المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف فلسفة الغيبة وحتمية الظهور

اشارة

المهدي المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)

فلسفة الغيبة وحتمية الظهور

تأليف: إدريس هاني

منشورات مؤسسه الاعلمی للمطبوعات

بيروت - لبنان

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

المهدي المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)

فلسفة الغيبة وحتمية الظهور

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

المهدي المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)

فلسفة الغيبة وحتمية الظهور

تأليف: إدريس هاني

منشورات مؤسسه الاعلمی للمطبوعات

بيروت - لبنان

ص: 4

إهداء

حتى لا يخفي شعاع حقیقتك الوضاءة حجاب منکر

ولا يتقمصها منك مسرف ظالم

إليك : بقية الله الحجة بن الحسن..

كلما هنا فؤاد جريح وانسابت دموع حری..

ونادينا بلا كلل :

الغوث الغوث، العجل العجل ..

یا غیب الله المستور ..

ابن الآية الكبرى والكوثر الممدود ..

بكم فتح الله وبکم سیختم..

سفينة نوح وباب حطة..

ما خاب من تمسك بكم سادتي ..

ص: 5

إليك فقد ضاق الحال واشتدت المحن وفسد العالم..

إليك مني هذا القليل روحي لتراب مقدمك الفدا ..

ص: 6

تقديم

ليس الغرض من هذا العمل إحراز كفاية النظر واستقصاء منتهی الخبر عن أحوال الموعود في الشرائع الدينية، ذلك الذي يسمى في تراثنا الروائي بالمهدي المنتظر . فالحديث بحسب تلك المستندات عن المهدي وأحوال ظهوره وما يسبقه من أحداث وما يعقبه من مصائر الخلق، مما لا يسعه أسفار بكاملها . وقد صنف في ذلك منذ قرون وحتى اليوم ما يغني اللبيب ويقدح لوعة المشتاق ويشفي عطاش الحیاری. غير أن لهذا الكتاب غاية اُخرى ومقصد مختلف، غير البحث الروائي - وإن عاقرناه قليلاً ها هنا نزولا عند ضرورات البحث - يتعلق بالأبعاد الفلسفية للغيبة والظهور معاً. وحيث أن الحديث عن المهدي يفرض في العادة وقوفاً عند جملة من الاستشكالات التي تتعلق بحقيقة الموعود وغيبته وظهوره - استشكالات تتوجه إلى المدارك الروائية التي تسند هذا الاعتقاد والفصول التاريخية التي شكلت شرطا للغيبة - كان لا بد من قرع هذا

ص: 7

الباب. وذلك خلال مجمل الأبحاث التي يضمها هذا الكتاب. لذا ، وفي هذا المدخل العام أقول:

لم تقتصر حركة التزييف الكبرى على حقائق التاريخ فحسب . بل إنها لا زالت مصرة على التصرف في حقائق المستقبل أيضا. وهذا واضح، إن لم نقل هو الحتمية الطبيعية لإرادة الاعتقاد حسب الشروط السياسية المتعسفة لا حسب الحقائق والتعاليم الوحيانية المقررة. فحينما فسدت السياسة في تاريخنا لم يعد الأمر محصوراً ها هنا فحسب، بل تعدى الأمر ليفسد التاريخ والجغرافيا والضمير والعلم والدين والحاضر والمستقبل. وقد كانت حقيقة المهدي المنتظر من أخطر أشكال الحقائق التي تعرضت لتزييف التاريخ والجغرافيا والحاضر والمستقبل والدين ... فمع أنهم حاولوا جهدهم نسف هذا الاعتقاد وبلبلته بتحشية النصوص بما لا يصح منها لغرض تشويه مقاصدها والتشويش على حقيقتها عبثاً، وبعد أن حاولوا في مرحلة أخرى نكرانها من أصلها، قاموا في لحظات تاريخية أخرى بحرفها عن مصداقها بادعائها زورا وبهتانا . هكذا جعلوها قضية عائمة في المستقبل بعد أن كانت قضية تاريخية ممتدة وشاهدة على كل العصور. كذلك حرفوا شجرة نسبها من خصوص الطالبيين إلى آل العباس تحت سطوة الحكم العباسي. لم تكن تلك هي أولى أشكال التحريف التي قامت بها السلطة العباسية بخصوص

ص: 8

حقائق التاريخ في سباق الانقلاب غير الشريف الذي قام به العباسيون ضد العلويين بعد أن سعوا إلى إبادتهم وتقمص ما كان حقا لآل البيت علیهم السلام- لسنا في وارد التفصيل في هذه المسألة - وكذلك حرفوا جغرافيا الظهور وتاريخه، فوقتوا حيث نهوا عن ذلك، وجعلوا ظهوره من المغرب حيث صح ظهوره من المشرق.

إن ظاهرة ادعاء المهدوية عبر العصور ومزاعم الكثير من المهدويين المزيفين، لهو - عكس ما يتراءى للبعض - أكبر دليل على ارتكازها في وجدان المسلمين. بل إن وجودها قبل الإسلام وبعده وفي كل الأديان وحتى عند غير أهل الأديان لهو آية على أنها مما ركز في وجدان كل البشر. وما ادعاء بعضهم لها ونسبته إياها إلى شخصه زوراً إلا لما كانت تحمله من مضمون يلتقي بالقلوب والعقول بشرط الدين أو لا بشرط المقسمي، في منطقة القناعة الكبرى بالمستقبل الأفضل. فالذين يشككون في بعض العقائد لمجرد وجودها في متون الأديان الأخرى واهمون ومسرفون. فالله يوجد عند جميع الأديان وحتى في الأساطير الغابرة. وهذا أكبر دليل على وجوده.

وقد تعرضت قضية المهدي التي تمنح الدین جدوى الاستمرارية ومعنى الخلود في دنيا النوع إلى الكثير من أشكال التعسف. حتى أن البعض حاول اختزالها في مدرسة دينية دون اُخرى ومذهب إسلامي

ص: 9

دون آخر عبثا. وكان أحرى أن تكون حقيقة المهدي هي القاعدة المشتركة التي تلتقي عندها كافة الأديان . بل القاعدة التي تقارب بين المسلمين وتمنح لوحدتهم المستقبلية معنى زاخراً بالأمل بعد كل هذا الانسداد في العقل وبعد كل هذا التشاؤم في القلب . ومن المؤسف جدّاً أن سعى البعض لحصرها في الاعتقاد الشيعي في محاولة متعسفة لا تنطلق من أصول علمية يسندها عقل أو نقل سوى حالة مزاجية في الاعتقاد وخفة جزافية في كیل الأحكام. وقد يجد أدنى مطلع على ما ورد في مصادر المسلمين من أهل السنة ما يعضد هذه الحقيقة بما يتفق مع ما ورد في مصادر المسلمين من الشيعة . وقد قام كثير من أعلام العقيدة والحديث من أهل السنة لدحض شبهات المنکرین لها وكذلك لدحض أدلة المدعين لها بردها إلى مصداقها . ومن هؤلاء المثبتين لها من كان على مذاهب في الفقه والاعتقاد على خصومة مع الشيعة والتشيع شديدة . وهم في ذلك لم يحققوا المراد کاملا، لكنهم على الأقل، أثبتوا حقيقتها ونقضوا المصداق المزعوم لمدعي المهدوية زوراً، صارفاً إياها عن مصداقها الأعظم في هذا الزمان أو ذاك. وقد رأى البعض في ظاهرة ادعاء المهدوية ذريعة للتشكيك في موضوعيتها وركوب ذلك دليلا على بطلانها . وهو من أغرب البراهين التي استند إليها هولاء وأخسها في معيار العلم. إن التاريخ بالفعل شهد ادعاءات أفظع من ذلك بكثير. فعظمة النبوة

ص: 10

ورسوخها لم يمنع من ادعائها من قبل الكثير من الأشخاص في الماضي والحاضر . ولم يكن ذلك دليلا على بطلان النبوة . كما أن كثيرا ممن اختلطت عندهم المفاهيم والعقائد اعتبروها مما يزاحم أو يناقض مبدأ الخاتمية. في حين كان أحرى أن يدركوا أن الخاتمية هي من يمنح المهدويةعنفوانها . لقد تخللت الفترات بين الرسل مهدویات وحجج ووصايا . وهي في الخاتمية أولى لطول ما بعدها وانتفاء الفترات. فاستمرارية اللطف تؤكد على ضرورتها . وثبوت العدل الإلهي يؤكد على ذلك. فالحجة وجب لها أن تدوم ما دام النوع واستمر . ولا حدود للحجة دفعاً لمزاعم من رأى في فكرة الرشد ما يغني اللاحقين عن الحجج. فلكل زمان مطالبه وحاجاته إلى الحجج. وكم من حجة يطلبها الناس في زمان الخاتمية وتتأكد الحاجة إليها بموجب من اللطف أكبر من السابق .

فهل من اللطف أن ترفع الحجج عن الأرض. وهل من اللطف والعدل أن تترك البشرية سدی؟!

وثمة من سعی ولا يزال إلى إنكار هذه الحقيقة وادعاء بطلانها . وقد اتضح أن المنکرین لها من القدامى أو المحدثین، عادة ما يقعون في مأزق مخالفة صريح الأخبار الصحيحة الدالة على حقيقة المهدي. وكان المنكر لها دائما يواجه السنة قبل أن يواجه الشيعة . هكذا نجد أن الموقف نفسه الذي واجه به الشيخ الألباني منکري

ص: 11

المهدي وقبله فعل الأمر نفسه ابن حجر الهيثمي هو نفسه موقف الشيعة من منکریها . فالمشترك بين ردود السنة على من أنكرها وبين الشيعة، واحد من حيث أن المنكر لا يأبه بالدليل ويتجني على الصحيح والمعتبر من السنة .

لقد وقفنا على مزاعم وادعاء من تكلف نکران حقيقة المهدي، فوجدنا أنها أشبه بحالة من يرجم بالغيب ولا تعدو كونها ادعاء لا ينطلق من تحقيق فيأصل هذا الاعتقاد ولا استقصاء لمدارکه . فهم اذ يزعمون أنها غير موجودة سرعان ما يجدون أنفسهم في مواجهة سيل من الأخبار في مجاميع المسلمين غير قابلة للنكران إلا لمن غامر بنكران السنة رأساً. وهم إن حكموا عليها بالضعف والوضع سرعان ما يجدون أنفسهم أمام سيل من الأخبار تتمتع بالصحة وشروطها لا يردها إلا من هو على أتم الاستعداد لإنكار الصحيح من الأخبار والمعتبر من السنن. وهكذا بات المنكر لها ولصحة الروايات المثبتة لها في وضعية من التخبط والحيرة والتحايل على المطلب . ليتبين أن المسألة في خلفيتها تتعلق بموقف من أصل الغيب لا من فرع الغيبة. إن الوقوف على أخبار ضعيفة وموضوعة عن المهدي وأحواله ليست دليلا عند من أدرك علم الحديث على بطلان هذه الحقيقة. إننا لو استوعبنا الدرس الفقهي وعلم الحديث، سنجد أن لا وجود لباب من أبواب الفروع أو الأصول نجا من حضور

ص: 12

الضعيف. لكن المحدثين والفقهاء لا يقيمون لاعتقادهم ولا فتواهم على الضعيف - مع وجود استثناء فيمن رأى العمل بالضعيف في الفروع عند غياب الدلیل، مقدماً على جريان القياس كما هو رأي بعض الحنابلة، وهذا ليس موضوع بحثنا .. سوف تواجه من باب الطهارة إلى باب الديات، سيلا من الأخبار الضعيفة إلى جانب الأخبار الصحيحة. وهذا في الأصول والآداب والسنن أكثر. إن وجود أخبار ضعيفة حول المهدي لا يحجب جملة الأخبار الصحيحة حوله أيضا . بل شأنها شأن الكثير من الأخبار يجري على بعضها الصحيح والضعيف بتقسيماتهما المقررة في علم الدراية . فالأخبارالضعيفة لم تترك مجالا لم تقتحمه بما في ذلك الحديث القدسي وحتى الأخبار المتعلقة بسيرة النبي صلی الله علیه وآله وسلم وأحوال الملائكة . فلماذا یراد فقط للأخبار الدالة على وجود وأحوال المهدي أن تستثنی من التلبس بهذه الظاهرة. ولماذا يراد للناس أن يستغنوا عن هذا الاعتقاد المجرد وجود أخبار ضعيفة إلى جانب أخرى صحيحة. وأما ادعاء انحصار أخبار المهدي في المذهب الشيعي فهذا كلام ساذج. بل، اعلم أن علماء الشيعة يستطيعون تضعيف الكثير من أخبار المهدي بما فيها تلك التي تلتقي مع اعتقادهم، كما فعلوا بالكثير من الأخبار الواردة في مجاميع الفريقين. إن للصحيح والضعيف موازین علمية عند القوم هي المعول عليها في القبول والرفض .

ص: 13

وقد لفت انتباهي موقف صادر من قبل كاتب عراقي مشهور بلقب أحمد الكاتب، يشكك في أخبار المهدي . فسلك مسلك الخصوم وتبني تعليلاتهم في المقام. وكان الأمر أدعى للأسف. فهب أن من أنكر ذلك من المنکرین من خارج المدرسة الإمامية لم تصلهم أدلة وافرة لتنزل هذه العقيدة منزلة العارض غير الأصيل في مذاهبها ، لكن كيف نعذر من فاضت أمامه الأدلة وتكاثرت. مستند الكاتب الوحيد - إذا تفادينا باقي انشائياته التي لا ترد دليلاً ثابتاً ولا تدفع قرائن صادحة - أنها ضعيفة. وليست تلك فكرة جديدة . بل هي مما تردد وتم الرد عليه لولا أن الكاتب فضل الإغضاء عن كل ردود الإمامية قديما وحديثا، والاكتفاء بموقف يتعاطى مع المسألة كما لو كان ذاك الرفض ابتكاراً جديداً فاضت به عبقرية الكاتب. لم يحقق الكاتب في كل الروايات. هذا فضلا عن أن تحقيقه لم يكن ممهوراً بتفنن درائي في الحديث.وأقصد بالمهارة في الحديث أن لا تكتفي حتى في مقام الخبر الضعيف برده لمجرد وجود مجروح في السند . فثمة مذاقات تجعل الدرائي الحقيقي يصحح الضعيف نفسه متی قامت قرائن أخرى على ذلك أو النظر إليه عبر أسانيد وطرق أخرى سواء بالتركيب السندي أو ما يثبت بشامة المحدث المقارناتية . إن علم الحديث لا يمنح العالم طرقاً وقواعد لمعالجة مختلف الحديث وتدبير التعارض وتطبيق الجرح والتعديل على رجالات السند

ص: 14

فحسب، بل تمنحه احترافية وشامة لتحليل الخطاب وتفكيك المتن، تجعله يدرك عبر سلسلة من القرائن الظاهرة والخفية إذا ما كان هذا حقا كلاما للمعصوم أو لا. وقد اكتفى الكاتب بالطريقة السهلة : انتقاء أو على الأقل نقول، هو استقصاء ناقص للأخبار من مظانها المعتبرة - وهذا يكفي لسلب صفة الاجتهاد عن طريقته. لأنه ليس فيها شيء معتبر من بذل الوسع في الاستقصاء والتسلط على المظان، فضلا عن بذل الوسع في تدبير مختلف الحديث واستدعاء القرائن المتصلة والمنفصلة المسندة للجمع العرفي والتراجيح في مقام التعارض بين الأدلة - ثم عرض أسانيدها على فهارس الرجاليين . فيلاحظ تجريح هذا أو ذاك. ثم النتيجة : حديث مردود وفي النهاية ، الحكم: لا أصل للمهدي !؟

هذه ليست طريقة محترفة في معالجة الأخبار . بل إنها عملية يستطيع أن يقوم بها أي شخص مهما تدنت دربته في الدراية . لكن أين هو التفنن الدرائي في كل ذلك؟!

لقد غاب عن الكاتب الكثير من الأدلة . حتى أنه بات يتعاطى مع الأخباربلسان الكم لا النوع. أي حتى مع توفر حديث صحيح يطلب المزيد - فيما لاحظنا عبر نقاشاته - كما لو أن الخبر لا يتواتر في طبقات رواته بل في طرائق روايته . فالمتواتر الذي لم تتكاثر طرقه هو عند الكاتب بمثابة الأحاد، في خلط وذهول عجيبين. وكنت قد

ص: 15

كتبت قبل سنوات على نحو الاستعجال كتابة رددت فيه على الكاتب أسميته: «من الشك إلى الشك».وذلك بعد أن قرأت كتابه وتأملته فوجدته لا يقوى على رد حقيقة المهدي بقدر قدرته على التشكيك فيها. فاعتبرت أن شکه هذا لم ينته إلى يقين . بل بدا لي شكلاً من التحول من شك إلى شك آخر. فمنهجه قابل أن يطبق على كل حقائق الغيب الثابتة في الكتاب والسنة. وهي قابلة أن تحدث الضجيج نفسه. لكنني وبعد سنوات من صدور هذا الكتاب وجدت بالصدفة تعقيبا من أحمد الكاتب على كتابي ذاك . مما جعلني أدخل في حوار مفصل معه، وهو ما سيشكل كتاباً منفرداً هو حتى كتابة هذه السطور تحت الطبع.

ومع أن الأخبار دالة على نحو صریح لا يحتمل التأويل بخلاف ظاهر الروايات الآبية عن الرد لتواترها وصحة بعض من طرقها وأسانيدها المتنوعة، إلا أن ثمة من شط به القلم للحديث عن حقيقتها بكثير من التهوين وكثير من البجاحة في مخالفة المراد. وكما سعى الكثير من هؤلاء إلى تقليص دائرة الغيب فلم يجد مندوحة لذلك إلا بأن ينكر وجود الجن والملائكة وتأويل ذلك بما يحرف معناها عن ظاهره من دون صارف والطعن في حقيقتها في نفس الأمر، دون أن يجرأوا على اقتحام عقبة الغيب وأشكاله التي أحاطت بحقائق الدين وكانت عنوانه الأبرز بموجب قوله تعالى : «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

ص: 16

بِالْغَيْبِ»، حاولوا الأمر نفسه مع حقيقة المهدي . فهم إذ يومنون بنظائر من غيبة المهدي في القرآن والسنة، يفعلون ما في وسعهم لرد غيبة المهدي رغم كل ما أحاط بها من أدلة صحيحة ومعتبرة. فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقد أول الإمام الصادق علیه السلام الآية الكريمة:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ » بالمهدي . فأنزله منزلة المصداق للغيب. وعجبا من ذلك التعجب الساذج الذي أبداه كثير من المفسرين الذين قالوا في ذلك بعد أن نسبوه لفاسد التأويل الشيعي، بأن هذا تخصيص المطلق من دون دليل فهو باطل كما ذكر الرازي في تفسيره وغيره. وهو أشبه بنكتة الزمخشري صاحب الكشاف وقد تكررت بالنقل الحرفي الممل عند كثير من المفسرين المخاصمين للشيعة من أمثال النسفي قديماً ومحمد الطاهر بن عاشور حديثاً، بخصوص تأويل النحل ببني هاشم الذين يخرج العلم من بطونهم. إذ يقول: «ومن بدع التأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم»ثماره»[ج3، ص373.].

كل هذا تجن على العلم وانحطاط في تقدير الأمور . إن الأمر لا يتعلق بتخصيص مطلق - وكان أضبط لو قال تقیید مطلق لأن

ص: 17

التخصص يقابل العموم في الاصطلاح، لأننا يمكننا إطلاق الإطلاق والتقييد على العموم و الخصوص حسب الاعتبارات، كان نقول بلا قيد العموم وبالقيد مطلقا - بل هو في مقام بيان المصداق . والمصداق هنا مذكور على نحو الأولوية . ثم إن ثبوت هذا القول عن الإمام الصادق في نظر الشيعة هو مما له قابلية التخصيص لتنزل كلامه منزلة السنة التي تخصص وتقيد وتبين ما في الكتاب ، كما هو مقرر في مذهبهم. ثم إن هذا من رائجات التأويل بالمصداق : فلم العجب وما محل الغرابة؟! وقد سبق أن أشرت في غير ما مکان - انظر كتاب «محنة التراث الآخر» فصل أصول التشريع، وكذلك «الاسلام والحداثة»، الفصل المخصص لأزمة التأويل - بأن التأويل لا يعني المجاز فقط . فهذا الزمخشري المعتزلي ونظراؤه من أمثال الجاحظ ممن غرقوا في المجاز لكنهم ليسوا دربين في التأويل . وقد رأيت كيف تعجب الزمخشري من تأويل بالمصداق وتعاطي معه تعاطي السذج الذاهلين.

فهل المسألة تتعلق باستحالة في عالم الإمكان أم بغياب الدليل أم بعدم علو شأن المهدي حتى يستحق أمره الإحاطة بالإعجاز؟

الحقيقة أن الأدلة وافرة شرعا والإمكان ثابت عقلا والشأنية مشهودة بهما معا. ويكفي أن خصما للشيعة مثل ابن حجر الهيثمي ذكر في كتابه «المختصر في علامات المهدي المنتظر» ما جاء عن ابن

ص: 18

سيرين في قوله بأفضلية المهدي على الأنبياء.

وقد لاحظنا أن المنکرین لوجود المهدي إما أنهم من فقهاء لا يستندون في معرض كلامهم على دليل شرعي متين ولا على تحليل عقلي عميق. وهم بذلك يرتكبون خطاین: رفضهم لحقيقة من دون دليل. وعدم قبولهم بالأدلة الشرعية الوافرة. أو أنهم من غير المتخصصين في الشريعة إذ لا يعاقرون منها سوى سطحاً لا يغني في المقام.

ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، تكلف الإنكار الذي اضطلع به الشيخ محمد الغزالي. حيث طعن في صحة الأخبار الواردة في المهدي كما طعن في إفادة ما صح منها للمراد. وقد تصدى الشيح ناصر الدين الألباني إلى هذه المحاولة انطلاقا من تتبعه لصحة الأخبار الواردة، مقدماً أدلة واضحة على أن موقف الغزالي لم ينطلق من تحقيق بقدر ما هو رجم بالغيب أنزل الغزالي في هذه المسألة تحديداً إلى مصات غير المحققين، كما صرح الألباني نفسه . ولنا مع اعتراضات الألباني وقفة في هذا الكتاب نستعرض فيها رأيه کاملا . ومثل ذلك ما لاحظناه على صاحب التفسير الموسوم ب: «التحریر والتنوير» للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو المقاصدي الكبير ، لا يكاد يحكم ما ظهر من لسان النصوص من مقاصد کبرى لظهور المهدي ولا أمكنه التحقيق في ذلك سوى أن قال في سياق غير

ص: 19

السياق :«وذلك بأن اجتمع مدبرر الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكاً يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا يخفى ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضى الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره» [الباب 102، ج1، ص402].

يقال هذا في حين أن المسألة هي أبعد من أن تكون موضوع ملهاة. فازدواجية الموقف تظهر في أبأس حالاتها لما نجد خصوم الدين يتناولون بالسخرية نفسها حقائق تتنزل عندنا منزلة الحقيقة الغيبية اليقينية . المسألة لها في البداية صلة بنصوص تعدت ما يقارب الألف والخمسمئة مما يشتمل على الصحيح. أين سيقذف بهذا الكم الهائل من الأخبار التي وجدت طريقها إلى كتب الفريقين. ولست أدري ما المناسبة في إقامة هذا القياس الذي أقامه ابن عاشور، علما

ص: 20

أن هذا لا يصلح دليلا على رد هذه الحقيقة لا بمنطق الشرع ولا بمنطق العقل كما هو ظاهر . وهي الحكاية نفسها : رفض حقائق من دون دلیل سوى تحليلات إنشائية يمكن تطبيقها على كل أشكال الغيب التي قامت الأدلة على ثبوتها .

وثمة مثال لا يقل تخبطا في هذا المجال، حينما كتب المورخ المصري أحمد أمين كتابه عن المهدي والمهدويين . كان الوضع هنا في غاية الاضطراب . فأحمد أمين الذي لم ينج من الخطأ حتى وهو يكتب فجر الاسلام وضحاه، لم يكن موفقة في رد حقيقة إنما وجب بحثها في مجال العقائد لا التاريخ. فهو مثل نظرائه المنکرین لها يجهلون كما تظهر تصريحاتهم وجود عدد وافر من الأخبار الصحيحة حول المهدي . هذا إذا أحسنا الظن وقلنا أنهم تغاضوا عنها جهلا لا تبیتا. وقد تصدى لمزاعم أحمد أمين في كتابه الموسوم بالمهدي والمهدوية، اثنان من أعلام الإمامية المعاصرين : محمد أمين زين الدين والشيخ جواد مغنية . وفيها أبرزا ما أبرزا من ردود أظهرت کم كان أحمد أمين على جهل كبير بما يعتقد به الشيعة في أمر المهدي . بل قصاراه أنه اجتر الصورة النمطية الراسخة في أذهان كتاب تاریخ الغلب. وليس بعيدا عنهم ما كتبه زكي نجيب محمود في مجلة السياسة المصرية تحت عنوان: «المهدي المنتظر .. نشأته وأطواره في التاريخ» ترديدا للرؤية نفسها والمذاق نفسه في التعاطي مع

ص: 21

المسائل الخطيرة خارج منطق التحقيق. وقد جاءت ردود الشيخ البلاغي بليغة ناقضة فيما عنون له ب: «نسمات الهدی ونفحات المهدي». كأن من يتزعم حركة التشكيك والإنكار لقضية المهدي لا يكلف نفسه أكثر من صياغة إنشائيات تستند على كل حيل الحجاج غير الوقوف على مدارك القضية ودون الاستناد إلى التحليل العقلي في مختلف أبعاده الأوسع دون شعارات المادية الهوجاء. ففي السياق نفسه يكتب الشهيد السعيد السيد باقر الصدر بحثا حول المهدي ضمنه تحليلاً عميقاً قصد به الرد على من تذرع بالخطاب العقلاني والعلمي لدحض حقيقة المهدي. وقد جعل البحث المذكور بمثابة تقديم لموسوعة الشهيد محمد صادق الصدر حول المهدي التي أوفي فيها البحث في حيثيات الغيبة والظهور وما بعد الظهور بتفصيل وحجاج ومعالجة تقدم رؤية متقدمة لاستيعاب حركة المهدي وما يعد به عصر الظهور وما هي حقيقة البشرية في انتظاراتها قبل ظهور المخلص.

ويلاحظ أن النقاشات الواردة هناك تحمل نمطا يكاد يكون متشابهة : دحض فكرة أن العلم والعقل يناقضان الغيبة . وقد تأكد أن الأمر لا يخلو من قصور في تقدير ممكنات الواقع وآماد العقل .

*****

وقد صادف أن قضية المهدي مما تلابس الأمر حولها لدى بعض ممن لم تنتظم الرؤية لديهم أو خانهم الشطح فحسبوا أن الأمر

ص: 22

فوضى .. هكذا تدانت المسألة في الأذهان حتى تجرأ عليها قوم ما تارة من الأعلام وتارة من الحمقى وغير المؤهلين .. وفي المغرب عانينا من هذه المزاعم الكثير حتى شط الأمر شططاً بعيدا .

وبدء الخطأ في المغارب ما كان من مزاعم محيي الدين بن عربي في شطحاته - وما أكثرها لمن لا يقرأ كشوفاته بحذر - ادعاؤه أو لا أقل ما يفهم من ظاهر مزاعمه وآرائه المضطربة، نسبة ختم الأولياء لنفسه بدل المهدي . ونحن لا نسلم له بهذا، لأن لا دليل عليه البتة . وقد كانت هذه الهنات وأ ، خرى لا تقل منكراً مما زلزل عقيدتي في محيي الدين مع أنني لا زلت أرى فيما ضمنه فصوصه وفتوحاته ما لا يثمن بثمن. وإذا شئنا أن نحلل أسباب هذا التخبط الذي وقع فيه صاحب الفتوحات المكية، وآخرون قبله كان لهم تأثير بالغ على رؤيته تلك من أمثال الحكيم الترمذي صاحب ختم الأولياء وآخرون سایروه في ذلك لا سيما من شراحه كالقيصري، فإننا نرجع ذلك إلى تأثيرات النموذج المعرفي المتاح في بيئة تحتفظ بأفكار ساذجة عن المهدي وأحواله. وكذا غياب التحقيق اللازم الذي يشكل البنية التحتية لأي إغراق تأويلي . إن ابن عربي وقع في خطأين لا عذر له فيهما سوی شطط التأويل وشطح الكشوفات. وأعني بشطط التأويل رکوب منطق المماثلة بلا ضابطة تصرفه من مجرد تمثيلات شكلية إلى تمثيلات تلاحظ جانب الوظيفة في جهة التمثيل. وهو ما وقع فيه ابن

ص: 23

عربي . وكذلك أقصد بالشطح في الكشوفات، كونها باتت دليله الوحيد، على الرغم من أنها ناقضت کشوفات أهل السلوك والعرفان بل ناقض بهاكشوفاته الأخرى . هذا فضلا عن أنها لا تصح دليلاً في مقام الاحتجاج. أما الخطان اللذان ارتكبهما ابن عربي فهما:

- نسبة ختم الولاية المطلقة إلى عيسى ابن مریم بدل علي بن أبي طالب

- نسبة ختم الولاية المقيدة إلى نفسه بدل المهدي

ويبدو أن ابن عربي كمن سبقه ممن تأثر بهم من العرفاء يبنون هذه النسبة على مبدأ دوران الأمر، حيث البدء بنبي يلزم عنه الختم بنبي مثله . وحجتهم في ذلك قوله تعالى : «مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ ». وهذا الضرب من التمثيل سطحي للغاية، لأنه لا يراعي جهة التمثيل التي هي التشابه في شروط الولادة وليس في الخاتمية .

وليس هناك من رد متقن على مزاعم ابن عربي وبعض من شراحه في هذه الجزئية أفضل مما قدمه العارف الحكيم حیدر آملي في «نص النصوص».فقد احتج على ابن عربي من الطرق الثلاث التي لا يبقى معها طريق : النقل والعقل والكشف. وما زعمه ابن عربي لا دليل عليه من الطرائق الثلاث. فالنقل لا يثبت الدعوى، بل ما ثبت منه يؤكد على اتباع عيسي للمهدي، والتابع لا يكون أعظم من المتبوع. فالعلة من نزول عيسى هو إكمال ولايته بالمهدي كما هو إكمال نبوته

ص: 24

بظهوره بشرع محمد صلی الله علیه وآله وسلم . هذا مع أن ما زعمه ابن عربي من كشف مردود منحيث لا حجية للكشف إلا على الكاشف نفسه. إلا أن يكون الكشف معاضضاً بدليل نقلي وعقلي. وقد ظهر أنه كشف ليس فقط يناقض ما ثبت نقلا وعقلا ، بل إنه کشف يناقض كشوفات أخرى من رعيل العرفاء والناقض نفسه - حیدر آملي - والتي لها سند من النقل والعقل. بل إن محيي الدين يناقض كشوفاته في مواقع مختلفة من الفتوحات. وإنما مرد هذا الشذوذ في الكشف الأكبري إلى زلة معذورة عند حیدر آملي الذي اعتبره إنسانا کاملا لكن ليس كل كامل هو كذلك من كل الجهات. ويكفي أنه رد في شبه سخرية على ما زعمه شارحه القيصري من أن من صفات الخاتم أنه إذا زال من الدنيا انتقلت العمارة إلى الآخر وتقوم به الحجة على الملائكة وما شابه . فحيدر آملي يؤكد أن لا شيء حدث بذهاب ابن عربي. وهذا يكفي الدحض نسبة الختم لنفسه. ولا يهمنا هنا الاستطراد في معالجة هذه المسألة، لأن الغرض من هذا سرد نماذج ممن نسب المهدوية لنفسه. وقد حصل لهذا نظائر من كل الطبقات والاختصاصات والحقول: من الصوفية ومن السياسيين ومن الفقهاء ومن السوقة والعامة ..

وخذ مثالا على ذلك ما كان من أمر المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية وداعيتها الكبير . ومع أنني معجب أيما إعجاب بهذا

ص: 25

العالم والزعيم الذي فعل كما فعل أنصاره كل شيء لإحاطة حركته بالأسرار، إلا أن دعواه المهدوية لا زالت تستدعي عندي تأملا مضاعفاً. إن المتأمل لسيرة الرجل والمتأمل لأهم آرائه في أصول الدين وفروعه كما لخصها في كتابه «أعز ما يطلب» وآراؤه العقائدية في المرشدة - التي أثارت عليه ردودفعل وصفته بالتغلب والظلم والضلال من قبل نفر من الفقهاء والمحدثين ليس ابن تيمية إلا نموذجاً واحداً منهم -، يدرك أن الداعية الموحدي تأثر كثيراً بالأوضاع القاتمة لعصره كما تأثر بتجربته الخاصة، أهمها رحلته المشرقية. إن القائد السياسي الذي كان يختفي وراء الفقيه العالم، من شأنه أن يوظف الكثير من القناعات في سبيل تحقيق أهدافه السياسية . فابن تومرت الذي طرد من أكثر من بلد من المشرق العربي لشدة اهتمامه بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولشدة مرونته العلمية التي مكنته من الإفادة من مختلف التيارات والمدارس الكلامية والفقهية، كان أحرى أن يجد في المهدوية الوسيلة الوحيدة لإحداث التغيير. هكذا نجد آثار المهدوية بخلفيتها الإمامية حاضرة حتى وإن لم يكن ابن تومرت شيعياً بالمعنى المصطلح، لكنه ارتقی بالإمامة إلى مرتبة الأصل، كما اعتبر العصمة لازمة للإمامة حيث لا يدفع الباطل بالباطل ولا الجهل بالجهل وما شابه. بل إنه اعتبر المهدوية شأنا خطيراً في الإسلام لا يجوز تهوينه أو نكرانه، إلى حد

ص: 26

اعتباره الجاحد بها في حكم الكافر . وذلك لأن المهدي وحده من يملك إحلال العدل وإبادة الظلم. إن تتلمذ ابن تومرت أثناء الرحلة مشرقاً على أبي حامد الغزالي لم يمنعه من مخالفة رأيه في جواز التكليف بما لا يطاق. فابن تومرت يقف موقفاً عقلياً شبيهاً بالمعتزلة والإمامية، حيث قبح التكليف بما لا يطاق. وهذا يعزز الميل الشديد لابن تومرت إلى آراء العدلية في هذا الخصوص. لكن يبدو لي أن دعوى المهدوية إن ادعاها حقا لا تعدو توظيفا سياسيا في محيط كان لا يزال يجهل الكثير من المعطيات بخصوص الفكر المهدوي الذي بقي ملتبساً ومشوشاً في تراث القوم. يدل على ذلك أن ما شاع من أمر ابن تومرت في حكايات الناس أنه وارث سر علم علي بن ابي طالب الذي ورثه عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ووارث الجفر الذي انتقل من الصادق علیه السلام إلى أبي حامد الغزالي ومن ثمة إلى ابن تومرت. حكاية المهدي ابن تومرت اختلط فيها الأسطوري بالحقيقي، لكن ادعاء المهدوية في زمانه لم يكن أكثر من دعوی ذات وظيفة سياسية لمواجهة خصومه المرابطين اللثم حارقي إحياء علوم الدين . وحيث انتهى الخبر للغزالي في مجلسه عن حادثة الحرق ووعدهم بزوال أمرهم وبأن المتولي لهذا الأمر شخص من بين الحضور. ولم يكن هذا الشخص سوى المهدي ابن تومرت الذي أدرك الغزالي وتتلمذ عليه بعض الشيء. وربما كما يذكر أحد المؤرخين أنه طمع بها منذ

ص: 27

ذلك الحين، والله العالم. ما أريد قوله باختصار في أمر المهدي بن تومرت، هو أن موقفه يعكس نمط التصور السني للمهدوية وليس النمط الشيعي. لا يمكن أن تمر دعوی كهذه في المجال الشيعي دون أن تحبط وتنزع عن مدعيها العدالة. لكن الجرأة على ادعائها من قبل أشخاص هو بالاستقراء رائج في المجال السني أكثر من المجال الشيعي. وليس للشيعة سوى تنظير حول المهدي في نطاق المفهوم، بينما عند السنة تنظير أقل لكن دعاوى أكثر في نطاق المصداق . فليس ثمة من ضابطة تمنع أي مدع لها تمكن من التغلب وحقق إنجازات أبهرت الأتباع. فحينما توجد القابلية لإضفاء المهدوية على كل من تصدی وحقق انجازات ولو ظرفية ثم سرعان ما تنطفئ الشعلة ويعود الأمر كما بدأ ، هنا لا غرابة في أن يتكرر المشهد في الماضي وأيضا في الحاضر والمستقبل. وعلى ذلك المنوال حاك المهدي ابن تومرت مزاعمه. وهو عندي ليس شيعياً بالمعنى الشائع، ف«أعز ما يطلب» دال بما فيه الكفاية على ذلك. فهو يعتبرقول الصحابي - بلا شرط - وينزه أقيسته عن أقيسة المتأخرين. كما يقر بعمل أهل المدينة على الطريقة المالكية بالإضافة إلى فروق كبيرة في الأصول والفروع ليس ها هنا مجالها. لكن دعواه إلى المهدوية ليس لها من التشيع سوى القالب الذي به يكون المهدي إماماً ومعصوماً، وتكون الإمامة من أركان الدين . فهو هنا شيعي بالمفهوم سني بالمصداق. ومع ذلك

ص: 28

نجد من الصعوبة معذرية - فضلا عن التصديق بهذا الادعاء - من زعمها لنفسه، إلا أن تكون هناك شبهة مفهومية تؤثر على المصداق . فهذا وارد وهذا ما حصل للمهدي وغيره من مدعيها.

وخلال السنوات الأخيرة ظهر في المغرب من ادعى المهدوية أو تمسح بهذا الإسم مما اقتضى تدخلا لبيان الموقف .. وتمند الإدعاءات من أعلام الحركة الإسلامية إلى هامش الحمقى والمجانين . إنها ثقافة! لكنها تصبح ثقافة خطيرة حينما يضيع المناط وتتحول المسألة إلى فوضى. وقد شهد المغرب من ذلك الكثير ، لا أريد الخوض في المغرب الوسيط، بل ثمة ما يثار من الحديث عن ادعاء لها من قبل السيد عبد السلام يسين الزعيم الروحي لحركة العدل والإحسان المحذورة في المغرب. وحيث ليست لدي فيما بلغني من آرائه ما يفيد هذا الادعاء، إلا أن ما ينقل شفهياً عبر مریدیه وما تشيعه الصحافة يظهر ذلك. وقد يبدو أن الأمر لا يخلو من التباس . فادعاء المهدوية هي من الرائجات التي اعتاد عليها كل من هم بالتغيير والثورة على الأوضاع. فالمهدوية بمدلولها السني تتيح هذا النوع من القومات التي يتصدى لها كل من اقتدر ووفق لذلك . هكذا ظهر من عبارات الشيخ بخصوص مفهوم القومة وتأكيد معصومية خطابه الذي تتيحه ظاهرة تسیيس علاقة الشيخ بالمريد، مما يعني أننا أمام خطاب لا يقل حدة عن المهدي بن تومرت مع الفارق

ص: 29

طبعا . لكنني أعتقد أن المسألة يجب أن تفهم في هذه الحدود ولا تتعداها إلى مبالغات الصحافة وما تروجه أفواه الناس. ومع ذلك فإننا لا نعتقد أن مسألة المهدي هي متاحة لعامة الناس ولا حتى لخاصتهم. فالمهدوية بحسب اعتقاد مدرسة أهل البيت هي وظيفة مخصوصة لشخص مخصوص لا يتقمصها أحد حتى لو كان نبيا أو إماماً . فالدور التاريخي للمهدي مما لم يكلف به أحد ممن سبق من الأنبياء والأوصياء. فهي ليست وظيفة تتثبت لمن هم بالإصلاح وإن كان المصلح هاهنا على خير .

وأما من سائر من ادعاها من العامة أو انتسب إلى عنوانها فحدث ولا حرج. يطلع شخص ذات صباح من إحدى الأحياء الشعبية فيزعم أنه هو المهدي . وقد قرأت رسالة مجهولة وصلت إلى إحدى الصحف تؤكد على أن كاتبها هو المهدي . الشخص الأول المدعي لها في حكم العوام لا يتوفر على تحصيل علمي يؤهله لفهم الشريعة بله تأويلها . وأما الثاني فرأيت أن الخط الذي كتب به رسالته يعكس اضطراباً نفسياً يستطيع أي محلل لسيكولوجيا الخط والكتابة أن يدرك ذلك .

ويا ما كان لهذه الدعاوی من نظائر تكاد تشيب من هولها الولدان. لقد قامت حركة المهدي في السودان على المنحنى نفسه . ومن غرائب ما رأيت أن زعمها بعضهم لصدام في صحافتنا أثناء غزو

ص: 30

هذا الأخير للكويت . بل ثمة من زعمها للسيد نصر الله بعد الانتصار المعجز في مقاومة الاعتداء الاسرائيلي . والغريب أن الذين زعموا ذلك الزعم، هم بعض من أبناء السنة المعجبين وهو ما من شأنه إضحاك الشيعة بل وإضحاك المعني كما لا يخفى . فأما صدام فأمره لا يخفى إلا على من ليس له فتات من علم الأديان. وأما السيد حسن نصر الله فهو خاض معركة قصاراها أن ترفعه إلى مصاف الممهدين. لكن معركة المهدي كبرى لا تقف ولا تتأطر بملف مطلبي محدود. وهناك بالعراق من زعم الزعم نفسه فيما الأمر واضح البطلان.. فقد قرأت فيما بلغني من كتب صدرت في سبيل هذه الدعوى، فوجدت فيها من الإطناب الممل ما لا يليق صدوره عن المعصوم ولا من يمثله. فهو ممن أوتي جوامع الكلم ومكن من القول البليغ وفصل الخطاب. وإن لمعارض كلامهم ما يستوقف المتلقي دون كلف في الإقناع. وفيها تجد بلغتك دونما شقوة تكدر صفو عقلك ولا تؤرق في الحق نظر. وإن المنتظرين لن يقبلوا بظهور باهت وادعاءات مفعمة بخوارم الحجة بعد أن طال بهم الانتظار مئات السنين. هذا وإن الحجج والناطقين عنهم بلا واسطة لا يكتبون أسفاراً ومجلدات. ثم إن الظهور لا يحتمل بعد وقوع الغيبة إلا نصراً كاسحاً موزراً. فكيف والدعوى لم تحقق مقاصد ما غاب لأجله الإمام. إن لحظة الظهور معجزة لا تحتاج إلى أدلة غير ضرورية كالتي

ص: 31

حاولها البعض لأسباب خفيت عنا ولسنا في وارد تحليلها .

وفي كل مرة تراجعني الصحافة أو بعض المهتمين، مع كل طلة مهدوية مزعومة، فيكون الموقف بالتأكيد هو الرفض ودحض الدعوى. فالمسألة قابلة إذن للتوظيف من محور النخبة إلى هامش العامة. من هنا سيجد القارئ الكريم نماذج في هذا الكتاب لتلك المراجعات والحوارات التي جاءت في محلها لتجيب عن مثل هذه الظواهر في بلادنا .

هذه حالات شاذة لا يمكنها أن تجد طريقها معبداً إلى عقول الناس، متى ما وضعنا قضية المهدي في سياقها ومقاصدها العظمی . وأما لو ظلت مجرد حكايات يتناقلها السذج والجاهلون من دون فهم لمقاصدها واستبصار لمعانيها واستحضار لعلاماتها وخصائصها فإنها لعمري هي الفوضى تمشي على الأرض. ومع ذلك هذا لا يعني أنها إذ ذاك وجب أن تنكر لشدة ما تدعي زوراً ولشدة ما يعبث بحقيقتها العابثون. وذلك نظرا لما يدل عليها في الشرع المقدس بتواتر لفظي ومعنوي، ولما يهفو إليها من وجدان بشري.. هي وحدها الحقيقة التي تشارك في الإعتقاد بها أهل الأديان وهفت إليها أحلام النوع وفاضت من حولها السنن والأخبار. وكانت وحدها الحقيقة التي بها تتحقق وعود الله التي لم تتحقق بعد ولا زال منطوقها يبعث على انتظارات تحققها في الآجل.

ص: 32

ويستطيع الشيعة أن يستدلوا بأدلة نقلية وعقلية وافرة للتأكيد على ولادةالمهدي وهو ابن الحسن. فقد ثبت أن غير واحد من أعلام السنة أكد على ولادة المهدي وبأنه هو ابن الحسن العسكري. ولا يكفي ما أورده بعضهم من إنكار ولد الامام العسكري. وقد أورد ذلك مؤرخون وأصحاب التراجم ومحدثون من أمثال ابن خلكان في الوفيات والذهبي في تاريخ دول الإسلام وخير الدين الزركلي في الأعلام وابن العربي في الفتوحات وسبط ابن الجوزي الحنبلي في تذکرة الخواص وابن الأثير في الكامل والشبلنجي في نور الأبصار وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة وآخرون ممن أورد خبر ولادة محمد ابن الحسن العسكري وأنه المهدي المنتظر. وأما الإخفاء من قبل الأب فهو مما كان متوقعا لأن المسألة كانت تتعدى الحصار إلى إرادة القتل للدور الخطير المنوط بالمهدي. ويكفي أن المعتمد ومن عاصر الحسن العسكري من خلفاء بني العباس، صعدوا الموقف بل وأمروا بتفتيش بيت الإمام الحسن العسكري فور وفاته . وأطبقوا الحصار رغم أن خبر ولادته لم يكن مشاعاً خارج څلص شيعته. لكن ثمة من شهد بذلك بعد الغيبة من وكلائه والخدم بل وقابلته وعائلته. بل وكما يؤكد الشيخ المفيد أن أبناء جعفر نفسه الذي كذب خبر ولادة المهدي طمعا في إرث أخيه كلهم على الأقل في زمن المفيد ممن كان على اعتقاد راسخ بولادة المهدي. وهو ما

ص: 33

لم تصدقه السلطة العباسية نفسها بعد أن منعت الإرث أن يفوت لأخي الحسن العسكري وقد أثبت عدم الولد لهذا الغرض. وإذا تعلق الأمر بالأدلة العقلية فلا وجود لما يمنع من ذلك، لا سيما وأن نظائر الإخفاء والغيبة وما شابه ظلت هي الصورة النمطية المتكررة في تجارب الأنبياء والصلحاء وتقبلها الوجدان المؤمن قبولا سلساً. ولا نخال أن غيبة نبي الله يونس في بطن الحوت هي أقرب إلى العقل من غيبة إمام عن الناس في مكان غير محدد . حيث ليس في أمر الغيبة إشكال ما دام كل من أراد أن يستتر عن الخلق أمكنه ذلك. لكن المسألة في طول الغيبة وهذا مما حدث لأنبياء وأوصياء مما ذكر في القرآن وفصل في الأخبار .

ومهما حاول البعض صرف محل النزاع إلى مطارح أخرى فإننا نلاحظ أن من أشار إلى اختلاف آراء الشيعة في موضوع المهدي الخلف لأبيه الحسن العسكري أمثال الشهرستاني، فاته أن ذکر اختلاف الشيعة حول ابن الحسن الى إحدى عشرة فرقة إنما لا ينهض دليلا في وجه مثبتات الولد للإمام الحسن. فيكفي أن الشهرستاني يتحدث عن إحدى عشرة فرقة اختلفوا حول من يخلف الحسن العسكري، وهي فرق لم نجد لها من وجود في غير ملله ونحله . وحتى لو وجدت على سبيل الفرض، فإن انقراضها الفوري يؤكد شذوذها عن الرأي المشهور. وليس غريبا على الشهرستاني أن ينفخ

ص: 34

في آراء الفرق ليجعل من كل رأي مذهباً ومن كل موقف فرقة ليظفر بسفر للملل والنحل كبير. فالشهرستاني الذي يؤكد على أن للإمام الهادي مشهداً في قم - بينما مشهده في سامراء بالعراق - دليل على سوء التحقيق. كما أن تعجبه من طول الغيبة فيه ما فيه . لا سيما وأنه رد على من مثل لذلك بغيبة الخضر وإلياس بأن هؤلاء ليسوا مكلفين بإصلاح وإقامة العدل وما شابه ، فإنه أخفى أن تمثيل بعض الإمامية بذلك جاء ضمن سياق خاص. فهذا التمثيل الذي صاغه الشهرستاني بتصرف وانتقاء جاء في سياق رد تعجب القوم من طول فترة الغيبة وثقلها على الوجدان المادي وليس في المهام التكليفية المنوطة بالمهدي. وتصرف الشهرستاني هنا واضح. فهو أورد مثال إلياس والخضر غير المكلفين لكنه لم يورد مثال أنبياء مثل إدريس وعیسی المكلفين .. وقد غاب عنه أن القرآن نفسه تحدث عن تكاليف اضطلع بها الخضر بصحبة موسی کما هو مبين في سورة الكهف . وأما التكليف فهو لم يسقط وإنما لوجود المانع كما لا يخفى . وكل هذا لا يقوى على دفع الحجج النقلية والعقلية التي توفرت لدى هذا الفريق. فلا ننسى أن ما توفر في أخبار أهل البيت بهذا الشأن يغني عن سائر ما ورد عند غيرهم، بل يمكن من إقامة میزان ناظم يجعل المهدوية النتيجة الحتمية والسائغة التي تربط مختلف فصول الأمة التاريخية، وبأن صلاح مستقبل الأمة هو بالمصلح الذي ادخرته

ص: 35

العناية الإلهية لهذا الغرض. حيث الحديث عن الإصلاح هنا ليس بالمعنى الساذج والسطحي الذي يفيد تحولات جزئية وموقعية . إن إصلاح المهدي هو التغيير العالمي الكبير .. فإذا استوعبنا أن المستقبل سيشهد إصلاحا تاماً بهذا المعنى المثالي الكبير فليس لنا إلا أن نتوقع من المصلح العظيم أن يكون محاطاً بأسرار غاية في العظمة .

وكما ادعاها البعض لنفسه دجلا أو هذياناً أو شططاً فإن ثمة من أوغل في عوارضها من أحوال الأمة والأمم قبل الظهور وعشيته . فإذا به لا يقف عند ضابطة في الاعتقاد. فقبل باليابس والأخضر وأطلق العنان للخيال. ومع أننا نؤكد على أهمية المعتقد الأخير إلا أن هذا لا يمنع من التنبيه إلى خطورة تجاوز المعايير العملية والضوابط الشرعية في التعاطي مع عوارض الظهور. ولا أدل على ذلك مما جاء في خطبة البيان التي ليس فيها من البيان سوی کلام لا يمكن أن ينطق به صالح من العباد بله معصوم إنما جعل ليبين للناس ما لا يعلمون. فلو قيست الخطبة المذكورة مع خطب النهج لظهر لك البون الشاسع وبوس محتوى الخطبة. فهي خطبة بيان لإمام أمر بالتبليغ بشروطه -«وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا»-لكنها جاءت مليئة بما لا يفهم في لغة العرب ولا يوجد في قواميس ذاك الزمان ولا زماننا، وهي تحمل من آراء ذلك الزمان الفلكية والثقافية ما لا

ص: 36

غبار عليه. لكن هذا لا يمنع أنها احتوت على بعض من الحقائق التي لها وجود في أخبار أخرى واختلطت بأفكار لا مدرك لها في كتاب أو سنة ويأباها العقل السليم. ومع أنها خطبة فيها ما فيها إلا أن أعلام الإمامية لم يترددوا في الحكم عليها بالضعف طبقا للمقاییس والضوابط المقررة في الأخذ والرد .. في القبول والرفض. ومثل ذلك ما ورد من خبر الجزيرة الخضراء الذي أورده المجلسي فيما وجده من أخبار. وهي حكاية فيها من الغرابة ما يثير فضول القارئ لا سيما وأنها وجدت اليوم من أعاد إخراجها بإجراء مقارنة تطبيقية بينها وبين مثلث بیرمودا مما يمنحها مصداقية أكبر على الرغم من عدم صحة سندها بالمقاييس والضوابط الدرائية الإمامية . أقول : ولشدة ماتدعي زوراً تراني أستحسن توجيها لذلك الخبر الذي يظهر منه حصر المهدي في عیسی على ما فيه من ضعف مشهود. وهو التوجيه الذي ذكره صاحب عقد الدرر في أخبار المنتظر، لما قال (قال الشيخ الإمام الحافظ العلامة شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي : ولقوله :«لا مهدي إلا عيسى ابن مريم »وجه آخر من التأويل، وهو أن يكون على حذف مضاف، أي إلا مهدي عيسى. أي الذي يجيء في زمن عیسی علیه السلام، فهو احتراز ممن يسمى بالمهدي قبل ذلك من الملوك وغيرهم، أو يكون التقدير : إلا زمن عيسى، أي : الذي يجيء في

ص: 37

ذلك الزمن، لا في غيره . والله أعلم) [ج1، ص2]. فحقا لو اتفق أن حذفاً ما حصل على غرار ما حکی شهاب الدين، فيكون الخبر أبلغ بضم المحذوف إليه منه بوجود الحذف، فتأمل!

وأعجب وأنكر ما رأيت قوم ثقل عليهم استيعاب تشخص المهدي . فاعتبروا الأمر مجرد فكرة في ضمير الخلق يتطلعون إليها . والأغرب من ذلك أنهم سرعان ما سلموا بذلك في تخرص يأباه وجدان عامة الخلق فبالأحرى عقل متشرع. فمع وجود الأخبار الدالة على تشخص الموعود يبقى كل كلام زائد هو محض خيال . فالفكرة في تاريخ البشر والأديان تقوم بالشخص وإلا فهي تجرید محلق لا يرسو على أرض. وكلها محاولات تسعى لتحريف الحقيقة بعد استثقالها . وهذا أمر طبيعي لمن جعل طريقه لفهم الدين مجرد استحسانات.

وأحسب أننا إذا تفادينا الإغراق في تحشيد علامات الظهور وأحوال الأمم أثناء الظهور، لا سيما ما يبدو أشبه بالمفارقة : ذلك الذي نسميه إمكان البداء في المحتوم، وركزنا بما فيه الكفاية على فلسفة الغيبة والظهور، نكون قد وقفنا على المقصد الصحيح. إن كل ما جاء من الأخبار في ذكر العلامات محتوماً وغير محتوم، إنما غايته البعث على الاطمئنان والثقة والتفاؤل والعمل الصالح في مستقبل يجب أن نعتقد في حتمية صلاحه. فإذا قرأنا المهدوية قراءة

ص: 38

مقاصدية وجدنا أنفسنا معنيين بغاياتها وجوهرها . فليس من وظيفة زمن بعينه أن يحدد أي الأحلام ممكن تحققها أو يجدر إنجازها في زمن المهدي . كيف يقال ذلك وإن أحلام الناس حتى في المعاش لم تتطابق عبر العصور. فما يحلم به مؤمن من القرون الوسطى قد يبدو حلم أطفال بالنسبة إلى أحلامنا في القرن الواحد والعشرين. لا سيما وأن من مظاهر أحلامهم ما هو متوفر عندنا لا نمنحه من الأهمية شيئا. هذا فيما يتعلق بذکر علامات الظهور. أما فيما يتعلق بحقيقته وما يتصل بمسألة ولادته أو عدمها بالنسبة لفريقين من المسلمين، فإن الزمان كفيل ببيان ذلك. ووجب أن لا يغيظنا هذا الخلاف لأنه ليس أمرة تاريخياً فحسب بل هو أمر له صلة بالمستقبل. وما في المستقبل يحمل معه حجته. فحقائق التاريخ ولت وتصرمت لكن حقائق المستقبل آتية. وحقائق المستقبل هنا هي من يحسم حقائق التاريخ . فالإمام بما يتوفر عليه من وسائل الإقناع فيما نعرفه من أمره بواسطة الأخبار أو ما لا نعرفه من أمره مما لم يخبر عنه، هو من يغير قناعات من تشابه عليهم الأمر وجهلوه. فالذي أنيط به تغيير العالم أليس قادراً على إقناع الناس بصدق دعوته وحقيقته؟! وجب أن لا ننسى أن أخبار المهدي لم تقل لنا كل شيء عن قدراته وصفاته . فالقضية الأولى والأخيرة أن ثمة مهدي، سيظهر وتظهر معه حجته لمن تلابس عليه الأمر. فالمسألة فيما تحققه من تفاؤل للنوع بشتی

ص: 39

أديانهم ومذاهبهم لأن قضية المهدي أكبر من خلافات في العوارض . إن الاهتمام بما في الذات في المقام هو لا شك أبلغ اليوم من الاهتمام بما بالعرض. فلو أن البشرية بمسلميها ومسيحييها ويهودييها وزرادشتييها وبوذييها ومتدينيها وحتى ملاحدتها تعلقوا بمستقبل خلاصي متفائل بالجملة، فهذا أكبر دليل على أن للمهدي مكانة مجملة في نفوس النوع. فإذا ظهر، تبين وتشخص في الجملة ما كان مجملا .

