القرآن الكريم في فكر الامام علي عليه السلام : شواهد من نهج البلاغة

اشارة

رقم الإیداع في دار الکتب و الوثائق ببغداد 3015 لسنة 2018

مصدر الفهرسة : IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP38.09.A4 R8 2018 : LC

المؤلف الشخصي : الربيعي، سجاد – مؤلف.

العنوان : القرآن الكريم في فكر الامام علي عليه السلام : شواهد من نهج البلاغة /

بيان المسؤولية : تأليف الشيخ سجاد الربيعي

بيانات الطبع : الطبعة الاولى.

بيانات النشر : كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي : 216 صفحة ؛ 24 سم.

سلسلة النشر : (العتبة الحسينية المقدسة ؛ 523 ).

سلسلة النشر : (مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ 154 ).

سلسلة النشر : (سلسلة المعارف القرآنية ؛ 1).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر الصفحات ( 201 - 210 ).

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – أحاديث.

موضوع شخصي : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع العنوان : القرآن – سور وآيات -- تفاسير مأثورة.

موضوع العنوان : القرآن – تفاسير الشيعة الامامية.

مصطلح موضوعي : الغيبيات في القرآن – تفاسير مأثورة.

مصطلح موضوعي : الغيبيات في نهج البلاغة.

مصطلح موضوعي : الخلق في القرآن – تفاسير مأثورة.

مصطلح موضوعي : الاخلاق في القرآن.

مصطلح موضوعي : الاخلاق الاسلامية.

مؤلف اضافي : الحسني، نبيل قدوري، 1965 - ، مقدم.

اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة – جهة مصدرة.

عنوان اضافي : نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

القرآن الكريم في فكر الامام علي عليه السلام : شواهد من نهج البلاغة

ص: 2

سلسلة المعارف القرآنية في نهج البلاغة (1)

القرآن الكريم في فكر الامام علي عليه السلام : شواهد من نهج البلاغة

تأليف الشيخ سجاد الربيعي

إصدار

موسسه علوم نهج البلاغه

فی العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه- - 2018 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07815016633 - 07728243600

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Info@ Inahj.org

تنويه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

مقدمة المؤسسة

الحمد للّه عى ما أنعم و له الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خیر الخلق أجمعین محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمر المؤمنن (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبیين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسیر بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط اللّه فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ﴾، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِینٍ﴾، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلین يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً و شاهداً فيها، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانین والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية

ص: 5

المختصة بعلوم نهج البلاغة و بسیرة أمیر المؤمنین الإمام عي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة المعارف القرآنية في نهج البلاغة( والتي يتم عبرها طباعة هذه الكتب واصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثین والدارسین واعانتهم على تبین هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمر المؤمنن علي (عليه السلام) والسیر على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة التي بن أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك المرويات العلوية ، لا سيما في حقل المعارف القرآنية التي زخر بها كتاب نهج البلاغة فجزى اللّه الباحث كل خر فقد بذل جهده و على اللّه أجره.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحي نعماءه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود. ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. فطر الخلائق بقدرته. ونشر الرياح برحمته(1)، والصلاة والسلام عى الحبيب المصطفى و خاتم الأنبياء واله المعصومین الذين يخشون ربهم وهم من الساعة مشفقون، أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة، و أولئك هم المفلحون، و اللعن الدائم على أعدائهم وغاصبي حقوقهم ومنكري فضائلهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

لاشك ان القرآن الكريم معجزة خارقة لنواميس الطبيعة. و أنه كتاب ذو منزلة عظيمة وهو ثقل اللّه وحبله المتین أنزله سبحانه عى النبي الأمین في ليلة مباركة قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِ لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾(2). ومما لابد من بيانه إن كلام الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) يتعرض لإثبات رسالة النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم)، وإن القران الكريم معجزة الرسول الأكرم محمد (صلى اللّه عليه و آله) فكل حكم

ص: 7


1- (1) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام)، الشيخ محمد عبده (ت: 40 ه-)، 1412 ه- -1370 ش: النهضة – قم، دار الذخائر– ايران، ط 1: 1 / 15 .
2- (2) سورة الدخان: 3.

شرعي وكل ما في القران هو دستور للحياة.

فمن خال ذلك نجد أن الامام أمر المؤمنن (عليه السلام) يتحدث عن سر و عظمة القرآن الكريم وخلوده، من حيث التركيب والتنظيم وتأثره في النفوس، وتتركز عظمة القرآن الكريم في فكر الامام (عليه السلام) بصورة رئيسة، على الفصاحة والبلاغة، ولا يقف القرآن الكريم في فكر الامام (عليه السلام) عند حد في تذكیر الناس وتحذيرهم، وتقويمهم ومتابعتهم فحسب، بل يتحدث القرآن عن

الظواهر الكونية، والآيات السماوية ويجعل من ذلك مناراً لأولى النهى، وحديثاً للتدبر والتفكر والتبر والاعتبار لذوي الألباب والعقول كما أشار اللّه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (1)، ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَیرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَ اسْتَوَى عَىَ العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَرِي لأَجَلٍ مُّسَمّىً﴾(2).

بل يتسع في الحديث عن كنوز النفس الإنسانية و ما أخفي فيها من عجائب و أسرار، يستطيع الإنسان عبرها أن يعرف اللّه جل و علا، كما اشار إلى هذه الحقيقة الإمام (عليه السلام) في قوله: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(3)، المعنى أراهم

ص: 8


1- (1) سورة آل عمران: 191
2- (2) سورة الرعد: 2
3- (3) -الوسائل: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي(ت: 1104 ه-)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام) لإحياء التراث، ايران قم ( د ط): 1/ 221 ، الفوائد الطوسية: الحر العامي (ت:: 1104ه-)، تحقيق: علق عليه وصححه العالمان المتتبعان الحاج السيد مهدي الازوردي والشيخ محمد درودي: شعبان 1403 المطبعة العلمية – قم (د ط): 79 .

نفسه )أي عرّفهم إيّاه بالدليل الحازم الرافع للشكّ الموصل إلى اليقين)(1)، ثم يعتبره (عليه السلام) أنه معدن الايمان وحقيقة وينابيع العلم وبحوره، «وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً» .(2) فلا يستطيع أحد أن يصل إلى عظمة القرآن ويتحداه ويأتي بأسرار مثله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شهداءكم مِنْ دُونِ اللِّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِینَ * فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾(3).

لن يستطيعوا أن يتحدوا القرآن الكريم عى مستوى الاتيان ولو بسورة أو كلمة أو حرف يضاهي سور القرآن الكريم وكلماته الشريفة ؟ فهناك أسرار إعجازية تكمن في القرآن الكريم لا يتمكن أحد أن يتحداه في إعجازه الذي أعلنه الرسول الاعظم (صى اللّه عليه و آله وسلم) عبر العصور للبشرية جمعاء، والذي أشار إلى ذلك الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ

هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ ».(4)

فالقرآن الكريم كما يراه الامام (عليه السلام) من الكتب المعرفية الذي لا يتحدث إلا بالحق ولايقول الا الصدق فكل شيء فيه صدق وحق، حيث أفصح الباري سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بقوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَیْنِ يَدَيْهِ وَلاَ

ص: 9


1- (1)- رسائل آل طوق القطيفي: أحمد بن الشيخ صالح آل طوق القطيفي ( ت: 1245 ه- )، تحقيق: تحقيق ونشر شركة دار المصطفى صى اللّه عليه وآله لإحياء التراث، 1422 - 20 م دار المصطفى صلى اللّه عليه و آله لإحياء التراث ط 1: 3/ 197 .
2- (2) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 91 .
3- (3) سورة البقرة: 23 ، 24 .
4- (4) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 91 .

مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَدِيدٍ﴾(1)، فهو الناصح الذي لا يغش (في إرشاده إلى وجوه المصالح كما أنّ الناصح الصديق شأنه ذلك، والهادي الذي لا يضل، من أهتدى بنوره، والمحدث الذي لا يكذب، بأخباراته وقصصه وأحاديثه)(2)، قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام فيما روى في الكافي عن سماعة بن مهران عنه عليه السّلام إن العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه وهو الصادق البار، فيه خبركم وخبر من

قبلكم وخر من بعدكم وخر السماء والأرض ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم(3).

ومن الآثار العلمية الآخرى للقرآن الكريم أنه يتحدث عن الوقائع التاريخية على مر العصور في سابق ولاحق ويكشف لنا عن الحقائق الغيبية التي لا تكذب في كتاب اللّه المجيد. وهذه من الأسرار العجيبة للإعجاز القرآن الكريم، وإنه يتحدث عن الأنسان والنجوم والزمن والطبيعة ومتغيراتها، ولاغرابة في ذلك، لأنه الصادر من خالق الكون وقدرته وعظمة، ولا يمكن ان يتحول هذا الكلام

الالهي المتمثل بالقرآن الكريم إلى كلام عتيق ككلام البر يردف في رفوف المكاتب ومستودعات المتاحف، كا كان مصر أحاديث البشر وكتبهم. يقول الامام علي (عليه السلام): «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ »(4).

فالقرآن الكريم يبقى للإنسان على مر العصور، ولا يحدّث الإنسانية الا

ص: 10


1- (1)- سورة فصلت: 42 .
2- (2)- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 10 / 195 .
3- (3)- الكافي الشيخ الكليني: 2 / 599 .
4- (4) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 91 .

بصدق وحق، لأنه الكلام الذي يعلو ولا يعلو عليه، فهو العلم المضيء في ظلام الجاهلية، ومن شأن ذلك العلم أن يطرد الجهل والجهاء، وهذا أحد الاسباب المؤدية إلى تأثر الكثیر وانصياعهم في فترة جهاد الرسول (صى اللّه عليه واله) كما أشار الامام أمر المؤمنن إلى ذلك بقوله (عليه السلام): «وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً. وَاعْلَمُوا

أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لاحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأوَائِكُمْ »(1).

وعن علي أمر المؤمنن (عليه السلام) أنه قال: «ألا لا خر في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خر في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خیر في عبادة ليس فيها تفقه »(2).

وعن الزهري قال سمعت عي بن الحسین (عليه السلام) يقول: «آيات القرآن خزائن العلم، فكلما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها»(3).

وفي جانب التربية الروحية للقرآن الكريم إن هناك آثار مترتبة على كل من سلك في القرآن طريقا للهداية.

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله اللّه عز وجل مع السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزا (أو حجزا) عنه يوم القيمة يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غر عامي فبلغ به أكرم عطائك فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلتین من حلل

الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثمَّ يقال له: هل أرضيناك فيه ؟ فيقول القرآن

ص: 11


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 91 .
2- (2) بحار الأنوار، العلامه المجلسي: 92 / 211.
3- (3)- الوافي، الفيض الكاشاني: 9 / 172 .

يا رب: قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا فيعطى إلا من بيمينه والخلد بيساره ثمَّ يدخل الجنة فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثمَّ يقال له: هل بلغنا به و أرضيناك ؟ فيقول: نعم قال: ومن قرأه كثیرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه اللّه عز وجل أجر هذا مرتین »(1).

وكم أحوجنا اليوم إلى القرآن التمسك والعمل به في تطبيقه والاخذ من كنوزه و فيوضاته، في تطبيق المنهج الحياتي والسیر في مدارج الكمال والقرب الالهي.

و يشیر(عليه السلام) إلى السر الأساس في خلود القرآن واستمراره، أنه لا يزداد مع مرور الزمن و تبدل الأفراد والمجتمعات والحضارات إلا نضارة و تألقاً، و بهذا يكون كتاب اللّه خارجاً وسابقاً للدائرة الزمنية والمكانية. عبر عن ذلك الخلود و حقيقة أسراره العظمى الامام علي (عليه السلام): «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ»(2).

(لا يخبو) يخبوا: ينیر حينا بشدة ويخمل حينا أخر(3). وجاء في وصف الحكمة (لا يخبو نورها ولا يكبو زنادها)(4).

ص: 12


1- (1)- روضة المتقین في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول): 13 / 112، الوافي: الفيض الكاشاني: 9 / 1699 .
2- (2) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 177 .
3- (3)- ينظر: لسان العرب، بن منظور: 1/ 19 .
4- (4)- فيض القدير شرح الجامع الصغر، المناوي (ت: 1031 ه- )، تحقيق: تصحيح أحمد عبد السلام، 1415 – 1994 م، دار الكتب العلمية – بیروت ( د ط): 3 / 552 .

يريد بقوله (عليه السلام) هذا وبجميع مفردات الخطبة إن في القرآن نصوص بلاغية غضة جديدة لا تنتهي معانيها إلى يوم القيامة، لأنه نور وضياء وهداية، وتطهیر للقلب وأنه صراط وصمام آمان للبشرية جمعاء وهذا ما يدل على اعجازه حيث خطابه المعاصر لكل الأزمنة و على جميع المستويات العقلية.

ففيه معارف عظيمة فكل عالم ينهل منه بحسب اختصاصه فأهل اللغة يستندون عى بلاغته وكذلك أهل الفقه يستخرجون الأحكام الشرعية منه ويستندون عليه في حلالهم وحرامهم وكذلك أهل العلم الحديث وما وصل له العالم اليوم من تطورات فهو من عند اللّه وضع أسراره في هذا السفر العظيم،

فكل عالم حقيقي وكل علم مستفاد منه الا ومصدره القران فالعلم الذي لا يرجع أساسه إلى القرآن الكريم ليس بعلم، فلذلك كان أمیر المؤمنین عليه السلام يقول سلوني قبل أن تفقدوني و أشار إلى أنه عليه السلام عارفا بطرق السموات أكثر من طرق الأرض و هذا لما علمه الرسول من أسرار القران الكريم الذي حوى جميع العلوم فما من شيء في هذا الكتاب الا وعلمه اللّه لرسوله فعلمه للإمام علي فلذلك كان يعلم طرق السموات والأرض.

أولا: أهمية البحث:

تتمثل أهمية البحث في تعريف المجتمع والناس في بيان حقيقة فكر الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بأكبر وأدوم معجزة ألا وهي معجزة القرآن الكريم، والتي تمثل صدق رسالة النبي ( صلی الله علیه و آله و سلم)، والأنبياء الذين سبقوه بالدعوة والذي من خلالهم يهتدي الناس ويزدادوا إيمانا.

ص: 13

ثانياً: أهداف البحث:

يهدف البحث إلى أمور عدة منها بيان المبادئ الأساسية في كلام الامام (عليه السلام) في حقيقة القرآن الكريم وتحكيم مناهجه و وجوب العمل به، لأنه مصدر لجميع العلوم والمعارف الكونية، ونور يستضاء به على مر العصور ومنجي البشرية من جميع مشاكلها، وينبغي أن تتوجه إليه الجهود ويحظى بالعناية والاهتمام بالدراسات والابحاث وينبغي أخذ الدروس والعبر التي تفيد الفرد والمجتمع،

وقد كانت رحلة جاهده للارتقاء بدرجات العقل ومعراج الافكار.

ثالثا: منهجية البحث:

تناول الباحث في موضوعه (القرآن الكريم في فكر الامام علي (عليه السلام) شواهد من نهج البلاغة(، وهذه الدراسة جاءت للوقوف عى مواطن و عظمة القرآن الكريم من خلال نظمه واخباراته الغيبية سواء كانت اخبار عن الامم السالفة والقضايا المستقبلية التي لم تحدث بعد في وقت نزول القرآن الكريم، وبعض الامور الاعجازية الاخرى من تطابق العلوم مع ما جاء به القرآن الكريم، هذا من جانب.

أما الشواهد الاعجازية الاخرى في الآيات الكونية في الخلق وهذا ما بدا جليا على لسان الامام علي (عليه السلام) بشكل خاص وهذه الشواهد التي تدللعى أن القرآن حاضرا بشكل دائم عند الإمام علي (عليه السلام) ولذا انتقينا بعض الشواهد من كلامه المبارك.

وهذه الدراسة جاءت وفق أسس علمية موضوعية مفصلة مبنية عى التوثيق من المصادر والمراجع العلمية عبر التوضيح والتبسيط والدقة في عرض النتائج.

ص: 14

رابعا: هيكلية البحث:

و لتحقيق أهداف البحث و الفائدة منه تم تقسمه إلى اربعة فصول وخاتمة و فهرس.

الفصل الأول: الآثار الغيبية في القرآن الكريم ونهج البلاغة.

الفصل الثاني: الآثار العلمية في القرآن الكريم ونهج البلاغة.

الفصل الثالث: الآثار التربوية في القرآن الكريم ونهج البلاغة.

الفصل الرابع: آثار بقاء القرآن الكريم و ديموميته بین عرض القرآن الكريم ونهج البلاغة.

الخاتمة والاستنتاجات.

فهرس المصادر والمراجع

ص: 15

ص: 16

الفصل الأول: الآثار الغيبية في القرآن الكريم ونهج البلاغة

اشارة

ص: 17

ص: 18

تمهيد:

القرآن الكريم معجزة النبي (صلى اللّه عليه وآله) له شأن عظيم أنزل على قلبه في ليلة مباركة بكل وضوح، كتاب مبین ﴿أ لر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِینِ﴾(1)،﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِینٌ﴾(2)، ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾(3) فهو كتاب هداية و تشريع، ففيه من القضايا الغيبية العامة المذهلة لعقول البشر جمعت علوم الاولین والاخرين.

ومما لابد من بيانه أن القرآن قد تحدى العقول وأسرارها (من كونه جامعا لأنواع العلوم الشريفة و الأسرار الغيبية العجيبة اللطيفة التي تناولت جميع العلوم من الطب، والتاريخ، والعلوم الاخرى فضلا عن اللغة بأقسامها، والَّتي هي متنزّه القلوب كما أنّ زمن الربيع محلّ الأزهار الرايقة الَّتي هي مستمتع النظر ومطرح السرور)(4)، فكل عالم ينهل منه بحسب اختصاصه فأهل اللغة يستندون إلى بلاغته

وكذلك أهل الفقه يستخرجون الأحكام الشرعية منه ويستندون اليه في حلالهم و حرامهم و كذلك أهل العلم الحديث و ما وصل له العالم اليوم من تطورات فهو من عند اللّه وضع أسراره في هذا الإعجاز العظيم، فكل عالم حقيقي وكل علم مستفاد

ص: 19


1- (1) سورة يوسف: 1.
2- (2) سورة المائدة: 15 .
3- (3) سورة النور: 34 .
4- (4) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 3 / 81 .

منه إلا و مصدره القرآن فالعلم الذي لا يرجع أساسه إلى هذا المعجز ليس بعلم.

وهو صريح قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیرًا﴾(1).

فمن خلال هذا النص يتضح لنا عموم التحدي الكاشف عن عموم المتحدى به، ومن هنا كان القرآن معجزة للبليغ في بلاغة، و للحكيم في حكمة، و للمفتي و السياسي... وللعالمن كافة.

ومنه كان أمیر المؤمنین (عليه السلام) يقول سلوني قبل أن تفقدوني وأشار إلى أنه (عليه السلام) عارف بطرق السموات أكثر من طرق الأرض فما من شيء في هذا الكتاب إلا وعلمه اللّه لرسوله فعلمه للإمام علي (عليه السلام)، يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: (علمني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ألف باب يفتح من كل باب ألف باب)(2)، فلذلك كان يعلم طرق السموات و الأرض و الذي﴿عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(3). تعني الراسخ في العلم الذي يدرك حقيقة كون الكتاب من عند اللّه تعالى، ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِینٍ﴾(4)، وهذا ما صرحت به العديد من الروايات الشريفة.

روى الكليني في الصحيح، عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب و ما جمعه

ص: 20


1- (1) سورة الاسراء: 88 .
2- (2) روضة المتقین في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي ( الأول ): (ت 1003 ): تحقيق: علي بناه الاشتهاردي - حسین الموسوي الكرماني: ط 1: 4 / 127 .
3- (3) سورة الرعد: 43 .
4- (4) سورة الانعام: 59 .

وحفظه كما نزّله اللّه إلا علي بن أبي طالب والأئمة (عليهم السلام) من بعده(1).

وفي الحسن كالصحيح، عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، قال: ذاك أخي علي بن أبي طالب(2).

