قطبي الاصطفاف في مسار التاريخ الإسلامي.

فلا شك في أن شخصها وزوجها وولديها بيت فاطمة بما يمثله من امتداد طبيعي ومعنوي لحضور النبي صلی الله علیه و آله والوحیکان محورا و قطبا استجلب حوله اصطفاف المسلمين الخلص الشاكرين قبالة القطب الآخر الذي رشح عن السقيفة واستجلب حوله المنقلبين وهي انتماءات كان حكاها وشخص بين عنصريها القرآن الكريم. قال تعالى «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ ۚ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللَّهَ شَیْئًا ۗ وَسَیَجْزِی اللَّهُ الشَّاکِرِینَ»(1).

وبينتها وشخصتها بجلاء تام السيدة فاطمة علیها السلام في خطبها ومنها قولها: وكنتم

ص: 474


1- آل عمران / 144.

على شفا حفرة من النار. مذقة(1) الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام. تشربون الطرق (2).. أذلة خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي، وبعد ما منی ببهم الرجال وذوبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما حشوا نارا للحرب أطفاها، ونجم قرن للضلال، وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد هبها بحده.. ، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلة النفاق، وانسمل جلباب الدين، وأخلق عهده، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأفلين.. وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بکم فوجدكم لدعائه مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين فاستنهضكم فوجدكم خفافا. . فوسمتم غير إبلكم وأوردتموها غير شربكم(3).

وقد مر بنا أن الإمام علیه السلام لم يبايع - عند من قال بمبايعته - إلا بعد وفاتها. وكان الحادثة الهجوم على دار فاطمة علیها السلام على إثر اجتماع بني هاشم وأنصارهم بها، ورفضهم مبايعة أبي بكر، لاشك أثره في إبراز الدور الخطير الذي كانت تمثله علیها السلام ولكن «Lammens» تجاوز كل هذه الحقائق والأحداث وكأن لا وجود لها لأنه إنما يريد نسفها وتغييبها؛ لأنها تبين كذب طروحاته وتعمدها في إخفاء الحقائق، وتزييفها؛ فقال: لم تنقطع فاطمة عن التشكي لأبيها قائلة له: أنت لا تغضب لبناتك. وكانت احتجاجاتها تأتي دائما من شكواها من الفقر الذي جعلها حزينة على الدوام؛ ففي أحيان كثيرة كان ينقصها الخبز. وتحت ضغط هذه الظروف المؤلمة، كانت فاطمة تشعر وكأنها تطلب حياتها، وأحيانا كانت تستنكر سرا تصدق زوجها! وهو موضوع طور كثيرا من قبل ق ال

ص: 475


1- المذقة: اللبن الممزوج المتغير اللون. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 2/ 85؛ ابن منظور، لسان العرب، 98/9
2- الماء الذي طرقته الابل، وبالت فيه الدواب فاصفر لونه. الفراهيدي: العين، 5 / 99.
3- ابن طيفور: بلاغات النساء، 12 - 17؛ ابن الأثير: منال الطالب، 501 - 506؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 211/16 - 212.

الشيعة! في أحد الأيام وصل بلال متأخرا عن الأذان للصلاة؛ فأنبه الرسول، فأجاب بأنه مر أمام بيت فاطمة، وكانت منهكة بطحن القمح، وكان الحسن يبكي في مهده، فسارعت لمساعدتها لكنها رفضت، وقالت: أنا أرفق بابني منك فذاك حبسني. قال: فرحمتها رحمك الله. يضاف لمتاعب فاطمة هذه أعباء مرضها. في أحد الأيام كان أبوها قادما لعيادتها، فقالت له: اشتد حزني وفاقتي وطال سقمي، ولا أرى نهاية لذلك. وعلى الأرجح أنها في ولولتها هذه قد تطرقت لاعتراضها على علي !! ووجد محمد الوقت ملائما لمدح علي، خصوصا خدماته للإسلام. وكان يبدو على زوجة علي البائسة أنها كانت تنتظر مواساة حقيقية، وتنشد راحة فعلية، لا أوهام! وكانت تذهب إلى بيت أبيها في الأوقات التي يهدأ عنها المرض؛ لتعرض عليه ما تلاقيه في بيتها من متاعب، وما تقاسيه من ألم وجوع، ثم تریه تصلب يديها من كثرة طحن الحبوب وعجنها وخبزها، مستجدية أن يمنحها أية مساعدة. لكن النبي علمها دعاء تتلوه عندما تذهب للنوم. في الوقت الذي كانت فيه مغازي النصر، وأسرى الحرب تتوافد على المدينة . كانت تتمنى لو أن بإمكانها الحصول على خادمة تساعدها في الأعمال المنزلية. لكن محمد رفض أن يلبي رغبة ابنته. ونراه في تعب وانزعاج نتيجة شكواها التي لا تنتهي! ترجي علي والدته في أن تخفف من عبء فاطمة؛ وذلك بأن تنوب عنها في الذهاب لجلب الماء من خارج البيت، بينما تقوم فاطمة بتحضير الطعام. ولكنها رواية بائسة !؛ لأن أم علي لم تترك مكة إلا بعد الفتح! الضعف الجسدي لفاطمة وبنيتها الواهنة جعلاها تفتقد الطاقة الكافية لتحمل الكفاح ضد الآثار السلبية لمناخ المدينة وارتفاع درجات الحرارة فيها! حياة فاطمة القاسية ومعاناتها البدنية والنفسية، كل ذلك أدى التدمير قدرتها على المقاومة، وتحمل المصاعب، وعما قريب ستصبح ضعيفة وهزيلة، وانهار جسدها حتى بدا وكأنه ينصهر . وبعد أن صدت من قبل أبيها، حاولت أن تجد السند عند زوجها الذي أشبعها بكثرة وعوده، التي ما لبثت أن تبددت؛ فقد أبدی بصفته رئيس العائلة عدم أهليته المعهودة، والتي كانت فيها بعد سببا في خسارته الخلافة

ص: 476

في العراق(1)

يبدو «Lammens» في حيرة من أمره أمام الكم الهائل من النصوص التي تخالف ما يذهب إليه، فنراه يتخبط ويتناقض في طروحاته وتحليلاته لدرجة فقدان بحوثه تماسكها واشتمالها على فجوات كبيرة كانت مثار الطعن عليه من قبل المستشرقين قبل غيرهم. وهو ما صرح به المستشرق الألماني (Johann Fuck = يوهان فوك) حين قال: كانت الصورة المرسومة هنا جانبية بالضرورة، ولم تتمكن سواء غزارةالمصادر، ولا حنكة العرض، من سد ثغرات ضعف الحجج المقدمة»(2).وكذلك المستشرق الألماني «Friedrich Schwally = فريدرش شفالي». إذ قال عن أعماله: إنها ليست خالية من سوء الظن المبالغ فيه من ناحية، ومن التناقض والتحيز الديني من ناحية أخرى. وفي دراسة شاملة حول فاطمة وبنات محمد الأخريات. يعتبر «Lammens» المعالم المبهجة واللطيفة للأشخاص الذين تناولهم تحسينا مغرضا لهم، بينما يأخذ من المصادر كل ما هو قبيح وسيء من غير تمحیص !؛ فينتج لفاطمة وعلي صورا كاريكاتورية فعلا ينبغي أن تستعمل أعال «Lammens» بحذر»(3).

قبل قليل كان «Lammens»يتحدث عن عدم قدرة السيدة فاطمة علیها السلام عن القيام بأي من الأعمال البيتية: « من ناحية الشكل لم نجد فاطمة أفضل حالا، فقد كانت واهية البنية، ونحيفة، صفراء، شاحبة اللون، دائمة العلل، وقد أقعدتها عللها عن الأعمال الشاقة التي كانت تقوم بها النساء العربيات آنذاك، ولذلك ماتت وهي شابة»(4).وهنا يأتي ليدعي: أنها تعبت، ومرضت بسبب كثرة قيامها بتلك الأعمال

ص: 477


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 52-55
2- تاريخ حركة الاستشراق 306-307.
3- تاریخ القرآن، 428 - 429.
4- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 16.

ومن التناقضات، الأخرى التي قدمها «Lammens» دعواه: أن النبي صلی الله علیه و آله قابل فاطمة عليها السلام مرة، وهي وحيدة في شوارع المدينة! فنهرها بقوة: ما الذي أخرجك وحيدة من بيتك ؟! وبدون شك فإن كتابنا قد ثبتوا في كتاباتهم فكرة أن النبي يأمر بالحبس الإجباري للنساء المسلمات(1) .

أولا - هذه الدعوى كسابقتها التي تتحدث عن سد الأبواب ؟!؛ فهو - بحسب ما أشار في الهامش - كان قد افتعلها من خلال تحريف، وتزيف ما ذكره أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله، إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توجهنا الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة، فقال: من أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ قالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم میتهم، وعزيتهم. فقال: لعلك بلغت معهم الكدي(2)قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر(3). إذن كم هو الفرق بين ما يدعيه (Lammens) وحقيقة هذه الرواية! لقد حول مشاركة المسلمين في أحزانهم، ومواساتهم بموتاهم، وتشيع الجنائز الذي يحض عليه الإسلام، ويدفع باتجاهه، إلى مشي في شوارع المدينة ! من دون أي سبب يذكر! وأضاف أن النبي صلی الله علیه و آله نهرها بقوة ووبخها على خروجها وحيدة! ولم يكن هناك جواب حتى عن سبب خروجها! فكم هي رخيصة، ومخجلة استباحة «Lammens» للنصوص؟؟

ثانيا - الرواية - على فرض صحتها - إنما تتناقض مع ما يدعيه من ضعف، ووهن، و دوام علة، وعدم فاعلية وحضور السيدة فاطمة علیها السلام في ذلك المجتمع ! فهي

ص: 478


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p,60
2- أي المقابر؛ وذلك لأنها كانت في مواضع صلبة، وهي جمع كدية، ويروى بالراء. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 159/1
3- مسند: 2/ 168 – 169.

تعكس أنها كانت تشاركهم أحزانهم، وتواسيهم، وتمشي في تشييع جنائزهم! وهذا ما يتطلب أنها كانت تتمتع بصحة جيدة تمكنها من القيام بذلك. ومن ثم فهو بنفسه أثبت کذب دعواه السابقة، أضف لذلك أن الرواية تكذب ذيل التعليق الذي قدمه عليها من أن النبي صلی الله علیه و آله كان يأمر بالحبس الإجباري للنساء المسلمات!؛ فهي أبعد ما تكون عن هذا التخريج المقصود!؛ وإلا لكان أمر بعدم خروجها مطلقا ! ومن تناقضاته الكثيرة تخبطه بشأن حالة الزهد والتقشف التي كان يعيشها الإمام والسيدة فاطمة علیها السلام فقد مر قوله: أما بالنسبة للحالة المادية للبيت الجديد - بيت علي وفاطمة - فهناك أساطير علوية تدعي بأن بيت فاطمة الجديد ما كان ينقصه المال! ففي ذلك الوقت كانت فاطمة قادرة على إزالة أو رفع حالة البؤس التي كان يعاني منها أبو القاسم، إذ قدمت له قطعة من الخبز، وكانت هي الأولى التي يأكلها منذ ثلاثة أيام (1)!

ثم نراه يعود ليقول بعد عدة صفحات: إن حالة الفاقة التي كان يعيشها علي نجد فيها الكثير من المبالغة، وهي محاولة لتأكيد حالة الزهد التي كان عليها، وهي ما أصرت سيرته على إظهارها(2). هذا مضافا للموضوعة التي طالما نعق بها وهي فقر الإمام علیه السلام وأنه كان يعمل عند أحد اليهود، يسقي نخله كل دلو بتمرة، ثم يأتي بتلك التمرات ويعطيها للزهراء علیها السلام ويقول: كلي وأطعمي عيالك - وسيأتي الوقوف على ذلك بالنتيجة فإما أن يكون هذا البيت عانى الفقر ومرارة التقشف، ومن ثم فأخبار الزهد ورواياته تكون طبيعية وصحيحة! وإما أن يكون لا ينقصه المال، ومن ثم فلا معنی لتشکیکه بأن فاطمة علیها السلام تقدم لأبيها قطعة من الخبز أو غيرها ليأكلها! على أن تقديم قطعة من الخبز لا يعني رفاها في الحالة الاقتصادية. يتضح أن «Lammens» كان متكلفا ومغاليا إلى أقصى حدود الغلو والتطرف وعدم التعقل في أحكامه ! وبما أن

ص: 479


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 49-52
2- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 43-49

الأخبار قد تضافرت على أن هناك حالة زهد و تقشف معاشة، سواء في عهد النبي صلی الله علیه و آله وما قبل وبعد خلافته هو علیه السلام ! فإذن هي تنبئ عن حقيقة متأصلة في تلك الذات، قوامها مواساة الفقراء ببساطة عيشهم وجشوبة أكلهم وخشونة ملبسهم. وقد عبر عن تلك الحقيقة في إحدى روائعه: «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي! ويقودني جشعي، إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حري، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك عارا أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمةالمربوطة. همها علفها أو المرسلة، شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها(1).

تبقى الإشارة هنا إلى أن «Lammens» لغرض إسناد آرائه بشأن فاطمة عليها السلام أعطى لنفسه حرية رفض الروايات التي تفند آراءه وإن كانت موثقة ومتواترة ومتفق عليها!؛ وبالمقابل اعتماد شواذ الروايات وتقديمها على أنها حقيقة ثابتة وبناء النتائج عليها! فهو قد رفض ما روته كثير من مصادره أن الإمام عليا عليه السلام قال لأمه فاطمة بنت أسد: اكفي فاطمة بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك خدمة الداخل الطحن والعجن(2). وذهب إلى أن فاطمة بنت أسد لم تترك مكة حتى

ص: 480


1- شرح نهج البلاغة، 16 / 286 - 287.
2- ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 156؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 295؛ الطبراني: المعجم الكبير، 24/ 353؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1893؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5/ 517؛ المزي: تهذیب الكمال، 35/ 248؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 621؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 5 / 352؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 256؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 11/ 47.

بعد الفتح، وإذن فهي لم تكن متواجدة في المدينة آنذاك !؟ مخالفا الاجماع المصادر التاريخية: أنها من المهاجرات الأوائل (1). قال ابن عبد البر: «فاطمة بنت أسد.. قيل إنها ماتت قبل الهجرة وليس بشيء، والصواب أنها هاجرت إلى المدينة وبها ماتت»(2).وقال ابن حجر: «قيل أنها توفيت قبل الهجرة. والصحيح أنها هاجرت وماتت بالمدينة، وبه جزم الشعبي قال أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة»(3). ومن المعلوم أنها مدفونة في البقيع، وأن النبي صلی الله علیه و آله أبنها عند موتها، وكفنها بقميصه، واضطجع في لحدها، ودعا لها(4)

ص: 481


1- المصعب الزبيري: نسب قریش، 40؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1089؛ 1891/4 ؛ الطبراني: المعجم الكبير، 1/ 92، 93؛ الموفق الخوارزمي: المناقب، 46؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 41/ 42،9/ 10-8 ؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5 / 517؛ محمد بن طلحة الشافعي: مطالب السؤول، 68؛ النويري: نهاية الإرب، 3/20 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 20/ 473؛ اليافعي: مرآة الجنان، 1/ 89؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 100/9؛ الزرندي الحنفي: نظم درر السمطين، 80؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 621؛ سير أعلام النبلاء، 2/ 118؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 369/7 ؛ القلقشندي: قلائد الجان، 158؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 276؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 268، 269؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 21/ 177؛ العيني: عمدة القاري، 2/ 147؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 1/ 155؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء، 133.
2- الاستیعاب، 4 / 1891؛ وينظر : ابن الأثير: أسد الغابة، 5/ 517؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6/ 276
3- الإصابة، 8/ 269.
4- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 293، 294؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 1/ 67؛ المعجم الكبير، 24/ 351، 352؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 27؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1891؛ الخوارزمي: المناقب، 47؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5 / 517؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 14؛ المزي: تهذيب الكمال، 20/ 473؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 118؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6/ 276؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 269؛ تهذيب التهذيب، 294/7 ؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12/ 147، 148؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 673.

ولإكمال لوحته الخرافية عن السيدة فاطمة علیها السلام كان على «Lammens» أن يختلق كذبة مناسبة؛ لينهي بها حياتها، بما ينسجم وما قدم لها من صورة قاتمة بالكامل؛ فجاء بكذبة من العيار الثقيل، وادعى أنها: بعد أن أخذ جسدها وكأنه ينصهر بسبب ضعفها وألمها وشدة خيبة أملها، أصيبت بفقر الدم، وهو المرض الذي كانت تعاني منه في غالب أيامها، وأخيرا ربما تكون ماتت بداء السل (1). وهي دراما بالتي سينتجها لينهي بها حياة الإمام الحسن علیه السلام.

وهذا ما أثار استغراب المستشرقة الإيطالية «L. VecciaVaglieri = لورا فیشیا فاغليري» فردت قائلة: لا ندري في الحقيقة كيف استنتج«Lammens» أنها ماتت بالسل، وأنها كانت مريضة دائما، فليس هناك مصدر يذكر ذلك، ولم تكن فاطمة ضعيفة البنية ومريضة..؛ لأن هناك حقائق أخرى: ولادتها لخمسة أطفال، وقيامها بواجبات منزلية شاقة، ورحلتها من مكة إلى المدينة. مما يدل على أنها كانت تتمتع بصحة جيدة، وتشير كل الوقائع إلى أنها كانت امرأة صبورة دؤوبة تعمل بجد، وأنها كانت تجد متعة في مساعدة الآخرين (2).

وأشار المستشرق الفرنسي (Yamne Richard = یان ریشار) لتجني (Lammens) على شخصية السيدة فاطمة عليها السلام وصورتها. وترديده المقولات مبغضيها من الأمويين فقال: فاطمة هي الشخصية الرئيسية في النواة المؤسسة للأسرة المقدسة التي تتألف من خمسة أشخاص هم: فاطمة، ومحمد أبوها، وعلى زوجها، وابناها الحسن والحسين، أي الأسرة المقدسة للإسلام، الذين جمعهم النبي يوم مباهلته لمسيحيي نجران، وكان ذلك تأكيدا على الدين الإسلامي، كديانة تكونت تجاه، أو مقابل الديانة الإبراهيمية، وكان محمد قد أعطى ابنته كزوجة وحيدة لأخيه بالتبني وابن عمه علي. ولقد قدم المستشرقان

ص: 482


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 115-118.
2- The Encyclopedia of Islam(newedition). V II, pp, 841-845.

«Lammens» و (Massignon = ماسنیون) تأويلات متباينة حول شخصية فاطمة. أما الأول فيستعيد الصورة السيئة التي تركتها الأم، أم الأئمة كما كان يرددها الأمويون. أي صورة امرأة سيئة التصرف، عنيدة، ذات صحة سيئة، شاكية دوما، وبدون إغراء. أما الثاني - المتصوف بعض الشيء - فيستعيد الصورة الشيعية لفاطمة، ويعقد مقاربة بينها وبين مريم العذراء من ناحية القداسة والبتولية(1).

على أنه اتضح من المصادر الموظفة في مناقشة الجزئيات المتقدمة أن الصورة الشيعية لفاطمة - بحسب تعبير Yamne Richard = یان ریشار - إنما هي صورة إسلامية، تنبع من التراث الإسلامي بشكل عام، ولا تقتصر في تواجدها على الموروث الشيعي

ص: 483


1- الإسلام الشيعي، 47 - 48.

ص: 484

اَلْفَصْلُ اَلْخَامِس: تقويض صورة البطل والحاكم المثال

اشارة

ص: 485

ص: 486

مَدخَل

كانت اللحظات الأخيرة التي عاشها الرسول الكريم، وما صحبها من تمرد على إرادة السماء المتمثلة في شخصه! بمنعه من وضع خريطة قيادة الأمة الإسلامية بها يجنبها ضلالتها، إيذانا بتحفيز الصراع بين التيار الذي أراد الأخذ بيد الأمة واستنقاذها من جاهلیتها ومن ثم استنهاضها من هول مصيبة فقد النبي صلی الله علیه و آله لإكمال المسيرة بمتبنياتها الإسلامية من دون الالتفات للإرث الجاهلي القبلي والتيار الذي آثر الاحتكام لذلك الإرث متمثلا بما جرى في سقيفة بني ساعدة. فكان هذا الصراع من الخطورة والحساسية أن أخبر به وحذر منه القرآن الكريم على أنه لا يقل - إن لم يكن يفوق – فقد النبي صلی الله علیه و آله، خطورة. قال تعالى:«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ ۚ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللَّهَ شَیْئًا ۗ وَسَیَجْزِی اللَّهُ الشَّاکِرِینَ »(1). وهو الأمر الذي ما فتئ عبد الله بن عباس يتذكره؛ فيعتصر ألما ويقول: «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم»(2).

كانت تلك الانطلاقة معينا لا ينضب في تغذية ذلك الصراع وإعادة صياغته

ص: 487


1- آل عمران / 144.
2- ابن سعد، الطبقات، 2/ 213 - 215؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 325، 336؛ البخاري: صحيح، 5 / 138؛ 7/ 1691/8،9 ؛ مسلم: صحيح، 5/ 76؛ ابن حبان: صحيح، 562/14- 563.

وانتاجه بوجوهه المتباينة، سيما خلال العقود الخمسة التي تلتها؛ فقد طبعت هذه المرحلة التاريخية بزيادة الهوة بين التيارات المتصارعة، وتصاعدها بحيث آلت في نهاية المطاف لأن تودي بحياة ثلاث من الزعامات الإسلامية: «عمر بن الخطاب / عثمان ابن عفان / الإمام علي عليه السلام »، وتفرض على الساحة السياسية الإسلامية تواجد الحزب الأموي - الذي رمي منذ زمن في سلة الطلقاء - بصورة علنية، وأشد جرأة من ذي قبل مرجعة بذلك إلى حيز الخصامات: الجدلية القديمة الحديثة بنو هاشم / بنو أمية. مضافا لما رشح عن الصراع بين هاتين البنوتين أو المبدأين من حزب ثالث كان مبدأ عدم الاعتراف بكليهما والخروج عليهما؛ فصار المنتمون إليه يعرفون بالخوارج. هذه الأحداث المتداخلة فرضت ذاتها على واقع التدوين التاريخي، فكانت حافزا فعالا، ودافعا كبيرا؛ سمح بولوج لون جديد في ذلك التدوين، حاول رصد تلك الأحداث والانعطافات الكبرى، بجزئياتها الصغيرة والكبيرة؛ لتفاعلها بقوة مع مشاعر الناس وانتماءاتهم وتوجهاتهم على شكل رسائل أو مؤلفات صغار خصصت البعض من تلك الأحداث؛ فألف «المدائني 135-215ه-» و«الهيثم بن عدي ت207ه-» و «أبو مخنف ت. 175 ه-» وغيرهم، رسائل عديدة في الفتوح والمعارك والوقائع والأحداث(1). وحظيت «معركة الجمل»؛ لما لها من خصوصية - على اعتبار أنها فرزت أو أكملت الفرز بين قطبين متصارعين أساسيين، كان يفترض أنهم حتى الأمس القريب ينتمون إلى منظومة واحدة - باهتمام كبير من الرواة والمؤرخين من كلا الجانبين؛ فألف فيها كثيرا من الكتب والرسائل (2). ومن نتاج تلك الأحداث وفاعليتها، ظهر لون من التأليف قوامه التضاد والمقارنة والمفاضلة بين المتصارعين،

ص: 488


1- ابن النديم: کتاب الفهرست، 105 - 106، 112 - 117.
2- ينظر: ابن الندیم: کتاب الفهرست، 58 - 59، 105 - 106، 111، 121، 285؛ محمد أمحزون. في تقديمه لكتاب (أعلام النصر المبين. لابن دحية الكلبي)، 14؛ عبد الجبار ناجي: في تقديمه لكتاب علي ومعاوية في الرواية التاريخية للمستشرق بترسن 30 - 31.

متكئا على ما ألفته الذاكرة العربية من موروث أدب الهجاء والمديح، وما حظيت به مفهومية الضدية والمفاضلة من اهتمام في التدوين تناول الأجناس والأعراق، والخلقة والحالة الاجتماعية، والمدن والأمصار، مرورا بعقدها بين الأشخاص والمذاهب والتكوينات السياسية فألف (أبو جعفر الإسكاني المعتزلي. ت 240 ه-) كتاب (المعيار والموازنة في الإمامة). وألف (أبو الخطاب بن دحية الكلبي. ت 633ه-) کتاب (أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهلي صفين) وحاول المقريزي. ت 845ه-) التجذير لذلك التضاد والتفاضل؛ فألف (النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم) مرجعا جدلية التنافس والتفاضل بين العائلتين إلى أيام ما قبل البعثة النبوية.

ودرجا على التأليف في الفضائل، ظهرت مؤلفات ورسائل عديدة في فضائل ومناقب شخوص تلك التيارات المتصارعة ولا شك كان للإمام علي عليه السلام الحظ الأوفر منها، كما لا شك في أن الأهواء والانتماءات والعواطف والمغريات، وفقدان غالبية تلك الأصول، والتناقل الشفاهي حتى عصر التدوين، الذي غالبا ما كان يدور في فلك السلطة، كل هذه الأمور وغيرها جعلت كثيرا من المؤلفات سيما الموسوعية منها، والتي أخذ أصحابها على عاتقهم تلقف مرويات تلك الأصول وتقديمها وجمعها بأنساق روائية معينة، من دون غربلتها وتمحیص غثها من سمينها، وفي أغلب الأحيان انتقاء ما يتفق مع هوى المؤلف وتوجهه ومصلحته وظرفه، ورفض ما عداه؛ جعلتها تحمل توجهات متعددة ومتضادة على نطاق المؤلف أو المجموعة مما جعل مسألة الاهتداء لما هو صحيح وحقيقي بنسبة ما بين آلاف الحزم من النصوص ليس بالأمر السهل أبدا. ولعل المدائني كشف عن هذه الحقيقة الخطيرة عندما قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عياله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روی شیئا من فضل أبي تراب وأهل بيته! فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا! ويبرأون منه. ويقعون فيه وفي أهل بيته! ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: الا يجيزوا الأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة! وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة

ص: 489

عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأذنوا مجالسهم، وقربوهم، واكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروى كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجئ أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية فيروى في عثمان فضيلة أو منقبة، الا كتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة!؛ فان هذا أحب إلي وأقر لعيني وادحض لحجة أبي تراب وشيعته! وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه على الناس، فرویت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها! وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ! وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك كثيرا واسعا، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن! وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم! فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة انه يجب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه! وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره.. ، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر ! ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك؛ فيفتعلون الأحاديث؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل! حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها!؛ وهم يظنون أنها حق ولو علموا انها باطلة لما رووها

ص: 490

ولا تدينوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي.. ، ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين..، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض على وموالاة أعدائه !؛ فأكثروا الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغض من علي، وعيبه والطعن فيه والشنان له، حتى أن انسانا وقف للحجاج.. ، فصاح به: أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني عليا، وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج! فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا(1). ولا يبعد هذا عما ذكره ابن خلدون في مقدمته حين قال: أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والاغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال؛ إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول.. ، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقیق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق. ، وإن فحول المؤرخين في الاسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدوها إلينا کما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل.. ، وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأيمة النقل من المغالط فيالحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها،

ص: 491


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 11 / 44 - 46. وينظر : النصر الله، فضائل أمير المؤمنين المنسوبة الغيره، 125 - 131.

ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار؛ فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط(1). وهذا ما استلزم بروز علم الجرح والتعديل؛ لمعرفة أحوال الرواة، ومن ثم الترجيح على أساسه. إلا أنه هو الآخر لم يسلم من آفة الهوى والانتماء المذهبي والسياسي! فصار الراوي والمحدث والمؤرخ یوثق ويمتدح، ويجرح ويكذب اعتمادا على انتمائه المذهبي لا على مقدار صدقه

ص: 492


1- 6 - 13. ولكن من الغريب أن كان هو أول الخارجين على هذه القواعد!؛ إذ ردد ما قاله من لا يمكن اخراجهم من دائرة المحاكمة المنهجية التي اختطها حول رواة التاريخ ومدونیه! بل إنه زاد عليهم أن صحح وشرعن ما أوردوه؛ لأنه يلائم مزاجه المذهبي والسياسي فقال: هذا آخر الكلام في الخلافة الاسلامية أوردتها ملخصة من كتاب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير؛ فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة من خيارهم وعدو لهم من الصحابة فكثيرا ما يوجد في کلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم، أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسود بها الصحف ! ، وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحية، ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة؛ فإنه لم يصح، والحق ان معاوية في عداد الخلفاء، وإنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين: الأول - أن الخلافة لعهده كانت مغالبة؛ لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره، وأما قبل ذلك فكانت اختیارا واجتماعا؛ فميزوا بين الحالتين؛ فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية، الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك! ويشبهون بعضهم ببعض، وحاشى الله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده!؛ فهو من الخلفاء الراشدين، ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس. واعلم: أن الملك الذي ينافي الخلافة هو الجبروتية المعبر عنها بالكسروية، التي أنكرها عمر على معاوية حين رأي ظواهرها. وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة!؛ فقد كان سليمان بن داود وأبوه نبيين وملكين. ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبهته للاستكثار من الدنيا!؛ وإنما ساقه أمر العصبية بطبعها لما استولى المسلمون على الدول كلها، وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك! الأمر الثاني - أنهم كانوا أهل نسب واحد، وعظيمهم معاوية؛ فجعل مع أهل نسبه ! والخلفاء الأولون مختلفو الأنساب. العبر، 2/ 650 - 651. وقد بينت «ناجية الوريمي» فساد الخطاب الخلدوني، ومنافاته لما يدعيه، حتى وكأنها أتت عليه من القواعد. ينظر کتابها: حفريات في الخطاب الخلدوني.

وأمانته الفعلية !؛ وغدی تشیعه مدعاة لتجريحه وتسقيطه ! وأضحی نعت أحدهم بأنه رافضي تهمة كافية لإقصاء ما يرويه ويكتبه ! (1).

كانت هذه الانحناءات الخطيرة في انعدام المقاييس، واهتزاز المبادئ، وخلقها هذا الإرث التاريخي الملغم! كانت مما أسال لعاب المستشرقين - سيما من يبحث عن الكيد للإسلام وتشويهه، والنيل من شخوصه البارزين، وتعزيز حالة التفكك والانشر اخ بين صفوف المسلمين - ليبقوا دائما في موقع الدفاع عن تجذرهم وتاريخهم. وإن لم يكن المستشرق كذلك فهو في أغلب الحالات ممن ينساق وراء ضغط الكم الهائل من النصوص والروايات التي تؤيد هذا الطرف على حساب الآخر، وقليل منهم من استطاع الولوج بنسبة ما إلى روح ذلك الصراع وتبين بعض المواقف . وتميزت شخصية الإمام علي عليه السلام بعده أحد قطبي النزاع والخصومة الإسلامية، مثار اهتمام المستشرقين؛ فظهرت بعناوین عدة - تباينت بين مقالات قصار وطوال وكتب، سابقة أو متزامنة مع ما قدمه «Lammens» - العديد من الدراسات الاستشراقية، التي حاولت رصد الأحداث المتعلقة بسيرته، وأسباب تلك الخصومة، والأثر والإرث الفكري الذي تركه على الساحة الإسلامية(2).

أما «Lammens» فقد تعرض لسيرة الإمام علي عليه السلام في كتابه « Etudes sur le regne du Calife Omayyde Mo'awia ler = دراسات في حكم الخليفة الأموي

ص: 493


1- ينظر على سبيل المثال: ابن معين، تاریخ، 1/ 246، 264، 2/ 112؛ أحمد بن حنبل: العلل، 1/ 55، 443؛ 2/ 59، 491، 602؛ العجلي: معرفة الثقات، 1/ 126، 209، 257؛ 2/ 154؛ العقيلي: کتاب الضعفاء الكبير، 1/ 64، 193، 317، 3/ 88، 304، 464؛ 4 / 66، الرازي: الجرح والتعديل، 2/ 481؛ ابن حبان: الثقات، 140/6 - 141؛ ابن عدي: الكامل، 2/ 145؛ 197/4 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 4/ 322؛ الذهبي: تذكرة الحفاظ، 6/1 ، 246- 247؛ 3/ 1045.
2- ينظر : بيترسن: علي ومعاوية، 231 - 236. وهناك الكثير من الدراسات اللاحقة سيشار إلى بعضها خلال ال.

معاوية الأول» وقد ألفه باللغة الفرنسية، وبدأ بنشره في بيروت عام (1907م) على شكل أجزاء متفرقة في مجلة «Melanges de la faculte Orientale = منوعات الكلية الشرقية» خلال الأعوام الثلاثة الأولى لصدورها. كما تعرض لشيء من سيرته في كتابه« Fatima et les Fill Filles de Mahomet = فاطمة وبنات محمد» وفي مقالته (A propos de Ali ibn Abi Talib = فيما يتعلق بعلي بن أبي طالب» في مجلة « Melanges de la Universite Saint Joseph = منوعات جامعة القديس يوسف عام، 1921م». وقد تحدث «Lammens» باغفال أو استغلال وتوظيف! للأجواء التي نشأت بها الرواية التاريخية الإسلامية، وما كان يتجاذبها من تيارات سياسية ومذهبية وحزبية، ومصالح شخصية، وما علق بالرواية التاريخية من إفرازات لتلك الأجواء! فلم يكلف نفسه عناء التمحيص والمقابلة، وتشریح تلك المرويات ومقارنتها واختبارها، على الرغم مما ادعاه من اتباع مناهج بحثية علمية متطورة، جادت بها قرائح أخصائي مناهج البحث التاريخي والميدان الاستشراقي لأن المستشرقين بصورة عامة - في الأعم الأغلب - إما يقعون تحت ضغط الكم الهائل من النصوص والروايات التي تؤید طرف السلطة المتغلب؛ بحكم هيمنته وتوجيهه عملية التدوين التاريخي، على امتداد مسار التاريخ الإسلامي. وقليل منهم من استطاع الانعتاق من قوة الجذب التراكمي لتلك النصوص والولوج بنسبة ما إلى روح ذلك الصراع وتبين بعض المواقف، أو لأنهم بالأصل ممن كانوا يبحثون عن تلك العوالق؛ فمن شأنها أن تؤدي للطعن والانتقاص، کا من شأنها تكريس الشقاق والخلاف عن طريق تسويف الحقائق التاريخية وتحريفها، وهو ما تبتغيه أغلب تلك الأعمال الاستشراقية وخصوصا دراسات « Lammens».

أخذ هذا المستشرق تلك المرويات على علاتها وراح يرددها في بحوثه ودراساته. بل إنه امتهن تلك المرويات واستباحها أيما امتهان واستباحة؛ فحملها أكثر مما تحتمل بكثير، وأضاف عليها؛ ما أخرجها من نطاق التسطيح والتسويف

ص: 494

الإسلامي، إلى نطاق التحريف والتزييف الاستشراقي أو الجمع بين النطاقين في كثير من الأحيان! ومن نطاق المناقشة والأخذ والرد إلى نطاق القبول والتسليم، ومن نطاق كونها نصا ينتمي لحزمة نصية تتحدث عن حادثة ما، إلى نطاق كونها النص الأوحد والأصدق في الموضوع... الخ. فكان من أبرز المتعاملين مع ذلك الموروث بهذه الروحية والكيفية غير المتقصية. إلا أنه كان يوحي في كل مرة بأنه يمتلك الحجة في ذلك !من خلال الإحالة لمصادر الموروث الإسلامي! رغم علمه بأن تلك المصادر للمم تكن بأقل منه تجنيا على الحقائق والتاريخ، وأنها كانت توجه با لايقل من ارتدادات المصلحة والأيديولوجية، والإلغاء الذي غذي ووجه كل كتاباته في الميدان السيري المتعلق. وسنحاول امتصاص ما قدمه من مادة بخصوص سيرة الإمام عليه السلام في دراساته الثلاث، ومناقشتها للوقوف على ما مثله هذا المستشرق من صفحة، ومرحلة سيئة السمعة داخل المنظومة الاستشراقية.

ص: 495

(1)الصفات الجسمانية.. تشويه الوعي بصورة البطل

تبنى «Lammens آلية التركيز على الرواية السلبية وإزاحة ما عداها من النصوص الثابتة والمتواترة، فضلا عن الالتواء على النصوص وتحريفها؛ للإدلاء بأحكام هي غاية في البعد عن الواقع التاريخي الذي تحدثت عنه! وقد جره الحاحه بمحاولة مسخ صور شخوص الدراسة للابتعاد بظنونه وفرضياته لأبعد من مجال الظن والفرضية المعقولين والمقبولين!؛ بحثا عن أسباب أقل ما يقال عنها أنها لا تنتمي بتواجدها إلا لتقولاته الخاصة، التي ترتد لغاياته في صياغة تلك الصور وجعلها مرجعا لسبب الخلاف الدائم بينهم. فقال: برغم كون زوج المستقبل لفاطمة، ابن عمها، ونشأ بجنبها في بيت أبيها، وبرغم المخاطر الكثيرة التي تعرض لها وهو ينقلها من مكة، فإنه توجب علينا أن نتساءل: إذن لماذا لم تقم فاطمة وزنا لكل ذلك الماضي؟ إنه القلب وما يهوى. أكان قلب فاطمة مخطئا عندما يثور؟ ولماذا تقاوم والدها في كلامه البليغ فيما يخص عليا؟ إن بنت النبي إن لم تكن جميلة المنظر، فإن عليا هو الآخر أبعد ما يكون عن الجمال الرجولي في منظره. كان العرب يحبون في أبطالهم طول القامة. وكان الهاشميون معروفين بطول قاماتهم، وخصوصا العباس، وهو ما لم نجده عند خطیب فاطمة: في الأعلى رأس ضخم، مع عينين هامدتين أرمدتين وأنف قصير، وهذا الأنف كان يميز علية عن باقي الهاشميين، الذين كانوا ذوي انوف طويلة . كانت تبدو وكأنهم يشربون الماء بها قبل الشفاه - وفي المنتصف جذع قصير جدا مع بطن وحدبة مفرطة، وبرزت ذراعاه النحيفتان بشكل يثير السخرية. وقد صاحت إحدى النساء عندما شاهدت علي للمرة الأولى: ياله من شخص غريب، وكأنه شخص کسر ثم بجر (1)

ص: 496


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 36-37.

بداية «Lammens» لم يكن أمينh في نقل النصوص إذ أبدل بعض العبارات ليقدم الصورة التي يريد بعد أن صاغها بلغته التهكمية مبتعدh بها كل البعد عن المعنى الحقيقي للنص! فلم يرد في أي من المصادر التي استخدمها وصف: رأس ضخم / حدبة مفرطة / ذراعان نحيفتان / عينان هامدتان أو أرمدتان. كما أنه أضاف لهذه التوليفة تعليقته المقصودة: بشكل يثير السخرية.

كان ما ورد في صفته علیها السلام أنه كان: آدم شديد الأدمة، عظيم البطن، ضخم المنكبين ضخم مشاشة(1) المنكب، عظيم العينين، أصلع، إلى القصر أقرب منه إلى الطول، وقيل ربعة (2) أو فوق الربعة(3) حادرا(4)، أفطس الأنف، دقيق الذراعين، ولم يصارع أحدا قط إلا صرعه، شديد الوثب، قوي الضرب. ورأته امرأة فقالت: من هذا الذي كانه کسر ثم جبر(5) ، كأن كاهله سنام ثور، أسود الشعر أبيض اللحية قد ملأت الحيته ما بين منكبيه(6). أدعج العينين(7)، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسنا،(1) |

ص: 497


1- نهاية الأضلاع من جهة الصدر. الفراهيدي: العين، 5/ 10؛ ابن منظور، لسان العرب، 1/ 439؛ 13 / 229. ومشاشة المنكب الجيد المشرق منها أراد به عظيم الخلق غليظ العظام. ابن قتيبة: غريب الحديث، 209/1 . وينظر : الاستیعاب، 3/ 1123؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 39.
2- أي ليس بطويل ولا بقصير. الفراهيدي: العين، 2/ 133.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 365/2 - 366؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1223؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 39.
4- هو السمين الغليظ، الجميل الصبيح، الممتلى الشباب. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 354/1 ؛ ابن منظور: لسان العرب، 4 / 172.
5- ابن قتيبة: المعارف، 210؛ عيون الأخبار، مج 4 / 25؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 49؛ المقدسي: البدء والتاريخ، 5/ 73؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 3/ 1123؛ ابن حزم: الفصل في الملل، 5/ 442 ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 39.
6- المقدسي: البدء والتاريخ، 5 / 73.
7- شدة سواد العين وشدة بياضها. ابن منظور، لسان العرب، 2/ 271.

ضخم البطن، شثن الكفين(1)، عتدا(2)، أغيد(3)، كأن عنقه إبريق فضة، لمنكبه مشاش کمشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا،إذا مشى تكفأ(4)، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه؛ فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السمن ما هو، شديد الساعد واليد، وإذا مشى للحرب هرول، ثبت الجنان، قوي، شجاع، منصور على من لاقاه(5). ثقيل العينين عظيمهما، حسن الوجه، ضخم الكراديس(6) والباقي سواء(7)، خفيف المشي على الأرض، ضحوك السن(8). إذا نظرت إليه قلت آدم، وان تبينته من قريب، قلت: إن يكون أسمر أدنى من أن يكون آدم. ضخم مشاش المنكب، ضخم عضلة الذراع دقیق مستدقها، ضخم عضلة الساق دقیق مستدقها. من أحسن الناس وجها(9).

إذن «Lammens» حاول رسم صورة مغايرة تدل على الضعف، وتدعو للسخرية. في حين أن ما ذكرته المصادر يدلل بصورة واضحة على البنية الجسمانية

ص: 498


1- أي أنما تميلان إلى الغلظ والقصر. وقيل : هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم. ابن منظور، لسان العرب، 13 / 232.
2- الشيء الحاضر المهيأ، الشديد التام الخلق. الجوهري: الصحاح، 2/ 505.
3- الناعم المرن. وهو يتغايد في مشيه أي يتمايل، وكذلك الغصن يتغاید من رطوبته اي يتمايل. الفراهيدي: العين، 436/4
4- المشي بحال بين التريث والعجل، مع تمایل و تبختر. وهي مشية الرجل الكريم. الجوهري: الصحاح، 2 / 820؛ 5/ 1779.
5- الاستیعاب، 3/ 1123.
6- أي عظيم رؤوس العظام مثل الركبتين والمنكبين. ابن قتيبة: غريب الحديث، 1 / 211؛ ابنمنظور: لسان العرب، 6/ 195.
7- الخوارزمي: المناقب، 45؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 26/42 - 25.
8- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 25؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 39.
9- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 365-366؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 39.

العضلية القوية التي كان يتمتع بها الإمام علي عليه السلام وهو ما يتفق مع ما عرف، وما سطر عن قوته وشجاعته وبأسه في الحروب، وهو ما لم يستطع أي مبغض غالي إنكاره وتجاوزه. و كانت تلك الصورة المخالفة للحقيقة، محل نقد المستشرق «Levi della vida = ليفي ديلافيدا 1886 - 1967 م»(1)، في دراسته الموسومة « I Caalifo, Ali secondo il Kitab ansab al. ashraf di Baladuri = وهي عبارة عن ترجمة إيطالية للجزء الخاص بسيرة الإمام علي عليه السلام في كتاب أنساب الأشراف للبلاذري «نشرها في مجلة «Rivista degli studi Orientalia = مجلة الدراسات الشرقية» في روما. في المجلد الأول عام (1914م) في الصفحات (427 - 507). فقد بين أن « Lammens» غالا كثيرة في تحامله وأحكامه سیما في تفسيره لعبارة كأنه کسر ثم جبر. التي فسرها على أنها عبارة ذم لا مدح(2). وهو ما أثار غضب «Lammens» فتهجم على «Levi della vida = ليفي ديلافيدا». قائلا: إن نظريته تحتقر نفسها بنفسها، وإنه لذلك يحتقرها! إنه قد

ص: 499


1- مستشرق إيطالي يهودي، درس في كلية الآداب في روما، وتخرج منها عام 1909م. قام برحلات إلى مصر خلال المدة (1909 - 1911م) تعاون خلالها مع الأمير ليون کايتاني في تحرير کتاب (حوليات الإسلام). درس العربية في المعهد الشرقي في نابلي بين عامي (1914 - 1916م). وخلف جويدي على كرسي اللغات السامية في جامعة روما عام (1920 - 1930 م). اشتغل في مكتبة الفاتيكان، ووضع فهارس المخطوطاتها العربية منجزا بذلك كتابه (ثبت بالمخطوطات العربية الإسلامية في مكتبة الفاتيكان) و اعقبها بدراستين عن المخطوطات القرآنية والعربية الإسبانية هناك. ثم سافر إلى الولايات المتحدة عام (1939م) فتولى كرسي اللغات السامية في جامعة فيلاديفيا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أعيد له کرسي اللغات العبرية والسامية المقارنة = الفيلولوجيا السامية. في جامعة روما، وكرسي التاريخ الإسلامي والنظم الإسلامية الإسلاميات. حتى أحيل على التقاعد عام (1961م). أشهر مؤلفاته في الإسلاميات ترجمته للفصول الخاصة بالإمام علي (ع) ومعاوية من كتاب الأنساب للبلاذري. والمواد الخاصة بالأنساب في دائرة المعارف الإسلامية. وبعض الكتابات الأدبية. بدوي: موسوعة، 246 - 249.
2- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,317.: Lammens Rivista degli studi Orientalia. p,534;

اعترض على تفسير آخر من تفسيراتنا وهو «من هذا الذي كأنه كسر ثم جبر» وكنا ترجمناها: يا له من شخصية غريبة، كأنه صنع من قطع، قد ألحمت مع بعضها البعض، وهذه العبارة لم تكن مخادعة. ولذا نحن ندرك عدم الحماس الذي كانت أبدته فاطمة من خطبتها لعلي، عندما نقرأ هذه الأوصاف. إذ يبدو أن بنت النبي كانت تحلم بفارس أحلام آخر. إذا كنا نعرف البدو - الأعراب - جيدا، فإننا سوف نعرف حتما بأن أفكارهم واعتقاداتهم - فيما يتعلق بالجمال الرجولي - لا تتطابق مع ما نعتقده

نحن(1).

ولم يكتف «Lammens» برفض تفسير Levi della vida = ليفي دي لافيدا » وتقديم نفسه قيمها على الأدب العربي! بل رفض التفسير الذي نقله المسعودي، عن ابن عائشة - وهو أبو عبد الرحمان عبیدالله بن محمد المعروف بالعيشي والعائلي وابن عائشة؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله. كان راوية للحديث والأخبار، عالما بالعربية، وأيام الناس، وأنساب العرب. روى عنه كثير من أصحاب الحديث والمؤرخين، مات سنة 228ه- (2)- الذي قال: «وهذه صفة رجل شديد الساعدين، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، وكذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه کسر وجبر»(3).

وقد علل «Lammens» رفضه لتفسير «ابن عائشة» بالقول: «تعمدت ألا أقرأ تعليق المسعودي المجامل، والذي كان أورده مع هذه العبارة؛ فهو مغرم شغوف بعلي، وممكن أن يفعل كل شيء إذا تعلق الأمر بصهر محمد»(4).

ص: 500


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. p, 317.
2- المزي: تهذيب الكمال، 19/ 147 - 152. وينظر : ابن حبان: الثقات،8/ 405.
3- مروج الذهب، 2/ 281.
4- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,318

واضح أن «Lammens» لم يراع أن رأيه - بناء على هذه القاعدة - مرفوض أيضا؛ لأنه هو الآخر مغرم شغوف بتشويه صورة الإمام علي عليه السلام. ومن الغريب أنه يعترف: أن لغة البدو - الأعراب - وأفكارهم واعتقاداتهم فيما يتعلق بالجمال الرجولي لا تتطابق مع ما نعتقده نحن!

فبأي مقياس يكون ما يفهمه هو من تلك اللغة صحيحا، وما يفهمه غيره - بما فيهم المسعودي وابن عائشة - خاطئا؟! إلا أن يكون ذلك المقياس هو العناد الفارغ لا أكثر. فإذا كانت هذه العبارة عبارة ذم لا مدح، كان الأجدر بالمسعودي أن لا يذكرها مطلقا وكأنه لم يسمعها ولم يعرفها، سيما وإن «Lammens» يدعي: أن هذه العبارة جاءت من خلال التقاط المؤرخين لماكان شاذا وغريبا من اللفظ الجاهلي القديم، ونوادر الألفاظ التي لم تكن تستخدم آنذاك إلا في قلب الصحراء. فراكموها، واعطوها هيأة وكأنها إنتاج أصيل، يستخدم في زمن معاصري الهجرة أو وقت الصحابة. وهي في حقيقة الحال ثمرة لحراستهم ونتيجة لترحالهم في الصحراء بالقرب من البدو الرحل، في ضواحي بغداد والكوفة والبصرة. حاول المسعودي أن يحدد المعنى الذي يرمي إليه؛ التفضيله لعلي، وكانت طريقته التي يتبعها في تعليقاته غير مألوفة، وتلمح لإمكانية كبيرة لصدق التفسيرات المناقضة(1).

فإذا كان الأمر كذلك وكانت العبارة عبارة قدح لا مدح، فما أغنى المسعودي عن التقاطها وذكرها في هذا الموضع تحديدا؟؛ فيا الداعي لأن يكلف نفسه عناء تأويلها!؟ والبحث عن معانيها، وحراجة تفسيرها تفسير خاطئا أو ملتويا؟! فيسيئ بذلك لسمعته كعالم موسوعي يفترض أن لا تخفى عليه مثل هذه الصغائر !؟ ومن ثم يسيء للإمام علي علیه السلام بدل أن يمدحه!؟ وإن كانت عبارة غير ملتقطة ومتداولة ومعروفة في ضمن قاموس أوصاف الإمام علیه السلام. ألم يكن بإمكانه تجاوزها كما تجاوز

ص: 501


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. pp, 318-319

كثيرا من الأخبار والتفصیلات توخيا لتقديم معلومة مركزة مختصرة؟ لا شك في أن من المغالطة تصور عكس ذلك.

ثم من الأكثر فهما ودراية بمعاني العربية وكلام العرب «Lammens »أم مؤرخ و موسوعي من الطراز الأول كالمسعودي(1)؟ أو عالم بالعربية وأنساب العرب والتواريخ والحديث، وراوية مبرز کابن عائشة؟ وليس هذا فحسب بل أن «Lammens» رفض أيضا ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من أن هذه العبارة كانت استعملت كصفة مدح (2) لعمرو بن معد يكرب(3). وإذا كان صاحب الأغاني لم يعلق بشكل واضح على أن العبارة مدحية وترك ذلك لمفهوم السياق، وفراسة القارئ، فإن ابن قتيبة وهو من أوائل المصادر التي اعتمدها «Lammens» في التقاط هذه الصفة للإمام علیه السلام(4). قد خيب سعي الأخير في تفسيرها على أنها صفة ذم فقد بين وبشكل واضح وصريح أنها صفة مدح لا ذم؛ إذ جاء في كتابه المعاني الكبير في شرحه لأحد الأبيات الشعرية لكعب بن زهير(5) قال فيه:

ص: 502


1- عن مكانته العلمية، وسعة معارفه ينظر: كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، 1/ 177 -193
2- أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 15 / 219.
3- بن عبد الله بن عمرو بن عصم الزبيدي. كنيته أبو ثور، أسلم عام (9 أو 10ه-) وكان فارسا من فرسان العرب، مشهور بالشجاعة. أقام بالمدينة لمدة، ثم شهد عامة الفتوح بالعراق، وقتل يوم القادسية، وقيل مات سنة (21ه-) بعد أن شهد وقعة نهاوند، وأصيب بجراحات يومئذ؛ فحمل ومات بقرية من قرى نهاوند يقال لها روذة. ابن عبد البر، الاستیعاب، 1201/3 - 1202. وتنظر أخباره عند: أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 15/ 208 - 245.
4- المعارف، 210.
5- بن أبي سلمی، ربيعة بن رباح المزني. قدم على النبي صلی الله علیه و آله بعد رجوعه من الطائف فأنشده قصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. ابن عبد البر: الاستیعاب، 3/ 1313 - 1317؛ ابن حجر: الإصابة، 5 / 433 - 446.

شديد الشظى(1) عبل الشوى(2) شنج النسا(3) *** كأن مكان الردف من ظهره وعا

أي كأنه کسر ثم جبر. وإنها أراد أن فيه ارتفاعا. وقال الجعدي(4)

أمر ونحی من صلبه *** کتنحية القتب المجلب

على أن حاركه(5) مشرف *** وظهر القطاة ولم يحدب

وأمر تعني: قتل وأدمج. ونحی: حرف. يقول: في عظامه قنا. أي تحنيب. وهو: أن يكون فيه كالحدب. وهو يستحب في المحال(6)، والذراع. وإذا ما قارنا هذه الصفات مع ما ورد في صفاته علیه السلام لوجدنا أن هناك تشابها كبيرا؛ فقد مر وصفه بأنه : ضخم أو غليظ عضلة الساق والذراع شديدهما، وأنه مدمج العضد والساعد، وأن

ص: 503


1- عظيم لاصق بالذراع فإذا تحرك شظى. الحربي: غريب الحديث، 2/ 623؛ الجوهري: الصحاح، 6/ 2392
2- أي الغليظ القوائم. ابن السكيت الاهوازي: ترتيب إصلاح المنطق، 252؛ الجوهري: الصحاح، 5 / 1756
3- متقبضه، وهو مدح لأنه إذا تقبض نساه وشنج، لم تسترخ رجلاه. وإذا كانت الدابة شنجة النسا، فهو أقوى لها وأشد لرجليها. والنسا عرق. ابن منظور، لسان العرب، 309/2 - 310؛ الزبيدي: تاج العروس، 3/ 417.
4- أي النابغة الجعدي. لقب بالنابغة؛ لأنه قال الشعر في الجاهلية ثم لم يقله لمدة (30 سنة) ثم نبغ فيه. وأصبح من كبار الشعراء. يعد من المعمرين في الجاهلية والإسلام.
5- يقال عاش (120 سنة) وقيل أكثر إذ أدرك سنة (70ه-). ابن عبد البر، الاستیعاب، 4 / 1514 - 1522؛الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 177 - 178. الحارك من الفرس: فروع الكتفين، وهو أيضا الكاهل. الجوهري: الصحاح، 4 / 1579.
6- فقار الظهر، والواحدة محالة. الفراهيدي: كتاب العين، 3/ 243؛ ابن منظور، لسان العرب، 11 / 229/13 ،191

کاهله كسنام ثور، وأنه شديد حاضر متهيء،.. الخ. وإذا ما وضعنا تفسير ابن حزم العبارة: كأنه كسر ثم جبر بأنه: منکب شديد الانكباب، كأنه کسر ثم جبر (1). والذي يؤيده وصف ابن عائشة، وابن الدمشقي: نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق(2). إذا ما وضعناه قبالة تصريح ابن قتيبة : أمر: فتل وأدمج، ونحی: حرف. أي في عظامه قنا أي تحنيب. وهو يستحب في المحال - فقرات الظهر - والذراع. تأكد لنا أن العبارة تدل على المدح لا على الذم. أضف لذلك أن ابن قتيبة قد أورد هذا الوصف في باب الحسن والجمال! فقال: رأت امرأة الزبير فقالت: من هذا الذي هو أرقم يتلمظ؟ ورأت عليا فقالت: من هذا الذي كأنه کسر ثم جبر؟ وكان أورد قبله قول الإمام عليه السلام : خصصنا بخمس: بصباحة، وفصاحة، وسماحة، ورجاحة، وحظوة. يعني عند النساء(3)

ولكن «Lammens» الذي نصب نفسه قيما على الأدب واللغة العربية! فاته أن يطلع على هذه القرائن فيكذبها أيضا. وأخيرا كان مما تذرع به للتمسك برأيه أن «المطهر بن طاهر المقدسي. ت بعد 355ه-» - الذي ادعى أنه حسن التشيع! - كان قد أورد العبارة بما يفهم معها أنها تدل على الذم، مشيرا إلى أنه وصف الإمام عليه السلام بصفات سيئة، وهي على أقل تقدير أكثر قساوة مماكتبه هو؛ لأنه أكمل العبارة فقال: من هذا الذي كسر ثم جبر على عيب. وأضاف أنه يجد في النص الذي كتبه المطهر المقدسي أن عملية الجبر - الإصلاح - كانت مفقودة: من هذا الذي كسر وأصلح بشكل سيء(4). وهو التفسير الذي تبناه مترجم كتاب المقدسي إلى اللغة الفرنسية .

ص: 504


1- الفصل في الملل، 5/ 42.
2- المسعودي: مروج الذهب، 2/ 281؛ جواهر المطالب، 2/ 37.
3- عيون الأخبار، مج 4 / 25.
4- A propos de Ali ibn Abi Talib. pp, 318-319

المستشرق ( CI. Huari = کلمان هیار)(1).

أمام فقر الحجج التي يسوقها «Lammens» لجأ للادعاء أن المقدسي حسن التشيع! وهو لم يكن شيعيا بالمرة، فضلا عن يكون حسن التشيع، فطالما نعت الشيعة با عرف من نعتهم في كتب أعدائهم بأنهم روافض ! فضلا عن ذلك، هو لم يقم بأكثر من نقل الصفات الواردة في المصادر السابقة، فقال: واختلفوا في حليته. قال الواقدي: كان آدم شديد الأدمة، عظيم البطن، عظيم العينين، إلى القصر ما هو، وقد تسميه الشيعة: الأنزع البطين. وكان علي أفطس الأنف، دقيق الذراعين، كأن كاهله سنام ثور، لم يصارع أحدا إلا صرعه، وروي عن الحسن [البصري] أنه قال: رأيت عليا أسود الشعر أبيض اللحية، قد ملئت لحيته ما بين منكبيه، وروي أن امرأة رأته، فقالت: من هذا الذي كسر وجبر على عيب(2). وهذا النص هو الآخر لا يؤدي لما قاله «Lammens »وهو يعترف صراحة - كما الآخرون . بالاختلاف في صفته وعدم ترجيحه لأي من الأوصاف ولذلك أورد ما انتهى إليه منها. وهي بالمجموع توحي ببنية جسمانية قوية، لا نحيفة مضحكة أو مثيرة للسخرية كما يدعي «Lammens»! وبالعودة إلى عبارة: من هذا الذي كسر وجبر على عيب. فلعل دلالتها في هذا النص

ص: 505


1- ولد في باريس، وتخرج من مدرسة اللغات الشرقية، وعين مترجمة مبتدئة في قنصلية فرنسا بدمشق عام (1875م) ثم في الأستانة خلال (1878 - 1885) ومن ثم أصبح قنصلا عام (1897م) وبعد عام استدعي إلى باريس ليعين مترجما وامين سر في وزارة الخارجية. شارك في عد من مؤتمرات المستشرقين، وعين قنصلا لفرنسا في الجزائر. رجع إلى فرنسا وأصبح يدرس اللغة العربية والفارسية والتركية وتفسير القرآن، في مدرسة اللغات الشرقية. وأصبح مديرا المدرسة الدراسات العليا هناك. من أعماله: ترجمة الكتاب البدء والتاريخ للمقدسي (1899 - 1919 م)، وتاريخ بغداد في العصر الحديث (1901م)، وتاريخ الآداب العربية (1902م) وتاريخ العرب (1912 - 1913م) وغيرها الكثير من الكتب والمقالات. يحيى مراد، معجم، 711- 713.
2- البدء و التاریخ، 5/ 73.

على المعنى الذي تحدث عنه ابن قتيبة في المعاني الكبير أكثر وضوحا منها في المصادر السابقة؛ فالمرأة وصفته بأنه جبر على عيب؛ على الأرجح لما رأت من التحدب البسيط في فقرات الظهر، الذي عبر عنه ابن حزم: منکب شديد الانكباب، وابن عائشة، وابن الدمشقي: نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق. مع ما ذكر من ارتفاع عضلات الكامل في الأعلى. وعليه تكون مطابقة الصورة هنا لما رسمه البيت الشعري لكعب بن زهير أكثر وضوحا ودقة في الوصف، وبذلك فإن تكملة العبارة التي عول عليها « Lammens» كثيرا لإسناد رأيه، و اسناد المعنى الذي تبناه، هي الأخرى تؤكد خلاف ما ذهب إليه. لا ريب أنه كان يعرف هذه الحقيقة من الوهلة الأولى إلا أنه أراد عکس الأمر؛ التزاما منه بعدم الإبقاء على أي صفة حسنة تصادفه عن سيرة الإمام عليه السلام .

ومن تحريف أو بالأحرى استغفال «Lammens» لقرائه في هذا المجال قوله: «وهذا قول آخر لمحمد يبدو فيه وكأنه يرينا العجز الجسماني لعلي: أنظر إلى الخضرة وإلى وجه المرأة، فإنه لا شيء يعدل ذلك في تقوية النظر»(1).وهو ما حرفه وشكله مما رواه المتقي الهندي أن النبي صلی الله علیه و آله قال: «ثلاث يجلين البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن»(2). غاية ما في الأمر أن أحد رواة هذا الحديث هو: الإمام علي علیه السلام مضافا لعبدالله بن عمر، وعائشة! وبغض النظر عن صحة الحديث وبعده عن ما رتب عليه من نتيجة، فهو فضلا عن كونه شاملا لجميع المسلمين، فمن الغريب أن تكون دلالته على الضعف الجسماني منحصرة بالإمام علي علیه السلام من بين الرواة الثلاثة ؟! فلماذا لا يكون ذلك دلالة على ضعف ابن عمر أو السيدة عائشة؟! هذا إذا ألغينا عقولنا، وقلنا بأن الحديث يؤدي إلى ذلك.

ص: 506


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p,33.
2- 51/10

لا شك في أن من يطلع على حقائق ما يتحدث به «Lammens» ويقف على مقدار التجني والاستباحة للنصوص؛ سيعلن عدم احترامه لهذا المستوى الهابط من الفكر والخطاب، ليس فقط في كتابات «Lammens» بل بالفكر الاستشراقي إن سمح هكذا كتابات وأساليب في أن تأخذ مكانا فيه. ولذا توالت النقود تلو النقود على أعماله وطروحاته البعيدة كل البعد عن النية البحثية والعلمية.

ولعل هذا ما شخصه المستشرق الألماني (Schwally = شفالي) حين قال عن أعماله:

إنها ليست خالية من سوء الظن المبالغ فيه من ناحية، ومن التناقض والتحيز الديني من ناحية أخرى. وإنه يعد المعالم المبهجة واللطيفة للأشخاص الذين يتناولهم تحسينا مغرضا لهم، بينما يأخذ من المصادر كل ما هو قبيح وسيء من غير تمحيص! فينتج لفاطمة وعلي صورا كاريكاتورية فعلا. وفي هذا بطبيعة الحال مبالغة كبيرة. ينبغي أن تستعمل أعمال «Lammens» بحذر ..(1)

ص: 507


1- تاریخ القرآن، 428 - 429.

(2)البيئة الأسرية.. المنطق والنص ومخالفة الخطاب

مما يؤخذ على «Lammens» أن ملكة النقد الحادة، ولغة الشك المفرطة، تتعطل عنده تماما في مواضع من المفترض أنها تثير شك أي باحث واستغرابه أو حتى مطالع اعتيادي، وواضح أن تلك المواضع هي عندما يتعلق الحديث بسيرة أهل البيت علیهم السلام أو الشخوص المنتمين لهذا الخط، ويكون للصراعات السياسية والاختلاف المذهبي والهوى والاغراءات المادية.. ، دور أساس في توجيه كتاب التاريخ والسيرة والحديث، الصياغة تلك الأحداث بما ينسجم ومصلحة الموجه والمستفيد؛ فتنتج عن ذلك كتابات لا شك في أنها مفتعلة، ومخالفة للواقع، يمكن بسهولة بالغة التعرف على أسباب الوضع والتزوير فيها، ولكن ذلك الشكاك الكبير والناقد الشرس، يبدو حملا ودیعا، وقلما متراخيا وكسولا، يدعو لإثارة السخرية!؛ حين يردد تلك الروايات من دون أدنى ريبة أو مناقشة.

وعلى العكس من ذلك تماما عندما يمر التاريخ بذكر حقيقة أو فضيلة مهما كانت واضحة ومتفق عليها ولا سبيل لإنكارها - وإلا لما ذكروها - نجد ذلك المتراخي الكسول المثير للسخرية، يقدح ملكة نقده، ويستجمع أسباب شکه،ويمتشق القلم وكأنه في حالة صراع وعراك مع الرواية !؛ فيحاول ليها مهما استعصت على ذلك، وتراه يشرق ويغرب يجمع النتف والسفاسف؛ ويصطاد السوانح والشوارد، ويتلقف الغرائب والشواذ؛ ليفند هذه الرواية وإن كان ذلك بما يثير السخرية منه بأشد مما مضى من كسله وتراخيه، وبما يقوده للتناقض مع نفسه، من دون أن يشكل ذلك له أي حراجة تذكر، عملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة! وكان من مرتكزات تقويض صورة الإمام علي عليه السلام أن تضرب جذوره، ويصادر تاريخ عائلته؛ فتقدم بألوان باهتة ودور

ص: 508

هامشي، ينعكس بالنتيجة في مخيال المتلقي الغربي على صورة المثال نفسه؛ فعادة ما تكون العائلة هي من تزود أفرادها بمقومات تکاملهم وأسباب تميزهم؛ وبالعكس إن كانت العائلة خاملة الذكر متواضعة المكانة، فليس من السهولة أن ينبغ من أفرادها شخص يستقطب دائرة الاضواء، وإن تحقق ذلك فهو لاشك يبقى في نطاقات ضيقة محدودة لا ترتقي بأن تمنح البشرية صورة الفرد المثال، وبصرف النظر عن مسألة الاعتقاد بالعصمة وما يترتب عليها من ضرورات طهارة المولد والنشأة؛ فالعقل يحكم باستحالة أن ينتمي أحد الأنبياء لأسرة كافرة أو مشركة أو متواضعة المكانة والحضور على مستوى التأثير الروحي والمعنوي في الآخر؛ وإلا فليس من السهولة إقناع المتلقي بالانسلاخ من بيئته الفكرية وأهل الداعي لذلك الانسلاخ يمر غون في تلك البيئة وملوثاتها. هذا فضلا عن أنهم إن كانوا كذلك لاشك سيغذون هذا الفرد بموروثاتهم الاعتقادية؛ فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه(1). وكذا الحال بالنسبة للإمامة إذ يفترض أن يحمل الوصي النبي خصائص النبي توخيا لتتابع المشروع الذي بعث به النبي صلی الله علیه و آله على أتم وأكمل وجه. لذا من المرجح أنهذا الإدراك كان حاضرا بذهن المؤسسة التي توخت في تكفيرها لأبي طالب 7 سلب الإمام علي 7هذه الفرادة والأحقية في خلافة النبي صلی الله علیه و آله ووراثته.

استقبل «Lammens» الروايات التي وظفت لترسيخ هذا المفهوم بفرحة غامرة لاحدود لها، وراح يجترها، ويقرر عليها المباني، ويستظهر منها النتائج؛ ليخلص لسلب تلك العائلة والإمام عليه السلام تحديدا ذلك الإرث الجهادي الطويل، وتلك الصفحات الناصعة البياض واستبدالها بالصورة القائمة الخاملة المتكاسلة المتواضعة؛ مما لاغرو له أثر في توجيه ذهن القارئ لإدراج تلك الشخصية ضمن محيطها العائلي؛ ولذلك قال : قبل الهجرة لا نعرف شيئا عن حياة علي بن أبي طالب باستثناء اسمه واسم عائلته.

ص: 509


1- أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 233؛ البخاري: صحيح، 2/ 97؛ مسلم: صحیح، 52/8

ومن أجل سد هذا النقص، حاول بعضهم إنشاء أو خلق حياة خاصة بعلي في تلك الفترة؛ فقد حدد المحللين الأوائل هدفهم بإيجاد علاقة منذ الساعة الأولى بين الرسول وخلفائه الأربعة وقد لعبت النساء - عائشة حفصة، بنات النبي - الدور الأبرز فيها. أما بالنسبة لعلي فلم يكن معاصروه ينظرون إليه بنوع من الارتياح؛ لأنه ذو عقلية محدودة القدرات. وكان أبو طالب مدركا لذلك؛ ولهذا نجده يحاول التخلص من أبنائه وخصوصا علي، ولم يبق معه إلا عقيل الذي كان أكفأهم جميعا، وكان علي ينتمي لعائلة استمرت حتى الفتح غير مهمة أو معادية للإسلام، فأبو طالب حامي محمد وزوجته ماتا وهما غير مؤمنين بالإسلام، واسم الطالبيين الذي أطلق من قبل العباسيين على أبناء فاطمة يشير إلى تلك الحالة(1).

ثم كيف لأي مطالع بسيط للتاريخ أن يدعي: أن عائلة أبو طالب استمرت حتى الفتح غير مهمة أو معادية للإسلام. كيف ذاك وعبد المطلب ومن قبله آباؤه، ومن بعده ولده أبو طالب هم زعماء قريش ومكة قبل البعثة وبعدها؟! وكيف يكون أبو طالب معاديا للإسلام وقد نشأ الإسلام في بيته؟! إن مزوري التاريخ، الذين وظفهم الأمويون والعباسيون لصياغته وفق رغباتهم السياسية والعقائدية، على فجاجة أقوالهم وكذب رواياتهم واختراعها لم يجرؤوا أن يدعوا أن أبا طالب كان معادية للإسلام لم يفكروا أن يذهبوا بعيدة كما يفعل « Lammens» مستغلا فقر ثقافة واطلاع المتلقي الغربي على الموروث الإسلامي. بمعنى أنه يستغفل ذلك القارئ والمتلقي، ويزوده بمعلومات مكذوبة، ويمعن في ذلك الاستغفال عندما يدعي أن المؤرخين أمام نقص المعلومة عن حياة الإمام عليه السلام حاولوا خلق حياة خاصة بعلي في تلك الفترة، فحددوا هدفهم بإيجاد علاقة منذ الساعة الأولى بين الرسول وخلفائه الأربعة! ولا يلبث « Lammens» أن يناقض نفسه فيقول: أما بالنسبة لعلي فلم يكن

ص: 510


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 22-24

معاصروه ينظرون إليه بنوع من الارتياح؛ لأنه ذو عقلية محدودة القدرات. وكان أبو طالب مدركا لذلك؛ ولهذا نجده يحاول التخلص من أبنائه وخصوصا علي، ولم يبق معه إلا عقيل الذي كان أكفأهم جميعا. ويناقض نفسه مرة أخرى عندما يحاول التشكيك بدور الإمام عليه السلام في المعارك الإسلامية ونفي شجاعته فيقول: « كيف لشاب رافق النبي، وتربی ببیت الرسول أن يعرف استخدام السيف؟ »(1).

فإما إنه لم يترب في بيت النبي صلی الله علیه و آله فليس هناك علاقة. وإما إنه فعلا تربى في بيته، وحينها لا سبيل لإنكار تلك العلاقة منذ اللحظات الأولى. أما إن الأمر لاهكذا ولا هكذا فكان على «Lammens»أن يلغي وجود أحدهما ليتخلص من ذلك الأشكال. نعم المشكوك فيه بل الثابت أن لا علاقة بينه وبين الثلاثة الآخرين حتى بدايات الدعوة، ومن ثم انضمامهم للإسلام بأوقات متباينة. أما إن الإمام عليه السلام كان محدود القدرات، وأن معاصریه كانوا ينظرون إليه بنوع من عدم الارتياح. فهي فرية طالما اجترها مرارا وتكرارا تعليقا على ما شخصه الإمام عليه السلام من فرق بينه وبين معاوية: وأيم الله لقد أصبحنا في زمن اتخذه أكثر أهله كيسا ونسبهم أهله إلى حسن الحيلة، ما لهم خيبهم الله، قدیری الحول القلب وجه الحيلة، ودونها حاجز من أمر الله ونهيه؛ فيدعها رأي عين وبعد قدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين(2).

أما أن أبا طالب قرر التخلص من أولاده وفي مقدمتهم على وفضل الاحتفاظ بعقيل. فهو موضع آخر يتحول فيه «Lammens» إلى ذلك الباحث الخامل الذي الايملك غير ترديد الروايات؛ وإلا كيف غاب عن باله أن الرواية القائلة: إن النبي صلی الله علیه و آله قال لعمه العباس: يا أبا الفضل إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس

ص: 511


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 29.
2- أبو جعفر الإسكافي: المعيار والموازنة، 96،166 ؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 2/ 312، 211/10

ما ترى من هذه الأزمة؛ فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله. فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك. فقال لهما: إذا تركتها لي عقيلا فاصنعا ما شئتها، فأخذ النبي عليا، فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فبقيا عندهما حتى بداية الدعوة الإسلامية (1). وفي رواية : أخذ حمزة جعفر، وأخذ العباس طالبا(2). قد أهملت التسلسل العمري الذي يذكره المؤرخون: طالب أسن من عقيل بعشر سنين وعقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر أسن من علي بعشر سنين(3)؟

وعليه يكون طالب وجعفر بلغا مرحلة لا يحتاجان معها للكفالة (40/ 20سنة). أو قرابة العشرين بالنسبة لجعفر. ثم هل كان أبو طالب فقيرا لهذا الحد وهو سید قریش وشيخها؟!

ثم إن الرواية تبقي تواجد جعفر مع العباس حتى بداية الدعوة الإسلامية ! فهل استمرت المجاعة كل هذه المدة؟! ولم يستطع الاعتماد على نفسه؟! هذا مع غياب تام لأي إشارات تدل على تصاحبهما، بعكس ما نجد من التصاحب في الجانب الآخر، لدرجة أن كان من شأنه عد الإمام علي عليه السلام أول المسلمين. هكذا تمر الرواية أمام « Lammens» من دون أن تستثير شكه المفرطة؛ لأنه أراد تأويلها بأن: أبا طالب أراد التخلص من أولاده وخصوصا على لمحدودية قدراته!

ص: 512


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 246/1 ؛ الطبري: تاریخ، 2/ 313؛ ابن عد البر، الاستیعاب، 1/ 38؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 58؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 1/ 124 - 125.
2- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 15. ناقش (النصر الله) هذه الرواية وبين بطلانها. ينظر: الإمام علي في فكر معتزلة البصرة، 19 - 20. هامش رقم (1).
3- ابن سعد، الطبقات، 4 / 38؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 9/41 ؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 1/287؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4 / 291.

أما المعزوفة القديمة الحديثة أن أبا طالب عليه السلام مات مشركا(1)! فلم يدعها تمر من دون أن يضيف لها شيئا من عنده، فادعى: أن زوجته فاطمة بنت أسد خلافا لما تواتر من إسلامها(2)، هي الأخرى ماتت من دون أن تسلم! وبالعودة لإيمان أبي طالب عليه السلام فمن العصبية والهوى التوقف في إيمانه، وإلا إن لم يكن مؤمنا مع كل تاريخه فما معنى الإيمان إذن؟! وهل قدم أحد من المسلمين ما قدمه للإسلام؟! |

إنه ما کفر إلا لأنه أب لعلي عليه السلام ! ورغبة ولإيجاد نوع من التوازن في المزايا والخصائص بينه وبين الثلاثة! كما لم يشد بأبي سفيان ويلتمس له العذر والتوبة إلا لأنه رأس النفاق و أب لمعاوية.

إنها العصبية والنفعية التي تجعل من شيخ المسلمين وأكثرهم جهادا ونصرة کافرا في ضحضاح من نار، ومن رأس النفاق مسلما صحابيا يتمتع بكل امتیازات الصحابة المزعومة! فمن روى هذه الأكذوبة التي سممت التاريخ الإسلامي؟

أولا - أبو هريرة شيخ المضيرة(3): غير معروف النسب واختلف في اسمه واسم

ص: 513


1- ناقش «جواد کاظم منشد النصر الله» هذه الموضوعة نقاشا مستفيضا في أطروحته: شرح نهج البلاغة - رؤية اعتزالية عن الإمام علي، 59 - 110.
2- الزبيري: نسب قریش، 40؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 293 - 294؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1089؛ 4 / 1891؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 1/ 67؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5/ 517؛ النويري: نهاية الإرب، 20/ 3؛ المزي: تهذيب الكمال، 20/ 473؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 100/9 ؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 621؛ سير أعلام النبلاء، 2/ 118؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 369؛ القلقشندي: قلائد الجمان، 158؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6 / 279؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 268 - 269؛ تهذيب التهذيب، 7 / 294؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 21/ 177؛ العيني: عمدة القاري، 2/ 147؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 1/ 155؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12 / 148 - 147
3- هي أن يطبخ اللحم باللين. ابن منظور، لسان العرب، 5 / 178. وكان يديم أكلها مع معاوية؛ فسمي بها. الزمخشري: ربيع الأبرار، 226.

أبيه على ثلاثين أو أربعين قولا!(1)، حتى لم يختلف باسم أحد مثله في الجاهلية والإسلام؛ ولذلك لم يعتمد له اسم معين(2) ، وغلبت عليه کنيته فهو كمن لا اسم له(3). وكني بأبي هريرة لهرة كان يلعب بها! كما أخبر هو عن نفسه (4). وتحدث عن ضعته وخمول أصله، قبل قدومه إلى المدينة فقال إنه كان خادم بطعام بطنه(5). قدم إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة بعد انتهاء غزوة خيبر، فأسلم حينها(6). وطمع بمغانم هذه الغزوة فطلب منها؛ فحقره أحد الصحابة وقال : واعجبا لوبر تدل علينا من قدوم ضأن(7). والوبر = هي دابة وحشية صغيرة كالسنور. وقيل: إن معناه أنه ملصق في قریش، فشبهه بالذي يعلق بوبر الشاة من الشوك. وهو على كل حال: تحقير لأبي هريرة، وأنه ليس في قدر من يستحق العطاء فهو لم يقاتل، فضلا عن أنه قلیل القدرة على القتال(8) . وقد بقي في المدينة - على أعلى التقادير - لمدة سنة ونصف وليس کما يعتقد أنه بقي فيها ثلاث سنوات(9). ولم يتبدل طبعه بعد إسلامه؛ فظل يريق ماء وجهه ويمتهن كرامته ليملأ بطنه (10).

ص: 514


1- ابن حجر: الإصابة، 7/ 351؛ العيني: عمدة القاري، 1/ 124؛ السيوطي: شرح سنن النسائي، 7/1.
2- ابن الصلاح: مقدمة، 577.
3- ابن عبد البر: الاستیعاب، 4 / 1771.
4- ابن سعد: الطبقات، 5/ 234؛ ابن الأثير: اسد الغابة،316/5 ؛ ابن حجر: الإصابة، 349/7
5- ابن سعد، الطبقات، 5/ 231؛ ابن قتيبة: المعارف، 277؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 67 / 365- 366
6- ابن سعد: الطبقات، 5/ 230؛ البخاري: صحیح، 3/ 210 - 211.
7- البخاري: صحیح، 3/ 211؛ 82/5
8- ينظر: ابن حجر: فتح الباري، 7/ 377.
9- أبو رية: شيخ المضيرة، 69.
10- ينظر: ابن سعد، الطبقات، 5/ 238 - 244؛ البخاري: صحيح، 4 / 209؛ 6 / 208؛ 7/ 179؛ ابن حبان: صحيح، 14/ 472؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 1 / 288

وليس يدري أين ذهب مزود التمر الذي حدث عنه قائلا: أتيت النبي يوما بتمرات، فقلت: أدع الله لي فيهن بالبركة. قال: فصفهن بين يديه، ثم دعا وقال: اجعلهن في مزود، وادخل يدك ولا تنثره. فحملت منه كذا وكذا وسقا في سبيل الله ! ونأكل ونطعم! وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع عن حقوي فسقط(1). وكان يقول: « اللهم إني أسألك ضرسا طحونا، ومعدة هضوما، ودبرا نثورا»(2). يعجبه أكل المضيرة، فيأكلها مع معاوية، فإذا حضر وقت الصلاة - في أيام صفين - صلى خلف الإمام علي علیه السلام واثناء القتال يعتزل المعركة؛ فإذا سئل عن ذلك قال : مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف علي أتم (3)أو أقوم، والقعود على هذا التل أسلم(4). ولكثرة روايته الحديث، وكذبه فيه؛ ضربه عمر بن الخطاب بالدرة، وقال: قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله(5). وهدده قائلا: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس(6). كما كذبه الإمام علي علیه السلام وعثمان، وعائشة !؛ فقد أتى من الرواية عنه، مالم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين!؛ فاتهموه، وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك ؟! ومن سمعه معك ؟! وكانت عائشة أشدهم إنکارا عليه لتطاول الأيام بها وبه! وكان كثير من الصحابة لايروون عنه(7). وكان الإمام علي علیه السلام يقول: ألا إن أكذب الناس، أو

ص: 515


1- ابن سعد، الطبقات، 5/ 240؛ احمد بن حنبل، مسند، 2/ 352؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 6 / 128؛ أبو رية: شيخ المضيرة، 58.
2- الزمخشري: ربيع الأبرار، 3/ 210.
3- الزمخشري: ربيع الأبرار، 3/ 226 - 227
4- الحلبي: السيرة الحلبية، 3/ 367؛ أبو رية: شيخ المضيرة، 61 - 63.
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 4 / 68؛ أبورية: أضواء على السنة، 174.
6- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 50/ 172؛ 67/ 343؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 600.
7- ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، 41، 42.

أكذب الاحياء على رسول الله صلی الله علیه و آله أبو هريرة(1). وكان أبو حنيفة يترك الأحاديث التي يرويها(2). وقد سرق أموال الخراج، عندما ولاه عمر بن الخطاب على البحرين، فوبخه قائلا: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله !؟ قال: ما أنا بعدو الله ولا عدو کتابه، ولكني عدو من عاداهما، ولا سرقت مال الله. قال عمر: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ فقال: يا أمير المؤمنين خيلي تناسلت، وسهامي تلاحقت، وعطائي تلاحق. فأمر بها عمر فقبضت(3).

كان يتلقى الروايات من كعب الأحبار اليهودي فيرويها على أنه سمعها من النبي صلی الله علیه و آله(4)

وقد سخر أبو هريرة أكاذيبه لخدمة الأمويين، الذين اصطنعوه وأمثاله ليكون أداة الإعلامهم المضلل في تشويه صور خصومهم وكانت أولى لفتاتهم إليه أن ولوه على المدينة، وبنوا له قصرا بالعقيق، وزوجوه بسرة بنت غزوان التي كان خادما عندها(5)، فوضع لهم الأحاديث تلو الأحاديث، ومنها أن جعل معاويةمأمونا على القرآن! فروى أن النبي قال: « الأمناء ثلاثة جبريل و محمد رسول رب العالمين ومعاوية بن أبي سفيان»(6)

ص: 516


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 4 / 68.
2- أبو رية: اضواء على السنة، 178.
3- ابن سعد، الطبقات، 5 / 252؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 347؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 67 / 371.
4- أبو رية: أضواء على السنة، 180 - 183.
5- وهي أخت عتبة بن غزوان. ابن حجر: الإصابة، 51/8 - 52؛ أبو رية: أضواء على السنة، 186 - 187
6- ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال، 2/ 345؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 130؛ میزان الاعتدال، 1/ 503؛ ابن حجر: لستن الميزان، 2/ 220. قالا بعد ذكر الحديث: وهذا كذب.

ولما قدم إلى العراق مع معاوية «جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مرارا، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعت رسول الله يقول: إن لكل نبي حرما، وإن حرمي بالمدينة، مابين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها !! فأجازه وأكرمه، وولاه إمارة المدينة»(1).

ومن جملة أكاذيبه الكثيرة قوله إن النبي صلی الله علیه و آله قال لعمه أبي طالب علیه السلام: «قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة. فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنها حمله على ذلك الجزع؛ لأقررت بها عينك!؛ فأنزل الله إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدی من يشاء»(2). فليس يدري إذا كان أبو هريرة كما تقدم لم يسلم إلا في السنة السابعة للهجرة، كيف حضر وفاة أبي طالب علیه السلام في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات !؟ وبين وفاة أبي طالب علیه السلام ورؤيته للنبي صلی الله علیه و آله لأول مرة في حياته عشر سنين ! ولماذا لم يرو هذه الحادثة - إن كانت حدثت فعلا أحد من الصحابة حتى جاء أبو هريرة؟! ومن تهافت الرواية أن أبا طالب علیه السلام يهتم ويخشى تعيير قريش في لحظات احتضاره وهو لم يخش تعييرها وكل ضجها وضجيجها طوال عشر سنوات! ولم يهتم لمقاطعتها وحرمانها

ص: 517


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 4 / 67.
2- مسلم: صحیح، 41/1 ؛ الترمذي: سنن، 5/ 21؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 1/ 172؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 1/ 233؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 2/ 127؛ ابن حجر: فتح الباري، 8،149/7 /390. وقد عد المفسرون بناء على هذه الحادثة، أن قوله تعالى «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين». القصص / 56. نزلت في أبي طالب! الثعلبي: الكشف والبيان، 245/7؛ البغوي: معالم التنزيل، 2/ 331؛ ابن الجوزي: زاد المسير، 6/ 105 - 106؛ القرطبي: الجامع، 6/ 406؛ ابن کثیر: تفسير، 406/3 ؛ السيوطي: الدر المنثور، 5 / 133؛ لباب النقول، 150 ،165

وظلمها خلال حصار الشعب !؟ ثم ما الذي تعيره به قریش وشعره طافح من ألفه إلى يائه بالتوحيد والاعتراف بالنبوة فلماذا لم تثر اعترافاته وتصريحاته تلك تعيير قریش؟!

ثانيا - ما يروى عن العباس بن عبد المطلب أنه قال للنبي صلی الله علیه و آله : ما أغنيت عن عمك!؟ فو الله كان يحوطك، ويغضب لك. قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار!(1). ويغنينا عن مناقشة إسناده أنه ساقط متنا؛ التعارضه مع صریح القرآن أولآ، ومع الحديث الذي يليه مباشرة فقد روى البخاري عن الزهري وسعيد بن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي. فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب. ترغب عن ملة عبد المطلب ! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب. فقال النبي: لاستغفرن لك مالم أنه عنه!؟(2).

وعلى إثر ذلك نزلت الآية «مَا کَانَ لِلنَّبِیِّ وَالَّذِینَ آمَنُوا أَن یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ وَلَوْ کَانُوا أُولِی قُرْبَی مِن بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِیمِ»(3).والآية «إِنَّکَ لَا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَن یَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ »(4)

وبداية من المشهور بين المفسرين أن (سورة براءة) وبضمنها ما كان للنبي..) سورة مدنية . قال مقاتل بن سلیمان: «سورة براءة مدينة كلها، غير آيتين، هما: (128 - 129) فإنها مکیتان(5). وقال غيره: نزلت في غزوة تبوك(6). وقال غيرهما: كانت آخر

ص: 518


1- البخاري: صحيح، 4 / 247؛ مسلم: صحیح، 1/ 135.
2- صحيح، 4 / 247.
3- التوبة / 113.
4- القصص / 56.
5- تفسير، 2/ 33؛ وينظر : البغوي: معالم التنزيل، 2/ 265؛ ابن حيان الأندلسي: تفسير البحر المحيط، 6/5
6- الطبري: جامع البيان، 10/ 77؛ القرطبي: الجامع، 61/8

أو من آخر ما نزل(1). وأبو طالب عليه السلام توفي في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين فكيف يوفق بين الرواية الاستشهاد أعلاه؟! وكيف يكون في الحديث الأول تشفع له، ونقله من الدرك الأسفل إلى ضحضاح من نار! وفي الحديث الثاني ينهي ويمنع من الاستغفار له؟! أم أنه تشفع له وقام بنقله، ومن ثم نزلت الآيات ؟! وبذلك يسقط الحديث الثاني. هذا فضلا عن تعارض الحديثين مع القرآن الكريم، قال تعالى : «وَالَّذِینَ کَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا یُقْضَی عَلَیْهِمْ فَیَمُوتُوا وَلَا یُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ کَذَلِکَ نَجْزِی کُلَّ کَفُورٍ»(2). وقال تعالى:«وَإِذَا رَأَی الَّذِینَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا یُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ یُنظَرُونَ»(3). وقال تعالى: «خَالِدِینَ فِیهَا ۖ لَا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ یُنظَرُونَ»(4) وقال تعالى:«وَقَالَ الَّذِینَ فِی النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّکُمْ یُخَفِّفْ عَنَّا یَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ»(5).

ثم ما معنى مجيء أبي جهل وعبدالله بن أبي أمية ليحضرا وفاة أبي طالب، وأين الإمام علي وحمزة عيلهما السلام وباقي المسلمين؟! وكيف رضوا بحضور هذين المشركين الكافرين؟! وكيف يسمحون لهما بأن يحولا دون أن ينطق أبو طالب بالشهادتين؟! وما الذي يستفيده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية من منع أبي طالب عيلهما السلام من أن ينطق بالشهادتين ؟! وما الداعي لهذه المحبة وهم قد قاطعوه، وتركوه وباقي بني هاشم والمسلمين يتضورون جوعا لسنوات؟! فإن كان ذلك بدافع العصبية فالأولى أن يحضر أبو لهب لا أبو جهل! وهل يصح من مثال الوفاء الإنساني محمد صلی الله علیه و آله أن يترك من أفنی

ص: 519


1- النحاس: معاني القرآن، 3/ 179؛ الباقلاني: إعجاز القرآن، 293؛ الثعلبي: تفسير، 5 / 115؛ السمعاني: تفسير، 507/1
2- فاطر / 36.
3- النحل / 85.
4- البقرة / 162.
5- غافر / 49.

عمره في حمايته ورعايته، وهو مسجي على فراش المرض يعيش لوحده لحظاته الأخيرة؟! فالرواية تشعر بأنه كان يحتضر لوحده، ليس معه إلا أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، ومن ثم جاء النبي صلی الله علیه و آله ! وكأنه جاءه زائرا كما يأتيه أي شخص آخر! ويقول ذيل الرواية إن آخر ما تكلم به أبو طالب أنه قال: إنه على ملة عبد المطلب! أي إنه لم يذكر أيا من آلهة قريش! في حين كان المشركون عندما يعذبون المسلمين يأمروهم بذکر هبل والأصنام الأخرى، وعندما هزم المسلمون في أحد تبجح أبو سفيان بقوله: أعل هبل (1)

وعندما نستقرئ أحوال عبد المطلب نجده موحدا مؤمنا لا يعترف بعبادة الأصنام! فقد روي: أن القائد الذي بعثه ابرهة الحبشي هدم الكعبة. سأل عن سيد قریش : فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام! وبيت خليله إبراهيم! فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه! وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه! ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقال وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لاهم إن العبديمنع *** رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم غدوا محالك

إن كنت تاركهم *** وقبلتنا فأمر ما بدا لك(2)

وروي: أن قريشا خرجت من الحرم فارة من أصحاب الفيل، وهو غلام شاب فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره!؛ فجلس عند البيت، وأجلت عنه قریش! فلم يزل ثابتا يردد تلك الابيات حتى أهلك الله تبارك وتعالى الفيل وأصحابه!

ص: 520


1- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/ 318 - 320؛ 2/ 93.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 48 – 51.

فرجعت قريش، وقد عظم فيهم بصبره، وتعظيمه محارم الله(1). ومما يستدل به على إيمانه وتوحيده قوله:

نحن أهل الله في بلدته *** لم يزل ذاك على عهد إبرهم

نعبد الله وفينا شيمة *** صلة القربى وإيفاء الذمم

إن للبيت لربا مانعا *** من يرده بأثام يصطلم(2)

وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مکارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور، وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم، حتى ينتقم منها إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك! ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا، يجزي فيها المحسن بإحسانه! ويعاقب المسيء بإساءته! ورفض عبادة الأصنام، ووحد الله وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها منها: الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان(3). وقال الشهرستاني: إن نور النبي ظهر بعض الظهور في أسارير عبد المطلب سید الوادي، شيبة الحمد، وسجد له الفيل الأعظم، وعليه قصة أصحاب الفيل. وببركة ذلك النور دفع الله تعالى شر أبرهة، وأرسل عليهم طيرا أبابيل، وببركة ذلك النور رأي تلك الرؤيا في تعريف موضع زمزم، ووجدان الغزالة والسيوف التي دفنتها جرهم. وببركة ذلك النور ألهم عبد المطلب النذر الذي نذر في ذبح العاشر من أولاده.. ،

ص: 521


1- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 314/5 ؛ الأزرقي: أخبار مكة، 221 - 227؛ الرازي: تفسير، 10 / 3465؛السمرقندي: تفسير، 3/ 595 - 596؛ الثعلبي: الكشف والبيان، 10 / 296؛ السيوطي: الدر المنثور، 3/ 219؛ 394/6
2- الأزرقي: أخبار مكة، 225؛ اليعقوبي: تاریخ، 1/ 253.
3- الحلبي: السيرة الحلبية، 1/ 7.

وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده: بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مکارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور، وببركة ذلك النور كان قد سلم إليه النظر في حكومات العرب والحكم بين المتخاصمين! فكان يوضع له وسادة عند الملتزم فيستند إلى الكعبة، وينظر في حكومات القوم. وببركة ذلك النور قال لأبرهة: إن هذا البيت ربا يحفظه ويذب عنه. وفيه قال وقد صعد إلى جبل أبي قبيس [ ذكر الأبيات أعلاه] وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوما حتى ينتقم الله منه، وتصيبه عقوبة! إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل العبد المطلب ذلك؛ ففكر وقال: ولله إن وراء هذا دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته! ومما يدل على إثباته المبدئ والمعاد أنه كان يضرب بالقداح على ابنه عبد الله ويقول:

یا رب أنت الملك المحمود *** وأنت ربي المبدئ والمعيد

ومما يدل على معرفته بحال الرسالة، وشرف النبوة؛ أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم، وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر أبا طالب أن يحضر المصطفى محمدا6 فأحضره وهو رضيع في قماط، فوضعه في يديه، واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء، وقال: یا رب بحق هذا الغلام، ورماه ثانيا وثالثا، وكان يقول: بحق هذا الغلام أسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا! فلم يلبث ساعة أنطبق السحاب وجه السماء، وأمطر حتى خافوا على المسجد(1).

وعلاوة على كل ذلك، يجدر الأخذ بنظر الاعتبار أن من روی الخبر المتقدم هما الزهري وسعيد بن المسيب وكلاهما منحرف عن الإمام علي علیه السلام . فأما سعید ابن المسيب فقد وصفه عمر بن علي بن أبي طالب علیه السلام بأنه منافق. وأما الزهري فهو من

ص: 522


1- الملل والنحل، 2/ 586 - 588.

فكان هو وعروة بن الزبير يذكران عليا عليه السلام فينالا منه! فبلغ ذلك على بن الحسين عليه السلام فجاء حتى وقف عليهما فقال: أما أنت یا عروة. فإن أبي حاكم أباك إلى الله، فحكم لأبي على أبيك. وأما أنت يا زهري. فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك(1).

ثالثا - ما روي عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع النبي صلی الله علیه و آله، وقد ذكر عنده عمه فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة؛ فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه»(2). وهو الآخر يتعارض مع القرآن، فضلا عن تناقضه بنصه! فصدر الحديث يقول: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة. أي إنه يتحدث بلغة التمني والترجي والاحتمال. أما في ذيله فنجده يقرر عقوبة حاصلة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ کعبيه يغلى منه دماغه. أي: ينقل صورة حية عن عقوبته! وإن كان الأمر في طور الاحتمال فلم لا يترجى له النجاة !؟ أو على الأقل عذابا أخف؟! ومن التأويلات المضحكة والغريبة فيهذا المقام قول السهيلي: «الحكمة فيه: أن أبا طالب، كان تابعا الرسول الله بجملته، إلا أنه استمر ثابت القدم على دين قومه؛ فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على دين قومه»(3). فهل يتم الثبات على العقيدة بالقدم؟! فضلا عن ذلك الخبر يروى عن:

1/ عبد الله بن يوسف: أبو محمد التنيسي. وثقه جماعة(4)، وأورده ابن عدي في الضعفاء (5). مات سنة (217 أو 218ه-)(6).

ص: 523


1- شرح نهج البلاغة، 4/ 101 - 102. والكير: هو الأداة التي ينفخ فيها الحداد على النار. ابن منظور: لسان العرب، 5 / 157.
2- البخاري: صحيح، 4 / 247؛ مسلم: صحیح، 1/ 135.
3- ابن حجر: فتح الباري، 149/7
4- العجلي : معرفة الثقات، 2/ 67؛ الرازي: الجرح والتعدیل، 5/ 205؛ ابن حبان: الثقات، 8/ 349.
5- الكامل في ضعفاء الرجال، 4 / 205.
6- البخاري: التاريخ الصغير 309/2 ؛ التاريخ الكبير 5/ 233؛ المزي: تهذيب الكمال، 16/ 333 - 336.