ص: 40

المهدوية

اشارة

*المهدوية(1): مقاربة عقائدية عامة

تصدير

تعد المهدوية واحدة من المعتقدات التي واجهت ولا تزال تواجه الكثير من ضروب الانتقاد والتهوين وهما غاية الإنكار. حيث لا يتكلف المنكر لها من الجهد لإيراد الأجود من الأدلة المخالفة لهذا الاعتقاد، ولا حتى يملك الحد الأدنى من التحقيق فيما جاد به المنقول من مستفیض الأخبار أو عالجه المعقول في مقام الثبوت والإثبات. حتى باتت واحدة من العقائد التي يتبادر إلى أهل الحجاج المغالط، أنها ثغر متاح لكل من شاء أن يهز الصرح العقائدي الديني عموما أو الإمامي خصوصا. ولم يجدوا لهم ملاذا في دفعها أو رد السنن المتحدثة عنها سوى أن توسلوا مجملا بدعوى مناقضتها لروح العلم ومنطق الأشياء وصولة البرهان. ويكاد القوم يضعون في

ص: 41


1- ورقة مقدمة للمؤتمر العالمي الثاني حول النظرية المهدوية المنعقد يوم 6-7 سبتمبر 2006۔ طهران.

الأعين غشاوة وفي الآذان وقراً، حتى لا يبلغ الخوض في المهدوية مداه، ولا سبر أخبارها على قواعد الدراية، استنقا لها وريبة منهم. ولا نخال أضراب هؤلاء الذين لا يحققون فيما يرفضون ولا يواجهون سيل الأدلة التي بلغت بعقيدة المهدوية حدا لا يدع مجالا للشك والمراء، كحقيقة تواتر الأخبار عنها ، وأجمع الخاصة والعامة على أنها مما لا يخدش في وجودها حقيقة بالجملة، إلا أن يكونوا من جنس المغالطين منطقاً والمتحرفين شرعاً، حيث لا يواجه الدليل عنادا إلا مغالط، ولا يرفض مستفیض الأخبار ویرد ظهورها إلا متکلف متحرف معاند. فلا هذا بالمنطق وبرهانه آخذ ولا ذاك بالبيان مستبصر قابل. ولأنها كذلك في يسر الهضم وبداهة العلم، لم يجد الكذابون والدجالون في كل الحقب والعصور أفضل طريق للنصب على الأغمار والاحتيال على ضمير البله والتلبيس على الدهماء من أن يدعوا المهدوية جهاراً، حيث نافسهم في مثل هذا الادعاء قادة وملوك مشهودون في التاريخ الإسلامي، ادعاء أو تمثلا أو نزولا منزلة الممهدين الطريق للمهدي ادعاء لا دليل ينهض به في المقام. كل ذلك ما كان ليحدث لولا رسوخ هذا الاعتقاد في نفوس المسلمين وجريانه في أخلادهم جري المسلمات. وحيث هذا الادعاء ما كان له أن يشط بهذه الحقيقة عن مسارها الطبيعي، سوی لأن الخلاف وقع فيها في الجملة وعلى مستوى التفاصيل. حيث ما

ص: 42

أن نقترب من مدرسة أهل البيت علیهم السلام حتى يبدو من الممتنع ادعاء المهدوية، بعد أن أصبح شأنها واضحاً وعلاماتها المحتومة والموقوفة وافية، أحصاهاالجيل بعد الجيل. وكلما نأينا عن هذه المدرسة كلما سادت الفوضى، فأمكن من هب ودب أن يدعيها ؛ فصارت في كثير من الحالات صنعة يحترفها الحمقى فيجدون من الأغمار من يصدقهم. وكل ذلك لأن الأمر لم يتحقق في الجملة وعلى نحو الموجبة الجزئية المانعة من التيه والضلال، حيث يصبح الاعتقاد بالجملة دون ضبط التفاصيل أخطر أحيانا من الجحود بها . هكذا كانت المهدوية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، تنسجم مع الإطار العام، باعتبارها حلقة أخيرة من مسلسل الحجج والأئمة الأطهار علیهم السلام ، كما فصلت تفصيلا مانعاً من استغلالها لاستغفال الضمائر والنفوس الضعيفة ادعاءً وانتحالا . فالميزتان معاً ؛ الانسجام العقائدي والضبط التفصيلي، هما سمتا العقيدة المهدوية في مدرسة أهل البيت علیهم السلام . فإما أن تكون المهدوية على ما جاء تفصيلا في تعاليم أهل البيت علیهم السلام ، أو هي الفوضى!

ويستند الرافضون للمهدوية على مسوغين، هما من الهشاشة بحيث لا ينهضان دلیلین وافيين على صدق موقفهم، متى أدركنا أن الرافض لا يقع رفضه إلا عن قلة اطلاع وتحقيق، ومكابرة وعناد . فلا كتاب به بهتدون ولا عقل به یحاجون. ومن أنكر ما تعلل به

ص: 43

الرافضون هو لما حصروها في ورود المسيح بديلا ، حتى لا يقولوا بما تواترت به الأخبار من أمر مهدي الأمة. بل وحتى لو صح في أصول العامة والخاصة الأخبارية بأن من أهم الأحداث في نزول المسيح صلاته وراء مهدي الأمة، فإن العناد جعل البعض يهون عليه التصديق بعودة المهدي وقيامه بما سيقوم به. فكان نزاعهم ليس في تصور رجعة نبي - هو المسيح علیه السلام- اختفى ولا في أي مظهر من مظاهر ذلك الإمكان المتحقق حتما، بل بات نزاعهم في ثبوت الإخبار بظهور حجة من الأمة نفسها. ولا يحتاج المرء لدفع هذا التعلل إلى كثير شواهد وأدلة . فأولى بحجة شاهد على الأمة التي احتضنت الرسالة الخاتمة أن يقوم بهذا الدور العظيم، من نبي بعث القومه خاصة وعالمه تعيناً، ولم يصطف للخاتمية على علو شأنه، وهو من أولي العزم. هذا مع أن ما ورد من شواهد متواترة تورث القطع واليقين، ما يفوق ذلك النزر القليل من الأخبار التي تحدثت عن المسيح علیه السلام. حيث لا تصل النوبة لردها على ضعفها كما سنرى، ما دامت لا تعارض أخبار ظهور المهدي، وما دام بالإمكان تطبيق قاعدة الجمع العرفي فيما ورد منها على سبيل الاستقلال - استقلال نزول عیسی بن مریم علیه السلام، أو توجيهها فيما لو وردت على سبيل البدل والمعارضة عن مهدي الأمة من خلال ظاهرها كما ينقل ذلك ابن خلدون. يظهر جليا أن أمر المهدي مستقل عن نزول عیسی بن

ص: 44

مريم. ومع تكاثر الروايات المخبرة عن حدوث الأمرين معا دون تزاحم، إلا أن البعض حاول أن يلبس هذا بذاك حتى قال بعضهم لا مهدي إلا عيسى. وقد أفرد الشيخ محمد باقر الإلهي القمي رسالة في رد هذا التلبيس أسماها: «الروض الفسيح في بيان المهدي والمسيح.»يغني عن المطلوب. والواقع أن التوقف عند هذا الالتباس وتغليبه على ما تكاثر من أمر المهدي دونه خرط القتاد . وهاهنا ابن خلدون الذي استعرض ما روي عن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يصحح بعضا منه، مع أنه حاول تضعیف غالبية الأخبار. غير أن هذا لم يمنعه من رد زعم المنكرين المتشبثين بحديث محمد بن خالد الجندي المروي عن أنس بن مالك عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم حيث قال: «لا مهدي إلا عیسی بن مریم». وقد استعرض ابن خلدون رأي الحاكم في قوله بمجهولية محمد بن خالد. كما ألمح إلى محاولة الجمع العرفي التي حاولها البعض دون جدوى فقال: «وبالجملة فالحديث ضعیف مضطرب وقد قيل أن لا مهدي إلا عيسى أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريح ومثله من الخوارق(1)

وما دام الأمر مؤكداً في المنقول، أصبح من الضروري التسليم

ص: 45


1- ابن خلدون، المقدمة، ص356-357.

به ما لم يرد ما يخدش في قطعية صدوره كما لا يخفى . ولا نخال الإمامية متراخية في تحقيق ثبوت تلكم الأخبار، حيث لا ثبوت للعقائد الكبرى إلا بما صح وتواتر. فالعقائد لا سيما الكبرى منها لا تثبت بخبر الآحاد. وحيث أجمعت الأمة على أن مصادر اعتقادها هي القرآن والسنة والإجماع ودليل العقل مع خلاف في الجملة حول ما إذا كان العقل يستقل بأحكامه أم أنه يدور مدار السماع وجودا وعدما ؛ فإن استناد المهدوية على قطعي الصدور يجعلها ثابتة حسا لا حدساً، خلافا للمنكر.

دليل القرآن:

لو أنك تأملت نصوص القرآن الكريم، ونظرت في أسرار آیاته ، لتأكد لك بأن عقيدة المهدي تكاد تتخلل كل حقائقه. وعجبا للمسلمين كيف عز عليهم أن يستلهموها من قرآنهم حيث استلهمها مستشرق أجنبي، هو هنري کوربان الذي عزاها إلى أصل القرآن دفعاً للقائل بأنها منتحلة عن الأفكار والمعتقدات التي نشأت في المجال الديني والسوسيو - ثقافي الذي حلت به الرسالة الاسلامية . فالقرآن نفسه وعد بأن يقيم على الأرض جنة تتنزل بركاتها من السماء. كما وعد بخسف الكافرين وفشلهم المتوقع مهما عتوا في الأرض عتوا واستكبروا فيها استکباراً . وعليك أن تحصي كل الآيات التي وعدت بتلك الوعود دون أن تتحقق واحدة منها حتى اليوم؛ وها هو الرسول

ص: 46

الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم قد ولى، وها هم الأئمة الأطهار قد التحقوا بالرفيق الأعلى، فمن يا ترى حقيق بأن يحقق وعد الله في الأرض.

يقول تعالى في كتابه الكريم :«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(1)

قال القرطبي : «وقال السدي : ذاك عند خروج المهدي، لايبقى أحد إلا دخل

في الإسلام»(2).

وفي قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ»(3). يقول الكنجي الشافعي في كتابه البيان : وقد قال مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسرين في تفسير قوله عز وجل :«وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ »هو المهدي علیه السلام، يكون في آخر الزمان، وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأماراتها»(4)

فهذا قبس من نار ما جاء تفسيراً بالحقيقة والمصداق، لكثير من الآيات من كافة المفسرين سلفيين ومعتزلة وإمامية؛ كالقرطبي والرازي والزمخشري وابن كثير والنسفي؛ لك أن تتخذ ذلك

ص: 47


1- سورة التوبة (9)، الآية : 33.
2- تفسير القرطبي : 8/ 121.
3- سورة الزخرف (43)، الآية: 61.
4- البيان في أخبار صاحب الزمان : 528.

میزانا تزن به حقيقة ومصداق كل آية فيها وعد لم يتحقق، وما أكثره، إلا وكان أمارة على أن أمرا لم يتم في دنيا الناس، الله متمه ولو كره الكافرون. ولا يتصور تحققه إلا في ضوء العقيدة المهدوية وما حاط بها من أخبار تعزز شانيتها وتجعلها الأنسب لتحقق هذا الأمر العظيم، فافهم. وقد أجمع المفسرون على ورود هذه الآيات في حق المهدي وآخرون كما قلت قبل قليل حصروها في المسيح، مع أن لا تعارض بينهما لتقارن نزوله مع ظهور الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف). إلا أن يقال كان ذلك استثقالا لذكر أمر مهدي الأمة. وقد ظهر لك أن أهل العلم والتحقيق لا يمانعون في أصل الموضوع، بل وكلهم بمختلف مدارسهم ومواقفهم في المنقول والمعقول، فسروا الآيات المذكورة بالظهور . ويبدو أن أهم ما يجدر الوقوف عنده في المقام؛ أن القرآن أكبر شاهد على حقيقة الإمام المهدي من جهة الإمكان العقلي والإمكان الواقعي. فأنت تجد القرآن الذي شاء له العزيز الحكيم الاقتصاد في سرد فصول أخبار من كانوا قبلنا وأن يبرز من القصص ما ينتفع به ويصلح مادة للتأمل، حتى يكون حاكما لما تشابه على الأمة، فترده إلى محكم الكتاب، فتهتدي به إلى صراط مستقیم. وقد دعيت الأمة أن تعود إلى كتاب الله وتحكم به ما تشابه عليها . فلا وجود لسر تلبس به أمر المهدي إلا وله

ص: 48

نظائر من الذكر الحكيم. فانظر تجد أن أمر الغيبة متكاثر الأمثال والنظائر، كرفعة إدريس وعيسى وغيبة يونس عن أنظار الناس في بطن الحوت، حيث قال عنه تعالى :«فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ.لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ»وغيبة موسی أربعين يوما عن قومه من الأنبياء، أو اختفاء أمر إلياس أو الخضر من عموم الصالحين وتدبيره السري لما ينفع الناس . وانظر تجد لأمر الغيبة الطولی نظائر كأهل الكهف الذين دخلوا في نوم امتد بهم جيلا بعد جيل، وكلبهم معهم باسط ذراعيه بالوصيد. فإذا لم يكن عزيزاً أن يبقي الله فتية يتقلبون على جنوبهم ليكونوا آية لقوم شاء الله أن يسخرهم في طريق لطفه ، كيف يعز عليه ذلك في صالح أهل بيت النبوة علیهم السلام. وإذا كان کلب أمكنه أن تطول به الغيبة كل هذا العدد من السنين، هل يكثر ذلك على من هو في الشأن أعظم؟!

لم يرد في أمر المهدي أنه سيفعل شيئا لم نجد له نظائر في القرآن وألزمنا على الاعتقاد به ، بل إن واحدة من حكمة الخالق على إيراد هذه الأمثال أن يجعل الاعتقاد بالمهدي تحصيل حاصل في الاعتقاد الديني. حيث منطق القرآن كما أخبر الصادق علیه السلام ، نزوله على نحو إياك أعني واسمعي يا جارة . فالذين عز عليهم الاعتقاد بالمهدي وهالهم الدور العظيم الذي

ص: 49

سيسند إليه في عصر الظهور، لا جرم هم أعجز عن التسليم والاعتقاد بأدوارمن سلف من الصالحين؛ كذي القرنين الذي صنع للقوم الذين استغاثوا به، سداً عظيماً . أو الخضر الذي كان يتصرف بالعلم لا بالظاهر، أو ما جاء في أمر نبي عاش مسبحاً في بطن الحوت أو فتية غيبوا سنين عددا في كهفهم .. إنه سؤال الإيمان. فمن أمكنه أن يؤمن بهذا في الأول أمكنه الإيمان به في المال . وبذلك وصفوا في محكم التنزيل «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»!فلا يبقى شك في رسوخ هذه الحقيقة في التصور الإسلامي أصالة، حتى أنك تجد الخليفة الثاني، يفترض أن محمدا صلی الله علیه وآله وسلم لم يمت بل غاب كما غاب موسی أربعين يوما، متهما من قال بموته بالنفاق. وأيا كان مبرر هذه الدعوة فهي تستدعي حقيقة مركوزة في التصور الإسلامي، وليست دخيلة على الإسلام كما تراءى للبعض شططاً . أقول : إن الذين زعموا أنها موروث قدیم ودخيل على الإسلام، فضلا عن أنهم حبكوا على منوال الجهل المركب، وغاب عنهم ما في التعاليم الإسلامية من تأكيد على هذه الحقيقة، إنهم لم يفعلوا أكثر من اجترار بعض آراء بعض المستشرقين الأوائل ممن سلكوا حبواً للإحاطة بالشريعة عبثا، فكان فهمهم للتعاليم والشريعة الاسلامية فهم المبتدئ الغرير . ولا أخال أولئك

ص: 50

سوی من استبدت بخيالهم المحصور فكرة الأشباه والنظائر ، فكل ما له نظير في الديانات الأخرى، حسبوه دخیلاً ، فيا لها من رؤية قاصرة ومن منطق مغالط.. ولو أننا طبقنا المنهج ذاته على باقي الأصول والفروع، لقلنا بالنتائج نفسها ، فيكون التوحيد نفسه دخيلا على الإسلام ما دام له نظير في الرسالات السماوية . فإن قالوا الأمر يختلف، والقياس هاهنا مع الفارق، قلنا،فالمنهج المتبع غيرمخصص، ولا قيمة للمنهج إلا أن تكون أحكامه شاملة عامة كما لا يخفى على من أنس بالصناعة المنطقية . فالتخصيص لا يأتي إلا بدليل، وإلا فهو عبث کمن يرجح بغیر مرجح

- دليل السنة:

لا ننوي الإطناب في استعراض كافة الأدلة الروائية المستفيضة في شأن المهدي وملابسات ظهوره . فلو انضم ذلك الكم الهائل من الروايات الواردة من طريق الخاصة بتلك التي وردت من طريق العامة، لعدت بالآلاف. وهي متواترة، فيها الصحيح وفيها الضعيف لجهة الإسناد، وضعيفها مجبور بالمتواتر . وحيث المقام لا يتسع لذاك، اكتفينا ببعض الروايات الواضحات التي لا لبس يعتري ظاهرها، وأيضا ذكر من روی أخبار المهدي من طريق العامة، حيث لا حاجة لإيراد ما روي

ص: 51

من طريق الخاصة، فهو تحصيل حاصل في المقام.

منها ما رواه البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(1)».

وعن أبي هريرة قال: ذکر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم المهدي فقال :«يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع، وإلا فتسع. فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط»(2).

ويروي أبو داود في سننه عن جابر بن سمرة قال: «سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول : لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون علیکم اثنا عشرخلیفة»(3).

وعنه أيضا عن سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين»(4).

ص: 52


1- مسند أحمد: 1:432 و 376 و 377 و 448. والترمذي، كتاب الفتن باب 52. وسنن أبي داود 4: 107.
2- الحاكم في المستدرك 4: 557.
3- سنن أبي داود 4:106.
4- سنن أبي داود 4: 107.

فهذا فيض من غيض مما روي صريحاً وتلميحاً، فلا يكاد يخلو مصنف روائي من باب یعقد لذكر أمر المهدي من أمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم. فأخبار عيسى والظهور، واردة في صحاح العامة، بحيث تكفي الوحدها أن تكون شاهداً على ذلك، نظرا لتواترها وصحة بعض طرقها عند القوم. وكذا يمكن إكمال تفسير ما سكت عنه في بعضها من خلال ما صرحت به أخبار أخرى. حيث ليس هاهنا مندوحة لذلك. يقول ناصر الدين الألباني: «أما مسألة المهدي فليعلم أن في خروجه أحاديث صحيحة، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة»(1). وبذلك يكون قد عبر عن إجماع كبار المحدثين السنة حيث أن أخبار المهدي قد تواترت لديهم. فأخرجوا أخباره في مصنفاتهم ومجاميعهم الروائية كما تحدثوا عن أنها أو بعضها على الأقل مما لا مجال لرده، لصحته وتواتره . ومن هؤلاء؛ الإمام الترمذي، الحافظ أبوجعفر العقيلي (ت/ 322ه)، الحاكم النيسابوري (ت 405ه)، الإمام البغوي (ت/ 510ه أو 516ه)، ابن الأثير (ت/ 606ه)، القرطبي المالكي (ت/ 671ه)، - ابن تيمية (ت/ 728ه)، - الحافظ الذهبي (ت/ ه748)، الحافظ ابن القيم (ت/ 751ه)، التفتازاني (ت/ 793ه) وغيرهم كثير .

ص: 53


1- ناصر الدين الألباني، حول المهدي، مجلة التمدن الاسلامي ، دمشق، 22 ذي القعدة 1371 ه.

المنكر شاذ

وعند التحقيق يظهر أن من أنكر أخبار المهدي من العامة ليس في يده ما يدفع به شدة التواتر وشهادات أولئك الأعلام الذين، وإن ضعفوا بعض الطرق، إلا أنهم صححوا أخرى. وإذا علمت أن بعض ضروب الضعف يمكن جبره، بإعادة تركيب السند، فيما لو وجد مشترك بين الأسانيد ولم يختلف المتن، فيكون السند الصحيح مصححاً للآخر، فتصبح كلها صحيحة. لكن بعض المنکرین وهم في الأغلب معاصرین، استندوا في ردهم وتضعيفهم لأحاديث المهدي على رأي ابن خلدون، والطريقة التي تناول بها أخبار المهدي عند القوم. ومع أن الكثيرين تصدوا للموقف الخلدوني من طريقة تناوله لبعض الأخبار حول الإمام المهدي، إلا أنني أرى أن شيئا ما لا يزال في جعبتنا بخصوص الطريقة الخلدونية في تناول هذه الأخبار وأيضا المنظورالفلسفي الذي بني عليه رأيه بهذا الخصوص. وبذلك سنبرئه مما كاد ينسب إليه من القول بالنكران.

استناد احمد أمين وآخرون على تضعيف ابن خلدون لأخبار المهدي، تدليس، يفضحه ابن خلدون نفسه، حيث اعترف بصحة بعض من تلك الأخبار. بل ويؤكد ذلك اعترافه بحقيقة المهدي بمقتضى المشهور بين كافة المسلمين. وقد يبدو للبعض أن موقف ابن خلدون من المهدوية، موقف نهائي وسلبي، حيث عالجها في فصول

ص: 54

مخصصة لتناول عقائد الشيعة أو أمر الفاطمي . ثمة فصلان يتناول فيهما ابن خلدون مسألة المهدي في سياق، يوحي بالكثير من الالتباس والخلط . الفصل السابع والعشرون من المقدمة، وهو فصل في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة. والآخر هو الفصل الثاني والخمسون، في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك . ومما يؤسف له أن يقول تلميذ لأحمد أمين : «سعد محمد حسن : «ولقد أوسع علماء الحديث ونقدته هذه المجموعة نقدا وتفنيداً، ورفضها بشدة العلامة ابن خلدون»(1) وزاد السائح الليبي :«وقد تتبع ابن خلدون هذه الأحاديث بالنقد، وضعفها حديثا حديثا »(2).

مبدئياً لا وجود عند ابن خلدون لما يسند قول المنکرین . ويكفي أن يقول في بداية الفصل الثاني والخمسين من المقدمة : «اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الاسلامية ويسمى بالمهدي ویکون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح.. »(3)

ص: 55


1- المهدية في الإسلام، ص69.
2- علي حسين السائح الليبي : 185.مقال منشور في مجلة كلية الدعوة الاسلامية في ليبيا، عدد 10 لسنة 1993م - طبع بیروت.
3- ابن خلدون، المقدمة، ص 344، ط . دار الجيل، بیروت، بلا تاریخ.

وما محاولة ابن خلدون في استعراض جملة الأخبار عن المهدي، سوى للوقوف عند الصحيح منها وغيره، كما قال: «ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنکرین فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذکر کلام المتصوفة ورأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى ».(1)

وحينئذ لا إشكال في وجود الضعيف إلى جانب الصحيح. فمثل ذلك وارد في كل الأصول، لا بل في كل الفروع. فما من مبحث أصلي كالتوحيد أو فرعي كالصلاة، إلا ويوجد فيه الصحيح إلى جانب الضعيف. فمتى بلغ الخبر التواتر صحح ما دونه إن تشابه المتن، فلا يلتفت إلى وجود الضعيف في سنده . ولم نجد من فائدة فيما قدمه ابن خلدون وهو يستظهر بعض الأخبار حول المهدي، بلغة أهل الحديث في التصحيح والتضعيف، وهو الذي تناولها في سياق محکوم بمبناه في التاريخ وعلم العمران، ما كان يكفيه بلوغه دونما مشقة. ومع ذلك يقال، إن الاضطراب كان بادياً في تناول ابن خلدون لموضوع المهدي من جهة الأخبار. فهو في الفصل السابع والعشرين: «وقال مثله غلاة الامامية وخصوصا الإثنا عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة وتغيب حين

ص: 56


1- المصدر، ص345.

اعتقل مع امه هناك وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا ، يشيرون إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي».(1)على أن من أنكر عليهم اعتقادهم ذلك لهم طرق غير الترمذي. ومع أن الظاهر يوحي بالتهافت في ما ساقه ابن خلدون حول المهدي، إلا أنني أعتقد بأن ابن خلدون لم يرد القول أن سبب الغلو هاهنا هو الاعتقاد بالمهدي الوارد في الصحيح باعترافه. بل سبب الغلو في نظره هو الحديث عن أن المهدي المذكور في الصحيح هو نفسه الحجة ابن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف). فالاستشكال شخصي لا نوعي.

هنا لا بد أن نذكر بأن ابن خلدون هو مؤرخ وليس محدثاً كما لا يخفى. وإن ما أورده من أخبار، ومن النتائج التي استخلصها، يوحي بأنه لا معرفة له بالأخبار بله التصرف فيها على أساس الجمع العرفي منی تعارضت هذه الأخيرة. يقول ابن خلدون: «هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هولاءالمتصوفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا»(2). وعليه، فإن استفراغ الجهد في طلب المظان لم يتحقق مع هذا القدر اليسير من الأخبار التي تطرق إليها ابن خلدون، بينما ما لم يحصه منها یعد بالآلاف. فادعاء الاستقصاء واستيفاء الأخبار حول المهدي، هو

ص: 57


1- المصدر، ص220.
2- المصدر، ص362.

ادعاء مزيف. ما دام لم يتطرق إلى أغلبية ما ورد حول المهدي في مصنفات القوم. فما فعله ليس مصداقا لبذل الوسع، ولا هو من جنس الاجتهاد المعتبر . ثم ماذا درى من أمر الإمامية حينما زعم أنهم يقصدون الحديث المروي عند الترمذي ؛ وقد ظهر بأن ابن خلدون لم يقف عند عشرات الأخبار التي وردت في مصنفات العامة بله وجود نظائرها في مصنفات الخاصة . إلا أن يقال، إن ابن خلدون كما أحصينا من زلاته الكثير في غير محلنا، كان على مسامحة في التحقيق وتعصب لمذهبه . أي أن تحيزه مانعه من الوقوف عند الحقائق كما هي . ثمة تراخ ملحوظ في طلب الحقيقة متی تعلقت بالتراث الآخر. لقد كان ابن خلدون ضحية ساذجة لثقافة الملل والنحل التي استند إليها مسلماً بنتائجها . يكشف ابن خلدون عن هشاشة اجتهاده في معرفة التراث الآخر، حيث مضى يبني مواقفه وأحكامه على آراء کتاب «الملل والنحل» الذين ارتقوا بالعناوين والنعوت إلى مصاف المدارس العظمی . حيث ذكر من الاتجاهات والمدارس والمذاهب ما كان بعضه مجرد سبة أو تهمة أو وصف لا وجود له في الواقع. ومع ذلك يقول فيلسوف العمران:«ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل والنحل للشهرستاني (...) ومن أراد استيعابها ( أي مذاهب ومقالات الشيعة) ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنحل لابن حزم والشهرستاني »(1).

ص: 58


1- المصدر، ص223.

وعليه أمكننا التصديق بقولة للشيخ أحمد شاكر : «ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها، أنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته تهافتاً عجيباً، وغلط أغلاطاً واضحة. إن ابن خلدون لم يحسن فهم قول المحدثين، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال»(1). وقد رد أحمد بن محمد بن الصديق على ابن خلدون رداً أسماه : (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون).

إلا أنه وحتى لا يظلم الرجل، فابن خلدون لم يكن في وارد رد أخبار المهدي، بقدر ما أعترف بصحة الكثير منها، ولم يخرج عن مقتضى الإجماع على تواتر الأخبار. بل إن الالتباس ناشئ هاهنا عند ابن خلدون من أنه عالجها ضمن سیاق التاريخ السياسي لبعض أدعياء المهدوية أو ما نسب إليهم من قبل كتاب أهل الملل والنحل كما أكد ابن خلدون سابقاً معرفاً بمصادره .

ثمة ما هو جدير بالتذكير في المقام. وهو أن ابن خلدون يؤطر رؤيته السياسية على أساس منظور مبنائي قوامه العصبية . وعلى هذا الأساس جاءت قراءته لواقعة كربلاء، واعتبارها نوعا من سوء الفهم

ص: 59


1- الرد على من كذب بالاحاديث الصحيحة الواردة في المهدي : مقال للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد، منشور في مجلة الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة العدد1 ، السنة 12، برقم (46) سنة 1400 ه.

لسنة الملك، حيث اعترف للإمام الحسين علیه السلام بالحق في الموقف والصدق في دعوته، إلا أنه غلطه في الخروج مع فقد الشوكة وضعف العصبية. وها هو يعود إلى مبناه ويترك كل هذا النقاش الإخباري الذي لم يكن له ملزم، حيث يقول: «والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهر وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية»(1).

يفهم من ابن خلدون أنه مع فرض التسليم بالمهدي، لا يقر بظهور دعوته وتحقق بسط اليد لقائم آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم بالشكل الذي يظهر من الروايات إلا إذا تحقق شرط العصبية . والحال أن الدعوات التي يتحدث عنها ابن خلدون، لم تقع في سياق العصبية لقريش والفاطميين، التي اعتبرها ابن خلدون قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا في الحجاز في مكة وينبع والمدينة ... وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم يبلغون آلافا من الكثرة فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلف الله بين قلوبهم حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار کلمته وحمل الناس عليها وأما غير هذا

ص: 60


1- المصدر السابق، ص 362.

الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبية ولا شوكة إلا نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة»(1).

لقد أورد ابن خلدون حديثه هذا لرد دعوة من أسماهم بالعامة والأغمار من الدهماء، الذين يوجبون تحقق الظهور لمجرد النسب لا بتحقق الشوكة والعصبية . والحق أن نظرية الشوكة على واقعيتها، تصلح أن تكون نفسها دليلا على ظهور المهدي، وأيضا مانعاً من استغلال الدعوة المذكورة في غير محلها . لكن قبل ذلك لا بد من مناقشة ابن خلدون في كيفية تنزيله لنظرية العصبية في موضوع الإمام الحسين والمهدي علیهما السلام . إن نسبة الغلط للإمام الحسين بالنسبة لابن خلدون هي نتيجة تطبيق سطحي للنظرية التي اجترحها ومنحها كل هذا الاقتدار التفسيري. وأحسب أن المشكل في المعطيات التي يستند إليها ابن خلدون وليس في صميم النظرية، حيث لا خلاف حولها. حيث السؤال المطروح على ابن خلدون: من قال إن الحسين خرج طلبا للملك، حتى يشترط العصبية؟ ألم يؤكد بأن دعوته إن هي إلا ثورة في وجه الظلم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟! ألم يحاصر ويفرض عليه البيعة والذلة، فكانت ثورته من أجل الكرامة وفضح الطغيان لا طلبا للملك؟! فأين غلط الحسین

ص: 61


1- المصدر، ص362

حاشاه، كما يقول ابن خلدون، ولم تراءى لهذا الأخير أن الحسين طالب ملك. إن نظرية العصبية ، تحصر العالم وتاريخ البشر التدافعي والصراعي في العصبية والشوكة. وهي بذلك لا تفتح مجالا للثورة على الظلم والاحتجاج. فالعصبية بالمنظور الخلدوني هي وحدها القوة، وهي تتمتع بوضع قار وكيف خاص. بينما أكدت حركة التاريخ، بأن القوة تتحصل من التدبير الأمثل لعلاقات القوة واستغلال الحدث السياسي. وقد كان دائما لبني هاشم من العصبية ما يكفي، حيث قامت دول في التاريخ الإسلامي بالدعوة إلى آل محمد صلی الله علیه وآله و سلم كما هو شأن العباسيين، والفاطميين والبويهيين والحمدانيين ودولة الأدارسة وغيرهم. لم تنحصر عصبيتهم في الحجاز فقط، بل امتدت إلى فارس وأفريقيا وبلاد ما بين النهرين .. نعم إن النظرية الخلدونية تجيب عن سؤال: لماذا هو غائب ؟ حيث الغياب والحضور مشروط بتحقق العصبية المستوفية والشوكة الكافية لتحقق ملکه وانبساط ید سلطانه. فوجود النسب وحده لا يكفي . وحيث جوهر القضية ليس مجرد النسب بل خصوصية فيه اقتضت تخصيص الأئمة من أهل البيت علیهم السلام. إن الحديث عن المهدي مع تحقق العصبية اللازمة أمر يسلم به ابن خلدون. لكنه لا يسلم به دون شوكة بها يتحقق ملك المهدي على الأرض. وعليه،فإن كل الأخبار التي تتحدث عن المهدي، تتحدث عن التأييد بالقوة والعصبية وبكل

ص: 62

ما تحتاجه دولته وما يقتضيه بسط اليد. يكون ابن خلدون على خلاف ما ادعاه المنکرون، مقراً بالمهدوية، ومسلماً بصحة أخبارها . لكنه اشترط قيداً بها تتقوم؛ ألا وهو العصبية . وليس هذا إلا عين ما يتعين أن يكون عليه الاعتقاد بالمهدوية، بوصفها تجل لأكبر عصبية في تاريخ البشر. حيث كل أسباب الدعم والتأييد والتسديد ستكون معه . فهو مهدي مزود بكل أسباب القوة؛ بل وكما أكدت الروايات : سیرقي في أسباب السماوات والأرض . وهو عنوان العصبية، ليس بمدلولها الخلدوني التقليدي والساذج، بل هي عصبية قائمة على استغلال أمثل لعلاقات القوى في عالم معاصر، تغير فيه كل شيء حتى مفهوم الشوكة والعصبية . حيث الحق والعدالة والأهداف النبيلة تشكل عنصر قوة، وهي علة لإعادة تشكيل العصبية . أمر يثبته تاریخ الحضارات والتحولات البشرية الكبرى. من هنا، فإن النظرية الخلدونية تبدو مثغورة لأنها لا تستدعي قوانين القوة غير العصبية ، ولا تقدم تفسيراً للتعاليم القائلة بأن دولة العدل مع الكفر تدوم ودولة الظلم مع الدين لا تدوم. ومنی تضخم الظلم وجدت الأمم المغلوبة في العدالة مطلبا رئیسا، فتشكلت عصبيتها من جديد على أساس المبدأ . إن مفهوم العصبية في نظر ابن خلدون، ذو دلالة عشائرية وقبلية، لذا ما كان له أن يتصور بأن العصبية قد تقوم على المصالح مع اختلاف في القومية والملل والنحل. وتلك هي سمة العصبية في

ص: 63

عصر القائم علیه السلام، جامعة للأمم على أساس المصلحة في العدالة والسلام.

- دليل الإجماع:

لم نكن في حاجة إلى إجماع طالما لم تصل النوبة إليه. غير أن الإجماع هنا هو تأكيد على التواتر وصحة أخبار المهدي كما تحدث عنها أعلام المدرستين. وبهذا المعنى يصدق الإجماع - وتلك من کرامة مهدي الأمة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) - بمعناه المعتبر عند العامة والخاصة. فلا يخفى أن حجية الإجماع في مدرسة أهل البيت كاشفية غير موجدة ، سواء أتعلق بالمحصل منه أو المنقول. من هنا ما كان أجرأ من فقهاء الإمامية أن ردوا جملة من الاجماعات المزعومة استنادا إلى قرائن تزلزل کاشفية هذا الإجماع. وذلك حيث كانت حجية هذا الأخير ثابتة بالعرض لا بالذات. فالمعتبر فيه ما كان كاشفاً عن رأي المعصوم وإلا فهو مسامحة، أو مسامحة في مسامحة كما عبر عن ذلك سلطان الأصوليين الشيخ مرتضى الأنصاري في رسائله بخصوص الإجماع المحصل. أمكن حينئذ أن يلحق الإجماع في مدرسة أهل البيت بالسنة، لأنه يدور معها برسم الكاشفية وجوداً وعدماً. غير أن النكتة في المقام، أن ثمة شكلين من الإجماع ثابت هاهنا، وتتحقق حجينه باعتبار المدرستين معاً، مما يجعله أقوى إجماع على الإطلاق. فمن جهة، لا أحد من المسلمين خرج عن

ص: 64

مقتضى الإجماع ولو اختلف في المصداق الشخصي لأخبار المهدي . فبين من قال أنه هو الحجة ابن الحسن علیه السلام وبين المنکر الذي يقول بولادته آخر الزمان، لا أحد قال بأنه سيكون مهدي من خارج الأمة، أو أنه من غير بيت النبوة . ولا أدل على ذلك من قول ابن خلدون الذي مر معنا حيث تحدث عن المشهور بين كافة أهل الإسلام على مر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت. وقول ابن خلدون عمدة في المقام. لما علمت أنه وبناء على نظرية العصبية والغلب، كان أحرى بفيلسوف العمران أن ينكرها ويتحدث عن تاريخ مفتوح على كل أشكال العصبية الممكنة، وحيث أكد على أن عصبية قريش أو الهاشميين انتهت وكادت تنحصر في الجزيرة العربية . والشهرة التي يتحدث عنها ابن خلدون كما رأيت ، ليست بمدلولها الشرعي، بل بمدلولها اللغوي الذي يؤدي بحسب الاصطلاح معنى الإجماع، حيث جعله أعم وأوثق بقيد كل الأعصار، كناية عن أن ما من طبقة إلا وتمت فيها الشهرة، ولم يرد من العلماء من شكك في ذلك المعتقد، بل إن ابن خلدون استعرض كما مر معنا من تلكم الأخبار ما أكد صحة كثيره كما ثنی بموقف أهل التصوف والذوق إثباتا لعقيدة المهدوية بطريق الحدس.

يتحصل مما ذكرنا أن الإجماع قائم في المدرستين وعلى أساس اعتباریته فيهما معا . فالإجماع ثابت وفق ما اعتبر عند الخاصة لجهة

ص: 65

إجماع أهل الإخبار المعتبرين، كما أن الإجماع عند الإمامية قائم هاهنا وفقالمعتبر منه في المدرسة، حيث هو من جنس الإجماع الحسي كما لا يخفى . فهو ليس فقط كاشفا عن رأي المعصوم حدساً كما لو تعلق الأمر بآراء فقهائية مع فقد الدليل، بل هو إجماع قائم على ثبوت أدلة متواترة، ومعززاً لدليليتها. وقد أحصي بعض الفضلاء واستقصوا مخرجي أحاديث المهدي التي عدت بالآلاف، وارتأينا أن نستعرضه في هذا الباب، حيث وجدناه مستوفياً للمطلوب وكافياً لا حاجة معه للتكرار ومزید استقصاء إلا أن يقال أن الإجماع غير قائم بهؤلاء الأعلام المعتبرين، فتعين قيامه بالمغمورين ممن لا أثر لهم في إجماع سلبا وإيجابا . وهؤلاء الأعلام هم: ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى (ت/ 230ه)، وابن أبي شيبة (ت / 235ه)، وأحمد بن حنبل (ت/ 241ه)، والبخاري (ت/ 256ه) ذكر المهدي بالوصف دون الاسم، ومثله فعل مسلم (ت/ 261ه)، وأبو بكر الاسكافي (تا 620ه)، وابن ماجة (ت/ 273 ه)، وأبو داود (ت/ 275 ه)، وابن قتيبة الدينوري (ت/ 276 ه)، والترمذي (ت/ 279 ه)، والبزار (ت/ 292 ه)، وأبو يعلى الموصلي (ت/ 307ه)، والطبري (ت/ 310ه)، والعقيلي (ت/ 322ه)، ونعيم بن حماد(ت/ 328ه)، وشيخ الحنابلة في وقته البربهاري (ت/ 329ه) في كتابه (شرح السنة)، وابن حبان البستي (ت/ 354ه)،

ص: 66

والمقدسي (ت/ 355ه)، والطبراني (ت/ 360ه)، وأبو الحسن الآبري (ت/ 363ه)، والدارقطني (ت/ 385ه)، والخطابي (ت/ 388ه)، والحاكم النيسابوري (ت 405ه)، وأبو نعيم الأصبهاني (ت/ 430ه)، وأبو عمرو الداني (ت /444ه)، والبيهقي (ت /458ه)، والخطيب البغدادي (ت / 463ه)، وابن عبد البر المالكي (ت /463ه)، والديلمي (ت/ 509ه)، والبغوي (ت/ 510 أو 516ه)، والقاضي عياض (ت/ 544ه)، والخوارزمي الحنفي (ت/ 568ه)، وابن عساکر (ت/ 571ه)، وابن الجوزي (ت/ 597ه)، وابن الأثير الجزري (ت/ 606ه)، وابن العربي (ت 638ه)، ومحمد بن طلحة الشافعي (ت/ 652ه)، والعلامة سبط ابن الجوزي (ت/ 654ه)، وابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت/ 655ه)، والمنذري (ت/ 656ه)، والكنجي الشافعي (ت 658ه)، والقرطبي المالكي (ت/ 671ه)، وابن خلکان (ت/ 681ه)، ومحب الدين الطبري (ت/ 694ه)، والعلامة ابن منظور( ت/ 711ه) (في مادة هدي من لسان العرب)، وابن تيمية (ت/ 728ه)، والجويني الشافعي (ت/ 730ه)، وعلاء الدين بن بلبان (ت/ 739ه)، وولي الدين التبريزي (ت/ بعد سنة 741ه)، والمزي (ت/ 739ه)، والذهبي (ت/ 748ه)، وابن الوردي (ت 749ه)، والزرندي الحنفي (ت/ 750ه)، وابن قيم الجوزية (ت/

ص: 67

751ه)، وابن كثير (ت/ 774ه)، وسعد الدين التفتازاني (ت/ 793ه)، ونور الدين الهيثمي (ت/ 807ه)، وابن خلدون المغربي (ت/ 808ه) والشيخ محمد الجزري الدمشقي الشافعي (ت/ 833ه)، وأبو بكر البوصيري (ت/ 840ه)،وابن حجر العسقلاني ت / 852ه)، والسخاوي (ت/ 902ه)، والسيوطي(ت/ 911ه)، والشعراني (ت/ 973ه)، وابن حجر الهيثمي (ت/974ه)،والمتقی الهندي (ت/ 975ه) والشيخ مرعي الحنبلي (ت/ 1033ه)، ومحمد رسول البرزنجي (ت/ 1103ه)، والزرقاني (ت/ 1122ه)، ومحمد بن قاسم الفقيه المالكي (ت/ 1182ه)، وأبو العلاء العراقي المغربي (ت/ 1183ه)، والسفاريني الحنبلي (ت/ 1188ه)، والزبيدي الحنفي (ت/ 1205ه) في كتاب (تاج العروس) مادة : هدي، والشيخ الصبان(ت/ 1206 ه)، ومحمد أمين السويدي (ت/ 1246ه)، والشوكاني (ت/ 1250 ه)، ومؤمن الشبلنجي (ت/ 1291ه)، وأحمد زيني دحلان الفقيه والمحدث الشافعي (ت/ 1304 ه)، والسيد محمد صديق القنوجي البخاري (ت/ 1307 ه)، وشهاب الدين الحلواني الشافعي (ت/ 1308 ه)، وأبو البركات الآلوسي الحنفي (ت/ 1317 ه)، وأبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (ت/ 1329ه)، والكتاني المالكي (ت/ 1345 ه)، والمباركفوري (ت/1353 ه)، والشيخ

ص: 68

منصور علي ناصف (ت/ بعد سنة 1371 ه)، والشيخ محمد الخضر حسين المصري (ت/ 1377 ه)، وأبو الفيض الغماري الشافعي (ت /1380 ه)، وفقيه القصيم بنجد الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (ت/ 1385 ه)، والشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (ت/ 1388 ه)(1).

دليل العقل

ومقتضاه اللزوم؛ نظير لزوم المقدمة لذي المقدمة كما في مقدمة الواجب. وهو ما تحقق حكمه عقلا على نحو من الاستقلال لا يستدعي مدخلية السماع.إن علاقات اللزوم هي تجلي العاقلية التي بها تم التكليف وبها تمت الحجة على العباد وعليها توقف التكليف، حيث قبل التنزيل كان العقل. فأول ما خلق الله العقل. ولقد استند المنكر للمهدي على خطاب العقل والعلم والبرهان، ضاربا عرض الحائط ما جاء من الأخبار عنه وعن أحواله، حتى ما تواتر منها . وقد تركز رفض المنکرین على أنها عقيدة باطلة للأسباب التالية :

1 - نحن في عصر العلم، وهذا ما بقي من آثار الفكر الغيبي السحري. فالحداثة هي عصر العقل الذي قطع مع عصر الإيمان .

2 - إنها تعكس ثقافة التمحور حول الشخص، وإضفاء صفات

ص: 69


1- اعتمدنا في هذا الاستقصاء على الكتاب القيم، المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الفكر الإسلامي، الذي هو باكورة مركز الرسالة، قم المقدسة .

الأسطورية عليه ونحن في عصر الجماهير والديمقراطيات وعصر تجاوز عبادة البطل المخلص. وهذا لا ينسجم مع عصر النضج البشري الذي تحدث عنه (كانط) في رسالة التنوير، وشكل عنوان الحداثة ..

3- إنها تعبير عن عجز الإنسان عن صناعة حاضره والتوكل على المخلص الذي يصنع عنه ذلك بالوكالة .

4 - ما أحاط بأخبار الإمام المهدي من معاجز هو باطل في نظرالعلم التجريبي.

5- وفي ما يخص من ذهب إلى أنه الغائب، فإن هذا بخلاف العلم أيضا، وفي هذا التقى المنكر الأصلي مع المنكر للغيبة مع اعتقاده بالمهدي المستقبلي بالجملة.

لدفع الشبهة الأولى ، نقول : ثمة مغالطة في التأريخ للعلم والفكر الإنسانيين. ويراد من هذا التحقیب لتاريخ المعرفة على أساس القطائع التامة، التنكر لمنطق تكامل المعرفة وتداخلها وتعایشها، حيث إن سلمنا بأن ثمة قطائع، فهي كذلك من جهة النموذج لا من جهة الحقائق والأفكار. وسلطة النماذج والبارادیغمات (1)هي سلطة

ص: 70


1- الباراديغم: أي النموذج الإرشادي . وهو جملة القواعد والنظريات والأعراف العلمية التي تهيمن على مجتمع علمي معين، ولا يمكن الخروج عنه إلا بثورة تمس تلك القواعد والنظم المعرفية والأعراف العلمية، وهذا ما يعبر عنه فيلسوف العلم توماس کیون ببنية الثورات العالمية .

تفسيرية لا يتأكد حضورها بالاستحقاق المعرفي على النحو الواقعي ، بل يتحقق ذلك من جهة انتظام جماعة في لحظة ما أو عصر ما على التقيد بنظيمة أو جملة من التصورات أو المبادئ التأسيسية الكبرى . أما هل هذا يعني نهاية الأفكار المجردة والتعاليم، فدونه خرط القتاد. ولا أدل على ذلك من أن الأنتروبولوجيا الحديثة وسعت من مجال بحثها ليشمل ما يبدو مجتمعات حديثة وأخرى في غاية البدائية . فالأفكار وإن كانت بدائية فهي تتمظهر بصور شتى في العصر الحديث حيث لا يبقى من متغیر سوى الإطار والشكل الخارجي، أو لنقل الصيغ التعبيرية، بينما الوفاء يظل ثابتاً للمضمون نفسه. هكذا تجلى التفكير ما قبل المنطقي في رومنسيتنا الحديثة، وحيث لم يجد التفكير برسم العلية مكانه في كل ما يدين به البشر. فما يبدو من مقتضی عصر الإيمان أو مراحل الغيب والسحر هو حاضر في بدائية هوجاء في الكثير مما يدين به البشر في حداثتهم. لم يخل عصر من العصور من عقل وعقلاء، كما لم يخل عصرنا الحديث من مظاهر الغيب والسحر. وقد أجابت الحداثة عن ذلك ضاربة عرض الحائط بالنزعة العلموية التي قسمت أزمنة المعرفة إلى جزائر غير متاخمة لبعضها البعض، ورسمت بينها قطائع مدعية بأن عصر اللاهوت

ص: 71

والسحر وما شابه قد ولی بلا رجعة في زمن الوضعية الإيجابية . والحق أن الدين كان ولا يزال هو الظاهرة الاكثر حيوية ورسوخاً، في كل زمان ومكان. بل هو الظاهرة الأولى والأخيرة، ما استوجب تواضعاً كبيراً في السوسيولوجيا الدينية. محاولة تقريب الظواهر الدينية والغيبة بموازين العقل التجريبي الذي لا يزال يتخبط في طريق السيطرة على الطبيعة وهي أقل الظواهر صعوبة وأقربها للفهم، كان زعما وادعاء مغالطاً. واليوم نستطيع وانطلاقا من العلم الحديث بشعبه وتخصصاته المختلفة أن نؤكد على أن القسم الأكبر من الظواهر في العالم لا زالت أسراراً غامضة. لا بل إننا متی رمناالدقة في بعد من أبعاد الظاهرة الواحدة افتقدناها اضطراراً في البعد الآخر. فلم يكن رائد فيزياء الكوانتا هایزنبيرغ مبالغاً في التأكيد على مفهوم اللادقة، حيث بات من المستحيل السيطرة على الزمان والمكان في آن واحد. مات انشتاین كما مات غيره وفي جعبتهم الشيء الكثير مما يحتاج إلى توضيح. فالعالم تتسع ظواهره أمام العلماء بمقدار ما يتم اكتشاف يسير من أسراره القريبة المنال هنا أو هناك . والعلم الحقيقي التام لا وجود له حتى الآن إلا في رؤوس من لم يجربوا العلم أو تعاطوا مع عصرهم بغرور. وقد ظهر أن أكثر من يتغنى بالعلم بجاحة وغروراً هم من شعب لا صلة لها بالعلم ومعاناته، التي تجعل العلماء المتخصصين يزدادون تواضعاً يوما بعد

ص: 72

يوم. ومع ذلك نقول، إننا وجدنا الغيب يتخلل كل هذا العلم. حيث اليوم أصبح واضحا أن غرور علم الأنوار وما قبله، كان لا يزال مصدوماً بكبرى يقينيات الميكانيكا والظواهر القريبة من العين المجردة. لكن مع دخول عصر الفضاء وعصر الذرة وغيرها بات العلم يتعاطى مع الظواهر بالكثير من النسبية والاحتمال والتوقع والفوضى والاستقراء والفرضية مع الإبقاء على زند التنكر لتفجير محتمل دائماً لهذه الخطة التفسيرية أو تلك. بمعنى آخر وكما أكد بوبر، بأن النظرية العلمية هي ما تستطيع أن تصمد أمام الاختبار والدحض العلمي المستدام. لا وجود لنظرية علمية تامة، بل لا وجود إلا إلى اختبار مستمر للنظريات، ولا تزال الفرضية هي ذلك التجلي لتأثير العلم الحضوري، بل لا زالت النتيجة هي تلك النتيجة التي تبحث عن اختبار حسي. إن الفرضية هي نتيجة محدوسة كما أن النتيجة هي فرضية محسة. لكن من أين تأتي الفرضية؟!

ومع ذلك أمكننا من خلال هذا اليسير من العلم أن نحقق في إمكان حدوث وقائع بلغت مسامعنا بمحض الإخبار. لقد أمكننا من خلال التیرموديناميك - الميكانيكا الحرارية - أن نتوقع - وهذا غيب - نهاية محتومة لعالمنا. وكيف نستطيع أن نتحدث بثقة علمية قاطعة عن وجود الطاقة، وهي غيب لا ندركه إلا من آثاره الفاعلية كالضوء أو الحرارة أو الحركة. هذا فيما عرفناه. أما ما لم نعرفه ، فكم من أنواع

ص: 73

الأمراض التي لا زال يتكبد فيها الطب الحديث كل هذا العناء بلا جدوى. وماذا نستطيع أن نفعله حيال الزلازل والأعاصير التي لا تستطيع أن تتنبأ بها أعتی وسائل الاستشعار حساسية . هل استطاع العلم الحديث في كبرى المجتمعات الحديثة والمتقدمة أن يقضي على الظاهرة الدينية والروحية .. يوما بعد يوما يبدو الإنسان ضعيفاً أمام أسرار الكون والطبيعة .. وبقدر ما يتم اكتشاف سر هنا، تنهمر أسرار في الجانب الآخر.. إن الإنسان الحديث المنبهر باکتشافاته الصغيرة، والتي ينشئ معها علاقة الطفل بدماه، لا يزال يمشي بعلمه الطبيعي يرسف بسلاسل العجز. بل لا يزال يمشي على حقل طین لزج أو رمال متحركة . هكذا غدا الواقعي مع ماكس بلانك هو كل ما يمكن قياسه. فالمساحات التي يعجز العلم عن قياسها هي في نظر رائد الكوانطا، في عداد المعدوم. إن الإنسانية تدين في الجزء الأكبر من حياتها اليومية لمعتقداتها الروحية. هذه العبادة الساذجة للعقل والتي أتت عليها وضعانية أوجيست كونت، تبدو اليوم هجينة . وليس عصر النضج الذي تحدث عنه كانط في رسالة التنویر سوی نوبة من نوبات غرور الأنوار، وحكم يستحضر ماضي البشرية، وليس مستقبلها . فمتى بلغت الحداثة الباب المسدود، وثمة من رأي ذلك من داخل الحداثة نفسها مثل مارکوز، فإن عصور الظلام تنتقل من الماضي إلى المستقبل. فوجهة الإنسان اليوم التي تسلك على

ص: 74

طريق التدمير والفوضى والتلوث والظلم الاجتماعي والحروب، كلها ترسم مستقبلاً غامضاً للإنسان، أكثر من ظلمات ما سبق من تاريخه . ومع ذلك فإن كانط نفسه كان أول من سدد الضربة الكبرى للعقل راسما له حدوده مذكراً إياه بما ينبغي وما لا ينبغي له كما في «نقد العقل المحض».وقد بات واضحاً مع نيتشه بأن هذه العبادة الساذجة للعقل على حساب الوجدان هي من يصنع مستقبلا من اللامعنى، ويحدث الكثير من التغليط، حيث هذا العقل الذي وجد لإدراك الأشياء الثابتة أني له أن يدرك العالم في صيرورته المستدامة. صوب نيتشه ضرباته لهذا التصور المتعجرف للعقل ومنحه مكانته المتواضعة، وحطم أسطورة العقل المؤله. وليس بعيداً عنه ما قام به رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد وهو يعيد بناء العلاقة بين الإنسان والعالم على أساس اللاوعي الذي هو العمدة في سلوك البشر فرادى وجماعات، حيث كانت تلك ضربة لا تقل خطورة ضد النزعة العقلانية الساذجة. بل إنها لو اعتبرت واحدة من صدمات الإنسان المعاصر، شأنها شأن الثورة الكوبرنيكية، فإنها بمعنى آخر هي صدمة الإنسان الحديث مع حداثته، حيث أظهر التحليل النفسي، عكس ما ساد الاعتقاد به في الفكر الحديث. ومع ذلك، فالأديان والمعتقدات وحدها من أكدت بأن أكثر الناس لا يعقلون وأغلبهم غافلون. قد استلهمت الفرويدية ثورتها على الوعي ومزاعمه من

ص: 75

الفكر الديني نفسه. كيف يقال أن عصر الإيمان ولی، حيث حل عصر العلم. هذا إن قلنا بأن هذه النظرة الساذجة للإيمان والعلم، لا وجود لها في واقع حياة المجتمعات. حيث تؤمن بالعلم إيمانها بمعتقداتها ، في تعایش لم يزعجه شذاذ الآفاق. وحتى لا نطنب أكثر من هذا، لنأخذ مثال الاعتقاد بالمهدوية . إن هناك شيء أشبه بتنويع على الأفكار الدينية الكبرى. إن كل ما لنا من علم هو حلم استلهمته البشرية من الأديان نفسها . فالذي أغنى مخيلة الكائن وأطلق طاقاته ومنحه روح الأمل، هي هذه المعتقدات والأديان الروحية . بل إن العلم الحدیث جعل من التراث اليوناني وأساطيره الوثنية نموذجا إرشادياً في كثير من ابتکاراته وفنونه كما لا يخفى. ولا يزال الإنسان الحديث مديناً لفكرة المهدوية، حتى وهو يعبر عنها برسم فلسفات ومذاهب فكرية شتی . وعصرنا الحديث هو الاكثر اهتماما بعلم التوقع والمستقبليات . بل دائماً وعلى مر العصور كان هناك اهتمام استثنائي بعالم متوقع في ذهن الحكماء، يجد في المتلقي قابلية الاعتقاد. حدث ذلك في اليونان مع الجمهورية الفاضلة عند أفلاطون؛ لكن الحلم نفسه لم يتوقف يوما حتى مع ولوج العصر الحديث. فالأفكار الملهمة والمؤسسة لعصر الأنوار كانت مسكونة بهذا الحلم المهدوي. بعد المدينة الفاضلة التي كتب حولها فلاسفة مسلمون كثر هناك مدينة الله للقديس أوغسطينوس ومدينة الشمس عند كومبانيلا. كما کتب توماس مور عن جزيرة يوتوبيا . وهي حكاية

ص: 76

عن عالم متصور عن نحو من النضج والكمال النفسي والعقلي والأخلاقي، ما شكل ملهماً لعصر النهضة . إن عصر النهضة الأوربية التي كان توماس مور واحداً من أبرز روادها، كان يتصور الحداثة بهذا الكمال العقلي والأخلاقي. إن النهضة الأوربية الحديثة هي بنت هذا الإلهام المهدوي الكبير، كما جسدته تلك المدن الفاضلة المتوقعة، كما تحكي جزيرة توماس مورالفاضلة.