إذا القرآن الكريم المعجزة الدائمة على مدى الدهر، ولذلك فإنه لا يقف عند حد معین، ولا يحد بزمن او ثقافة معينة، وهذا ما صرح به الإمام (عليه السلام) بقوله: «وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ »(3)، (بإقامة الحجج والبراهین و إرسال المبشرين والمنذرين (قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ) بكتابین: كتاب ينطق بلسان المقال،و هو القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، و كتاب ينطق بلغة الأعمال، و هو الكون فكل شيء فيه هو (آية تدل عى أنه واحد)، ولكن هذه الآية لا يفهمها إلَّا ذو قلب سليم و عقل مجرد عن التحيز و التقليد)(4)، يقول (عليه السلام): «وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ.

ص: 21


1- (1) الكافي، الشيخ الكليني: 1/ 229 ، وينظر: بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت: 290 ه-)، تحقيق: تصحيح و تعليق و تقديم: الحاج مرزا حسن كوچه باغي، سنة الطبع: 1404- 1362 ش، منشورات الأعلمي - طهران (د ط): 232 .
2- (2) بحار الأنوار: العلامه المجلي: 35 / 429 ، وينظر: الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381 ه- )، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، 1417 ه-: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة ط 1: 659
3- (3) نهج البلاغة،خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 56 .
4- (4) التفسیر المبین، محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه- )، مؤسسة دار الكتاب الإسامي: 1403 - 1983 م، ط 2: 272 .

فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ،أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ »(1).

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَیْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِینَ﴾(2).

وقد قصدنا في هذا الفصل بيان منهج الإمام علي (عليه السلام) في طرح المسائل الغيبية في القرآن الكريم من خلال المسائل الآتية:

المسألة الأولى: معاني الغيب

الغيب: (كل شيء غيّب عنك شيئاً فهو غيابه)(3)، والاصل يدل على تستر الشيء عن العيون ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب مما لا يعلمه إلا اللّه، كما لو قيل غابت الشمس تغيب غيبة و غيوبا وغيبا(4) أي استترت عن اعین الناظرين، قال تعالى في سورة يوسف ﴿قالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِینَ﴾(5).

(والغيب خلاف الشهادة وينطبق عى ما لا يقع عليه الحس، وهو اللّه سبحانه و آياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي)(6)هو الذي أشیر إليه بقوله:

ص: 22


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 111.
2- (2) سورة يونس: 37
3- (3) العين، الفراهيدي: 1/ 364 .
4- (4) ينظر: معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا: 4 / 403 .
5- (5) سورة يوسف: 10 .
6- (6) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: 1/ 46 .

﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِماَ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(1).

ويستعمل الغيب في كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب، قال تعالى ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّماَء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(2).

والغيبيات هي الحوادث المتعلقة بالماضي أو الحاضر أو المستقبل(3)، كما يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام): «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ »(4).

يتحدث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع عن الآثار الغيبية للقرآن الكريم،كونه هو كلام اللّه المنزل فمن تلك الآثار هو الإنباء بالغيبيات في جميع الأزمنة سواء كانت هذه الغيبيات متعلقة بالزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل.(و علم الغيب هو العلم الذي يلم به الإنسان بعد ما تنقشع من أمام عينيه حجب القرون، و تنطوي المسافات، فيقرأ المستقبل البعيد و الحاضر المحجوب مثلا يقرأ في كتاب مفتوح، ويعي حوادثه كأنها بنت الساعة التي هو فيها)(5).

ص: 23


1- (1) سورة البقرة: 4.
2- (2) سورة النمل: 75 .
3- (3) ينظر: تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي: 12/ 472 .
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 54 .
5- (5) مفاهيم القرآن، جعفر السبحاني، مؤسسة الإمام الصادق، إيران،( د ط): 1/ 145 .

المسألة الثانية: تقسيمات الغيب:

اشارة

وينقسم الغيب على قسمين.

القسم الاول: الغيب المختص بذات اللّه سبحانه و تعالى و المسمى بالغيب المكنون أو غيب الغيوب:

كما أشار اليه الإمام (عليه السلام) بقوله: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الاَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ! هَوَ اللّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيد فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الاْوْهَامُ بِتَقْدِير فَيَكُونَ مُمَثَّلاً »(1).

انحسرت: انقطعت(2)، والمحسور المنقطع به لذهاب ما في يده، و انحساره انقطاعه عنه(3) و به فسر قوله تعالى في سورة الأسراء:﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾(4)

ويتضح من قوله (عليه السلام) (إن الغيب الخاص باللّه تعالى فلا يشاركه فيه غیره ويكون خاصاً بالذات الإلهية عى وجه الأصالة و الذاتية و الإطاق و الإرسال، حيث لا بداية ولا نهاية لعزته و جلاله، و هو القاهر فوق عباده، وهنا يستحيل الاطاع عى الغيب بالحواس ويمتنع إدراكه بالأدوات المادية، مثل ذات اللّه و صفاته و غيرها، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يساويه شيء، و ليس كمثله شيء في

ذاته ولا في صفاته)(5)، منه قوله تعالى: ﴿قل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالَأرْضِ

ص: 24


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 45 .
2- (2) ينظر: لسان العرب، ابن منظور: 4/ 289 .
3- (3) ينظر: تاج العروس، للزبيدي: 1/ 2690 .
4- (4) سورة الاسراء: 29 .
5- (5) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 2/ 294 .

الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِین﴾(2).

القسم الثاني: الغيب النسبي المقيد

و هو الغيب الذي يتفاوت فيه إمكان الاطاع عليه على وفق الظروف و الافراد و الازمان، فقد يكون غيبا من جمة إنسان و يكون كذلك لأناس آخرين يملكها بتمليك اللّه ملكا تبعيا أو عرضيا و يكون سببا لها بإذن اللّه، و تعليمه، و هذا العلم لا يكون إلا عرضيا و اكتسابيا و مقيدا و محدودا، و يطلع عليه الانبياء و الائمة و من شاء سبحانه و تعالى تعليمهم به(3)، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(4) ، وقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَیْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾(5)، (معناه أنه تعالى لم يجعل لأحد من خلقه سببا للاطاع عليها متى شاء بل أمرها بيده فإن بدا له تعالى أن يعلم أحدا منها أعلمه)(6).

ولكنه سبحانه ينبأ به بعض عباده المقربین وخصوصا حملة الرسالة، كالإمام

ص: 25


1- (1) سورة النمل: 65 .
2- (2) سورة الانعام: 59 .
3- (3) ينظر: تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: 10 / 61 .
4- (4) سورة الانبياء: 73 .
5- (5) سورة الجن: 26 - 27 .
6- (6) الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي،: مراجعة: محسن الأسدي، 1428 - 2007 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ط 1: 2/ 49 .

أمیر المؤمنین و الائمة الاطهار (عليهم السلام)، وهذا ما بيّنه (عليه السلام) و هو يتحدث عن المستقبل، «وَاللّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُل مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللّهِ (صلى اللّه عليه وآله). أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ. وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ،وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إلاَّ صَادِقاً، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ، وَبِمَهْلِكِ مَنْ

يَهْلِكُ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الأَمْرِ، وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي ألاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ »(1).

وعن سلمان المحمدي أنه قال (عليه السلام): «عندي علم المنايا و البلايا و الوصايا و الألباب و فصل الخطاب و مولد الاسلام و مولد الكفر و أنا صاحب الميسم و أنا الفاروق الأكبر و دولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة و عما كان قبلي وعلى عهدي والى أن يعبد اللّه »(2).

وعندما يصف قوما من الاتراك ويتنبأ ببعض أعمالهم، يقول: «كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل،حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ! » فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب! فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل وكان كلبياً :

«يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ

ص: 26


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام): 2 / 90 .
2- (2) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب ( ت: 588 ه- )، تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف: 1376 - 1956 م ( د ط ): 1 / 318 .

السَّاعَةِ...)الاية، فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الأَرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي»(1).

يلخص لنا الإمام (عليه السلام) بأن علم الغيب كله لعالم الغيب، ولكنه تعالى يطلع من ارتضى واجتبى من عباده على شيء من هذا الغيب بواسطة واحدة، كعلم النبي عن جبريل عن اللّه، أو أكثر كعلم الإمام عن النبي عن جبريل عن اللّه: قوله ﴿وما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِه مَنْ يَشاءُ﴾(2)، ﴿عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ﴾(3)،وهذا ما أكده الإمام الصادق (عليه السلام).

(عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام يعلم الغيب ؟ فقال: «لا ولكن إذا أراد أن يعلم اليء أعلمه اللّه ذلك »)(4)، (دلَّ على أنّ علم الغيب علم غیر مستفاد كعلم اللّه تعالى و علم الإمام لما كان مستفاداً منه تعالى لا يكون علماً بالغيب حقيقة وقد يسمّى أيضاً علماً بالغيب نظراً إلى تعلّقه بالأُمور الغائبة وبه يجمع بین الأخبار التي دلّ بعضها على أنهم عالمون بالغيب ودلَّ بعضها عى أنّم غیر عالمین به)(5).

ص: 27


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 11.
2- (2) سورة آل عمران: 179 .
3- (3) سورة الجن: 27 .
4- (4) الكافي الشيخ الكليني: 1/ 257 .
5- (5) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني (ت: 1081 ه- )، تحقيق مع تعليقات: المیرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، 1421 - 2000 م،: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت - لبنان، ط 1: 6/ 35 .

المسألة الثالثة: منهج الإمام علي (عليه السلام) في تقسيمات الغيب

اشارة

تنقسم الأخبار الغيبية عند الإمام (عليه السلام) في القرآن الكريم علی ثلاثة أقسام:

الأول: غيب الماضي.

اشارة

قال (عليه السلام) في نهج البلاغة: «أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي »(1).فإنه يشهد عى اشتماله على الأسرار غر القابلة للكشف بحسب الظاهر، و قوله (عليه السلام ): «عليكم بكتاب اللّه » لا ينافيه وجود بعض يسر منه غیر قابل لفهم كل أحد، بل هو في مقام تعظيم الكتاب و حدود سعته الوجودية، و لعله إيماء إلى إرجاع الناس إلى أهله، وهم أهل البيت (عليهم السلام)(2).

فمن غيبيات القرآن الكريم إنه يتحدث عن أنباء الماضن، (في أمم قد خلت من قبل، وطويت صفحة حياتها، فأصبحوا مما لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم، من غیر أن يرجع إلى كتب السیر، والتاريخ، والكهنة والربانیين)(3)، وتمثيل ذلك:كالأحداث التاريخية و الاخبار الماضية التي لم نشهدها كقصة يوسف وقصة الخضر واصحاب البقرة والمائدة وإلى غیر ذلك من الاحداث التي لم نشهدها، نذكر بعض منها.

ص: 28


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2/ 54 .
2- (2) تفسر القرآن الكريم، السيد مصطفى الخميني ( ت:: 1398 ه- )، تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، جمادي الثاني 1418 - 1376 ش، ( د ط): 2/ 289 .
3- (3) تفسر الصافي، محمد بن محسن الفيض الكاشاني ( ت: 1091 ه- )، صححه وقدم له وعلق عليه: الشيخ حسن الاعلمي ، مؤسسة الهادي إيران ( د ط): 5 / 152 .
الشواهد الغيبية التي ذكرها الإمام (عليه السلام) المستوحاة من القرآن الكريم

ومن الشواهد الغيبية التي تحدى بها القرآن الكريم بالإخبار عن الغيب، و قد تحدى بالإخبار عن الغيب بآيات كثیرة، منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين و أممهم

1. قوله تعالى في قصة آدم عليه السلام

يقول (عليه السلام): «وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور يَخْطَفُ الْاَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ، وَطِيب يَأْخُذُ الْاَنْفَاسَ عَرْفُهُ، لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالاخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلاْسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَاَءِ مِنْهُم»(1).

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾(2).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن خلق آدم وسجود الملائكة له، يعنى أنّه سبحانه و تعالى يكلف الملائكة بأحكام لا يعلمون دليلها و سرّها و نكتتها و الغرض منها، (ليميّز المنقاد من المتمرّد والمتذلَّل من المستكبر. وهذا الإخبار من الغيبيات اخبر اللّه نبيه بها عن طريق الوحي)(3).

2. قصة موسى والتساؤلات المتكررة من قومه أوضحها الوحي لنبيه (صلى اللّه عليه وآله)

كما أشار إليها الإمام (عليه السلام) بخطبته: «وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ

ص: 29


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 138 .
2- (2) سورة الاعراف: 11.
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 11 / 274 .

مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل، أَوْ كِتَاب مُنْزَل، أَوْ حُجَّة لاَزِمَة، أَوْ مَحَجَّة قَائِمَة(). كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِنَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَنِّ لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَیْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَیِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ

ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَنِّ لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِیرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾(1).

يتحدث القرآن الكريم عن قصة قوم موسى أحد أنبياء أولي العزم عندما أمرهم بذبح بقرة، قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً، قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِینَ، يشیر (عليه السلام) إلى نكتة وهي الاساس في رسالة الانبياء وهي الصدق في الدعوة، فاستهزاء العقول المغمورة في الجهالات والاوصاب والامراض ينافي

محتوى الرسالة السماوية، وأنبياء اللّه مبرأون من ذلك، كما يقول (عليه السلام):

«قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْاَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيِّةُ الْجَهْلاَءُ حَيَارَى فِي زَلْزَال مَنَ الْاَمْرِ، وَبَلَاء مِنَ الْجَهْلِ»(2).

هذه القصة من المعاجز والاسرار الغيبية التي ذكرها القرآن الكريم في الزمن الماضي وجاءت إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن طريق الوحي، ويستفاد منها بيان قدرة السماء في الأرض وعصمة الانبياء وتنزيههم عن الخطأ وأن اللّه تعالى لا يعجزه شيء في السماء والارض، «فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَع، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ

ص: 30


1- (2) سورة البقرة: الآيات، 67 -71 .
2- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 186 .

مُسْتَقَرّ، تَنَاسَخَتْهُم كَرَائِمُ الْاَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ»(1).

2. قصة يوسف (عليه السلام)

يقول (عليه السلام): «وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ وَالْبَلَاءِ؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟! اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع، وَلاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاع، حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْاَذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاحْتَِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالْاَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ »(2)، وهو قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ

يَمْكُرُونَ﴾(3).

يشر الإمام (عليه السلام): إلى حال الماضین من الانبياء السابقين في حال التمحيص والاستخلاص لقلوبهم بالبلاء أثقل أهل الأرض أعباء قد اتّخذتهم الفراعنة عبيدا يسومونهم سوء العذاب وهؤلاء كيوسف (عليه السّلام)، اتخذه الفراعنة عبد مقهورا يسومونه سوء العذاب، رأى ما رأى من مضايق البلاء فأبدله اللّه سبحانه وتعالى بالفرج والعز مكان الذل والأمن مكان الخوف (4).

ص: 31


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 185 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 152 .
3- (3) يوسف: 102 .
4- (4) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 4 / 295 .

وأما اشارة الاخبار عما تقدم من القصص، وفيه احتجاج عى المشركین، من حيث أنه جاء بما لا يعلم إلا من أربعة أوجه: إما مشاهدة الحال، او قراء ة الكتب،أو تعليم بعض العباد، أو بوحي من اللّه. وقد بطلت الأوجه الثلاثة للعلم بأنها لم تكن حاصلة للنبي (صلى اللّه عليه وآله). فصح أنه عى الوجه الرابع: بوحي من اللّه تعالى)(1)، والمعنى هو خطاب للنبي (صلى اللّه عليه وآله) إشارة إلى كل ما أراده أخوة يوسف من إجماع أمرهم وعزمهم على ما هموا به من مكر، لم يتعرف عليه النبي إلا من خلال الوحي، وهذه من الامور الغيبية.

إذا من خال ذلك نفهم معنى الرسالة و النبوة و أن الرسول هو الذي يحمل رسالة من اللّه إلى الناس و النبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوة فإن الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة.

3. ومن الشواهد الغيبية الماضية التي يتحدث بها (عليه السلام) قوله تعالى في قصة مريم:

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(2).

ولما أخر اللّه نبيه (صلى اللّه عليه وآله) بما أخر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها اللّه لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي.

ثم إن اللّه سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه (صلى اللّه عليه وآله) بهذا القرآن احتجاجا على منكري رسالة من الكفار، والذين كانوا يعتقدون أن النبي أمي لا

ص: 32


1- (1) التبيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي: 2 / 457 .
2- (2) آل عمران: 44 .

يكتب ليقرأ الكتب السماوية حتى يصل إلى علم الغيب بهذه الانباء مع خفائها، وإدراك معرفتها على الرغم من خمولها وإهمالها عند أهلها، يقول (عليه السلام) «أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ، وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ، فَبَلَّغَ رَسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَان وَلاَ مُقَصِّر، وَجَاهَدَ فِي اللهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِن وَلاَ مُعَذِّر، إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ »(1)، ثم تضيف الآية المباركة أمراً آخر في حقيقة الغيب ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يخْتَصِمُونَ﴾ أي أنك يا رسول اللّه لم تكن حاضرا في تلك الاجواء المشحونة بالابتلاء والامتحان التي مرت على مريم (عليها السلام) عندما تنازع الاحبار في كفالتها، وإنما جاءك الخبر عن طريق الوحي.

الثاني:غيب الحاضر.

اشارة

يقصد به الحديث عن أمور تقع في زمن الحاضر، أي اخباره (عليه السلام) عن العوالم الغيبية في زمن نزول القرآن، ولكنها بالنسبة الينا غيب.

يتحدث القرآن عن هذا القسم في مقصدين:

المقصد الأول:أخبار القرآن الكريم عن العوالم الغيبية التي لم يرها الناس بحواسهم:
اشارة

في هذه المسألة يتحدث عن عن الاسماء والصفات الإلهية، وعن موجودات أخرى كالملائكة والجن، والحديث عن مشاهد الموت والبعث.

أولا: الأسماء والصفات.

يقول (عليه السلام) في أنه تعالى لا يُدرك كنه ذاته وصفاته «الْحَمْدُ لله الَّذِي

ص: 33


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 229 .

أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدرَتِهِ، وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ»(1).

مقل العقول (المقل جمع مقلة كغرفة، وهي شحمة العن التي تجمع سوادها وبياضها، تستعار لقوة العقل باعتبار إدراكها والمقلة بفتح الميم وسكون القاف حصاة يقسم بها الماء عند قلته يعرف بها مقدار ما يسقي كل شخص)(2).

ومنه حديث الإمام علي (عليه السلام): «لم يبق من الدنيا إلا سملة كسملة الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة »(3) يصور لنا الإمام (عليه السلام) العظمة و القدرة الالهية و عجز العقول الظاهرة والباطنة عن إدراك حقيقته وذاته ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾(4)، العزيز الجبار لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، قال تعالى﴿وَأَنَّهُ تَعَالَ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا﴾(5)، في ملكه وسلطانه وما أظهره من الموجودات الامكانية على وجه النظام الأتم، مما ابهر العقول وادهش النفوس البصرة من عظيم قدرته في مخلوقاته حيث أتمها عى النظام الأكمل، فكل الموجودات الامكانية موجودات قائمة بغيرها بوجود واجب الوجود، فالمالك الحقيقي هو اللّه تعالى المعطي لها من الصفات كالعلم والقدرة، قال تعالى: ﴿للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾(6)، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ

ص: 34


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 168 .
2- (2) مجمع البحرين، العالم المحدث الفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي (ت: 1085 ه- )، تحقيق أحمد الحسيني:المكتبة المرتضوية لإحياء الاثار الجعفرية ( د ط): 7 / 209 .
3- (3) الوافي الفيض الكاشاني: 9 / 1329 .
4- (4) سورة الرحمن: 27 .
5- (5) سورة الجن: 3.
6- (6) سورة البقرة: 284 .

يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾(1).

ثانيا: الملائكة والجن:

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) واصفا الجن بكلام له: «وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالِاْنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَلِيُبَصِّرُوهُم عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَر مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا، وَحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، وَمَا أَعَدَّ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة وَنَار، وَكَرَامَة وَهَوَان أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً، وَلِكُلِّ قَدْر أجَلاً، وَلِكُلِّ أَجَل كِتَاباً»(2).