2/ الليث بن سعد: أبو الحارث ليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري. أحد الفقهاء المشهورين في مدرسة الخلفاء، ولد عام (94ه-)(1). قيل عنه: إنه أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك. كان مقربا من حكام بني العباس؛ فذكر هو أن المنصور العباسي قال له: يعجبني ما رأيت من عقلك، وأن يبقى الله عز وجل في الرعية مثلك(2). وذكر أنه كان يفد على المهدي العباسي، وعلى هارون الرشيد. وفي مرة من المرات قال له الرشيد: حلفت أن لي جنتين، فاستحلفه الليث ثلاثا إنك تخاف الله؟ فحلف له الرشيد. فقال له الليث: قال الله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان! فأقطعه قطائع كثيرة بمصر(3). وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمرا، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل (4).

ويبدو أن قربه من العباسيين فتح عليه مصادر الغني؛ فروي في المبالغ التي كان يمنحها، وحياة البذخ التي كان يعيشها أخبارا(5) عدة. كان ممن يفضلون عثمان؛ فقد كان أهل مصر يتنقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك(6). توفي عام (175 ه-) وهو بعمر (81سنة)(7).

3/ ابن الهاد: يزيد بن أسامة بن عبد الله بن شداد (8) . وقيل هو: ابن عبد الله بن أسامة بن الهاد. ويقال: یزید بن عبد الله بن شداد بن أسامة بن عمرو، وهو الهاد بن

ص: 524


1- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 14/13 - 15؛ الباجي: التعديل والتجريح، 2/ 664.
2- الرازي: الجرح والتعديل، 179/7 - 180، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد،6/13 ، 7.
3- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 5/13 - 6.
4- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 10/13
5- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13 / 8- 10.
6- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 8/13 ؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 8/ 415.
7- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 14/13 ، 15، الباجي: التعديل والتجريح، 664/2
8- ابن حجر: فتح الباري، 9/ 56؛

عبد الله(1). تفرد برواية بعض الأحاديث !(2). قال العقيلي: يحدث بالمناكير وليس ممن يضبط الحديث(3). كان يروي عن زميل بن عباس المدني الأسدي مولى عروة بن الزبير(4). ويدعي أنه رآه وسمع منه، والبخاري يقول: ولا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد من زميل ولا تقوم به الحجة(5).

4 / عبد الله بن خباب: لا يعرف عنه سوى أنه مولى لبني النجار. وهي معلومة تناقلتها كتب الرجال عن قول البخاري (6)ونقل ابن عدي عن السعدي (7)قوله: عبد الله بن الحباب الذي يروي عنه ابن الهاد، سألت عنه فلم أرهم يقفون على جده ومعرفته. ثم أورد ابن عدي حديثه المذكور(8). ونقل الذهبي عن الجوزجاني(9) أنه قال: لا يعرفونه. ثم علق على ذلك: بل هو معروف وثقه أبو حاتم الرازي - وحسبك (10)! ولكن معرفة الذهبي والرازي به لم تستطع أن تعطينا اسم جده! وبهذا يظهر أن الحديث متناقض في متنه، معلول في سلسلة سنده. أما الروايات الأخرى فهي لا تعدو كونها تقریرا وإعادة إنتاج هذه الروايات الثلاث! ومن غير المنطقي أن

ص: 525


1- العيني: عمدة القاري، 15/ 182.
2- الطبراني: المعجم الاوسط، 96/1 ؛ 3/ 292؛ 5/ 80؛ 8/ 322 - 333 ، 7/9 ؛ ابن حجر: تهذیب التهذیب، 1/ 415.
3- كتاب الضعفاء الكبير، 1/ 55.
4- ابن حجر: تهذيب التهذیب، 3/ 293.
5- البخاري: التاريخ الكبير، 3/ 450.
6- التاريخ الكبير، 5/ 79. وينظر: الرازي: الجرح والتعديل، 5/ 43. وقد وثقه لأنه من شيوخ البخاري!
7- أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب السعدي. أحد كبار الحفاظ والمحدثين الحنابلة. سكن دمشق فكان يحدثعلى المنبر، ویکاتبه أحمد بن حنبل فيتقوى بذلك، ويقرأ كتابه على المنبر، وكان يتحامل على الإمام على علیه السلام . مات سنة (256 أو 259ه-). الذهبي: تذكرة الحفاظ، 2/ 549.
8- الكامل في ضعفاء الرجال، 4/ 236 - 237.
9- هو أبو إسحاق السعدي المتقدم
10- میزان الاعتدال، 412/2

ترتب نتيجة على روايات ثلاث ! مفككة ومضطربة ومتناقضة في متونها، ومقطوعة ومضعفة و مخدوشة في سلاسل إسنادها! مقابل مئات الاعترافات والأدلة والشواهد الشعرية، التي امتدت طوال سنوات عشر، محصت فيها المواقف واستجليت فيها النيات! ثم أليس يقال: الاعتراف سيد الأدلة! فهذه اعترافات أبي طالب علیه السلام ماثلة بيننا تدل على أنه ما مات إلا موقنا، مؤمنا ثابت الإيمان.

أما أن الإمام علیه السلام كان ينتمي لعائلة استمرت حتى الفتح غير مهمة ومعادية للإسلام! فهذا منطق آلية العكس التي اعتمدها « Lammens» وإلا أليست تلك العائلة هي زعيمة قريش في الجاهلية والإسلام؟! أليس عبدالمطلب وأبو طالب علیه السلام هما سادة قريش ؟! أليس النبي صلی الله علیه و آله كان تربي في أحضان تلك العائلة؟! أليست تلك العائلة هي التي احتضنت بدايات الإسلام الأولى أليست كتب السيرة والتاريخ طافحة ببيان دور تلك العائلة في دعم الإسلام؟! قال ابن هشام: فلما بادأ رسول الله قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام! وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله عمه أبو طالب! ومنعه وقام دونه! ومضى رسول الله على أمر الله مظهرا لأمره، لا يرده شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم، وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه، فلم يسلمه لهم، مشی رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه.. ، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه..، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قریش ذکر رسول بينها، فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله

ص: 526

لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو تنازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين..(1). وبعد أن تطورت الأمور رد بعدة قصائد منها:

فوالله لاتنفك مناعداوة *** ولا منهم ما كان من نسلنا شفر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا کجفر بئس ما صنعت جفر

قال ابن هشام: ترکنا منها بيتين أقذع فيهما(2). إذن لولا مقص الرقابة العباسية والهوى والعصبية المذهبية الذي سلطه ابن هشام على سيرة ابن إسحاق وبضمنها شعر أبي طالب علیه السلام لاستجليت كثير من الحقائق والأمور. ومع ذلك بين أبو طالب علیه السلام موقفه ودوره وعائلته في الدعوة الإسلامية فيما استبقي من شعره ومنه قوله:

تداعت قريش غثها وسمينها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديما لانقرظلامة *** إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

وقال في موضع آخر:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعدواة والأذى *** وقدطاوعوا أمر العدو المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنة *** يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي- بسمراء سمحة *** وأبيض عضب من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي *** وأمسكت من أثوابه بالوصائل

كذبتم وبيت الله نبزی محمدا *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ص: 527


1- السيرة النبوية،264/1 - 265.
2- السيرة النبوية، 1/ 268. وهنا يعطي ابن هشام دليلا آخر على تصرفه غير الأمين والمنحاز في السيرة، فيما الاقذاع الذي كان في هذين البيتين ولمن؟!

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وينهض قوم في الحديد إليكم *** نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل(1)

وقال في موضع آخر:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفینا

فأمضي لأمرك ما عليك غضاضة *** أبشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** فلقد صدقت وكنت قدم أمينا

وعرضت ديناقد عرفت بأنه *** من خير أديان البرية دينا(2)

إذن لا يخفى ولا ينكر ما كان لتلك العائلة من أثر بارز، والأولوية في احتضان الإسلام منذ بداياته مرورا بسنوات المقاطعة والحصار في الشعب. ولو أردنا تقصي ذلك في كتب السيرة والتاريخ لطال بنا المقام. أما أن اسم الطالبيين الذي أطلق من قبل العباسيين على أبناء فاطمة يشير إلى هذه الحالة. أي لكفر عائلة أبي طالب وهامشيتها ! فهذا من الالتواء على الحقائق ووهو الأمر الذي ما فتئ «Lammens» يفعله ويعمي به على قرائه! وإلا فتشويه صورة العلويين كانت من أولى أولويات السياسة العباسية ؛ فجندوا لذلك فقهاء بلاطاتهم وشعرائها لتفعيل قضية شرك أبي طالب علیه السلام واستحقاق جدهم العباس لوراثة النبي صلی الله علیه و آله سيما بعد ثورة محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن، وأخوه إبراهيم عام (145ه-) على المنصور العباسي. هذا بغض النظر عن أنها تسمية بجد الأسرة - أبو طالب - کما العباسيين والأمويين وغيرهم.

ص: 528


1- السيرة النبوية، 1/ 269، 272 - 275.
2- اليعقوبي: تاریخ، 2/ 31؛؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 1/ 150؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 3/ 56 با السيرة النبوية، 1/ 464.

(3)الهجرة والجهاد.. تغييب النص ونفي الخطاب

ليس ثمة شك بأن « Lammens» تعامل بأريحية تامة مع التراكم الروائي الذي رشح عن تجاذبات التيارات والتكتلات السياسية والمذهبية، والمصالح الشخصية، وما علق به من إفرازات الآراء وتبريرات ومختلقات دسها الرواة والمدونون!؛ بحثا عن خلق فضيلة لهذا الشخص أو المذهب والفئة، وتغييب وسلب مزية وخصوصية من هذا الشخص ومنحها لغيره!؛ فمن شأنها أن تسند الخطاب التقويضي الذي وجهه المساحة التدوين السيري التي كانت عرضة وهدفا لتلك العملية العبثية. أي: المساحة الخاصة ب أهل البيت علیهم السلام فهي التي تكاد تكون وحدها في مجمل التدوين عرضة لهذه العمليات الإلغائيةوالتغيبية! واستكمالا لما بدأه «Lammens» من رسم صورة الدور الهامشي والبسيط جدا للإمام عليه السلام وأسرته؛ نراه يبتلع تماما - مثل مؤرخي السيرة والتاريخ - كثيرا من الأحداث المفصلية في السيرة! فلم يشر لا من قريب ولا من بعيد للموقف الفدائي الأول في الإسلام، وهو مبيت الإمام عليه السلام في فراش النبي صلی الله علیه و آله الذي أصبح مزية من مزاياه، وفضيلة لم يشاركه أحد فيها. فقال: عندما نلاحظ أسماء الصحابة المهاجرين من مكة إلى المدينة لا نجد اسم عليا بينهم، حيث بقي في مكة؛ لمساعدة المسلمين على الهجرة، واعادة الأمانات التي كانت في حوزة الرسول إلى أهلها، ومن أجل مصاحبة وحماية فاطمة في هجرتها إلى المدينة. وهنا نجد لأول مرة هذين الاسمين يجتمعان سوية. هذه الرواية موجودة فقط عند الشيعة. أما عند الآخرين فإن عليا جاء إلى المدينة لوحده، وكان في حالة يرثى لها، فقد لحق بالنبي سيرا على الأقدام. كان علي آخر من وصل المدينة، ولكن تجعل الفترة الزمنية التي مرت بين وصوله ورحيله من مكة. هناك ظهر علي وكأنه لم يكن مهاجرا جديدا وصل المدينة قريبا. ومع أن الوثائق المتوفرة لا تعرض لنا ذلك ولكننا نجده يساهم في بعض

ص: 529

الفعاليات التي سبقت بدرا. أما حضوره في بدر فمؤكد، وفيها أبدى نشاطا يفوق النشاط الإنساني، حيث تمنحه السيرة دورا أساسيا في المغازي؛ فالشيعي الواقدي في كتابه المغازي أشار لأعداد كبيرة من القرشيين الذين قتلوا من قبل علي في بدر، ولكن عندما أصبح علي خليفة كان كثير من معاصريه يعارضون معرفته بفنون الحرب، وكان تقييمهم الشخصي کا يظهر حقيقيا. فكيف لشاب رافق النبي، وتربی ببیت الرسول أن يعرف استخدام السيف. وقد بدا منذ اللحظات الأولى مقاتلا شجاعا وصاحب تجربة في المعارك. وكان علي حتى نهاية حياته قد اتسمت علاقته بالسوء مع أخيه عقيل، وبعد معركة بدر رفض التوسط له من أجل تحقيق شروط فك أسره. هذا الخلاف، وفقره الشخصي دفعه لاتخاذ القرار بالبحث عن الجاه والثروة في حاشية محمد. وبدايته في المدينة كانت قاسية؛ فقد وضع نفسه في خدمة أحد اليهود، فكان يقوم بسحب الماء من البئر لسقي النخيل وهذا يبين لنا سبب تأخر زواجه من فاطمة (1).

واضح أن «Lammens» حاول - مثل مؤرخي السيرة - من خلال اقتضاب الأحداث المهمة والمفصلية في السيرة تمييع ما صاحبها من فضائل و مزایا تفرد بها الإمام عليه السلام وتغييبها، ولكنهم باقتطاعهم هذه الأجزاء من تراتبية الأحداث، يقدمون رصدة تاريخيا مفككا لم يستطع ردم الفجوات التي خلفتها تلك الحذوفات. فعلى الرغم من أن المصادر المنتمية لمدرسة الخلفاء لم تستطع أن تنكر مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي صلی الله علیه و آله و أمره بتأدية الأمانات ومن ثم اللحوق به، إلا أنها حاولت سلبه فضيلة كونه المؤتمن والمسؤول والمتكفل بنقل الفواطم إلى المدينة! إذ إن هذه المهمة لم يستطع تأديتها سواه أمام مرأى ومسمع قريش، الممتلئة غيظا على إفلات النبي صلی الله علیه و آله والمسلمين من قبضتها، والمتحفزة للضغط عليه أو الانتقام منه عن طريق التضييق على من بقي من أهل بيته. هذا فضلا عن أن الرواية السيرية لمدرسة الخلفاء، حاولت

ص: 530


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 25 – 30

تقدیم حدث الهجرة كله بألوان باهتة، لا تتناسب ومفصلية الحدث وضخامته! التخفي بريق التألق البطولي والفداء العلوي فيه !؛ ولذلك نلحظ بشكل واضح أن هناك نقصا في أجزاء القصة المقدمة لهجرة السيدة فاطمة عاليها السلام فضلا عن كونها غير مقنعة بالكامل، ولا تصمد أمام المناقشة والتحليل. وقد فلتت القصة الحقيقية هجرتها معا مع سوانح الكلام، وتلميحات المؤرخين المنتمين لمدرسة الخلفاء! وهذا ما يكشف عن مخالفة «Lammens» وتزويره ومن قبله المؤرخين لحقيقة الأحداث!

بداية « Lammens»ناقض نفسه حيال موضوعة الهجرة!؛ إذ سينسى في معرض تأويلاته، وتبريراته، لما يدعيه من أن السيدة فاطمة عليها السلام لم تكن راغبة بالزواج من الإمام علي عليه السلام سيقول: برغم كون زوج المستقبل ابن عمها، ونشأ بجنبها في بيت والدها، وبرغم المخاطر الكثيرة التي تعرض لها وهو ينقلها من مكة...(1) فإما أن هو من هاجر بها، أو لا. أم أن يكون هنا لم يهاجر بها، ويكون هناك قد هاجر بها وتحمل لأجلها المخاطر الكثيرة! فهذا تخبط واضح وصريح، ومنهجية تفتقد لأدنى مستويات التقدير. وإلا ماذا يسمى أن تنفي شيئا؛ لأنك تريد أن ترتب عليه نتيجة ما! ثم تعود الإثباته لأنك تريد أن ترتب عليه نتيجة أخرى! وكم صادفنا من أمثلة لهذه المنهجية الغريبة! ثم إنه لم يكن صادقا في دعواه: أن المصادر غير الشيعية لا تذكر أن عليا استصحب فاطمة إلى المدينة!؛ فقد أكد «ابن عساکر و ابن الأثير والحلبي»: أن النبي صلی الله علیه و آله أمر عليا أن يضطجع على فراشه ليلة خرج، وقال: إن قريشا لن يفقدوني ما رأوك، فاضطجع على فراشه، و كانت قريش تنظر إليه، فيظنونه النبي صلی الله علیه و آله حتى إذا أصبحوا رأوا علية. وكان خلفه ليخرج إليه بأهله، ويؤدي عنه أمانات ووصايا من كان يوصي إليه، وما كان يؤتمن عليه من مال، فأدى على أماناته كلها، وخرج في طلبه بعد ما أخرج إليه أهله، يمشي الليل ويكمن النهار، حتى قدم المدينة، فلما بلغ النبي صلی الله علیه و آله قدومه قال:

ص: 531


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 36

ادعوا لي عليا. قيل: يا رسول الله لا يقدر أن يمشي ! فأتاه، فلما رآه اعتنقه وبکی رحمة لما بقدميه من الورم وكانتا تقطران دما! فمسح عليهما ودعا له بالعافية؛ فلم يشتكها حتى استشهد(1).

أما المصادر الأخرى، فتغض الطرف عن جزئية حمل الفواطم من قبل الإمام عليه السلام وتعترف له فقط بالمبيت على فراش النبي وتأدية الأمانات ومن ثم اللحوق به!(2). وذلك لأنها لاتستطيع تقديم قصة الهجرة من دون حادثة المبيت! بمعنى أنها لو استطاعت تقديمها دون ذكر هذه الجزئية لما ترددت لحظة واحدة في مصادرتها وتغييبها، كما غیبت مئات المواقف والخصائص الأخرى ولذا نجدها لا تتحرج من ترك فجوة کبری – سيعمل على ملئها بروایات واهية - عن قصة هجرة الفواطم وكيفية حدوثها ووقتها؟! ومن كان المسؤول عنهن أثناء هجرة النبي صلی الله علیه و آله. أسئلة لا تمتلك - سيما الأخير منها - السيرة الإزاحية لخصائص أمير المؤمنين عليه السلام أي أجوبة شافية عنها. ولاشك في أن هذه الحقيقة لم تكن غائبة عن «Lammens» لكنه في الوقت الذي يدعي أن المصادر الشيعية هي الوحيدة التي تقدم قصة هجرة السيدة فاطمة بصحبة الإمام عليه السلام لا يود الاعتراف بأن مصادر مدرسة الخلفاء لا تمتلك أي رواية ثانية معتبرة عن هجرتها من الأساس !؟ نعم هي تقدم روايتين الأولى ناقصة ومتناقضة! والثانية ليست بأفضل حالا من أختها!

الرواية الأولى: يقدمها ابن هشام - ربما لإحساسه بتلك الفجوة، أو لأنه هو بالأساس من عملها في قصة الهجرة - فقد روى: أن العباس بن عبد المطلب حمل

ص: 532


1- تاريخ مدينة دمشق، 42/ 68 - 69؛ أسد الغابة، 4 / 19؛ الكامل في التاريخ، 2/ 106؛ السيرة الحلبية، 2/ 232 - 233.
2- ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 482 - 493؛ الطبري: تاریخ، 2/ 372 - 382؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 1/ 235، 253؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 3/ 219-216؛ السيرة النبوية، 2/ 233، 342.

فاطمة وأم كلثوم، ابنتي رسول الله من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحویرث بن نقید، فرمى بها إلى الأرض(1).

ولكن ابن هشام لم يكمل لنا قصته! فهل تابع العباس طريقه نحو المدينة أم رجع ؟! ومن كان معه في هذا العمل البطولي ؟! أم حاز هذا الشرف المنقوص لوحده؟! ومتى حدث ذلك ؟! وأين كن ومن كان مسؤولا عنهما قبل هجرتهما؟! ثم لماذا يقوم العباس بذلك وهو لا يزال مشركا؟! وماذا كان رد قریش ازاء هذه الجرأة المفرطة؟! وما هو مصير فاطمة عليها السلام وأم كلثوم؟! هل رجعا إلى مكة - كما حدث مع زينب حين ضربها هبار بن الأسود - وإلا لو كان العباس أوصلهما إلى المدينة، التمسك العباسيون بذلك، وعدو جدهم العباس بن عبد المطلب من المهاجرين الأوائل، ولما احتاجوا التدارك، وتأویل عدم هجرته، وانقطاع ولايته بحسب النص القرآني «إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَالَّذِینَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِینَ آمَنُوا وَلَمْ یُهَاجِرُوا مَا لَکُم مِّن وَلَایَتِهِم مِّن شَیْءٍ حَتَّی یُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَهُم مِّیثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ »(2).بروایات واهية مفادها أنه أسلم وبقي بمكة امتثالا لأمر النبي صلی الله علیه و آله لیزوده بأخبار قریش وأنه هاجر أخيرا في السنة الثامنة - عام الفتح - فالتقى ب النبي صلی الله علیه و آله وهو متوجه الفتح مكة، فعد من المهاجرين وبه ختمت الهجرة!(3). وهي تأويلات أضعف من أن تقابل بضدها؛ ولذا لم تقنع بعضهم فصرح بأنه لم يهاجر(4) .

ص: 533


1- السيرة النبوية، 2/ 410.
2- الأنفال / 72.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 400؛ ابن سعد: الطبقات، 10/4- 16؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 321/3 - 322؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 26 / 286 - 287؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5/191؛ المزي: تهذيب الكمال، 14/ 227 - 228؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 98 - 99.
4- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 322؛ البيهقي: السنن الكبری، 15/9 ؛ الهيثمي: مجمع الزوائد269/9

ولعل (ابن هشام) اکتفی باختلاق تلك البداية، وترك قصته أو بالأحرى لغزه عائما من دون حل!؛ لأنه أدرك أن اکماله تلك القصة، وإيصال العباس إلى المدينة، وإرجاعه إلى مكة، سيفرض عليه أن يقدم إجابة عن سبب عودة العباس، وموقف عائلته في مكة، ولماذا لا يعد من المهاجرين الأوائل؟، فيصار للاعتذار له بترك هذه الضابطة التي حدد من خلالها المسلمون الأوائل، أنه قام بها في اللحظات الأخيرة، مع سعة فرصة امتدادها الزمني طوال ثماني سنوات !؟ ومن ثم سبب تعرضه لحراجة الخروج إلى معركة بدر مرغما، وسبب أسره من قبل المسلمين مع علمهم بإسلامه وهجرته، وإنه إنها كان عينا لهم على المشركين في مكة - وإن حاول تجاوز هذه المشكلة العويصة جملة واحدة؛ بعدم ذكره للعباس ضمن قائمة الأسارى في معركة بدر، في حين صدر تلك القائمة بذكر عقيل بن أبي طالب ! (1)- كما كان عليه كذلك أن يقدم سببا لرجوعه إلى مكة، بعد ذلك وبقائه فيها حتى الفتح سنة (8ه-). أي إنه بحاجة التقديم تأويلات بطول هذه السنوات الثمان! بالنتيجة رواية ابن هشام المتقدمة إن كانت تؤكد على شيء فهو: بقاء السيدة فاطمة عليها السلام متواجدة في مكة بعد هجرة أبيها عليها السلام .

الرواية الثانية - يقدمها (ابن سعد والبلاذري والحاكم النيسابوري). الأولان: يقدمانها بدون اسناد! أما الحاكم فيقدمها بسند ينتهي إلى عائشة. ومفادها: أن النبي صلی الله علیه و آله بعث أبا رافع وزيد بن حارثة - كليهما مولى لرسول الله - لحمل بنتيه فاطمة عليها السلام وأم كلثوم، ومعهن زوجته سودة بنت زمعة. وأخذ من أبي بكر «500 درهم» – ابن سعد لا يذكر مصدر الدراهم - فدفعها إليهما لما يحتاجون إليه، وأعطاهما بعيرين، وكتب أبو بكر إلى ولده عبد الله، يأمره بحمل أم رومان امراته، وعائشة وأسماء - ابن سعد لا يذكر ذلك . وتوجه مع أبي رافع وزيد، عبد الله بن

ص: 534


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 3/ 3.

أريقط الديلي - تضيف رواية الحاكم أن أبا بكر بعث معه ببعيرين أو ثلاثة وأنهم لما وصلوا إلى قديد (1)اشتری زید بالخمسمائة درهم ثلاثة أبعرة -، فلما قدموا مكة التقوا بطلحة بن عبيد الله يريد الهجرة فتصاحبوا - ابن سعد لم يذكر ذلك - فخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة. وحبس زینب زوجها أبو العاص بن الربيع، وحمل زید زوجته أم أيمن، وأسامة بن زيد، وخرج عبد الله بأم رومان وأختيه عائشة وأسماء. فقدموا، ورسول الله يبني المسجد(2).

إذن فالرواية وردت بتفاصيل مختلفة في المصادر الثلاثة. كما أنها لم تبين لنا: هل إن مهمة زيد وأبي رافع هذه هي المهمة نفسها التي قيل أنها أو كلت لزيد بحمل زینب والتي مرت مناقشتها؟! أم إنها مهمة أخرى تضاف لسجل زيد البطولي !؟ والراجح أنها هي المهمة نفسها. ولكن الرواي هناك نسي أن يضيف فاطمة وسودة وأم كلثوم! ونسي هنا أن زيدا في مهمته تلك كان قد نجح بإحضار زینب! مقابل اخفاقه هنا!؛ إذ حبسها زوجها أبو العاص ! كما أن الرواية هناك تقول: إن النبي صلی الله علیه و آله أعطی زیدا خاتمه لتعرفه زينب وتأتي معه! فأعطي زيد الخاتم للراعي الذي كان يرعى غنمها، فأخذه إليها، فعرفته، فجاءت إلى زيد فركبا على بعير واحد وقدما إلى المدينة! ولكن الخاتم هنا تحول إلى (500 درهم) !؟ والبعير إلى بعيرين، وإلى خمس في رواية الحاكم!؛ ربها لأن الراوي أراد للعدد أن يتناسب مع عدد الأشخاص المهاجرين: فاطمة، أم كلثوم، سودة، أم أيمن، اسامة، زید، ابو رافع؛ وفي الوقت الذي صرحت رواية الحاكم أن زید صرف الخمسمائة درهم بشراء ثلاثة أبعرة. لم تشر روایت ابن سعد والبلاذري الاستخدام شيء منها! وهنا يأتي السؤال عن علة حملها !؟ إلا أن يقال: إنها حملت توخية لإغراء من قد يلحق بهم ! أو يعارضهم من قريش. ولكن من الغريب أنهما كانا

ص: 535


1- اسم موضع قرب مكة. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/ 313.
2- الطبقات، 206/1 ؛ أنساب الأشراف، 1/ 269 - 270؛ المستدرك، 4/4 ، 5.

محظوظين جدا فلم يعترضهم أحد ومرت العملية بسلامة ونجاح تام وكأن قریشا نائمة لا تهتم بأن تلتحق ب النبي صلی الله علیه و آله عائلته. وكأنها لم تغضب لأنها لم تستطع القضاء عليه ولم تحاول الانتقام منه على الأقل بمنع عائلته من اللحاق به. ثم إن تواجد طلحة في ضمن هذه المجموعة، يفرض تعارضا مع المصادر التي أوصلته منذ وقت سابق إلى المدينة! وانزلته وصهيب بن سنان في دار خبيب بن أساف الخزرجي. أو في دار أسعد بن زرارة من بني النجار(1).

كما أن الرواية في المصادر الثلاثة تتناقض مع ما ينقل من أن النبي صلی الله علیه و آله أقام بمكة بعد أصحابه من المهاجرين؛ ينتظر أن يؤذن له في الهجرة. ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو بكر(2). فهؤلاء الذين تتحدث عنهم الرواية، لاهم من المستضعفين ولا المفتونين، ولا المحبوسين، ولا المكلفين بأداء وظيفة أو مهمة معينة في مكة! فما هو سبب تأخرهم عن الهجرة؟! وإذا كان النبي صلی الله علیه و آله مطمئنا على ابنته فاطمة عليها السلام لأنها بحماية الإمام علي عليه السلام ورعايته أثناء تواجدهما في مكة، فأنى له الاطمئنان عليها بعد هجرة الإمام عليه السلام وحيدا !؟ فمع من بقيت في مكة حتى جاءها زيد وأبو رافع وكيف تمت هجرة الفواطم الأخريات؟، على الأقل فاطمة بنت أسد أم الإمام عليه السلام هل يعقل أنه ترکها بمكة وهاجر إلى المدينة؟، أم خرجت مع هؤلاء الأبطال المدعين، ثم خرج هو بإثرهم وحيدا !؟ وما الغاية من تأخره عنهم؟ والمشكلة الأكبر أن هذه الرواية تنص

ص: 536


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 477؛ ابن عبد البر: الدرر، 78؛ ابن سيد الناس: عیون الاثر، 1/ 230؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 2/ 222؛ البداية والنهاية، 3/ 212؛ ابنخلدون: تاریخ، 2/ 420؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 1/ 320.
2- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/ 477؛ ابن عبد البر: الدرر، 79؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 2/ 227؛ البداية والنهاية، 214/3

على بعث زيد وأبي رافع من منزل أبي أيوب الأنصاري(1). وقد نص ابن سعد على أن المدة التي قضاها النبي صلی الله علیه و آله في قباء هي «14 يوم» وفي خبر آخر «4 - 5 أيام» ومن ثم تحول بعدها لمنزل أبي أيوب(2). فعلى الرأي الأول إذا ما أضيف لهذه المدة الوقت الذي استغرقه خروج النبي صلی الله علیه و آله من مكة ووصوله إلى (قباء)، والمدة التي استغرقت ذهاب

«زيد وأبو رافع» من المدينة إلى مكة لإحضار السيدة فاطمة عليها السلام والآخرين المذكورين في الرواية، نكون بمواجهة قرابة عشرين يوما على أقل تقدير، قضتها السيدة فاطمة عليها السلام حتى التحقت بأبيها فمن كان يرعاها خلال هذه المدة؟! وهل أمانات قريش التي بالإمكان تأديتها في أي وقت لاحق، أهم من الاطمئنان على حياة سيدة نساء أهل الجنة ووضعها؟! وروحه التي بين جنبيه؟! والبضعة منه؟! الخ.

وعلى الرأي الثاني لابد من أن يكونا تصاحبا!؛ فالروايات تتفق أن الإمام علي عليه السلام لحق بالنبي بعد ثلاثة أيام وهو مقيم في قباء عند كلثوم بن الهدم(3). وإلا فمن المستحيل أن هذه المجموعة من المهاجرين لم تلتق بالإمام عليه السلام وهو ما يزال في مكة ومن الغريب أن النبي صلی الله علیه و آله لم يوص زیدا وأبا رافع بالتنسيق معهفي شأن الهجرة! أو على الأقل أن يسألا عن أحواله وما جرى له! أو على أقل الفروض يتصادفون في الطريق ! بالنتيجة لا نكاد نحصل من أي من هذه الروايات على صورة منطقية

ص: 537


1- خالد بن زید بن کلیب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي. شهد العقبة الثانية، وآخا النبي صلی الله علیه و آله بينه وبين مصعب بن عمير. شهد المشاهد كلها مع النبي صلی الله علیه و آله ثم كان من الراجعين للإمام علي عليه السلام فشهد معه حروبه الثلاث. وقيل شهد النهروان فقط. توفي أثناء حصار القسطنطينية (50 - 52ه-). ابن سعد: الطبقات، 3/ 449 - 450؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 2/ 424 - 426.
2- الطبقات، 202/1 - 204.
3- الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف. كان أسلم قبل هجرة النبي صلی الله علیه و آله إلى المدينة. وتوفي قبل معركة بدر. ابن سعد، الطبقات، 574/3 - 575؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1327 - 1328.

الأحداث هجرة السيدة فاطمة عليها السلام هذا فضلا عما تحتويه من تناقضات وإشكالات وتقاطع فيما بينها، وبين المصادر الأخرى!

وهذا ما استشعره «الحلبي. ت 957ه» في سيرته «انسان العيون في سيرة الأمين المأمون» والمعروفة بالسيرة الحلبية وهي تلخيص وتهذيب لسيرة «ابن سيد الناس. ت734ه-. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» وسيرة «الصالحي الشامي. ت 942ه-. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» فقال: فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قام علي رضي الله تعالى عنه بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت إليه أمانته فلما نفد ذلك ورد عليه کتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه، فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم، ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين. أقول: سيأتي ما يخالف ذلك: وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في دار أبي أيوب بعث زید بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة. إلا أن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا على رضى الله تعالى عنه للهجرة، كان مع زيد وأبي رافع رضی الله تعالى عنها، وأنها صحباه. ولا ينافي ذلك ما تقدم من أنه تأخر عنه بمكة ثلاث ليال يؤدى الودائع؛ لأن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع. ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله(1)

إن الرواية القائلة بهجرتها مع الإمام عليه السلام تنطلق من معطيات منطقية ومتفق عليها بين المصادر الشيعية والسنية على السواء فمن الثابت أن الإمام عليه السلام كلف بأن يبيت في فراش النبي صلی الله علیه و آله وأن يرجع الأمانات لقريش، ومن ثم مهاجر، فلحق به بعد.

ص: 538


1- 233 - 232 /2

ثلاثة أيام(1). إذن فالرواية السنية والروايات الشيعية متفقة على أن الإمام وفاطمة عليهما السلام بقيا متواجدين في مكة بعد هجرة المسلمين بما فيهم النبي صلی الله علیه و آله كما أنها متفقة على أنه هاجر بعد أدى مهمته التي كلف بها، وهنا في الوقت الذي تتخبط فيه الرواية السنية، وتتناقض، وتعاني النقص في حيثياتها بحيث لا توصلنا إلى أي نتيجة. تأتي الروايات الشيعية لتقدم لنا صورة منطقية ومعقولة وكاملة عن هجرتها، وبما ينسجم ويتفق مع بعض الاشارات التي ذكرتها الرواية السنية عن هجرة الإمام علي عليه السلام ومفادها: أن النبي صلی الله علیه و آله خلفه في مكة، وأمره أن يضطجع على فراشه، وأن يؤدي عنه أماناته، ومن ثم يخرج إليه بأهله - أي الفواطم -. وقال له: إن قريشا لن تفقدني ما رأوك. فنام على فراشه، وجعلت قريش تطلع على فراشه، فيرون عليه رجلا وهم لا يشكون أنه النبي صلی الله علیه و آله فلما أصبحوا فإذا هو علي عليه السلام وبعد أن نفذ المهمة الموكلة إليه، خرج مهاجرا ماشيا وقد حمل الفواطم، حتى بلغ المدينة، فلما بلغ النبي صلی الله علیه و آله قدومه قال: ادعوا لي عليا. فقالوا: إنه لا يقدر أن يمشي على رجليه! فأتاه فلما رآه اعتنقه وبکی رحمة له؛ مما رأى في قدميه من الورم، وأنهما يقطران دما، فمسح على رجليه، ودعا له فلم يشکهما حتى استشهد(2).

ولعل مما يؤكد استصحاب الإمام عليه السلام للفواطم أن الروايات السنية ذكرت بعض التفاصيل الواردة في الرواية الشيعية. بما فيها الإشارة التي ذكرها «Lammens»

ص: 539


1- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/ 480 - 493؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 260/1 - 265؛ الطبري: تاریخ، 2/ 369 - 382؛ ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير، 79 - 85؛ ابن سيد الناس: عيون الاثر، 1/ 233 - 253؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 2/ 226 - 270؛ الديار بكري: تاریخ الخميس، 1/ 320 - 338.
2- الكوفي: مناقب الإمام أمير المؤمنين، 1/ 364 - 365؛ الطبرسي: إعلام الوری، 1/ 374 - 375. وبتفصيل أكثر عند: الطوسي: الأمالي، 463 - 472؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 158 - 160. وينظر: الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 320 - 338.

وهي أن الإمام عليه السلام وصل إلى قباء وقد تأثرت قدماه. لأنه جاء سيرا على الأقدام، وهو مما يؤكد أن الإمام عليه السلام لم يهاجر لوحده؛ وإلا لما أجهد كل هذا الاجهاد. وبذلك تكون الحالة التي وصل بها إلى المدينة طبيعية جدا. وهذه الحقائق لم تكن لتخفى على «Lammens» ولا على مزوري التاريخ، ولكنه الهوى والمصلحة والغاية!

إن تقديم الإمام عليه السلام بتلك الصورة الهزيلة أثناء هجرته؛ إنما هي تمهيد لطرح فكرة فقر دوره في المدينة وتواضعه وهامشيته في «Lammens» إنها يقدم خطابا تقويضيا يجنح لتفكيك الجزئيات السيرية المتعلقة، وهدمها واحدة تلو الأخرى؛ ليصل بالنهاية لتقويض تام لصورة هذه الشخصية. بمعنى أنه يريد تقديم مسح وتشويه شامل لسيرة الإمام عليه السلام ولذلك وجدناه يقرر: كان علي آخر من وصل المدينة، ولكن تجهل الفترة الزمنية التي مرت بين وصوله ورحيله من مكة. هناك ظهر علي وكأنه لم يكن مهاجرا جديدا وصل المدينة قريبا! ونجده يسهم في بعض الفعاليات التي سبقت بدر. أما حضوره في بدر فمؤكد، وفيها أبدى نشاطا يفوق النشاط الإنساني، حيث تمنحه السيرة دورا أساسيا في المغازي؛ فالشيعي الواقدي في كتابه المغازي أشار لأعداد كبيرة من القرشيين الذين قتلوا من قبل علي في بدر. ولكن عندما أصبح علي خليفة كان كثير من معاصريه يعارضون معرفته بفنون الحرب، وكان تقييمهم الشخصي كما يظهر حقيقي. فكيف لشاب رافق النبي، وتربی ببیت الرسول أن يعرف استخدام السيف؟! وقد بدا منذ اللحظات الأولى كمقاتل شجاع وصاحب تجربة في المعارك. وكان علي حتى نهاية حياته قد اتسمت علاقته بالسوء مع أخيه عقيل، وبعد معركة بدر رفض التوسط له من أجل تحقیق شروط فك أسره. هذا الخلاف، وفقره الشخصي دفعه لاتخاذ القرار بالبحث عن الجاه والثروة في حاشية محمد(1).

كثيرا ما وجدنا «Lammens» ينسب إلى التشيع من يشاء من المؤرخين

ص: 540


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 25-30.

والمحدثين؛ وهي حجة اعتمدها كلما أعوزه - مثل علماء الجرح والتعديل المخالفين - تفنيد فضيلة أو حقيقة تاريخية، أثبت هذا المحدث أو ذاك المؤرخ تفرد أحد أهل البيت علیهم السلام بها. ومن هذا القبيل محاولته تکذیب ما نقل عن شجاعة الإمام عليه السلام ودوره في معركة بدر، وأنه قتل عددا كبيرا من المشركين!؛ بدعوى أنها وردت عن طريق الواقدي الشيعي!؟ الذي يرغب بتضخيم شجاعة علي. فهل كان الواقدي فعلا شيعيا؟!

عقد المستشرق البريطاني (Marsden Jones = مارسدن جونس) (1)المتخصص بأدب المغازي والسير، سیما بكتابات الواقدي في تحقيقه ونشره لكتاب المغازي موضوعة تحت عنوان (تشيع الواقدي) جاء فيها:

لعل وجود کتابين للواقدي، أحدهما في مولد الحسن والحسين، والآخر في مقتل الحسين، يوهم أنه كان شيعيا، كما ذكر ابن النديم، منفردا بهذا الرأي دون غيرها؛ إذ يقول: وكان يتشیع حسن المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى أن عليا كان من معجزات النبي كالعصا لموسى وإحياء الموتی لعیسی بن مریم وغير ذلك من الأخبار (2). وقد نقل صاحب أعيان الشيعة هذا القول عن ابن النديم، مستدلا به على

ص: 541


1- درس في بريطانيا وتخرج من جامعة لندن بعد حصوله على شهادة الليسانس في اللغة العربية مع مرتبة الشرف عام (1950م). ومن ثم على الدكتوراه عام (1953م). عين محاضرا للغة العربية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن خلال المدة. ثم استاذا للدراسات العربية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام (1960م) ومديرة المركز الدراسات العربية فيها خلال المدة (1960 - 1966م)، واستاذا زائرا للدراسات العربية في جامعة برنستون الأمريكيةخلال عامي (1965 - 1966م)، ومن ثم استاذا ومديرا المركز الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية في القاهرة عام (1977 م). من أهم آثاره قيامه بتحقيق و نشر (کتاب المغازي للواقدي) خلال (1965 - 1966م)، و (تاريخ المغازي / 1957م) و(الواقدي وابن إسحاق / 1959 م) وكتب عددا من المقالات في دائرة المعارف الإسلامية. يحيی مراد معجم، 296.
2- الفهرست، 111.

تشیعه، ومن ثم ترجم له(1)، وكذلك ذكره أغا بزرك الطهراني(2)، حين تحدث عن تاريخ الواقدي. على أنه مما يثير الدهشة أن الطوسي - وهو معاصر لابن النديم - لم يذكر الواقدي في كتابه «الفهرس» ولم يذکر کتابا من كتبه وخاصة تلك التي تتعلق بمولد الحسن والحسين ومقتل الحسين، على أهمية هذا الأمر الذي شغل جميع علماء الشيعة ومؤرخيهم وجامعي أخبارهم. ولو سلمنا لابن النديم أن الواقدي كان يلزم التقية، فإن تشيعه كان لابد من أن يظهر على نحو ما عند الحديث عن علي، أو في الرواية عنه، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل على النقيض من ذلك نرى الواقدي يذكر أحاديث قد تحط من قدر علي أو تهون من شأنه على الأقل؛ فحين يصف رجوع النبي إلى المدينة من أحد، يذكر أن فاطمة مسحت الدم عن وجه النبي، وذهب علي ليأتي بالماء، وقبل أن يمشي ترك سيفه وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. ولما أبصر النبي سيف علي مختضبا قال: إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبو دجانة غير مذموم (3). وحين نقرأ عدد القتلى من قريش يوم بدر عند ابن إسحاق مثلا نرى أن عليا قد قتل طعيمة بن عدي، ولكن الواقدي يذكر أن الذي قتله هو حمزة وليس عليا(4). ونرى الواقدي أيضا حين يذكر قتل صؤاب يوم أحد، واختلاف الأقوال فيمن قتله، يقول:فاختلف في قتله، فقائل قال: سعد بن أبي وقاص، وقائل: علي، وقائل قزمان، وكان أثبتهم عندنا قزمان(5)، وأهم من ذلك كله ما ينقله الشيعة أنفسهم، كابن أبي الحديد

ص: 542


1- أعيان الشيعة، 10 / 30- 33.
2- الذريعة، 349/1 ؛ 191/7
3- المغازي، 1/ 249. بل يضيف أنه جاء بهاء آجن - متغير الطعم واللون - فلم يطق النبي (ص) أن يشرب منه!؛ مما دفع محمد بن المسلمة لأن يذهب ليحضر ماء أفضل منه.
4- المغازي، 148.
5- المغازي، 228.

مثلا في كتابه، حين ينقل فقرة طويلة عن الواقدي، ثم يورد رواية أخرى مختلفة عن الأولى ويبدؤها بقوله: وفي رواية الشيعة (1)؛ مما يدل دلالة قاطعة على أن ابن أبي الحديد لم يعتبر الواقدي مصدرا شيعيا، أو يمثل رأي الشيعة على الأقل ومن الطريف أن يلاحظ أن ابن إسحاق يتهم هو الآخر بميوله الشيعية والقدرية؟(2). ويبدو لنا أن السبب في اتهام الواقدي وابن إسحاق بالتشيع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصية، وإنما يرجع إلى ما ورد في كتابيها من الأقوال والآراء الشيعية التي يعرضانها، وليس ذلك عن عقيدة صحيحة فيها، بل مما تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات. ولعل السبب في وصف الواقدي خاصة بأنه يتشیع يرجع إلى ما أورده في بعض مواضع من كتابه حين يأتي إلى جماعة من الصحابة، ومنهم بعض الخلفاء الراشدين، فيذكر مثلا عمر وعثمان في عبارات لا تضعهما في مكانتهما المرموقة. فمثلا في المخطوطة التي اتخذناها أصلا لهذه النشرة نرى قائمة بمن فر عن النبي يوم أحد، تبدأ بهذه الكلمات «وكان ممن ولى فلان، والحارث بن حاطب وثعلبة بن حاطب.. ، بينا نرى النص عند

ص: 543


1- وهي رواية عن مقتل طعيمة بن عدي المذكور. قال ابن أبي الحديد: قال الواقدي: وكان علي يحدث، فيقول إني يومئذ بعد ما ارتفع النهار ونحن والمشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم، خرجت في أثر رجل منهم، فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة، وهما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة، والمشرك مقنع في الحديد، وكان فارسا، فاقتحم عن فرسه، فعرفني وهو معلم، فناداني هلم یا ابن أبي طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز، فعطفت عليه، فانحط إلى مقبلا، وكنت رجلا قصيرا، فانحططت راجعا لكي ينزل إلي، كرهت أن يعلوني، فقال: يا ابن أبي طالب، فررت فقلت: قريبا مفر ابن الشتراء. فلما استقرت قدماي وثبت أقبل فاتقيت فلما دنا منی ضربني بالدرقة، فوقع سيفه، فلحج [الزم = الهامش] فأضربه على عاتقه وهو دارع، فارتعش ولقد قط سيفي درعه، فظننت أن سيفي سيقتله، فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي، ويقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب، فالتفت من ورائي، فإذا هو حمزة عمي، والمقتول طعيمة ابن عدي. قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب، ثم قال: وقيل قتله حمزة وفي رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب، هكذا روی محمد بن إسحاق. شرح نهج البلاغة، 14/ 145.
2- یاقوت الحموي: معجم الأدباء، 6/ 22.

ابن أبي الحديد: عمر وعثمان، بدلا من فلان، ويروي البلاذري عن الواقدي عثمان، ولا يذكر عمر(1). ويظهر بوضوح أن النص في المخطوطة الأم كان يذكر عثمان وعمر، أو عمر وحده، أو عثان وحده، ممن ولوا الأدبار يوم أحد. ولكن الناسخ لم يقبل هذا في حق عمر أو عثمان، فأبدل اسميهما أو اسم أحدهما بقوله: فلان. ولا شك أن نص الواقدي الأصلي وقع في أيدي طائفة من الشيعة وقرأوا فيه هذه الأخبار التي أوردها في حق عمر وعثمان مثلا، فاعتقدوا أنه شيعي قطعا. وفي ضوء ما تقدم من الحجج تظل عبارات ابن النديم عن تشيع الواقدي قاصرة عن أن تنهض دليلا على تشیعه، وستظل تفتقر إلى دعائم أخرى تؤيدها، وخاصة من نصوص الواقدي نفسه(2).

وقد سبق (Jones = جونس) لتقرير هذه النتيجة الألماني «Joseph Horovitz = جوزيف هورفوتس» أثناء عمله على كتاب الواقدي تحضير لأطروحته للدكتوراه عام (1898 م)، والتي كان نتاجها إصدار كتاب ( Earl Biographies of the prophet and their Authors = المغازي الأولى ومؤلفوها» الذي كان نشره على شكل فصول أو أجزاء في مجلة الثقافة الإسلامية التي تصدر في (حیدر آباد – الهند) باللغة الإنجليزية. خلال (1927 - 1928م) - فهو إذن متخصص في المغازي والسير وكتاب الواقدي تحديدا. وقد ذكر أمثلة أخرى عن الحذوفات أو التغييرات التي أجراها الواقدي على بعض الأخبار التي نقلها عن ابن إسحاق، وكذلك عدم ذكره أو معارضته للأخبار الواردة بتفضيل علي عن طريق ذكر الرواية السنية في الموضوع أيضا!(3). ويفترض إن كان ذا ميول شيعية أن يبقي أو يذكرالرواية الشيعية فقط أو على الأقل يرجحها. ومما يدل على عدم تشيع الواقدي أن من ترجم له من السابقين لابن النديم، واللاحقين له

ص: 544


1- أنساب الأشراف، 1/ 326.
2- المغازي، 16 - 18 (المحقق).
3- المغازي الأولى ومؤلفوها، 124 - 125. وينظر : تصدير الكتاب بقلم: مصطفى السقا.

لم يذكروا مسألة تشیعه! وإنما قالوا: إنه كذاب، وليس بثقة، أو أنه يقلب الحديث. يرد الحديث عن معمر مثلا فيرويه عن الزهري(1). ومع ذلك أجمعوا على أن هذه الطعون إنما توجه له في الحديث، وإلا فهو في المغازي والسير والتاريخ إمام الناس! وما يتحدث عنه «Lammens» يقع في القسم الثاني الذي هو فيه ثقة وعالم بالاتفاق ! أضف لذلك أن هؤلاء الذين ترجموا له لم يذكروا من شيوخه وأساتذته شخصا شيعيا؛ بل صرحوا أنه كان عالما بمذهب مالك وسفيان الثوري. وعليه بسقوط ما اعتمده «Lammens» من تشيع الواقدي للتشكيك بقائمته المقدمة لعدد المشركين الذين قتلهم الإمام عليه السلام في معركة بدر، يسقط اعتراضه وتشکیکه من الأساس.

ومع ذلك لو عدنا لقائمة(2) الواقدي تلك لوجدنا الروايات الشيعية تضيف إليها بعض الأسماء مثل: عتبة بن ربيعة شارك عمه حمزة عليه السلام في قتله، طعيمة بن عدي بن نوفل، عقبة بن أبي معيط، زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، أبو مسافر الأشعري حلیف قریش، أبو قيس بن الفاكهة بن المغيرة، معاوية بن عامر حليف لبنيعامر بن لؤي(3). وهذا فضلا عن دلالته على أن الواقدي لم يكن محابيا للإمام علي الا فإنه

ص: 545


1- ابن سعد، الطبقات، 7/ 603 - 611؛ العقيلي: الضعفاء الكبير، 4 / 107 - 109؛ ابن حبان: کتاب المجروحين، 2/ 290 - 291؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 3/ 212 - 230؛ یاقوت الحموي: معجم الأدباء، 6/ 208 - 211؛ المزي: تهذيب الكمال، 29 / 180 - 193؛ الذهبي: تذكرة الحفاظ، 1/ 348؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 9/ 323- 326.
2- ذكر فيها: حنظلة بن أبي سفيان، شيبة بن ربيعة، العاص بن سعيد، الوليد بن عتبة، عامر بن عبد الله، الحارث بن ربيعة، عقیل بن الأسود بن المطلب، نوفل بن خویلد بن أسد، النضر بن الحارث بن كلدة، زید بن مليص، عمير بن عثمان بن عمرو، یزید بن تميم التيمي، حرملة بن عمرو بن أبي عتبة، أبو قيس بن الوليد، مسعود بن أبي أمية، عبد الله بن أبي رفاعة، حاجز بن السائب بن عویمر، أوس بن المعير بن الوذان، منبه بن الحجاج، نبيه بن الحجاج، العاص بن منبه، أبو العاص بن قيس بن عدي. فجميعهم (49 رجلا) قتل منهم علي وشرك في قتله (22 رجلا). المغازي، 1/ 147 - 152.
3- القاضي النعمان المغربي: شرح الأخبار، 1/ 262-266.

يثبت أن العدد المتفق عليه من الذين قتلهم وشرك في قتلهم الإمام عليه السلام في معركة بدر في المصادر السنية هو ما ذكره الواقدي! ولعل مما يدلل على تفرد الإمام عليه السلام بقتل أكبر عدد من المشركين في معركة بدر؛ أن أصبح هؤلاء القتلى مدعاة غضب قريش وحقدها عموما وبني أمية خصوصا على الإمام وأولاده:؛ وهو ما بدا على لسان یزید بن معاوية عندما وضع رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه وراح ينكثه بمخصرته ويتمثل:

قد قتلنا الضعف من أشرافكم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل(1)

ورد أحفادهم على الإمام الحسين عليه السلام : نقاتلك بغضا لأبيك(2)، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين(3). أما دعوی «Lammens» أن تقييم المعاصرين للإمام عليه السلام بأنه لا علم له بالحرب! فهذا مارد عليه الإمام عليه السلام في وقتها. وملخص ذلك: أن خيلا المعاوية أغارت على الأنبار، فقتلوا عامله هناك وآخرين غيره ونهبوا، وانسحبوا إلى الشام. فلما أعلم الإمام عليه السلام بذلك صعد المنبر، واستنهض أصحابه فتخاذلوا، وتثاقلوا فوبخهم وقال: وددت أني لم أركم، ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما(4). قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام(5)، أنفاس، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا، وأقدم فيها مقاما مني!؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد

ص: 546


1- ابن أعثم: کتاب الفتوح، 129/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 342، 343؛ ابن كثير: البداية والنهاية،.209/8
2- القندوزي: ينابيع المودة، 3/ 80
3- مقاتل بن عطية: مؤتمر علماء بغداد، 178.
4- السدم يعني الغيظ. الجوهري : الصحاح، 5/ 1948.
5- نغب الانسان ينغب ونغبا أي: ابتلع ريقه أو الماء نغبة بعد نغبة. الفراهيدي: كتاب العين، 4/ 425. أي جرعتموني الهم نفسا نفسا.

ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع(1).

أما أنه تربی ببیت الرسول فكيف عرف استخدام السيف ؟! وبدا منذ اللحظات الأولى كمقاتل شجاع وصاحب تجربة في المعارك. فواضح أن «Lammens» تغافل عن أنه نشأ في مجتمع وبيئة قوامها الفروسية، والتعلم منذ الصغر على استخدام السيف والقتال وقد فرضت الطبيعة القاسية على أبناء ذلك المجتمع أن يكونوا أشداء أقوياء، وهم لايزالون في نعومة أظفارهم، ثم إن الشجاعة والقوة البدنية والبأس هي في الغالب مما يرثه الفتى عن أبائه وأجداده، وآباء وأجداد الإمام عليه السلام هم شجعان قريش وأبطالها، أضف لذلك أن في سماته وخصائصه البدنية المتقدمة ما يؤيد هذه القوة والشجاعة، وفوق كل هذا وذاك يبقى أن النقل التاريخي - غير المحابي - قد أثبت هذه الخصوصية للإمام عليه السلام بل منحه قدم السبق والتميز في هذا المجال !؛ فقد أثبت جل الموروث التاريخي أن الإمام عليه السلام كان هو على الدوام حامل لواء المسلمين في حروبهم(2).

ومن المعروف في أدبيات الحرب عند العرب أن اللواء إنما يحمله أشجع وأقوى الفرسان وأبرزهم في ساحة المعركة. بل إن دعوى «Lammens» :أن فقره الشخصي دفعه لاتخاذ القرار بالبحث عن الجاه والثروة في حاشية محمد. برغم مغالطته الواضحة، إلا أنه يشير إلى أنه يمتلك الإمكانية والقدرة للولوج بمنظومة الدولة الجديدة، التي كان قوامها الاستعداد على الدوام لخوض غمار الحرب، ومقارعة الأعداء، والتنقل من

ص: 547


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 202؛ الثقفي: الغارات، 2/ 464 - 477؛ النعمان المغربي: شرح الأخبار، 2/ 74 -75.
2- ابن سعد: الطبقات، 3/ 23؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 913؛ 2/ 73، 234، 328؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 346 - 348، 355؛ الطبراني: المعجم الكبير،311/11 ؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 3/ 1096 - 1097؛ ابن الأثير: اسد الغابة، 4/ 20؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 625

ساحة قتال إلى أخرى، طوال السنوات العشر التي شهدت تأسيس دولة المدينة .

أما أن بدايته في المدينة كانت قاسية؛ وأنه وضع نفسه في خدمة أحد اليهود، فكان يقوم بسحب الماء من البئر لسقي النخيل، وأن هذا يبين لنا سبب تأخر زواجه من فاطمة! فهي إحدى تهويلات وتأويلات «Lammens»فقد جعل من خبر واحد مضطرب أشد الاضطراب، يروي وقوع هذه الحادثة لمرة واحدة، برنامج عمل ووسيلة كسب دائمة! وهذا الخبر يقول: إنه آجر نفسه من يهودي على أن ينزع له كل دلو بتمرة، فجمع نحوا من المد، فنثره في حجر فاطمة، وقال: كلي وأطعمي صبيانك (1)

والخبر بداية وارد بصيغ ومناسبات وشخوص آخرين! فمرة يقال: إن النبي صلی اله علیه و آله أصابه جوع شديد، فجاء الإمام عليه السلام ووجده على تلك الحال، فذهب إلى ذلك اليهودي وعمل لديه وجاء بالتمر(2). ومرة يروى أن من قام بذلك هو كعب بن عجرة(3). ومرة يقال: أن ذلك الشخص كان من الأنصار من دون ذكر اسم معين!(4). ومرة يقال: إنه خرج من بيت النبي صلی الله عليه و آله وهو جائع، فذهب لذلك اليهودي، وسقى له فأعطاه التمرات فأكلهن وشرب الماء! ورجع إلى المسجد(5). ومرة يقال: إنه أخرج الماء من البئر لامرأة من الأنصار لتبل طينا كانت تريد استخدامه، فأعطته التمرات(6)!

ص: 548


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 382.
2- ابن ماجة: سنن، 2/ 818؛ الزيعلي: نصب الراية، 5/ 282.
3- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 53 - 54؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 10/ 313؛ ابن حجر: الإصابة، 5/449؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 6/ 613. عند الذهبي وابن حجر: سقى إبلا لا نخلا.
4- ابن ماجة: سنن، 2/ 818 - 819؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 3/ 387.
5- بن إسحاق: سيرة، 4/ 175؛ الترمذي: سنن، 4/ 60؛ أبو يعلى: مسند، 1/ 387؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 314/10؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 15 / 198.
6- البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 119 - 120.

ومرة يقال: إن النبي صلی الله علیه و آله، جاء لبيت فاطمة علي فسألها عن الحسن والحسين علیهما السلام فأخبرته أنهم أصبحوا وليس هناك طعام في بيتهم، فخرج بهما الإمام عليه السلام حتى لا يبكيا. وكان ذهب إلى ذلك اليهودي، فجاء النبي صلی الله علیه و آله خلفه وقال: لماذا لا ترجع قبل أن يشتد الحر على ولدي. فأخبره الخبر، وطلب منه أن يجلس حتى يخرج الماء لذلك اليهودي، فجلس، وأخرج هو الماء، فأعطاه اليهودي التمر(1).

وعلى فرض صحة الخبر فإنه لم يحدث إلا مرة واحدة، لكن «Lammens »مدده ليجعل منه وسيلة كسب دائمة مع إضافة لمسته الخاصة على النص! فنراه يقول: وفي حالات أخرى، مدفوعا بسبب الجوع؛ كان يتوجب عليه الركض حتى العوالي على بعد ساعة من المدينة؛ لكي يبحث عن عمل، ولكن بعد كل هذه المعاناة تتملك البلادة المعهودة هذا النوام الكبير کما وصف نفسه بذلك؟(2).

وهذه الرواية قبل أن يحورها «Lammens »ماهي إلا الصيغة التي تحدثت عن أن الإمام عليه السلام التقى بتلك المرأة التي تريد أن تبل الطين فسحب لها الماء مقابل التمر! فقد نقل أحمد بن حنبل – وهو المصدر الذي اعتمده - وغيره عن الإمام عليه السلام قوله: جعت مرة بالمدينة جوعا شديدا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها ترید بله فأتيتها، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت: بكفي هكذا بين يديها فعدت لي ستة عشر تمرة، فأتيت النبي صلی الله علیه و آله فأخبرته، فاكل معي منها(3)

ص: 549


1- الدولابي: الذرية الطاهرة، 146؛ الزرندي: نظم درر السمطين، 192.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 57 51
3- أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 135؛ أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 1/ 71؛ الذهبي: تحقيق التحقيق، 2/ 130؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 4 / 97؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 178 - 179.

لكن «Lammens» لأجل أن يعمي على قرائه ويجعل من حادثة مفردة طريقة کسب دائمة! عاد فذكرها بعد عدة صفحات بالطريقة أعلاه! وعودا على بدء مع أن هذا الخبر لا يعيب ولا يقدح بشخص الإمام عليه السلام إلا أنه أراد بكل صورة تسجيله نقطة سلبية في سيرته! بل لعلها تعكس خلاف ما أراد تصویره! فهذا الكيان الضخم الذي ملأ الدنيا عطاء وفكرا وبطولة وعدلا؛ حتی عده الفكر المتحرر النزيه المعتدل في خطابه صوتا للعدالة الإنسانية(1). كان في غاية البساطة في عيشته ولا يستنكف أن يعمل لدى الآخرين ليحصل قوت عائلته ويأكل من كد يديه! فهل شهد تاریخ البشرية رجلا جمع بين هذه الأحوال (2)؟ وما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه (3).

ص: 550


1- نعني بذلك الكاتب المسيحي اللبناني المعاصر جورج جرداق و کتابه: علي صوت العدالة الإنسانية.
2- ولذا يخاطبه الشيخ الدكتور أحمد الوائلي: غالا يسار واستخف يمين *** بك يا لكنه لا يكاد يبين تجفي وتعبد والضغائن تغتلي *** والدهر يقسوتارة ويلين و تظل أنت كما عهدتك نغمة *** للآن لم يرق لها تلحين ولقد يضيق الشكل عن مضمونه *** ويضيع داخل شكله المضمون في الحرب أنت المستحم من الدما *** والسلم أنت التين والزيتون و الصبح أنت على المنابر نغمة *** والليل في المحراب أنت أنين تکسو وأنت قطيفة مرفوعة *** وتموت من جوع وأنت بطين وترق حتى قيل فيك دعابة *** وتفح حتى يفزع التنين ديوان الوائلي، 82 - 84
3- كلمة قالها جرير في معرض رده على الأخطل.ابن كثير: البداية والنهاية، 290/9

(4)العلاقة بين الرجل والمرأة المثال:صناعة النص والخطاب

سبق وأن أثيرت بعض أجزاء هذه الموضوعة، بما تقدم من الحديث عن زواج السيدة فاطمة فاطمة عليها السلام ولكن تبقى الإشارة هنا إلى بعض التفاصيل التي حاول « Lammens» أن يستشهد عليها بتأويلات ونصوص هي في غاية البعد عما يتحدث عنه! فبالعودة لذيل الخبر السابق: كلي وأطعمي صبيانك. وصيغة الرواية التي تقول باصطحابه للحسنين عليهما السلام ومقابلتها مع ما أراد التدليل عليه من فقره، وتقريره: أنه كان سيبا في تأخر زواجه من فاطمة! يظهر جليا أن طروحاته تفتقر حتى للتراتب التاريخي؛ فهو يستشهد على أن فقره کان مانعا من زواجه - بحادثة وقعت بعد زواجه وبعد أن ولد له ولدان، وبلغا من العمر ما تجاوز حد الفطام!؟ فضلا عن ذلك، يبدو أنه نسي ما قرره هنا فعاد وفنده بعد أسطر قليلة! مؤكدا أنه أمام حيرته، واضطرابه، وعدم تاريخية طروحاته، وعقلانيتها، وتفكك أفكاره في التعامل مع سيرة الإمام علیه السلام كان سرعان ما يناقض نفسه بنفسه؛ فقد قال : « جميع الروايات تؤكد بأن الفقر لا يكون عقبة أمام الزواج آنذاك، وإذن فقضية كونه فقيرا لا تشكل عائقا أمام زواجه. وقدعرف التقليد القديم بالنسبة للزواج في شبه الجزيرة العربية مجموعة من الزيجات التي تمت بدون تكاليف باهضة»(1). فضلا عن ذلك هو تغافل عما كان الطبيعة مرحلة الانتقال من مكة وبدايات التواجد في المدينة، من أثر على جوانب عديدة من حياة المسلمين الاجتماعية، سيما وأنهم في طور إثبات الوجود وإرساء القضية. هذا مضافا لانتظار بلوغ فاطمة عليها السلام سن الزواج. ولكن «Lammens» الذي يدعي المنطقية والتعقل! يتخلى عن منطقيته وتعقله!؛ إذا ما ظن أنه يجد في ذلك فرصة للطعن ! وإن بدا تحليله مفككا وساذجا بالمرة!؛ ففضلا عما تقدم نراه يقول: حلم علي في أن يجد

ص: 551


1- Fatima et les Filles de Mahonet.p, 32

نفسه في طابور خطاب فاطمة، فبردت همته، وهو مبهور بالجاه والحظية التي كان يتمتع بها منافسوه! إذن لماذا خيب محمد آمال جميع هؤلاء الوجهاء؟ إن هؤلاء لديهم حريم في بيوتهم، وهن يتمتعن بشخصيات معتبرة؛ لذلك كره محمد أن يضيع ابنته عديمة الخبرة بزجها في تلك الأوساط الصاخبة. وبدأ محمد بتزيين رفضه لهؤلاء متعللا بالعمر الصغير لطفلته. متناسيا أنه قد تزوج عائشة وهي بعمر تسع سنين. وهو هنا قد ناقض نفسه بشكل يرثى له، ولكن ما هي مصلحته في أن يمنحها أخيرا لعلي وبقوة ؟ إن هناك إشكالات على كثير من التوضيحات المزعومة التي ساقها لذلك؛ إذ كان رده: لم يكن لي أي دور في هذا الأمر، لأن الله هو من أمر بهذا الزواج. ونعتقد بأن تدخل السماء في أبسط أمور حياة النبي المنزلية إنما هو شيء لا يقبله إذ العقل يرى المعاصرون بأن كل شيء قد تم الاعداد له مسبقا (1).

واضح أن «Lammens» لا يعير التناقضات التي تكتنف آراءه وزنا يذكر !؛ فمع ما صوره من بؤس حياة وشخصية الإمام عليه السلام يكون خيار الموافقة على تزويجها من أحد أولئك الوجهاء؟! وإن كانوا متزوجين سابقا، هو أفضل بكثير من تزويجها له ثم إن كانت هي لا تمتلك - كما يدعي - الأفضلية التي يدعيها الشيعة! وإن أخواتها أفضل منها وأحب للنبي صلی الله علیه و آله، فلماذا قبل أن يزوجهن من عثيان وهو متزوج بأكثر من زوجة؟! ثم أي جاه باهر وحظية تلك التي يدعيها لطابور الخطاب والمنافسين، و المسلمون جميعا مازالوا في ضنك العيش يتقاسمون بينهم المأكل والمأوى؟!

ثم ينتقل «Lammens» ليلتوي على عدد من الأحاديث عن فضل الزواج والمتزوجين ويدعي: أن محمدا كان يرى أن العزاب ليسوا ملعونين فحسب بل يستحقون كل حجر جهنم! ويقول: إني أرتعد لشاب غير متزوج. وقال: سجدتين من مسلم متزوج أفضل من سبعين سجدة من عازب! وأكد أنه مسكين مرتين الأعزب حتى لو ملك الملايين، وينال المتزوج ثوابا أكثر عندما يصرف دینارا على زوجته، أكثر

ص: 552


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 21-29.

من استحقاقه حينما يعطي للفقراء، أو حينما يسهم في الانفاق على الحروب في سبيل الله. وعندما تتشابك بدا الزوجين فإن ذنوبهما تتساقط من بين أصابعهم. ألا يعني هذا أن قيمة المسلم إنما تتحدد بعدد زوجاته! ونتيجة لطبيعته الشهوانية - حاله كحال جميع بني عمومته - فإن عليا الشهواني لم ينتظر موت فاطمة؛ لكي يبرهن أن الزواج الأحادي كان قد فرض عليه؛ فسارع بعد موتها لسد الفراغ الذي تركته الغائبة، وأن يستلهم في هذه المناسبة الأقوال النبوية السالفة الذكر، وذلك بالزواج من عدة نساء(1). ثم يعلق على هذه النتيجة التي أراد مسبقا أن يفضي إليها بالقول: «ونحن سعداء حقا ولو ظاهريا كوننا قطفنا هذه الثمار من المختارات الكثيرة من السيرة»(2).

لا يختلف العقلاء أن هذه الأحاديث إنها تحث على الزواج، وليس على تعدد الزوجات، كما يدعي « «Lammens »! وإذا أردنا التنزل معه فهي إنها تذم العزاب - من يملكون القدرة على الزواج ولم يفعلوا - لا من يتزوج بزوجة واحدة! ثم إن القرآن الكريم يقطع على «Lammens» تأويله هذا، قال تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِی الْیَتَامَی فَانکِحُوا مَا طَابَ لَکُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَی وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَکَتْ أَیْمَانُکُمْ ۚ ذَلِکَ أَدْنَی أَلَّا تَعُولُوا»(3). إلا أن «Lammens» يأبى إلا أن يرتب على الأحاديث أنها تعني أن قيمة المسلم إنما تتحدد بعدد زوجاته!؛ ليفضي إلى القول: إن علي الشهواني لم ينتظر موت فاطمة؛ لكي يبرهن أن الزواج الأحادي كان قد فرض عليه؛ فسارع بعد موتها السد الفراغ الذي تركته الغائبة، وأن يستلهم في هذه المناسبة الأقوال النبوية السالفة الذكر، وذلك بالزواج من عدة نساء! وهذه فرية كان حاول من قبل إلصاقها بالنبي صلی الله علیه و آله! ولم يتوقع من «Lammens» أن يقرأ وهو فاتح كلتا عينيه! وإلا فالعين التي تتبعت الزوجات التسع أو الأكثر بقليل للإمام علیه السلام في طبقات ابن سعد(4). ألم يكن

ص: 553


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 32.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. p,33
3- النساء 3.
4- .19 - 17/3

بإمكانها مقارنة عددهن على الأقل مع زوجات أبرز الأشخاص الذين أوردهم بنفس الطبقة، للحصول على رؤية منطقية وتاريخية للموضوع؟! سيما وأنه كان يدعو في بحوثه وكتاباته لقياس وتقييم أمانة الشخص وسلوكياته مقارنة بمعاصريه أو رأيهم فيه. لا شك في أنه وقف على أن عمر كان متزوجا من تسع نسوة(1). وعثمان وطلحة كل منها متزوج من ثمان نساء(2). كما وقف على أن الزبير كان متزوجا من ست نساء(3). وسعد بن أبي وقاص من اثنتي عشرة زوجة(4). وعبد الرحمن بن عوف من سبع عشرة زوجة (5). إذن زواج أحدهم حينها بهذا العدد من النساء أمر طبيعي لا يعبر عن شهوانية جنسية كما يحلو ل-« Lammens» تسميته. ففي هكذا حالة يجب الاحتكام لروح العصر نفسه وواقعه، لا أن يسقط عليه فهم الوقت الحاضر ونظرته للموضوع! وهكذا هي فرضیات «Lammens »تفصح بصورة واضحة عن تفككها وتناقضها، وقصديتها البعيدة كل البعد عن البحث والتحليل، وتوخيها الإساءة كهدف أساس من دون الالتفات لتهلهل الفكر المطروح؛ وهذا ما لحظه بوضوح تام المستشرق الألماني «Bekker = بكر» عندما بين أن كتابات «Lammens» أشبه شيء بمجموعة من الفيشات وأنه يلون شخصياته التي يتكلم عنها جزءا جزءا، ولكنه يختار اللون غير الصحيح!(6).

ص: 554


1- ابن سعد، الطبقات، 3/ 246.
2- ابن سعد، الطبقات، 3/ 51 - 52،196.
3- ابن سعد، الطبقات، 3/ 93 - 94.
4- ابن سعد، الطبقات، 3/ 128 - 129.
5- ابن سعد: الطبقات، 3/ 118 - 119.
6- عبدالهادي أبو ريده: ضمن تعريفه بفلهوزن في ترجمته لكتابه (تاريخ الدولة العربية). الورقة (و).

(5)شخصية المثال.. تقييم المعاصرين وانتقاء الخطاب

ادعى «Lammens» في أكثر من موضع في دراساته، أنه يستند في تحليلاته واستنتاجاته على آراء المعاصرين للشخصية ليقدم صورة أكثر حيوية، وقربا من الواقع الزمني والاجتماعي الذي نشأت فيه تلك الشخصية، وهو ادعاء جميل يوحي بالموضوعية والعلمية والتقصي والبحث الدقيق. ولكن هذا الكلام لم يغادر حقيقة کونه ادعاء لا أكثر ف-«Lammens»لم يتحر تلك الشهادات، ولم يكن ممن يبحثون عنها! بل على العكس عمل على مناقضتها أو على التشكيك بها! أو على تأويلها تأويلا عكسيا، أو اهمالها من الأساس والاحتكام لما تمليه عليه غاياته البحثية!؛ ولما عابه الانتهازيون على شخصية الإمام عليه السلام من صرامة التزامه الديني والخلقي، وكرهه للغدر والفجور ومبدأ الوصوليين الغاية تبرر الوسيلة وذلك في أثناء الغارات التي كان يشنها معاوية على أطراف دولته، وهي التقييمات التي ألمح إليها الإمام عليه السلام في بعض خطبه وبين فسادها ومنها قوله يؤنب أصحابه على تخاذلهم عن الدفاع عن حقوقهم: «قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قریش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب! لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني!؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين! وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1).وقوله في خطبة أخرى: «والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يفجر ويغدر، ولولا كراهة الغدر کنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. ما

ص: 555


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 202/3 ؛ الثقفي: الغارات، 2/ 464 - 477؛ النعمان المغربي: شرح الأخبار، 2/ 74 -75.

لهم خیبهم الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين وبعد قدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين(1). أراد هؤلاء من الإمام علي عليه السلام أن يكون أبو بكر / عمر عثان / معاوية / مروان.. وأبي علي عليه السلام إلا أن يكون عليا. وبناء على مثل هذه التقييمات قال « Lammens »: علي بدا منقادا بقصوره الذاتي الذي عد سمة بارزة من سمات شخصيته(2). وعليه تقريرات «Lammens» التي أهملت مئات الشهادات الأخرى لم تكن بأقل تجنيا على الحقيقة من ذلك الرأي الخاطئ. ولنرى بعض من تلك التقييمات والشهادات التي أهملها وسنختار ناذج متقاطعة مع الإمام عليه السلام فالفضل ما شهدت به الأعداء:

أولا - قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟! قال: لا أسبه ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله، لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم! قال معاوية: ما هن؟ قال: لا أسبه ما ذكرت حين نزل عليه الوحي فأخذ عليا و ابنیه وفاطمة، فأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: رب إن هؤلاء أهل بيتي! ولا أسبه ما ذكرت حين خلفه في غزوة تبوك فقال: خلفتني مع الصبيان والنساء! قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي! ولا أسبه ما ذكرت يوم خيبر حين قال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويفتح الله على يديه، فتطاولنا لرسول الله، فقال: أين علي قالوا هو أرمد، فقال: ادعوه، فدعوه، فبصق في وجهه، ثم أعطاه الراية، ففتح الله عليه !(3) .

ص: 556


1- أبو جعفر الإسكافي: المعيار والموازنة، 96، 166؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2/ 312، 10/ 211
2- Fatima et les Filles de Mahomet. p,34
3- النسائي: خصائص، 76 - 77؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 108 - 109؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 42/ 111 - 112؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 25 - 26؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 376؛ ابن حجر: الإصابة، 4 / 468. وينظر: البخاري: صحيح، 5 / 76، 77.

ثانيا . قال عمر: لولا علي لهلك عمر(1). أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن(2). وقال: إن النبي قال لوفد ثقيف: لتسلمن أو لأبعثن لكم رجلا مني أو مثل نفسي، فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراریكم، وليأخذن أموالكم. قال عمر: فو الله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، جعلت أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفت إلى علي، فأخذ بيده ثم قال: هو هذا هو هذا(3).

ثالثا - نقل الشعبي قولا للحسن البصري في مجلس الحجاج قال: قدمنا على الحجاج البصرة، وقدم عليه قراء أهل المدينة، فدخلنا عليه في يوم صائف شديد الحر. وذكر الحجاج عليا فنال منه. وقلنا قولا مقاربا له فرقا من شره! والحسن ساکت عاض على إبهامه فقال الحجاج: يا أبا سعد مالي أراك ساكتا؟ أخبرني برأيك في أبي تراب. قال: أفي علي؟! سمعت الله يقول:«وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنتَ عَلَیْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَی عَقِبَیْهِ ۚ وَإِن کَانَتْ لَکَبِیرَةً إِلَّا عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللَّهُ »(4)، فعلي ممن هدى الله ومن أهل الإيمان، وأقول: إنه ابن عم رسول الله وختنه على ابنته، وأحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لا يستطيع أنت ولا أحد من

ص: 557


1- ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث، 152؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1103؛ الباقلاني: تمهيد الأوائل، 476؛ السمعاني: تفسير، 5/ 154؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 18؛ الزرندي: نظم درر السمطين، 130 - 132؛ الإيجي: المواقف، 3/ 627.
2- ابن قتيبة: تأويلمختلف الحديث، 152؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 351؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 1102/3 - 1103؛ ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 3/ 254؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 18؛ المزي: تهذيب الكمال، 20/ 486؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 638؛ ابن حجر: الإصابة، 4 / 467.
3- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 11 / 226؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 364؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 3/ 111؛ الخوارزمي: المناقب، 136.
4- البقرة / 143.

الناس أن يحضرها عنه ولا يحول بينها وبينه(1).

رابعا . وكان الحسن البصري يقول: رحم الله عليا ما استطاع عدوه ولا وليه أن ينقم عليه في حكم حكمه ولا قسم قسمه(2). وقال وقد سئل عنه: كان والله سهما صائبا من مرامي الله تعالى، وكان رباني هذه الأمة، وفي ذروة فضلها وشرفها، كان ذا قرابة قريبة من رسول الله. أبا الحسن والحسين، وزوج فاطمة، لم يكن بالسروقة لمال الله، ولا بالبرومة(3) في أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، أعطى القرآن عزائمه، وعلم ماله وما عليه(4).

خامسا - رد معاوية على محفن بن أبي محفن الضبي. لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس! ويحك! كيف تقول: إنه أبخل الناس. لو ملك بيتا من تبر،وبيتا من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه (5). قال ابن ماکولا وابن عساكر حين ترجمتهما المحفن هذا: أنه وفد على معاوية فوقع في على علیه السلام في خبر طويل (6).

سادسا - رفضت عمرة بنت عبد ود أخت عمر بن عبد ود أن تبكيه لما قتل! وقالت مبينة سبب ذلك:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** بكيته ما قام مني الروح في جسدي

لكن قاتله من لا يعاب به *** وكان قدي يدعى بيضة البلد(7)

ص: 558


1- البلاذري: أنساب، 2/ 379 - 380.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 383.
3- أي الضجر أو المتضجر. الفراهيدي: العين، 8/ 272.
4- ابن الجوزي: آداب الحسن البصري، 64.
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 22.
6- ابن ماكولا: إكمال الكمال، 7/ 212؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 57/ 99.
7- الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 33؛ ابن الجوزي: المنتظم، 3/ 234؛ ابن النجار البغدادي: ذیل تاریخ بغداد، 2/ 198؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 20-21؛ ابن حجر: فتح الباري، 12/ 73.

قال علماء اللغة في بيان معنى قولها بيضة البلد: أي إنه فرد ليس مثله في الشرف کالبيضة التي هي تريكة وحدها ليس معها غيرها(1). إذن فمعاصرو الإمام علي عليه السلام من أعدائه کانوا يقيمونه بهذا التقييم! وبناء على تلك الشهادات الحية المعاصرة قال ابن أبي الحديد: « ما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتان فضائله. وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة. وتتجاذبه كل طائفة؛ فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها. كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى»(2).

لكن «Lammens» لم يكن إلا كمحفن الضبي، الذي لم يقنع كذبه حتى مستأجريه. ولشدة إفلاسه في إيجاد ما يعيب به تلك الذات المقدسة؛ تعلق بما كان نتيجة الانقلاب المعايير والمقاييس عند بعضهم! ممن كانوا يرون الالتزام بأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها، وعدم مخالفتها، والصرامة الدينية والخلقية، والتعامل بمصداقية وإخلاص ووضوح تام، وبحسب الخلق الإسلامي والإنساني من الوفاء بالعهد والإخلاص، وعدم الانتهازية والنفعية .. الخ. قلة ذكاء ومحدودية في التفكير!! فقرر أنه: بدا منقادا بقصوره الذاتي الذي عد سمة بارزة من سمات شخصيته! وأنه كان يشكو من فقدان تام للذكاء، يغلب على كفة جميع صفاته الأخرى ! وإنه لم يكن يتميز بالحكمة! وإنه فاقد للإحساس، وإن وضعه من غير المعقول أن يؤدي به إلى أي فضيلة(3).

ص: 559


1- ابن فارس: معجم مقاییس اللغة، 1/ 326؛ ابن منظور، لسان العرب، 127/7؛ الزبيدي: تاج العروس، 10/ 21.
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 16 - 17.
3- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 49-50.

نعم هي أزمة المقاييس والغايات والنفعية التي أفصح عنها معاوية بقوله:« لأستميلن بالدنيا ثقات علي، ولأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنیای آخرته»(1). والتي شخصها «عبد الله بن العباس» حين قال للإمام الحسن علیه السلام: «إن أباك علي إنما رغب الناس عنه، وصاروا إلى معاوية؛ لأنه واسی بینهم في الفيء، وسوى بينهم في العطاء؛ فثقل ذلك عليهم»(2).ونهج بلاغته طافح بشكواه من هذه الأزمة! وقد مر أنه شکا تقاعس جيشه عن التصدي لغارات الشاميين؛ والذي صار سببا لتقولات بعضهم: بأنه لا علم له بالحرب، فبين توهمهم فهو يمتلك العلاج لذلك، إلا أنه كان يضع التزامه الديني الصارم بكفة، ودفع هذه التقولات - بصورة عملية - عن نفسه بكفة أخرى. وكم هو خيار ووضع صعب: إن كان يمتلك ما يخرس ويقطع به کل الألسن التي تغمزه وهو علي، وإن يكن ذلك متطلبا الخروج على أخلاقه ومبادئه والتزامه الديني. خيار صعب إلا أن تلك النفس الكبيرة سرعان ما حسمت أمرها بالقول: «وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي»(3).

وكان الإمام علیه السلام بين صعوبة الأمر عليه وهو يعيش ذلك الوضع فقال: یا عجبا من أمر يميت القلب، ويجتلب الهم ويسعر الأحزان، من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فبعدا لكم وسحقا، قد صرتم غرضا، ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فترضون، إذا قلت لكم سيروافي الشتاء قلتم كيف نغزو في هذا القر والصر، وإن قلت لكم سيروا في الصيف قلتم حتى ينصرم

ص: 560


1- المنقري: وقعة صفين، 436؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 8/ 77.
2- ابن اعثم، الفتوح، 4 / 284؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16/ 23.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 215؛ الثقفي: الغارات، 2/ 625؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 102/6

عنا حمارة القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر، والذي نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من السيف تحيدون، یا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال، أما والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم(1).

وفي الجانب الآخر. كان معاوية لا يراعي أدنى مستويات الأخلاق والدین فاستخدم أساليب الغدر والخيانة وشراء الذمم والقتل والنهب والسلب وحرب العصابات فكان يبعث سراياه، فتغير وتقتل وتنهب وتنسحب نحو الشام. ولم يكن غائبا عن بال الإمام علیه السلام أن هذا الأسلوب إنما يجابه بمثله. أي لتلك الجماعات المغيرة بجماعات ومسالح مماثلة تمتلك خفة الحركة وسهولة التنقل والملاحقة، ولكنه كان أسير تواكل جند العراق وتخاذلهم، وإلا فالإمام علیه السلامالعالم باستراتيجيات الحرب وخططها وأحوالها ففي غارة بسر بن أرطأة استنهض جنده قائلا:

إن بسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز وما بسر ؟! لعنه الله لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن شنته، فإنما خرج في ست مائة أو يزيدون. فسكت الناس مليا لا ينطقون. فقال: ما لكم أخرسون أنتم لا تتكلمون! فقام أحدهم فقال: إن سرت یا أمير المؤمنين سرنا معك. فقال: اللهم مالكم؟! لا سددتم المقال الرشد. أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ترضون من فرسانكم وشجعانكم. ولا ينبغي لي أن أدع الجند، والمصر، وبيت المال، وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق الناس، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى في الفلوات وشعف الجبال. هذا والله الرأي السوء. والله لولا رجائي عند لقائهم، لو قد حم لي لقاؤهم، لقربت رکابي، ثم لشخصت عنكم، فلا أطلبكم ما اختلف جنوب

ص: 561


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 202/3 ؛ الدينوري: الأخبار الطوال، 214 - 215؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2/ 74، 75.

وشمال، فو الله إن فراقكم لراحة للنفس والبدن (1).

إذن مشكلة الإمام عليه السلام العويصة والمعضلة هي تخاذل جنده؛ لأنه لم يكن يغريهم بالأموال، والمناصب والاقطاعات.. ، كما يفعل معاوية. وليس أدل على فقدان تقریرات «Lammens» لواقعيتها التاريخية وصفتها البحثية أن كلفت المستشرقة «L. Vecci Vaglieri = لورا فيشيا فاغليري» بتقديم مادة جديدة عن الإمام عليه السلام الدائرة المعارف الإسلامية، لتكون بديلا عما قدمه «Lammens» عن سيرته، فكتبت مقالتها « Ali, B. Abi Talib» التي قالت فيها: إن الأحكام العدائية من «Lammens» وخاصة في كتابيه «فاطمة ومعاوية» والتي يتم استخراجها أحيانا عنوة من النصوص، يجب أن ترفض. (Lammens» لم يذكر، مدی تدين علي، وانعكاسه على سياسته. يوجد كثير من الملاحظات عن تقشفه، والتزامه الصارم بالشعائر الدينية، وانصرافه عن السلع الدنيوية، وتردده فيما يتعلق بالغنائم والثأر والانتقام، وليس هناك سبيل اللافتراض أن هذه التفاصيل مخترعة أو مبالغ فيها؛ بما أن كل أفعاله تسيطر عليها روحه الدينية. بدون محاولة تقرير فيما لو أن التزامه الديني بالإسلام كان دائما بالكامل، ولا تختلط به دوافع أخرى، فإن هذا الجانب من شخصيته لا يمكن تجاهله؛ لأنه يسهم في فهم تلك الشخصية. لقد دخل في حروب ضد المسلمين الخاطئين كجزء من واجبه من أجل «ديمومة العقيدة وانتصار الحق». بعد انتصاره في معركة الجمل حاول تخفیف الحزن على الذين ماتوا بمنعه استعباد نسائهم وأطفالهم في وجه المعارضة من مجموعة من أنصاره. عندما كانت المعارك تنتهي، كان يظهر عليه الحزن، ويبكي على الموتی وحتى يدعو ويصلي لأعدائه. حتى غموض موقفه الواضح تجاه الخوارج يمكن تفسيره كخوف منه من أن يعصي الله . رغم أنهم أقنعوه أن التحكيم كان إثم، فقد اعترف أيضا بأن خرق ميثاق صفين هو أيضا إثم. وفي ظل هذه الورطة المؤلمة اختار

ص: 562


1- الثقفي: الغارات، 2/ 226 - 227؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 7/ 285.

السماح بان يحصل التحكيم. إن طاعته لله كانت هي المفتاح الرئيسي لسلوكه، أما أفكاره فكان يحكمها الصرامة والالتزام الكبير جدا، وربما لهذا السبب وصفه أعداؤه «بالمحدود في ذهنیته» كونه أسير التزامه الصارم؛ فهو لم يستطع تكييف نفسه مع ضروریات الوضع الذي كان يختلف جدا عما كان في وقت محمد. من ثم كانت تنقصه المرونة السياسية التي كانت من جهة أخرى واحدة من الصفات الواضحة جدا عند معاوية. كان برنامجه طوبائيا مثاليا، ربما هو نفسه اكتشف استحالة تحقيقه عندما اصبحت السلطة في يديه، وربما أسهم هذا معالأحداث الخارجية في عدم تشجيعه في سنواته الأخيرة. لو اعترفنا بأن شخصيته كانت في روحيته الدينية العميقة، وأنه دعم بسلطته وصلاحيته برنامج إصلاحات اجتماعية واقتصادية في نفس الوقت، ووضعها بأساس ديني، فإننا قد نجد حل هذا السؤال(1).

ومن طروحات «Lammens» الغريبة لتركيز فكرة القصور الذاتي ادعاؤه أن الإمام علیه السلام : «كان يشكو من فقدان تام للذكاء يغلب على كفة جميع صفاته الأخرى! وإنه لم يكن يتميز بالحكمة! وأنه فاقد للإحساس، وأن وضعه من غير المعقول أن يؤدي به إلى أي فضيلة»!(2). وهذه الأخيرة بدورها عللها بفرية أكبر من سابقتها فادعى: أنه لم يكن يداري علاقته بالنبي! وكانت الحجة على ذلك كذبة أخرى وهي: أنه نقض شرطه بعدم الزواج على ابنته فاطمة !؟ ليأتي دور الكذبة الأساس التي نسجت عليها هذه الأكاذيب وهي: أن محمد بن الحنفية أكبر من الحسن والحسين !؟ فقال : هل حقا كان ابنه محمد بن الحنفية الملقب بمحمد الأكبر! أصغر عمرا من الحسنين؟ عندما كانوا يسمون أحدا من أبنائهم محمد الأكبر فهم يطلقون هذه التسمية على الولد الأكبر؛ لكي يميزوه عن أخيه الأصغر منه سنا والذي يدعى محمد أيضا، ولقد تعلمنا

ص: 563


1- The Encyclopaedia of Islam (new editionV I). pp, 385 386
2- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 49-50

أن نرتاب من هكذا بحث تقليدي، ولدينا أسبابنا التي نعرفها جيدا. نجد أنمحمد بن الحنفية قد برز في معارك الجمل وصفين وهو بكامل القوة والصلابة من ناحية العمر، وقد تمیز بشجاعة عن الحسن والحسين، وبدا أكثرهم نفعا، ونجده كذلك وقد أصبح أمل الشيعة بعد معركة كربلاء من دون باقي ذرية علي، وإذا كان علينا التطرق إلى الصفات السيئة لفاطمة، وعدم مبالاة محمد، ووعود علي بعدم الزواج بامرأة أخرى غير فاطمة والذي أكد على الالتزام بها، ولم يلتزم! نستطيع أن نلمس لمس اليد مرة أخرى عدم الحكمة التي كان يتصف بها صهر النبي(1).

جريا على ما ختم به « Lammens» طرحه هذا، نلمس المس اليد مرة أخرى مدى تهافت آرائه و مخالفتها للواقع ومعاندتها الإجماع المصادر التاريخية. ونجده يستهزئ بعقول قرائه، ولم يخجل أن يبدو أجهل الناس بأبسط التواریخ!

فأكثر ما يروى في عمر محمد بن الحنفية رضی الله عنها أنه مات سنة «81 أو 82ه-» وله من العمر 65 ه-»(2). مما يعني أنه ولد سنة (16 أو 17 ه-). وقد ورد أن ولادته: كانت لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي في سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل: سنة ثلاث وثمانين. وقيل: سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين بالمدينة(3).

وقيل: ولد لثلاث سنين بقيت من خلافة عمر بن الخطاب، ومات برضوی سنة ثلاث وسبعين(4) . ومن المشهور أن أمه الحنفية كانت من سبي اليمامة وهي إنها فتحت

ص: 564


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 37-49
2- ابن سعد، الطبقات، 116/7 ؛ ابن قتيبة: المعارف، 216؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 423 الطبري: تاریخ، 5/ 152؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 54 / 321 - 326؛ المزي: تهذیب الكمال، 26/ 152؛؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 128؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 47/9
3- ابن خلکان: وفيات الأعيان، 4/ 172
4- ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار، 103؛ وينظر : ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 324/54

في عهد أبي بكر(1). وروي أن بني أسد أغاروا على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر الحنفية فقدموا بها المدينة في أول خلافة أبي بكر، فاشتراها الإمام علي علیه السلام فبلغ قومها الخبر، فجاءوا إلى المدينة وأخبروا الإمام علیه السلام بما جرى وموضعها منهم، فأعتقها وتزوجها، فولدت محمدا(2). وعلى العموم لم يختلف أنه ولد في خلافة أبي بكر أو عمر(3). أما كونه سمي بمحمد الأكبر. فمن المضحك الاستدلال من خلال هذه التسمية على أنه أكبر من الحسن والحسين علیهما السلام وإلا لكان يجب أن يكون أسماهما محمدا أيضا ليكون أحدهما محمد الأوسط والآخر محمد الأصغر! هذا فضلا عن أن بين أولاد الإمام علیه السلام من عرف بمحمد الأصغر، أمه أم ولد، وكان قتل مع أخيه الإمام الحسين (4)علیه السلام . ولم يذكر أحد من المؤرخين أن الإمام علیه السلام تزوج على السيدة فاطمة علیه السلام في حياتها. أما أنه كان متميزا في معارك الجمل وصفين. فهو على أقل تقدير كان قد قارب العشرين حينها، وهذا الشبل من ذاك الأسد، فكفاه لأن يكون شجاعا وقويا وفارسا وهو في مقتبل عمره أنه ابن علي بن أبي طالب علیه السلام على أن هذا لا يعني مطلقة خمول أو تواضع دور الحسنين علیهما السلام فقد وضح هو ذلك حين سئل: أبوك يسمح بك في الحرب، ويشح بالحسن والحسين ؟ فقال : هما عيناه وأنا يده! والإنسان يقي عينيه بيده! وقال في مرة أخرى: أنا ولده وهما ولدا رسول الله (5).

ص: 565


1- ابن سعد، الطبقات، 7/ 93؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 54/ 323. وكان ترجم له ترجمة طويلة جدا وذكر جميع الآراء في ذلك، 1318 - 359؛ المزي: تهذيب الكمال، 26/ 148؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4 / 110.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 422
3- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 54/ 323 - 327؛ المزي: تهذيب الكمال، 26 / 152؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 111 - 114.
4- ابن سعد، الطبقات، 3/ 18؛ مصعب الزبيري: نسب قریش، 44؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 413
5- الإربلی: کشف الغمة، 2/ 235.

ومن الأمور التي توسل بها « Lammens» لإسناد تقريراته المتهافتة إعادة صياغة موضوعة خطبة الإمام عليه السلام البنت أبي جهل فقال: كان بنو مخزوم، وبنو أمية قد احتلوا المرتبة الأولى في الأرستقراطية المالية في مكة. وإن الهزيمة التي كانوا قد شنوا بها يوم بدر قد تسببت لهم بخسائر مادية كبيرة. وعلق علي على ذلك بقوله: هو عقاب لهم بسبب عدم إخلاصهم. وحكم علي القاسي هذا على هذه القبيلة لم يمنعه، أن يصغي المقترحات الزواج القادمة من قبل بني مخزوم، ولم يستنكرها، وممكن أن يكون هذا الأمر بمثابة مناورة من قبل على الذي اتهم محمد بالبرود تجاهه. كما طلب الزواج من إحدى بنات أبي لهب! وكان طلبه مؤلما لمحمد؛ بسبب موقف أبي لهب العدائي، وبالنسبة لعلي فإن له مشية رديئة بشكل عام، وهي التي سببت له بغض آل أبي لهب المستمر، ونرى إن محللينا يعرفون كل ذلك، فيجبرون أنفسهم على وضع ملطفات للتاريخ، مثال ذلك تأكيدهم على أن عليا لم يفكر بأن يتسبب بحزن فاطمة. وبالنسبة لعلي فاقد الإحساس فإن وضعه من غير المعقول أن يؤدي به إلى أي فضيلة (1).

کما اجتر مرارا وتكرارا قضية فقر الإمام عليه السلام قبالة غنى عثمان فقال: إن عثمان الممتاز الذي يؤهله وضعه المالي وثروته لامتلاك العديد من الحريم، إلى درجة أن أبا القاسم كذلك بدا وكأنه قد تأثر بهذا الثراء، وحسب ما شهدت به مجموعة الصحيح من أنه يكن لعثان الاحترام البالغ، وإنه لم يستقبله يوما بروب النوم مطلقا. کیا کان يسمح لنفسه بفعل ذلك مع أبي بكر. وبدون شك فإن عليا لم يكن غنية كتجار أو جنرالات بني أمية، ولم يستطع أن يقارن نفسه مع الأثرياء منهم. إن أبا العاصي هو من رأت السيرة أن تختاره كي يكون زوجا لزينب. ونحن لا نعرف عن هذا الأموي الآخر سوى شيء قليل، إذ إن صاحب الأموال القرشي هذا انخدع في أن يكون أحادي الزواج. وهذا طبعا لم يمنع محمد من أن يذكره بإطراء. وقد اعترض بقوة على موقف

ص: 566


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 50

علي الذي ينوي أن يجمع بين بنت عدو الله مع بنت رسول الله تحت سقف واحد (1).