وسمت فكرة الإنسان المتفوق الآتي من بعيد، فلسفة نيتشه، إلى حد یکاد يجسد مظهر المهدوية بنفسها . «اسمعوا، ها أنذا منبئكم عن الرجل الأخير». كذلك يبتدئ نيتشه حديثه في «هكذا تكلم زرادشت». وهو يكاد يصف ويحدس ما ينبغي للمنتظر العظيم ذي الشأن الكبير ، حيث يقول : «وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيطفو على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به ، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمراً.. فما كان من الحاضرين من تلك الجموع الغفيرة بعد أن ينهي زارا خطابه: «إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمان الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان المتفوق »(1).

ص: 77


1- فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 38۔ 39، ت: فليكس نارس، منشورات دار أسامة، دمشق، بلا تاریخ.

يتحدث نيتشه هنا على لسان زارا، بحقائق تنطبق على الرجل الأخير المنتظر . إنه يتحدث عن أن الأرض ستصغر في زمانه فيطفو على سطحها، كناية عن الظهور . وأيضا إشارة إلى بسط اليد. وأنه سيحول إلى حضارة كل من يحيط به كناية عن أنه سيملوها قسطاً وعدلا ؛ وهل الحضارة إلا كذلك. ثم إنه يتحدث عن أن سلالة الرجل الأخير المنتظر لا تباد. وحيث ان النص النيتشي ككل نصوصه، نص أدبي غارق في الكنايات والتشابيه، صؤر ذلك بالبراغيث لجهة التشبيه، وتعبيرا عن قوة التكاثر إلى حد العجز عن محو آثارها. وهو في نهاية المطاف أطول الناس عمراً . لقد لخص نيتشه في هذه الفقرة التصور الحقيقي للرجل الأخير المنتظر.

في أيامنا هذه، ازدادت وطأة الحروب والتحديات التي جعلت الاستكبار العالمي حتى وهو يمارس جرائمه المنكرة في حق الإنسانية بالغزو والتحكم بمقدرات الشعوب والأمم، يفعل ذلك متمثلا زيفاً مظهر المخلص الذي سيملأ الدنيا سلماً وديمقراطية ورفاهية . ومثل هذا الادعاء وارد، حيث ادعاه دجالون عبر العصور . وما درى هؤلاء المستكبرون بأن المهدي المخلص هو للأمم قاطبة ، وليس لأمة واحدة أو لطبقة وفئة وشبكة مصالح خاصة. لكن النكتة في المقام، واحدة من أكثر الأطروحات إثارة عقب سقوط الاتحاد السوفياتي؛ هي فكرة نهاية التاريخ والرجل الأخير، للخبير الأمريكي

ص: 78

فرنسیس فوکویاما . لقد راقت هذه الأطروحة للكثير من المتحمسين للهيمنة على العالم، ووجدوا فيها غطاء لتحقيق أهدافهم الجهنمية . لقد أوحت الأطروحة إياها بأن نهاية التاريخ استقرت على أعتاب الولايات المتحدةالأمريكية، وبأن الرجل الأخير هو الرجل الليبرالي بامتياز . کان تصور نیتشه للرجل الأخير اكثر أهمية وأغنى خيالا من الرجل الأخير عند فرنسیس فوکویاما الذي بدا وكأنه تراجع عن الكثير من أفكاره بهذا الخصوص. غير أن جوهر القضية ظلت ولا زالت هي المحرك والملهم لحركة الإنسان الحديث إن سلبا وادعاء أو إيجابا . ولعل هذا ما جعل فكرة فوکویاما أكثر وقعا على العقل الأمريكي نفسه من نظيرتها الصدام بين الحضارات لهينتنغتون . فهذه وإن حاصرت الإمكان وحددت الرجل الأخير في النموذج الأمريكي، فهي تمنحه ريادة في العالم وهيمنة على الدنيا. بينما هينتنغتون شكك في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الاستمرار في الهيمنة على العالم، وطالب بتراجعها إلى حدودها الطبيعية ، والی تکتلها الغربي، بل وتنبأ بزوالها إن لم تأخذ بعين الاعتبار الاهتمام بشؤونها الداخلية وحماية ثقافتها الغربية من خطر الهجرة . لم توجد فكرة الرجل الأخير في أطروحة الصدام بين الحضارات، لكنها وجدت عند فوکویاما. لذا، لا يزال الباراديغم المهيمن على الخطاب السياسي الأمريكي، هو الباراديغم المهدوي، ولكن

ص: 79

بالصورة المعكوسة التي يخطئها الحس والحدس. من هنا أردنا أن نؤكد بأن العصر الحديث، لا يزال مديناً للباراديغم المهدوي في كل مظاهره، بمعنى آخر إن الموضوع الجوهري في المهدوية حاضر من خلال عقيدة المخلص والرجل الأخير والانتظار. بهذا يندفع الإشكال الأول، ومفاده أننا نعيش عصر العلم والعقل.

الإشكال الثاني ومفاده أن فكرة المهدوية مستلهمة من ثقافة تتمحور حول الشخص المخلص الفريد، وإضفاء صفات الأسطورية على الإنسان. ونحن اليوم في عصر الجماهير والديمقراطيات وعصر تجاوز عبادة البطل المخلص. وهذا لا ينسجم مع عصر النضج البشري الذي تحدث عنه كانط في رسالة التنوير، وشكل عنوان الحداثة . إن حركة التاريخ هي حركة موضوعية وتاريخية وليست حركة أفراد أو فرد واحد ملهم. والحق أن هذه الشبهة لا تشكل أكثر من موقف أيديولوجي من فكرة البطل ودور الفرد في التاريخ. وقد حدث ذلك الجدال الكبير حول هذا الموضوع بين الفکرین : الماركسي والليبرالي. عالجها المؤرخون الألمان كما عالجها مارکسیون وكذا اشتراکيون تقليديون من أمثال بليخانوف. تشبث الاتحاد السوفياتي بفكرة التاريخ وحركته، وتشبث الغرب بفكرة البطل. انتصر الغرب على الأقل لأنه لم يلغ دور البطل في حركة التاريخ، وإن كان الاتحاد السوفياتي نفسه يمنح هذا الدور غیر

ص: 80

المعلن للفرد البطل. لقد صنع الاتحاد السوفياتي أبطاله أيضا ؛ من لينين وستالين وغيرهما. وحينما سقط المعسكر الشرقي، علقوا الهزيمة على غورباتشوف. فإن كان الفرد مسلوب الدور في حركة التاريخ على صعيد الإيجاب، فالأمر سيان على صعيد السلب. وإذا كان التاريخ يتحرك ضمن قوانین لا دخل للإرادة فيها ولا معنى لوجود البطل تقديماً وتأخيراً، فلم السياسة والتخطيط والمناورة . إن الأبطال الموهوبين هم أنفسهم شرط من شروط حركة التاريخ. بل ثمة جدل بين الارادة وحتمية التاريخ، حيث الشروط تتهيأ للبطل، والبطل يتقدم بالشروط نفسها إلى لحظة الأوج والتخارج التاريخي للبنية،فيحدث الحدث العظيم. لا وجود في التاريخ لحركة تاريخية لم يوجد البطل في طليعتها، يصنع مجد الأمة ويتكامل مع جملة الشروط التاريخية .. وفي مثال الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، لا نتحدث عن بطل مجرد يقاتل بالنيابة عن الناس، ولا بطل يأتي من دون شروط موقوفة وحتمية. إن غيبته کانت دليلا على فقد تلك الشروط، وخروجه هو عنوان لتحقق تلك الشروط. هذا ناهيك عن أنه سيصنع حركته التاريخية بالجماهير التي تنتظره وتأمل وجوده . إنها حركة مشروطة. ودور الإمام الملهم هو دور البطل العبقري الذي يعرف كيف يحقق إنجازات الأمة وكيف يراقب خططها واستغلال طاقاتها وتنظيم قدراتها؛ إنه دور لا محيد عنه في كل مراحل التاريخ، لكنه

ص: 81

في عصر الظهور سيكون أبرز وأقوى! إن الديمقراطيات اليوم لا تستغني عن البطل، بل إن الديمقراطيات هي نفسها تصنع الأفراد وتمنح للفرد دوراً مميزاً في حركة التاريخ. وأما الحداثة التي وسمت بنضج الإنسان، فهو نضج بالنسبة إلى حال الإنسان في القرون الوسطى وما قبلها . وقد ذكرنا أن صاحب المقولة نفسها، كانط، أكد على محدودية العقل المجرد، وقدم صيغة في القانون الأخلاقي لا يمكن تحققها إلا في زمن شبیه بزمن المهدي . وهو عالم افتراضي لا تحقق له في الواقع كما لا يخفى. ومع ذلك لا يفوتنا أن الحداثة هي نفسها ركزت على البطل والعبقرية الفريدة للأشخاص. فلك أن تنظر إلى أي مذهب من مذاهبها العلمية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو .. أو .. إلا وله علقة بشخص، أضفى إسمه على المدرسة والاتجاه کله . فهناك التوماوية نسبة إلى توما داکوین، والديكارتية نسبة إلى دیکارت وهكذا نتحدث عن النيوتونية والبرغسونية والكانطية والهيغلية والماركسيةوالكينيزية و.. و... فليست الحداثة إلا مجموع الإنجازات التي صنعها أفراد موهوبون، كما أن تاريخ الغرب الحديث هو تاريخ أبطال وأفراد موهوبين . تاریخ نابوليون وبيسمارك وجورج واشنطن وأمثالهم.

وأما الشبهة الثانية ومفادها أن المهدوية هي تعبير عن عجز الإنسان عن صناعة حاضره والتوكل على المخلص الذي يصنع عنه

ص: 82

ذلك بالوكالة. إنها فكرة تعكس عقلا تواكلياً فاسداً يتناقض مع مقتضى سيرة العقلاء وتعاليم الشرع نفسه في التحريض على التوكل والإعداد للمستقبل. والحق أن هذا الإشكال حين النظر إليه لا يصلح أن يكون دليلا متی فککناه إلى مقدمات منطقية . فلا هو يحرز صورة للدليل المنطقي ولا هو يحمل من قيم الصدق ما ينهض به في وجه قضية لها من الأبعاد والشؤون ما لا ينحصر في حدود ما يتوجه إليه الاستشكال. لكن لو أردنا من باب الحجاج أن نقول بأن عصر الظهور ليس عصراً آتياً فوق السحاب، بل هو متوقف على جملة من الشروط التي تجعل الانتظار الإيجابي هو نفسه أكبر تحد في حياة الإنسان. إن المواقف السلبية التي تبدو من بعض التعبيرات المنتمية للعقيدة المهدوية، ليست دليلا على جوهر الفكرة التي هي قائمة باعتبارات أوسع وأبعد من ذلك ، كما لا يخفى أن من يأتي بالمهدي هم المهدويون.

والشبهة الأخرى، مفادها أن ما أحاط بأخبار الإمام المهدي من معاجز هو باطل في نظر العلم التجريبي، وحيث لا مجال للحديث عن المعجزات وما شابه . والحق أن جملة الأخبار التي تحكي عن بعض مظاهر التقدم والتحكم بالظواهر الطبيعية والمعاجز، لا ينبغي فهمها على النحو الإعجازي. بل إن مقتضى الأخبار أن تكون على قدر المتلقي الذي أخبر بها في حينها . فما كان من الممكن التحدث

ص: 83

إلى الناس قبل القرن الخامس عشر عن الطائرات والرادارات والكومبيوتر؛ إلا أن يكون ذلك بخلاف مقاصد الشرع في تظهير الكلام ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ومراعاة حالهم في الأمية ، وهو بخلاف مقتضی قبح العقاب بلا بیان وقبح التكليف بما لا يطاق حجية الظهور. وهذا ما يعني أن تلك الأخبار إنما جاءت متشابهة في عصر التنزیل، لكنها ستصبح محكمة بصیرورة الزمان. فيفهم من جملة القول أن المعني بها هو متلقي مفترض غير المتلقي في المورد الأول. والحق أن تأملا يسيرا يجعلنا ندرك بأن كل مظاهر القوة في زمان المهدي، هي علمية يمكن تعقلها بالوجدان الحديث من دون مشقة ، بل لها نظائر في عصرنا، حيث ما عند المهدي هو تطوير ترجوه البشرية اليوم في عصر التقنية . إن عصر المهدي لن يكون إلا مصداقاً تاماً للحداثة التي اعتبر هيدغير ذات مرة بأن ماهيتها تقنية بامتياز. والعلاقة مع التقنية في أقوى استعمال لها وظيفي أو لنقل تبادلي بين الإنسان والتقنية إلى درجة عدم الانفكاك، هو عنوان مرحلة المهدي التي ما كان بالإمكان تصورها بهذا اليسر والشوق قبل زماننا . كلما خطونا نحو المستقبل كلما أمكن تعقل الظهور الحتمي . إن مرحلة المهدي هي مرحلة العلم أو كما جاء في الأخبار، ارتقاؤه في أسباب السماوات والأرض . ينصف عصره بسيادة التقنية وقوتها وتجاوزها لثغراتها وعجزها عن تحقيق أغراضها؛ إنه عصر التحكم

ص: 84

بالتقنية وفي التقنية وأيضا الانحکام بالتقنية . إنه عصر موسوم بالحركة والسرعة والسيطرة على الفضاء وعلى تقنية الاتصال. يقول الإمام الصادق علیه السلام ، واصفا ذلك العصر : «العلم سبع وعشرون حرفا . كل ما جاء به الأنبياء لحد اليوم، هو حرفان فقط. فعندما يظهر قائمنا، يأتي بخمس وعشرين حرفاً المتبقية ويظهرها للناس »(1).

خبر كهذا بالإضافة إلى خبر الرقي في أسباب السماوات والأرض، الذي يجعل حركة الإمام المهدي صورة متقدمة عن حركة ذي القرنين الذي قال عنه تعالى في محكم الكتاب :«إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا»(2).. ثم يردف مرات ثلاث متی أقدم ذو القرنين على إنجاز من تلكم الإنجازات، يقول تعالى:«فَأَتْبَعَ سَبَبًا»[الكهف/ 85]، «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»[آية89]، «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»[آية 92]. وقوله تعالى :«أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ»(3).

إن الخبر المروي عن الصادق علیه السلام، يضعناأمام جملة من الحقائق التالية :

- إنه يختزل العلم في الحروف التي هي هنا بمعنى الأرقام.

ص: 85


1- المجلسي، بحارالانوار، ج52،ص336
2- سورة الكهف، الآية : 84
3- سورة ص، الآية : 10.

ذلك لأنه بديهي أن الأنبياء أتوا بكتب تضم كل الحروف. ومبتدأ بعض السور من القرآن فيها ما يفوق الإثنين، نظير الم، کهیعص، الر، وما شابه . إنما المقصود من الحرف هنا الرقم. وهو ربط كما لا يخفي يعكس تصوراً وإن تشابه على من كانوا قبلنا، فإنه اليوم محکم بعد أن تعرفنا على السيستم الثنائي في الجبر الحديث، وبعد أن عرفنا كيف أن كل علوم بني آدم حتى اليوم قائمة على رقمين هما 0 و1 . ولعل ذكره للحرف بدلا عن الرقم، لأن قيمة الصفر حتى ذلك اليوم لم يكن لها معنى وربما لم يكن لها مع فرض اکتشافها مع الهنود والعرب قيمة وجودية، بل هي کالعدم. فإطلاق الحرف بالسوية على الصفر والواحد في تعبير الإمام الصادق علیه السلام آنف الذكر، إنما هو إعطاء قيمة رياضية للصفر لا تقل أهمية عن الواحد.

- يؤكد الخبر المذكور بأن عصر القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هو تمام الحروف، أي تمام العلم. وهذا يعني أن عصر الإمام هو عصر التوصل إلى حقائق وأسرار علمية، حيث ما غرابة أن يحدث عصره قطيعة کبری، تماما كالقطيعة التي تمت بين عصرنا مع عصر المحرك البخاري او الميكانيكا فإذا بنا ننعم بوسائل تقنية هي بلا شك من الصور التي كانت من الخيال العلمي حتى بداية السبعينات من القرن المنصرم. إن حركة التقدم اليوم أصبحت تستوعب هذا النوع من القطائع السريعة. ونظرية

ص: 86

واحدة من شأنها أن تنقلنا إلى أرقى ما في العصر السوبرنتيقي(1) .

- يتحدث الخبر عن أن هذه الأسرار العلمية التي سيأتي بها الإمام المهدي سيظهرها للناس. فيكون عصره عصر ظهور العلم وتمامه، بمعنی تمام قواعده ومبادئه . بل ما يبدو هنا أن الإمام القائم سوف يعمل على سبيل التراكم والتركيب بین منجزات الإنسان بالأسباب المنطقية للارتقاء العلمي. فهو عصر تمام النضج البشري والتراكم المعرفي كما يعبر عنه خبر الإمام الباقرعلیه السلام : «وإذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم»(2).

علينا أن نذكر بأن هذه الأخبار يتعين قراءتها بعين المنجزات العلمية الحديثة. ولا ننسى أنها أخبار رویت قبل قرون خلت مما يؤكد على أهميتها . وعليه نستطيع اليوم فهم الخبر الآتي أيضا، وهو داعم لفكرة أن عصر المهدي، هو عصر ينسجم مع النضج العلمي والعقلي لعصرنا. ففضلا عن الأخبار التي تتحدث عن طي الأرض وسيره في السحاب، وهي كناية عن ركوب الطائرة ووسائل المواصلات السريعة، هناك ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «إن

ص: 87


1- علم يعني بالتحكم الأوتوماتيكي (علم التوجيه).
2- الشيخ الحسن بن الحر العاملي، منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، ص 483 طبعة حجرية، طهران - 1314 ه.

قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم برید، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مکانه»(1).

وهذا الخبر أيضا يؤكد بأن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) سيظهر في العصر الذي يمكن لشيعته أن يروه في كل مكان دون أن يتحول إليهم - وهو في مكانه -. حيث وسائل السمعي البصري تحقق هذا الذي بدا لبعضنا ضربا من الإعجاز . ولن يكون بينه وبينهم برید، فالعصر الرقمي كفيل بتجاوز معضلة الاتصال والتواصل. وهذا ما يؤكد عليه خبر الصادق علیه السلام أيضا : «إن المؤمن في زمن القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب یری أخاه في المشرق »(2).

أقول، على ما في هذا الخبر ونظائره من أهمية، تجعلنا أكثر استيعاباً لهذه الحقائق ممن كانوا لا يزالون على نمط من العيش بدائي وخارج منطق التقنية وتحكمها التي تسم حياتنا المعاصرة، فإنه يؤكد على أن غير المهدي يتمتع بهذا القدر من التحكم، بناء أيضا على ما جاء في الخبر السابق من أنه سيظهر باقي الحروف للناس. لا بل يبدو من خلال الأخبار أن هذا القدر من التحكم أو بعض مظاهره

ص: 88


1- المصدر، ص483.
2- المصدر، ص483.

هي عنوان عصر بكامله لا تختص بالإمام المهدي وحده . حيث جاء مثل ذلك في ذكر أميرالمومنين لحركة الدجال، من أنه سيخوض البحار وتطوى له الأرض منهلا منهلا .. وما إليها من مظاهر تجعل عصره يتمتع بقدر من التحكم بالتقنية أيضا. بهذا نستطيع دفع الشبهة القائلة إنه عصر المعجزات التي لا يستوعبها عقلنا الحديث .

وكذلك ندفع الشبهة الموجهة للقائلين بأنه الغائب المولود سلفا للإمام العسكري علیه السلام الذي طال عمره، ليكون من المعمرين. فإن هذا بخلاف العلم أيضا، وفي هذا التقى المنكر الأصلي مع المنکر للغيبة مع اعتقاده بالمهدي المستقبلي بالجملة . والحق أن مثل هذا لا یكلف کثیر حجاج. فأما من استشكل على الغيبة من العامة، وترجيحه ولادته بعد أن عز عليه القول بالغيبة، فموقفه مهزوز ويقينه متزلزل، متى أدركنا أن لمثل غيبته (عجل الله تعالی فرجه الشریف) نظائر في الكتاب العزيز . فلو كان الرفض للغيبة استثقال لتحققها في الواقع، قلنا فاستثقلوا من الآيات والأخبار ما جاء في حق ذي القرنين، وما كان في حق كل الغيب من الأنبياء والصالحين وأهل الكهف وما شابه . وأحسب أن حديث الغيبات إنما ذكر له نظير في القرآن حتى يساعد على استيعاب غيبة القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف). ولم يكن محض اتفاق أن سورة الكهف استعرضت ثلاث قصص، لو تأملتها وركبتها تعطيك تصورا وافيا مستساغا عن أحوال القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) . أعني قصة ذي القرنين، والخضر، وأهل

ص: 89

الكهف. حيث تجسدت في هذا الثالوث، فكرة الغيبة والتمكن في الأرض والعلم. إن الجامع بينها هو الغيبة . فأهل الكهف جاء ذكرهم في الكتاب :«وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا»(1)والخضرعلیه السلام قال تعالى فيه:«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا»(2) وعن ذي القرنين قال تعالى:«وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا*إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا»(3) والغيبة ثابتة في حق ذي القرنین حیث غاب عن قومه بعد أن ضربوه على قرنه الأول ثم الثاني، كما في رواية لأمير المؤمنين. هذا القدر يكفي لدفع الشبهة متى تعلق الأمر بالمنكر لطول الغيبة من ملتنا . وتدفع الشبهة نفسها لما يتعلق الأمر بالمنكر لطولها من غير ملتنا، بأن أمر الغيبة بهذه الصورة أمر واقع في الإمكان العقلي والعلمي كما لا يخفى . والسؤال بات معکوس: لم يموت الإنسان ويتعرض للشيخوخة المبكرة وقد زود بكل ما من شأنه أن يجعله خالدا لو ارتفع المانع. وحيث أصبح الإنسان يدرك العلاقة بين طبيعة التغذية والصحة وما شابه في الرفع من نسبة أمد الحياة. ألا يدل ذلك على إمكانية تمدد

ص: 90


1- سورة الكهف، الآية : 24.
2- سورة الكهف، الآية: 65.
3- سورة الكهف، الآيتان: 83 - 84.

العمر حتى على مستوى هذا القدر من التقدم في نظام الصحة والغذاء(1).

- أين يكمن الخلاف؟

لا خلاف بالجملة بين الخاصة والعامة من المسلمين في أمر المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). غير أن الخلاف متوجه إلى حقيقة الغيبة وهل هو بالفعل مولود الإمام الحسن العسكري علیه السلام. ويبدو أن الاعتقاد بغيبة المولود هو أقرب إلى عموم الاعتقادوفلسفته من القول بالولادة الجديدة. فكل ما جاء من أخبار عن الإمام المهدي، تؤكد على أن له صلة بمسار التاريخ الإسلامي، وبأن شأنینه بدت من غيبته إلى اليوم. ولا غرو أن الأصل في موضوع الغيبة هو النص. غير أن ما

ص: 91


1- ذكرت مجلة المقتطف المصرية، الجزء الثاني من المجلد 59، الصادرة في آب (أغسطس) 1921 م، الموافق 26 ذي القعدة سنة 1339 ه ص206 تحت عنوان ( خلود الانسان على الأرض ) : قال الأستاذ (ریمند بول) أحد أساتذة جامعة جونس هبكنس بامریکا: «إنه يظهر من بعض التجارب العلمية أن أجزاء جسم الإنسان يمكن أن تحيا إلى أي وقت أريد، وعليه فمن المحتمل أن تطول حياة الانسان إلى مائة سنة، وقد لا يوجد مانع يمنع من إطالتها إلى ألف سنة . وذكرت المجلة في العدد الثالث من المجلد 59 الصادر في أيلول من نفس العام ص 239،« إنه في الإمكان أن يبقى الإنسان حيا ألوفاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبل حياته، وقولهم هذا ليس مجرد ظن، بل نتيجة علمية مؤيدة بالامتحان». [انظر: المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي، مركز الرسالة ص 172].

يذكر من أدلة في المقام غير النص سوی مؤیدات أو لنقل إن بعضها يجري مجرى اللزوم. وينقسم الدليل إلى قسمين؛ أولهما حسي ينهض على روايات وشواهد تاريخية والثاني حدسي مستفاد من جملة الروايات الأخرى والمقارنة بينها ، أي قراءة عقيدة المهدي في ضوء المعتقد كله . أي النظر إلى المهدي نظرة كلية ومقاصدية .

الدليل الحسي :

لا حاجة في المقام لاستعراض الأخبار الكثيرة المروية من طرق الخاصة من مدرسة أهل البيت علیهم السلام، حول حقيقة ولادة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فهي من الكثرة والاعتبار ما لا نترك أدنى شك أو التباس عند أتباع هذه المدرسة. فهم مأخوذون من ناصيتهم لهذا الاعتقاد بالأدلة القطعية كما لا يخفى. لكن مقتضى الاستدلال، أن نأتي من الشواهد بما هو عام. لكن قبل ذلك، لا بد أن نؤكد على قضية أساسية في المقام. إن الخلاف بين الخاصة والعامة في أمر الولادة، هو مقصود من الغيبة أيضا . وما دام أن الأمر ثابت عموما لا ينازع فيه أحد، فإن الحاكم في نهاية المطاف هو الظهور نفسه، حيث ستصحح كل المفاهيم بالأدلة القاطعة والمعاشة، فمن حصلت له بالفعل الشبهة زالت بالظهور. غير أن شدة اختفائه، إلى درجة أن يقال انه لم يولد وبأنه سيولد، أمر كان مقصوداً، وتحدث عنه أئمة أهل البيت قبل ورود الإمام الثاني عشر . بل إن علامة المهدي هو ذلك الذي سيقال عنه انه لم يولد.

ص: 92

جاء في الخبر : «حدثنا ابي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبدالله ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الخشاب، عن العباس بن عامر القصباني ، قال : سمعت أبا الحسن موسی بن جعفرعلیه السلام يقول: صاحب هذا الأمر من يقول الناس : لم يولد بعد»(1).

غير أن طائفة من أعلام أهل السنة أكدوا على ولادته وعلى أنه هو ابن الحسن العسكري علیه السلام. وقد أحصي بعضهم - السيد ثامر العميدي في كتابه : دفاع عن الكافي - مائة وثمانية وعشرين شخصا من أهل السنة من الذين اعترفوا بولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

ومن تلك الشواهد الحسية على ولادته ونسبته للإمام العسكري علیه السلام ما يلي»(2):

ابن الأثير الجزري عز الدين (ت/630ه) في كتابه الكامل في

ص: 93


1- كمال الدين 2: 360.
2- اعتمدنا في هذه الاستقصاءات على ما جاء في الكتاب القيم الصادر عن مركز الرسالة الإمام المنتظر في الفكر الإسلامي، ص125 - 134، حيث وجدناه مرتبا ومصدراً ترتفع معه الحاجة إلى تجديد الاستقصاء اللهم إلا إذا أريد الإغناء، ونحن هنا مقصدنا ليس الاستقصاء المغني بل مجرد ایراد الشواهد للوصول إلى غاية البحث؛ أي تجلي العقيدة المهدوية من خلال الأصول الخمسة في الاعتفاد الإمامي بضم أصل الإمامة، وليس الأصول الخمسة المعتزلية .

التاريخ في حوادث سنة (260ه): «وفيها توفي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر».

ابن خلکان (ت/ 681ه) قال في وفيات الأعيان: «أبوالقاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجة... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين» ثم نقل عن المؤرخ الرحالة ابن الأزرق الفارقي (ت/ 577ه) انه قال في تاریخ میافارقين: «إن الحجة المذكور ولد تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين، وهو الأصح ».

في سير أعلام النبلاء: «المنتظر الشريف أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضی بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدين علي بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب، العلوي، الحسيني خاتمة الاثني عشر سيدا».

ابن الوردي (ت/ 749ه) قال في ذيل تتمة المختصر المعروف بتاريخ ابن الوردي : «ولد محمد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين»..

ص: 94

أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي (ت/ 974ه) قال في كتابه (الصواعق المحرقة) في آخر الفصل الثالث من الباب الحادي عشر ما هذا نصه: «أبو محمد الحسن الخالص، وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري، ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ... مات بسر من رأى، ودفن عند أبيه وعمه، وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال : إنه سم أيضا، ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر، قيل : لأنه ستر بالمدينة وغاب فلم يعرف أين ذهب».

.- الشبراوي الشافعي (ت/ 1171ه) صرح في كتابه (الاتحاف) بولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري علیه السلام في ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومئتين من الهجرة.

- مؤمن بن حسن الشبلنجي (ت/ 1308ه) اعترف في كتابه (نور الابصار) باسم الإمام المهدي، ونسبه الشريف الطاهر، وكنيته، وألقابه في كلام طويل إلى أن قال : «وهو آخر الأئمة الاثني عشر على ما ذهب إليه الإمامية» ثم نقل عن تاریخ ابن الوردي ما تقدم برقم / 4.

. خير الدين الزركلي (ت/ 1396 ه) قال في كتابه (الأعلام) في ترجمة الإمام المهدي المنتظر : محمد بن الحسن العسكري

ص: 95

الخالص بن علي الهادي أبو القاسم، آخر الأئمة الاثني عشر عند الإمامية .. ولد في سامراء ومات أبوه وله من العمر خمس سنين .. وقيل في تاريخ مولده: ليلة نصف شعبان سنة 552، وفي تاريخ غيبته ، سنة 260ه».

محيي الدين بن العربي (ت/ 638ه): صرح بهذه الحقيقة في كتابه (الفتوحات المكية) في الباب السادس والستين وثلاثمائة في المبحث الخامس على ما نقله عنه عبد الوهاب بن أحمد الشعراني الشافعي (ت/ 973ه) في كتابه (الیواقيت والجواهر)، كما نقل قوله الحمزاوي في (مشارق الانوار)، والصبان في (اسعاف الراغبين)، ونقل الشعراني عنه: (وعبارة الشيخ محيي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات :واعلموا أنه لا بد من خروج المهدي علیه السلام، ولكن لايخرج حتى تمتلئ الأرض جورا وظلما فيملوها فسطاً وعدلا ، ولو لم يكن من الدنيا إلا يوم واحد طول الله تعالی ذلك

اليوم حتى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، من ولد فاطمة علیهاالسلام ، وجده الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري ابن الإمام علي النقي...).

2- کمال الدین محمد بن طلحة الشافعي (ت/ 652ه) قال في

ص: 96

كتابه (مطالب السؤول): «أبي القاسم محمد بن الحسن الخالص بن علي المتوكل بن محمد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنین بن أبي طالب، المهدي، الحجة، الخلف الصالح، المنتظر علیه السلام. ورحمة الله وبرکاته».

ثم أنشد أبياتا، مطلعها:

فهذا الخلف الحجة قد أيده الله* هذا منهج الحق وآتاه سجاياه

سبط ابن الجوزي الحنبلي (ت/ 654ه) قال في (تذكرة الخواص) عن الإمام المهدي : هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسی الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام ، وكنيته أبو عبدالله، وأبو القاسم، وهو الخلف الحجة، صاحب الزمان، القائم، والمنتظر، والتالي، وهو آخر الآثمة».

محمد بن يوسف أبو عبدالله الكنجي الشافعي (المقتول سنة 865ه)، قال في آخر صحيفة من كتابه (كفاية الطالب) عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام ما نصه : «مولده بالمدينة في شهر ربيع الآخر، من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقبض يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين،

ص: 97

وله يومئذ ثمان وعشرون سنة، ودفن في داره بسر من رأى في البيت الذي دفن فيه أبوه، وخلف ابنه وهو الإمام المنتظر صلوات الله عليه . ونختم الكتاب ونذكره مفرداً».

ثم أفرد لذكر الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري علیه السلام كتاباً أطلق عليه اسم : ( البيان في أخبار صاحب الزمان ) وهو مطبوع في نهاية كتابه الأول (كفاية الطالب) وكلاهما بغلاف واحد، وقد تناول في البيان أمورا كثيراً كان آخرها إثبات كون المهدي علیه السلام حيا باقيا منذ غيبته إلى أن يملأ الدنيا بظهوره في آخر الزمان قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .

نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المالكي (ت/ 855ه) عنون الفصل الثاني عشر من كتابه : (الفصول المهمة) بعنوان : في ذكر أبي القاسم الحجة، الخلف الصالح، ابن أبي محمد الحسن الخالص، وهو الإمام الثاني عشر .

وقد احتج بهذا الفصل بقول الكنجي الشافعي: «ومما يدل على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن، وأنه لا امتناع في بقائه كبقاء عیسی بن مریم والخضر وإلياس من أولياء الله ، وبقاء الأعور الدجال، وإبليس اللعين من أعداء الله ، هو الكتاب والسنة» ثم أورد أدلته على ذلك من الكتاب والسنة، مفصلا تاریخ ولادة الإمام المهدي علیه السلام، ودلائل إمامته، وطرفا

ص: 98

من أخباره، وغيبته، ومدة قيام دولته الكريمة، وذکر کنینه، ونسبه، وغيرذلك مما يتصل بالإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري علیه السلام.

الفضل بن روزبهان (ت/ بعد 909ه). قال في كتابه : ( إبطال الباطل ): ونعم ما قلت فيهم منظوما :

سلام على المصطفى المجتبی* سلام على السيد المرتضی

سلام على ستنا فاطمة *من اختارها الله خير النسا

سلام من المسك انفاسه* على الحسن الألمعي الرضا

سلام على الأورعي الحسين *شهيد يرى جسمه کربلا

سلام على سيد العابدين* علي بن الحسين المجتبی

سلام على الباقر المهتدی *سلام على الصادق المقتدی

سلام على الكاظم الممتحن* رضي السجايا إمام التقى

سلام على الثامن المؤتمن *علي الرضا سید الأصفيا

سلام على المتقي النقي *محمد الطيب المرتجی

سلام على الأريحي النقي *علي المکرم هادي الوری

سلام على السيد العسكري* إمام يجهز جيش الصفا

ص: 99

سلام على القائم المنتظر* أبي القاسم العرم نور الهدى

سیطلع كالشمس في غاسق *ینجيه من سيفه المنتقی

قوي يملأ الأرض من عدله* كما ملئت جور أهل الهوى

سلام عليه وآبائه *وأنصاره، ما تدوم السما»

شمس الدين محمد بن طولون الحنفي مؤرخ دمشق (ت/953ه) قال في كتابه (الأئمة الاثنا عشر) عن الإمام المهدي علیه السلام: «كانت ولادته رضي الله عنه يوم الجمعة، منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولما توفي أبوه المتقدم ذكره (رضي الله عنهما) كان عمره خمس سنین».

ثم ذكر الأئمة الاثني عشر علیهم السلام وقال : «وقد نظمتهم على ذلك، فقلت :

عليك بالأئمة الاثني عشر *من آل بيت المصطفی خير البشر

أبو تراب، حسن، حسین *وبغض زین العابدين شين

محمد الباقر کم علم دری ؟* والصادق ادع جعفرة بين الوری

موسى هو الكاظم، وابنه علي *لقبه بالرضا وقدره علي

محمد النقي قلبه معمور* علي النقي دژه منثور

عسكري الحسن المظهر* محمد المهدي سوف يظهر»

ص: 100

أحمد بن يوسف أبو العباس القرماني الحنفي (ت/ 1019ه) قال في كتابه (أخبار الدول وآثار الأول في الفصل الحادي عشر: في ذكر أبي القاسم محمد الحجة الخلف الصالح:

«وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة كما أوتيها يحيى علیه السلام صبيا. وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقنى الأنف، أجلى الجبهة ... واتفق العلماء على أن المهدي هو القائم في آخر الوقت، وقد تعاضدت الاخبار على ظهوره، وتظاهرت الروايات على اشراق نوره، وستسفر ظلمة الأيام والليالي بسفوره، وينجلي برؤيته الظلم انجلاء الصبح عن دیجوره، ويسير عدله في الآفاق فيكون أضوأ من البدر المنير في مسيره»(4). سليمان بن ابراهيم المعروف بالقندوزي الحنفي (ت/ 1270 ه) كان من علماء الأحناف المصرحين بولادة الإمام المهدي علیه السلام. إذ يقول: «فالخبر المعلوم المحقق عند الثقات أن ولادة القائم علیه السلام كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامراء».

ومن الشواهد التي تصلح دليلا حسياً أيضا على ولادة الإمام الحجة، كلام بعض النسابة المشهورين، على ما ذكر في «المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي»موافقا، ما سنذكره بالترتيب نفسه الذي

ص: 101

أورده المؤلف المذكور:

النسابة الشهير أبو نصر سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري منأعلام القرن الرابع الهجري، كان حيا سنة ( 341ه)، وهو من أشهر علماء الأنساب المعاصرين لغيبة الإمام المهدي الصغرى التي انتهت سنة 329ه.

قال في سر السلسلة العلوية : «وولد علي بن محمد التقي علیه السلام: الحسن بن علي العسكري علیه السلام من أم ولد نوبية تدعى: ريحانة ، وولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء، وهو ابن تسع وعشرين سنة.. وولد علي بن محمد التقي علیه السلام جعفرا وهو الذي تسميه الإمامية جعفر الكذاب ، وإنما تسميه الإمامية بذلك؛ لادعائه میراث أخيه الحسن علیه السلام دون ابنه القائم الحجة علیه السلام. لا طعن في نسبه».

السيد العمري النسابة المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري قال: «ومات أبو محمد علیه السلام وولده من نرجس علیها السلام معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله فدفع أن یکون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه»...

ص: 102

الفخر الرازي الشافعي (ت/ 606ه)، قال في كتابه الشجرة المباركة في أنساب الطالبية تحت عنوان : أولاد الامام العسكري علیه السلام قال : «أما الحسن العسكري الامام علیه السلام فله ابنان وبنتان: اما الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف، والثاني موسی درج في حياة أبيه. وأما البنتان : فاطمة درجت في حياة أبيها، وأم موسی در جت أيضا.»

المروزي الازورقاني (ت/ بعد سنة 614ه) فقد وصف في كتاب الفخري جعفر ابن الإمام الهادي، في محاولته انکار ولد أخيه، بالكذاب، وفيه أعظم دليل على اعتقاده بولادة الإمام المهدي . السيد النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه (ت/ 828ه) قال في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: «أما علي الهادي فيلقب العسكري لمقامه بسر من رأي، وكانت تسمى العسكر، وأمه أم ولد، وكان في غاية الفضل ونهاية النبل، أشخصه المتوكل إلى سر من رأى فأقام بها إلى أن توفي، وأعقب من رجلين هما:

الإمام أبو محمد الحسن العسكري علیه السلام ، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية وهو القائم المنتظر عندهم من أم ولد اسمها نرجس .

ص: 103

واسم أخيه أبو عبدالله جعفر الملقب بالكذاب؛ لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن».

وقال في الفصول الفخرية (مطبوع باللغة الفارسية) ما ترجمته : «أبو محمد الحسن الذي يقال له العسكري، والعسكر هو سامراء، جلبه المتوكل وأباه إلى سامراء من المدينة، واعتقلهما. وهو الحادي عشر من الأئمة الاثني عشر، وهو والد محمد المهدي علیه السلام، ثاني عشر هم». النسابة الزيدي السيد أبو الحسن محمد الحسيني اليماني الصنعاني من أعيان القرن الحادي عشر.

ذكر في الشجرة التي رسمها لبيان نسب أولاد أبي جعفر محمد بن علي الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام، وتحت اسم الإمام علي التقي المعروف بالهادي علیه السلام خمسة من البنين وهم: الإمام العسكري، الحسین، موسی، محمد، علي . وتحت اسم الإمام العسكري علیه السلام مباشرة كتب: (محمد بن) و بازائه : (منتظر الإمامية).

محمد أمين السويدي (ت/ 1246ه) قال في سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب :«محمد المهدي :وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقني الأنف، صبیح الجبهة».

ص: 104

النسابة المعاصر محمد یس الحيدري السوري قال في الدرر البهية في الأنساب الحيدرية والأويسية في بيان أولاد الإمام الهادي علیه السلام: «أعقب خمسة أولاد: محمد وجعفر والحسين والإمام الحسن العسكري وعائشة. فالحسن العسكري أعقب محمد المهدي صاحب السرداب».ثم قال بعد ذلك مباشرة وتحت عنوان: (الامامان محمد المهدي والحسن العسكري):

«الإمام الحسن العسكري: ولد بالمدينة سنة 231ه وتوفي بسامراء سنة 260 ه. الإمام محمد المهدي : لم يذكر له ذرية ولا أولاد له أبدا.»

وقال: «ولد في النصف من شعبان سنة 255ه، واُمه نرجس، وصف فقالوا عنه: ناصع اللون، واضح الجبين، أبلج الحاجب، مسنون الخد، أقنى الأنف، أشم، أروع، كأنه غصن بان، وكأن غرته کوکب دري، في خده الأيمن خال كأنه فتات مسك على بياض الفضة، وله وفرة سمحاء تطالع شحمة أذنه، ما رأت العيون أقصد منه ولا أكثر حسنا وسكينة وحياء»(1).

إذا انضمت هذه الشواهد الحسية إلى ذلك الفيض المتكاثر ومن الاخبار الصريحة في ولادة المهدي، من طرق الخاصة،

ص: 105


1- انظر المصدر نفسه، ص 121 - 128.

ازدادت قوة الدليل الحسي، حيث يصبح رد هذه الشواهد مما دونه خرط القتاد .

الدليل المستفاد أو الدليل المقاصدي:

ونقصد بذلك جملة القرائن، والأدلة غير المباشرة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى إثبات ولادته وبأنه هو نفسه الحجة ابن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

إن الحديث المتكاثر عن ظهوره يفيد الغيبة . حيث الظهور يقابل الغيبة . وإلا كان أبلغ أن يقال : سوف يولد. ثم لا يخفى أن الإمامية منذ زمان الأئمة الأطهار أنفسهم كانوا على هذه السنة في الانتظار . فأخبار المهدی (عجل الله تعالی فرجه الشریف) رویت عنهم تباعا، ما من إمام إلا وأخبر عن القائم. وقد دل حديث الأئمة الاثني عشر من قريش الذي أخرجه البخاري في الصحيح، وكذا مسلم، بل وكما أخبر غير واحد من أهل المجاميع الروائية كابن حنبل والنسائي وغيرهما، على أن الثاني عشر هو القائم، حيث جاء في الخبر النبوي، أن تاسعهم قائمهم.

أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «يكون اثنا عشر أميرا»، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال: «كلهم من قریش»(1).

ص: 106


1- صحيح البخاري 4: 164 کتاب الاحکام باب الاستخلاف .

وجاء في صحيح مسلم : «ولا يزال الدین قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خلیفة كلهم من قریش»(1).

وحيث لا يمكن كما فعل أكثر من حاول إسقاط حديث الاثني عشر بعدد نقباء بني إسرائيل على أهل الخلافة الزمنية، إيجاد مصادیق للعدد المذكور والمقرون بالصلاح وقيام الدين الحق في عدد الخلفاء الذين عدوا بالعشرات، ليس ثمة من طريق إلا الإذعان، بأن المعني بالاثني عشر هم أئمة أهل البيت، حيث لم يدع العدد سواهم. وكما جاء في الخبر الذي رواه ابن حنبل في المسند وغيره :«تاسعهم - أي من ولد الحسين - قائمهم».

فلو أدركنا بأن الأرض لا تخلو من حجة، وبأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية كما ورد في الصحيح، تبين أن المقصود ثبوت إمام الزمان ظاهراً أو خفياً ، فلا يتصور التعرف على إمام الزمان وفق هذا الإطلاق، إلا إذا شمل الإمام الخفي، وليس ثمة ما يشير إلى وجود إمام في هذا العصر وجب التعرف عليه غير المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). لا فصل بين الغيبة وظروفها والظهور ومقاصده . فإذا كان سيولد فلم لا يولد الآن؟! فإنه لم يظهر لأن شروط ظهوره لم تتم. فإذا انضم هذا الكل إلى مقاصد الظهور وقرئ في ضوء كلي

ص: 107


1- صحیح مسلم : 119 کتاب الامارة، باب الناس تبع لقريش .

العقيدة الاسلامية وفي ضوء ما أكدت عليه قصص الغيبات والظهورات النبوية والمهدوية عبر تاريخ الرسالات وفي ضوء الانسجام العقائدي، حيث لم يكتمل نصاب الاثني عشر بعد الغيبة ، اتضح أن ما يبدو من المعتقد المهدوي عند الامامية، إن لم يوجد الاطمئنان عند المخالف، فهو يقدم من الأدلة الحسية والحدسية ومجمل القرائن والإمارات المورثة لليقين، تحديا كبيراً، يجعل المعتقد المهدوي برسم الإمام المولود الغائب ، غير قابل للدفع باليسر والتراخي المعهود عند المنكر . بل إن ذلك كفيل لا أقل بأن يفرض إعادة النظر في الموضوع، والوقوف عند الأدلة استغراقاً، قبل شطب معتقد كانت الأدلة به ناهضة بامتياز. وإذا كان كل هذا الكم الهائل من الشواهد، ما لو انضمت إليه شواهد الإمامية الفائضة في المقام، لا يغني حيث يعز الاعتقاد بالغيبة بعد الولادة واستثقال أمر الإعجاز، قلنا إنه ليس للمعجزة عصر دون عصر، وبأنه إذا ثبتت الغيبات فيما مضى فما المانع تكرارها في حق الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)... لا بل إن المنكر إن كان عز عليه استيعاب ذلك برسم الإيمان، لا بالبلكفة(1)، بزعم أنه مستحيل، كان ذلك دليلا على التهافت، حيث تأكد أن ما جاء في الذكر من نظائر الغيبة والتمكين في الأرض على النحو الخاص، غير مرکوز في إيمان هولاء. فيكون

ص: 108


1- أي بإثبات الصفات بلا إثبات كيف.

إيمانهم بالقرآن إيمانا بالجملة لا بالتفصيل. وقد بان وانفضح الأمر، حيث لو لم يذكر القرآن هذه النظائر وما حاط بها من أسرار لما آمن به إلا قليل.

المهدوية في ضوء الأصول الخمسة

ربما شق على البعض أن يكون الحديث حول المهدوية هو فرع للحديث عن الإمامة نفسها، كما لو كان القول في المهدوية لا يقع إلا في طول القول في الإمامة. ومع أن جانبا من الصحة يعكسه هذا الرأي، إلا أننا نعتقد أيضا أن المهدوية هي بالأحرى، عقيدة قائمة بذاتها؛ حيث أن موضوعها ثابت في الوجدان الديني وغيره على النحو الأعم.. إنها بهذا المعنى، فكرة راسخة في الوجدان البشري. بل هي المشترك الذي قد يحصل تصوره بدفعة واحدة؛ ولا تأتي المكابرة إلا في مرحلة ثانوية بعد أن كانت المهدوية حدسا يتعقله الوجدان حضوريا. فلو سألت أي كائن بشري في كل جيل وفي كل دین؛ هل ترجو شيئا أو لم تحمل بعض الأمل على الرغم من كل صنوف العذابات التي تلم ببني البشر، لأجاب فورا : نعم أرجو الكثير وآمل في الكثير. إن المستقبل في وجدان البشر لا محالة هو أفضل. وإذا سألت كيف تتوقعه، ربما هام وفتح المجال لأقصى الخيال. وبين سوال الأين وسؤال الكيف، خرج الموضوع عن الإجماع بالجملة، لتكاثر الأفكار والأحاسيس والرسوم في الجملة .

ص: 109

ولو أسسنا لهذه القاعدة الكلامية، لاعتبرنا بأن المهدوية أساسا صالحاً للبرهنة على ما قبلها من اعتقادات . إن المهدوية بهذا المعنى، لو أصبحت قاعدة وجدانية استدلالية وليست فكرة مستدل عليها، فإنها ستصبح موضوعاً جامعاً لكل المعتقدات الاسلامية ؛ وأعني هاهنا الأصول الخمسة. لأنها العنوان الذي يمثل النتيجة الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة كما أن الاعتقاد بالمهدوية يجعل الاعتقاد بالأصول الخمسة أمرا حتميا.

المهدوية والتوحيد:

إننا ندرك من خلال صفة القدرة، وهي بمقتضى الاعتقاد تجل لكمال الذات، أن الله تعالى كما جاء في بيان الأئمة الأطهار، إنما خلق الكون متكاثر الأنواع ومتعدد الفروق اختلافا ملحوظا في الخلق من القوي فالأقوى إلى الضعيف فالأضعف. حتى يعبر عن كمال العظمة الإلهية والقدرة الربانية . فقال الصادق علیه السلام:«إن الله تبارك وتعالى، لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه .. »(1). كما كان من تجلي العظمة والإبداع أن ركب الوجود طبقاً عن طبق، ملكياً وملكوتياً، لكي لا يبقى في ذهن مخلوق عاقل من الصور الممكنة ما

ص: 110


1- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ص9، الناشر مكتبة الداوري - قم

ليس له نظير في الخلق، فكان ما عرفنا وما لم نعرف وما لم يخطر على قلب بشر. فقد ورد في علل الشرائع جواب الإمام الرضا علیه السلام عن السائل : «لم خلق الله سبحانه وتعالى الخلق أنواعا شتى ولم يخلقهم نوعاً واحداً . فقال : لئلا يقع في الأوهام أنه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد إلا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقاً لئلا يقول قائل : هل يقدر الله عز وجل على أن يخلق صورة كذا وكذا. لأنه لا يقول من ذلك شيئا إلا وهو موجود في خلقه تبارك وتعالى بالنظر إلى أنواع خلقه»(1).. فكما كان كونه المسطور قرآناً کریماً أغناه من صور التشبيه والاستعارة في البيان، كان كونه المعمور کریماً لغناه في التكاثر والتنوع في الإبداع. ولعل ذلك مفاد کونه قرآناً كريماً كما ورد عن ابن عباس في تفسير معنى الرفث: «الجماع - يقصد الرفث ، ولكن الله کریم يکني عما شاء بما شاء».

وكما أن الأدنين من خلقه هم تعبير عن قدرته(2)، فإن الأولوية القطعية قاضية في أفهام عموم البشر بأن الکمل هم التعبير الأقوى عن عظمة خلقه.. حيث البيان لا يتم إلا بمقتضی حدود مدارك

ص: 111


1- الشيخ الصدوق : المصدر، ص14.
2- یضرب الله تعالی درساً لمن يهون من خلقه، مبينا أن الاعجاز کامن في ما بدی أضعف خلق كالذباب الذي لا يملكون خلق مثله ولو سلبهم شيئا لا يقدرون على رده ضعف الطالب والمطلوب. فيقول من سورة البقرة : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ »

المتلقي، ومطلبه في التفهيم عبر مسلماته ورموزه ولیس جعلا منزلا خالياً من الإرشاد(1). وعليه، فلا يظهر فضل الكمل إلا بوجود أهل النقصان.. حتى يرى بعضهم في بعض آیات كماله، فيحمده الأقوى على نعمة الكمال، ويرجوه الناقص بطلب الكمال والحمد على ما آتاه، فيتحقق المقصد الأعلى، بالتكامل بالشكر والحمد في طريق العبودية - على أن الكمال والنقص المذكورين هاهنا هما بالنسبة لا بالحقيقة، حيث أكمل الله خلقه بالحقيقة - على أن الحديث عن النقصان في خلق الله هو من أوهام المخلوق البشري الواقع في صقع العالم بما ينسجه من علاقات مع ظواهره، على نحو من النسبية، وجدلية الخير والشر ؛ التي هي ليست متعقلة إلا برسم صور الجهل المترددة بين بسيطه ومركبه. فالعالم في کثراته وجب له الوجود . فهو خير لا شر فيه إذ لا يتخلله عدم. غير أن جدلية الخير والشر هي عنوان لتجلي صفات الجمال والجلال. ولقد شاء الباری

ص: 112


1- استناد الخطاب الإلهي على اللغة الطبيعية ورموزها من مقاصده في تنزيل البيان على مقتضى الظهور العرفي، لمقام الحجية. فلا باطن المعنى وأسرار الحقائق الثاوية في الكتاب الكريم مانعة من ظهور معناه المتاح لأقل خلقه إدراكاً . وما الحديث عن خلائقه بهذا الظهور سوی نزولا عند الفهم المتاح عرفاً . وأما من جهة الحكمة المكنونة في خلقه، يكون الكون بكبيره ودقيقه كمالاً . وكله تعبير عن العظمة والقدرة . فإذا ظهر أن هذا فيه التجلي أبرز من ذاك ، فالخلاف راجع إلى الناظر لا إلى المنظور، فافهم.

تعالى أن لا يقيم عالم الناس على العلم المطلق دفعاً للحرج بموجب قبح التكليف بما لا يطاق، فسرح للناس ما به تقوم وظيفتهم العملية في مساحة الجهل والجهل المركب، لطفأ منه بالعباد، فاحتج على الناس بالقطع الوجداني متى عز عليهم العلم الوجودي. وتجاوز عن غفلاتهم وما شمله حديث الرفع التسعي النبوي من اضطراري ومجهول وما شابه، دفعاً للعسر. ولو أن الله حاسب عالم البشر بالعلم الواقعي لهلك أكثر الناس، وساخت الأرض بمن فيها؛ إذ أكثرهم عن الحق غافلون. وقد كان من لطفه الهداية التي بعث في طريقها أنبياءه وأوصياءه تباعا، أنواراً وحججا ظاهرة وغائبة، حتى لا تكون للناس على الله حجة. إن عظمة التوحيد تستوجب وجود الکمل من أصفيائه رسلا كانوا أو أوصياء كما أكدت سيرة الرسالات ومنطق البعثات والاصطفاءات. فكان أجود ما جاء في النهج حول مقاصد البعثة : «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستادوهم ميثاق فطرته، ويذگروهم منسي نعمته، ويحتجوا إليهم بالتبليغ، ويثيروا فيهم دفائن العقول (1). ولم يكن المهديون والأوصياء - والغيب منهم تحديداً - بدعاً في منطق الرسالات، حتى يقال أن غيبة مهدي الأمة أمر ناشز عن مقتضی المعقول والمنقول. فالمدار هو الهداية أيا كانت وسائطها، نبيا

ص: 113


1- انظر الخطبة الأولى من نهج البلاغة / من كل الطبعات .