يتحدث (عليه السلام) عن الملائكة والجن وهما من القضايا الغيبية التي سترها اللّه عن عيون البشر يخبر عنها الرسول الاكرم (صلى اللّه عليه وآله) ويتحدث بها للناس.

قال تعالى في وصف الجن: ﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾(3).

وقال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَىَ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

ص: 35


1- (1) سورة الاخلاص: الآيات، 1 -5.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام): 2 / 111.
3- (3) سورة الاعراف: 38 .

وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾(1).

الجن: كلمة تدل على الستر والخفاء، يقال: (جنَّ الشيء يجُنُّه جَنّاً ستره. وكلّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عن،وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون)(2)، سُمّي الجنین لاستتاره في بطن أُمّه)(3)، منه قوله تعالى: ﴿وَإِذْأَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾(4)، (والجن خلق من نار ثم خلق نسله)(5).

والمستفاد من آيات القرآن أن (الجن نوع من الأرواح العاقلة المريدة عى نحو ما عليه روح الإنسان ولكنهم مجردون من المادة، ليس لنا علم بهذا النوع من الأرواح لأنه لا يدرك بحواسنا، إلا ما هدانا إليه القرآن العظيم من أنهم عالم قائم بذاته وأنهم قبائل وأن منهم المسلمين ومنهم الكافرين)(6). وبتعبیر آخر: إنه نوع من الجسم اللطيف )(7)، حيث أشارت بعض الآيات القرآنية أن الجن فيهم المؤمن المطيع والكافر العاصي، وأنهم مكلفون شرعا ومسؤولون،قال تعالى:﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِی وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾(8).

ص: 36


1- (1) سورة الانعام: 130 .
2- (2) خزانة الأدب، البغدادي (ت: 1093 ه- )، تحقيق: محمد نبيل طريفي/إميل بديع اليعقوب، بیروت - دار الكتب العلمية 1998 م ط 1: 6 / 166 .
3- (3) لسان العرب، ابن منظور: 13 / 92 .
4- (4) سورة النجم: 32 .
5- (5) العين، للفراهيدي: 1/ 459 .
6- (6) دائرة المعارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، دار المعرفة بيروت لبنان ط 2: 3/ 185 .
7- (7) الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: 8/ 70 .
8- (8) سورة الانعام: 130 .

وقال تعالى:﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَی الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا *... * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾(1).

وعن أبي الدّرداء قال: قال رسول اللّه (صلَّی اللّه عليه وآله وسلَّم): «خلق اللّه الجنّ ثلاثة أصناف صنف حيّات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب»(2).

وقريب منه عن جابر في غزوة تبوك (وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أتدرون من هذا قالوا اللّه ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن)(3).

ومن الشواهد الغيية التي يتحدث عنها القرآن الكريم في زمن نزوله وهو خلق الملائكة، قوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(4).

ص: 37


1- (1) سورة الجن: الآيات 1، 2، 3، 11.
2- (2) المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشاني ( ت: 1091 ه- )، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، انتشارات إسلامي وابسته به جامعه مدرسین حوزه علميه قم، ط 2: 5/ 71 .
3- (3) الصحيح من سیرة النبي الأعظم ( صلى اللّه عليه وآله )، السيد جعفر مرتضى العاملي، دار الحديث للطباعة والنشر - قم - ايران، 1426 - 1385 ش، ط 1: 29 / 288 .
4- (4) سورة البقرة: 30 .

وقال الإمام علي عليه السلام «ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِاِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْاَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلَاَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا»(1)

ثالثا: الموت والبرزخ والبعث

ومن كلام له (عليه السلام) في وصفه للموت: «أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِىء لاَق بِمَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، وَالْاَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ»(2).

وهناك شواهد غيبية تحدث عنها القرآن في زمن نزوله، وهي مشاهد الموت والبرزخ والبعث. ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِینَ﴾ (3). ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(4).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن الموت وإن كل نفس ذائقة الموت، والانسان مخلوق للموت، ولايستطيع مخلوق دفع أجله أو الفرار منه، وحقيقة الموت من الامور الغيبية التي تحدث عنها النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى الناس عن طريق الوحي.

وكذلك قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾(5)وفي سياق الآية المباركة قيل (وذلك لأن لحوق الموت ضروري وقد أحسن بقوله (في فراره)

ص: 38


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، 1/ 89 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 33 .
3- (3) سورة البقرة: 94 .
4- (4) سورة البقرة: 133 .
5- (5) سورة الجمعة: 8

فإنّه لما كان الإنسان دائماً فاراً من الموت طبعاً وكان لابد منه لا جرم يلاقيه في حال فراره)(1).

وفي البحار عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه، عن أمیر المؤمنین (عليهم السلام) قال: «لما أراد اللّه تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم عليه السلام أهبط اللّه ملك الموت، فقال: السلام عليك يا إبراهيم ! قال: وعليك السلام يا ملك الموت أداع أم ناع؟ قال: بل داع يا إبراهيم؟ فأجب، قال إبراهيم: فهل رأيت خليلا يميت خليله ؟ قال: فرجع ملك الموت حتى وقف بین يدي اللّه جل جلاله فقال: إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم، فقال اللّه جل جلاله يا ملك الموت اذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟ إن الحبيب يحب لقاء حبيبه»(2).

فالموت حق ولابد للإنسان أن يموت فحتى الرسل يدركهم الموت، فمن كلام له (عليه السلام) قال فيه: «فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَی الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيْمانُ بْنُ دَاوُدَ(عليه السلام)، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالِاْنْسِ، مَعَ النُّبُوَّهِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ، فَلَمَاّ اسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ المَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ »(3).

يبین لنا الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من كلامه أنه لا سبيل إلى البقاء في هذه الدنيا و إن الإنسان لابد أن يموت و لايستطيع احد دفعه مهما قوي من حكم و سلطان، وهو معنى قوله (عليه السلام) من خلال احتجاجه في ذكر سليمان بن داود، ولو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما، أو إلى دفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان

ص: 39


1- (1) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني: 6 / 152 .
2- (2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 6 / 127 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 107 .

بن داود عليه السلام الذي سخر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة، و التقدير هنا لم يجد أحد البقاء بعده.

من هنا الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) يشیر إلى ملازمة نستطيع بيانها من خلال مقدمتين:

المقدمة الاولى: إن سليمان (عليه السلام) أوتي من القدرة والسلطان ما لم يؤتِ أحدا مثله إذ سخر اللّه له كل شيء من جن وأنس وشياطين، مع النبوة وعظيم الزلفة مع أنه لم يتمكن دفع الموت عنه.

المقدمة الثانية: وكل من كان هكذا أولى بدفعه لوكان يمكن دفعه، مع أنه(عليه السلام) يقول لما استوفى المدة وافته المنية بنبال الموت.

فالنتيجة المحصلة: لا يمكن لأحد دفع الموت، لأنه هو القاهر عباده بالموت والفناء، (إن لكل أجل وقتا لا يعدوه وسببا لا يتجاوزه)(1).

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لم يخلق اللّه عز وجل يقينا لاشك فيه أشبه بشك لا يقین فيه من الموت»(2).

وفي وصيته (عليه السلام) لابنه الحسن (سلام اللّه عليه): قال «وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّاَ خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَة، وَدَارِ بُلْغَة، وَطرِيق إِلَی الاْخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ»(3).

ومنه قول الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء:

ص: 40


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 165 .
2- (2) المصدر نفسه.
3- (3) المصدر نفسه: 3 / 49 .

«إن اللّه خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر والمنزلة بلغة، والدار قلعة فتزودوا فإن خیر الزاد التقوى»(1).

منزل قلعة في كلام النحاة: الدار التي لا نملكها أو لا ندري متى نتحول عنها، تنتقل بأهلها انتقالا، وتعقبهم بعد حال حالا (2). وبعبارة أخرى ليست بمستوطنة، كما يصفها الإمام (عليه السلام) بدار بلغة أو دار نجعة: أي دار عمل يبلغ فيها صالح الاعمال، يتزود فيها الإنسان للدار الاخرى،﴿وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَیْرِ حِسابٍ﴾(3)،«لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَیْرِ مَتْرَكٌ، وَلاَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ »(4)، والمراد من العمل الصالح هنا الاعمال الصالحة التي هي أعم من الصلاة والصيام، كما ورد في الحديث الشريف خلق الإنسان ليعمل في دنياه الفانية لآخرته: الباقية، «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّاَ الدُّنْيَا دارُ مَجَاز، وَالاْخِرَةُ دَارُ قَرَار، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ»(5).

ومن خطبة له (عليه السلام) ذكر فيها ملك الموت وتوفية النفس، قال عليه السلام وهو يصف ملك الموت «هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا)(6).

ص: 41


1- (1) حياة الإمام الحسین ( عليه السلام )، الشيخ باقر شريف القرشي ( ت: 1433 ه- )، مطبعة الآداب - النجف الأشرف 1394 - 1974 م ط 1: 1/ 162 .
2- (2) ينظر لسان العرب، بن منظور: 8 / 290 ، وتاج العروس، للزبيدي: 1/ 5496 .
3- (3) سورة غافر: 40 .
4- (4) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام ): 2/ 53 .
5- (5) المصدر نفسه: 2 / 183 .
6- (6)المصدر نفسه: 1/ 221.

ويتحدث القرآن الكريم أيضا عن سكرات الموت والحالة النفسية التي يمر بها المحتضر.

قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾(1)، و في سياق هذه الآية المباركة يتحدث الإمام (عليه السلام) في وصف الموت و سكراته «فَغَیْرُ مَوْصُوف مَا نَزَلَ بِهِمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ. ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّة مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاء مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ [لِسَانُهُ ]سَمْعَهُ، فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ» (2).

لذا كان (عليه السلام) يحث الناس ومن حوله من أهل بيته (عليهم السلام) على التهيؤ للموت و فوائد ذكره.يقول (عليه السلام) في وصية لابنه الحسن (عليه

ص: 42


1- (1) سورة ق: 19 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 213 .

السلام): « يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَلاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ»(1).

ومن المشاهد الغيبية التي اخر عنها القرآن الكريم في زمن نزوله مشهد البعث والنشور، ما يسمى بالمعاد الجسماني والروحاني معا، قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسيِ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ (2).

وقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾(3).

ومنه قول أمیر المؤمنین (عليه السلام) في حقيقة النشور والبعث و كيفية تصوير المعاد الجسماني والروحاني: «حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْاُمُورُ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ، وَأَزِفَ النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ، وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ، وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ، وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ، سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ، مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ»(4).

وكذلك قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِیرٌ) (5)، أي يخرجون مسرعین إلى أمره بلا مكث ولاتأخیر عند صيحة القيامة.

وفي سورة القمر: ﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ

ص: 43


1- (1) المصد ر نفسه: 3 / 49 .
2- (2) سورة يس: 78- 79 .
3- (3) سورة الزمر: 6.
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 135 .
5- (5) سورة ق: 44 .

الأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِینَ إِلَی الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾(1)، أي يخرجون مسرعین فزعین إلى لقاء اللّه، وكأنهم جراد منتشر من كثرتهم،(أي يدخل بعضهم في بعض و يختلط بعضهم ببعض لا جهة لأحد منهم فيقصدها كما أن الجراد لا جهة لها فتكون أبدا متفرقة في كل جهة قال الحسن الجراد يتلبد حتى إذا طلعت عليها الشمس انتشرت فالمعنى أنهم يكونون ساكنين في قبورهم فإذا دعوا خرجوا و انتشروا و قيل إنما شبههم بالجراد لكثرتهم)(2).

ثم يصف الإمام (عليه السلام) حالة الناس في اثناء بعثهم من القبور:يقول(عليه السلام) «رَعِيلاً صُمُوتاً، قِيَاماً صُفُوفاً، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الاسْتِكانَةِ، وَضَرَعُ الاسْتِسْلَامِ وَالذِّلَّةِ، قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ، وانْقَطَعَ الْأمَلُ، وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ، وَأُرْعِدَتِ الْاَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَ فَصْلِ عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً، وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً، وَمَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً، وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً، وَكَائِنُونَ رُفَاتاً، وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً، وَمَدِينُون جَزَاءً، وَمُمَيَّزُونَ حِسَاباً»(3).

يصور الإمام (عليه السلام) حالة الناس يوم القيامة عندما يفدون على اللّه سبحانه و تعالى، و هم مجتمعون على حكمه كالرعيل(4) لما ينتظرون من الثواب الجزيل أو العقاب الاليم، وهم منقادون لهيبته جلاله و نور قدسه. ثم أن الوحي أخبر رسول اللّه (صى اللّه عليه وآله) بأن المعاد حق على اللّه تعالى، وإنه سبحانه

ص: 44


1- (1) سورة القمر: 6 -7- 8.
2- (2) تفسير مجمع البيان، للطبرسي: 9/ 282 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 135 .
4- (*) الجماعة القليلة، وأصل الرعيل: القطيع من الخيل، ولعل الأظهر تشبيههم في اجتماعهم وصموتهم بقطيع الخيل.

لايخلف وعده، ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنّ وَعْدَ الله حَقّ وَأَنّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾(1).

يقول (عليه السلام): «وَاسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ(1) لِصِدْقِ مِيعَادِهِ،وَالْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ » (2)، يستحق العباد من الخالق جل و علا حسن الثواب شريطة أن يصدقوه في وعده فعلا وقولا(3)، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا الوعد بقوله: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (4).

وفي قبال التصديق من كذب وتولى فقد توعده اللّه تعالى بقوله: ﴿وَعَدَ اللّه الْمُنافِقِینَ والْمُنافِقاتِ والْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ﴾(5).

فيتضح: إن المعاد من الامور الغيبية التي يختص بها اللّه سبحانه وتعالى، وهو ما اشار اليه الإمام (عليه السلام) في النهج: «... وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... )الاية، فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْاَرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّنَ مُرَافِقاً؛ فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ»(6).

﴿إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِیرٌ﴾(7).

ص: 45


1- (1) سورة الكهف: 21.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 138 .
3- (3) ينظر: في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1 / 393 .
4- (4) سورة المائدة: 9.
5- (5) سورة التوبة: 68 .
6- (6) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2/ 11.
7- (7) سورة لقمان: 34 .
المقصد الثاني: الاخبار الغيبية في كشف مؤامرات المنافقين في القضاء على الاسلام
أولا_ مؤامرة قتل النبي (صلى اللّه عليه وآله) والقضاء عليه

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في حق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «وَأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ، وَقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ، لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذلِكَ اجْتَمِاعٌ على تَكْذِيبِهِ، وَالْتِمَاَسٌ لِاِطْفَاءِ نُورِهِ»(1).

أي جاهدهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أجل تثبيت قوائم الدين ورفع دعائم الاسلام وإبعادا عن هدم أركان الدين وإطفاء نور اليقین(2).

يخبر اللّه عزوجل نبيه من خلال الآيات القرآنية التي تنزل في كشف عورات المشركین والمنافقین، وإظهار ما كانوا يبطنون من نفاق ومكر في إطفاء نور الاسلام.

فقد أخر القرآن الكريم النبي (صلى الله عليه وآله) عن نوايا قريش حينما اجتمعت لإخراج الرسول من مكة أو قتله فبفضل هذا الإعجاز الغيبي فشلت تلك المؤامرة ونجا الرسول من كيدهم وهاجر إلى المدينة، وموضوع هجرة النبي(صلى اللّه عليه وآله) من مكة إلى المدينة، هو ايحاء من اللّه سبحانه وتعالى بترك مكة و التوجه إلى المدينة، لما بذله المشركن من جهود فكرية وجسدية سعيا للقضاء على نبي الاسلام (صلى اللّه عليه وآله)، قوله تعالى:﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَیْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(3).

ص: 46


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 130 .
2- (2) ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 11/ 191 .
3- (3) الأنفال: 30 .

المكر: احتيال وتخطيط وتدبير في خفية بغير ما يضمر، وهو حرام(1).

روي أنه قال: قال أمیر المؤمنین (عليه السلام): «لولا أن المكر و الخديعة في النار لكنت أمكر الناس»(2).

قال تعالى: ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾(3)، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه وَاللّهُ خَیْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(4).

وفي صدد هذه المؤامرات المشؤومة للمشركین والمنافقین في القضاء على الاسلام واجهاضه أخذوا يجتمعون في نواديهم من خلال تأجيج الرأي العام القبلي.

قال صاحب البحار: (إن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، فإذا شيخ قائم بالباب، وإذا ذهبوا إليه ليدخلوا، قال: أدخلوني معكم. قالوا: ومن أنت يا شيخ ؟ قال: أنا شيخ من مضر ولي رأي أشیر به عليكم. فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس، وأجمعوا أمرهم عى أن يخرجوه. فقال: هذا ليس لكم برأي إن أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم. قالوا: صدقت ما هذا برأي، ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه. قال: هذا ليس بالرأي إن فعلتم هذا ومحمد رجل حلو اللسان أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم، وما ينفع أحدهم إذا

ص: 47


1- (1) ينظر العين، الفراهيدي: 5/ 370 .
2- (2) مجمع الفائدة، المحقق الأردبيي ( ت: 993 ه-)، تحقيق: الحاج آغا مجتبى العراقي، الشيخ علي پناه الاشتهاردي، الحاج آغا حسین اليزدي الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ذي الحجة 1414 ط 1: 12 / 362 .
3- (3) سورة فاطر: 43 .
4- (4) سورة المائدة: 9.

فارقه أخوه وابنه أو امرأته، ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، يخرجون من كل بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة، ثم قرأ هذه الآية ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾(1).

ثانيا_ بناء مسجد ضرار

من الإخباريات الغيبية للقرآن الكريم هو الاخبار عن اهداف المشركین والمنافقین من قيامهم في بناء مسجد ضرار.

وهذا ما أكده الإمام (عليه السلام) في شدة وخطورة النفاق على الأمة، من خلال وصفه للمنافقین «وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ: الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ. يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد. قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ. يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ. وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ. حَسَدَةُ الرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُوا الْبَلَاءِ، وَمُقْنِطُوا الرَّجَاءِ. لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ، وَإلى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْو دُمُوعٌ. يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ،

وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاء. إِنْ سَأَلُوا ألْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا. قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِم مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْل مِصْبَاحاً. يَتَوَصَّلُونَ إِلَ الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنَفِّعُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ. يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ. قَدْ هيّأُوا الطَّرِيقَ، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ. فَهُمْ لَمُةُ الشَّيْطَانِ، وَحُمَةُ النِّیرَانِ (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)»(2).

يزعم هؤلاء انهم أرادوه للصلاة وايواء المساكين، وطلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يصلي فيه، ولكن اتضح الامر من خال الوحي في كشف نواياهم

ص: 48


1- (1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 19 / 53 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 167 .

الخبيثة بأنهم اتخذوا مقرأ للتآمر على الرسول والاسلام، واعلم اللّه رسوله بذلك من خلال الوحي:

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(1)، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾(2)، ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(3)،﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(4)، الآيات المباركة تبین لنا الصورة الواضحة المستترة بالظواهر البراقة التي كان يتخذها المنافقون في اسلوبهم وأعمالهم في تحقيق أهدافهم،من خلال التمويه على الناس بظواهرهم، عبر تلبسهم الكفر بلباس الدين، واستثمار تلك الاساليب لغرض محاربة الاسلام بصورة علنية، فعمدوا للوصول إلى مآربهم من خلال إطلاق الكلمات الجذابة في استغفال الناس.

الثالث_ غيب المستقبل
اشارة

وهو أحد اقسام الآثار الغيبية في القرآن، إخباره عن الحوادث المستقبلية، وهو على ثلاثة أنواع من حيث التحقق.

ص: 49


1- (1) سورة التوبة: 107 .
2- (2) سورة التوبة: 108 .
3- (3) سورة التوبة: 109 .
4- (4) سورة التوبة: 110 .
النوع الاول: وهو ما لا سبيل إلى انكار صدقه وتحققه
1. اخبار القرآن الكريم عن انتصارات الروم في المستقبل

و أشار إلى ذلك الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في خطبة له يصف فيها القرآن بانه تبيان لكل شيء: «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي»(1).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن التنبؤات الغيبية التي يتحدث عنها القرآن الكريم التي تحدث في المستقبل،بكلياتها وجزئياتها واصبحت تلك الإخباريات دليلاً على صدق النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وشاء اللّه أن تظل معجزة محمد (صلى اللّه عليه وآله) إلى آخر يوم.