ثم يأتي ثانية دور إلقاء التقريرات المعدة سلفا و التي صيغت المقدمات لتناسب معها! فيقول: في كل هذه الظروف كان علي كما يبدو تنقصه الفطنة، وكان واضحا مما كان يلمح إليه محمد مدى ما يعزوه لهذا الصهر ذي المستوى دون المتوسط من الفهم. على الرغم من أن الحديث لم يتطرق لهذا الشيء علنا، وإنما اهتم بإثارة موضوع مدح فاطمة من قبل أبيها، وعلي بفعله هذا إنما يدل على عدم الكياسة، معطيا بذلك دليلا آخر على عدم الإحساس المستعصي لديه؛ وذلك لتجاهله اشمئزاز زوجته المشروع تجاه هذا الموضوع. وكرد فعل على تعنيفات صهره فقد استطاع أن يفترض بأن تظلماته لم تكن وهمية. ولقد أصر محمد على إهماله، حتى اندهش القريشيون أنفسهم من هذا الأمر. إن هذه البرودة قد وضعت علامة تعجب على المودة المزعومة من قبل أساطير السيرة الشيعية، بين النبي وذلك السعيد في حياته حتى الموت، المختار من قبل الله ومن قبل النبي لكي يخلد سلالة خاتم الأنبياء(2).

بداية يظهر أن «Lammens» تخادع للرواية الإسلامية التي تصور عثمان بذلك الرجل الثري جدا منذ بدايات تواجده في المدينة؛ فهو وإن كان ثريا في مكة، فهل سمح له بحمل أمواله وممتلكاته معه أثناء هجرته؟! المعروف أن المهاجرين تركوا ما يملكون في مكة، بل إن المكيين صادروا ممتلكاتهم، بل إنهم خرجوا سرا من المدينة سيرة على الأقدام !؟ وهناك تقاسموا المأكل والمأوى مع الأنصار. ولم يرد أن عثمان کان مسغنيا عن ذلك !؟ ولم يرد أنه كان غنية وهو في مكة !؟ لا شك في أن هذه الروايات تريد التغطية على الإثراء غير الشرعي الذي حققه عثمان أثناء حكمه على حساب

ص: 567


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 51.
2- Fatima et les Filles de Mahomet, p. 52 بلغ من تهكمه أن استخدم في المقطع الأخير كلمة (خاتم) بمعنی خاتم اليد!؟

المسلمين والمبادئ الإسلامية! إذن النقطة الأساس التي دار عليها تجريح «Lammens» هي قضية خطبة بنت أبي جهل أو أبي لهب المزعومة. وقد مر مناقشة هذه الموضوعة في محلها، ولكن «Lammens» الذي تستثيره أي رائحة للشك لمناقشة الروايات وتحليلها ما باله تعطلت لديه تماما تلك الحاسة في رواية الخطبة ورائحة الوضع فيها تزکم الأنوف ؟! وإلا كيف لأبي جهل أو أبي لهب أن يعرضا بنتيهما للزواج من الإمام عليه السلام أو أن يتقدم هو لخطبة إحداهما، ودماء أهلها لم تجف بعد من شفير سيفه !؟

وسرعان ما يكذب «Lammens» ويناقض نفسه بنفسه؛ فبعد أن قرر هذه النتيجة، عاد فقال متحدثا عن نتائج معركة بدر: إن الهزيمة التي كانوا قد منوا بها يوم بدر قد تسببت لهم بخسائر مادية كبيرة. وأن عليا علق على ذلك بقوله: هو عقاب لهم بسبب عدم إخلاصهم. وإن حكمه هذا كان قاسية على هذه القبيلة!

فهل نسيت تلك الهزيمة والخسارة بصورة سريعة هكذا، وفكر الطرفان بعقدالمصاهرات بينهما؟! التاريخ يخبرنا أن العلاقة بين مشركي مكة والمسلمين في المدينة لم تزل متوترة حتى عام الفتح على أقل تقدير.

ثم إن كان الإمام عليه السلام على النحو الذي صوره به من الصفات، مع الفقر المدقع الذي ما انفك ملازما له، فما الذي يطمع تجار و جنرالات وأرستقراطيي مكة - كما يعبر في نصوصه - بأن يزوجوه بناتهم، ولم تجازف تینك المرأتين بمكانتها ويوافقا على هكذا زواج؟!

ص: 568

(6) ضرب الترابط بين النبوة والإمامة

شكل التاثل والالتصاق بين شخص النبي والإمام علي عليه السلام نقطة إحراج شدید لغاصبي الخلافة، وكان هذا القرب واحدا من محاور الاحتجاج التي تحرك فيضمنها خطاب الإمام علي تجاه أولئك الغاصبين؛ استنادا لحوادث وأحاديث متعددة مرت الإشارة لبعض منها: كحديث الدار، وحديث المنزلة، وحديث الراية وغيرها. فقد ورد أنه احتج على قادة مشروع الانقلاب في السقيفة بقوله: وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه(1).

وذكر بذلك التماثل والأخوة بينه وبين رسول الله صلی الله علیه و آله مرة أخرى عندما هاجم الغاصبون داره والسيدة فاطمة عليها السلام وحاولوا إجباره على البيعة فقد ورد: أن عمر ومعه قوم، أخرجوا عليا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع. فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. فقال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله. قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا(2). وهكذا نجد الغاصبين منذ اللحظة الأولى يحاولون ضرب هذا التماثل والالتصاق. في حين كان القرب من النبي صلی الله علیه و آله هو ما احتجوا به على الأنصار في السقيفة قال عمر: «لا ترضى العرب أن يؤمرو كم، ونبيها من غير كم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبي من العرب الحجة الظاهرة،

ص: 569


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 13 / 197.
2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، 20/1

والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة»(1).

ولذلك سعي رواة مدرسة الخلفاء ومؤلفوهم لتغييب هذه القضية؛ من خلال الروايات التي تسيئ للإمام علي عليه السلام وتصطنع بالمقابل منزلة وفضائل للآخرين. فما كان من «Lammens» إلا أن يتلقف تلك المروایات؛ لتحقيق غايته بالإيحاء بوجود نوع من سوء العلاقة بين النبي والإمام علي عليه السلام فتصيد كل شاذ و موضوع من الرواية والحديث واعاد انتاجه وترميمه بما يتناسب وما يريد التدليل عليه وسنجده لا يكتفي بكذب تلك الروايات والأخبار، بل أجرى عليها تعديلاته اللازمة، وأعاد إنتاجها مرات ومرات؛ ليوحي لقرائه بأنه استطاع جمع أكبر عدد من الشواهد التي تؤيد كلامه! فكان يوظف الرواية في أكثر من موضع، ولكنه في كل مرة يكسيها لونا ما! فضلا عن ذلك كان يلجأ لعكس الأخبار والأحاديث وتقطيعها؛ لتوحي بما يريد قوله! وهي منهجية أكثر من محتالة ولكنها مبررة عند « Lammens» ما ظن أنها توصله لغايته؛ فها هو يعيد مضامین آرائه السابقة، ولكنها هناك كانت تحت عنوان «عدم كفاءة / ذكاء متوسط / قصور ذاتي... الخ» أما هنا فتتحول إلى برودة / إهمال / عدم قدرة.. فنراه يقول: برودة علي أو عدم كفاءته كان لها دور كبير في إهماله من قبل صهره، ذلك الاهمال الذي جعل عليا يضيق ذرعا به. وإذا كان النبي قد استخدم شجاعة علي في المشاهد، فإنه لم يكن قد تخيل على الاطلاق أن يضعه في مكان آخر، با في ذلك قيادة الجيش، بل أوكل إليه بعض المهام كجمع الصدقات على سبيل المثال، وقد كره محمد أن يوكل للهاشميين الطاعين مهام إدارة أموال الصدقات کا لم يدرها بنفسه، كما رفض ذلك لعلي من قبل، وقد كره النبي صحبة زوج ابنته، قال ذلك الصحابة، وكان النبي يفضل أن يخلفه ابن أم مكتوم الأعمى على المدينة خلال غيابه

ص: 570


1- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1 / 15؛ الطبري: تاریخ، 3/ 220.

المتكرر عنها، وهذا التصرف يعني عدم منح الثقة الكافية لزوج ابنته، وقد قال محمد ذات مرة: الجبل ممكن أن يغير مكانه لكن طباع الإنسان لا يمكن تغيرها، ولو تابعنا جميع تحركات محمد السياسية، لم نجده يستوحي فيها أي شيء من فکر علي، وبالمقابل فإن عليا لم يتعب نفسه في أن يلغي من طبعه ما يؤدي به لهذا الإهمال، وخلال المدة الواقعة بين الأحداث الهامة في التاريخ الحربي خلال الحقبة المدنية، كان من الصعب أن نجد له عملا في ذلك الوقت، ونعتقد أنه كان معتادة على تمضية وقته بالنوم، وخاصة بعد شجاراته المعتادة مع زوجته، ولكن بعد كل هذه المعاناة تتملك البلادة المعهودة هذا النوام الكبير کا وصف نفسه بذلك(1).

أما مسألة أن النبي صلی الله علیه و آله لم يوكل للإمام عليه السلام قيادة الجيش؛ فذاك لأنه كان يتولى القيادة بنفسه! وأما قيادة المعركة فقد مرت الاشارة إلى أنه كان حامل اللواء في كل المعارك. وأنه كان الفارس الأبرز فيها ففي بدر كان هو حامل اللواء(2). وعلى صغر سنه قتل نصف قتلى المشركين فيها. وكذلك كان هو حامل اللواء في أحد(3)، وأيضا كان له النصيب الأوفر من قتلى شجعان المشركين(4). ومما نص عليه المؤرخون من ذلك خبر قتله لعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، إذ برز الأخير وكان فارسا شجاعا،

ص: 571


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 56-58
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 612 - 613؛ أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 1/ 175؛ ابن عبد البر:الدرر، 102؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 1/ 372.
3- ابن إسحاق: سيرة، 308/3 ؛ الواقدي: المغازي، 1/ 210؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 73؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 316 - 317؛ الكلاعي: الاكتفاء، 1/ 72؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 1/ 415؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/ 148؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4/ 22؛ السيرة النبوية، 3/ 39؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 1/ 422.
4- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 73 - 74، 127 - 128؛ الطبري: تاریخ، 2/ 513 - 514؛ الطبراني: المعجم الكبير، 1/ 318؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 6 / 114؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 144 - 145؛ القندوزي: ينابيع المودة، 2/ 159 - 160.

وهو صاحب لواء المشركين، فأخذ ينادي: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار؟! فقام إليه الإمام علي علیه السلام فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة، ثم ضربه فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته! فقال: أنشدك الله والرحم یا ابن عم فترکه! فقيل له: ما منعك أن تجهز عليه؟، قال: ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه(1). وراح يحمل على جماعات المشركين حتى نادى جبريل علیه السلام : یارسول الله إن هذه المواساة. فقال النبي صلی الله علیه و آله : إنه مني وأنا منه، ونودي في السماء : لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي(2).

وفي الخندق طلب عمرو بن عبد ود العامري البراز فلم يبرز له أحد وصار يستهزئ بالمسلمين وينادي: ولقد بححت من النداء لجمعكم هل من مبارز. فلم يجبه أحد من المسلمين فبرز له الإمام عليه السلام فقتله وفتح الله للمسلمين على يديه(3)

وفي خبر كان هو الفارس الأوحد، فقد أعطى النبي صلی الله علیه و آله الراية لأبي بكر فرجع هاربا ! ثم أعطاها لعمر فرجع يجين أصحابه وهم يجبنونه! فقال: لأعطين الراية غدا رجلا کرارا لیس فرارا، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله

ص: 572


1- الطبري: تاریخ، 2/ 509 - 510؛ جامع البيان، 4 / 166؛ ابن الأثير: الكامل، 152/2 ؛ ابن سید الناس: عيون الأثر، 410/1 ؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 497 – 498.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 73 - 74، 100؛ الطبري: تاریخ، 514/2 ؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 154؛ الكلاعي: الاكتفاء، 1/ 85؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 707/4
3- الواقدي: المغازي، 2/ 470 - 471؛ ابن سعد، الطبقات، 2/ 64؛ ابنهشام، السيرة النبوية، 2/ 224 - 225؛ ابن عبد البر: الدرر، 174 - 175؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 42/ 78 - 79؛ ابن الجوزي: المنتظم، 3/ 232 - 233؛ الكلاعي: الاكتفاء، 1/ 124، 12؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4/ 122 - 121

على يديه! فلما أصبح دعا الإمام علیه السلام وكان يشكو الرمد، فمسح على عينيه فشفيتا، وأعطاه الراية، فخرج يهرول هرولة، وركز رايته في كوم من الحجارة، فقتل مرحبا اليهودي، وقلع باب خيبر وفتح الحصن(1).

وإن كانت كتب السيرة والتاريخ حاولت التغطية على انهزام «أبي بكر وعمر» فلعل المفاضلة أو المقارنة التي تضمنها قول النبي صلی الله علیه و آله: کرار ليس فرار أو لا يرجع حتى يفتح الله على يديه! لتدل وتصرح بفرار وانهزام الشيخين! وعلى العموم كل الموروث التاريخي يكذب «Lammens».

أما أن النبي صلی الله علیه و آله لم يوكل له، ولا لأحد من بني هاشم جمع الصدقات لأنهم طاعون! فلشدة إفلاس «Lammens» في التدليل على ما ذهب إليه؛ راح يقطع الأخبار والروايات ویعکسها عکسا تاما !؛ فقد استشهد لذلك بما رواه أحمد بن حنبل من أن عبد الله بن الحرث بن نوفل عن عبد المطلب والفضل بن العباس بن عبد المطلب أرادا الذهاب إلى النبي صلی الله علیه و آله ليطلبا منه أن يؤمرهما على الصدقات، فيؤديا ما يؤدي الناس، ويحصلا على شيء من المنفعة، فبينما هما في ذلك جاء الإمام علي علیه السلام فقال: ماذا تریدان؟ فأخبراه بالذي أرادا. فقال: لا تفعلا؛ فو الله ما هو بفاعل ! فقالا: لم تصنع هذا، ما هذا منك الا نفاسة علينا. لقد صحبت رسول الله، ونلت صهره، فما نفسنا ذلك عليك. فقال: أنا أبو حسن. أرسلوهما، ثم اضطجع، فذهبا إلى النبي صلی الله علیه و آله فقالا: جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصیب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدى الناس، فقال لهما: ألا إن الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي

ص: 573


1- الواقدي: المغازي، 2/ 653 - 654؛ ابن سعد، الطبقات، 2/ 104 - 106؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 334 - 335؛ ابن أبي شيبة: المصنف،520/8 ؛ أحمد بن حنبل، مسند، 4 / 52؛ البخاري: صحيح، 207/4 ؛ مسلم: صحيح، 5/ 195؛ النسائي السنن الکبری، 5/ 109 - 110؛ الطبري: تاریخ، 11/3 -13؛ ابن حبان: صحیح، 15/ 380 - 382؛ الحاكم: المستدرك، 3/ 38 - 39؛ أبو نعيم: حلية، 62/1 - 63؛ ابن عبد البر: الدرر، 197 - 199؛ البيهقي: السنن الکبری، 9/ 131 - 132.

أوساخ الناس وأمر لهما بشيء من الخمس (1). وفي أدبيات الفقه الإسلامي الصدقة حرام على من ينتسبون لرسول الله صلی الله علیه و آله إكراما لهم من أن يتصدق عليهم الناس. إذن فالخبر بالعكس تماما عما وظفه فيه «Lammens» فالإمام علیه السلام كان أنبل نفسا وأعلى همة من أن يتولى الصدقات، فهي من صغائر الأمور وإنما يتولاها بسطاء الناس، بل إنه اعترض على ابني عميه أن يطلبا هذه الصغائر .

ثم إن النبي صلی الله علیه و آله كان يربأ بمن ينتمي له، أن تهفو نفسه لهذه الدنيات، بل صرح لهما بأنها من أوساخ الناس، وأنه لا يليق بها أن يطلباها، وهو ما حذفه «Lammens» من الخبر، کما حذف اسمي عبد الله والفضل ليجعل مدارالرواية مختصا بالإمام علیه السلام! أسلوب رخيص، ومما يترفع عنه.

أما أن النبي صلی الله علیه و آله كره صحبة الإمام علیه السلام فقد حاول الالتواء على قضية استخلافه في معركة تبوك! وردد ما قاله بعض المنافقين في ذلك الوقت: ما منعه من أن يخرجه إلا أن كره صحبته! فذكره للنبي صلی الله علیه و آله فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي(2). أي وقعت عليه مسؤولية خلافة النبي في غيابه كما تولى هارون علیه السلام خلافة موسی علیه السلام حين ذهب لميقات ربه!

إذن كم هو بائس ومخجل ما يتذرع به «Lammens» !؟ وما مثله إلا كما عبر القرآن «مَثَلُ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِیَاءَ کَمَثَلِ الْعَنکَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَیْتًا

ص: 574


1- مسند، 4 / 166. وينظر الخبر عند: مسلم: صحیح، 3/ 119؛ أبو داود: سنن، 2/ 27 - 28؛ البيهقي: السنن الکبری، 7/ 31.
2- ابن سعد، الطبقات، 3/ 12-23؛ عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5 / 406؛ 11 / 226؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 519 - 520؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 496/7 ؛ 562/8 ؛ أحمد بن حنبل، مسند، 7/1؛ البخاري: صحيح، 4 / 208؛ 5/ 129؛ مسلم: صحيح 7 / 120 - 121؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 348؛ النسائي: فضائل الصحابة، 13 - 16؛ الطبري: تاریخ، 3/ 103 - 104؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 2/ 337.

وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُیُوتِ لَبَیْتُ الْعَنکَبُوتِ ۖ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ»(1). كانت طريقته هي ذات الطريقة التي استخدمها في رواية الصدقات. قطع الحادثة فجاء بها وظفه منها - أي ما قاله بعض المنافقين - ولم يشر لبقيتها. ولعل هذا يغني عن متابعته في هذه المسألة. إن هذا الأسلوب ومثيلاته يجعلك تقطع أن «Lammens» لم يكن يكتب مؤلفاته بالعربية، رغم تمكنه منها! وتبجحه الغريب بالانتماء وبشدة إلى سوريا!؛ لأنه كان يخشى أن يقضى على مستقبله الاستشراقي مع صدور أول كتاب له! ولأنه إنما وجه خطابه التقويضي للمتلقي الغربي!؛ للحيلولة دون انسلاخه من متبنياته ! ؛ إذا ما تعرف على سيرة هذه الذوات المقدسة، التي بحق تقدم المثال لكل البشرية. أراد أن يضرب الإسلام من خلال تقويض صور شخوص قطبيته «أصحاب الكساء» وما مثلوه من مركزية ومحورية وفرادة كانت هزمت النصارى، وبينت فساد عقيدتهم، وانتهاء الدور الذي أنيط بالنصرانية لقيادة العالم الأرضي. كان يعلم أن أساليبه هذه لا تقنع أي مطلع بسيط على تاريخ المسلمين؛ ولذلك كان يواري أكاذيبه تلك من خلال التمويه والكذب على القراء الغربيين، وإحالتهم لكم هائل من المصادر ليس من السهولة ملاحقتها، فضلا عن فقر المعرفة بلغتها. كما تؤشر هذه الأساليب لضحالة الخطاب الاستشراقي الذي يمثله «Lammens» وهشاشة مبانیه وضعفها.

الأدهى مما تقدم، أنه يحاول جر الحديث الذي تفرد به «أحمد بن حنبل»: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، وإنه يصير إلى ما جبل عليه»(2). على الموضوعة أعلاه ولا ربط بين الاثنين لا من قريب ولا من بعيد! نعم هو جاء بهذا الحديث لأنه أراد أن يقول: ولو تابعنا جميع

ص: 575


1- العنكبوت /41.
2- مسند، 6 / 443. وعنه: الهيثمي: مجمع الزوائد، 196/7 ؛ السيوطي: الجامع الصغير، 1/ 107؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 3/ 440 - 441.

تحركات محمد السياسية، لم نجده يستوحي فيها أي شيء من فکر علي، وبالمقابل فإن عليا لم يتعب نفسه في أن يلغي من طبعه ما يؤدي به لهذا الإهمال، ونعتقد أنه كان معتادا على تمضية وقته بالنوم، وخاصة بعد شجاراته المعتادة مع زوجته، ولكن بعد كل هذه المعاناة تتملك البلادة المعهودة هذا النوام الكبير! إذن هو جاء بذلك الحديث لأنه أراد أن يقرر هذه النتيجة ! يجب أن يبارك للاستشراق هذه التأويلات المخجلة والأساليب الهابطة. وفضلا عن ذلك فإن «Lammens» الحاذق النبيه - كما يدعي - سمح للرواية أعلاه بان تستغفله وتستخف به أيما استخفاف!؛ وإلا فالراوي للحديث عن أبي الدرداء(1) المتوفي (31 - 32ه-) هو الزهري المولود بين (50 - 58ه-) !(2). أي إنه لم يدرك أبا الدرداء(3) ليحدث عنه !؟ فبين وفاة أبي الدرداء وولادة الزهري (19 - 26 سنة)!

أما دعواه: أنه كان معتادا على تمضية وقته بالنوم! وخاصة بعد شجاراته المعتادة مع زوجته. وأنه وصف نفسه بأنه نوام كبير! فهي تقریرات ابتناها على ما سبق وبان زيفه ووضعه. وعلى ما تفرد بروايته أحمد بن حنبل أن الإمام علیه السلام قال: كنت رجلا نؤما وكنت إذا صليت المغرب وعلي ثيابي نمت، فأنام قبل العشاء. فسألت رسول الله عن ذلك فرخص لي(4) . وهذا الخبر فضلا عن كونه مما تفرد به أحمد بن حنبل !؟ فهو يروى عن يحيى بن سعيد: أبو أيوب بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد

ص: 576


1- عويمر بن زید بن قيس الخزرجي. كان آخر أهله إسلاما، فقد كان متعلقا بعبادة صنم له كان يغطيه بمنديل، وكان عبد الله بن رواحة يدعوه للإسلام فيأبى ويمسك بالصنم. فتحين خروجه و کسر الصنم، فأيقن أن لو كان الصنم إلها لدفع عن نفسه، فأسلم. توفي عام (31 أو 32ه-) في الشام. ابن سعد: الطبقات، 4/ 351 - 358.
2- المزي: تهذيب الكمال، 26/ 440 - 441.
3- الهيثمي: مجمع الزوائد، 196/7
4- مسند، 111/1

الأموي(1). وكان الإمام علي قتل جده العاص بن سعید مشركا في يوم بدر! وهو يرويه عن ثلاثة رواة مموهين !؟ وهم: ابن أبي ليلى عن ابن الأصبهاني عن جدة له كانت سرية للإمام علیه السلام وقد ورد في المسند عدة أشخاص تحت مسمى ابن أبي ليلى وهم: (عبد الرحمن بن أبي ليلى) و (عمران بن محمد بن أبي ليلى) و (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى) و(المطلب بن أبي ليلى) و (عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي ليلى) و(أبو ليلى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى) و (محمد بن أبي ليلى) !؟ فيا ترى أي منهم حدث بهذا الخبر ؟! وإن عين ابن أبي ليلى فأنى يعرف ويعين ابن الأصبهاني ؟! وإن عرف هو الآخر جدلا، فأنی تعرف أي من جداته كانت سرية للإمام علیه السلام فحدثته بذلك؟! سلسلة اسناد عائمة، جاء بها يحيى بن سعيد ليحدث برواية تقدح بقاتل جده! يجب أن نبارك ل- «Lammens» هذا الصيد الثمين! وفي نفس الوقت ندق مسمارا آخرين في خطابه المتبجح، الذي يدعي أنه استطاع بعقلانیته کشف غوامض سيرة الشخصيات التي يتحدث عنها، ويقدم عنها صورة أكثر واقعية !؟

ومن المغالطات التي ساقها «Lammens» للإيحاء بإهمال النبي للإمام علي علیه السلام وعدم إيكال أي من الأعمال إليه قوله: منذ طرحه مشروع فتح مكة، فإن الرسول كان بحاجة لمساعدة الرجال الأكفاء مثل أبي بكر. بداية حاول النبي استخدام علي، ولكن عندما أوكل له تلك المهمة وجده لا يتعدى كونه جنديا أرعن. مما أجبره على الرجوع إلى حزب أبي بكر، ولما كان هذا الحزب معاديا لعلي، فإنه نجح في تدمير تأثير فاطمة الصالح جماعة عائشة وحفصة. ومن أجل إزالة هذا الانطباع السيء فإن رواتنا ومؤلفينا حاولوا أن يعرضوا لنا بأن محمدا كان يزور فاطمة بعد كل سفرة من سفراته، وهي لم تحتل أي مكانة في أي حملة من حملاته(2).

ص: 577


1- الرازي: الجرح والتعديل، 9/ 151.
2- Fatima et les Filles de Mahomet. p,87

أولا - النبي صلی الله علیه و آله لم يعلم أبا بكر بأنه يريد الخروج لفتح مكة! وإنما أخبرته بذلك ابنته عائشة، عندما دخل عليها فوجدها تجمع جهاز رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: أي بنية أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلی الله علیه و آله أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتی نبغتها في بلادها، فتجهز الناس(1).

ثانيا - نصت الروايات على أن النبي صلی الله علیه و آله، كلف الإمام علي عليه السلام بمهمة ملاحقة الكتاب الذي أرسله «حاطب بن أبي بلتعة» لقريش ليخبرها بتحرك المسلمين نحو مكة! وكان أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا؛ على أن تبلغه قریشا! فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه شعرها وخرجت به. فأتى النبي صلی الله علیه و آله الخبر من السماء بما صنع حاطب ! فبعث الإمام علي عليه السلام والزبير بن العوام، وقال: أدر کا المرأة فلحقاها وانزلاها، فبحثا عن الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا. فقال لها الإمام علیه السلام : إني أحلف ما كذب رسول الله، ولا كذبنا، ولتخرجن إلي هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض عني، فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، واستخرجت الكتاب، ودفعته إليه، فجاء به(2).

|إذن «Lammens» يريد إلغاء التاريخ، واستبداله بما یرید قوله!! وإلا فالتاريخ ينطق ويشهد بعظیم دوره في فتح مكة - كما المشاهد الأخرى - فلولا تأديته هذه المهمة

ص: 578


1- الواقدي: المغازي، 2/ 796؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 327؛ الطبري: تاریخ، 3/ 47؛ ابن سید الناس: عيون الأثر، 2/ 184، الدياربكري: تاريخ الخميس، 2/ 78.
2- الواقدي: المغازي، 2/ 797 - 798؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 398 - 399؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 354/1 ؛ الطبري: تاریخ، 3/ 48۔ 49؛ ابن عبدالبر: الدرر، 213 - 214؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4/ 77؛ البيهقي: السنن الکبری، 9/ 147؛ ابن الجوزي: المنتظم، 3/ 326 - 320؛ الكلاعي: الاكتفاء 1 / 218؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 2/ 79. وباختصار عند: ابن سعد: الطبقات، 2/ 125.

على أكمل وجه؛ لكان من المحتمل أن يتغير مجرى الأحداث في عملية الفتح، ولربما أصيبت الحملة بالفشل. أو على الأقل تحول دخول مكة من دخول سلمي، دون إشهار للسلاح، إلى دخولها عنوة وبقوة السلاح والحرب !؛ إذ كانت العملية تعتمد عنصر المباغتة. وبعد تأديته هذه المهمة كان هو حامل راية الفتح فدخل بها مكة؛ فقد أوكل إليه النبي صلی الله علیه و آله مهمة تدارك ما فعله سعد بنعبادة!؛ إذ دخل مكة وهو ينادي : اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فقيل للنبي صلی الله علیه و آله ما يردده سعد بن عبادة . فقال لأمير المؤمنين علیه السلام : أدرك سعدا، وخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها، فأخذها ودخل بها مكة(1)، فاستدرك به ما كاد يفوت من صواب التدبير. ثم كان هو ورسول الله صلی الله علیه و آله من أزالا الأصنام عن الكعبة المشرفة وكانت (360 صنما) وبقي صنم خزاعة وكان موضوعا فوق الكعبة، فأصعد النبي صلی الله علیه و آله الإمام عل علیه السلام منكبه فرمی به وكسره وكان بداية حاول حمل النبي صلی الله علیه و آله فلم يستطع(2). وأما بعد فتح مكة . فقد أوكلت للإمام عليه السلام مهمة أعظم من أختيها! وهي تدارك آثار غدر خالد بن الوليد ببني جذيمة بعد أن أسلموا. فبعد فتح مكة أرسل النبي صلی الله علیه و آله خالد بن الوليد يدعوهم للإسلام دون أن يقاتلهم! - وكانوا قتلوا عمه الفاكهة في الجاهلية . فخرج ومعه (350 رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم. فلما وصلوا إلى بني جذيمة

ص: 579


1- الواقدي: المغازي، 2/ 821 - 822؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 406/2 - 407؛ الطبري: تاریخ، 3/ 56؛ ابن عبد البر: الدرر، 218؛ الاستیعاب، 2/ 599؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 284؛ الكامل، 2 / 246؛ الكلاعي: الاكتفاء، 1/ 223؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4 / 337؛ الدياربكري: تاریخ الخميس، 2/ 82.
2- ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 535 - 536؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 84، 151، النسائي: السنن الكبری، 5/ 142 - 143؛ خصائص، 165 - 166؛ أبو یعلی: مسند، 251/1 - 252؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 5؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13 / 304؛ ابن المغازلي: مناقب أمير المؤمنين، 142 - 143؛الهيثمي: مجمع الزوائد، 6/ 23؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 171؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/ 86- 87؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3/ 30.

وجدوهم قد أسلموا، وأقروا بالشهادتين، وأقاموا مساجد في ساحتهم. فطلب منهم خالد أن يلقوا سلاحهم - وكانوا يتوقعون أن قوما من العرب أغار عليهم - فرفض رجل منهم أن يلقي سلاحه؛ لأنه أحس أن خالدا سيغدر بهم! فطمأنه جماعته وقالوا: إنا مسلمون والناس قد أسلموا. وفتحت مكة، فيها نخاف من خالد؟ فقال: أما والله ليأخذكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة. فلم يزالوا به حتى ألقى سلاحه. فأسرهم خالد وأوثقهم بالحبال! ودفع لكل رجل من المسلمين الرجل والرجلين، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة يكلمون المسلمين فيفكونهم؛ ليصلوا ثم يعيدوا كتافهم. فلما صار وقت السحر، وقد اختلف أصحاب خالد بينهم؛ فجاعة يقولون: إنهم مسلمون ولا ينبغي أن نأسرهم! وجماعة يقولون: نأخذهم للنبي صلی الله علیه و آله ليرى رأيه فيهم! فأمر خالد بقتلهم جميعا! وقال: من كان معه أسير فليذافه = يجهز عليه بالسيف ! فأطاعه بنو سليم، ورفض المهاجرون والأنصار فأطلقوا أساراهم؛ فغضب خالد عليهم! فقال له: أبو أسيد الساعدي: اتق الله يا خالد، والله ما كنا لنقتل قوما مسلمين! قال وما يدريك ؟! قال: نسمع إقرارهم بالإسلام، وهذه مساجدهم! فلما رجع خالد وجماعته عابه الصحابة على ما فعل امتثالا لعصبية الجاهلية! فقال له عبدالرحمن بن عوف: أخذت بأمر الجاهلية! قتلتهم بعمك الفاكهة. قاتلك الله. ولامه على ذلك أيضا عمر بن الخطاب! فقال خالد لعبد الرحمن : أخذتهم بقتل أبيك. فقال عبد الرحمن : كذبت والله ! لقد قتلت قاتل أبي، وأشهدت على ذلك عثمان بن عفان، واستشهد عثان على ذلك فشهد له! ثم قال لخالد: ولو لم أقتل قاتل أبي، أكنت تقتل قوما مسلمين بأبي في الجاهلية؟! قال خالد: ومن أخبرك أنهم أسلموا؟! قال: أهل السرية كلهم - وكان من بينهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو من أخبر أبيه بإسلامهم؛ فعنف خالد على غدره - يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد، وأقروا بالإسلام، فحملتهم على السيف! فقال خالد: أغرت بأمر النبي! فقال عبد الرحمن : كذبت على رسول الله. ولما علم النبي صلی الله علیه و آله بذلك غضب على خالد، ورفع يديه إلى السماء وقال:اللهم إني أبرأ

ص: 580

إليك مما صنع خالد. فسارع لاستقراض بعض الأموال من مكة، وأرسل الإمام علي علیه السلام ليؤدي ديات القتلى، وما نهب من بني جذيمة! فقدم عليهم، وأدى دياتهم وخسائرهم، حتی میلغة الكلب. وزادهم بتفريق ما بقي من الأموال عليهم وقال: هذا من رسول الله، حتی أرضاهم ورجع إلى النبي صلی الله علیه و آله فشكر له ما صنع(1).

إذن «Lammens» يحاول كتابة التاريخ بمعزل تام عن التاريخ !؟

ص: 581


1- الواقدي: المغازي، 2/ 875 - 882؛ ابن سعد، الطبقات، 2/ 137؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 428 - 433؛ اليعقوبي: تاریخ، 2/ 61؛ ابن عبد البر: الدرر، 222؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 94؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/ 209 - 210؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/ 37 - 38؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4/ 358؛ السيرة النبوية، 591/3 - 592؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 6/2 - 7؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى، 6 / 200 - 201؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/ 97 – 98؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3/ 209 - 211.

(7)أعلمية المثال وتعامل الخطاب

اتضح أن «Lammens» من أكثر المستشرقين مخالفة، ومغالطة للواقع والرواية التاريخية، وأكثرهم إغراقا في تبني آلية العكس. ومجددا كانت هذه الآلية هي وسيلته الوحيدة للتعامل مع موضوعة سعة علم الإمام علیه السلام وثقافته وبلاغته التي تسال عليها العدو والصديق عدا «Lammens»! فتعليقا على كل ادعاءاته السابقة، من قبيل: عدم فهمه أن القسوة على زوجته تزعج صهره النبي، وتحرمه مما قد يجنيه لو أنه حسن علاقته به. وعدم كفاءته بصورة عامة. وتدني مستوى ذكائه. وقصوره الذاتي. وتكذيب أنه كان مفزعا ومخرجا لكثير من الاشكالات، والمعضلات التي حلت بالحكام السابقين - كماسيأتي -.. الخ. حاول «Lammens» تشويه وتقويض صورة الشخصية العلمية المتفردة التي لا نظير لها - على مدى مسار البشرية - والتي أثبتها للإمام علیه السلام جل الموروث التدويني، فنراه يقول: إن محمدا ما كان يستهين بدور الشعراء في الرد على هجمات القريشيين، وقد اقترح عليه جماعة أن يستعين بعلي في هذا المجال فأجابهم: ليس عنده ذلك. على الرغم من أنه كان أخا عقيل المفكر، ولم يندهش المعاصرون من هذا الكلام(1).

ويضيف: في الجاهلية، وفي صدر الإسلام كان الشعراء هم الطبقة المثقفة، وهم من يمثلون الرأي العام، وكان الإلهام الشعري بمثابة أهم الشروط التي يتوجب على الإنسان أن يمتلكها؛ ليكون مؤهلا لنيل استحقاق كونه انسانا کاملا، وكان الرأي العام لدى السنة يؤيد المعرفة الشعرية الواضحة التي كان يتمتع بها «عمر» ذو النزعة المعروفة مع علي، الذي حاول شیعته نسبة تلك المعرفة الشعرية له؛ فأنصاره يجهدون

ص: 582


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,311. Fatima et les Filles de Mahomet. p, 58

أنفسهم، ليقدموه بشكل المثقف الراقي، الذي هو في أقل الأحوال حسب اعتقادهم مساويا للخليفة الثاني. إن زوج فاطمة وخلال حياته العامة، كان يبدي نقصا تاما في امتلاك أي حنكة سياسية، وبالمجمل فإنه يفتقد للإحساس وللذكاء في التصرف. وحرفية فإن صفة المحدود، هي صفة تطلق غالبا على المكروه، الذي لا يتمتع بحدة ذهنية قابلة للتطور. في خارج الدائرة المريدة لعلي، كان معاصروه يزعمون بأنه كان خفيفا، وطائشا وفاقدا للجدية بالأمور. وعند محمد سارعت السيرة لامتداحه؛ بإبراز مزاجه وكأنه مازح طريف. وقد استنكر عمر ذلك المزاج من علي بعد أن لاحظه عليه، وكذلك لاحظ عليه غياب التوازن الثقافي. وبخلاف كل هذه الاشارات، نجد أن السيرة لم تكن لتفوت أي فرصة إلا وعظمت معارف علي. إن السنة، وعلى أثرها الاستشراق قد سجلا وبوضوح تلك الخطوة التي أقدم عليها عمر، ذلك الرجل العالمي الذي يعد امتدادا لعبقرية محمد، وهو الملك الذي لم تكن خبرته أتت من فراغ. ولكي ترفع السيرة من شأن بطلها علي، فقد أرتنا إياه وهو يتدخل في الوقت المطلوب لكي يسدد ويصوب الأخطاء التي يقع فيها عمر؛ وذلك بواسطة ارشاداته المحكمة . ولكي ترفع السيرة من شأن بطلها علي، فقد أرتنا إياه وهو يتدخل في الوقت المطلوب لكي يسدد ويصوب الأخطاء التي يقع فيها عمر؛ وذلك بواسطة ارشاداته المحكمة. وكان الذهبي، قد رد وبقساوة على أحد الأحاديث التي تقول: إن الله قد وهب عليا تسعة أعشار معارف الإنسانية(1). وإنه كان يصرح في الرد على كثير من الاشكالات والأسئلة التي وجهت لاختباره، بأنه كان ما كان يتبادر إلى ذهنه أدنى شك في الإجابة: ما شككت. وإنه قام بحل مسائل ما كان رجال هم من أكثر الناس حذاقة بالقانون، ولهم المقدرة على حل المسائل العويصة ليقدروا على حلها ولكنها حلت من قبل

ص: 583


1- يعني بذلك تعليقه على النص الذي يقول: قسمت الحكمة فجعل في علي تسعة أجزاء، وفي الناس جزء واحد. قال الذهبي: فهذا كذب. میزان الاعتدال، 1/ 124.

صاحب تلك العبقرية الخارقة، والتي تفرد بعلمها من النبي شخصيا. وكانت السيرة قد أوهمت نفسها بالاقتناع بأحد أنصاف أبيات الشعر، بعد أن حولته للنثر، وهو للكميت، الذي هو أقدم مداحي السيرة، وهو كاتب الهاشميات، والذي أوجد عند علي الحذاقة في حل المشاكل، والخروج من المواقف الحرجة: نقض الأمور والابرام (1).

أما بالنسبة لالتوائه على مقولة «ليس هناك أو ليس عنده ذلك» وتفسيرها بهذا الشكل الغريب - ولكن المتوقع - فكان علقها على ما يروى من أنه: كان يهجو النبي صلی الله علیه و آله ثلاثة رهط من قريش: عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وعمرو بن العاص؛ فقال قائل لعلي بن أبي طالب عليه السلام : اهج عنا القوم الذين قد هجونا. فقال: إن أذن لي رسول صلی الله علیه و آله له فعلت. فقال رجل: يا رسول الله، ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا. فقال: ليس هناك أو ليس عنده ذلك. ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصری وصنعاء. فقال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلك منهم کما تسل الشعرة من العجين. قال: فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. فكان حسان وکعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعير انهم بالمثالب، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر . فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وکعب، وأهونه قول ابن رواحة. فلا أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة (2).

أولا - النص أعلاه يؤدي إلى عكس ما يدعيه «Lammens »تماما !؛ وإلا لوكان الإمام عليه السلام لا يمتلك القدرة والاستعداد للرد على هجاء القرشيين لما طلب منه

ص: 584


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. pp,311-314
2- أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 4/ 137، 138.

المسلمون ذلك! فمجرد طلبهم منه أن يرد، هو دليل صريح على علمهم بأنه يمتلك القدرة على ذلك دونا عمن ادعى « Lammens»؛ وإلا لكانوا طلبوا ذلك من عمر؟! ثم إن موافقته بشرط إذن النبي صلی الله علیه و آله تؤكد أنه يمتلك القدرة على الرد؟

ثانيا - الموروث التاريخي ينقل لنا كثيرا من الأبيات الشعرية التي قالها الإمام عليه السلام ويثبتها في حين لا نجده ينقل أو يثبت ذلك لغيره!؟ ومع التنزل فذلك الموروث يقول: كان أبو بكر يقول الشعر. وكان عمر يقول الشعر. وكان علي أشعر الثلاثة(1). بل إن بعض المتقدمين جمعوا ما قاله وما نسب إليه من الشعر في ديوان خاص لأكثر من مرة(2).

فضلا عن ذلك فإن من عادة من يمتلك ناصية البلاغة والخطابة، ويحيط بألفاظ وتعابير ذلك العصر المتقدم في الأعم الأغلب إنما كان من اليسير جدا عليه قول الشعر على الأقل البسيط منه، والإمام عليه السلام أبلغ وأبين وأخطب من نطق بالضاد بعد النبي صلی الله علیه و آله وإلا فيما إثر عن أحد من المسلمين کلام کما نهج البلاغة؟! وهذا ابن الندیم يضعه في مقدمة قائمة الخطباء العرب (3). وقال الجاحظ - مع انحرافه عن الإمام عليه السلام: كان أبو بكر خطيبا. وكان عمر خطيبا. وكان عثمان خطيبا. وكان علي أخطبهم(4).

وقد أخذت كلمة قصيرة من كلامه وهي «قيمة كل امرئ ما يحسن» بمجامع قلبه فقال: لو لم نقف في هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافية كافية ومجزئة

ص: 585


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 308، 382؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1225؛ السمعاني: تفسير، 4/ 74؛ البغوي: تفسير، 405/3 ؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 52؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 9/8 ؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 111/13
2- الأمين: أعيان الشيعة، 1 / 549 - 550.
3- الفهرست، 139.
4- البيان والتبيين، 1/ 253.

مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية، وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عزوجل قد ألبسه الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شریف واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع بعيدا من الاستكراه، ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أحبها الله من التوفيق، ومنحها ومنحها من التأييد ملا يمتنع من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة(1).

وقد شهد بتلك الفصاحة والبلاغة حتى عدوه معاوية! قال «ابن أبي الحديد»: قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس!؟ فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره. وأضاف: ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجاري في الفصاحة، ولا يباري في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دون له(2). ولا نريد إطالة الوقوف عند هذه المسألة فهي بلا شك إحدى الجوانب التي دعت المتنبي وقد سئل لم لا يمدح الإمام عليه السلام أن يقول:

وتركت مدحي للوصي تعمدا *** إذ كان نورا مستطيلا شاملا

و إذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا (3)

ثالثا . كثيرا ما ادعى «Lammens» أن السيرة كانت تحابي الإمام عليه السلام أو أنها

ص: 586


1- البيان والتبيين، 1/ 83.
2- شرح نهج البلاغة، 24/1 - 25.
3- البرقوقي: ديوان المتنبي، 2/ 546؛ الراجكوتي: زيادات دیوان شعر المتنبي، 36. على أن هذين البيتين حذفا من طبعات الديوان الأخرى!

كتبت من قبل بعض مريديه، ولكنها ظلت مجرد دعوى على امتداد مئات إن لم تكن آلاف الصفحات التي كتبها؛ إذ لم يستطع أن يأتي ولو ببرهان واحد لإثبات ذلك عدا ادعاءاته المعهودة من قبيل قوله: نجد أن السيرة لم تكنلتفوت أي فرصة إلا وعظمت معارف علي!؟ وقوله: لكي ترفع السيرة من شأن بطلها علي، فقد أرتنا إياه وهو يتدخل في الوقت المطلوب؛ لكي يسدد ويصوب الأخطاء التي يقع فيها عمر؛ وذلك بواسطة ارشاداته المحكمة.

والسبب في هذه الادعاءات ومثيلاتها واضح جدا، وهو أن «Lammens» عندما يصدم بأن السيرة لم تستطع أن تخفي كل الحقائق التاريخية، فتسرب مع سوانح الكلام بعض الأخبار والحقائق، التي بدونها يصاب ذلك التدوين باضطراب وحودث فجوات من شأنها أن تقطع التسلسل التاريخي الموضوعاته؛ فكان لا مناص من ذكرها! عندما يصدم «Lammens» بثبوت هذه الحقائق وتواترها! كان يلجأ للادعاء بأن السيرة محابية! أو كتبت من قبل بعض المريدين ! كما قال عن كتاب السيرة النبوية لابن هشام: أنه كان محابيا لعلي ؟ !(1).

متغافلا عن أنها إنما حلت سيرته محل الكتاب الأصلي سيرة ابن إسحاق؛ لأنه راعى في تهذيبها تغييب كثير من الأخبار والروايات والحقائق التاريخية الخاصة بالإمام علي عليه السلام ! ففي الوقت الذي تجمع المصادر التاريخية، على أن الإمام علي عليه السلام هو من تولى قتل مرحب اليهودي وتبين مقدار الفزع الذي أصاب المسلمين بسببه! والموقف البطولي والشجاعة الفريدة التي أبداها الإمام عليه السلام في ذلك الموقف.

نجد ابن هشام يقول: إن الذي قتله هو محمد بن المسلمة !؟ ويعتمد في ذلك على الرواية الموضوعة على لسان جابر بن عبد الله الأنصاري. والرجل لم يكن حاضرا في

ص: 587


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 15.

المعركة من الأساس(1) . إذن ابن هشام لم يتحرج من رواية هكذا خبر مكذوب ! مخالف للمتواتر مقابل أن يسلب الإمام علیه السلام إحدى فضائله!؟ وإن كان هذا الخبر مثبتا في سيرة ابن إسحاق بالأساس فقد تأكد أن أصلي السيرة الأساسيين غير محابيين! بل يسعيان لسلب فضائل الإمام علیه السلام ونسبتها لغيره! ومع ذلك الحال كان يفترض من «ابن هشام» على الأقل التعليق على هذه الرواية! إذن فما فلت في السيرة في فضائل الإمام علیه السلام من مقص الرقابة الأموية والعباسية، هو أجدر بأن يكون أعلى ثبوتا وأوثق صحة مما يخالفه ويعاكسه. وعليه فإن ما يروى من أنه كان يسدد تحركات الخلفاء الأوائل، هو حقيقة ثابتة لمن أراد الاحتكام للموروث التاريخي! وقد مرت الاشارة لقول عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، وأعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن. وذلك عندما تحير في أمر القضاء. فإن كانت السيرة متحيزة! فهذه كتب السنة والأحكام تروي: أن عمر سأل الصحابة في قصة المرأة التي أرسل إليها يدعوها ففزعت، فألقت جنينا ميتا فقالوا: إنما أنت مؤدب، ولم ترد إلا الخير وما نرى عليك شيئا. وعلي ساکت. فقال له: ما تقول أبا الحسن؟ فقال: إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا، وإن كانوا قاربوك فقد غشوك، أرى عليك الدية. فقال عمر: أنت صدقتني. وكان علي ساكتا مضمرا لخلاف الجماعة، ولم يكن سکوته دلالة على الموافقة، ولم يستدل عمر أيضا بسكوته عليها(2).

وتروي أيضا: أن بعض أهل الشام شرب الخمر، وقالوا: هي لنا حلال. فكتب: سبل

ص: 588


1- البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 335؛ الجصاص: أحكام القرآن، 3/ 238؛ ابن سيد الناس: عيون الأثر، 141/2 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 230/4 ؛ السيرة النبوية، 3/ 383؛ الصالحي الهدى والرشاد، 5/ 128.
2- الرازي: المحصول، 319/4 ؛ الجصاص: الفصول في الأصول، 3/ 286؛ 4/ 336؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 123؛ ابن عبد البر: جامع بیان العلم، 2/ 84؛ السرخسي: أصول، 304/1 ؛ عبد الله بن قدامة: المغني، 149/12 ؛ النووي: المجموع، 19 / 143 - 144.

فيهم إلى عمر، وسيروا إليه. فلما قدموا، استشار فيهم الناس فقالوا: نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب رقابهم. والإمام عليه السلام ساکت فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى أن تستيبهم، فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشرب الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت رقابهم،فاستتابهم فتابوا، فضرب كلا منهم ثانین جلدة(1).

ونص (القاضي وكيع. ت 306ه-) أن الإمام عليه السلام كان متفردا بكونه أقضى الصحابة، وأن النبي صلی الله علیه آله، علمه القضاء، ودعا له بأن يتفقه فيه. وقال: أنه أقضى أمته. وقال العديد من الصحابة - بما فيهم عمر بن الخطاب - أنه كان أقضى المسلمين، وإن الصحابة إذا اختلفوا في شيء حكموه بينهم، وذكر عددا من المسائل التي قضى فيها(2).

ونصت كتب الفتوح والتاريخ والخراج أن عمر بن الخطاب حار كيف يتعامل مع مسألة قسمة أرض العراق بعد فتحه!؛ إذ طلب منه الفاتحون قسمتها؛ لأنها فتحت عنوة، فأشار عليه الإمام عليه السلام بأن يتركها بيد الفلاحين الأصليين، ويضرب عليها الخراج؛ لتكون مصدر داخل دائم لمن فتحها من المسلمين ومن يأتي بعدهم(3).

وكمثال لفكره العسكري كان عمر بن الخطاب عندما تجمع ملوك الفرس لطرد

ص: 589


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 6/ 503؛ الطحاوي: شرح معاني الآثار، 154/3 ؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 8/8
2- أخبار القضاة، 1/ 62 - 69. وينظر: ابن سعد، الطبقات، 291/2- 293؛ ابن شبة: النميري: تاریخ المدينة، 706/2 ؛ الطبري: تاریخ، 3/ 479؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 1102/3 - 1108؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 357/7 ؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 391/1 .
3- أبو يوسف: الخراج، 25، 35، 36؛ یحیی بن آدم القرشي: الخراج، 40؛ ابن زنجويه: كتاب الأموال، 1 /196؛ البلاذري: فتوح البلدان، 371؛ قدامة بن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة، 206؛ البيهقي: السنن الكبری، 134/9؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 2/ 193؛ یاقوت الحموي: معجم البلدان، 3/ 275؛ ابن حجر: فتح الباري، 6/ 158؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 4 / 497.

المسلمين من أرضهم بعد هزيمتهم في معركة جلولاء(1) قد استخلف الإمام عليه السلام في المدينة، وخرج يريد الغزو في فارس؛ لاستنهاض همم المسلمين. ومواساتهم بسبب الخسارة المرة التي تعرضوا لها هناك، فجاءه عبد الله بن عباس، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وطلبوا منه التريث في مسيره حتى يستشير الصحابة، فبعث لبعض الصحابة وبضمنهم الإمام علي وقال: أشيروا علي، فقال طلحة: إن الأمور قد حنكتك، وإن الدهور قد جربتك، وأنت الوالي، فمرنا نطع، واستنهضنا ننهض. ثم تكلم عثمان فقال: اكتب إلى أهل الشام، فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، وإلى أهل البصرة، فيسيروا من بصرتهم، وسر أنت بأهل هذا الحرم حتى توافي الكوفة، وقد وافاك المسلمون من أقطار أرضهم وآفاق بلادهم، فإنك إذا فعلت ذلك كنت أكثر منهم جميعا وأعز نفرا. فوافقه على ذلك أكثر المسلمين. فقال عمر للإمام علي عليه السلام: ما تقول أنت يا أبا الحسن ؟ فقال: إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن سیرت أهل اليمن من يمنهم خلفت الحبشة على أرضهم، وإن شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك الأرض من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما قدامك، وإن العجم إذا رأوك عيانا قالوا، هذا ملك العرب كلها، فكان أشد لقتالهم، وإنا لم نقاتل الناس على عهد نبينا6 ولا بعده بالكثرة، بل أكتب إلى أهل الشام أن يقيم منهم بشامهم الثلثان ويشخص الثلث، وكذلك إلى عمان، وكذلك سائر الأمصار والكور فقال عمر: الرأي الذي كنت رأيته، ولكني أحببت أن تتابعوني عليه، فكتب بذلك إلى الأمصار(2). وقال

ص: 590


1- ناحية، أو أرض زراعية بين بعقوبة وخانقين. وفيها حدثت المعركة بين الفرس والمسلمين عام (16ه-). سمیت بالوقيعة وجلولاء؛ لكثرة من قتل في تلك المعركة. الوقيعة = لكثرة من وقع منهم أو لما أوقع المسلمين بالفرس. وجلولاء = لما جللت الارض بالقتلى. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 2/ 156.
2- الدينوري: الأخبار الطوال، 135؛ الطبري: تاریخ، 4 / 123 - 126؛ ابن اعثم، الفتوح، 1/ 293 - 295؛ ابن الأثير: الكامل، 3/ 8؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 9/ 95.

الكلاعي إن الإمام عليه السلام قال له: أرى أن ترجع إلى المدينة، وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم، ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم، فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله من أهل السابقة والقدم في الإسلام. فانصرف عمر إلى المدينة، وكتب إلى المثني بأن يدعو من حوله، ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد، وجاء أولئك الأعراب فوجهم نحو العراق (1).

وهنا يتضح الفرق بين الرؤية النابعة من خبرة عسكرية تقرأ الواقع، وتعرف التعامل مع الأحداث الآنية بانضباط أكثر، وبرؤية ثاقبة تحسب النتائج مقدما، وتعمد لتنفيذ الأمور بأقل عدد ممكن من الخسائر، وبعيدا عن ردود الفعل المستعجلة والمتهورة وغير المدروسة!

ولا شك أن «Lammens» وقع على هذه الشهادات المتنوعة في موضوعها وفي مصادرها عما كان يقوم به الإمام عليه السلام من استدراك أخطاء أو تصويب وتوجيه عمل الصحابة والخلفاء !؛ وإلا لما حاول عکس هذا الموضوع ونسفه!؛ بعد أن ثارت ثائرته وهو يرى المصادر على تنوعها واختلافها تنص عليه!

رابعا - بالعودة لعبارة «ليس هناك أو ليس عنده ذلك» التي أطنب «Lammens» في الحديث عنها!؛ محاولا جعلها دليلا على عدم كفاءة وفقر الإمام عليه السلام الثقافي والفكري! بعد أن جاء بقاعدته الغريبة العجيبة لا يكون الرجل العربي عظيما ما لم يكن شاعرا !؟ وإلا فهي عبارة يجب أن تفسر في سياقها و مناسبتها. أي إن سياق الكلام هو ما يحدد معنى العبارة. وهو بصورة عامة لم يستطع بتأويله ذاك اقناع المستشرقين(1)

ص: 591


1- الكلاعي: الاكتفاء، 2/ 135 - 138. وينظر: البلاذري: فتوح، 353 - 356؛ الطبري: تاریخ، 3/ 480، 486؛ ابن الجوزي: المنتظم، 160/4 - 162.

أنفسهم؛ ولذا رد عليه «Levi della vida = ليفي ديلافيدا»: بأن تفسير هذه العبارة سيكون مختلفا لو فسرت بحسب السياق، والمعنى الحقيقي لها!؛ لأن قصد محمد إنه من غير المناسب أن يقوم أحد القرشيين بهجو أبناء عمومته، فضلا عن أن الهجاء سيكون أكثر وقعا فيما لو قام به أحد الشعراء ممن ينتسبون لقبيلة أخرى، وفعلا عوضا عن علي قام بذلك حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وثلاثتهم من الأنصار (1).

أضف على ذلك أن المرشح الوحيد من بين كل المهاجرين للرد كان هو الإمام علي عليه السلام ولم تطرح أي شخصية أخرى أو تبدي استعدادها للرد، حتى بعد أن لم يأذن له النبي صلی الله علیه و آله بذلك! فكان البديل ثلاثة من الأنصار! وهذا يعني إما أنه كان الشخص الأقدر، أو الوحيد القادر على ذلك من بين كل المهاجرين! أو أن النبي صلی الله علیه و آله لم يرد أن يقم بذلك أي من المهاجرين - القرشيين - !؛ للسبب أعلاه. وهذا هو الأرجح بدلیل قوله لحسان: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلك منهم کما تسل الشعرة من العجين ! وهنا تتضح حكمة النبي والإمام عليه السلام في الأمر؛ فلو كان الراد هو الإمام عليه السلام وعيرهم بمثالبهم في الجاهلية، وكفرهم لكان ذلك أقل وقعا مما فعله (حسان وکعب بن مالك) على اعتبار أنه يعير قوما هو منهم، أي إنه يعير عشيرته وأبناء عمومته، وبعرف القبائل يعير نفسه، وأما إن مدح الجهة التي ينتمي إليها، فقد أصابهم بذلك شيء من المدح؛ لأن فخر الرجل أو الجماعة فخر لكل القبيلة !؛ ولذلك كان ما يعيرهم به حسان وكعب ويعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر والمثالب، أشد عليهم لأنهم كانوا يتغنون بمآثر الأنصار، وقبائلهم. وبعد أن أسلموا كان قول عبد الله أشد القول عليهم؛ لأنه والأنصار سبقوهم لفضيلة الإسلام التي كان من المفترض أن يكونوا هم أسبق الناس إليها!

ص: 592


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,314.

وكان رد Levi della vida = ليفي ديلافيدا» مما أثار غضب وحفيظة « Lammens» !؛ فراح يسفه رأيه، ويتهجم عليه، ويسهب في محاولة التدليل على صحة رأيه السابق، مستعينا بتقليب ومراجعة كثير من الصفحات؛ للبحث عن استعمالات لهذه العبارة! فكان مما حاول التعكز عليه أن العبارة وردت عند ابن الأثير بصورة: إن عليا ليس عنده ما يراد من ذلك(1).

وفي حقيقة الحال هذه الزيادة في العبارة لا تغير من المعنى المتقدم شيئا على الاطلاق!؛ فهي لا تختلف عن التفسير الأول وهو: أن الإمام عليه السلام حتى لو هجاهم وأبلغ في هجائهم؛ فإن هجاءه لا يؤدي الدور الذي يؤديه هجاء غيره ممن لا ينتمي القريش! لا لقصور في هجائه وإنما لأن قریش تدعي أنها أفضل وأقوى وأحسن.. القبائل ! فإذا هجيت من غيرها كان ذلك أكثر وقعا في إيلامها، وكسر غرورها وأنفتها الفارغة! كما تعكز «Lammens»على كتب الأدب وفي مقدمتها كتاب الأغاني الذي قال عنه: إنه أحسن ما يمكننا الرجوع إليه في بيان اللهجة الإعرابية البدوية القديمة. - ومن هنا يتضح لمقام بمراجعته (17 - 18 مرة) - فراح يقلب الصفحات تلو الصفحات بحثا عن استعمالات هذه العبارة، ويطابق بينها وبين استخدامها في النص أعلاه، ويجمعها في سلة واحدة(2)، محاولا التعمية على القراء اختلاف المناسبات والسياقات التي جاءت بها تلك العبارة، وأنها إنما تحكم وتفسر في سياقها! فكان مما تعكز عليه: أن الحارث بن عوف بن أبي حارثة تحدي في أحد الأيام أي شخص تكون عنده الجرأة في رفض طلبه عندما يرغب في الزواج من ابنته. وأراد في يوم من الأيام تجربة ذلك مع سید بني طي الذين كانوا يحملون كبرياء الأشراف، ولا يرضخون لأي من الناس. وعندما بدأ الحارث يبين سبب زيارته، قاطعه سید بني طي قائلا: لست

ص: 593


1- أسد الغابة، 2/ 4. وينظر: ابن عبد البر، الاستیعاب، 1/ 342.
2- A propos de Ali ibn Abi Talib. pp, 315-317

هناك. بمعنى أن هذا الأمر ليس بمقدورك، ويتجاوز إمكانياتك، وقد أوهمت نفسك بكونك نظرت إلى الأعلى! وإن هذه هي نفس المصطلحات التي استخدمها محمد ليعلن المستشاريه الذين أرادوا منه الرخصة لعلي؛ كونهم أعطوا عليا أكثر من استحقاقه، ونظروا إليه نظرة هي أكبر من حجمه الحقيقي وقدرته الأدبية(1) .

سعی « Lammens» لسلخ العبارة عن سياقها، وتأويلها بمعزل عن حيثيات ومناسبة صدورها؛ وليس هذا فحسب بل عمد لتحريف وتزوير قصةخطبة الحارث. أو قطع أجزاء مهمة منها، وإضافة تعليقات خارجية عليها. ليجر العبارة لما يريد قوله!؛ فما في قصة الحارث لا يؤدي إلى هذا الفهم مطلقا! فقراءة العبارة في سياقها ومناسبتها يوضح أن سيد بني طي إنها فجیع بطلب الحارث، وبالحالة والطريقة التي تم بها الطلب، فقال ما قال، بدليل قوله لزوجته: إنه استحمق. قال الحارث بن عوف بن أبي حارثة لغلامه: أتراني أخطب إلى أحد فيردني ؟ قال نعم. قال : ومن ذاك. قال: أوس بن حارثة بن لأم الطائي. فقال الحارث: ارحل بنا. فركبا حتى أتيا أوس بن حارثة في بلاده فوجداه في منزله. فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحبا بك يا حار. قال: وبك. قال: ما جاء بك يا حار؟ قال: جئتك خاطبا. [ يتضح من سياق النص فيما يلي أنه کلمه وهو راكب أو قبل أن يدخل ويجلس] قال: لست هناك. فانصرف ولم يكلمه. ودخل أو على امرأته مغضبا، وكانت من عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري. قالت: فيها لك لم تستنزله؟ قال: إنه استحمق. قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطبا. قالت: أفتربد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا؟ قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه؟ قالت: تقول له: إنك لقيتني مغضبا بأمر لم تقدم فيه قولا فلم

ص: 594


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,315.

يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، فانصرف ولك عندي كل ما أحببت فإنه سیفعل. فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان - غلام الحارث : فو الله إني لأسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يكلمني غما فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا. قال: وما نصنع بها امض. فلما رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار اربع علي ساعة. فوقفنا له فكلمه بذلك الكلام فرجع مسرورا. ثم جمع بناته، وعرض عليهن طلب الحارث، فرفضت الكبيرتان، ووافقت الصغيرة - بهيسة - على الزواج منه، فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببیت فضرب له، وأنزله إياه. فلا هیئت بعث بها إليه(1).

ومن هنا يتضح أن «Lammens» سلخ العبارة عن سياقها ومناسبة صدورها؛ ليقول: إن معنى المصطلح «ليس هناك» يدل على وجود ثغرة ثقافية، ونقص ذاتي لازم هذه الشخصية، وأن موضوع الجواب هنا قد أخذ شكل الرفض أو الاستفهام. وهو ما يؤشر إلى عدم أهلية وظيفية بشكل عام. إذ لا يقتصر الأمر على موضوع الشعر فقط !؟ فالذي يقال له: «لست هناك» إنها يهاجم من قبل القائل، بأن ذلك يتجاوز امكانياتك(2).

قد يصح ذلك إن كان الرجلين في حالة صراع أو تحد أو اختلاف في الآراء . وهي في حالة النبي والإمام علیه السلام لم تكن كذلك لتكون عبارة تصغير واستخفاف. بالنتيجة «Lammens» حاول جمع النصوص كلها في سلة واحدة وزور وحرف بعضا منها!؛ لتبدو متجانسة مع ما يذهب إليه! وكم هي مخجلة ورخيصة طريقته في تقريض النصوص وقصها؛ لكسب تأييدها لمفترياته واكاذيبه، وهو يدعي أنه يحتكم للمصادر التاريخية! وكان مما احتج به «Lammens» لنفي المقدرة الشعرية للإمام عليه السلام أن ابن

ص: 595


1- أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 10/ 294-297.
2- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,316

هشام الذي يحيي أمانته - شكك بما ورد له من الشعر في السيرة فقال: إن ابن هشام كان نحويا أكثر منه مؤرخا، لكن دراسته في نحو اللغة قد رفعت من شأن الشواهد الحقيقية للسيرة. فأعاد نظم مقطع متكون من ثلاثة أبيات من الشعر كان ابن إسحاق قد قالها بحق علي. إن هذا المقطع الشعري جاء مستلهما من فاتورة ذات ثمن غير قليل. وقد طبق نفس الصيغة النقدية وبشكل حازم ومترو على جميع الأشعار المنسوبة لزوج فاطمة. وكان نفيه كون تلك الأشعار لعلي استمر، وبشكل لا لبس فيه، ولكن حصل له أن خفف فيما بعد من لهجته هذه وقال: إن الغالبية من الباحثين في قضايا الشعر لديهم شك في حقيقة نسبة هذه الأشعار لعلي. إن شكوك ابن هشام هذه ربما شكلت تضحية بالمنافع التي كان يجنيها من السلطة المرتبطة باسم علي (1).

فأما الأمانة - ومن قبلها الادعاء بأنه كان محابيا لعلي - التي حياها «Lammens» في ابن هشام!؛ لإيهام قرائه بأنه يحتج بمصادر غير متهمة فيها تورده من أخبار وروايات عن أهل البيت علیهم السلام. فقد مر أن بن هشام صرح بلسانه بعدم توفرها ؛ فاعترف بأنه سوف لن يحافظ على كل ما رواه ابن إسحاق، وإنما سيسمح لنفسه ومزاجه الخاص أن يتحكم بما يحذفه وما يبقيه من سيرته فإن التمس له العذر فيما لم يكن من السيرة بشيء، وما لم ينزل به من القرآن شيء، وما ليس من مضامين السيرة ومالم يجد أحدا من أهل العلم يرويه أو يؤكد صحته، فأنا يلتمس له ذلك بما كان سبب حذفه أنه يشنع الحديث به، أو يسوء بعض الناس ذكره. وقد مرت الأمثلة والشواهد على أنه إنما كان ممن يسعون لتغييب كثير من فضائل الإمام علیه السلام بل إن مجرد رواية ابن إسحاق لبعض من تلك الحقائق والفضائل لأهل البيت علیهم السلام وربما بعض من الحقائق التي تقدح بالصحابة - ما يسوء الناس ذكره وما يستشنع الحديث به - كانت كافية لتسقيطه والتحامل عليه وترکه - عند البعض - بدعوى أنه يتشیع! وهذا ما لم يقل في

ص: 596


1- A propos de Ali ibn Abi Talib. pp, 316-317

ابن هشام. ثم إنه يستغفل قراءه با ادعاه أن ابن هشام، ربما بسبب شکوکه ونفيه الأشعار الإمام عليه السلام ضحى بالمنافع التي كان يجنيها من السلطة المرتبطة باسم علي !؟ وليس يدرى أي ارتباط هذا والسلطة العباسية تدين بالمذهب السني ! والحرب قائمة بينها وبين الثوار العلويين على قدم وساق !؛ لأنهم إنها وصلوا للسلطة على أكتاف العلويين وشيعتهم ودمائهم وتضحياتهم فسرقوا تلك الدماء والتضحيات وانقلبوا عليهم؛ لأنهم المنافس الشرعي والأحق بالسلطة، والذي كانوا بالأمس ينادون بضرورة استخلافه؛ ولذلك قتلوا أئمة أهل البيت عليهم السلام واحدا تلو الآخر. وإن كان ابن هشام محابيا للعلويين والسلطة مرتبطة باسمهم! فلماذا يا ترى يقدم على فعل ذلك؟! فإن قيل: الأمانة العلمية ! فلعل ما أبقى عليه من أخبار وروایات غير مقنعة، هي مما يكذب ذلك! ففي ذات الموضوعة أي: اختصاره للأشعار روی: أن رجلا دخل على عمر بن الخطاب - في خلافته . فقال عمر: إن هذا الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد. ولقد كان كاهنا في الجاهلية. فسلم عليه الرجل، ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت ؟ قال: نعم. قال: فهل كنت کاهنا في الجاهلية؟ فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خلت في، واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعیتك منذ وليت ما وليت! فقال عمر: اللهم غفرا، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان، حتى أكرمنا الله برسول الله والإسلام. فقال الرجل: والله يا أمير المؤمنين، لقد كنت کاهنا في الجاهلية. قال عمر: فأخبرني ما جاءك به صاحبك، قال: جاءني قبيل الاسلام بشهر أو شيعه، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها. قال ابن هشام: هذا الكلام سجع، وليس بشعر. ثم نقل أن عمر بن الخطاب حدث الناس فقال: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قریش، قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أنفذ منه! وذلك قبيل الاسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله! قال ابن

ص: 597

هشام: ويقال رجل يصيح، بلسان فصيح، يقول: لا إله إلا الله. وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر:

عجبت للجن وإبلاسها *** وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمنو الجن كأنجاسها (1)

إذن سجع ينطلق تارة من جن خفي! وتارة من جوف عجل مذبوح! ثم يتحول لبيتين من الشعر! كل هذا لا يستثير شكوك نحوينا ومؤرخنا ابن هشام! بل يقول: إن بعض أهل العلم بالشعر أنشده البيتين. في حين يشكك بلامية أبي طالب وأرجاز

حمزة والإمام: وشعرهم(2). وكان ما عناه «Lammens» من الأبيات الثلاث هو قوله عندما كانوا يبنون المسجد في المدينة:

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يدأب فيه قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

وقد بين ابن هشام أن سبب تشکیکه بهذا الرجز، إنما هو سياسي و مذهبي بحت لأنه يحكي قصة قدح بعلم من أعلام المذهب الذي ينتمي إليه! وهو عثمان بن عفان. إذ كان ينفض التراب عن ملابسه كلما حمل حجارة أو ترابا، في حين كان عمار بن یاسر يجهد نفسه في ذلك وكأنه يقوم بدور رجلين في آن واحد. قال ابن اسحاق: فأخذها عمار بن یاسر، فجعل يرتجزبها. وهنا يأتي دور التهذيب المقصود: أشياء يشنع الحديث بها، أو يسوء بعض الناس ذکرها! قال ابن هشام: فلما أكثر ظن رجل من أصحاب رسول الله أنه إنما يعرض به، وقد سمی ابن إسحاق الرجل؟! فحذف ابن هشام اسم

ص: 598


1- السيرة النبوية، 136/1 - 137.
2- السيرة النبوية، 1/ 180؛ 344/2 - 345، 31، 536، 3/ 687.

عثمان من الحادثة (1)؟! على أن بعضهم حاول رميها على عثمان بن مظعون!!(2). ولو كان هو المقصود لما خجل ابن هشام أن يذكره.

أما ما احتج به «Lammens» من تكذيب الذهبي للنص القائل: قسمت الحكمة فجعل في علي تسعة أجزاء وفي الناس جزء واحد(3) فهو امعان في استغفال القراء وإلا فهو يعلم أن الذهبي ليس بأقل عداوة وبغضة منه للإمام عليه السلام وقد صرح تلامذته وأصحابه ومعاصروه بأنه كان شديد التعصب والتطرف! قال السبكي في ترجمته : «وكان شيخنا - والحق أحق ما قيل، والصدق أولى ما آثره ذو السبيل - شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الأزراء بأهل السنة ..؛ فلذلك لا ينصفهم في التراجم، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم»!(4).

ونقل عنه السخاوي قوله: كان مشحونا بالتعصب المفرط؛ وقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعية والحنفيين. وقال فأفرط على الأشاعرة، ومدح وزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ القدوة والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين؟.، يأتي إلى من يبغضه فينقل جميع ما ذكر من مذامه، ويحذف كثيرا مما يراه من ممادحه، ويعكس الحال فيمن يحبه، ويظن المسكين أنه لم يأت بذنب؛ فإنه لا يجب عليه تطويل ترجمة أحد ولا استيفاء ما ذكر من ممادحه، ولا يظن المغتر أن تقصيره الترجمته بهذه النية استزراء به وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين في تأدية ما قيل في حقه من حمد وذم. ولا يجوز الاعتماد على الذهبي في ذم أشعري ولا شكر حنبلي. وهو شيخنا

ص: 599


1- ينظر التصريح باسمه عند: ابن الدمشقي: جواهر المطالب، 2/ 43؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 1/ 345
2- الصالحي الشامي: سبل الهدى، 3/ 336؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 2/ 262.
3- میزان الاعتدال، 1/ 124.
4- طبقات الشافعية الكبری، 9/ 103.

ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه، وأنا أخشى عليه يوم القيامة. والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه(1).

فإذا كان هذا التحامل والتطرف والتعصب على أبناء مذهبه، أو على الأقل من هم من أحدى المذاهب السنية المشتركة فيما بينها! فكيف بتعصبه وتطرفه على مذهب التشيع ؟! وإذا كان معاصروه و من هم من مذهبه لا يحتجون بكلامه! فكيف يتوقع منه أن يكون منصفا فيما يتعلق بالإمام علي علیه السلام !؟ ففي الوقت الذي يكذب الذهبي النص المتعلق بعلم الإمام علي علیه السلام وقول النبي صلی الله علیه و آله: أنا مدينة العلم وعلي بابها!(2). ويعده غلوا وافراطا ؛ يروي - بحماسة واضحة - أن النبي صلی الله علیه و آله قال: إنه كان في الأمم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر بن الخطاب! وأن الصحابة كانوا يتحدثون: أن عمر ينطق على لسان ملك! وأن الإمام علي علیه السلام قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر! ویروي بكل قناعة واطمئنان: أن عمر بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب جعل يصيح: يا سارية الجبل. فقدم رسول من ذلك الجيش، فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا صائح يصيح: يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل؛ فهزمهم الله ! فقال بعض الحاضرين لعمر: كنت تصيح بذلك (3). وهكذا تبدو خرافات العجائز مقبولة وطبيعية، وتمر أمام عيون الذهبي وعقله بدون أدنى تعليق!؛ لأنها حليت بخلق فضيلة لعمر بن الخطاب! في حين يرفض ويكذب الحديث الذي يحكي ميزة وفضيلة الإمام عليه السلام . ويصف عمر في

ص: 600


1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، 73 - 76.
2- تاريخ الإسلام، 18 /368؛ سير أعلام النبلاء، 11 / 447 - 448؛ میزان الاعتدال، 1 / 415.
3- تاريخ الإسلام، 1/ 383 - 384 ،3/ 249.

موضع آخر بأنه: الصادق، المحدث، الملهم! وينقل بدون أدنى تعقيب الحديث الموضوع: لو كان بعدي نبي لكان عمر! وأنه الذي فر منه الشيطان. وأعلي به الايمان. وأعلن الآذان. وأن النبي صلی الله علیه و آله قال بحقه: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه!(1). وقال أيضا: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر نبيا(2). ويطنب في أخبار فرار الشياطين من عمر! فيردد من خرافات العجائز، وترهات سابقيه ما يضحك الثكلى، ومنها أن النبي صلی الله علیه و آله قال له: يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده. ما لقيك الشيطان سالكا فجا، إلا سلك فجا غير فجك! وقال: إن الشيطان يفرق من عمر! وقال: إني لأنظر شیطانین الجن والإنس قد فروا من عمر! وقال: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر! وروى: أن عمر أتی امرأة في بطنها شيطان! فسألها عنه فقالت: حتى يجيء شيطاني، فجاء فسألته عنه فقال: تركته مؤتزا، وذاك رجل لا يراه شيطان إلا خر لمنخريه، الملك بين عينيه وروح القدس ينطق بلسانه (3).

وهكذا يبدو عمر بن الخطاب متخصصا بإفزاع الشياطين وإخافتهم! وكأنه يملك حصانة خاصة منهم، أو وسيلة سحرية في فعل ذلك !؟ وإذن فازدواجية الذهبي في الحكم على الأحاديث والروايات، فضلا عن الكلام المتقدم المعاصريه وتلاميذه كافية في اسقاط كونه ممن يحتج به وبرأيه! وإن كان الذهبي - مع تأخره - كذب أن الإمام عليه السلام يعلم تسعة أعشار الحكمة! فإن هذا لايسقط النص؛ لتضافر النقل بما يؤدي لهذا اللفظ والمعنى؛ فقد كان ابن عباس يقول: والله لقد أعطى علي ابن أبي طالب تسعة أعشار العلم وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر(4). وروي عن

ص: 601


1- تذكرة الحفاظ،6/1 ؛ سير أعلام النبلاء، 3/ 454.
2- میزان الاعتدال، 2/ 50.
3- تاريخ الإسلام، 3/ 258 - 260.
4- الاستیعاب، 1104/3 ؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 22.

النبي صلی الله عليه و آله أنه قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها(1) .

ومن الغريب أن الذهبي يكذب أن الإمام عليه السلام كان يفوق المسلمين جميعا في سعة علومه، وهو أحد الذين يروون ما تواتر نقله أنه قال للنبي صلی الله عليه و آله، لما بعثه قاضيا الليمن: تبعثني إلى قوم يكون بينهم احداث ولا علم لي بالقضاء. قال: إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك! قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد(2). وينقل أنه لم يجرؤ أحد من المسلمين على أن يقول: سلوني إلا على عليه السلام . وأن عمر كان يقول: علي أقضانا. وأعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. وأن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي. وأن عبد الله بن عباس كان يقول: إذا حدثنا ثقة بفتيا عن علي لم نتجاوزها. وأن عائشة كانت تقول: أما إنه أعلم من بقي بالسنة. وأن أحمد بن حنبل كان يقول: ما ورد لأحد من أصحاب النبي صلی الله عليه و آله من الفضائل ما ورد

ص: 602


1- الطبراني: المعجم الكبير، 11 / 55؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 126 - 127؛ ابن عبد البر:الاستیعاب،1102/3 ؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 3/ 181؛ 5/ 110؛ 11 / 50 - 51؛الحاكم الحسكاني: شواهد التنزیل، 104/1، 432؛ الراغب الأصفهاني: مفردات غريب الحديث، 64؛ الزمخشري: الفايق في غريب الحديث، 16/2؛ الخوارزمي: المناقب، 83؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 20/9 ؛ 42/ 378 - 383؛ ابن البطريق: العمدة، 292 - 293؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4 / 22؛ المزي: تهذيب الكمال، 18 / 77 - 79؛ 20/ 485؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 21 / 179؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 114؛ ابن حجر : تهذيب التهذيب، 7/ 296؛ السيوطي: الجامع الصغير، 1/ 415؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 13 / 148.
2- ابن سعد، الطبقات،291/2 ؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 13؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1/ 83؛ أبو داود: سنن، 2/ 160؛ ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، 147؛ النسائي: السنن الکبری، 5/ 116؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 1/ 323؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 135؛ البيهقي: السنن الكبرى، 86/10 ؛ معرفة السنن والآثار، 7/ 368؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 12 / 439؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 42/ 388؛ ابن الأثير: أسد الغابة،4/ 22؛ الذهبي: تاريخ الإسلام 691/2 ؛ 3/ 637؛ ابن كثير: البداية والنهاية،124/5 ؛ 397/7 ؛ السيرة النبوية،207/4 ؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 11 / 249.

لعلى(1). وقد دل الإمام علي عليه السلام تفرده بتلك العلمية عندما كان ينادي بملء فمه: سلوني عن كتاب الله؛ فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل(2). وكان معاصروه يتعجبون لسعة علمه فيسألونه: ما بالك أكثر أصحاب النبي صلی الله علیه و آله حديثا؟ فيقول: لأني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني(3). وكان عبد الله بن عباس يقول: إن له ضرس قاطع في العلم، والفقه في المسألة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون(4).

أما دعوی «Lammens» أن السيرة قد أوهمت نفسها بالاقتناع بأحد أنصاف أبيات الشعر بعد أن حولته للنثر، وهو للكميت أقدم مداحي السيرة، ومؤلف الهاشميات، الذي وصف علي بالحذاقة في حل المشاكل والخروج من المواقف الحرجة: نقض الأمور والابرام(5). فهي مدافعة بائسة كان رددها من قبل فقال وهو يحاول حشد الحجج على تواضع دور الإمام عليه السلام وعدم شجاعته وكفاءته: وبعد قرن من الزمان رثاه الکمیت مداح السيرة بقوله:

كان أهل العفاف والمجد *** والخير ونقض الأمور والابرام

ص: 603


1- تاريخ الإسلام، 3/ 638.
2- ابن سعد، الطبقات، 2/ 292؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 351؛ الخوارزمي: مناقب، 94؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 27 / 100؛ 42/ 398
3- ابن سعد، الطبقات، 2/ 292؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 495؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 351؛ الترمذي: سنن، 5/ 301؛ النسائي: السنن الكبری، 5/ 142؛ الحاكم: المستدرك، 3/ 125؛ ابن عساکر، تاریخ، 42/ 378؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4 / 29؛ المزي: تهذيب الكمال، 15/ 372؛ ابن حجر : تهذيب التهذيب، 5 / 298.
4- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1107؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 22؛ المزي: تهذيب الكمال، 20/ 487؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 297/7
5- A propos de Ali ibn Abi Talib. p,313

وهو هنا لم يرث أيا من صفاته البطولية(1).

يكفي لبيان تلاعب « Lammens» وعدم أمانته في نقل المعلومة! أن نبين أن هذا البيت الذي ذكره، هو بيت من أصل (103 بیت) لأحدى قصائد الكميت الهاشميات(2). وهو خلال هذه القطعة الأدبية الطويلة قد عرج على كثير من خصائص أهل البيت عليهم السلام وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام وتغني بفضائلهم وبطولاتهم! ومن ذلك قوله:

والحياة الكفاة في الحرب إن *** لف ضراما وقودها بضرام

وإذا الحرب أو مضت بسنا البر *** ق وسار الهمام نحو الهمام

فهم الأسد في الوغى لا اللواتي *** بين خيس العرين والآجام

أسد حرب غيوث جدب بهالی- *** -ل مقاويل غير ما افدام

ومغاوير عندهن مغاوي- *** -ر مساعير ليلة الالجام

ساسة لا كمن يرى رعية النا *** س سواء ورعية الأنعام

ثم عرج على ذكر ما خص به الإمام عليه السلام :

و الوصي الذي أمال التجو *** بي به عرش أمة لانهدام

كان أهل العفاف والمجد والخي- *** -ر ونقض الأمور والإبرام

والوصي الولي الفارس المعل- *** -م تحت العجاج غير الكهام

کم له ثم كم له من قتيل *** وصريع تحت السنابك دامي

وخميس يلفه بخميس *** وفئام حواه بعدفئام

ص: 604


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 58
2- شرح هاشميات الكميت، 11- 42.

وعميد متوج حل عنه *** قتلوا عقد التاج بالصنيع الحسام

قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه *** حکما لا كغابر الحكام

ووصي الوصي ذي الخطة الفصل ***ومردي الخصوم يوم الخصام

وهو في البيت الأول الحماة = جمع حام. وهو الذاب عن الحرم، وحامي الحقيقة، وما إليه. والكفاة = جمع کاف. والضرام = الوقود أو حطب النار. وفي البيت الثاني سنا البرق = أي وميضه وضوؤه. والهمام = الملك، سمي هماما لبعد همته. وفي البيت الثالث أسد الوغى = أي: إنهم أسود الحرب لا الأسود القابعة في عرينها. والخيس = موضع الأسد. والعرين = الأجمة. وفي البيت الرابع يعني أنهم إذا ركبوا للحرب فهم کالأسود، أما إذا وهبوا أو أعطوا فهم كالغيث عند القحط والخصب عند المحل. وبهاليل = جمع بهلول وهو الضحوك. وأفدام = جمع فدم وهو الثقيل والغبي. وفي البيت الخامس: انهم شديدو الغيرة والغارة ومساعير للحرب، أي يوقدونها، وليلة الإلجام = أي ليلة الحرب. وفي البيت الثامن التجوبي = عدو الرحمن ابن ملجم. وفي البيت العاشر يعني أن أمير المؤمنين7 كان يضع علامة في الحرب، للدلالة على شجاعته وليعرفه الأعداء فيقصدونه. والعجاج = الغبار. وغير الكهام = غير الجبان. والبيت الحادي عشر السنابك = مقدم الحافر ومؤخره. أي كم له من قتيل وصريع تحت حوافر الخيل. وفي البيت الثاني عشر الخميس = الجيش. والفئام = الجماعة من الناس. أي أنه كم كان يلف الجيش تلو الجيش والجماعة تلو الجماعة! وفي الثالث عشر العميد - السيد الذي يعتمد عليه في الملمات. أي كم من هؤلاء العمداء والسادة المتوجين كان حل تيجانهم واذهب زعماتهم لقومه بعد أن قتلهم بحسامه القاطع(1). وهكذا يتضح مدی بعد «Lammens» عن الحقيقة والأمانة العلمية.

ص: 605


1- شرح هاشميات الكميت، 20 - 31.

أما قوله: إن معاصري الإمام عليه السلام يزعمون بأنه كان خفيفا، وطائشا وفاقدا للجدية بالأمور، وأن عمر استنكر ذلك المزاج من علي بعد أن لاحظه عليه، وكذلك لاحظ عليه غياب التوازن الثقافي ! فهو مما علقه على قول عمر بن الخطاب: عندما ذکر له أمر الخلافة واهتمامه بها فقال له ابن عباس: أين أنت عن علي ؟! قال: فيه دعابة(1). وفي نص البلاذري: إن أول علية أول شجاعة تقيأ على دعابة فيه، وخليق أن يحملهم على طريقة صالحة(2). وعلى قول عمرو بن العاص الذي رد عليه الإمام عليه السلام بقوله: زعم ابن النابغة أني تلعابة، تمزاحة، ذو دعابة أعافس وأمارس. هيهات يمنعني من ذاك خوف الموت، وذكر البعث والحساب. ومن كان ذا قلب، ففي هذا له واعظ وزاجر . أما وشر القول الكذب إنه ليحدث فيكذب، ويعد فيخلف، ويحلف فيحنث فإذا كان يوم البأس فأي آمر وزاجر ما لم تأخذ السيوف مآخذها من هام الرجال فإذا كان ذلك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم أسته(3).

وفضلا عن أن «Lammens» هنا ما برح يستخدم طريقته البائسة في الاستدلال والتمويه !؛ فادعى أن هذا التقييم قد صدر من شخصين لم يكونا ينويا تشويه صورة الإمام عليه السلام فهو قد حول هذين الرأيين لانطباع عام عند المعاصرين ككل! بمعنى أنه عمم ادعاء عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص على جميع المسلمين وكأنهم جميعا يعتقدون بما يدعيه هذين الاثنين. وفضلا عن أن الموضوعية تتعارض تماما مع أن تستدل على سلبية صفات شخص ما من خلال توصیف خصمه! فإن ادعاء عمر بن الخطاب إنها كان لأسباب منها:

أولا: التبرير رغبته بعدم وصول الإمام عليه السلام للخلافة، وهذا ما أفصح عنه في

ص: 606


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1120.
2- أنساب الأشراف، 10/ 344.
3- أنساب الأشراف، 2/ 381 - 382.

مواطن أخرى!؛ فقد ورد أنه قال: إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم! فقال له ابنه عبد الله: فيا يمنعك يا أمير المؤمنين؟ قال: أكره أن أتحملها حيا وميتا(1). وفي لفظ: لئن ولوها الأجيلح ليركبن بهم الطريق (2). وفي لفظ: الله درهم لو ولوها الأصيلع ! كيف يحملهم على الحق وإن حمل على عنقه بالسيف!(3). وطلب منه بعضهم أن يعين خليفة فبين لكل من أصحاب الشورى الستة سبب عدم استخلافه وقال : وما يمنعني منك يا علي إلا حرصك عليها، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحق المبين، والصراط المستقيم (4).

بالنتيجة عمر يعترف أن الإمام عليه السلام هو أحق بها وأنه إن صار خليفة، سار بالمسلمين على الطريق المستقيم. ومن ثم فليس للدعابة التي يدعيها دخل في المسألة وإنما هي عذر تذرع به لتمرير المخطط في الحيلولة دون وصوله للسلطة وهو ما أفصح عنه في يوم من الأيام لابن عباس فقال: يا ابن عباس. أبوك عم رسول الله وأنت ابن عمه، في منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري. يكرهون ولايتكم لهم. قلت: لم ونحن لهم كالخير؟ قال: اللهم غفرا. يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، فيكون بجحا بجحا(5).

ثانيا: لأنه كان فظا غليظ الطباع وأبعد الناس عن البشاشة واللطافة. فكان يرى

ص: 607


1- ابن سعد: الطبقات، 3/ 317؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1154؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 260/12 ؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 12 / 68.
2- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5/ 447؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 353؛ ابن عساکر : تاریخ مدينة دمشق، 42/ 428.
3- ابن عدي: الكامل، 5/ 37؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 95؛ الذهبي: میزان الاعتدال، 3/210؛ تاريخ الإسلام، 3/ 639؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 5/ 734.
4- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/ 43.
5- الطبري: تاریخ، 4/ 222 - 223؛ ابن الأثير: الكامل، 3/ 63.

البشاشة واللطافة والأريحية مزاحا زائدا ودعابة. وهذا ما أكده ابن أبي الحديد حين قال عن هذه المسألة بالتحديد: إعلم إن الرجل ذا الخلق المخصوص، لايرى الفضيلة إلا في ذلك الخلق، ألا ترى أن الرجل يبخل فيعتقد أن الفضيلة في الامساك! والبخيل يعيب أهل السماح والجود، وينسبهم إلى التبذير، واضاعه الحزم! وكذلك الرجل الجواد يعيب البخلاء وينسبهم إلى ضيق النفس، وسوء الظن وحب المال، والجبان يعتقد أن الفضيلة في الجبن، ويعيب الشجاعة، ويعتقد كونها خرقا، وتغريرا بالنفس ! كما قال المتنبي: يرى الجبناء أن الجبن حزم(1). والشجاع يعيب الجبان، وينسبه إلى الضعف ويعتقد أن الجبن ذل ومهانة. وهكذا القول في جميع الاخلاق والسجايا المقتسمة بين نوع الإنسان. ولما كان عمر شديد الغلظة! وعر الجانب! خشن الملمس! دائم العبوس! كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة! وأن خلافه نقص! ولو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة، وساحة الخلق، لكان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة وأن خلافه نقص. حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي عليه السلام وخلق علي حاصل له، لقال في علي: لولا شراسة فيه فهو فيما قاله، أخبر عن خلقه، وبمقتضى هذا الخلق المتمكن عنده، كان يشير على رسول الله صلی الله علیه و آله في مقامات كثيرة، وخطوب متعددة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، وكان النبي صلی الله علیه و آله یری استبقاءهم واستصلاحهم، فلم يقبل مشورته على هذا الخلق (2).

وقال في تعقيبه على وصف عمر لبيعة أبي بكر: بأنها فلتة وقي الله شرها(3): إعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله

ص: 608


1- ديوان المتنبي ص324. وعجز البيت: وتلك خديعة الطبع اللئيم.
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 327 - 328.
3- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 441/5- 442؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 458؛ ابن سلام: غريب الحديث، 3/ 355؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 8/ 57؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 55؛ الجاحظ: العثمانية، 196؛ النسائي: السنن الكبرى، 4/ 272؛ الطبري: تاریخ، 205/3 ؛ ابن حبان: صحیح، 2 / 148؛ الباقلاني: تمهيد الأوائل، 495؛ ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 3/ 467.

تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة! ولا حيلة له فيها!؛ لأنه مجبول عليها! لا يستطيع تغيرها، ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة! فينزع به الطبع الجاسي! والغزيرة الغليظة! إلى أمثال هذه اللفظات (1). فضلا عن ذلك فإن كثيرا من المسلمين شخصوا هذه الغلظة في عمر وكرهوها(2). حتى أن بعضهم احتج على أبي بكر في استخلافه وهو يعلم غلظته! فقالوا له: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا؟! وقد ترى غلظته!(3). وفي نص آخر: استخلفت عمر وقد كان عتا علينا ولا سلطان له! فلو قد ملكنا لكان أعتى علينا وأعتی، فكيف تقول لله إذا لقيته!(4).

على أن القرآن ذم طبع الشدة والغلظة والجفاوة ودعا للطافة والسهولة في الطباع، قال تعالى: «ما م ن الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حول»(5). كما حث النبي صلی الله علیه و آله المسلمين على نزع طباع البداوة وخشونتها، والتعامل باللطف والبشاشة والطلاقة فقال: «كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقی أخاك بوجه طلق»(6). وقال: «لا تحقرن من المعروف شيئا فإن لم تجد فالق أخاك بوجه طلق»(7).

ص: 609


1- شرح نهج البلاغة، 2/ 27
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 343؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 44/ 23؛ ابن الأثير: الكامل، 2 /84؛ ابن كثير: السيرة، 2/ 33.
3- ابن سعد، الطبقات، 3/ 183؛ ابن شبة النميري: تاريخ المدينة، 2/ 668؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 411/30 ،44/ 252؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4/ 69؛ الكلاعي: الاكتفاء، 1/ 172؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 116؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 5 / 675.
4- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 5/ 499.
5- آل عمران / 159.
6- أحمد بن حنبل، مسند، 3/ 344؛ الترمذي: سنن، 3/ 234.
7- أحمد بن حنبل، مسند، 5/ 163؛ البخاري: الأدب المفرد، 73؛ مسلم: صحیح، 8/ 37؛ ابن حبان: صحیح، 2/ 282.

وكانت العرب تقول: أول المودة طلاقة الوجه(1). وكان سعید بن عبدالرحمن الزبيدي(2) يقول: يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك، فأما من تلقاه ببشر، ويلقاك بعبوس، يمن عليك بعمله فلا كثر الله في المسلمين مثله(3). إذن فهذه اللطافة والطلاقة والبشر في وجه الإمام عليه السلام كانت تتناقض مع طباع عمر الخشنة والغليظة والقاسية!؛ فعدها دعابة مشينة! وأما قول عمرو بن العاص فلا شك أنه علقه على قول عمر بن الخطاب، وفضلا عن ذلك هو من أعدى أعداء الإمام عليه السلام ومن ثم يكفي لا سقاط احتجاج «Lammens» بقوله ما يعلم من حاله!؛ وإلا لكان كل شخص في عيون الآخرين مثالا لما يصفه به أعداؤه! ولله در أبي الأسود الدؤلي حين قال:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداء له وخصوم

کضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدا وبغيا إنه لدميم(4)

وقال المتنبي:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كامل(5)

وفوق هذا وذاك نجد وصفه عند الآخرين : كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه! وقال معاوية: كان هشا بشا، ذا فكاهة، فقال له قیس بن سعد: كان رسول الله صلی الله علیه و آله يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء(6)، وتعيبه بذلك! أما والله لقد

ص: 610


1- ابن أبي الدنيا: الإخوان، 194.
2- یکنی أبو شیبة،و هو أحد رواة الحدیث ، و کان قاضیا فی الري،توفی عام(146ه-).ابن حبان:الثقات،6/366-367؛الصفدی :الوافي بالوفیات،15/148.
3- ابن أبي الدنيا: الإخوان، 196.
4- الديوان، 403.
5- الديوان، 180.
6- يضرب لمن يظهر أمرا ويريد غيره. الجوهري: الصحاح، 6 / 236.

كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوي، تلك هيبة التقوى، وليس کما يهابك طغام أهل الشام(1).

وقال معاوية لضرار الصدائي: یا ضرار صف لي عليا. قال: كان والله بعيد المدي، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نکلمه هيبا له! يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوى في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخی الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، إلى تعرضت أم إلى تشوقت، هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا، لا رجعة فيها؛ فعمرك قصير، وخطرك قليل. آه من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق. قال: فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها(2).

ومن افتراءات «Lammens» الأخرى في هذا المقام دعواه أن الصحابة الأوائل كانوا لا يحبون الإمام عليه السلام فقال: وما كان كبار الصحابة يبدون أي تعاطف المصاحبته. وهؤلاء التعساء كانوا يترددون في رفع شكواهم منه إلى محمد لكي لا يجلبوا لأنفسهم

ص: 611


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 25
2- أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 84/1- 85؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1107 - 1108؛ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق، 401/24 ؛ ابن البطريق: العمدة، 16؛ خصائص الوحي المبين، 32 - 33؛ محمد بن طلحة الشافعي: مطالب السؤول، 180؛ الزرندي الحنفي: نظم درر السمطين، 135؛ ابن الصباغ: الفصول المهمة، 1/ 598 - 599؛ ابن حجر: الصواعق المحرقة، 202 - 203؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، 11/ 300.

المزيد من العنف. والسبب واضح فقد استعجلت السيرة في تفضيله على الأموي ابن عقبة. وكان النبي يكرر مرارا اعتراضه ضد القساوة: خیر کم هو خيركم أخلاقا مع زوجته. ولم يفهم عليا الدرس، وقد نقلت لنا مصنفات الحديث مشاهد عنف بين الزوجين. وقد بينت هذه المصنفات قساوة علي تجاه والدة أطفاله. وقد نسي وهو يسيء معاملتها أنها امرأة مريضة، وقد أجبرها على اللجوء إلى أبيها، ونعلم سلفا ما هو موقف النبي في هكذا مواقف حرجة، وكيف يتصرف تجاه علي أو عثمان وتجاه رقية وفاطمة(1)

فأما دعواه أن: كبار الصحابة لم يكونوا يبدون أي تعاطف لمصاحبته. فهو ماعلقه على ما يروى عن بريدة بن الحصيب قال: بعث النبي صلی الله علیه و آله عليا إلى خالد - وهو في اليمن - ليقبض الخمس وكنت أبغض عليا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا. فلما قدمنا على النبي صلی الله علیه و آله ذكرت ذلك له. فقال: يا بريدة أتبغض عليا. قلت: نعم. قال: لا تبغضه؛ فان له في الخمس أكثر من ذلك؟(2).