رسولا أو إماماً مصطفى. وحيث لا موضوع للحديث عن التزاحم بين وظيفة الرسل والأوصياء المهديين، إلا بمقدار ما يقال ذلك في الرسل الذين كانوا قبلنا، حيث وجود موسی علیه السلام لم يكن مزاحما لوجود مهدي يشاركه المجال والزمان. ولم تكن وظيفته الرسالية مزاحمة لوظيفة الخضر علیه السلام. بل تكاملت واستدعت مرافقة موسی لمهدي خفي أمره على عموم الناس وباشر كل إنجازاته خفية من الناس. فإذا كان التزاحم لم يحصل في الحضور المحايث الأنبياء عاشوا حقبة واحدة، فكيف يقال إن المهدوية منافية للرسالة الخاتمة.بل لو نظر إلى المهدوية بعين اللطف وحكمة المبدع الهادي، لكان ذلك عنوانا لفيض اللطف وتكثيفاً للباعثية على مسلك الطاعة ، به يتحقق المراد. إن صفة الهادي، وهي من صفات کماله التي هي ذاته تعالی، تفرض تجلياً لمشتقها المهدي الذي به يهدي الله الأمم، ويصلح ما أفسده الطغيان على محمد وآله . فالتوحيد لا يقوم إلا بإحصاء صفات الكمال، ومنها الهادي. إن وجود الشرك وآثاره العملية التي تتهدد وصول التوحيد وصولا سمحاً إلى أخلاد الناس، يستدعي مهديين يتدبرون الأمم الغارقة في أوحال الغفلات والمهددة بصنوف النسيان. وحيث كان الإنسان نساء في كل أطوار وجوده(1)، قبل الرسالة الخاتمة وبعدها ، وما دامت الهداية ملازمة

ص: 114


1- يقول الامام الصادق علیه السلام:«سمي الإنسان إنساناً لأنه ينسى. وقال تعالى :«وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ».[الشيخ الصدوق: علل الشرائع، ص4 (المصدر)]

للنسيان وجودا وعدما، فإن ضرورة المهدي لا تتوقف عند حد أو فترة من الرسل. إنها عنوان الإفاضة المستمرة ولطفه المستدام جل وعلا. يقول جل وعلا:«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ »(1). وقوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»(2).

وحيث حدثتنا التعاليم عن الفترات بين الرسل، ولم تحدثنا عن فترات بين المهديين. وهو أجنبي عن موضوع المهدوية التي هي كالشمس التي لوانقطعت لهلك من في الأرض جميعا. ومصداقه قول الصادق علیه السلام: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»(3). لذا كانت وظيفته أعم؛ تقوم بالنبي وغيره . وهي في عالم البشر مشككة تتفاوت بالمراتب بین الصالح والأصلح. إن العقيدة المهدوية تؤكد على أن مستقبل البشرية متجه نحو الوحدة والتوحيد. بل هي الوسيلة الأقرب إلى الوجدان، دلالة على إمكان التوحد على فكرة خلاصية للنوع. بهذا المعنى تصبح المهدوية ضرورة توحيدية . لقد ارتبط ذکر المهدي بالتوحيد والوحدة . يجمع البشرية على توحيد الله وعلى

ص: 115


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.
2- سورة القصص، الآية : 53.
3- انظر أصول الكافي: ج1، ص179.

وحدة الاجتماع السياسي القائم على وحدة النظام وشريعة محمد كما يتدبرها بالتأويل من أوتي الحكم الواقعي. فإذا كان التكاثر في وجهات النظر مرده إلى سيادة الظنون، وانحسار في العلم الواقعي، فإن سياسة الخلق بالحكم الواقعي والقطع الجاري مجرى المطابقة القطعية، كفيل بتوحيد الناس على نسق اجتماعي وسياسي. إن أكبر تجلي للتوحيد وظهور دین الله في الأرض سيكون على يد المهدي ؛ وبذلك يكون المهدي ضرورة توحيدية، في عالم تصدع بالتكاثر وتمزقت أطرافه وازدادت تناقضاته. وحيث سيؤلف المهدي بين الجموع المتنافرة ويوحد الخلق على الناموس، يكون قد عبر عن تجلي الوحدة والتوحيد. وبه يتحقق الوعد الإلهي : «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا»(1). وهي كما علمت لن تتحقق، إلا بمجيء المهدي الذي سيملؤها عدلا كما ملئت جوراً . فلا يقال إن المعنى المراد ؛ أن لا أحد من خلقه بخارج من التسليم له. حيث ورود التفصيل طوعا وكرها أمارة على أن المراد الراجح، التسليم الظاهر والحقيقي. وهذا ما أكد عليه التفسير المصداقي للإمام الصادق علیه السلام لهذه الآية الكريمة، بقوله: «إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله »(2). من هنا

ص: 116


1- سورة آل عمران، الآية : 73.
2- انظر ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ص421.

لم تكن فكرة المهدي بالجملة، مجعولة جعلا مولوياً لم يخطر ببال النوع . بل هي فيهم مرکوزة يستحضرها وجدانهم الفطري . وبينما حاول الكثير من الباحثين، أن يشككوا في المهدوية الاسلامية باعتبار وجود نظائرها في سائر المعتقدات الإنسانية والدينية السابقة للإسلام. كان أجدى أن يكون ذلك خير دليل على وجدانيتها ومرکوزيتها في فطرة البشر. فالبشر لا ينازعون في أمر أجمعوا عليه ولو بالجملة . وليس ثمة من إجماع أمتن من إجماع الوجدان . لقد اختلف أهل الأديان حول من يكون المهدي المخلص، كما اختلف أهل المذاهب الاسلامية هل ولد أم لم يولد، كما اختلفت أهل الملل والنحل حول كيفية تحقق الخلاص المهدوي. وفي كل ذلك لم يرد ما يخدش في حقيقتها بالجملة. فالخلاف تفصيلي والعلم مجمل، والإجماع وجداني. فكل من آمن بالمستقبل ورجا، كان يعبر عن فكرة خلاصية ومهدوية شاء أم أبي.

تضع العقيدة المهدوية المؤمنين بها في وضع صعب، من حيث ثقل الانتظار، الذي وصف بأنه من أكبر العبادات، ومن حيث الانتظار في ظرف يختفي فيه الامام الحجة الذي هو ضابط التأويل الصحيح للدين، حيث فوضى القراءات وعدم بلوغ نفس الأمر إلى درجة الامتناع. إنه اختبار للإيمان بقدرة الله على أن يعجز من في الأرض جميعا عن بلوغ من آتاه الله رحمة من عنده ومنع الناس عنه،

ص: 117

وغيبه حيث فعل نظيره على امتداد رسالاته. إنه عنوان القدرة الذي يجعل المسلم في دائرة الامتحان الصعب ؛ فإما يسلم وإما يستشكل حيث لا استشكال على ما في يد القدرة المبسوطة. ولذلك كان أول وصف لهم :«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ »!

إنك تجد أن المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يجسد منتهى تجلي التوحيد في العالم. فلو نظرت إليه من خلال الأسماء الحسني الإلهية لرأيته مصداقا أوفي لها. وذلك تأسيسا على النبوي الذي حث المؤمن على التقرب بالنوافل حتى يكون سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها . وما إليها من معاني أحصاها العرفاء في مستوى قرب الفرائض وقرب النوافل، مع فارق جوهري بين أن يصبح المؤمن هو ید الله التي يبطش بها، وبين أن يصل مقاما يكون الله هو سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها . وهو مصداق قوله تعالى :«وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ رَمىٰ ۚ »که به مقامات متاحة لعموم السلاك والعارفين، فكيف بمن وعد بالتمكين وكان قائما حجة على الخلق ؟! إن عنوان التمكين الذي يعكس القدرة الإلهية ، سمة من سمات القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وهو أثرها الأوفى. وهكذا يمكننا قراءة مظاهر الظهور في ضوء الصفات الثبوتية، لندرك أن المهدي، هو تجلي صفة العلم، حيث سیؤتی تمامه كما ذكرنا آنفا . كما أنه تجلي لصفة الحياة، حيث طول العمر مصداق أوفي للحياة، فليس ذلك على الله بعزيز وهو الحي

ص: 118

القيوم. وهكذا سائر الصفات الثبوتية كالكلام، والقدرة والعدل والوحدانية التي ستسم عصر المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ عصراً سيوقف البشرية على أحكام الله الواقعية والحقائق كما هي ونفس الأمر. وهي الأمور التي مني غابت تکاثرت حولها أهواء البشر، فتكون الوحدانية والتوحيد عنواناً بارزاً في عصر، يضع حدا لشقوة التكاثر برسم الأهواء. حيث في التكاثر عنوان الضعف والتباس الحقائق وامتناع العلم واشتداد الانسداد. ومع الحجة القائم، هناك ظهور لكل شيء؛ للعلم والحقائق والمقاصد، وغياب الحواجز والتمكن من بلوغ المصالح بالطرق العادلة وخارج سطوة وظلم الإنسان. فمن يطلب التكاثر بالباطل والتعدد بالهوى حينئذ إلا شقي!

المهدوية والنبوة:

إذا كانت وظيفة النبي كامنة في التنزیل، فوظيفة الإمام کامنة في التأويل. وكما قاتل أمير المؤمنين على التأويل، سيعود الأمر قبل استتباب الأمر لمهدي الأمة كما بدأ ، فيبارزه الناس بالتأويل الفاسد، ويقاتلهم بالتأويل الصحيح. فينتصر! وهو آخر الأوصياء، وخاتم الأبدال . فمتى أدركنا أن الأمور أشباه، اعتبر آخرها بأولها فأحكم. ومتى أدركنا أن لا وجود لأمر تكويني أو تشريعي إلا وفق حكمة مقاصدية كما أكد الأئمة الأطهار، فإن وجود الإمام هو في مقام البدل الشاغل للفترات قبل بعثة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وهم بالأولوية أبدال ما

ص: 119

بعد الرسالة الخاتمة لانقطاع الوحي وختم الرسالة. فكيف يقال بلاجدوى حضور المهدي، وقد اتسعت دائرة الانسداد، وحيث عادت قاعدة قبح العقاب بلا بیان، العمدة في زمان ما بعد العلم والبيان؛ واستبدت الظنون خاصها وعامها . إلا أن يقال؛ أن الأمة عاشت زمان التنزيل دون أن تدرك من زمان التأويل ما يقيم البيان ويعضده. وحيث لا يعلم متشابه التنزيل إلا الله والراسخون في العلم. وقد ظهر أن الراسخين في العلم هم الأئمة من العترة الطاهرة. حيث أجاب الصادق علیه السلام شارحاً الآية الكريمة :«وَمَا یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ»، قال نحن نعلمه(1). وحيثما استمرت أطياف المتشابه وتلابست الأمور كان لازماً وجود الراسخين في العلم. ومصداقهم المهدي المخلص (عجل الله تعالی فرجه الشریف): «فأين تذهبون وأنی تؤفكون والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة . فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم»(2).

إن ظهوره وخفاءه لا يؤثر في الدور الذي يقوم به، إلا أن لظهوره شأنا عظيماً يفوق ما يقوم به من أدوار في الخفاء. وهذا ما يؤكد على أن الإمام حاضر في إجماعات الفقهاء اليقينية، فهو مانعهم من انعقاد

ص: 120


1- المجلسي، بحار الأنوار ج92 ص 93، دار إحياء التراث العربي - بيروت 1983م.
2- نهج البلاغة، الخطبة 86.

إجماعهم على الخطأ. ودائما وبناء على الأولوية القطعية، نقول إذا كان المهدي شانه شان الخضر - وهو حقا خضر الأمة - يحضر في البسائط من الأمور وما يخص أفراد الأمة يتدبر أمورهم، كيف لا يكون حضوره آكد في القضايا المصيرية للأمة وما يختص بالجماعة ، كما هو حال الإجماعات .

إذا لم تكن مهدوية الخضر مزاحمة لنبوة موسى، فما الغرابة في وجود مهدي الأمة إذن؟! لا بل إنها في حال عدم وجود النبي هي آكد بالأولوية القطعية. وإذا كانت مهدوية الخضر ونظائره في تاريخ الرسالات الذي عرفنا منه القليل وجهلنا منه الكثير، نافعة في زمان البعثات، فما وجه الغرابة أن تكون نافعة في زمان غياب الرسل. بل سوف تكون إذ ذاك آكد في النفع مني أدركنا أن الرسالة الخاتمة تستدعي وجود مهدي يحمل من خصائص عظمة الرسالة الخاتمة أيضا، حيث لا يمكن انبعاث نبي آخر. إن مقتضى الخاتمية أن يكون المهدي حيث لا فترة بعد النبي. فتصبح الخاتمية دليلا أقوى على ضرورة المهدي أكثر من الرسالات غير الخاتمة، متى أدركنا مقاصد النبوة ومقاصد المهدوية. إن فكرة الخلاص الأخير والمهدوية بأوصافها العظيمة هي الدليل على عظمة النبوة نفسها، حيث ثبوت العظمة للفرع هي عنوان ثبوتها للأصل.فحيثما اتجه النظر إلى المستقبل، تضخم الإحساس بضرورة الخلاص وشموله . فالمهدوية

ص: 121

بالأوصاف العظمى التي خلدتها التعاليم الدينية هي الدليل الأبرز على أن ما كان قبلها من رسالة هو الأعظم والخاتم بلا شك.

إن وظيفة المهدي مكملة لوظيفة النبي. وقد يقال هاهنا كيف يتم ذلك وقد أكمل الله دينه وأتم نعمته. غير أن الشبهة هنا واضحة التهافت. فتمام الرسالة ببيان وظيفة المهدي والإخبار عنه؛ فهو مشمول في آية الإكمال. وشاهده قول الإمام الرضا علیه السلام:«إن الله تبارك اسمه لم يقبض رسوله صلی الله علیه وآله وسلم حتى أكمل له الدين فأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج الناس إليه كملا. فقال عز وجل :«مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ».وأنزل عليه في حجة الوداع وهي آخر عمره:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ ».وأمر الإمامة من تمام الدين . »(1). وبها يتحقق تمام النعمة بالتأويل كما تمت النعمة قبله بالتنزیل. إن تمام النعمة في زمن التنزيل كان بالقوة . بينما سيكون تمام النعمة في زمن التأويل بالفعل . وهذا ما أكدت عليه الآيات والأخبار. حيث جاء لسانها بصيغة «اللو»، نظير قوله تعالى :«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ »(2).

ص: 122


1- الغيبة للنعماني، ص218، مكتبة الصدوق - طهران، 1397ه.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.

لكن وقوع ذلك سيكون في زمن المهدي بالفعل، حيث سيتحقق ذلك كما دلت الآيات والأخبار. فمن الآيات قوله تعالى : «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۚ »(1).

ومن الأخبار، ما جاء في رواية لأمير المؤمنين يشرح فيها قوله تعالى:«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ »فسأل الجالسين : «هل أظهر الدين لحد الآن؟ قالوا: نعم، قال: كلا، والذي نفسي بيده، لا يصير حتى لا تبقى قرية إلا وينادي فيها ليلا ونهارا بشهادة ، لا إله إلا الله»(2). أقول، إن المهدي مصداق لمعنى الآية، حيث ذكر إرسال الرسول بالهدی . فالهدى والظهور، هما أصدق في المهدي الذي هو من متممات هذا الأمر.

ليست وظيفة المهدي التكميلية منافية لكمال التنزيل .. بل هي إكمال في طول المضامين النبوية . إنها ليست اجتراحا لدين جديد أو رسالة جديدة على نحو الجعل البسيط، بل هي إكمال وتأويل وتشكيل متطور لرسالة الإسلام على نحو الوجود المركب. إن المهدي سيحقق كل مطالب النبوات والرسالات بإقامة العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والطغيان. وما دام أن أكثر دعوات

ص: 123


1- سورة هود، الآية: 86.
2- القندوزي، ينابيع المودة، ص423.

الأنبياء لم تتحقق في توحيد البشرية على التوحيد وتطهير الأرض من الظلم، كدعوة نوح بأن لا يذر على الأرض من الكافرین دیارا ؛ فإن المهدي سيتوفر له من وسائل الإعجاز ما لم يتوفر لغيره. بل ما من معجزة كانت لنبي إلا ويؤتاها حتى يتحقق المراد. أو كما قال الإمام الباقرعلیه السلام : «ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها على يد قائمنا لإتمام الحجة على الأعداء»(1). إن المهدي هو محقق رجاء كل الأنبياء؛ وليس إلا المهدي حقيق بهذا الدور. فالمهدي بهذا المعنى هو ضرورة نبوية ورسالية !

المهدوية والمعاد:

تجسد المهدوية نموذجاً مصغراً للمعاد. ففضلا عن كون ظهوره وعد الله والله لا يخلف الميعاد كما جاء في بيان الأئمة ، حيث هو من المحتوم لا الموقوف، فإنه حين ظهوره سیتولی مع أنصاره عمران الأرض وإنجاز رسالة الاستخلاف. وتحكي التعاليم الدينية حول المهدي أنه سينجز ما يشبه جنة على الأرض من حيث ما يحدث في زمانه من الخيرات وأيضا سيقيم ما يشبه ناراً لمعاقبة المفسدين والبطش بالاستكبار. ولذلك سمي مهدياً لأنه يدعو إلى أمرخفي،

ص: 124


1- مکیال المکارم، ج1، ص79.

فيحاسب الناس بعلمه لا بظاهر حالهم. فيثخن في معاقبة المتمردين عن الحق ويطاردهم في كل الدنيا ليجسد بذلك عنوان المعاد بشقيه : السعادة والشقاء. فعن غزال بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها واستغنى الناس ويعمر الرجل في ملکه ... الخبر»(1). كما يقابله ما جاء في قول الإمام الصادق علیه السلام تفسيرا للآية الكريمة «یُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِیماهُمْ فَیؤْخَذُ بِالنَّواصِی وَالأَقْدامِ»، قال :«يقتل المنافقين والكفار في ذلك اليوم بسیف عدالة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)»(2). فمن عز عليه تصور المعاد الأكبر ، أمكنه استيعاب مفهومه وإمكانه من خلال المعاد الأصغر. فيكون المهدي بهذا الصنيع عنوان لطف يعزز عند الناس عقيدة المعاد . وأيضا نموذجا تتحقق معه مضامين المعاد الأكبر؛ حيث مظاهر النشأة الأخرى على صعيد العمران والنضج العقلي الكبير والتحول الأعظم في حياة البشر، والارتقاء في أسباب السماوات والأرض . ففيه الإثابة وفيه النقمة والعذاب . فكل ما كان يتحدث عنه القرآن على لسان أنبيائه بالقوة سيتحقق بالفعل في زمن الظهور ودولة المهدي العظمى. ويؤكد على أنها حالة تغيير كبرى في عالم الناس، قول الإمام: «إذا قام القائم علیه السلام جاء بأمر غير الذي كان»(3). لذا حق

ص: 125


1- الغيبة للطوسی، ص468.
2- إحقاق الحق، ج13، ص35.
3- الغيبة للطوسي، ص473، مؤسسة المعارف الإسلامية - قم، 1411ه.

أن نقول: إن المهدوية انتقال الحقائق النبوية ومجد الرسالات من القوة إلى الفعل. فهي اللحظة الأوج في تحقق مقاصد الرسالات. فتكون المهدوية مصداقا لمقاصد الشريعة وحكمة الرسالة . ولذا قال عنها تعالى :«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».وحيث لا شيء يتغير سوى أن المهدي إنما سمي كذلك لأنه يهدي إلى أمر خفي، فإنه سيحاسب الظالمين بعلمه ويطالهم بإعجازه.

وسوف تكون دولته العظمى نموذجا لكل ما كانت تهفو إليه قلوب الأنبياء والأمم قاطبة. أليس من لطفه تعالی وعدله أن يظهر للناس ما كان يقصده من أمر بعثه المتواتر للرسل؛ حتى يكون ذلك في ذاته حجة على العباد. إن دولة المهدي العظمى تظهر بأن ما دعى له الأنبياء ممكن التحقق على الأرض. وبذلك يكون المهدي ودولته حجة الله على الناس، حتى لا يقال إن ما دعت إليه الرسالات كان عصي التحقق على الأرض، فكان المعاد المهدوي الأصغر حلقة كبرى في مسلسل الحجية المتواترة. فلا يحتج على الله بعد تحقق دولته (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أحد على أساس إمکان تحقق دولة النبوات والرسالات والشرائع الإلهية متى شاء الناس. ولا يحتج أحد على الله بعد المهدي، على أساس أنها اللطف الذي مكن فيه للمؤمنين ويسر لهم سبل الطاعة؛ فلا يكفر بعد ذلك إلا شقي . فدولة المهدي تأخذهم بالحكم الواقعي وتحاسبهم بالعلم لا بالظن، وبالقوة لا بالاختبار،

ص: 126

وهي رحمة الله التي ترفع من قوة اللطف، حتى تكاد تجبر الناس على ورود موارد السعادة، حيث لا دولة بعد هذه الدولة يرتجي فيها خير الدارين، أو على قول الصادق علیه السلام : «دولتنا آخر الدول، ولن يبقى أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قوله تعالى :«وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

المهدوية والعدل:

ارتبط ذكر المهدي بالعدل في صورته الفعلية . فلما كانت غاية بعثة الأنبياء والرسل، أن يقيموا العدل بين الناس، لقوله تعالى :«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ »(2). فإن العنوان البارز في دولة المهدي العظمی، هو العدل بالفعل . فسوف يسخر المهدي كل إمكانياته التي وضعها الباری تعالی بین يديه لخدمة الناس بالعدل والقضاء على الجور.

إذا كان تعاقب الأنبیاء رحمة للأمم فإن خاتمية الرسالات لا ترفع رحمة التذكير والهداية لمزيد من الباعثية وتكثيف للحجة.. إن وجود المهدي يؤكد على منتهى العدل الالهي .

ولقد أظهرت قصة الخضر، كيف أن العدل الإلهي تمثل في

ص: 127


1- الغيبة للطوسي، ص473.
2- سورة الحديد، الآية : 25.

سلوكه الذي خفيت أسراره على النبي موسى حتى كاد موسی يستشكل على ما بدا من ظاهره إجراما في حق الإنسانية. لكن عدل الله القائم على العلم المطلق لا على العلم المنقوص أو الجهل المركب هو من سيجعل الكثير ممن سیعاصر المهدي يأخذه العجب حتى يقول: لو كان ابن فاطمة لرحم. سوف يحدث المهدي زلزالا في دنيا الفساد قبل أن تقر عين البشرية بالسلام. إن وجود مهدي يحقق العدل بعلمه لا بالظن، هو تجل للعدل الإلهي، حيث البشرية تتجه وجهة تجعلها تيأس من غلبة الظنون التي افتقدت معها كل حقوقها. وحيث ستجرب كل الخيارات، حتى تدرك البشرية أن لا مجال لإقامة العدل إلا على أساس العلم والحكم الواقعي واتباع أمر من يهدي بأمر الله.

إن ما ينقص العالم اليوم هو العدالة. وفي ظل هذه الفظاعات التي تقض مضجع الأمم قاطبة، أصبح السؤال وارداً : إن كان الله عادلا ، فكيف لا يلطف بعباده الذين أصبح العدل في عيونهم أشبه بالخيال في ظل النظم الظالمة. وكيف تتحقق العدالة الكونية في ظل تحكم عالمي بالثروة، وتهميش كارثي لأغلبية المعمورة . حتى بدا واضحاً أن التسليم بالظلم أمرا لا مرية فيه في عصرنا الموسوم بهذه الجبرية الظالمة والجبروت المغشوش. وسوف يكون المخرج الوحيد لهذا الانسداد الأعظم في فرص العدالة ثورة كونية لا يمكن

ص: 128

أن يقوم بها إلا مؤتمر بأمر الله، ومعززاً مشروعه بالمعجزات والحجج القاهرة . فعدله يتعدى إلى كل البشرية وكل المستضعفين في الأرض . إنه وسيلة تحقيق النموذج البشري الأكثر عدالة في تاريخ النوع. وللإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) كل الشروط والوسائل لتنفيذ أمر الله بنشر العدل وملء الدنيا به بعد أن ملئت جوراً . وأهم تلك الشروط التمكين في الأرض والعلم الواقعي. ومتى اجتمع الشرطان معا لم يتأخر عنهما تحقيق العدالة. وتتجلى مظاهر العدل المهدوي في الأبعاد التالية بحسب المستفاد من الروايات المتكاثرة في المقام. إن عصر الظهور هو عصر القضاء على كل الآفات التي سببها الجهل وضعف التمكن. فالمهدي يأتي بالعلم الضروري للقضاء على ما أعجز الطب، ومن العلم ما أعجز العلماء. أي ما معناه أن ثمة عدالة ووفرة على صعيد التقدم العلمي والنظام التربوي والتغطية الصحية . بل سيملك من أسباب السماوات والأرض ما يرفع به قصور وسائل الإنتاج عن استخراج الثروة الكافية للنوع من الأرض وما تعجز القوانين عن ضبط العدالة بين بني البشر. وهذا يؤكد على أن الإمام المهدي سيوفر من العلم التكويني والتشريعي ما يرفع العقبات عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية. لا سيما العدالة الاقتصادية وهي أساس المشكل الاجتماعي الذي وجدت في طريقه قوانین وسياسات محكومة بقانون الندرة. وحيث أن الإمام المهدي سيحل الإشكالية

ص: 129

المالتوسية القائمة على أساس مضاعفات التطور الديمغرافي على الثروة، من خلال استثمار أمثل للثروة والتدفق في الإنتاج وتجاوز اقتصاد الندرة الذي هو سبب كل فظاعات العدالة الاجتماعية. كما أنه سيتجاوز معضلة الفالراسية القاضية بالتمييز بين الموقف العلمي والرياضي من عملية الإنتاج والموقف الأخلاقي الإنساني من عملية التوزيع، من خلال أن عالم الوفرة لا يتيح هذا الفصل التعسفي الذي هو ناتج عن واقع الندرة والجشع . إن عصر الظهورعصر أخلاقي لا فصل فيه بين العلم والأخلاق. حيث انتفاء الحاجة إلى هذا الفصل التعسفي . إن بلوغ الثروة والرفاهية بالسوية لكل الناس، برفع أي حاجة للاستعباد والاحتكار وغيرها من الآفات التي تؤيد النظم الاقتصادية الظالمة. مع عصر الظهور ستتحقق مقولة علي بن أبي طالب : «لو كان الفقر رجلا لقتلته».وحيث أكد أمير المؤمنین علی قاعدة تفسر سبب انهيار العدالة الاجتماعية، لما قال : «ما وجدت نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع». ففضلا عن أن ذلك دعوة إلى تقليص الفجوة بين الفقر والغنى، إلا أنه أكد على أن واقع اقتصاد الندرة لا يساعد على التحقيق المطلق للعدالة الاجتماعية . لذلك فإن الفقر حتى بمعناه الأقل ضرراً في حكومة النبي صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیه السلام ظل قائماً . لكنهم أشاروا غير ما مرة إلى أن واقع الندرة له علاقة بالكفر والظلم، وحيث . وكما مر معنا - لم يعم التوحيد ولم يظهر على

ص: 130

الدنيا، لا يتم القضاء على أسباب الظلم والكفر إلا في عصر الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فيكون ظهوره مساوقاً لارتفاع الندرة وتحقيق العدالة كاملة. فإذا كان النبي صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام كلفوا بأن يحكموا بالظواهر، فإن الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مكلف بالحكم بالباطن. والحق أن الإمام الحجة سيقتل الفقر وينتصر للفقراء وسيعم الخير الدنيا حتى لا يظل هناك ما يدعو أحداً للكفر. من هنا فلن يكفر بعده إلا أهل الشقاوة الذاتية كما لا يخفى . إذا ضممت إلى ذلك العدالة في الصحة والحرية وباقي الحقوق الأخرى وحمايته بالتمكين المتاح للإمام الحجة لردع الاعتداء والاستكبار ودحر كل معتد على قيم العدالة الاجتماعية، فسندرك أي معنى ستأخذه هذه العدالة. لا يحتاج الإنسان في زمن الظهور إلى إسراف في النظريات الاقتصادية طالما أن قصة الاقتصاد السياسي تبدأ من واقع الندرةوالجشع الذي يفوق ما تنتجه الأرض. ولذلك، كان عصر الظهور هو عصر الاقتصاد في النظريات الاقتصادية ، حيث فائض الثروة النظيفة يتم تلقائياً وبأقل إجراءات وقائية . ان العدالة الاجتماعية لا تعني التفقير الاجتماعي والقضاء على حق الفرد، بل إن المهدي سيزيح كل العقبات التي تجعل الاقتصاد متى قام على العدالة الاجتماعية كان ذلك مؤشراً على تراجع الوفرة الاقتصادية . لا شك أن النظام الاقتصادي العالمي اليوم يقوم على وسائل في الإنتاج غير نظيفة، حيث التلوث البيئي هو

ص: 131

واحدة من معضلات نمط الإنتاج المعاصر. كما أنه اقتصاد يقوم على سوء التوزيع ونمط في الإنتاج احتكاري، يستند إلى المنافسة غير الشريفة وشل اقتصادات أغلب المعمورة لصالح الاحتكارات الكبرى في بلاد الشمال. مثل هذا الوضع الذي تتطلع الشعوب إلى تغييره لصالح معادلة في العلاقات الاقتصادية قائم على العدالة ودحر سياسات الاحتكار والاستتباع الاقتصادي، سيكون هو عنوان دولة المهدي العظمی . بل إن ذلك هو مصداق نشره العدل في الأرض والقضاء على الفجور، وأوله الفجور الاقتصادي. وإذا كان عنوان دولته الإيمان والتوحيد ونبذ الكفر، فذلك مصداق على أن دولته تأخذ بمبدأ الشكر القائم على إظهار النعم وتوزيعها على قدر يفيض على الناس حتى يستغنوا. وحيث إن من مظاهر الكفر والظلم، خراب العمران بسياسات التفقير، وحيث جربت البشرية كل أشكال النظم الاقتصادية وأنماط الإنتاج، أصبح واضحا أن لا مخرج من هذا الشكل من الظلم الاقتصادي إلا دولة المهدي التي تملك وحدها أن تعمر الأرض عمرانا لا خراب فيه. إنهادولة الوفرة والعدالة الاجتماعية على أساس اقتصادي فعال ووسائل إنتاج نظيفة وسياسة في التوزيع بالغة العدالة .

المهدوية والإمامة:

لا مهدوية إلا بإمامة. إنها من جنس الملازمات العقلية . فهي،

ص: 132

أي الإمامة من المهدوية، بمثابة المشمشية للمشمش. أي اللازم لملزومه. وإذا كان إصلاح مستقبل الأمم لن يكون إلا بالإمامة، والمهدوية لا تقوم بالمعنى الذي نتصوره من شانها ، إلا بأن يكون المهدي إماما، فإن الأئمة قالوا كلنا مهدیون.. وإن المهدية في المستقبل تجيب عن كل الإشكاليات التي شطت فيها الأمة عبر التاريخ الإسلامي الطويل .. إنها منطقية مع سياق المحنة التي واجهها الأئمة... وقد كان حقا أن يتساءل البعض: ماذا يمكن أن يتحقق من نفع بوجود المهدي؟! والحق أن الجواب لا يتم إلا عبر سؤال آخر: ماذا خسر المسلمون، بافتعال الاستغناء عن أئمة أهل البيت علیهم السلام واستبدالهم بأغيارهم ؟ ونبذ أئمة يهدون بأمر الله ولا يقودون الناس بالجهل المركب الذي هو النسبة العظمى في علم أغيارهم ؟ وإذن هذا ما ستخسره الأمة أيضا بإغضائها عن إمام غائب، تبين أنها حصدت من نكران بعضهم للغيبة أو وجود المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، من كل مؤشرات اليأس. إن المهدوية تمنح المسلمين وكل البشر المتطلعين للخلاص تفاؤلية، تجعل الاستمرارية ممكنة في ظل أعتى صور الظلم. ومن دونها بضيق العالم ويستبد اليأس .

إننا نلاحظ أن كل صنوف الرفض لعقيدة الإمام المهدي، هي نفسها التي ساقها المشركون في سياق الرفض للنبوة . ومن هنا، وبعد أن تحقق الاعتقاد بالمهدوية كفكرة عامة، راح البعض يتحدث عن

ص: 133

وجودها كفكرة مجردة لا كحركة واقعية يقودها شخص معين . وما أشبه هذا بمن استنكر على الله أن يبعث رسولا بشراً أو شخصا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أو من طلب أن يبعث الله ملكاً أو رجلا من القريتين عظيماً أوقرطاساً ... وغيرها من المتعللات التي تجعل المنکرین لهذه الحقائق ينزعجون من تشخصها الفعلي في العالم، حيث لا قيمة للأفكار المجردة ولا مكنة لها أن تحدث كل هذا التحول من دون قيادة عظمى. وليس في دنيا البشر من الإمكانات والأسرار والعلم اليقيني ما يجعل هذا الأمر مسألة اعتباطية تنبثق من داخل فظاعات الإنسان المعاصر، سوى أن يكون القائد موصولا بمدد القوة الحقيقية ومتصرفاً ومنصوراً ومزوداً بالمعجزات . وما يجري على الأرض دليل أقوى على أن لا أحد من الأقطاب العالمية يملك أن يحكم العالم ويوحده حتى على الباطل أو الظنون، سوی أن يرد من يملك أن يخاطب فطرة الناس ويقدم بين يديهم ما كانت البشرية تتوق إليه.

إن لا أمر يقوم في دنيا الناس صحيحا أو باطلاً إلا بإمامة. فهل شأن كشأن المهدي الذي سيغير ما كان، ويحدث الثورة الكبرى، ألا يحتاج إلى إمامة . يقول الإمام الرضا علیه السلام: «إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي»(1) فهل يعقل أن يكون ثمة فرع للإسلام

ص: 134


1- الغية للنعماني، ص0217.

أسمي تحققا على الأرض من إسلام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) . فبهذه الدوحة بدأ الأمر وبهم سيختم لا محالة. وكلهم هداة مهديون، وإمامة القائم جامعة مانعة تستوعب رجاء الأنبياء والمرسلين والأوصياء وحلم البشرية والمعذبين في الأرض قاطبة. إنها قصة كبرى ودولة عظمى وانتظارية طولی ؛ لكن الأمر يهون ما دام أن:«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ »!

ص: 135

ص: 136

دولة الموعود ومأزق الفكر السياسي

اشارة

*دولة الموعود ومأزق الفكر السياسي(1)

الباراديغم المهدوي باعتباره نهاية لتاريخ الاجتماع السياسي

«إن الله فتح هذا الدين بعلي. وإذا قتل فسد الدين ولا يصلحه إلا المهدي»

حديث نبوي

«يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جدید، وقضاء جديد، على العرب شديد».

أبو جعفرعلیه السلام

مدخل:

تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطاً يكاد يكون متكاملا عن أحوال دولته

ص: 137


1- ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي الرابع لعقيدة المهدوية المنعقد برعاية مؤسسة المستقبل المشرق يومي 14 - 15 أغوست 2008م بقاعة المؤتمرات الدولية - طهران.

وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشکلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانا . إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة . حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك، وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر . فالظلم والجور غدا معضلة بنيوياً، ودورته باتت مأزقاً نسقياً. وإن أي حل لا يكون ثورياً سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام، بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديداً نفهم لماذا عبر الخبير الأمريكي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع. وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى لو تعلق

ص: 138

بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل، وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضا، إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها .

وعليه تعين وضع ما به امتیاز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجاً تاريخياً مستعاداً ، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها . إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبری القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدا، ليس للمسلمين فقط، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.

ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى ، نعني المستبد العادل. وأيضا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضا توضیح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضاريةكونية؛ ضرورة يفرضها

ص: 139

الاجتماع الإنساني. ليس من حيث أنها خاتمية الرسالة بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.

دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير

ليس جزافا أن سمی فوکویاما محاولته الكلاسيكية : نهاية التاريخ والرجل الأخير. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخاً في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت اللبرالية نفسها تعبيرا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية . واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري(1) الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للإجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من

ص: 140


1- نسبة إلى أبيقور ومذهبه القائم على اللذة. فالرأسمالية اليوم هي أوج ما بلغه مبدأ اللذة وشططها كما لا يخفى. فضلا عن أنها منتهی ما بلغه النمط الاختزالي الذي حول غاية الإنسان إلى مجرد تحقيق اللذة باي الوسائل حتى لو كان بها تحقق خراب العمران والقيم والنوع.

أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات . وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات . إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطروحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج تحكم الفكر السياسي النيوليبرالي. كذلك سعی فوکویاما للقول بأن النموذج اليوم هو هاهنا، وبأن الهزيمة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية. بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه . لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأمريكي هو الرجل الأخير.

لعله من المفارقة أن تسعى اللبرالية عبر الخطاب الفوكويامي إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة

ص: 141

الأحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوأ لحظة وآلمها على المجتمع الدولي . هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة والشطط في الاستكبار.

لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوکویاما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ كکل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الانساني . فحتى قبل بزوغ الرأسمالية، لم يكن الفقر يوما عاملاًلتخريب الاجتماع الانساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة . تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين : أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة والآخر وهو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب الايديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الايديولوجية بعناية، ترسم

ص: 142

کاریکاتوراً لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الايديولوجيات . حقا إنها أيديولوجيا محتالة : أيديولوجيا نهاية الايديولوجيات!

لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قدر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارا لطبيعة الأشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي(1)ليغطي على أزمتین بنیويتين في المشروع النيوليبرالي: الأولى تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي تری تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثا عن الاعتبار والكرامة . وهذا المنظور حتما لم يعد مؤسساً حقيقياً للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذين امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثروات الأمم وأيضا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة واختزال الرقي في

ص: 143


1- تقوم فلسفة التاريخ الهيغلي على الجدل المستمر والتكامل والتغيير . وهي ترى فبما ترى تاريخ النوع هو تاریخ کمال الروح والفكر، وتاريخ بحث عن الاعتراف والكرامة .

المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمرة للسياسةالاجتماعية والاقتصادية . وهذا ما يقودنا إلى الأزمة الثانية حيث لم يصدقنا فوکویاما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الانسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندة ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية التاريخ التقدم البشري. صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدة مقلوبة يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبرالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يوما استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية ؛ المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للاجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة . لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه .

يقول فوکویاما مدافعا عن فكرته ومنزهة إياها عن زيف الأيديولوجيا:

«وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من

ص: 144

ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي(1) نظامه السياسي في الزمان(2).

يحاول فوکویاما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية أمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية . والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الاعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الأطروحة. إن حديثه الانشائي عن النماذج الواعدة في آسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الآسيوي الذي قادته ثورة النمور الآسيوية(3)، حتى لو اقتضى الحال ان يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية ويتمسك بنزعة اكثر ايديولوجية وبراغماتية وهو يعزو الأبوية المنازعة لديمقراطية هذه البلدان إلى آفاق انتربولوجية خارج منطق التراتبية التاريخية التي أصر عليها منذ البداية أيما إصرار. إن فوکویاما لم يتأمل فارق النموذج لما يبرر سياسة

ص: 145


1- أي تجريبي.
2- انظر الحوار الذي أجراه کاتب السطور مع فرنسیس فوکویاما : نهاية التاريخ بعد مرور أكثر من عقد على إعلانها ، مجلة الكلمة، العدد 97، السنة الثانية عشرة 2005، بیروت .
3- المقصود هنا انبعاث اقتصادیات عدد من الأقطار الآسيوية کتایوان وسنغفورة وماليزيا وغيرها من دول ما يعرف بالنمور الآسيوية التي عرفت نموا وطفرة اقتصادية مميزة.

القمع والاستبداد في المجال السياسي للنمور بكونها فرعا لأصول الأبوية،ذلك الارث الطبيعي للسوسيو - ثقافة السياسية لبلدان لا يهم حقا أن تكون مثالا يعزز انتصار عقيدة الانسان الأخير، طالما أن هذه الأبوية المناقضة لأصول الديمقراطية نفسها تتماشى مع الارتفاع المضطرد لمعدل النمو. وذلك حينما يستشهد هذا الأخير بكلام الكوان يوفان، رئيس الوزراء السانغافوري الأسبق إن شكلا من الاستبداد الأبوي يتناسب أكثر مع التراثات والتقاليد الكونفوشيوسية في آسيا. والأهم أنه يمشي بشكل أفضل مع معدل النمو المرتفع، بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية . فالديمقراطية في نظر لي کوان هي عقبة في طريق النمو»(1).

إن التاريخ هنا سيكف أن يكون بحثا عن الكرامة والاعتراف، بل هو تاریخ نشاط مادي ذي طبيعة استعراضية قابلة للانهيار الكارثي كما حدث قبل سنوات، وكما سيحدثنا أحد أبرز الفاعلين في اقتصاد المضاربات، والمتهم الرئيسي في كارثة الانهيار الذي شهدته اقتصادات النمور قبل سنوات، حينما يقول، ليس فقط عن هذه الاقتصادات التي أظهرت أن مضاربة واحدة في حجم سوروس يمكن أن يدفع بها إلى هاوية الإفلاس، بل عن عموم النموذج الرأسمالي

ص: 146


1- أديب ديمتري، دكتاتوريةرأس المال، ص 41، ط1 - 2002، دار المدى، دمشق.

لما قال: «إن انهيار السوق العالمية، سيكون حدثا مولمة يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن»(1).

هنا الديمقراطية تصبح برسم هذه الرأسمالية الجامحة مجرد عارض غريب، وبأن الغرض منی تم ولو بدونها، فذلك هو المطلوب. ثمة مغالطة بخصوص هذه اللعبة القذرة التي تجعل من جموح غريزة التغلب والسيطرة، طبيعة للاجتماع أيضا . وليس غريبا ما قاله تشومسكي عن هذه اللعبة القذرة لمنطق السوق:

«إن مثلا من قبيل الديمقراطية والسوق مثل جيدة، طالما أن «میل الملعب» يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا. أما إن حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالبا ما يفي العنف المباشر بالغرض. أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية، فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة في النار» (2).

الاقناع بأن النيوليبرالية ستنتصر لأنها التعبير عن طبيعة الأشياء،

ص: 147


1- جون غراي، الفجر الكاذب ، ص7 ت أحمد فواد بلبع، ط 1۔ 2000، المجلس الأعلى للثقافة و مكتبة الشروق/ القاهرة - کوالالامبور - جاكرتا .
2- نعوم تشومسكي، سنة 501، الغزو مستمر، ص171، تمي النبهان، ط2، دار المدی، دمشق 1999.

سيعيدنا إلى البداية الفيكتورية(1) التي تراجعت فترة طويلة بفعل نضالات شهدتها اوربا . إنها اهتبال وحشي لفرص تاريخية تملك النيوليبرالية قدرة خارقة على استغلالها . لكنها لم تكن هي النهاية نتيجة صمودها الطويل، وليس بروزها لحظة الفراغ يعني أنها هي نهاية الاعتقاد أن النيوليبرالية والرأسمالية لم تكن التعبير عن رفع القيود المكبلة للانماء، ولا هي معانقة سمحة لطبيعة السوق. بل كانت دائما نتيجة تدخل الدولة . بل يكون تدخلها في الغالب أشرس تدخل . يحدثنا جون غراي عن هذه الحقيقة بوضوح تام:

«إن السوق الحرة التي وجدت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم توجد مصادفة كما أنها على نقيض التاريخ الاسطوري الذي يروج له اليمين الجديد لم تنشأ من تطور طویل غير مخطط، وإنما كانت صناعة يدوية للسلطة وفن الحكم»(2).

ص: 148


1- كانت الرأسمالية في إنجلترا منذ عهد الملكة فيكتوريا تحاول أن تفرض التحرر النهائي للاقتصاد بمعزل عن أي إقرار للسياسة الاجتماعية. وحيث وجهت تلك المحاولات بحركات وتمردات اجتماعية، بقي مشروع الليبرالية المتوحشة يترقب الفرصة للعودة إلى الظهور مجددا حتى وجد ضالته في العولمة وانهيار المعسكر الاشتراكي وانتصار اقتصاد السوق. إذا وعينا ذلك أدركنا أن المسالة هنا لا تتعلق باقتصاد در خارج منطق تدخل الدولة، بل المسألة هنا تتعلق بغياب السياسة الاجتماعية حتى مع بقاء تدخل الدولة، فقط لدعم مسارالرأسمالية المتوحشة.
2- المصدر، ص16.168

لم يكن فوکویاما في حاجة إلى أن يعلم البشرية ماهية الليبرالية التي عرفوا كل مظاهرها السلبية واصطفافها ضد العدالة الاجتماعية وكوارثها الاجتماعية والثقافية والبيئية . فإذا كان واقع الليبرالية قد صنع عوالم الفقر وما تحت الفقر سواء في المركز أو المحيط في عز حربه الباردة ضد خصيمه السوفياتي، فماذا لو خلاله المجال واستفرد بالاستكبار ولم يوجد له في هذا الصراع المدمر للبشرية من رادع أو من يخلق شكلا من التوازن يعيق استفراده بالنوع ويؤجل أجندته النهائية . وبالفعل إن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة كان له الفضل في انهيار كل أشكال السياسة الاجتماعية ليس في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في أوربا التي أدخلت مجتمعاتها في دورة نیولیبرالية غير مقدور عليها بالنسبة للعقل السياسي الأوربي ، مما جعل حركة الاحتجاج والثورة تنطلق هذه المرة من هوامش أوربا ضد ذلك النموذج النيوليبرالي الأمريكي الذي بات يتهدد الهوية الثقافية والمقومات الاجتماعية لأوربا نفسها ، تلك التي صدرت يوما نموذجها الاقتصادي والاجتماعي ليس على أساس عظمنها الليبرالية ، بل على أساس سیاستها الاجتماعية التي ظلت حتى حين مدينة فيها للنموذج النقيض، حيث كان للصواريخ الباليستية السوفياتية الفضل في حفظ هذه السياسة حتى لا يصبح للنموذج السوفياتي الاجتماعي جاذبية تلفت انتباه مجتمعات أوربا الغربية .

ص: 149

يبدو أن النهاياتية تتحدد بآخر حلم بشري. فطالما ثمة ما لم يستنفد من هذه الأحلام، وما دام أن ثمة مجموعة بشرية تنتظر ما هو أفضل، فذلك خير دليل على أن النهاية لا تكون كونية إلا إذا تحقق معها مخرج كوني لعذابات الشعوب وانحطاط الأمم. ومع ذلك يكون خطاب النهايات نظير ما رأينا من فرنسیس فوکویاما، على علاته وإسرافه واستعجاله أكبر دليل على أن ثمة نموذجا ما تنتظره البشرية دون أن تجد له طريقة ولا مثالا في هذا المعروض البشري المحكوم بنيوية بمظاهر الظلم والجور. أو لنعتبرها حكاية قرصان انتصب في وسط الطريق ليسرق من الموكب البشري ما تبقى لديه من حلم. ليس غريبا أن الرأسمالية سرقت الشعوب واحتلتها ونهبت مواردها. فاليوم تسعى لاحتلال وعيها وسرقة رأسمالها الرمزي المحتمل، سرقة مستقبلها بعد أن فعلت ذلك في ماضيها وحاضرها .

وإذا كان مظهر قومة الموعود هو القطيعة مع كل أشكال الجور والظلم وانطلاقا سمحا في آماد العدل والخيرات، فلا بد أن يكون آلة تحقيق ذلك هو قيام دولة عظمى، تتميز ليس فقط في استقرائها الإيجابي الذي لا قبل لدول العالم به، بل تتميز أيضا بحسن الإدارة وقوة الإنماء والتقدم بحيث تحمل استحقاقها في مظاهر نموذجها الذي سينسخ تلقائية كل النظم السياسية التي سوف تبدو حتما في صورة بشعة يكاد المرء يعجب كيف صمد الجهل كله والظلم كله في

ص: 150

هذه النماذج السياسية وكيف ظلت البشرية أسيرة لهذا الانسداد السياسيالأعظم. لكن قبل الحديث عن ميزات دولة المهدي وخصائص سياسته للمدينة الموعودة لا بد أن نقف عند نقطتين أساسيتين:

إحداهما تهدف إلى تمييز دولة الموعود عن دولة الطوبا

والأخرى، أن انتصار دولة الموعود لن يكون بالضرورة انتصارا حربيا .

دولة الموعود ودولة الطوبا.. أية علاقة

ثمة ما هو مهم في دولة الطوبا ، وهي ذلك الحلم الكبير الذي لم يبرح خيال الفلاسفة والحكماء، وهم يعبرون بصورة مثالية وذوق رفیع عما يختلج في قلوب البشر. إنها قصة الحلم بمستقبل أفضل ونموذج أكمل. لكن تفاصيل ما جاد به خيال أولئك جعلها قصة حلم فقط وليست حتمية من حتميات التاريخ. إن دولة الموعود هي كبری الحتميات التي يفرضها منطق التاريخ نفسه. وهي كذلك بما أنها تقع في حيز الإمكان لا تعاكس الضرورة المنطقية أيضا ؛ تلك الضرورة التي يعززها أيضا منطق الإيمان. إن إطلالة سريعة على بعض أحوال المدن الخيالية تضعك أمام شكل من أشكال النقص والاعورار في تدبير المدينة يؤكد على أن منطلق النقص هو كامن في بنية الخيال نفسه وتصورنا للعدالة والحقوق. إن أي حالم بهذه الطوبا لم يفعل

ص: 151

أكثر من تجسيد مظاهر ثقافته وخبرته ودرجة خصوبة خياله. لكنه لم يتمكن إلا من ذكر نموذج يستحق أن يوصف بأنه ليس له من الجدارة إلا أن يظل خيالا مستحيل التحقق. ودولة الموعود تحمل مظاهر استحقاقها في نموذجها ومن منطق التاريخ، بحيث ندرك لو قارنا بين كل أشكال الطوبا ودولةالموعود سنجد أن أرقی نموذج برقی ويهذب حتى مخيلة الحالمين هي دولة الموعود كما سنجدها وحدها من بين هذه الدول الحالمة، تتوفر على ضمانات تاريخية وجغرافية ودينية . بل إنها لا تنتمي لجنس الأدب اليوتوبي - طالما هي متصلة بأزمة الراهن وطالما هي ليست مجهولة المكان والشروط بالجملة - لأنها ليست كما الطوبا : أي اللامكان، بل هي دولة موعودة بحتمية التاريخ وضمانة الوحي وتحقق الجغرافيا . إن دولة الموعود لها جذر تاریخ حقيقي وأيضا جغرافيا سياسية للانطلاق وأيضا ضمانة دينية .

تضعنا الأخبار الاسلامية على محددات لتشخيص الموعود وتاريخانيته وجغرافيته. وقلت تاريخانيته احترازة من الالتباس الذي قد تضفيه عبارة تاريخه، لأن التاريخ بناء على النهي عن التعيين، أمر ثابت بالجملة ومتوقف على شرائط. عدم التعيين لا يخرج الحقيقة من سياق التاريخ وفلسفته. لكن التاريخ هنا ليس محض کرونولوجيا بل هو فعل تراكمي تشارطي. وتاريخانية الظهور يعني أنها حنمية تاريخية متوقفة على جملة من الشروط .

ص: 152

ففي سنن ابن ماجة (ج 4، ص 151 ط السعادة بمصر) قال : ذكر الحافظ أبو داود السجستاني في سننه، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبدالله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بیان، عن علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن آم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة. في منتخب کنز العمال : المطبوع بهامش المسند (ج5، ص96، ط الميمنية بمصر)، روي من طريق ابن عساكر عن الحسین قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لفاطمة : أبشري يا فاطمة فإن المهدي منك . رویبسنده عن علي بن هلال، عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم رأسه إليها وقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك فقالت : أخشى الضيعة من بعدك فقال : يا حبيبتي أما علمت «إلى أن قال : وما سبطا هذه الامة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما، یا فاطمة والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الامة إذا صارت الدنيا هرج و مرج وتظاهرت الفتن وانقطعت السبل وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيرة ولا صغير يوقر كبيرة فيبعث الله عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوبة غلفة يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ويملأ الأرض

ص: 153

عدلا كما ملئت جورة الحديث. حديث ابن عباس كما ورد في المناقب لعبدالله الشافعي: ص 210 روی بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنه عن الحسين بن علي علیه السلام قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول : إنه متي يعني المهدي من ولد الحسين بن علي. عن عبدالله بن مسعود في صحيح الترمذي : ج9، ص74 ط. الصاوي بمصر . حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي، حدثني أبي، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن بهذلة، عن زر، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال أبو عيسى: وفي الباب عن علي وأبي سعيد وام سلمة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. قال : وحدثنا عبد الجبار بن العلاء، عن عبد الجبار العطار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم،عن زر، عن عبدالله ، عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال : يلي رجل من أهل بيتي بواطئ اسمه اسمي قال عاصم: حدثنا صالح، عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي. هذا الحديث حسن صحيح.

عن علي علیه السلام في كتاب الاعتقاد للبيهقي (ص105، ط. كامل مصباح) قال: حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد تكلفة أنبأنا حامد بن محمد الهروي أنبأنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعیم، حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل،

ص: 154

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. الخ.

عن تميم الدارمي في تذكرة الحفاظ (ج1، ص765 ط. حيدر آباد) قال: أخبرنا عبد الخالق القاضي] وابنة عمه ست الأهل بقراءتي عليهما ببعلبك قالا : أنبأنا البهاء عبد الرحمن بن إبراهيم منوجهر بن محمد، أنبأنا هبة الله بن أحمد، أنبأنا الحسين بن علي بن بطحاء سنة 928، أنبأنا محمد بن الحسين الحراني، أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة أنبأنا أحمد بن سلم الحلبي، أنبأنا عبدالله بن السري المدائني عن أبي عمر البزار، عن مجالد عن الشعبي، عن تميم الدارمي قال: قلت: يا رسول الله ما رأيت للروم مدينة مثل مدينة يقال لها : انطاكية، وما رأيت أكثر مطرأ منها ! فقال النبي صلی الله علیه وآله وسلم : نعم وذلك أن فيها التوراة وعصی موسی ورضاض الألواح ومائدة سليمان في غار - إلى أنقال : فلا تذهب الأيام والليالي حتى يسكنها رجل من عترتي، اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، خلقه خلقي، ولقه لقي يملا الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .

في صحيح الترمذري : ج9، ص74 ط. الصاوي بمصر . قال : قال عاصم: وأنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي (يعني حتى يلي رجل من

ص: 155

أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي) وإنما لم يذكره تعوی" على ذكره في الحديث.

وقد رويت أخبار أكثر من ذلك وبطرق مختلفة تؤكد أن الموعود مشخص لا مجرد فكرة في الرؤوس كما رأينا في الأدب اليوتوبي ورأينا لها نظائر عند من اختزل القضية والشخص في مشروع فكرة.