قال سبحانه وتعالى:﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهَ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾(2).

كانت هناك دولتان كبيرتان عند بعثة النبي (صلى اللّه عليه وآله)، دولة الفرس (الوثنية) ودولة الروم (المسيحية)، حصل بينهما صراع وحروب، وقد هزم الفرس الروم في معركة كبیرة في سوريا، وقد أخبر القرآن الكريم بذلك على أعقاب هزيمة فضيعة مني بها الروم، وانتصار ساحق سجله الفرس عليهم، ففرح المشركون بذلك لأنهم رأوا فيه انتصارا للشرك والوثنية على رسالات السماء، فنزل القرآن يؤكد انتصار الروم في المستقبل القريب، فهل يمكن لكتاب غیر نازل من اللّه تعالى ان يؤكد خبرا غيبيا في المستقبل القريب من هذا القبيل، ويربط كرامته ومصیره

ص: 50


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 54 .
2- (2) سورة الروم: 1- 4

بالغيب المجهول، وهو يهدد مستقبله بالفضيحة إذا ظهر كذبه في نبوءته ؟) (1).

عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عز وجل: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْض﴾ قال: فقال: يا أبا عبيدة إن لهذا تأويلا لا يعلمه إلا اللّه والراسخون في العلم من آل محمد صلوات اللّه عليهم إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما هاجر إلى المدينة و ظهر الاسلام كتب إلى ملك الروم كتابا و بعث به مع رسول يدعوه إلى الاسلام وكتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الاسلام وبعثه إليه مع رسوله فأما ملك الروم فعظم كتاب رسول (صلى اللّه عليه وآله) وأكرم رسوله و أما ملك فارس فإنه استخف بكتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ومزقه واستخف برسوله وكان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم وكان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك فارس وكانوا لناحيته أرجا منهم لملك فارس فلما غلب ملك فارس الروم كره ذلك المسلمون واغتموا به فأنزل اللّه عز وجل بذلك كتابا قرآنا (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْض) (يعني غلبتها فارس) في أدنى الأرض (وهي الشامات وما حولها) (وَهُمْ)(يعني وفارس) (مِن بَعْدِ غَلَبِهِم)(الروم) (سَيَغْلِبُونَ) (يعني يغلبهم المسلمون) (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) عز وجل فلا غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر اللّه عز وجل قال: قلت: أليس اللّه عز وجل يقول: ( (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وقد مضى للمؤمنین سنون كثیرة مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وفي إمارة أبي بكر وإنما غلب المؤمنون فارس في إمارة عمر فقال: ألم أقل لكم إن لهذا تأويلا

ص: 51


1- (1) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم ( ت: 1425 ه-)، مؤسسة الهادي - قم: مجمع الفكر الإسلامي، ربيع الثاني 1417 ه- ط 3: 135 .

وتفسیرا والقرآن - يا أبا عبيدة - ناسخ ومنسوخ. أما تسمع لقول اللّه عز وجل: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)؟ يعني إليه المشيئة في القول أن يؤخر ما قدم ويقدم ما أخر في القول إلى يوم يحتم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنین فذلك قوله عز وجل: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) أي يوم يحتم القضاء بالنصر(1).

2. الاخبار عن عودة النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى مكة

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى قوة وإيمان الانبياء (عليهم السلام) «رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ المُكَذِّبِینَ لَهُمْ »(2)، يتحدث الإمام (عليه السلام) عن مهمة الرسالة السماوية وما يتعرض له الانبياء من أفكار تناقض المنهج الالهي، ولكن صبروا صبر الأحرار على قلة عددهم في سبيل التبليغ والقيام بواجبهم، ومن أقوال الإمام(عليه السلام) في معنى القلة والكثرة في الناس: «لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً»(3).

وفي صدد من تأذى من الانبياء (عليهم السلام) هو نبينا (صلى اللّه عليه وآله)، حيث (أجمعت قبائل قريش ومن حالفها من قبائل العرب على تكذيب النبي (صلى اللّه عليه وآله) ومقاومة دعوته، وحاولوا قتله مرارا حتى اضطر إلى الهجرة من مكة خائفا يترقب، فأخبره اللّه تعالى بأنه سوف يعود إلى مكة منتصرا، وتحقق ما أخره به بعد ثمان سنوات)(4) ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ

ص: 52


1- (1) الكافي، الشيخ الكليني: 8 / 270 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 24 .
3- (3) المصدر نفسه: 3 / 62 .
4- (4) منهاج الصالحين، الشيخ وحيد الخراساني: 1/ 94 .

عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَ مَعَادٍ قُل رَّبِّ أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِینٍ﴾(1).

3. أخبار القرآن بحفظ النبي وصيانة (صلى اللّه عليه وآله) من أخطار الناس وأذاهم

قال (عليه السلام): «وَأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ، وَقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ، لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذلِكَ اجْتَِماعٌ على تَكْذِيبِهِ، وَالْتِماسٌ لِاِطْفَاءِ نُورِهِ»(2).

قوله سبحانه وتعالى في واقعة غدير خم ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(3).

إن هذه الآية نزلت في غدير خم حينما أمر الرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يقيم عليا علما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد(4)، فكان النبي (صلى اللّه عليه وآله) على حذر من الناس في تنصيب علي (عليه السلام) للخلافة فأخبره اللّه بأنه سيعصمه من أذى الناس وشرهم.

4. الاخبار عن هزيمة المشركين في واقعة بدر الكبرى

يقول الإمام علي (عليه السّلام) في صدد بيان إن الامداد الغيبي أهم

ص: 53


1- (1) سورة القصص: 85 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 131 .
3- (3) سورة المائدة: 67 .
4- (4) الغدير، الشيخ الأميني ( ت: 1392 ه- )، دار الكتاب العربي - بیروت - لبنان 1397 - 1977 م،ط 4: 1/ 10 .

مستلزمات الجهاد: «إِنَّ هذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَة وَلاَ بِقِلَّة، وَهُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ، وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ»(1).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن الامداد الغيبي الذي حصل عليه المؤمنون في واقعة بدر وغيرها من المعارك التي حصلت في زمن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وهو النصر المؤزر الذي من عند اللّه، حتى وإن كانوا قليلین ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾(2).

إذ من جملة وعده نصر جنده، وجنده هم المؤمنون، فالمؤمنون منصورون على كلّ حال سواء كانوا قليلین أو كثيرين.حيث أخبر اللّه سبحانه وتعالى نبيه (صلى اللّه عليه وآله) عن هزيمة المشركین قبل بدء المعركة (ونحن على موعود من اللّه)، مع أنهم كانوا جازمین بالانتصار لكونهم أكثر عددا وعدة وجمعا ونفوذا في الجزيرة، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ* إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ

ص: 54


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 29 .
2- (2) سورة البقرة: الآية 249 .

كُلَّ بَنَانٍ ﴾(1).

يقول (عليه السلام): «فَلَمَّا رَأَى اللّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ »(2). وعد اللّه تعالى المؤمنین بالنصر على عدوهم، وقطع دابرهم، على الرغم من قلة عددهم وعدتهم، قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾(3)، وقد وفى اللّه بوعده، فنصرهم على أعدائهم وقطع دابر الكافرين وتحقق ذلك كما أخبربه(4) ان اللّه سبحانه يجري المسببات على أسبابها،ويربط النتائج بمقدماتها، فمن صدق منه العزم وعمل جاهدا مخلصا في عمله بلغ الغاية بتوفيق اللّه وعنايته(5).

5. الاخبار عن فتح مكة.

قوله (عليه السلام) في تحقيق النر بعد تهيئة مقدماته، الصمود والتوكل على اللّه تعالى سوف يحقق تلك الاهداف، وغیر ذلك من التساؤلات والشكوك بالمبدأ وآلهدف يؤدي إلى الهزيمة والانهيار، فقد أخبر اللّه تعالى نبيه (صلى اللّه عليه وآله) بأنهم سيفتحون مكة ويدخلون المسجد الحرام مع ذكر حالاتهم عند الدخول، يصور الإمام (عليه السلام) هذه المواقف عبر كلامه: «فَصَمْداً صَمْداً! حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ »(6) الصمد:

ص: 55


1- (1) سورة الانفال الآيات: 7- 12.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 105 .
3- (3) سورة القمر: 44- 45 .
4- (4) ينظر: تاريخ اليعقوبي، أحمد بن اسحق اليعقوبي (ت: 292 ه- )،دار الكتب العلمية، لبنان، 1419 ه- ط 1: 2/ 29 -30 .
5- (5) في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1 / 304 .
6- (6) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 115 .

يعني القصد(1)، فتحقق ما أخبر به، قال تعالى:﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾(2).

6. الإخبار عن عدم مشاركة المنافقين في الحرب بعد رجوع المسلمين من غزوة تبوك

يصف الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) حالة المنافقین المتخلفین عن الجهاد «فَانْهَدْ بِمَنْ أَطاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ، وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ، فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ شُهُودِهِ، وَقُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ»(3).

يشیر (عليه السلام) إلى واقع حال الناس في الجهاد، فيهم المشكك والمتثاقل، يقول (عليه السلام) إن وجود هؤلاء يفرقون الآراء، ويصدعون الصفوف، والنتيجة من وجودهم هو الفشل والخسران وإذن فعدم الكاره أو المتقاعس خیر من وجوده، وغيابه خیر من حضوره، «إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللّه، وَالذُّلَّ اللَّازِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِيَ، وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِيد فِي عُمُرِهِ، وَلاَ مَحْجُوز بَيْنَهُ وَبَیْنَ يَوْمِهِ »(4)، و اللّه سبحانه و تعالى أخبر نبيه بأن طائفة ممن معك لا يخرجون للقتال ولا يفعلون ذلك أبدا ولا يختارونه.

قوله تعالى يصف فيه حالة المنافقن حينما رضوا بالقعود والتخلف عن الجهاد ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَی طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا

ص: 56


1- (1) لسان العرب، ابن منظور: 3/ 253 .
2- (2) سورة الفتح: 27 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 3 / 6.
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 4.

وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخالِفِینَ﴾(1).

7. الإخبار عن فتح بلاد كسرى وقيصر قبل فتح خيبر

يقول (عليه السلام): «ما كان لمحمد منّجم ولا لنا من بعده، فتح اللّه علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، أيها الناس توكلوا على اللّه وثقوا به فإنه يكفي مما سواه »(2). من الإخباريات الوحي في زمن نزول القرآن، هو إخباره عن فتح وحكم بلاد كسرى وقيصر و وصول المسلمين إلى خزائنهم وثرواتهم، ولم يخطر ببالهم الوصول إلى تلك الباد وحكمها.

عندها نزلت هذه الآيات ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِیرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِیرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِینَ وَيَهْدِيَكُمْ صرَاطًا مُّسْتَقِيمً* وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾(3).

8. الإخبار عن ذرية النبي الطاهرة

عندما توفي ابنه (صلى اللّه عليه وآله)، قال العاص بن وائل: إنه أبتر ليس له نسل وذرية، فنزلت سورة الكوثر: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾(4)، وأخبرت بأن قائل الكلام المذكور هو

ص: 57


1- (1) سورة التوبة: 83 .
2- (2) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت: 282 ه- )، تحقيق: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير - القاهرة ( د ط): 171 .
3- (3) سورة الفتح: الآيات 18 - 21.
4- (4) سورة الكوثر: الآيات 1-3.

الأبتر، وأما ذريته (صلى اللّه عليه وآله) فباقية، يقول (عليه السلام): «أَلاَ إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّد(صلى اللّه عليه وآله)، كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ: إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللّه فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَتَاكُم مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ»(1).

وفي جواب الإمام (عليه السلام) لمعاوية: «ومنا خیر نساء العالمین »(2)، فاطمة الزهراء(عليها السلام) نص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على ذلك، لا خلاف فيه(3).

9. الإخبار عن مصير اليهود

ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم بحسب ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، فإنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات. » ومن خطبة الزهراء (عليها السلام): «ابتعثه اللّه تعالى إتماما لأمره، و عزيمة على إمضاء حكمه، فرأى الامم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه تعالى مع عرفانها »(4). كما في قوله تعالى ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(5).

إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر اللّه تعالى، وسحقت الحق والعدل والصدق، إذ بعث اللّه عليهم بعد سليمان بخت

ص: 58


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 194 .
2- (2)المصدر نفسه: 3 / 33 .
3- (3) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ( ت: 656 ه- )، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1962 م (د ط): 15 / 159 .
4- (4) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، 29 / 222
5- (5) سورة الاعراف: 167 .

النصر، فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، حتى بعث اللّه محمدا (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ففعل ما فعل، وضرب عليهم الجزية، فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر(1).

10. الإخبار عن مكائد اليهود ضد المسلمين

يتحدث الإمام (عليه السلام) بالمواثيق والاثار المترتبة على نقض الميثاق كما فعله اليهود في نصب مكائدهم ضد المسلمين، يقول (عليه السلام):

«أَتَرَاني أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ(صلى اللّه عليه وآله)؟ وَاللّهِ لاَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ. فَنَظَرْتُ في أَمْرِي، فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي، وَإِذَا الميِثَاقُ في عُنُقِي لِغَيْرِي. »(2). أي ميثاق الرّسول وعهده إلّى بترك الشّقاق والمنازعة فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره، أو أخالف نهيه(3).

قال تعالى:﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(4).

فيه تسلية للنبي (صلى اللّه عليه وآله وسلّم) يقول لا تعجبن يا محمد من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك و إلى أصحابك و ينكثوا العهد الذي بينك و بينهم و يغدروا بك فإن ذلك دأبهم و عادة أسلافهم الذين أخذت ميثاقهم

ص: 59


1- (1) التفسير الآصفي،الفيض الكاشاني: 1/ 461 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 89 .
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 4 / 145 .
4- (4) سورة المائدة: 13 .

على طاعتي في زمن موسى و بعثت منهم اثني عشر نقيبا فنقضوا ميثاقي و عهدي فلعنتهم بنقضهم ذلك العهد و الميثاق(1).

11. الإخبار عن حفظ القرآن وصيانته من التحريف

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ»(2).

كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(3).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن صيانة القرآن وحفظه، أنه مصون عن التحريف بكل معانيه عن الزيادة والنقصان، وأنه تعالى حفظ القرآن بین الناس لعلمه تعالى باحتياج الناس إلى القرآن وكونه بمتناولهم ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(4)، الباطل هو الشيطان، المعنى لا يقدر المحرفون أن ينقصوا منه حقا أو يزيدوا فيه باطلا من تكذيبه في إخباره أو معارضة، فهو مأمون من التهافت وآلهدم، وطروا النقص والخلل والاندراس، يبقى القرآن الكريم محفوظاً وحجة عى المكلفین إلى يوم القيامة، وهذا كله قد اخبر به الوحي للنبي (صلى اللّه عليه وآله) في زمن نزوله.

ص: 60


1- (1) تفسير مجمع البيان، الطبرسي: 3/ 266 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 177 .
3- (3) سورة الحجر: 9.
4- (4) سورة فصلت: 42 .
12. الإخبار عن حفظ الاسلام والرسول (صلى اللّه عليه وآله)

أشار إلى ذلك الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام): (أَذَلَّ الْاَدْيَانَ بِعِزّه، وَوَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وَأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ، وَخَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ، وَهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُكْنِهِ، وَسَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ، وَأَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ لاَ انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، وَلاَ فَكَّ لِحَلْقَتِهِ، وَلاَ انْهِدَامَ لِاَسَاسِهِ، وَلاَ زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ، وَلاَ انْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ، وَلاَ انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، وَلاَ عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ، وَلاَ جَذَّ لِفُرُوعِهِ... فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحقِّ أَسْنَاخَهَا، وَثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا رَفِيعُ الْبُنْيَانِ... عَزِيرُ السُّلْطَانِ... مُعْوِذُ الْمَثَارِ»(1).

يصور لنا الإمام (عليه السلام) عالمية دين الاسلام، وشموليته على الاديان السابقة، بمنهجه وعزته وسلطانه، وأنه رفيع البنيان عزيز السلطان.

وفي نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حین تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): (وهو دين اللّه الذي أظهره وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، و طلع حيث طلع، ونحن على موعود من اللّه، واللّه منجز وعده، وناصر جنده)(2)، وهو معنى قوله تعالى ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(3).

تدل هذه الآية المباركة بالدلالة الالزامية أن اللّه سبحانه وتعالى حفظ الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بالرسالة، وهذا ما اجمع عليه المفسرون أن القرآن والاسلام هما نور اللّه، حيث أراد اللّه تعالى إعزاز الإسلام في منهجه و سلطانه بإعلاء كلمة التوحيد بالحجة والبرهان، قال: ( ليعلي دين الاسلام على جميع الأديان بالحجة

ص: 61


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 176 .
2- (2) المصدر نفسه: 2 / 29 .
3- (3) التوبة: 32 .

والغلبة والقهر لها، حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلا مغلوبا، ولا يغلب أحد أهل الاسلام بالحجة، وهم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة)(1).

وأما الظهور بالغلبة فهو أن كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك، ولحقهم قهر من جهتهم. وقيل: أراد عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أهل دين إلا أسلم، أو أدى الجزية، عن الضحاك. وقال أبو جعفر (عليه السلام): إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد، فلا يبقى أحد إلا أقر بمحمد، وهو قول السدي، وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الاسلام، وسيكون ذلك ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك)(2).

وقال المقداد بن الأسود: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله اللّه كلمة الاسلام، إما بعز عزيز، وإما بذل ذليل. إما يعزهم فيجعلهم اللّه من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له(3).

فيتضح من ذلك: إن هناك معجزة غيبية واضحة أخبر بها القرآن الكريم، قد تكون تحققت بالكامل أو قد يكون تحقق جزء وبقي الجزء الآخر(4).

13. الاخبار عن أسرار الطبيعة
اشارة

من الإخباريات الغيبية للقرآن الكريم في زمن نزوله هو إخباره عن اسرار الكون

ص: 62


1- (1) تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: 5 / 45 .
2- (2) المصدر نفسه: 45 .
3- (3) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة المجلسي: 5 / 137 .
4- (4) الغيبيات في نهج البلاغة دراسة تاريخية موضوعية، غزوان عبد الكاظم المرزوك، مؤسسة علوم نهج البلاغة (العتبة الحسينية)، 1437 ه- - 2016 م ط 1:41 .

والاجرام السماوية، التي كانوا في زمن نزول القرآن يتصورونها بسيطة للفهم والنظر.

حيث أخبر الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بحركة تلك الاجرام بكلامه المستوحى من القرآن الكريم «وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ دَائِبَانِ فِ مَرْضَاتِهِ »(1)، ﴿لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(2)، و هذه من الامور الغيبية التي قدرها سبحانه و تعالى في نظام الكون وأحكم تقديرها.

يقول (عليه السلام): «قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِیرَهُ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ »(3)، أي جعل لكل شيء مقدارا مخصوصا بحسب الحكمة، أو هيأ كل شيء لما أراد منه من الخصائص والأفعال(4).

ومن الامور الغيبية الاخرى التي اخر فيها الوحي النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأشار اليها الإمام (عليه السلام):

أ_ قانون الزوجية.

التي طرحه القرآن الكريم في زمن نزوله، ولم يكن هناك تصور عند العلماء بإدراجه تحت الاشياء، قوله تعالى:﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَیْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(5)، (الزوجین) هنا معناها الأصناف المختلفة، التي أشار اليها الإمام (عليه السلام) بكلامه.

ص: 63


1- (1) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 159 .
2- (2) سورة يس: 40 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 165 .
4- (4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 54 / 165 .
5- (5) سورة الذاريات: 49 .

«فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا، وَنَهَجَ حُدُودَهَا، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَات فِي الْحُدُودِ وَالْأَقْدَارِ، وَالْغرَائِزِ وَالْهَيْئَاتِ»(1).