وتنقل الرواية في مواضع أخرى، بتفصيل أوفي، وهو أن بريدة قال: أبغضت عليا بغضا لم يبغضه أحد قط. وأحببت رجلا من قريش - یدل باقي الخبر أنه خالد بن الوليد - لم أحبه إلا على بغضه عليا. فبعث ذلك الرجل على خيل، فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه علية. فأصبنا سبيا، فكتب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله : ابعث إلينا من يخمسه. فبعث إلينا عليا. وفي السبي وصيفة هي أفضل من السبي، فخمس وقسم، فخرج رأسه مغطى، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فاني قسمت وخست، فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله ثم صارت في آل علي ووقعت بها. قال: فكتب الرجل إلى النبي. فقلت: ابعثني فبعثني

ص: 612


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 58-59.
2- البخاری: صحيح، 110/5

مصدقا. قال: فجعلت اقرأ الكتاب وأقول: صدق. قال: فامسك النبي يدي والكتاب وقال: أتبغض عليا !؟ قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا؛ فو الذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قوله6 أحب إلي من علي(1).

ولا شك أن مجرد نقل الرواية كما هي كاف ليكذب «Lammens» ويفضحه؛ ولذلك موه على قرائه بأن قال: إن كبار الصحابة لم يكونوا يبدون أي تعاطف لمصاحبته. فأما بغض خالد بن الوليد للإمام عليه السلام فشأنه في ذلك شأن عمرو بن العاص وبني أمية. فما نقموا من أبي حسن إلا نکیر سیفه(2). ولو كان الاستدلال على هذا النحو، فمن المحال أن تجد شخصا يحبه أعداؤه. فهل أحب اليهود يسوع يوما؟!

وعلى هذا الأساس - بحسب عقيدة «Lammens» - یکون عیسی علی قد قتل من قبل اليهود لأنه كان مكروها من قبل المجتمع كله، ولأنه لم يكن جديرا بالحياة !؟ ومن ثم فلا معنى لأن يتشبث المسيحيون بأنه كان مضحية، وفاديا ومخلصا... الخ. ثم إن بريدة بن الحصيب الذي كان مبغضا للإمام عليه السلام بدافع العصبية والأنانية، أصبح وهو لا يحب أحدة بقدره! ولهذا لم يجرؤ «Lammens» على نقل الرواية، ولجأ للتلاعب بعقول و معلومات قرائه فألمح إليها من بعيد!

أما دعواه أن السيرة استعجلت في تفضيله على الأموي ابن عقبة. فهو يلمح إلى قضية جلده بسبب شربه الخمر أثناء ولايته على الكوفة في عهد عثمان. وبعد أن شهد عليه المسلمون بأنه صلى بهم صلاة الصبح وهو سكران، فرفعوا ذلك لعثمان في المدينة،

ص: 613


1- أحمد بن حنبل، مسند،349/5- 351. وكان صرح باسم خالد؛ النسائي: السنن الکبری، 5/ 135 - 176؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 342.
2- ابن طيفور: بلاغات النساء، 20؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 233.

فأقام عليه الإمام عليه السلام الحد وجلده أمام الحاضرين(1).

وهنا مارس «Lammens» الأسلوب نفسه، فأشار للرواية من بعيد، مع تأويلها إلى مسألة بغض وكره وتفضيل وانحياز من قبل السنة! مستغلا خلو الفضاء الذهني القرائه في حيثيات الحادثة .

ص: 614


1- أحمد بن حنبل، مسند، 140/1 ؛ البيهقي: السنن الكبرى، 8/ 316؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 63/ 245. الذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 667؛ ابن حجر: فتح الباري، 7/ 46.

الفصل السادس: تقويض صورة الخليفة والقائد المثال

اشارة

ص: 615

ص: 616

مَدخَل

تمخضت العقود الثلاث لانقلاب الأمة عن اختلال كبير في الموازين، فأمسى أعداء الإسلام ورؤوس الكفر والنفاق وطلقاء الفتح خلفاء وسادة للمسلمين! وكانت المدة القصيرة لخلافة الإمام الحسن علیه السلام استكمالا لمحاولة التصدي العسكري الذي بدأه والده الإمام علي علیه السلام هذا الانحراف والانقلاب المدمر، ولكنه حينها كان قد استكمل دورانه وتمكن من جسد الأمة وروحها، وبات إقراره - بصورته الأموية - وشيك الوقوع. وقد كون هذا الانقلاب الصریح، جوا خصبا لنشوء وخلق الرواية والحديث ! بلحاظ ما سبقت الإشارة إليه من تبني معاوية لعملية الوضع والخلق تلك، کمنهج دعائي وإعلامي ساند ومبرر لمشروع التغلب على الخلافة بالقوة والعصبية والدسائس والإغراء!

وقد تعامل «Lammens» بإغفال تام لطبيعة تلك الأجواء التي أنتجت الحديث والرواية فجمع النصوص السلبية فقط، مهما كانت بعيدة عن الواقع التاريخي، وقدمها على أنها هي الحقيقة لا غير، من دون أن ينسی تکذیب كل ما يوحي بشيء من الإيجابية فيها! هذا مضافة لإعادة صياغة النصوص بشكل أكثر حدة واساءة! وقد ألفناه يترك تماما نبرة الشك المفرطة إذا ما تعلق الأمر بافتعال نصوص ضد العلويين، في حين تنشط تلك النبرة إذا ما أظهرت النصوص بعضا من فضائلهم، أو قبائح أعدائهم! معللا ذلك بما لا يقل تجنيا وتحيزا عن تصرفه الأول، فيدعي أن المؤرخين والرواة

ص: 617

موالين ومحابين للعلويين، على اعتبار نشأة التدوين في العهد العباسي!؟ وعليه فيها فلت في الروايات من مديح للأمويين فهو حقيقة لا جدال فيها(1). وما تضمنها من ذم للعلويين فهو الآخر حقيقة لا جدال فيها. فكم هي قاعدة متغافلة للتمييز بين النصوص؟!؛ وإلا فالعباسيون لم يكونوا بأقل ظلما من الأمويين لبني علي: ولا بأقل تشويها وتحريفا لسيرهم؛ فالمنطق يحكم بأن العباسيين إخراجا لأنفسهم من طائلة الصعود على أكتاف العلويين وشيعتهم، وقطف ثمار دمائهم وتضحياتهم والتسلق للسلطة، ومن ثم نبذ الشعارات الموظفة في بداية دعوتهم: الرضا لآل محمد - الطلب بثأر شهداء كربلاء - القضاء على الظلم والطغيان الأموي - إرجاع الخلافة لأهلها -.. الخ. كانوا أيضا بحاجة لتوظيف الأقلام والألسنة المأجورة لتزييف الحقائق بالا يحرجهم ويخدم استبدادهم بالسلطة والتخلي عما كانوا يدعون إليه، أو توجيهه بوجهة أخرى، من قبيل كونهم الوريث الشرعي للخلافة! وهو ما يستلزم التقليل من شأن التضحيات العلوية وتسطيحها، بعد أن أدت دورها كحجة لاستجلاب الناس حولهم، وكسب تأیید شريحة واسعة من الحانقين على التسلط الأموي.

وحسبنا للوقوف على هذه الحقيقة، مثال شديد الالتصاق والترابط بالموضوع الرئيس، ليضعنا في حقيقة جو التدوين التاريخي العباسي. قال عبد الله بن علي العباسي في خطبة بيعة أبي العباس السفاح: «ألا وإنه ما صعد منبر کم هذا خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار بيده إلى أبي العباس السفاح»(2). في حين كان خطابهم بعد ثورة محمد ذو النفس الزكية وأخيه إبراهیم کما بینه کتاب بعث به المنصور لمحمد جاء فيه: وأما قولك انكم بنو رسول الله، فإن الله تعالى يقول في كتابه: «مَّا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِکُمْ وَلَکِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ

ص: 618


1- K. Salibi: Islam and Syria in the writings of Henri Lammens. pp, 333-339
2- الطبري: تاریخ، 7/ 428؛ ابن عساکر، تاریخ، 32/ 287؛ ابن الأثير: الكامل، 5/ 416؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 46/10

النَّبِیِّینَ ۗ وَکَانَ اللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمًا»(1). ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية! ولا تجوز لها الإمامة! فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا! فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلها! ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الام والخال والخالة لا يرثون! وأما ما فخرت به من علي وسابقته! فقد حضرت رسول الله الوفاة فأمر غيره بالصلاة! ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه! وكان في الستة فتر کوه کلهم دفعا له عنها! ولم يروا له حقا فيها! أما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متهم! وقاتله طلحة والزبير! وأبی سعد بيعته! وأغلق دونه بابه! ثم بایع معاوية بعده! ثم طلبها بكل وجه! وقاتل عليها! وتفرق عنه أصحابه! وشك فيه شیعته قبل الحكومة ! ثم حكم حكمين رضي بها! وأعطاهما عهده وميثاقه! فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم!! ولحق بالحجاز! وأسلم شیعته بيد معاوية! ودفع الأمر إلى غير أهله! وأخذ مالا من غير ولائه! ولا حله! فإن كان لكم فيها شيء! فقد بعتموه! وأخذتم ثمنه! ثم خرج عمك حسين بن علي على بن مرجانة، فكان الناس معه عليه! حتى قتلوه! وأتوا برأسه إليه! ثم خرجتم على بني أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل! وأحرقوكم بالنيران! ونفو كم من البلدان! حتى قتل یحیی بن زید بخراسان، وقتلوا رجالكم، وأسروا الصبية والنساء وحملوهم بلا وطاء في المحامل ! كالسبي المجلوب إلى الشام! حتى خرجنا عليهم! فطلبنا بثأركم! وأدركنا بدمائكم! وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضلناه! فاتخذت ذلك علينا حجة! وظننت إنا إنها ذكرنا أباك وفضلناه للتقدمة منا لها على حمزة والعباس وجعفر! وليس ذلك كما ظننت! ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين! متسلما منهم! مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلى أبوك بالقتال والحرب! وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة! فاحتججنا له! وذكرناهم فضله؟(1)

ص: 619


1- الأحزاب / 40.

وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه(1).

إذن فالفرق بين الخطابين واضح جدا ولا يحتاج لتعليق. هذا فضلا عن الشواهد التاريخية على أرض الواقع من قتل وسجن وتعذيب وقمع للثوار، ولعل أدل مثال على ذلك ما حاق بآل الحسن أثناء ثورة محمد وإبراهيم. ولكن «Lammens» تناول سيرة الإمام الحسن عليه السلام بمعزل تام عن هذه الحقيقة !؛ فكانت دراسته محاولة التأكيد تلك الأكاذيب والمفتريات وتغذيتها بمزيج من بذاءة اللسان والشتائم، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم رغبته في البحث عن الحقيقة كما يدعي، وأنه ما زال يعيش في عصور تلك المواجهة الصليبية المحمومة، وذلك السعار المقيت. وقد تعرض السيرة الإمام عليه السلام في كتابه ( Etudes sur le regne du Calife Omaiyade Moawia Ler = دراسات في حكم الخليفة الأموي معاوية الأول) وكتابه « Fatima et les Filles de Mahomet = فاطمة و بنات محمد) واقتطع بعضا من مادة هذين الموردين فقدم عنه مقالة في «Encyclopaedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية) بعنوان (Hasan - Al = الحسن. مج3 /274). ولسوء هذه المقالة ومجافاتها للواقع التاريخي وتحاملها، استبدلت في الطبعة الثانية وتحديدا في (مج 240/3 - 243) بمقالة «Hasan B. - Al Ali B. Abi Talib = الحسن بن علي بن أبي طالب» للمستشرقة الإيطالية « Laura Vaccia Vagelier = لورا فيشيا فاغليري». وسنحاول استخلاص أبرز الأفكار، والطروحات المقدمة في هذه المواضع الثلاثة، ومناقشتها للوقوف على مدى ابتعاد هذا المستشرق عن الحقيقة التاريخية ومجانبته لها، مع ما يدعيه الاستشراق من تطبيق لمناهج البحث التاريخي.

ص: 620


1- المبرد الكامل في اللغة والأدب، 3/ 94 - 99؛ الطبري: تاریخ، 570/7 - 571؛ ابن الأثير: الكامل، 540/5 - 541؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 92/10

(1) النبي والحسنان.. النص ومغالطة الخطاب

مر بنا أن «Lammens»حاول جاهدة تقديم صورة سلبية ومشوهة عن العلاقة بين: النبي / الإمام علي / السيدة فاطمة:. ولاسيما بين الأخيرين، وانها كثيرا ما كانا يتشاجران، وأن كتب الحديث والتاريخ نقلت مشاهد عنف وقسوة بين الزوجين!؟ وأنه على الرغم من أن فاطمة لم تكن البنت المفضلة عند أبيها، إلا أن القسوة التي كانت تتعرض لها في بيت الزوجية كانت كافية لأن تجعل النبي يبغض صهره! واستكمالا لتلك اللوحة ادعي: أن ولادة الحسن والحسين التي كان يعول عليها في تحسين الأوضاع بين الزوجين، ومن ثم مع النبي، لم تأت بجديد في الموضوع(1).

وتابع قفزه على المنطق، فبدا كأنه يخوض صراعا عنيفا مع النصوص الثابتة والمتواترة بغية تكذيبها! فلم يفلح إلا بتقديم مادة متناقضة متفككة، لا يكاد يربط بين نتائجها ما يمت للعقلانية بشيء، فنجده يقول: إن مؤلفي المجموعات الدينية حاولوا أن يعرضوا لنا أن الرسول كان يستأنس مع أبناء فاطمة، وأنه كان يجلسهم على فخذيه، ومعهم أسامة بن زيد. إن حبه للحسن والحسين، لا ينال منه أدنى شك؛ فإن وفاة بنات خديجة الواحدة تلو الأخرى، واخيرا وفاة ولده إبراهيم، ومعاينته لقبورهم التي دفنوا فيها، في عمق وادي البقيع الرطب، بالقرب من داره؛ جعل أولاد فاطمة يمنحونه الأمل الوحيد بحمل اسمه، وهو الهدف الذي يطمع به كل الساميون: عدد من الأبناء، لكن الله رفض منحه تلك العلامة علامة الأنبياء. «علي محلي» عبارة قالها بألم: «إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب علي» فقد مال الرسول كثيرا إلى أبناء بنته، وحاول التقرب من علي، بالرغم من الاحتجاجات المتكررة من عائشة!

ص: 621


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 41

«أنت لا تحبني» ادعت عائشة. وبأنه ضحي بها وبأبيها، ولكن تدخل أبي بكر أعادها إلى رشدها! وكان ثمة تشابه كبير بين الرسول والحسن، وقد انشغل كثيرا به وبأخيه الحسين، وهذا أدى لإيجاد رأي لصالح موضوع عائلة الرسول، وركز ذلك موقفه منهما أثناء تأديته الصلاة. فنجد الرسول دائما يتسلى معهما، وكان يضعهم على فخذيه، ويسمح لهم بالركوب على ظهره أثناء الصلاة، ويطيل الركوع حتى لا يزعجهم، وبعد انتهاء الصلاة نجده يضعهم على فخذيه وبين ذراعيه. في يوم من الأيام، وبعد جولة في السوق مع أبي هريرة، اتجه إلى بيت فاطمة مناديا الحسن ثلاث مرات، ولما أتاه استعجل في ضمه إلى صدره، في الوقت الذي كانت ذراعا الطفل قد دارت على عنقه، فصاح: أحبه كثيرا، أحبه مثل نفسي، وأعاد هذه الكلمات ثلاث مرات(1). وكرر هذا الموقف المتشنج والرافض لكل إشارة ايجابية في سيرة الإمام الحسن عليه السلام أينما كان صدورها! فقال: وتظهره السيرة أثيرا عند جده بنوع خاص، وقد نشأت روايات كثيرة مشكوك فيها حول هذا الموضوع، وهي مستقاة من حياة النبي الخاصة(2). وكان تعليله لما ادعاه من صناعة هذه اللوحة من قبل أصحاب المجموعات الدينية، أن قال: فيما يخص جلوس أسامة بن زيد مع الحسنين عليهما السلام على فخذي النبي صلی الله علیه و آله : هذه لوحة تم اختراعها من قبل التيار الأرثودو کسي؛ لخلق توازن تام بين السنة والشيعة. وفيما يخص الحسنين عليهما السلام والتصاقها بالنبي صلی الله علیه و آله : يعتقد أن الهدف من جعل أبناء فاطمة دائما إلى جانب الرسول، حتى في المسجد، وحفاوة الاستقبال من قبله لهما؛ ماهي إلا محاولة من قبل الرواة الشيعة لدعم اسطورتهم الضعيفة، وهي التأكيد أو التأمين على لقب أولاد الرسول لأبناء علي. ومن هنا نفهم انزعاج الحجاج من ذلك، وأثره على الحياة السياسية له؛ ولذلك كان يسميهم أولاد على(3).

ص: 622


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 28,87-96.
2- Encyclopaedia of Islam. V3,274.
3- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 28-94

مر أن «Lammens» كثيرا ما ادعى أن النبي صلی الله علیه و آله كان يعيش تحت وطأة ملاحقة صفة الأبتر، وأنه تزوج بأكبر عدد ممكن من النساء؛ عله يحصل على ولد ذكر يخلد ذکر اه؛ لأن هذه المسألة كانت من أولى مدعيات التفاخر في محيط الجزيرة العربية، حتى أنه خلد ذلك في نصوص القرآن التي تتحدث عن أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وإنه لما يأس من تحقق تلك الأمنية حاول إيجاد التعويض بتحريم الوأد، وتبني زيد بن حارثة..! وإذن فما يحكم به المنطق والعقل أن الحسنين علیهما السلام يمثلان التعويض الطبيعي الإشباع عاطفة الأبوة المفقودة، والأمنية المنتظرة؟ فضلا كونهما يمثلان الامتداد الوراثي له، ومن ثم ليس من السهولة بمكان القول: إن أي شخص - مهما كان من جفاف المشاعر وموت الأحاسيس - عاش ظرفا مشابها، لا يجد تعویضا لذلك إذا ما منحته ابنته هذا المولود. فكيف إذا كان ذلك الشخص هو محض الرحمة والعاطفة والحنان الإنساني، وإذا كان الأب والأم والمولود مثال لتلك الرحمة والرأفة.

فضلا عن ذلك فإن ما علل به «Lammens» الصورة الأولى: الرسول كان يستأنس مع أبناء فاطمة، وكان يجلسهم على فخذيه، ومعهم أسامة بن زيد. بأنه محاولة من قبل التيار الأرثودوكسي؛ لخلق توازن تام بين السنة والشيعة. هو مما يعني من زاوية أخرى وجود صورة حية ثابتة، لها زخمها المعنوي، وحضورها الفاعل على أرض الواقع في بيان مدى التصاق وقرب الحسنين عليهما السلام من النبي صلی الله علیه و آله، وما يترتب على هذا الانتماء والقرب من امتیازات وحقوق، تستشرف الآتي، وتدفع الإدراك الروحي والمعنوي للمجتمع الإسلامي آنذاك، نحو مقومات اصطفاف مستقبلية، استكملها بشكل واضح وصريح وقطعي، ما ورد من أحاديث نبوية بحقهما

ولما كان الجانب الآخر قد تخلى عن تلك المحددات والخطوط والمرسومة، واتبع توجها معينا حددت معالمه وخطوطه في (السقيفة) كان بحاجة لتبرير خروجه على تلك المسلمات، وضمان تأييد القاعدة الجماهيرية وعدم انفلاتها، وإيجاد مقومات

ص: 623

اصطفاف مماثلة، فلجأ لإحداث هذا التوازن الهش، فاختلق حضور (أسامة بن زید) وتواجده قبالة الحسنان عيلهما السلام . ولعل مما يؤدي لهذا الفهم أن عمر (أسامة بن زید) لا يتناسب مع مؤدى النص المروي عنه شخصيا: كان النبي يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الأخرى، ثم يضمنا ويقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمها(1). فيفترض أن عمره على فرض: أن النبي صلی الله علیه و آله قبض وهو ابن (19 - 20 سنة)(2). نحو (16 سنة) أثناءجلوسها على فخذه!؛ فمن الثابت أن الإمام الحسن علیه السلام ولد في السنة الثالثة للهجرة. وأما إذا أضيف للصورة جلوس الإمام الحسين علیه السلام فيفترض أن يتصاعد عمر أسامة إلى (15 - 16 سنة) ! وعلى فرض أن النبي صلی الله علیه و آله ولاه إمرة الجيش وهو ابن (18 سنة)(3). يكون عمره بين (15 - 14 سنة) ! في حين يكون عمر الإمام الحسن علیه السلام سنة واحدة أو أقل! ومن ثم من غير المناسب والمعقول التصرف معها على نحو واحد كما تظهر الرواية! وقد صرح «ابن حجر» بأن البعض: استشكل ذلك؛ لأن أسامة أكبر من الحسن، وأضاف: أن الأمر فيه أوضح من أن يحتاج إلى دليل؛ فإن أكثر ما قيل في عمر الحسن، عند وفاة جده المصطفی ثمان سنين، وأما أسامة، فكان في حياته رجلا وقد أمره على الجيش الذي اشتمل على عدد كثير من كبار المسلمين كعمر. وصرح جماعة بأنه كان عند موت النبي ابن عشرين سنة. وذكر (الواقدي في المغازي) أنه ابن تسع عشرة سنة. فيحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي وأسامة مراهق والحسن ابن سنتين مثلا ويكون إقعاده أسامة في حجره لسبب اقتضى ذلك كمرض مثلا أصاب أسامة! فكان النبي لمحبته فيه، ومعزته عنده، يمرضه بنفسه. فيحتمل أن يكون أقعده في تلك الحالة، وجاء الحسن، فأقعده على الفخذ الأخرى،

ص: 624


1- ابن سعد، الطبقات، 4 / 58؛ أحمد بن حنبل: مسند، 5 / 205؛ البخاري: صحيح، 7/ 76؛ النسائي: السنن الکبری، 5/ 53؛ ابن حبان: صحيح، 15 / 415.
2- الواقدي: المغازي، 3/ 1125؛ ابن سعد، الطبقات، 4 / 66؛ الطبري: المنتخب، 33.
3- ابن سعد: الطبقات، 4 / 61.

وقال: إني أحبها والله أعلم(1).

هكذا تأتي التأويلات الخجولة، غير المقتنعة والمقنعة، من أتباع مدرسة اختلاق تلك الصورة لتنأي بالخبر والحدث عن صورته وشخوصه الحقيقيين؛ إذ روت المصادر غير الشيعية: أن النبي صلی الله علیه و آله إذا سجد، وثب الحسن والحسين على ظهره - مع التحفظ على هذه الجزئية - فإذا رفع رأسه وأخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا، ووضعها على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى إذا صلاته أقعدهما على فخذيه(2). وأضافت مصادر أخرى: ثم قال: من أحبني فليحب هذين(3). وروت أنه: كان يحمل الحسن بن علي على عاتقه يقول اللهم إني أحبه فأحبه(4). وأنه: جاء إلى فناء بيت فاطمة عليها السلام فنادى الحسن ثم انصرف إلى فناء عائشة، فجاء الحسن علیه السلام فعانقه وقال: اللهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه ثلاث مرات(5). وعرضت مشاهد أخرى

ص: 625


1- فتح الباري، 364/10
2- ابن سعد: الطبقات، 6 / 361 - 362؛ أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 513؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 167؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 14/ 159؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 256؛ تاريخ الإسلام، 5 / 97؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 6/ 168.
3- النسائي: فضائل الصحابة، 20؛ السنن الکبری، 5/ 50؛ أبو یعلی: مسند، 8/ 434 ، 250/9 ؛ ابن خزيمة: صحيح، 2/ 48؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 47؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13 / 200، 14/ 150؛ ابن حجر: الإصابة، 2/ 63.وباختلاف بسيط: ابن سعد: الطبقات، 362-363/6
4- ابن سعد، الطبقات، 360/6 ؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/ 514؛ البخاري: صحيح، 4 / 217؛ مسلم: صحيح، 130/7 ؛ الترمذي: سنن، 5/ 327.
5- ابن سعد، الطبقات، 360/6 ؛ أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 331؛ البخاري: صحیح، 3/ 20؛ 7/ 55؛ الأدب المفرد، 249؛ مسلم: صحيح، 7/ 130؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 11 / 279؛ الزمخشري: الفايق في غريب الحديث، 3/ 211؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 191/13 ؛ النووي: شرح صحیح مسلم، 15 / 193؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 227؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 38؛ ابن حجر: فتح الباري، 4/ 286.

تتطابق بمؤداها وهذا المعنى(1).

إذن فهذه الروايات تعطينا صورا ودلائل ثبوتية وشهادات حية عن مشاهدات الجيل الأول من الصحابة. إلا أن «Lammens» يرد هذه الشهادات ويرفض تلك المشاهدات؛ بحجة أن بعضا من تلك المصادر تذکر تواجد أم الفضل کمرضعة للإمام الحسن الثلا. وهذه الموضوعة بنيت على ما يروى أنها قالت: رأيت كأن في بيتي عضوا من أعضاء رسول الله، فجزعت من ذلك، فأتيته وذكرت ذلك له، فقال: تلد فاطمة غلاما فتكفلينه بلبن ابنك قثم. قالت: فولدت حسنا، فأرضعته حتى تحرك أو فطمته (2) استغل «Lammens»المسوغات الفعلية والراجحة للتشكيك بخبر قيام أم الفضل بعملية الإرضاع ليشكك بمجمل الأخبار السابقة! متغافلا عن أنه أبقى في تحليله هذا على فجوة كبيرة. فإن كان ثمة ما يسوغ اختلاق قيام أم الفضل بالإرضاع؛ كأن يكون الايحاء بوحدة وتجانس العائلة العباسية والعائلة النبوية أو محاولة امتصاص النقمة المتولدة على العباسيين بعد فتكهم بال الحسن على إثر ثورة محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن عام (145ه-) (3). وهما التفسيران اللذان يبدوان أرجح مما افترضه من أن الخبر وظف لترطيب الأجواء السياسية بين العباسيين والفاطميين؛ فالخبر

ص: 626


1- ابن سعد، الطبقات، 6 / 359 - 378؛ أحمد بن حنبل: مسند، 4 /348،5/ 354 /6، 304 - 305؛ البخاري: صحيح، 2/ 134؛ 119/4 ، 216 - 217؛ ابن ماجة: سنن، 1/ 51؛ 1209/2؛ أبو داوود: سنن، 1/ 248؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 33/ 267 - 273؛ الترمذي: سنن، 5/ 322 - 323؛ النسائي: سنن، 3/ 108، 192؛ فضائل الصحابة، 20؛ الحاكم النيسابوري، 1/ 287؛ 3/ 164 - 166؛ 190/4 - 191؛ البيهقي: السنن الكبرى، 2/ 263؛ 3/ 218؛ 165/6
2- ابن سعد، الطبقات، 10 / 264؛ أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 339 - 340؛ ابن ماجة: سنن، 2/ 1293؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 3/ 242؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 45.
3- عن ثورتيهما ينظر: الطبري: تاریخ، 7/ 539 - 609.

متقدم على نشوء الدولة الفاطمية(1). ويبقى أن الأخيرين ينتمون للفرع الحسيني لا الفرع الحسني. وعليه إن كان هناك ما يسوغ الشك بقيام (أم الفضل) بالإرضاع فما مسوغات رفض الروايات الأخرى أو الشك بها؟! وفي حقيقة الحال لا يقدم « Lammens» أي تبرير مقنع لشکه، بل يناقض نفسه بشكل يرثى له!؛ إذ يقول: إن الروايات حاولت أن تبين أن الرسول كان مدركة تماما لدوره، وأنه إنما كان يتصرف معه بهذا الشكل، نتيجة لإدراكه ذلك الدور، ويضيف: إن هذه الرغبةأو الفضول، استغل من قبل عائلة علي، ووظف في العصور اللاحقة(2).

فهذه الروايات إنما وردت في مصادر لا تحمل على الإطلاق أي تصور في أحقية أهل البيت علیهم السلام بالخلافة فهي تنتمي للمدرسة المخالفة لفكرة النص والوصية وتعيين الخليفة من قبل النبي صلی الله علیه و آله . على أنه لا شك يعرف ذلك ولكن طالما ألفناه يتغافل في مواضع مماثلة! وهو هنا يناقض نفسه مرة أخرى؛ إذ قال في الصفحات الأولى من كتابه «Fatima et les Filles de Mahomet = فاطمة وبنات محمد»: الاحترام لأفراد العائلة، ولد في القرن الثاني الهجري، ولا يعني هذا بأنها مسألة تاريخية، بل صناعة مكانة؛ إذ أعطوا اهتماما خاصا لرفع مكانة وجه فاطمة الكئيب؛ فاحتل زوجها وابناؤها المكانة الأولى بالنسبة لواضعي هذه النظرية. نظرية العائلة المالكة أو عائلة الرسول (3)

فهل كان (ابن سعد / أحمد بن حنبل / البخاري / مسلم) وغيرهم من أقطاب المدرسة الحديثية والتاريخية السنية - الذين ذكروا كمصادر في الأحاديث السالفة على

ص: 627


1- بدأت الدعوة لها عام 288ه-، وقامت عام 296 – 297 ه-. المقريزي: اتعاظ الحنفا، 1/ 55 - 66. والخبر وارد عند ابن سعد المتوفي 230 ه-. وهو بطبيعة الحال يذكرها عن شيوخه مما يعني تراجع تواجد الخبر لما قبل ذلك بكثير.
2- atima et les Filles de Mahomet. p, 96.
3- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 15-16

الأقل - من واضعي هذه النظرية؟! كان على «Lammens» أن يلغي وجود المذاهب الأربعة ليبدو كلامه منطقيا!

ومن المواضيع التي حاول «Lammens» الالتواء عليها موضوعة حديث الكساء فقال: حادثة الكساء استغلت بقوة من قبل الشيعة، وقد تحدث القرآن عن زوجاته بعد وفاته، وخصوصا منعهن من الزواج؛ باعتبارهن أمهات للمؤمنين. وهو لم يحتو أي إشارة لوجودهم. سكوت من الصعب توافقه مع تفسيرات الشيعة. وفي القرآن قام محمد بتطهير الأشخاص المتواجدين في بيته، أو الذين يعيشون تحت سقف بيته، ويقصد بذلك «أزواجه / أهله» كما نفهم من اللغة العربية. ولم يفكر بعلي أو فاطمة الذين يعيشون لوحدهم، وفي بيتهم. هذا التحديد يضايق الشيعة الذين فضلوا الاستخدام العام للكلمة بمعناها الواسع. أي جميع أهل البيت، وحسب رأيهم فإن أهل البيت يخص علي وفاطمة وعائلتهم باستثناء الجميع. ففي يوم من الأيام صرح محمد عندما كان علي وفاطمة وابنيهما تحت غطائه بأن هؤلاء هم أهل بيتي «أهل الكساء» وبأنهم تمتعوا بالخصوصية أو الامتياز الخاص من القرآن. وفي ظروف متأخرة وسع هذا المعنى اعتمادا على حديث لأم سلمة، بأن صفة أهل البيت شملت آل عقيل والعباس، وهذا التوسع استوحي من ضرورة سياسية. وقد استمر الشيعة بوضع هذه الفكرة لصالح آل علي. ولكن نحن نعرف الحديث الذي صرح به محمد بأنه يفضل عائشة من النساء، وأبو بكر من الرجال. وقد عورض هذا التصريح بقوله: أعز الناس فاطمة ثم علي. فاطمة أحب إلي منك وأنت أعز علي منها. وفي يوم من الأيام وجد الحسن أهله نائمين، وبدل أن يقوم بإيقاظ والديه، قام النبي وسقاه حليب شاة. وهنا نرى كيف يبحث دائما عن إزالة حالة الضعف والغموض الذي احتوته السيرة. في الكتابات الأوليةتحتل فاطمة مكانة أكبر مما في القرآن(1).

ص: 628


1- Fatima et les Filles de Mahomet. pp, 97-101.

إذن «Lammens» أمام عدم قدرته على نفي هذه المفاصل من السيرة، لم يبق لديه إلا أن يجتر نعيق المعترضين على هذه الأدلة الصريحة من قبله؛ بغية تأويلها وصرفها عن مدلولاتها الصريحة القطعية الصدور. فتعليقه على حادثة الكساء ورفضه الاختصاص أهل البيت عليهم السلام بآية التطهير اعتمادا على فهمه للعربية، وأن الخطاب في الآية القرآنية كان موجها للأزواج. هو رأي يعوزه الكثير من الاتزان وينقصه صدق الدعوى في الاحتكام لقواعد اللغة العربية أو معرفتها!؛ فالخطاب في (آية التطهير) مختلف تماما عن الخطاب في الآيات السابقة واللاحقة له. قال تعالى في سورة الأحزاب:

«یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُل لِّأَزْوَاجِکَ إِن کُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیْنَ أُمَتِّعْکُنَّ وَأُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحًا جَمِیلًا (28) وَإِن کُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنکُنَّ أَجْرًا عَظِیمًا (29) یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ مَن یَأْتِ مِنکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَیِّنَةٍ یُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَیْنِ ۚ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرًا (30) وَمَن یَقْنُتْ مِنکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَیْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا کَرِیمًا (31) یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32)»

فواضح أن الخطاب بداية كان للجمع المؤنث - کنتن / تردن/ اسرحکن - ومن ثم انتقل في آية التطهير لمخاطبة الجمع المذكر - عنکم الرجس أهل البيت - ثم عاد المخاطبة الجمع المؤنث - واذكرن/ بیوتکن -. ولو كانت الآية مختصة بأزواج النبي صلی الله علیه و آله لالتزم ذلك وحدة السياق في المخاطبة، فيقال: ليذهب عنكن الرجس ويطهركن تطهيرا! أضف لذلك أن الآية تصرح بوصف المجموعة، ولم يرد أن النبي صلی الله علیه و آله جمع زوجاته وخاطبهن بهذا الخطاب. وحتى الخبر الذي تعلق به بعضهم؛ لمحاولة نفي

ص: 629

خصوص التطهير بأهل البيت علیهم السلام وشموله للأزواج(1).

فهو إنما يتحدث عن تواجد أم سلمة دون غيرها؛ فقد نقل عنها أنها قالت: إن النبي صلی الله علیه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة، فدخلت عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي والحسن والحسين، فدخلوا عليه، فجلسوا. وكان تحته كساء له خيبري. قالت: وأنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. اللهم هؤلاء أهل بيتي، وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير إنك إلى خير (2).

وفي لفظ : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟ قال: بلى إن شاء الله تعالى (3).

وهنا فضلا عن تعارض اللفظين، وما فيه من دلالة على اضطراب ذيل الرواية، وترجيح التصرف بها؛ لتوسيع نطاق اللفظ فهو لايعني شمول أم سلمة لأن دلالة الخصوصية واضحة بأنها منحصرة بمن دخلوا تحت الكساء، وإلا لسمح بدخولها معهم. ويبقى القول: إن الروايات تشير لتواجد أم سلمة دون باقي الأزواج في حين كان الخطاب جمعية، والمجموعة المتواجدة آنذاك هم أصحاب الكساء. وكانت النصوص الصريحة والمتواترة - في كتب غير الشيعة - حددت وبشكل قاطع لا يقبل

ص: 630


1- الرازي: المحصول، 4/ 171 - 173.
2- أحمد بن حنبل، مسند، 292/6 ؛ الترمذي: سنن، 5/ 30 - 31؛ 5/ 328؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 416/2
3- البيهقي: السنن الکبری، 2/ 150.

التأويل الشخوص المقصودين بالآية الكريمة(1). وصرحت أن النبي يا ولأجل ترسيخ هذه الخصوصية، وإيصال حقيقتها لأكبر عدد ممكن من المعاصرين! وربما للحيلولة دون أية تأويلات مستقبلية محتملة!؛ كان ولستة أشهر إذا خرج للصلاة، يمر بيت فاطمة عليها السلام ويقول: الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(2).

إذن دعاوى «Lammens» لا تستند إلا لرغبته في فرضها !

ص: 631


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 501/7 ؛ إسحاق بن راهويه: مسند، 3/ 678؛ أحمد بن حنبل، مسند، 1 / 331؛ 107/4 ؛ 292/6 ؛ مسلم: صحيح، 130/7 ؛ النسائي: سنن، 5/ 108؛ الطبراني: المعجم الصغير، 1/ 135؛ المعجم الأوسط، 3/ 166، 380؛ المعجم الكبير، 3/ 54، 56، 4/ 134؛ ابن حبان: طبقات المحدثين بأصبهان، 3/ 384؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 133، 147 - 148؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 100؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 12 - 20؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 10/ 347؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 91/7 ؛ ابن حجر: الإصابة، 4 / 467؛ 8/ 265؛ فتح الباری، 7/ 104 .
2- الطيالسي: مسند، 274؛ أحمد بن حنبل، مسند، 3/ 259، 285؛ الترمذي: سنن، 5/ 31؛ الضحاك: الآحاد والمثاني، 360/5 ؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 59/7 ؛ الدولابي: الذرية الطاهرة، 149 - 150؛ ابن حبان: طبقات المحدثين بأصبهان، 4/ 149؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 5/ 158؛ ابن عبدالبر، الاستیعاب، 4 / 1542؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 134؛ میزان الاعتدال، 2/ 381.

(2)عدم الذكاء والشهوانية.. قصدية النص وانتاج الخطاب

تعليقا على ما قدمه من صورة قائمة للإمام علي والزهراء عليها السلام عمل «Lammens» على جر تأثيرها على الحسنين عليهما السلام فقال: ونظرا لأن عليا وفاطمة كانا متوسطي الذكاء؛ فإن تطور الأطفال الفكري كان بطيئا، فقد احتاج الحسن إلى وقت طويل حتى استطاع الكلام «أبطأ بالكلام». حاول محمد اخراجه من ذلك، من خلال التكبير في أذنه لخمس مرات، فرددها الطفل، مما جعله يردد «الله أكبر» فرحا وسرورا بنطقه. وفي إحدى المرات زارت فاطمة أباها مع طفليها، وطلبت منه أن يقدم لها هدية، فأجابها بأنه أعطى الحسن الذكاء والاعتدال، وأعطى الحسين الكرم والاعتبار أو الاحترام، ثم وضعهم على فخذيه أو في حجره(1). وقال في موضع آخر: ويلوح أن الصفات التي كان يتصف بها الحسن هي: الميل إلى الشهوات، والافتقار إلى النشاط والذكاء!(2).

أما دعواه أنه لم يكن ذكيا لأنه أبطأ بالكلام، فهو ما قرره بناء على رواية البلاذري الذي نص على أن الإمام الحسن عليه السلام : أبطأ بالكلام، فخرج النبي إلى البيت وهو معه، فلما كبر النبي كبر الحسن، فسر ذلك النبي حتى تبين من معه السرور في وجهه. وهكذا إلى سبع تكبيرات، فوقف الحسن عند السابعة. وقرأ النبي وركع، ثم قام في الركعة الثانية، فكبر وكبر الحسن، حتى انتهى إلى خمس تكبيرات فوقف الحسن عنده، وتلك سنة العيد(3). أي في صلاة العيدين. بداية الرواية وتنزلا عند فرض صحتها؛ وإلا فهي مضطربة في متنها؛ إذ

ص: 632


1- Fatima et les Filles de Mahomet. p, 97.
2- Encyclopaedia of Islam. V3,274
3- أنساب الأشراف، 3/ 277.

تقول: إن النبي صلی الله علیه و آله خرج إلى البيت. وهذا ما يشعر بأنه خرج من المسجد أو نحوه، وأن الصلاة تمت في البيت، ومن ثم تقول: حتى تبينا السرور في وجهه. وهذا ما يشعر بأن الصلاة تمت في المسجد؛ فهي تتحدث عن لسان الجماعة، ورؤيتهم لذلك الفرح والسرور على وجه النبي صلی الله علیه و آله هذا من جانب. ومن جانب آخر: الرواية لم تخبرنا عن مدة الإبطاء التي استوجبت ذلك القلق. أو على الأقل الفرح بسبب نطق الإمام علیه السلام أخيرا؟! وبحسب الظاهر وطبيعة النطق لدى الأطفال - على أقل التقادير - أنه أتم سنته الأولى من دون أن ينطق، وإذن فنحن على أعتاب السنة الرابعة للهجرة(1)، في حين تؤكد المصادر أن الصيام إنها فرض في السنة الثانية للهجرة(2). وهناك من ابتعد في وقت فرضه حتى العهد المكي(3). ثم إن تشريع التكبير كان مقترنا بتشريع الصيام «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِی أُنزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدًی لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَی وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ ۖ وَمَن کَانَ مَرِیضًا أَوْ عَلَی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَیَّامٍ أُخَرَ ۗ یُرِیدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلَا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ وَلِتُکْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُکَبِّرُوا اللَّهَ عَلَی مَا هَدَاکُمْ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ»(4). فهل كان المسلمون لا يصلون ولا يكبرون في أعيادهم حتى السنة الرابعة للهجرة؟!

ومن استباحات «Lammens» المخجلة التي يترفع عنها التوائه على ما يروی من أن السيدة فاطمة علیها السلام جاءت بالحسنين للنبي صلی الله علیه و آله فقالت: أنحلهما. فقال: قد نحلت الحسن الحلم والحياء، ونحلت الحسين الجود والمهابة، ثم أجلسهما على فخذيه(5). وفي لفظ: هذان ابناك فورثهما شيئا. فقال: أما حسن فله هيبتي وسؤددي، وأما حسين فله

ص: 633


1- ابن عبد البر: التمهيد، 204/7 ؛ ابن حجر: فتح الباري: 1/ 447 ،4/ 127؛ العيني: عمدة القاري، 295/10 ؛ 7/11 ؛ البداية والنهاية، 3/ 419؛ السيرة النبوية، 2/ 546.
2-
3- ابن كثير: البداية والنهاية، 2/ 429، السيرة النبوية، 1/ 377.
4- البقرة / 185.
5- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 278.

جرأتي وجودي(1). فكان أن ترجم الجود والمهابة أو هيبتي وسؤددي بالذكاء والاعتدال! ولعل مجرد إدراك هذه الاستباحة والامتهان للنص هو مما يدعو للترفع عن مناقشته.

ومن التجنيات الكبيرة التي سوقها الرواة والمؤرخون مسألة الشهوانية وكثرة الزواج والطلاق. وهو افتراء بثه مبغضو أهل البيت علیهم السلام من أمويين وعباسيين عن طريق أجرائهم في الرواية والتدوين. من دون أن يقيموا حجة واحدة على دعواهم تلك !؟ كأن يقدموا لنا جردا بأسماء وقبائل تلك الزوجات اللاتي تراوح عددهن بين (70- 300» !؟ أو أن يكون له أولاد كثيرون كناتج لكثرة تزويجه !؟ أو أن تكون المدة والظروف التي عاشها الإمام علیه السلام مما يسمح له بأن يقدم على هذه الزيجات الكثيرة. وهكذا كثير من الإشكالات المنطقية والعقلية على تلك الدعوى التي حيكت في أروقة المنظومات الاعلامية والدعائية الأموية والعباسية؛ فزوجوها وتناقلوها على أنها حقيقة تاريخية انتقلت عبر شبكة من الرواة وصولا للنصف الأول من القرن الهجري الأول! ولم يكن من « Lammens» أمام هذا الصيد الوفير، إلا أن يسارع لإعادة انتاجها بشكل أكثر إساءة! فقال: ويلوح أن الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات، والافتقار إلى النشاط والذكاء، وقد انفق سني شبابه بالزواج والطلاق؛ فأحصي له حوالي المائة زيجة عدا،وألصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق، وأوقعت عليا في خصومات عنيفة. وأثبت الحسن كذلك أنه مبذرة كثير السرف؛ فقد اختص کلا من زوجاته بمسكن ذي خدم وحشم، وهكذا نرى كيف كان يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتد عليها الفقر. وترك العراق مشيعا بسخط

ص: 634


1- الضحاك: الآحاد والمثاني، 1/ 299؛ 5/ 370؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 13 / 230؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 5/ 467؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 10/16؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 400 الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 185؛ ابن حجر: الإصابة، 8/ 158؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 268 /7

الناس عليه ليقبع في المدينة، وهناك عاد إلى حياة اللهو واستسلم للملذات (1).

لا ريب أن ما جرأ «Lammens» على تشويه صورة هذه الذات المقدسة - كما صورة النبي وباقي أهل البيت عليهم السلام - هي تلك المرويات التي روجها باعة الضمائر، من صنائع الأمويين والعباسيين، ومن تلقفها منهم من الذين اؤتمنوا على تاريخ الإسلام وتراثه، وهم أبعد ما يكونون عن الأمانة فبثوها في مؤلفاتهم! وكان من أبرز الذين أدوا هذا الدور، بصورة لا يشك أبدا في قصديتها ونيتها المسبقة بإبراز هذه الجنبة الكاذبة والمختلقة في سيرة الإمام الحسن عليه السلام هو (ابن سعد. ت 230ه-) في كتابه الطبقات الكبرى فليس هناك ثمة تفسير آخر لقصدية تجميع تلك النصوص، والصور المختلفة عن كثرة تزویجوطلاق الإمام الحسن عليه السلام وتقديمها في ضمن نسق روائي يريد الإيحاء، بل التأكيد على وجود هذه الجنبة في سيرته! مع إهمال جوانب أخرى كثيرة مشرقة، وداعية للفخر والتمجيد والاعتزاز بهذه الذات المقدسة، كأن تكون جنبة العلم / الحكمة / الكرم والسخاء.. التي لم يوجد بين معاصري الإمام عليه السلام من يباريه فيها؟

ولعل اهماله لهذه الموضوعات هو مما يؤكد عدم نزاهته، ولعل بعض الصور التي حكاها في موضوعة كثرة الزواج والطلاق، إنها تعكس ضوءا من هذه الجنبة الروحية الإسلامية الكريمة، ولكنها فسرت، وحشرت في ضمن سياقات أرادت الإيحاء بأنها تعكس جانبا من الشخصية الفوضوية، والمبذرة المسرفة التي كان عليها!

فكان مما قدمه:

1/ أنه خطب من أحد الأشخاص فقال له: والله إني لأنكحك وإني لأعلم

ص: 635


1- Melanges de la faculte Orientale, 1907, pp. 39 .42 Encyclopaedia of Islam. V3,274

أنك علق (1) طلق ملق(2) غير أنك أكرم العرب بيتا وأكرمه نسبا. وأنه كان إذا أراد أن يطلق إحدى نسائه - وكان مطلاقا . يجلس إليها فيقول: أيسرك أن أهب لك كذا وكذا؟ هو لك مرارا فيما وصف. ثم يخرج فيرسل إليها بطلاقها(3).

2/ وروى أنه كان : قل ما يفارقه أربعة حرائر! وكان صاحب ضرائر. وكانت عنده زوجة فزارية وأخرى أسدية فطلقها، وبعث لكل واحدة منها عشرة آلاف درهم وزقاق من عسل متعة، وقال لمولاه: احفظ ما يقولان لك. فقالت الفزارية: بارك الله فيه وجزاه الله خيرا، وقالت الأسدية: متاع قليل من حبيب مفارق. فرجع فأخبره فراجع الأسدية وترك الفزارية(4).

3/ وروى أن الإمام علي علیه السلام قال: يا أهل الكوفة إن الحسن رجل مطلاق فلا تزوجوه! وأنه قال: ما زال الحسن يتزوج ويطلق حتى حسبت أن يورثنا عداوة في القبائل !(5).

4 / وروى أنه: أحصن تسعين امرأة!(6).

ومن المؤلفين الذين روجوا لهذه الفرية والكذبة (أبو طالب المكي ت. 386ه-) في كتابه قوت القلوب إذ جاء على ذكر أكاذيب و موضوعات يندى لها جبين الإسلام خجلا في محاولة - لیست بريئة - لعقلنة الروايات السابقة !؟ فادعى أن الإمام الحسن علیه السلام ورث هذه الصفة عن أبيه وجده رسول الله صلی الله علیه و آله !؟ فقال: إلا أنه لشدة

ص: 636


1- العلق: الهوى أو الحب الشديد. الفراهيدي: العين، 1/ 162- 163. الجوهري: الصحاح، 1592/4
2- الود واللطف الشديد. الفراهيدي: العين،174/5
3- ابن سعد، الطبقات، 6 / 371.
4- الطبقات، 6 /374 - 375.
5- الطبقات، 6 / 375.
6- الطبقات، 6 / 377.

عدله كانت نفسه إذا تاقت إلى واحدة في غير ليلتها، أو نهارا في غير يومها، أتاها فجامعها، ثم طاف في ليلته على سائرهن، وكذلك كان يفعل في يومه، فمن ذلك ما روي عن عائشة وغيرها: أنه طاف على نسائه في ليلة واحدة! وعن أنس طاف على تسع نسوة في ضحوة. وتزوج علي بعشر نسوة. وتوفي عن أربع، وسبع عشر سرية، وكان بعض أمراء الشام إذا بلغه عنه كثرة نكاحه يقول: لست بنكحة ولا طلقة يعرض له بذلك. ويقال إنه تزوج بعد وفاة فاطمة بتسع ليال، وتزوج الحسن بن علي مائتين وخمسين امرأة، وقيل ثلاثمائة، وقد كان علي يضجر من ذلك ويكرهه حياء من أهليهن إذا طلقهن! وكان يقول: إن حسنا مطلاق فلا تنکحوه. وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول الله. وكان يشبهه في الخلق والخلق، فقد قال له: أشبهت خلقي وخلقي. وكان الحسن ربما عقد على أربعة، وربما طلق أربعا(1).

إذن فقد أفصح أبو طالب المكي - من حيث لا يشعر - عندما أشار لتعيير أمير الشام! بأن معاوية والمؤسسة أو المنظومة الدعائية الأموية المتكونة من بعض الصحابة والتابعين وغيرهم! هم من كانوا وراء اختلاق هذه النصوص المزيفة التي اجترها هو ومئات من سابقيه ولاحقيه بقصد ونية مسبقة، وفي أحيان قليلة بسذاجة وقلة فهم؛ وإلا هل قصرت معلومات أولئك المزيفين عن معرفة أسماء أو قبائل أو أخبار بعض أولئك الزوجات؟! فهم لا يثبتون له إلا عدد قليلا منهن، لا يشذ إن لم يكن أقل من أعداد زوجات عدد من معاصریه،فكل ما يثبتوه له هو (10 نسوة) (2). فأين الثمانين الأخريات !؟ أو المائتين والأربعين أو المائتين والتسعين؟!

في حين ذكر لسعد بن أبي وقاص (12 زوجة)(3). ولعبد الرحمن بن عوف

ص: 637


1- .480 ،479 /3
2- ابن سعد: الطبقات، 6/ 352؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 305-306.
3- ابن سعد، الطبقات، 3/ 128 - 129.

(17 زوجة)(1). إذن من يدعي كثرة زوجاته لم يذكر له منهن إلا ما دون بعض معاصريه! وكذلك الحال بالنسبة للأولاد فكل ما بنكر له هم (26 ولد)(2)! وهي نسبة طبيعية جدا بمحيط ذلك العصر، وبالإمكان أن تتأتى من زوجة واحدة أو زوجتين على الأكثر، ولو فرضنا أن ربع العدد الذي ذكره أولئك المزيفون من الزوجات ولدن للإمام عليه السلام لكان لديه من الأولاد ضعف هذا العدد على الأقل؟! ولو قارنا نسبة أولاده بأولاد غيره لتبين لنا بوضوح طبيعية نسبة الانجاب لديه. فمثلا عبدالرحمن بن عوف كان له (28 ولد). وكان لسعد بن أبي وقاص (36 ولد)(3). وهذا ما يعطي دليلا صريحا على خرافية تلك الأخبار وأنها تستبطن الإساءة لهذه الشخصية، لا رصد حيثيات سيرته الشخصية!

ولعل مما يكذب الصور المسيئة التي رسمها ابن سعد دفعة واحدة، أن مصدرها الوحيد هو الواقدي (ت 207 ه-)!؟ وأن إسناده لتلك الأخبار لا يتعداه! ولو كان الأخير ذکر سلاسل اسناده لتلك الأخبار لسارع ابن سعد لتكرارها كما فعل مع غيرها من الروايات. وهذا يقود للترجيح أن الأول - الواقدي - هو الآخر لم يحصل على سلاسل إسناد تمتد للعصر الذي يتحدث عنه !؟ وبالنتيجة فنحن مع نصوص ابن سعد المنقولة عن الواقدي نقف بمسافة (80 سنة) فاصلة بين ولادة الراوي - الواقدي . واستشهاد الإمام الحسن عليه السلام عام (50ه-) ! إذ ولد الواقدي عام (130 ه-)(4). وإذا ما وضع في الحسبان أن النصوص تتحدث عن زمن خلافة الإمام علي عليه السلام فهي تنص على تحذيره أهل الكوفة من تزويج الإمام الحسن عليه السلام أي: إنها تتحدث عن

ص: 638


1- ابن سعد، الطبقات، 3/ 118 - 119.
2- ابن سعد، الطبقات، 352/6
3- ابن سعد: الطبقات، 3/ 118 - 119؛ 128 - 129.
4- ابن سعد: الطبقات، 611/7 .

السنوات (35 - 40 ه-) نكون حينها بمعزل زمني - بين ولادة الراوي وزمن النصوص - يتراوح بين (90 - 95 سنة) ! وعلى فرض جمع - الواقدي - للأخبار بعد بلوغه سن العشرين، نكون بمعزل عما يروى بمسافة (110 - 115 سنة) ! وإذا ما افترضنا أنه التقط الأخبار الخاصة بسيرة الإمام الحسن عليه السلام بعد وروده للعراق، على اعتبار كون الصور التي تحدث عنها ابن سعد مخصوصة بمدة تواجد الإمام عليه السلام في الكوفة ومن الطبيعي أن تستقي من الشخوص المقيمين فيها أو في العراق عموما، تكون حينها قد ابتعدنا بمسافة (140 - 145 سنة) إذ إنه قدم العراق عام (180ه-)(1). زد على ذلك أن الواقدي: متروك الحديث، يقلب الأحاديث، ليس بشيء، لا يتابع على حديثه، لا يرضى في الحديث ولا في الأنساب ولا في شيء(2). وذكر أنه كان يضع الحديث، وأنه يروي عن الثقات المقلوبات، وعن الاثبات المعضلات، حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد. وكان أحمد بن حنبل يكذبه(3). وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : لم اسق ترجمته هنا لاتفاقهم على ترك حديثه(4).

ومما يرجح كذب مرویات ابن سعد المتحدثة عن كثرة التزويج والطلاق، أنه لم يشر أن أيا من النسوة اللائي خطبهن أو تزوجهن قد اعترضن أو ترددن بقبول الزواج منه كونه كثير التزويج والتطليق !؟ وكان من المنطقي أن يتحدث أو يشار لاعتراضات من هذا القبيل؛ إذا كانت الحالة المدعاة متواجدة وحاضرة في حياته ؟! ولكن بما أننا لم نشهد شيئا من ذلك؛ فإذن ليس هناك ثمة ما يدعو تلكم النسوة للريبة من الاقتران به وبالنتيجة كذب ما يدعي من كثرة تزوجه وتطلیقه فضلا عن ذلك كانت بعض

ص: 639


1- الخطيب البغدادي: تاریخ بغداد، 3/ 213؛ الواقدي: المغازي، 1/ 7 (المحقق).
2- العقيلي: الضعفاء الكبير، 4/ 107 - 109.
3- ابن حبان: المجروحين، 2/ 290؛ المزي: تهذيب الكمال، 26/ 180 - 193.
4- 348/1

المصادر التي روجت لهذه الفرية قد أوردت نصوصا تدل على أن هذه الصفة التي ألصقت بالإمام عليه السلام إنما هي مما ينطبق على أعداء أهل البيت عليهم السلام وفي مقدمتهم المغيرة بن شعبة فقد ورد أنه كان من مشاهير الزناة، وأنه زني في البصرة أثناء ولايته عليها، ورفعت القضية إلى عمر بن الخطاب فدرأ عنه الحد بقصة طويلة تواتر ذكرها في كتب التاريخ(1). وأنه كان نکاحا للنساء، وكان ينكح أربعا جميعا ويطلقهن جميعا(2). وذكرت أنه قال: أحصنت (70 أو 80مرأة). وقيل: (300 أو 1000 امرأة). وكان يقول: صاحب الواحدة إن زارت زار، وإن حاضت حاض، وإن نفست نفس، وإن اعتلت اعتل معها بانتظاره لها، ووجدت صاحب الثنتين في حرب!؛ هما ناران يشتعلان، ووجدت صاحب الثلاث في نعيم، وإذا كن أربعا كان في نعيم لا يعدله شيء(3). وروي: أنه كان تحته أربع نسوة، فصففن بين يديه، فقال: إنكن حسنات الأخلاق طوالات الأعناق، ولكني رجل مطلاق أنتن طلاق! وفي لفظ: إنكن الطويلات الأعناق وکريات الأخلاق ولكني رجل مطلاق اعتددن(4). وروي: أنه لما كان يوم القادسية طعن المغيرة بن شعبة في بطنه، فجئ بامرأة من طيء تخيط بطنه، فجعلت تخيطه، فلما نظر إليها وهي تخيط، قال: ألك زوج؟! قالت: أوما يشغلك ما أنت فيه من سؤالك إياي ؟!(5).

ص: 640


1- الطبري: تاریخ، 69/4- 70؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 60 / 37 - 39؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4/ 231 - 232؛ ابن الأثير: الكامل، 541/2 - 542.
2- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 60 / 55؛ المزي: تهذيب الكمال، 28/ 373؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 31؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 360/5
3- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 60/ 54، 55؛ المزي: تهذيب الكمال، 28/ 373؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 360/5 - 365؛ السيرة، 4 / 665.
4- ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 60/ 54؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 4 / 123؛ سير أعلام النبلاء، 3 /31
5- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 60/ 54.

ومع احتمالية المبالغة في بعض هذه الصور يبقى القول أن الأقرب للصحة أن أغلب الصور إنما حولت من كونها مختصة بالمغيرة لتلصق بالإمام الحسن عليه السلام. ومن اللافت للنظر أن ابن سعد على الرغم من ذكره للمغيرة على دفعتين في طبقاته(1) لم يذكر عنه إلا أنه أحصن مائة امرأة بين قرشية وثقفية (2) !؟ وألمح بصورة مبهمة لقضية ارتكابه الزنا في البصرة فقال: شهد أبو بكرة وشبل بن معبد، ونافع بن الحارث(3) وزياد على المغيرة بن شعبة بالحدث الذي كان منه بالبصرة، عند عمر بن الخطاب، فضربهم عمر الحد غير زياد؛ لأنه لم يتم الشهادة عليه(4).

وأعاد هذه الإشارة المبهمة في ترجمته لأبي بكرة فقال: «وكان فيمن شهد على المغيرة بن شعبة، بتلك الشهادة فضرب الحد»(5). وفي الترجمة المقتضبة لأخيه من أمه شبل بن معبد(6).

فلماذا هذا التمويه والتعتيم المقصود على تلك الحادثة !؟ ثم أين الالتزام الديني الصارم والشديد الذي كان عليه الإمام الحسن عليه السلام من التهتك والانحلال الأخلاقي الذي كان عليه المغيرة؟! سيما وأن بعض الشهادات قد صدرت منه شخصية والأخرى من معاصريه بأنه مارس الزنا. ومن وجهة نظر مادية المغيرة بن شعبة كان يتمتع بظروف اجتماعية واقتصادية هي أفضل بكثير من ظروف الإمام الحسن عليه السلام من خلال ارتباطه بمؤسسة السلطة حتى وفاته.

ص: 641


1- 5/ 173 - 180؛ 8/ 143.
2- الطبقات الکبری، 5 / 178.
3- بن الحارث بن كلدة الطبيب. وهو ابن سمية أم زياد بن أبيه، وأخويه منها: أبو بكرة وشبل بن معبد. ابنسعد: الطبقات الکبری، 69/9 ؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 385.
4- الطبقات الکبری، 5/ 179.
5- الطبقات الکبری، 16/9
6- الطبقات الکبری، 304/6

هذا فضلا عن كونه أحد أبرز أدوات الدعاية الاعلامية الأموية التي كلفت بمهمة تشويه صور أهل البيت علیهم السلام وأنه كان ينال في خطبته من الإمام علي علیه السلام وأقام خطباء ينالون منه(1).

وعليه فأمام الاستعداد الخلقي اللامسؤول والحالة الاقتصادية الجيدة وانعدام الالتزام الديني، من الراجح أن يقدم المغيرة بكل سهولة على فتح الباب على مصراعيه أمام غرائزه وشهواته ويطلب اشباعها والافراط فيها، من دون مراعاة للالتزام دیني أو عرف وتقليد. وإلا في هذه المصادفة الملفتة للنظر في الأرقام والصفات وحالات الطلاق والزواج الجماعية !؟

و بالاحتكام للحسابات الطبيعية والظروف التي أحاطت حياة الإمام علیه السلام لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أنه عاش ظروفا لم تكن تسمح بالمرة بأن يصرف وقته في زيجات غير مبررة!؛ إذ تمخضت عن صراعات ومواجهة قائمة على قدم وساق !؛ فلم تمهله الأحداث والانقلابات والخيانات فرصة لالتقاط أنفاسه! فضلا التفكير بتلك الأمور.

ومرة أخرى يؤكد ابن سعد قصديته ونيته غير البريئة وغير النزيهة، في رسم تلك الصورة للإمام الحسن علیه السلام من خلال التغاضي عن تواجد بعض مفاصلها في حياة غيره ممن ترجم لهم. فعلى منوال ما فعل في ترجمته للمغيرة نراه لا يتطرق في ترجمته لمصعب بن الزبير(2) لمغالاته في مهر اثنتين من زوجاته؛ إذ أمهر كلا منهما ألف ألف درهم فكان ذلك سبب عزله عن العراق، وغدا مغمزا يغمز عليه؛ فقد كتب أنس بن زنيم (3)لأخيه عبد الله بن الزبير :

ص: 642


1- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 31.
2- الطبقات، 7/ 181 - 182.
3- شاعر مخضرم أسلم يوم الفتح وأدرك حكومة آل الزبير. ابن الأثير: أسد الغابة، 1 / 124؛ الصفدي:الوافي بالوفيات،237/9 - 238؛ ابن حجر: الإصابة، 271/1 - 273.

أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** من مؤمن لا يريد خداعا

بضع الفتاة بألف ألف كامل *** وتبیت قادات الجنود جياعا

لولا لأبي حفص أقول مقالتي *** وأبث ما أبثثتكم لارتاعا(1)

هكذا تتضح جلية سياسة الكيل بمكيالين عند ابن سعد وإلا فأين مهر العشرة آلاف من مهر الألف ألف؟ وعلى فرض صحة بعض الجزئيات في تلك النصوص، يبقى أن المصادر قدمت بعض الصور بشكل مستلب ومجرد عبر انتزعها من حاضنتها الموضوعية وخصوصيتها الظرفية؛ وقدمت في نسق قوامه قصد الإساءة، وإثارة الاحساس لدى القارئ بكثرة تلك الزيجات، حتى بدت وكأنها صورا متفردة مستهجنة! ومثال ذلك الصورة التي قدمت عن تطلیقه لزوجتيه وبعثه لكل واحدة منها عشرة آلاف درهم وقول حداهما: بارك الله فيه وجزاه خيرا. وقول الأخرى: متاع قليل من حبيب مفارق. وأنه راجع إحداهما وترك الأخرى!

ففضلا عن أن هذه الصورة تفصح عن تناقض كبير في ألفاظها ومضامينها؛ فالمصادر لا تكاد تتفق على هوية الزوجتين! - وبغض النظر عن ذلك - نجد مصادر أخرى تقول أنه: لم يراجع أية منهما(2)، ولعل ما يرجح ذلك قولهما: جزاه الله خيرا. ومتاع قليل من حبيب مفارق. وقد علل البعض ذلك: بأنه طلقهما ثلاث مرات في مجلس واحد فحرمتا عليه ولذلك قال: لولا أني سمعت جدي رسول الله أو سمعت أبي يحدث عن جدي أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا عند الأقراء أو طلقها ثلاثا

ص: 643


1- ابن قتيبة: المعارف، 233؛ أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 3/ 361
2- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 7/ 73 - 74؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 27؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 119/6

مبهمة لم تحل له حتی تنکح زوجا غيره لراجعتها(1). ومن المعلوم أن إيقاع الطلاق بهذه الكيفية مخالف لمذهب أهل البيت عليهم السلام فإن الطلاق ثلاثا في مجلس واحد يعد بمثابة تطليقة واحدة (2).

ومع فرض أن هذا التعليل ألحق في الرواية فيما بعد؛ كمحاولة لتبرير قاعدة فقهية متعلقة يبقى القول إن العودة للحاضنة الفقهية لهذه الصورة تخبر أنها تنطلق من تشریع قرآني يقول «لَّا جُنَاحَ عَلَیْکُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِیضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَی الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَی الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَی الْمُحْسِنِینَ»(3). إذن فالقرآن يدعو كل ذي سعة لأن يعطي على قدرسعته، ويبقي المتحكم هو کرم نفس المطلق، وظرف المطلقة وسبب الطلاق، فربما متعت المرأة بجارية أو بخادم أو بملابس أو بھائة أو خمسمائة درهم أو غيرها(4)

وبالعودة لظرف وسبب الطلاق الذي حكته بعض المصادر، نجد خصوصية لهذه الحادثة فقد روي أن تلك الزوجة قالت - من غير نية سوء - للإمام الحسن عليه السلام لما دخل عليها بعد استشهاد أمير المؤمنين 7: لتهنك الخلافة، فقال: أظهرت الشابة بقتل علي! أنت طالق. فتقنعت بسلع لها وجلست في ناحية البيت، وقالت: أما والله ما أردت ما ذهبت إليه، فأقامت حتى انقضت عدتها ثم تحولت عنه، فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها عليه، وبمتعة عشرة أو عشرين ألف درهم (5).

ص: 644


1- الطبراني: المعجم الكبير، 91/3 ؛ الدارقطني: سنن، 4/ 20؛ البيهقي: السنن الکبری، 7/ 257؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13 / 25؛ القرطبي: الجامع، 3/ 202.
2- الكليني، الكافي، 6 / 58 - 61؛ الطوسي: الاستبصار، 3/ 285 - 291.
3- البقرة / 236.
4- ابن عبد البر: الاستذکار، 6 / 119؛ القرطبي: الجامع، 201/2 - 202.
5- الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 91: البيهقي: السنن الكبرى، 257/7 ؛ ابن عساکر، تاریخ، 13 / 250؛الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 262.

وعليه فلربما كان الخطأ غير المقصود الذي ارتكبته هذه الزوجة، والألم الذي سببته الكلمة التي قالتها، فضلا عما عرف عن الإمام عليه السلام من کرم يباري السحاب هو ما جعله يتعامل معها بهذه الصورة، فيطلقها ولكن بنفس الوقت يحاول أن يخفف عنها ألم ندمها على ما قالت وفراقها له؛ ولذلك قالت: متاع قليل من حبيب مفارق. هذا فضلا عن أن المصادر في النص الأخير تحدثت عن زوجة واحدة طلقت بهذه الكيفية لا زوجتان !؟ ومع كونهما زوجتين فيها روي من كرم الإمام عليه السلام له ما دون ذلك بكثير فقد روي : أنه سمع رجلا يسأل ربه أن يرزقه عشرة آلاف، فانصرف وبعث بها إليه(1). وروي أن رجلين أحدهما من بني هاشم والآخر من بني أمية تفاخرا، فقال كل لصاحبه: قومي أسمح من قومك، واتفقا أن يسأل كل منهما أصحابه، فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة فأعطاه كل واحد منهم (10 آلاف درهم) وانطلق صاحب بني هاشم إلى الإمام الحسن عليه السلام فأعطاه (150 ألف درهم) ثم أتى الإمام الحسين عليه السلام فقال: هل بدأت بأحد قبلي؟ قال: بدأت بالحسن. قال: ما كنت أستطيع أن أزيد على سيدي شيئا، فأعطاه (150 ألف درهم). فجاء صاحب بني أمية يحمل مائة ألف درهم من عشرة أنفس، وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف درهم من نفسين. فغضب صاحب بني أمية فردها عليهم فقبلوها، وجاء صاحب بني هاشم، فردها عليها فأبيا أن يقبلاها. وقالا: ما كنا نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق (2).

إذن فليس بغريب ولا بكثير على محض الكرم أن يعطي هذه المبالغ لأهله إن كان يعطي أضعافها لمن يسأله. وفضلا عن كل ما تقدم فإن إعطاء الزوجة مبلغا كبيرا من المال لا يعني أن الزوج شهوانيا بقدر ما يعني كونه يقدرويحترم ذلك الرابط المقدس بينهما، وإلا فماذا يقال على من يصرف هذه الأموال على شراء الجواري والمغنيات ؟!

ص: 645


1- ابن الجوزي: صفة الصفوة، 1 / 760؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 42/8 .
2- البيهقي: المحاسن والمساوئ، 1/ 53.

أما ما أدعي من أن الإمام علي عليه السلام عرض بالإمام الحسن عليه السلام وأنه طلب من أهل الكوفة أن لا يزوجوه! ففضلا عن كونه لا يتناسب مع مثال الخلق الإنساني والإسلامي لكليهما؛ فلعله مما يكذب الروايات المتقدمة كلها دفعة واحدة؛ لأنه يحصر ما يدعي من كثرة التزويج والتطليق بمدة إقامة الإمام عليه السلام بالكوفة، وقبل شهادة الإمام علي عل . فعلى أعلى الفروض بأن ذلك التحذير حدث في السنة الأخيرة من خلافة الإمام علي عليه السلام أي (40ه-) تكون كل مدة إقامتهما في الكوفة هي أقل من أربع سنوات، على اعتبار قدومهما إليها عام (36ه-).

وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنهما خاضا خلال مدة الإقامة هناك معارك ثلاث: الجمل، صفين، النهروان (36 - 38ه-). وتداعيات هذه الحروب، وما انتجته من إرباك لوضع الخلافة العام، يتضح لنا أن الظروف المحيطة لم تك تسمح مطلقا بالانشغال بتلك الزيجات المتعددة. وإذا ما ضممنا لكل ما تقدم سعي الأمويين والعباسيين لتشويه سير أهل البيت عليهم السلام والتي أفصح عنها نص رسالة المنصور العباسي المتقدمة، تكتمل لدينا دلائل رفض الصورة المتقدمة.

أما دعوی « Lammens» أن الإمام عليه السلام كان مبذرا، كثير السرف، وإنه اختص كلا من زوجاته بمسكن ذي خدم وحشم! وإنه كان يبعثر المال أيام خلافة أبيه التي اشتد عليها الفقر. فكل هذا إنما علق على النص السابق الذي تحدث عن طلاقه لزوجتيه، واعطائهما العشرة آلاف درهم، وعلى ما رواه ابن أبي شيبة عن: عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سیرین قال: إنه تزوج امرأة، فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم(1). ومع أن هذه الصورة غير منسجمة بالمرة مع شخصية الإمام عليه السلام ولامع الواقع الاجتماعي والسياسي الذي

ص: 646


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 3/ 320؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 28؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 249/13 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 237.

عاشته الكوفة والعراق عموما أثناء خلافة الإمامين 8 وأنها أشبه بالصور المنتمية للعهد الأموي أو العباسي، فمن اللافت للنظر أن ظهورها الأول كان عند ابن أبي شيبة المتوفي عام (235ه-) !؟

وهذا ما يدعو للاستغراب والتساؤل: لم لم تكن هذه الصورة حاضرة في ضمن النصوص التي قدمها ابن سعد مع اجتهاده في تجميع النصوص الخاصة بالموضوع! وهي لابد تسهم بتدعيم ما أراد التأكيد عليه، مع روايته كثيرا من الأخبار والنصوص عن ابن سیرین !؟ وترجمته للراويين الآخرين! ويبدو أنه لم يورد النص بسبب هذه النقطة بالتحديد! ؛ فلنر ما قيل في رواة هذا الخبر:

1/ عبد الأعلى بن عبد الأعلى(1). قال ابن سعد: لم يكن بالقوي في وكان قدريا(2). وقيل عنه: إنه ما كان يدري أي طرفيه أطول(3). توفي سنة (189 ه-)(4)

2/ هشام بن حسان القردوسي نسبة لدرب القراديس في البصرة(5). وثقه بعضهم (6). وضعفه آخرون(7). يقال: إن عنده ألف حديث حسن ليست عند

ص: 647


1- تهذيب التهذيب، 3/6
2- العلل، 2/ 178؛ العقيلي: کتاب الضعفاء الكبير، 3/ 58.
3- العقيلي : کتاب الضعفاء الكبير، 3/ 58 - 59.
4- الطبقات، 291/9 . ويكنى أيضا أبو محمد.؛ خليفة: طبقات، 387؛ أحمد بن حنبل: العلل، 2/ 299؛ البخاري: التاريخ الكبير، 6 / 73.
5- ابن حبان: الثقات، 7/ 566 - 567؛ مشاهير علماء الأمصار، 239.
6- ابن سعد، الطبقات، 9/ 271؛ العجلي : معرفة الثقات، 2/ 328.
7- بن حبان: المجروحين، 1/ 141؛ الدارقطني: علل، 10 / 265؛ الباجي: التعديل والتجريح، 2/ 1018

غيره(1) - كما في النص المتقدم - وقد ترك حديثه وضعف وعد من المرسلات. كان يدعي مجالسة الحسن البصري وهو لم يجالسه(2). توفي عام (147 أو 168 ه-) (3).

3/ محمد بن سیرین: أبوه سیرین من سبي عين التمر(4). وكان مولى لأنس بن مالك. ولد عام (33ه-). وصف بالوثاقة وسعة العلم. توفي عام (110ه-) (5). ولكن يظهر أن سعة علمه و وثاقته كما وثاقة وسعة علم شيخه (أبي هريرة) ! وسعته فهو ممن پرون: لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضع الله تبارك وتعالى قدمه فيها؛ فينزوي بعضها إلى بعض ويقول قط قط(6). ومن رواة: أن نساء أهل الجنة يرى مخ سوقهن من وراء اللحم!؟ وفي لفظ : من وراء سبعين حلة!؟(7). ومن رواة: أن النبي سها في الصلاة، فصلي الرباعية بركعتين! فذكره ذو اليدين، فعاد وصلی ركعتين !؟(8). ومن رواة: أن آدم التقى موسى فقال موسى لآدم: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة !؟ فقال له آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالته،

ص: 648


1- العجلي : معرفة الثقات، 2/ 328.
2- العقيلي: الضعفاء الكبير، 4/ 334 - 337؛ المزي: تهذيب الكمال، 30/ 181 - 193.
3- ابن سعد، الطبقات، 9/ 271؛ خليفة: تاریخ، 343؛ طبقات، 377.
4- بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة. يكثر فيها التمر، ومنها يجلب إلى سائر البلاد. افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد عام (12 ه-). وكان فتحها عنوة فسبی نساءها وقتل رجالها ومن ذلك السبي سيرين والدة محمد بن سیرین. یاقوت الحموي: معجم البلدان، 4 / 176. وهو بهذا يخالفابن سعد الذي ترجم لسيرين على أنه أباه! الطبقات، 9/ 118 - 120.
5- ابن سعد، الطبقات، 9/ 192 - 205؛ البخاري: التاريخ الكبير، 1/ 90 - 92.
6- أحمد بن حنبل، مسند، 2/ 276؛ عمرو بن عاصم: کتاب السنة، 232؛ العقيلي: كتاب الضعفاء الكبير، 111/1
7- أحمد بن حنبل: مسند، 2/ 345، 420؛ الدارمي: سنن، 2/ 336.
8- البخاري: صحيح، 1/ 175؛ 2/ 66، النسائي: سنن، 3/ 22؛ البيهقي: السنن الكبرى، 2/ 356؛ ابن حبان: صحیح، 6 / 403.

واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟! قال: نعم. قال: فوجدتها كتبت علي قبل أن يخلقني؟! قال: نعم. فحج آدم موسى (1).

وبسبب هذه الأحاديث ومثيلاتها قال العقيلي: أنه حدث عن أبي هريرة بأحاديث لا يتابع عليها(2). فإذا كان محمد بن سیرین لم يتحرج من أن ينسب لله تعالى قدما ؟! فأنى له أن يتحرج من أن ينسب للإمام الحسن عليه السلام ما نسب؟!(1)

ص: 649


1- البخاري: صحيح، 239/5
2- العقيلي: کتاب الضعفاء الكبير، 291/2

(3)العلاقة مع الإمام علي:افتعال النص وتفسير الخطاب

هي إحدى الجنبات التي حاول الأمويون والعباسيون الترويج لها، والقذف بإيحاءات حضورها وتواجدها منذ أحداث مقتل عثمان، مرورا بخلافة الإمام علي عليه السلام ومعركة الجمل وصفين! ولعل الغايات في ذلك واضحة كالشمس في رابعة النهار؛ فهي إنها تريد ترویج تواجد مثل هذه الخصومات و التقاطعات؛ لتشويه أحقية الصراع الذي كانا يخوضانه کلاهما ضد طلقاء بني أمية، وامتداداته انطلاقا من تلك الشرعية والتجذر، ممثلا بال الحسن في العهد العباسي. وعند هذه النقطة بالتحديد التقت المصالح الأموية والعباسية - ككتلة مغتصبة للخلافة - بوجه العلويين کتواجد يتكئ على موروث شرعي أدركه ضمير الأمة الإسلامية - وفي مقدمتهم الأمويون والعباسيون - على أنه الأحق والأجدر بالخلافة!؛ ولذا جندت الأقلام منذ بدايات التدوين التاريخي للالتواء على هذا الإرث ومحاولة ضرب أساساته؛ فلم يكن على الخطاب الاستشراقي التقويضي إلا تلقف هذه الصور والروايات، وترويجها على أنها حقائق تاريخية محضة!

لم يكن ما قاله «Lammens» من: أن الحسن لم يكن على وفاق مع أبيه وأخوته! وأنه شهد يوم من صفين دون أن تكون له فيها مشاركة إيجابية! وأنه لم يهتم أي اهتمام بالشؤون العامة في حياة أبيه!(1). بمنأى عن روایات ابن سعد السابقة! وما رواه الزنديق سيف بن عمر التميمي من أن الإمام الحسن عليه السلام قال لأبيه عليه السلام أثناء مسير هما لحرب الجمل: قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك. فقال

ص: 650


1- Melanges de la faculte Orientale, 1907,pp. 39-41; 60-61 Encyclopaedia of Islam. V3,274

علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية! وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها! ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر! ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا! فإن كان الفساد كان على يدي غيرك! فعصيتني في ذلك كله! قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فو الله لقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما قولك لا تبايع حتى تأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر! فإن الأمر أمر أهل المدينة! وكرهنا أن يضيع هذا الأمر! وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنا على أهل الإسلام! ووالله ما زلت مقهورا مذ وليت، منقوصا لا أصل إلى شيء مما ينبغي! وأما قولك: اجلس في بيتك فكيف لي بما قد لزمني؟! أو من تريدني؟! أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ويقال: دباب دباب ليست هاهنا حتى يحل عرقویاها ثم تخرج، وإذا لم أنظر فيها لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه! فكف أي بني!(1).

بداية اللغة المستعملة في الحوار يترفع عنها من هو أدنی خلقا من الإمامين عليهما السلام وأنها لا تليق بمن يملك أدنى مستويات الاحترام لأبيه، فكيف إن كان الحوار بين تينك الذاتين المقدستين؟! وسيأتي أن سير الأحداث والمرويات تثبت عكس ما يدعيه سيف بن عمر فلنسلط الضوء بداية على قيمته بوصفه راويا، في موازين علماء الجرح والتعديل. فهو: سيف بن عمر الضبي أو التميمي. وقيل: البرجمي والسعدي والأسيدي والكوفي(2). من أهل البصرة، أتهم بالزندقة، يروي الموضوعات عن الاثبات، وكان يضع الحديث (3). قال الرازي: متروك الحديث، فلم أكتب ما روی

ص: 651


1- الطبري: تاریخ، 4 / 455 - 456.
2- ابن حبان: كتاب المجروحين، 1 / 345؛ المزي: تهذيب الكمال، 12 / 324
3- ابن حبان: كتاب المجروحين، 1 / 345 - 346.

ومن روى عنه(1) . قال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق(2). قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث فلس خير منه!(3). ضعفه النسائي(4)، والعقيلي(5)، وابن الجوزي(6)، والدارقطني. وقال أبو داود: ليس بشيء(7). إذن لا خلاف بين علماء الجرح والتعديل أنه كذاب / مختلق / زندیق. وقد بث في التاريخ الإسلامي مرويات وأحداثا ووقائع وأسماء لم توجد ولم تحدث في يوم من الأيام! وقد روج وسوق إمام المؤرخين الطبري هذه المرويات حتى غدت حجر الأساس الذي بنيت عليه أحداث العقود الثلاثة التي أعقبت وفاة النبي صلی الله علیه و آله ! وقد ناقش مرتضى العسكري شريحة واسعة جدة من هذه النصوص،وأثبت اختلاقها وكذبها! في كتبه: عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى / خمسون ومائة صحابي مختلق / معالم المدرستين.

تقدم أن سير الأحداث والروايات التاريخية في الجانب الآخر، تكذب سيف بن عمر؛ فهي تنص على أن الإمام الحسن علیه السلام كان ومنذ اللحظة الأولى من الرافضين السياسة عثمان وتسلط بني أمية، وهو موقف طبيعي ومألوف جدا، ينطلق من المبادئ الإسلامية التي كان يمثلها ويصوغها کتطبيقات عملية على أرض الواقع قبالة المبادئ الجاهلية والقبلية التي كان يمثلها عثان وبنو أمية والنفعيين والمنافقين الذين كانوا يسيرون في ركابهم! فهذا (الجوهري. ت 323ه-) ينقل لنا نصا صريحا يبين فيه موقف

ص: 652


1- الجرح والتعدیل، 3/ 579؛ 4 / 278.
2- الكامل في ضعفاء الرجال، 3/ 436.
3- تاریخ ابن معين، 1/ 336؛ الكامل في ضعفاء الرجال، 3/ 435؛ المزي: تهذيب الكمال، 12 / 326.
4- کتاب الضعفاء والمتروکین، 187.
5- كتاب الضعفاء الكبير، 2/ 175.
6- الموضوعات، 2/ 30.
7- المزي: تهذيب الكمال، 326/12 ؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 4 / 259 - 260.

الإمام الحسن علیه السلام من حادثة نفي أبي ذر 2 فيقول: لما أخرج أبو ذر إلى الربذة (1)، أمر عثمان فنودي في الناس ألا يكلم أحدا أبا ذر ولا يشيعه. وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به، وتحاماه الناس إلا الإمام علي والحسنان وعقيل وعمار بن ياسر: ! فإنهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الإمام الحسن علیه السلام يكلم أبا ذر 2 فقال له مروان: إيها یا حسن ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل! فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل الإمام علي علیه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال: تنح نحاك الله إلى النار. ثم قال لأصحابه: ودعوا عمكم. ثم تكلم الإمام الحسن علیه السلام فقال: يا عماه، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلم وإن طال الأسف، وقد أتي القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذکر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، وأصبر حتى تلقى نبيك وهو عنك راض (2).

وأما في معركة الجمل، فقد كان الإمام الحسن علیه السلام أحد قادة الجيش وكان هو مبعوث الإمام علي علیه السلام لأهل الكوفة لاستنفارهم للحرب، بعدما مارس أبو موسى الأشعري - كأحد أدوات الدعاية الأموية - دورة المنافق والدنيء في تثبيط أهل الكوفة ودعوتهم لعدم الالتحاق بجيش الإمام علیه السلام بل إن البلاذري يذكر أنه بعث بداية عبد الله بن عباس وعمار بن یاسر لیستحثوا أهل الكوفة على اللحاق به، فقام فيهم الأشعري خطيبا وقال: أيها الناس إنكم قد سلمتم من الفتنة إلى يومكم، فتخلفوا عنها، وأقيموا إلى أن يكون الناس جماعة فتدخلوا فيها. وجعل يثبط الناس، فرجع عبدالله بن عباس وعمار إلى الإمام علي علیه السلام فأخبراه بذلك، فكتب إليه: يا ابن الحائك.. وبعث الإمام الحسن علیه السلام ليندب الناس إليه، وأمره بعزل أبي موسى فعزله،

ص: 653


1- قرية من قرى المدينة على مسافة ثلاثة أيام منها باتجاه طريق الحجاز. یاقوت الحموي: معجم البلدان، 3/ 24
2- السقيفة وفدك، 78، 79.

وانتدب معه عشرة آلاف أو نحوهم فخرج بهم إلى أبيه(1). وبعد نهاية المعركة دخل سلیمان بن صرد الخزاعي على الإمام علي علیه السلام فعاتبه وقال له: ارتبت وتربصت وراوغت وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم - فيما أظن - إلى نصرتي، فيا قعد بك عن أهل بیت نبيك، وما زهدك في نصرهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تردن الأمور على أعقابها، ولا تؤنبني بما مضى منها واستبق مودتي يخلص لك نصيحتي وقد بقيت أمور تعرف فيها وليك من عدوك. فسكت عنه وجلس (سلیمان) قليلا، ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي وهو قاعد في المسجد، فقال: ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التوبيخ؟ فقال له: إنما يعاتب من ترجی مودته ونصيحته. فقال: إنه بقيت أمور سیستوسق فيها القنا، وينتضى فيها السيوف ويحتاج فيها إلى أشباهي، فلا تستغشوا عتبي، ولا تتهموا نصيحتي. فقال له الحسن: رحمك الله، ما أنت عندنا بالظنين(2). وهذا ما يدل على مركزية الإمام الحسن علیه السلام وحضوره في هذه المعركة واعتماده من قبل أبيه الإمام علي علیه السلام في حسم المواقف المماثلة.

ومن الغريب في هذا المقام أن يدعي طه حسين بناء على نص سیف بن عمر السابق وتسرعه بالاعتماد على أحد نصوص البلاذري المرسلة الذي قال فيه: «قال علي لابنه الحسن، ورآه يوما يتوضأ: اسبغ الوضوء. فقال: قد قتلتم أمس رجلا كان يسبغ الوضوء. فقال علي: لقد أطال الله حزنك على عثمان»(3).إن الإمام الحسن علیه السلام لم يفارقه حزنه على عثمان! وإنه كان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وربما غلا في عثمانیته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب (4). وقد تسرع طه حسين في هذا الحكم أيما

ص: 654


1- أنساب الأشراف، 3/ 29 - 33. وينظر: نصر بن مزاحم: وقعة صفين، 15 - 16؛ ابن عبد ربه: العقد الفرید، 63/5
2- نصر بن مزاحم: وقعة صفين، 6 - 7؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 3/ 106 - 107.
3- أنساب الأشراف، 3/ 269 - 270.
4- الفتنة الكبرى: القسم الثاني: علي وبنوه، 176 - 177.

تسرع ففي نص آخر أن الحسن المخاطب بهذه الكلمات هو الحسن البصري وليس الإمام الحسن عليه السلام فقد روي: أن الإمام عليا عليه السلام رأي الحسن البصري يتوضأ، فقال: أسبغ طهورك یا کفتي. قال: لقد قتلت بالأمس رجالا كانوا يسبغون الوضوء. قال: وإنك لحزين عليهم. قال: نعم. قال: فأطال الله حزنك. قال أيوب السجستاني(1): فما رأينا الحسن قط إلا حزينا، كأنه يرجع عن دفن حميم أو كأنه خربندج (2)ضل حماره، فقلنا له في ذلك، فقال: عمل في دعوة الرجل الصالح. وكفتي: بالنبطية شيطان، وكانت أمه سمته بذلك ودعته في صغره، فلم يعرف ذلك أحد حتى دعاه به أمير المؤمنين (3).

إذن فشهادة أيوب السجستاني المعاصر للحسن البصري والموجود معه في البلد نفسه، والمنتمي للمدرسة ذاتها؛ وتأكيد وجود هذه الحالة وحضورها على الدوام في حياة الحسن البصري بشهادة معاصريه وأنه: كان قل ما تلقاه إلا وكأنه أصيب بمصيبة حديثا. وأنه: ما رأي أحدا أطول حزنا منه. وأنه: كان رجلا محزونا على الدوام. وأن: من يراه يقول: قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج. حتى غدا الهم والحزن فيه سمة بارزة في حياته(4)! لهي مما تؤكد خلط الأوراق من قبل:ما

ص: 655


1- أبو بكر أيوب ابن أبي تميمة، كان يبيع الجلود بالبصرة؛ ولذلك قيل له السختياني وهو أحد أئمة الحديث المشهورين، وكان من عباد العلماء وحفاظهم. وكان معاصرا للحسن البصري ومحمد بن سیرین. توفي عام (132 ه-). ابن عبد البر: التمهید، 1/ 339 - 340.
2- لعله معرب خربنده أي مكاري الحمار. المجلسي، بحار الأنوار، 302/41
3- قطب الدين الراوندي: الخرائج والجرائح، 2/ 547 - 548. وينظر : ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 95 / 4
4- ابن أبي الدنيا: کتاب الهم والحزن، 45 - 50؛ ابن الجوزي: آداب الحسن البصري وزهده وتواضعه، 24 - 29؛ المزي: تهذيب الكمال، 6/ 112؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 7/ 57؛ سير أعلام النبلاء، 4/ 575؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 302/9

سيف بن عمر والبلاذري، وتوهم طه حسين وتسرعه بذلك الحكم المجحف، وترجح أن النص السابق إنما قيل بحق الحسن البصري وليس الإمام الحسن عليه السلام.

ومن الغريب والمضحك في هذا المقام أيضا أن الكاتبة المصرية زينب حسن عبد القادر تقدم نص سیف بن عمر - وهي تحسب أنها تحسن صنعا، ومندون أن تنتبه لتقاطعه مع موضوعها - ومثيلاته كنموذج للتعامل الأسري بين الأبن ووالده! وتقول: إنها أرادت أن تسهم بقدر متواضع في مساعدة ابنائنا وبناتنا لمعرفة طريقهم السليم وسط هذا العالم المشحون بالماديات دون الروحانيات! وحتى طغت النظرة المادية على ما عداها في كل أمور الحياة بما في ذلك العلاقات الأسرية فصارت تتحكم في العلاقات العائلية. وإنها كانت تتعذب للتمزق الذي يتعرض له المجتمع المسلم!؛ وإنها ارادت أن تبتعد عن النظريات الغربية المستوردة لإصلاح المجتمع. فاختارت ما تعلق بالإمامين علیهما السلام لتقدمه نموذجا للتعامل، وكان من أوائل ما قدمته نص سیف بن عمر المتقدم(1) وهكذا نجد أن رواية سيف استطاعت النفوذ أمام من يفترض أنهم يمتلكون الإحساس الروحي والمعنوي بضرورة الوقوف عندها! فكيف با «Lammens» الذي يبحث عن هكذا نصوص وروايات.

ولم يكن وجود الإمام الحسن علیه السلام وحضوره في صفين بأقل مركزية وأهمية من وجوده وحضوره في الجمل. فقد روي أنه قام خطيبا فقال: الحمد لله لا إله غيره، وحده لا شريك له.. ونحن إنما غضبنا لله ولكم.. فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم؛ فاحتشدوا في قتال عدو کم: معاوية وجنوده، فإنه قد حضر، ولا تخاذلوا، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة؛ لأنه لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة، وكفاهم جوائح الذلة،

ص: 656


1- رسائل الإمام الحسن، 7- 14.

وهداهم إلى معالم الملة، والصلح تأخذ منه ما رضيت، والحرب يكفيك من أنفاسها جرع(1). وكان الإمام علي علیه السلام ينادي أثناء القتال : أملكوا عني هذين الغلامين؛ أخاف أن ينقطع بها نسل رسول الله (2). وفي لفظ : أملكوا عني هذا الغلام - يعني ابنه الحسن - لا يهدني، وذلك عندما برز في صفين(3).

وبعث عبيد الله بن عمر بن الخطاب إلى الإمام الحسن علیه السلام فقال: إن لي إليك حاجة فالقني، فلقيه، فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشا أولا وآخرا، وقد شنتوه فهل لك أن تخلفه ونوليك هذا الأمر. فقال الحسن علیه السلام: كلا والله لا يكون ذلك. ولكأني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك. أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقة بالخلوق تری نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلا، فما كان إلا كيومه أو كالغد وكان القتال، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء كانوا أربعة آلاف، عليهم ثياب خضر. ونظر الحسن علیه السلام فإذا هو برجل متوسد رجل قتيل قد ركز رمحه في عينه وربط فرسه برجله. فقال لمن معه: انظروا من هذا. فإذا هو رجل من همدان وإذا القتيل عبيد الله بن عمر قد قتله وبات عليه حتى أصبح، ثم سلبه(4). وهكذا نجد أن سير الأحداث والنصوص التاريخية ووقائعها تكذب ما ادعاه (سيف بن عمر) وما تبناه على أساس تلك الدعوى « Lammens» وطه حسين وغيرهم!

ص: 657


1- نصر بن مزاحم: وقعة صفين، 113 - 114؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 3/ 185 - 186.
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 244.
3- أبو جعفر الاسكافي: المعيار والموازنة، 150 - 151؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 25/11
4- نصر بن مزاحم: وقعة صفين، 297 - 298.

(4) وقف القتال مع معاوية.. ضرورة الظرف ومجانبة الخطاب

لا شك في أن الروايات التي صيغت في إنهاء الصراع بين الباغي معاوية والإمام الحسن عليه السلام من قبل المنظومات الروائية الموجهة من قبل المؤسسة السياسية والمذهبية الرافضة لمبدأ النص والوصية، عملت على ضرب هذا المبدأ من خلال تشويه سيرة شخوصه سيما في اللحظات الحرجة التي شهدت صراع المبدأين (النص - الوصية / الاختيار - الغلبة - التعيين) بحثا عن تبريرات وتعلقات للخروج على المبدأ الإسلامي. فكان أن تجنت على الحقيقة؛ وحاولت إظهار الإمام الحسن عليه السلام كأنه میال لمصالحة معاوية واعتزال الخلافة منذ اللحظة الأولى ! كما تجنت على الحقيقة من قبل، واعتذرت للحكومة القرشية في سلبها لأحقية الإمام علي عليه السلام بمبادئ الشورى المفتعلة!

وسواء كانت هذه الصياغة قادمة من بيئة فكرية أموية أو مشايعة للأمويين، فهي تحاول شرعنة ابتزاز معاوية للخلافة. وإن كانت منتجة في بيئة فكريةعباسية أو مشايعة للعباسيين، فهي الأخرى كانت في ضمن أولى أولوياتها ضرب الاعتقاد بأحقية أهل البيت عليهم السلام بالخلافة بعدما وظفوا هذا الشعار للوصول إليها وفي نطاق أضيق وأكثر تركيزا تبرير خيانة جدهم عبد الله بن العباس أو عمهم عبیدالله لقضيتهما، وغدرهما بالإمام الحسن عليه السلام وأيضا لكسر شوكة آل الحسن لذلك قرر بعضهم (1)

- وإن بلهجة أقل حدة وأكثر تأدبا من «Lammens - بناء على المرويات الكاذبة التي شوهت سيرة الإمام الحسن عليه السلام لشرعنة توثب الطلقاء على الخلافة الإسلامية أنه کان میالا لمصالحة معاوية والتنازل عن الخلافة لأنه لم يكن مهتما بالسياسة، ولأنه ليس

ص: 658


1- أحمد شلبي: موسوعة التاريخ، 2/ 33؛ طه حسين: علي وبنوه، 176 - 186؛ الصلابي: الحسن بن علي، 321 -311

قادرا على ضبط شؤون الدولة! وكان «Lammens» قال في هذا الصدد في كتابه «Etudes sur le regne du Calife Omaziyade Moawia Ler = دراسات في حكم الخليفة الأموي معاوية الأول»: بويع الحسن بالخلافة في العراق بعد مقتل علي، فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة إلى قتال أهل الشام، وقلب الإلحاح من جانبهم خطط الحسن القعيد الهمة، فلم يفكر إلا في التفاهم مع معاوية، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق، وانتهى بهمالأمر إلى جرح إمامهم بجرح بالغ؛ فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي: الوصول إلى اتفاق مع الأمويين(1). وكرر هذا الطرح في مقالته عن الإمام الحسن عليه السلام - في دائرة المعارف الإسلامية -: أنصاره حاولوا حثه التجديد الحرب ضد السوريين؛ فأزعج الحاحهم خطط حسن المتراخي الكسلان، ففكر فقط في ابرام معاهدة مع معاوية؛ فحدث الشقاق بينه وبين العراقيين الذين انتهى بهم الأمر لجرح الحسن جرحا بالغا(2)

وبصورة عامة نجد «Lammens» تبنى الروايات التي حاولت خلط الأوراق وعكس الحقائق؛ لغايات ستتضح جلية أثناء عرض النصوص المتعلقة، والتي ستبين أن الإمام الحسن علي هو من ألح على أنصاره بضرورة قتال معاوية وأهل الشام لا العكس! ثم إنه أدرك أن جبهة أهل العراق باتت متخاذلة منذ أيام خلافة الإمام علي عليه السلام حتى أنهم صاروا غرضا پرمی، یغزون ولا يغزون! - کما عبر أبوه عليه السلام بحرقة ومرارة واضحتين - وحتى ملهم وملوه وصار يتمنى فراقهم؛ فعلى أثر ما التهمته : الجمل وصفين والنهروان وما تلاها من الشخصيات البارزة التي كان يعول عليها في مواصلة الصراع ضد المبادئ النفعية والجاهلية القبلية التي يمثلها التيار الأموي وما أحدثته بنفوس الباقين من تخاذل وميل للدعة والسلامة - وإن على حساب الدين

ص: 659


1- Melanges de la faculte Orientale. 1907 pp, 39-41.
2- Encyclopaedia of Islam. V3, 274

ومبادئ الإسلام - مضافا للإغراءات معاوية التي تنهال من كل حدب وصوب! والتي أسالت لعاب كبار الشخصيات التي كانت موجودة في جبهة الإمام الحسن علیه السلام حتى إنها أنست عبد الله بن العباس لكل مشواره الجهادي أو أخاه عبيد الله بن العباس الوحدة قضية عائلته وبني عمومته العلويين! بل حتى ثأر ولديه اللذين ذبحهما في اليمن جيش الشام حسب توجيهات معاوية! وسنأتي على تفصيل ذلك.