وأما من حيث المكان، فالأخبار تكاثرت في تعيينه ليس فقط في الاقليم أو البلدة فقط بل حددت حتى موطئ قدمه الأول حين الخروج ومکان صلاته وظهوره. ففي «الأربعون حديثة لأبي نعيم»الحديث السابع قال:

روی باسناده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلی الله علیه وآله وسلم : يخرج المهدي في قرية يقال لها كريمة. وثمة روایات تتحدث عن خروجه بين الركن والمقام مما لا يخفى على مطلع على أحوال عصر الظهور.

تتجلى ضمانة الوحي في مجمل النبوءات التي زخرت بها التعاليم وحثت على الاعتقاد بها بوصفها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وماتعبيرنا بالنبوءة في المقام إلا جري على المتداول. وإلا فهي حقائق المستقبل التي ذكرتها المصادر الدينية الكبرى. إضافة إلى أنها عينت لها تاريخا مجملا متصلا بأشراط محتومة كما عينت لها جغرافيا مشهودة .

ص: 156

تظل دولة الطوبا مستحيلة التحقق بلا ضمانات . حيث لم يعد بها من تنژل وعده منزلة المحتوم. ولا تعينت جغرافيتها التي ستشهد نشأتها الأولى إلا في خيال الحالمين . إنها محض تعبير عن أحلام. لكنها أحلام تؤكد بأن ثمة حتمية لا مفر منها . أن تبلغ الأمم رشدها الحقيقي وتتكامل فكرة العدالة لتستصدر نموذجها الكامل بقيادة الإنسان الكامل.

ثم إنها بما هي تعبير عن تصميمات أيديولوجية وثقافية خاصة بالحالم وبيئته الثقافية لا يمكن أن تكون بالضرورة كونية وفيها إسعاد كل البشر. بينما ليس في دولة الموعود ما يتعذر تحقيقه. وليس لها من خصوصيات إلا قصة الدين كما يطرحها تحدي الإلحاد. وهذا سینحل بمجرد أن يدرك العالم أن الدين ضرورة وواقع أكثر الحقائق برهانية وقوة في زمن الموعود. فالدين كان ولا يزال وسيظل الظاهرة الأبرز في تاريخ النوع. فإذا تحقق ذلك لم يعد في مظاهر دولته العادلة ما يجعل الحليم حیران. بل يصبح الإلحاد شذوذا وتفاهة وانحطاطة. فلن تزعج دولته يهودية أدرك تعاليم موسی ولا مسبحية أدرك تعاليم عيسى، حيث كان من المفترض أن يشهد الأنبياء على صدق دولة الموعود، ليؤكدوا لأتباعهم أنها هي نفسها دولة الوعد الموسوي والعيسوي. لكن عودة المسيح نفسها هي الدليل الكافي لذلك، حيث وجودالمسيح الذي شكل عقدة مفصلية في الانتقال

ص: 157

النبوي من الموسوية إلى العيسوية، سيثبت ذلك بضمانة قوة الموعود نفسه ويجعل الأبدال والأتباع من مختلف الأقوام، حيث من بني إسرائيل من سيدخل دولة الموعود وينصرونها ؛ اعني الأمتين اليهودية والمسيحية. دولة الموعود تؤكد أن الأشرار الذين سيواجهون دولة الموعود هم أشرار الخلق ممن كان يتأسلم أو ينهود أو ينمسح، مما يعني أنها دولة الإنسان التي ستعيد وضع خريطة الطريق لتوزيع أمثل القيمة الإيمان، فهي دولة الابتلاء الكبير . فخصومها قد يكونون يهودا أو مسيحيين أو حتى مسلمين وغير دينيين، كما أن أتباعها سيكونون مسلمين ويهود ومسيحيين، إنها ليست قضية مسلمين فقط بل هي قضية العالم أجمع!

ففي رواية عن الإمام الباقرعلیه السلام: «فإذا اجتمع عنده عشرة آلاف رجل، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله تعالی إلا آمن به وصدقه»(1).

أما من جهة الحروب ومظاهر العنف المقدس الذي تحدثنا عنه الأخبار، فهو لا شك عارض ستقوم به البشرية نفسها مع ظهور النموذج وتحققه على الأرض بقيادة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) . بمعنى أن الحرب سوف تكون موقف الشعوب والأمم من عدوها الذي يبغي

ص: 158


1- نور الأبصار، للشبلنجي، ج2، ص105.

لها الاستمرار تحت وطأة الجور، وليس ذلك خيارة للإمام إلا من حيث هو الحل الأخير الذي ستفرضه أقلية قليلة من البشر، تريد أن يتأبد الشر في العالم حيث كتب الله أن للعدل المطلق دولة موعودة هي حجته على أن عالم الخلق قادر أن يظفر بتلك العدالة التي جاء من أجلها الرسل ودعا إليها صلاح الأمم دون أن تتحقق. إن عنوان الحرب أو السيف الذي وصفت به دولة الموعود، هو من باب التغليب لأمر اختص به الموعود دون سائر خواص الخلق من الأنبياء والأولياء(1)، أعني تنفيذه للحكم الواقعي في مقام القضاء(2). فالعدالة المطلقة تقتضي أن لا يأخذ بالظاهر فيما هو يعلم الواقع .

ص: 159


1- بعض الانبياء أو الاولیاء حكموا بالواقع ولكن في مهام محدودة وفي ظل الغيبة مثل الخضر عليه السلام. لكن الامام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) سوف تكون تلك خاصية حکومته الظاهرة والدائمة والشاملة .
2- نوکد بعض الأخبار أن المهدي سياتي فيما سيأتي به، بقضاء جديد. ولعل من أبرز مظاهر جدة هذا الفضاء لبس محتوى العدل ومضمون الحقوق التي هي مدركة لكل البشر مولوية وإرشادية وشكل على مدى قرون مقاصد بها بتقوم ضمير القانون نفسه ومفهوم العدالة. لكن ما هو جديد كل الجدة في قضاء المهدي، أنه سيحكم بعلمه لا بالظاهر، وسوف يحل مفارقة القانون الظالم، ذلك القانون الذي يطبق بصورة متوحشة على من لا يملك أن يدفع عنه ظلم تطبيقالعدالة بخلاف الواقع. إن قيمة التطبيق القانوني في عهد المهدي ليس في التطبيق المجرد بل التطبيق المشروط بالمطابقة الحقيقية للواقع، ليس لأنه وحده من أدرك الواقع، بل لأنه مامور بتنفيذ الحكم الواقعي . وهذا أبرز عنوان الجدة .

وأن لا يحكم بالبينات والأيمان فيما هو يدرك من أمر الجاني في حان الواقع ما خفي عن الأنام. إن سائر الأنبياء والأوصياء كانوا على علم بما يفعل الخلق، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بتنفيذ الأحكام على وفق ما يعلمون. وبذلك فقط تتحقق العدالة المطلقة ليس لأن الموعود سيحكم في مقام التقاضي بالعلم فقط، بل إن سيفه سيلحق كل من أتى جريمة حتى يدخل في قلوب الجناة الرعب، فلا يجرؤ أحد على الإقدام على أية جريمة. إنه الردع والقانون يتنزل في موارده دونما شطط ولا إخطاء الجاني.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «إذا قام قائم آل محمد غلق حکم بین الناس بحكم داود، لا يحتاج إلى بينة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استبطنوه»(1).

ليس سيف الإمام المهدي سيفة جبارة إلا من حيث هو تعبير عن جلال البارئ تعالى، ولكن لا ننسى قيمة الجمال لدولة الموعود التي بها ستصبح الأرض مسرحا لكبرى قيم العدالة والحق والخير ، فتعتدل بها السياسة والمعاش، ويشذ فيها الباطل والجور والشطط . إن سيف المهدي قوة لا شطط فيها. سيف العدالة لا يعرفه عن مهمته نزوة عصم منها . فهو مأمور تجريحركته بعين الله ، لأنه وعد

ص: 160


1- بحار الانوار، ج 339، ص52.

الله ووليه الذي احتفظ به لهذه المهمة العظيمة وسدد خطوه، حتى كان له وليا وناصرة ودليلا وعينا.

يومها ستدرك الأمم قاطبة أي سيف هذا الذي يمتشقه أسد الله الموعود . ذلك لأنها ستشهد لأول مرة بعد تاریخ مرير من الجور أنه سيف في خدمة الحق والعدالة. لن يتطلع أحد إلى نموذج آخر بعد ذلك، لأن النموذج الأخير سيعلم الأمم أن فرصتهم الأخيرة هي ها هنا في ظل حكومة الموعود .

وكما جاء عن الإمام الباقرعلیه السلام : «دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله عز وجل :«وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

المهدوية وحتمية الطريق الثالث

يوقفنا تاريخ الفكر السياسي على ضربين من المخارج الرئيسية للاستبداد ونظام السلطان العاري . ولم يشهد تاريخ الفكر السياسي من مخرج حقيقي سوی منظورین سرعان ما استتب الأمر لأحدهما بعد أن أصبح الأول هو نفسه موضوعة للاستهجان والامتعاض . ونقصد بذلك مفهوم المستبد العادل ومفهوم الديمقراطية. وحتى وإن كانت معظم النظم السياسية المعاصرة لا زالت تدين بفكرة

ص: 161


1- الغنية، الطوسي، ص382.

الاستبداد، فإن الديمقراطيات هي نفسها باتت تستنجد بسلطة المستبد حتى يرعاها، مما جعلها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدل وتأمين الحقوق. إن فكرة المستبد العادل ما هي إلا مخرج من كل أشكال الطغيان العاري الذي عرفته البشرية ووسم تاریخها بالعنف والعبودية والانحطاط. ومشكلة المستبد العادل في حكومة الموعود لا موضع لها، لأن حكومته جاءت لتتجاوز معضلة أقصى ما بلغته البشرية في نظمها السياسية، أعني الديمقراطيات. فهي متجاوزة النموذج المستبد العادل برتبتين، ما دامت هي متجاوزة لما كان متجاوزة لها، أي النظام الديمقراطي. ولعل الشبهة في المقام، أن حكومة الموعود يحكمها شخص واحد. وهذه الشبهة تخطی مناط قيام النماذج والنظم السياسية وفلسفتها . لأن الديمقراطية نفسها لم تكن هدفا في ذاتها إلا بالقدر الذي تمكننا من بلوغ أفضل اختيار حر اللحاكم. ليست الديمقراطية في نهاية المطاف وبكل المخارج التي لحقتها من أجل التقليص من صلاحيات الحاكم الفرد، مثل الانتخاب الدوري والفصل بين السلطات، إلا بحثا عن حكم العادل. وليس الانتخاب الحر نفسه هدفا في ذاته ، بل من حيث هو طريق لاختيار الأفضل. فإذا كان الطريق إلى معرفة الأفضل غير هذا النموذج، فإنه المطلوب، لأنه الغاية . بل اختيار الأعدل هو قيمة القيم. إن مفهوم العدالة يتناقض مع الاستبداد بمعناه السياسي .

ص: 162

فالعدالة في ظل هذا النموذج هي مصلحة المستبد بما هو أقوى وليست العدالة المطلقة التي تتحرك في الاجتماع السياسي الموعود على أساس العدالة والعلم والمهمة الرسالية. بل ليست أحكامها جزافية ولا أحكاماً مزاجية بل هي تنفيذ أمثل لقانون أمثل. وقد جاءت الديمقراطية لتعيد الاعتبار إلى حق الشعب في اختيار نموذجه وحكم نفسه بنفسه عبر آليات وهيئات تمثيلية تمارس الحكم والرقابة حتى تحاصر تشكل الاستبداد بالسلطة ولا حتى الاستبداد بسلطة من السلطات المفصول بينها . لكن الجدل الذي شهدته المجتمعات ولا تزال حول نواقص الديمقراطية وفشلها بالارتقاء بالإنسان وحماية قیمه، بل كونها أصبحت وسيلة لتدمير القيم الجماعية بفعل تغول سلطة الفرد وفوضى الحريات وانهيار مفهوم الأسرة وما شابه، هو نفسه أصبح طريقاً لا يقل ضراوة عن سابقيه ، طريقاً لأشكال جديدة من الطغيان والتدميرالممنهج لقيم الإنسان. إن الديمقراطيات اليوم في البلدان المتقدمة لا تخلو من هذا النوع من الاستبداد الناعم الذي يجعل السلطة لا تفلت من أيدي بارونات المال والمتنفذين وأعوانهم. يلعب المال والمصالح الشخصية والفئوية دوراً حاسماً في اللعبة الديمقراطية . فالأمر كما يبدو تحول من نظم تفرض نفسها بالباطل والاستبداد القائم على القوة إلى نظم تسمح باللعبة السياسية ، على شرط أن تكون لعبة بين أقوياء مسلحين بالمال والنفوذ وبين

ص: 163

أشخاص منزوعي السلاح والقوة. لعبة يدرك الجميع أن مآلها الوحيد هو استبداد مقنع بالسلطة. إن دولة الموعود لا هي استبداد شخصي لأن مفهوم التشخصن أبعد من أن يكون سمة للإنسان الكامل المنزه عن الأنا . وكذلك هي أبعد من أن تجعل مصائر الخلق متوقفة على لعبة الديمقراطيات التي أوجدت أشكالاً أخرى من الجور البنيوي، لا طريق للخلاص منه إلا مع قيام دولة الموعود. إن هذه الأخيرة هي إعلان صريح عن نهاية عصر المستبد العادل وعصر الديمقراطية، لأن عنوانيهما سينتفيان لا محالة بعد تحقق النموذج الأكبر : حكومة الإنسان الكامل. أعني حكومة تلتقي عندها مقاصد الخالق والمخلوق. يكون الاستبداد فيها ليس ذاتياً بل موضوعياً كما هي جملة الحتميات الطبيعية الأخرى . وإن الموعود سيحكم الناس في طريق العدل بقوة الحتميات الطبيعية. فإذا تحقق خروج الانسان الكامل وظهر، انتفى موضوع المستبد العادل كما لم يعد للديمقراطية موضوعاً. فاختيار الأصلح مع وجود الإنسان الكامل، لن تكون حينئذ إلا وقاحة من الأشرار الذين سيكابرون رغم الصيحة-الإعلامية - التي ستجعل الموعود معروفاً لدى العالم، لا يجهل استحقاقه أحد(1). ولا شك أن الانتخاب الطبيعي في المقام هو .

ص: 164


1- توكد الأخبار على أن من المحتوم ظهور النداء أو الصيحة من السماء. وقد نفهم نحن الحدثاء أن مثل هذا الحدث معقول جدا في زمن الاتصالات والفضائيات التي تبث أخبار العالم بمختلف اللغات. هذا ما يزيده وضوحاً کلام للامام الصادق، حينما يعتبر أن كل قوم سیسمعون النداء بالسنتهم. ويزيده الامام الصادق وضوحاً أكثر - وإنه لعجيب أن كل ما بدا غريباً على القدماء ازداد وضوحا عند الخلف . لما ذكر بان قائمنا إذا قام مد الله لشیعننا في اسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم برید يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه . ونظائر ذلك كثير .

العمدة التي ينتفي معها موضوع الاختيار الحر. ليست الديمقراطية هي النظام الأمثل والأخير بل هي أفضل من سواها مما في يد البشر . لكنها كانت دائما تأكيدا على تلك الحقيقة التي يتعين أن لا يمارس النسيان في حقها ؛ هي كونها تقر بأن لا ضامن للعدالة في غياب نظام النبوة والانسان الكامل. وبأن دولة الموعود هي وحدها النظام الذي يحمل خصائص دولة النبوة والانسان الكامل المفقود.

هل هي دولة أم قومة

يتطلب الأمر عوداً إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتما إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما. لكن هذا لا يمنع من القول أن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبري الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا ؛ التدبير العقلاني، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده

ص: 165

تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعباً لا بل متعذراً أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضا إلى الجولة. ودولة الموعود هي خاتمة الجولات، وبالتالي خاتمة الدول. وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيباً عن سؤال «ما معنى التنوير».

إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي، هو الندرة . فلو أننا سلطنا الضوء على کبری نظریات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول: لدينا دائما في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عدد محدود من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمین الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائما أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي تواري بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ؛ أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي

ص: 166

ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.

تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها . إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمرکز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز . بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد یأس جماعي مرير يقفون على معنى جديد ومطلق للعدالة الاجتماعية . إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا البشر. فالمهدي سینمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين . بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمة النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهياً مع القيم . بل ستجعل غذاء الإنسان قيماً كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصادیق القوة المهدوية، امتلاكه الحجة الكبرى. فلا يظل صاحب دین في غمرة الشبه، فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.

ص: 167

فعن أمير المومنین علیه السلام :«إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وادخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة . ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينية ومادونها»(1).

ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعاً . بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيداً عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح علیه السلام ، حيث لنزوله مغزی عمیق. فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه.

عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «والذي بعثني بالحق بشیرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى ابن مريم فيصلي خلفه»(2).

كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعاً وتزامنا مع ظهور المهدي، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها

ص: 168


1- کنز العمال، ص 261، ج 2.
2- فرائد السمطين، الجويني، ص312، ج2.

المزيفة. لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز . فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز، تحول الناس طوعاً إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة. فتكون الأغلبية خيرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة. وتدرك أيضا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة . فلا عدالة فوق عدالة المعصوم. بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة . فحينما تملا حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة. بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية، لكنها ستتجاوز كل

ص: 169

ثغراتهما. ومن هنا كان لا بد للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات وأيضا أن يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي . فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه. ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية . فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجا سلفويا .

ففي غيبة النعماني ذكر رواية التيملي، قال: حدثني أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن میمون، وعن جميع الكناسي جمیعا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفرعلیه السلام أنه قال : «إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وإن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبی للغرباء».

وكذلك ، أخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال : حدثنا محمد بن جعفر القرشي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، قال : حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسکان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله علیه السلام أنه قال: «الاسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله ،

ص: 170

فقال: [مما] يستأنف الداعي منا دعاء جديداً كما دعا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم»(1).

دولة العدالة ودولة الوفرة

ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئن النفوس وتندك الفوارق الباعثة على كل أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضا دولة الوفرة الحقيقية القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقي وليس الطبقي. لقد كانت دولة علي بن أبي طالب علیه السلام هي المجلي الحقيقي للأزمة التي ظهر أن ليس لها مخرج إلا في دولة الموعود. وذلك حينما قال في النهج:

«الله الله في الطبقات السفلي من الناس . »

أو لما قال أيضا : «ما رأيت من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع».

أو لما قال: «ما جاع فقير إلا بما متع به غني»

وقوله: «وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها . وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع».

إن دولة الموعود تؤكد على أن لحل مشكلة الفقر وإدخال البشرية

ص: 171


1- غيبة النعماني، ص321 تحقیق : علي اكبر الغفاري

في حالة من الاستقرار المادي والاستهلاك الجماهيري الحقيقي، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءا بترشيد أمثل لنمط الانتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيات المستهلكين . فهي تناهض الظلم الاجتماعي في التوزيع والظلم القائم على نمط الانتاج وأيضا تناهض اقتصادالندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصادية للنوع.. ولذا فإنها أكدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس واعادة الاعتدال الى النفوس، حيث أن من أسباب اهتزال العدل هو فقدان العدل في النفس و شیوع أنماط انتاج فاسدة سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيات وهمية على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الانسان خادماً للاقتصاد وليس العكس. إن دولة الموعود تخطى كل التوقعات التي تقررها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إن التوقعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعية. إحدى أهم المؤشرات تؤكد على نضوب مهول في مصادر الطاقة، مضافاً إلى ارتفاع معدل التصحر مضافاً إلى أزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء، وبالتالي تقلص مصدر الاكسجين ، ويزداد الأمر سوءا حين الحديث عن ثقب الأوزون والمشاكل التي يسببها التلوث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدث عن مخاطر الإقدام على حرب نووية. إننا حسب هذه التوقعات أصبحنا أمام مستقبل کارثي للكوكب، فكيف

ص: 172

تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كل هذه التوقعات مجرد هواجس خرافية ليس لها رصيد من الحقيقة. والحق أن الإنسان ما يزال بصدد ترمیم ما أمكنه من أزماته . حتى أنه ما أن يحل مشكلة حتى يغرق فيما هو أنکی وأمر. ففي الفكر السياسي ما زالت الديمقراطية التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نير النظم الفردية والطغيان السياسي، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الاحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانا للحرية والعدالة. وكذلك ظلت البشرية في مستوى الاقتصاد السياسي رهينة تصورات خاطئة في تقدير الثروة ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشرية . على الرغم من كل المعارضة التي أبداها نقاد الاقتصاد السياسي ضد النسق الرأسمالي اللاأخلاقي، استطاعت الرأسمالية أن تنتصر في نهاية المطاف، باعتبارها النظام الأكثر قدرة على الصمود حتى الآن رغم ما يحمله في طياته من أزمات بنيوية . لعل انتصار الرأسمالية على كل مناهضاتها بما في ذلك نقيضها الأشرس، المعسكر الاشتراكي، دليل على أننا وصلنا عصر الانسداد. اذا كان فوکویاما رأي في هذا الانتصار تكريسا لليبرالية وتوابعها - في مقدمتها اقتصاد السوق - بعد أن غطى على كل أزماتها البنيوية، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدم شهادة على هذا البوس الذي يشكل ظاهرة عالم يعيش يوما

ص: 173

بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير . يتساءل كبير الرأسماليين المضاربين جورج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتى اليوم. فانهيار «السوق العالمية سيكون حدثا يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن»(1).

لم يهزم النظام الرأسمالي المهيمن معارضيه، على فظاعة توحشه، لأنهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محله بجدارة ، ولا لأنهم حاربوه بوسائل أقل نظافة منه. بل لعله حاربهم بأقذر ما لديه . من المؤكد أن الأزمات التي واجهت الرأسمالية كادت تعجل برحيلها لولا التدخل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسمالية حقاً مساوقة للطبيعة إلا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانية هي هذه الطبيعة الانسانية التي تزعم الرأسمالية مسايرتها . وقد صدق جورج سوروس حينما عزی انتصار الغرب إلى أمر آخر غير رأسماليته. ففي رأيه أنه«من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعاًرأسماليا(2).

ص: 174


1- جون غراي، الفجر الكاذب، ص7.
2- جورج سوروس، خرافة التفوق الأمريكي، ص92، ط 20061، مطبعة فضالة / المحمدية . المغرب.

لم تستطع الماركسية على الرغم من أنها قدمت تحليلاً نقدياً للنظام الرأسمالي لعله الأهم من كل الانتقادات، لأنها لم تستطع أن تضع اليد على المشكل الحقيقي، وهو أن النسق الرأسمالي بما أنه نسق متكامل يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصورتها الماركسية عللاً تامة برسم نظرية الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاري وصرفه عن فكرة التموقف التاريخي الجذري من النظام الرأسمالي. كما طورت الرأسمالية الكثير من أساليبها، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعية التي لم يعد لها أي معنى لا سيما بعد انهيار معسکر کامل قام على أساسها. حاولت الماركسية أن تجد الحل في التطور الطبيعي للرأسمالية الذي ينتهي بها إلى حتمية الانفجار. لكن الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنبتها كل المخاطر التي تكهنت بها الماركسية. الأمر يتعلق بالأثر الأوديبي (1)بالمعنى الذي ذهب إليه

ص: 175


1- مصطلح وضعه کارل بوبر - على غرار وضع فرويد لمصطلح عقدة أوديب في التحليل النفسي - في دحض النزعة التاريخية ونظرية إمكان التنبو في مجال العلوم الاجتماعية. وهو مصطلح مستوحى من أسطورة أوديب التي شكلت واحدة من روائع التراجيديا اليونانية كما خلدها یراع سوفوكليس. معنی المصطلح أعلاه، أنه مع فرض تحقق النبوءة، يمكن تغيير وجهتها والتخلص من حتمية آثارها باتباع سبل مضادة، مثل مواجهة خطر الزلازل المتوقعة بقوة الإسمنت المسلح.

بوبر في إبطال النبوءة. إن القيم الأخلاقية الماركسية التي استقوت بها الحركة الماركسية في نضالها ضد النظام الرأسمالي لا يمكن أن یدان بها هذا النظام، لأنه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بشيء لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بد على الماركسية أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها . لقد استندت على الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الأخلاقي في الاقتصاد. ولأن الماركسية نفسها راهنت على الرأسمالية في استدماج كل الانماط الأخرى ما قبل الرأسمالية انتظارا لانسدادها الحتمي. مع ذلك كان للاجهاز على الحقيقة الدينية الدور الأكبر في جعل الماركسية عاجزة عن إيجاد ضامن أخلاقي. يتساءل أندره کونت سبونفيل إن كانت الرأسمالية أخلاقية . سيضطر هذا الأخير رغم إلحاده غير المبرر أن يسلك طريقاً كانطياً لإحلال الاخلاق المجردة أو القانون الاخلاقي محل الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الأخلاقية -ethique - بدل الأخلاق - moral -.. بين الاخلاق كفعل للواجب وبين الاخلاقية كفعل باعثه الحب. هذه عودة مبطنة للقيم الدينية نفسها مع تمثل حالة من خفة اليد. أي خلع كل صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثالي من الأخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقي الكانطي. أخلاق بلا ضمانات. لكن

ص: 176

كان رأي هذا الأخير صائباً في فضح انسداد النظام الرأسمالي الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصة للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للاثرياء . أليس هذا هو مبدأ بيروث : المال يولد لمال. نعم. وإذن صح قول الباحث: «أفضل وسيلة لكي تصبح ثريا في بلد رأسمالي هو أن تكون ثريا »(1).

نحن أمام تحصيل حاصل. إنماء وحشي للثروة قد يتيح منافذ وفرصاً على المستوى الفردي تستطيع أن تتباهى بها الرأسمالية المخاتلة لإغراء الغالبية العظمى التي رسمت لها سقفا من الأحلام لن تخرج منه أبدا . لكنها الكارثية على المستوى الجماعي. يجب على الأغلبية الساحقة في هذه السوق الداروينية التي تبتلع الصغار والمتوسطين باستمرار أن تتطلع لتعمل أكثر ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتى لا تتحسن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.

غياب العدالة وسورة الأزمات البنيوية للاقتصاد الرأسمالي وتكاثر السكان وتراجع الموارد وتلوث البيئة وانفجار وضعية الشركات العابرة للحدود فيظل عولمة جارفة لكل أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسية والاجتماعية والبيئية، كل هذا يعني

ص: 177


1- اندره کونت سبونفيل، هل الرأسمالية أخلاقية؟ ص78 - ت: بسام حجار، دار الساقي، ط1 - 2005 بیروت.

أن الفقر هو صناعة رأسمالية بامتياز. إن الانسداد الأعظم لم يطل الفكر السياسي فحسب، بل إننا أمام ضرب کارثي من الانسداد الاعظم في الاقتصاد السياسي. على الرغم من أن تساوي البشر في معدل الاستهلاك الجنوني وتحول الأمم جميعا إلى مصاف الأمم المصنعة الكبرى يظل حلماً ساذجاً في ظل الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النمو - ذلك لأن الأمر لا يتطلب كثير تأمل - فالفقر والتخلف هو الذي يؤمن الهامش الأمثل للمركز. إننا جميعا جزء ضروري ووظيفي للرأسمالية. فهي لا تقوم بالمركز فقط، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير. وهذا الأخير ليس مسألة جزافية، بل هو صنيعة النسق الرأسمالي الذي بقدر ما يتيح للمركز نموا مضطرداً فأيضا يعمل على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتى لو أصبحنا جميعا في هذا العالم مصنعين في مستوى الدول العظمى فإن ذلك سيكون كارثة على البيئة لا تتحملها البتة. إن نمط الانتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثي. لا يوجد من يخطئ هذه الحقيقة حتى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئية . إن الطبيعة كما يقولون متسامحة تتحمل كل الاختلال البيئي الناتج عن التدخل الخاطئ للانسان وسوء تدبير الموارد الطبيعية .

ص: 178

يقولون أيضا إن الطبيعة ستعود لتوازنها متی کف هذا الأخير عن التدخل. نقول هذا مؤكد ما لم يستمر الاستنزاف. ولا ندري هل حقا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنوني للبيئة سنسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز . هذا حقا لا يهمنا الآن بقدر ما يهمنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئي وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعية دولة الموعود . لا نريد أن نضع أرقاما لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقع غدا . لكن السؤال الذي يظل مطروحاً : هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئية . قد يكون لفكرة التسامح البيئي قدرة على تفسير ذلك. لكن ماذا لو لم يعد في مكنة الطبيعة أن تغفر للانسان بعد أن تنفد مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تطاق . هذا إنما يفيدنا ، بأن دولة الموعود سيكون لها موعد مع العالم قبل استفحال الوضع البيئي بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إن الطاقة اليوم تعد بالنضوب. وحسبنا أن يكون ذلك سببا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. إن مظاهر دولة الموعود تؤكد على أنها دولة تنعم بآخر مستويات التقنية النظيفة. بل إن كل ما تعد به يؤكد على أنها دولة تخضع لنمط اقتصادي مختلف جذرياً، بحيث لا مكان لنظريةالتفقير والأزمات وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال

ص: 179

لأي شكل من أشكال الملتوسية هنا، ما دامت الموارد ستضاعف في نموها أكثر من الحجم السكاني . إن دولة الموعود تؤكد على أن الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل. فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمل بعضا من تلك الروايات التي تقول مثلا(1):

. أخرج البخاري عن أبي هريرة أن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة، حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته . وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه : لا أرب لي به».

- أخرج الحاكم عن أبي سعيد، عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة». .

- روى الصدوق عن الامام الباقرعلیه السلام : «القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الارض خراب إلا عمر».

- يروي المجلسي قول علي بن أبي طالب علیه السلام : ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها وأخرجت الأرض نباتها ولذهبت

ص: 180


1- لمزيد من الاطلاع انظر السيد محمد الصدر، تاریخ ما بعد الظهور، -بيروت ، ص 542، ج3، ط 2 - 1987، دار التعارف للمطبوعات و السيد القزويني، الامام المهدي من المهد إلى الظهور، ص399، ط1 - 2005 منشورات لسان الصدق ، قم المقدسة.

الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه».

- یروي الشافعي عن أبي سعيد الخدري عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم:«تتنعم أمتي (في عصر المهدي) نعمة لم يتنعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدرارا ولا تدع الأرض شيئا إلا اخرجته».

- في عقد الدرر عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: «وتزيد المياه في دولته وتمد الأنهار وتضاعف الارض أكلها».

مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الاسلامية ، يجب استيعابه خارج اللغة والنمط الحضاري الذي ذكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتي المعاصر، إنها قضايا موجهة لنا أكثر مما هي موجهة للأسلاف. ومن هنا فمثل هذه المظاهر تؤكد على أن دولة الموعود غير معنية بالتكهنات آنفة الذكر ، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثي للانسان . إنها تؤكد بذلك على أنها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسي وتقف عنده أيضا محاولات الاقتصاد السياسي. إن المستقبل البشري والاجتماع السياسي الانساني لا يمكن أن يقرأ بصورة إيجابية فيما تؤكده تقارير تنتمي إلى العقل السياسي

ص: 181

والاقتصادي الذي بات واضحاً أنه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظل دائما السؤال الذي يطرح وطرحه مشروع، حول إمكانية إعادة تطهير الاجتماع الانساني والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟

ندرك أن العملية لا تقتصر على أحياز ضيقة ولا حتى على حيز المؤمنين. الامر يطال الكوكب برمته ومن عليه. لا ننسى أن دولة الموعود هي کونية. وعملية كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاري وبيئي سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كل ما سبقه . إنها ثورة الانسانية المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الاخبار في شمولیتها تؤكد على أن ارتفاع معدل الأمن إلى أقصاه وغياب الندرة ونهاية سلك الأزمات البنيوية في الاقتصاد وشعار دعه يعمل دعه يمر الذي لن يظل كما في النظام الرأسمالي شعاراً لطبقة من المتنفذين وأيضا ليس شعاراً يتحلل به المستثمر من كل التزاماته الاجتماعية والاخلاقية .. كما يؤكد على ارتفاع في مستوى التحسن البيئي ونظافة وسائل الانتاج وتغيير نمط الاستهلاك وكل هذا مع وجود عدالة كافية لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحي لانطلاق اقتصاد کبير وتحقق قدر هائل من الوفرة للنوع.

ثمة كما أكدنا تحولات جذرية ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الأخبار تتحدد في:

ص: 182

- أنماط استغلال البيئة :

يتقوم النمط الراهن في شكل ضار من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط . والمسألة البيئية اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دلیل كاف على أن الأمر لم يعد يتحمل مزيدا من الاستهتار . لا سيما وأن معدل ثاني أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونية مهدداً البيئة وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الارض والتأثير السلبي على طبقة الأوزون وما ينتج عن ذلك من فيضانات وحرائق للغابات والتصحر ... في مقابل ذلك تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادة في هذا المجال، قوامها : الاستغلال الأمثل للطبيعة والاستغلال الأنظف للطاقة.

إن استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفاً للغاية بحيث لا يغطي الطلب. ومثل هذا لا يشكل أزمة حقيقية في نمط الانتاج المعاصر طالما أن معضلة المجاعة لا تصيب إلا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقيرة في العالم. فأنماط الانتاج الراهنة ليس فقط أنها تواجه مشكلة تقنية في تأمين الطلب الحقيقي للنوع، بل إن السياسات الانتاجية تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتم البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الانتاج، من شأنها أن تهدد بنية الارباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبری .

ص: 183

- أنماط الاستهلاك :

اذا كان نمط الاستهلاك اليوم هو تعبير عن منتهی غياب ليس الأخلاقية فقط عن الاقتصاد بل العقلانية التي طالما بشرت بها السوسولوجيا الحديثة. لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر کل الحاجيات الحقيقية للانسان، بل كدنا نری انقلابا في سلم المقاصد العقلائية للنوع، منذ أصبح الانسان برسم الاستهلاك الجنوني اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرض الصحة العالمية لوضعية حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أن ثمة ضروريات يجب أن تفوز بالمقام الأول في الاعتبار. فالتحسينيات استوعبت باقي القيم، لا بل إننا أصبحنا أمام شکل هجين من الضروريات ؛ ضروریات وهمية تنتج باستمرار، تؤمن صيرورة الاستلاب الامثل للانسان(1)، تجعله کائنا عاجزا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدمية للاستهلاك اليومي . يحدثنا طويلا جون بودریار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر کاریکاتورية، حينما يحاول أن ينجز تشريحاً لما يسمی با " homo-economicus " . الحكاية مصاغة كالتالي:

«كان في وقت ما انسان يعيش على سبيل الندرة. ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصادية التقى مجتمع الوفرة. فتزوجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيات»(2).

ص: 184


1- أي ضياع هويته وتمزقها، وهروب شطر من الذات خارجها .
2- jean baudrillard, la societe de consomation: ses mytes ses structures ,p93edition denoel,1970.

هذه الجمالية نفسها التي كان يتمتع بها الأمو - ایکونومیکوس، كما تغنت بها الحكايات الكلاسيكية لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنوني الذي تحول فيه الاستهلاك من أمر نحدده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكي الذي منح قوام الكوجيتوا الجديد: أنا أستهلك إذا أنا موجود . بل أصبح الأمر غاية في التفاهة : أرني قمامتك أقل لك من تكون. الاستهلاك للاستهلاك، تلك هي عقيدة شخص آخر يبشر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك، أعني ما أسميه بالكائن الأونطو - میتري»(1). كناية عن كائن تتحدد أنماطه ومصائره بحسابات الانتاج والربح والخسارة والعرض والطلب . كائن تحدد ماهيته قبل وجوده، بل يبرر وجوده باكتمال ماهيته وقابليته للاندماج في دورة اقتصادية لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها . إنها دورة لا تقبل إلا بالمسوخ.

إن دولة الموعود بما أنها تلخص آمال البشر ومتطلبات الرشد البشري، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطية الاستهلاك . هذا أمر ممكن جدا ما دام أن هذا النمط من الاستهلاك هو الابن

ص: 185


1- كلمة مركبة من أونطو (وجود) وميتري (قياس ونظام). هذا الاصطلاح من وضعي وقد سبق وعالجته في مناسبات أخرى، حيث قصدت بهذا المفهوم أن الإنسان في عصر العولمة كف من أن يكون إنسانا تتحدد هوينه انطلاقا من وضعيته الأنطولوجية (الوجودية) بل هو اليوم محدد حسب العرض والطلب وبمقاییس حسابية دقيقة.

البار لنمط الانتاج والنسق الرأسمالي المتوحش نفسه. وهذا سيعد بعودة العقلانية في الاستهلاك بنحرر بموجبها الانسان من سطوة التشيو والاستلاب. حيث يصبح الاستهلاك تعبيرا عن حاجيات حقيقية وعقلانية لا مجرد انخراط في دوامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوم ذلك أيضا بتخلیق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهلاك أيضا في خدمة الانسان ويعزز ماهيته ككائن خلق للتسامي العقلي والروحي وليس كائنا يبحث عن منتهی متعته في متاهة الاستهلاك والتشيو والاستلاب كما تتحدث اليوم فلسفات الانسان. ولعل القواعد المنظمة لهذا النمط التخليقي من الاستهلاك هی:

- لا تستهلك إلا ما كان ضرورياً حقاً أو حاجة تجد فيها كمال العقل والروح وسلامة البدن..

. لا تستهلك للاستهلاك..

- لا تستهلك ما فيه فساد البدن والروح والعقل..

- لا تستهلك ما ليس في مقدور أغلبية الناس استهلاکه ...

هذا القدر من المحددات لا يتحقق إلا في ظل دولة الموعود الاكتمال أخلاقها ونمو مداركها العقلية والروحية. إن ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أن الاستهلاك أضحى أكثر جنونية .

ص: 186

بل إن الانسانية يومها مشغولة فيما هو أعظم من ذلك. أعني ذلك المعنى الانساني السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشف رغم الوفرة، لأن ما سيأتي به الموعود ليس مجرد کنوز لن يجد لها طالباً من فرط فائض الانتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنه سيحرر الانسان من مقولة أنطوان مونتکرتیان: «إنما الانسان ولد لكي يعيش للعمل المستمر والاحتلال» إلى المعنى الأسمى للانسان بوصفه خلق لعبودية الخالق لا لعبودية القطاع والعمل في ظروف مزرية. كما خلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التجهيل والتفقير. أجل إن زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأن أنماط السلطة ستشهد تحولا جذرياً. لا عجب في ذلك إذا تأملنا قولة لجده علي بن أبي طالب علیه السلام في النهج :«إذا تغير السلطان تغير الزمان».

وعليه ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنها نهاية تاريخ الاجتماع السياسي والنموذج المأمول. ذلك هو الحد المعروف من مستقبلنا المشترك.

ختاماً:

لدي شيء أقوله في نهاية هذه الورقة : إن البحث عن حلول لإنسانيتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلب في

ص: 187

حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائما من داخل النسق. لكن هذا لن يحل مشكلة البشرية المتأرجحة في أزمات بنيوية . قد يتراءى للبعض أننا نحلم، لكن حلمنا هو واقع موجل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أي خيار آخر. إن ما بين أيدي الناس اليوم سياسات واقتصادات لا تملك إلا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثي ملؤه الرعب واليأس. وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسية واقتصادية ، ليس أمام البشرية المعذبة إلا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الانساني. وإن دولة الموعود حتما لن تحرر المظلومين من شخوص ظالمين فحسب، بل ستحررهم من نموذج ظل فيه الظالم والمظلوم کلاهما ضحية نموذج فاسد بنيوياً، جعلهما حقا في حاجة ماسة إلى ذاك المخلص.

ص: 188

قراءة تركيبية في مبحث الغيبة من خلال:

كتاب النجاة للشيخ كمال الدين ميثم البحراني

اشارة

*كتاب النجاة للشيخ كمال الدين ميثم البحراني(1)

مدخل:

الأسلوب الحجاجي السائغ في الخطاب الميثمي الجامع

ينتمي النص الميثمي(2) إلى جنس الكتابة الكلامية والفلسفية

ص: 189


1- ورقة مقدمة لمؤتمر تكريم العلامة الشيخ ميثم البحراني، المنعقد 26-25 ذو الحجة 142ه/26-25 ینایر 2007 م بالجمهورية الاسلامية في إيران.
2- ولد الشيخ كمال الدین میثم بن علي بن میثم بن المعلى البحراني بالدونج قرية من بلاد البحرين التي كانت تاريخيا تشمل الأحساء والقطيف، وقد اختلف المترجمون في تحديد سنة ولادته ووفاته .. فمنهم من قال أنه ولد سنة 636ه وتوفي سنة 699ه ودفن حسب المحقق البحراني في لولوة البحرين في قرية هلتا من بلاد البحرين أيضا .. هذا حسب الراجح عند بعض المحققين لتضارب تحديد زمن وفاته، حيث ذكر أول مترجم له الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي بان وفاته تمت سنة 769.. وتبعه في ذلك كثيرون.. ولسنا هنا في مقام التحقيق في تاريخ مولده ووفاته ، فذلك مرده إلى محل آخر، والعهدة في ذلك على المحققين والمورخين وأصحاب التراجم.

والعرفانية في أرقى مستوياتها التطبيقية ... فهو نص شمولي مكثف زاخر بالصيغ البيانية حد البديع وطافح بالدلالات البرهانية بمكنة المتمنطق المكين.. حافل بالنكات العلمية تمتد سمحة في كل الآماد وتعانق بكياسة ندية كل الفضاءات ، بدرية قل لها نظير ولياقة نادرة الوقوع في عرصات الأغمار، كدأب الرواد القدامى في بلائهم وفريهم وأزيد.. كما يعكس عبقرية شيخنا المحقق الذي امتدت براعته كي تعانق أطيافاً من التخصصات وتعاقر ضروباً من الفنون والصنعات الشرعية والعقلية والذوقية صار بها رائداً رئيساً في كل فن لا هاوياً يقصر به كمشه عن بلوغ سدرة الرئاسة العلمية وسدة أهل النبوغ.. فيحار المرء أن يحد مظاهر عبقريته أو يحصره في طبقة دون الطبقات المعرفية التي امتد إليها يراعه ذائقاً متفنناً ... فائضاً سيالا منسدراً.. فهو سيد البلغاء واللغويين .. وسيد العرفاء والمتخلقين .. وسيد الحكماء والمتكلمين .. وزبدة الفقهاء والمستنبطين ... وفوق هذا وذاك هو الحجاجي إن برح قمقم الانشغال بالنظر والتزهد في مخالطة أغمارالخلق، عجر أخا المناظرة وبجره، فلم تقم له قائمة كما رأينا من حكاية «أصالة المال»(1)،

ص: 190


1- احتجاجات الشيخ البحراني لم تكن حية بالمعنى الذي يفيده فعل التواصل الاجتماعي كما كان ديدان أهل المناظرة ولهم نظائر في المتقدمين والمتأخرين، بل اقتصر على جنس الاحتجاجات الافتراضية لو صح هذا التعبير، بمعنی استيعابه لكل اعتراضات الخصم ثم الرد عليها بإتقان .. غير أن الشيخ البحراني وكونه من أهل الذوق والتصوف وأهل العلم والغوص لم يكن اجتماعياً بقدر ما كان منزوياً حتى عاتبه البعض على ذلك، فكانت أجوبته دالة على أنه لم يكن من أهل المناظرة المباشرة ولكنه من أهل المناظرة غير المباشرة ... لكنها مناظرة حیة من حيث استشكالاتها حتى أنها تظهر حيوية الاحتجاج الرفيع عند شيخنا میثم البحراني .. ويروى أن بعضهم كتب إليه كتابا يعاتبه فيه على انزوائینه وبعده عن الناس قائلين له: «والعجب منك مع شدة مهارتك في جميع العلوم والمعارف وحذاقتك في تحقيق الحقائق وإبداع اللطائف قاطن في ظلول الاعتزال ومخيم في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال ...»، فأجابهم في أبيات شعرية : طلبت فنون العلم ابغي بها العلا * فقصر بي عما سموت به القل تبين لي أن المحاسن كلها * فروع و أن المال فيها هو الأصل فلما وصل إليهم الكتاب، كتبوا إليه :«إنك أخطأت في ذلك خطأ ظاهراً وحكمك بأصالة المال عجب»، فأجابهم متمثلا شعراً: قد قال قوم بغير علم * ما المرء إلا باصغریه فقلت قول امرئ حکیم * المرء إلا بدرهميه من لم یکن درهم لديه * لم تلتفت عرسه إليه

«والكم الأكل»(1).. إنه رجل البلاغة الذي ألف فيها كتاب

ص: 191


1- لقد استوقفتني قصة ما أسميناه بالكم الأكل، المروية عن شيخنا میثم البحراني .. يحكى أنه دخل مرة إلى بعض مدارس العراق وفيها جمع كبير من العلماء . . فسلم عليهم ولم يرد عليه السلام إلا بعضهم استخفافا بحاله، فجلس حيث موضع صف النعال، ولم يمنع اهتماما من الحاضرين، وحين استوقفتهم مسألة عويصة لم يتمكنوا من حلها، تدخل قدس سره الشريف، وأجاب بتسعة أجوبة أذهلت الحاضرين، فقام إليه أحدهم وقال استخفافا به: «أخالك طالب علم».. وبعد أن وضع الطعام، أهملوه ولم يضيفوه على مأدبتهم وأعطوه قليلا من الطعام منفرداً .. وفي اليوم الثاني عاد إليهم متوشحا أفضل اللباس وبدا على هيئة سید من سادة القوم، فما كان من الحاضرين وهم أنفسهم من استخف به أمس، إلا أن بادروا بالتعظيم وإبداء الاحترام فاجلسوه صدرالمجلس .. وحين الحديث لم يتدخل إلا بكلام ساذج لا يرقى إلى ما صدر منه أمس . . ولما وضع الطعام ألقى الشيخ كمه في الطعام وقال «کل یا کمي«، ولما ساد التعجب من صنيعه قال للقوم : «بانکم إنما أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة، لا للنفس القدسية اللامعة وإلا فأنا صاحبكم بالأمس، وما رأيت تكريما ولا تعظيماً، مع أني جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجية العلماء، واليوم جئتكم بلباس الجبارين، وتكلمت بكلام الجاهلين، فقد رجحتم الجهالة على العلم، والغني على الفقر، وأنا صاحب الأبيات في أصالة المال، وفرعية صفات الكمال.. فاعترف الجماعة بالخطا، واعتذروا عما صدر منهم من التقصير في شأنه».. وهذه الحادثة الواقعة في الحلة إنما هي استمرار لقصة أصالة المال، بل إنما قصد بها إثبات صحة رأيه بالممارسة العملية، لذا ما أن استنكروا أمره بقوله: «کل یا کمي» حتى قال لهم: «إنكم إنما أنينم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة لا للنفس القدسية اللامعة، وإلا فأنا صاحبكم بالأمس وما رأيت تكريما ولا تعظيماً مع أني جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجية العلماء واليوم جئتكم بلباس الجبارين وتكلمت بكلام الجاهلين فقد رجحتم الجهالة على العلم والغني على الفقر، وأنا صاحب الأبيات التي هي في أصالة المال وفرعية صفة الكمال التي أرسلتها إليكم وعرضتها عليكم، وقابلتموها بالتخطئة وزعمتم انعکاس القضية» فاعترف الحضور بخطئهم واعتذروا على ما صدر منهم .. . والحق أن مثل هذه الحكاية وردت فيما ورد عن أحد العارفين المغاربة هو سيدي عبد الرحمان المجذوب، الذي عاصر الدولة السعدية بالمغرب، وهي من الأقاصيص التي تحکی عنه شفهياً وعرف بها .. ولم نكن نعرف لها مصدراً آخر حتى وصلنا ما وصلنا عن خبر «کل یا کمي» عن الشيخ ميثم البحراني .. فإذا ثبت أن عصر المجذوب هو القرن العاشر بينما عصر میثم هو السابع، أمكننا القول أن الحكاية كان لها أصل آخر غير ما ورد شفاهياً عن سيدي عبد الرحمان المجذوب، وليس غريبا أنها حكاية عرفت في العراق وانتقلت إلى المغرب فسارت بها الركبان .. .

ص: 192

«تجريد البلاغة»، أغرى نظرة لشأنيته في الفن، شراحاً وضعوا على إثره شروحاً نظير ما جادت به قريحة أبي عبد الله المقداد بن عبد الله السيوري الحلي (ت 826ه) في شرحه الذي سماه: «تجريد البراعة»، وقد كان من تلامذته كما كان أعلام آخرون من تلامذته أيضا أمثال الشريف الجرجاني(1) ..

وكان شيخنا میثم رجل الفقه المحقق حتى وصف عند القوم بزبدة الفقهاء والمحدثين .. إذ يكفيه فخرا أن كان من تلامذته النجباء في الفقه، الخواجه نصیر الدين الطوسي(2) وكذا ما نقل عن خبر المباحثات الفقهية التي جمعته مع رئيس من رؤساء هذا الفن،

ص: 193


1- يشير الشيخ سليمان البحراني : «الشريف الجرجاني على جلالة قدره في أوائل فن علم البيان من شرح التفتازاني قد نقل عن بعض تحقيقاته الأنيقة وتدقيقانه الرشيقة، أنه عبر عنه (الشيخ ميثم) ببعض مشايخنا ناظماً لنفسه في سلك تلامذته، ومفتخراً بالانخراط في سلك المستفيدين من حضرته المقتبسين من مشكاة فطرته».
2- يذكر أن الشيخ ميثم البحراني تلقي درس الفلسفة عن الطوسي كما تلقى منه هذا الأخير درس الفقه ..

المحقق الحلي وكان قد أجاز العلامة الحلي في الحديث .. كما رجع إليه بعض الفقهاء من المتأخرين في مسائل فقهية كصاحب الروضة البهية الشهيد الثاني في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الأول، على الرغم من أنه لم يخلف وراءه مصنفاً فقهياً يذكر، وحيث باعه الطويل في الصناعة الفقهية لا يحتاج إلى شواهد من أثر التصنيف والتأليف، وإن كانت تلك معرة زبدة الفقهاء، أن لا يكون له في المقام أثر ينتفع به الخلف كما أمكن الانتفاع بآثاره الأخرى(1).. وهو أيضا رجل الكلام والفلسفة برع فيهما أيما براعة كادت أن تواري جميع روائعه الأخرى، بل لعل كل روائعه مهما تنوعت مواردها وتخالفت شؤونها وتشذرت موضوعاتها، فهي محطة جامعة لمعاني الحكمة والكلام، بما في ذلك رائعة الروائع : شرحه لنهج البلاغة أو منهاج العارفين وهو شرح المائة كلمة للإمام علي علیه السلام... وفي هذا الاختصاص صنف أيضا كتاب «استقصاء النظر في إمامة الأئمة الاثني عشر» و «کتاب قواعد المرام في علم الكلام»وكتاب«النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة»الذي هو محور ورقتنا

ص: 194


1- انظر الشيخ ميثم البحراني (1238-1299) الفقيه والفيلسوف والمولف للعلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم في الذكرى السبعمائة لوفاة الفيلسوف الكبير الشيخ ميثم البحراني، اکتوبر 1999:«ونقل عنه بعض العلماء آراءه في بعض المسائل الفقهية كالشهيد الثاني في شرح اللمعة الدمشقية في مسألة الحج ماشيا أو راكباً أيهما أفضل»..

وشاهدنا على نجاعة أسلوبه الحجاجي السائغ کشذرة من شذرات خطابه الجامع وقطر من ندی تراثه النافع .. كما أن له رسالة في الوحي والإلهام...

وفي الحكمة والفلسفة صنف كتبا كثيرة نظير شرح کتاب الإشارات للشيخ علي بن سليمان البحراني ورسائل أخرى .. وقد أشاد برأيه الفلسفي كبار الحكماء والمتألهين، كالشيخ الطوسي وكذا ملا صدرا بعد ذلك، حتى قيل أنه أكثر عليه النقل في حاشية شرح التجريد، في مبحث الجواهر والأعراض .. ولك أن تدرك أي شأن فلسفي يجعل صدر المتألهين يحيل عليه في موضعه وقد علمت أن مبحث الجواهر والأعراض شطر من صديع الحكمة المتعالية، حيث أثبت حکیم اصفهان الحراك الراجح الأصح في الجوهر كما في سائر الأعراض..

إن شیخنا نموذج نادر للشخصية العالمة التي تعددت أبعادها واستطاعت أن تتجاوز بتكوينها المركب ما مكنها من ركوب صهوة ال«عبر - مناهجية»(1)

- interdisciplinary - حيث جعلت البعض یری

ص: 195


1- وهناك من ترجمها بالبيتخصصية ، حال من جمع فنوناً وتخصصات مختلفة في تكوينه النظري وبني ممارسته الإبداعية على أساس الإفادة من مجموع هذه العلوم والتخصصات لصالح نتائج أكثر ترکیبا وتکاملا؛ وميزة ال« عبر - مناهجية»أن تمكن صاحبها من الوقوف على مجمل الآراء دون أن يقع في حبائل رأي واحد، بل يجاوزه إلى رأي مركب كما هو الحال مع صدر المتألهين الشيرازي مثلا في فلسفته التوفيقية ونظرائه، وأحسب أن شيخنا ممن سلك هذا الدرب بل من المؤسسين له ..

فيه واحداً من الأعلام الذين أسسوا لنمط من الممارسة الفكرية الجامعة بين التشيع والتصوف (1). وقدر هذا النموذج من العلماء الذين اجتمعت لديهم هذه الصنعات وامتد نبوغهم إلى أقصى الأبعاد بقيد التفنن والبراعة فيها - حيث ما من علم إلا وقدم فيه شيخنا ما يرقى إلى مقام الرائعة(2)- أن يأتوا بما هو مميز وما هو إبداع جلي

ص: 196


1- انظر مثلا الدكتور كامل مصطفى الشيبي، في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ..
2- لا نريد الإطناب في سيرته ومؤلفاته حيث ليس ذلك هدفا ركيزاً لهذه الورقة، فنقتصر على ما ذكره مترجموه .. ففي بيان شمولية براعته وتفننه في علوم مختلفة، قول الشيخ سليمان الماحوزي :«هو الفيلسوف المحقق، الحكيم المدقق، قدوة المتکلمین، وزبدة الفقهاء والمحدثين، العالم الرباني، كمال الدين ميثم البحراني، غواص بحر المعارف، ومفننص شوارد الحقائق واللطائف، ضم إلى إحاطته بالعلوم الشرعية، وإحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية والفنون العقلية ذوقاً جيداً في العلوم الحقيقية والأسرار العرفانية، كان ذا کرامات باهرة ومآثر ظاهرة، ويكفيك دليلا على جلالة شأنه، وسطوع برهانه اتفاق كلمة أئمة الأمصار، أساطين الفضلاء في جميع الأعصار على تسميته بالعالم الرباني. وشهادتهم له بأنه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، وتنقيح المباني ... ويؤكد السيد حسن الصدر ذلك بقوله :«الشيخ ميثم بن علي البحراني المعاصر للسكاكي صاحب «المفتاح».كان علامة في العلوم العقلية والنقلية،.