يشر الإمام (عليه السلام) إلى اقتران الاشياء وصلتها بعضها مع البعض الآخر وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بقانون الزوجية أو الاقران ﴿كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَیْنِ﴾ لاستحالة قيام الموجودات بدون أسبابها، إشارة إلى عظيم كمال القدرة إذ هو مسبب الأسباب.

ب- بيان الحياة في الكواكب والاجرام السماوية

يبین القرآن الكريم حقائق الحياة في الكواكب والأجرام السماوية، في عصر لم يكن عندهم احتمال وجود حياة في الكواكب الاخرى، ومعرفة أسرار كنهها بعد آلاف السنين من البحوث لملایين العلماء، كل ذلك هو من آيات الخالق وإعجازه الغيبي.

وكذلك أشار إلى هذه الحقيقة الغيبية الإمام علي (عليه السلام) في حديثة، أنّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض»(2).

وعبّر أهل اللغة عن المدائن بالأمة وقيل منه سمي المصر مدينة(3)، يصور لنا الإمام (عليه السلام) الكواكب والحياة الموجودات الحية فيها بأنها مدن كمدن الارض، بما فيها من ترتب للحياة وتنظيمها والقيام بتكاليف، وكل شيء في مدن السماء ومدن الارض فهو مطيع ومنقاد للعظمة الالهية.

ص: 64


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 166 .
2- (2) سفينة البحار، الشيخ عباس القمي (ت: 1294- 1359 ه-)، تحقيق: مجمع البحوث الإسلاميّة التابع للآستانة الرضويّة المقدّسة. دار الاسوة للطباعة والنشر 1416 ط 2: 2 / 574 .
3- (3) ينظر: مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي: 120 .

وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾(1).

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير﴾(2).

والدابة من الدبيب: كل ما دب عى الأرض من حيوان زاحف على بطنه أو إنسان يمشي على رجلین أو حيوان يمشي على أربع(3).

أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة، و تشمل الحيوانات الكبیرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق، ويبیّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود، بلسان حاله(4).

ج- إخبار القرآن الكريم عن منافع الرياح ومضارها

قال (عليه السلام): «وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ الَهوَاءِ، فأَجازَ فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى

ص: 65


1- (1) سورة النحل: 49 .
2- (2) سورة الشورى: 29 .
3- (3) ينظر: العين، للفراهيدي: 7/ 439 .
4- (4) تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي: 15 / 532 .

آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاء مُنْفَتِق، وَجَوٍّ مُنْفَهِق، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَموَات، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْر عَمَد يَدْعَمُهَا، وَلا دِسَار يَنْظِمُها. ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ، وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً، وَقَمَراً مُنِيراً: في فَلَك دَائِر، وَسَقْف سَائِر، وَرَقِيم مَائِر»(1).

الفتق بالفتح: الشق(2)، والجو: الهواء، وقيل: الفضاء الواسع ما بین السماء والأرض(3).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن خلق الرياح وبيان أهميتها كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَیْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾(4)، إن نشر الرياح وبسطها كان سببا من أسباب بقاء الحياة، والترحم على عباده كإرسال السحب التي تحمل المياه، كما في قوله تعالى﴿وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَیْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالً﴾(5) و تلقيح الاشجار ﴿أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾(6)، و أمثال ذلك من الآيات والروايات الدالة على أن الرياح قد تكون رحمة وقد تكون عذابا، كما روي عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، عن ابن عباس، قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي (صلى اللّه عليه وآله) على ركبتيه وقال: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا(7)، واختصاص الرياح بالرحمة

ص: 66


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 18 .
2- (2) ينظر: العين، للفراهيدي: 1 / 393 .
3- (3) المصدر نفسه: 1 / 494 .
4- (4) سورة يس: 82 .
5- (5) سورة الروم: 46 .
6- (6) سورة الاعراف: 57 .
7- (7) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 57 / 19 .

دلالة على إنها من المواهب الالهية التي تعد مصدر نفع للموجودات الحية.

د-الإخبار عن رتق السموات وفتقها

« ثُمَّ أَنْشَأَ- سُبْحَانَهُ - فَتْقَ الْأَجْوَاءِ»(1).

الرتق: شدة الفتق، وقيل إنه إلحام الفتق وإصلاحه(2)، كما في قوله تعالى: ﴿كانَتَا رَتْقاً ففَتَقْناهُمَا﴾(3)، أي الارض والسماء كانتا منضمتین، لا فرجة بينهما، ففتق اللّه سبحانه وتعالى السماء فجعلها سبعا ومن الارض مثلهن.

يشر الإمام (عليه السلام) إلى عظمة خلق السموات والارض، في عصر كان يعتقد الناس بأن الاجرام السماوية بسيطة، وأن خلقتها ممتازة عن الارض، ولم يكن لديهم علم بمعاني القرآن كما أشارت الآية المباركة إلى مفردة رتق السماء وفتقها. ولم يكن ايضا لدى الناس تصور عن اتساع الكون المتواصل، كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(4). أي أحدثناها بقوة، والقوة هي القدرة.

ثم يخبر الوحي نبيه (صلى اللّه عليه وآله) عن حالة الاجسام الفلكية، التي كان يتصورها العلماء بأنها غیر قابلة للخرق والالتئام، ولا يتصورون نفوذ الإنسان فيها، قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)(5).

ص: 67


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 17 .
2- (2) ينظر تاج العروس، للزبيدي: 1/ 6325 .
3- (3) سورة الأنبياء: 30 .
4- (4) سورة الذاريات: 47 .
5- (5) سورة الرحمن: 33 .

وهناك حقائق كثیرة أخبر عنها القرآن الكريم عن الإنسان والكون والطبيعة، لم تكن معروفة في عصر نزوله أو كانت مردودة أو مستغربة ثم تبین أنها صحيحة مما يدل على أن هذا القرآن من عند العليم الحكيم سبحانه وتعالى(1).

النوع الثاني- الغيب الذي جاء عن علم وقوع الخبر المتواتر فيه من السنّة المطهرة

وذلك من قبيل ما ورد في تفسر قوله تعالى:﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾(1)، من تطبيقهم على بعض الاشخاص الذين قاموا بهذا العمل ثم هلكوا، ومن الطبيعي ان من لا يقبل حجية الرواية الخاصة بالمورد أو قول المفسرين سوف لا يتأكد من التحقيق في مثل هذا.

يقول الإمام (عليه السلام) في النهج واصفا حال الانبياء (عليهم السلام) عندما يواجهون المعاندين والمستهزئين: «والاحتمال للمكروه من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجا »(2)، أي يطمئن اللّه تعالى نبيه (صلى اللّه عليه وآله) وتقوية لقلبه لما إحتمله من مكروه، فأراد اللّه دفعه عنه حماية له، لأن الباء يضيق على الإنسان حركاته واعماله، يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام): إنّ أشدّ النّاس بلاء النبيّون ثمّ الوصيّون ثمّ الأمثل فالأمثل.

النوع الثالث: إخبار وتوضيح الامور التي لم تقع بعد

كالحوادث التي لم تقع بعد بل وقوعها حتمي، يكشف الوحي للنبي (صلى اللّه عليه وآله) عنها أنها تقع آخر الزمان، تعد هذه المسائل من الغيبيات التي كشف

ص: 68


1- (2) - سورة الحجر: 95 .
2- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 152 .

عنها القرآن الكريم في زمان نزوله، كما يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام):«لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ»(1).

كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾(2)من الآيات التي تكون قبل الساعة خروج يأجوج ومأجوج، وفي المجمع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه سئل عن يأجوج ومأجوج فقال يأجوج أمة ومأجوج أمة وكل أمة أربعمائة امة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كل قد حمل السلاح قيل يا رسول اللّه صفهم لنا قال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز قيل يا رسول اللّه وما الأرز قال شجر بالشام طويل وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد وصنف منهم يفرش احداهما إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى ولا يمرون بفيلٍ ولا وحشٍ ولا جملٍ ولا خنزيرٍ إلا أكلوا مَن مات منهم، مقدمتهم في الشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحیرة طبريه(3).

وانتشار هؤلاء على الكرة الأرضية علامة على قرب يوم القيامة والبعث، وهو قوله تعالى ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِینَ﴾(4).

فالتصديق بمضمون هذه الآيات أمر تعبدي، يختص بالمؤمنين،أما غيرهم فلا يمكن أن تشكل هذه الآيات حجة لديهم.

ص: 69


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 55 .
2- (2) سورة الانبياء: 96 .
3- (3) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني: 12 / 293 .
4- (4) سورة الانبياء: 97 .

ص: 70

الفصل الثاني : الآثار العلمية في القرآن الكريم ونهج البلاغة

اشارة

ص: 71

ص: 72

تمهيد:

نتحدث في هذا الفصل حول الآثار العلمية الخاصة بالمخلوقات، المستوحاة من كلام الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام).

ومن دلائل الأثر العلمي للقرآن الكريم في كلام الإمام (عليه السلام) من هو خلق الإنسان و الحيوانات، وخلق السماوات والأرض والليل والنهار والنجوم والفلك، حيث جعلها اللّه تعمل وفق نظام متكامل قد ابهر عقول البشر.

وتعد مخلوقات اللّه من الآيات الإلهية، وعلامة من علامات عظيم قدرته سبحانه وتعالى التي تحدث عنها القرآن الكريم بالإعجاز والبرهان القاطع والبین على وجوده تعالى.

فجعلها اللّه سرا مكنونا وأودع فيها من الاسرار العجيبة ما عجز العقل البشري عن كشفها والوقوف عليها، وهي من الدلائل الباهرات والعجائب الدالة على عظمة الخالق.﴿الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾(1).

ومن الأسرار العلمية في القرآن الكريم أنه يتحدث عن هذه المخلوقات بصفة الإعجاز﴿«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ

ص: 73


1- (1) سورة طه: 50 .

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾(1).

وهذا ما نجده واضحا في كلمات الإمام علي (عليه السلام) المستوحاة من ثقافة القرآن الكريم فيما نتحدث عنه في هذا الفصل من أسرار عجائب خلق الإنسان والحيوان والسماء والارض.

ص: 74


1- (1) سورة آل عمران: 90- 91

المسألة الأولى: آثار خلق الإنسان في كلام الإمام علي (علیه السلام)

المراحل الأولى:

يمثل الإنسان أفضل موجود في عالم الخلقة وأشرف مخلوقات اللّه، كما يشیر إلى ذلك الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في كلماته المباركة المنتقاة من وحي القرآن الكريم إلى عظيم شخصية الإنسان الالهية والمعنوية.

يقول الإمام (عليه السلام) في صفة خلق آدم واصفا فيها آثار عظمة خلق الإنسان في مراحله الأولى.

«ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول، وَأَعْضَاء وَفُصُول: أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْت مَعْدُود، وَأجَل مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا،»(1).

خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان تدريجيا لا دفعة واحدة من المادة الصماء الجسم المكون من العناصر المادية والعنر المعنوي الذي يمثل الروح، ويظهر ذلك من قول الإمام (عليه السلا) والذي يصور لنا فيه اطوار إعجاز خلق الإنسان.

أولا: مرحلة التراب.

« ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تربة ». (الحَزْنُ

ص: 75


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 21

من الأرض والدَّوابِّ: ما فيه خُشونة)(1)، ويطلق ايضا على الحزن الهم والغم الذي يصيب الإنسان والذي يسبب وعورة وخشونة في روحه، والسبخ الارض المالحة(2).

والإمام (عليه السلام) يشیر في كلامه إلى الأثر العلمي والى الصورة العلمية التي خلق منها الإنسان، إن اللّه تعالى جمع من أنواع تراب الارض تربة مركبة فيها مختلف العناصر والاستعدادات والقابليات التي لها مدخلية في طبيعة حركة الإنسان وغرائزه وتقلباته وطبائعه في المجتمعات البشرية، فخلق من هذه التربة الإنسان الطيب والانسان الخبيث ومنه الاسود والابيض.

وفي الدر المنثور: قال الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله): «خلق اللّه آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على مثل الأرض، منهم الأسود والأبيض والأحمر، وما بین ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب»(3).

فالمكون الاساسي الاول لجسم الإنسان هو التراب، وذلك صريح قوله تعالى:

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَه مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَه كُنْ فَيَكُونُ﴾(4)، أي لم يكن هذا الموجود (الانسان) في هذه الأرض ثم كان،( فأبونا آدم من تراب، ونحن أيضا في لحمنا ودمنا من تراب، لأن ما نأكله من اللحوم والحبوب والفواكه والخضار والنبات، كل ذلك كان في الأصل ماء وترابا)(5)، وهو دليل قوله تعالى

ص: 76


1- (1) العين، للفراهيدي: 1/ 202
2- (2) ينظر المصدر السابق: 1/ 308
3- (3) الدر المنثور في التفسیر بالمأثور، جلال الدين السيوطي: 1/ 46 ، وينظر، ميزان الحكمة،محمد الري شهري، تحقيق: دار الحديث، ط 1: 4/ 3026 .
4- (4) سورة آل عمران: 59 .
5- (5) ينظر في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1/ 44 .

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾(1)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾(2).

ثانيا: مرحلة الماء.

«سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ .»

سَنَّ الماءَ يَسُنُّه سناً، إذا صَبه حتى يفيض(3)، وسنها هنا بمعنى مزجها بالتراب أو ملسها حتى أصبحت طينة خالصة، إشارة إلى قوله تعالى:﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّ خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ﴾(4).

يبین الإمام (عليه السلام) من خلال هذا المقطع أهمية عنصر الماء وأن له دوراً أساسياً في نشأة خلق الإنسان الأولى، أي من خلاله يتم مزج اجزاء التراب مع بعضها وتخليصها من الشوائب حتى يصبح ذلك الخليط طينا، فالطین هو المركب الذي خلق منه جسد الإنسان، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِینٍ﴾(5).

ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِینٍ لَّازِبٍ﴾(6)، وطین لازب أي لاصق أي

ص: 77


1- (1) سورة غافر: 67 .
2- (2) سورة الحج: 5.
3- (3) جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت: 321 ه-) تحقيق: رمزي منیر بعلبكي، دار العلم للملايین - بیروت، (ط 1، 1987 م ): 1/ 45 .
4- (4) سورة ص: 71 .
5- (5) سورة السجدة: 7.
6- (6) سورة الصافات: 11.

اصبح متماسكا في جوانبه(1)، منه قوله (عليه السلام): «وَلَاطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ .»

(وإنّما خصّ هذين العنصرين وهما التراب والماء دون الباقيین لأنّهما الأصل في تكوّن الأعضاء، المشاهدة الَّتي تدور عليها صورة الإنسان المحسوسة)(2)، التي يعيش فيها على الارض، فهي البيئة الطبيعية له، ومصدر حياته التي يمارسها عليها، وفيها يتعرف على خالقه ويعبده، ومنها يبدأ بالتفكر من خلال ما يرى ما حوله من موجودات السماء والارض والكواكب، فيخلص إلى عظمة الخالق جل وعلا، مستبصرا احتياجه اليها حدوثا وبقاءا، وهي في غنى عنه في كل الأحوال.

يقول (عليه السلام): «عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى »(3)، يصور لنا الإمام (عليه السلام) تصويرا رائعا مرور الإنسان من خلال نشأتين نشأة مادية التي خلق منها والمتمثلة في عنصري التراب والماء ونشأة اخروية السعادة الابدية فيها يثاب ويعاقب.

ثالثا: مرحلة الهيئة.

ينتهي الإمام (عليه السلام) في حديثه إلى خلق الإنسان في أطواره الاولى إلى صورة الطین الذي خلص من عنري التراب والماء، يقول (عليه السلام):«فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول، وَأَعْضَاء وَفُصُول .»

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى صورة علمية أخرى في خلق الإنسان، من خلال تكوين هيئته وفيها أعضاء ومفاصل وفصول (الجوارح).

ص: 78


1- (1) ينظر لسان العرب، ابن منظور: 1/ 738
2- (2) شرح نهج البلاغة،ابن ميثم البحراني: 1/ 186
3- (3) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 3/ 1822 ، ينظر نهج البلاغة: ح 126

وهذا إنما يدل على تعلق اختيار وإرادة اللّه سبحانه وتعالى في خلق الصورة الإنسانية وإفاضتها بكمالها من الجوارح والمفاصل التي يقوم بها، قال سبحانه: ﴿وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾(1).

رابعا: مرحلة الصلصال والحمأ المسنون.

«أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْت مَعْدُود، وَأجَل مَعْلُوم .»

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن طور أخر من مراحل إعجاز خلق الإنسان وهو مرحلة الصلصال والحمأ المسنون.

والصَّلْصالُ: من الطِّین ما لم يُجْعَل خَزَفاً سُمِّي به لتَصَلْصُله وكلُّ ما جَفَّ من طین أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً وطِینٌ صلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد(2).

يقول (عليه السلام): حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، إشارة إلى أن الطينة الرطبة التي مزجها سبحانه وتعالى وجعل منها هيئة جامدة متماسكة في فصولها وجوانبها، (أصبحت صلصالا يابسا يسمع له عند النقر صوتا كصلصلة الحديد)(3).

إن حصول حالة الاستمساك(4) في الطينة وهيئتها بعد جمودها وتحولها إلى الصلصلة بعد ما كانت جامدة، دليل على أن حالة الجمود واليبوسة قبل الصلصلة

ص: 79


1- (1) سورة غافر: 64
2- (2) لسان العرب، ابن منظور: 11/ 381 .
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 2/ 43 .
4- (*) الاستمساك راجع إلى بعض أجزاء الصورة المجعولة كاللحم والعروق والأعصاب ونحوها، والاصلاد راجع إلى البعض الاخر كالأسنان والعظام.

والمسنونية، وهذا ما أشار اليها سبحانه وتعالى بقوله ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾(1).

(والحَمَأ: الطّینُ الأسود المُنْتن)(2)، وبهذا البيان الذي ذكره (عليه السلام) نجد إن اللّه تعالى قد هيّأ الإنسان إلى مرحلة أخرى قد رسمها الباري عزوجل و عبر عنها بالوقت المعدود والاجل المعلوم، (أي لأجل وقت أو إلى وقت معیّن اقتضت الحكمة والمصلحة نفخ الرّوح فيها )(3)، ومنه صريح قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾(4).

قال صاحب التبيان: (وقد كان شيئا إلا أنه لم يكن شيئا مذكورا، لأنّه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الرّوح، وقيل إنّه أتى على آدم أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض، لأنّه كان جسدا ملقى من طین قبل أن ينفخ فيه الرّوح)(5)، وقد نفهم ذلك من خلال سؤال كعب الاحبار

لأمیر المؤمنین (عليه السلام):( قال: لما أراد اللّه تعالى خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب والمالح وركب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من أديم الأرض فطرحه كالجبل العظيم، وكان

ص: 80


1- (1) سورة الحجر: 26 .
2- (2) العن، للفراهيدي: 1/ 238 ، وينظر تاج العروس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى الزَّبيدي (ت: 1205 ه-) تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية (د ط): 1/ 103 .
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 2/ 43 .
4- (4) سورة الأنسان: 1.
5- (5) التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: 10 / 205 .

إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة يدخل في منخر آدم ثم يخرج من دبره، ثم يرب بيده على بطنه فيقول: لأي أمر خلقت؟ لئن جعلت فوقي لا أطعتك، ولئن جعلت أسفل مني لأعينك، فمكث في الجنة ألف سنة ما بین خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح(1).

في الرواية نكتة لطيفة لعله المراد من تأخیر نفخ الروح في جسد آدم(عليه السلام) إشارة إلى تهيئة إلى مرحله الكمال والقدسية(2) وهذه المرحلة تحتاج إلى تأنٍ ومداراة إكمالا للحجة عى البشر.

ويستظهر من الرواية نكتة أخرى تعد من الدروس التربوية في حياة الإنسان وهو التأني في الامور وعدم الاستعجال،منه قوله تعالى في خلق السموات والارض في ستة أيام ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾(3).

وبطبيعة الحال إن اللّه قادر على كل شيء، كان قادرا على خلقها في طرفة عن، وهو قول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السّلام): «ولو شاء أن يخلقها في أقلّ من لمح البصر لخلق »(4)، وهذا ما نطق به القرآن الكريم﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(5).