كل هذه الأمور تجاهلها «Lammens» ومن ذهب لمثل ما ذهب إليه في تفسيره للأحداث ! فتحدثوا بمعزل تام عن الواقع التاريخي، والظروف بالغة الخطورة التي كان يعيشها الإمام علیه السلام وهو يحاول الحفاظ على تماسك المنهج والمبادئ الإسلامية من الضياع. كان يجب أن يراعي الحراك السياسي والفكري لتلك السنون. كان ينبغي عدم تجميد الأحداث وتأثيراتها في ضمن نطاق حدودها الزمانية والمكانية؛ فالتاريخ عنصر لا يتجزأ، يؤثر قديمه في حديثه، وهو ليس كتلة من التناقضات أو حركة من التطورات التي تنشأ بإلغاء مقطع تاريخي سابق؛ لتقيم على أنقاضه مقطعا جديدا يحمل في تركيبته عناصر جديدة أو مواد خام مختلفة، وإنما هو كتلة من التفاعلات المنتظمة تؤثر في بعضها البعض بصورة تدريجية، وتترك آثارها على المراحل بالتوالي (1). ومراعاة هذه الحقيقة وأخذها بنظر الاعتبار، لا بد سيغير كثيرا من الأحكام والآراء؛ فقد جابه الإمام الحسن علي إفرازات وتأثيرات السنون العجاف من الاستقرار السياسي والفكري التي سبقته، فمنذ فقد النبي صلی الله علیه و آله والغالبية من أبناء الأمة الإسلامية تعيش حالة التخبط والحيرة! وصراع الفائدة والانتفاع المادي والهوى والعصبية القبلية! قبالة الالتزام والاعتقاد الروحي والإيمان الذي لا يضع تلك الانتفاعيات في موازين حساباته. وقد استمر هذا الصراع، وظهر إلى العلن مسفرا عن وجهين الأول: ما انفك يحمل جمال ونقاء و طهارة الإسلام، ومبادئه الإنسانية وأخلاقه السمحاء.

ص: 660


1- فؤاد الأحمد: الإمام الحسن القائد والتاريخ، المقدمة.

والثاني: لا يخشى ولا يتحرج - بعد أن أدرك انعدام الموازين واضمحلال المبادئ والقيم - أنه لا زال يحمل وبكل وضوح آثار نعت الطلقاء ما دام يملك من أقنعة المال والسلطة والدعاية والنفاق والدجل ما يغطي به آثار ذلك النعت وتشوهاته.

إذن ورث الإمام الحسن علیه السلام تركة ثقيلة؛ فالأمة تعيش انهيارا، وانحدارا شاملا، لم تتمهل أن أفصحت عنه بعد مدة يسيرة. هذه الأمة يصل انحدارها أن تذبح ابن بنت نبيها وأهله وأصحابه عطاشا! وتسحقه بالخيول! وهم يرون تقاسيم وجه نبيهم في وجهه ويدركون أن دماءه تجري في عروقه! ويرونه يرتدي بعض ملابسه ! وما يزالون يحسون أثر قبلات النبي صلی الله علیه و آله على شفتيه ووجنتيه! ومن ثم تسبي هذه الأمة بنات رسولها! كل هذا تفعله الأمة ولم يزل بين ظهرانيها مئات الصحابة ممن رأوا تلك المشاهد وأحسوها لحظة بلحظة ! كل هذا تفعله الأمة طاعة لطليق وابن طليق، السكير خمار ملاعب للقرود والفهود! يمسي ويصبح ترنحه الخمرة وليالي المجون! تفعله جريا وراء المال والجاه! إذن كانت الغالبية العظمى من الأمة قد انسلخت من قيمها وإسلامها، وغلب عليها حب الشهوة والمال وتقاذفتها الأهواء والفتن، وكل يدعي أنه على الصواب، وكان معاوية وحزب الطلقاء أتباعه قد استمروا يعملون بكل ما لديهم من إمكانيات ووسائل غير مشروعة لإفساد أمر البيعة والخلافة لآل البيت: منذ توليد الشام بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس عام (18 ه-)(1)؛ فدس الجواسيس في البصرة والكوفة؛ لشراء ذمم الناس وتفريق كلمتهم وشق صفوفهم وفتنتهم. قال أبو الفرج الأصفهاني: ودس معاوية رجلا من بني حمير إلى الكوفة، ورجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار، فدل على الحميري عند لحام جرير ودل على القيني بالبصرة في بني سليم فأخذا وقتلا. فكتب الإمام عليه السلام على إثر هذه الحادثة لمعاوية قائلا: « أما بعد، فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء،

ص: 661


1- ابن سعد: الطبقات، 6 / 15؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 2/ 794.

وما أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله»(1).

وهنا تضطرب الروايات حول موقف الإمام الحسن عليه السلام من معاوية والحرب معه! ففي الوقت الذي يفتتح الطبري خلافته بنص يقول فيه: وفي هذه السنة بویع للحسن بن علي عليه السلام بالخلافة، وقيل: إن أول من بایعه قیس بن سعد، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه، وقتال المحلين. فقال له الحسن : على كتاب الله، وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط فبايعه وسكت، وبايعه الناس (2).

يعود ليروي نصا آخر عن الزهري المعروف بمعاداته لأهل البيت عليهم السلام وتشيعه للأمويين، يظهر فيه الإمام الحسن عليه السلام وكأنه کاره للحرب وراغب بالمصالحة منذ البداية ! فقال: جعل علي قیس بن سعد على مقدمته من أهل العراق إلى قبل أذربيجان، وعلى أرضها وشرطة الخميس التي ابتدعتها العرب. وكانوا أربعين ألفا بایعوا عليا على الموت. ولم يزل قيس يداري ذلك البعث حتى قتل علي، واستخلف أهل العراق الحسن، وكان لا يرى القتال، ويريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة! وعرف الحسن أن قیس بن سعد لا يوافقه على رأيه!؛ فنزعه وأمر عبيد الله بن عباس، فلما علم عبد الله بن عباس بالذي يريد الحسن أن يأخذه لنفسه !! كتب إلى معاوية يسأله الأمان، ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها، فشرط ذلك له معاوية (3).

ويقدم نصا ثالثا يقول فيه: بايع الناس الحسن بن علي بالخلافة، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قیس بن سعد على مقدمته في اثني عشرألفا، وأقبل معاوية في

ص: 662


1- مقاتل الطالبيين، 33؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 31.
2- تاریخ، 5/ 158.
3- تاریخ، 5/ 158.

أهل الشام حتى نزل مسكن. فبينا الحسن في المدائن إذ نادى مناد في العسكر: ألا إن قیس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا، ونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا كان تحته، وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن. فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح، وبعث معاوية إليه: عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، فقدما على الحسن بالمدائن، فأعطياه ما أراد، وصالحاه على: أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها، ثم قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق إنه سخی بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي، ودخل الناس في طاعة معاوية، ودخل معاوية الكوفة فبايعه الناس (1).

وإن كان الطبري حاول إخراج العباسيين من إحراج ذل موقف جدهم عبد الله بن العباس باع قضيته وقضية عائلته وبني عمومته عبر تضبيب الحقيقة وتشويشها، وادعاء أنه إنما فعل ذلك بعدما رأى أن الإمام الحسن عليه السلام الخليفة الشرعي قد باعها، فإن البلاذري أراد حفظ ماء وجوههم بقدر أكبر فأعاد سيناريو الطبري السابق ولكنه نسب خطوة الاستسلام الأخيرة التي لم ينس الإيحاء بأنها جاءت بعد ممانعة شرسة - لعبيد الله بن العباس! فكانت قصة البلاذري: أن عبيد الله بن العباس دعا الناس لبيعة الإمام الحسن عليه السلام فبايعهم على أن يحاربوا من حارب، ويسلموا من سالم، فقال بعض من حضر: والله ما ذكر السلم إلا ومن رأيه أن يصالح معاوية. ثم مكث أياما ذات عدد وهو لا يذكر حربا، ولا مسيرا إلى الشام. وأن معاوية خطب بالشام وقال: أن بعض أهل الكوفة كتبوا إليه يلتمسون الأمان. وعند ذلك تحرك الإمام الحسن عليه السلام وخطب بالناس فحضهم على الجهاد، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكرهم فما اجابه منهم أحد. ثم إنه دعا عبيد الله بن العباس وبعثه باثني عشر ألفا من فرسان العرب. ثم سار الحسن

ص: 663


1- تاریخ، 5 / 159.

حتى أتی ساباط المدائن. فخطب الناس فقال: إني أرجو أن أكون أنصح خلف لخلقه، وما انا محتمل على احد ضغينة ولا حقدا ولا مرید به غائلة ولا سوءا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، الا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم. فنظر بعض الناس إلى بعض وقالوا: عزم والله على صلح معاوية،وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه فدخلوه، وانتزعوا مصلاة من تحته، وانتهبوا ثيابه.. ، فركب فرسه وأطاف به الناس فبعضهم يعجزه ويضعفه، وبعض ينحي أولئك عنه ويمنعه منهم، وانطلق رجل يقال له الجراح بن سنان وكان يرى رأي الخوارج فطعنه بالمغول(1) في أصل فخذه، فحمل إلى المدائن. وتوجه معاوية إلى العراق. فنزل بإزاء عبيد الله بن العباس وأرسل إليه: أن كتب الحسن قد أتتني مع رسله يسألني فيها الصلح، وإنما جئت لذلك، وقد أمرت أصحابي بالكف عنكم فلا تعرضوا لهم حتى افرغ مما بيني وبين الحسن، فكذبوه وشتموه. ثم بعث عبد الرحمن بن سمرة إلى عبيد الله فحلف له أن الحسن قد سأل معاوية الصلح، وجعل له «ألف ألف درهم» إن صار إليه. فلما علم عبيد الله رأي الحسن وانه إنما يقصد الصلح، وحقن الدماء، صار إلى معاوية فأكرمه وبره، وحفظ له مسارعته إليه. وقام بأمر الناس بعد عبيد الله، قیس بن سعد، وقال في عبيد الله قولا قبيحا، وذكر أخاه وما كان بينه وبين علي، ونسب عبيد الله إلى الخيانة والغدر والضعف والجبن(2).

وأضاف نصا مهما قال فيه: قالوا: ووجه معاوية إلى الحسن عبد الله بن عامر..، فقال: اتق الله في دماء أمة محمد أن تسفكها لدنيا تصيبها وسلطان تناله! ، إن معاوية قد الج، فنشدتك الله أن تلج؛ فيهلك الناس بينكما، وهو يوليك الأمر من بعده، ويعطيك

ص: 664


1- سيف أو نصل صغي، وسمي مغولا، لأن صاحبه يغتال به عدوه أي مهلکه من حيث لا يحتسبه. ابن منظور: لسان العرب، 51/11.
2- أنساب الأشراف، 3/ 279 - 284.

كذا. وكلمه عبد الرحمن بن سمرة بمثل کلام عبد الله أو نحوه، فقبل ذلك منهما(1).

وكذلك فعل كاتب ومؤرخ البلاط العباسي اليعقوبي إذ نسب الخيانة لعبيد الله بن العباس فقال: ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفا لقتال معاوية، ومعه قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قیس بن سعد ورأيه، والتقى العسكران. فيقال: إنه أرسل إلى عبيد الله، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته. وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قیس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه. ووجه إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر. فخرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح؛ فاضطرب المعسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الأمر، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه صالح معاوية .(2)

ومع أن رواية اليعقوبي تبدو أكثر انتظاما واتساقا، إلا أنها تضطرب بعض الشيء، عند حديثه عن توجيه معاوية للمغيرة بن شعبة وصاحبيه للقاء الإمام عليه السلام في المدائن - وهي جزئية اتفق بها مع رواية الطبري والبلاذري - فهي تشير لتواجده هناك قبل تعرضه للإصابة !؟ في حين تتفق الروايات الأخرىأنه حمل إلى هناك بعد إصابته ! ولنا عودة لهذه الجزئية فيما سيأتي. وإن كان الطبري / البلاذري حاولا تبرير خيانة عبد

ص: 665


1- أنساب الأشراف، 3/ 286.
2- تاریخ، 2/ 214- 215.

الله / عبيد الله فإن الدينوري كان أكثر الثلاثة احترازا في الأمر، توخيا لنقمة العباسيين أو نعمتهم؛ فلم يتطرق لموضوع الخيانة لا من قريب ولا من بعيد. وبرر الصلح بتخاذل أهل الكوفة، وتوانيهم عن الحرب(1) .

إذا ما استبعد القصد الذي استبطنه المؤلفين لتخفيف آثار حراجة الموقف الغادر والمتخاذل الذي مارسه (جد / عم) الأسرة العباسية الحاكمة، تملقا أو خوفا..، فإننا نلاحظ أن الرواية التاريخية تتأرجح بين رغبة الإفصاح عن الحقيقة كاملة وبين التراجع عن ذلك للأسباب الفائتة. وهذا ما جعلها تتوافر على فجوات واضحة لاحظها المستشرق (JuliusWellhansen = يوليوس فلهوزن) فقال بعد عرضه للروايات المتوفرة حول الموضوع: حكاية الزهري للحوادث ليست واضحة تماما وهي تختلف عن رواية غيره اختلافات لا يسهل معه تفسيرها؛ فهو أحيانا يفصل بين طعن الحسن، من حيث زمانه ومكانه، وبين نهب سرادقه، وأحيانا أخرى يربط بين الحادثين (2). أما بعض الاختلافات الأخرى فيمكن تفسيرها بأنها مغرضة؛ فنحن نجد أن اليعقوبي والدينوري أيضا حریصان على تبرئة الحسن، وإلقاء التبعة على أهل الكوفة، أما عند الزهري فيظهر الحسن في ضوء غير جميل(3). إن الخلاف الأكبر الذي يتجلى فيه الغرض، هو المتعلق بمسلك عبد الله بن العباس جد الأسرة العباسية. ولا غرو أنه في عهد الخلافة العباسية كان من يقول الحق عن هذا القديس يعرض نفسه للأذى وعلى الأقل كان لا بد من إظهار الدور الذي لعبه في صورة أحسن مما كان أو السكوت عن هذا الدور جملة. يؤخذ من رواية الزهري أن عبد الله بن عباس عرف ما أراده الحسن من مصالحة معاوية، فسبقه و أخذ الأمان من معاوية، واشترط لنفسه على

ص: 666


1- الأخبار الطوال، 218 - 219.
2- الطبري: تاریخ، 5 / 158 - 164.
3- تاريخ الدولة العربية، 102 - 103.

ما أصاب من أموال، ثم بعث إليه معاوية خيلا عظيمة، فخرج إليهم ليلا حتى لحق بهم، ونزل معسكر أهل الشام، وترك الجيش الذي كان عليه بلا أمير(1)، بينما يسكت عوانة بن الحكم(2) عن هذه النقطة(3). أما اليعقوبي فهو يذكر بدلا منعبد الله المشهور أخاه الأصغر عبيد الله. وكذلك هي رواية (4) كلا من المدائني وعمر بن شبة(5). وأبدی اعتراضه على كون الغادر هو عبيد الله فقال: ولكن عبيد الله كان واليا على اليمن من قبل علي، لما قاد بسر بن أبي أرطأة جيش معاوية إلى هناك، ووقع ولدان صغيران له في يد بسر فذبحهما، فأصيبت أمهما بالجنون. ويقول الواقدي إن هذه الحملة وقعت عام (42ه-)(6). ومعنى هذا أن عبيد الله كان ما يزال في اليمن في ذلك الحين معاديا المعاوية، فلا يمكن أن يكون قد انتقل إلى جانبه قبل ذلك بعام أو عامين. ومهما يكن من شيء فإنه لا يمكن أن يكون الواقدي قد عرف شيئا على الإطلاق عن هذا الانتقال. أما عوانة فيقول إن هذه الحملة وقعت في النصف الثاني من عام (40ه-)(7)، فلا يمكن أن يصدق أحد أن عبیدالله يتعجل إلى هذا الحد في مصالحة قاتلي ولديه. على أن من الممكن معرفة الباعث الذي من أجله وضع اسم عبيد الله بدلا من عبد الله معرفة أسهل بكثير من العكس، فلم يكن يصح أن يظل لاحقا بجد العباسيين الذين عاش المدائني في أيامهم، وكان موالية لهم، ذلك العار؛ وهو أن يكون أول من يصالح الأمويين الفجرة.

ص: 667


1- الطبري: تاریخ، 5 / 163 – 164.
2- بن عياض بن وزر بن عبد الحارث الكلبي، ويكنى أبا الحكم. من علماء الكوفيين راوية للأخبار عالم بالشعر والنسب وكان فصيحا ضريرا. توفي عام 147 ه-. ابن النديم: الفهرست، 103.
3- الطبري: تاریخ، 5 / 159 - 160.
4- تاريخ الدولة العربية، 103 - 104.
5- الطبري: تاریخ، 5/ 167.
6- الطبري: تاریخ، 5/ 176.
7- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 211 - 215.

أما أخوه عبيد الله فلم يكن هناك بأس من التخلي عن الدفاع عنه(1).

لا شك في أن فداحة هذا الفعل سواء كان صادرh من عبيد الله أم من عبد الله كان له أثر واضح في خلخلة تماسك الجيش وفتح الطريق أمام معاوية لابتزاز الآخرين وأغرائهم؛ فضلا عن كونه سببا مباشرا بإسقاط ما في يد الإمام الحسن عليه السلام من تعبئة للمقاومة والحرب !؛ وهذا ما استشعره وألمح «Julius Wellhausen = يوليوس فلهوزن» وإن بصورة غير مباشرة فقال: على أن ذكر عبيد الله محل أخيه عبد الله لا يمكن أن يلقي عن عبد الله الوزر إلقاء تاما؛ فالأموال التي يقول الزهري: إنه أصابها وإن معاوية أعطاها له كانت أموالا من بيت مال البصرة وهو يقول: إن عبد الله بعد مقتل علي خرج من البصرة وشخص إلى الحسن، وإنه عند ذلك حمل معه ما، وهو يسهل الأمر على كل حال بأن يقول: إنها كانت أرزاقا قد اجتمعت له، وأنه حمل معه مقدار ما اجتمع له(2). ومعنى هذا أنه لم يأخذ أكثر مما قد استحقه رزقا له. ولكن مما يستلفت النظر أن «المدائني / عمر بن شبة / البلاذري» لا ينكرون أن عبد الله خرج ببيت مال البصرة، غير أنهم يزعمون أنه فعل ذلك في عهد علي بعد موقعة النهروان بقليل (3). وأن ذلك لا علاقة له بانتقاله إلى جانب معاوية. وعلى هذا تكون هناك خيانة مزدوجة!؛ فابنا العباس المتشابهان كثيرا في الاسم قد ترکا منصبيها، أحدهما بعد الآخر مباشرة على نحو مخز. وأثريا في هذه المناسبة بأخذ مبالغ كبيرة من المال ولكن الأرجح أن ذلك لم يحدث إلا مرة واحدة؛ وإذن فالزهري على حق بأن المقصود هو عبد الله، الذي كان موضع ثقة الحسن وثقة علي من قبل! لا عبيد الله، وأن عبد الله قد باع نفسه لمعاوية قبل أن فعل الحسن، بل نحن نجد في رواية المدائني أن عبد الله كان مع

ص: 668


1- تاريخ الدولة العربية، 104 - 105.
2- الطبري: تاریخ، 141/5 - 143.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 174/3 ؛ الطبري: تاریخ، 141/5 - 143.

علي في سنة (39ه-). ولكن لا نلبث أن نجده، بعد الصلح، في مجلس معاوية(1).

وهكذا نلحظ الفرق شاسعا جدا بين (Wellhausen = فلهوزن) الذي خاض بين النصوص بحثا عن صورة أكثر ثباتا واتزانا، وأوضح في معالمها الرئيسة وجزئياتها واستجلاء حقيقة الحدث مهما كان مصابا بالضبابية والتشوه، ومن ثم تقديمه بصورة مترابطة، وفي ضمن نسق مقنع ومتسلسل وبين «Lammens» الذي بصرف النظر عن كونه كان قاصدا الانسياق وراء الرواية التاريخية واختيار أبغضها وتشويها أكثر وأكثر ضمن تبنيه فكرة ومبدأ تقويض صورة الإمام الحسن عليه السلام يتضح أنه كان متطفلا على البحث التاريخي وهذا ما لحظه وعينه بوضوح تام المستشرق والعالم الألماني (Bekker = بکر) عندما قارن بين الاثنين فقال: إنه في كتاباته عن العصر الأموي - رغم حذقه - فشل فيما نجح فيه (Wellhausen = فلهوزن)؛ فكتاباته أشبه شيء بمجموعة من الفيشات أما كتاب (Wellhausen = فلهوزن) فهو بناء ضخم. «Lammens» يلون شخصياته التي يتكلم عنها جزءا جزءا، ولكنه يقع على اللون غير الصحيح. أما «Wellhausen = فلهوزن» فيزهد في جمع القطع الملونة الأخاذة،وكأنها ينحت شخصياته من الحجر الأصيل(2). وبصرف النظر عن أي من ولدي العباس أقدم على الخيانة؛ فتسبب بجزء كبير جدا مما آلت إليه الأحداث ! يمكن تسجيل عدة اعتراضات أو تساؤلات على الروايات التاريخية المقدمة عن الحدث:

أولا - الروايات التاريخية - باستثناء رواية اليعقوبي الذي حاول تضعیف الجزء المتعلق بخيانة عبيد الله فيها؛ بأن سبقه بلفظة يقال - مع الحال الذي قدمت به الحدث، تشكو اضطرابا وارتباكا واضحا جدا !؟؛ فهي لا تكاد تفصح عن سبب واحد يدعو الإمام الحسن عليه السلام إلى أن يشعر منذ خطبته الأولى في بيعته، ومن ثم خطبته الثانية حين

ص: 669


1- تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، 102 - 106.
2- عبد الهادي أبو ريده: ضمن تعريفه بفلهوزن في ترجمته لكتابه (تاريخ الدولة العربية). الورقة (و).

تجهيزه العساکر، بأنه میال للصلح وإنهاء الصراع مع معاوية، وهو لم يزل يحتفظ بتماسك جيشه !؟ وخيانة القائد لم تقع بعد ومن ثم إحساس المبايعين والجيش بذلك!؟ وتخافتهم فيما بينهم بأنه يريد المصالحة والمهادنة وإنهاء الصراع، وذهاب بعضهم إلى تكفيره بناء على ذلك، ومن ثم نهبهم المتاعه وطعنه من قبل ذلك الخارجي !؟

ثانيا - الروايات تريد أن تقدم ذلك الصراع - کا تصرح فيها تنسبه للإمام عليه السلام من خطب - على أنه صراع قبلي أو ضغائني بين عائلتين أو تيارين متساويين في الشرعية !؟ فتظهره يخطب قائلا: إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا انصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريدا له سوءا ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة(1).

فهل المسألة مسألة ضغائن واضرار سوء في النفوس؟! أم مسألة خروج على خليفة وإمام شرعي منتخب ! فضلا عن كونه امتدادا طبيعيا لرسول الله صلی الله علیه و آله قبالة رأس النفاق والكفر وطليق وابن طليق!

ثالثا- الروايات لا تقدم سبب مقنع يدفع معاوية؛ لاسترضاء أو إغراء عبدالله / عبیدالله بالأموال بعدما حسمت الأمور لمصلحته مع الإمام الحسن عليه السلام فها الداعي الدفع تلك الأموال. فمجرد ترکه و جنده حتى يعلموا بما آلت إليه الأمور مع الإمام الحسن عليه السلام لهو كفيل بتفرقهم وتمزق جبهتهم !؟

يبدو أن صناع هذه الروايات المفككة، والمؤسسة المتبنية لتصديرها فظلت الإجابة أو التغطية على كل هذه الاعتراضات دفعة واحدة وبصورة مقتضبة جدا؛ بأن لجأت لمؤسسة اختلاق الحديث! لتضع على لسان النبي صلی الله علیه و آله أنه قال: إن ابني هذا سید

ص: 670


1- الدينوري: الأخبار الطوال، 218 - 219؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 279 - 282؛ الطبري: تاریخ، 5 / 158 - 162؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 41.

وسيصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين !(1). ولكن يبدو أن هذه المؤسسة أهملت أن الإمام الحسين علیه السلام كباقي المسلمين - على أقل الفروض - لابد من أنه سمع هذا الحديث من النبي صلی الله علیه و آله !؟، فأظهرته الرواية التاريخية وهو يعترض بشدة لا تخلو من تعنيف وتعريض! على أخيه الإمام الحسن علیه السلام لذهابه وتفضيله المصالحة مع معاوية!؟ قال الطبري: قال الحسن للحسين ولعبد الله بن جعفر: إني قد كتبت إلى معاوية في الصلح، وطلب الأمان فقال له الحسين: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة علي. فقال له الحسن: أسكت. فأنا أعلم بالأمر منك(2).

ومن الغريب أن هؤلاء المؤرخين يتناسون تماما تواجد الإمام الحسين علیه السلام طيلة الأحداث فلا يظهر إلا في هذه اللقطة! ليصادق على ما يدعونه من ميل الإمام الحسن علیه السلام ومنذ البداية، بناء على توجه متفرد إلى المصالحة، وإنهاء الصراع مع معاوية! ورغم كل هذه الفجوات والتضبيب المقصود على الحدث، يبقى أن هناك خيوطا رئيسة يمكن الاعتماد عليها في إعادة نسج الحدث بصورة طبيعية ومنطقية، ومتوافقة مع الشذرات المبثوثة في تلك الروايات؛ فبما أنها متفقة على وقوع الخيانة من قائد الجيش ومن ثم من الجند؛ فالنسق الطبيعي والمنطقي للحدث: أن الإمام الحسن علیه السلام بعد أن بويع بالخلافة، خطب في أهل الكوفة: «أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقة وسماه کرها وأوصى المجاهدين بالصبر. إنكم لستم نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلكفأخرجوا إلى معسكر كم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى ونروا»(3).وكان كتب

ص: 671


1- أحمد بن حنبل، مسند، 5/ 44؛ البخاري: صحیح، 169/3 - 170؛ 4 / 184، 216 8/ 99؛ النسائي: سنن، 3/ 107؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 3/ 245؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3/ 175؛ البيهقي: السنن الكبرى، 6 / 165؛ 8/ 173.
2- ابن سعد: الطبقات، 6 / 385؛ الطبري: تاریخ، 5/ 160.
3- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 39؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 38. وينظر: ابن عبد البر: التمهید، 205/1 .

لمعاوية قبل ذلك: «واليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل من الدين ولا أثر في الإسلام محمود فأنت أبن حزب من الأحزاب المنافقة في الخندق وغيرها وأنت أبن أعدى قريش لرسول الله ولكتابه الكريم.. فادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك.. وإن أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاکمتك حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين»(1). ثم عبأ الإمام عليه السلام جيشه - رغم تخاذله وتواكله - وسار قسم منه تحت قيادة (عبدالله / عبیدالله) وإن كان الأرجح كونه الأول لقربه واعتماده منذ عهد الإمام علي عليه السلام ولأن الأخير ربما فعلا مايزال موجودا في اليمن، فأغراه معاوية، فترك معسكره؛ مما فتح الباب على مصراعيه أمام خيانات فردية وجماعية مؤثرة؛ كان لها أثر كبير في القضاء على البقية الباقية من تماسك جبهة الإمام عليه السلام وأبرزها خيانة خالد بن المعمر السدوسي وكان شهد معركة صفين مع الإمام علي عليه السلام وأبلى فيها بداية بلاء حسنا !؛ ثم راسله معاوية: إن لك أمرة خراسان إن ظفرت ولم تتم، فانصرف بأصحابك؛ فطمع خالد فلم يستتم على ما كان فيه!؛ فأمره معاوية حين ولي على خراسان، فات قبل أن يصل إليها. وكان زعيم بكر بن وائل في رؤوس الأخماس الذين قدموا من البصرة مع عبد الله بن عباس إلى صفين، وكان رئيسا في قومه. وكانت راية ربيعة كلها كوفيها وبصريها معه! إلا أنه سرعان ما غدر ولحق بمعاوية فوصله . فقال الأعور الشني(2):

معاوي أكرم خالد بن معمر *** فإنك لولا خالد لم تؤتمر(3)

ص: 672


1- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 35؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 34.
2- بشیر بن منقذ أحد بني شن بن أفصى من بني عبد القيس. كان شاعر محسنا وله ولدان شاعران أيضا هما: جهم وجهيم. ابن قتيبة: الشعر والشعراء، 430 - 431؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 312/10 ؛ ابن ماكولا: إكمال الكمال، 299/7
3- ابن العديم: بغية الطلب، 7/ 3113-3119. وينظر : ابن دريد: الاشتقاق، 353؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 285؛ ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، 299؛ ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، 16/ 206 ،205

وبالالتفات إلى أنه كان زعيم قبيلة ربيعة كوفيها وبصريها! يبين مقدار الفجوة، والأثر الكبير الذي تركته خيانته. ولا شك حدثت انسحابات وخيانات أخرى(1)؛ جعلت الإمام عليه السلام يوقن أن خوض الحرب ليس من مصلحته! فمعاوية ما زال يواصل تقديم الإغراءات والأموال، ويبث الجواسيس والدعايات، وهكذا شيئا فشيئا فشت الخيانة وكثرت بين كتائب الجيش وقبائل الكوفة جميعها؛ حتى أن جماعة من رؤساء القبائل كتبوا لمعاوية بالسمع والطاعة واستحثوه على السير نحوهم وضمنوا له تسليم الإمام الحسن عليه السلام إليه إذا شاء ذلك عند دنوه من معسكرهم! أو أن يقتلوه غيلة أو أثناء المعركة! ويسلموا معاوية الأمر. وكان الأخير كتب إلى «عمرو بن حريث / الأشعث بن قیس / حجار بن أبجر / شبث بن ربعي» وغيرهم من عيونه وجواسيسه: إنك إن قتلت الحسن بن علي فلك (مائتا ألف درهم) وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فبلغ الإمام الحسن عليه السلام ذلك فاستلام ولبس درعا، وكان يحترز، ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة (2).

أنزلت هذه التعهدات الخائنة أرض الواقع !؛ بهجوم ذلك الخارجي الذي جرح الإمام عليه السلام والذي يبدو أنه أقرب لكونه أحد خيوط المؤامرة العريضة التي حيكت بين معاوية وجند الكوفة من كونه خارجيا !؛ فمعلوم أنهم يكفرون الطرفين !؛ فما الذي يدفعه للانضمام لجبهة هو يكفر قائدها كما يكفر من يقاتله ؟! وبالمقابل أيقن الإمام عليه السلام أن جيشه قد انكسر بسبب كثرة الخيانات،وإن كثيرا من الذين بقوا معه يحدثون أنفسهم بالهرب أو الانضمام لمعاوية، وليس بمستبعد أنهم على اتفاق مسبق معه، وأن المخلصين منهم - على الأقل - سوف لن يصمدوا، بحسابات الحرب الطبيعية لوقت

ص: 673


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 285.
2- الصدوق: علل الشرائع، 1/ 220، 221.

طويل أمام جموع الشام! ومن ثم كانت خسارة المعركة في حال خوضها نتيجة حتمية لا مفر منها.

ومع ذلك يظهر من خلال وضع نص «البلاذري / اليعقوبي / الطبري»المتحدث عن إرسال عبد الله بن عامر والمغيرة بن شعبة إلى المدائن لإقناع الإمام عليه السلام بالمصالحة في مساره الصحيح، أن الإمام عليه السلام لم يقبل الصلح حتى بعد حدوث الخيانات المؤثرة، بل حتى بعد أن جرح ونقل للمدائن. قلنا وضع النص في مساره الصحيح؛ لأن اليعقوبي بحسبه يشير لتواجد الإمام عليه السلام في المدائن قبل أن يجرح!؟ في حين أكد سياق روايتي البلاذري / الطبري أنه إنما حمل للمدائن بعدما أصيب !؛ وبهذا يكتمل ترميم السياق الطبيعي للحدث !؛ فقد أرسل معاوية هذا الوفد ليحاول إقناع الإمام الجريح بالصلح الذي بات الخيار الوحيد لكلا الطرفين. فالإمام عليه السلام بعد تعرضه للإصابة وتفرق جيشه و انتشار الخيانات والغدر في صفوفه، لم يعد قادرا على خوض الحرب وبالمقابل معاوية لم يرد التورط بحرب لا مبرر لها. ومع ذلك لم يتسرع الإمام عليه السلام بإعطاء موافقته على المعاهدة!؛ ربما تعويلا على تكشف الأوضاع لجند الكوفة أو لحين وصول الأخبار من معسكر قیس بن سعد؛ ولذلك خرج المغيرة وصاحبه، وهما يقولانبصوت يسمعه الناس: إن الله قد حقن الدماء بابن رسول الله وستن به الفتنه؛ لإساع الناس وإيهامهم بأنه قد وافق على الصلح. وفي الجانب الآخر أيقن معاوية أن المعركة فيها لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه وسیمسي الحسنان عليهما السلام والمخلصون من المسلمين خلال ساعات قليلة تحت رحمة سيوف أهل الشام، وإن السلطة صائرة إليه لا محالة، لكنه أدرك في الوقت ذاته أن استيلائه على الخلافة بقوة السلاح وبهذه الطريقة لا يكتب لها التأييد ولا الشرعية وإن كانت ظاهرية ملفقة يمكن أن تنطوي على أصحاب النظر القصير؛ فمعاوية حتى الآن مازال تاريخه وتاريخ عائلته المشين يشهد بأنه رأس النفاق والكفر، في حين يشهد للإمامين8 تاريخهما بأنها أولاد رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بيته وأساس الإسلام الذي

ص: 674

يتشدق الجميع بانتمائهم له؛ وعليه فمعاوية لم يرغب بالتسرع في خوض المعركة سيما أن الظروف لم تضطره بعد لذلك بل أنها تشير أنه سيقطف ناتجة أفضل في حال حصوله على تسوية ومصالحة!

كان معاوية يفضل الحصول على أي مقدار من الشرعية المزيفة، على تحقيق نصر عسكري لا يمكن التنبوء بالمضاعفات التي قد تنتج عنه إذا ما قتل الإمامين علیهما السلام لأنها سيدا شباب أهل الجنة باتفاق المسلمين، وما زالت المساحة الزمنية للتأثير الروحي لهما ولأبيهما وأمها وجدهما: تجد قبولا في نفوس بقايا الصحابة والمسلمين الأوائل؛ لذلك ولغيره كان معاوية لا يريد التورط بمواجهة عسكرية مع الإمام الحسن علیه السلام ؛ ولذلك عرض فكرة الصلح خلال رسائله وأشاعها بين صفوف الجيشين؛ ليحدث انقلابا داخليا في معسكر الإمام علال اعتمادا على توفر الأرضية الخصبة من النفوس التواقة والمسارعة للأموال والفتنة، وتوفر طابور خاص لبث الدعايات و تخذيل الناس وتفریق کلمتهم ! وهي طريقة وأسلوب كان جربه في صفين فجاء بأفضل النتائج! وفي الوقت نفسه استمر يبث جواسيسه؛ لنشر دعوى أنه إذا ما تم الصلح فسوف لن يقطع أمرا ولا يفصل شيئا من دون علم الإمام الحسن علیه السلام ومشورته! وأنه سيحترم عهده ومیثاقه ! وقد أدرك معاوية أن فكرة الصلح هذه ستكون سلاحا بيد الانتهازيين والخونة المتواجدين في جيش الإمام علیه السلام سيما الذين لم يصل لاستمالتهم لأنه لا يعرف نواياهم أو لأنه لا يعرفهم لحد الآن، كما أنه يريد التظاهر بأنه لا يريد الحرب ويدعو للسلام والصلح.

أما من جهة الإمام الحسن علیه السلام فإن خيار الذهاب إلى الحرب - مع الواقع الذي تلاعبت به الأموال والمناصب والأهواء - يعني: انقسام جيشه عليه، ومحاربتهم له، وخوضه حربا داخل معسكره قبل خوضه الحرب مع معاوية! وهذا نظير ما حدث الأبيه من قبل في معركة صفين عندما انشق عليه الخوارج! وإن لم تحدث تلك الحرب على أضعف الاحتمالات، فإنه سيكون - في نظر العقول التي لا تريد أن تفهم - باغ على

ص: 675

معاوية!؛ لأنه أراد حقن دماء المسلمين في حين قام الحسن بسفكها لأجل مصلحته! ومن ثم سيقاتل بقلة قليلة ستقتل بأسرع وقت! وربما سيكفي معاوية مؤونة قتله من راسله من خونة جند الكوفة! ولم يكن الإمام تاریخ، 5/ 162- 163. ليقتل حتى يقتل الإمام الحسين علي وأهل بيته! ولم يكن لهؤلاء أن يقتلوا حتى يفنی خلص صحابتهم وشيعتهم !؛ مما يعني القضاء على الخط الذي يحمل الإسلام الأصيل، ولو حدث ذلك الوقف معاوية ابن هند آكلة الأكباد وابن النابغة عمرو بن العاص على منابر المسلمين في كل بلد يقولون عرضنا على الحسن الصلح لكنه أبى ذلك، رغم أننا قلنا له إنه سيكون هو الأمر الناهي. فيكونون هم أصحاب الحق والسلام والإمام علیه السلام هو صاحب الفتن والحروب والباطل. ولو جدا أكثر الناس يباركون فعلهم ويشرعنون حكمهم للمسلمين سيما وأنهم مستعدون لدفع الأموال وإعطاء المناصب لتأييد سلطانهم. وفي أقل الفروض سيكون الأسر، وربما هو أكثر ما يسعد معاوية؛ لأنه على الأرجح سيقول له: اذهب فأنت طليق!؛ لتكون واحدة بواحدة! فيمحى عن عائلته الآثار البشعة التي خلفتها تلك الكلمة يوم فتح مكة !؛ وبالنتيجة أدرك الإمام علیه السلام أن أهون الضررين أن يترك الأمور تسير بها سارت عليه حفاظا على الإسلام والدین والبقية الباقية من حملة العقيدة الصحيحة، ويترك للوقت ولسلوكيات معاوية وحزبه المستقبلية أن تكشف لمن مالوا لمصالحته الخطأ الفادح الذي ارتكبوه بحق أنفسهم أولا، وبحق إمامهم وخليفتهم الشرعي ثانيا، وما جنوه على الإسلام برضوخهم لدنيا معاوية، كما عرف الخوارج بعد صفين أن حماقتهم وجهلهم ومخالفتهم للإمام علیه السلام هي ما أودت بهم إلى تلك النتيجة المؤلمة.

ص: 676

(5)نقض الشروط.. تبرير النص ومتابعة الخطاب

كان الإمام الحسن عليه السلام على علم ويقين تامين بأن معاوية ليس ممن يفون بعهودهم! وإنه إنما اشترط عليه تلك الشروط؛ ليضع الأمة وبشكل مباشر وعملي أمام اكتشاف حقيقة معاوية. إذن فالإمام عليه السلام إنها کشف معاوية وبني أمية وكل النفعيين والمتواطئين معه من خلال تلك الشروط وذلك التصرف. ولكن المنظومة الروائية والتدوينية من خلال روايها الزهري أرادت البحث عن مبررات لمعاوية وغدره؛ فروت أن الإمام الحسن عليه السلام : كاتب معاوية وأرسل إليه بشروط. قال: إن أعطيتني هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفي لي به، ووقعت صحيفة الحسن في يد معاوية. وقد أرسل معاوية قبل هذا إلى الحسن بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه: أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك، فلما أنت الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كتب إليه يسأله ما فيها، فلما التقى معاوية والحسن سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي شرط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله، فأبي معاوية أن يعطيه ذلك، فقال: لك ما كنت كتبت إلي أولا تسألني أن أعطيکه، فإني قد أعطيتك حين جاءني كتابك. قال الحسن : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك، وأعطيتني العهد على الوفاء بما فيه، فاختلفا في ذلك فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا(1).

وجد «Lammens» في تحريف الزهري وتزییه لحقيقة الأحداث والصراع، وما تمخض عنه من اتفاق فضح معاوية وكشف غدره و خیانته صورة كافية لتشويه موقف

ص: 677


1- تاریخ، 5/ 162- 163.

الإمام الحسن عليه السلام فلم يكلف نفسه إلا صياغتها من جديد، ولكن بلغة مشبعة ببذاءة اللسان وقاذع القول؛ لاستحکام الصورة المقدمة وتركيزها بشكل أكبر فقال: ترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جراء تنازله عن الخلافة. ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشأ لأخيه الحسين، بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهم أخرى، ودخل كورة في فارس طيلة حياته. وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق، بيد أنه أجيب إلى كل ما سأله، حتى أن حفيد النبي كانت لديه الوقاحة ليتجاهر بالندم على أنه لم يطلب الضعف. وقد ترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه اليقبع في المدينة. وهناك عاد إلى حياة اللهو واستسلم للملذات، ووافق معاوية على أن يدفع نفقاته. لم يطلب في مقابل ذلك إلا أمرا واحدا وهو أن لا يخل الحسن بأمن الدولة. وكان قد أجبره من قبل على الجهر بتنازله عن الخلافة. ولم يعد معاوية يشغل باله به. ذلك أنه كان واثقا من قعود همته، وأنه تافه وجدير بالإهمال، لشخصيته المتراخية والكسولة(1). وقال في كتابه « Etudes sur le regne du Calife Omaiyade Moawia Ler = دراسات في حكم الخليفة معاوية الأول»: «كما أن الحسن المستهتر کان قد أصبح مسالما منذ أمد طويل، وكانت حياته عبئا على بيت المال الذي أبهظته مطالبه المتكررة؛ إذ كان المورد السنوي للحسن «5 ملايين» وهي غير كافية لمصروفاته؛ مما دفعه إلى شرح وتوضيح حالته للأمير - يعني معاوية - الذي منحه «80 ألف دينار» هدية، وهذا الكرم الاستثنائي يقربنا من الاعتقاد بأن هناك مشروعا يعمل عليه معاوية، يهدف لربط جميع نسل عبد مناف بالعرش (2).

واضح أن رواية الزهري تريد خلط الأوراق، وتمييع الصراع على أنه أشبه بعملية عقد صفقة تجارية! وأن الإمام الحسن عليه السلام كان المتحمس الأكبر فيها!؟ ولكن

ص: 678


1- Encyclopaedia of Islam. V3,274.
2- Melanges de la faculte Orientale, 1907PP,32-45

حذاقة الزهري لم تستطع أن تعطي سببا واحدا يدفع معاوية لإعطاء الأموال للإمام الحسن عليه السلام رغم أنه لم يكن يملك القوة العسكرية التي يستطيع الضغط بها على معاوية!؟ وأنه هو من بادر لطلب الصلح!؟ ثم ما الداعي لأن يكون هناك كتابان مختلفان؟! بل إنه يناقض نفسه ويقول: إن معاوية كان أرسل إلى الحسن بصحيفة بيضاء، مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك!

كان معاوية هو من طلب الصلح، وقدم لذلك تلك الصحيفة المختومة؛ فلو كان الإمام الحسن عليه السلام قد بعث بطلباته في صحيفة لمعاوية فما معنى أن يرسل معاوية صحيفة فارغة مختومة ليكتب بها الطلبات مجددا؟! ولماذا لم يسأل الإمام الحسن عليه السلام تلك الأضعاف المدعاة منذ البداية ؟! وما الذي يجعله يفكر في مضاعفة طلباته والأولى لم توفر بعد؟! وإن كان معاوية لم يلتزم بالطلبات الموجودة في الصحيفة التي عليها ختمه، فما الذي يجعله يلتزم بالطلبات التي في الصحيفة التي بعثت من قبل الإمام عليه السلام؟!

ومن ثم ما الذي يجعل الإمام عليه السلام مطمئنا لهذا الحد أن معاوية سيلبي جميع طلباته فيكتبها في صحيفة ويرسل بها إليه؟! ثم إن الرواية تتجاوز كثيرا من الحيثيات والأحداث التي ذكرتها الروايات السابقة! فضلا عن كل هذ فإن النسق الطبيعي للأحداث ليؤدي إلى أن معاوية هو من يبادر، وهو من يقدم الوعود والعهود على الالتزام والوفاء؛ لأن الإمام الحسن عليه السلام هو صاحب السلطة الشرعية والمنتخبة، ومعاوية هو الوافد على العراق، ويحاول الاستيلاء على السلطة، وبطبيعة الحال لا تزال مقدرات الدولة بيد الخليفة الشرعي.

ثم إن روایات الزهري عن تلك الأحداث بصورة عامة إنها هي من المراسيل! ؛ فهو لم يكن ولد بعد حين وقوعها!؛ فولادته كانت محصورة بين (50 - 58ه-).

ص: 679

وبحسب نص ابن عبد البر ترجح (58ه-)؛ إذ ولد في آخر خلافة معاوية(1). إذن هو لم يكن ولد بعد حين وقوع تلك الأحداث. وهو لم يبين طريق وصولها إليه؟ ومع الالتفات إلى كونه أحد صنائع الأمويين ومعتمديهم في الحديث والرواية التاريخية؛ إذ وفد على عبد الملك بن مروان منذ وقت مبكر، فوصله بأموال وملابس وغيرها(2).

وروى اليعقوبي أنه وضع له حديث المساجد الثلاث فقال: منع عبد الملك أهل الشام من الحج؛ وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا بالبيعة، فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بیت الله الحرام وهو فرض من الله علينا؟! فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بیت المقدس، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة(3). وبعد موت عبد الملك لزم الوليد ومن ثم سليمان وعمر بن عبد العزيز(4). وكان عمر أوعز إليه بجمع الحديث (5). وكان يوصي الآخرين بالقول: ما أتاك به الزهري بسنده فاشدد به يديك (6). وبعد موته لزم یزید بن عبد الملك وصار قاضيا في بلاطه (7). ومن ثم لزم هشام بن عبد الملك، وصار

ص: 680


1- ابن عبد البر: التمهيد، 6 / 113؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/ 326؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب،398/9
2- ابن سعد، الطبقات، 429/7 - 431؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/ 326.
3- تاریخ، 2/ 261.
4- ابن سعد، الطبقات، 432/7 .
5- الحاكم النيسابوري: معرفة علوم الحديث، 10.
6- ابن عبد البر: التمهيد، 6/ 106. وينظر : الرازي: الجرح والتعديل، 8/ 72.
7- ابن سعد، الطبقات، 7/ 432.

مؤدبا لأولاده(1).

إذن بطبيعة الحال كان يتوخى التغطية على قبائح بني أمية ومثالبهم ويمسخ الحقائق التاريخية. وقد بين زميله صالح بن کیسان السبب الذي من ورائه اشتهر الزهري وذاع صيته، وقربه الأمويون وغيرهم فقال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن. فكتبنا ما جاء عن النبي. ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة. فقلت: ليس بسنة، فلا نكتبه. قال: فكتب ولم أكتب؛ فأنجح وضیعت(2). وقد بين الإمام زين العابدین علیه السلام في رسالة بعثها له الأثر الخطير الذي مارسه الزهري بتشويه الحقائق وتسميم عقول أبناء الأمة الإسلامية وتبرير أفعال بني أمية وقبائحهم جاء فيها: «اعلم أن أدني ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دعيت، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غدا مع الخونة، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا، ولم ترد باطلا حين أدناك، وأحببت من حاد الله! أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلا إلى ضلالتهم، داعيا إلى غيهم، سالکا سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم! واختلاف الخاصة والعامة إليهم. في أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك. وما أيسر ما عمروا لك، فكيف ما خربوا عليك»(3). إذن فالزهري ليس بمأمون في الرواية سيما في الأحداث المتعلقة في الصراع بين أهل

ص: 681


1- ابن سعد، الطبقات، 7/ 432؛ الذهبي: تذكرة الحفاظ، 1/ 110.
2- ابن سعد، الطبقات، 434/7 .
3- ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 275 - 276.

البيت عليهم السلام وبني أمية. ومع كل كذب الزهري فهو قد اعترف بأن معاوية لم يف بأي من الشروط التي كان اشترطها على نفسه قبل الصلح، وهذا ما صرحت به كثير من المصادر؛ فقد روي أن معاوية بعد عقد الصلح، ومبايعة أهل العراق خطب بهم وقال: ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أنفي به. إني والله ما قاتلتكم التصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم؛ الأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(1).

وفي نص البلاذري: ألا إني شرطت في الفتنة شروطا أردت بها الألفة ووضع الحرب، ألا وإنها تحت قدمي. ولذلك لام الإمام الحسن عليه السلام بعض صحابته؛ لأنه لم يستشهد على معاوية مجموعة من الشهود(2).

وفي نص آخر للبلاذري: ما وفي معاوية للحسن بشيء مما جعل. قتل حجرا وأصحابه، وبايع لابنه، ولم يجعلها شوری، وسم الحسن(3). مع كل ذلك يأتي «Lammens» ويدعي أن معاوية وفي بكل تعهداته! وأنه كان دائما ما يعطي الحسن الأموال ويقضي له متطلباته وإنه أعطاه «80 ألف دينار». فإذا كان معاوية غدر ورفض إعطاء ما يدعى أن الإمام عليه السلام شرطه من أموال وحبرالصحيفة لم يجف بعد، فيها الداعي لأن يصل الإمام عليه السلام بالأموال فيما بعد؟! |

ثم إن المصادر التي يدعي «Lammens» أنه استمد هذه المعلومة منها وهي: کتاب تاریخ الخميس. للدياربكري وكتاب العقد الفريد. لابن عبد ربه الأندلسي

ص: 682


1- البسوي: المعرفة والتاريخ، 3/ 412؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 45؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 46.
2- أنساب الأشراف، 3/ 289 - 291؛ المقدسي: البدء والتاريخ، 5/ 237.
3- أنساب الأشراف، 3/ 290. وينظر : الطبري: تاریخ، 5/ 162 - 163؛ ابن حجر: فتح الباري، 13 / 56

لا تذكر هذا الرقم مطلقا. نعم يوجد في كتاب الدياربكري نص مقتضب جدا عن الصلح يقول: ويقال أنه باعه إياها بخمسة آلاف ألف درهم يدفعها إليه كل سنة290(1). وفضلا عن أن المؤلف نفسه قد ضعف النص فواضح أنه يختصر الأحداث بجزئية صغيرة، كانت في ضمن شروط الصلح!؛ فقد نقلت المصادر أن هذا المبلغ كان موجودا في بيت مال الكوفة و نصت على أنه يستثنى من التسليم بحسب الاتفاق (2).

أما ما يوجد في العقد الفريد فهي رواية تنقل عن ابن أبي شيبة يقول فيها: وفد حسن بن علي على معاوية بعد عام الجماعة، فقال له معاوية: والله لأحبونك بجائزة ما أجزت بها أحد قبلك ولا أجيز بها أحدا بعدك، فأمر له بمائة ألف. وفي موضع آخر بأربعمائة ألف. وكان بداية وصله «بأربعين ألفا» بعد الصلح مباشرة(3).

ويبدو أن ابن أبي شيبة مولع برقم «100 ألف» فقد رأيناه قبل ذلك ينفرد برواية أن الإمام الحسن عليه السلام : تزوج امرأة، فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم(4). فضلا عن ذلك لم يشر أيا من المؤلفين المبلغ «80 ألف دينار» كما يدعي «Lammens» !؟

حاول التدوين التاريخي الموجه التركيز على مسألة الأموال، وإغفال الجوانب الأخرى من شروط الصلح!؛ ولا ريب في أن السبب يأتي في إطار محاولات تصحيح وشرعنة حكومة معاوية وحكومة بني العباس، وتوخي کون الجد العباسي هو الوحيد. (1)

ص: 683


1- /2
2- الطبري: تاریخ، 5/ 159؛ ابن الأثير: الكامل، 405/3 ؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 17/8 ؛ ابن حجر: فتح الباري، 13 / 55.
3- 320/1 ؛ 5/ 110 - 111. وما في المصنف أنه «أجازه بأربعمائة ألف» 7/ 252.
4- ابن أبي شيبة: المصنف، 3/ 320؛ الطبراني: المعجم الكبير، 3/ 28؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 249/13 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 237.

الذي انساق وراء أموال معاوية، وفي الوقت ذاته محاولة كسر شوكة المعارضة العلوية ، وخصوصا الحسنية للخلافة العباسية، وضربها في العمق من خلال إفراغ متبنیات هذه المعارضة، وتقديمها بألوان باهتة بوصفها جزءا من الحرب الإعلامية ضد العلويين والحسنيين بشكل خاص؛ فهناك نصوص تؤكد أن هذه التعهدات المالية لم تطلب من الإمام الحسن علیه السلام وإنما قدمت ابتداءا من معاوية!؛ فقد أكمل البلاذري النص المتعلق ببعثة المغيرة بن شعبة وصاحبيه إلى المدائن؛ لوضع اتفاقية الصلح موضع التنفيذ، وبعد أن استحصلت الموافقة المبدئية من الإمام الحسن علیه السلام کتب معاوية كتابة جاء فيه:

هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان، إني صالحتك على أن لك الأمر من بعدي، ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، وأشد ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وعقد، ألا أبغيك غائلة ولا مكروها، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بیت المال وعلى أن لك خراج فسا(1)، ودار أبجرد (2)تبعث إليهما عالك وتصنع بها ما بدا لك. وشهد على الكتاب مجموعة من الممثلين عن كلا الطرفين وقد كتب في ربيع الآخر عام (41ه-) فلما قرأ الإمام الحسن علي الكتاب قال : يطمعني معاوية في أمر لو أردت لم أسلمه له(3).

وعلى إثر ذلك كتب لمعاوية: هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفیان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده وأن

ص: 684


1- وتلفظ في الفارسية بسا، وتعني الشمال من الرياح. وهي مدينة في إقليم فارس. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 1/ 4،412 /260 .
2- إحدی کور إقليم فارس. والكورة: اسم فارسي ويعني المدينة الكبيرة أو المقاطعة التي تشتمل على عدة قرى. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/ 241، 1/ 36 - 37.
3- أنساب الأشراف، 3/ 286.

يكون الأمر شورى والناس آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وعلى أن لا يبغي الحسن بن علي غائلة سرا ولا علانية ولا يخيف أحدا من أصحابه «(1).

واتفقت المصادر على أنه اشترط أن يكون له الأمر من بعد معاوية(2). وقال ابن عبدالبر: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنها سلم الخلافة لمعاوية حياته لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد في ذلك. ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء في طلبها وإن كان عند نفسه أحق بها (3). وقد بين الإمام الحسن علیه السلام لشيعته في أكثر من مرة، الأسباب التي اضطرته القبوله؛ فقد خطب بعد عقد الصلح وكان مما قال: إن معاوية نازعني حقا هو لي فتركته الصلاح الأمة وحقن دمائها..، ورأيت أن حقن الدماء خير مما سفكها، وأردت صلاحكم وإن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر. وردد شبيه هذه الكلمات في خطب أخرى (4).

وقال أيضا: إني رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقيا على شيعتنا خاصة من القتل، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإن الله كل يوم هو في شأن، وكرر ما يشبه ذلك في أكثر من

ص: 685


1- الدينوري: الأخبار الطوال، 220؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 287. وينظر عن كتاب معاوية وجواب الحسن (ع): ابن اعثم، الفتوح، 4/ 290 - 292.
2- ابن سعد، الطبقات،384/6 ؛ ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 140/1 ، 184؛ الدينوري: الأخبار الطوال، 220؛ المقدسي: البدء والتاريخ، 5/ 236 - 237؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 1/ 386؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 13 / 261؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 45؛ ابن حجر: فتح الباري، 55/13 - 56؛ تهذيب التهذيب، 2/ 259.
3- الاستیعاب، 1/ 387
4- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 288 - 294؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 271 - 273؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 46/8 .

مناسبة(1). وخطب بأهل الكوفة فقال: أنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنا كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع! وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنیاکم، وأصبحتم اليوم ودنیاکم أما دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتیل بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله جل وعز بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، واخذنا لكم الرضا، فناداه الناس من كل جانب البقية البقية !(2).

إذن فقد كان ضمن ما يتوخى وضع الغالبية التي كانت تواقة للارتماء فيأحضان معاوية، أمام هذا الاختيار الخاطئ ليذوقوا وبال أمرهم.

ص: 686


1- الدينوري: الأخبار الطوال، 222 - 223. وينظر : ابن سعد: يالطبقات، 6 / 383 – 385.
2- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13/ 268؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 13، 14، الكامل في التاريخ،406/3 ؛ النويري: نهاية الإرب، 140/20

(6) شهادة الإمام:صورة النص وصورة الخطاب

خلافا لكل النصوص التاريخية المثبتة والمؤكدة يأتي «Lammens» با لم يجد ما يستند إليه في تصديره، إلا محاولة جعله نتيجة طبيعية لعرضه المتقدم؛ وعليه فهو في كل حديثه عن حياة الإمام الحسن علیه السلام لم يكن يرد التوقف عند نقطة معينة؛ وإنما أراد جر الحديث التقرير هذه النتيجة المعدة سلفا فهو يدعي أنه: توفي في المدينة بذات الرئة، ولعل افراطه في الملذات هو الذي عجل بمنيته! وقد بذلت محاولات لإلقاء تبعت موته على رأس معاوية، وكان الغرض من هذا الإتهام وصم الأمويين بهذا العار، وتبرير لقب الشهيد أو «سيد الشهداء» الذي خلع على ابن فاطمة هذا التافه الشأن. ولم يجرؤ على القول بهذا الإتهام الشنيع جهرة سوى المؤلفين الشيعة، أو أولئك الذين كان هواهم مع العلوية بنوع خاص. وقد أعطى هذا الاتهام في الوقت نفسه فرصة للإيقاع بأسرة الأشعث بن قيس المبغضة من الشيعة؛ لما لها من شأن في الانقلاب الذي حدث يوم صفين، وما كان معاوية بالرجل الذي يقترف إثم لا مبرر له، كما أن الحسن كان قد أصبح مسالما منذ أمد طويل، وكانت حياته عبئا على بيت المال الذي أبهظه بمطالبه المتكررة! ومن اليسير أن نعلل ارتياح معاوية وتنفسه الصعداء عندما سمع بمرض الحسن(1).

وقال في موضع آخر بعد حديثه عن الأشعث بن قيس واتهامه بمؤامرة قتل الإمام علي علیه السلام : هجوم التراث ضد ذاكرة الأب يجعلنا في حالة من الاطمئنان في الحكم على جعدة بنت الأشعث، وكذبة أو خرافة سمها للحسن؛ فالمسعودي الذي ينقل هذه الحادثة ينقل أيضا بيتين من الشعر للشاعر الشيعي النجاشي، وهما يؤدیان العكس ما ذكره المسعودي؛ فهما يوضحان عدم معرفة جعدة بما حدث، وهناك رواية

ص: 687


1- Encyclopaedia of Islam. V3,274

تقول: إنها لم تدفع لسم الحسن بأمر معاوية؛ وإنها لغيرتها من نساء الحسن الأخريات، اللائي لم يتوقف الحسن عن التزوج بهن، ومع ذلك لا يمكن القبول بفكرة تدخل جعدة بسم زوجها. زيادة على ذلك فإن انتشار الجدري الذي عرف في هذه السنة، والذي أشار إليه الطبري بأنه ألحق دمارة بالعراق، ووصل شبه الجزيرة لا بد من أخذه بنظر الاعتبار. وهناك رواية تقول: بأن الحسن توفي بعد شربه لنبيذ العسل. وعدم التأكد الموجود في التراث يدفعنا للتشكيك في الروايات غير الدقيقة. وكان العراقيون يكرهون الحسن، وينتظرون موته، وكانوا يسمونه مذل المؤمنين ومن ثم يبدو أنهم كانوا ينتظرون موته؛ من أجل التخلص من الهيمنة السورية. ولم تشكل وفاته إلا حدثا عاديا كباقي الأحداث المتفرقة(1).

وكان ابن خلدون خلافا لمن سبقه من المؤرخين قد سبق « Lammens» لتكذيب خبر سمه على يد جعدة بأمر معاوية فقال: «وما ينقل من أن معاويةدس إليه السم مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك»(2). وقد مر بيان موقف ابن خلدون من الأئمة علیهم السلام والشيعة وغلوه في معاوية. ثم إن المصادر التاريخية لتكذب ابن خلدون و «Lammens» فهي تنص وبكل صراحة على أن جريمة قتل الإمام الحسن علي كانت من تدبير معاوية وتنفيذ جعدة بنت الأشعث(3). أما

ص: 688


1- Melanges de la faculte Orientale, 1907, pp. 44-46.
2- العبر وديوان المبتدأ والخبر، 649/2
3- ابن سعد، الطبقات، 386/6 - 387؛ ابن قتيبة: المعارف، 212؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 295؛ المقدسي: البدء والتاريخ، 6 / 5؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 47 - 31؛ ابن عبد البر: الاستیعاب، 1/ 389؛ ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، 13 / 284؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 225 -226؛ سبط ابن الجوزي: تذکرة الخواص، 211؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 15؛ الكامل في التاريخ، 3/ 460؛ ابن العديم: بغية الطلب، 4 / 367؛ الروحي: بلغة الظرفاء، 42؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 11؛ ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، 174؛ ابن خلکان: وفيات الأعيان، 2/ 67؛ أبو الفداء: المختصر، 1/ 183؛ التبر المسبوك، 33؛ النويري: نهاية الإرب، 201/20؛ المزي: تهذيب الكمال، 6/ 253؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 4/ 40؛ سير أعلام النبلاء، 274/3- 275؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، 12/ 68؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 47؛ المقريزي: إمتاع الأسماع، 5 /361؛ النزاع والتخاصم، 36؛ ابن حجر: تهذيب التهذیب، 2/ 260؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء، 154؛ الدياربكري: تاريخ الخميس، 2/ 292 - 293؛ ابن حجر: الصواعق المحرقة، 216؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3/ 359 - 360.

اعتراضه على نص المسعودي الذي يقول: وذكر أن امرأته جعدة بنت الأشعث سقته السم، وقد کام معاوية دس إليها: إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم، وزوجتك يزيدا ، فكان ذلك الذي بعثها على سمه، فلما مات وفي لها معاوية بالمال، وأرسل إليها: إنا نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه. وفي فعل جعدة يقول النجاشي الشاعر وكان من شيعة علي، في شعر له طويل:

جعدة بيه ولا تسأمي *** بعد بكاء المعول الثاكل

لم يسبل الستر على مثله *** في الأرض من حاف ومن ناعل (1)

فقد ذهب به «Lammens» مذهبا عريضا؛ وإلا فهو أوهن من أن يؤدي لتبرئة جعدة، أو أن يفهم منه ذلك! وكيف ذاك وهو يقدم عليه نصة وحقيقة يقول عنها بأنها ذكرت؟! - أي من قبل الرواة والمؤرخين من قبله - بأنها هي التي سمته !؟ ثم إن البيتين يعنيان التعريض بجعدة ولومها على ما أقدمت عليه وأنها يجب أن تبكي بمرارة وحرقة ولوقت طويل!؛ لأنها أقدمت على قتل زوجها الذي لا يوجد في الأرض من يشبهه؛ وإلا لما اختيرت هي من دون نسائه لمخاطبتها بهذين البيتين؟! ولم يكن هذا المعني غائبا عن بال «Lammens»وهو يدعي القوامة على اللغة والأدب العربي وأنه فهمه أفضل من غيره!؛ إنما هو لم يجد ما يتساند إليه في تبرير السبب الذي قدمه لشهادة الإمام علیه السلام ؛ فتراه يتخبط بين القول: إنه مات بالسل! وإنه أنهكته الملذات! ومرة يلمح المرض الجدري المنتشر في تلك السنة! وأخرى لشربة عسل! ومن ثم الاستغفال القراء بالالتواء على هذين البيتين !

ص: 689


1- مروج الذهب، 3/ 6.

أما أن معاوية لم يكن بحاجة لتنفيذ هذه الجريمة! فهذا ما يتعارض وحقيقة الأحداث على أرض الواقع !؛ وإلا كيف لمعاوية أن يعهد لولده يزيد بالخلافة والإمام الحسن علیه السلام ما يزال على قيد الحياة؟ وكان قد اشترط على نفسه أن تعود الخلافة للإمام الحسن علیه السلام بعد موته؟ وهذا ما صرح به أبو الفرج الأصفهاني فقال: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص؛ فدس إليهما سما فماتا منه «(1).

أما أن الشيعة إنها نسبوا ذلك لجعدة ومعاوية؛ ليبرروا لقب سيد الشهداء، فهذا استغفال صريح وواضح للقراء!؛ فلم يقل أحد من الشيعة منذ تكون مذهبهم وحتى اليوم بنسبة هذا اللقب للإمام الحسن علیه السلام فهو معروف بالإطلاق على الإمام الحسين علیه السلام. نعم الإمامان علیهما السلام يعرفان بسيدي شباب أهل الجنة ولكن شتان بين اللفظتين.

أما أن شهادة الإمام الحسن علیه السلام كانت حدثا اعتياديا كباقي الأحداث المتفرقة . ولم تؤثر أيما تأثير يذكر. فهو حكم ينطوي على مغالطة كبيرة واضحة؛ فباستشهاد الإمام علیه السلام فقدت الأمة الإسلامية آخر أمل بإقامة حكومة أو خلافة إسلامية تعتمد القرآن والسنة، والأحكام والأخلاق الإسلامية السمحاء، كمعيار لتعاملاتها ونظامها بصورة عامة !؛ ولذا عد استيلاء معاوية على الحكم علامة فارقة وفاصلة، بين كونه فيما سبق خلافة إسلامية - وإن تخللتها أوقات مشابهة لما تلاها - وتحوله باعتلائه العرش ملك عضوضا لا يستند لأي من مبادئ الإسلام، فالخلافة لعهده كانت مغالبة وعصبية، وأما قبل ذلك كانت اختيارا واجتماعا فميز بين الحالتين فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم بالملوك(2). وقد عبر عن حكم بني أمية بأنه

ص: 690


1- الأغاني، 47 - 48؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 49.
2- ابن خلدون: العبر، 2/ 650.

ملك عضوض مخالف لشرائع الإسلام(1). ولذا عندما يسأل: متى ل الناس؟! يجاب: حين مات الحسن، وأدعي زياد، وقتل حجر(2). وفي لفظ : أول ذل دخل على العرب موت الحسن بن علي(3).

وعلى أيه حال كان حدث شهادته قد آلم المسلمين كثيرا حتى ارتجت المدينة صباحا، فلا تلقى إلا باكيا(4). وكان بنو هاشم قد بعثوا إلى العوالي صائحا يصيح في كل قرية من قرى الأنصار بموت الإمام الحسن عليه السلام فنزل أهل العوالي ولم يتخلف أحد عنه(5). وقال بعض الذين حضروا مراسيم الدفن في البقيع، وهو يصف شدة زحام الناس، وتجمعهم لهذا الحدث الأليم: شهدنا حسن بن علي يوم مات، ودفناه بالبقيع، فلقد رأيت البقيع ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على إنسان!(6). وقال آخر: مکث الناس يبكون على الحسن بن علي سبعا ما تقوم الأسواق (7).

ص: 691


1- الطيالسي: مسند، 31؛ أبو يعلى الموصلي: مسند، 2/ 177؛ ابن حزم: الأحكام، 4/ 575؛ البيهقي: السنن الکبری، 8/ 159؛ الطبراني: المعجم الكبير، 20/ 53؛ ابن عبد البر: التمهيد، 14/ 245؛ الزمخشري: الفايق في غريب الحديث، 2/ 374.
2- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 50؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 51.
3- ابن سعد، الطبقات، 6 / 393؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13 / 295؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 10/16 ؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 255.
4- ابن سعد، الطبقات، 6 / 388؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 275 - 276.
5- ابن سعد: الطبقات، 6 / 392؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 13 / 297.
6- ابن سعد، الطبقات، 6 / 392؛ الطبري: المنتخب من ذيل المذيل، 19؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 13/ 297؛ المزي: تهذيب الكمال، 6 / 256؛ ابن حجر: الإصابة، 2/ 65.
7- ابن سعد: الطبقات، 6 / 392؛ الطبري: المنتخب من ذيل المذيل، 19؛ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 297 /13

ص: 692

اَلْفَصْلُ اَلسَّابِعُ: تقويض صورة الثائر والمضحي المثال

اشارة

ص: 693

ص: 694

مَدخَل

كان للتشيع وسير الأئمة عليهم السلام نصيب وافر من الاهتمام الاستشراقي؛ إذ حاول الاستشراق تفحص خيوط النسيج الفكري والعقائدي الشيعي، واندفع المستشرقون السبر أغوار الحركة الشيعية، والنفوذ لعمقها الضارب، والقديم قدم الإسلام نفسه(1). وكانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده وصحبه في كربلاء أحد المحاور المهمة التي طرقت أبواب المنظومة الاستشراقية بها شكلته من مادة تاريخية ومحاور نقاشية فكرية وعقائدية كان من شأنها استكمال وضع الإسلام، وهو ما يزال في بداية «النصف الثاني للقرن الأول الهجري) على مفترق طرق، مثل منها الإمام عليه السلام بصموده و فدائه وشهادته امتداد دين الإسلام المحمدي الأصيل في حين مثل (بنو أمية )والمشتركون معهم في جريمة كربلاء، ومن وافقهم على فعلهم، الانقلاب والارتداد لكل ما هو جاهلي ووثني. وبغض النظر عن التقييم الاستشراقي لهذين الاتجاهين،وانجذاب كل مستشرق بحسب دوافعه وتوجهاته وأهدافه لتنكب أحدهما فإن هذه الموضوعة تبقى تمثل مادة تاريخية مهمة وضخمة للتنقيب الاستشراقي؛ بسبب التفاعلات والعناصر التي تمخض عنها تصادم هذين الاتجاهين.

ص: 695


1- هاینس هالم: الشيعة 15.

ولذا نجد المستشرقين بمجرد رؤية الرواية الرسمية الأولى لواقعة كربلاء، والتي تضمنها كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري النور في سماء ليدن والذي كان يشرف على نشره المستشرق الهولندي (Michael Jan De Goeje= ميشيل دي غويه) يسارعون لاستغلال المادة التي قدمتها في تسليط الأضواء على أحداث کربلاء، وتبلور حركة التشيع قبيل شهادة الإمام الحسين عليه السلام وبعدها. وكان المستشرق الألماني (Heinrich Ferdinand Westenfeld = هاینرش فيردناند وستنفلد) قد سبق هذا العمل الضخم، بتأليفه كتاب (Der Tod Huseein und die Racbe = مقتل الحسين والثأر له) في عام (1883 م) وهو دراسة استقاها من كتابي أبي مخنف: (مقتل الحسين والمختار الثقفي) أو هو بالأحرى ترجمة لهما للغة الألمانية. كما ترجم کتاب (خبر المختار وابن زیاد) خلال (1838 - 1840م) في برلين(1).

ثم كتب المستشرق (Gerolf Van Vloten = جيرولف فان فلوتن 1866 -1903م) (2) . وهو من أبرز تلامذة المستشرق (= De Goeje دي غويه) بمساعدة الأخير كتابه ( La Domination arabe, Le Chiitisme et les Croyances

messianiques Sous le Khalifat des Omayades = السيطرة العربية والتشيع والمعتقدات المهدية في ظل خلافة بني أمية» في لندن عام (1893 م) وقد خصص موضوعين من الكتاب المتكون من ثلاث موضوعات أساسية للحديث عن الشيعة والتشيع وعقيدة المهدي التي نسبها لتأثير الفكر اليهودي من خلال شخصية عبدالله

ص: 696


1- سزكين: تاريخ التراث العربي، مج 1، ج2/ 128 - 129؛ بدوي: موسوعة 402.
2- مستشرق هولندي، حقق ونشر بعض المصادرالعربية، وألف عددا من الدراسات في التدوين والتاريخ الإسلامي. من أهم نتاجاته: نشر و تحقیق کتاب (مفاتیح العلوم للخوارزمي 1895م) وكتاب (البخلاء للجاحظ 1900م) وكتاب (المحاسن والأضداد للجاحظ. ليدن 1894 - 1932م). ومن مؤلفاته إضافة للدراسة أعلاه: کتاب (مجيء العباسيين إلى خراسان 1890م) و(الأمويون والإسرائيليات 1902 م). بدوي: موسوعة، 410، يحيى مراد: معجم، 518.

ابن سبأ(1) ومن ثم كتب المستشرق الألماني «Julius Wellhausen = يوليوس فلهوزن» كتابه (Political Opposition Parties in Early Islam - The Religio. برلين 1901م) وقد ترجمه (د. عبد الرحمن بدوي) للعربية ونشر في القاهرة عام (1959م) تحت عنوان «أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام: الخوارج والشيعة» . وكتابه «Das arabische Reich und sein Shrz = الدولة العربية وسقوطها» وقد أصدره في (برلين 1902م) وترجمه وعلق عليه «محمد عبد الهادي أبو ريدة» ونشر في القاهرة عام (1986 م).

كانت دراسات هؤلاء المستشرقين الثلاثة هي أبرز وأهم الأعمال الاستشراقية التي تناولت سيرة الإمام الحسين علیه السلام وشهادته في كربلاء قبل أن يقدم «Lammens »دراساته المتعلقة. وكانت دراسة «Wellhausen = فلهوزن» «أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام» هي الدراسة الأهم والأشمل من بينها، وقد تبنی خلالها الدفاع عن بني أمية وإنصافهم من عصبية المؤرخين التي أملتها العصبية الشيعية وغير الشيعية !؟

وبالمقابل انصب إعجابه على الخوارج الذين خرجوا على كل أشكال الاستبداد السياسي باسم الدين وتأويله؛ فعد آراءهم ونضالهم مواجهة لآراء الشيعة قدسية أهل البيت كما هي مواجهة للأمويين المستبدين دونها اعتبار لتوجهاتهم الدينية، وهم بالنسبة إليه نبتة إسلامية حقيقية وحزب ثوري صريح يعتصم بالتقوى، ينشأ عن

ص: 697


1- مقدمة المترجم، 13. ثم ينظر الصفحات (69 - 121، 157 - 178.على أن هذه الأسطورة قد فندت من قبل عدد من الباحثين مثل: طه حسين. في كتابه: الفتنة الكبرى / عثمان، 131 - 137. ومرتضى العسكري. في كتابه: عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى. وعلي الوردي. في كتابه: وعاظ السلاطين، 95 - 115. وإبراهيم بيضون في كتابه: عبد الله بن سبأ إشكالية النص والدور الأسطورة. وأحمد الوائلي. في کتابه: هوية التشيع، 129 - 142.

شدتهم في تقديم الدين على أي اعتبار آخر، وتصلبهم فهم لا يقبلون أي تساهل في أمر الدين وقد أثبتوا ذلك ليس في ثوراتهم فقط بل في الدول التي أنشأوها بعان والمغرب (1) . وقد اعتمد (Welhaasen = فلهوزن) في دراسته هذه اعتمادا كليا على مرويات أبي مخنف لأنها - حسب تقديره - أصدق المرويات الواردة في الموضوع، وعد الأخير أصدق رواة الطبري فوثق به ثقة واسعة فيها إفراط غير قليل فقال: «وأبو مخنف هو الحجة الكبرى»(2).ولأنه وإن كان شيعيا إلا أنه أقل حماسة من اليعقوبي الذي قال عنه: «وما كان للمرء أن يستفيد كثيرا من المعلومات المهمة من شيعي متحمس مثل اليعقوبي عن حادث له عند أصحاب مذهبه أهمية قصوى»(3) .

تغافل «Wellhansen = فلهوزن» عن أن كلا من أبي مخنف واليعقوبي ليس شيعيا بالمعنى الخاص. أي: ليس شيعيا إماميا يقول بإمامة الأئمة بالنص، إنما هما من شيعة العباسيين؛ فأبو مخنف: «من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها»(4).وعبر عنه بأنه: «شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم وكان يسكن إلى ما يرويه»(5).ولعل التخصيص في النص يبين جانب التوثيق في شخصه وعليه قيل: «وكيف كان فهو ثقة مسكون إلى روايته»(6). لأنها رواية تاريخية لا تتعلق بحکم فقهي أو نص تشريعي أو اعتقادي. ومما يدل على عدم تشیعه أنه لم يرو - رغم معاصر ته - عن أحلي من الأئمة الأربعة: السجاد الباقر /

ص: 698


1- تنظر المادة المتعلقة بهم من الكتاب، 14 - 145.
2- فلهوزن: أحزاب المعارضة، 179
3- فلهوزن: أحزاب المعارضة، 179
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 147؛ العسكري: معالم المدرستين، 1/ 314.
5- فلهوزن: أحزاب المعارضة، 179. (4)(5) النجاشي: رجال النجاشي، 320؛ الحلي: خلاصة الأقوال، 233؛ الحر العاملي: وسائل الشيعة، 30/ 453
6- معجم رجال الحدیث، 15/ 142.

الصادق / الكاظم:. بشكل مباشر وإن كان روی عن أصحابهم بعض الروايات !؟(1). وقد أكد الشيخ المفيد. ت 413ه-) عدم تشیعه في كتابه الجمل حينما أورد عنه عددا من الروايات، وقال في نهاية كتابه: «فهذه جملة من أخبار البصرة وسبب فتنتها، ومقالات أصحاب الآراء في حكم الفتنة بها. قد أوردناها على سبيل الاختصار، وأثبتنا ما أثبتنا من الأخبار، عن رجال العامة، دون الخاصة، ولم نثبت في ذلك ما روته الشيعة(2). وقال في بعض تلك الروايات: «روی الواقدي وأبو مخنف عن أصحابهما.. ، واعتمدنا فيها على ثبوتها في مصنفات القوم وكتبهم»(3).

كان دفاع (Welhausen = فلهوزن) عن الأمويين في دراستيه السابقتين بمثابة القالب والصورة النمطية التي تمثلها «Lammens» في دراساته عنهم ولكن مع الاختلاق والتقول على النصوص التاريخية! وحملها على ما لا يمكن أن يستفاد منها أبدا مهما تحايل المرء عليها، ومع استعمال بذيء العبارة والوصف، والمبالغة والتطرف الشديد في الانتصار للأمويين وتمجيدهم، حتى في أبشع جرائمهم، ومع المجافاة الشديدة للوقائع والأحداث التاريخية، على الرغم من أنه قد تحصل على مادة تاريخية غزيرة لم تتوفر لسلفه (Wellhausen = فلهوزن) ولا لمن سبقه من المستشرقين! وما ذلك إلا لأنه كان مقادا للعصبية والهوى والغايات المسبقة التي تمثلها وراعاها في جميع كتاباته، ولتوخيه في دراساته المتعلقة هدم وتقويض صورة الإمام الحسين عليه السلام كثائر ومضح ومفتد و شفیع مثال، يقابل ويزاحم صورة السيد المسيح عليه السلام كممثل لهذه الأدوار وجزئياتها في الفكر الغربي المسيحي!

وقد تعرض «Lammens» السيرة الإمام الحسين عليه السلام في أكثر من موضع من

ص: 699


1- البدري: الحسين في مواجهة الضلال الأموي، 17 - 18.
2- المفيد: الجمل، 225.
3- المفيد: الجمل، 147.

مؤلفاته. فبداية تناول شيئا من بواكير حياته في كتابه ( Etudes sur leregne du Calife Omaiyade Moawia ler = دراسات عن حكم الخليفة الأموي معاوية الأول. بيروت 1907 م). ومن ثم عن ولادته وطفولته بمعرض حديثه عن الحياة الزوجية للإمام علي والسيدة الزهراء وعلاقتهما وسبطيها بالنبي: في كتابه ( Fatima et les Filles de Mahomet = فاطمة وبنات محمد. 1912 م) ثم جمع بعض الإشارات من الكتابين ليقدم مقالته عن الإمام عليه السلام في «Encyclopaedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية» بطبعتها القديمة تحت عنوان ( Husain - Al = الحسين. مج3 / 339). ولسوء المقالة ومجافاتها للواقع التاريخي وتحاملها الشديد استبدلت في الطبعة الثانية ل-(Encyclopaedia of Islam = دائرة المعارف الإسلامية. 1971م) بمقالة (A1 - Husayn B. Ali B. Abi Talib = الحسين بن علي بن أبي طالب) للمستشرقة الإيطالية (Laura Vaccia Vagelier = لورا فيشيا فاغليري. مج3/ 607- 615) فانتقدت آراء « Lammens» وطروحاته وقدمت صورة مغايرة لما قدمه. كما خصص «Lammens» ما يقرب من مائة صفحة من كتابه «Le califat de Yazid Ler = خلافة يزيد الأول. بیروت 1921 م). الذي نشر على شكل مقتطفات في « Melanges de la faculte Orientale = منوعات الكلية الشرقية» عرض خلالها الثورة الإمام الحسين علیه السلام منذ اعتراضه على اعتلاء يزيد على كرسي الحكم، مرورا بخروجه إلى مكة ومسيره إلى العراق وشهادته وما استتبع ذلك من سبي للنساء والأطفال وحمل الرؤوس. وسيناقش منه هنا:

-الفصل العاشر. الذي جاء تحت عنوان «karbala = كربلاء. في الصفحات «161 - 143 ».

- الفصل الحادي عشر. تحت عنوان «Mort de Hosain = موت أو مقتل الحسين. في الصفحات 162- 170».

ص: 700

- الفصل الثاني عشر. تحت عنوان «At lendemain de Karbala = ما بعد کربلاء. في الصفحات 171 - 182».

وقد تعامل «Lammens»مع ثورة الإمام الحسين عليه السلام بمنتهى التطرف والافتراء، سيما في كتابه (Le califat de Yazid Ler = خلافة يزيد الأول) لأنه كان ينطلق من متبنیات خطاب التقويض لصورة الثائر والمضحي والفادي والرمز المثال لرفض الظلم والطغيان، والموت لأجل الحرية والعدالة وحفظ الكرامة والمعتقد.. وهي صورة أراد لها أن تحتفظ بفرادتها - حسب عقيدته - للسيد المسيح عليه السلام . ولأنه يتوخى عدم الإفصاح عن هذه الغاية والنية التبريرية المحتالة، التي تغص بحمولات الإرث التقاطعي المتعصب الذي روجته البيئة الفكرية المتشنجة في القرون الوسطى، راح يتحصن خلف فكرة الدفاع عن الأمويين ودعوى الموضوعية والبحث الدقيق؛ الكشف تزوير وعبث، وتحامل التاريخ عليهم؛ بدعوى أنه كتب بأقلام أعدائهم العباسيين، فنجده يفتتح كتابه الأخير بتقييمه الأولي لحكم يزيد وأحداث کربلاء بالقول:

لم يترك الموت للخليفة الشاب الوقت لكي يجعل الناس ينسون ذلك وأنيتخلص، کا فعل معاوية، من النزاع مع عائلة النبي ومع المدن المقدسة، بالحلم والكرم المفرطين. بالنسبة للحكام البائسين دوما، يعاملهم الرأي الشعبي العام بلا رحمة خصوصا عندما تضاف العواطف الدينية إلى الأحكام السياسية المسبقة. هل يمكن بعد هذا الشك بأن السنة تحابي يزيد؟ أمر الخليفة فقط بقتل المتمردين الحاملين للسلاح وعدم المساس بشخص الحسين. عندما علم يزيد بالكارثة، تأسف على ذلك بمرارة ووبخ عبيد الله على رعونته وقسوته العبثية. المسؤولية الرئيسية يتحملها الحسين. إذا كان في حياته الخاصة وفي موقفه اللائق من الأمويين أكثر تميزا من شقيقه الحسن؛ فإنه في الأيام الأخيرة من حياته بدا طائشة، مترددا، وأحمق. في تلك الساعة الحرجة، لم يبد

ص: 701

حزما ولا شجاعة أكبر من الحسن. ربما ينبغي أن نبارك للإسلام على هذه النهاية المؤلمة المأساة كربلاء وعلى انتصار الأمويين الذين انتصرت معهم مبادئ النظام وسياسة أقل جرأة وخطورة(1). إذن «Lammens» وضع نتائجه مسبقا، ومن ثم سيعمل على جر النصوص التاريخية نحوها! وإن مانعته فلديه خزینه الوافر من الافتراء والتحريف والتلاعب بالنصوص.. الخ. هذا مضافا لبذاءةاللسان والاقذاع في المنطق! مما يفترض أن يترفع عنه في مضمار البحث العلمي على أقل الفروض.

وكما هي عادته في مناقشة مواضع حساسة، حاول الإيحاء بأنه سيتحرى الموضوعية، ويعمل مناهج البحث التاريخي العلمية الدقيقة في استشفاف حقيقة الأحداث، فكان تمويهه المفتعل والعاري عن الصحة تماما أنه سيحاول: استخلاص الوقائع الرئيسية ووضعها في إطارها الحقيقي، وترميم صورة الأبطال الأوائل التي شوهتها - بلا داع - أقلام كتاب التراجم المناهضة للأمويين. إنها مهمة شاقة أن يهتدي المرء إلى الطريق الصحيح عبر ال- (160 صفحة) التي خصصها «الطبري» لوحده لهذا الحدث. إذا كان حجم الملف يمكن أن يشتت الانتباه، فإن وفرة هذه الوثائق المتناثرة وتنوعها يسمح دائما بإيجاد النواة الأصلية لهذه الأسطورة. إن حذف اللغو والتناقضات يسهل إبداء آراء مسؤولة، وتعيد حدثا إلى حجمه الحقيقي بعد أن ضخمه الخيال الشيعي بإفراط. ليس خطأنا إذا كانت شخصية الحسين تخرج من ذلك وهي مستضعفة. طبقا لقول اليعقوبي، ربما يكون يزيد قد أمر ممثله في العراق بقطع رأس الحسين إذا نجح في إلقاء القبض عليه. سنرى أن أمر كهذا لم يصدر أبدا. «من المرجح أن يزيد لقي معاملة إيجابية من جانب السنة، هذا ما يعتقده فلهوزن»، لم نجد أثرا لهذه المعاملة الحسنة. مع الحجاج، ولكن بدرجة أعلى، يشكل ابن معاوية الملعون إحدى فراعات السنة. أتيحت لنا فرصة استشفاف ذلك وسيقتنع القارئ بذلك في نهاية هذه

ص: 702


1- Le califat de Yazid. pp, 148-149

الدراسة. لم يستطع يزيد أن يحظى، مثل والده، بالهيبة والحظوة؛ فقد كان عهده سلسة لا تنتهي من الكوارث التي أثرت بشكل كبير على الضمير الإسلامي (1).

ونحن بدورنا سنحاول تتبعه في ادعاءاته هذه، وسنقابل أقواله ورؤاه بأقوال ورؤي بني جلدته من مستشرقين وغيرهم، وبأقوال و آراء المختصين والباحثين، ومن قبل ذلك بالمصادر التاريخية التي ادعى أنه أخذ عنها، وإلا فهو كان يصوغ الأحداث بلغته الخاصة! ومن ثم يبحثها ويفسرها ويأتي بالنتائج حسبما يشتهي! أو أنه يسقط من النص ما يريد ويذر ما یرید! ؛ بدعوى أنه غلو أو لغو! والحال أنه إنما أخذ الجميع من مصدر واحد، وليس يدري بأي مقیاس صار النص هنا غلوا وهنا لغوا، وهنا حقيقة محضة؟!

ص: 703


1- Le califat de Yazid. pp, 147-148

(1) رحلة الشهادة.. دلالة النص وتزوير الخطاب

تطالعنا في هذه الجزئية استباحة «Lammens» وتلاعبه بالنصوص التاريخية، عبر استعمال مدلولات لفظية تعطي معنی مغايرا للنص تماما! وهي إحدى الآليات التي لجأ إليها في ترسيخ خطاب التقويض وتركيزه. فنجده يقول: «كان يزيد قد علم قبل أسابيع، وهو في دمشق بهروب الحسين إلى مكة ومغادرة مسلم إلى العراق»(1).

حاول «Lammens» منذ البداية نقل المتلقي من حقيقة الثورة وأرضيتها الصلبة المستمدة من مفردات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر / العزة / الاباء / الكرامة الإنسانية / التمنع الحر / رفض الذل والضيم.. ، إلى مساحة الانهزام والهرب، وما يترتب عليه من تصور لتلك الشخصية التي يدور الحديث عنها في ضمن نطاق هذه المفردات! فمجرد اختياره لمفردة «هرب / هروب» هو كفيل بتزييف الحدث المتعلق وتحريفه، ونقل المتلقي لتلك المساحة المقصودة. فلم يرد لا عند الطبري ولا عند أبي مخنف ولا عند غيرهما من المؤرخين أن: الإمام عليه السلام هرب / فر من المدينة إلى مكة. وهذه الأخيرة كان استعملها من قبله (Wellhausen = فلهوزن) فقال: رفض الحسين أن يبايع يزيدا وحتى يخلص من سلطانه فر من المدينة(2). ومع ما يحمل نصا المستشرقين من التشابه ووحدة المضمون إلا أن نص «Lammens» كان أكثر إغراقا وإمعانا في تمييع الحقيقة وتشويهها؛ ففي الوقت الذي يبقي (Welhausen = فلهوزن) على السبب الداعي لخروجالإمام علي من مكة. نجد «Lammens» يحذفه وكأن المسألة عبثية وتهور غير مبرر فيقول: كان يزيد قد علم قبل أسابيع، وهو في دمشق بهروب الحسين إلى مكة ومغادرة مسلم إلى العراق!

ص: 704


1- Le califat de Yazid. P, 146
2- أحزاب المعارضة، 160.

إن النص الذي أورده الطبري بين حيثيات ذلك الخروج بما يخالف ما ذهب إليه المستشرقان؛ فقد ذكر أنه بعد موت معاوية طلبت البيعة من أهل المدينة سيها الإمام الحسين علي وعبد الله بن الزبير، فقال الأخير للإمام علي : فيا تريد أنتصنع؟ قال: أجمع فتياني الساعة، ثم أمشى إليه فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه ثم دخلت عليه. قال: فإني أخافه عليك. فقام فجمع إليه مواليه وأهل بيته ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد. فقال لأصحابه: إني داخل فان دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم، فأقرأه الوليد الكتاب ودعاه إلى البيعة فقال: إن مثلي لا يعطى بيعته سرا. فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه. احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين، فقال: يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟، كذبت والله وأثمت. ثم خرج فمر بأصحابه، فخرجوا معه حتى أتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا. فقال الوليد: وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا، وملكها وأني قتلت حسین، سبحان الله ! أقتل حسينة أن قال: لا أبايع، والله إني لا أظن امرأ يحاسب بدم حسين الخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيها صنعت، يقول هذا له وهو غير الحامد له على رأيه وألح الوليد بطلب عبد الله بن الزبير فبعث له أخاه جعفرا فقال] رحمك الله كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وهو آتيك غدا إن شاء الله، فمر رسلك فلينصرفوا عنا. فبعث إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من تحت الليل، فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر ليس معها ثالث وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، فتشاغلوا عن حسين بطلب عبد الله يومهم ذلك حتى أمسوا، ثم بعث الرجال إلى حسين عند المساء فقال: أصبحوا ثم ترون ونرى، فكفوا عنه تلك الليلة، ولم يلحوا

ص: 705

عليه، فخرج حسين من تحت ليلته، وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين، ببنیه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته (1).

إذن فالنص يصرح أن خروج الإمام الحسين عليه السلام كان تحت تشاغل وعدم رغبة، أو بالأحرى عدم قدرة الوليد على منعه، وإنه تم بصورة شبه علنية؛ فهب أن الوالي - الوليد بن عتبة - غفل أو تغافل عن مراقبة دار الإمام عليه السلام والعلويين، فما بال مروان وقد دخل بمشادة معه ومع الوالي؟ وإن لم يكن هذا التحذيرهم وجعلهم يأخذون الأمر على محمل الجد، ويراقبوا ويستعدوا لأية مستجدات فقد كان في هروب ابن الزبير وأخيه، في الليلة السابقة لمسوغ ودافع و موجب لذلك؟ ولعل الدليل على عدم رغبة أو قدرة الوالي على منع الإمام عليه السلام من الخروج أنه لم يبعث خلفه من يلاحقه في حين فعل ذلك مع ابن الزبير؛ ولعل ذلك راجع في المقام الأول لامتلاك الإمام عليه السلام القدرة على الرد وهذا ما حدا بيزيد إلى عزل الوليد واستبداله بعمرو بن سعيد الأشدق (2)؛ مما يعطي دليلا آخر على أنه كان ينتظر منه أن يقدم أكثر من ذلك، وأنه أعطي الأوامر والصلاحيات لفعل ما يراه لازما تجاه الموقف، إلا أنه لم يستطع أن يحرك ساكنا. ثم كيف يخفى خروج الإمام عليه السلام على الوالي وسلطات الأمويين في المدينة، وهو لم يخف على رجل بسيط مثل أبي سعيد المقبري فقد قال: نظرت إلى الحسين داخلا مسجد المدينة وإنه ليمشي وهو معتمد على رجلين، يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة وهو يتمثل:

لاذعرت السوام في فلق الصب- *** ح مغير ولا دعيت یزيدا

يوم أعطي من المهابة ضيما *** والمنايا يرصدنني أن أحيدا

ص: 706


1- تاریخ، 5/ 339 - 340.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 368-369؛ الطبري: تاریخ، 5/ 342؛المسعودي: مروج الذهب،3/ 51؛ سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص، 237

فقلت في نفسي: والله ما تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد. فيا مكث إلا يومين حتى بلغني أنه سار إلى مكة (1).

فهل أن مجرد سماع الأخير لبيتين من الشعر قدح في ذهنه خطورة الموقف، وتوقع حدوث شيء في حين لم تقلق كل الأحداث السابقة السلطة الأموية في المدينة والأمويين وفي مقدمتهم الوالي ومروان بن الحكم وتجعلهم يتحركون للتحرز وأخذ الاحتياطات اللازمة !؟ وبغض النظر عن كل ما ذكر، هل تحرك أكثر من «20 رجلا مع النساء والأطفال» وسلوكهم الطريق العامة لم يشعر قوات الوالي أو على الأقل الحرس الليلي الذي لابد كان يجوب المدينة؟ وهل عرف عن الهاربين أن يخرجوا بركب مثقل بالأطفال والنساء!

وفضلا عن ذلك كله مصادر «Lammens» نفسها تنص على أن ذلك التحرك تم بصورة علنية واضحة؛ فهي تنص على أنه: « قال للحسين أهل بيته علیهم السلام لو تنکبت الطريق الأعظم کا فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب. قال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه»(2).وقالت أخرى: دعا الحسين برواحله فركب متوجها

ص: 707


1- الطبري: تاریخ، 5/ 343. وينظر: ابن قتيبة: الشعر والشعراء، 233. والبيتين للشاعر ابن مفرغ الحميري: يزيد بن ربيعة، وهو حليف لقريش. وقد سجنه وعذبه زیاد ابن أبيه لأنه هجا ولده عباد. فهجا زیاد نفسه وعيره بأمه سمية. فبعث شعرا لمعاويةوتوسط له اليمنيون فأخرج من الحبس. وهو القائل: ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عف *** وترضى أن يقال أبوك زان وأشهد أن إلك من زیاد *** کإل الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها حملت زيادا *** وصخر من سمية غير دان ابن قتيبة: الشعر والشعراء، 231 - 234. وينظر تفاصيل هذه القصة والشعر عند: الطبري: تاریخ، 5/ 321 -317
2- الطبري: تاریخ، 351/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 327. وينظر : ابن أعثم: الفتوح، 5 / 22.