ذائع في الأنام، ظاهر شاخص في الوجود. ولهذا السبب تحديدا كان لا بد من وصف أسلوبه بالحجاجي، نظرا لانتمائه بحسب النموذج المعرفي إلى هذه ال«عبر مناهجية»، التي قلما تأطر أهلها بالأسلوب البرهاني الحصري بمعناه الأرسطي التقليدي، أو اكتفوا باليسير من الموروث والوحيد من الرأي .. بل هو أسلوب يستمد قوته من الحجاج في مرونته واستيعابيته الموسعة والشامل لكل مسالك الدليل وليس مجرد الاكتفاء بالبرهان الصوري فحسب . وهذا ما مكن الشيخ وأضرابه أن ينزلوا في كل مورد بلبوس يناسبه من طرائق الاستدلال على خلاف ما جرت عليه العادة عند من اكتفى بالطرائق المحصورة، فما كان من ذلك الصنف إلا أن يهجو صنائع بأكملها متى تعالت على نسقه المنطقي المحصور(1).. فرأينا من هجا العرفان ما دامت حقائقه تتعالى على المنطق الصوري، فاعتبره واقعاً في منزلة أدنى من أحكام العقل(2).. وآخرون باسم هذا

ص: 197


1- وذلك دیدن من رام هجاء الصنعات العقلية من خصوم المنطق والفلسفة كابن الصلاح ونظرائه، أو كان أقل استيعاب لمقاصدها كابن تيمية الحراني، انظر : ادریس هاني، المنطق في الثقافة العربية والاسلامية؛ جدل التطور والإعاقة : نقد المنطق لابن تيمية مثالا ، ورقة مقدمة للمؤتمر التخصصي حول المنطق الأرسطي .. نظمه معهد المعارف الحكمية ببيروت سنة 2005م..
2- في التراتبية التي وضعها د. محمد عابد الجابري لحصر محددات العقل العربي في سلسلة نقد العقل العربي، يضع العرفان في أسفل مستويات العقول: العقل البرهاني والبياني وأخيرا العرفاني، بل تراءى له أن حقائق العرفاني التي تراءت للعارف بأنها فوق العقل إنما هي في الحقيقة تحت العقل .. انظر بخصوص نقد هذه التراتبية: ادریس هاني؛ محنة التراث الآخر؛ النزعات العقلانية في الموروث الإمامي، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، ط1، 1998م بیروت .

المنطق رفضوا تعاليم الشرع وآخرون هاموا شذر مذر فلا استقام لهم طريق ولا صحت لهم وجهة .. وهكذا دواليك مما لا يخفى على ناظر مطلع.. .

أجل، لقد وصفنا الطريقة الميثمية على الأقل فيما يعنينا من بحث أمر الغيبة من كتابه النجاة، بالطريقة الحجاجية على خلفية نكتة في المقام، ترى أن الحجاج هو الأسلوب الأصيل في فن المناظرة، وهو أوسع مما تفي به مسالك البرهان الحصرية، حيث ليس المعول عليه في الحجاج سوى المضي مع الخصم إلى نهاية الحجاج قصد إفحامه، والاستناد في ذلك على ما يسند حجة المتكلم.. وبهذا فإن سيرورة الحجاج مفتوحة ولانهائية، حيث يتوقف أمرها على خبرة المتحاورين ودربتهما . وتكمن قيمة الحجاج في أنها تترك المجال مفتوحاً لمعاودة الكرة ومواصلة النقاش متی عرض تطور جديد في مدارك أحد المتناظرين .. فلو أنه أفحم اليوم في مجلس من مجالس المناظرة فليس معنى ذلك أنه لن تقوم له قائمة إذا ما تأمل مسائله وتكون لديه ما هو حقيق بفتح جولة جديدة من جولات المناظرة بناء

ص: 198

على ما سبق .. فالعلم بالمناظرة وأسلوب الحجاج لا ينتهي، حيث الصواب يتشكل في قلب المحاورة وتلاقح العقول في المناظرة، أو كما قال علي بن أبي طالب علیه السلام : «اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب .. وامخض الرأي مخض السقاء».. وهذا يعني أن العلم ينمو بنحو جدلي وعبر آلية الحجاج المباشر أو الافتراضي الذي يمنح العالم قدرة فائقة على الاستشكال كما لو كان يتمثل خصمه ويفترض اعتراضاته .. فالممارسة العلمية الناجعة هي تلك التي يتمثل فيها العالم نفسه وخصمه في آن .. حتى لو كانت ممارسته الفكرية خارج دائرة المناظرة المباشرة .. وهو ما سوف نجده ماثلا عند شيخنا میثم في مباحث النجاة .. إذ يستحضر بحصر يكاد يكون عقليا كل الآراء والاستشكالات المفترضة من خصم مفترض.. إن أسلوب البرهان الصوري المحصور، أسلوب عقيم حينما يستبعد كل أشكال مسالك الحجاج الأخرى بما في ذلك الشعرية .. ولا يخفى أن طريقة القرآن وأقوال الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) والأئمة عليهم السلام وسائر أهل المناظرة هي من ذاك القبيل.. فليس غريبا أن يكون الأعلام من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام قد اهتموا بهذا النمط من المناظرة، فدونوا وأرخوا لروائعها التي دار جلها حول موضوعات ذات الصلة بقضايا الاعتقاد التي كانت مدار علم الكلام حينئذ.. فكان أن ألف الشيخ الطبرسي كتابه الشهير : «الاحتجاج»، الذي ضمنه كافة أشكال المناظرة التي

ص: 199

جمعت الرسول أو بعض الصحابة والتابعين من أصحاب الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) وأئمة أهل البيت علیهم السلام مع خصومهم.. حتى أمكن اعتباره کتابا عمدة في المقام بل هو موسوعة وملحمة في الحجاج على النمط الذي وصفناه آنفا . ليس أسلوب المناظرة نقيضا لأسلوب البرهان، بل هو أوسع مدى حيث يشمل البرهان وغير البرهان، لأن المعول عليه في الحجاج هو حمل المتلقي بطريق القهر النظري على تقبل الرأي المخالف بعد إبطال حججه وثني المتلقي عن رأيه بالحجة التي تعني عند أهل الحجاج كل ما من شأنه أن يدعم رأي المتكلم بالمعنی اللغوي العام وليس الوسط الذي تثبت به الكبرى للصغرى في القضية الحملية كما هو المصطلح عند المناطقة .. فالبرهان عند الحجاجي ليس غاية بل وظيفة .. والتمسك بطرائق غير برهانية في الاستدلال لا يخرج القضية من حاق المعقول، بل قد يكون ذلك قصورا من المخاطب - بكسر الطاء - أو مراعاة لمكنة المتلقي.. وقد يتحقق القطع من دون برهان، ويكون العمدة في ذلك التسليم جدل باطن اندکت معه وسائط البرهان حتى غابت عن صاحبها، لكنها تنكشف تباعا إلى أن يقتدر الإنسان على تظهيرها للمتلقي بعد أن تكون قد ظهرت له في حاق وعيه .. فيتأكد حينئذ بأن ليس كل ما دان به البشر جاء عن طريق البرهان كما لا يخفى، وليس كل ما يدين به البشر يستطيع أن يتقاسمه مع الآخر بطریق برهاني.. لذا كان لا بد من

ص: 200

سيادة الحجاج كطريق أنجع لنضوج الفكر وتطور المعارف واستذکار منسي الوسائط في روع الواصلين إلى المعارف حدسا وحضوريا .. فالبرهان بمعناه الأرسطي مطلوب وليس لأزما في المناظرة، وممكن وليس وحيدا في الحجاج.. وإن عدم حضوره في المناظرة عند الاقتضاء لا يخرج المناظرة من دائرة البرهان بمداه الأوسع، المشار إليه في الذكر الحكيم: «قل هائوا برهنكم إن كنتم صدقين ».. فلو كان البرهان بمعناه الأرسطي وحده العمدة فيما دان أو یدین به البشر، إذن لساخت ممالك الإيمان، ولما أمكن استمرار النوع... حيث في يدي الناس ما هو أوسع مما يثبته البرهان الأرسطي فتأمل.. وإذا كان شيخنا ميثم البحراني هو ممن استوفوا هذه الصناعات وأدركوا حدود المنطق والفلسفة ، فإن تمسكه بطريقتهما كما بدا في كتاب النجاة لا يعني وفاءه بهما حتى لو صار المورد محلا للاعتبارات، وهو ما يدرکه کفقيه وعارف أيضا ؛ حيث مجال الشريعة كمجال العرفان هما موردان لنكاثر الوجوه والحيثيات والاعتبارات أكثر من مجال الفلسفة التكويني والمنطق الصوري .. وحيث يكفي أن يكون الشيخ ميثم متكلما، كي يتعدى في حجاجه حدود المنطق الصوري متى أمكن ذلك.. فالمتكلم هو متجاوز للثالث المرفوع في أكثر من مورد، مع الفارق بين طريق المتكلم الإمامي وغيره، فالتجاوز هنا بلحاظ الاعتبارات، فهو هنا يلتقي مع

ص: 201

الفيلسوف.. وكما في الاقتصار في التعريف على ما يتحقق به التمييز وإن ظل في الاحتمال ما يوقع في الاشتراك ..

إننا سمينا أسلوبه بالحجاجي لهذا السبب تحديدا، كما سميناه كذلك لأن موضوع الإمامة والغيبة هما من الموضوعات التي لا يعول فيها على البرهان إلا بمقدار ما هو ملزم في ضوء مقدمات ضرورية يحتم التسليم بها التسليم بآثارها الملزمة .. ومقتضی کون الخطاب موجه لكل أصناف البشر وطبقاتهم بغض النظر عن التفاوت في مداركهم وأحوالهم، دليل على أن المقصود من البرهان في الخطاب القرآني هو كل أشكال الحجة مطلقا، فلو اقتصر على مجرد البرهان بمعناه الأرسطي لانحصر الخطاب وضاق المقصد، حيث أغلب بني آدم لم يحرزوا مقدمات البرهان والأقيسة المنطقية .. وحيث وقفنا في الكتاب الأخير على بعض النكات لا تصلح أن تكون برهانية إلا بما هي محفوفة بالحجج الشرعية - ومع أننا نعتبر الحجة الشرعية هي في مجالها عين البرهان، إلا أننا نميز البرهان الشرعي المطلوب في قوله تعالی: « قُلْ هاتُوا برهنکم» عن البرهان بالمعنى الاصطلاحي المنطقي المحصور في القياس الحملي المخصوص، ولعل هذا ما يميز متفلسفة الإمامية عن غيرهم، حيث للنقل مدخلية أساسية في تأطير القول الفلسفي، وهو التقليد الذي برع فيه جيل الشيخ ميثم البحراني الذي زاوج بين ضرورات المنقول وضرورات المعقول في

ص: 202

بناء فلسفي متين أعلن مصالحة ذكية بين الكلام والفلسفة .. فكم من نكتة كف أن يتبع فيها فلاسفة الإمامية نظراءهم حتى من كان منهم قد تنزل منزلة المرجع المعتبر کالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، حيث نقض عليه أحد معاصري الشيخ ميثم، أعني الحكيم حیدر آملي كما ظهر ذلك في ردوده على مغالطة ختم الأولياء عند الشيخ الأكبر انطلاقا من المنقول ابتداء وتثنية بالمعقول وتثليثا بالكشف (1) .. فالمنقول حاضر في منتهى القول الفلسفي الإمامي حتى لو تعلق الأمر بإثبات اتحاد العالم والمعلوم، ووحدة الوجود والمعرفة أو إثبات الحركة في الجوهر (2) ... حضورا فوق أن يكون محض تعمل، بل

ص: 203


1- يقول الحكيم العارف حیدر آملي في نص النصوص: (وهذا لا يتيسر إلا بعد نقل كلام الشيخ في هذا الموضع ودعواه فيه - يقصد الشيخ محيي الدين بن عربي - ثم إلزامه وإسكانه به، ليكون حاله في ذلك كحال من قال : يداك أوكتا وفوك نفخ (...) والصحيح لا تعرف صحنه إلا بقوة النقل والعقل والكشف، خصوصا إذا كان مع صاحب الكشف هذا الانبياء والأولياء والمشايخ العلماء...». انظر بهذا الصدد الكتاب القيم للدكتور خنجر علي حمية حول الحياة الروحية والفكرية لحيدر آملي الموسوم ب: العرفان الشيعي، من منشورات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ط، دار الهادي 2004م.
2- استدل ملا صدرا على وجودية العلم، بقوله تعالى : « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ »، وبه دفع شبهة ابن سينا في اعتبار العلم خاصة الحصولي منه ضربة من الإضافة، بينما رأى إليه ملا صدرا ضربا من الوجود وبأن العلم ليس حصرا كيفا، بل هو متعدد بحسب معلومه فهو من مقولة معلومه .. فمع كل علم هناك تكامل في الوجود، وهو مفاد الآية الكريمة ..كما استدل في معرض ما استدل به على الحركة الجوهرية بقوله تعالى : « الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهی تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ» .. انظر بهذا الصدد : ادریس هاني، «ما بعد الرشدية ؛ ملا صدرا رائد الحكمة المتعالية» ط1، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، بيروت. 200م..

نوع من التأطير النقلي الذي أمكنه إحداث تحول كبير في القول الفلسفي كان وراء ميلاد الفلسفة المتعالية، التي هي مدينة بشكل ما إلى هذا الإرث العظيم الذي بذر بذرته الأولى الشيخ ميثم البحراني وجيله من أمثال الخواجه نصیر الدين الطوسي وحيدر آملي ..

بين يدي الكتاب

قبل الخوض في موضوعنا المتعلق ببحث الغيبة من كتاب النجاة، تجدر الإشارة إلى أن كتاب «النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة» جاء على نحو من الاختصار، لنقل المختصر المفيد الذي لخص المطلب وأزال عنه القشور وأبقى على اللباب .. ولذا كان جديرا بأن يصبح محورا لكتاب دراسي، تنضم إليه شروح و حواش تغذیه وتعيد إليه ما تم خرطه على غير خرط القتاد من نكات وفروع وزوائد مفيدة للمتلقي غير المستحضر للمقدمات الشرعية والعقلية الضرورية للوقوف عند المفاهيم المستعملة في متن الشيخ البحراني والنتائج التي ذاد عنها بكثرة الحجاج على طريقة المتكلمين تارة والفلاسفة تارة والأدباء تارة أخرى .. وكل ذلك مؤطر ومراقب من المنقول الشرعي الذي لم يغب صريحا أو ضميرا عن فصول هذا

ص: 204

الكتاب المفعم بالإشارات التي يحبل بها نص مكثف بمضامین فلسفية وكلامية غاية في العمق والسعة على ما اختص به كمختصر نافع في المقام .. وهذا ليس غريبا إذا ما اعتبرنا الكتاب كتب على عجل وفي لحظة عبور مصحوبة بالكثير من التشتت الذهني كما يصف ذلك في مفتتح الكتاب، ما يؤكد على أنه كتب على عجل ، نزولا عند طلب شخصية سياسية مرموقة، كانت على صلة بشيخنا داعمة لمساره الاجتهادي، يتعلق الأمر بالملك أبي المظفر عبد العزيز بن جعفر النيسابوري .. بهذا الصدد يقول الشيخ ميثم : « ثم إنه تعالى لما وفقني للاتصال بجناب مولانا المعظم، العالم العادل البارع، ذي النفس الأبية، والهمم العلية، والأخلاق المرضية، والأعلاق الزكية، ملجأ الأنام، وواحد الليالي والأيام، عز الدنيا والدين، أبي المظفر عبد العزیز بن جعفر النيسابوري - أعز الله ببقائه الطائفة ، وحرس به الملة - فألفيته من أخص الأولياء لأولاد سيد الأنبياء، مع ما خصه الله تعالی به من العلم، وحباه من مزيد الفهم، فهو للعلماء والد عطوف، ولمعاناة أحوالهم بر رؤوف، يتواضع لهم مع علو مرتبته ويرفع من خاملهم مع شرف منزلته، فشملني بأنعامه، وأحلني محل إكرامه، حتى أنساني الأهل والبلد، وأصدفني عن المال والولد... أشار إلي بإملاء مختصر في الإمامة، أنقح فيه الأدلة والبينات، وأقرر فيه الأسئلة والجوابات، فهممت أن أعتذر لمشقة

ص: 205

السفر وما يستلزمه من تشعب الأذهان، ومفارقة الأهل والأوطان ، ثم كرهت أن ينسب ذلك إلى تقصير مني في خدمته، وأداء بعض ما وجب علي من شکر نعمته» (1).

لا يصلح هذا التقديم شاهدا على متانة الصلة التي ربطت بين شيخنا والملك المعظم أو شاهدا على حسن المودة وتقريبه العلماء وهو ما كان مفقودا نادرا في ذلك العصر وما قبله وما بعده إلا ما استثني وندر فحسب، بل يصلح شاهدا أيضا على أن الكتاب لقي عناية خاصة من قبل الملك أبي المظفر، كما يوقفنا على السبب الصريح خلف مجيئه على هذا النحو من الإيجاز .. فلولا ظروف السفر إذن لاتسع إلى أكثر من سفر وأزيد.. .

إن استعراض آراء الأعلام التراثيين يتطلب نوعا من الاستقصاء للبيئة الثقافية والجيو - سياسية والتاريخية التي نشأوا فيها، لأنها المرأة التي تعكس، ليس اختبارات العالم ومواقفه وتقاطعاته فحسب، بل هي أيضا التي تمكننا من وضع اليد على سر الخميرة التي تعتمل في فكرهم وتتحكم في تراجيحهم وأذواقهم .. بل وهي التي تضعنا في قلب الشروط التاريخية للنموذج المعرفي الذي كان

ص: 206


1- انظر الشيخ ميثم البحراني ، كتاب النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة، ص 2 مجمع الفكر الاسلامي، تحقيق فضيلة الشيخ محمد هادي اليوسف الغروي قم ط1 ربيع الثاني 1417ه.

متحكما في تلك البيئة حتى ندرك طبيعة الخضوع الذي أبداه هذا العالم إزاء مسلمات عصره الفكرية وقيمة محاولاته للتجديد وخرم الأطر المعرفية السائدة، وأيضا لطبيعة العلاقة الخاصة التي أنتجها هذا العالم مع محيطه ومع ثقافة محيطه وعالمه .. حينئذ سندرك لا محالة القيمة المعرفية التاريخية للشخص، وحدها الطريقة التي تجنبنا محاكمة الأعلام التاريخيين من خلال مسلمات ومحددات نموذج معرفي تاريخي حديث أو أحدث. على هذا الأساس نستطيع أن نتحدث عن جملة العوامل التي ساهمت في تكوين شخصية الشيخ میثم البحراني وأثرت في نشأته وصيرورته العلمية.. وهي عوامل شتی، قد تصل إلى ما هو سياسي نتيجة للشروط الاستثنائية التي عاشها العالم الإسلامي، کهجمة التتار على بغداد واستيلاء هولاكو على قسم كبير من بلاد العالم الإسلامي كفارس وبغداد .. ونوع العلاقة الخاصة التي ربطت بين الشيخ البحراني والشيخ الطوسي صاحب العلاقة المميزة مع هولاكو .. بل وعلاقته الخاصة بالملك أبي المظفر النيشبوري الذي أهداه الكتاب المذكور، أو اتصاله بعلاء الدین عطا ملك الجويني وكيل التتار بالعراق، حيث ألف له شرحا على النهج - إذ يذكر أن له ثلاثة شروح للنهج ... وقد رأى البعض في ذلك ما يماثل موقف ابن أبي الحديد المعتزلي الذي كتب شرحه بناء على طلب من الوزير العلقمي الذي وصف النهج بأبيات :

ص: 207

کلام إذا ما الدر قویس قيمة *** وحسنا به يوما فقد وصف الدر

وإن حبر الأذهان تبها، فإنني *** أنزهه عن أن أقول له سحر

وإن أسكر الألباب لطفا فإنه *** على ما أرى لولا طهارته خمر (1)

إن الأخذ بعين الاعتبار هذه الصلة مع ملوك ووزراء (2) وظروف

ص: 208


1- انظر: الصلة بين التصوف والتشيع، للدكتور کامل مصطفى الشيبي ج 2،ص 88، دار الأندلس ط3 بیروت 1982.
2- يتعين إعادة النظر في الطريقة التي تم التأريخ بها لعلاقة بعض الأعلام بملوك ووزراء، لا سيما ما يتعلق بموقف نصير الدين الطوسي من هولاكو وأيضا صلة الشيخ ميثم في نفس الحقبة بالوزير الممثل التتري بالعراق ... هذا التوصيف المسرف الذي حاول توريط كل من الوزير العلقمي والخواجه نصیر الدین الطوسي في مسؤولية سقوط بغداد فيه الكثير من المبالغة والتعسف .. كان الوزير العلقمي شخصا مولعا بالعلم وتشجيع العلماء على التصنيف والتاليف، ويكفي فخرا أن صنف له ابن أبي الحديد المعتزلي کتاب شرح النهج.. وقد مدحه الشاعر كمال الدين بن البوقي بأبيات جاء فيها: مؤيد الدين أبو طالب *** محمد بن العلقمي الوزير يقول ابن الطقطقا صاحب الفخري بخصوص هذا البيت: « وهذا بیت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعنه».. ويقول صاحب الفخري أيضا في وصف الوزير العلقمي: «وكان مؤید الدین الوزير عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزها مترفعا».. كما يذكر أن جميع أعوان الخليفة كانوا يكرهونه ويحسدونه بينما أحبه الخليفة، وينفي عنه صاحب الفخري أنه خامر حتى أن الفخري اعتبر أكبر دليل على عدم مخامرته تسليم هولاكو البلد إليه إشارة إلى سلامته في هذه الدولة فلو كان قد خامر على الخليفة حسب صاحب الفخري لما وقع الوثوق إليه .. وحينما يتحدث ابن الطقطقا عن لقاء الوزير العلقمي بالسلطان المغولي، وتوسط نصير الدين الطوسي في هذا اللقاء بصفه : «وكان الذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين الطوسي قدس الله روحه(...) - انظر الفخري، في الآداب السلطانية والدولة الاسلامية، ص338 دار صادر، بیروت، بلا تاریخ ... هذا عن ابن العلقمي وكذا الخواجه نصير الدين .. وهي مواقف لا تختلف كثيرا عن موقف ابن خلدون من تیمورلانك التتري حيث قدم له استشارات غاية في الأهمية وكان معه على صلة ولم يثر ذلك ما أثارت الصله بین الخواجة وهولاكو على الرغم من أنها انعكست إيجابا على العالم الاسلامي وجعلت السلطان المغولي يتحول إلى خادم للعلم الاسلامي كما لا يخفى .. وكان إيف لا كوست قد نال في حق الصلة بين ابن خلدون وتيمورلانك: .«.. لقد قدم المورخ المغربي للأمير المغولي وهو أسيره معلومات جد دقيقة حول عدد كبير من البلدان، وامتدح انتصاره بتفصيل بالغ، بحيث أنه تحول من أسير للفاتح إلى ضيف. وقد أخذ تيمورلانك بابن خلدون، إلى الحد الذي جعله بقترح عليه ، ولكن عبثا، الدخول في خدمته، بصفة مؤرخ ومستشار» انظر ایف لا کوست، ابن خلدون ت: د. ميشال سليمان، ط3، 1982، دار ابن خلدون - بيروت .. أجل لقد لقد سعى الخواجة نصير الدين وقبله الوزير العلقمي عبثا إلى تجنيب بغداد كارثة محققة من قبل المغول، لكنهم في الوقت نفسه استطاعوا التأثير على سیاستهم باتجاه استيعابهم واحتوائهم وهو ما يفسر أسلمة المغول لما أصبحوا جزءا من الحضارة الاسلامية كما تدل على ذلك آثارهم في العراق و ایران وسمرقند وغيرها من البلاد التي امتد إليها نفوذهم.. غير أن ثمة ما يستدعي القول بأن الوضع الاستثنائي للشيعة في ظل السلطة الجائرة يومها، يفرض عليهم مبادلة كل ملك أو وزير مكنهم من بعض حقوقهم أو أبدى المحبة لأهل البيت عليهم السلام ، وهو أمر ممكن أن يتكرر في زماننا، حيث موقف الشيعي يصبح إيجابيا مع كل من رفع عنهم الجور واعترف لهم بالحقوق وعاملهم معاملة على أساس المواطنة من دون تمييز .. ولذا يصف ميثم البحراني الملك بأنه الملك المعظم العالم العادل .. أعز الله ببقائه الطائفة وحرس به الملة .. وليس لذلك معني سوى أن مثل هذه العلاقة تتقوم بما يبديه هولاء من حسن المعاملة لا من حيث هي علاقة تآمرية ..

ص: 209

الرحلة التي جعلت الشیخ میثم ابن البحرين يحل بالحلة وبغداد ويعيش ظروفها السياسية ومخاضاتها الفكرية بكل تناقضاتها وبكل تجاذباتها ، هو وحده الظرف الذي يفسر لنا تلك المحاولات المبكرة التي مكنت لجيل كامل من أعلام الإمامية أن يتجهوا نحو العرفان، ويجترحوا من طرائق التفكير ما يكسرون به الجمود الفكري الذي خلفته السياسة العباسية قبل أن ينفرط عقد دولتها المركزية، ليكون في صالح تفتق فضاءات جديدة لجدل فکري اكثر حيوية ونشاطا .. وهي المرحلة أيضا التي توجت بمحاولات الارتقاء بعلم الكلام الإمامي إلى مرحلة أهلته للدخول في دورة الفلسفة، وهو الجمع الذي برع فيه هؤلاء الأعلام من أمثال الخواجه نصير الدين الطوسي وأيضا الشيخ البحراني .. فإذا أمكن البعض أن يصف أبا حیان التوحيدي بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، أمكننا أيضا وصف شيخنا میثم البحراني بأنه فیلسوف الفقهاء وفقيه الفلاسفة .. ففي عصره بدأ نوع من التداخل الواضح بين الفلسفة والكلام والعرفان

ص: 210

والفقه.. ولعله هو من أوائل المبادرين للانفتاح على نصوص أبي حامد الغزالي والاستشهاد بها دونما أي حرج رغم ما بدا من هذا الأخير من مواقف سلبية ضد الإمامية كما لا يخفى (1).. وما كان

ص: 211


1- يذكر د. کامل مصطفى الشيبي : «ويحق لميثم أن ينوه بأنه سبق الشيعة فأثبت نص كلامه في حقيقة التوبة وأنها «عبارة عن معنى مركب من ثلاثة أمور مرتبة علم ثم حال ثم ترك» فبين كيف يستطيع الشيعي إن شاء أن يتجنب ما ليس فيه غني عن سفاسف الأمور دلل على أن السب وغيره من الشؤون الجانبية وإنما يسعى إليها الشيعي في ظروف خاصة تمليها السياسة ومقتضياتها حين تعز السلامة وينفجر مرجل الغضب وسيمر بنا من ذلك الشيء الكثير».. المصدر نفسه ص 95. أقول استطرادا : ليس المتغير في هذا النوع من الانفتاح هو السياسة فحسب، فقد تكون السياسة نفسها سببا في ترطيب الأجواء بين الفرقاء المتخاصمين، أو كما قال السيد شرف الدين مرة: «إن الشيعة والسنة جدولان من نهر واحد.. فرقت بينهما السياسة فلتجمع بينهما السياسة».. بل المتغير هو الجهل المركب الذي يجثم بثقله فوق رؤوس المختلفين .. ومثل هذا النوع من الانفتاح والاستشهاد والتفاعل قديم في الممارسة العلمية الشيعية لولا أن السياسة انتهت إلى وضعهم في كانتونات مغلفة وفرضت عليهم عبر البطش والقمع ما شجع على الكثير من الشطط الذي قد يبدو كذلك متى تحقق الانفراج والتفهم التاريخية طائفة ظلت مقموعة على مر التاريخ، فلا يحاكم المقموع على تاريخ القمع وآثاره ... إن الموقف التجزيئي الذي يميز بين مواقع المعرفة ومواقع الشطط هو الذي يجعل أمثال هولاء ينفتحون على كل نص فرض استحقاقه المعرفي وحافظ على موضوعية المعرفة ... وما انفتاح الكثير من الشيعة على متن الغزالي لا سيما إحياء علوم الدين، سوى لأنه جاء زاخرا بتعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام واحتل فيه أئمنهم موقعية أهل الأسرار .. وكثيرمن الأقوال والآراء التي أوردها الغزالي في المقام هي تمثل لما ورد من أقوال علي بن أبي طالب عليه السلام أو علي بن الحسين المشهور بزین العابدين عليه السلام وغيرهما، وقد وقفنا على الكثير من العينات من ذاك القبيل ..

للشيخ البحراني أن يفكر في شرح جديد لنهج البلاغة بعد مصنف ابن أبي الحديد الذي كتب ما يبدو مغنيا في المقام، لولا أن تراءى لشيخنا عدم کفایته وعدم قدرته على استيفاء الأبعاد الفلسفية والعرفانية لخطاب الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام .. فكانت محاولته تجاوزا وتكاملا أيضا مع ابن أبي الحديد، وليس ترفا في هواية الشروح دون أدنى قيمة مضافة في المقام.. لهذا وصف شرحه من قبل القاضي نور الله بكونه يتضمن «الحكمة والتصوف والكلام» (1) ، وهو ما لم يتحقق مع ابن أبي الحديد الناقم على الفلاسفة والحكماء ولا من دیدنه كأديب متکلم معتزلي.. هذه الظروف مجملة تفيد قارئ النص الميثمي، وتفرض عليه تصعيدا في اليقظة لأجل التقاط الحد الممكن من الإشارات عبر مختلف النكات التي يطرحها .. أي بتعبير آخر إنه نص يفرض علينا نباهة تتعدى إلى ما بعد النص وإلى ما بعد المعنى؛ أقصد تقصي أثر المعنى ومعنى المعنى، وهو ما برع فيه الشيخ ميثم كرجل بلاغي من الطراز الكبير، وكحکیم متفلسف، لا يبوح إلا بما أمكن البوح به، وما كان مطلوبا لدى المتلقي المفترض .. لقد ساعدته هذه ال «العبر مناهجية» في مسلکه الحجاجي، هذا إن لم نقل أن سعة اطلاعه وتنوع اختصاصاته إنما

ص: 212


1- المصدر نفسه، ص90.

هي حاجة اقتضاها مطلب الحجاج السائغ، وضرورة أوجبها خطابه الجامع..

غيبة الإمام عند الشيخ ميثم البحراني

أحببنا تخصيص هذه الورقة لبحث مسألة الغيبة عند الشيخ ميثم البحراني على ما فيها من إيجاز، لكنه ، إيجاز زاخر بالمعاني، مكثف يستدعي حمولة نظرية عالية وشامل لكافة الاستشكالات المفترضة ... وكان ذلك تحديا فرضه اختبارنا لمبحث يحتل مساحة صغيرة من الكتاب لا يتعدى الأربع صفحات، بل كان من المفترض أن تكون ثلاث صفحات لولا إطنابه عبر شواهد شعرية في المقام الثالث من مبحثه المذكور .. التحدي الذي يفرض نشر ما طواه الكاتب معاوضا إياه بمختصر نافع يستقوي بدربة التفهيم ومكنة التقسيم.. والغاية من ذلك بيان وجه الحجاج السائغ من داخل ما قل ودل، فإذا به شاهد بالأولوية على ما كان قد انسدر به یراع الشيخ في مقامات أخرى .. ومع أن الحديث عن الغيبة قد وسعه القوم بحثا حتى بلغ الموسوعية في التصنيف، فإن الأربع صفحات من كتاب النجاة لشيخنا میثم تؤكد على أنها مستوعبة لكل هذه الحقائق وإلا لما أمكن حصر الاستشكالات بالطريقة التي سنرى .. غير أننا سنلوذ من داخل کتاب النجاة بمبحث آخر له علقة مباشرة بمبحث الغيبة، يتعلق الأمر تحديدا بالبحث الثالث حول فساد ما قالته الطوائف من الشيعة

ص: 213

المنکرین لواحد واحد من الأئمة الاثني عشر علیهم السلام . . وقيمة هذا البحث تصب صبا في مبحث الغيبة للجنية المتعلقة باستمرار الإمامة في ولد الحسين علیه السلام إلى حدود الثاني عشر (عجل الله تعالی فرجه الشریف). وهو ما يعضد المقام الرابع من مبحث الغيبة الذي يتعلق بأن المدعى إمامته وغيبته هو هذا الإمام.. وهذا لا يستقيم إلا برد فساد من حصرها أو انزلق بها في اتجاه من لم تثبت لهم إمامة بنص صريح ولا ثبتت لهم ختمية الولاية الخاصة ببرهان سديد.. وقد امتد القول في هذا المقام ليشمل عشر طوائف واتجاهات مع إبطال نکیرها لواحد واحد من الأئمة الاثني عشر، حيث أي انزلاق في أي طبقة أو مرتبة لا يسمح بوصول النوبة إلى الحجة الثاني عشر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).. فيكون الوقوف على ذلك من ضرورات مبحث الغيبة وإن كان الشيخ ميثم البحراني قد قدمه وأفرده عن المبحث المذكور.. وعليه، يصبح الحديث في المقام الرابع من مبحث الغيبة من كتاب النجاة بضميمة البحث الثالث المذكور أعلاه، وإن بدا أصغر من باقي المقامات ما عدا الثاني، هو أطول المقامات بلحاظ الضميمة نفسها .. ثم إذا كان بحث الغيبة يأتي طوعا بعد أن ينتهي الباحث من مسألة الإمامة وما يتفرع عنها من مسائل تخص شروطها وأحوالها، فإن الإمامية الاثني عشرية يجدون أنفسهم معنيين ببحث الغيبة نظرا لحتمية العدد ونظرا لضرورة عدم خلو الأرض من حجة.. وفي الوقت ذاته يدرك الشیخ میثم أن

ص: 214

الحديث عن الغيبة متأخر رتبة عن بحث الإمامة .. فمن جهة يدرك أن بحث الغيبة لازم لعلقته الشديدة بوقوع الإمامة واستمراريتها .. ومن ناحية أخرى يدرك أن لا حديث عن الغيبة إلا بناء على القول بالإمامة تأكيدا على اللزوم، لأنها بمثابة لزوم المقدمة لذي المقدمة .. وهذا يكفي نباهة حينما ندرك أن أي حديث عن الغيبة مقدمة عن بحث الإمامة لا يفي بالغرض بل هو بخلاف مختار العقلاء، لأن الأمر يتعلق ببناء نسقي، لو أننا اتبعنا طريق الاجتزاء من السياق وخرمنا منطق التراتبية والتقديم والتأخير الضروري للنسق، فإننا لن نظفر عند الصاحب والخصم برأي مستقيم .. بل هو ضرب من العماء ضار بالمباني العلمية ، لو أننا سلمنا به وطبقناه على حقائق القرآن طرا لألفينا أنفسنا أمام آراء يتعذر التسليم بها .. تصور لو أننا بحثنا رأسا مسألة المعراج قبل بحث التوحيد والنبوة، إذن، لعز علينا التصديق .. فحقائق القرآن تنهض على صدقية التوحيد والنبوة .. وصدق الرسالة متوقف على التسليم بحقيقة المرسل والرسول.. ومع أن مبحث الإمامة يعنينا كمقدمة في بحث الغيبة إلا أننا سنحصر الحديث عن الغيبة، ونفترض في القارئ إلماما بمقدمات بحث الإمامة، فالفصل هنا ليس من باب الاستغناء عن بحث الإمامة ، بل هو فصل يقتضيه حصر الموضوع واختصاصه في باب من أبواب کتاب النجاة، وفاء إجرائيا بعنوان الورقة، حيث

ص: 215

المقصد بيان كيف تعاطى الشيخ ميثم مع موضوعه للوقوف عند ما وصفناه بالحجاج السائغ في خطابه الجامع ..

******

لقد قسم الشيخ میثم بحثه في مسألة غيبة الإمام إلى مقامات أربعة، أوجز في كل منها ما يبدو جامعا مانعا من ضروب الاحتجاج .. وهي كذلك لمن وقف عند مجمل الإشكالات الواردة في البين.. لذا اعتبرنا أن الشيخ ميثم البحراني كان يتوقع قارئا خاصا وليس عاما.. والإجمال هنا لا يعتوره فوت في مطالب رئيسة، بل هو طي متقن علقت مفاتيحه على مشجب المفاهيم المكثفة، حيث يمكن إعادة نشر المطلب مع مزید استطراد.. وهو ما يؤكد على أن كتاب النجاة من الكتب التي تقتضي حواشي وشروحا كسائر المصنفات من هذا القبيل .. ولم يفته في البين أن يستقوي بحس منطقي كبير وهو يعالج قضية كلامية من هذا النوع ليوكد بذلك على أنه بصدد البحث فيما قد يثبت نقلا أو عقلا عند الاقتضاء.. الطريقة التي سرت في أمثلة أخرى من جيل الشيخ ميثم والذي تلاه، هي في أجلى مثال واضح لها مع صدر المتألهين الشيرازي الذي ارتقي بهذه الطريقة إلى حد إعلان المصالحة بين البحث والإشراق، حيث ما أمكن إثباته برهانا أمكن إثباته إشراقا وأيضا - كما ينسی البعض في العادة أن يحصر الجمع الصدرائي بين البحث والإشراق

ص: 216

دون أن يضيف النقل المستبصر - النقل المؤول للنص، على خلفية الإنزال المجدد على قلوب التالين له.. وهي الطريقة التي زرعت بذورها مع جيل الشيخ ميثم، أقصد الخواجه نصير الدين الطوسي وحیدر آملي ونظراءهما .. وحظ شيخنا میثم من هذه الخطة وافر، بل هو من المؤسسين الذين عبدوا الطريق إلى هذا النهج التوفيقي، حيث أحال علیه حیدر آملي في غير ما موضع، كمافعل الأمر ذاته صدر المتألهين الشيرازي لا سيما في مبحث الجواهر والأعراض حيث برع في بحثهما ملا صدرا براعة نادرة - فأثبت الحركة في الجوهر كما في سائر الأعراض دون استثناء -، وكان بإحالته المتكررة على الشيخ ميثم البحراني في بحثه ذاك في الحاشية على التجريد يعرب عن شيء من المديونية إلى الشيخ ميثم.. إن استدعاء شيخنا البحراني للآلية المنطقية في مبحث الغيبة وقبله في تحديد الإمامة (1)،

ص: 217


1- كان الشيخ ميثم على يقظة أثناء تعريفه للإمامة في مفتح كتاب النجاة، مستدعيا کمنطقي ندير أن مجرد الاستناد إلى التعريف الكلامي لا يحرز تمييزا تاما للمعرف، حيث اكتفاء المتكلمين في العادة بالحد الأدنى من التمييز لا يرضي المنطقي، وأحسب أن شيخنا میثم كان منطقيا برهانيا في المقام أكثر من كونه بيانيا متكلما .. فانظر تجد أنه بعد أن عرف الإمامة بالرئاسة العامة لشخص من الناس في الدين و الدنيا، اعتبر أن الاحتراز بكل هذه القيود أو الخاصة لا يحقق التمييز الحقيقي إلا بانضمام القيود إلى بعضها في صورة ما يسميه المناطقة بالخاصة المركبة، وأما مع تفكيكها والاستناد إليها كلا على حدة فلا يحترز بها عن المشترك، هكذا فإن كونها رئاسة عامة لا يميزها عن السلطنة الجائرة لأنها من جنس الرئاسة العامة، وكونها في أمور الدين والدنيا لا يميزها عن الرئاسة الخاصة، حيث ليس كل رئاسة في أمور الدين والدنيا هي عامة ؛ فغاية القول أن القيود المذكورة لا تحرز التمييز إلا بانضمامها إلى بعضها البعض؛ وهو مفاد الخاصة المركبة .. فتكون الرئاسة جنسا قریبا للإمامة ، وباقي القيود منضمة إلى بعضها خاصة مركبة؛ انظر كتاب النجاة ص 39..

له دلالة خاصة، سعى من خلالها ليؤكد أن موضوعا كهذا يدخل في باب الغيب المستور لقمين بأن يبحث برهانيا بعيدا عن سلطة المنقول والكشف .. وهو اختيار حجاجي هادف، يؤكد على أن ذلك النمط من الاستدلال العمدة في التمنع عن الاستنتاج الإيجابي في القضايا الغيبية هو الذي سيصبح مع الشيخ ميثم العمدة في إثبات الغيبة ، بل الوصول بها برهانيا - البرهان المنطقي بالمصطلح الخاص - إلى حدود الضرورة .. فيفهم من ذلك أن المسائل الغيبية ليست آبية عن التناول بالبرهان المنطقي عند الاقتضاء على دعوى حصريته، إذا ما أدرك المحقق الباحث كيف يستعمل الآلة في بلوغ المطلوب بخطوات و مقدمات تراعي الترتيب في الحدود والدقة في القسمة المنطقية وتجتنب ضروب المغالطة.. وقد سبق وأكدنا على الطبيعة الوظيفية للبرهان عند الحجاجي، حيث قد تتنزل منزلة الضروري والمطلوب من باب كل بحسبه، وقد علمت المتلقي المفترض من شيخنا میثم، وهو جمهور الحجاجيين والخواص ممن هم خارج حضر العقليات ممن شملوا من الأغمار واستهدفوا بقانون لجم

ص: 218

العوام عن علم الكلام.. ثم لو شئنا قلنا إن الحس الحجاجي الذي يبدأ مع شيخنا من جملة افتراضاته للإشكالات الممكنة في مراتب التقدم بالبرهان نحو النتيجة إلى اعتماد الآلة المنطقية لإثبات ما هو مؤكد بمنطق المنقول، من باب اعتماد المحصور الصعب في إثبات الأوسع البعيد عن منال التحديد، لمحفوفيته بأسرار الغيب الداعي إلى التسليم بالمنقول ابتداء، وليزاحم من يفترض أن يدفعوا الاعتقاد بالغيبة بناء على الآلة نفسها حيث قصاراهم - إن لم يرضوا بنتائج الصناعة - أن ينقلوا الإشكال إلى صميم حجيتها، فإذا بالموضوع يغدو ضربا من المفارقة، فتحيد الآلة رأسا ويعود النقاش إلى ما دونها أو ما فوقها في سلم الحجاج (1) .. وهذا الاستناد على البرهان المنطقي ليس بالضرورة انحصار الدليل في الغيبة فيه، بل هو استناد من باب الحجاج؛ أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فقاعدة الإلزام هي قاعدة حجاجية وليست برهانية بالمعنى الأرسطي، وهي الطريقة المتبعة في المحاورة الطبيعية التي اعتمدها القرآن الكريم، وعبر عنها خير تعبير، لما قال : « وَ شَهِدَ شاهِدُ بَيْنَ أهلهآ».. أو « فَبُهِتَ الَّذِي کفر» .. وأيضا الاستناد إلى الآلة في الاحتجاج على صحة الغيبة

ص: 219


1- لمزيد من التوسع في مفهوم السلم الحجاجي كما عند أزفالد دیکرو، انظر مثلا : د. حسان الباهي في اللغة والمنطق، وانظر د. أبو بكر العزاوي في اللغة والحجاج، وقبل ذلك انظر مصنفات د. طه عبد الرحمان، حيث يمكن اعتبار كل أعماله تطبيقا حيا لهذه التقنية الحجاجية ..

فيه نكتة بعيدة المدى، حيث إن كانت الآلة القاصرة الحصرية أمكنها أن تثبت صحة هذا الاعتقاد، فمن باب أولى أن تتأكد حجينها مع آلة قادرة مفتوحة، نظير النقلية والكشفية كما تقدم.. وهذا يتأكد استنادا إلى الأولوية القطعية ..

قلنا أن الشيخ ميثم كان قد قسم بحثه المذكور إلى أربعة مقامات ابتدأها في المقام الأول بمعالجة مسألة أسباب الغيبة وثی بمقام بحث إمكان بقاء المزاج الإنساني للمدة المدعاة للإمام الغائب وثلث بمقام ثبوت بقاء الأمزجة في أمثلة كثيرة مشهورة وربع بمقام بحث أن المدعي إمامته هو الإمام المعين ..

ويبدو للمطلع أن الشيخ ميثم البحراني كان قد استوفی وجوه القسمة الأخيرة حتى كادت تكون بلحاظ مجمل الإشكالات الكلامية التي أثيرت حولها ، أشبه في حصرها بالحصر العقلي، مع أننا نابی إثبات الحصر العقلي في مقام الحجاج للنكتة التي ذكرناها آنفا، أي بقاء الهامش مفتوحا أمام الممارسة الحجاجية ومقتضاها انفتاح الحصر لو صح التعبير، أي أن لا يكون حصرا عقليا ولا حتى منطقيا، بل لنقل حصرا حجاجيا مفتوحا على الاحتمال، حصرا مقاميا ليس إلا. ولا نخال أنه فاته من وجوه الاستشكال أمر ورد في زمانه أو حتى في زماننا، إذ كل الاستشكالات لم تبرح أن تكون واحدة من تلك المقامات أو جزئية قابلة للانضمام إلى کلي هذه

ص: 220

المقامات .. ويشهد الجدل الجاري حول موضوع الغيبة والمنکرین على الإمامية الإثني عشرية، على أن النقاش لم يبرح الخطوط العريضة لهذه المقامات التي حددها الشيخ ميثم في أربعة مقامات، ولا من أنكر أتي بما يصلح أن يكون قيمة مضافة في هذا المجال .. فيتبين أن المعالجة الميثمية هي معالجة حية ومعاصرة، بل لعل الكثير من معطيات العلم الحديث تؤكد أهميتها وتجعلها قابلة لأن تقرأ أفضل في عصرنا، لا سيما ما يتعلق بمسألة إمكان بقاء الأمزجة التي تجد في العلم الحديث بخصوص العضوية الحية ما يثبت به المراد . وقد استند الشيخ ميثم على هذه الطريقة كما قلنا في معرض الاحتجاج على الخصم، ولذا نصب غاية في هذا الاختيار المناهجي لعرض بحث الغيبة لما قال: «وعند بيان هذه الأمور نبين لك أن إنكار ما يقول الاثني عشرية في أمر الغيبة جهل محض من منکریه، وعصبية باطلة في مقابلة الحق» [ص191]..

ولا غرو أن يقظة الشيخ ميثم المنطقية تجعله لا يلقي الكلام على عواهنه في المقام. فوصفه للجهل هنا بقيد المحضية احتراز عن المركب، كما لو كانت المحضية في المقام مرادفة للبساطة، للجنبة المعروفة في هذا التمييز، حيث لو وصفهم بالجهل المركب لكان قد ألقى عن كاهلهم مسؤولية النظر، واعتبر جهلهم المركب مما يستوجب فراغا يقينيا لمقام القطع الذي قد يشتمل على الجهل

ص: 221

المركب، الذي هو من أقسام العلم عند شرذمة من القوم. فاعتبر الأمر مضارعا للجهل البسيط الذي لا يفرغ ذمة عند التهاون في البحث والتراخي في طلب الحق.. وهذا ما تفسره قرينة السياق حينما اعتبر الإنكار على الإمامية في المقام من باب العصبية الباطلة مقابل الحق، حيث التعصب للحق أولى .. فيبدو للناظر أن حامل الجهل المركب يقع في جهلين : أحدهما جهله بالحكم الواقعي .. والثاني جهله في تطبيق الحكم الواقعي؛ وهذا تحصيل حاصل، فما دام جهل الحكم الواقعي فحكمه به سيكون تطبيقا للجهل الأول.. فالثاني من جهة مناسبته للأول هو علم، لأن الجاهل في هذه الحالة طبق ما حسبه علما و قطع به، حيث لو لم يقطع لما حكم، فهو بمنزلة العلم عنده، وهو في تطبيقه له کالعالم عند تطبيق معلومه .. لكنه من جهة الواقع هو جهل في جهل .. كمن قطع باستحقاق شخص للقتل وكان في الواقع نبيا ، وحصل التجري كما هو مبحوث في باب القطع من الأصول؛ فعلى رأي سلطان الأصوليين، لا عقاب على هذا التجري.. هذا بالإضافة إلى أن من جهل جهلا بسيطا توقف عن إصدار الحكم وكان في مقام اللاأدرية، فوقف جهله بالمطلوب الواقعي واستوى الحكم في الوسط حيث لا من مرجع علمي لطرف القبول على النكير والعكس بصح.. فحسب هذا التوجيه قد يفهم أن المحضية قد تكون إشارة إلى منتهى الجهل، وهو الجهل المركب من

ص: 222

كل الجهات، فلا يعقل حینئذ أن يكون صاحب الجهل المحض في المقام هو صاحب جهل بسيط بلحاظ النكتة المذكورة .. إلا أننا نرد ذلك بأنه لا ينكر الجاهل جهلا بسيطا أمرا حتى يكون أحد نوعين : منکر جاد قاطع أو منکر عابث مستهتر .. فالأول وهو المعتد بحكمه إن كان قاطعا بمقطوعه رائيا فيه الحق كله، ويلحق به المشتبه حيث القاطع على جهل مرکب لا يقطع إلا عن شبهة.. والثاني منکر معاند مستهتر لا يلتفت إلى قطعه عند العقلاء، بل هو معیب متي أدرك أن ذلك مخالف للحق .. وعليه فلا يحكم الجاهل جهلا بسيطا إلا إذا قطع لشبهة ما، فيلحق حينئذ جهله بالجهل المركب وخرج تخصصا عن مقامنا .. أو يكون مستهترا عابثا فهو ملوم في تراخيه محاسب على عناده .. وأما صاحب الجهل البسيط فهو لا يحكم إلا أن يخرج من جهله البسيط إلى الجهل المركب.. وأحسب أن ذلك مراد الشيخ میثم وليس الجهل المركب، بقرينة قوله : وعصبية باطلة في مقابلة الحق.. فلو كان الجاهل قاطعا برأيه رائيا فيه الحق لما كان معنی لمعاتبته بالعصبية الباطلة.. والحق أن ما يظهر من سير المناظرة في هذا الأمر يؤكد أن مدار الاحتجاج حول جهل الخصم بالمدعی وعدم استئناسه بالمظان، ولشدة البعاد ورفض الوصال.. فإن كان مدارها بين جهل مرکب وجهل بسيط، فإن العمدة في جهالات الخصم من نوع البسيط، فيكون شيخنا قد أشغل ذمة الخصم بتصعيد

ص: 223

الجهد في معرفة الآخر قبل أن يروم هجاءه؛ فما دام أمام الجهد مندوحة فلا مسامحة مع التراخي إن كان من آثار التراخي حصول ضرر كبير لا يحتمل.. وهذه أحسبها مقدمة ضرورية في مسألة التقارب بين المختلفين من هذه الأمة .. فإلزام كل طرف بأن يجتهد وسعة في معرفة الآخر هو مقتضى التعارف المطلوب؛ معرفة متبادلة تزيل عن العقل الجهل النظري ومعروف متبادل يزيل عن القلب الجهل العملي .. وتلك غاية الإسلام أن يمحو من عرصاتنا الجهلين معا .. النظري والعملي .. وبتعبير آخر؛ الجهل والجاهلية ..

كيف عالج شيخنا تلك المقامات إذن، وكيف ظهر له كفايتها في إلزام من أنكر على الإمامية الاثني عشرية في مسألة الغيبة؟

في ذكر أسباب الغيبة؟

لم تأب الإمامية الحديث عن التعليل في مقام الأحكام الشرعية والسنن التكوينية، رغم اشتهارهم بحظر التعليل والقياس في الأحكام الشرعية، حيث ما منعهم من ذلك إلا اجتناب الظنون غير المعتبرة في التعدي بالأحكام إلى الموضوعات الجديدة التي لم يجدوا لها حکما، فلم يتسامحوا في اعتبار المناط وجريان القياس - فوجدوا في الأصول والقواعد ما يغني عن ظنون القياس الأصولي وما لا يبعد المكلف المعني بالخطاب الشرعي كثيرا عن أمارة لسانها کاشفي أو أصل اختصاصه إنشاء الوظيفة العملية -، وكذا في

ص: 224

المسائل التكوينية الداخلة في حاق الغيب المستور إلا ما كان منصوص العلة أكان من سنخ التشريعيات أو التكوينيات، وقصاراه ما جاء في رائعة الشيخ ابن بابويه القمي في علل الشرائع التي تضمنت الكثير من ذكر العلل في مجال التكوين العلل من خلق أمور شتى، حيث كان أجدر أن يسمي علل الشرائع والأكوان، فيكون أعم وأبلغ، وهو كما علمت تأكيد على ما جاء منصوصا من ذكر العلل . ولقد تطرق الشيخ الصدوق (ق. س) في كتاب العلل إلى ذكر العلة وراء غيبة الإمام استنادا إلى نصوص تکاد تشترك جميعها في علة الخوف من القتل. وهو مقتضى النقل الذي بني عليه شيخنا البحراني كما سنرى.. ولا شك أن الخوف من القتل في المقام ليس من جنس الخوف المتعارف عليه عند عموم الخلق، بدافع الحرص أو الضعف الشخصي وما شابه . فمثل هذه الأحاسيس التي يشترك فيها بنو آدم بنعين مقاربتها تنسيبا بحسب مقامات الأشخاص ومكانتهم الاعتبارية ؛ فليس خوف زید کخوف عمرو في التقدير العادي للخوف كإحساس له أكثر من سبب وله أكثر من مرتبة في الشدة والضعف باعتبار حاله في التشكيك .. لأن عدم التحقيق في : بأي نوع من أنواع الخوف يتعلق خوف الإمام - بعد أن سلمنا بأنه معصوم في مبحث الإمامة ضرورة -، هو تهافت مرفوض.. فلا يجوز في حقه ضروب الخوف التي لها دوافع ناشئة من ضعف الشخص ونقص في

ص: 225

أحاسيسه بينما هو الإنسان الكامل، إلا أن يقال أنه خوف من جنس خوف موسی علیهم السلام ؛ حينما أخبر القرآن عنه : « فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظلمين» (1) .. فمقتضى التناسب الوقوف عند من يخاف ممن؟! وكذا منشأ الخوف وغاياته ؛ فكل بحسبه .. ولذا وبناء على ما سلف، يكون خوف الإمام ليس خوفا شخصيا بل هو من جنس الخوف النوعي؛ الخوف من القتل الذي يؤدي إلى خلو الأرض من الإمام، حيث لو حدث ذلك لا سمح الله لساخت الأرض كما في الروايات، فيكون خوف الإمام شاهدا على عصمته ومقامه، حيث هو خوف على الرسالة وعلى الأمة؛ وإلا فهو مدرك أنه مشمول في من عصمهم الله ، ومصداق : « وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ، حيث ليس في المقام ما يؤكد على الموت الاخترامي، الذي تتعطل فيه أدوار الرسالة والإمامة .. ومن ثمة ندرك مغزى أنه لا بد له من غيبة . في هذا الضوء نستطيع فهم الأسباب التي جعلت شيخنا ميثم البحراني يقيم دليله على أسباب غيبة الإمام على الخوف في المرتبة الأولى، لوجود أخبار كثيرة تشترك في ذكر تلك العلة دون أن تجعل الحكمة وراء الغيبة كلها في جانب هذا الخوفكما سنرى لاحقا (2) ... في ذلك إشارة إلى ما زعمناه في حق الطريقة الميثمية :

ص: 226


1- سورة القصص، الآية: 21.
2- من تلك الأخبار على سبيل المثال لا الحصر، ما رواه صاحب علل الشرائع في باب علة الغيبة، عن أبي عبد الله البرقي عن محمد بن عمير عن أبان وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله : «لا بد للغلام من غيبة ، فقيل له ولم يا رسول الله، قال: بخاف القتل».. وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: إن للقائم منا غيبة يطول أمدها ، فقلت ولم ذلك يا ابن رسول الله، قال:إن الله عز وجل أبي إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم وإنه لا بد له یا سدیر من استيفاء مدد غيباتهم...» الشيخ الصدوق، علل الشرائع ص 343، الناشر مكتبة الداوري / قم.

أي تقيدها بالمنقول، وبناءها عليه في عملية الحجاج.

يدرك شيخنا البحراني أن استدلاله على الغيبة متصل على نحو نسقي مع بحث الإمامة، لذا ففي حديثه عن سبب الغيبة يرجع القارئ إلى ما سبق من بحثه حول الإمامة ووجوب عصمة الإمام، حيث هناك ذكر سبب انبساط يد الإمام المركب من ثلاثة أجزاء:

الأول : ما يجب من الله وهو إيجاده وإكماله في ذاته

الثاني : ما يجب على الإمام نفسه وهو القيام بأعباء الإمامة

الثالث : ما يجب على الخلق وهو الانقياد للإمام ومساعدته في تنفيذ أوامر الله تعالى والقيام بها ..