ص: 81


1- (1) بحار الأنوار،العلامة المجلسي: 60 / 198 .
2- (2) نفخ الروح في صلب آدم.
3- (3) سورة الاعراف: 54
4- (4) مسند الإمام علي (عليه السلام): السيد حسن القبانجي: تحقيق: الشيخ طاهر السلامي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بیروت - لبنان، (ط 1، 1421 - 2000 م ): 2/ 204
5- (5) سورة يس: 82 .

خامسا: مرحلة نفخ الروح.

قوله (عليه السلام): «ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا »

يبین الإمام (عليه السلام) إن مرحلة نفخ الروح من المراحل الاخیرة في خلق الإنسان، فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بروحه، (إن قوام انسانية الإنسان بروحه لا ببدنه وإن فرض موجودا تاما في الخارج)(1).

الروح: من حيث هي هي لها معانٍ عديدة حسب آراء العلماء.

منهم من رآى عدم الخوض فيها لإن اللّه سبحانه وتعالى حجبها عن خلقه لقوله تعالى:﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِياً﴾(2).

وقال آخر: إن الروح عبارة عن الحياة في جسم الإنسان المتكون من الرأس واليدين والبطن والرجلین ولكن ليست إنسانا(3).

وقال ثالث: (إنه جسم رقيق هوائي مردد في مخارق الحيوان و هو مذهب أكثر المتكلمین و اختاره الأجل المرتضى علم الهدى قدس اللّه روحه و قيل جسم هوائي عى بينة حيوانية في كل جزء منه حياة)(4).

وقال الآصفي: (الروح هي نور لطيف وهو خلق أعظم من الملائكة)(5).

ص: 82


1- (1) الفقه والمسائل الطبية،الشيخ محمد آصف المحسني: ياران - قم،ط 1: 56
2- (2) سورة الأسراء: 85 .
3- (3) ينظر التبيان في تفسير القرآن، شيخ الطوسي: 2/ 321 .
4- (4) مجمع البيان، الطبرسي: 6/ 258 .
5- (5) تفسیر الآصفي، المولى محمد محسن الفيض الكاشاني(ت: 1019 ه-)، تحقيق: محمد حسن الدرايتي محمد رضا نعمتي : مركز الابحاث والدراسات الاسلامية، ط 1، 1418 ه-: 4/ 221.

وفي أصول الكافي: سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: (وروح منه ) فقال: هي روح اللّه مخلوقة خلقها سبحانه في آدم وعيسى(1).

لعل المراد من كلام الإمام (عليه السلام): إن الروح المشار إليها والذي نطق بها القرآن الكريم في خلق آدم و تمثلها في مريم: (ثم نفخ فيه من روحه) ﴿فَإِذا سَوَّيْتُه ونَفَخْتُ فِيه مِنْ رُوحِي﴾(2)،﴿ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا﴾(3)، هي طاقة الحياة المتكونة من قوة العقل والإدراك، التي من خلالهما يستطيع الإنسان أن يمارس حياته ماديا ومعنويا بالشكل السليم.

خلاصة القول: إن اللّه سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان من ذرات التراب وقطرات الماء التي تسمى (المادة الصماء) ولم يكن شيئا ثم أتمه عى هذه الصورة وهذا من إعجازه العلمي سبحانه و تعالى في الخلق فكل خلقه معجز ودليلنا أنه تحدى جميع خلقه على أن يخلقوا ابسط مخلوق خلقه أو مثله فلم يستطع أحد فعل ذلك، كما اتضح من كلام الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) وما نطق به القرآن

الكريم ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾(4)، فالإنسان في حقيقته سر مكنون لم تستطع العلوم البشرية التعرف على حقيقته، كلما اكتشف منه سر خفيت منه أسرار. يعبر الإمام (عليه السلام) عن تلك الاسرار بالعلل كما ورد عنه (عليه السلام(: «مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ: مَكْتُومُ الْأَجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تَؤْلِمُهُ

ص: 83


1- (1) الكافي، الشيخ الكليني:: 1 / 133 ، ينظرفي ظلال نهج البلاغة محمد جواد مغنية: 1 / 44 .
2- (2) سورة الحجر: 29 .
3- (3) سورة الأنبياء: 91 .
4- (4) سورة الانبياء: 30 .

الْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ »(1)، فالمراد من العلل هنا الاسرار الخفية الكامنة التي يمتلكها الإنسان، ويستطيع من خلالها أن يحقق ما يفوق أن يتصوره العقل البشري، (أي ما من كائن في الأرض والسماء، ما عدا اللّه سبحانه إلا وقد أخذ الإنسان شيئا منه وإلى هذه الرتبة أشار أمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله.

دواؤك فيك وما تشعر * وداؤك منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر(2)

هذا هو الإنسان معجزة الباري عزوجل، أنه مخلوق أودع اللّه فيه كل شيء،فاصبح جامع لما في عالم الملك والملكوت، إذ اصطفاه تعالى من بین رشحات قدرته وجبروت عظمته(3).

ص: 84


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 4/ 98 .
2- (2) ينظر في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1/ 48
3- (3) ينظر منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 2/ 41

المسألة الثانية: أطوار تخلق الإنسان عند الإمام علي (علیه السلام)

اشارة

قال أمیر المؤمنین (عليه السلام): «أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ، وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ، نُطْفَةً دِفاقاً، وَعَلَقَةً مِحَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لاَفِظاً، وَبَصَراً لاَحِظاً»(1).

يستعار الظلمات عن أماكن استقرار الجنین وهو في بطن أمه، ويعبر عنها ظلمات الارحام الثلاث أشار سبحانه وتعالى بقوله:﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾(2)ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.

الشغف: بضمتین جمع شغاف كسحاب وهو غلاف القلب لموضع الولد(3)، منه قول الإمام (عليه السلام) أنشأه في ظلم الارحام وشغف الأستار.

يتحدث الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة عن المرحلة الثانية في خلق الإنسان، التي استوحاها الإمام (عليه السلام) من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:﴿«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(4)، يصور لنا القرآن الكريم حياة

الإنسان الجنينية﴿وإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِ بُطُون أمَّهَاتِكُمْ﴾(5)، يتقلب من حال إلى حال و هو ما اشار اليه (عليه السلام) في بدء كلامه (الذي أنشأه في ظلمات الأرحام).

ص: 85


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 143 .
2- (2) سورة الزمر: 6.
3- (3) تاج العروس، الزَّبيدي: 1/ 5946 .
4- (4) سورة الحج: 5.
5- (5) سورة النجم: 32 .

المرحلة الثانية: أطوار خلق الإنسان

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى مرحلة علمية ثانية في خلق الإنسان وهو في بطن أمه:﴿ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ اللّه وَقاراً وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً﴾(1)، وهذا ما سنتعرف عليه من خلال كلماته (عليه السلام) المستنبطة من وحي القرآن الكريم.

إن اللّه تعالى خلق الإنسان في هذه المرحلة من عناصر ومركبات يتغذى عليها الإنسان تتكون عن طريقها المادة المنوية التي تسمى بالنطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام واللحم كما في قوله تعالى ﴿«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(2).

أولا: طور النطفة.

قوله (عليه السلام): «نُطْفَةً دِفاقاً .»

نطفة: الجمع نطف وهو الماء الصافي قل أو كثر(3)، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾(4)، (النطفة القليل من الماء وربما يطلق على مطلق الماء)(5).

ص: 86


1- (1) سورة نوح: 13- 14 .
2- (2) سورة المؤمنون: 14 .
3- (3) ينظرالمحيط في اللغة،إسماعيل بن عباد بن العباس، أبو القاسم الطالقاني، المشهور بالصاحب بن عباد ( ت: 385 ه-)، تحقيق: محمد حسن آل ياسین، 1414 ه-- 1994 م بیروت لبنان ط 1: 2/ 324 ، وينظر العین، للفراهيدي: 7/ 436 .
4- (4) سورة يس: 77 .
5- (5) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: 15 / 20

(دهاقا) الدهاق: من مادة (دهق) على وزن دهر بمعنى متتابعا وشدة الضغط،ثم استعملت بمعنى الصب بالقوة والضغط وأشارت هنا إلى صب النطفة في الرحم(1)، وهذا يتم من خلال التقارب بن الذكر والانثى.

ويعد طور النطفة المرحلة الأولى من مراحل التطور الخلقي للإنسان، وقد ذكر في القرآن الكريم في آيات عديدة.

قال سبحانه وتعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِینٌ﴾(2)، وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾(3)، و قال عزوجل ﴿ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِینٍ﴾(4).

يتحدث الإمام (عليه السلام) حول الآثار العلمية في تكوين النطفة التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى في جسم الإنسان من مكونات الأرض المخلوطة بالماء والتي تحوّل هذه المكونات إلى نطفة، يعبر عنها بالحيوان المنوي الذي يجري التناسل من خلاله بن سلالة المرأة وسلالة الرجل، والسلالة: صفوة الطعام والشراب الذي يتحول إلى نطفة(5).

قال تعالى في كتابه الكريم واصفا ذلك: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ﴾(6). وتسمى النطفة بالماء المهين، لإحاطتها بالماء،الذي يكون الجزء الاكبر منه، حيث قال

ص: 87


1- (1) ينظر لسان العرب، ابن منظور: 10 / 106 .
2- (2) سورة النحل: 4.
3- (3) سورة غافر: 67 .
4- (4) سورة المؤمنون: 13 .
5- (5) ينظر العين، للفراهيدي: 7/ 192
6- (6) سورة المؤمنون: 12.

تعالى ﴿.. ألم نخلقكم من ماء مهين﴾(1). ويقصد بالماء المهين: الضعيف أو القليل، وسمي بالضعيف والقليل لحقارته وصغره(2)، وقيل: انه الحقير المهان إشارة إلى انه عن شيء حقير لا قيمة له(3).

فيتضح: إن اللّه سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان، من ماء الحياة الذي يسمى بالنطفة الموصوف بالإهانة والحقارة والذي يفتقر إلى الصورة والشكل، وهذا يدل على عظيم قدرته أنه خلق من الماء موجودا حيا؛﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾(4)، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾(5).

ثانيا: طور العلقة.

«وَعَلَقَةً مِحَاقاً ».(محاق) من مادة محق على وزن محو أي ذهب خیره وبركته ونقص (6)، ومن هذا المعنى يطلق على المحاق القمر في آخره عندما ينمحق وينقص نوره ويختفي بالكامل.

(ووصفت العلقة بالمحاق بمعنى خفيت فيها ومحقت حتى زالت صورتها تبدلت إلى جنین،أو لأن لها شكلاً ممحواً وغیر معین ولم تتخذ لها صورة )(7).

والعلقة قطعة حمراء تتعلق بجدار الرحم، ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في آيات

ص: 88


1- (1) سورة المرسلات: 20 .
2- (2) ينظر: تاج العروس، للزبيدي: 1/ 8185 .
3- (3) ينظر: بحار الانوار، العلامة المجلسي: 57 / 324 .
4- (4) سورة الانبياء: 30 .
5- (5) سورة القيامة: 37 .
6- (6) ينظر: العين، للفراهيدي: 1/ 176 .
7- (7) نفحات الولاية شرح نهج البلاغة،الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، بيروت لبنان 1430 ه- 2009 م ط 1: 3/ 254 .

عديدة،حيث قال تعالى ﴿خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾(1). وقال سبحانه ﴿خَلَقَ الِإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾(2).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تبين سلسلة هذا الطور من الخلقة.

يبین (عليه السلام) القدرة الالهية في خلق الإنسان مشیرا إلى طور العلقة الذي ينشأ من خلال المني عندما يستقر في الرحم مدة معينة يظهر كالعلقة، وهو بدايات تكوين الجنین الناقصة، الذي لم تتصور عبره الصورة الإنسانية بتمامها وكمالها، ثم يصور لنا (عليه السلام) بدء خلق الإنسان من هذا الموجود الصغیر جدا الذي يلتصق بجدار رحم الأم ويستمد دفئه وغذاءه منه كما ورد في كتاب التوحيد للمفضل بن عمر المنقول عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرد على الدهرية قال (عليه السلام): سنبتدئ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به، فأول ذلك ما يدبر به الجنین في الرحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم و ظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة، فإنه يجرى إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات، فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوى أديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد ازعاج ذا عنفة حتى يولد(3).

ص: 89


1- (1) سورة المؤمنون: 14 .
2- (2) سورة العلق: 2.
3- (3) التوحيدالمفضل،الشيخ أبو محمد المفضل بن عمر الجعفي الكوفي(ت: في اواخر القرن الثالث) تحقيق قيس العطار، دار المرتضى - بیروت لبنان، ط 1 1037- 1110 ه-: 98 ، وينظر بحار الانوار، المجلسي: 57 / 377

وفي دعاء الإمام الحسین (عليه السلام) يوم عرفة الذي يستعرض فيه (عليه السلام) النعم التي مَنَّ اللّه بها سبحانه وتعالى على الإنسان منذ خلقه في رحم أمه حتى ولادته: يقول (عليه السلام): (وابتدعت خلقي من مني يمنى ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث بین لحم وجلد ودم)(1).

ثالثا: طور المضغة والعظام

يقول الإمام امیر المؤمنین (عليه السلام): «لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هذَا الِاْنْسَانِ مُضْغَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ »(2). المضغة: بالضم القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ(3).

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى المرحلة الثالثة من مراحل التطور الخلقي للإنسان بعد العلقة، وقد وصفها اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حيث قال: ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾(4)، وذكرها تعالى في آية أخرى: ﴿ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)(5)، وقد ورد مصطلح ((مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) إشارة إلى مرحلتین مرحلة غیر تامة الخلقة، فهي غیر مسواة، يعتريها النقص والعيب ومرحلة تامة الخلقة، (وقيل متصورة وغیر متصورة وهو السقط)(6).

ثم يؤكد القرآن الكريم على ناحية من هذه المرحلة، حيث يقول في سورة

ص: 90


1- (1) مفاتيح الجنان، الشيخ عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي(ت: 1359 ه- 1940 م) دار الاضواء بیروت لبنان ( د ط): 288 .
2- (2) نهج البلاغة،خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 4/ 25 .
3- (3) ينظر لسان العرب، ابن منظور: 8/ 450 .
4- (4) سورة المؤمنون: 14 .
5- (5) سورة الحج: 5.
6- (6) فقه القرآن، قطب الدين الراوندي (ت: 573 ه-) تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مكتبة آية اللّه العظمى النجفي المرعشي، ط 2 -1405:2 / 421 .

(المؤمنون) ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾(1).فالذي أنشأه اللّه خلقا آخر هي النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها، فهذه الآية لا تشیر فقط إلى بدء تشكيل العظام، بل بدء مرحلة تشكيل العضلات التي تحيط بالعظام كأنها كساؤها (2). فيتضح من كلامه (عليه السلام) إن للّه تعالى وبقدرته وإعجازه يعد ماء الرجل الذي يفتقر إلى الصورة والشكل وبعد تكامله في الظلمات الثلاث؛ المشيمة والرحم والبطن، يتحول إلى علقة ومضغة وعظام ولحم.

رابعا: طور الجنين:

قوله (عليه السلام): «وَجَنِيناً وَرَاضِعاً .»

الجنین الولد مادام في بطن أمه لاستتاره فيه وجمعه أجنة وأجنن(3)، ثم إنه مادام في الرحم يسمى جنينا، منه قوله تعالى: ﴿وإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾(4)،ولهذا البعد أشار الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) (وجنينا وراضعا) بعد عرضه لسلسلة أطوار تخلق الجنین، مشیرا إلى الاوصاف والاطوار الاربعة الإعجازية في خلق الإنسان كما هو مساق الآية المباركة ﴿ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ للَّهِ وَقاراً وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً﴾(5)، إشارة إلى الاطوار التي مر بها الإنسان في المرحلة الاولى من الخلق المعبر عنها بمرحلة العناصر التكوينية الاولية في خلق الإنسان وبعد اختلاطها تصبح مادة غذائية له، ثم تتحول هذه العناصر إلى نطفة وعلقة ومضغة

ص: 91


1- (1) سورة المؤمنون: 14 .
2- (2) ينظر تفسير الميزان، العلامة الطبطبائي: 3/ 61 .
3- (3) ينظر لسان العرب، ابن منظور: 13 / 92 .
4- (4) سورة النجم: 32 .
5- (5) سورة نوح: 13 -14 .

ثم تتحول عظاما ولحما كما في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(1).

حيث زود هذا الجنین بحواس «اعْجَبُوا لِهذَا الِاْنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْم، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْم، وَيَسْمَعُ بِعَظْم، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْم»(2).

الخرم: ما أصاب في الشفة وفي أعلى الأذن فهو خرم. والناشرتان هما المنخران. و الخرم أيضا ما خرم سيل، أو طريق في خف أو رأس جبل(3).

قال الشارح المعتزلي: (فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق، وإنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء، فإذا حمل الهواء الصوت ودخل في ثقب الاذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصونة، وأفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الادراك. وبالجملة فلا بد من عظم، لأن الحامل اللحم والعصب إنما هوالعظم.. واما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الانف، وإن كان قد يمكن لو سد الانف أن يتنفس الإنسان من الفم وهو خرم أيضا، والحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب وإدخال النسيم البارد إليه، فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط وتنقبض، فيدخل الهواء بها ويخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين)(4).

ص: 92


1- (1) سورة المؤمنون: 12 - 13 - 14 .
2- (2) نهج البلاغة خطب الإمام علي(عليه السلام): 4 / 4.
3- (3) ينظر العين الخليل الفراهيدي: 4 / 259 .
4- (4) شرح نهج البلاغة،ابن أبي الحديد، (ت: 656 ه-)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم::مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع،( د ط): 18 / 104 .

يقول (عليه السلام) في وصف الأثر العلمي في تركيب الحواس في الإنسان، إن اللّه سبحانه وتعالى زود هذا الجنین بحواس، من خلالها يسمع ويبصر وما يترتب عليها من آثار في الدنيا والاخرة.

ثم يقول (عليه السلام): «احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ، وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ، أُولِي الْأَبْصَارِ والْأَسْمَاعِ »(1)، اشارة إلى مسؤولية هذه الحواس التي تكشف عن مصیر الإنسان في هذه الدنيا، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )(2)، وفيما نسب إليه (عليه السلام) في معنى حقيقة السمع والبصر: ليس كل ذي عین يبصر، ولا كل ذي أذن يسمع، فتصدقوا على أولي العقول الزمنة، والألباب الحائرة بالعلوم التي هي أفضل صدقاتكم، ثم تلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (3).

ثم يصور لنا الإمام (عليه السلام) طور الجنین بعد انفصاله من المشيمة، الذي يعبر عنه في العلم الحديث بخروج الجنین من الرحم (الولادة)، فالجنین بعد ولادته يصبح رضيعا لاحتياجه إلى التغذية الخارجية ليكون راضعا يرضع أمه، أي يمتصّ ثديها، ثمّ يكون وليدا أي فطيما فإذا ارتفع قيل يافع. (قال في سرّ الأدبفي ترتيب أحوال الإنسان: هو ما دام في الرحم جنین فإذا ولد فوليد: ثمّ ما دام يرضع فرضيع، ثمّ إذا قطع منه اللَّبن فهو فطيم)(4) (والولد حین الرضاع يسمى: رضيعا، وبعده: وليدا، وبعده: يافعا، وهو: المرتفع فاذا طرّشار به فهو: غلام،

ص: 93


1- (1) نهج البلاغة خطب الإمام علي(عليه السلام): 1 / 143 .
2- (2) سورة الأسراء: 36 .
3- (3) العلم والحكمة في الكتاب والسنة: محمد الري شهري، تحقيق مؤسسة دار الحديث الثقافية، ط 1: 314 .
4- (4) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 6/ 31 .

واذا ادرك فهو: رجل، وللرجولية ثلاثة حدود: الشباب، وهو: تمام النمو. وبعده: الكهولة، ثم: الشيخوخة) (1).

ومن هذا المنطلق وهذه الصورة المعبرة التي رسمها لنا الإمام (عليه السلام) المنتقاة من ثقافة القرآن الكريم في أطوار تخلق الإنسان، نشأت من خلالها صلات الحب والمسؤولية بین الام ووليدها في الوقت الذي تعاني فيه الأم من الوهن وعذاب الحمل مالا يتحمله غيرها، ولذلك قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنًا وَفِصَالُهُ فِي عَامَیْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَیَّ الْمَصِیرُ﴾(2).