نحو مكة على المنهج الأكبر، وركب ابن الزبير دوابا له وأخذ طريق الفرع(1). ثم هل كان الإمام علیه السلام مرغما على ترك المدينة؟ وهل الهروب بسلوك تلك القافلة الكبيرة الطريق العامة أو الرئيسة، أم خروج اثنين و تجنبهما إياها والسير في طريق فرعية؟! |

ويعيد «Lammens» التهافت ذاته في خروج الإمام علي من مكة إلى العراق فيقول: في شهر ذي القعدة (آب / 680م) توجه الأشدق إلى مكة لترأس الحج. تلقی الحسين نصيحة من أنصاره بأن يتم مراسم الحج بشكل منفرد؛ لكي لا يلتقي بالحاكم الأموي. کلا أجابهم ابن علي: صلاة الجماعة أكثر ثواب . مستغلا غياب الحاكم الذي كان يتم محطات الحج خارج مكة، سلك الحسين طريق الشرق، متبوعا، ولكن بعد مرور كثير من الوقت، من قبلفرسان عمرو، شأنه شأن الوليد، انخدع الأموي النبه جدا بالطيبة الظاهرية لابن علي. هنا أيضا يبدو من الصعب قبول رواية أبي مخنف الذي يقول: إن استعدادات الحسين للسفر لم تكن خافية على أحد في مكة. كان الطامع بالخلافة يتمرن علنا على ذلك، ليس مع ابن عباس فقط، بل وأيضا مع ابن الزبير. هل كان يمكن للأشدق أن يجهل ذلك؟ فضلا عن ذلك كان لديه جهاز شرطة منظم بشكل جيد(2).

بداية الإمام الحسين علیه السلام لم يتلق مشورة من أصحابه بأن يتم الحج منفردا کي لا يلتقي بالوالي الأموي كما يزعم «Lammens» فالمناقشات التي جرت بينه وبين هؤلاء الناصحين سواء في المدينة أو في مكة، إنما كان الناصحون فيها هم من يشيرون عليه بالبقاء في مكة أو التوجه إلى مكان حصين غير الكوفة حتى يستتب له الأمر، فيجيب بأن يشكر لهم نصحهم ويبين أنه خارج عن أمر وتكليف شرعي، وإنه يعلم

ص: 708


1- البيهقي: المحاسن والمساوئ، 55. وينظر: الدينوري، الأخبار الطوال، 230؛ ابن عبد ربه: العقد الفريد، 125 /5
2- Le califat de Yazid. pp, 146 - 147

بعواقب الأمور(1). ولذلك قال: إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها فماأحب أن أكون أنا ذلك الكبش والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر(2).

إذن «Lammens»ضرب كل هذه النصوص عرض الجدار! وجاء بتحليلاته الخاصة التي لا تستند إلا على العناد في فرض رأيه !؛ لتأكيد طرحه بأن ذلك التحرك كان يسير على غير هدى وحسب نصائح ومشورات من هنا وهناك، وإفلات وهروب من مدينة لأخرى! حتى بلغ التواؤه على النصوص؛ بحثا عن إسناد الخطاب الموجه، أن حاول إظهار خروج الإمام علیه السلام من مكة هو الآخر قد تم عن طريق الهرب، وبصورة سرية؛ خوفا من ملاحقة قوات عمرو بن سعيد الأشدق! ومن المعلوم أن الإمام علیه السلام إنها خرج من مكة يوم التروية، والمناسك في هذا اليوم تبدأ انطلاقا من مكة إلى مسافات ليست ببعيدة خارجها، فضلا عن أن المدينة لم تكن متسعة كما هي اليوم! ثم إن مما يكذب «Lammens» في ذلك أن أحد أهم مصادره وهو كتاب «الأخبار الطوال» نص وبصراحة على: أن عمرو بن سعيد الأشدق أرسل خلف الإمام علیه السلام صاحب شرطته في جماعة من الجند، فقال: إن الأمير يأمرك بالانصراف فانصرف وإلا منعتك. فامتنع عليه الحسين. وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وبلغ ذلك عمرو بن سعید فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل لصاحب شرطته يأمره بالانصراف(3).

ولأن في هذا الخبر حجة دامغة وتفنيدا، کاملا لمفتريات « Lammens» ما كان منه

ص: 709


1- الطبري: تاریخ، 5 / 341 - 342، 351، 382 - 385. وينظر: الدينوري: الأخبار الطوال، 243 - 244
2- الطبري: تاریخ، 384/5 - 385؛ المسعودي: مروج الذهب، 3/ 51- 53.
3- الدينوري: الأخبار الطوال، 244.

إلا أن يكذبه دفعة واحدة فقال: يبدو من الصعب قبول تفسير الدينوري: أدركت شرطة الأشدق الحسين وتركته يرحل (1)! متعاميا عن أن «البلاذري (2) والبيهقي (3) والطبري - وهم من مصادره الأساس - يروون هذا الخبر واللفظ للأخير: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعید بن العاص، عليهم یحیی بن سعید، فقالوا له: انصرف، أين تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط. ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعا قويا. ومضى الحسين على وجهه، فنادوه: يا حسين ألا تتقي الله. تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة(4).

بل إن الطبري يروي خبرا ثانيا يؤكد هذه الحقيقة، فقد قال: قام عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - إلى عمرو بن سعید بن العاص فكلمه، وقال: أكتب إلى الحسين کتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع، فقال عمرو بن سعيد: اكتب ما شئت واتني به حتى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب ثم أتی به عمرو بن سعيد فقال: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه، ويعلم أنه الجد منك، ففعل. ولحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله، وأمرت فيها بأمر أنا ماض له(5).

وقد أورد البيهقي هذا الخبر أيضا ولكن بشكل موجز(6). ويبدو أن الحدثين

ص: 710


1- Le califat de Yazid. pp, 146-147
2- أنساب الأشراف، 3/ 375.
3- المحاسن والمساوئ، 55.
4- تاریخ، 385/5
5- تاریخ، 387/5 - 388. وقد ذكر صيغة ذلك الكتاب.
6- المحاسن والمساوئ، 55.

والخبرين هما في الحقيقة خبر وحدث واحد؛ ففي كليهما كان من قبل الإمام علیه السلام هو یحیی بن سعید بن العاص أخو الوالي. ولكنه في الأول: كان على رأس مجموعة من الشرطة. وفي الثاني: كان يحمل رسالة بناء على اقتراح عبد الله بن جعفر. وفي كلا الخبرين حدثت مشادة بسيطة بين المرافقين ليحيى وركب الإمام علیه السلام فالراجح أن حاملي الكتاب، هم أنفسهم الشرطة الذين بعثهم الوالي في إثر الإمام علیه السلام . وبصرف النظر عن ذلك كيف أمكن أن تحاط تحركات الإمام علیه السلام وخروجه منمكة بالسرية وهي تغص بالحجيج؟! أم أنه خرج من المدينة بصورة سرية أثناء تغافل السلطة الأموية عنه، فيها بالها في مكة ؟!

ص: 711

(2) حقيقة الثورة.. إيهام النص وتضليل الخطاب

حاول «Lammens»- کما سابقيه من مزوري التاريخ - ضرب أسس الثورة والنهضة الحسينية وإعادة صياغتها بحسب متبنيات الخطاب المقدم؛ لما تمثله من صورة مثال للتضحية لأجل الدين والعقيدة والمبدأ ولما تحييه في الضمير والوجدان الإنساني من تمثل المبادئ الحرية والعزة والكرامة والإباء... ولما يمثله شخص الإمام عليه السلام من مفهوم المفتدي الشفيع أو المضحي، الذي لم يترك صحبا ولا أخوة ولا أولاد، ولا أطفالا ولا نساء، إلا وقدمهم قرابين في ساحة القدس الإلهي، حتى انتهى الدور إليه فما توانی لحظة واحدة في اللحاق بذاك الركب الاستشهادي. ولا شك في أن صورة هذه التضحية الوتر تأخذ بمجامع القلوب کیا لاشك أنها تبين فساد وعدم شرعية الحكومات المتسلطة بالقهر والغلبة والحيلة والاغراء.. ، کما تزاحم بشكل كبير صورة التضحية والفداء المزعومة في الصلب المسيحي - وستأتي بعض أمثلة هذا الإدراك - فعمل «Lammens» على تقويضها عبر التركيز على النصوص والروايات التي أرادت تصویر تحرك الثورة الحسينية وكأنه جاء استجابة لثورة عاطفة جياشة في طلب الثأر؛ أو ځلم كان يظن بأنه سهل المنال، أو طلب ملك أو حكم لم يعد له ما يكفي من أسباب بلوغه وتحقيقه! ولذا انطلق ذلك التحرك من دون إعداد مسبق. وعليه فالحسين هو من يتحمل المسؤولية كاملة عما جرى في كربلاء!؛ لأنه كان مغامرا حالما يبحث عن مكاسب دنيوية مادية، ولم يحسب حساب ما تحرك لأجله! وهو في هذا الطرح فضلا عن كونه تصيد نصوصا بعينها فهو قد سوف وتجاهل كما هائلا من النصوص الصريحة الواضحة الأخرى التي تفند رأيه بالكامل، كانت وردت في نفس المصادر التي انتقى منها نصوصه الأولى!

ص: 712

كان مما تعكز عليه « Lammens» في ذلك التقييم قول الأحنف بن قيس الذي نقله ابن قتيبة وهو أن الأحنف عندما كتب إليه الإمام الحسين عليه السلام يدعوه لمناصرته لم يجب على ذلك الكتاب وقال: «قد جربنا آل أبي حسن، فلم نجد عندهم إيالة(1) للملك. ولا جمعا للمال. ولا مكيدة في الحرب »(2). فحرف هذا النص إلى القول: «سبق وأن كانت لنا تجربة مع عائلة علي، التي لم نجد لديها حسن الحكم ولا الذكاء المالي ولا المعرفة في الحرب»(3). في حين أهمل نقل ابن قتيبة - في الصفحة نفسها. لقول أبي ذر رضی الله عنه: «أنا جندب صاحب رسول الله. سمعت رسول الله يقول: مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا»(4).وقول عبد الله بن عمر بن الخطاب للإمام عليه السلام : «أين ترید. قال: العراق، وأخرج إليه كتبا وطوامير، قال: هذه كتبهم وبيعتهم، فناشده الله أن يرجع، فأبي! فقال: أما أني سأحدثك حديثا: إن جبريل أتى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة، فأختار الآخرة وإنكم بضعة من النبي والله لا تليها أنت ولا أحد من أهل بيتك. وما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم، فارجع، فأبی، فاعتنقه وبکی، وقال: أستودعك الله من قتيل»(5). وقول الشعبي: «ما لقينا من آل أبي طالب، إن أحببناهم قتلونا، وإن أبغضناهم أدخلونا النار»(6).

إذن شتان بين المبدأ الذي ينطلق منه الأحنف بن قيس والمبدأ الذي ينطلق منه الإمام الحسين عليه السلام فمنطلقات الأول مادية دنيوية محضة، تبحث عن المال والملك

ص: 713


1- أي حسن السياسة. يقال: فلان حسن الأيالة، إذا كان حسن القيام على ماله. ابن قتيبة: غريب الحديث، 2/ 218؛ ابن منظور، لسان العرب، 11 / 34.
2- عيون الأخبار، 255. وهي الطبعة التي استخدمها «Lammens».
3- Le califat de Yazid. pp, 149
4- عيون الأخبار، 255.
5- عيون الأخبار، 255؛ البلاذري: أنساب، 374/3 ؛ ابن اعثم، الفتوح، 5 / 23 - 26
6- عيون الأخبار، 255.

والمكائد.. وقد وجدها عند معاوية، فخفت إليها وإليه قدمه! وقد كان له موقف مشابه في حروب الإمام علي علیه السلام . في حين كانت منطلقات الثاني دينية محضة تتمثل رضا الله في كل صغيرة وكبيرة، وتبحث عنه وإن بقتل الأهل والصحب والولد والنفس. وتنظر إلى هذا القيام على أنه امتداد وإكمال المسيرة ابتدأها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله. أي: إنه صراع: الإسلام - الشرك / الإسلام - الجاهلية / الحق - الباطل. ولعل هذا ما أوضحته جلية أقوال أبي ذر / ابن عمر / الشعبي المتقدمة. وعلى هذا فإن قیاس «Lammens» غير منطقي البتة. فضلا عن أن تلك الأقوال والمواقف لتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن ثورة الإمام علیه السلام وخروجه إنما كان استجابة لتكليف شرعي إلهي، استلزم استعدادا وتوطينا للنفس على القتل والتضحية بكل شيء وهو مالم تطقه إلا نفس الإمام الحسين علیه السلام وصحبه. وهذا ما بينه بصراحة قول أحدهم: كان أبوك أشد بائسة، والناس له أرجی، ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام، وهو أعز منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه حرصا على الدنيا، وضنا بها. ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا. فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من وعدك أن ينصرك ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره(1).

ولذلك انسحبت من میدان هذه المواجهة الصدامية بين الدنيا والآخرة الشخصيات المتشبثة بالدنيا کالأحنف بن قيس / عبد الله بن عمر / الشعبي.. وآلاف غيرهم. ولعل في قول الأخير: إن أحببناهم قتلونا، وإن أبغضناهم أدخلونا النار دلیل كاف ل- «Lammens» لو أراد الاحتكام للنصوص. على أن الصراع في كربلاء كان بين: الإسلام - الكفر / التوحيد - الشرك والجاهلية / الحق - الباطل / الحرية - العبودية /

ص: 714


1- المسعودي: مروج الذهب، 3/ 52 - 53؛ وينظر: الطبري: تاریخ، 5/ 382؛ ابن اعثم، الفتوح، 5/65 - 64

العدل - الظلم / الكرامة - الذل. وإلا لكان حريا بعيسی عليه السلام حسب عقيدة «Lammens» أن لا يضحي بنفسه ويتعرض للتعذيب والصلب لإنقاذ الآخرين فذلك من التهور والطيش وعدم الاتزان! وكان حريا بجميع الأنبياء والمصلحين أن لا يواجهوا الظلمة والمفسدين والمتجبرين والطغاة، ويتركوا الناس يسحقون تحت طغيانهم واستبدادهم وشرورهم.ثم يبدو (Lammens» أبعد ما يكون عن المنطق وأكثر قفزة على الواقع والنص عندما يقول: « قبل مغادرة الطامع في الحكم من مكة، كان أقاربه وأفضل أصدقائه يحذرونه باستمرار من تقلب العراقيين. كانوا يذكرونه دون جدوى بماضي عائلته: والده، شقيقه الحسن، الذي قتل أو جرح من قبلهم. لم يكن يجد أي شيء معه؟ التشجيع النفاقي له من جانب ابن الزبير لم يجعله يبصر الحقيقة، مع أنه كان على علم بطموح هذا الرجل، ورغبته في التخلص من وجوده في الحجاز»(1).

لا شك في أن العقل والمنطق يحكمان باستحالة اجتماع هذه المتناقضات . الإمام علیه السلام يعلم بالتشجيع النفاقي لابن الزبير! ثم ينساق أمامه ويغادر مكة على أساسه !؟ ليت «Lammens» فسر لنا ذلك؟ ثم هذا مصدره الأساس يقول: وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة، ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكففنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم. خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله . فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها. ثم إنه خشي أن يتهمه فقال: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خولف عليك إن شاء الله، ثم قام فخرج من عنده، فقال الحسين: ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن

ص: 715


1- Le califat de Yazid. pp, 149-150

الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو له(1). ونقل حوار الإمام عليه السلام مع عبد الله بن عباس وطلب الأخير منه أن لا يخرج إلى العراق وأن لا يخلي الحجاز لابن الزبير: «لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز، والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك. والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذ بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك»(2). وكذلك قول عبد الله بن الزبير نفسه للإمام عليه السلام : «إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك»(3). فكان رد الإمام عليه السلام أمام الناس: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ قالوا: لا ندري. جعلنا الله فداك. فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس. والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر . وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، والله ليعتدن علی کا اعتدت اليهود في السبت(4). كل هذه النصوص وغيرها تجاوزها « Lammens» وكأنه لم يرها لأنه يريد عكس الحقيقة! وإلا هل يشك بعد هذه النصوص بأن الإمام عليه السلام كان على علم مطلق بنوایا ابن الزبير وأنه لم يتأثر بتشجيعه؟!

الأنكى من ذلك أن يبلغ من تمادي «Lammens» وعبثه بعقول قرائه! وعدم مراعاته لأدنى مستويات الأمانة في النقل أن قال عن خروج الإمام عليه السلام من مكة: «غادر كما لو كان ذاهبا إلى بادية مع جميع نسائه وأطفاله، مع أقاربه.. واهنا مؤمنا بالرؤى والفأل. بعض البدو من كبار السن كانوا قد عابوا عليه هذا الضعف الذي

ص: 716


1- الطبري: تاريخ 5/ 383.
2- الطبري: تاریخ، 384/5
3- الطبري: تاریخ، 384/5
4- الطبري: تاریخ، 5 / 385.

لا يليق بقائد. كان يسير بخطى رجل يجهل مفاجآت القدر، مستسلما للفأل والنذر. كان الحسين يتقدم، يجره القدر. لم تكن لديه القوة على التخلص من هذا القدر. قائد كهذا لابد وأنه يقود أهله وأتباعه إلى التهلكة»(1).وبلغ من تسويفه للحقائق أنه وثق بالإحالة على أبيات من كتاب الحماسة للبحتري وهي:

فلا يمنعنك من طريق مخافة *** ولا حصر وانفذ فهن المقادر

ولا تدع الأسفار من خشية الردي *** فكم قد راینا من دد(2) لا يسافر

ولو كان يبدو شاهد الأمر للفتی *** كأعجازه ألفيته لا يؤامر

وكذلك الأبيات:

لا يمنعنك من بغا *** ء الخير تعقيد التمائم

ولا التشاؤم بالعطا *** س ولا التيمن بالمقاسم

إني غدوت وكنت لا *** أغدو على واق وحائم

فإذا كان الأشائم كالأيا *** من والأيامن كالأشائم

وكذاك لا خير ولا *** شرعلى أحد بدائم

وكذلك الأبيات:

إذا ما أردت الأمر فاعمد لوجهه **ولاتك مرتاحا لغاد مشحشح(3)

وسر سیر من لا يعلم الغيب إن غوى *** وخل سبيل الطير تسنح وتبرح(4)

ص: 717


1- Le califat de Yazid Ler. p, 150
2- اللهو واللعب. الجوهري: الصحاح، 2/ 47.
3- المشاحة: تعني الضنة. تشاح القوم: شح بعضهم على بعض. والمشحشح: البخيل القليل الخير. الزبيدي تاج العروس، 4/ 102 - 103.
4- 162- 163. الأبيات المرقمة (860 - 862).

فما علاقة هذه الأبيات بما يتحدث عنه ؟! إن كان الاستدلال بهذه الطريقة فبإمكاننا تشويه كل الحقائق من خلال عکسها و لاستشهاد بما يتفق مع ما تريد قوله!؟ فهذه الأبيات الشعرية جاءت في باب ترك الطيرة وقلة الاكتراث بها والتوكل على الله تعالى في الحاجة. فأراد «Lammens» القول: إن تلك الثورة والمسيرة التي غيرت وجه التاريخ، والتي امتدت من صمود وثبات ساعة إلى موقف حي إلى قيام الساعة - جرت دون تحضير ونية مسبقة !؟ وأنها جاءت کاستجابة مستعجلة للظروف؛ لسلب تلك المسيرة الإلهية مضمونها وخصوصيتها، وتقديمها بوصفها حدثا اعتياديا، ربما يكون ما يحسب له أنه لم يلتفت للتطير والتشاؤم وما إليه! اختار « Lammens» هذه الأبيات من الديوان في حين كان هناك عشرات الأبيات الأخرى، تحت أبواب «الإصحار للأعداء والمكاشفة لهم وترك التستر منهم / الأنفة والامتناع من الضيم والخسف / ركوب الموت خشية العار / إستطابة الموت عند الحرب / حمد عاقبة ركوب المكروه عند الحرب / توقع الموت والحذر منه والإعداد للمعاد / الإنصاف وإعطاء الحق للضعيف وأخذه من القوي / إكرام النفس وترك إهانتها / التقى والبر».وغيرها ممن ينطبق موضوعها مع ثورة الإمام عليه السلام . إلا أن «Lammens» اختار ما يتماشى مع يريد قوله. ومع ذلك يأبي عنفوان الإمام الحسين عليه السلام إلا أن يكذب «Lammens» فقد ورد في الكتاب بيتا ابن المفرغ اللذان سبق إيرادهما. وقد أدرجها البحتري في ضمن باب الأنفة والامتناع من الضيم والخسف» وهما قوله:

لا ذعرت السوام في فلق الصب- *** -ح مغيرا ولا دعيت یزیدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما *** والمنايا يرصدني أن أحيدا (1)

وقد مرت الإشارة إلى أن الإمام كان يردد هذين البيتين قبل خروجه من المدينة

ص: 718


1- تنظر صفحة 22. والبيتين تحت الرقم (70).

إلى مكة (1) . وبهذا يكون الإمام علیه السلام دل قبل « Lammens» على موقعه وما يناسبه من أبواب حماسة البحتري. هذا مضافا إلى أن النصوص التي نقلها الطبري في مما تتقاطع وتفند ماقدمه «Lammens» جملة وتفصيلا. ومن هذه النصوص:

1/ لما علم الإمام عليه السلام بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر (2). قال لمن معه: أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع. قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر. وقد خذلتنا شيعتنا. فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف. ليس عليه منا ذمام. فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن إنها اتبعه الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدة قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه (3).

2/ أن عبد الله بن عباس قال له: «إني أنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال، ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل. فقال: إنه ليس يخفى علي. الرأي ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره»(4).

3/ خطب الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه وأصحاب الحر بن یزید الرياحي

ص: 719


1- البلاذري، أنساب الأشراف، 3/ 368 - 369؛ الطبري: تاریخ 342/5 ؛ المسعودي: مروج الذهب، 51/3 . وكلها من مصادر «Lammens» المهمة!
2- حميري من عرب الجنوب كانت أمه حاضنة للإمام (ع). وقد بعثه برسالة لمسلم بن عقیل (ع) إلى الكوفة، فقبض عليه وقتل. محمد مهدي شمس الدين: أنصار الحسين، 123. وينظر: الطبري: تاریخ، 5/ 398؛ ابن حبان: الثقات، 2/ 310؛ ابن حجر: الإصابة، 5 / 8
3- تاریخ، 398/5 -399
4- تاریخ، 399/5

فقال: أيها الناس إن رسول الله قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناکثا العهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلميغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانا أحق من غير، قد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشد كم، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهد كم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، المغرور من اغتر بكم، وسيغني الله عنكم(1).

4 / وقال في خطبة أخرى: نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة(2) الإناء، وخسیس عیش کالمرعى الوبيل (3). ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهی عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما(4).

5/وقال أيضا: وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم. والله ليعتدن علی کا اعتدت اليهود في السبت «(5).

إذن فالإمام عليه السلام كان على علم ويقين تامين، ودراية مسبقة بها سيؤول إليه خروجه. كما أن شهداء کربلاء إنها خرجوا ليقتلوا فداء للدين والمبدأ. ولكن «Lammens» ممن تهزهم وتهزمهم هذه الشجاعة والتمنع والإباء المنقطع النظير، فلا

ص: 720


1- تاریخ، 403/5.
2- البقية اليسيرة أو القليلة تبقى في الإناء من الشراب. ابن سلام: غريب الحديث، 4/ 167.
3- أي وخیم. غير جيد. الجوهري: الصحاح، 5 / 1839.
4- تاریخ،403/5 - 404. والبرم: الضجر من الشيء. الفراهيدي: العين، 8/ 272.
5- تاریخ، 5/ 385

يملكون إلا أن يشوهوا حقيقته. وبالابتعاد لأوسع من محيط الحادثة الزماني، نری نصوص الطبري وغيره تدل وتؤكد أن خبر شهادة الإمام عليه السلام كان مستفيضا ومعلوما الدي جل من يعرفه!؛ فقد ذكر عن الفرزدق أنه التقى بعبد الله بن عمرو بن العاص فلامه على عدم المسير مع الإمام الحسين عليه السلام قال: «فهممت أن ألحق به. ووقع في قلبي مقالته. ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذلك عن اللحاق بهم. وقد كان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر، وينتظرونه في كل يوم وليلة. وكان عبد الله بن عمر يقول: لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر»(1).على أن هذه المعرفة لم تكن مجرد استشراف المخاض سياسي، أو توقع فردي وقدرة شخصية على تحليل الوقائع الحاضرة، وتقدير لنتائج مستقبلية !! إنها كانت مبنية على شبكة من النصوص، والأحاديث النبوية الشريفة منها:

1/ يقتل حسين بن علي على رأس ستين من مهاجرتي(2).

2/ يقتل الحسين حين يعلوه القتير = الشيب(3).

3/ أن الإمام علي علي دخل ذات يوم على النبي صلی الله علیه و آله فوجده وعيناه تفيضان

بالدمع، فقال له: «هل أغضبك أحد یا رسول الله؟ قال: قام من عندي جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي تقتل الحسين ابني. ثم قال: هل لك أن أريك من تربته؟ قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة فلما رأيتها لم أملك عيني أن فاضتا»(4).

4/ روي عن السيدة عائشة : أن الإمام الحسين عليه السلام دخل على النبي صلی الله علیه و آله وهو

ص: 721


1- تاریخ، 5/ 387.
2- الطبراني: مقتل الحسين، 41. وقد ذكر ابن سعد، أحاديث كثيرة تخبر عن قتله 7. الطبقات الکبری، 6/421 - 417
3- الطبراني: مقتل الحسين، 41.
4- الطبراني: مقتل الحسين، 41 - 42، الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 187.

يوحى إليه.. فقال له جبريل علیه السلام : أتحبه با محمد؟ قال: يا جبريل . ومالي لا أحب ابني. قال: فإن أمتك ستقتله من بعدك. فمد جبريل علیه السلام يده فأتاه بتربة بيضاء. فقال: في هذه الأرض يقتل ابنك هذا يا محمد. واسمها الطف. فلما ذهب جبريل علیه السلام خرج رسول الله والتربة في يده وهو يبكي فقال: يا عائشة إن جبريل علیه السلام أخبرني أن الحسين ابني مقتول في أرض الطف. وأن أمتي ستفتتن بعدي. ثم خرج إلى أصحابه وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه(1). وروي أن ذلك حدث في بيت أم سلمه وأن النبي صلی الله علیه و آله قال: يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فأعلمي أن ابني قد قتل، فجعلتها أم سلمه في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: إن يوم تحولين دما ليوم عظيم(2).

5/ أن الإمام علي علیه السلام خطب في مسجد الكوفة فقال: «كيف أنتم إذا نزل ذرية نبيكم بين ظهرانيكم؟ قالوا: إذن بلي الله فيهم بلاء حسنا. فقال: والذي نفسي بيده لينزلن بين ظهرانيکم ولتخرجن إليهم فلتقتلنهم»(3).

لقد وضعت کربلاء المسلمين على المحك بشكل مباشر وواضح جدا، لا يقبل التأويل ولا الظن والاحتمال. فإما أن يواصلوا حقيقة كونهم - كما عبر الإمام علیه السلام -«عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه، مادرت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون»(4). وإما أن يثوبوا لصوت الإسلام المحمدي الأصيل. فكان أن الغالبية

ص: 722


1- الطبراني: مقتل الحسين، 44؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 187 - 188. وينظر : ابن سعد، الطبقات، 6 / 417 - 419؛ أحمد بن حنبل، مسند، 6 / 294.
2- ينظر: احمد بن حنبل، مسند، 3/ 242، 265، 6/ 294؛ الطبراني: مقتل الحسين، 43 - 49؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 187.
3- الطبراني: مقتل الحسين، 49- 50. وينظر: ابن سعد، الطبقات، 6 / 419.
4- ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 245؛ الإربلي: کشف الغمة، 2/ 242.

آثرت الاحتفاظ بمعایشها وترك الدين، ولاسيما الذين قبلوا أن يكونوا عبيدا ويرضوا بالسكير الخيار خليفة لهم !؟ وبالنتيجة احتاجت المؤسسة الفكرية التي بنيت على تصحيح خلافة يزيد وبني أمية وبني العباس ومن تغلب على الخلافة بالعصبية والقبلية والفلتات إلى تزوير التاريخ وقلب الحقائق.. لتدافع عن موروثاتها العقائدية بتلك الذوات. وهذا ما تعامل معه «Lammens» بأريحية و فرح غامرين فقال: بما إنه لم يكن يمتلك حتى إبط لنقل أمتعته الكثيرة، أوقف قافلة على بعد مسافة قريبة من مكة كانت تنقل خراج اليمن، مفتتحا بذلك أول فعل يجسد دوره كطامع بالحكم عندما استولى على حمولتها ودوابها. وقد ستعملها في اللحظات الأخيرة من حياته(1).

لم يراع «Lammens» في كل طروحاته أن يكون منطقيا أو عقلانيا!؛ وإلا كيف لمن لا يملك إبط لنقل متاعه أن يتحرك لإسقاط حكومة، جندت من بلد واحد بالأموال «22 ألف مقاتل» لمحاربته !؟ ترى ما هي فرص هذا الذي لا يملك إب لنقل متاعه، أمام دولة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وخزائنها مليئة بالذهب والفضة؟! في زمن صار الناس فيه عبيدا للدرهم والدينار؟! لا شك في أن من المغالطة الفاضحة قول ذلك. إلا أن « Lammens» لا يحفل بأن يخالف الواقع ما دام لا يتحرج من تغيير النصوص وقلبها وضربها عرض الجدار إذا ما أعوزه ذلك! فقد تحول عنده الورس = الصبغ (2)والحناء والحلل التي كانت حمولة تلك القافلة (3) إلى خراج اليمن! ثم إن الطبري نفسه يقول: ثم قال لأصحاب الإبل: لا أكرهكم من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه، وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض. فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه، ومن

ص: 723


1- Le califat de Yazid Ler. p, 150
2- الفراهيدي: کتاب العین، 291/7 .
3- الأخبار الطوال، 245؛ الطبري: تاریخ، 385/5 - 386.

مضى منهم معه أعطاه کراءه وكساه(1).

فهل تتفق هذه المعاملة مع ما وصفه بأنه عملية إيقاف للقافلة واستيلاء على حمولتها !؟ ومن الغريب أن كان بعضهم(2) علل أخذ الإمام الحسين علیه السلام لتلك الحمولة؛ بأنه الخليفة الشرعي، وله الحق في التصرف بأموال المسلمين وأمورهم! إذ يبقى القول: إن الخبر ينص على أنه استأجر أصحاب تلك الإبل، بل وجعل لهم الخيار في ذلك؛ ففارقه بعضهم، وهذا ما يدل صراحة على أنه لم يستول على تلك الحمولة! وإلا فما الفائدة من استئجار إبل محملة ليحمل متاعه عليها؟! وإذا كانت هي في الأصل محملة فأين يضع هو متاعه؟! ثم ماذا فعل بفائض البضاعة، التي كان يحملها من فارقه من أولئك الجمالون؟! وبحسب نص الطبري أنه: أخذها وانطلق بها! فهل تركها في منتصف الطريق؟ أم باعها هناك؟ أم حملها معه إلى كربلاء؟ وعلى أي إبل حملها؟ وأين ذهب أولئك الجمالين ؟ هل شاركوا في كربلاء؟ أم تبخروا في الصحراء؟ ثم إنه خارج للشهادة، فيما الفائدة من إثقال موکبه ببعض الأصباغ والحناء؟! أليشاغل بها الجند دون قتله؟ أم ليستميلهم بها؟ وهو قد أعلن منذ خروجه أنه مقتول مسلوب !؟ وإذا كان من يحسب على التشيع والموالاة لأهل البيت عليهم السلام قد أحجم عن الانضمام لركب الإمام الحسين علیه السلام خوفا من الأمويين. فهل يعقل أن ينضم لركبه من لا علاقة لهم به! بل من هم محسوبون على السلطة من الأساس؟! قطيع من الإبل وقافلة من الرجال تظهر في خضم الأحداث وتختفي بلمح البصر من دون فائدة ترجي، ومن دون أثر يذكر! نعم ذكر البلاذري: إنه لم يبلغ كربلاء منهم إلا ثلاثة نفر،

ص: 724


1- تاریخ، 5/ 385 - 386؛ وينظر: البلاذري: أنساب، 3/ 376.
2- ابن طاووس: اللهوف، 2؛ المجلسي، بحار الأنوار، 367/44 ؛ ألأميني: أعيان الشيعة،594/1 ؛ البحراني: عبد الله، العوالم، 317؛ البحراني: عبد العظيم، من أخلاق الإمام الحسين، 174؛ الكوراني: جواهر التاريخ، 3/ 382- 383.

فزادهم عشرة دنانير عشرة دنانير، وأعطاهم جملا جملا وصرفهم(1). ولعل أقل ما يقال في ذلك أنه ورد بأحد أقوال التضعيف (فيقال). أي: إن الخبر لا يرقى لدرجة الاعتماد. بل إنه يورد الحادثة كلها تحت عنوان (قالوا). إذن يبقى مصير أولئك الأشخاص والعير مجهولا!؟ بل إن الارتباك في الخبر ما يرجح الشك في حدوثه من الأساس؛ فهو يقول: إنه زادهم عشرة دنانير عشرة دنانير، وأعطاهم جملا جملا! فكيف يهب الإمام عليه السلام ما ليس له؟! فهو بحسب الخبر استأجر تلك الجمال ولم يكن يملكها، أما إذا قيل: إنه أعطاهم من جماله الخاصة، فإذا كانت فائضة عن حاجته فما الداعي الاستئجار تلك الجمال ؟! وأما إذا قيل: إنه أعطاها بعد أن انتفت حاجته منها بوصوله إلى كربلاء وعلمه بأنه سيقتل، فهذا ما ترده المصادر ذاتها بأنه كان على علم بها سيؤول إليه أمره كما تقدم فيها فائدة اثقال مسيرته ومسؤولياته بمراعاة قافلة محملة بالأصباغ والحناء أو الحلل. ثم إن الإمام عليه السلام وصل إلى كربلاء تحت مراقبة ومرافقة إحدى فرق الجيش الأموية بقيادة الحر الرياحي. كما أن المنافذ من وإلى كربلاء، كانت تحت قبضة الفرق الأموية الأخرى فما مصير أولئك الجمالين الذين وصلوا کربلاء؟ يبدو أن المصادر نسيتهم؛ بعد أن أدوا الدور الذي أريد لهم أن يؤدوه. فمن المستحيل إفلاتهم من الطوق الأمني الذي ضرب حول كربلاء، والذي صور لنا البلاذري صرامته ودقة تماسكه (2).

ويستمر «Lammens» في نسج دعواه المتحاملة فيقول: قبل وصوله إلى الكوفة بمسافة قليلة علم الحسين بمقتل مسلم، وخضوع المدينة للحاكم الجديدعبيد الله بن زیاد. لم يترك له اسم ابن زیاد أي شيء يدعو للتفاؤل. اقترح أن يعود إلى الحجاز إلا أن أشقاء مسلم المسكين أرغموه على التقدم؛ لكي يثأر للضحية. تحير فارغ ولكن كم هو

ص: 725


1- أنساب الأشراف، 3/ 376.
2- أنساب الأشراف، 3/ 387 - 388.

معبر عن العقلية العربية. ابتداء من هذه اللحظة، وصلت معنويات الحسين إلى أدنى مستوى لها. على كافة الطرقات المؤدية من الحجاز إلى الكوفة، أقيمت محافر، وشكلت فرق قوية من الفرسان تجوب المكان وتوقف جميع المارة. لم يتأخر حرس الحسين عن الاصطدام بواحدة من هذه الفرق. كان ينبغي التوقف ولكن كيف يمكن التصرف مع موكب من النساء والأطفال، لا يوجد بينهم سوى «خمسين رجلا» تقریبا قادرين على حمل السلاح(1)

استند «Lammens» في دعواه هذه، ومن قبله (Wellhausen)(2) لتسطيح النصوص وتسويفها، وبناء الأحكام على ظواهرها التي قد توحي للوهلة الأولى بها ذهبا إليه !؛ إذ يروى أن الإمام الحسين عليه السلام أثناء مسيره إلى كربلاء التقى بشخص قادم من الكوفة فاخبره بقتل مسلم بن عقيل عليه السلام فاستشار الإمام عليه السلام صحابته؛ فوثب بنوا عقيل فقالوا: والله لا ننصرف حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. قال الراویان: عبد الله بن سليم والمذري بن الشمعل الأسديان: فنظر إلينا الحسين فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير. فقلنا: خار الله لك! فقال: رحم کمکما الله(3).

نعم قد يوحي النص للوهلة الأولى أن الاستشارة كانت موجهة لآل عقيل دون غيرهم. ولكن جواب الأسديين ربما يضع النقاط على الحروف ويبين أن الكلام كان موجها لهم جميعا. ولكن كان الأولى بالإجابة من بينهم آل عقيل؛ على اعتبار أنهم أول المضحين لهذه الثورة. ولعل هذا ما يؤيده قول الإمام عليه السلام : «یا بني عقيل حسبكم من

ص: 726


1- Le califat de Yazid Ler. pp,150 - 151
2- أحزاب المعارضة السياسية، 169.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 379؛ الطبري: تاریخ، 5/ 397 - 398؛ المسعودي: مروج الذهب، 56/3

القتل بمسلم. اذهبوا قد أذنت لكم. قالوا: فا يقول الناس !؟ يقولون: إنا ترکنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل! ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا! ونقاتل معك حتى نرد موردك؛ فقبح الله العيش بعدك»(1).

ولا شك أن في هذا النص دليلا كافيا لمن أراد الاحتكام إلى النصوص؛ فهو لايدع مجالا لظان أن يظن أن «آل عقيل» هم من أجبروا الإمام علي علیه السلام خوض المعركة. فمسلم بن عقيل وأخوته وجل صحابة الإمام عليه السلام والمسلمين، وبحسب ما مر من نصوص كانوا على علم بأنه سيقتل في كربلاء! أو على الأقل أنه أخبرهم مرارا، في خطبه طوال بقائه في مكة «شعبان - 8 ذي الحجة» بأنه سيخرج لقتال بني أمية للدفاع عن الدين والسنة، وأنه سيقتل لا محالة، كما بين لهم واجبهم بأن ينصروه، وقد مر آنفا عدد من النصوص التي تؤكد هذه الحقيقة. ومع ذلك لو تنزلنا فرضا - مع هذا التفكير السطحي المتعمد - وقلنا: إن الحرب قامت بسبب إصرار بني عقيل عليها. فما الفائدة التي كانت مرجوة من القتال وهم يعلمون جيدا - وبحسابات الحرب الطبيعية - أنهم سيقتلون جميعا !؟ فلم يكن هناك تكافؤ بين المعسكرين لا من حيث العدة ولا من حيث العدد! فأي ثأر هذا الذي سيدركونه؟! ولم يدخل الأنصار - من غير الهاشمين - هذه المغامرة الثأرية؟! ولم لم ترجع النساء أو لم جلبت من الأساس؟! إن كانت المسألة مسألة ثأر وملك وسلطة !؟ و لم لم يطلبوا قتلة مسلم مقابل إعلان البيعة لیزید؟ ! فيدركون ثأرهم ويحقنون دماءهم ؟! ولم يطلب منهم الإمام علیه السلام الانصراف ويخبرهم أنه المطلوب الوحيد من بينهم ؟! وإن قتلوه لا حاجة لهم بقتل الباقين: «هذا الليل قد غشیکم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منکم بید رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادکم ومدائنکم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني هوا

ص: 727


1- الطبري: تاریخ، 5/ 419.

عن طلب غيري»(1).إذن فال عقيل وبقية الهاشميين والأنصار، إنها قدموا أنفسهم فداء للإمام علیه السلام ؛ لأنهم رأوه إماما مفترض الطاعة، وطاعته مقرونة بطاعة الله جل جلاله ورسوله، وهو الإمام الذي يمثل الدين، والقيم الإنسانية،وشخص النبي صلی الله علییه و آله قبالة من يمثلون الجاهلية الجهلاء وآثام الشرك وموبقاته.

لا شك في أن «Lammens» ومن يتبنى فكرة الطمع بالحكم والمغامرة، لا ينصت الصوت المنطق!؛ فكربلاء لا تقبل التأويل! مع ذلك يضرب «Lammens»عشرات ومئات النصوص المناقضة لطرحه، ويتفنن باستخدام آلية اقتناص النصوص الغائية . وليس هذا فحسب بل وامتهانها واستباحتها وتهويلها، وصياغتها من جديد بحسب ما يقتضيه الخطاب ! رغم تقاطعها وتضادها مع حقيقة الواقع، ووضوح كونها مقحمة في الحدث للتعتيم على حقيقته، وتشويه صورته الواقعية، فكان من ذلك أن قال: إن اسم ابن زیاد لم يترك للحسين أي شيء يدعو للتفاؤل. اقترح أن يعود إلى الحجاز . وضع تحت الحراسة هو وأهله وأتباعه، كان ممنوعا عليه دخول الكوفة أو العودة إلى مكة، كما اقترح الحسين. بدأ الحسين بالبكاء بعد أن أرعبه هذا التصريح. عرض أن يرحل كجندي بسيط إلى الحدود لمحاربة الكفار، أو أن يذهب لمقابلة يزيد ووضع يده بیده، بتعبير آخر، مبايعة الخليفة الأموي. إن هذه العروض الحكيمة تثبت بشكل واضح انهيار معنويات الطامع بالحكم. بدت شخصية الحسين يرثي لحالها شيئا فشيئا؛ فقد بدا محرجا بدوره، خائفا من نتائج مغامرته، ذليلا، يتوسل لتركه يموت في مكان مجهول. استولى عليه الفزع من جديد، في بعض الأحيان كانت تنتابه نوبات من الهلوسة والهذيان، تطارده رؤى مشؤومة، بقي نظره مسمرا على الأرض، غير مكترث لكل ما تبقى. لم يكن موقفه هذا موقف قائد، ولا حتى موقف جندي ! ثم علق في

ص: 728


1- الطبري: تاریخ، 619/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 337، 338. وينظر : ابن سعد، الطبقات، 6/437 .

الهامش محيلا التاريخ الطبري: خلال الاشتباك الأخير، جاء أحد أقاربه وضربه على كتفه ليخرجه من حالة اللامبالاة(1).

وبداية دل «Lammens» بإحالته تلك على مقدار تجنيه على الحقائق! وعدم مراعاته للأمانة العلمية في التعامل مع النص ونقله! وبالأحرى دل على أنه كذاب مفتر ليس إلا!؛ فلم يكن ذاك القريب المدعى إلا زهير بن القين عندما حمل على القوم وهو يقول:

أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودهم بالسيف عن حسين

وأخذ يربت على منكب الإمام عليه السلام ويقول:

أقدم هديت هاديا مهديا *** فاليوم نلقى جدك النبيا

وحسنا والمرتضى عليا *** وذا الجناحين الفتى الكميا

وأسد الله الشهيد الحيا(2)

ليس يدري هل يحتوي منهج البحث التاريخي المتحضر، الذي يدعيه « Lammens» على مفردة تسمى الأمانة في نقل النص؟! أم هل يشعر أنه حقق إنجازا وهو يكذب بهذا الشكل المخجل ويدعي أنه علم في تخصصه!؟ وتجدر الإشارة هنا إلى أن «Lammens» لم يكن بأول من جاء بهذه الفرية - نعم هو أسبغ عليها نكهته التهكمية الساخرة - فهذا التهافت كان حاضرا في روايات مؤرخي السلطة الذين ادعوا أن الإمام عليه السلام عرض على معسكر عمر بن سعد أن: «اختاروا مني خصالا ثلاث: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإماأن أضع يدي في يد یزید ابن معاوية، فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلا من

ص: 729


1- Encyclopaedia of Islam.. v 3. p,339. Le califat de Yazid Ler. pp, 150–153
2- الطبری، تاریخ، 441/5

أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم»(1). فهذه الصورة تتقاطع مع مجمل الأحداث في کربلاء! بل وتتنافى مع ما روته هذه المصادر نفسها! وكأنك تلحظ مؤرخي هذه الأحداث في حيرة من أمرهم لما تحمل نصوصهم من اضطراب و ازدواجية في النقل !؟ فمع كل ما رواه الطبري من نصوص تتضاد وتتناقض مع هذا التغيير الثلاثي. نراه يرجحه!؟ رغم وروده عن المجالد بن سعيد: وهو ضعيف و كذاب ومتروك عند الجمهور(2). فضلا عن كونه متأخرا عن الحادثة! وهو بدوره ينقله عن الشعبي. وهو الآخر ليس بأفضل حالا من صاحبه، ومعروف بانحرافه وبغضه لأهل البيت علیهم السلام وهو من رواة مخالفيهم(3). والطبري إنما رجح نصهما لذلك!

ومع أن بعضهم قد يعد هذا العرض من باب إلقاء الحجة، يبقى القول: إن الطبري بعد أن ذكر النص المتقدم، روی بعده مباشرة نصا آخر عن أحد الشهود الحاضرين في كربلاء - علما أن رواة النص المتقدم ليسوا كذلك - وهو عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الإمام الحسين علیه السلام جاء فيه تکذیب صريح للنص المتقدم. بل إنه يشير إلى أن محاولة تشويه صمود الإمام الحسين علیه السلام ومحاصرة أو تطويق الزخم المعنوي الذي أحدثه في نفوس أبناء الأمة الإسلامية كانت حاضرة، ومثار جدل بين الرواة منذ ذلك الوقت فقد قال: «صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة، ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها. ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده في يد یزید بن معاوية، ولا

ص: 730


1- البلاذري: أنساب، 3/ 383؛ الطبري: تاریخ، 413/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 336
2- ابن قدامة: المغني، 2/ 82؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 6/ 285 - 287؛ میزان الاعتدال، 3/ 438 ۔ 439؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 6/ 67: الشوكاني: نيل الأوطار، 3/ 15، 334 - 335؛ 7/ 108، 242
3- ابن عبد البر: جامع بیان العلم وفضله، 2/ 154؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 2/ 127.

أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس»(1). وهذا ما يؤيده قول البلاذري: «و يقال: إنه لم يسأله إلا أن يشخص إلى المدينة فقط»(2).

وكان الإمام الحسين علیه السلام أكد رفضه لبيعة يزيد في نص آخر: فنادی یا شبث بن ربعي.. ألم تكتبوا إلى أن قد أينعت الثمار.. وإنها تقدم على جند لك مجندة؟ قالوا: لم نفعل. فقال: سبحان الله . بلى والله لقد فعلتم . أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب. ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال: أنت أخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل. لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد(3).

بل يفهم من مقابلة نصين آخرين للطبري أن: عرض وضع يده في يد يزيد فيرى فيه رأيه. أو أن يسيروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين. إنما هي مماطلة من عمر بن سعد؛ لكسب بعض الوقت. بعد أن وضعه طمعه بملك الري بموضع الخيار بين الدنيا والآخرة!؛ فقد ذكر في النص الأول أن عمر بن سعد بعث بكتاب لعبيد الله بن زیاد قال فيه: أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين، بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب ويسأل، فقال: كتب إلى أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم ... فأجابه

ص: 731


1- تاریخ، 5/ 413 - 414. وقد استدل سبط ابن الجوزي بهذا النص على كذب ما يدعی من عرضه مبايعة يزيد. تذکرة الخواص، 248.
2- أنساب الأشراف، 3/ 390؛ الطبري، تاریخ، 5/ 401 - 402.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 396 - 397؛ الطبري: تاریخ، 5/ 425؛ ابن الأثير: الكامل، 4/ 63 - 62

عبيد الله: أعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام(1).

وقال في النص الثاني: أما بعد فان الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة؛ هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين، فيضع يده في يده،فيرى فيما بينه وبينه رأيه. وفي هذا لكم رضا، وللأمة صلاح. فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه. نعم قد قبلت «(2).

فإذا كان ما ادعاه عمر بن سعد في كتابه الأخير صحيحا، فلماذا يشكك شمر بن ذي الجوشن بكتابه ؟! ولماذا يبعثه عبيد الله بن زیاد ليهدد عمر بن سعد بالعزل والقتل في حال تماطل وتراخي عن الحرب؟! ولماذا يكتب إليه: «أما بعد فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلى سلما وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم»(3).

أليس هدف هذه الحرب إرغامه على البيعة ليزيد، فإذا كان عرض ذلك، في جدوى الذهاب إلى الحرب ؟! بل إنه يذكر قولا لعمر بن سعد يبين فيه - بوضوح - أن تلك العروض إنها كانت من عنده، وللمماطلة لا أكثر: «فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زیاد إلى عمر بن سعد فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر مالك ويلك لا قرب الله دارك وقبح الله ما قدمت به على والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل

ص: 732


1- تاریخ، 411/5
2- تاریخ، 5/ 414؛ وينظر ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 336.
3- الطبري: تاريخ، 5/ 414 ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 336 - 337.

ما كتبت به إليه أفسدت علينا أمرا کنا رجونا أن يصلح لا يستسلم والله حسين إن نفسا أبية لبين جنبيه»(1). إذن عمر بن سعد اعترف صراحة أن الإمام الحسين علیه السلام لم ينثين عن رفضه مبايعة يزيد! وأنه إنما كان يرجو تسوية الأمور، من دون أن يخسر ملك الري، ويتورط في سفك دمه! زد على ذلك أن البلاذري يروي: أن عبيد الله بن زیاد كتب إلى عمر بن سعد: أن اعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فإذا هو فعل ذلك رأينا رأينا، فلم يفعله(2).

فإذا كان الإمام علیه السلام قد عرض البيعة ليزيد، فما الداعي لهذا الكتاب ؟! وما الداعي لقتله؟! فضلا عن ذلك فإن الطبري يضيف نصا في غاية الأهمية، يؤكد أن تلك العروض لم تكن إلا محض دعايات بثت داخل المعسكر ! من تقاول الناس فيما بينهم، أو أنها ادعاءات من عمر بن سعد لكسب بعض الوقت. فقد روي عن هانئ بن ثبيت الحضرمي وهو من جنود عمر بن سعد وأحد شهود المعركة، منذ بدايتها حتى نهايتها، وأحد شهود المحادثات التي جرت بين الإمام الحسين علیه السلام وعمر بن سعد أنه قال: بعث الحسين إلى عمر بن سعد: أن القني الليل بين عسكري وعسكرك. فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا، وأقبل حسين في مثل ذلك، فلما التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك. فانكشفنا عنها بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما، فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع(3)، ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه، فتحدث الناس فيما بينهما، ظنا يظنونه أن حسينا قال لعمر بن سعد: أخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسکرين، قال

ص: 733


1- الطبري: تاریخ، 5 / 415؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 337.
2- انساب الأشراف، 3/ 386؛ الطبري: تاریخ، 411/5
3- أي بعدما مضى وقت من الليل، وهدأت الناس. الفراهيدي: العين، 1/ 100؛ الجوهري: الصحاح، 83 /1

عمر: إذن تهدم داري. قال: أنا أبنيها لك. قال: إذن تؤخذ ضياعي. قال: إذن أعطيك خيرة منها من مالي بالحجاز.. فتكره ذلك عمر... فتحدث الناس بذلك، وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه(1).

وعليه فالحال الطبيعية وما تحكيه النصوص المتزنة والمتواترة لتثبت بها يقطع الشك أن الإمام الحسين علیه السلام منذ تحركه حتى شهادته كان على نسق واحد من الخطاب والرفض لبيعة يزيد. والمضي قدما في مشروع الإصلاح في أمة جده والتضحية والإباء، وإنها لتحكي شمما و بطولة أركعت الدنيا تحت أقدامها، فهو من التقاه الحر الرياحي وقال له: قد أمرنا إن نحن لقيناك أن لا نقاتلك، وان نقدمك الكوفة على عبیدالله بن زیاد!

فأجابه بعنفوان وشمم النبوة: الموت أدني إليك من ذلك(2). وجدد هذه الإجابة في محاورة أخرى، قال له فيها الأخير: يا حسين أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقاتلن، ولئن قوتلت لتهلكن. فقال: أبالموت تخوفني !؟ أقول کا قال أخو الأوس:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى *** إذا مانوی حقا وجاهد مسلما

فإن عشت لم أذمم وإن مت لم ألم *** کفر لك ذلا أن تعيش وترغما(3)

وفي حوار بينه وبين الحوراء زينب عليها السلام : يا أخيه لا يذهبن بحلمك الشيطان. یا أخيه اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي: أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء

ص: 734


1- تاریخ، 5 / 413.
2- أنساب الأشراف، 3/ 380؛ الطبري: تاریخ، 402/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 335؛ ابن الأثير: الكامل، 4 / 47.
3- أنساب الأشراف، 3/ 382؛ الطبري: تاریخ، 5/ 404؛ ابن الأثير: الكامل، 4 / 49؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 187/8

لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده. أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. يا أخيه إني أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت (1). وقال مخاطب القوم: ألا وإن البغي قد ركن بين اثنتين: بين المسألة والذلة، وهيهات منا الدنية، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وبطون وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن نؤثر مصارع الكرام على ظئار(2) اللئام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر. ثم تمثل:

فإن نهزم فهزامون قدما *** وإن هم فغير مهزمینا

وما إن طبنا جبن ولكن *** منایانا وطعمة آخرينا(3)

ويصفه أحد أعدائه وهو في لحظات وحدته والعساكر تحيط به من كل مكان : فحمل على من عن يمينه حتى تفرقوا وعلى من عن شماله حتى تفرقوا وعليه قميص له من خز وهو معتم [أي كان من الشجاعة بحيث لم يرتد درعا ولا بيضة للحرب] قال: فو الله ما رأيت مکسورا قط، قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه! ولا أجرأ مقدما! والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله؛ إن كانت الرجالة

ص: 735


1- الطبري: تاریخ، 5/ 420 - 421.
2- مشتق من الناقة يؤخذ عنها ولدها فتظار عليه. فيحاولوا أن يقدموا لها فصيلا لترضعه على أنه ولدها. ابن منظور: لسان العرب، 4 / 515؛ 321/12
3- ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 14/ 219. وينظر: ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 241 - 242؛ ابن نيا الحلي: مثير الاحزان، 40؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 3/ 249 - 250؛ ابن طاووس: اللهوف، 59. وفي بعضها: الدعي ابن الدعي / بين السلة والذلة. والبيتين للشاعر: فروة بن مسيك أو مسيكة المرادي. أصله من اليمن قدم على النبي (ص) عام (9 أو 12 ه-) فأسلم. انتقل إلى الكوفة في زمن عمر بن الخطاب فسكنها. وكان شاعرا محسنا. ابن عبد البر، الاستیعاب، 1261/3 - 1262.

لتنكشف عن يمينه وشاله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب(1).

تجاوز « Lammens» كل هذه النصوص، والشهادات الحية من أرض المعركة ومن الخصوم أنفسهم! وراح يصوغ نصوصه عن أحداث کربلاء حسب متبنیات خطاب التقويض؛ فكانت محل استهجان المستشرقين وغيرهم على حبي سواء فقالت المستشرقة الإيطالية (Laura Vaccia vageliier = لورا فيشيا فاغليري) منتقدة تهجمه واستباحته للنصوص والحقائق ومنتقد أيضا طروحات وآراء سلفه (Wellhausen = فلهوزن) أن: الأول رسم صورة زاهية للوضع والشخصيات. رفض أن يكون للحسين أي دوافع دينية، وعد الأمر مجرد نوع من الطموح لهذا الرجل للحصول على أعلى سلطة. لم يتعاطف لامنس - بأي شكل - مع خصوم يزيد الشهم الفارس. واعتبر الحسين رجلا طائشا عابثا.. وقصير النظر بالكامل. لم يول أي من هذين العالمين أي أهمية للخطب والعبارات التي يقال إن الحسين نطق بها في مناسبات عديدة! ومن الواضح أنهما يعدانها تزویرات جاءت مؤخرا! ولكن رغم أن من المحتمل أن القدماء قد عدلوا أو أعادوا تشكيل هذه المادة، فيجب الاعتراف على أية حال، بأنه يبرز منها ما يدل على أن الرجل صاحب ايديولوجية تنزع لتحقيق أهداف الإسلام الأصيلة ومقتنع بأنه محق ومصمم بعناد لتحقيق أهدافه کا هو الحال مع كل الملتزمين الدينيين، وأعجب به وشجعه مناصروه، الذين كانوا أيضا مقتنعين بعدالة قضيتهم (2).

كما كانت القراءة الواقعية والبعيدة عن التشنج والأيديولوجيات الأحداث کربلاء، هي ما أدت بالصحفي والباحث الألماني المعاصر (Gerhard Konzelman = جرهارد کونسلمان) إلى القول: بعد أن مات الحسن، أثبت الحسين ذكاء؛ فقاوم

ص: 736


1- الطبري: تاریخ، 5/ 452؛ وينظر: ابن سعد، الطبقات، 6 / 441؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 408
2- Encyclopedia of Islam. v 3. P,614.

إغراءات خصمه بسرعة تنشيط شيعة علي في بلاد الرافدين؛ فلقد بر تأرجح هؤلاء؛ فلم يشأ التعامل معهم، وقد كشف حفيد النبي هذا عن موقف شريف متحفظ. إلى هذه اللحظة كان الحسين واقعية؛ فقد أدرك أن بني أمية يحكمون قبضتهم على الإمبراطورية الإسلامية الواسعة. كان الحسين يمارس التمنع السياسي، من الذين تحفظوا تماما ضد شخصية يزيد. لم يمض إلا أسبوعان حتى وصل إلى بلاد وادي الرافدين خبر إعلان حفيد النبي خصومته ليزيد؛ وبذلك بدأت شيعة علي برفع رأسها، مضي الحسين في طريقه، لكنه كان حريصا فأرسل مسلم بن عقیل، آملا - من خلال تقاريره - أن يحصل على المعلومات الضرورية، حتى يستطيع تحديد إن كان سیدخل المدينة. حاول زعيم شيعة علي استخدام عنصر الإقناع، وكان رجلا ذا كلام ساحر سيما في وقت الشدة. كلماته تعبر أقاربه وأنصاره الملتفين حوله فيسمعها أعداؤه، وقد بقيت هذه الكلمات للشهيد الحسين مقدسة عند الشيعة حتى اليوم (1).

وقال المستشرق الفرنسي المعاصر «Yamne Richard = یان ریشار»: إن الهزيمة التي لقيها الحسن، ما لبثت أن انقلبت بسرعة إلى نصر غریب لأخيه الحسين، أمير الشهداء. أبي الحسين أن يقبل ولاية يزيد الذي تصفه المصادر التاريخية، بقلة التقوى الظاهرة وبحب الموائد والخمر. أما الحسين فقد مضى ليحتمي بمكة. هناك تلقى دعوة من أهالي الكوفة، يستحثونه فيهاعلى رئاسة التمرد المعتزم. ولما لم يكن حسن الاطلاع على الخطر الحقيقي، ولا على التدابير الوقائية التي اتخذها يزيد، فإنه أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل، للاطلاع على الوضع هناك، وسار هو إلى الكوفة. وعندما أبدى له المقربون منه اعتراضاتهم خائفين من رؤيته يسرع إلى مغامرة غير معقولة، أجاب: إن الله يفعل ما يريد، وأنا أدعه يختار لي الأفضل. أما هو فلا يمكن أن يكون ضد من يرى إتباع الحق. وعندما حيل بينه وبين الوصول إلى الكوفة، لوجود قوة عسكرية أموية

ص: 737


1- سطوع نجم الشيعة، 51 - 57.

أرسلت لملاقاته، وجد نفسه مضطرا للانحياز إلى ضاحية كربلاء. أما الوصول إلى ماء الفرات فقد قطع عليه من قبل عدوه، وبعد أن رفض الإمام ما عرض عليه من استسلام، تهيأ للمعركة الأخيرة، وحذر من معه من أهله بما يحيق بهم من خطر إذا ظلوا معه. خاطب الحسين أعداءه لكي يفكروا قبل أن يهاجموا من كان أعزه النبي، ويدعوه يمضي إلى سبيله حرا، ولكن هؤلاء أصروا على أن يخضع لأوامرهم(1).

وقال الباحث إسحاق نقاش: يوجد في كربلاء مرقد الحسين، نجل علي والإمام الشيعي الثالث. يعرف الحسين بين المؤمنين الشيعة بأنه سيد الشهداء؛ لأنه قتل متحديا وراثة يزيد بن معاوية للخلافة. أصبحت المعركة واستبسال الحسين، وجماعته الصغيرة استبسالا بطولية، فيها أهم حدث في التاريخ الشيعي، أخذ الشيعة يحيون ذكرى استشهاد الحسين بعاطفة لاهبة(2).

وهكذا يتضح الفرق جليا بين القراءة المتطرفة المشبعة بروح التعصب والمغالية في التحيز ل- «Lammens» وبين القراءة الهادئة والمنطقية التي من السهولة استشفافها، وملاحظتها في المصادر الأولية، والتي عكستها الأمثلة المتقدمة.

ص: 738


1- الإسلام الشيعي، 51 - 53.
2- شيعة العراق، 42.

(3)كربلاء.. فرادة البطولة وعكس الخطاب

لم يمتلك « Lammens» أمام فرادة البطولة التي جادت بها كربلاء التضحية والمبدأ إلا أن صاغ الحوادث كيفما يريد، فادعى: أن أنصار الإمام عليه السلام شباب خنثتهم ملذات المدينة، ولم يسبق لهم أن استخدموا السلاح أبدا(1).

وهذا ما تكذبه المصادر التاريخية أجمع. بل تنص على أنهم كانوا في غاية في الشجاعة والبسالة والإقدام، حتى أن جيوش عمر بن سعد وهم ألوف يتحامون عن قتالهم رجلا لرجل! بشهادة قادة أعدائهم من معسكر عمر بن سعد!

1/صاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقى أتدرون من تقاتلون، فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرزن لهم منكم أحد فإنهم قليل وقل ما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت الرأي ما رأيت. وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجل منکم رجلا منهم(2).

2/ قال شبث بن ربعي لما قتل مسلم بن عوسجة، وسمع أصحابه ينادون: قتلنا مسلما: ثكلتكم أمهاتكم. إنها تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لرب موقف له رأيته في المسلمين کریم! لقد رأيته يوم سلق (3) آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون(4). كما تحكي هذه البطولة البكر

ص: 739


1- Le califat de Yazid Ler. p, 150
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 400؛ الطبري: تاریخ 5/ 435؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 339.
3- الأرض المرتفعة المعشبة. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 3/ 83. ثم ينظر: الفراهيدي: العين، 5/ 77.
4- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 400 - 401، الطبري: تاریخ، 5/ 436.

مواقف أنصار الإمام علیه السلام وكلماتهم الخالدات:

1/ فهذان قيس بن المسهر الصيداوي وعبد الله بن بقطر علیها السلام يلقي القبض عليهما في الكوفة، فيأمرهما الدعي ابن الدعي أن يصعدا القصر ویسبا الإمام الحسين علیه السلام ! ويتبرءا منه مقابل إطلاق سراحها! فصعدا وسبا الدعي ابن الدعي وأباه، ودعوا الناس لنصرة الإمام الحسين علیه السلام فرميا من أعلى القصر فماتا(1).

2/ وهذا زهير بن القين رضی الله عنه يقسم قائلا: «والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواستك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. وقال: والله لوددت أني قتلت! ثم نشرت! ثم قتلت! حتى أقتل كذا ألف قتلة!؛ وأن يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك ! »(2).

3/ وهذا علي الأكبر علیه السلام يقول لأبيه الحسين علیه السلام وقد سمعه استرجع: «یا أبت لا أراك الله سوءا. ألسنا على الحق! قال: بلى والذي إليه مرجع العباد. قال: إذن لا نبالي، نموت محقين»(3).

4 / وقال مسلم بن عوسجة للإمام الحسين علیه السلام لما قال لأصحابه: هذا الليل قدغشیکم فاتخذوه جملا: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك! أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي! وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولا افارقك! ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك !(4).

5/ قال سعيد بن عبد الله الحنفي رضی الله عنه : والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا

ص: 740


1- ينظر: ابن سعد، الطبقات، 6 / 435، 443؛ الطبري: تاریخ، 395/5 - 398، 405.
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 381؛ الطبري: تاریخ، 5/ 404، 419 - 420.
3- الطبري: تاریخ، 5 / 407، 408.
4- الطبري: تاریخ، 5/ 419؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 338.

حفظنا غيبة رسول الله صلی الله علیه و آله فيك. والله لو علمت أني أقتل! ثم أحيا، ثم أحرق، ثم أحيا، ثم أذر، يفعل ذلك في سبعين مرة ما فارقتك، حتى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها(1).

6/ وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد فقالوا: والله لا تفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا کنا وفينا، وقضينا ما علينا «(2).

7/ تحدث أحد جنود عمر بن سعد عن شجاعة عابس بن شبيب الشاكري رضی الله عنه فقال: لما رأيته مقبلا عرفته. فقلت أيها الناس هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجن إليه أحد منكم فأخذ ينادي ألا رجل لرجل؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة فرمى بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقي درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فو الله لرأيته يکرد أكثر من مائتين من الناس، ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب، فقتل، فرأيت رأسه في أيدي رجال هذا يقول أنا قتلته وهذا يقول أنا قتلته فأتوا عمر بن سعد، فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول (3)

كما أن في المواقف والأراجيز التي كان يصدح بها شهداء کربلاء، لدليل كاف على أنهم أشجع من على وجه البسيطة، فضلا عن ذلك كان غالبية أنصار الإمام الحسين عليه السلام من الشيوخ والكهول، وبينهم عدد من الصحابة . أي إنهم بطبيعة الحال قد تمرسوا على القتال والحرب، لا كما يدعي «Lammens». بل إنه كذب نفسه بنفسه فقد مر بنا قوله: «على كافة الطرقات المؤدية من الحجاز إلى الكوفة، أقيمت مخافر

ص: 741


1- الطبري: تاریخ، 5 / 419.
2- الطبري: تاریخ، 5/ 420.
3- الطبري:تاریخ، 5 / 444.

وشكلت فرق قوية تجوب المكان، وتوقف جميع المارة. كان ينبغي التوقف، ولكن كيف يمكن التصرف مع موكب من الأطفال والنساء لا يوجد بينهم سوى خمسين رجل تقریبا قادرين على حمل السلاح؟»(1).

فإذا كان العدد الكلي للمعسكر يتكون من (72 مقاتلا) يكون ثلثا العدد من الرجال وثلث فقط من الشباب. إذن «Lammens» يناقض نفسه بنفسه! وقد صرح ابن الجوزي أن الشباب في كربلاء كانوا بضعة عشر شابا(2). أي: لم يبلغوا ثلث العدد. وقال ابن سعد إن الإمام علي ارتحل من مكة بصحبة أهل بيته وستين شيخا من أهل الكوفة(3). إذن لم يكن بين أصحاب الإمام عليه السلام من الشباب إلا عدد قليل وهم على أعلى التقادير قرابة عشرين شخصا(4).

وهكذا نجد أن «Lammens» تنعدم لديه المقاییس، عندما يحاول تزيين الصورة البشعة لمعسكر عمر بن سعد التي دلت عليها أفعالهم وتداولتها أقلامهم. قال حميد بن مسلم: انتهيت إلى علي بن الحسين، وهو منبسط على فراش له، وهو مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون ألا نقتل هذا؟ فقلت: سبحان الله أنقتل الصبيان إنما هذا صبي(5).

إذن كانت غاية شجاعتهم: أن يحرقوا الخيام! ويمثلوا بالأجساد! ويسوقوا النساء والأطفال سبايا! فقد أمر عمر بن سعد أن يحرقوا الخيام بالنار. فخرجت امرأة

ص: 742


1- Le califat de Yazid Ler. p,151
2- المنتظم، 340/5 وكان الشيوخ والكهول أكثر من (40) بينهم (9) من الصحابة. البوهلالة: أنصار الإمام الحسين، 308-310.
3- الطبقات، 6 / 429.
4- ينظر : أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 98.
5- الطبري: تاریخ، 5 / 454

تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول هنيئا لك الجنة، فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام یسمی رستم: اضرب رأسها بالعمود، فضرب رأسها فاتت مكانها. وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادی: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله، فصاحت النساء. فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله، إن هذا لا يصلح لك! أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين: تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء! وقال له شبث بن ربعي: ما رأيت مقالا أسوأ من قولك، ولا موقفا أقبح من موقفك، أمرعبا للنساء صرت(1).

ص: 743


1- الطبري: تاریخ 5/ 438.

(4) كربلاء.. صراع المبادئ وتسويف الخطاب

لا يكاد ينقضي استغرابك من تفسير أو رأي شاذ ل- « Lammens» حتى يفاجئك بما هو أكثر شذوذا وغرابة!؛ فبينا حاول أكثر المتطرفين والنفعيين - من رواة ومؤرخين ومستشرقين وغيرهم - أن يبرئ يزيدا ويلقي بلائمة ما جرى في كربلاء على عبيد الله بن زياد أو عمر بن سعد! نرى «Lammens» يحاول تبرئة الثلاثة والإلقاء باللائمة على الإمام الحسين عليه السلام ! وجعل كل فجائع کربلاء، وما جرى فيها من تسافل وانحطاط للأخلاق الإنسانية - من جانب المعسكر الأموي - تبدو وكأنها نتيجة حتمية وطبيعية و مبررة! بل إنه يدعي أنهم لم يكونوا يريدون قتل الإمام الحسين عليه السلام ! وإنما إلقاء القبض عليه دون إراقة الدماء !؟ وإنه بعناده جرهم لتلك النتيجة !؟ فقال: أنه لما وصل إلى كربلاء، وضع تحت المراقبة وقيل له: ليس لدينا أمر بمحاربتك، ولن يمارس أي عنف ضدك. كان ممنوعا عليه دخول الكوفة أو العودة إلى مكة، لحين إطلاع عبيد الله على الأمر وطلب تعليمات جديدة. هذا التصريح الحازم والواضح لا ينم عن شراسة ووحشية. لم تكن حياة الطامع بالحكم هي الهدف، بل كان يراد فقط منعه من إثارة المشاكل. منذ ثلاثة أشهر وهو يفلت من سيطرة الحكام الأمويين. كانت هذه اللعبة تشكل خطرا على الهدوء العام، وإهانة للسلطة، لذلك لم يكن بالإمكان أن تستمر إلى ما لا نهاية. كان من الجنون ترك الطامع بالحكم يتحرك بحرية، وهو الذي اعتاد على نكث عهوده(1).

عمل «Lammens» على خلط الأمور وبتر الأحداث وإسقاط أجزاء كبيرة منها، ثم إعادة ترميمها بالكيفية التي يريدها!؛ فكان سرعان ما يناقض نفسه بنفسه !

ص: 744


1- Le califat de Yazid Ler. p, 151

ويكشف عن تصادم طروحاته وتقاطعها!؛ إذ يظهر وكأنه نسي أنه أراد بكل ما اختلقه من صور ساخرة باهتة! أن يؤكد تشويه الرواية التاريخية! لصورة الصمود والإباء الكربلائي ! فردد معها - وإن باستباحة وامتهان أكثر - أن الحسين: أسقط ما في يده، وراح يتوسل ويبكي للعفو عنه وتركه يموت في مكان مجهول!؟ وأنه عرض أن يبايع یزیدا ! أو أن يسير إلى أي ثغر من ثغور المسلمين! فإذا كان كذلك فالأمويون إنما كانوا مصممين على قتله وإن بايع لهم. وهذه الصورة تتناقض تماما مع ما يقرره هنا. فضلا عن ذلك كان الخطاب الأموي واضحا وصريحا منذ اللحظة الأولى وقد لخص في خيارين لا ثالث لهما: إما البيعة لسكير زان بالمحارم..! أو القتل! وهي في الحقيقة تعني خيارا واحدا؛ فمن المستحيل أن يوافق الإمام عليه السلام على الخيار الأول؛ ولذلك أرسل یزید حال توليه الحكم لعاملة على المدينة - الولید بن عتبة - أن: يأخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا(1). وتجدد هذا التصريح في موقف (الحر الرياحي) وجماعته عند لقائهم بالإمام علیه السلام ): «وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد»(2).على أن ذلك وإن كان هو مقدار المهمة التي كلف بها الحر - ربها لحين تكامل وصول الجيوش الأموية - فهو أيضا لا يعني إلا الاستسلام أو القتل ولا خيار ثالث! بل أنه أكد بكتاب آخر: « أما بعد، فجعجع(3) بحسين حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا في العراء في غير حصن وعلى غير ماء»(4).واضح أن هذه

ص: 745


1- الدينوري: الأخبار الطوال، 228؛ البلاذری، انساب الأشراف، 3/ 368-369؛ الطبري: تاریخ، 5/ 338؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5/ 323. أضاف ابن أعثم: فمن أبى عليك منهم، فاضرب عنقه وابعث إلى برأسه. الفتوح، 10/5 .
2- الطبري: تاریخ، 402/5
3- جعجعت بالرجل: حبسته في مجلس سوء. الفراهيدي: العين، 1/ 68. أي: امنعه من التحرك.
4- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 385؛ الطبري: تاریخ 408/5 . و: الدينوري: الأخبار الطوال 250.

التوجيهات المبدئية إنها فرضتها طبيعة المرحلة، إذ لم يكن عبيد الله والأمويون عموما، من الشجاعة ليخوضوا الحرب مع الإمام عليه السلام بألف مقاتل- المجموعة التي كانت تحت زعامة الحر الرياحي - ومن دون أن يحشدوا عشرات الآلاف لهذه المعركة(1). ولعل منع موکب كامل من النساء والأطفال والرجال من الماء، والوصول إلى حد إماتتهم عطشا إن رفضوا الإذعان والاستسلام في الوقت الذي سقوا هم بما تبقى عندهم من ماء، ذلك الجيش وخيوله، عندما أشرف على الهلاك، لهو تصريح كاف على أن الأمويين كانوا عازمين على قتلهم على أية حال من الأحوال، وهذا ما حدث فعلا، وهو ما صرح به عمر بن سعد عندما أرسل إليه عبيد الله بن زیاد: «قد فهمت كتابك، فاعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع من معه فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي، فلما انتهى كتابه إلى عمر بن سعد قال: ما أحسب ابن زیاد يريد العافية »(2).بل إن عبيد الله بن زیاد بين أوامره بصراحة فبعث إلى عمر بن سعد: « أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعا. انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلى سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون. فان قتل حسين، فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا»(3).

وأكد عمر بن سعد إصراره على قتل الإمام عليه السلام عندما سأله الحر الرياحي: «أصلحك الله. أمقاتل أنت هذا الرجل؟! قال: إي والله! قتالا أيسره أن تسقط

ص: 746


1- وصل عددهم إلى (22000) ما بين فارس وراجل. ابن اعثم، الفتوح، 5 / 89-90.
2- الدينوري: الأخبار الطوال، 252. ويضيف الطبري، 411/5- 412. أن ابن زیاد قال: الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص.
3- الطبري: تاریخ، 5/ 415.

الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أنا لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟! قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إلى لفعلت، ولكن أميرك قد أبي ذلك»(1).وهذا ما حدا بالحر ل لترك معسكر عمر بن سعد والالتحاق بمعسكر الإمام الحسين عليه السلام وأن يخاطبه قائلا: «جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلا هو: ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائب مما كان مني إلى ربي»(2).

إذن النصوص وقرائن الأحوال تنص على أن الأمويين كانوا مصممين على قتل الإمام علیه السلام

لا كما يدعي «Lammens» الذي يصر على تسويق هذا الخطاب الملتوي المتغافل بقوله: لم يشأ الخليفة قتل الحسين، وكان ينتظر من العراقيين الالتزام بنواياه الكريمة. في غضون ذلك وصل الأمر من الكوفة بقطع كل منفذ إلى الفرات عليهم؛ في محاولة لإخضاعهم بواسطة العطش. أمر عبيد الله بمعاملتهم مثل ما عومل الخليفة عثمان في السابق. رغم وحشية هذا الأمر،كان الحاكم بأمل من وراء ذلك تجنب إراقة الدماء، وهذا مستوحى من التعليمات التي جاءت من دمشق. قساوة كان لا بد منها إجمالا لإطفاء الحراس الثوري، ولكن التعليمات لم يتم الالتزام بها(3).

لم يفكر حتى من هو على شاكلة «Lammens» في مناصرته للأمويين وهو

ص: 747


1- الطبري: تاریخ، 5/ 427.
2- الطبري: تاریخ، 427/5 - 428.
3- Le califat de Yazid Ler. pp, 152 153

المستشرق الألماني (Wellhausen = فلهوزن) بتبرئة يزيد من جرائم کربلاء فقال: ربما كانت الروايات عاملت یزید بن معاوية برفق أكبر جدا مما يستحق؛ فإنه إذا كان مقتل الحسين جريمة فالمجرم الأكبر فيها يزيد؛ لأنه هو الذي بعث عبید الله للقيام بإجراءات قاسية، وكانت النتيجة مرضية جدا ليزيد، واغتبط لها أيها اغتباط، فإن كان قد غضب على خادمه عبيد الله من بعيد، فما كان ذلك إلا تطبيقا لامتياز الحاكم الأعلى، أعني أن يحول الكراهية عنه إلى الأدوات التي اصطنعها لنفسه في جريمته. حقا أن المودة التي أبداها نحو من بقي من آل الحسين ليست مما يعيبه، وإن كانت مودة تنطوي على الدهاء، ولم تصدر عن قلب مخلص(1).

ثم إن كان المقصود من منعهم الماء إرغامهم على الاستسلام كما يدعي (Lammens فما ذنب الأطفال والنساء يقتلون عطشا، حتى بعد أن احتدم القتال وقتل جميع الأصحاب ولم يبق سوى الإمام عليه السلام وطفله الرضيع، بل إنه عرض عليهم أن يأخذوه ويسقوه بأيديهم إن كانوا يخشون أن يشرب هو الماء. فكان جوابهم أن رموه بسهم فذبحه(2). وإن كان قصدهم إرغامهم على الاستسلام فلماذا تقطع الرؤوس وتسحق الأجساد ويمثل بها؟! فضلا عن أن ذلك صدر في التعليمات التي تضمنتها الكتب المرسلة قبل بدء المعركة. لم تتمكن التواءات «Lammens» من حل هذه التناقضات؛ فابتلع الأحداث وكأنها لم تكن! ثم نصب نفسه خبيرا قانونيا في فقه الشريعة ومسألة الطاعة والخلافة فقال: قانونيا كان الحسين متمردة، لأنه رفض هو وابن الزبير قبول الوضع الذي اعترفت به الجماعة، كما اعترف به هاشميون مثل: ابن

ص: 748


1- أحزاب المعارضة، 186.
2- سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص، 252؛ القندوزي: ينابيع المودة، 3/ 78 - 79. ثم ينظر : البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 407؛ الطبري: تاریخ، 5/ 448؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 59 - 60؛ ابن الأثير: الكامل، 92/4 .

الحنفية وابن جعفر، ابن عباس، وكذلك ابن عمر، شخصيات مرموقة تراجعت أمام فكرة «شق عصا المسلمين». إن النداء الذي وجهه له سكان العراقالمتقلبون بالرأي إضافة إلى كونه سليل محمد من خلال فاطمة لم يكن يعطيه الحق بإرباك صفو إمبراطورية منتخبة وهدوئها؛ فقد أعربت الغالبية عن تأييدها للنظام القائم. مع اعترافه بسمو نسب الحسين على نسبه، أعرب يزيد عن أسفه فيما بعد لأن «ورعه ومعرفته بالقرآن» لم تقده إلى فهم قيمة الاعتبارات التي توصي بطاعة إمام الجماعة(1).

أما أن الإمام الحسين عليه السلام كان خارجا على القانون و معتادا على نكث عهوده، وأنه خرج على الحكومة المنتخبة، فهي دعوى لا تستحق الوقوف عندها؛ فلا «Lammens» ولا من سبقه ممن تحمسوا لحكم الأمويين يستطيعون أن يلغوا أن دولتهم هي دولة الغلبة والسيف والعصبية والقهر(2) . وقد روي أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية فقال: السلام عليك أيها الملك ! فقال معاوية: فهلا غير ذلك! أنتم المؤمنون وأنا أميركم. فقال: ذلك إن كنا أمرناك إنما أنت منتز(3). وكان تحویل معاوية الخلافة الإسلامية إلى ملك وراثي عضوض كفيلا بأن يمنح كل أعداء الإسلام وبضمنهم «Lammens» السبب في الدفاع عن معاوية ومبدئه في تداول السلطة ومن ثم الإشادة بحكمه والغبطة والسرور، التي صرح بها أحد العلماء الألمان بقوله: «ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا برلين! قيل له: لماذا؟ فقال: لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلبة، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كله، ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب

ص: 749


1- Le califat de Yazid Ler. pp,156-157
2- ابن خلدون: تاریخ، 2/ 650.
3- اليعقوبي: تاریخ، 2/ 217. ثم ينظر :عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 391/10 ؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 17 / 324.

أوربة عربا مسلمين»(1).

وقد دل معاوية بنفسه على كيفية وصوله إلى السلطة، وقطع على « Lammens» ومن سبقه طريق البحث عن نصوص تشرعن حكمه حين قال: «إني والله ما قاتلتكم التصلوا، ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا. إنكم لتفعلون ذلك. وإنها قاتلتكم الأتأمر عليكم. وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون»(2). وكفى الحسن البصري كل الدارسين ومطالعي التاريخ الإسلامي، مؤونة تقييم هذا الحكم حين قال: « أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة! انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سکيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادة وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا ويلا له من حجر وأصحاب حجر»(3).ودل يزيد على خلافته وأبيه يوم نصبه وليا لعهده، وجعل الناس يمدحونه ويقرضونه: يا أمير المؤمنين. والله ما ندري. أنخدع الناس أم يخدعوننا! فقال معاوية: كل من أردت خديعته فتخادع لك، حتى تبلغ منه حاجتك، فقد خدعته «(4).إذن فمعاوية ويزيد يعترفون أن حكمهم خداع واستغفال للناس وتسلط عليهم بالقوة والمال!

وقد حاول «Lammens» - على خلاف كل من تطرق لذكر الحادثة - أنيختلق الأعذار والمبررات لعمر بن سعد في قتله للإمام الحسين عليه السلام فقال: لحين انتهاء واقعة

ص: 750


1- محمد رشید رضا: تفسير المنار، 11 / 260؛ الوحي المحمدي، 282؛ أبو رية: شيخ المضيرة، 201 (هامش رقم 3).
2- ابن أبي شيبة: المصنف، 202/7 ؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 77؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 151/59 ؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 147؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 140/8
3- الطبري: تاریخ، 5/ 279؛ ابن الأثير: الكامل، 3/ 487؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2/ 262.
4- المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 2/ 83.

کربلاء، سنرى عمر كان يعيش صراعا بين عاطفتين: النفور من المهمة التي فرضت عليه وقناعته بإكال واجبه بشكل تام. لم يكن هناك ما يسمح بتوقع مخرج دام لمغامرة أبناء علي المجنونة. في الكوفة، حتى بالنسبة لمسلم، لم يكن الرأي العام يؤمن بفكرة نهاية عنيفة. لم يكن من عادة الأمويين اللجوء إلى حل دموي لحركات من الممكن إيجاد حل اقل تطرفا لها. لم يكن عمر يجهل ذلك وكان يمكن للحدث أن يكشف عن سلامة موقفه لو كان قد فهم التعليمات القادمة من دمشق بشكل أفضل، ولو لم يترك الأحداث تفاجئه. يبدو أن أحدا لم يكن يتوقع لا إصرار الحسين ولا إمكانية حدوث اقتتال بين قوی متفاوتة جدا. كان من المتوقع استسلام الحسين بسبب العطش والتفوق العددي الساحق لخصومه. بسبب عناده وطبعه الميال للشدة، ربما يكون ابن زیاد قد دفع في هذا الطريق من قبل قدوة سيئة وضعت إلى جانبه في هذه الظروف الحرجة. في اللحظة التي كان فيها عبيد الله يستعد لقبول شروط الحسين الوضيعة من أجل تجنب إراقة الدماء، تدخل شمر ليغير رأيه بهذا الخصوص. كان لهذا المسعى أثر في إعادة النظر بهذه القضية بالكامل. يمكن للمرء أن يستشف بغموض وجود مؤامرة مدبرة من قبل الزعيم العامري ضد عمر، تنافس من أجل أن يحل محل القرشي. في ذلك الحين، تدخل شمر لیرغم ابن سعد على المضي قدما في طريق الشدة والقسوة(1).

قام خطاب «Lammens» على الإلغاء التام للنص المخالف ! فليس من الغريب أن يحاول التدليل على براءة مجرمي کربلاء من جرم هم أنفسهم لم يفكروا بالتنصل منه !؟ بل تبجحوا بالقيام به !؟ أليس يقال: إن الاعتراف سيد الأدلة؟! ماذا يفعل «Lammens» أمام هذه الحقيقة الدامغة؟! سنجده يلتوي مرارا وتكرارا ليبرر لعمر بن سعد مالم يفكر هو أن يبرره وطبعا ليس حبا بعمر بن سعد إنها ضربا وتقويضا لصورة الصمود والتضحية والإباء الحسيني فنراه يقول: إن عمر بن سعد لم يقم إلا با فرضه

ص: 751


1- Le califat de Yazid Ler. pp, 156-158

الواجب والظرف عليها؛ إذ هدده عبيد الله ليس فقط بإلغاء تعيينه في منصب حاكم الري، بل وأيضا بحرق منزله، ومصادرة أملاكه في العراق، وكانت هذه العقوبة مخصصة للخونة الذين يرتكبون جريمة سب الذات الملكية، فوافق عمر بن سعد على مضض بهذه المهمة الخطرة، وإذن ليست هناك علاقة بين أمر حكمه للري ومهمة قتله للحسين! ولكن واقع الحال لم يعجب كتاب الحوليات الشيعة. من وجهة نظرهم عمر خائن، وإن تعيينه حاكما للري كان ثمنا لدم الحسين(1).

الأدهى من ذلك أن «Lammens» يعود للحديث عن التخمينات والفرضيات للتظاهر بأنه كان يناقش الموضوعات مناقشة علمية موضوعية!؛ فيقول: لسوء الحظ نحن مضطرين للتحدث بشكل تخميني. إن رواية أبي مخنف تحمله بشكل كبير مسؤولية النهاية الدامية لنهار كربلاء. لا أدري لماذا اختارته السنة بالذات، من بين أشراف العراق الآخرين، لكي يكون كبش فداء في هذه المأساة الهزلية. كان الحسين وهو تحت رقابة مشددة في كربلاء، ينتظر قرار عبيد الله. لم يتأخر وصول الجواب: جاء الرد ليلزمه بالاستسلام لنائب الملك من دون شرط. أثار ذلك غضب الطامع بالحكم الذي كان له من الكبرياء ما يجعله يرفض الاستسلام ل «دعي» - على حد وصف علي أحد أبناء الحسين لابن زياد (2)-. لم يكن ابن علي أكثر صدقا في كربلاء مما كان عليه في

ص: 752


1- Le califat de Yazid Ler. pp, 153-15 6
2- هذه العبارة تعبير عن حقيقة وواقع حال معروف لدى القاصي والداني. وقد مر بنا أن الشاعر ابن المفرغ هجا عباد ابن زیاد و عیره بذلك فعاقبه زیاد ابن ابیه وسجنه. ابن قتيبة: الشعر والشعراء، 231 - 234. فزياد إنها استلحقه معاوية بنسبه بعد أن صار حاكما للمسلمين وانحاز إليه زياد، فصار هذا الاستلحاق أحد القضايا التي أخذت على معاوية. ابن سعد، الطبقات، 9 / 98 - 99؛ الدينوري: الأخبار الطوال، 221 - 222؛ الطبري: تاریخ، 5/ 214- 215. وذكر أن هذه القضية وردت في الكتاب الذي أنشأه المعتضد العباسي عام (284ه-) بسب بني أمية تاريخ، 59/10 -60؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 2/ 523 - 524؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 19 / 164 - 165؛ ابن الأثير: الكامل، 6/ 448 الذهبي: میزان الاعتدال، 2/ 86-87؛ ابن حجر: الإصابة، 2/ 527.

المدينة وفي مكة، كان يسعى إلى إلهاء وخداع السلطة وخداعها لكسب الوقت، حتى ينتهز أول فرصة من أجل الهروب، ونقل الاضطرابات والفوضى المسرح آخر، مع خصم منظم بهذا الشكل، بإمكانه الاعتماد على تواطؤات من بين مقاتلي الكوفة، كان هناك حل يفرض نفسه: الاستسلام الفوري لحاكم العراق(1).

كانت حجة «Lammens» في محاولة تبرئة عمر بن سعد من جريمة الإصرار على قتل الإمام علیه السلام مقابل ملك الري أن الأبيات التي قالها في ذلك وهي:

أأترك ملك الري والري رغبة *** أم أرجع مذموما بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الري قرة عين

لم ترد إلا عند كتاب الحوليات الشيعة وهما: ابن الأثير (2) وابن الفقيه الهمداني(3) !

واضح أن «Lammens» يستغفل قراءه، مستغلا عدم معرفتهم بأن هذين المؤلفين ليسا من الشيعة. فالأول شافعي(4). والثاني لا يعرف مذهبه(5). وهي طريقة كنا ألفناه يتبناها في تصنيف المحبين والمبغضين من كتاب السيرة! فضلا عن ذلك فإن ياقوت الحموي ذكر تلك الأبيات لعمر بن سعد عن (الأصمعي. ت 215 ه-) وهو من المبغضين للإمام علي علیه السلام؛ لأنه قطع يد جده أصمغ بن مظهر في سرقة كان سرقها (6). قال ياقوت: « قال الأصمعي: الري عروس الدنيا وإليه متجر الناس وهو أحد بلدان الأرض، وكان عبيد الله ابن زیاد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص

ص: 753


1- Le califat de Yazid Ler. pp, 151–160
2- الكامل في التاريخ، 4 / 53.
3- مختصر کتاب البلدان، 271.
4- الصفدي: الوافي بالوفيات، 33 / 86؛ البغدادي: إسماعيل باشا، هدية العارفين، 706/1 ، 2/2.
5- ينظر : ابن النديم، الفهرست، 171؛ یاقوت الحموي: معجم الأدباء، 1/ 459.
6- ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 3/ 21.

ولاية الري إن خرج على الجيش الذي توجه لقتال الحسين، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الري والقعود وقال:

أأترك ملك الري والري رغبة*** أم أرجع مذموما بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الري قرة عين

فغلبه حب الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين(1).

ثم إن دلالة وقوع تلك الصفقة لا تقف عند حدود هذين البيتين؛ فقد أثبتت المصادر الأخرى وقوعها وإن لم تذكر البيتين قال الطبري: «وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين أن عبيد الله. ، دعا عمر بن سعد فقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك، فقال له عمر بن سعد: إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل. فقال له عبيد الله : نعم على أن ترد لنا عهدنا. فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتى أنظر. فانصرف عمر يستشير نصحائه، فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه. وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أخته فقال: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين، فتأثم بربك، وتقطع رحمك، فو الله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين. فقال له عمر بن سعد: فاني أفعل إن شاء الله»(2).وقال في نص آخر: عن عبد الله بن يسار الجهني عن أبيه قال: دخلت على عمر بن سعد وقد أمر بالمسير إلى الحسين، فقال لي: إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين فأبيت ذلك عليه. فقلت له: لا تفعل ولا تسر إليه. قال: فخرجت من عنده، فأتاني آت وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين. قال: فأتيته فإذا هو جالس فلما رآني أعرض بوجهه، فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه فخرجت من عنده .. ، فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زیاد فقال: أصلحك الله إنك وليتني هذا العمل

ص: 754


1- معجم البلدان، 3/ 118.
2- تاریخ، 5 / 409.

وكتبت لي العهد، وسمع به الناس فان رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغني ولا أجزأ عنك في الحرب منه، فسمي له أناسا. فقال له ابن زیاد: لاتعلمني بأشراف أهل الكوفة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، إن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا فلما رآه قد لج قال فإني سائر(1) .

إذن كل النصوص تؤكد أن تلك المساومة الرخيصة وقعت بالفعل وقبل بها عمربن سعد. فضلا عن ذلك فإنها تؤكد أن ابن زیاد لم يهدد عمر بن سعد بأكثر من إلغاء کتاب حكمه للري .ولكن «Lammens» كان يتوخى بأكاذيبه تلك أن يضفي على خطابه التقويض لونا من التظاهر بالبحث والتحليل والمناقشة للأحداث. من دون أن ينسى إضافة بعض الأكاذيب والزيادات على النصوص من قبيل: أن ذلك عقوبة للخونة ولمن سب الذات الملكية. وكأنه يتحدث عن أحد آلهة الرومان وكهنة مصر القديمة. يهول الأحداث ليقنع القارئ بما يقول!

أما أن الأمويين لم يكونوا يلجؤون لحلول دموية في حركات من الممكن حلها بطرق أخرى! نبودنا لو أن «Lammens» دلنا على حركة واحدة استعمل الأمويون غير السيف وسفك الدماء لحلها؟! فهؤلاء القوم قساة غلاظ بالطبيعة وتاريخهم قائم على أشلاء الضحايا ودماء المعارضين. أما دعواه أنهم كانوا يخشون من أن ينقل الإمام الحسين عليه السلام في حال تركوه يرحل، التمرد والفوضى ونشاط معارضته لمنطقة أخرى! فهي فرضية لا ترغب بالنظر للواقع؛ فإذا كان علي قد خذل في الكوفة، وبعد أن بايعه قرابة «18 ألف»(2). فهل يتوقع أن يؤيد في مكان ووقت آخر؟!

ص: 755


1- تاریخ، 410/5
2- الدينوري: الأخبار الطوال، 243. وفي نص الطبري (12 ألف) تاریخ، 5 / 347 - 348.

(5) المعركة.. النص وقراءة الخطاب

كثيرا ما وجدنا «Lammens» يقفز على النص! ويأتي بآراء وطروحات لا تستند لأي دليل! إلا رغبته في أن تكون هي البديل عن النص المتعلق! وكيف ما تؤدي الإثبات ما يقدمه من صورة عن الأحداث !؛ ولذا نراه يضع الفرضيات ويجيب عليها، وكأن ليس هناك نص تأريخي! نعم ربما شوهت معالم هذا النص، وغيبت كثير من أجزائه! ولكن ما بقي منه كان كفيلا ببيان حقيقة الحدث وملابساته وإعطاء صورة واضحة، عن كل الاحتمالات والخيارات التي كانت مطروحة وقابلة للنقاش حينها. ولكن «Lammens» يستبدل تلك النصوص بفرضياته المحتالة؛ فنجده يثير هذا السؤال: كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هل رفض الحسين أن ينجو من موته السياسي؟ ثم يجيب على تساؤله: قد يجد المرء نفسه مضطرا لتصديقه، عند رؤيته مصرا على رفض كافة الجهود التي بذلت لإنقاذه رغما عنه، ولكن في هذا الموقف نجد مرة أخرى حتمية ولا وعي أكثر مما نجد بأسا وبطولة. بوضع نفسه تحت رحمة عبيد الله، لم يكن هناك أي خطر على حياته. لو أرسل إلى يزيد، لربما كان قد أرسل مع أهله إلى بادية هادئة، وبذلك يكون من المستحيل عليه إرباك الهدوء العام. ما كان القمع الأموي ليتجاوز هذا الحد(1).

تريد هذه الفرضيات الانتقال بذهن القارئ والمطلع على أحداث کربلاء، إلىمنطقة الشك والاحتيالية بداية، ومن ثم التدرج به للقبول أو الاقتناع بذيل الفرضية !! ليؤدي الخطاب في النهاية دوره بصياغة ثورة كربلاء على أنها مغامرة لم يكن لها ما

ص: 756


1- Le califat de Yazid Ler. p, 162

يبررها، وكان من المفترض عدم الإقدام على القيام بها!