وقد جاء ذلك في سياق حجاجي حول وجوب عصمة الإمام من باب اللطف . وكان قد استعرض استشكال الخصم حول نكتة اللطف المذكورة،حيث لو ثبت اللطف المزعوم على الله لفعله، «ولو فعله لكان ظاهرا» .. حيث يعلم ضرورة أن المقصود لو حصل كان ظاهرا «متمكنا من الترغيب والترهيب».. فلا تقوم المنفعة مع خفائه عن الخلق. في هذا السياق إذن جاء ذكر الشيخ في المقام الأول للأسباب المركبة لانبساط يد الإمام .. وعلى أساس الماهية المركبة رد الشيخ ميثم على استشكال الخصم، حيث قوام الماهية المركبة بأجزائها .. فمتى لم يتحقق جزء منها وهو ما وجب في حق الخلق

ص: 227

على التقسيم المذكور، وإن تحقق ما في حقه تعالى في إيجاده وإكماله وما في حق الإمام نفسه من قيامه بعبء الإمامة، لن يكون أي معنى للظهور ضروري نظرا ولا فعل نافع مفید عملا (1)، «فقد ظهر من ذلك أن سبب غيبة الإمام هو قوة الظالمين والخوف منهم».. ومع ذلك يفترض الشيخ ميثم عدم كون الخوف علة لغيبته ، فلا يمنع ذلك من القول بوجود مصلحة خافية من غيبته لا يطلع عليها.. وهذا لعمري ما أثبته في قواعد المرام، حيث أثبت عدم وجوب ذكر السبب - «ولم يجب علينا ذكر السبب» (2) - بعد أن سلمنا

ص: 228


1- هذا دون أن ننسى أن له (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أدوارا بحسب الممكن المناح وعلى قاعدة الميسور العامة، في شوون خاصة كما نهض بنظائرها العبد الصالح الخضر - والمهدي هو خضر الأمة -، فهي نافعة نفعا شخصيا، وعلى ذلك النحو حال الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في انتظار النفع الأكبر والنوعي، ولولا ذلك لما قال تعالى تأكيدا لما ينطوي عليه الانتظار من شوون عظمی : «وبقية الله خير لكم»..
2- قواعد المرام في علم الكلام، ص 190، تحقيق السيد أحمد الحسيني مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ط 2.

بأنه المعصوم، ما يعني أن غيبته كانت عن طاعة لا معصية .. كما أكد هناك على أن ذلك السبب قطعا ليس من الله لمناقضته لغرض التكليف ولا من الإمام لكونه معصوما فلا يصدر عنه ذلك لمعصية ، انحصر السبب في الأمة والخوف وعدم التمكين، فلا إثم في ذلك وإن ترتب عليه تعطيل الحدود والأحكام عليهم.. فما على الله وما على الإمام هو جزء من السبب المركب لانبساط يد الإمام، ومع اختلال شرط واحد، لا يتحقق انبساط اليد.. فليست الغيبة واجبة إلا مع غياب هذا الجزء من العلة المركبة، ومع تحققه وارتفاع ما يمنع التمكين أصبح الأصل في الوجوب هو الظهور لا الغيبة، «والظهور واجب عند عدم سبب الغيبة» (1) .. فالإطناب في ذكر الأسباب وحصرها في الأمة وبيان سيران اللطف مع غيبته هو دفع الشبهة ما فتئ يتذرع بها خصوم الإمامية في حجاجاتهم.. وعجبا أن يرد بعد الشيخ ميثم البحراني من عاد إليها دونما بناء على ما تم دفعه من اعتراض، نذكر مثالا على ذلك ما أورده التفتازاني في شرح المقاصد: «زعمت الإمامية من الشيعة أن محمد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفا من الأعداء، ولا استحالة في طول عمره کنوح ولقمان والخضر».. وأنكر ذلك سائر الفرق، لأنه ادعاء أمر مستبعد جدا، ولأن اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر

ص: 229


1- المصدر نفسه، ص 191.

منه إلا الإسم بعيد جدا، ولأن بعثه مع هذا الاختفاء عبث، ولو سلم فكان ينبغي أن يكون ظاهرا، فما قيل أو فما يقال: «إن عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعکس شيء لا مستند له، فلا ينبغي أن يعول عليه» (1) .. وهو اعتراض متأخر رتبة عن ردود ودفوع الشيخ ميثم وإن کان ورود الشيخ مسعود التفتازاني في القرن الثامن .. ومثله فعل ابن تيمية في منهاج السنة حيث جاء رده على ما تضمنه منهاج الكرامة للشيخ ابن مطهر الحلي، وقد كان هذا الأخير من تلامذة شيخنا میثم، فيقول: «وأي من فرض إمامةا في بعض مصالح الدين والدنيا ، كان خيرا ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامية» (2) .. وكما يظهر أن هذه الاستشكالات متخلفة عن اعتراضات الشيخ ميثم البحراني رغم أن هذه الأخيرة هي متقدمة في الزمان .. وهي استشكالات لا تأخذ بعين الاعتبار نكتة السبب المركب وسریان اللطف حتى أثناء الغيبة .. ومع أن مثل هذه الاعتراضات لا تصمد أمام نماذج أخرى كالدور الذي قام به الخضر، أدوار لا يستهان بها وقد خلدها الذكر الحكيم كما فصلت في سورة الكهف، وكما قلنا على وفق قاعدة الميسور العامة، فاللطف لا ينقطع وهو كذلك لأنه

ص: 230


1- التفتازاني، شرح المقاصد، ج 5، ص 313، ط1 ، 1989 منشورات الشريف الرضي.
2- ابن تيمية، منهاج السنة نقلا عن الميلاني، دراسات في منهاج السنة، ص 384، ط 1، 1419م.

لا ينقطع حتى مع اختلال السبب المركب، فما هو من الله باق في حدود ما جرت به أسبابه وما هو من الإمام يفعله بحسب قاعدة الميسور، وما هو من الأمة متى ما ارتفع خرج الأمر من قيد الميسور إلى بسط اليد والأخذ بالحكم الواقعي والدعوة للأمر الخفي، وظهر أمر الله ، فكان الظهور واجبا .. ولذا يستعرض الشيخ البحراني شبهة المعترضين الذين تساءلوا : لماذا لا يظهر لأعدائه وإن انتهی به الظهور إلى القتل كما هو الأمر بالنسبة لأنبياء كثر .. ولم لا يكون معدوما حتى يحين إمكان بسط اليد فيوجد.. وقد رد الشيخ ميثم هذه الشبهة انطلاقا مما أسس عليه القول أول مرة في مسألة ذكر السبب من الغيبة، وهو أننا بما أننا انتهينا وسلمنا بعصمة الإمام، أدركنا بالضرورة أن ظهوره لأعدائه ليس تكليفا. بل الظهور على خلاف التكليف. وعدم ظهوره العاملا ينفي ظهوره الخاص، أو كما يعبر الشيخ ميثم بجواز ظهوره لأوليائه ، إذ يحصل بذلك اللطف لهم في غيبته .. فيبدو أن شبهة الخصم أنهم جعلوا اللطف قصرا على الظهور وسارقوا بين الغيبة والعدم.. وليست الغيبة في حقيقة الأمر سوی خفاء أمره مع استمرار فعاليته ولطفه بحسب المتاح المقدور ... على أن أمر المهدي الذي خفي أمره عن الأنظار ليس أمرا كما يتوهمون، بل هو أمر جلل، وعظيم، فهو بقية الله .. لكن الشيخ میثم يذكر شيئا غير هذا، فيقدم من مصادیق اللطف في الغيبة وسريانه «إذ لا يأمن

ص: 231

أحدهم إذا هم بفعل المعصية أن يظهر الإمام عليه فيوقع به الحد، وهذا القدر كاف في باب اللطف» (1) فهو تأكيد على أن اللطف أمر یزید ويضعف بحسب الاقتضاء .. لكن لو تحقق منه هذا اليسير الوجب في حقه تعالى، لأن به یتیسر الطريق إلى الطاعة كما لا يخفي .. ولم يأت الشيخ ميثم هنا بما هو متعذرا على الاستيعاب، بل إن ما بدا من أمر الخضر کما حدثنا القرآن، أنه أقام الحد وتصرف بأكثر مما يتم أحيانا في الظاهر، كخرقه للسفينة واستخراجه للكنز وقتله لنفس .. فالشيخ ميثم يميز في المقام بين الغيبة والعدم، فيرى أن اللطف ثابت في الغيبة لكنه ليس كذلك في العدم.. وهو بذلك يكون قد أرسى قاعدة أساسية، وهو أن المدار في المسألة هو اللطف وليس الغيبة، فالغيبة عارض متی ارتفع السبب وجب الظهور، لكن مع وجود اللطف وبقائه مع الغيبة تكون الغيبة مقدمة على العدم وأنفع من باب اللطف .. فما أوجب الظهور هو اللطف، وما أوجب الغيبة هو اللطف أيضا ..

في ذكر إمكان بقاء المزاج الإنساني

في المقام الثاني من بحث الشيخ ميثم لمسألة الغيبة من كتاب النجاة ، یطرق قضية أساسية تتعلق بإمكان بقاء المزاج الإنساني لمدة

ص: 232


1- قواعد المرام، ص191.

أطول من المعتاد.. وقد استند إلى قاعدة الإمكان، وإلى أن الوقوع نفسه خير دليل على الإمكان .. وكان لا بد من أن نتأمل قيمة هذا الاستدلال خارج حدود المنطق الصوري نفسه، حيث أمكن تعزيزه بما يثبته العلم في العضوية الحية اليوم، من أن السؤال حول لماذا يبقى الإنسان فترة طويلة على قيد الحياة لا يستدعي الغرابة بمقاييس العلم الحديث من السؤال : لماذا يموت الإنسان؟! فالإنسان مزود بكل وسائل الاستمرارية والمناعة، وإن الشيخوخة والمرض والموت بمدلولها البيولوجي هي عوارض على كمال العضوية الحية، فليس مستحيلا في نظر البيولوجيا أن تمتد حياة الإنسان إلى آماد طويلة .. لكن بالنسبة لشيخنا میثم الذي عاش قبل قرون لم تصل البشرية إلى تحقیق ثورتها في مجال علم الأحياء وما يعضدها من علوم أخرى، لا يجد غرابة في التأكيد على علمية هذا الضرب من الغيبة تخفيفا من ساحريته وغرابته، ليجعله أمرا ممكنا في عالم الإمكان.. قيمة هذا الاستعراض لأمثلة حية يعزز هذا الإمكان والذي وجدنا له نظائر فيما صنفه أعلام الإمامية كما فعل الشيخ الطوسي مثلا في كتاب الغيبة ، إنما هو ضرب من الحجاج الذي يريد البلوغ بمسألة الغيبة إلى درجة من التفهيم الإيجابي الممكن الذي يخرج الموضوع من حاق الغيبيات البعيدة عن الحس إلى حاق عالم الواقعيات الممكنة بناء على قاعدة : الوقوع خير دليل على الإمكان.. هكذا يرقى البحث في

ص: 233

إمكان بقاء المزاج عند شيخنا میثم إلى مصاف الضروري في الاعتقاد، أو كما قال : « ويدل على ثبوت الإمكان تواتر الوقوع»..

في ذكر ثبوت البقاء في أمزجة مشهورة..

يستند الشيخ ميثم البحراني على أدلة ملموسة في إثبات إمكان بقاء المزاج الإنساني .. وذلك في سياق النزول بمفهوم الغيبة إلى حدود المدارك الواقعية الملموسة القريبة من الحس والخيال .. فإذا أمكن ثبوت بقاء بعض الأمزجة ممن عاصرهم أو عاصرهم من يوثق في روايته أو ما يعاصر الناس من تلك النظائر في كل جيل، فإن ثبوته في الکمل هو من باب الأولوية القطعية .. هذا ما يفهم من إيراد الشيخ لشواهد حية لأسماء ثبت تعميرها لأزيد من ثلاثمائة، وهي أمثلة كثيرة يمكن الوقوف عليها فيما ذكره الطوسي في كتاب الغيبة نظير الربيع الفزاري الذي عمر 380 سنة وعاصر بعض خلفاء بني أمية .. أو المستوغر (1) عمرو بن ربيعة بن کعب بن سعد بن زيد الذي عمر 320 وقال في ذلك شعرا:

ولقد سئمت من الحياة وطولها *** وعمرت من بعد السنين مئينا

مائة أتت من بعدها مائتان لي *** وازددت من بعد المئين سنينا

ص: 234


1- لقب مستوغرا لقوله: ینش الماء في الربلات منها نشیش الرضف في اللبن الوغير .

هل ما بقي إلا كما قد فاتنا *** يوم یکر وليلة تفنبنا

هذا بالإضافة إلى عدد من الأسماء التي ذكرها الشيخ ميثم وقد أوردها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة وأزيد منها، حيث يؤكد الشيخ ميثم على تواتر حصول بقاء وامتداد الأمزجة لمدد کهذه .. بالإضافة إلى ما جاء في قصص الأنبياء، الذين عمر بعضهم ألف سنة إلا خمسين عاما کسيدنا نوح عليه السلام وهو كاف كشاهد في المقام... وبذلك استدل أيضا في قواعد المرام.. فإن قيل إن ذكر أمثلة كهذه - حاجج بها الكثير من أعلام الإمامية خصومهم في إثبات إمكان طول المزاج لمدد طويلة على ما يمكنها من جلب القطع واليقين، إلا أن المقام يتعلق بدليل الأولوية القطعية كما تفيد قرينة الحال، حيث ثبوت بقاء الأمزجة عند عامة الخلق يؤكد على إمكانها قطعا في الکمل.. غير أن الأمر مدفوع هاهنا ، باعتبار أن القرآن وهو في المقام قطعي الثبوت وما جاء فيه من أخبار وقصص عن خصوص قصص الغابرين داخل في الظاهر وقطعي الدلالة، كان أيضا تعرض لأنواع من الغيبات بعضها تعلق بأولياء لم تثبت لهم النبوات، بل حصلت الغيبات وحصل معها بقاء الأمزجة لفترات في كائنات موصوفة بقصر التعمير ، ککلب أهل الكهف الباسط ذراعيه بالرصيد السنين عددا ضارعت عمر أهل الكهف أنفسهم.. فهي شواهد تفيد الأولوية القطعية .. وحتى لو اقتصرنا على مثال بقاء الأمزجة عند

ص: 235

بعض الأنبياء المعمرين، فذلك يحوي إشارة لطيفة، حيث لا مدخلية للنبوة في إمكان بقاء المزاج، ما دام لم يتحقق التعمير في حقهم جميعا، بل إن وقوعه مخالف للعوائد إلا أن يكون ذلك من باب الإعجاز .. والإعجاز علی ندرته دليل إضافي على الإمكان، بل الإعجاز في كل ما عدا ذلك لا يختص بالنبوة وغيرها في مقامنا حيث ثبت التعمير لأهل الكهف وكلبهم، فتأمل!

وقد استدل شیخنا میثم في النجاة وكذا في قواعد المرام بدلیل المعمرين من عامة الخلق وهو في حكم المعتاد، وأيضا بما ورد من خبر نوح علیه السلام : « فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» (1) ، أيضا بدلیل ما اتفقت عليه العامة والخاصة من طول حياة الخضر وإلياس .. هناك عمد الشيخ ميثم إلى رد ما استبعده الخصم من طول مدة الغيبة إلى نكتة، تجعل السؤال ممكنا بعد ذلك، حول ما الفرق بين أن يطول عمر الأنبياء كالخضر وإلياس وعمر الأشقياء كالسامري والدجال، فهلا أمكن مثله في الواسطة، أي في الأولياء؟!

إن لسان الأدلة التي ساقها الشيخ ميثم، ترمي إلى جعل الاعتقاد بمدة بقاء الأمزجة سائغا كما لو كان من قبيل المعتاد.. فالقصد منها نزع الدهشة من الأذهان، من خلال توالي الأدلة على وقوع المدد

ص: 236


1- سورة العنكبوت ، الآية: 14.

الطولي في حياة المعمرين من العوام أو الخواص .. وهذا يظهر من كلامه : «إن من نظر في أخبار المعمرين وسيرهم علم أن مقدار عمره وأزيد معتاد» (1) . ولعله من الطريف أن نذكر كلمة للسيد ابن طاووس تكاد تكون شارحة لهذا الوجه من جعل الاعتقاد في طول الأعمار أمرا مستساغا، حيث يقول (ق. س) : «لو حضر رجل وقال أنا أمشي على الماء ببغداد فإنه يجتمع لمشاهدته كل من يقدر على ذلك منهم، فإذا مشى على الماء وتعجب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرقوا وقال أيضا أنا أمشي على الماء فإن التعجب منه يكون أقل من ذلك .. فمشى على الماء فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل تعجبهم. فإذا جاء ثالث وقال : أنا أمشي على الماء فربما لا يقف للنظر إليه إلا قليل . فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك. فإن جاء رابع وذكر أنه يمشي أيضا على الماء فربما لا يبقى أحد ينظر إليه. ولا تعجب منه. وهذه حالة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لأنكم رویتم أن إدريس حي موجود في السماء منذ زمانه إلى الآن، ورويتم أن الخضر حي موجود منذ زمان موسی علیه السلام أو قبله إلى الآن.. ورويتم أن عيسى حي موجود في السماء وأنه يرجع إلى الأرض مع المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم فهلا كان لمحمد بن عبد الله (صلی الله علیه واله و سلم)

ص: 237


1- قواعد المرام، ص191.

أسوة بواحد منهم أن يكون من عترته آية الله جل جلاله في أمته بطول عمر واحد من ذريته ..» (1).

من خلال هذا المقطع من مناظرة السيد ابن طاووس ندرك أن إيراد شواهد من عامة الخلق أو من خواصهم كما جاء في الذكر الحكيم، إنما كان كافيا للتخفيف من الدهشة ونزع التعجب وإلا انتقل التعجب إلى الشواهد نفسها، ما دام أن الشبهة في المقام تتعلق باستبعاد طول الغيبة .. فإن أمكن هنا لما لا يمكن هناك .. فليس في يدي الخصم سوی نکران لا يمنع الإمكان، بل لا يساوق ما وقع..

في ذكر أن المدعي إمامته هو هذا المعين...

وفي هذا المقام وهو الرابع، يستند الشيخ ميثم على دليل التعيين. فقد ثبت النص على هذا الإمام فيما تنقله الإمامية الاثنا عشرية خلفا عن سلف، وكان من أمر الإمام الحسن العسكري أن أظهره ونص عليه، وقد غادر الإمام الحسن الدنيا بعد أن «أكمل الله عقله وعلمه الحكمة وفصل الخطاب».. لقد اكتفى الشيخ البحراني بأدلة الإمامية في المقام، ولم يقف عند الأدلة الواردة عند العامة وبعض الآثار التي تصلح قرائن على صحة المولد وصدق الغيبة ..

ص: 238


1- کشف المحجة نقلا عن الإمام المهدي : حقيقة لا خيال، الشيخ كاظم جعفر المصباح، ص240، ط1، مؤسسة الأعلمي، بیروت 1998 .

وهذا مصداق لما سبق من وصفنا للطريقة الحجاجية المتبعة من قبل الشيخ ميثم، حيث ختم بالقول: «ولو سلمنا أنه لم يوجد بقاء المزاج الإنساني إلى الحد المذكور إلا أن ذلك من الأمور الممكنة، والله تعالى قادر على جميع الممكن، ومن مذهب الكل أن خرق العادة في حق الأولياء والصالحين أمر جائز وحينئذ يكون الاستنكار والاستبعاد

قبيحا»..

فقد عاد إلى مفهوم الإعجاز ليؤكد أن الدليل البرهاني إن لم يف بالغرض، فنحن أهل عقيدة وإيمان، فأمكن أن نتقبل ذلك تقبل المعجزات التي هي عنوان القدرة الإلهية، ما دام حصل الدليل النقلي على ذلك .. وما يعزز رأينا في عدم استشهاده في المقام بما في مظان العامة قوله في قواعد المرام: «وهي - أي أخبار ما يعرف به الأئمة من كرامات ومعجزات - مسطورة في كتب الآثار عن الأئمة الأطهار من رامها طالعها في مظانها» (1) . أما ما كان من الطريقين اللذين سلكهما في الاستدلال على التعيين، أي ما تواتر من أخبار الإمامية وأيضا ما روي عن الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) من أن ابنه الحسين «إمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمة، تاسعهم قائمهم.. » كاف لكنه في الحجاج مطلوب الإكثار لا لعدم كفايته في المقام، بل لمقتضی الحجاج لا سيما التأكيد على ذكر سنده الثابت عند العامة وتحديدا

ص: 239


1- المصدر نفسه، ص 190.

ابن حنبل .. غير أن الحديث عن المعين يقتضي دفع كل ما من شأنه أن لا يجعل الإمامة تصل إلى الثاني عشر، ومنه دفع آراء بعض الشيعة الذين أنكروا بعض الأئمة، وهو ما يستدعي إثباتا لواحد واحد من الأئمة. لذا نعتقد أن هذا البحث كان شديد العلقة ببحث الغيبة ومسائلها . وقد حاول الشيخ ميثم أن يؤسس قاعدة للنقاش تستدعي ثلاث نقاط أساسية: إحداها بما أن لا أحد ممن ادعت الطوائف الأخرى معصوم بالاتفاق، فإن ما ليس بمعصوم لا يكون إماما، حيث يمكننا القول أن الوجه الذي يجب به الإمام من باب اللطف هو عصمته لا مجرد الأعلمية .. وثانيها أن لا وجود لنص على إمامة أحد ممن زعمت الطوائف المذكورة، وثالثها وبموجب قاعدة الحسن والقبح العقليين المتفق عليها من قبل الشيعة قاطبة ، تثبت أن الحق لو كان مع هذه الطوائف لما انقرضت .. «حيث لازمه خروج الحق عن الأمة».. لقد حاج الشيخ ميثم البحراني كل هذه الفرق ودحض مزاعمها بطرق حجاجية سائغة مستوعبا كافة إشكالاتهم مفندا إياها واحدة واحدة، إذ وقع عند عشرة ادعاءات بدءا بالكيسانية ومرورا بالزيدية والناووسية والاسماعيلية والشمطية والفطحية والممطورة والطائفة التي ادعت إمامة أحمد بن موسی والأخرى التي ادعت إمامة محمد بن علي والتي ادعت أن الحسن بن علي لم يمت.. كان الحجاج نقلية وعقلية، حيث اكتفى الشيخ ميثم

ص: 240

بذكر الأمثلة العشرة دون أن يتطرق إلى ما عداها مبررا ذلك بقوله: « فهذا هو الكلام على الطوائف المشهورة منهم، وأما الباقون فكلامهم ظاهر الفساد» (1). والحق أن هذا حجاج شيعي - شيعي بامتياز، وهو ما ميز الإمامية الإثني عشرية، حيث بات واضحا أن أي ادعاء وزعم لا يستند إلى دليل وبرهان لن تقوم له قائمة .. فتكون بذلك الاثنا عشرية وحدها القادرة على الدفاع عن عقائدها بدلیل العقل والنقل، وتنازل جميع خصومها المناظرين بالحجاج والبرهان (2) ... لقد رد مقالة الكيسانية التي زعمت الإمامة لمحمد ابن الحنفية ونفتها عمن دونه.. ذلك لأنهم بعد أن رأوا في محمد بن

ص: 241


1- النجاة ، ص207.
2- لا يوجد ما يفسد في قضية الود حينما يكون النقاش علميا ليس فيه تجريح لحامل هذا الرأي أو ذاك .. وحبذا لو أمكن المسلمين أن يرقوا إلى أن يعالجوا خلافاتهم العقائدية بالحجاج السائغ مع حفظ مبدأ الأخوة، إذن لأمكن أن يتقدموا بآرائهم ويطوروها ..لقد بدأت المعتزلة والأشعرية وباقي المذاهب الكلامية الأخرى متواضعة جدا، لكنها سرعان ما نضجت واتسعت عبر طبقاتها واشند رأيها وقویت حجتها، وكل ذلك مرده إلى الممارسة الحجاجية .. فالحجاج وحده يستطيع أن يمكن المدارس الاسلامية المختلفة على التطور بصناعتها الكلامية.. ذلك كما سبق وذكرنا بأن طريق الحجاج مفتوح، وهو يمكن الحجاجي من إعادة الكرة تلو الكرة في مسيرة الحجاج المفتوحة واللانهائية .. فهذا التفنيد الصادر من أمثال الشيخ ميثم هو حجاجي يقصد تفنيد الرأي لا استئصال الرائي، فشتان بين منطق الحجاج وبين إرادة التجريح..

الحنفية الإمام وأيضا القائم المهدي، قضوا بأنه لا إمام غيره وبأنه لا يموت إلا بعد الظهور حتى لا تخلو الأرض من حجة .. وقد استدلوا على إمامته بقول علي بن أبي طالب لابن الحنفية : «أنت ابني حقا».. واستدلوا بكونه صاحب راية علي بن أبي طالب عليه السلام كما كان هذا الأخير صاحب راية الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) .. وعلى كونه المنتظر بقوله (صلی الله علیه واله و سلم) : «لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي اسمه اسمي وکنیته کنيتي واسم أبيه اسم أبي» على أن من أسماء علي عبد الله لقوله: «أنا عبد الله وأخو رسول الله .. الخبر»..

وقد استدل الشيخ ميثم على فساد هذه الدعوى التي رآها غير موجهة، بأمور، منها أننا لو سلمنا بأن خبر «أنت ابني حقا» صحيح وهو كذلك لا يشك فيه أحد، إلا أنه لا يفيد خصوص الإمامة.. وهذا واضح حيث التخصيص يحتاج إلى قرينة مطمئنة، لذا حمله الشيخ ميثم على معنى الشجاعة وطيب المولد تشجيعا من علي بن أبي طالب علیه السلام لابنه محمد ابن الحنفية رضی الله عنه على ما كان منه من بلاء حسن .. فأما كونه صاحب راية أبيه، فلا يكفي دليلا، ولو كان كذلك وجب أن كل من حمل راية الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) أو راية الإمام علي عليه السلام نص على إمامته ؟! وأما كونه المهدي فليس في لسان الخبر ما يثبت سوى أن الله يبعث رجلا بتلك الأوصاف ولا يفيد أن المعين هو هذا الشخص، هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن عبد الله إسما لعلي

ص: 242

بن أبي طالب، فالمقصود من الخبر المذكور أنه نسب لنفسه العبودية لله ليس إلا .. هذا دون أن ننسى أن محمد بن الحنفية لم يدع الإمامة وقد أنكر ذلك أمام أنصار المختار الذي سار في طلب الثأر للإمام الحسين عليه السلام . وقد سميت الكيسانية نسبة إلى کیسان وهو اسم للمختار.

ورد الشيخ ميثم على مدعى الزيدية التي ترى أن الإمامة في علي والحسن والحسين ثم علي بن الحسين ثم كل فاطمي خرج بالسيف هو مستحق للإمامة. وقد رأوا في زيد بن علي إماما نظرا لعلمه وزهده وأمره وجهاده .. لكن الشيخ ميثم يذكر بأن شرائط الإمامة هي غير ما ذهبت إليه الزيدية ، بقدر ما هي العصمة والنص، وهما لا يثبتان في حق زید رضی الله عنه ، وليس لأحد أن يدعي ذلك إلا أن يأتي ببيان.. والحق أن ثمة ما يستحق حجاجا أطول من ذلك، فلئن زعمت الزيدية أن شرط الإمام خروجه بالسيف، فثمة من الأئمة الأوائل الذين اعترفت بهم الزيدية من حمل السيف ولم يحمله بحسب الظروف .. فالحسن علیه السلام وافق على الصلح، ولم يرفع السيف بعدها كما لم يرفع الحسين السيف فترة الصلح.. وأيضا لم يرفع علي بن الحسين علیه السلام السيف أيضا، وكانت حياته زهدا وعلما ودعاءا وبكاء حتى سمي بالسجاد لكثرة سجوده وبذي الثفنات للنتوء الذي سببه كثرة السجود وطوله و بزین العابدين وما شابه ..

ص: 243

ورد شيخنا میثم على الناووسية أتباع عبد الله بن ناووس البصري الذين حصروا الإمامة في جعفر بن محمد واعتقدوا أنه الإمام المنتظر الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وحجتهم خبر رواه عنبسة بن مصعب عن الإمام جعفر : «إن من جاء يخبركم عني بأنه غسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه».. وقد رأى الشيخ ميثم أن هذا الخبر لا يكفي، بل إن العلم الضروري بموت الإمام لا يدفعه خبر الواحد.. والخبر قد يحتمل الصحة وقد لا يحتملها .. فإن لم يصح بطل كل المدعى وإن صح أمكن تسليط التأويل ما دام يعارض العقل حيث يجب ترجيح العقل على النقل في المقام..

ورد الشيخ ميثم على دعوى الإسماعيلية التي حصرت الإمامة في إسماعيل الولد الأكبر للإمام جعفر بدعوى عدم جواز النص على غير الأكبر أولا وثانيا لأنهم زعموا أن من خالفهم أجمع على أن الإمام نص على ابنه إسماعيل، ولكنهم رجعوا وقالوا بأنه بدا لله فيه، فلم يلزموا أنفسهم بقبول مقالة المخالف.. ويرد الشيخ ميثم على هذا الزعم بأن النص على الأكبر يكون مع شرط بقائه بعد الوالد ويمتنع مع عدمه، حيث وقوعه حينئذ يكون كذبا ما دام المتوقع من المنصوص عليه أن يكون خليفة الماضي .. وأما زعمهم أن الإجماع وقع من المخالف حول وقوع النص قبل البداء، مردود و غیر مسلم به لأن لا وجود لمن أجمع من الأصحاب على ذلك.. وأما حديث

ص: 244

البداء فلا علاقة له بالإمامة، بل يتعلق بالقتل الذي صرف عن إسماعيل، كما جاء في الرواية : «إن الله كتب القتل على ابني إسماعيل مرتين فسألته فيه، فما بدا له في شيء كما بدا له في إسماعيل»..

وعلى الشمطية القائلين بإمامة محمد بن جعفر وهم أتباع يحيى بن أبي الشمط حيث رووا خبرا عن أبي عبد الله علیه السلام : «سمعت أبي يقول: إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي فهذا الولد يشبهني ويشبه الرسول (صلی الله علیه واله و سلم) ويكون على سنته»..

لم يسلم الشيخ البحراني بصحة الخبر، ومع فرض التسليم لا يجوز العمل به في المقام لأنه من الآحاد، ومع فرض التسليم لا يؤدي إلى المراد بالدلالات الثلاث : مطابقية وتضمنية والتزامية .. لم يتوقف الشيخ ميثم عند مقتضى الدلالات الثلاث، لكننا نقول : لعله أراد بالمطابقية أن الخبر المذكور لم يكن كافيا للدلالة على تمام معناه الموضوع له، فالشبه وحده لا يتعدى في الدلالة إلى الإمامة بشرطيها - العصمة والنص - وصفاتها الأخرى .. ومقتضى الدلالة المطابقية أن يدل اللفظ على تمام معناه .. ولم يحصل هذا في المقام.. وحيث لم يثبت ذلك بالمطابقية فلن يثبت بالباقي، حيث كلاهما فرع للأولى .. فلا نتصور الجزء في التضمني ولا ما هو خارج عن المعنى إلا بتصور الكل وما هو دال على نفس المعنى ..

ص: 245

والحال أن هذا لم يقع.. فعل ذلك ما أراد الشيخ ميثم الإشارة إليه فتأمل!

لكن لو سلمنا بهذا حسب الشيخ ميثم البحراني، فسيعارض ذلك بكون محمد خرج بعد أبيه مدعيا الإمامة ومتسميا بأمير المؤمنين وهو حسب المتعارف عليه عند جمهور الإمامية أمارة على عدم استحقاق الإمامة وهو أمر منکر..

وردا على الفطحية القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر، قال بفساد هذه الدعوى لأن لا وجود لنص من الإمام على ابنه، وإنما بنوا على الأكبرية . وقد رد الشيخ ميثم القول بأكبرية عبد الله بن جعفر، مؤكدا على أن الأكبرية الإسماعيل. ورده ثانيا من حيث أن حديث الإمامة في الأكبر ورد مشروطا «ما لم تكن به عاهة» .. وكل من ذهب إلى إمامة موسی ابن جعفر قالوا على نحو التواتر بوجود عاهة في عبد الله في دينه لأنه ذهب مذهب المرجئة «الواقعون في علي وعثمان» وقول أبي عبد الله علیه السلام فيه: «هذا مرج کبیر» وقوله «أما علمتم أنه من المرجئة» .. هذا فضلا عن أنه لم يتميز عن العوام ولا كان صاحب رواية في الحلال والحرام ولا أهلا للإفتاء ولا كان يجيب في المسائل الصغيرة التي تعرض عليه لما امتحن بها عند خروجه وادعائه الإمامة.. فتلك وجوه کافية تشهد على عدم استحقاقه لها ..

وأما دعوى الممطورة الواقفين على إمامة موسی علیه السلام فشبهتهم في

ص: 246

ذلك لدليلين: الأول قول أبي عبد الله علیه السلام : «ياحميدة بخ بخ، حل الملك في بيتك» وقوله: «اسمه اسم حديدة الحلاق».. فرد الشيخ میثم أولا بأن المراد بالملك هنا هو الإمامة على الخلق، وثانيا، عدم التسليم بصحة الخبر ومع فرض التسليم لا يفيد المعنى المذكور بل قد يفيد معنى القائم بالإمامة بعده ..

وأما القائلون بإمامة أحمد بن موسی، بناء على كون الإمام موسی وصى بالإمامة إليه وبناء على كون أبي جعفر كان صغيرا، فإنه مردود عليهم حسب الشيخ البحراني، بعدم التسليم بصحة النص على أحمد بن موسى أولا، فلم يره أحد من النقلة المعتبرين من الإمامية .. وأما عن كونه صغير السن ففيه التباس، حيث كمال العقل عند حجج الله لا يعارض بصغر السن وقد رأيت مثالا في القرآن لذلك : « كَيْفَ نکلم مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا لَا قَالَ إِنِّى عَبْدِ اللَّهِ ءاتني الکتب وجعلنی نَبِيّاً» و « وَ ءاتينه الْحُكْمَ صَبِيًّا» ..

وأما القائلون بإمامة محمد بن علي، بعد أبي الحسن علي بن محمد، بنص هذا الأخير عليه فهو مردود من قبل الشيخ البحراني، بسببين: أنه لا وجود للفظ يؤكد ذلك فوجب أن يأتوا به هذا أولا .. وثانيا أنهم انقرضوا ولم يبق منهم من يعد بنقله ولا من يعتبر رأيه حجة في تعيين الإمام ...

أما الذين زعموا أن الحسن بن علي لم يمت، فشبهتهم في ذلك

ص: 247

لو أنه مات وليس له ولد لخلا الزمان من إمام معصوم .. ورد ذلك حسب الشيخ ميثم أن موت الإمام معلوم بالضرورة .. كذلك لا نسلم بعدم وجود الولد بعد أن أثبت له جمهور من الإمامية الولد وسموه وشخصوه وظهر لهم ورووا فائضا من الأخبار حول المولود ...

نقول: إن مجمل هذا الحجاج الشيعي - الشيعي حول الإمام المعين يعزز أمورا منها :

- أن وراء كل هذا الخلاف اتفاق على أمور منها وجوب الإمام مع تفصيل في المقام، وأيضا كلهم يؤكد على ثبوت المنتظر وان أخطأ بعضهم المعين .. ليكون الخلاف شخصيا لا نوعيا ...

- وهذا الاختلاف ليس فيه ما يخدش في صدق المهدوية والغيبة بل هو اختلاف تفصيلي نابع عن شبهات، يؤكد على صدق القضية، حيث النزاع حول قضية ثابتة لا خلاف حولها من جهة التعيين بل من جهة المعين ..

- أن المدار هو الدليل، حتى أولئك الذين تشبثوا بأدلة واهية لم تكن آراؤهم عارية عن دليل نقلي وعقلي، فحق عليهم إن راموا الدليل أن يأتوا به موجها والخضوع لمنطق الحجاج والبرهان...

- أن يتصدى الشيخ ميثم لكل هذه الإدعاءات لا يعني أن هذه الطوائف كلها متفقة ضد الإثني عشرية، بل مودی کل دعوى من هذه

ص: 248

الدعاوى أن تجعل كل طائفة في مواجهة كل الادعاءات العشر المذكورة .. ولو أننا تأملنا مجمل أدلة الطوائف الأخرى سنجد أن الدليل الأقوى هو دليل الإمامية الإثني عشرية، نظرا لأنه آخذ بالعقل المطمئن وآخذ بالنقل المستفيض .. ففذلكاته العقلية لا تتوقف عند قرينة غير مطمئنة ونقوله المستفيضة لا تكتفي بالآحاد ولا الشاذ النادر .. فأمكن كل طائفة من هذه الطوائف أن تحتج على الأخرى بما أورده الإمامية في حقها لكنها لن تصمد أمام كثافة الحضور العقلي والنقلي الإمامي، مما يستدعي أن تزيد من الشواهد والأدلة ما يمكنها من الدفاع عن آرائها .. فالحجاج في المقام مشروع والشرط : «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقین»..

هذا الحجاج الشيعي - الشيعي كان ضروريا للمقام الرابع من مبحث الغيبة عند الشيخ ميثم، لأنه يتعلق بالتعيين. والتعيين لا يتحقق إلا بعد رد دعوی من زعم أن الإمامة تثبت في حق هذا دون ذاك .. وكونه جاء قبل مبحث الغيبة لا يضر مع وجود الإحالة.. وحيث خصصنا الحديث في الغيبة دون باقي الفصول الأخرى من النجاة ، كان لا بد من استحضار هذا البحث هنا لتكامله مع مبحثنا وللعلقة الشديدة بينهما وكونه بمنزلة لزوم المقدمة لذي المقدمة ..

في الختام

هذا غيض من فيض ما جادت به قريحة العالم المحقق

ص: 249

والفيلسوف المدقق شیخنا کمال الدین میثم بن علي بن میثم من المعلى البحراني، الموصوف بزبدة الفقهاء والمحدثين، تكفي إشارة لمعرفة بلائه المعرفي الحسن وذكائه الوقاد؛ وحجاجه في مسألة الغيبة إن هو إلا نموذج يؤكد على عبقرية من سلك سبيل الحجاج المختصر في أمر كهذا يتطلب مزید استطراد.. وفيه إشارة إلى ما له من سعة أفق، اقتدر بها على تبليغ آرائه عبر طرائق يتصالح فيها النقل والعقل والذوق، وإن كنا لا نستسيغ هذا التقسيم التعسفي، حيث كل مسالك الدليل، هي عقلية في نهاية المطاف، والنقل إنما استمد حجيته بناء على العقل، فليس كل نص هو حجة إلا نصا مخصوصا أمكن العقل التسليم بحجته، وهي مشمولة في قول الباری تعالی : « قُلْ هاتُوا برهنكم إِنْ كُنَّ صدقين»: صدق الله العلي العظيم !

ص: 250

القنبلة الدخانية

اشارة

*القنبلة الدخانية (1)

على هامش تفكيك عصابة «أنصار المهدي» التابعة للسلفية الجهادية في المغرب، والمرتبطة بتنظيم القاعدة..

تقديم جريدة أقلام الغد

حسب مصادر متطابقة، فإن مرشد جماعة العدل والإحسان عبد السلام ياسين أخبر قيادات الجماعة بالداخل والخارج وكذا بعض أعضائها المقربين منه، منذ تاريخ بعيد باحتضان جماعته لشخص «المهدي المنتظر». وأنه من موقعه كخاتم لأولياء الله يحتفظ بتحديد هويته وساعة الإعلان عن ظهوره أو خروجه، إلى أن يؤذن له بذلك، وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا . وتضيف المصادر أن السلطات الأمنية والسياسية والروحية بلغ إلى علمها هذا الخبر . وخلطت بينه

ص: 251


1- أقلام الغد: العدد 17 غشت 2006/ المغرب أجرى الحوار: عبد العزيز أبطال مدير التحرير ونور الدين بحتر/ مدير النشر .

وبين الحدث العظيم المنتظر وقوعه خلال السنة الجارية وفقا للرؤی المنامية المتواترة عن أعضاء جماعة العدل والإحسان. وهكذا شرعت هذه السلطات منذ مطلع السنة في إجراء مسح اجتماعي شامل لأعضاء الجماعة المحتمل تقديم أحدهم باعتباره المهدي المنتظر. وإن المداهمات الأمنية الأخيرة لبيوت مجالس النصيحة التي دأب على تنظيمها الجماعة كانت تندرج في إطار مذكرة البحث عن المهدي وسط صفوفها ومن ثمة إجهاض مشروع الإعلان عنه في المهد. إلا أن حقيقة الحدث العظيم هي مقدمة لهذا الظهور، لا الظهور ذاته، كما أوضحت المصادر أن جيوب السلطة والنفوذ والمال بالمغرب ستعمل على الاستغلال الأمثل والأقصى لحدث تفكيك عصابة أنصار المهدي .. إعلاميا وقانونيا لتوجيه ضربات مباشرة وأخرى غير مباشرة لجماعة العدل والإحسان. وإرغام مرشدها على إرجاء موعد الإعلان عن ظهور المهدي المنتظر بالمغرب وخروجه من بين صفوفها حاملا لرسالة عالمية تتجاوز القطر المغربي، وأن شهر شتنبر 2006 شعبان 1427 سيشهد تدافعا قويا بين دفوعات الدعاء ومخططات القضاء واختبارا صريحا للمنطق الرياضي الذي قامت عليه تعبيرات رؤية الحدث العظيم ل 2006، منطق «السبع الثالثة» أو «السبعات الثلاث» ..

«أقلام الغد» عملت طوال الأسابيع المنصرمة على فك شفرات

ص: 252

خطاب هولاء المناطقة الجدد في المشهد السياسي الوطني، واستضافت على صفحاتها الأستاذ المفكر ادریس هاني للحديث عن معتقد المهدوية عند الشيعة كما السنة، وعلاقة شرفاء هذا البلد بحادث الخروج المنتظر لشخص المهدي .. حوار جدير بالقارئ الكريم الصبر على قراءته من الألف إلى الياء، سعيا لامتلاك مفاتيح الفهم السليم لمقدمات الحدث الكوني العظيم ..

جريدة أقلام الغد

نص الحوار:

س: الأستاذ إدريس هاني مرحبا بك على صفحات جريدة «أقلام الغد» هذا المنبر الإعلامي الفتي والمتواضع الذي يحاول طاقمه مواكبة مستجدات الساحة السياسية والفكرية بالمغرب وخارجه بما استطاع من استقلالية ومهنية. انفجرت مؤخرا قضية تفكيك عصابة إرهابية تحمل إسم «جماعة أنصار المهدي» وما شد أكثر انتباه الرأي العام في حدث هذه «العصابة» حملها لاسم «المهدي» رغم تشبع أعضائها بالفكر السلفي «الجهادي» فما هو تعليقكم؟! وما هي دلالات هذا الاسم في وجدان المغاربة والعرب والمسلمين بشكل عام؟.

ج: بداية أشكركم وأقول أهلا وسهلا]، أولا على هذا الإهتمام بقضية «المهدي» وأنا شخصيا أنضم إليكم وأرى أن

ص: 253

«المهدي» من العناوين التي أسيء استعمالها واستخدامها سواء في حقل السياسة أو حقل الأفكار، لأنها للأسف قضية كبرى وعظيمة . وحتى لو نظرنا إليها برسم المعتقد الديني الإسلامي، سنجدها من المعتقدات الكبرى والمهمة والتي أحيطت بها الكثير من الأسرار على مدار التاريخ الإسلامي القديم والحديث. كما تم استعمال هذا العنوان لأغراض سياسية كثيرة فظهر مهديون كثيرون في كل الدول التي تعاقبت على حكم العالم الإسلامي. وهذا دليل على أنهم يستخدمون شيئا ما كان لهم أن يستخدموه لو لم يكن مركوزا في وجدان كل مسلم. فهي قضية كبيرة لأن كل الأديان تشارك المسلمين هذا المعتقد. وأنا أعتقد أن المشكلة ليست في عموم العنوان ولكن في تفاصيله. وإذا تحدثنا عن المغرب، فهو بلد عاقر أهله هذا المعتقد في عموماته، لا سيما إذا اعتبرنا أن الحركات الصوفية التي ازدهرت في الشمال الإفريقي كانت بمعنى من المعاني مهدوية . وحينما نتحدث عن هذا الاستخدام الخاطئ، السلبي والمدمر والخطير، فأنا أطرح سؤالا : هل المهدوية هي كذلك؟ يفهم من المهدوية في الفكر الإسلامي أنها تقدم حلا لمشكلات ليس بالضرورة أنها مشکلات محلية، بل هي مشكلات عالم بكامله. وإذا لم تتحقق في هذه الرسالة المهدية ما يشير إلى أن هناك خميرة معينة لحل مشكلات العالم كله، فلا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن

ص: 254

نتحدث عن مهدوية لا تقدم حلا عالميا . المشكل أن الناس لم تحرز فهما دقيقا وقويا ومؤصلا لفكرة المهدية ، فلذلك يمكن لأي إنسان ادعاؤها، ويكون ثمة من يقبل بذلك حتى ولو ادعاها الحمقى والمجانين.

س: إلا أن الموجة الإرهابية التي أعلنت عن نفسها بقوة من خلال أحداث 11 شتنبر 2001 جاءت بدورها لكي تجيب على أسئلة تخص العالم أجمع وتحدثت عن تحرير المسلمين والمستضعفين من هيمنة رجال الشمال وصناع الحضارة الغربية، ألا ترون أن ما كان يحملونه «الإرهابيون» ذوو التوجهات السلفية وفشلوا فيه من مشاريع للعالم أجمع تعدهم بالعدل و... و... الآن ناب عنهم «المهدويون» مرتكزين على وجود دولة تسندهم ألا وهي جمهورية إيران الإسلامية، في الوقت الذي لم يكن للسلفيين عدا إمارة صغيرة تدعى بطالبان. فيما أن الإرهابيين الجدد يرتكزون على دولة وعلى محور وقاعدة كبيرة (الشيعة) خاصة وأن «أحمدي نجاد» أعلن أنه يعمل لتمهيد الطريق لظهور المهدي المنتظر فما هو تعليقكم؟

ج: أولا وقبل كل شيء لا بد أن نميز تميزا حقيقيا بين حضور الفكر المهدوي في الفكر الإسلامي الشيعي وبين حضوره في الفكر الآخر. أعتقد أن الفكر الإسلامي الشيعي يحمل تصورا يكاد يكون موسوعيا ومفصلا في يوميات الظهور وما قبل الظهور وما بعد

ص: 255

الظهور، بحيث لا يمكن لأي شخص آخر مهما بلغت أهميته أن يدعيها . فالإسلام الشيعي محصن حصانة معرفية وعقائدية من هذه الظواهر؛ ظواهرادعاء المهدوية. وهذا بخلاف الأغيار الذين يمكن لأي شخص من الأشخاص وبين الفينة والأخرى أن يطلع على الناس ويدعي المهدوية ويصدق به بعض الناس إن لم نقل كل الناس . كيف تعتمل عقيدة المهدوية في العقل الشيعي؟ أولا حضور الفكر المهدوي بتفاصيله في العقل الشيعي يسلب من أي شخص كان أن تكون له مبادرة في أن يتسلط على العالم أو في أن يوجد مخارج شمولية ومطلقة للعالم. العقيدة المهدوية في العقل الشيعي تودي دورا تفاؤليا أو ما يسميه حسن حنفي بالتفاؤلية الشيعية. ولو أن هؤلاء الناس فيما لو كانوا مهدويين حقيقة فإنهم لا يفكرون في دولة الخلافة المطلقة، ولا في أي شيء، إنهم يؤجلون هذا الشيء لظهور القائم الذي سوف يتحرك على المستوى العالمي بأجندة لا يكاد يعلمها حتى الشيعة، سوى أن فيها ملء الدنيا بالعدل بعد أن ملئت بالجور. مشروع المهدي ليس مشروع تهديد للعالم وتخريبه، إنما هو حسب ما يحضر في العقل الشيعي أمل البشرية والمستضعفين بكل أديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم حيث أنهم يجدون فيه كل معاني الإنسانية، والعدالة الإنسانية. بهذا المعنى الفلسفي العميق والموسع تحضر عقيدة المهدي عند الإنسان الشيعي إلى درجة أنه تراه يشكك

ص: 256

بل لا يعطي حتى المشروعية لأي إنسان في أن يدعي أنه قادر أن يؤسس دولة وأن يستولي على العالم. أما ما يقال عن تصريحات أحمدي نجاد، فهذا ينبغي أن يفهم في سياقه . إذ حينما ينطق رجل شيعي سياسي ويعرض فكرته على الأنظار وفي اجتماع هيئة الأمم، فإنه كان يريد أن يعبر من منطلق عقيدته عن مستقبل أفضل للبشرية . مستقبل تستطيع فيه أن تتمتع بسلام وبعدالة. ولقد عبر نجاد عن عقيدته، ولكن هل يفهم منها مشروع لتدمير العالم؟ لا .. إن قضية المهدي قضية سامية كبيرة أكبر من العرب والفرس ومن الجميع . المهدي جاء للعالم ليحرره من كل مشكلاته هذا حسب المعتقد الديني. حتى أن الروايات التي تتحدث عن الظهور تتحدث عن أنه عصر ازدهار وعصر حل المشكلات الحضارية للعالم. وبالفعل هذا لا يأتي إلا إذا ظهر في لحظة تاريخية متقدمة جدا ومتطورة جدا بحيث يكون هناك إمكانية حضارية لحل مشكلات العالم. سيكون المهدي بحسب المعتقد قائدا ومستوعبا لكل هذا التراكم العلمي والحضاري للبشرية. فأنا لا أعتقد ومن منطلق المعتقد المهدوي الشيعي المفصل تفصيلا دقيقا أنه يمكننا الحديث عن أن أشخاصا معينين سيقومون بتخريب العالم كما نجده عند البعض من الذين لا يفهمون من المهدوية سوى هذا الأمر. وطبعا حتى الذين ادعوها عبر التاريخ من ملوك وزعماء كانوا يؤسسون من خلالها دولا وكان

ص: 257

یرسون من خلالها نوعا من الاستقرار الإجتماعي. فكانت الفكرة تأتي بكثير من الثمار السياسية ولم تكن تحمل مدلولا تخريبيا. لأن المهدوية في الفكر الشيعي هي دعوة للانتظار والتفاؤل وليست دعوة للمبادرات السيئة . طبعا حتى الذين عنونوا لأنفسهم اليوم بهذه العناوين هم بحسب معتقداتهم لا يؤمنون بذلك، أي بالمهدوية كما يؤمن بها المعتقدون بالمهدي ..

س: ألا يمكن اعتبار ظهور أحداث عظمي من قبيل أحداث 11 شتنبر 2001 ومن قبل ثورة 79 الخمينية وكذلك هذا الانتصار التاريخي لحزب الله على إسرائيل، ألا يمكن اعتبار هذه الوقائع وهذه الأحداث هي مقدمات لكي تعود الأمة الإسلامية والرسالة المحمدية من جديد للظهور عبر ظهور هذا الرمز وهذا الرجل الذي سیحاول تقديم مشروع العدل للعالم، ألا يمكن أن نعتبر أن هناك مقدمات يجب أن نعمل لها أو أن نكتفي بالجلوس فقط في قاعة الانتظار وأن نتفاءل بظهور المخلص؟

ج : هذا الجدل حدث في المحيط الإسلامي الشيعي، وأصبحت هناك نظريتان، نظرية الانتظار السلبي، ونظرية الانتظار الإيجابي التي تقول أنه يتعين على المعنيين بالأمر ألا يتركوا فراغا بحكم الانتظار. وقد حصل هذا على الأقل في إيران، لا ينبغي أن نقرأ المسار التاريخي الحديث في إيران فقط بأنه مجرد دعوات مهدوية

ص: 258

بدون أن نقف عند محطات أساسية أخرى. إذ كانت هناك ثورات ، ثورة ضد المحتل الروسي والبريطاني، ثم كانت هناك ثورة المشروطة التي كانت في الحقيقة ثورة من أجل إقرار الدستور. وكان الكثير منهم يرى أن الانتظار السلبي جعل فعاليات المجتمع الشيعي تعيش حالة من العزلة بحيث لا تتدخل في إصلاح المجتمع أو حمايته . فقاموا بالحد الأدني على الأقل أي الحفاظ على الحد الأدنى من دولة الإنسان. ولهذا هم لا يعتبرون أنفسهم يطرحون شيئا مطلقا وإنما يطرحون ما به يندمجون في المجتمعات المعاصرة في دولة تستقي مقوماتها من المفاهيم السياسية التي تسيطر على المصلحين في الإسلام الشيعي. هي لغة سياسية معاصرة، مفهومة وواضحة . ولذلك أنا أختلف في قضية الخلط بين الثورة الإيرانية وما قامت به المقاومة في لبنان وبين أحداث 11 من شتنبر . هذا الحدث الأخير كان مرفوضا من جميع المسلمين، فيما أن الثورة الإيرانية كانت مقبولة من جميع المسلمين. ولولا ما وقع من مشاكل من بعد لكان كل العرب معها لأن «الشاه» كان يقف إلى صف إسرائيل والنفط الإيراني كان كله دعامة أساسية في حرب إسرائيل على العرب ثم أنه قضى على كل آثار اللغة العربية وعلى كل مظاهر الثقافة الإسلامية ، ثم حاول أن يستغل التشيع الإيراني لفرض نوع من العزلة على المجتمع الإيراني والتميز به. ولذلك جاءت الثورة من أجل المصالح

ص: 259

العربية ومن أجل المظاهر الإسلامية وحتى التاريخ الإسلامي الذي أراد أن يغيره الشاه عاد موجودا وراسخا في إيران. ولولا أن هناك ظروفا دولية أسفرت عما عرفناه بالحرب الإيرانية العراقية الخاطئة التي راح فيها ضحايا كثر، لولا هذا ، فلقد كانت الثورة على الشاه ثورة على شخص أراد أن يسرق إيران وأن يخرجها من حظيرة العالم الإسلامي. وكل أقطار الخليج يدركون ذلك، يدركون الدور السلبي الذي كان يلعبه الشاه، وكان بمثابة العصا التي تضرب على يد كل متمرد على السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. والمقاومة التي انطلقت من جنوب لبنان، أيضا كانت واضحة من حيث اللغة السياسية. والعالم كله كان معها، أقصد الشرفاء والأحرار في العالم. ولقد رأى الجميع ذلك، ولا أحد في العالم الإسلامي والعربي إلا وأدرك ذلك بوجدانه حتى المرأة الأمية وحتى الفلاح في كل بقاع وأنحاء العالم العربي والإسلامي. وهذا دليل على أنها كانت تتحرك ضمن لغة سياسية واضحة، إن السيد حسن نصر الله أطلق المقاومة للدفاع عن وطن ولإعطاء درس للمعتدي ولعدو كان كلما أراد أن يجدد رسالته للآخرين عمل لإمداد - إن صح التعبير - الهزيمة العربية بالمزيد وتعزيز استدامتها بضربات أخرى. الآن أصبح هذا صعبا، وإن اللغة السياسية إذا انطلقنا من منطلق الحرب هي استمرار للديبلوماسية وما قامت به المقاومة وهي جزء من الدولة

ص: 260

اللبنانية، هو عمل مشروع، مقاومة من أجل وطن. ثم إن السيد نصر الله لم يدع لتأسيس الخلافة أو لأي أمر خارج الحدود السياسية اللبنانية. والرجل لم يسئ حتى للرسميين، طالما أنه قال «اتركونا نقوم بما نقوم به». إنما قاوم وتحدث بلغة سياسية يفهمها العالم كله، لكن حينما نتحدث عن أحداث 11 شتنبر نتحدث عن حجم من الضحايا غير مقبول ومرفوض بكل المقاييس الفتوائية . ولم يكن محل إجماع العرب والمسلمين. بيد أن مقاومة حزب الله عمل مشروع ووطني. لا أعتبر أحداث 11 شتنبر سوى محطة أليمة على المسلمين أكثر منها أليمة على الولايات المتحدة لأننا نرفض الإرهاب، حتى لو وقع باسم المقاومة ضد الأمريكان. هذه مسألة مبدئية، ولذلك نحن نجد أن المقاومة في جنوب لبنان حاولت قدر الإمكان ألا تمس المدنيين وكانت إسرائيل هي التي تمارس الإرهاب وتقتل الأبرياء. لكن مقاتلي حزب الله كانوا يقاتلون في الميدان . لذلك آن الأوان لكي نميز؛ وأعتبر أن الوجدان العربي المسلم له معايير بها يدرك الحقيقة. لذا لا أعتقد أن أحدا في العالم العربي إلا وكان يقف بوجدانه مع ما حدث في المقاومة الوطنية بالساحة اللبنانية .