فيتحصل: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان خلقا إعجازيا بديعا مدهشا، وصفه الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بتصوير القرآن الكريم ﴿ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ للَّهِ وَقاراً وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً﴾(3) فعلى الإنسان أن يقدر اللّه حق قدره ويرجو له سبحانه وتعالى وقارا.

ص: 94


1- (1) اختيار مصباح السالكين، ابن ميثم البحراني (ت: 679 ه-): تحقيق وتقديم وتعليق: الدكتور شيخ محمد هادي الأميني، مؤسسة الآستانة الرضوية المقدسة، مجمع البحوث الاسلامية، 1408 - 1366 ش ط 1: 200 .
2- (2) سورة لقمان: 14 .
3- (3) سورة نوح 13 - 14 .

المسألة الثالثة: الأثر العلمي في خلق الحيوانات

لم تقتصر عجائب وآثار خلق اللّه سبحانه وتعالى على الإنسان فقط، بل تعددت بعظيم قدرته التي يقف عندها العقل حائرا، ماذا يقول، وماذا يفسر، وكيف له ان يعرف.

كل هذه التساؤلات لها مفتاح سحري نجده في المضامین الغيبية في كلام الإمام أمیر المؤمنین وأهل بيته (عليهم السلام)، لما بينوا للناس من خفايا الامور وما صعب على عقول الاخرين فهمه من أسرار الحياة الدنيا والآخرة، علموا الناس منطق الطیر وسر افعال الحيوان وتصرفاته وخصائصه، وعلموا الناس الاسرار الكامنة في الإنسان وطبائعه فيما يضره وما ينفعه.

وها هو الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في إحدى خطبه الشريفة يصف لنا عجيب ما خلق في الحيوان قائلا: «وَلَوْ فَكَّروا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالاَبْصَارَ مَدْخُولَةٌ! ألاَ تَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللّهُ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ! انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ

جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ

ص: 95

وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيّ، وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ والخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ. وَكَذلِكَ السَّماءُ وَالْهَوَاءُ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ.

فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَاخْتِلَافِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلَالِ، وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، وَالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ. فَالوَيْلُ لِمَنْ جَحَدَ الْمُقَدِّرَ، وَأَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ!»(1).

يشیر الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى عظمة اللّه تعالى وقدرته وحكمته في عجيب خلقه في الحيوانات، كيف صورها وأتقنها وأحسن صنعها وتركيبها بم يتلاءم وطبيعة حياتها ومعاشها، وعلى هذا الأساس جدير بنا أن نوضح ما صدر من أثر علمي في شأن الحيوان وأحواله وخصائصه بالاعتماد على كلام الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) والقرآن الكريم.

ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلق الطيور: «ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَان وَمَوَات، وَسَاكِن وَذِي حَرَكَات، وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسْلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الاْرْضِ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا، وَرَوَاسِي أعْلاَمِهَا، مِنْ ذَوَاتِ أَجْنِحَة مُخْتَلِفَة، وَهَيْئَات مُتَبَايِنَة، مُصَرَّفَة فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَة بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ المُنفَسِحِ وَالْفَضَاءِ المُنفَرِجِ. كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجائِبِ صُوَر ظَاهِرَة،

ص: 96


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 11 8 .

وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَة، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً، وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً، وَنَسَقَهَا عَلَى اخْتِلاَفِهَا فِي الاْصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ؛ فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْن لاَ يَشُوبُهُ غَیْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيه، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ»(1).

يتحدث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة البليغة في اسلوبها و عجيب نظمها عن أوصاف الطيور و عظيم قدرته سبحانه و تعالى و لطيف صنعته قد ابتدعها عى غیر مثال سابق (خلقا عجيبا) من صنوف الحيوانات وصور الاطيار بأشكالها المتباينة المدهشة بكمالها وتمامها، كما وصفها سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(2)

وقال تعالى:﴿«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(3).

قال الطبرسي (قدس سره): أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض لا يخلوإما أن يكون طیرا يطیر بجناحيه في الهواء أو يدب في الارض(4).

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ

ص: 97


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 71 .
2- (2) سورة النور: 45 .
3- (3) سورة الانعام: 38 .
4- (4) ينظر مجمع البيان: 4/ 297 .

لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(1).

تتحدث جميع هذه الآيات المباركة في سياق قوله (عليه السلام) ابتدعهم خلقا عجيبا، إشارة إلى علمه وعظمته وحكمته في صنع بديع خلقه سبحانه وتعالى، من أن كل شيء في الكون عجيب مبهر للعقل بكماله و تمامه، كما يقول (عليه السلام): «مُبْتَدِعِ الْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ، وَمُنْشِئِهِمْ بِْحُكْمِهِ، بِلَا اقْتِدَاء وَلاَ تَعْلِيم، وَلاَ احْتِذَاء لِمِثَالِ صَانِع حَكِيم»(2).

ثم أشار الإمام (عليه السلام) إلى حالاتها وطبائعها: وإن بعضها يسكن شقا أو حفرة من الأرض، وبعضها في أعالي الجبال والأشجار، وإن منها الضخم الذي يعجز عن السمو في الهواء، ومنها الذي يعلو آلاف الأمتار(3)(4).

المسألة الرابعة: الآثار العلمية في خلق الكون

أولا: السماء.

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) واصفا العظمة والقدرة والحكمة الالهية: «فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ مُوَطَّدَات بِلَا عَمَد، قَائِمَات بِلاَ سَنَد، دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات، غَيْرَ مُتَلَكِّئَات وَلاَ مُبْطِئَات، وَلَوْ لاَ إقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَلائِكَتِهِ،

ص: 98


1- (1) سورة النمل: 16 - 17 - 18 .
2- (2) نهج البلاغة،خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2/ 133 .
3- (3) ينظر في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 2 / 467 .
4- (*) نكتفي بهذا المقدار مخافة الإطالة، ومن أراد الإستزادة والتوسعة فليرجع إلى سلسلة عجائب المخلوقات الصادرة عن مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة.

وَلاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ. جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ، لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»(1)

من معاني السماء في القرآن الكريم هو المعنى اللغوي المعروف بالعلو والسمو المأخوذ لغة من سما يسمو سموا فهو سام(2)، موطدات والمتواطد: الدائم الثابت الشديد الذي بعضه في إثر بعض(3)، وقال آخر (موطدات) أي محكمات الخلقة مثبتات في محالها على وفق النظام والحكمة)(4).

يتحدث (عليه السلام) عن الأفلاك الواسعة والعظيمة، وما أودع سبحانه وتعالى من أشياء ومعان، البعض منها يطلق عليها أمور وأشياء مادية محسوسة يعبر عنها بالشهادة والبعض الاخر غيبيات غیر واضحة للعيان، فالحديث عن السماء هو الحديث عن المادة الواضحة التي نراها بعيوننا، ولاشك ولاريب إن هذه السماء التي فوقنا هي من العوالم الواضحة والمليء بالكواكب النجوم والشمس والقمر والشهب والظواهر الكونية الاخرى والحاضرة فوقنا في كل لحظة، وورد للسماء في القرآن الكريم معان عديدة إضافة إلى المعنى العام، ومفردها (سماء) وبلفظة الجمع (سماوات).

يشیر الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة المباركة عن الآثار العلمية الكونية وتدبیره سبحانه وتعالى في خلق الكون والسموات، وكل شيء فيه

ص: 99


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2/ 104 .
2- (2) مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي: 5.
3- (3) ينظر: تاج العروس، للزبيدي: 1/ 2341 .
4- (4) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 10 / 370 .

فهو آية من آيات الابداع والتدبر.

قال تعالى: ﴿«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾(1).

وقوله (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعین( قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وأتت الارض بما فيها من الانهار والاشجار والثمار، وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة ولا إطاعة، ولا جواب لذلك القول بل أخبر سبحانه عن اختراعه للسماوات والأرض وإنشائه لهما من غیر تعذّر ولا كلفة ولا مشقّة بمنزلة ما يقال افعل فيفعل من غیر تلبّث ولا توقّف ولا تأنّ وهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّما أَمْرُه إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُ﴾(2).

وانما قال أتينا طائعین ولم يقل طائعتین لأن المعنى: أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء، وقيل: إنه لما خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل، قوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(3)(4)

ومن خطبة له (عليه السلام) في الاستسقاء يصف فيها السماء والارض طائعتین (ألا وإنّ الأرض الَّتي تقلَّكم، والسّماء الَّتي تظلَّكم، مطيعان لربّكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخیر ترجوانه

ص: 100


1- (1) سورة فصلت: 11.
2- (2) التبيان في تفسير القرآن، الطوسي: 9/ 106 .
3- (3) سورة يس: 40
4- (4) بحار الانوار: 54 / 19 .

منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا)(1).

يبین (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة خلق السماء والارض وأنهما مقهورتان تحت القدرة الإلهية، فأمساكهما بإرادته سبحانه وتعالى، فينزل من السماء المطر السحاب قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(2).

ويدلّ على ذلك ما في الكافي عن الحمیري عن هارون عن ابن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه (عليهم السّلام) قال: كان عليّ (عليه السّلام) يقوم في المطر أوّل مطر يمطر حتّى يبتلّ رأسه ولحيته وثيابه فيقال له: يا أمیر المؤمنین الكنّ الكنّ فيقول: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش ثمّ أنشأ (عليه السّلام) يحدّث فقال إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت به أرزاق الحيوانات وإذا أراد اللّه أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه أوحى اللّه عزّ وجلّ فمطر منه ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصیر إلى السّماء الدنيا، فتلقيه إلى السّحاب والسّحاب بمنزلة الغربال ثمّ يوحى اللّه عزّ وجلّ إلى السّحاب أن اطحنيه واذيبيه ذوبان الملح في الماء ثم انطلقي به إلى موضع كذا وكذا وعبابا أو غیر عباب، فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلَّا ومعها ملك حتّى تضعها بموضعها(3).

ص: 101


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2/ 25 .
2- (2) سورة البقرة: 164 .
3- (3) الوافي، الفيض الكاشاني (ت: 1091 ه-) تحقيق: مركز التحقيقات الدينية والعلمية في مكتبة الإمام أمیر المؤمنین علي (عليه السلام): ربيع الثاني 1416 ه- . ق، مكتبة الإمام أمیر المؤمنین علي (عليه السلام) العامة - أصفهان ط 1: 26 / 500 .

وفي الاحتجاج عن الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المشهورة، أنها قالت «وجعل طاعتنا نظاما للملة »(1)، والمقصود من ذلك أن اقتران طاعة المعصوم من قبل الناس بطاعة اللّه تعالى، والطاعة للمعصوم بما هو لا يخطئ ولايأتي بالخطأ فطاعته الحق، والحق هو نظام الكون، والانسان جزء بوجوده من نظام الكون، والحق هوالمصداق الثابت المنقول عن الواقع الكوني، فبالحق بدأ الكون وبه يقوم ومعه يدوم. ولذا فلا خيار للسموات والارض في قيامهما ودوامهما عن الحق، ولاخيار لهما عن مجانبة الحسن إذ عدمهما قبيح ووجودهما حسن،فخيارهما منسجم من سنة الاحسان.

ثانيا: النجوم:

ومن عجائب إعجازه سبحانه في خلق الكون خلق النجوم وجعلها تعالى علامات يهتدى بها: جعل نجومها أعلاما يستدل بها الحیران في مختلف فجاج الأقطار، كما قال عزّ من قائل: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾(2)، ولشدة ضوئها لم تكن ظلمة الليل ساترا ومانعا من إضاءتها، فسبحان من لا يخفى عليه خافية. فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلام، وأظلم بظلمته كل نور، حيث جعلها (عليه السلام) زينة السماء: «ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ، وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً، وَقَمَراً مُنِیراً: في فَلَك دَائِر، وَسَقْف سَائِر، وَرَقِيم مَائِر »(3). قال تعالى:﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ﴾(4)، وقوله: فأجرى فيها سراجا مستطيرا وقمرا منیرا كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وجَعَلَ

ص: 102


1- (1) الاحتجاج، أبو منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي (ت: 548 ه- )، منشورات الشريف الرضي (د ط): 1/ 180 .
2- (2) سورة النحل: 16 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 18 .
4- (4) سورة الصافات: 6.

الشَّمْسَ سِراجاً﴾(1).

وعن أمیر المؤمنین ( عليه السلام ) أنه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كل مدينة بعمودين من نور، طول ذلك العمود في السماء مسیرة مائتین وخمسین سنة»(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) سليل الدوحة المحمدية الشريفة، كما جاء في بحار الانوار: فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسیرها، فبعضها لاتفارق مراكزها من الفلك ولا تسیر إلا مجتمعة، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسیرها، فكل واحد منها يسیر سیرين مختلفین، أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى، فالرحى تدور ذات اليمین، والنملة تدور ذات الشمال والنملة في ذلك تتحرك حركتین مختلفتین: إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها.. فاسأل الزاعمین أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال، من غیر عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة أو تكون كلها منتقلة، فإن الاهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتین مختلفتین على وزن وتقدير؟ ففي هذا بيان أن مسیر الفريقین على ما يسیران عليه، بعمد وتدبیر وحكمة وتقدير، وليس بإهمال كما يزعم المعطلة، فإن قال قائل: ولم صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا ؟ قلنا: إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة، ومسیرها في برج من البروج، كما يستدل بها على أشياء مما يحدث العالم، بتنقل الشمس والنجوم في منازلها، ولو كانت كلها

ص: 103


1- (1) سورة نوح: 16 .
2- (2) بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 55 / 91 .

منتقلة، لم يكن لمسیرها منازل تعرف، ولا رسم يوقف عليه، لأنه إنما يوقف عليه بمسیر المنتقلة منها بتنقلها البروج الراتبة كما يستدل عى سیر السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها أو لو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها، وبطلت المآرب فيها، ولساغ القائل أن يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الاهمال من الجهة التي وصفنا(1).

فمن خلال الرواية وتتبعها نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يتحدث عن ابعاد الإعجاز في المنظومة الكونية التي وصفها الإمام أمیر المؤمنین (السماء)(والنجوم) (هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض) ولما يجري فيهما من حركات وظواهر كونية، وهذا ما نلاحظه من خلال كلماته وعباراته الشريفة (اختلاف مسیرها) ألا تدل هذه العبارة أن لكل نجم مسیرا وسرعة خاصة به وموقعا من بین مواقع النجوم الأخرى، ثم يصف الإمام (عليه السلام) حركة النجوم بحركة النملة التي تدور على الرحى، هناك حركتان حركة النملة وهي مستقلة من دون الرحى وحركة النملة مع حركة الرحى، فإذا لاحظنا كلام الإمام (عليه السلام) نجد أنه يصور لنا جريان وحركة النجوم بحركتین الاولى حركة النجوم داخل المجرة والحركة الأخرى ضمن المجرى.

ثالثا: خلق الملائكة

ومن عجائب إعجازه سبحانه وتعالى العلمي خلقه لسكان السموات ملائكة عاملین ليل نهار ركعاً سجدا لا يفترون عن عبادته شيئا، قال (عليه السلام): «ثُم فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمواتِ العُلَا، فَمَلاَهُنَّ أَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ: مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَيَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ، وَصَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ

ص: 104


1- (1) التوحيد: المفضل بن عمر الجعفي: 84 ، بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 55 / 98 - 100 .

العُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ العُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ الاَبْدَانِ، ولاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ...ثم قال (عليه السلام) مِنْ مَلاَئِكَة أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ؛ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ؛ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا (مِنْ مَاء مَهین)، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)؛ وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ »(1). منه قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾(2). وقوله تعالى﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(3).

ومضمون كلامه (عليه السلام) عندما يصف خلق الملائكة يعبر عن طريقة إيجاد خلقهم بالفتق.

فتق ما بين السماوات العلا. فتق: الفتق هو انفصال الشيء عن بعضه(4).

يتحدث الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) عن حقيقة إعجاز خلق الملائكة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في آيات عديدة، (إنهم أجسام نورانية يتمتعون بأجنحة (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) أو أكثر من ذلك، أودع اللّه سبحانه وتعالى فيهم القدرة على التشكل بالصور بالأشكال

ص: 105


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي ( عليه السلام): 1 / 19 / 211.
2- (2) سورة الاعراف: 206 .
3- (3) سورة آل عمران: 18 .
4- (4) ينظر: العين، الفراهيدي: 1/ 393 . *المهين الضعيف والحقير، كما في قوله تعالى في سورة المرسلات 20 ﴿لَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِين﴾.

المختلفة، حسب حكم وظائفهم والمصالح الالهية، ولهم حركات صعودا وهبوطا، ولايراهم إلا الانبياء والاوصياء عليهم السلام)(1).

« أَنْشَأَهُمْ عَىَ صُوَر مُخْتَلِفَات، وَأَقْدَار مُتَفَاوِتَات، (أُولِي أَجْنِحَة مَثْنَى وَثُلاَثَ) تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، ﴿...بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(2)»(3).

ويروى أن الملائكة يموتون بعد موت الأنس بأسرهم(4)، (وكل ما خلقه اللّه منهم حي، والاشراف منهم لا تكون مساكنهم ومنازلهم إلا على السماوات كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام، والى هذا أشار بقوله: (ورفعتهم عن أرضك) وإلا ففي الأرض كثیر منهم. وقيل ان كل من كان من الملائكة في الأرض «وَ مِنْهُم مَن قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى »(5) من الحفظة والكرام الكاتبین يرجعون إلى السماء، ولا يكونون عى الدوام هنا بل يتناوبون(كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء)، ووصفهم بأنهم مع كثرة طاعتهم للَّه لو عاينوا كنه ما خفي عليهم لحقروا أعمالهم )(6).

ص: 106


1- (1) تفسیر الصراط المستقيم،السيد حسین البروجردي، صححه وعلق عليه: الشيخ غلام رضا بن علي اكبر، قم، مؤسسة أنصاريان، 1416 ه- ط 1: 5/ 72 .
2- (2) سورة الأنبياء: الآيتان 26 - 27 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 169 .
4- (4) ينظر بحار الانوار، العلامة المجلسي: 6/ 483 ، باب نفخ الصور وفناء الدنيا وإن كل نفس تذوق الموت. وينظر الملائكة في نهج البلاغة، محمد حمزه الخفاجي، سلسلة الكتب العلمية، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1: 131
5- (5) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 170 .
6- (6) ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين الراوندي (ت: 573 ه-)، تحقيق: السيد عبد اللطيف الكوهكمري، مكتبة آية اللّه المرعشي العامة - قم، 1406 ه- ( د ط): 1/ 466 .

وأشار الإمام (عليه السلام) حينما وصفهم بصفات ونعتهم بميزات ولهم مهام، ومن خصائصهم الغيبية بأنهم لم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء مهین، وصفاتهم أنهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العین. ولا سهو العقول. ولا فترة الأبدان. ولا غفلة النسيان. ويقول (عليه السلام) «وَلَيْسَ في أَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ مَوْضِعُ إِهَاب إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ سَاع حَافِدٌ، يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً»(1).

ثم يقسمهم (عليه السلام) من حيث مهامهم المناطة بهم، منهم أمناء على وحيه، ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِینٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِینٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِینِ * وَمَا هُوَ عَلَی الْغَيْبِ بِضَنِینٍ﴾(2)، ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَی الْمَلائِكَةِ﴾(3)وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾(4).

ومنهم الحفظة لعباده: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ (5) ﴿ِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِيَن﴾(6)،(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَیْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللِّهِ﴾(7).

ص: 107


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 173 .
2- (2) سورة التكوير: الآيات 20 - 24 .
3- (3) سورة الأنفال: 12.
4- (4) سورة يونس: 21.
5- (5) سورة الانعام: 61 .
6- (6) سورة الانفطار: 10 .
7- (7) سورة الرعد: 11.

والسدنة لأبواب جنانه: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ* وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(1).