فرضية تتجاوز كل النصوص والدلائل والشهادات الحية التي تجمع على أن الحسين عليه السلام نفسه كان قد بين بوضوح تام ما يناقضها وحسم أمره وأجاب في نفس اللحظة: ألا وإن البغي قد ركن بين اثنتين : بين المسألة والذلة، وهيهات منا الدنية، يأبی الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وبطون وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن نؤثر مصارع الكرام على ظئار اللئام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر(1). وعليه فصياغة الفرضية المتعلقة ب الإمام الحسين عليه السلام يجب أن تكون بالشكل الآتي: ماذا يختار الحسين؟ أيموت ليحيا!؟ أم يحيا ليموت!؟

نعم تبدو فرضية «Lammens» منطقية لو كان الثائر غير الإمام الحسين عليه السلام . لو كان عمر بن سعد أو ابن مرجانة أو ابن سمية أو غيرهم من الذين لا يمتلكون أي مبدأ أو هدف سام في الحياة، وهمهم فيها إشباع شهواتهم ورغباتهم الدنيئة. يبدو منطقيا لو كان مبدأ الثائر الحديث الموضوع: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بستي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس. فسأله أحدهم: كيف أصنع یا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع(2). قد تكون فرضيته صحيحة لو كان مبدؤه الحديث الموضوع: «صلوا خلف كل بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر»!(3). ربما تكون صحيحة لو كان ثوار کربلاء ممن فقدوا الإحساس

ص: 757


1- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 14/ 219. وينظر : ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 241 - 242؛ ابن نا الحلي: مثير الاحزان، 40؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 3/ 249 - 250؛ ابن طاووس: اللهوف، 59. وفي بعضها: الدعي ابن الدعي / بين السلة والذلة .
2- مسلم: صحیح، 6/ 20؛ البيهقي: السنن الکبری، 8/ 158.
3- الطبراني: المعجم الأوسط، 6 / 147؛ الدارقطني: السنن، 44/2 ؛ البيهقي: السنن الكبرى، 4/ 19؛ العيني: عمدة القارئ، 11 / 48؛ السيوطي: الجامع الصغير، 2/ 97

بالكرامة والعزة وكانوا كمن قال: وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا: الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي الدهماء، وتبييت الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبرعلى جور الجائر . قال ابن عمر حین بویع ليزيد بن معاوية: إن كان خير رضينا وإن كان بلاء صبرنا(1). ربما تكون صحيحة لو كان ثوار کربلاء ممن قبلوا البيعة على أنهم: فيء ليزيد، يفعل في أموالهم وذراريهم ما يشاء(2). وفي لفظ: «على أنهم خو ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء»(3).

ولكن بما أن الثائر هو الحسين عليه السلام وشعار ثورته قوله تعالى : «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَیْمَانَ لَهُمْ»(4). وقوله تعالى:«لَّا یَسْتَوِی الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً ۚ وَکُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَی ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ عَلَی الْقَاعِدِینَ أَجْرًا عَظِیمًا»(5). وهوية الثورة هي قول النبي صلی الله علىه و آله لسان سبطه الإمام الحسين عليه السلام : «من رأى سلطانا جائرا. مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله. يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير بقول ولا فعل. كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وإني أحق من

ص: 758


1- ابن عبد البر: الاستذکار، 5/ 16.
2- الدينوري: الأخبار الطوال، 261.
3- خليفة بن خياط: تاریخ، 183؛ الطبري: تاریخ، 495/5 ؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 58 / 105؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 5 / 29.
4- التوبة / 12.
5- النساء / 95.

غير»(1). وقوله عليه السلام: «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهی عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد»(2).وقوله عليه السلام : لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد»(3). وغيرها من الشعارات والأقوال التي حكت حقيقة ومضمون قيامه وثورته الوتر!

وعليه تكون فرضية «Lammens»مجرد لغو لا أكثر. لأنه ممن يرون: أن غاية الدهاء والشجاعة والإقدام والبطولة، أن يكشف أحدهم سوأته، أمام الناس لينجوا من موت مشرف. فهو يرى أن من الحكمة والدهاء والكياسة أن يتقبل الإنسان صيرورته عبدا لإنسان آخر مقابل الحفاظ على حياته! متناسيا انتقاده - المتلاعب - لهذه الإزدواجية في شخصية عنترة بن شداد وحاتم الطائي أسهمت ألفا سنة من المسيحية والفلسفة في توضيح مفهوم الصدق البشري وتنقيته إلى أبعد حد. سواء كان الصدق موجودا أم غير موجود، لا يمكن أن يشوبه ولو جزء صغير جدا من الازدواجية ووجهات النظر المنتفعة. لم يرتق العرب أبدا إلى هذا الحد في فكرهم. كما هو الحال في لغتهم.. فيما يتعلق بالخصال الأكثر تقديرا بالنسبة لهم: الضيافة / الكرم / الشجاعة..أصبنا بصدمة عندما لاحظنا الكثير من الخلط ومن الاعتبارات الغريبة. بطلهم عنتر كان يتملص من الموت عن طريق الهرب. أما حاتم، المثل الأعلى في الكرم البدوي، فإنه

ص: 759


1- الطبري: تاریخ، 403/5 . ثم ينظر: الطبراني: المعجم الصغير، 264/1- 265؛ المعجم الكبير، 20/ 90؛ مسند الشاميين، 1/ 380؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 5/ 228؛ ابن حجر: فتح الباري، 5/13 ؛ السيوطي: الدر المنثور، 2/ 301؛ ألصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، 10/ 137؛ المتقي الهندي: کنز العمال، 216/1 .
2- ابن اعثم، الفتوح، 21/5.
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 396 - 397؛ الطبري: تاریخ، 5/ 425؛ ابن الأثير: الكامل، 4/ 63 - 62

كان يستغل کرمه ويوحي لضيوفه بأن يمتدحونه (1).

كان على «Lammens» لإسناد فرضيته أن يخطى لنا مواجهة الأنبياء لطغيان وجبروت الفراعنة والملوك والظلمة !؟ لماذا لم يؤثر نبي الله يحيي عليه السلام مهادنة هيرودوس وإقراره على ما أراد فعله من الحرام! على أن يمتهن ويسجن ويستخف به ويقطع رأسه ويهدي لبغي من بغايا بني إسرائيل! فما ضره لو كان سکت عن تلك الرغبة المحرمة وذلك الشذوذ(2)!؟ ولماذا لم يفضل - حسب عقيدته الفاسدة - نبي الله عيسى عليه السلام الانزواء في أحدى مغارات الناصرة أو الجليل، على أن يعرض نفسه لمهانة تعذيبه، وتجريده من ثيابه، وصلبه أمام أعين الناس !؟ ألم يكن بإمكانهم التسليم لرغبة أولئك الظلمة؟! هل كانوا مخطئين في تصرفاتهم تلك؟! ما ضرهم لو هادنوا وداهنوا؟! لم يكن موقف الإمام علا يختلف عن موقف أولئك الأنبياء قيد شعرة! سيما وأنه استشهد بمواقف بعضهم. ترى لو انسحب من تلك المواجهة ألا يحلو ل- « Lammens» حينها أن يحشد ما يستطيع تحشيده من عبارات التخاذل والخمول والهروب.. كيف لا وهو لم يأل جهدا في تحشیدها و الإمام علي قد حارب وقدم صورا من البطولة والتضحية والفداء، التي أذهلت أعداءه قبل أنصاره، فصارت محل تبجيل وإكبار الفكر الإنساني (3).

قال المستشرق الفرنسي المعاصر «Yamne Richard = یان ریشار»: «كان بين الضحايا الأوائل الذين تلقاهم الإمام بين ذراعيه ابنه علي الأكبر. وأخبر المخبرون بعد ذلك ما حدث من أشياء مفجعة. هزت الوجدان الإسلامي هز هزا عنيفا بالمصير

ص: 760


1- Mahomet fut _ il sincere ?. pp, 4-7.
2- عن الحادثة وشخوصها ينظر: إنجيل متي، 3/14-11.
3- ينظر على سبيل المثال: أنطوان بارا: الحسين في الفكر المسيحي؛ سلیمان کتاني: الإمام الحسين في حلة البرفير.

المأساوي الذي صار إليه حفيد النبي محمد بعد أن عزم على القتال حتى النهاية، ضد السلطة التي كانت تدوس أخلاق الإسلام الأول، ومبادئه. لكن الحسين الشهيد، صار نموذجا مثاليا لكل نضال من أجل الحرية، ولكل معذبي الأرض»(1).

وقال الصحفي الألماني «Gerhard Konzelman = جرهارد کونسلمان»: وقد أجمعت روايات المؤرخين على أن الحسين قاتل ببسالة عظيمة. أدى مصرع الحسين إلى أن تصير سلالة محمد وعلي وآل بيتها ثانية في ضمير كثير من المسلمين، أنبل جنس عاش يوما على أرض الدولة الإسلامية. وصار مصرع الحسين عند كربلاء أهم حدث في مجرى التاريخ بالنسبة للشيعة،وظل هذا الشهيد رمزا للشيعة حتى يومنا هذا. فشباب الشيعة الذين يشتركون في المعارك المشتعلة في الشرق الأوسط، يتخذون قضية الحسين قدوة لهم، والجهاد يعتبرونه واجبهم الأسمى. وتذكر الحسين يحث المحاربين على الإصرار والتضحية بالنفس. فالحسين نبع القوة لشيعة اليوم. وكان أن قام المنتصرون في كربلاء بإرسال رأس الحسين إلى دمشق حتى يسر الخليفة يزيد بذلك. إلا أن الخليفة لم يشعر بالنصر بموت زعيم شيعة علي. وقد أحس یزید أن الحسين ميتا هو أخطر عليه من الحسين حيا.. فقد قوی استشهاد حفيد النبي شيعة علي في رفضهم للحكام الذين لا تمتد جذورهم إلى آل بيت النبي. وأدى انفصال شيعة علي إلى تشجيع قوى أخرى تبغي الانفصال عن دمشق، في التجرؤ على الصراع (2).

وركز الأمريكي (Valy Naser = فالي ناسر) في كتابه (The Shia Rivival = يقظة / انبعاث الشيعة) على شعائر عاشوراء ودورها في تعبئة مشاعر المسلمين وحثهم على الاقتداء بإمامهم في الدفاع عن القيم والمبادئ والأخلاق والحياة الحرة الكريمة. وعقد مقاربات كثيرة بين شخصية الإمام الحسين عليه السلام وعيسى عليه السلام ودور تضحياتهما

ص: 761


1- الإسلام الشيعي، 53 - 54.
2- سطوع نجم الشيعة، 57 - 59.

في إذكاء فضائل الأخلاق وضرورة الاقتداء بها. فقال عن يوم عاشوراء: يظهر الشيعة وجهة متميزا للإسلام والمسلمين. إسلام تتجلى فيه الروحية العالية في للعاطفة، والطقوس أكثر من تجليها في العبادات والممارسات الأخرى، بحيث يظهر للمشاهد بأن لا أحد يبقى في بيته في ذلك اليوم لا سيماوهو يرى تلك الحشود تخرج زرافات زرافات، لإظهار احترامهم لهذا اليوم العظيم، تعبيرا عن انتمائهم وهويتهم ومعتقدهم فلا يبقى مراقب أو مشاهد في هذا اليوم.. إلا تأثر بهذا الاستعراض الشعبي المفعم بالولاء والإخلاص للمعتقد والمذهب، بحيث لا يمكن أن يبقى حتی شخص واحد ليس بإمكانه ملاحظة هذا التفرد الواضح للشيعي، أو للقيم الروحية التي يحملها أو يعرف بها(1).

وأضاف متحدثا عن عالمية المثال الحسيني، والتضحية الفرد في كربلاء: إن الحسين لم يعد حامل لواء التشيع وحسب، ورمزا مقدسا لمفهوم الزعامة في العالم الإسلامي، بل ورمزا يقتدي به في الفروسية الشهامة وقيم الشجاعة، في الوقوف ضد الاستبداد والقهر والطغيان. وصارت کربلاء تفيد ضمن رفض المسلم الحقيقي لأية سلطة تقوم على أسس ذرائعية أو تحصر لتنفيذ إرادة الظالمين. بل إنها إرادة تحير لأية سلطة غير شرعية(2). وقال البروفسور «Hemingsson = هانغسون» مشيرا لتماثلية تضحيات الإمام الحسين عليه السلام مع الأنبياء السابقين: إن بعض التقاليد والرموز الإسلامية قريب لقلوب المسيحيين، مثلا من تلك الرموز سبط الرسول محمد، الحسين بن فاطمة تلك المتألقة، وابن ذلك المكافح الحكيم الخليفة علي، هذه مشاعرنا نحن المسيحيين إزاء الحسين والمأساة التي أدت إلى استشهاده. نعترف نحن المسيحيين بأن في حياة الحسين الأليمة سات عديدة نشاهدها في صور العبد المضحي لله، والذي يشبه

ص: 762


1- أديب مختار: الشعائر الحسينية (مجلة رسالة الحسين / العدد الخامس / 2011)، 171 - 174.
2- أديب مختار: الشعائر الحسينية، 188 - 189.

النبي داوود الذي نقرأ عنه في الزبور: احمني تحت جناحك، أظلني في ظلك من أولئك الأشرار الذين يريدون هلاكي من أعدائي الآدميين الذين يحيطونني. هذه المأساة بين الإسلام التقليدي والنظري، وبين المسلمين الشيعة الذين يمثلون الإمام الحسين من طرف، والمسيحيين من خلال دور المعذب بالخلود وموت عیسی(1).

وقال المستشرق الفرنسي «Claude Cahen = کلود کاهن»: «لم يكن في حوزة الحسين وأهل بيته من عدة قتالية، فجعلت منه مأساة قتله وهو سبط النبي، شهيدا مجاهدا ضد الغاصبين، الذين أضافوا إلى سجل زندقتهم زندقة جديدة أثرت تأثيرا عميقا في نفوس كثير من المسلمين المتعاطفين إلى هذا الحد أو ذاك مع آل بيت النبي، كما أنها أضفت على التشيع هالة من الألم والحزن لم تكن معروفة في الإسلام من قبل»(2).

إذن الإمام عليه السلام آثر المواجهة ليمنح الإنسانية مثلا أعلى ونموذجا وترا يعلمها معنى الحرية والإباء، ومعنى أن يعيش الإنسان كريما أو يؤثر الموت عزیزا، ومعنى أن يضحي من أجل العقيدة والدين الحق؛ وإلا هل أنجبت الإنسانية واقعا تطبيقيا ونظريا المعني الكرامة والعزة والإباء کما کربلاء؟ وهذا ما لم يستطع إنكاره حتى «Lammens» نفسه !؛ فقد أرغم على أن يقول: «مع طلوع الفجر أغرق الحسين نفسه بالعطور. كان فعل الحسين هذا يكتسب معنی مأتميا. كان ذلك استعدادا منه للموت. قلد أصحاب الحسين زعيمهم بهذا الموقف، أرادوا التعبير مثله عن عزمهم الموت والسلاح باليد»(3).لكنه يدعي أن هذا الإصرار كان نابعا من اليأس لا من البطولة - وليس يدري كيف لإنسان يائس أن يبدي من البطولة ما أبداه أبطال كربلاء؟! -

ص: 763


1- رائد علي: الإمام الحسين من وجهة نظر المستشرقين (مجلة رسالة الحسين / العدد الخامس / 2011)، 209
2- الإسلام، 64.
3- Le califat de Yazid Ler. Pp. 162-163

ولذلك راح «Lammens» يرسم صورته وينسج نصوصه الخاصة عن أحداث کربلاء فقال: بدأ صراع یائس. إذا أردنا أن نطلق هذا الاسم على عراك بسيط. تصادم بين قوی حكومية وحفنة من المتمردين. بعد أن اتخذ إجراءات تحول دون تطويقه من قبل المهاجمين، دخل الحسين مرحلة الجمود، مثلما فعل الخليفة عثمان سابقا، مسلح نفسه بالقرآن. ترك أنصاره يموتون من أجله. حينذاك ربما تكون قد وقعت، كما هي عادة العرب القدماء معارك فردية كانت الغلبة فيها عموما لصالح الشيعة. كانوا يقاتلون بعزيمة اليائس ضد خصوم عازمين على عدم الاستفادة من تفوقهم الساحق. طبقة للتعليمات التي تلقوها. كان جنود عبيد الله يسعون إلى تأمين حياة شخص الحسين وليس قتله. كان رماة السهام يستهدفون خيول العلويين لإرغامهم على الاستسلام. المناورات الأخرى كانت تهدف إلى عزل الحسين وإبعاده عن خيامه وعن أنصاره من أجل دفعه للاستسلام. يبدو أن العلويين فهموا ذلك. وتحسبا له شدت الخيام بعضها لبعض وأضرمت النار بالأشواك الموجودة خلف المخيم(1).

ليس من المنطق بمكان عقد مقارنة بين مقتل عثمان وأحداث کربلاء. فعثمان قتل ولم يجرؤ أن يحرك ساكنا! لم يجرؤ أو يفكر حتى في أن يسل سيفه بوجه من هاجمه . لم يملك الشجاعة ليتقبل مصيره، بل أدار ظهره للموت! وهربليتحصن بعناقه الظاهري مع القرآن، على مهاجميه يخدعون بهذا المنظر (2). وقد كان قبل ذاك أول من ركنه وأحكامه في أقصى زوايا حياته المسرفة الباذخة! كان من الذلة أن ترك لمهاجميه أن يصطادوه، من دون أن يحرك ساكنا. وأما دعوى أن الإمام عليه السلام ترك أصحابه يموتون من أجله! فهذا لأنهم وجدوا فيه النموذج الذي أقل ما يفتدي به أن يقدموا أنفسهم فداء له! إنه عشق يتعذر على «Lammens» أن يفهمه. إنه العشق الذي جعلهم

ص: 764


1- Le califat de Yazid Ler. p, 163
2- ينظر: الطبری، تاریخ، 4 / 377، 380- 384.

يتنافسون في أن يقتلوا بين يديه(1).

- إنه العشق الذي جعل سعيد بن عبد الله الحنفي يقف أمامه؛ ليصد عنه السهام التي يرمي بها وهو يؤدي الصلاة! فتخترق وجهه وجسده!! وهو واقف يستقبلها برحابة صدر !! حتى سقط إلى الأرض من كثرة ما أصابه منها(2)!

- إنه العشق الذي جعل أم وهب تأخذ عمودا من الخيمة، وتنزل إلى ساحة المعركة خلف زوجها وهي تقول: فداك أبي وأمي. قاتل دون الطيبين ذرية محمد. فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأخذت تجاذبه ثوبه، ثم قالت: لن أدعك دون أن أموت معك، فنادها الإمام عليه السلام : جزيتم من أهل بيت خيرا. ارجعي رحمك الله للنساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال. فرجعت، ثم تخرج بعد مقتله تمسح الدم والتراب عن رأسه وتهنئه بالجنة، فتقتل وهي محتضنة رأسه(3).

- إنه العشق الذي جعل أحدهم يوصي الآخر في لحظات احتضارهم، أن يقتل دون الحسين عليه السلام! قال مسلم بن عوسجة وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة لحبيب بن مظاهر بعد أن دنی منه وبشره بالجنة ! فرد بصوت ضعیف: بشرك الله بخير. فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك؛ لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك. قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله - وأهوى بيده إلى الحسين - أن تموت دونه(4). وكثيرة هي الشواهد لو أردنا تقصيها.

أما دعواه أن جيش عمر بن سعد كانوا يسعون لتأمين حياة الحسين؛ ولذلك

ص: 765


1- ينظر: الطبري، تاریخ،442/5
2- البلاذري، أنساب الأشراف، 403/3 ؛ الطبري: تاریخ، 441/5 ؛ ابن الأثير: الكامل، 4/ 71.
3- الطبري: تاریخ، 429/5- 430، 438؛ ابن الأثير: الكامل، 4 / 65 - 66؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 196/8 - 197؛ وباختصار: البلاذری، انساب الأشراف، 3/ 398
4- الطبري: تاریخ، 5/ 435 - 436.

كانوا يستهدفون خيول أصحابه. فواضح أن «Lammens» ابتني هذه الأسطورة على إشارتين:

الأولى - إن الحر الرياحي بعد أن اشتبك مع الأعداء في الجولة الأولى، أصيب فرسه بجرح على أذنيه وحاجبيه. وما قاله أيوب بن مشرح الحيواني أنه رمیفرس الحر بسهم فعقره)(1).

الثانية - إن عزرة بن قيس وهو على خيل عمر بن سعد رأی خیله تنكشف أمام هجمات أصحاب الإمام الحسين علل فدعا عمر بن سعد خمسمائة من الرماة، فرشقوا أصحاب الإمام اللا بالنبال فعقرت خيولهم(2).

الإشارتان كلتاهما تكذبان (Lammens) فهما تدلان على أن أصحاب عمر بن سعد لما جبنوا عن مواجهة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام راحوا يرمونهم من بعيد بالنبال ليتكاثروا عليهم وهم وحدانا مترجلين. وهذا نظير ما فعلوه مع عابس بن شبيب الشاكري حين تقدم صارخا بهم: ألا رجل لرجل ؟! فتنادوا: لا يخرجن إليه أحد منكم! فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة!؛ فرمي بالحجارة من كل جانب ! فألقى درعه ومغفره، وشد عليهم، فطرد أمامه أكثر من مائتين (3).

وبذلك يتضح أنهم كانوا أقل رجولة من أن يواجهوا الرجال رجل لرجل؛ فيهربون ويرمونهم بالحجارة والسهام من بعيد

إذن « Lammens» افتضح أبطاله ودل قيمتهم كمحاربين. أما إنهم كانوا يهاجمون الخيام؛ ليدفعوهم للاستسلام. وإن الإمام عليه السلام تحسبا لذلك شد الخيام

ص: 766


1- الطبري: تاریخ، 5/ 434.
2- الطبري: تاریخ، 5/ 436 - 437.
3- الطبري: تاریخ، 444/5.

ببعضها وأمر بإضرام النار خلفها! فكان على «Lammens» أن يبين لقرائه کیف تدفع شخصا - وأنت تخوض معه حربا - للاستسلام بمهاجمة نسائه؟! ثم إن الأمويين أنفسهم، بینوا بعد نهاية المعركة سبب هجومهم على النساء ! أما خلالها فذاك لأنهم كانوا يحجبنون عن مقاتلة الرجال فيهاجمون النساء والأطفال، ولذلك وبخ شبث شمرا عندما أراد حرق الخيام على النساء: «ما رأيت مقالا أسوأ من قولك ولا موقفا أقبح من موقفك أمرعبا للنساء صرت»(1).وفي أدبيات العرب أنهم كانوا يتحاشون إخافة النساء وترويعهن، فضلا عن قتلهن!

لكن أبطال «Lammens» كانوا من الدناءة والضعة، أنهم تخلوا حتى عن بدیهیات الأخلاق العربية ولذلك ناداهم الإمام الحسين عليه السلام : «ويحكم إن لم يكن دین فكونوا في أمر دنياكم أحرارا امنعوا أهلي من طغامكم وسفهائكم»؟(2)؛ ولذلك شد الإمام عليه السلام الخيام مع بعضها البعض وأضرم النار في الأشواك والحطب خلفها؛ ليصعب على الأعداء مهاجمتها والنفوذ إلى معسكره من جهتها.

ص: 767


1- الطبري: تاریخ، 5 / 438.
2- البلاذري: انساب الأشراف، 3/ 407؛ الطبري: تاریخ، 5/ 450.

(6) نتائج الصراع وتقييم الخطاب

تقريرا لما عمل «Lammens» على ترسيخه أن الصراع في كربلاء لم یکن صراعا دينيا قال: «حتى من وجهة نظر المعاصرين لم يكن الصراع يحمل طابعا دينيا، وإن نهايته لا تبرر لعن إلحاد الأمويين هذا ما كان يعتقده الأخ غير الشقيق للحسين، ابن الحنفية، فقد رفض حمل السلاح مع الحسين، شأنه شأن عبد الله بن جعفر وغالبية الهاشميين عندما كانت تذكر أمامه هذه الصراعات الأخوية، اعتاد على القول: نحن وأبناء عمومتنا الأمويين، نعامل كمعبودين على حساب الله»(1).

هل يتوقع «Lammens»وينتظر من اليهود، في يوم من الأيام أن يقروا بأنهم - حسب عقيدته الفاسدة في المسيح - قتلوه لأنه جاء بدين أفضل؟! أو حاول إرجاعهم إلى الوحدانية الخالصة؟! وهل ينتظر من قتلة الأنبياء والصالحين أن يعترفوا بأنهم قاتلوهم لأنهم أرادوا هدايتهم؟! ومع ذلك ظهرت اعترافات من قتلة الإمام الحسين عليه السلام - وإن بعد حين – بفساد عقيدتهم وحربهم في كربلاء! قال شبث بن ربعي في أيام إمارة مصعب بن الزبير على العراق: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا، ولا يسددهم لرشد! ألاتعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب، ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض، نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال(2). وقالت مرجانة لدعيها عبيد الله: «یا خبيث. قتلت ابن رسول الله. لا ترى الجنة أبدا»(3). وقال عمر بن سعد: «ما رجع

ص: 768


1- Le califat de Yazid Ler. p,165
2- الطبري: تاریخ، 5/ 436 - 437؛ ابن الأثير: الكامل، 4/ 69.
3- ابن سعد: الطبقات، 6/ 453.

أحد إلى أهله بشر مما رجعت به. أطعت الفاجر الظالم ابن زیاد، وعصيت الحكم العدل، وقطعت القرابة الشريفة»(1). وكان يقول:

أتيت الذي لم يأت قبلی این حرة *** فنفسي ما أخذت وقومي أذلت(2)

وقال كثير بن عبد الله الشعبي: لما زحفنا قبل الحسين، خرج إلينا زهير بن القين فقال: يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف! وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنا ندعوكم إلى نصرهم، وخذلان الطاغية عبيد الله بن زیاد؛ فإنكم لا تدركون منها إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم،ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل. فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له(3).

وقال عدي بن حرملة عن موقف الحر الرياحي وتحوله لمعسكر الإمام الحسين عليه السلام :

أخذ يدنو من حسين قليلا، قليلا فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل ؟ فسكت وأخذه مثل العروراء (4). فقال له: یا ابن یزید. والله إن أمرك لمريب. والله ما رأيت منك في موقف قط، مثل شيء أراه الآن. ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك. فها هذا الذي أرى منك؟ قال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا، ولو قطعت

ص: 769


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 3 / 414 - 415.
2- ابن سعد، الطبقات، 6 / 453.
3- الطبري: تاریخ، 426/5 .
4- الرعدة عند الحمی. ابن سلام: غريب الحديث، 4/ 413.

وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بحسين(1).

بل إن الأمويين هم من أضفوا على جريمتهم تلك الصبغة الدينية! وذلك عندما روجوا أن الإمام عليه السلام وصحابته مجموعة من الخوارج، خرجوا على إمام زمانهم!؛ فوجب قتالهم! وهذا ما حاول عبيد الله بن زياد أن يموه به على الناس !؟ فخاطب الحوراء زينب عليها السلام قائلا: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدثتكم! فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول أنت. إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر. قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك !؟ قالت: کتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده(2). وقال الإمام زين العابدین عليه السلام : «ما اسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين. قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟! قال: قد كان لي أخ يقال له علي قتله الناس. قال: إن الله قد قتله! فقال الإمام عليه السلام« اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا»(3)و« وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » (4).

وكانت محاولة الأمويين شرعنة جريمتهم الشنيعة في كربلاء، هي ما أثارت عبد الله بن عفيف الأزدي وأدت إلى شهادته، وذلك عندما سمع عبيد الله بن زیاد يخطب في مسجد الكوفة ويقول: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين یزید بن معاوية، وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته! فقام عبد الله بن عفيف وقال: يا بن مرجانة. إن الكذاب ابن الكذاب. والله أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه. تقتلون أبناء النبيين، وتكلمون كلام الصديقين(5). بل أثارت حتى

ص: 770


1- الطبري: تاریخ، 5/ 427.
2- الطبري: تاریخ، 5/ 457.
3- الزمر / 42.
4- آل عمران / 45.
5- ابن حبيب: المحبر، 480؛ الطبري: تاریخ، 5 / 458 - 459.

اليهود! ولذا قال «رأس الجالوت = كبير الجالية اليهودية»: «إن بيني وبين داود لسبعين أبا، وإن اليهود لتلقاني فتعظمني، وأنتم ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ولده!»(1).

وذكر سبط ابن الجوزي عن شيوخه عن ابن هشام صاحب السيرة أنه حدث بقصة مسير السبايا وحمل رؤوس الشهداء ومسيرهم إلى الشام، وأنهم وصلوا إلى: دیر فيه راهب فأخرجوا الرأس على عادتهم ووضعوه على الرمح وحرسه الحرس على عادتهم. وكانوا أسندوا الرمح إلى الدير. فلما كان نصف الليل رأى الراهب نورا من مكان الرأس إلى عنان السماء، فاشرف على القوم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب ابن زیاد. قال : وهذا الرأس؟ قالوا: رأس الحسين بن علي بن ابي طالب ابن فاطمة بنت رسول الله. قال: نبيكم؟ قالوا: نعم. قال: بئس القوم أنتم. لو كان للمسيح ولد الأسكناه أحداقنا. ثم عرض عليهم أن يأخذ الرأس مقدار الليلة مقابل «10 آلاف دینار» فوافقوا فأخذه وغسله وطيبه، وتركه على فخذه وقعد يبكي الليل كله، فلما أسفر الصبح قال: يا رأس لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمدا رسول الله، وأشهد الله أنني مولاك وعبدك، ثم خرج عن الدير وما فيه، وصار يخدم أهل البيت(2). ونقل أيضا: أن رسول قیصر كان حاضرا عند يزيد فقال: رأس من هذا؟ قال يزيد: رأس الحسين. قال: ومن الحسين؟ قال: ابن فاطمة. قال:ومن فاطمة؟ قال: بنت محمد. قال: نبيكم؟ قال: نعم. قال: ومن أبوه؟ قال: علي بن ابي طالب. قال: ومن علي بن أبي طالب؟ قال: ابن عم نبينا. فقال: تبا لكم ولدینکم ما أنتم وحق المسيح على شيء. إن عندنا في بعض الجزایر دیر فيه حافر حمار ركبه عیسی

ص: 771


1- ابن سعد، الطبقات، 6 / 452؛ ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، 5 / 132؛ سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص، 263.
2- تذکرة الخواص، 263-264.

ونحن نحج إليه في كل عام من الاقطار، ونذر له النذور، وتعظمه کما تعظمون کعبتكم، فأشهد أنكم على باطل. ثم قام ولم يعد إليه. وكان في أراجيز وأقوال صحابة الإمام الحسين خير دليل على أنهم كانوا يخوضون حربا من أجل العقيدة والدين ضد طغيان بني أمية وكفرهم. وقد انقسم علماء المسلمين بين مكفر ليزيد، ومصحح لأفعاله، وساكت عنه(1). وبطبيعة الحال لا ينتظر ممن قاتل الإمام علي أولم ينصره وبايع ليزيد! أن يكفر یزید، وإلا يكون بایع کافرة. وفي حال موته فهو مات ميتة جاهلية. إذن فهم بحاجة لتبرير کفرهم بالدين!

أما دعواه أن عبد الله بن جعفر یری عدم شرعية تلك المعركة! فهذا من الكذب الصريح المفضوح. فقد أورد الطبري موقف الأخير فقال: لما بلغ عبد الله. مقتل ابنيه مع الحسين، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه. فقال: هذا مالقينا ودخل علينا من الحسين! قال: فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله! ثم قال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه! والله إنه لما يسخي بنفسي عنها، ويهون على المصاب بها، إنها أصيبا مع أخي وابن عمي مواسين له، صابرين معه. ثم قال: الحمد لله عز وجل على مصرع الحسين، ألا تكن است حسینا يدي فقد آساه ولدي(2).

إذن «Lammens» زور النص ونسب لعبد الله بن جعفر الكلام الذي قاله أحد موالیه! فكم هي أساليب رخيصة وتجني على الحقيقة والنص !؟ والأدهى والأمر من ذلك أنه يدعي البحث والمناقشة وتحليل الأحداث، بالياته وعدته المنهجية الحديثة ! أهذه هي الحداثة والعلمية التي يتبجح بها المستشرقون. أن يكونوا مزورين كذابين؟!

ص: 772


1- ابن حجر، الصواعق المحرقة، 330 - 335.
2- تاریخ، 5 / 466.

أما قول محمد بن الحنفية الذي نقله بدوره عن ابن سعد والذي جاء بلفظين: الأول: أهل بيتين من العرب يتخذهما الناس أندادا من دون الله، نحن وبني عمنا هؤلاء، يعني بني أمية. والثاني: نحن أهل بيتين من قریش تتخذ من دون الله أندادا، نحن وبنو أمية(1) . وهذان القولان - على فرض صحتها - لا يعينان لا من قريب ولا من بعيد، طبيعة الصراع الذي دار في كربلاء، بل إنها على الأرجح ينتميان لموضوع آخر، كأن يكون بخصوص الفرقة التي ظهرت فيما بعد وقالت بإمامته أو الآراء والأفكار التي غالت بتقديسها لأهل البيت عليهم السلام حتى أوصلتهم لمقام الربوبية. وهذا ما لم يكن إنكاره مقتصرا على محمد بن الحنفية، بل إن الأئمة عليه السلام جميعا نهوا عنه وحذروا منه ووصل الأمر بالإمام علي عليه السلام لتهديدهم بالقتل، مالم يرجعوا عن قولهم بإلوهيته وقال: «لا تتجاوزوا بنا العبودية. ثم قولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا. وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني برئ من الغالين»(2).

بل أن ما يثبت كذب دعوى «Lammens» وتزييفه للحقائق أن ابن سعد ذكر بعد هذين النصين مباشرة، انطباع محمد بن الحنفية عن واقعة كربلاء وتقييمه لها! فقد سأله أحد الأشخاص قائلا: كيف أنت؟ فحرك يده وقال: كيف أنتم. أما آن لكم أن تعرفوا كيف نحن. إنها مثلنا في هذه الأمة، كمثل بني إسرائيل في آل فرعون، كان يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا(3). إذن محمد بن الحنفية قيم الصراع العلوي الأموي على أنه صراع ديني بحت، بل إنه من سنخ صراع الأنبياء مع الجبابرة والظالمين.

وردد «Lammens» ما قاله «Wellhausen = فلهوزن»: إن المعركة كانت مجرد

ص: 773


1- الطبقات، 96/7
2- الطبرسي: الاحتجاج، 2/ 233.
3- الطبقات، 7/ 96. وينظر : ابن عساکر، تاریخ، 54/ 348.

مجزرة (1). وادعى أن المؤرخين الشيعة شعروا بالحاجة لتجميل هذه النهاية المحزنة، فصوروا لحسين يقاتل وكأنه أسد أو ذئب، وأنه لم يستسلم بسهولة. ولذلك فهذه التفاصيل هي من تضخيم الرواة الشيعة وتجميلهم!! لصورة الحسين؛ لأنه كان يطلب المستحيل ولم يقدم ما يوصله لأهدافه، وأنه أراد أن يتراجع ولكن بعد فوات الأوان، وأنه ترك أصحابه يموتون لأجله وحافظ على حياته حتى النهاية(2).

لم يكن أمام « Lammens» إلا أن يعد كل من ذكر تفاصيل الأحداث شيعيا حتى الطبري ! متغافلا عن أن تلك التفاصيل إنها وردت ورويت من قبل أعداء الإمام عليه السلام أنفسهم! فمعسكر الإمام أبيد عن آخره ولم يبق منه شاهد حي لينقل أحداث المعركة إذا ما استثنينا الإمام السجاد والإمام الباقر علیه السلام والنساء لأن المؤرخين سيما الطبري لم يرو شيئا عمن روى عنهم، بل إن الراوي الأساس لتلك الأحداث هو حميد بن مسلم وهو من معسكر عمر بن سعد. ومن مضحکات خطاب «Lammens» واستغفاله للقارئ الغربي أنه زعم: أن كثرة جروح الإمام الحسين علیه السلام تأتت من حالة الهلع والرعب التي كان يمر بها أثناء القتال. وأن: عمر بن سعد لم يأمر بنهب الخيام

ص: 774


1- أحزاب المعارضة، 181 - 187. كان تفسيره للأحداث أن الرواة الذين نقلوا الحوادث لم تكن ميولهم مع الموقف الذي وقفوه! بل كانوا نادمين على موقفهم ! ولذا كانوا يحاولون أن يهونوا من شأن اشتراكهم أو يقللوا نصيبهم من الجريمة، أو يستدروا العطف عليهم بتمجیدهم شخص الحسين! وهي نظرية لم يجد لها أي تطبيق على أرض الواقع !؛ إلا عقبة بن سمعان وحميد بن مسلم! (ص81). فأما الأول: فهو من الأساس في معسكر الإمام (ع) وثانيا لم ينقل عنه الطبري نصوصا كثيرة! فضلا عن ذلك لم نستشهد من نصوصه سوی بنص يتحدث عن قبيل بدء المعركة، ومن ثم أثبتت الأحداث الواقعية فيما بعد صدق ذلك النص وحقيقيته! وأما الثاني: فإضافة لكونه جنديا هامشيا، فهو لم ينقل نصوصا متعلقة به هو شخصيا إلا في جزئية أو جزئيتين! واما نصوصه الأخرى فتناقض هذه النظرية تماما ؛؛ إذ يفترض أن لا يروي ما يبين فداحة ما ارتكبه معسكر عمر بن سعد من جرائم. وإذن فهي نظرية إن وجد تحقق لبعض جزئیاتها، فمن المستحيل واللامنطقي التعويل عليها في تفسير الحدث كله.
2- Le califat de Yazid Ler. p. 165

وإحراقها. وأنه عد أحد قتلة الحسين عندما قدم له رأس الحسين مجنونا(1).

يؤكد « Lammens» ويدلل في كل سطر وفي كل حرف يكتبه أنه لم يكن نزيها في معالجته للأحداث بالمرة، فتلاعب بالنصوص وحرفها عن طريق بترها وتعمية مضامینها؛ لإعطاء إيحاء مغاير عما صرح به النص وهذا منأرخص الأساليب التي يتبعها باحث للوصول إلى إسناد رؤيته وتفسيره لحدث ما. فأما جروح الإمام عليه السلام فقد ذكرت المصادر وبالتفصيل الدقيق أن بعضها تأتي من حجر رمي به، وآخر من سهم، وآخر من طعنة رمح، وآخر من ضربة سيف(2).

وبطبيعة الحال، لابد من أن شخصا وحيدا بين آلاف الأعداء! يرمي بالحجارة والسهام والنبال ويطعن بالرماح، ويجالد بالسيوف! أن يصاب بكثير من الجراح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أعداءه لم يكونوا من الرجولة؛ ليواجهوه رجلا الرجل! إنما هجموا عليه سوية! بل إنهم كانوا من الجبن والخوف فرموه من بعيد بالحجارة والسهام والرماح والنبال !؛ لأنهم لا يجرؤون على الاقتراب منه! ولسوء حظ «Lammens» أن أبطاله هم من اعترفوا بهذه الحقيقة. وأنهم كانوا من الانهزامية بحيث لم يحاربوه وجها لوجه، ورجلا لرجل ولذا: رماه حصين ابن تميم بسهم، فوقع في فيه، فجعل يتلقى الدم بيده ويحمد الله. وتوجه نحو المسناة يريد الفرات، فحالوا بينه وبين الماء. ورمي بسهم آخر فوقع في حنکه. وبقي عامة يومه لا يقدم عليه أحد إلا انصرف، حتى أحاطت به الرجالة، فما رأي مكثور قط أربط جأشأ منه، إن كان ليقاتلهم قتال الفارس الشجاع وإن كان ليشد عليهم فينكشفون عنه انکشاف المعزى إذا شد فيها الأسد. فصاح بهم شمر: ثكلتكم أمهاتكم! ماذا تنتظرون به؟ أقدموا عليه(3).

ص: 775


1- Le califat de Yazid Ler. p,166
2- ينظر: ابن سعد، الطبقات، 440/6 - 441؛ الطبري: تاریخ، 5/ 449 - 455.
3- ابن سعد، الطبقات، 6/ 440 - 441؛ الطبري: تاریخ، 449/5 - 453.

أما أن عمر بن سعد عد من أتاه بالرأس مجنونا! فذاك ليس لأنه كان کارها القطع الرأس. إنها لأنه كان خائفا أن يسمع أحد ما قاله من الشعر فينقله لابن زیاد فيعاقبه على ذلك. فعندما جاءه ذلك الجندي حاملا رأس الإمام الحسين علیه السلام وقف بباب الفسطاط مناديا:

أوقر رکابي فضة وذهبا *** فقد قتلت الملك المحجا

قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال عمر بن سعد: أشهد أنك لمجنون ما صحوت قط! أدخلوه علي. فلما أدخل، حذفه بالقضيب. ثم قال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام !؟ أما والله لو سمعك ابن زیاد لضرب عنقك(1).

لا شك في أن هذين البيتين يترجمان مبدأ ذلك الجيش من قائده حتى أصغر جندي فيه! فرد عمر: إذا كانت هذه صفاته فلماذا قتلناه ؟! لو سمعك الناس تمدحه بهذه الصورة، سيقولون لك لماذا قتلته إذن؟! ومن ثم لو أنك أخطأت هذا الخطأ أمام ابن زیاد وسمعك لقتلك. وهذا موقف منطقي، لأنهم روجوا أن الإمام الحسين وصحابته: مجرد مجموعة من الخوارج خرجوا على إمام زمانهم ومن الجائز بل الواجب قتلهم!

ص: 776


1- الطبري: تاریخ، 5/ 454.

(7)حمل الرؤوس.. التزاحم والإزاحة

ورد عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: «من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(1).وهذا القول إشارة واستشراف مستقبلي لمماثلة ذلك مع ما سيحدث بعد کربلاء! فكانت هذه المماثلة وغيرها من قبيل موقفه لما قتل ولده الرضيع: فجعل الحسين يأخذ الدم من نحره ولبته، فیرمی به إلى السماء فيها يرجع منه شئ، ويقول: اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح «(2). وقول أحد الأنصار وهو حنظلة بن أسعد الشبامي مخاطبا معسكر عمر بن سعد ومستحضرا تشابه الموقف أو الحالة التي يعيشونها مع موقف مؤمن آل فرعون (3). وهو يدعو قومه للإيمان بموسی علیه السلام في سورة غافر : «وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ(32)» كل هذه المقابلات، لتحكي وبشكل جلي وواضح عالمية اقتران المثال الحسيني بالمثال والموقف النبوي على امتداد صدوره! وهو ما توخی «Lammens» تقويضه؛ للاحتفاظ بفرادة ذلك التماثل لما يدعيه المسيحيون من وقوع قضية الصلب على السيد المسيح؛ وهو إنما يريد تحقيق ذلك في إطار لا يثير الشبهة في توقع هذه الغاية !؛ فكان أن قام بذلك تحت متبنی تبرئة يزيد من الأمر بحمل رأس الإمام الحسين عليه السلام و التمثيل به !؛ فقال: كان رأس الحسين قد حمل إلى الكوفة. من المؤكد انه في خضم قمع هذا التمرد البائس، كان لا بد من أن يبدي

ص: 777


1- المفيد: الإرشاد، 2/ 132؛ ابن نما الحلي: مثير الأحزان، 29؛ ابن طاووس: اللهوف، 22
2- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 59 -60؛ ابن شهر آشوب، مناقب، 3/ 257.
3- ينظر: الطبري: تاریخ، 5/ 443.

عبيد الله حتى النهاية انعدام رباطة جأشه. لقد نسي نفسه إلى حد شتم رفاة عدوه النازف، وثقب شفتيه بعصاه التي كان يمسكها بيده. وجد الكتاب الشيعة أنه من المثير نقل هذا المشهد إلى دمشق ونسبته ليزيد (1).

كانت حجة «Lammens» التي غفل عنها جميع المؤرخين! - حسب زعمه - في إسقاط هذا الفعل الدنيء من موبقات يزيد: أن ما تدعيه المصادر من أن زيد بن أرقم أو أبو برزة الأسلمي قد ردا على يزيد وانتهراه عندما رأياه يقوم بهذا الفعل. هو كذب صريح لأن هذين الشخصين لم يريا دمشق في حياتهما !؛ فهما لم يسافرا إلى سوريا منذ أن ولدا حتى ماتا !؟ وكان دليله على ذلك أن ابن سعد عندما ترجم لهما، لم يذكر تلك الحادثة، ولم يذكر أنها سافرا إلى سوريا. فلنرى مدى تاريخية حجة «Lammens» ومدی استناده للنصوص.

أولا - كما هو معروف ومتوقع سلك « Lammens» الطريق الأقصر في تكذيب نقل المصادر لقيام عبيد الله ويزيد كليهما بضرب رأس الإمام الحسين: ! فهو بعد أن اعترف على مضض بقيام عبيد الله بذلك! ادعى أن نقل هذه الحادثة إلى دمشق كان من فعل الكتاب الشيعة !؟ وهو يقصد هنا - حسب ما أشار في الهامش: الدينوري / الطبري!؟ - اللذين رويا أنه: «لما أدخل رأس الحسين على ابن زیاد، فوضع بين يديه، جعل ابن زیاد ینکت بالخيزرانة ثنايا الحسين، وعنده زيد بن أرقم، صاحب رسول الله، فقال له: ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رأيت رسول الله يلثمها. ثم خنقته العبرة، فبکی. فقال له ابن زیاد: مم تبكي؟ أبكى الله عينيك، والله لولا أنك شيخ قد خرفت الضربت عنقك»(2).

ص: 778


1- Le califat de Yazid Ler. pp, 171-172
2- الدينوري: الأخبار الطوال، 207؛ الطبري: تاریخ، 5 / 456. وينظر : البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 412؛ ابن الجوزي: المنتظم، 341/5 ؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 21؛ الكامل، 4 / 82؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 207/8 ؛ العيني: عمدة القارئ، 16/ 262.

ثانيا - لم يقل لا الدينوري ولا الطبري أن زيد بن أرقم هو من رد على يزيد في الشام. وعليه فإن «Lammens» هو من حاول نقل ما حدث في الكوفة إلى دمشق ! ليوهم القارئ بأن المصادر تتخبط في إيراد هذا الخبر ! وبما أنه أقر بقيام عبيد الله بن زیاد بذلك الفعل في الكوفة، وتعيين المصادر لمن رد عليه وهو زيد بن أرقم. يبقى النقاش حول قيام یزید بتكرار ذلك الفعل في دمشق. فقد سير عبيد الله السبايا والرؤوس إلى یزید فوضع رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه وعنده أبو برزة الأسلمي فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول:

يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة ارفع قضيبك، فو الله لربما رأيت فا رسول الله على فيه يلثمه (1). وفي رواية أخرى: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا! لربما رأيت رسول الله يرشفه. أما إنك یا یزید تجيء يوم القيامة وابن زیاد شفيعك، ويجئ هذا يوم القيامة ومحمد شفيعه(2).

لكن «Lammens» زعم أن ذلك لم يحدث لأن أبا برزة لم يزر الشام ولم ير دمشق في حياته. لأن ابن سعد لم يذكر ذلك في ترجمته !؟ نعم ابن سعد لم يذكر أن أبا برزة زار سوريا. لكنه في الوقت ذاته لم ين أنه زارها. إذن تبقى احتمالية أو على الأرجح حقيقة تواجده هناك قائمة !؟ ولسوء حظ أبي برزة أولا و«Lammens» ثانية، كان الجاحظ ذکر نصا في غاية الأهمية وضع به النقط على الحروف في حقيقة وجود أبي برزة في الشام!؛ فقد قال: «قيل لأبي برزة الأسلمي: لم آثرت صاحب الشام على صاحب العراق؟ قال:

ص: 779


1- الطبري: تاریخ، 390/5 ؛ ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 342؛ سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص، 262؛ المزي: تهذيب الكمال، 429/6 ؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 309/3
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/ 416؛ الطبري: تاریخ، 5 / 465؛ ابن اعثم، الفتوح، 5/ 129؛ ابن عساکر، 62/ 85؛ ابن الأثير: الكامل، 4 / 85؛ أسد الغابة، 5/ 20.

وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأنظر لما في نفسه»(1).«وقد دل هذا إن كان له أصل أن أبا برزة كان مع معاوية بالشام»(2).وهناك من أشار إلى أن: أبا برزة كان في الشام وبايع لمروان بن الحكم(3). إذن الإشارات الدالة على تواجده في الشام أكثر صراحة وأكثر تأكيدا، وإن كان ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا فالمسألة لاتقف عند حدود ضرب الرأس الشريف، فهب أن يزيدا لم يفعل ذلك! فهل هذا يعني إخلاء مسؤوليته من قتل الإمام عليه السلام وأهل بيته وصحابته أم يخلي مسؤوليته عن أمره بسوق عائلة النبي صلی الله علیه و آله سبايا من بلد إلى بلد؟ أم يخلي مسؤوليته من مخالفته لأحكام الإسلام فضلا عن بديهيات الفطرة الإنسانية السليمة التي تعاف التمثيل بجثث القتلى وتستفظع قطع رؤوسهم والطواف بها وإن كانوا أعداء! أم أن عمر بن سعد فعل كل ذلك باجتهاده! ورغبته الشخصية! وهو الكاره حتى اللحظات قبل بدء القتال خوض تلك المعركة كما يدعي «Lammens» نفسه!

ثالثا - استعجل «Lammens» في تقريره: أن ابن سعد كان يجهل حادثة الرأس(4). إذ لم يطلع على ترجمة الإمام الحسين عليه السلام في النسخة التي اعتمدها من طبقات ابن سعد لأن الجزء الذي كانت تقع فيه لم ينشر بعد حينها. وقد مر في موضوعة مصادره البحثية، أنه اعتمد على طبعة ليدن التي اعتنى بنشرها المستشرق «Karl Eduard Sachat = کارل إدوارد سخاو» خلال المدة (1904 - 1917 م). ولذلك اكتفى بمراجعة ترجمة أبي برزة الأسلمي(5). وقرر على أساسها: جهل ابن سعد بحادثة الرأس. ولم يراع أن الطبعة التي اعتمدها لم تكتمل بعد، أو أن هناك سقطا

ص: 780


1- العثمانية، 97؛ ابن عساکر، تاریخ مدينة دمشق، 62 / 84.
2- ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 62 / 84.
3- ابن حجر: فتح الباري، 13 / 59.
4- Le califat de Yazid Ler. p, 172
5- تقع ترجمته في تلك الطبعة في، 4/ 34- 35.

في بعض أجزائها. فمثلا ترجمة أبي برزة في هذه الطبعة أقصر من ترجمته في الطبعة التي اعتمدناها كما أنها خلت من الجزء المتضمن ترجمة الإمام الحسين علیه السلام ومن هم في ضمن طبقته، والذين أدرجهم ابن سعد في الطبعات اللاحقة - في الطبقة الخامسة في ضمن من قبض رسول الله صلی الله علیه و آله، وهم أحداث الأسنان ولم يغزو معه. فمع أن ابن سعد لم يذكر زيارة أبو برزة لسوريا(1)، إلا أنه ذكر حادثة ضرب يزيد للرأس الشريف ! فقال في معرض ترجمته للإمام الحسين علیه السلام . ثم قال بالخيزرانة بين شفتي الحسين وأنشأ يقول:

يفلقن هاما من رجال أعزة*** علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال له رجل من الأنصار: ارفع قضيبك هذا؛ فإني رأيت رسول الله يقبل الموضع الذي وضعته عليه. وفي نص آخر: لما أتي يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي، جعل ينكت بمخصرة معه سنه ويقول: ماكنت أظن أبا عبد الله يبلغ هذا السن (2).

إذن كان على «Lammens» أن يكون أكثر تثبتا، وأقل استعجالا، في تقرير مثل هكذا نتيجة خاطئة وينتظر حتى يطلع على ترجمة الإمام الحسين عليه السلام وإلا ليس من اللائق بأي باحث بسيط أن يظن أن ابن سعد سيغفل عن الترجمة له ولأخيه الإمام الحسن علیه السلام وعشرات من الصحابة. على أن المسألة لا تقف عند حدود شخصية ذلك الراد؛ فسواء كان أبو برزة أم غيره، فهذا لا يغير من الواقع شيئا.

رابعا - لو تنزلنا جدلا مع «Lammens» وقلنا أن كل الروايات السابقة صدرت عن رواة شيعة كان قصدهم تشويه صورة یزید. فماذا يفعل مع رواية قبيصة بن ذؤيب الخزاعي. وهو من فقهاء البلاط وإداريي الدولة الأموية، حتى أنه كان على ختم عبد

ص: 781


1- تنظر ترجمته، 202/5 205؛ 9/9 ، 369 - 370.
2- الطبقات، 6 / 447 - 448.

الملك بن مروان(1)، فقد روى: أن يزيد ضرب رأس الإمام عليه السلام بقضيب كان في يده، وتمثل بالبيت الشعري المتقدم(2). وبهذا يتضح أن ما تعلق به « Lammens» لدفع ذلك الفعل الدنيء عن يزيد، لم يعتمد التثبت التاريخي، وتعمد الاحتكام لرأي شخصي، لم يخل من قصد واضح وتطرف عنید.

أما ما تصنع به يزيد من إظهاره التأسف لما حصل وغضبه على عبيد الله والوفد العراقي الذي حمل الرؤوس والسبايا، وأنه شتم عبيد الله. ورفض أن يقدم لهم أي هدية، وأنه أكرم السبايا ... فهو بلا شك من النفاق السياسي والديني الذي لم يقنع حتى المدافعين عن الأمويين قال (Wellhausen = فلهوزن): كانت الروايات قد عاملت یزید بن معاوية برفق أكبر جدا مما يستحق. فإنه إذا كان مقتل الحسين جريمة فالمجرم الأكبر فيها يزيد، لأنه هو الذي بعث عبيد الله للقيام بإجراءات قاسية. وكانت النتيجة مرضية جدا ليزيد، واغتبط لها أيها اغتباط فإن كان قد غضب على خادمه عبيد الله من بعيد، فما كان ذلك إلا تطبيقا لامتياز الحاكم الأعلى، أعني أن يحول الكراهية عنه إلىالأدوات التي اصطنعها لنفسه في جريمته. حقا أن المودة التي أبداها نحو من بقي من آل الحسن ليست مما يعيبه، وإن كانت مودة تنطوي على الدهاء ولم تصدر عن قلب مخلص (3)

وقال (Goldziher = جولدتسيهر ): كان مسلك الأمويين دائما، إذا تركنا جانبا مسألة الحق الشرعي في الخلافة، عنوانا للمخازي والفضائح في نظر الأتقياء؛ لأنهم كانوا يضعون نصب أعينهم المصلحة الدنيوية للحكومة الإسلامية، ويجعلونها في المحل الأول، بينما رأى الأتقياء تغليب المصلحة الدينية «(4).

ص: 782


1- ابن سعد، الطبقات، 7/ 174؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3/ 1272 - 1273.
2- ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 343.
3- أحزاب المعارضة، 186.
4- العقيدة والشريعة في الإسلام، 258.

أما قول « Lammens» : إن نساء يزيد سارعن لمواساة العلويين، وأقمن العزاء المدة ثلاثة أيام. وأنه يدل على كراهته لقتل الحسين وعدم رغبته في ذلك !؟(1). فقد نصت الروايات بأن موقف يزيد كان على العكس من ذلك تماما. وأن ذلك تم بصورة عفوية مفاجئة، أفقدته اتخاذ إجراء يحول دون ذلك! فما كان منه إلا أن يظهر الشماتة والتشفي! فقد روى المؤرخون أن الرؤوس لما أدخلت على يزيد: سمعت هند بنت عبد الله بن عامر بن کریز، وكانت زوجة له، فتقنعت بثوبها وخرجت وقالت: يا أمير المؤمنين! أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟! قال: نعم. فأعولي عليه، وحدي على ابن بنت رسول الله، وصريحة قريش، عجل عليه ابن زیاد فقتله قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب وهو ينكث به في ثغره! ثم قال:

يفلقن هاما من رجال أحبة *** إلينا وهم كانوا أعق وأظلما(2)

إذن النص واضح وصريح في أن يزيد بعد أن اعترضت عليه هند لم يعبأ باعتراضها، بل أذن للناس ليدخلوا عليه، وهو واضع الرأس الشريف، بين يديه ينكته بقضيبه ! ويتغنى بالشعر مما يدل على عدم ندمه، بل إصراره وسروره با حدث !؛ قال مجاهد بن جبر»(3). وهو من أكبر مفسري وعلماء مدرسة الخلفاء وأوثقهم. ووصف بأنه: «كان أحد أوعية العلم»(4). وقد أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به(5).

في روايته للحادثة: جيء برأس الحسين بن علي، فوضع بين يدي يزيد بن

ص: 783


1- Le califat de Yazid Ler. p,173
2- الطبري: تاریخ، 5 / 465؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 62 / 85؛ ابن الأثير: الكامل، 4/ 84 85. وباختصار عند: البخاري: صحيح، 4/ 216.
3- عنه ينظر: ابن سعد، الطبقات، 8/ 27، 28؛ أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، 3/ 279 - 310.
4- الذهبي: تذكرة الحفاظ، 92/1.
5- الذهبي: میزان الاعتدال، 3/ 440؛ ابن حجر: تهذيب التهذیب، 41/10.

معاوية فتمثل:

اليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

وقد نافق فيها(1). ومما يدلل على حقيقة تغني يزيد بهذه الأبيات أنها ضمنت كإحدى قبائحه في الكتاب الذي أنشأه المعتضد العباسي عام (284ه-) بسب بني أمية . وذكر في ذلك الكتاب أنه قال بعد البيت المتقدم:

قد قتلنا القوم من ساداتكم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحا *** ثم قالوا: يايزيد لا تسل

لست من خندف إن لم أنتقم *** من بني أحمد ماکان فعل

ولعت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل(2)

وقال سبط بن الجوزي: وأما المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنه لما حضر الرأس بين يديه، جمع أهل الشام، وجعل ينكث عليه بالخيزران وينشد - الأبيات المتقدمة -. قال مجاهد: نافق. وقال الزهري: لما جاءت الرؤوس، كان يزيد في منظره على جيرون فأنشد لنفسه:

لما بدت تلك الحمول وأشرقت *** تلك الشموس على ربی جیرون

نعب الغراب فقلت صح أو لاتصح *** فلقد قضيت من الغريم ديوني

فلم يبق في الناس أحد إلا من سبه وعابه وتركه. وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال له: يا يزيد ارفع قضيبك فو الله لطال ما رأيت رسول الله يقبل ثناياه. وذكر أن

ص: 784


1- ابن الجوزي: المنتظم، 5 / 343.
2- الطبري: تاریخ، 60/10.

الذي كان عند يزيد وقال هذه المقالة أنس بن مالك وهو غلط لأن أنسا كان بالكوفة(1).

كان « Lammens» وعد في بداية حديثه عن كربلاء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام أنه سيعمل على: استخلاص الوقائع الرئيسية ووضعها في إطارها الحقيقي، وترمیم صورة الأبطال الأوائل التي شوهتها بلا داع أقلام كتاب التراجم المناهضة للأمويين. وإذا كان حجم الملف يمكن أن يشتت الانتباه، فإن وفرة هذه الوثائق المتناثرة وتنوعها يسمح دائما بإيجاد النواة الأصلية لهذه الأسطورة. إن حذف اللغو والتناقضات يسهل إبداء آراء مسؤولة، وتعيد حدثا إلى حجمه الحقيقي؛ بعد أن ضخمه الخيال الشيعي بإفراط. ليس خطأنا إذا كانت شخصية الحسين تخرج من ذلك وهي مستضعفة ! ربما يكون يزيد قد أمر ممثله في العراق بقطع رأس الحسين؛ إذا نجح في إلقاء القبض عليه. سنرى أن أمرا كهذا لم يصدر أبدا. «من المرجح أن يزيد لقي معاملة إيجابية من جانب السنة، هذا ما يعتقده فلهاوزن». لم نجد أثر لهذه المعاملة الحسنة. مع الحجاج، ولكن بدرجة أعلى، يشكل ابن معاوية الملعون إحدى فراعات السنة. أتيحت النا فرصة استشفاف ذلك وسيقتنع القارئ بذلك في نهاية هذه الدراسة(2).

أراد «Lammens» أن يلغي تاريخا ونصوصا متراكمة منذ مئات السنين لأنها لاتتفق مع ما ذهب إليه! فدل على أنه كان يتحرك في ضمن حاضنة التعصب والتطرف الصليبي، وأنه لم يكن يريد البحث عن الحقيقة بقدر ما يريد تشويهها! لقد آثر أن يتعامل مع الأحداث کا تعامل معها شاعر الأمويين النصراني الأخطل (3)، الذي قال

ص: 785


1- تذکرة الخواص، 261 - 262. وينظر: الطبري: تاریخ، 60/10
2- Le califat de Yazid. pp, 147-148.
3- غیاث بن غوث من بني تغلب، يكنى بأبي مالك. شاعر نصراني، اتصل ببني أمية وامتدحهم، وهجا معارضيهم. ينظر: ابن قتيبة الشعر والشعراء، 325 - 336.

عنه: «تغنى الأخطل بيوم كربلاء بنبرة متحررة لمناصر متحمس للأمويين، ولمسيحي لا يكترث لمصائب العائلة النبوية»(1).

وفي الحقيقة لئن كان الأخطل صريحا وغير مبالي ببيان مشاعره إزاء الأمويين والإشادة بجرائمهم.

كان « Lammens» أكثر حماسة في مناصرته للأمويين، وأكثر تحررا من أي التزام خلقي أو أمانة علمية، في البحث التاريخي !؛ فقد أراد تغطية تلك الجرائم وتبريرها والاستهزاء بضحايا الأمويين وانتقاصهم، وهذا ما أثار نفور واستغراب المستشرق الفرنسي (Casanova = کازنوفا) فقال : كانت نفسية الأمويين على الإطلاق مركبة على الطمع في الغنى إلى حد الجشع، وحب الفتح بقصد النهب، والحرص على التسود؛ للتمتع بملذات الدنيا، لذلك حق لنا أن نعجب لكاهن كاثوليكي کالأب «لامانس» يتطوع للدفاع عن أولئك الشاكين النهابين(2).

قال الفيلسوف والكاتب الألماني ماربين: إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنها كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان، وعز عليه النصر العاجل؛ فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة. إن الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين كان بإمكانه تجهيز جيش جرار لمقاتلة يزيد لكنه قصد من استشهاده «الانفراد والمظلومية»

ص: 786


1- Le califat de Yazid. p, 178. وقد أشار لقصيدته التي مدح فيها عبيد الله بن زياد، ومنها قوله: ولم يك عن يوم ابن عروة غائبا*** كما لم يغب عن ليلة ابن عقیل وأطرق عنكم حية لو تمكنت ***من الأرض كانت حية بغليل يعني بذلك الحسين علیه السلام . ينظر : ديوان الأخطل، 4 / 293.
2- آتين دينيه: الشرق في نظر الغرب (ضمن آراء غربية في مسائل شرقية. لعمر فاخوري)، 104.

الإفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لآل النبي (1).

وقال المؤرخ الإنجليزي برسي سایکس: إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا؟(2).

ص: 787


1- انطوان بارا: الحسين في الفكر المسيحي، 76، 95. (هامش رقم 2).
2- انطوان بارا: الحسين في الفكر المسيحي، 94. (هامش رقم 2).

ص: 788

الخاتمة

خير ما أختتم به هو خير ما افتتحت به من شكر المنعم المفضل، الذي بمنه وكرمه تطول ومنح، والصلاة والسلام على صفوة خلقه وخيرة بريته محمد وآله الطاهرين.

قامت هذه الدراسة على فترتين أساسيتين، نزعت الأولى: القراءة الاستشراقبنحو ما قرأه الناقد الأدبي (ادوارد سعيد) الذي قدمه على شكل خطاب موجه يتجاوز حدود اللفظ والنص ويسعى لإرساء تخيل وإدراك يحفر بعيدا في ذاكرة المتلقي ومخياله؛ ليستقر نمطا وقالبا تصاغ من خلاله، وضمن محدداته، صورة الآخر والنظرة إليه، مهما كان هذا الآخر مختلفا عن هذه الصورة النمطية!

والثانية: ما أنسب للدراسة جدة طرحه من فكرة «الخطاب التقويضي لصورة المثال الإسلامي» وضرورة النظر بشمولية وبعد أكبر للنص الاستشراقي المتحامل والضدي؛ فهو لا يكتفي بتوجيه خطاب متعصب، متطرف ترتد فواعله لأجواء المناكفات الجدلية بين المسيحية والإسلام، وهي نظرة لاشك صحيحة، واستطاعت إجراء فحص دقيق لحزمة وشبكة واسعة من النصوص الاستشراقية الممتدة على طول مسار الاستشراق، إلا أن الخطاب الذي اهتمت الدراسة بتفحصه قاد المفاهيم تبدو

ص: 789

أبعد من ذلك؛ فهو يهاجم الإسلام من خلال عمقه وجوهره المتمثل بالنبي وأهل البيت عليهم السلام ويحاول أن يغلب عليهم الأمويين الذين يمتدحهم بافراط ومبالغة أثارت استغراب المنظومة الاستشراقية نفسها، في حين أن من يريد مهاجمة الإسلام - من المستشرقين - إنها مهاجمه من قبل الأمويين وقبائح أفعالهم، وجرائمهم على اعتبار عدهم من المسلمين وتمثيلهم للدولة الإسلامية.

هذه الغرابة في الطرح هي ما قادت لفكرة أنه إنها فعل ذلك توخيا لتقديم الإسلام من خلال صیغته ووجهه الأموي. بمعنى أنه أراد أن يذم من حيث يمدح ! وبذات الوقت، إزاحة المثال الإسلامي الأصيل من خلال مهاجمته وقدحه؛للاحتفاظ بصورة المثالية لما يقابلها في العقيدة المسيحية ممثلة بتقديس: الأب والأم والأبن وروح القدس.

وتزعم الدراسة أن هذه النظرة التقويضية بنيت فيما بنيت عليه، على إحساس التضاؤل والإزاحة الذي أفرزته حادثة «المباهلة» كمقابلة أساس بين أصحاب الكساء: ووفد نصاری نجران، الذي كان يضم عددا كبيرا من القساوسة والرهبان ورجال الدين المسيحيين، والتي انتهت بانسحابهم وخضوعهم لمبدأ فرض الجزية، والاعتراف بالنبوة والإسلام دينا وشريعة سماوية، تبدد معتقد الثالوث المقدس. وقد استجمعت وركزت عقدة ذلك التضاؤل والانزياح عند «Lammens» لتوجه ضد شخوص (المباهلة)؛ فكان أن وجه ذلك الخطاب التقويضي إزاء الصور التاريخية لكل منهم. وقد أفضت هذه الدراسة المجموعة متنوعة من النتائج، يمكن إجمالها بها يأتي:

1/ بداية لابد من الاعتراف أن مصادرنا الإسلامية: التاريخية والحديثية والتفسيرية وغيرها، با تغص به من حمولات المناكفات الجدلية والأيديولوجيات المذهبية والسياسية، وما انطوت عليه من ثقافة انتجتها فواعل المصلحة المادية

ص: 790

والمعنوية، وما خامرها من تأثيرات لآراء فكرية ذاتية أو مؤسسية، مع توافر الراوي والمؤرخ والمفسر.. ، الذي يميل بحسب تجاذب عوامل الاصطفاف تلك لهذا الجانب أو ذاك ؛ هيأت المناخات اللازمة لتحرك، ونمو الطعن والنقد الاستشراقي؛ إذ قدمت رواية سيرية وحديثية وتفسيرية تحمل في طياتها منافذ واسعة للنقد والتشكيك والاستغلال من قبل المستشرقين، ولعلنا لا نغالي إن قلنا: إنها تصل في أحيان كثيرة الأن تقود لإنكار النبوة! أو القول بعدم صدق النبي، وموضوعيته، ورجاحته.. ، کما تعطي مدخلا واسعا لفرضية الانتحال من اليهودية والنصرانية، والوثنية .. الخ. كما في روایات نزول الوحي والشك، وكثير من السلوكيات الأسرية والاجتماعية، التي تناقلتها كتب الحديث والتفسير و السيرة والتاريخ العام وغيرها.

ومع أن المنطق العلمي لا يبيح للمستشرقين التعكز على تلك المرويات، إلا أنه ليس من السهولة الاعتراض عليهم في اعتمادها، وعدها تعبيرا عن الصورة الحقيقية، التي يحملها شريحة واسعة من المسلمين عن نبيهم؛ لأن هذه الشريحة الواسعة تؤمن بعدالة جميع الصحابة واستقامتهم، وبقداسة جميع أولئك الرواة والمؤرخين والمفسرين، وتؤمن بصحة كتبهم بل وتغلو بأولئك الشخوص، وبتلك المؤلفات في أحيان كثيرة!

2/ امتلك (Lammens» القدرة على التنقيب في الموروث الإسلامي بشكل الافت، وتوافر على آليات قلما توفرت لغيره من المستشرقين. هذا مع التمكن غير المردود من اللغة العربية، وسعة الاطلاع الهائلة والتواجد في البلاد العربية والإسلامية، وقراءة المخطوطات والمصادر بلغاتها الأصيلة.. الخ. كل ذلك وغيره كان من شأنه أن يقدمه بغير الوجه الذي ظهر به، ولكن تعصبه وتطرفه الديني حال دون ذلك؛ ولذلك شخصت الدراسة بشكل واضح تلاشي شخصيته البحثية، خلف شخصيته المجادلة العنيدة، التي كان من شأنها أن أفسدت نتاجه الغزير بها أودعه من

ص: 791

آراء لا تمت للبحث العلمي بأي صلة، وما استعمله من تعابير وألفاظ نافت حتى الذوق الأدبي، ونمت عن كينونة مجادل متعصب، أكثر صراحة من كينونة باحث متبصر. وهذا ما شخصه، وآخذه عليه معاصروه ولاحقوه في دوائر الاستشراق.

3/ ومع ذلك التشخيص والاستهجان والتصريح، نجد أن آراءه وطروحاته تسربت لكثير من الدراسات الاستشراقية، وبضمنها من كانت تعيب تعصبه وتطرفه وتستهجنه، ولعل خير مثال على ذلك المستشرق الفرنسي (Emil Dermenghem = إيميل در منغم) الذي انتقد (Lammens» بنبرة لا تخلو من اللهجة الحادة! ولكنه بذات الوقت عاد ليجتر غالبية آرائه وطروحاته، كما في مسائل: تسمية النبي، وموضوعة مكة التجارية الربوية، وأثرها في خلق المجتمع الطبقي، ومن ثم الحاجة للإصلاح الديني، الذي تمثل بالنبوة، بمعنى أنها جاءت استجابة لضرورة الظروف! وكذلك مسألة الأخذ من اليهودية والنصرانية، والقسوة على اليهود، وانقسام البيت النبوي الحزبين بين نسائه، وميله لحزب عائشة، وصبيانية الأخيرة، وتفضيلها عنده، وكذلك موضوعة محمد الملك وحراسة بلال له، وموضوعة تغطية أسامة بالجواهر، وقضية زینب بنت جحش، وموقفه من أبي طالب وحمزة، وغيرها من الآراء المبثوثة في صفحات کتابه «حياة محمد» ! غاية ما في الأمر أنه أعادها بلغة أهدأ، وبنبرة أقل حدة وعدائية ومباشرة، وأكثر ذوقا أدبيا، لتوحي بالبعد عن مناخات التشنج والتعصب الديني.

4 / على هذا الأساس قد يكون من المناسب، في حالات كثيرة، إعادة النظر في وصف أحد المستشرقين بأنه موضوعي أو منصف؛ فلربما كان من الاستعجال، أو التحمس غير المبرر، وصف كتاب (Emil Dermenghem = إيميل در منغم: حياة محمد) بأنه: أكثر الكتب التي ألفها الغربيون عن الرسول الأعظم اعتدا؛ فقد حاول فيه أن يؤلف سيرة ناطقة صادقة للنبي مستندا إلى أقدم المصادر العربية وإن مؤلفه كان

ص: 792

|

|

11 نے

حسن النية(1). وعليه قد يتصور بعضهم بأنه كان منصفا وموضوعيا، وهكذا غيره من المستشرقين، ممن كانت لديهم نزعات علمانية أو مادية، ولم يكونوا يعيرون كبير أثر للسجالات الدينية بين المسيحية والإسلام، أو أنهم ينتقدون الموروث التاريخي للاثنين معا. وعليه أجدني لا أغالي إن قلت: إن «Lammens» بانتقاده لتبريرية كثير من الروايات التاريخية وغائيتهاوهشاشتها، يبدو أكثر إيجابية أو نفعا من (Dermenghem = در منغم) الذي اعتد بوثاقتها، وعدها صورة حقيقة عن سيرة النبي وسلوكياته!

5/ ولذا وجدتني أقترب من بعض جزئیات فرضية «Lammens» حول التدوين السيري والحديثي حتى أكاد أتبناها في زوايا: الدجالين الكبار، صبيانية أو قلة ثقة وعدم إيمان بعض الصحابة، بسمو مقام النبي صلی الله علیه و آله وعصمته، وقداسته، وكذلك فرضية الأحزاب المتصارعة، وتناقض كثير من المفاصل في التدوين السيري والحديثي وعدم إفلاحه في البرهنة على صدق النبي، أو مثالية نبوته. ولكني أعود لأكون معه على طرفي نقيض تماما !! عندما يدعي أن التدوين حاول من خلال ذلك أن يبرهن على صدق النبي صلی الله علیه و آله وعلو مقامه وقداسته، وأن كثيرا من جزئياته وضعت لمصلحته أو المصلحة أهل بيته!؟ وأن رواته ومؤرخيه كانوا محابين لهم، وأن ذلك يعكس حقيقة الأحداث، أو أن نظرية الأحزاب المتصارعة مثلا، كانت تتم خلف ظهر النبي صلی الله علیه و آله وأنه لم يستشعر ما يحيط به، أو أنه ساهم في خلق تلك الأجواء، أو أنه فعلا كان منجذبا العائشة وحزبها.

6/ استطاع « Lammens» إحداث فجوات، وثغرات فكرية وشكية في حقيقة التدوين الحديثي والسيري والتاريخي بشكل عام، ولكنه لم يستطع إحداثها بنفس القدر بحقيقة الصور التاريخية لشخوص الدراسة.

ص: 793


1- حياة محمد، 7 (المترجم).

7/ الراجح أن خطابه - في المقام الأول - كان موجها للقارئ الغربي؛ ليكون بمثابة مصدات أولية تحول دون التحديق بتعمق أكثر في حقيقة الصورة التاريخية الشخوص الدراسة.

8/ مثلت طروحات وآراء «Lammens» با اصطبغت به من تحامل وتطرف، اجترارا لمنحى الرؤى، والموروثات الخلافية الأيديولوجية، وتقولات القرون الوسطى و مبتدعاتها، ولكنها صيغت بأساليب استعراضية مزوقة ومتناسبة مع التغيرات المفاهيمية للقرن العشرين والحادي والعشرين؛ فقد امتلأت كتاباته بالعبارات الخطابية الحادة من قبيل: قاتل مأجور، ماکر، شهواني، قليل الذكاء، بلید، مستهتر، متهور، طائش، قبيح.. .. الخ. كما غصت بالمبتدعات، والتقولات العائمة، التي ترتد

بحضورها لفواعل تأسيسه المعرفي، ومنطلقات خطابه الدينية الجدلية.

9/ عمل «Lammens» على تتبع الثغرات المعرفية والمنهجية لمصنفي کتب السيرة والحديث والتاريخ العام وغيرها؛ للتركيز على وجود حالة كلية من الارتباك والتحايلية والتبريرية في تلك المدونات، عبر آليات الالتواء والاجتزاء، والاستلاب والتكذيب، والتزوير والتحريف والتغييب والانتقاء، واستخدام المداليل اللفظية المغايرة، وغيرها من الآليات التي اتبعها في التعامل مع النص التدويني، ومن ثم العمل على توظيفها في تقرير الخطاب التقويضي؛ بادعاء تمازج النص والنتيجة المقررة أو انبثاقه وتمخضة عنها، وعن الرأي أو الفكرة المستلبة والمستلة عنوة من النص بعد إخضاعه لآليات التعامل تلك.

10/ ولذلك غاب عن استشهاداته التشديد النصي، أو الأمانة العلمية في نقل النصوص وتفسيرها، والاستدلال بها؛ وهذا ما أدى بدوره لأن يقدم - في كثير من الأحيان - صورا مبعثرة عن الشخصيات التي تحدث عنها، ولم تسعفه لا حنكته الاستعراضية، ولا تمكنه - غير المردود - من المناورة والسرد، في ردم الفجوات التي

ص: 794

خلفتها تلك الآليات، والرغبة في تركيز الصور التي قدمها بأي شكل من الأشكال، كما لم تنجده في تجاوز كثير من التناقضات والتقاطعات في الآراء والصور.

11 / حاكم «Lammens» شخوص الدراسة على أساس المصادر والنصوص، التي تتبنى الخلاف المفاهيمي والاعتقادي، الذي عليه حقيقة هذه الشخصيات؛ ومن ثم تعد هذه المحاكمة خطأ منهجيا فادحا ليس بالإمكان تجاوزه أو قبوله بأي حال من الأحوال، وتؤكد أن ذلك الخطاب لم يكن يتحرك ضمن مسارات عشوائية البحث والنتائج، أو عبطية المنحى والتحرك؛ إنها كان قد رصد النتائج، وقررها مقدما، ومن ثم عمل على الانحراف باتجاهها.

12 / وبحسب منطلقات الخطاب، وآليات العمل تلك، كانت النبوة والقرآن، في رأيه، عبارة عن منصهر هجين، تشکل بسبب تفاعل الحاجة الملحة لتغيير محيط الجزيرة العربية، التي كانت تتقاذفها الأهواء والعصبيات، والسلوكيات اللاأخلاقية، والتقاتل والربا، وشيوع الظلم والوثنية ..، مع توفر الشخصية الطموحة، الذكية، ذات الفكر الخلاق والمكتسبة لكل مقومات القيادة الناجحة التي استطاعت المزج بين عناصر التجارب التوحيدية السابقة: اليهودية والمسيحية، وبعض الفلسفات القديمة، والأساطير والقصص والموروث الجاهلي.. ، وكان النبي صلی الله علیه و آله هو تلك الشخصية العبقرية الخلاقة، التياستطاعت المزج بين هذه العناصر المتباينة.

13 / ولذلك كان تفسير «Lammens»للإسلام على أنه مغامرة خدمتها الظروف، وتوفر لها البرنامج المعد بشكل جيد، والقاعدة التي قام على أكتافها ذلك البرنامج، وغالبيتهم من الفقراء والمعدمين، وكذلك القيادة الفذة التي استطاعت على الدوام قراءة الظروف بشكل جيد، ومن ثم تنفیذ ذلك البرنامج على أكمل وجه.

14/ تحدث « Lammens» في كثير من الأحيان بنبرة المنضوي تحت فلك الثقافة التدوينية الإسلامية!؛ إذ لحظ في استخداماته تعابير: مؤرخینا، محللينا، .. الخ.

ص: 795

کما لحظ استشعاره أو رغبته باستحضار الانتماء السوري أو اللبناني !؛ ربما اعتمادا على إقامته حتى وفاته هناك، وربما وصولا لتمثل مقام أو موقع المؤرخ أو المثقف والباحث العربي؛ ليأخذ خطابه الموجه في مقالاته ودراساته حضوره ودوره في توجيه أبناء المجتمع لتبني طروحاته؛ ولذلك نراه يعنون إحدى مقالاته بعنوان «هيا على درس تاريخ بلادنا» وأخرى بعنوان «خواطر ونصائح إلى اللبنانيين من لبناني وطني». وكثيرا ما وجدنا المبشرين والمستشرقين ينتحلون الأسماء العربية، ويلبسون الزي العربي والإسلامي، ويتقمصون الشخصية العربية والإسلامية؛ ليتحركوا بسهولة ويسر، ويؤدوا مهامهم بحرية وسلاسة أكبر، ومن دون إثارة للريبة والشك. ولعله حاول تقمص شخصية المثقف العربي؛ للنفوذ لتلك الأهداف والغايات.

15 / انتهت الدراسة إلى أن الخطاب الاستشراقي، ما يزال - بصورة واسعة - ينطلق من بداهات الإحساس بالتميز والفوقية، والمركزية المثالية، وإذا ماصادف في بعض الأحيان مواقع أو ناذج لإضاءات خجولة، فهي في الأعم الأغلب إنها توجد الأن هذا المستشرق أو ذاك كان ينتمي لحاضنة وبيئة فكرية لا تعير أهمية للمعتقدات الدينية برمتها: علمانية أو مادية، أو مدنية، ومن ثم تعد ما قام به النبي وما جاء به جهدا ذاتيا يستحق الثناء، ولكنها في حقيقة الأمر تجرده من الاتصال بالسماء، والنبوة، والوحي والرسالة والدين، وتعده عبقرية بشرية، أو مصلحا اجتماعيا نجح فيما فشل به آخرون. وإلا ففي الأعم الأغلب ظل الخطاب الاستشراقي بما هو تخارج للثقافة، ينطلق من تلك القوالب والصور النمطية الصدامية والأيديولوجية.

16 / أفضت الدراسة إلى ضرورة إعادة النظر في الرواية الإسلامية على وفق آليات أو مناهج التجرد التي سلطت في الغرب على النص التوراتي والإنجيلي، وعلى وفق مناهج البحث التاريخي الحديثة؛ لفرز الغث عن السمين، وتبيان فواعل منتجات هذه الرواية، بشقها الحديثي والتاريخي والتفسيري والفقهي.. الخ. ولا بد قبل ذلك

ص: 796

من أن نأخذ في الحسبان أن تلك الرواية - إلا ما ندر - إنما هي تصور أو صياغة الراوي والمؤرخ عن حقيقة الحدث والشخص، لا حقیقتهما بحد ذاتهما. كما يجب قبل ذلك التخلي عن النظرة القدسية - باستثناء بعض الحالات - للنص لاستحکام عملية المعالجة تلك.

17/ وعليه يجب أن تعامل الرواية على وفق ظرف صدورها. وبعبارة أخرى: التعامل مع الراوي والمؤرخ والمفسر الإسلامي، المنتمي للقرن (الأول - العاشر الهجري) على أنه مثقف، وسيلة إعلام أنتجت خارج الثقافةالإسلامية، بحسب بيئات فكرية متباينة، ومتبنيات أيديولوجية متفاوتة؛ فهناك من كان يستشعر قداسة - بمعنی تكاملية وعدالة وفي بعض الأحيان عصمة - النبي صلی الله علیه و آله والصحابة عموما، وهناك من كان يستشعر قداسة أحدهما، وهناك من لم يكن يستشعر قداسة الإثنين معا؛ بحسب اقتياد الأيديولوجيا للانخراط ضمن إحدى هذه المتبنيات أو غيرها. وهناك من كان يستحضر قداسة السلطة وعصمتها، مع خروجها البين والصريح عن أبسط مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، ومن ثم يكون هذا الأمر حائلا دون موضوعية النقل والرواية والتدوين، والتفسير واصدار الفتوى والحكم الفقهي، وكم يغص موروثنا الإسلامي من تناقضات وتقاطعات، في صياغة صور، ورواية أحداث كان فيها الصحابة والمسلمون فيما بينهم على طرفي نقيض، وتطورت لمستوى الحرب والتقاتل والقتل.

ومن ثم هذا الموروث التدويني الذي وضع الضحية والجلاد في سلة واحدة، والإيمان والكفر والنفاق في بوتقة واحدة!؛ لاشك أسهم في مسخ الحقائق وتشويهها، وتغيب أجزاء كبيرة منها؛ وعليه فهو لا يستحق القداسة كلا؛ وإلا كنا كزائر قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي رضی الله عنه(1) ، أو كصاحب الأدسم والأتم

ص: 797


1- ينظر: التيجاني: فاسألوا أهل الذكر، 163.

والأسلم(1)!!

هذا فضلا عن أن هناك كثيرا من النتائج الضمنية التي انتهت إليها الدراسة في مناقشتها لكل جزئية من جزئیات تفكيك الخطاب المقدم، على امتداد فصول الدراسة .

أملي أن تستطيع هذه الدراسة تقديم صورة وإن كانت مصغرة، وتعرض ما حاولت تقريره، من رصد فلسفة الخطاب الاستشراقي المقدم، الذي ادعت انه كان يجنح لتجاوز الحدود الزمانية لصدوره؛ فيستهدف ما تجذر في مسارب الفكر المسيحي، ويحاول الحافظ على سريان مفعوله لوقت لاحق، كما كان يتوخى ذلك بطرس المبجل في ترجمته للقرآن الكريم.

ص: 798


1- ينظر: الزمخشري: ربيع الأبرار، 3/ 226 - 227؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 397/3 ؛ أبو رية: شیخ المضيرة، 61 - 63.

قائمة المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- الكتاب المقدس: العهد القديم والجديد (ط 3، دار المشرق الكاثوليكية: بيروت -لبنان 1415ه-/1994م).

- الأناجيل الأربعة. باللغة العربية (طبعة مدينة ليبزج الألمانية عام 1864م).

أولا . المصادر العربية:

ابن الأثير: عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم. ت (630 ه-/ 1232م).

1/ أسد الغابة في معرفة الصحابة (المطبعة الوهبية: مصر - القاهرة 1280 ه-/ 1863م).

2/ الكامل في التاريخ (دار صادر: بيروت - لبنان 1385 ه-/ 1965م).

ابن الأثير: أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد عبد الكريم بن عبدالواحد الشيباني الجزري. ت (606ه- / 1209 م).

3/ منال الطالب في شرح طوال الغرائب. تح: محمد محمود الطناحي (ط1، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي: مكة المكرمة - السعودية 1399 ه-/ 1979م).

4/ النهاية في غريب الحديث. تح: طاهر أحمد ومحمود الطناحي (ط4، مؤسسة إسماعیلیان : قم - ایران 1364 ه-/ 1944م).

ص: 799

الأربلي: أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح. ت (693ه-/ 1293م).

5/ کشف الغمة في معرفة الأئمة (ط 2، دار الأضواء: بيروت - لبنان 1405ه-/ 1985م).

الأزرقي: أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد. ت (250ه- / 864م).

6/ أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار. دراسة وتحقيق: عبد الملك عبد الله دهیش (ط1، مكتبة الأسدي، 1424ه-/ 2003م).

ابن إسحاق: محمد بن يسار. ت (151ه-/ 768م).

7/ سيرة ابن اسحاق، تحقيق: سهیل زکار (دار الفكر. بيروت - لبنان 1398 ه- / 1978م). الأصبهاني:موفق الدين أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل.ت (535ه-/ 1140م).

8/ دلائل النبوة. تحقیق وتعلیق و تخریج: مساعد سليمان الراشد (دار العاصمة: الرياض - السعودية د.ت).

ابن أبي أصيبعة: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة. ت (668ه- / 1269م).

9/ عيون الأنباء في طبقات الأطباء. شرح وتحقيق: نزار رضا (ط 3، دار مكتبة الحياة: بيروت - لبنان 1385 ه-/ 1965م).

ابن اعثم الكوفي: أبو محمد أحمد. ت (314ه-/ 926م).

10 / کتاب الفتوح. تح: علي شيري (ط1، دار الأضواء: بيروت - لبنان 1411ه-/ 1991م). الأيجي: عضد الدين عبد الرحمان بن أحمد. ت (759ه- / 1357م).

11 / المواقف. تح: عبد الرحمن عميرة (ط1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1997م).

ص: 800

الباجي: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب. ت (474ه-/ 1081م).

12 / التعديل والتجريح. دراسة وتحقيق: أحمد البزار (ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: مراكش - المغرب د.ت).

الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم. ت (403ه- / 1012م).

13 / إعجاز القرآن. تح: أحمد صقر (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1374 ه- / 1954م). 14/ تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تح: عماد الدين أحمد (مؤسسة الكتب الثقافية . بيروت - لبنان ط 3 / 1414ه-/ 1993م).

البحتري: أبو عبادة الوليد بن عبید. ت (285ه- / 898م).

15 / کتاب الحماسة. ضبط وفهرسة: الأب لويس شيخو (ط1، المكتب الشرقي: بيروت - لبنان 1328 ه-/ 1910م).

البحراني: عبد الله بن نور الله. ت (1130 ه-/ 1717م).

16 / عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال. تحقيق: مدرسة الإمام المهدي (عج) (ط1، مدرسة الإمام المهدي (عج): قم - إيران 1407ه/1986م).

البخاري : ابو عبد الله محمد بن اسماعیل.ت (256ه- / 869م).

17/ الأدب المفرد (ط1، مؤسسة الكتب الثقافية : بيروت - لبنان 1406ه-/1986م).

18 / التاريخ الصغير، تح: محمود إبراهيم، فهرس أحاديثه : يوسف المرعشي (ط1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1406ه-/ 1986م).

19 / التاريخ الكبير، تصحيح وتعليق: عبد الرحمن يحيى اليماني (طا، الجمعية العلمية: حیدر آباد – الهند 1361 ه-/ 1942م).

20/ صحيح البخاري (دار الفكر - بيروت - لبنان 1401ه-/ 1981م).

ص: 801

البسوي: أبو يوسف يعقوب بن سفيان. ت (277ه- / 890م).

21/ المعرفة والتاريخ. تحقیق وتعليق: أكرم ضياء العمري (ط1، مكتبة الدار: المدينة المنورة - السعودية 1410ه-/ 1989م).

ابن البطريق: یحیی بن الحسنالأسدي الحلي. ت (600ه- / 1203م).

22/ خصائص الوحي المبين. تح: مالك المحمودي (ط1، دار القرآن الكريم: قم - إيران 1417 ه-/ 1996م).

23/ عمدة عيون صحاح الاخبار (مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1407ه-/1986م).

البغوي: أبو محمد حسين بن مسعود. ت (516ه-/ 1122م).

24/ معالم التنزيل. تح: خالد عبد الرحمن العك (ط، دار المعرفة: بيروت - لبنان د.ت).

ابن بکار: الزبير بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. ت (256ه-/ 869م).

25/ جمهرة نسب قريش وأخبارها. تح: عباس هاني الجراغ (ط1، دار الكتب العلمية : بيروت - لبنان 1432 ه-/ 2010م).

البلاذري: ابو جعفر احمد بن جابر . ت (279 ه-/ 892م).

26/ أنساب الاشراف. تح: محمد حمید الله (دار المعارف. مصر - القاهرة ط1 / 1379 ه-/ 1909م).

27/ جمل من أنساب الاشراف. تح: سهیل زکار وریاض زركلي . (ط1، دار الفكر. بيروت - لبنان 1417ه-/ 1959م).

28 / فتوح البلدان، وضع ملاحقه وفهارسه: صلاح الدين المنجد (ط1، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1376 ه-/ 1956م).

البيهقي: إبراهيم بن محمد. من أعلام القرن الرابع الهجري.

ص: 802

29/ المحاسن والمساوئ. تح: محمد أبو الفضل إبراهيم (دار المعارف. مصر - القاهرة / 1380 ه-/ 1961م).

البيهقي: أبو بکر احمد بن الحسين. ت (458ه-/ 1065م).

30/ السنن الكبرى. (دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند / 1344 ه- / 1925 م).

31/ معرفة السنن والآثار. تح: سید کسروی حسن (دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان د.ت). الترمذي: أبو عيسى محمد بن عیسی. ت (297ه- / 909م).

32 / الجامع الصحيح. المعروف بسنن الترمذي. تحقیق وتصحيح: عبد الوهاب عبد اللطيف(ط 2، دار الفكر : بيروت - لبنان 1403ه-/ 1983م).

33 / الشمائل المحمدية. تح: أسامة الرحال، تقديم: عبد القادر الأرناؤوط (ط1، دار الفيحاء: دمشق - سوريا 1421 ه-/ 2001م).

ابن تغري بردي: جمال الدين أبو المحاسن يوسف. ت (874ه- / 1469م).

34/ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. تقديم وتعليق: محمد حسين شمس الدين (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1992م).

ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم. ت (728ه- / 1327 م).

35/ قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. تحقیق و تخریج: عبد القادر الأرناؤوط (ط1، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء: الرياض - السعودية 1420 ه-/ 1999م).

36/ منهاج السنة النبوية. تح: محمد رشاد سالم (ط1، جامعة محمد بن سعود الإسلامية: الرياض - السعودية 1406ه-/1986م).

الثعلبي: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري. ت (427 ه- / 1035م).

37 / الكشف والبيان. تح: محمد بن عاشور، تدقيق: نظير الساعدي (ط1، دار إحياء

ص: 803

التراث العربي: بيروت - لبنان 1422 ه-/ 2001م).

الثقفي: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد. ت (283ه- / 896م).

38 / الغارات. تح: جلال الدين الأرموي الحسيني (مطبعة بهمن: إيران 1395 ه- / 1975 م). الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر. ت (255ه- / 868م).

39 / البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون (ط7، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1418ه-/ 1998م).

40/ العثمانية، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون (ط1، دار الكتاب العربي: القاهرة - مصر 1374 ه-/ 1955م).

الجصاص: أبي بكر أحمد بن علي الرازي. ت (370ه-/ 980م).

41/ أحكام القرآن. ضبط وتخریج: عبد السلام محمد علي (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415 ه-/ 1994م).

42/ الفصول في الأصول. دراسة وتحقيق: عجيل جاسم النمشي (ط1، 1405ه-/ 1985م).

أبو جعفر الإسكافي :محمد بن عبد الله المعتزلي. ت (240ه- / 835م).

43/ المعيار والموازنة. تح: محمد باقر المحمودي (ط1، إيران 1402 ه-/ 1981م).

ابن الجوزي: ابو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت597ه- 1200م).

44/ تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير. (ط1، مكتبة الآداب : القاهرة - مصر 1395 ه-/ 1975 م).

45/ زاد المسير في علة التفسير. تح: محمد بن عبد الرحمن عبد الله، تخریج: أبو هاجر السعيد بسيوني زغلول (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان 1407ه-/ 1987 م).

46/ صفة الصفوة. تح: محمود فاخوري و محمد رواس قلعه جي (ط3، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1405ه-/ 1985م).

ص: 804

47 / صيد الخاطر. تح: احمد عبد القادر عطا (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

48 / العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. ضبط وتقديم: خليل الميس (ط1، دار الكتب العلمية : بيروت - لبنان 1403ه-/ 1983م).

49 / المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. دراسة وتحقيق: محمد ومصطفى عبد القادر عطا، مراجعة: نعیم زرزور. (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

50/ الموضوعات. تح: عبد الرحمن محمد عثمان (ط1، المكتبة السلفية: المدينة المنورة - السعودية 386ه- / 1966م).

الجوهري: أبو بكر أحمد بن عبد العزيز. ت (323ه- / 934م).

51/ السقيفة وفدك. تقديم وجمع وتحقيق: محمد هادي الأميني (ط 2، شركة الكتبي: بيروت- لبنان 1413ه-/ 1993م).

الجوهري: إسماعيل بن حماد. ت (393 ه-/ 1002م).

52/ الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية. تح: أحمد عبد الغفور عطار (ط4، العلم للملايين 1407ه-/ 1987م).

ابن أبي حاتم الرازي: أبو محمد محمد بن إدريس. ت (327ه- / 938م).

53 / الجرح والتعديل (ط1، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1371 ه- / 1951م).

ابن حاتم العاملي: جمال الدين يوسف بن فوز بن مهند الشامي. ت (664ه- / 1265م).

54/ الدر النظيم (ط1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران د.ت).

حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله. ت (1067 ه-/ 1656 م).

55/ کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. (طبعة دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان د.ت).

ص: 805

الحاكم الحسكاني: عبيد الله بن أحمد الحذاء الحنفي النيسابوري من أعلام القرن (الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي).

56 / شواهد التنزيل لقواعد التفضيل. تح: محمد باقر المحمودي (ط1، مجمع أحياء الثقافة الإسلامية: طهران - إيران 1411ه-/ 1990م).

الحاكم النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد.ت (405ه-/ 1014م).

57 / المستدرك على الصحيحين. (دار المعرفة: بيروت - لبنان. د.ت).

58 / معرفة علوم الحديث. تح: لجنة إحياء التراث العربي (ط4، دار الآفاق الجديدة: بيروت - لبنان 1400ه-/ 1980م).

ابن حبان: أبو حاتم محمد بن أحمد التميمي البستي السجستاني. ت (354ه-/ 965م).

59/ کتاب الثقات (ط1، دائرةالمعارف النظامية: حیدر آباد الدين - الهند 1393 ه- / 1973م).

60/ صحيح ابن حبان. تحقیق وتعلیق: شعيب الأرنؤوط (ط 2، مؤسسة الرسالة : بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

61 / کتاب المجروحين. تح: محمود إبراهيم زاید (د.ت، د. م. ط).

62/ مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار. تح: مرزوق علي إبراهيم (ط1، دار الوفاء: القاهرة - مصر 1411ه-/ 1991م).

ابن حبيب: أبو جعفر محمد.ت (245ه- / 859م).

63/ کتاب المحبر (ط1، دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1361 ه- / 1992م).

ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني. ت (802ه / 1448م). 64/ الإصابة في تميز الصحابة. دراسة وتحقیق وتعلیق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415ه/ 1995م).

ص: 806

65 / تغلیق التعليق. تح: سعيد عبد الرحمن موسی القزقي (ط1، المكتب الإسلامي: عمان - الأردن 1405ه-/ 1985م).

66 / تهذيب التهذيب. تقديم : خليل الميس (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1404ه-/ 1984م).

67 / تقريب التهذيب. دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا (ط 2، دار الكتب العلمية :

بيروت - لبنان 1415ه-/ 1995م).

68 / الدراية في تخريج أحاديث الهداية. تح: عبد الله هاشم اليماني المدني (طبعة دار المعرفة : بيروت - لبنان د.ت).

69 / لسان المیزان (ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: بيروت - لبنان 1390 ه- / 1971 م). 70/ فتح الباري بشرح البخاري (ط 2، دارالمعرفة: بيروت - لبنان د.ت).