س: لكن الأنظمة العربية وأنظمة العالم الإسلامي ككل غالبا ما تتوجس من أية حركة مقاومتية، ولقد استطاعت هذه الأنظمة تدجين

ص: 261

كافة حركات المقاومة داخل ترابها إذا ما استثنينا الساحة الفلسطينية وإن كانت هذه الأخيرة تشهد بدورها ضغوطا على المقاومة من لدن مؤسسات السلطة الفلسطينية على مستوى الرئاسة. أجل للشعوب موقف آخر، لكن الملاحظ أن هذه الشعوب تعاطفت وجدانيا اليوم مع مقاومة حسن نصر الله أكثر مما تعاطفت مع ثورة الخميني، فهل لحضور العرق العربي في هذه الحرب أثر على تحصيل هذا الإجماع؟

ج: قد يكون هذا فيه شيء من الصحة لكن علينا أن نقرأ التاريخ جيدا . ما حدث في إيران حدث في زمن لم يكن هناك انتشار إعلامي تواصلي كبير.. لم تكن وسائل اتصال ولم يكن هناك تقدم في المجال السمعي البصري بقدر ما هو عليه اليوم. الآن السيد حسن نصر الله يقود الحرب ويتحدث متى شاء وكيف شاء ويصل خطابه للناس جميعا . أنا أعتبر أن الناس تعاطفت مع حركة السيد نصر الله لسبب بسيط، هو أنه خاض مقاومة نظيفة منذ بداية المعركة إلى نهايتها ولم يسئ لأحد في خطاباته. لم يشط في خطابه حيث كان يحدد أهدافه بكل تواضع. إن السيد حسن نصر الله والمقاومة اللبنانية أدركت أن هدفها هو لبناني محض : أن تطرد معتديا غزا أرضا لبنانية وأن تقاوم محتلا . وغير هذا لم تطرحه. وأهم قيمة توصلت إليها المقاومة وهي أنها أدركت أهدافها وحددتها ولم تشط خارج ذلك ولم تتدخل في شؤون دول أخرى .. ولم تسئ حتى للنظم العربية

ص: 262

بمن فيها أولئك الذين لم يقفوا موقفا إيجابيا كاملا مع المقاومة . إنهم لم يسيئوا حتى لخصومهم في الداخل اللبناني . إنها حرب نظيفة شهدت قتالا نظيفا ولذلك كان التعاطف معها كبيرا. والناس لا تخطئ .. فما قامت به المقاومة اللبنانية هو في الحقيقة من الأشياء التي أعجب بها الجميع بمن فيهم الأعداء، وأنا أعتقد أن أول من سيحترم المقاومة اللبنانية هم الأمريكان وإسرائيل ولكن هذا من باب «وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسِهِمْ » .

س: ألا ترون أن الشعوب التي عبرت عن تعاطفها مع مقاومة حسن نصر الله كانت هي تلك الشعوب التي تعاني من الاضطهاد ومن ظاهرة «الإستعمار»، ولكن بلبوس أخرى. وأن الأنظمة العربية أدركت هذا الأمر وخشيت على شعوبها من فورات غير محسوبة العواقب أو أن يمسها مس التشيع لفكر المقاومة، وأن يتم إحياء انتمائه. ربما يكون فقط مغيبا ومؤجلا ظهوره إلى حين، ألا ترى أن النظام المغربي قد تضامن على طريقته الخاصة بتفكيك عصابة تحمل اسم «جماعة أنصار المهدي» كادت أن تعمل على استغلال الحدث ، حدث المقاومة اللبنانية؟

ج : اسمح لي أن أقول لك أن ناطورا وليس فقط خبيرا في الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية لا يمكنه أن يقول أن جماعة سلفية - وان وضعت هذا العنوان - لها علاقة بذلك، وأن يخلط بينها

ص: 263

وبين حركة شيعية. كيف تكون سلفيا وشيعيا في نفس الوقت؟ هذه من المفارقات!! أنا شخصيا استغربت وتعجبت واعتبرتها في البداية أكذوبة ابريل سابقة لأوانها . لكن فجأة وجدت أن المسألة حقيقية وتداولتها وسائل الإعلام. وأنا اعتقد أن هذا خلط كبير . لا تنسى أن السلفيين أفتوا أن نصرة المقاومة في لبنان هو عمل غير شرعي وحرضوا أتباعهم بالفتوى على ألا يخدعوا بنصر المقاومة. فعلوا هذا في سنة 2000 حينما حرر الجنوب، وفعلوه اليوم مع فتوی المدعو ابن جبرين. ولكن العقلاء في هذه الأمة والمفكرين والمثقفين وأصحاب الخط المعتدل، كلهم استنكروا هذه المواقف، لا يمكن؟ كيف يعقل أن حركة تكفيرية تدميرية أن تؤمن بهذا؟ أنا لحدود الساعة مندهش وكل ما أستطيع قوله بيقين، ألا علاقة لهولاء لا من قريب ولا من بعيد بالفكر المهدوي. هؤلاء فقط يتحركون لكي يشوشوا على نظافة الحقل السياسي المتقدم لبعض المشاريع التي تحدث في الإسلام الشيعي، مثل المقاومة والخطاب السياسي الوطني الداخلي المطروح بتواضع، والذي لا يشط خارج حدوده . ولقد رأينا الظواهري كيف ظهر مرتين، فقط لكي يشوش على نظافة المقاومة ولكي يخرجها من لغتها السياسية الواقعية والعملية ولكي يصرفنا نحو خطاب متجاوز خطاب اليوثوبيا الرثة. ذلك الخطاب الذي يتحدث عن الخلافة الإسلامية في القرن 21 ويتحدث عن سقوط غرناطة والأندلس وكأنهم يريدون بذلك إخراج الأسبان من

ص: 264

بلدهم. خطاب متجاوز إسلاميا وغير سليم، وحتى تتلوث اللغة السياسية التي أدارت بها المقاومة الوطنية في لبنان حربها التي فقهها العالم وأدرك واستبصر حدودها وأهدافها . إننا لا نخوض حروبا عمياء ولا نستند إلى أهداف عمياء، لحد الآن أنا كإسلامي وكمهتم بالشأن الإسلامي أستطيع أن أفهم هذا الكلام أو هذا الخطاب الذي يخرج علينا بين الفينة والأخرى ويحدثنا بلغة قد يستقبحها الإنسان الذي عاش في القرن الهجري الأول. هناك فئات كبيرة من المجتمع السني تؤمن بالمهدوية لكن ليس في أن يخرج أحدهم ويرفع راية باسم «المهدي» ويدمر ويقتل. المهدي جاء لنصرة المستضعفين لا التدمير البنى التحتية وتدمير مصالح هؤلاء المستضعفين. أنا أعتبر هذه العقيدة الفاسدة في المهدي هي أخطر من عدم الإيمان به أصلا.

س: ألا ترى أن تفكيك هذه العصابة هي خطوة استباقية لإنذار كل من قد يدعي مستقبلا المهدوية أو يتخذ هذه العقيدة كدرع وكتقية لما يستبطنه من عمليات تخريبية وتدميرية ؟

ج: لحد الآن، لا أدري كيف يصدق الناس حينما يخرج أحمق يدعي المهدوية، لا أستسيغ هذا الأمر ولا بأي مستوى من الوعي، الناس ستصدق ذلك. إن مجرد إطلالة على ما يسمى بالمتون التي تتحدث عن البلايا والمنايا والملاحم لا يمكن أن يصدق بمثل هذه المواقف التهريجية.

ص: 265

س: أعتقد أنك تريد القول أن هناك مواصفات ومقومات يجب أن تتوفر في شخص «المهدي» ومحددات حتى يستطيع العقلاء التمييز بين الخبيث والطيب وسط مجموع المدعين لهذه «المهدوية» فما هي تحديدا؟

ج: هي بالكثرة بحسب ما تجود به المتون الإسلامية التي أخبرت عن الظهور وعما بعد الظهور . كل السيناريو واضح من ألفه إلى بائه، كذلك عند أهل السنة، ولكن عند الشيعة أضبط بحکم الارتباط القوي بهذه العقيدة .

س: مقاطعا - لماذا لا تقول أن سيناريو الظهور عند الشيعة «أخرف» مما هو عند السنة؟

ج: حسب اطلاعي على الأخبار التي تتحدث عن الظهور، أری أن هذه الأخبار حينما نقرأها قراءة معاصرة سنخرجها من حالة الأسطورة التي حاول البعض أن يحيط بها الظهور. وأعتبر أن المهدي سيكون ابن المرحلة الحضارية المتقدمة للأمة. لقد كانت هناك بعض الأخبار التي تتحدث عن بعض المعجزات التي تجري على يديه ، فإذا ما نظرنا إليها بحسب المكتسبات العلمية وبحسب النبوغ العلمي للحضارة المعاصرة سنجدها مسألة تحصيل حاصل. إن البشرية في زمانه لن يبقى علمها محصورا في الحرفين (الصفر والواحد). فهو يأتي بأكثر من ذلك بعدد الحروف. وهذا يعني

ص: 266

ازدهار العلوم في عصره. ثم يتحدث عن قضايا تتعلق بالتواصل والاتصال، فهو الرجل الذي يتحدث في مكانه ويراه الجميع ولا يحتاجون للرحيل إليه ولا يحتاجون إلى بريد، كل قوم يرونه ويسمعون كلامه بلغتهم، كل ما تحدثت عنه الروايات والأخبار في الظهور مرتبط بالثورة العلمية وتحديدا المعلوماتية وثورة الاتصالات. إذن لم أجد فيما وصف به الإمام المهدي سوى أنه رجل سيرقى في أسباب السماوات والأرض، وسيستفيد من كل التقدم العلمي للمجتمع الإنساني. أنا أعتقد أن المجتمعات التي ستحتضن الإمام المهدي هي المجتمعات التي تحتضن الثورة العلمية للحضارة المعاصرة وهي البشرية كلها وليس قطرا واحدا. لكن كل ما يمكن قوله هو أن هذا المهدي هو رجل حكيم وعاقل، ولحد الآن وإذا ما استثنينا من ادعاها من زعماء سياسيين عبر التاريخ، لم يدعيها إلا حمقى يجولون في الحارات. وهذا في حد ذاته أكبر دليل على سفه هذا الإدعاء.

س: عند الشيعة يحدد هذا الرجل في الإمام الثاني عشر وأنه دخل إلى سرداب أو غار ولم يخرج منه إلى يومنا هذا وينتظرونه بفرس ابيض ويجمعون له النذور وما شابه هذا الكلام، ألا ترى أن السنة هم أضبط لأنهم يبقون في العموميات ولا يفصلون سيناريوهات الظهور؟

ص: 267

ج: طالما الحديث هنا فيه الكثير من المستملحات ، أقول : إن بعض الناس الذين أعجبوا بالمقاومة قالوا ظننا أن المهدي المنتظر هو السيد حسن نصر الله. ولو سمع هو هذا الكلام لقال : «أستغفر الله». وأنا أجبت هذا الأخ المعجب: إننا نعرف أباه ... وحين تعرف أباه خلاص ... هذا إذا تحدثنا بحسب الاعتقاد الشيعي . طبعا هناك كلام في بعض المظاهر الصغيرة لم تعد هي الأساس في التفكير عند الشيعة. «دخل في سرداب وينتظرونه على فرس ابيض»؟ أنا أقول لك أن كل الأخبار التي تتحدث عن الظهور لا يمكن لها إلا أن تنسجم مع الثورة المعاصرة ومع المركبات المعاصرة والمكوك الفضائي إلى غير ذلك. وإن الحديث عن السرداب لا يعني أنه إذا غاب أحدهم ودخل في نفق وغاب أمره، هذا لا يعني انه دخل حفرة وسكن فيها إلى الأبد. ألم يكن الخضر الذي تحدث عنه القرآن وروى يوميات سلوكه مع موسى علیه السلام كان يهدي إلى أمر خفي، ولا يعلم به أحد. وكان يأتي بما يمكن أن نقول بالحد الأدنى أو أنه يعمل على وفق قاعدة الميسور العامة بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله. فكان يعمل أعمالا صالحة. وقد غاب كثيرون في تاريخ النبوات والرسالات، فالمسألة اعتقادية. ولا اعتقد أن الذين وصفوها بهذا المستوى الهزيل سيقفون نفس الموقف مع غيبة أنبياء مثل إدريس وعیسی علیه السلام وذي القرنين والخضر في زمانه، أو موسی

ص: 268

حينما غاب 40 يوما قبل أن يعود إلى قومه أو ذلك الذي بقي في بطن الحوت يونس علیه السلام ولو لم يكن من المسبحين للبث فيها إلى يوم يبعثون. لو أردنا أن نناقش من الناحية الاعتقادية، فللغيبة نظائر في تاريخ النبوات. فليس الحديث عن هذا الموضوع بدعا في تاريخ الرسالات، لو وضع إزاء جملة من الاعتقادات في غيبات حصلت ويتحدث القرآن عنها في سورة الكهف ويربطها بالإيمان. لم يأت الشيعة بشيء طارئ أو خارق للعادة، أو بشيء ليس له أصل في القرآن أو في السنة على الأقل على مستوى المثال.

س : ما قصدكم بقول إننا نعرف أباه من هو أب المهدي في ظل المعتقد الشيعي ...؟

ج: أبو الإمام المهدي في عقيدة الشيعة الإثني عشرية هو الإمام العسكري.وأب السيد حسن نصر الله ليس هو العسكري.. أبوه هو ذلك الرجل الطيب المؤمن ابن الجنوب اللبناني. لكن المسألة من ناحية الاعتقاد هي مضبوطة بالكامل حتى في تفاصيل الأجندة التي يتحرك على ضوئها «المهدي» واضحة. هذا حسب المعتقد الشيعي . ليس فيها شيء من الغرابة، رجل سيأخذ بمقتضيات التقدم العلمي المعاصر وهذا يعني أن المجتمعات التي سيظهر فيها هي مجتمعات تنتمي إلى عصرنا الموصوف بالتطور والتقدم العلمي الكبير .

س: على ذكر معرفتكم بالمعتقد الشيعي، طلع على صفحات

ص: 269

أسبوعية الصحيفة أحد المحسوبين على نشاط هذا التيار بالمغرب قائلا انه كلما صرح حسن نصر الله بتصريح ضد إسرائيل أصبح الشيعي بالمغرب ضد نظامه ما هو تعليقكم؟

ج: كنت أود أن تعفيني من الإجابة على هذا السؤال، هل تعرف لماذا السبب بسيط، لا أريد التعليق على كلام لا وزن له فلو كان المتحدث صاحب رأي لما تركت سؤالكم معلقا هذا التصريح كان خاطئا من جهة الصحافة التي تحدثت لأشخاص ليس لهم رأي حيثما وكانوا يخلطون ويخربطون، والقضية كانت مخدومة، هناك أشخاص يريدون الظهور بجميع الطرق وأقول أنه كان خطأ صحفية جسيمة وکفی .

س: إبان الثورة الخمينية سنة 1979 أصدرت رابطة علماء المغرب فتوی تفند الأسس المذهبية لقادة هذا الحدث ، واليوم اکتفت - على ما يبدوالأجهزة الأمنية بالمغرب بتفكيك عصابة تحمل اسم «أنصار المهدي» وألحقت أنصار المهدوية بالجماعات الإرهابية - هل ترى أن الساحة العلمية اليوم أضحت فارغة من العلماء القادرين على تحمل أمانة الفتوى في حق من يحملون المعتقدات المهدوية؟

ج: أنا لا زلت مصرا على أن ما حدث لا علاقة له بالفكر الشيعي لا من قريب أو بعيد. بل ويتناقض معه تناقضا مطلقا . شخصيا لا أستطيع الحديث عن بعض الحسابات أو الأمور دون أن

ص: 270

ألمس معطياتها رجما بالغيب . قصارى ما يمكن أن أقول أن بعض الأحداث تتزامن ويفهم منها أنها ردة فعل. أنا لا أعتقد ذلك، بل أعتبر الفكر المهدوي بخلاف ما يعتقد الكثيرون هو فكر یهذب ويعقلن الأمور بحيث أن هناك أمورا تتعلق ببعض أحلام اليقظة ومن میراث الوعي الشقي ولا يمكن أن تطبق، فحلها يوجد في «التفاؤلية». وهذه الأخيرة تؤمنها عقيدة «المهدي» وهي عقيدة قصارى ما يمكن أن أقوله عنها أنها مركوزة في وجدان كل البشر الذين يتطلعون إلى غد أفضل. الغد المملوء والمفعم بالسلام وبالعدالة وبكل قيم الإنسانية التي حلم بها الإنسان. أنا أجد «المهدوية» حاضرة في جزيرة «يوثوبيا» لطوماس مور أحد الملهمين للنهضة الأوربية الحديثة وأجدها حاضرة في فكرة «الرجل الأخير» في «هكذا تكلم زرادشت» لنتشه .. وأجدها عند القديس أوغسطين في مدينة الله وفي الجمهورية الفاضلة عند «أفلاطون» وفلاسفة عرب ومسلمين آخرين، أجد كل هذه الأحلام مركوزة في وجدان البشر ويعبر عنها بمختلف التعبيرات لكن كلها تلتقي عند شيء إسمه «الغد الأفضل». هذاالغد الأفضل يمشي طردا . كلما ملئت الأرض جورا اقترب هذا الظهور. ويبدو أن العالم قد امتلا جورا وظلما . ولكن أيضا مقرون بيأس الأمم من كل الخيارات التي تستطيع أن تحل مشاكل البشرية على مستوى الفكر السياسي والاقتصاد السياسي،

ص: 271

على مستوى حتى الأمراض، فالعلم الحديث فيه من الثغرات الشيء الكثير .. والفكر السياسي في منتهاه استطاع أن يؤسس لنا دولة الحقوق والديمقراطية، هذه الأخيرة التي يمكن أن تخرج لنا النازيين والمتطرفين. لذلك فكل الخيارات جربت وأعطت ما يمكن إعطاؤه واستنفدت ولكن الخيار الذي يجعل بالفعل دولة الإنسان التي تتجسد فيها كل القيم الإنسانية في صفائها وتمامها ، دون ثغرات أو نواقص ساعة التنزيل والتطبيق، هي هذه الدولة الموعودة والتي ستدرك البشرية بوجدانها بأنها كذلك، وليست الدولة الخرافية التي نجدها في بعض الخيارات الطائشة لبعض الحمقى الذين يدعون المهدوية في الحارات وفي بعض المناطق في حين أنها قضية كونية عظمى.

س: أليس من حق أبناء قطر عربي ما أن يحلموا بأن يكون قطرهم محضنا لخروج «المهدي» وأن يسعوا إلى ذلك سواء كان بلدهم متخلفا أو متقدما بمعايير العلم الحديث، حتى لو كان هذا البلد غارقا في بحور الأمية والتخلف والفقر، خاصة وأن أمة العرب إبان بعثة محمد (صلی الله علیه واله و سلم) كانوا كأيها الناس ولقد أكرمهم القدر بأن جعل منهم خاتم الرسل والأنبياء، ألا ترى أن بلدا مجردا من كل الأدوات العلمية المعاصرة قد يشهد ظهور «المهدي» كدولة المغرب مثلا.

ج: أولا «المهدي» سيخرج من قلب هذا المجتمع العربي المهزوم المنهك المجروح، قال هذا كثيرون، أجمل تعبير قاله

ص: 272

المتنبي الفرنسي اليهودي الأصل نوستراداموس حينما كان يتحدث في بعض رباعياته المترجمة عن "Noble Men" العربي أي الرجل الشريف العربي . وهذا أمر يدركه الغربيون في الثقافة الشائعة والتي تتحكم فيها مثل هذه النبوات. على كل حال هذه «استعارة» ولكن إذا أردنا أن نتحدث بموجب الأخبار التي تتحدث عن الظهور، فخروجه حسب الأخبار بين الركن والمقام في أرض الحضارة الروحية. فلا يمكن أن يخرج من هنا . وإن كان البعض يتحدث عن ظهور الشمس من المغرب» ويؤولون الشمس بالرجل. لكن هذا لا تثبته الروايات المستفيضة الواردة بهذا الشأن. إذ بحسب هذه الأخيرة، لا علاقة لهذا الظهور بالمغرب، وأقول للذين يتحدثون عن ظهور المهدي من المغرب، لا تتعبوا أنفسكم، إنه لن يظهر من هنا.

س: ألا يمكن أن يكون حاملا لدماء عربية نابعة من أرض الحضارة الروحية كما قلتم ومنبع الأنبياء والرسل ولكن الرياح أتت بأجداده للاستقرار بهذا القطر الذي ينتسب مؤسسو دولته وحكامه منذ 12 قرنا إلى آل بيت الرسول محمد (صلی الله علیه واله و سلم) ؟

ج: ولذلك فهولاء الأشراف هم من سيناصرون هذا «المهدي» بحسب الروايات وأن يكون أنصارا له من بيت النبوة. لا يمكن أن يكون من أنصاره أناس ليسوا في مقام الفلسفة العظمى للمستقبل الأفضل الذي تتحدث عنه الأخبار السالفة الذكر .

ص: 273

س: ألا ترى أن هناك ما يميز بلدنا المغرب عما سواه من أقطار العالم العربي الإسلامي إذ على الرغم من حمله للهوية السنية المالكية الأشعرية الجندية إن صح التعبير إلا أنه بلد صاغت دولته عقول وسواعد وعلوم وجهود «آل البيت» إضافة، إلى أن هذا البلد أنجب وأخرج إلى يومنا هذا الكثير من الرجال اللامعين على أكثر من مستوى الذين حملوا هذا الاسم أو حملوه!! أشهرهم ذاك الرجل، سید زمانه، الغائب أو المغيب بدوره منذ 41 سنة «المهدي بن بركة» أستاذ الرياضيات، وزعيم العالم الثالث المزعجة قضية اختفائه العالم أجمع، «مهدي آخر أخرجنه أرض المغرب شغله الشاغل البحث عن غد أفضل ومستقبل أجمل لبلده وللعالم أجمع، ويشهد على تفرده ونبوغه الكثيرون داخل المغرب وخارجه ألا وهو المهدي المنجرة» إضافة إلى المهدي بنونة رجل الإعلام ومؤسس أول وكالة للأنباء بالمغرب والعالم العربي والإفريقي، حتى في المجال الرياضي هناك رجل من جنسية برازيلية جذبته أرض المغرب لها فدخل الإسلام وأسمى نفسه ب «المهدي» بعد أن أدخل المغرب كأول بلد عربي وإفريقي يتجاوز الدور الأول من نهائيات كأس العالم لكرة القدم، هذه «الكرة» التي تشغل اليوم شعوب كل الكرة الأرضية أكثر مما تشغلهم تحديات التنمية ؟! فما هو تعليقكم على «بلد» بهذه السوابق المشرفة على درب تخريج «المهديين» ألم يمهد أبناء هذا البلد بشكل تلقائي «للمهدي الحاسم» إن صح التعبير ؟!

ص: 274

ج: هذه من الاتفاقات الجميلة، وأعتقد أنه حتى الآن وصلنا إلى نقطة إيجابية ، وهو أن الممهدين للمهدي سيخرجون من عوالم الإعلام والدراسات المستقبلية، ومن السياسة ومن الرياضة. ومعنی هذا أن القضية هي قضية حضارية كبرى وليست قضية مجموعات تكفر المجتمع وتصدر الفتاوى المستبيحة للدماء. ولو كنت ممن لهم علم «الحرف» لقلت أن هذا من تأثير الاسم. ولكن هي على كل حال من الاتفاقات الجميلة. لكن حتى لا تستغل هذه العقيدة المهدوية في الاتجاه السلبي، لأن الانتظار السلبي يشل الطاقة حتى في المشاركة والمبادرة العادية، أقول أن العقيدة المهدوية في جوهرها لا يمكن أن توظف في عمليات تخريبية، لأنها عقيدة تفاؤلية ومستقبلية. وأن كل الأخبار التي تتحدث عن المهدي ترى بأن لا علاقة له مع هذا المستوى من الأحداث الصغيرة والمحاطة بشيء من الحمق. أنا أعتقد أن فيما يسميه اليوم الأصوليون بعصر «الانسداد» من الطبيعي أن توجد حماقات في العالم الإسلامي. فبعض التعبيرات عن الإسلام قد تكون حمقاء، وهذا حق أيضا. لكن المشكل هو حينما أن تحاول هذه الدعوات أحيانا أن تجد لها طريقا معقلنا تستغل به حوادث معينة لتكريس الأزمة في العالم الإسلامي . أعتقد أن فكرة «المهدي» تلهم اليوم الكثير من الناس لكي يتطلعوا بنفس تفاؤلي وبأن المستقبل سيكون أفضل وبأن العدالة الاجتماعية

ص: 275

آتية في عالمنا وليس في عالم آخر حتى يعطوا فرصة لبقاء النوع الإنساني متفائلا ، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

س: تحدث مرشد جماعة العدل والإحسان عما يقارب أسلوب التقية في كتابه «سنة الله» وعبر عن إعجابه بالثورة الإيرانية وكيفية إنجازها في كتب أخرى أهمها كتاب «العدل، الإسلاميون والحكم» وعن خروج «المهدي» في كتیبه «مقدمات لمستقبل الإسلام» إلى أي حد نستطيع القول أن جماعة العمل والإحسان تیار شيعي لكن

بخصوصية مغربية ؟

ج: لست من الذين يؤمنون بمنطق المماثلة بمعناه الظاهري أو السطحي لأنه دائما في صلب الممثلات الصحيحة تثوي الوظيفة الحقيقية. فليس بمجرد أن نجد شيئين يتقاربان، نحكم بالمماثلة . هذا ليس صحيحا. وعموما حتى المناطقة لا يقبلون به حتى في الأمور المجردة، فكيف بالاجتماع السياسي أو الخطاب الإيديولوجي. السيد عبد السلام ياسين عايش الثورة الإيرانية وتأثر ببعض مظاهرها. وشخصيا أقول أنه لا علم لي بتصور الجماعة للفكر المهدوي ولا أعتقد أنه سيكون تصورا خارجا عما يعتقد به المغاربة بخصوص «المهدي». ورغم أن المغرب يعرف اليوم مخاضا سياسيا فإني سأتحدث إليكم مجردا عن كل خلفية تذكر. أنا أختلف

ص: 276

في مسألة حصر قضية المهدي في أجندة حركية صغيرة، فهي قضية كونية كبيرة. فحينما يعلم بها العالم سيعلم بها المغاربة .

س: ما الذي تستطيع قوله بشأن سنة 2006 أو ما تبقى من عمر هذه السنة التي هيمنت عليها رؤى أعضاء جماعة العدل والإحسان المتواترة بشأن وقوع حدث عظيم، وما هو موقع «الرؤية المنامية» في صناعة التاريخ؟

ج: من الممكن جدا أن نتحدث عن توظيف سياسي للأحلام. وإن تاريخ البشرية لم يخل من هذا النوع من التوظيف. حلم واحد من الممكن أن يجلب الكثير من القناعات والمواقف وربما من الإنجازات. ومن الناحية الشرعية فإن الأحكام الفرعية لا تؤخذ عن طريق الأحلام، فكيف بالمعتقدات الكبرى والقضايا التي تتعلق بمصير الأمم والمجتمعات . أنا شخصيا أتأسف حقيقة حينما يؤخذ مصيرنا من قبل الأحلام الفردية وليس من قبل مؤسسات الرصد والاستشعار والاستشراف وعلم المستقبل. كيف تستطيع أن تخلق ثورة من خلال حلم وحشد الأنظار إلى ذلك. فهذا يدل على أننا بدأنا نخطو خطوات إلى الخلف، ونعطي مسوغات للممارسة الساذجة والمتخلفة في بلادنا، حيث المستقبل يجب أن تبنيه بطول التفكير والتأمل وعمقه، والدراسات والأبحاث الإستراتيجية والمستقبلية. ومهما بلغ إنسان إلا وله تجربة مع الأحلام، وله

ص: 277

حدوس وإن كانت غير ملزمة شرعا ولا عقلا للآخرين. أنا شخصيا من حقي أن أحلم، وقد رأيت أن عام 2006 سيكون طبيعيا و2007 قد يعرف وضعا وتململا جيدا .. كل الناس من حقهم أن يحلموا . ونحن على مشارف 2007 يبدو لي أن البعض قد أجل الحدث أو أجل الحلم. وهذا ما لا يمكن أن يثبت إلا بفكرة «البداء» التي تنتمي للمذهب الشيعي . أحيانا قد تدفعنا المفارقة السياسية أن نؤمن بالكثير من الأشياء التي يؤمن بها الشيعة .

س : ماذا تعنون بالبداء؟

ج: البداء، أن شيئا ما يكون حدوثه قائما في وقت معين ثم يبدو الله فيوجد، في فترة أخرى. هناك أشياء تدخل في إطار المحتوم وأخرى في «الموقوف»، فما كان من الموقوف فيمكن أن تغير منه الحوادث، أي تطرأ أسباب جديدة تغير مساره كأن تقول «أن زيارة الرحم تطيل في العمر» وأن ممارسات أخرى تنقص من العمر، كما قال عمر بن الخطاب «اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني سعيدا».. وهذا ما يسمى ب«البداء».. وهو ممكن في الموقوف وليس في المحتوم.

س: ألا ترى أن العالم كله من مسلمين ونصارى ويهود وغيرهم تضخمت لديهم الإعتقادات بقرب أو خروج أو ظهور «المخلص» بل أن رجال السياسة في الغرب كما في الشرق يتحدثون بلغة الفقهاء

ص: 278

ورجال الدين أكثر من أي وقت مضى، ألا ترى أن عبارات «حدثني الإله ودعاني الرب واصطفاني القدر» غدت تتقدم خطابات كبار السياسة وزعماء العالم، فهل نحن أمام إرهاصات حقيقية لدخول مرحلة تاريخية جديدة على المستوى الكوني أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خطاب سیاسي جديد لاحتواء أزمات العالم وامتصاص غضب الشعوب وسخط الجماهير.

ج: قد يكون في الولايات المتحدة الأمريكية من يقول «حدثني الله» ويخبر عن الله مباشرة. ولكن ثق تماما لا أحد يستطيع أن يقول لك في إيران حدثني الله. أعتقد أيضا أن بين النبوءة والسياسة علاقة قوية . وأن هذا الأمر تضخم كثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية، مع صعود ما يسمى ب«اليمين المحافظ»، الذي له حبل مکشوف أحيانا وسري في أحيان أخرى مع الإتجاه المسيحي المحافظ والذي يؤمن بالمخلص على الطريقة المسيحية الأصولية .. ولكن كل ما يمكنني قوله في زحمة الحديث عن «المخلصين» أنه علينا أن نبحث عمن يكون المخلص الذي سيكون «مخلصا» للعالم وليس لمجتمع أو فئة دون أخرى. إن «المخلص» كما يعتقد به «بوش» هو مخلص تتحدد أجندته في أن يزكي كل أعمال مجموعة صغيرة من المسيحيين الأصوليين. لذلك فهذا «المخلص» «البوشي» لا يمكن أن يظهر إلا بعد تدمير إسرائيل. لذلك فهو يصعد في الفوضى البناءة ويحاول أن

ص: 279

يجعل لليهود محرقة في طريق ظهور «المسيح». وأيضا ف«المخلص» كما يحضر في عقل الصهاينة، جاء لهم فقط. لكن مهدي الإسلام هو مخلص للجميع. وبحسب الأخبار التي تروى عنه، ستكون دولته شاملة وستحتضن المسلمين والمسيحيين واليهود وجميع البشرية وليس المسلمين فقط، بل البشرية جمعاء.. وله من وسائل الإقناع بحسب الروايات ما يجعلهم يقتنعون ببرنامجه وخياره وحلوله.. هذا على الأقل من الناحية النظرية . أقول أنه لم يشهد العالم صعودا في الحديث عن المخلص والمهدي على المستوى الرسمي، كما نشهده اليوم. فلقد بلغ الحديث عن المهدي أروقة الأمم المتحدة .. وهناك أكبر دولة عظمى تتحدث عن المخلص وعن الخلاص ولو بصورة مغالطة... لم يكن هناك عصر من العصور عاش هذا النوع من التضخم في الفكر المهدوي کعصرنا هذا. ولكن هناك تفاصيل ووجهات نظر وتأويلات مختلفة . فالكل يجر القرص إلى ناره . لكن مهدي الإسلام تكمن قيمته ليس في أنه نابع من المعتقد الديني الإسلامي، بل في أهدافه. حيث تأتي دولته من أجل تخليص الإنسان، كل إنسان .. وستحتضن بالحق كل هؤلاء، مسيحيين ومسلمين ويهود؛ إن دولة المهدي لا تقتل على الهوية ...

س: هل تلمسون صدق «البشرية» في حديثها عن المخلص أم أن هذا التضخيم من ورائه أهداف سياسية لا أكثر.

ص: 280

ج: إن كان هناك من سبب لهذا التضخم في النزعة المهدوية والخلاصية لشعوب العالم اليوم فهو راجع إلى هذا التضخم المهول في منسوب الظلم وفي منسوب الاعتداء والتدمير . ثم في انحسار وانسداد باب الخيارات الإيديولوجية والسياسية. شعوب العالم بدأت تفقد الثقة وتباس من كل الخيارات مهما بلغ شأنها . وكأنها تريد أن تقول بأنها جربت كل الخيارات ولم يعد لها إلا ذلك الخيار الذي تنطق به فطرتها، والذي كان بمثابة عقيدة نائمة استطاعت أن تنومها هذه الإيديولوجيات بواجهاتها المزيفة. ولكن بعد أن ظهر أن هذه الإيديولوجيات لم تجلب للبشرية سوى الدمار ولم تستطع أن تردم الهوة بين الإنسان وعذاباته، أصبح يتحدث انطلاقا من فطرته ويعود ليحيي عقيدته النائمة في «المخلص» ويبدو أن العالم اليوم يعيش هذه الحالة، حالة اليأس من الإيديولوجيا والخيارات، ومن حقه أن يحلم بذلك وليس هناك خيار عقلاني إلا أن نعلن انسداد کل الطروحات بما فيها تلك الطروحات «الظلامية» التي تحاول أن ترجعنا باسم هذه العناوين إلى القرن الهجري الأول وتتحدث عن مستقبل الخلافة الذي يحكمه إنسان لا يعرف ثقافة زمانه. الإمام علي يقول «العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». وشرط الشروطفي الخلاص أن تكون لك قيمة مضافة إزاء كل هذا التراكم الذي قدمته البشرية في مجال الفكر السياسي وكل مجالات المعرفة. وإن كنت

ص: 281

متخلفا عن كل هذا التراكم، فأنت في الخلف لا في المستقبل .. بينما عقيدة المهدي هي عقيدة مستقبلية، تنظر إلى خيار مستقبلي . إن كان ولا بد أن تقوم بحسب الأخبار دولة المهدي فهي تلك الدولة التي طالما توقعها الأنبياء ولم تتحقق كلها في أزمانهم. فلقد دعوا أدعية كثيرة لم تتحقق ولكن ستتحقق في هذا الزمان .. بمعنى أن المهدوية هي خلاصة الفكر النبوي.. خلاصة المشروع النبوي.. بكل ما يعنيه من قيام الناس بالقسط والعدالة الاجتماعية والإنسانية .

س: كيف تقرأون النداء الذي وجهه المدعو العربي السوسي السلفي تحت عنوان «نداء إلى كل المسلمين المغاربة» - ضد عبد السلام ياسين - ألا ترى أن مثل هذه النداءات تزيد طينة الحدث العظيم ل 2006 بلة وبلبلة ؟!

ج: أنا شخصيا ضد الحلول السياسية والسطحية.. وضد الحلول المغرضة. علينا أن نعلم أن مثل هذه النداءات تصدر عن جهات ما، سلفية لها وجهة نظر في مواقف تتعلق بالفكر والاعتقاد، إلى غير ذلك. وهي تريد أن تستخدم الوضع السياسي لجماعة العدل والإحسان بأن تصوب ضربة لهذه الأمور . وفي يوم من الأيام ستجد هذه الجهات نفسها تواجه المعتقد المغربي العادي إن صح التعبير . إن مشكلة العدل والإحسان ليست في معتقداتهم التي هي ما يعتقد به المغاربة. ولكن المشكلة في المشروع السياسي للجماعة .أتمنى أن

ص: 282

يدخل السيد عبد السلام ياسين إلى العملية السياسية بكل هدوء حتى يتجنب كل هذا النوع من التجديف، وأرفض أي خيار آخر ولا أتوقع له النجاح. ليس أمام جماعة العدل والإحسان إن كانت تريد رفع الحرج إلا أن تنخرط في العملية السياسية وفق قواعدها .

وهؤلاء السلفيون مشكلتهم مع السيد عبد السلام ياسين ليست مشكلة على مستوى الخيار السياسي، لأن مثل هؤلاء وفقا للمعتقد الذي يدينون به من الممكن أن يقوموا بما هو أخطر من مجرد العصيان أو التظاهر. مشكلتهم هو فيما یدین به عبد السلام ياسين من أفكار ومعتقدات هي معتقدات المغاربة سوى أن له خيار سياسي قد يكون للناس فيه وجهات نظر مختلفة. ولكني لا أراهن على هذا النوع من الفتاوى لأنها من الممكن أن تكون أو أن تصدر ضد أي شيء وضد أي جهة أو ضد أي فاعل سياسي وربما ضد الجميع، فهذه ليست فتوى ولكنها مراوغة فتوائية، ليس الغرض منها إلا محاصرة أفكار ومعتقدات معينة.

س: عادة حينما يظهر في زمن ما صاحب رأي سياسي معارض وصاحب أنصار وقواعد يعمل أصحاب السلطة من جهتهم على مناظرته ومحاورته أمام الملأ، بعيدا عن منهج السب والقذف والتهريج والترهيب، بلغة أوضح هل في جعبة النظام السياسي راهنا بمؤسساته العلمية المعتمدة رجل رشيد قادر على مناظرة مرشد جماعة العدل والإحسان ؟!

ص: 283

ج: مثل هذه الأمور تحدث في الدول المتقدمة إذ لا يمكن لشخص أن يدخل المشهد السياسي دون أن يتوفر على إجابات ودون أن يخضع لنوع من الاستجواب الصريح. وإن جزءا كبيرا من المشاكل التي تحدث في المشهد السياسي الوطني تعود إلى غياب التواصل وفلسفة التواصل.. وكثير من التناقضات منبعها هذا الانعزال .. فكل فعالية تنطوي وتنعزل بأفكارها وترسم لها جزائر سياسية في المجتمع وتشكل بعد ذلك خطرا على المجتمع .. لكن ومن وحي التجربة والإطلاع على تجارب الأمم ومن خلال قراءتي اللوضع السياسي في العالمين العربي والإسلامي أنصح بأن يكون دور العلماء أساسيا. ففي ذلك حماية للعقل المسلم من صولة الوعي الشقي وعدم الوقوع في فخ الفتن ونزواتها .. على العلماء أن يحموا استقرار أوطانهم ودولهم لأنها دول هشة لها تحديات خطيرة تجاه الخارج .. تحديات تكون أحيانا ساخنة وأحيانا أخرى باردة .. وإذا ما أشغلت المشهد السياسي بالكثير من الاستعراض السياسي وحاولت أن تضعف الدولة وأن تزعج استقرارها فهذا سيحكم على الجميع بالتخلف إلى الوراء إزاء التحديات الخارجية. وليس هناك دولة في العالم الثالث كله إلا ولها تحديات خارجية. فنحن نواجه عدوا أو غولا خطيرا اسمه «التخلف». علينا أن نعترف أننا نواجه تحدي الوحدة الترابية، ومخاطر تهدد الاستقرار تحت أي عنوان من

ص: 284

العناوين. فدور العالم هو أن يحمي هذا الاستقرار وأن يدعم قوة الدولة. ولا قيمة لأي حركة في إضعاف دولتها وتأخر مسار التنمية فيها . فلقد أضعنا وقتا كبيرا في الصراع السياسي الذي لم يود إلى نتائج تذكر. وما دامت المكونات السياسية بالمغرب تتطلع نحو المستقبل، أصبح علينا أن نمارس نوعا من النسيان الإيجابي للماضي، وإطلاق العنان للإرادة السياسية، كي ترى المستقبل جميلا وواعدا ومزدهرا. إن العلماء خاصة علماء الدين بالمعنی الاصطلاحي في بلادنا عليهم أن يتزودوا بثقافة حديثة .. وأقولها بكل حسرة، إنهم تنقصهم الثقافة المعاصرة ويعيشون ثغرة تكمن في عدم استيعابهم لعصرهم فكريا وثقافيا .. وطالما أنهم لم يستوعبوا هذه الثقافة، أجدهم متخلفين عن عصرهم. وهذه دعوة .. کفی تهريجا وكفى تمسرحا، فدور عالم الدين هو في أن يحمي المجتمع .. وما يزعجني حقا هو ذلك الشباب الذي تحت الضغط الاجتماعي والظروف الاجتماعية المزرية بنفتح على متون خطيرة ونصوص مسمومة تحولهم إلى قنابل.. إذا استطاع العالم أن يستوعب هذا الدور سنكون بخير إن شاء الله .

ص: 285

ص: 286

كل الإيديولوجيات تؤمن بالمهدي المنتظر

في لقاء مع أسبوعية البيضاوي، المغربية (الخميس 17 أبريل 2003 - العدد: 49)

جريدة البيضاوي : يؤكد إدريس هاني - متخصص في الفكر والتراث الشيعي - أن الإمام المهدي المنتظر تخبر به جميع الديانات ولا يمكن لأي إيديولوجيا مهما كان موقفها من الغيبيات، أن تتنكر لفكرة الخلاص، مضيفا أن المهدي المنتظر سيقود العالم إلى الحرية والعدالة وسيساهم في القضاء على الظلم وعذابات الشعوب.

نص اللقاء:

البيضاوي : تنظر حاليا استئنافية الدار البيضاء في قضية بدعي فيها أحد المواطنين (یوسف ترابي) أنه المهدي المنتظر، هل يمكن بالفعل أن يكون هذا الرجل هو المهدي المنتظر الذي تؤمن بظهوره طائفة الشيعة باعتباره منقذ الأمة ومحيي مجدها الضائع؟

ص: 287

ادریس هاني : أعتقد أن موضوع الإمام المهدي المنتظر ليس بهذه الصورة «المبهدلة». فلو كان هذا الإنسان هو المهدي المنتظر كان علي أن أتبعه. إن قضية الإمام المهدي المنتظر قضية تاريخية كبرى وتهم تحولات عالمية مهمة، والأمر لا يتعلق بحمقى أو مجانين. فهذه الادعاءات معروفة عبر التاريخ، وكل الدول عرفت هذه الظاهرة. على اعتبار أن الإيمان بالمهدي المنتظر يشمل كل الديانات سواء اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية . فأعتقد أن قضية المهدي المنتظر هي أنبل الأشياء التي تتعلق بالضمير الإنساني، لأنه بدون هذا النوع من الاعتقاد فإن العالم سيتحول إلى جحيم، وبالتالي هناك دائما نقطة ضوء في المستقبل القريب أو البعيد تتجه نحوها حركة الشعوب المستضعفة. فهناك شروط ومقدمات الظهور المهدي المنتظر، وحتى فيما يتعلق بالميسي، أو غيره عند المسيحيين. فهناك شروط والمسألة ليست مطروحة للعبث ولجنون الحارات.

البيضاوي : قلت إن هناك شروطأ ومقدمات لظهور المهدي المنتظر عند المسلمين، ما هي هذه الشروط؟

ادریس هاني : في الحقيقة هي شروط كثيرة. هناك صفات تمیز هذا الشخص، وجغرافية معينة سيظهر فيها وظروف موضوعية

ص: 288

ستساعد على ظهوره. فالرجل الذي سيقود أنبل حركة في العالم يفترض فيه أن يكون متفوقا على غيره. فالرجل سيظهر بين الركن والمقام في مكة المكرمة . وليس من السهل علينا أن نقبل أي ادعاء من طرف شخص يدعي أنه المهدي المنتظر .

البيضاوي : لكن هناك بعض الروايات التي تقول بإمكانية ظهور هذا الرجل في المغرب؟

ادریس هاني: لا أعتقد أن هناك روايات تصرح بذلك . فهناك کلام لابن عربي فيما يخص بزوغ شمس المغرب ويفهم منه أن الشمس هي الإمام، وهذا الكلام ينافي روايات أئمة المسلمين.

البيضاوي: بالنسبة لك ماذا تعني فكرة المهدي المنتظر؟

ادریس هاني : إن فكرة المهدي المنتظر سواء بالنسبة لي أو الجميع أحرار العالم، مهمة ومصيرية . الكل ينتظر، إما شخصا أو فكرة تنقذ العالم مما هو فيه حاليا . وأعتقد أن قضية الإمام هي بكل بساطة تطلع لمستقبل أفضل.

البيضاوي: الأمر إذن يتعلق في نظرك فقط بالتطلع نحو مستقبل أفضل! ؟

ادریس هاني: إنني لا أريد أن أدخل في هذا النقاش

ص: 289

الإشكالي، ولست الآن بصدد الحديث أو إيراد الأدلة على تشخص الإمام ولكن فقط أحكي عن فكرة الإمام، الذي ستقوده ظروفه لكي يقود العالم إلى الحرية والعدالة وسيساهم في القضاء على الظلم وعذابات الشعوب . فهذه الفكرة موجودة في الديانات الثلاث، وأيضا موجودة عند جميع المحرومين في العالم ...

البيضاوي: عبر التاريخ الطويل ادعى جملة من الأفراد، في المشرق أو المغرب، أنهم «المهدي المنتظر بماذا تفسرون هذا الظهور المتعدد؟

ادریس هاني: هناك أكثر من زاوية لتفسير هذه الظاهرة الشائعة، التي لا تقتصر على المشرق أو المغرب، بل نجدها حتى في الدول الغربية. فالولايات المتحدة ضاجة بمثل هذه الادعاءات. وانطلاقا من اطلاعي على ما يقال هنا وهناك، سواء ما يعتمد على بعض الروايات المشتتة التي لا يجمع بينها ناظم، أو ما يصدر عن بعض الجهات المسيحية أو الإنسانية أقول إن هناك العديد من المغالطات التي تدحضها المصادر المعتبرة في المقام. وإذا تأملت من خلال هذا المعطی ما يجري من ادعاءات على المهدوية والنبوءة على مدار التاريخ، فإنني أرجع ذلك إلى حالة اليأس وافتقاد الأدلة التي تتحدث

ص: 290

عن سمات وشروط معينة لهذا الشخص، إضافة إلى توهمات عند بعض الأشخاص، حيث تجد الواحد منهم ينزوي في صومعة مظلمة عاكفا على مجموعة من الكتب الصفراء، ويجهل الفقه وأصوله والكلام وباقي العلوم الاسلامية، ثم يخرج على الناس مالكا صدفة الخلاص. وهذه حالات قابلة لكي تعرض على التحليل النفسي.

البيضاوي : هناك من يربط سقوط نظام صدام حسين في العراق بظهور المهدي المنتظر، هل ثمة علاقة بين الاثنين؟

ادریس هاني: ليس هناك خبر روائي يتحدث عن هذه العلاقة، ولكن هناك العديد من الروايات التي تحكي عن العراق وأيضا هناك خطبة البيان الموجودة عند الشيعة، رغم أن أهل الدراية من الفقهاء الشيعة يضعفونها من حيث السند. إذ حينما تطلع على متنها تجدها مطابقة لموضوع العراق. هناك أخبار تؤكد أن العراق سوف يتعرض إلى هجمة من كل حدب وصوب . وأن طيورا ستهجم على العراق وترميه بحمم من النار.

البيضاوي: هل هذه الطيور في الطائرات الأباتشي وF16 الأمريكية؟

ادریس هاني : (يضحك) حسب ما تلاحظ هذه مسألة واضحة . وتتحدث الأخبار عن معاناة العراق ودخوله في حروب

ص: 291

مستمرة. وهذا دليل على صدق وتحقق هذه الروايات. لكن فيما يخص العلاقة بين سقوط نظام صدام حسين وظهور الإمام المهدي فلم يسبق لي أن اطلعت على رواية تقول ذلك. كل ما في الأمر أن هناك من شبه صدام حسين بالسفياني الذي سيكون الخصم الأول حسب الروايات - للمهدي - خاصة بعد الجرائم التي قام بها الرئيس العراقي ضد شعبه تبين لبعض العراقيين أنه هو السفياني. رغم أن بعض الروايات تؤكد أن السفياني هو من الشام، وهذا كلام لا دليل عليه . وعموما إن موضوع العراق بكل حيثياته هو جزء من السيناريوهات التي تحدثت عنه بعض الروايات.

البيضاوي: هل هناك لدى الشيعة تصورات مختلفة عن المهدوية؟ وما هي هذه التصورات؟

ادریس هاني : في موضوع الإمام المهدي ليس هناك خلاف بين أئمة الشيعة. فالكل مجمع على تفاصيل الأحداث، وموضوع وعلامة ظهوره دقيقة جدا. إذ يستحيل أن يدعي إنسان في محيط شيعي أنه الإمام المهدي. فالجميع على بينة من الأمر وكل شيء واضح، لأن مثل هذه الظواهر تبرز في المجتمعات التي يبقى فيها موضوع الإمام المهدي غامضا وعند الشيعة فالتاريخ يتحرك نحو هذه النقطة المضيئة في حياة البشرية

ص: 292

وتتلخص في المنقذ وهو إمام وليس طائفيا بل إنسانيا يساند جميع المحرومين في العالم. وسيأتي لينشر العدل والرحمة .

البيضاوي : رجوع إلى الأنتروبولوجيا نجد أن فكرة المهدي المنتظر حاضرة بقوة في جميع الثقافات الكونية، وكل ثقافة تقدمها على أنها نهاية العالم. لماذا تبرز في الوقت الذي يشعر الكل أن الأرض ضاقت بمعمريها ولا بد من مخلص يجنب البشرية ويلات الحروب والمآسي؟

ادریس هاني: إن الإنسان الذي يؤمن بظهور الإمام المهدي يعتقد بذلك في السلم والحرب. وإذا تحدثنا وفق منظور أحد الفلاسفة الإغريق الذي يتحدث عن تراجيديا الإنسانية الكبرى، لكن داخل هذه التراجيديا لا يمكننا أن ننسى هذا الموضوع سواء تعلق الأمر بشخص كما هو الأمر عند المسلمين أو في الديانات الأخرى أو فكرة منقذة أو جماعة . ففكرة الخلاص موجودة فيعمق الإحساس الإنساني. وربما في حالات الحروب والدمار والتهميش. فتنمو وتتضخم هذه الفكرة حسب الوضع الذي يواجه فيه. ولا يمكن في عجالة أن نفصل بين كون الإمام المهدي هو شخص سيظهر على الأرض، أم هو مجرد فكرة فهذه القضية قد نختلف حولها. لكن «المهدي المنتظر» ثابت في كل الديانات السماوية وفي صلبها، ولا

ص: 293

يمكن لأي ايديولوجيا - مهما كان موقفها من الغيبيات - أن تتنكر لها فالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يرى أنه أطول فوکویاما حينما تكلم عن نهاية التاريخ، لطوماس مور في كتابه «البوطوبيا» يتحدث عن الجزيرة وهي نفسها الجزيرة الطوباوية التي يهفو إليها المنتظرون . والغريب أن أهل الجزيرة يتحدثون باللغة الفارسية وزرادشت عند نیتشه شخصية فارسية بمعنى أن هناك علاقة بالشرق إذن هذه القضية يتوحد عندها الفكر الإنساني والإيديولوجيات والديانات. وأريد أن أقول أن قضية بهذا النبل لا يمكن أن تسقط في استغلال مجنون هنا أو هناك فالإمام شخص عظيم وهو متقدم عن عصر تكنولوجيا وبعض الشروط تؤكد أنه سیرقی في أسباب السموات والأرض. وهناك روايات وقفت عليها شخصيا تقول إذا انحصر العلم عند البشرية في حرفين فهو أكثر من ذلك. وفي زمانه سیکلم من في المشرق سكان المغرب، وكل قوم يسمعون الكلام بلغتهم وأن هناك من يحدث الناس بكفه، وكل ما يتعلق بالثورة التكنولوجية وأن الإنسان سيتحدث من القمر .

ونوسترداموس في رباعياته كان يتكلم عن ال«نوبل مان». وهو الشريف العربي، ويتحدث عنه كمعسكر مجهز بكل الوسائل

ص: 294

التكنولوجية وليس كإنسان «مبهدل» في حارة لا حول له ولا قوة . إلا أن ما قاله ونوسترداموس أثار ضجة في الغرب إذ اعتبر كثير من الفلكيين أنه لم يرتكز في نبوءاته على التقييمات الفلكية التي اعتمدوا عليها وتساءلوا حول مصادره. وفي الحقيقة أن نوستراداموس الذي كان يهوديا وتمسح تقية، ربما قرأ واطلع على بعض الكتب التي كانت قد سرقت من المسلمين في الحروب الصليبية ثم تحدث عن أشياء كثيرة وأخفى مصادره لأسباب ما، مما جعل نظراءه الفلكيين معجبون من كلامه، وادعى أن كل ما جاء به له علاقة وطيدة بالحدس.

ص: 295

ص: 296

الفهرس

ص: 297

ص: 298

إهداء ...5

تقديم ...7

المهدوية : مقاربة عقائدية عامة ...41

تصدير ...41

دليل القرآن ..51

دليل السنة ...51

المنكر شاذ ...54

دليل الإجماع ...64

دليل العقل ...69

أين يكمن الخلاف؟ ...91

الدليل الحسي ...92

الدليل المستفاد أو الدليل المقاصدي ...106

المهدوية في ضوء الأصول الخمسة ...109

المهدوية والتوحيد ...110

ص: 299

المهدوية والنبوة ...119

المهدوية والمعاد ...124

المهدوية والعدل ...127

المهدوية والإمامة ...132

دولة الموعود ومآزق الفكر السياسي ...137

الباراديغم المهدوي باعتباره نهاية لتاريخ الاجتماع السياسي ... 137

مدخل ...137

دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير ...140

دولة الموعود ودولة الطوبا .. أية علاقة ...151

المهدوية وحتمية الطريق الثالث ...161

هل هي دولة أم قومة ...165

دولة العدالة ودولة الوفرة ..171

ختاما ...187

قراءة تركيبية في مبحث الغيبة من خلال ...189

کتاب النجاة للشيخ كمال الدين ميثم البحراني ...189

مدخل ...189

بين يدي الكتاب ...204

غيبة الإمام عند الشيخ ميثم البحراني ...213

ص: 300

في ذكر أسباب الغيبة؟ ...224

في ذكر إمكان بقاء المزاج الإنساني ...232

في ذكر ثبوت البقاء في أمزجة مشهورة ... 234

في ذكر أن المدعي إمامته هو هذا المعين ...238

في الختام ... 249

القنبلة الدخانية ...251

على هامش تفكيك عصابة «أنصار المهدي» التابعة للسلفية الجهادية في المغرب، والمرتبطة بتنظيم القاعدة ... 251

تقدیم جريدة أقلام الغد ...251

جريدة أقلام الغد ...253

كل الإيديولوجيات تؤمن بالمهدي المنتظر ...287

في لقاء مع أسبوعية البيضاوي، المغربية (الخميس 17 أبريل 2003 - العدد 49) ...287

نص اللقاء ...287

ص: 301

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.