71/ مقدمة فتح الباري. تقديم: حسن عباس زكي (ط1، دار احیاء التراث العربي: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1998 م).

72 / القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد. (ط1، عالم الكتب: بيروت - لبنان 1404ه-/ 1984 م).

ابن حجة الحموي: تقي الدين أبو بكر بن علي بن محمد. ت (837ه- / 1433م).

73/ ثمرات الأوراق. تح: محمد أبو الفضل إبراهيم (طبعة المكتبة العصرية: بيروت - لبنان 1426 ه-/ 2005م).

ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبة الله محمد. ت (656ه- / 1258م).

74/ شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهیم (ط1، دار احياء الكتب العربية : القاهرة - مصر 1378ه-/ 1959م).

الحر العاملي: محمد بن الحسن. ت (1104 ه-/ 1692م).

ص: 807

75 / تصنيف وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة تح: مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث (ط 2، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث: قم - إيران 1414ه-/ 1993م).

الحراني: أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة. ت. في (القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي).

76/ تحف العقول عن آل الرسول. تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري (ط 2، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران 1404ه-/ 1983م).

ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد.ت (456ه-/ 1063م).

75 / الإحكام في أصول الأحكام. باعتناء أحمد محمد شاكر (مطبعة العاصمة: القاهرة - مصر 1345 ه- / 1926م).

76/ جمهرة أنساب العرب (ط 1، دار المعارف: القاهرة - مصر 1368 ه-/ 1948م).

77/ الفصل في الملل والأهواء والنحل. تح: محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة (ط 2، دار الجيل: بيروت - لبنان 1416ه-/ 1996م).

الحلبي: نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن عمر. ت (975ه-/ 1567م).

78 / إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون. المعروفة بالسيرة الحلبية. (دار المعرفة: بيروت - لبنان 1400 ه-/ 1980 م).

الحلي: رضي الدين علي بن يوسف المطهر. ت (710ه-/ 1325م).

79 / العدد القوية لدفع المخاوف اليومية. تح: مهدي الرجائي (ط1، مكتبة المرعشي: النجف - العراق 1408ه-/ 1987م).

الحلي: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر. ت (726ه- / 1325م).

80/ تذكرة الفقهاء. (ط1، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث: قم - إيران 1414ه-/ 1993م).

81/ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال (طا، مؤسسة نشر الفقاهة: قم - إيران 1417ه-/ 1996م).

ص: 808

82/ مختلف الشيعة (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1413ه-/ 1992م).

ابن حنبل: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد. ت (241ه-/ 855م).

83/ العلل ومعرفة الرجال. تحقیق و تخریج: وصي الله محمد عباس (طا، بیروت - لبنان 1408 ه-/ 1988م).

84/ فضائل أمير المؤمنين. تح: حسن حميد السنيد (ط1، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام قم - إيران 1425 ه/ 2004م).

85/ المسند. (المطبعة الميمنية، القاهرة - مصر 1313ه- / 1895م).

ابن حيان: أبو عبد الله بن محمد بن جعفر. ت (369ه- / 979م).

86/ طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها. دراسة وتحقيق: عبد الغفور عبد الحق البلوشي. تقديم: أكرم ضياء العمري (ط 2 / مؤسسة الرسالة : بيروت - لبنان 1412 ه- / 1992م).

ابن حيان الأندلسي: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف. ت (745 ه- / 1344م).

87/ البحر المحيط. تح: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (دار الكتب العلمية : بيروت - لبنان 1922 ه/2001م).

ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق السلمي النيسابوري. ت (1311 ه-/ 923م).

88/ صحيح ابن خزيمة. تح: محمد مصطفى الأعظمي. (ط 2، المكتب الإسلامي: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي. ت (463ه-/ 1070م).

89 / تاریخ بغداد. دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417 ه-/ 1997م).

ص: 809

الخطيب التبريزي: ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله. ت (741ه-/ 1340م).

90/ الإكمال في أسماء الرجال (ط1، مؤسسة أهل البيتعلیهم السلام قم - إيران د.ت).

ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد. ت (808ه- / 1405م).

91/ ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبرر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. ضبط وفهرست: خليل شحادة (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1431ه-/ 2001م).

ابن خلکان: أبو العباس أحمد بن محمد بن ابراهیم. ت(681ه-/ 1282م).

92/ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تح: إحسان عباس (دار الثقافة: بيروت - لبنان د. ت).

خليفة بن خياط: أبو عمرو شبيب العصفري. ت (240ه- / 854م).

93/ التاريخ. تحقیق وتقديم: سهیل زکار (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

94 / الطبقات. تحقیق وتقديم: سهیل زکار (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م). الخوارزمي: الموفق بن أحمد بن محمد المكي. ت (568ه-/ 1172م).

95/ المناقب. تح: مالك الحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران 1411ه-/ 1990 م).

96/ مناقب الإمام الأعظم: أبو حنيفة النعمان (ط1، دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1321 ه-/ 1903م).

ابن أبي خيثمة: أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب. ت (279 ه-/ 892م).

97/ التاريخ الكبير. تح: صلاح فتحي هلال (ط1، دار الفاروق الحديثة: القاهرة - مصر 1424ه-/2004م).

ص: 810

الدارقطني: أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد. ت (385ه- / 995م).

98 / سنن الدارقطني. تعلیق وتخریج: مجدي منصور سید الشوری (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1996م).

99/ العلل الواردة في الأحاديث النبوية. (ط1، دار طيبة: الرياض - السعودية 1405ه-/ 1985م).

الدارمي: أبو محمد عبد الله بن الرحمن بن الفضل بن بهرام. ت (255ه- / 868م).

100/ السنن (ط1، مطبعة الحديثة : دمشق - سوريا 1349 ه-/ 1930م).

أبو داود السجستاني: سلیمان بن الأشعث. ت (275 ه-/ 888م).

101 / سنن أبي داود. تحقیق وتعلیق : سعيد محمد اللحام (ط1، دار الفكر:بيروت - لبنان 1410 ه-/ 1990م).

ابن دحية الكلبي: أبو الخطاب عمر بن الحسن. ت (633 ه- / 1235م).

102 / أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهلي صفين. دراسة وتحقيق: محمد أمحزون، تقديم: سامي الصقار، مراجعة: محمود محمد الطناحي. (ط1، دار الغرب الإسلامي: بيروت - لبنان 1416ه-/ 1995م).

ابن دريد: أبو بكر محمد بن الحسن. ت (321ه- / 933م).

103 / الاشتقاق. تحقیق وشرح: عبد السلام محمد هارون (ط1، دار الجيل: بيروت - لبنان

1411ه-/ 1991م).

ابن الدمشقي: شمس الدين أبو البركات محمد بن أحمد. ت (871ه- / 1466م).

104 / جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب. تح: محمد باقر المحمودي (ط1، مجمع إحياء الثقافة الاسلامية: قم - إيران 1415ه-/1994م).

ابن أبي الدنيا: أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد.ت (281 ه-/ 894م).

ص: 811

105 / كتاب الإخوان. تح: محمد عبد الرحمن طوالبة، مراجعة: نجم عبد الرحمن خلف (ط1، دار الاعتصام: القاهرة - مصر د. ت).

106 / کتاب الهم والحزن. تح: مجدي فتحي السيد (ط1، دار السلام: مصر 1412 ه-/ 1991م). 107 / کتاب الهواتف. دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا (ط1، مؤسسة الكتب الثقافية : بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

الدولابي: أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الرازي. ت (310ه-/ 922م).

108 / الذرية الطاهرة. تح: محمد جواد الحسيني الجلالي (ط1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1407ه-/ 1986م).

الديار بكري: حسين بن محمد بن حسن. ت (966ه-/ 1558م).

109 / تارخ الخميس في أحوال أنفس نفیس (ط1، مؤسسة شعبان: بيروت - لبنان د. ت).

الدينوري: أبو حنيفة أحمد بن داود.ت (282ه- 895م).

110 / الأخبار الطوال. تصحيح وضبط: محمد سعيد الرافعي (ط1، مطبعة السعادة: القاهرة - مصر 1330 ه-/ 1911 م).

- الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان. ت (748ه- / 1347 م).

111 / تاريخ الإسلام، تح: عمر عبد السلام تدمری (ط1، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان 1407ه/ 1987م). 112 / تذكرة الحفاظ (ط1، دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1377 ه-/ 1957م).

113 / تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق. تح: مصطفى أبو الغيط عبد الحي (دار الوطن : الرياض - السعودية 1421 ه-/ 2000م).

114 / سير أعلام النبلاء. تح: شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد (ط 9، مؤسسة الرسالة :

ص: 812

بيروت - لبنان 1413ه/ 1993م).

115 / الكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة. تح: محمد عوامة (ط1، دار القبلة للثقافة الإسلامية: جدة - السعودية 1413ه-/ 1992م).

116/ میزان الاعتدال. تح: علي محمد البجاوي (ط1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1382 ه- / 1963 م).

الراغب الأصفهاني: ابو القاسم الحسين بن محمد. ت (502ه-/ 1108م).

117 / المفردات في غريب القرآن. (ط 2، إيران 1404ه/ 1983م).

ابن راهويه: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزي. ت (238ه-/ 852م).

118 / مسند إسحاق بن راهويه (ط1، مكتبة الإيمان: المدينة المنورة - السعودية 1412 ه-/ 1991م).

الروحي: أبو الحسن علي بن أبي عبد الله محمد بن أبي السرور. ت بعد (648ه- / 1250م).

119 / بلغة الظرفاء في ذكری تواریخ الخلفاء. تح: محمد زينهم محمد عزب (مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة - مصر د.ت).

الزبيدي: أبو فيض محب الدين محمد مرتضى الحسيني الواسطي الحنفي. ت (1205ه- /1790م). 120 / تاج العروس. دراسة وتحقيق: علي شيري (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1414ه- / 1994م).

الزرندي الحنفي: جمال الدين محمد بن يوسف بن الحسن بن محمد. ت (750ه- / 1349 م).

121 / نظم درر السمطين (ط1، مکتبة أمير المؤمنين العامة : النجف - العراق 1377 ه-/ 1958 م).

ص: 813

الزمخشري: جار الله أبو القاسم محمود بن عمر. ت (538ه-/ 1143م).

122 / ربيع الأبرار ونصوص الأخبار. تح: عبد الأمير مهنا (ط1، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

123 / الفائق في غريب الحديث. وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين (ط1، دارر الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417 ه-/ 1996م).

ابن زنجويه: أبو أحمد حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدي النسائي. ت (251ه-/ 865م).

124 / الأموال. تح: شاکر ذیب فیاض (ط1، مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية: الرياض - السعودية 1406ه-/ 1986م).

الزيعلي: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد. ت ( 1360م/ 762ه- ).

125 / تخريج الأحاديث والآثار. (ط1، دار ابن خزيمة : الرياض - السعودية 1414ه-/ 1993م). 126/ نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (ط1، دار الحديث: القاهرة - مصر 1415ه- /1995م).

سبط ابن العجمي: أبو الوفاء إبراهيم بن خليل الطرابلسي. ت (841ه- / 1437م).

127 / الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث. تح: صبحي السامرائي(ط1، مكتبة النهضة العربية: بغداد - العراق 1407ه-/ 1987م).

السبكي: تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن علي بن عبد الكافي. ت (771ه- / 1369م).

128 / طبقات الشافعية الكبرى. تح: محمد محمود الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو (ط1، دار إحياء الكتب العربية: القاهرة - مصر 1383 ه-/ 1964م).

السخاوي: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن. ت (902ه-/ 1496م).

129 / الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (ط1، مطبعة الترقي: دمشق - سوريا 1349 ه-/ 1930م).

ص: 814

السرخسي: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل.ت (490ه-/ 1096م).

130 / أصول السرخسي. تح: أبو الوفاء الأفغاني (ط1، دار الكتاب العلمية: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع.ت (230ه- / 941م).

131 / الطبقات الکبری، تح: علي محمد عمر (ط1، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1421 ه-/ 2001م).

السكري: أبو سعيد الحسن بن الحسين. ت (290ه- / 902م).

132 / ديوان أبي الأسود الدؤلي. تح: محمد حسن آل ياسين (ط 2، دار ومكتبة الهلال: بيروت - لبنان 1418ه-/ 1998م).

ابن السكيت: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق.ت (244ه-/ 858م).

132 / ترتيب إصلاح المنطق. تقديم وتعليق: محمد حسن بكائي (ط1، مجمع البحوث الاسلامية : مشهد - إيران 1412 ه-/ 1991م).

ابن سلام: لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي. ت (224ه-/ 838م).

133 / غريب الحديث (ط1، مطبعةمجلس دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1384 ه-/ 1964م).

ابن سلامة: القاضي أبو عبد الله محمد القضاعي. ت (454ه-/ 1062م).

134 / دستور معالم الحكم ومأثور مکارم الشيم. شرح: محمد سعيد الرافع (ط1، مطبعة السعادة: القاهرة - مصر 1332 ه-/ 1914م).

ابن سلمة : أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك. ت (321ه- / 933م).

135 / شرح معاني الآثار. تحقیق وتعلیق: محمد زهري النجار (ط 3، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1416ه-/ 1996 م).

ص: 815

السمرقندي: أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم . ت (383ه- / 993م).

136 / بحر العلوم. تح:. محمود مطرجي (دار الفكر: بيروت - لبنان د.ت).

السمعاني: أبو المظفر منصور بن محمد. ت (489ه- / 1095م).

137 / تفسير السمعاني. تح: ياسر إبراهيم وغنيم عباس (ط1، دار الوطن: الرياض - السعودية 1418ه-/ 1997م).

السمهودي: نور الدين علي بن أحمد. ت (911ه-/ 1505م).

138 / وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1427 ه- /2006م).

السهمي: أبو القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم. ت (427 ه-/ 1035م).

139 / تاریخ جرجان (ط1، دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1369 ه-/ 1950م). ابن سيد الناس: محمد بن عبد الله بن يحي. ت (734ه- / 1333 م).

140 / عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (ط1، مؤسسة عز الدين: بيروت - لبنان 1406ه/1986م).

السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر محمد. ت (911ه-/ 1505م).

141/ تاریخ الخلفاء (ط1، دار ابن حزم: بيروت - لبنان 1424ه-/ 2003م).

142 / الثغور الباسمة في مناقب سیدتنا فاطمة. تح: حسن الحسيني (ط1، دار البشائر الإسلامية: بيروت - لبنان 1431 ه-/ 2010م).

143 / الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1401 ه- / 1981م).

144 / الدر المنثور في التفسير بالمأثور. (ط1، المطبعة الميمنية: القاهرة - مصر 1314 ه-/ 1896م).

ص: 816

145 / الديباج على صحيح مسلم. تحقیق وتعليق: أبو إسحاق الحويني (ط1، دار ابن عفان: السعودية 1416ه-/ 1996م).

146 / شرح سنن النسائي (ط1، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان د.ت).

147/ لباب النقول في أسباب النزول (دار إحیاء العلوم: بيروت - لبنان د. ت).

ابن شاذان: سديد الدين شاذان بن جبرئيل القمي. ت (660ه- / 1261م).

148 / الروضة في فضائل أمير المؤمنين. تح: علي الشكر چي (ط1، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: بيروت - لبنان 1423 ه-/ 2002م).

الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس. ت (204ه- / 819م).

149 / کتاب الأم. (ط 2، دار الفكر - بيروت - لبنان 1403ه-/ 1983م).

أبو شامة: شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي (ت 665ه- / 1266م).

150 / الباعث على إنكار البدع والحوادث (ط1، مكتبة النهضة الحديثة : مكة المكرمة - السعودية 1401ه/ 1981م).

ابن شاهين: أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان ابن أحمد. ت (385ه- / 995م).

151 / تاريخ أسماء الثقات. تح: صبحي السامرائي (ط1، الدار السلفية: تونس 1404ه /1984م). ابن شبة : أبو زيد عمر. ت (262 ه-/ 875م).

152 / تاريخ المدينة المنورة. تح: فهيم محمد شلتوت (ط1، دار الفكر: قم - إيران 1410 ه- /1989م).

الشريف الجرجاني: زين الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحسيني. ت (531ه- / 1136م).

153 / الحاشية على كتاب الكشاف. (مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده :

ص: 817

القاهرة - مصر 1385 ه-/ 1966م).

الشريف المرتضى: أبو القاسم علي بن الحسين بن موسی. ت (436 ه- / 1044م).

154 / رسائل المرتضى. تقديم وإشراف: أحمد الحسيني (دار القرآن الكريم: قم - إيران 1405ه-/1984م).

ابن شهر آشوب: مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي. ت (588ه-/ 1192م).

155 / مناقب آل أبي طالب. تصحیح: لجنة من أساتذة النجف الأشرف (المطبعة الحيدرية : النجف - العراق 1376 ه-/ 1956م).

الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبدالکریم بن أبي بكر. ت (548 ه-/ 1153م).

156 / الملل والنحل. تح: أمير علي مهنا وعلي حسن فاعور (ط3، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

ابن أبي شيبة: ابو بكر عبد الله (235ه- / 849م).

157 / المصنف في الأحاديث والاخبار. ضبط وتعليق : سعيد اللحام (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان 1409ه-/ 1989 م).

الصالحي الشامي: محمد بن يوسف. ت (942ه-/ 1535م).

158 / سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد. تحقیق وتعلیق: عادل احمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

ابن الصباغ المالكي: علي بن محمد بن أحمد. ت (855ه-/1451م).

159 / الفصول المهمة في معرفة الأئمة. تحقیق وتوثیق وتعلیق: سامي الغريري (ط1، دار الحديث: قم - إيران 1379 ه-/ 1959م).

الصدوق: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. ت (381ه- / 894م).

160 / علل الشرائع (المكتبة الحيدرية ومطبعتها: النجف - العراق 1385 ه-/ 1966م).

ص: 818

161 / عيون أخبار الرضا. تصحيح وتعليق: حسين الأعلمي (ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: بيروت - لبنان 1404ه-/ 1984م).

162/ من لا يحضره الفقيه. تصحیح و تعلیق: علي أكبر الغفاري (ط 2، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية: قم - إيران 1404ه-/ 1983 م).

الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك. ت (764ه-/ 1362 م).

163 / الوافي بالوفيات. تح: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى (دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1420 ه-/ 2000م).

ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري. ت (643ه-/ 1245م).

164/ مقدمة ابن الصلاح و محاسن الاصطلاح (دار المعارف: القاهرة - مصر 1409ه-/ 1989م). ابن طاووس: علي بن موسی بن جعفر بن محمد. ت (664ه- / 1265م).

165 / اللهوف في قتلى الطفوف (ط 1، دار أنوار الهدی: قم - إيران 1417ه-/ 1996م).

الطبراني: أبي القاسم سلیمان بن أحمد. ت (360ه-/ 970م).

166 / الأوائل. تح: محمد شکور (ط3، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1987م).

167 / مسند الشاميين. تح: حمدي عبد المجيد السلفي (ط 2، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان (1417 ه-/ 1996م).

168 / المعجم الأوسط، تح: طارق عوض الله وعبد الحسن إبراهيم (ط1، دار الحرمين: السعودية 1415ه-/ 1995م).

169/ المعجم الصغير (ط1،دار الكتب العلمية : بيروت - لبنان د. ت).

170 / المعجم الكبير، تح: حمدي عبد المجيد السلفي (ط 2، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1397 ه-/ 1976م).

ص: 819

171 / مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب. تح: محمد شجاع ضيف الله (دار الأوراد: الكويت 1412 ه-/ 1992م).

الطبرسي: أبو علي الفضل بن الحسن. ت (548 ه-/ 1153م).

172 / إعلام الوری بأعلام الهدى. تح: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث (ط1، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث : قم - إيران 1417 ه- / 1996م).

173 / مجمع البيان في تفسير القرآن. تح: لجنة من العلماء والمحققين. (ط1، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان 1415ه-/ 1995م).

الطبري: أبو جعفر محمد بن جریر . ت (310ه-/ 922م).

174 / تاریخ الرسل والملوك. تح: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1387 ه- / 1967م).

175 / جامع البيان عن تأویل آي القرآن، تقديم : خليل الميس، ضبط و تخریج: صدقي جميل العطار (دار الفكر: بيروت - لبنان 1415ه-/ 1995 م).

176 / المنتخب من کتاب ذیل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين (مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان د.ت).

الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة. ت (1321ه- / 933م).

177 / شرح معني الآثار. تحقیق وتعلیق: محمد زهري النجار (ط 2، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1416ه-/ 1996م).

ابن طلحة الشافعي: كمال الدين أبو سالم محمد. ت (652ه-/ 1254م).

178/ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول. تح: ماجد أحمدالعطية (د. م. ط، د. ت).

الطوسي: أبو جعفر محمد بن الحسن. ت (460ه-/ 1067م).

179 / اختیار معرفة الرجال. تح: مهدي الرجائي، تصحیح: میر داماد الاستربادي مؤسسة آل البيت: قم - إيران 1404ه-/ 1983م).

ص: 820

180 / الاستبصار فيما اختلف من الأخبار. تح: حسن الخرسان (ط4، دار الكتب الإسلامية: طهران - ایران 1390 ه-/ 1970م).

181 / الأمالي. تح: قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة (ط1، مؤسسة البعثة: قم - إيران 1414ه-/ 1993م). | 182 / التبيان في تفسير القرآن. تح: أحمد حبيب قصير العاملي (ط1، مكتب الإعلام الإسلامي: بيروت - لبنان 1209 ه/ 1794م).

183 / رجال الطوسي. تح: جواد القيومي (ط1، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران 1415ه-/ 1994م)

184 / الفهرست. تح: جواد القيومي (ط1، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران 1417ه-/ 1996م).

185 / الغيبة. تح: عباد الله الطهراني وعلي أحمد ناصح (ط1، مؤسسة المعارف الاسلامية : قم - إيران 1411ه-/ 1990 م).

الطيالسي: أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري. ت (204ه- / 819م).

186 / مسند أبي داود (ط1، مطبعة دائرة المعارف النظامية: حید آباد الدكن - الهند 1321 ه-/ 1903م).

ابن طيفور: أبو الفضل بن أبي طاهر. ت (380ه-/ 990م).

187 / بلاغات النساء. (ط1، مکتبة بصيرتي: قم - إيران 1361 ه-/ 1942 م).

ابن أبي عاصم: أبو بكر أحمد بن عمرو الضحاك . ت (287ه-/ 900م).

188 / الآحاد والمثاني. تح: باسم فيصل أحمد الجوابرة (ط1، دار الدراية: الرياض - السعودية 1411ه-/ 1991م).

189 / کتاب السنة (ط3، المكتب الإسلامي: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

ص: 821

190 / المذكر والتذكير والذكر. تح: خالد بن قاسم الردادي (ط1، دار المنار: الرياض - السعودية 1413ه-/ 1992م).

ابن عبد البر: أبو عمر يوسف أحمد بن عبد الله أحمد بن محمد. ت (463 ه- / 1070م).

191 / الاستذكار. تح: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1421 ه-/ 2000م).

192/ الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تح: علي محمد البجاوي (ط1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1991 م).

193 / الإنباه على قبائل الرواة. تح: إبراهيم الأبياري (ط1، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1405ه-/ 1985 م).

194 / التمهيد. تح: مصطفى العلوي ومحمد البكري (ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: الرباط - المغرب 1387 ه-/ 1997م).

195/ جامع بیان العلم وفضله (دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1398 ه-/ 1977 م).

196 / الدرر في اختصار المغازي والسير. تح: شوقي ضيف (ط1، دار المعارف: القاهرة - مصر 1403ه-/ 1982 م).

عبد الرزاق الصنعاني: أبو بكر بن همام. ت (211ه- / 826م).

197 / المصنف. تحقیق و تخریج وتعليق: حبیب الرحمن الأعظمي (ط1، المجلس العلمي: بيروت - لبنان 1392 ه-/ 1972م).

ابن عبد ربه الأندلسي: أحمد بن محمد. ت (328 ه-/ 939م).

198 / العقد الفريد. تح: مفيد محمد قميحة (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1404ه-/ 1983م).

العجلي : أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح. ت (261 ه-/ 874م).

ص: 822

199/ معرفة الثقات (ط1، مكتبة الدار: المدينة المنورة - السعودية 1405ه-/ 1985م).

ابن العديم: كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة. ت (660ه- / 1261م).

200 / بغية الطلب في تاريخ حلب. تحقیق وتقديم: سهیل زکار (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1988م).

201/ زبدة الحلب من تاريخ حلب. تحقیق وتقديم: سهیل زکار (ط1، دار الكتاب العربي: دمشق - سوريا 1418ه-/ 1997م).

ابن عساکر : أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله . ت (571ه-/ 1175 م).

202/ تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها. تح: علي شيري (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان 1415ه-/ 1995م).

- ابن عدي: أبو أحمد عبد الله الجرجاني. ت (365ه-/ 975م).

203 / الكامل في ضعفاء الرجال. تح: سهیل زکار (ط3، دار الفكر : بيروت - لبنان 1409ه-/ 1998 م).

ابن عطية الأندلسي: أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عبد الرحمن. ت (546ه-/ 1151م). 204 / المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تح: عبد السلام عبد الشافي (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

ابن عطية: شبل الدولة أبو الهيجاء مقاتل البكري الحجازي. ت (505ه-/ 1111م).

205 / مؤتمر علماء بغداد في الإمامة والخلافة. تح: مرتضى الرضوي (ط 2، دار الكتب الإسلامية: طهران - إيران 1377 ه-/ 1418 م).

ابن عقدة: أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد.ت (332ه- / 943م).

206/ فضائل أمير المؤمنين. جمع وتقديم و ترتیب: عبد الرزاق محمد حسين (ط1، دلیل ما:

ص: 823

قم - إيران 1424 ه-/ 2003م).

- العقيلي: أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسی بن حماد.ت (322ه- / 933م).

207/ کتاب الضعفاء. تحقیق وتوثيق : عبد المعطي أمين قلعجي (ط 2، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1418ه-/ 1998 م).

العيني: أبو محمد محمود بن أحمد.ت (855ه- / 1451م).

208/ عمدة القاري في شرح صحيح البخاري. (دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان د.ت).

ابن فارس: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریا. ت (395ه- / 1004م).

209 / معجم مقاییس اللغة. تحقیق وضبط: عبد السلام محمد هارون (مكتب الإعلام الإسلامي: قم - ایران 1404ه- /1983م)

الفتني: محمد طاهر بن علي الهندي. ت (986ھ/ 1578م).

210/ تذكرة الموضوعات (د. م. ط، د.ت).

الفخر الرازي: أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين. ت (606ه / 1210 م). 211/ مفاتح الغيب. تح: أسعد محمد الطيب المكتبة العصرية: صيدا - لبنان د.ت).

212 / المحصول في علم أصول الفقه. دراسة وتحقيق: طه جابر فیاض (ط 2، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

أبو الفدا: عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة. ت (732ه-/ 1331 م).

213 / التبر المسبوك في تواريخ الملوك. تح: محمد زينهم محمد عزب (مكتبة الثقافة الدينية : القاهرة - مصر 1415ه-/ 1995م).

214 / المختصر في أخبار البشر : تاريخ أبي الفداء (طا، المطبعة الحسينية المصرية: مصر 1325 ه/ 1907م).

ص: 824

الفراهيدي: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد.ت (175 ه-/ 791م).

215/ کتاب العين. تح: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي (ط 2، مؤسسة دار الهجرة: إيران 1409ه/ 1988م).

أبو الفرج الأصفهاني : علي بن الحسين بن محمد بن أحمد. ت (356ه- / 966م).

216 / الأغاني. تح: عبد الرحيم محمود (ط 2، دار الكتب المصرية: القاهرة - مصر 1371 ه-/ 1952م).

217 / مقاتل الطالبيين (ط 2، مؤسسة دار الكتاب: قم - إيران 1385 ه-/ 1965 م).

الفضل بن شاذان: أبو محمد بن خليل الأزدي النيسابوري. ت (260ه- / 873م).

218 / الإيضاح. حققه وخرج أحاديثه وقدم له: جلال الدين الحسيني الأرموي (ط1، إيران 1350 ه-/ 1931م).

219 / شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار. تح: محمد الحسيني الجلالي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1414ه-/1994م).

ابن الفقيه الهمذاني: أبو بكر أحمد بن محمد. ت (340ه-/ 951م).

220 / مختصر کتاب البلدان (ط1، مطبعة بريل: ليدن - هولندا 1302 ه-/ 1884 م).

ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم. ت (276 ه-/ 889م).

221 / الإمامة والسياسة - منسوب -. تح: طه محمد الزيني (مؤسسة الحلبي: القاهرة - مصر 1387 ه-/ 1967م).

222 / تأويل مختلف الحديث (ط1، دار الكتب العلمية : بيروت - لبنان د. ت).

223 / الشعر والشعراء. تح: أحمد محمد شاکر (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1377 ه- / 1958م).

224 / غريب الحديث. فهرست: نعیم زرزور (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1988 م).

ص: 825

225 / عيون الأخبار (ط1، دار الكتب المصرية: القاهرة - مصر 1417ه-/ 1996م).

226 / المعارف. حققه وقدم له: ثروت عكاشة (ط4، دار المعارف: القاهرة - مصر 1388 ه-/ 1969م).

227 / المعاني الكبير. تصحیح: المستشرق: سالم الكرنكوي، تقديم: عبد الرحمن اليماني (ط1، دار النهضة الحديثة : بيروت - لبنان د. ت).

ابن قدامة: عبد الله موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد.ت (620ه- / 1223م).

228 / المغني (دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان د. ت).

قدامة بن جعفر : أبو الفرج بن قدامة بن زياد البغدادي. ت (337ه- / 948م).

229 / الخراج وصناعة الكتابة. شرح وتحقيق: محمد حسين الزبيدي (ط1، دار الرشيد: بغداد - العراق 1402 ه-/ 1981م).

قطب الدين الراوندي: أبو الحسين سعيدبن عبد الله بن الحسين بن هبة الله. ت (573 ه-/ 1177 م). 230 / الخرائج والجرائح. تح: مؤسسة الإمام المهدي (عج) (ط1، مؤسسة الإمام المهدي (عج): قم - إيران 1409ه-/ 1988 م).

القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي. ت (821ه- / 1418م).

231 / قلائد الجان في التعريف بقبائل عرب الزمان. تحقیق وتقديم وفهرست: إبراهيم الأبياري (ط 2، دار الكتب الإسلامية: القاهرة - مصر 1402 ه-/ 1982م).

القندوزي: سلیمان بن إبراهيم الحنفي. ت (1294 ه- / 1877م). 232 / ينابيع المودة لذوي القربي. تح: علي جمال الحسيني (ط1، دار الأسوة للطباعة والنشر: قم - إيران 1416ه-/ 1995م).

ص: 826

القيسي: أبو رياش أحمد بن إبراهيم. ت (339ه- / 950م).

233 / شرح هاشميات الكميت. تح: داود سلوم ونوري حمودي القيسي (ط 2، عالم الكتب: بيروت - لبنان 1406ه-/ 1986م).

ابن قيم الجوزية: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي. ت (751ه-

1350 م).

234 / زاد المعاد في هدي خير العباد. تح: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط (ط3، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1418ه-/ 1998 م).

القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري. ت (671ه-/ 1272م).

235 / الجامع لأحكام القرآن (دار احياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1405ه-/ 1985 م).

ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل الدمشقي. ت (774ه-/ 1372م).

236 / الباعث الحثيث: شرح اختصار علوم الحديث. شرح: أحمد محمد شاکر، تعليق: ناصر الدين الألباني، تح: علي حسن علي عبد الحميد الحلبي (ط1، مكتبة المعارف: الرياض - السعودية 1417ه-/ 1996م).

237/البداية والنهاية في التاريخ. تح: علي شيري (ط1، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1988م).

238 / السيرة النبوية. تح: مصطفى عبد الواحد (ط1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1396 ه-/ 1971 م).

239 / تفسير القرآن العظيم. تح: يوسف عبد الرحمن المرعشلي (ط1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1412 ه-/ 1992م).

240 / قصص الأنبياء. تح: مصطفى عبد الواحد (ط1، دار الكتب الحديثة : القاهرة - مصر 1388 ه-/ 1968م).

ص: 827

الكراجكي: أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان. ت (449 ه- / 157م).

241 / التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة. تصحیح و تخریج: فارس حسون کریم (ط1، قم - إيران 1421 ه-/ 2000م).

الكلاعي: أبو الربيع سليمان بن موسی. ت (634ه- / 1236م).

242 / الاكتفاء في مغازي رسول الله و الثلاثة الخلفاء. تح: مصطفى عبد الواحد (ط1، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1387 ه-/ 1968م).

- الكليني: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق.ت (329ه- / 950م).

243 / الكافي. صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري (طه، دار الكتب الاسلامية : طهران

- إيران 1363 ه-/ 1943م).

الكوفي: محمد بن سليان. من أعلام القرن (الثالث الهجري / التاسع الميلادي).

244/ مناقب أمير المؤمنين. تح: محمد باقر المحمودي (ط1، مجمع احياء الثقافة الاسلامية : قم - ایران 1412 ه-/ 1991م).

ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني. ت 275 ه-/ 888م).

245 / سنن ابن ماجه. تحقیق وترتيب وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان 1373 ه/ 1954م).

ابن ماكولا: أبو النصر علي بن أبي القاسم هبة الله بن علي ابن جعفر بن علکان. ت (486ه-/ 1093م).

246 / الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب . تصحيح وتعليق : نايف العباس (ط1، دار الكتاب العربي: القاهرة - مصر د.ت).

المبرد: أبو العباس محمد بن یزید. ت (286ه- / 899م).

247 / الكامل في اللغة والأدب. تعليق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط3، دار الفكر العربي: القاهرة - مصر 1417ه-/ 1997م).

ص: 828

المتقي الهندي: علاء الدين علي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري. ت(975ه-/ 1567م).

248 / کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. ضبطه وفسر غریبه وصححه ووضع فهارسه ومفتاحه: بكري حياني وصفوة السقا (ط1، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1409ه-/ 1989م).

249/ منتخب کنز العمال. طبع بهامش مسند أحمد بن حنبل (ط1، المطبعة الميمنية: القاهرة - مصر 1313 ه-/ 1895 م).

المجلسي: محمد باقر . ت (1111ه-/ 1699م).

250 / بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ط 2، مؤسسة الوفاء: بيروت - لبنان 403ه-/ 1983 م).

محب الدين الطبري: أحمد بن عبد الله . ت (694ه- / 1294م).

251 / ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي (مكتبة المقدسي: القاهرة - مصر 1356 ه- / 1937م). المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي. ت (346ه-/ 957م).

252/ التنبيه والإشراف (ط1، دار صعب: بيروت - لبنان د.ت).

253 / مروج الذهب ومعادن الجوهر. اعتناء ومراجعة: كال حسن مرعي (ط1، المكتبة العصرية: بيروت - لبنان 1425 ه-/ 2005م).

المصعب الزبيري: أبو عبد الله بن عبد الله بن المصعب الزبيري. ت (236ه- / 850م).

254/ كتاب نسب قریش. تصحیح و تعلیق : المستشرق ليفي بروفنسال (ط3، دار المعارف: القاهرة - مصر 1373 ه-/ 1953م).

المقدسي: مطهر بن طاهر . ت (بعد 355ه- / 965م).

255/ البدء و التاريخ (ط1، مكتبة الثقافة الدينية: مصر د.ت).

ص: 829

- المقري: أبو العباس أحمد بن محمد.ت (1041 ه-/ 1631م).

256 / نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب. تح: إحسان عباس (ط1، دار صادر: بيروت - لبنان 1408ه-/ 1988م).

- المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد. ت (845ه- / 1441 م).

257 / اتعاظ الحنفابأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا. تح: جمال الدين الشيال (ط 2، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: لجنة إحياء التراث الإسلامي: القاهرة - مصر 1416ه-/ 1996م).

258 / إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع. تح: محمد عبد الحميد النميسي (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1420 ه-/ 1999م).

259 / النزاع والتخاصم بين بيني أمية وبني هاشم . تح: علي عاشور (المطبعة العلمية: القاهرة - مصر 1368 ه-/ 1948م).

المزي: جمال الدين أبي الحجاج يوسف. ت (742ه- / 1341 م).

260 / تهذيب الكمال في أسماء الرجال. تح: بشار عواد معروف (ط4، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1406ه/ 1985م).

مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. ت (261ه- / 874م).

261 / الجامع الصحيح (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان د. ت).

ابن معين: أبو زکریا یحیی. ت (233 ه-/ 847م).

262 / تاریخ ابن معين. تح: أحمد محمد نور سیف (ط1، دار المأمون للتراث: مكة المكرمة - السعودية 1400ه-/ 1979م).

ابن المغازلي: أبو الحسن علي بن محمد الواسطي الشافعي. ت (483ه-/ 1090م).

293 / مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ط1، دار مكتبة الحياة: بيروت - لبنان 1400 ه-/ 1980م).

ص: 830

المفيد: محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي. ت (413ه-/ 1022م).

264 / الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد. تح: مؤسسة آل البيت (ط 2، دار المفيد: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

265 / الجمل (ط 2، مكتبة الداوري: قم - إيران د. ت).

266/ المسائل السروية. تح: صائب عبد الحميد (ط 2، دار المفيد: بيروت - لبنان 1414ه- / 1993 م).

267 / مسار الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة. تح: مهدي نجف (ط2، دار المفيد: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

- المناوي: محمد عبد الرؤوف. ت (1031ه-/ 1718م).

268/ فيض القدير - شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير . ضبط وتصحح: أحمد عبد السلام (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415ه-/1994م).

ابن النجار البغدادي: محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن. ت (643ه- / 1245م).

269 / ذیل تاریخ بغداد. تح: مصطفى عبد القادر عطا (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1997م).

ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم. ت (711ه- / 1311 م).

270 / لسان العرب. تقديم: أحمد فارس (ط1، أدب الحوزة: قم - إيران 1405ه-/ 1986 م). المنقري: نصر بن مزاحم. ت (212ه- / 827م).

271 / وقعة صفين. تح: عبد السلام محمد هارون (ط 2، المؤسسة العربية الحديثة: القاهرة - مصر 1382 ه-/ 1992م).

النجاشي: أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس. ت (450ه-/ 1008م).

ص: 831

272 / فهرست أسماء مصنفي الشيعة. المعروف برجال النجاشي. تح: موسى الشبري الزنجاني (ط5، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1416ه-/ 1995م).

النحاس: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل. ت (338ه- / 949م).

273 / معاني القرآن الكريم. تح: محمد علي الصابوني (ط1، جامعة أم القرى 1408ه-/ 1988 م). النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحرت (303ه-/ 915م).

274 / خصائص أمير المؤمنين. تح: محمد الكاظم (ط1، مجمع إحياء الثقافةالإسلامية 1419ه-/ 1998م).

275 / السنن (ط1، دار الفكر : بيروت - لبنان 1348 ه-/ 1930 م).

276 / فضائل الصحابة (دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان د. ت).

277 / کتاب الوفاة. تح: محمد السعيد زغلول (ط1، مكتبة التراث الإسلامي: القاهرة -

ابن النديم: أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق. ت (438 ه- / 1046م).

278 / کتاب الفهرست. تح: رضا تجدد (ط1، طهران - إيران 1391 ه-/ 1971م).

النعمان المغربي: أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد. ت (363 ه-/ 973م).

279 / دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام. تح: آصف علي أصغر (ط1، دار المعارف: القاهرة - مصر 1383 ه-/ 1963م)

أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبد الله. ت (430ه-/ 138 م).

280 / حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. (ط1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1409ه-/ 1988 م).

ص: 832

ابن نما الحلي: نجم الدين محمد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله. ت (645ه- / 1247م).

281 / مثير الأحزان. (ط1، منشورات المطبعة الحيدرية: النجف - العراق1369 ه- / 1950م). النووي: محيي الدين أبو زکریا یحیی بن شرف. ت (676ه- / 1277م).

282 / الأذكار النووية. (دار الفكر: بيروت - لبنان 1414 ه-/ 1994م).

283/ صحيح مسلم بشرح النووي (دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1407ه/ 1987 م).

286 / المجموع (دار الفكر : بيروت - لبنان د. ت).

285 / المنهل الراوي من تقريب النواوي. تحقیق و تخریج وتعليق: مصطفى الخن (ط1، دار الملاح: بيروت - لبنان د.ت).

النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. ت (733ه-/ 1332 م).

286 / نهاية الأرب في فنون الأدب. تح: مفید قميحة وحسن نور الدين (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1424 ه-/ 2004م).

ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري. ت (218ه-/ 833م).

287 / السيرة النبوية. تحقیق وضبط: محمد محيي الدين عبد الحميد (ط1، مكتبة محمد علي صبیح: مصر - القاهرة 1383 ه-/ 1963م).

أبو هلال العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید. ت (395 ه-/ 1004م).

288 / الفروق اللغوية. (ط1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين : قم - إيران 1412 ه-/ 1991م).

الهيتمي: شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر.ت (974ه-/ 1566 م).

289 / الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة (دار الكتب العلمية: بيروت -

ص: 833

لبنان 1420 ه-/ 1999م).

الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر. ت (807ه- / 1404م).

290 / مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1408 ه-/ 1988م). 291 / موارد الظمآن إلى زوائد ابنحبان. تح: حسین سلیم الداراني (ط1، دار الثقافة العربية : دمشق - سوريا 1403ه-/ 1983 م).

الواحدي النيسابوري: أبو الحسن علي بن أحمد. ت (468ه-/ 1075م).

292 / أسباب النزول (ط1، مؤسسة الحلبي وشركاؤه: القاهرة - مصر 1388 ه- / 1968 م).

293 / الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (ط1، دار القلم: دمشق - سوريا 1415ه-/ 1994م). الواقدي : أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد. ت (207 ه-/ 822م).

294 / کتاب المغازي. تح: المستشرق مارسدن جونس (ط3، عالم الكتب: بيروت - لبنان 1404 ه-/ 1984م).

وكيع: القاضي محمد بن خلف بن حیان. ت (306 ه-/ 918م).

295 / أخبار القضاة. مراجعة: سعيد محمد اللحام (عالم الكتب: بيروت - لبنان د. ت).

اليافعي: أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان. ت (768ه- / 1366 م).

296 / مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. وضع حواشیه : خليل المنصور (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1997م).

ياقوت الحموي: شهاب الدين أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله. ت (626ه- / 1228م).

ص: 834

297 / معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب. تح: إحسان عباس (ط1، دار الغرب الإسلامي: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993م).

298 / معجم البلدان (دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1399 ه-/ 1979 م). یحیی بن آدم القرشي: أبو زكريا الأموي الكوفي. ت (203ه / 818م). 299 / الخراج. تح: حسين مؤنس (ط1، دار الشروق: القاهرة - مصر 1408 ه- / 1987م).

اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح. كن حيا عام (292ه-/ 904م).

300/ تاريخ اليعقوبي (دار صادر : بيروت - لبناند. ت).

أبو يعلى الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى التميمي. ت (307ه- / 919م).

301 / مسند أبي يعلى. حققه وخرج أحاديثه: حسین سلیم أسد (ط1، دار المأمون للتراث: دمشق - سوريا د. ت).

أبو يوسف: القاضي يعقوب بن إبراهيم. ت (182 ه-/ 798م).

302/ الخراج (ط1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1399 ه- / 1979م).

• ثانيا -المراجع العربية:

أحمد أمين.

303 / ضحى الإسلام (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب: القاهرة - مصر 1334 ه- /

1935م).

أحمد رضا.

304/ معجم متن اللغة (ط1، دار مكتبة الحياة: بيروت - لبنان 1378 ه-/ 1959م).

ص: 835

الأحمد: فؤاد.

305/ الإمام الحسن القائد والتاريخ (ط1، دار البيان العربي: بيروت - لبنان 1411 ه- / 1991م).

أسد حيدر.

306/ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة (ط1، دار كلمة الحق: النجف - العراق 1428ه- /2007م). الأصبهاني: شيخ الشريعة میرزا فتح الله.

306/ القولالصراح في البخاري وصحيحه الجامع. تحقيق: حسين المرساوي، تقدیم : جعفر السبحاني (ط1، مؤسسة الإمام الصادق 7: قم - إيران 1422 ه-/ 2001م).

أصلان: عبد السلام حسن.

307 / قراءة نقدية في كتب السيرة النبوية (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1410ه-/ 1989م).

آغا بزرك الطهراني.

308 / الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ط3، دار الأضواء: بيروت - لبنان 1403ه-/ 1983م). الألمعي: زاهر عوض.

309/ مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي (ص) بزينب بنت جحش - دراسة تحليلية (ط4، جامعة محمد بن سعود: الرياض - السعودية 1403ه-/ 1983م).

الأمين: محسن.

310/ أعيان الشيعة (ط1، دار التعارف: بيروت - لبنان 1403 ه-/ 1983م).

أنور: أحمد.

ص: 836

311 / النظرية والمنهج في علم الاجتماع (مصر 1427 ه- / 2006م).

أنطوان بارا.

312/ الحسين في الفكر المسيحي (طه، دار العلوم: دمشق - سوريا 1430 ه-/ 2009م).

البحراني: عبد العظيم المهتدي .

313 / من أخلاق الإمام الحسين (ط1، مؤسسة الشريف الرضي: قم - لبنان 1421ه-/ 2001م).

بحیری:سعید حسن.

314/ علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات (ط1، الشركة المصرية العالمية للنشر : الجيزة - مصر 1418ه-/ 1997م).

بدر: علي.

315 / ماسنيون في بغداد: رسائل المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون إلى الأب أنستاس ماري الكرملي 1908 - 1919. (ط1، دار الجمل: كولونيا - ألمانيا1436ه-/ 2005م).

البدري: سامي.

316 / الحسين (ع) في مواجهة الضلال الأموي (ط1، دار طور سنين: بغداد - العراق 1427ه-/ 2006م).

بدوي: عبد الرحمن.

317/ مذاهب الإسلاميين (دار العلم للملايين: بيروت - لبنان 1418ه-/ 1997م).

318 / موسوعة المستشرقين (ط3، دار العلم للملايين: بيروت - لبنان 1414ه-/ 1993 م). برقاوي: أحمد.

ص: 837

319 / أسرى الوهم: حوار نقدي مع مفکرین عرب (ط 31، دار الأهالي: دمشق - سوريا 1416ه-/ 1996م).

البرقوقي: عبد الرحمن.

320 / شرح ديوان المتنبي (ط1، المكتبة التجارية الكبرى: القاهرة - مصر 1348 ه- / 1930م). البغدادي: إسماعيل باشا.

321 / هدية العارفين في أسماء المؤلفين واثار المصنفین (ط 2، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1371 ه-/ 1951م).

بنت الشاطئ: عائشة عبد الرحمن.

322 / نساء النبي (ط 13، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1399 ه- / 1979م).

البهي: محمد.

323/ الإسلام بمواجهة المذاهب الهدامة (ط1، مکتبة وهبة: القاهرة - مصر 1401ه/ 1981 م). 324/ المبشرون والمستشرقون (ط1، مطبعة الأزهر: القاهرة - مصر 1384 ه-/ 1964 م). البيروتي: محمد طاهر التنير.

325 / العقائد الوثنية في الديانة النصرانية. تح: محمد عبد الله الشرقاوي (ط1، دار الصحوة: القاهرة - مصر 1408ه-/ 1988م).

بیضون: إبراهيم.

326 / عبد الله بن سبأ - إشكالية النص والدور والأسطورة (ط1، دار المؤرخ العربي: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1997م).

بیطار: زينات.

ص: 838

327 / الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي (ط1، عالم المعرفة: سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب: الكويت 1413 ه-/ 1992م).

الجابري: صلاح.

328 / تفكيك الاستشراق (ط1، المركز العالمي لدراسات الكتاب الأخضر: بنغازي - ليبيا 1426ه-/ 2005م).

الجبري: عبد المتعال محمد.

329/ الاستشراق وجه للاستعمار الفكري (ط1، مکتبة وهبة: القاهرة - مصر 1416ه-/ 1995م).

جرجي زيدان.

330/ تاريخ التمدن الإسلامي (ط 2، دار الحياة بيروت - لبنان 1387 ه- / 1967م).

جعز: عبد الوهاب.

331 / البنيوية بين العلم والفلسفة عند ميشيل فوكو (ط1، دار المعارف: القاهرة - مصر 1410ه-/ 1989م).

الجندي: أنور

332 / التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة (ط1، دار الأنصار: القاهرة -مصر1404ه/ 1983م).

333/ سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية (ط1، مكتبة التراث الإسلامي: القاهرة - مصر د.ت).

جواد علي.

334/ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (ط 2، 1413 ه-/ 1993 م).

جورج جرداق.

ص: 839

335/الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة(ط1،دار الأندلس:بیروت-لبنان1432 ه-/2010م).

جویدي: میکائیل أنجلو.

336 / علم الشرق وتاريخ العمران (ط1، المطبعة السلفية: القاهرة - مصر 1349 ه-/ 1930م). جيرا: يوسف.

337 / تاریخ دراسة اللغة العربية بأوروبا (ط1، مطبعة الشباب: القاهرة - مصر 1348 ه-/ 1929م).

حامد: أحمد.

338 / الإسلام ورسوله في فكر هؤلاء (ط1، دار الشعب: القاهرة - مصر 1412 ه-/ 1991م). الحجي: عبد الرحمن علي.

339 / التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (ط 2، دار القلم: دمشق - سوريا 1402 ه-/ 1981م).

الحريري: أبو موسى.

340 / العلويون النصيريون: بحث في العقيدة والتاريخ. (بيروت - لبنان 1400ه- / 1980م). الخالدي : مصطفى وعمر فروخ.

341/ التبشير والاستعمار (ط1، المكتبة العصرية : بيروت - لبنان 1372 ه-/ 1953م). الخربوطلي: علي حسني.

342/ المستشرقون والتاريخ الإسلامي (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1409 ه/ 1988م).

ص: 840

خشبة: سامي.

343/ مصطلحات فكرية (ط1، الهيئة العامة المصرية للكتاب : القاهرة - مصر 1418ه-/ 1997م).

خلف الله: محمد.

344 / الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة: مجموعة بحوث ودراسات إسلامية جمعها وراجعها وقدم لها خلف الله (ط1، مكتبة النهضة المصرية ومؤسسة فرانكليين: القاهرة - مصر 1376 ه-/ 1955م).

أبو خليل: شوقي.

345 / الاسقاط في مناهج المستشرقين (ط 2، دار الفكر: دمشق - سوريا 1419ه-/ 1998 م). الخوئي: السيد أبو القاسم.

346/ معجم رجال الحدیث وتفصيل طبقات الرواة (طه، مرکز نشر الثقافة الاسلامية: إيران 1413ه-/ 1992م).

الداوي: عبد الرزاق.

347 / موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر (ط1، دار الطليعة: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1992 م).

درویش: أحمد.

348/ الاستشراق الفرنسي والأدب العربي (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1417 ه- / 1996م).

الدويهي: مار أسطفان.

349/ تاريخ الطائفة المارونية. عني بطبعه وعلق حواشيه: رشيد الخوري الشرتوني (المطبعة الكاثوليكية: بيروت - لبنان 1308 ه-/ 1890 م).

ص: 841

الديب: عبد العظيم.

350/ المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي (ط1، مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية : الدوحة - قطر 1411 ه-/ 1990م).

الراجكوتي: عبد العزيز الميمني.

351 / زيادات دیوان شعر المتنبي (ط1، المكتبة السلفية: القاهرة - مصر 1346 ه- / 1927م).

الرويلي: ميجان وسعد البازعي.

352 / دليل الناقد الأدبي (ط 3، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء - المغرب 1423 ه- /

أبورية: محمود.

353 / أضواء على السنة المحمدية (ط6، دار المعارف: القاهرة - مصر 1415ه- / 1994م).

354 / شيخ المضيرة أبو هريرة (ط4، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

زاید: فهد خليل.

355 / الاعجاز العلمي والبلاغي في القرآن الكريم (ط1، دار النفائس: عمان - الأردن 1428 ه-/ 2008م).

الزرقاني : محمد عبد العظيم.

356/ مناهل العرفان في علوم القرآن. تح: فواز أحمد زمرلي (ط1، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1415ه-/ 1995م).

الزركلي: خير الدين.

357 / الأعلام: قاموس - تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين

ص: 842

والمستشرقين (ط5، دار العلم للملايين : بيروت - لبنان 1401ه-/ 1980 م).

زقزوق: محمود حمدي.

358/ الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1417 ه-/ 1997 م).

زکریا: هاشم زکریا.

359 / المستشرقون والإسلام (ط1، لجنة التعريف بالإسلام التابعة للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: القاهرة - مصر 1385 ه-/ 1965 م).

الزيات: أحمد حسن.

360/ تاريخ الأدب العربي (ط 2، دار نهضة مصر: القاهرة - مصر د. ت).

الزيادي: محمد فتح الله .

361/ ظاهرة انتشار الإسلام وموقف بعض المستشرقين منها (ط1، النشأة العامة للنشر: طرابلس - ليبيا 1392 ه- / 1983م).

سالم الحاج: ساسي.

362/ نقد الخطاب الاستشراقي - الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية (ط1، دار المدار الإسلامي: بيروت - لبنان 1423ه-/ 2002م).

السايح: أحمد عبد الرحيم.

363/ الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي (ط1، الدار المصرية اللبنانية: القاهرة -بیروت 1417 ه/ 1996م).

السباعي: حسان مصطفی.

364 / الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم. (ط1، دار الوراق: القاهرة - مصر د.ت).

ص: 843

سرکیس: يوسف إليان.

365 / معجم المطبوعات العربية والمعربة (مكتبة المرعشي النجفي: النجف - العراق 1410 ه-/ 1989م).

سایلوفتش: أحمد.

366/ فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر (ط1، دار الفكر العربي: بيروت - لنان 1418 ه-/ 1998م).

السيد الجميلي.

367/ الاعجاز العلمي في القرآن (ط 2، دار الوسام: بیروت - لبنان 1413ه-/ 1992م).

الشرقاوي: محمد عبد الله.

368/ الاستشراق في الفكر الإسلامي المعاصر (د. م. ط، د. ت).

369/ الاستشراق والغارة على الفكر الإسلامي (ط1، دار الهداية: القاهرة - مصر 1410ه- /1989م).

شلبي: أحمد.

370 / موسوعة التاريخ الإسلامي - ج2 الدولة الأموية والحركات الفكرية والثورية خلالها (ط6، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1403ه-/ 1982م).

شلبي: عبد الجليل.

371 / معركة التبشير والإسلام: حركات التبشير والإسلام في آسيا وأفريقيا وأوروبا (ط1، مؤسسة الخليج: القاهرة - مصر 1409ه-/ 1989م).

شمس الدين : محمد مهدي.

372 / أنصار الحسين (ط 2، د. م 1401ه-/ 1981م).

الشوكاني: محمد بن علي بن محمد.ت (1255 ه-/ 1839 م).

ص: 844

373 / نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخبار (ط1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1393 ه-/ 1973م). صالحاني: أنطوان اليسوعي.

374 / ديوان الأخطل (ط1، المكتبة الكاثوليكية لآباء اليسوعيين: بيروت - لبنان 1309 ه- /1891م).

الصبيحي: محمد الأخضر .

375 / مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه (ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون: الجزائر 1429 ه-/ 2008م).

الصغير: محمد حسين علي.

376/ المستشرقون والدراساتالقرآنية (ط1، دار المؤرخ العربي: بيروت - لبنان 1420ه / 1999 م).

الصلابي : علي محمد.

377 / خامس الخلفاء الراشدين: الحسن بن علي شخصيته وعصره (ط1، مؤسسة اقرأ: القاهرة - مصر 1428 ه-/ 2007م).

طلبة: هشام محمد.

378 / محمد6 في الترجوم والتلمود والتوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب وأصحاب الديانات: ظهور نصوص اختفت ألفي عام. تقدیم : علي جمعة (د. م، ط. د.ت).

- طه حسين.

379 / الفتنة الكبرى. القسم الثاني: علي وبنوه (ط 12، دار المعارف: القاهرة - مصر 1415 ه-/ 1994م).

عاشور: سعيد عبد الفتاح.

ص: 845

380 / أوروبا العصور الوسطى (ط1، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1379 ه-/

1959م).

العالم : عمر لطفي

381 / المستشرقون والقرآن: دراسة نقدية لمناهج المستشرقين (ط1، مركز دراسات العالم الإسلامي 1413ه-/ 1991م).

العاني: عبد القهار داود عبد الله .

382 / الاستشراق والدراسات الإسلامية (ط1، دار الفرقان: عمان - الأردن 1421 ه-/ 2001م). العبادي: سارة حامد محمد.

383 / التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة (ط1، دار طيبة الخضراء: مكة المكرمة - السعودية 1424ه-/ 2003م).

عبد الجبار ناجي

384 / التشيع والاستشراق (ط1، المركز الأكاديمي للأبحاث: بغداد - العراق 1433ه-/ 2011م). عبد الحليم : محمود.

385 / أوروبا والإسلام (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1414ه-/ 1993م).

عبد الراضي: أحمد محمد.

386 / نحو النص بين الأصالة والحداثة (ط1، مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة - مصر 1429 ه-/ 2008م).

عبد الفتاح: فاطمة.

387 / إضاءات على الاستشراق الروسي (منشورات إتحاد الكتاب العرب 1421ه-/ 2000م).

ص: 846

عبد القادر: زینب حسن.

388/ رسائل الإمام الحسن (ط1، دار الشعب: القاهرة - مصر 1411ه-/ 1991م).

عبد الوهاب: احمد.

389 / تعدد نساء الأنبياء ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام (ط1، مكتبة وهبة: القاهرة - مصر 1409ه/ 1989م).

عتريسي: طلال.

390 / البعثات اليسوعية: مهمة إعداد النخبة السياسية في لبنان (ط1، الوكالة العالمية للتوزيع : بيروت - لبنان 1407ه/ 1987م).

العروي: عبد الله.

391 / مفهوم الأيديولوجيا (ط5، المركز الثقافي العربي: بيروت - لبنان 1414ه/ 1993م).

عمر فاخوري.

392 / آراء غربية في مسائل شرقية (ط1، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1375 ه-/ 1955م). العريني: السيد الباز .

393 / الدولة البيزنطية 323 - 1081م. (ط1، دار النهضة العربية: بيروت - لبنان 1403ه-/ 1982 م).

عريني: محمد ياسين.

394/ الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي (ط1، المجلس القومي للثقافة العربية: الرباط - المغرب 1412 ه-/ 1991م).

عزوزي: حسن إدريس.

ص: 847

395 / آليات المنهج الاستشراقي في الدراسات الإسلامية (ط1، المجلس العلمي المحلي: فاس - المغرب 1428 ه- / 2007م).

العسكري: مرتضی.

396 / أحاديث أم المؤمنين عائشة (ط7، كلية أصول الدين : بيروت - لبنان 1425ه-/ 2005م). 397/ عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى (ط6، د. م. 1412ه-/ 1991م).

398/ معالم المدرستين (طه، مکتبة مدبولي: القاهرة - مصر 1414ه-/ 1993م).

العظيم آبادي : أبو الطيب محمد شمس الحق. ت (1329 ه-/ 1911م).

399 / عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415ه- /1995م).

العفاني : سيد حسين.

400 / أعلام وأقزام في ميزان الإسلام (ط1، دار ماجد عيري للطباعة والنشر: جدة - السعودية 1424ه-/2004م).

عفيفي: أحمد.

401/ نحو النص - اتجاه جديد في الدرس النحوي (ط1، مکتبة زهراء الشرق: القاهرة - مصر 1422 ه-/ 2001م).

العقيقي: نجيب.

402/ المستشرقون (ط4، دار المعارف: القاهرة - مصر 1384 ه-/ 1964م).

عناية: عز الدين.

403 / نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم (ط1، دار توبقال الدار البيضاء - المغرب 1432 ه-/ 2010م).

ص: 848

الغزالي: مشتاق بشير.

404 / القرآن الكريم في دراسات المستشرقين: دراسة في تاريخ القرآن: نزوله وتدوينه وجمعه (ط1، دار النفائس: بيروت - لبنان 1429 ه-/ 2008م).

غنمي: السيد سلامة.

405 / محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية (ط1، مطابع الوليد: مصر 1434ه-/

2003م).

- فؤاد کامل.

406 / أعلام الفكر الفلسفي المعاصر (ط1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

فوزي : فاروق عمر .

407/ الاستشراق والتاريخ الإسلامي: القرون الإسلامية الأولى (ط1، دار الأهلية: عمان - بيروت 1419ه-/ 1998م).

القمص سرجيوس.

408/ هل تنبأت التوراة أو الإنجيل عن محمد (د. م. ط، د.ت).

کرم: يوسف.

409/ تاريخ الفلسفة الحديثة (ط5، دار المعارف: القاهرة - مصر 1407ه-/1986م).

كتاني: سلیمان.

410/ الإمام الحسين في حلة البرفير: دراسة أدبية تطهيرية في سيرة الإمام الحسين عليه السلام (ط1، دار الكتاب الإسلامي: قم - إيران 1410ه-/ 1990م).

الكوراني: علي.

411/ جواهر التاريخ (ط1، دار الهدی: قم - إيران 1420 ه-/ 2004م).

ص: 849

الامنس: هنري.

412/ تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار (ط1، دار الرائد: بيروت - لبنان د. ت).

الخضر : شايب.

413/ نبوة محمد في الفكر الاستشراقي المعاصر (ط1، مكتبة العبيكان: الرياض - السعودية 1422 ه-/ 2001م).

الماجد: سعد عبد الله.

414 / موقف المستشرقين من الصحابة (ط1، دار الفضيلة: الرياض - السعودية 1431ه- /2010م).

مالك بن نبي.

415 / إنتاج المستشرقون وأثره في الفكر الإسلامي (ط1، دار الإرشاد: بیروت - لبنان 1388 ه-/ 1969 م).

محمد: إسماعيل علي.

416/ الاستشراق بين الحقيقة والتضليل (ط 3، مصر 1421ه-/ 2000م).

محمد رشید رضا.

317 / تفسير المنار (ط 2، دار المنار: القاهرة - مصر 1366 ه-/ 1947م).

618/ الوحي المحمدي (ط 2، مؤسسة عز الدين: بيروت - لبنان 1406ه-/ 1985م).

المزروع: وفاء عبد الله سليمان.

419/جهاد المسلمين خلف جبال البرتات من القرن الأول الهجري إلى القرن الخامس الهجري (ط1، دار القاهرة: القاهرة - مصر 1424ه-/ 2003م).

المقداد: محمود.

420 / تاريخ الدراسات العربية في فرنسا (طا، عالم المعرفة: الكويت 1412ه- /1992م).

ص: 850

المقدادي: فؤاد کاظم.

421/ الإسلام وشبهات المستشرقين (ط1، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام قم - إيران 1416ه-/ 1995م).

المنجد: صلاح الدين

422/ المستشرقون الألمان تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية. وهو مجموعة دراسات جمعها وأسهم بها المنجد (ط1، دار الكتاب الجديد: بيروت - لبنان 1399 ه- / 1978 م).

الميداني: عبد الرحمن حسن جنكة.

423 / أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستشراق - الاستعمار (ط 8، دار القلم: دمشق - سوريا 1420 ه-/ 2000م).

الناصري: سيد أحمد علي.

424/ تاریخ الامبراطورية الرومانية السياسي والحضاري (ط 2، دار النهضة العربية : القاهرة - مصر 1412 ه-/ 1991 م).

نصري: أحمد.

425 / آراء المستشرقين الفرنسيين في القرآن الكريم (ط1، دار القلم: الرباط - المغرب 1431ه-/ 2009م).

النعيم: عبد الله محمد الأمين.

426/ الاستشراق في السيرة النبوية: دراسة تاريخية لآراء (وات - بروکلان - فلهاوزن) مقارنة بالرؤية الإسلامية (ط1،المعهد العالمي للفكر الإسلامي: القاهرة - مصر 1417ه-/ 1997 م).

النملة: علي إبراهيم الحمد.

ص: 851

427/ المستشرقون والتنصير (ط1، مكتبة التوبة: الرياض - السعودية 1418ه-/ 1998 م).

الهراوي: حسين.

428/ المستشرقون والإسلام (ط1، مطبعة المنار: القاهرة - مصر 1355 ه- / 1936م).

هوفمان: مراد فيلفريد.

429 / رحلة إلى مكة (ط1، مكتبة العبيكان: الرياض - السعودية 1421ه-/ 2001م).

هيكل: محمد حسين.

430/ حياة محمد (ط14، دار المعارف: القاهرة - مصر 1398 ه-/ 1977م).

الوائلي : أحمد.

431 / ديوان الوائلي. شرح وتدقيق: سمير شيخ الأرض (ط1، مؤسسة البلاغ : بيروت - لبنان 1428 ه-/ 2007م).

432 / هوية التشيع (ط4، دار الكتاب الإسلامي: قم - إيران 1429/ 2008م).

الوردي: علي.

433/ وعاظ السلاطين (منشورات دار الحياة.د. م، د.ت).

وزان: عدنان محمد.

434 / الاستشراق والمستشرقون وجهة نظر (ط1، مطبعة رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة - السعودية د. ت).

يحيى مراد.

435 / معجم اسماء المستشرقين (ط1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1425ه-- / 2004م). يوسف الحاج أحمد.

ص: 852

436/ موسوعة الاعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة (ط 2، مكتبة ابن حجر : دمشق - سوريا 1424ه-/ 2003م).

•ثالثا . الكتب المعربة:

آرمستونج: کارین.

437/ محمد. ترجمة: فاطمة نصر ومحمد عناني (ط 2، شركة سطور: القاهرة - مصر 1419ه- / 1998م).

آرنولد: توماس

438/ الدعوة إلى الإسلام. ترجمة وتعليق: حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي (ط1، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1367 ه-/ 1947م).

إدوارد سعيد.

439/ الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ترجمة: محمد عناني (ط 2، دار رؤية: القاهرة - مصر 1427 ه-/ 2006م).

440/ تعقيبات على الاستشراق. ترجمة: صبحي حديدي (ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر : بيروت - لبنان 1417ه-/ 1996م).

أوليري: دي لاسي.

441/ الفكر العربي ومركزه في التاريخ. ترجمة وتعليق: إسماعيل البيطار(ط1، دار الكتاب اللبناني: بيروت - لبنان 1402 ه-/ 1982 م).

أونوره: جان.

442/ مختصر التعليم المسيحي. ترجمة: يوحنا منصور (د. م. ط، د. ت).

بدوي: عبد الرحمن.

ص: 853

443/ دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره. ترجمة: كمال جاد الله (ط1، الدار العالمية للكتب والنشر. د.ت).

بودلي: ر. ف.

444/ الرسول: حياة محمد. ترجمة: محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار (ط1، مکتبة مصر: القاهرة - مصر 1410 ه-/ 1989م).

تشير فيلز: کریستنان.

445 / نابليون والإسلام من الوثائق الفرنسية والعربية. ترجمة: زین نجاتي (ط1، مكتبة الشروق الدولية: القاهرة - مصر 1422 ه-/ 2002م).

بروکلمان: کارل.

446/ تاريخ الشعوب الإسلامية. ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي (ط5، دار العلم للملايين: بيروت - لبنان 1393 ه-/ 1973م).

بوجراند: روبرت دي.

447/ النص والخطاب والإجراء. ترجمة: تمام حسان (ط1، دار عالم الكتب: القاهرة - مصر 1418ه-/ 1998م).

بيترسن: أيلرلنغ ليدوك.

448/ علي ومعاوية في الرواية العربية المبكرة. ترجمة وتقديم: عبد الجبار ناجي (ط1، دار المجتبى: النجف - العراق 1430 ه-/ 2009م).

بيير جوردا.

449 / الرحلة إلى الشرق: رحلة الأدباء الفرنسيين إلى البلاد الإسلامية في القرن التاسععشر. ترجمة وتقديم: مي عبد الكريم وعلي بدر (ط1، دار الأهالي: دمشق - سوريا 1421ه- / 2000م).

ص: 854

جرهارد کونسلمان.

450/ سطوع نجم الشيعة. ترجمة: محمد أبو رحمة (ط 2، مکتبة مدبولي: القاهرة - مصر 114 ه/ 1993م).

جورافسكي: أليسكي.

451 / الإسلام والمسيحية. ترجمة: محمد خلف الجراد، مراجعة: محمود حمدي زقزوق (ط1، عالم المعرفة: الكويت 1417ه-/ 1996م).

ج. ويتلر .

652/ الهرطقة في المسيحية: تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية. ترجمة: جمال سالم (ط 2، دار التنوير : بيروت - لبنان 1432 ه-/ 2010م)

جيبون: إدوارد.

453 / اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. ترجمة: محمد علي أبو درة، مراجعة: أحمد نجيب هاشم (ط 2، الهيئة العامة المصرية للكتاب : القاهرة - مصر 1418ه- / 1997 م).

در منغم: إيميل.

454/ حياة محمد. ترجمة: عادل زعيتر (ط 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر : بيروت - لبنان 1409ه-/ 1988م).

دیکارت: رينيه.

455/ مقال عن المنهج. ترجمة: محمود محمد الخضري، مراجعة: محمد مصطفى حلمي (ط 3، الهيئة العامة المصرية للكتاب : القاهرة - مصر 1406ه/ 1985م).

دیوارنت: ول و ایریل

456 / قصةالحضارة ج 2 / مج2. ترجمة: محمد بدران (ط1، دار الجيل: بيروت -

ص: 855

لبنان 1373 ه-/ 1953م).

457 / قصة الحضارة ج 2 / مج6. ترجمة: عبد الحميد يونس (دار الجيل: بيروت - لبنان د.ت).

دوزي: رينهرت.

458/ المسلمون في الأندلس. ترجمة وتقديم وتعليق : حسن حبشي (1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1415ه-/ 1994م).

دینیه: آتين. ناصر الدين دينيه.

459 / محمد رسول الله . ترجمة: عبد الحليم محمود (ط3، دار المعارف: القاهرة - مصر 1385 ه-/ 1965م).

رودنسون: مكسيم.

460 / جاذبية الإسلام. ترجمة: إلياس مرقص (ط 2، دار التنوير : بيروت - لبنان 1426ه- / 2005م).

461 / الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية ضمن كتاب (تراث الإسلام. تصنيف: جوزيف شاخت وکلیفوردبوزورث. ترجمة: محمد زهير السمهوري وآخرون، عالم المعرفة: الكويت 1406ه-/ 1985م).

رودي بارت.

462/ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية : المستشرقون الألمان منذ تیودور نولدکه. ترجمة: مصطفى ماهر (ط1، دار الكتاب العربي: القاهرة - مصر 1397 ه- / 1976 م).

زماني: محمد حسن.

463 / الاستشراق والدراسات الإسلامية لدى الغربيين. ترجمة: محمد نور الدين (ط1، المركز القومي للترجمة: القاهرة - مصر 1432 ه-/ 2010م).

ص: 856

سزكين: فؤاد.

464/ تاريخ التراث العربي. ترجمة: محمود فهمي حجازي، مراجعة : عرفة مصطفی وسعيد عبد الرحيم (ط1، جامعة محمد بن سعود الإسلامية: الرياض - السعودية 1411ه-/ 1991م).

سمت: جونثان ريلي.

465 / الحملة الصليبية الأولى وفكرة الحروب الصليبية. ترجمة: محمد فتحي الشاعر (ط 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1420 ه-/ 1999م).

سورن: ريتشارد.

466/ صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى. ترجمة وتقديم: رضوان السيد (ط1، دار المدار الإسلامي: بيروت - لبنان 1427 ه-/ 2006م).

سوردیل: دومنيك.

467 / الإسلام في القرون الوسطى. ترجمة: علي المقلد (ط1، دار التنوير : بيروت - لبنان 1428 ه-/ 2007م).

الطيباوي: عبد اللطيف.

468/ المستشرقون الناطقون بالإنجليزية. ترجمة: قاسم السامرائي (ط1، إدارة الثقافة والنشر في جامعة محمد بن سعود: الرياض - السعودية 1411ه-/ 1991م).

عبد الأحد داود.

469 / محمد كما ورد في كتاب اليهود والنصاری. ترجمة: محمد فاروق الزين (ط1، مکتبة العبيكان: الرياض - السعودية 1418ه-/ 1997م).

غولدتسيهر : اغناتس .

470/ العقيدة والشريعة في الإسلام. ترجمة: محمد یوسف موسى (ط1، دار الجمل: بیروت - لبنان 1431 ه-/ 2009م).

ص: 857

فلهوزن: يوليوس.

471/ تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية. ترجمة وتعليق : محمد عبد الهادي أبو ريدة، مراجعة: حسين مؤنس (ط 2، لجنة التأليف والترجمة والنشر: القاهرة - مصر 1388 ه-/ 1968م).

472/ أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام: الخوارج والشيعة. ترجمة: عبد الرحمن بدوي (ط1، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1378 ه-/ 1958م).

فلوتن: فان.

473/ السيطرة العربية والتشيع والمعتقدات المهدية في ظل خلافة بني أمية. ترجمة: إبراهيم بیضون (دار النهضة العربية: بيروت - لبنان 1417ه-/ 1996م).

کارلسون: أنجمار .

474 / الإسلام واوروبا تعایش أم مجابهة. ترجمة: سمير بوتاني (ط 1، صوت اسكندنافيا 1415ه-/ 1996م).

كارليل: توماس .

475/ الأبطال وعبادة البطولة. ترجمة: عبد الرحمن البرقوقي (د. م. ط، د. ت).

476 / محمد المثل الأعلى. ترجمة: محمد السباعي (ط 2، مكتبة الآداب: القاهرة - مصر 1413ه-/ 1993م).

کاهن: كلود.

477/ الإسلام منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية. ترجمة: حسين جواد قبيسي (ط ، المنظمة العربية للترجمةوالنشر : بيروت - لبنان 1432 ه-/ 2010م).

كراتشكوفسكي: اغناطيوس يوليانوفتش.

478/ تاريخ الأدب الجغرافي العربي. ترجمة: صلاح الدين عثان هاشم. مراجعة: إيغور بلیایف (موسكو - لينغراد 1957م).

ص: 858

كبرييلي: فرانشيسكو.

479/ محمد والفتوحات الإسلامية. ترجمة وتعليق: عبد الجبار ناجي (ط1، دار الجمل: بيروت - لبنان 1433 ه-/ 2011م).

کریسون: أندريه.

4680 / روسو: حياته - فلسفته - منتخبات. ترجمة: نبيه صقر (ط4، دار عويدات: بيروت - لبنان 1409ه-/ 1988م).

كوهين: مارك.

481 / بين الهلال والصليب - وضع اليهود في القرون الوسطى. ترجمة: إسلام ديه ومعز خلفاوي، قدم له: صادق جلال العظم (ط1، دار الجمل: بيروت - لبنان 1428ه- / 2007م).

لا مارتين: ألفونسو دي.

482/ مختارات من كتاب رحلة إلى الشرق. ترجمة: جمال شحید و ماري طوق، مراجعة: علي عقلة وإلهام کلاب (ط1، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري: الكويت 1427 ه-/ 2006م).

لنتون: رالف.

483 / شجرة الحضارة. ترجمة: أحمد فخري (ط1، مكتبة الأنجلو المصرية: القاهرة - مصر 1378 ه-/ 1958 م).

لورانس: توماس إدوارد.

484 / أعمدة الحكمة السبعة. ترجمة: محمد نجار (ط1، دار الأهلية: عمان - الأردن 1419ه-/ 1998م).

لوکان: زکاري.

485/ تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط. ترجمة: شريف

ص: 859

يونس (ط1، دار الشروق: القاهرة - مصر 1428 ه-/ 2007م).

ماسنيون: لويس.

486 / آلام الحلاج. ترجمة: الحسين حلاج (ط1، شركة قدمس: بيروت - لبنان 1425ه-/ 2004م). 487/ الإنسان الكامل في الإسلام وأصالته النشورية. ترجمة: عبد الرحمن بدوي. بحث نشر ضمن كتاب: الإنسان الكامل في الإسلام. وهو مجموعة دراسات ونصوص غير منشورة ألف بينها وترجمها وحققها عبد الرحمن بدوي (ط 2، وكالة المطبوعات: الكويت 1397 ه-/ 1976م).

488/ سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران. ترجمة: عبد الرحمن بدوي. بحث نشر ضمن كتاب: شخصيات قلقة في الإسلام. وهو مجموعة بحوث ألف بينها وترجمها عبد الرحمن بدوي (ط 2، دار النهضة العربية: القاهرة - مصر 1384 ه-/ 1964م).

489/ المباهلة بين النبي ونصاری نجران في سنة 10 ه- بالمدينة. ترجمة: عبد الرحمن بدوي. بحث نشر ضمن كتاب الإنسان الكامل في الإسلام.

مانهایم: کارل.

490 / الأيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة. ترجمة: محمد رجاء الديريني (ط1، شركة المكتبات الكويتية: الكويت 1401ه-/ 1980 م).

مستر همفر.

491 / مذكرات مستر همفر الجاسوس البريطاني في البلاد الإسلامية. ترجمة: ج. خ (ط1، د. م. ط 1393 ه-/ 1973م).

موريس بوكاي.

492 / التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. ترجمة: حسن خالد (ط 3، المكتب الإسلامي : بيروت - لبنان 1411ه-/ 1990م).

ص: 860

نایتون: أندريه وآخرون

493 / الاصول الوثنية للمسيحية. ترجمة: سميرة عزمي الزين (ط1، المعهد الدولي للدراسات الإنسانية. د.ت).

نقاش: إسحاق.

494 / شيعة العراق. ترجمة: عبد الإله النعيمي (ط1، دار المدى: دمشق - سوريا 1417ه / 1996م).

نولدکه: تيودور.

495/ تاریخ القرآن. ترجمة: جورج تامر وآخرون (ط1، مؤسسة كونراد: أدناور - ألمانيا 1425ه-/2006م).

هالم: هاینس

496 / الشيعة. ترجمة: محمد کبیبو (ط1، شركة الوراق: بغداد - العراق 1433ه- / 2011م). هوفان: مراد فيلفريد.

497 / الإسلام كبديل. ترجمة: غریب محمد غريب (ط 2، مکتبة العبيكان: الرياض - السعودية 1417ه/ 1997م).

498 / الإسلام في الألفية الثالثة - ديانة في صعود. ترجمة: عادل المعلم وياسين إبراهيم (ط1، مكتبة الشروق: القاهرة - مصر 1421 ه-/ 2000م).

ولفنستون: إسرائيل زئيف.

499 / كعب الأحبار ودراسة للأثر اليهودي في الحديث النبوي والتفسير. ترجمة: لويس صليبيا (ط 2، دار ومكتبة بيبليون: بیرت - لبنان 1433ه-/ 2011م).

هاراب: جورج.

500 / الموجز في تاريخ الكشف الجغرافي. ترجمة: عبد العزيز طريح شرف (ط1، مؤسسة

ص: 861

الثقافة الجامعية : الاسكندرية - مصر 1414ه-/ 1993م).

هانتیجتون: صموئيل.

501/ الإسلام والغرب أفق الصدام. ترجمة: مجدي شرشر (ط1، مکتبة مدبولي: القاهرة - مصر 1415ه-/ 1995م).

هاینس: هالم.

502/ الشيعة. ترجمة: محمود کبيبو (ط1، دار الوراق للنشر: بغداد - العراق، 1433ه-/ 2011م). هورفتس: يوسف.

503/ المغازي الاولى ومؤلفوها. ترجمة: حسين نصار (ط1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده: القاهرة - مصر 1369 ه-/ 1949م).

هيلين أيليربي.

504 / الجانب المظلم في التاريخ المسيحي. ترجمة وتقديم: سهیل زکار (ط1، دار قتيبة : دمشق - سوريا 1426 ه-/ 2005م).

هورنان: فريدريك.

505/ الرحلة من القاهرة إلى مرزق عاصمة فزان عام 1797 م. ترجمة: مصطفی محمد جودة (ط1، مكتبة الفرجاني : طرابلس - ليبيا 1388 ه-/ 1968م).

هو کس: ديفيد.

506 / الأيديولوجية. ترجمة: إبراهيم فتحي (ط1، المجلس الأعلى للثقافة 1421 ه- /2000م).

هارت: مایکل.

507/ المائة: تقویم لأعظم الناس أثر في التاريخ. ترجمة: أنيس منصور (ط1، المكتب المصري الحديث: القاهرة - مصر د.ت).

ص: 862

هنري دي كاستري.

508/ الإسلام: خواطر وسوانح. ترجمة: أحمد فتحي زغلول، قدم له وعلق عليه: محمود النجيري (ط1، مكتبة النافذة: القاهرة - مصر 1429 ه-/ 2008م).

هیم ماكبي

509/ بولس و تحريف المسيحية. ترجمة: سميرة عزمي الزين (ط1، مشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية 1411ه-/ 1990 م).

وات: مونتغمري.

510/ الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر. ترجمة: عبد الرحمن الشيخ (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1419ه/ 1998 م).

511/ فضل الإسلام على الحضارة الغربية. ترجمة: حسين أحمد امين (ط1، مکتبة مدبولي: القاهرة - مصر 1403ه/ 1983م).

512 / القضاء والقدر في فجر الإسلام وضحاه: القرون الثلاثة الأولى. ترجمة: عبد الرحمن عبد الله الشيخ (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب : القاهرة - مصر 1419ه-/ 1998م).

513/ محمد في المدينة. ترجمة: شعبان برکات (ط1، المكتبة العصرية: بيروت - لبنان د.ت).

514/ محمد في مكة. ترجمة: عبد الرحمن الشيخ وحسين عیسی (ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب: القاهرة - مصر 1423 ه-/ 2002م).

ولفنستون: إسرائيل

515 / تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. ترجمة: لجنة التأليف والترجمة والنشر (ط1، مطبعة الاعتماد: القاهرة - مصر 1345 ه-/ 1927م).

هونکه: زغرید.

516/ شمس الله تسطع على الغرب: اثر الحضارة العربية في أوروبا. ترجمة: فاروق بيضون وكال دسوقي، راجعه ووضع حواشيه: مارون عيسى الخوري (ط8، دار الجيل ودار الآفاق

ص: 863

الجديدة: بيروت - لبنان 1413ه-/ 1993م).

یان ریشار .

517 / الإسلام الشيعي: عقائد وأيديولوجيات. ترجمة: حافظ الجمالي (ط1، دار عطية : بيروت - لبنان1417ه-/ 1996م).

يوهان فوك.

518 / تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بدايات القرن العشرين. ترجمة: عمر لطفي العالم (ط 2، دار المدار الإسلامي: بیروت ۔ لبنان 1422 ه-/ 2001م).

• رابعا - البحوث والمقالات

- أصطيف: عبد النبي.

519/ نحو استشراق جديد. مقال منشور في مجلة الاجتهاد الصادرة عن: دار الاجتهاد بيروت - لبنان (عدد 50/ السنة الثالثة عشرة 1422 ه-/ 2001م).

- الأعسم: عبد الأمير.

520 / الاستشراق من منظور فلسفي عربي معاصر. مقال في مجلة الاستشراق الصادرة عن: دار الشؤون الثقافية العامة: بغداد - العراق (العدد الأول / 1408ه-/ 1987م).

التهامي: نقرة.

521 / القرآن والمستشرقون. بحث في كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية. (ط1، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: تونس ومكتب التربية العربي الدول الخليج د.ت). - توتل: فردینان.

ص: 864

522/ الأب هنري لامنس. مقال في مجلة المشرق الكاثوليكية: بيروت - لبنان (السنة 35/ العدد 19 / نیسان - حزيران 1937م).

حسين: كامل يوسف.

523 / خصائص النص الاستشراق في وضعية النزاع: ملاحظات أولية حول سجال برنارد لویس وإدوارد سعید. مقال في مجلة الاستشراق الصادرة عن:دار الشؤون الثقافية العامة : بغداد - العراق (العدد الثاني / 1408ه-/ 1987م).

حماد: أحمد زكي.

526 / نظرات في جهود ترجمة معاني القرآن الكريم للغة الإنجليزية أنموذجا. بحث منشور في أعمال المؤتمر العالمي الأول للباحثين في القرآن الكريم وعلومه التي نشرت تحت عنوان : جهود الأمة في خدمة القرآن الكريم وعلومه: فاس - المغرب 1432 ه-/ 2011م).

خليل: عماد الدين.

525 / المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات. نشر في كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية. (ط1، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: تونس ومكتب التربية العربي لدول الخليج د. ت).

داینتکسي: يانوش.

526 / الاستشراق بين الشرق والغرب. ترجمة: عدنان المبارك. مقال في مجلة الاستشراق الصادرة عن: دار الشؤون الثقافية العامة: بغداد - العراق (العدد الأول / السنة الأولى : 1408 ه-/1987م)

الشاهد: محمد.

527/ الاستشراق ومنهجية النقد عن المسلمين المعاصرين. مقال في مجلة الاجتهاد الصادرة عن: دار الاجتهاد: بيروت - لبنان (عدد 22 / السنة السادسة: 1414 ه-/ 1994م).

علي: رائد.

528 / الإمام الحسين وعاشوراء من وجهة نظر المستشرقين. قراءة في رسالة جامعية نشرت

ص: 865

في مجلة رسالة الحسين الصادرة عن: دار القرآن الكريم في العتبة الحسينية المقدسة (العدد

الخامس / السنة الثانية 1432 ه-/ 2011م).

عمر فروخ.

529 / المستشرقون ما لهم وما عليهم. مقال في مجلة الاستشراق الصادرة عن: دار الشؤون الثقافية العامة: بغداد - العراق (العدد الأول / السنة الأولى: 1408ه-/ 1987م).

فرحات: عبد الحكيم.

530 / نبوة محمد في الاستشراق الفرنسي المعاصر «جاكلين شابي أنموذجا». بحث مقدم للمؤتمر الدولي «نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله» الذي أقامته الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها: الرياض - السعودية بتاريخ (2 -2010/10/4 م).

مختار: أديب.

531 / الشعائر الحسينية في كتاب أمريكي. مقال في مجلة رسالة الحسين الصادرة عن: دار القرآن الكريم في العتبة الحسينية المقدسة (العدد الخامس / السنة الثانية 1432 ه- / 2011م).

532 / دلیل دار المشرق لعام (1434ه-/ 2012م).

• خامسا . الرسائل والأطاريح الجامعية:

- البوهلالة: حسين نعمة.

533 / أنصار الإمام الحسين من غير الهاشميين. رسالة ماجستير. كلية الآداب - جامعة البصرة (1430 ه-/ 2009م).

الزهراني : علي محمد سعيد.

536 / الحياة العلمية في صقلية الإسلامية 212 - 484 ه- / 826 - 1091م. اطروحة

ص: 866

دكتوراه منشوره (ط1، مركز بحوث العلوم الاجتماعية جامعة أم القرى: مكة المكرمة - السعودية 1417ه/ 1996م).

العليلي: حيدر مجيد.

535 / الوحي والقرآن والنبوة في رؤية المستشرق البريطاني ولیم میور. أطروحة دكتوراه غير منشورة: جامعة البصرة - كلية التربية للعلوم الإنسانية (1435ه-/ 2014م).

العواد: انتصار عدنان عبد الواحد.

536 / السيدة فاطمة الزهراء دراسة تاريخية. رسالة ماجستير. كلية الآداب - جامعة البصرة (1428 ه-/ 2007م).

النصر الله: جواد کاظم منشد.

537 / شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد - رؤية اعتزاليه عن الإمام علي علیه السلام. أطروحة دكتوراه منشورة (ط1، مکتبة ذوي القربی: قم - إيران، 1425ه-/2004م).

نور: نصير أحمد.

538 / شركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند (1009 - 1273 ه/ 1900 - 1857م). أطروحة دكتوراه غير منشورة. جامعة أم القرى / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية / قسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية (1411ه-/ 1991م).

• سادسا. الكتب الأجنبية :

-Lammens: Henri .

539 - Fatima et less Filles de Mahomet: Notes critiques pour L'etude dela Sira. Romae 1912.

ص: 867

540 - Islam Beliefs and Institutions, Translated from the French by: Sir E. Denison Ross. First published , London 1929

541 - Le Berceau de Islam L'A rabie Occidentale A La Veille de L'Hegire Le Climat Les Bedouins. Romae 1914.

سابعا-الدوریات الأجنبیة: •

-Bekker: Karl Heinrich

542 - Prinzipielles zu Lammens Sirastudien. in Der Islam Zeitschrift fur Geschichte und Kultur des Islamischen Orients. Strassburg, 1913 .

-Demombyns: Gaudefroy

Nouvelles archeologiques in Syria. Tome 19 -543 - Le. P. H. Lammens (1862 - 1937) in

Fascicule 1, 1938.

K. S. Salibi :

544 - Islam and Syria in the writings of Henri Lammens. In Historians of the MiddleEast, ed. B. Lewis and P. M. Holt. (London: Oxford University Press, 1964).

-Lammens: Henri .

546 - A propos de Ali ibn Abi Talib in Melanges de la faculte

ص: 868

Orientale. Universite Saint Joseph. 1911 - 1921 .

547 - Etudes sur le regne du Calife Omaiyade Moawia Ler. In Melanges de la faculte Orientale. Universite Saint - Joseph Beyrouth (Syria) 1906 - 1908 .

548 - L'age de Mahomet et La Chronologie de La Sira Journal Asiatique. Paris. 1911

549 - Qoran et Tradition Comment Fut compose La vie de Mahomet, Extrait des: Recherches de Science religieuse, Paris. 1910 .

550 - Mahomet fut - il sincere ?. ,Extrait des:Recherches de Science religieuse, Paris. 1911 .

551 - Le Triumvirat Abo Bakr, Omar, Abo Obaida.in Melanges de la faculte Orientale. Universite Saint - Joseph Beyrouth (Syria) 1910

552 - Le califat de Yazid Ler in Melanges de la faculte Orientale. Universite Saint - Joseph Beyrouth (Syria)1910 - 1922.

553 - Al - Hasan. in: Encyclopaedia of Islam. v III. First edution. E. J. Brill's, Leiden. 1913 - 1936 .

554 - Al - Husain in: Encyclopaedia of Islam. v III. First edution.E. J. Brill's, Leiden. 1913 - 1936.

-Noldeke: Theodor.

ص: 869

555 - Die Tradition Über das Leben Muhammeds. in Der Islam Zeitschrift fur Gesch - - ichte und Kultur des Islamischen Orients. Strassburg. 1914

556 - Kleine Mitteilungen und Anzeigen. in Der IslamZeitschrift fur Geschichte und Kultur des Islamischen Orients. Strassburg, 1914.

•ثامنا-شبکة الانترنت:

-Stijn Knuts:

557 - Lammens, Henri, Jesuit and historian of Islam. http://www.kaowarsom. be/nl/ notices_Lammens_Henri .

ص: 870

المحتويات

مقدمة المركز ...9

تقریظ ...11

المقدمة وتحليل المصادر ...17

الفصل الأول

الاستشراق وصور المغايرة

مدخل ...41

1- المعنى وتحديد الهوية .. الاستشراق في الفكر الغربي ...46

2 - الاستشراق في الفكر العربي ...58

3- الاستجابة والتاهي.. أطر انتاج الخطاب...60

أولا الإطار النفسي: البحث عن الذات والرغبة في معرفة الآخر...61

ثانيا - الإطار التاريخي: علاقة الغرب بالشرق ...62

ثالثا الإطار الاقتصادي: الكشوف الجغرافية والبحث عن الأسواق...66

رابعا – الإطار الاستعماري: توظيف المعرفة والخبرة الاستشراقية ...68

خامسا – الإطار الأيديولوجي: هيمنة الخطاب ...70

ص: 871

سادسا – الإطار العلمي: الحاجة للمعرفة...72

سابعا - الإطار الديني: العقيدة مرتكز أساس لتوجيه الخطاب ...75

4 - التأسيس الأكاديمي والتحول...87

الاستشراق الحديث ...91

5- نبذ المصطلح وجدلية البقاء والانتهاء...94

6 - صورة الخطاب الإعلامي والصحافي...96

7- صورة التمثيل والتماثل ...99

الفصل الثاني

الخطاب واسقاطات التبشير

مدخل ...103

1- البعثات اليسوعية.. لقاء التبشير والاستعمار والاستشراق ...106

2- هنري Lammens المبشر اليسوعي والمستشرق...116

3- نتاج Lammens الاستشراقي...119

4 - مصادر Lammens البحثية...136

5 - آليات تعامل Lammens مع النصوص ...152

أولا - آلية الاسقاط والمقابلة...155

ثانيا - آلية قسر المفاهيم المعنوية للخضوع للمدركاتالعقلية والحسية ...158

ثالثا - آلية الالغاء والتفسير المادي للأحداث ...161

رابعا - آلية العكس وقلب النصوص163

خامسا - آلية الأثر والتأثر...164

ص: 872

سادسا - آلية النفي والتكذيب... 167

سابعا – آلية الانتقاء وتصيد النصوص...168

6- دراساته السيرية في موازين نقد المختصين والباحثين...171

7- آراء Lammens بين التبني والرفض...191

الفصل الثالث

تقويض صورة النبي المثال

مدخل...203

1- خلخلة الأساس التدويني للسيرة...212

2 - الصفات الجسمانية : خيال الرواية وتوظيف الخطاب ...238

3- تسمية النبي: المغالطة والقصد....233

4 - عمر النبي: تأكيد النص وفرضية الخطاب ...238

5 - الأبوة: دعوى الأمنية العقيمة...244

6 - النبي الأمي : واقع النص والفهم المغاير ...265

7 - النبي الأكول: كذب صریحوامتهان فاضح...270

8- أحداث السيرة: التاريخانية ودعوى الافتعال ...278

9 - الصادق الأمين: النص وتأويل الخطاب...283

10 - النبوة والوحي: الاعتراف الخطير...299

11 - القرآن الكريم: الاعجاز والتجربة البشرية...308

12 - دعوى الانتحال من اليهودية والمسيحية...314

13 - الدعوة الإسلامية: المغامرة والظروف ...324

ص: 873

14 - من محمد النبي إلى محمد الملك...329

15 - بين الإقليمية والعالمية: تدرج النبوة...336

16 - بين السياسي والديني: تحولات مسار النبوة...345

17 - وفاة النبي - مقالات القرون الوسطى من جديد...357

الفصل الرابع

تقويض صورة المرأة المثال

مدخل...363

1- القيمة والمكانة في التدوين.. تلاعب الخطاب...367

2 - الصفات الجسمانية .. استهداف شكل المثال...380

3- الحزن والبكاء.. الواقع والتهويل ...397

4 - الأسرة المثال .. العلاقة وصياغة الخطاب...403

5 - صورة المرأة الولودوإقصاء الخطاب...453

6 - فاطمة عليها السلام وعائشة: تحيز النص وتقرير الخطاب ...463

7 - الأيام الأخيرة.. مصادرة المواقف ...474

الفصل الخامس

تقويض صورة البطل والحاكم المثال

مدخل ...487

1- الصفات الجسمانية: تشويه الوعي بصورة البطل... 496

2 - البيئة الأسرية: المنطق والنص ومخالفة الخطاب...508

ص: 874

3- الهجرة والجهاد: تغييب النص ونفي الخطاب ...529

4 - العلاقة بين الرجل والمرأة المثال: صناعةالنص والخطاب...551

5 - شخصيةالمثال: تقييم المعاصرين وانتقاء الخطاب...555

6 - ضرب الترابط بين النبوة والإمامة ...569

7- أعلمية المثال: النص وتعامل الخطاب...589

الفصل السادس

تقويض صورة الخليفة والقائد المثال

مدخل...617

1 - النبي والحسنان: النص ومغالطة الخطاب...621

2- عدم الذكاء والشهوانية: قصدية النص وانتاج الخطاب...632

3 - العلاقة مع الإمام علي: افتعال النص وتفسير الخطاب...650

4 - وقف القتال مع معاوية: ضرورة الظروف ومجانبة الخطاب...658

5-نقض الشروط: تبرير النص ومتابعة الخطاب ...677

6- شهادة الإمام: صورة النص وصورة الخطاب ...687

الفصل السابع

تقويض صورة الثائر والمضحي المثال

مدخل...695

1- رحلة الشهادة .. دلالة النص وتزوير الخطاب ... 704

2- حقيقة الثورة.. إيهام النص وتضليل الخطاب ...712

ص: 875

3- کربلاء:.. فرادة البطولة و عکس الخطاب...739

4 - کربلاء.. صراع المبادئ وتسويف الخطاب...744

5 - المعركة.. منطق النص وقراءة الخطاب ...756

6 - نتائج الصراع وتقييم الخطاب...768

7- حمل الرؤوس.. التزاحم والإزاحة ...777

الخاتمة ...789

قائمة المصادر والمراجع...799

المحتويات ...871

ص: 876

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.