ومنهم الثابتة في الأرضین السفلى أقدامهم، ومنهم آخرون جعلهم اللّه سبحانه و تعالى يراقبون أعمال البشر كما صرح به القرآن الكريم ﴿كِرَامًا كَاتِبِینَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (2)، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) «آه وا نفساه من ملائكة تشهد علي غدا، آه وا حزناه من ملائكة غلاظ شداد لا يرحمون من شكا وبكى»(3).

ثم يشیر (عليه السلام) إلى طبيعة هذه المخلوقات الغيبية من حيث الشكل ومن حيث الاعتقاد الجازم بأنهم ليسوا كباقي المخلوقات الحسية، يقول (عليه السلام) والمارقة (النافذة في كل شيء) من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، أنهم رسل مبلغین عن اللّه تعالى ﴿و يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾(4).

والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ﴿وَالْمَلَكُ عَلىَ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ

ص: 108


1- (1) سورة الزمر: 73- 71 .
2- (2) سورة الانفطار: 11- 12.
3- (3) الصحيفة السجادية الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ( ت: 94 ه-)، تحقيق: السيد محمد باقر الموحد الابطحي الأصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) / مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر - قم 25 محرم الحرام 1411 ه- ط 1: 430 .
4- (4) سورة النحل: 2.

فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾(1). ناكسة دونه أبصارهم متلفعون تحته بأجنحتهم، قد اتخذوا ذا العرش ذخیرة ليوم فاقتهم. ويمموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقین برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته.. مضروبة بينهم وبین من دونهم حجب العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير. ولا يجرون عليه صفات المصنوعین. ولا يحدونه بالأماكن. ولا يشیرون إليه بالنظائر، وجعل الايمان بهم كالإيمان باللّه سبحانه وتعالى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(2).

(فإنّ المقصود ذلك كلَّه الإشارة إلى كمال مراتبهم في صنوف العبادات والتأكيد لاستغراقهم في مقام المعرفة والمحبّة وبيان خلوّعبوديّتهم من النقصانات اللَّاحقة، فإنّ كلَّا من هذه الصّفات المنفية لو وجد كان نقصانا فيما يتعلَّق به وإعراضا عن الجهة المقصودة)(3). يقول (عليه السلام) «ولَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْواذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ»(4).

رابعا: خلق الارض:

وفي مقطع أخر يصف (عليه السلام) الارض وما عليها من مخلوقات: «كَبَسَ الْأَرْضَ عَلى مَوْرِ أَمْوَاج مُسْتَفْحِلَة.... وَجَعَلَ ذلِكَ بَلاَغاً لِلْأَنَامِ، وَرِزْقاً لِلْأَنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا، وَأَقَامَ المَنَارَ لَلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا»(5).

ص: 109


1- (1) سورة الحاقة: 17 .
2- (2) سورة البقرة: 285 .
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 7 / 323 .
4- (4) نهج البلاغة،خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 172 .
5- (5) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ) عليه السلام (: 1/ 177 .

الكبس: هو طم الماء بالتراب، يقال كبست النهر كبسا: طممته بالتراب(1).

وفي دعاء الإمام الحسین (عليه السلام) يوم عرفه «يا من كبس الارض على الماء وسد الهواء بالسماء »(2).

يشیر الإمام (عليه السلام) في كلامه إلى قدرة اللّه تعالى وتدبیره في كيفية إيجاد الارض وكبسها على الماء، وخلق الامطار والصواعق والبرق اللامع في السماء، وخلق النباتات والانهار، وكل شيء أعده اللّه سبحانه وتعالى فيه منافع عظيمة وفوائد جسيمة.

ثم يصف (عليه السلام) الجبال بأنها مخازن مياه الأنهار، فعندما تسقط الأمطار على الجبال ترتوي تربتها فتنمو فيها الأشجار والزروع، وتزدهر حياة الإنسان والحيوان. أمّا المياه الفائضة فتمتصّها الجبال لتخزنها في جيوب كبیرة نقيّة باردة. حتى إذا جاء الصيف وقلّت مياه الأنهار، تفجّرت تلك المياه من الينابيع معيناً عذباً سلسبيلاً، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة العلميّة التي تفيد أنّ الجبال مخازن مياه الينابيع، والأنهار.

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ (3).

أشار إلى ذلك (عليه السلام) بقوله: «فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا،

ص: 110


1- (1) ينظر العين: الخليل الفراهيدي: 5 / 316 .
2- (2) مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي: 431 .
3- (3) سورة الحجر: 21- 22.

وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَأَخَادِيدِهَا»(1).

فيتحصل مما تقدم: إن الإمام (عليه السلام) قد بين بشكل واضح وجلي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في خلق الإنسان والحيوان والأرض والفلك، ويكشف كلامه عن الحقيقة التي كانت مجهولة في زمن نزول القرآن بصورة كاملة من عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم).

ثم يؤكد الإمام (عليه السلام) من خلال حديثه، أن الآثار العلمية للقرآن الكريم والتفسیر العلمي هو أحد الوسائل المقنعة للدعوة إلى الإسلام، لان القرآن قد تحدى معارضيه من خلال طرحه للقضايا العلمية الموافقة للخطاب الإلهي في خلق الكائنات التي أبهرت النفوس وأعجزت عقول البشر، لأن المتكلم عن هذه الظواهر والمخبر عنها هو خالقها وصانعها فلا يمكن أن يختلفا عنه.

ص: 111


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 177 .

ص: 112

الفصل الثالث : الآثار التربوية في القرآن الكريم ونهج البلاغة

اشارة

ص: 113

ص: 114

تمهيد:

هذا الفصل الذي أقدمه للقارئ الكريم ليعلم أن كتاب اللّه المعجز لم يقف إعجازه عند حدود الإعجاز البياني الذي توسعت الدراسات فيه بحثاً، ولا على الإعجاز العلمي الذي اختلف فيه وعنه وحوله حتى الآن، وإنما القرآن الكريم بما هو كتاب هداية وإرشاد فإن الوجه الأجدر بالبحث فيه هو ذلك الأثر النفي والتربوي الذي غفل عنه كثیر وإن كنت أراه جديراً بالعناية والاهتمام كما وصفه الإمام أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب عليه السلام

«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لاحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأَوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ»(1).

التربية لغة مشتقة (ربا) اليء إذا زاد ونما(2)، منه قوله تعالى:﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾(3)، وهي عبارة عن التدرج السلوكي لدى الفرد وما يعبر عنه في علم الاخلاق التخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل.

إن اللّه حينما بعث رسله وأنزل كتبه السماوية كلها من أجل تربية البشر وإتمام

ص: 115


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 91 .
2- (2) العين، الفراهيدي: 2/ 176 .
3- (3) سورة البقرة 276 .

مكارم الأخلاق وغرس المبادئ والقيم العليا وتعميقها في النفوس، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(1).

فإن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء هو ترسيخ العقيدة الصحيحة في النفوس، «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»(2)، أي ليبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله وفطروا عليه من الإقرار بالعبوديّة للَّه، ويجذبوهم عمّا التفتوا إليه من اتّباع الشهوات الباطنة، وافتناء اللذّات الوهميّة الزائلة(3).

فنجد الأسلوب العجيب الذي اتبعه الإمام (عليه السلام) في كلامه المستوحى من القرآن الكريم كان أسلوباً ربانياً، فكل خطوة يخطوها (عليه السلام) إلا وفيها دراسة مستنتجة من وحي القرآن ورسالة الانبياء (عليهم السلام) في التبليغ وغرس القيم الإنسانية في النفوس.

حيث وضعوا الإنسان على الأخلاق الحسنة والاعتقاد الصحيح، وهو الغرض من خلق الإنسان، قال تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾(4). الاخلاق الحسنة والاعمال الصالحة ترفع الاعتقادات الصحيحة.

فحققوا من خلال دعوتهم الكمال العلمي والعملي للإنسانية، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ

ص: 116


1- (1) سورة الجمعة: 2.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/ 24 .
3- (3) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1 / 202 .
4- (4) سورة فاطر: 10 .

الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(1)(1).

ومن خلال ذلك فسوف يكون الكلام في هذا الفصل في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: مضامين الخطاب التربوي للقرآن عند الإمام علي (عليه السلام).

اشارة

قال الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) «فَالْقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجَّةُ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ، أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثاقَهُ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ»(2).

الزجر: كلمة تستعمل في الطرد والانتهار(3)، منه قوله تعالى في سورة الصافات ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾(4)، أي الملائكة التي تزجر السحاب والشمس القمر والأفلاك وملكوت الهواء ودواب الأرض(5)، وقيل في معنى الزجر: الزواجر التي جاء بها القرآن الكريم في النهي عن ارتكاب القبائح(6).

صامت ناطق: ( أي أثر الحدوث فيه يدل على محدثه فكأنه ينطق وبالعكس)(7)، ثم أن القرآن صامت بنفسه وينطق من خلال معانيه الفصيحة والبليغة، التي تبین

ص: 117


1- (1) سورة النحل: 89 .
2- (2) نهج البلاغة خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 111.
3- (3) ينظر: العين، للفراهيدي: 1/ 265 .
4- (4) سورة الصافات: 2.
5- (5) ينظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني (ت: 425 ه-)، المطبعة: دفتر نشر الكتاب 1404 ه- ( د ط): 211.
6- (6) ينظر: زاد المسیر في علم التفسیر، ابن الجوزي (ت: 597 ه-)، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد اللّه، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 1407 - 1987 م ط 1: 6/ 286 .
7- (7) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (ت: 1094 ه-) تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري: مؤسسة الرسالة - بیروت ( د ط): 1/ 196 .

هذه المعاني ما يحتاجه الإنسان في تحقيق سعادته في الدنيا والآخرة.

والارتهان: إرتهن: مرتهن، جعل النفس مرهونة على عمل ما يجب الوفاء به،كما لوقيل كل أمرئ مرتهن بعقيقة (1)، منه قوله تعالى ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَنْ أَوْفى عاهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾(2)، منه قوله (عليه السلام) في شأن ارتهان بالقرآن الكريم: «وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ » (لما كان ذمم المكلَّفین مشغولة بما تضمّنه القرآن من التكاليف والأحكام وكان اللاَّزم عليهم الخروج عن عهدة التكليف وتحصيل براءة الذّمة شبّههم بالعن المرهونة لدين المرتهن، فإنّ فكّ رهانتها موقوف على أداء حقّ صاحب الدّين فكذا فكّ رهانة هؤلاء موقوف على عملهم بالتكاليف الشرعيّة والأوامر المطلوبة. وهو نظیر قول النبيّ (صلَّی اللّه عليه وآله) في الخطبة الَّتي خطب بها في فضيلة شهر رمضان أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكَّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من ذنوبكم فخففوا عنها بطول سجودكم)(3).

وهنا نتعرف على بعض هذه المضامين:

أولا. الحوار اللين والمداراة في الكلام

«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(4).

ص: 118


1- (1) ينظر كتاب العين، للفراهيدي: 1/ 62 .
2- (2) سورة الفتح: 10 .
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 10 / 382 .
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام): 3 / 84 .

اللین والرحمة: ليس بالشديد لا في غاية الخشونة ولا غاية النعومة(1)، كما قال (عليه السلام) في وصف المتقین (لينا قوله)(2). من الاساليب التربوية التي طرحها الإمام (عليه السلام) والمستوحاة من ثقافة القرآن أسلوب الحوار والنقاش الذي استخدمه الأنبياء (عليهم السلام) في دعوتهم، من عدم مقابلة الخصم بالخشونة أو بذاء بالقول، بل كان تعاملهم بالمنطق الحسن واللین مما درجوا عليها من تعاليم إلهية في خیر القول وجميل الأدب (3)، وقال تعالى مخاطبا موسى وهارون قبل لقائهم فرعون، قال تعالى:﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾(4).

ومنه نفهم كلام الإمام (عليه السلام) في حواره: يوم التقى هو ومعاوية بصفین ورفع بها صوته ليسمع أصحابه: واللّه لأقتلن معاوية وأصحابه ثم يقول في آخر قوله: إن شاء اللّه - يخفض بها صوته - وكنت قريبا منه فقلت: يا أمیر المؤمنین إنك حلفت على ما فعلت ثم استثنيت فلما أردت بذلك ؟ فقال لي: إن

الحرب خدعة وأنا عند المؤمنین غیر كذوب فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كيلا يفشلوا وكي يطمعوا فيهم فأفقههم ينتفع بها بعد اليوم إن شاء اللّه واعلم أن اللّه جل ثناؤه قال لموسى عليه السلام حيث أرسله إلى فرعون: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى (عليه السلام) على الذهاب(5).

فالقول اللین والحوار لهما مكانة في الخطاب العلوي، فكلا الخطابین يؤسسان

ص: 119


1- (1) ينظر العين، للفراهيدي: 2/ 112.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 164 .
3- (3) ينظر تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: 6/ 163 .
4- (4) سورة طه: 44 .
5- (5) الكافي، الشيخ الكليني: 7 / 460

لمعنى واحد وهو الخشية أمام العظمة الالهية.

وفي قوله تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾(1)، إشعار على تقديم الرأفة وشدة الرحمة مع تحقيق اللین وتوفیر المحبة للآخرين، (وهي ناظرة إلى أخلاقه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحسنة دون أدبه الذي هو أمر وراء الخلق إلا أن نوع الأدب يستفاد من نوع الخلق، على أن نفس الأدب من الأخلاق الفرعية(2).

فالغرض من البعثة ليس السيطرة والسلطنة فقط بل هو هداية الناس والتذكر والخشية للّه تعالى، فالإنسان يحتاج في حياته للسيطرة على قواه الشهوية والغضبية والعقلية حتى تكون حياته طيبة في معاشه ومعاده، وهذا ما أ خبر به القرآن الكريم.

ثانيا. التعايش مع الناس

من أهم الصفات التربوية التي عرضها القرآن هو عدم الانعزال أي قدرة الفرد على التعايش مع الناس ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فيستطيع عبر ذلك التأثر والسيطرة على أفكارهم وعواطفهم.

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام)(: «فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، وَالْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالْأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ،

ص: 120


1- (1) سورة التوبة: 128 .
2- (2) تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: 6/ 166 .

وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ،وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ»(1).

يشر الإمام (عليه السلام) إلى التعايش السلمي مع الناس ويرى فيه القوة وعدمه رمزا للضعف والتشتت، (فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الاصل، وتنبثق من هذا الينبوع. وهكذا تكون الرغبة في الخیر، ورضوان اللّه، ومساعدة الضعفاء، وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقربا إلى اللّه، هي رائد كل إنسان وعى مبادئ الاسلام. وهكذا يكون المجتمع متحابا متراحما متآزرا متعاونا على البر والتقوى، بدل أن يكون في صراع يؤدي به إلى التفسخ والانحلال. هذا هو المثل الاعى للحياة في الاسلام وعند الإمام(2).

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(3).

فالإمام (عليه السلام) حدد الاطر العامة للفضيلة حينما جعلها مصدرا أساسيا في بناء القيم الاجتماعية، لصون المجتمع من أخطار الفرقة والتنازع الطبقي،الذي يتولد منه النوازع العدوانية المنبثقة من الشعور النفي المتولد من الغفلة التي تصيب الفرد الإنساني.

عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: « ملعون من ألقى كله على الناس وذلك أن اللّه تعالى خلق الإنسان مدني الطبع لا يستقيم معاشه إلا باجتماع جماعة من أبناء

ص: 121


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 152 .
2- (2) دراسات في نهج البلاغة، محمد مهدي شمس الدين، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت لبنان ط 3، 1981 : 1/ 24 .
3- (3) سورة الحجرات: 13 .

النوع يتعاونون على تقويم مصالحهم الضرورية من علاج المساكن واستنباط المياه وزرع الحبوب وغرس الأشجار والحصاد...»(1).

ثالثا. الاحسان للآخرين

اشارة

قال (عليه السلام): «لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِ الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ،(وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ »(2). وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(3)، وفي سياق الآية المباركة يصور لنا القرآن لسان حال الكافرين إذ يقولون في اليوم الآخر بعد أن يسألهم المؤمنون:﴿ما سَلكَكُم في سَقر * قالُوا لم نَكُ

مِن المُصلّینَ * ولم نَكُ نُطعِمُ المِسكِينَ﴾(4)،المراد بالكافر هنا ناكر الجميل والمعروف الذي أسدي اليه، وبالشاكر من يستحسن الحسن لذاته حتى ولو صدر من عدوه(5)، منه قوله (عليه السلام) (من ظن بك خیرا فصدق ظنه)(6).

يتحدث الإمام (عليه السلام) في النهي عن الزهد في المعروف بسبب عدم شكر المحسن إليه، الذي في قباله الجود: وهو الاكثار من فعل الاحسان إلى غیر المستبطن من الرحمة وهي الرقة الداعية إلى الاحسان إلى الغیر، (ويقال لنفس تلك

ص: 122


1- (1) تحفة السنية في شرح نخبة المحسنية،السيد عبد اللّه الجزائري (ت: 1173 ه- )، تحقيق: شرح الجزائري( د ط): 22 7 .
2- (2) نهج البلاغة خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 4 / 47 .
3- (3) سورة يس: 47 .
4- (4) سورة المدثر: 42 - 44 .
5- (5) في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 4 / 341 .
6- (6) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 71 / 417 .

المنفعة الحسنة الواصلة إلى المحتاج مع قصد الاحسان إليه: رحمة) (1).

يشیر(عليه السلام) في هذا المقطع من الحكمة بضمائر ثلاثة: صغرى الأوّل قوله: فقد يشكرك عليه. إلى قوله: منه. وذلك لمحبّة الناس للإحسان والمحسنين. وتقدير كبراه: وكلَّما يشكرك عليه من لم يستمتع بيء منه فواجب أن تفعله، وصغرى الثاني قوله: وقد تدرك. إلى قوله: الكافر: أي قد يحصل لك من شكر من لم تحسن إليه أكثر ممّا أضاعه كافر نعمتك ومن شكر إحسانك إليه. وتقدير كبراه: وكلَّما أدركت من شكر الشاكر بسببه أكثر ممّا أضاع الكافر فواجب أن تفعله، وصغرى الثالث قوله:

واللّه يحبّ المحسنين: أي لإحسانهم. وتقدير كبراه: وكلّ من يحبّه اللّه لفعل فواجب أن يدخل العاقل في زمرته ويتقرّب إلى اللّه بمثل فعله(2).

ومقصود الإمام (عليه السلام) من كلامه هو التأكيد والحث على تقديم المعروف للشاكر والكافر، ثم ينبه (عليه السلام) الناس إلى عدم حصر المعروف بالشاكر فقط بضميمة تفعيل الظن بضياع المعروف عند الكافر.

ثم يؤكد (عليه السلام) على أن المعروف (من الامور الوجودية) غیر القابلة للضياع فيما لو لم يقوم بالشكر من أعطيته، يقم غیره بإداء هذا الحق وإن لم يستمتع منه، ثم يشیر (عليه السلام) إلى الشاكر الحقيقي الذي يتضمن بالدلالة الالتزامية حب كل محسن.

ونجد هذا في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) في الاحسان، يقول: «إن فضل المحتاجین عند الاحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم .»

ص: 123


1- (1) رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى (ت: 436 ه-)، تقديم: السيد أحمد الحسيني / إعداد: السيد مهدي الرجائي، مطبعة الخيام: دار القرآن الكريم - قم، 1405 ( د ط): 2/ 271 .
2- (2) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 5 / 347 .

لو تمعنّا في معنى المحاورة الآتية: عن حسن بن نعيم الصحّاف قال: قال أبو عبداللّه (عليه السلام): «أتحبُّ إخوانك يا حسین؟ » قلت: نعم، قال: «تنفع فقراءهم؟ » قلتُ: نعم، قال: «أما إنّه يحق عليك أن تحبَّ من يحبّ اللّه، أما واللّه لا تنفع منهم أحداً حتى تحبّه. أتدعوهم إلى منزلك؟ » قلتُ: نعم، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والاَقلَّ والاَكثر، فقال: أبو عبداللّه: «أما إنَّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم »، فقلتُ: فداك أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليَّ أعظم؟! قال: «نعم، إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك»(1).

يظهر من الرواية الشريفة إن اللّه سبحانه وتعالى جعل استضافة المؤمن سببا لمغفرة الذنوب، ثم يبین الإمام الصادق في مسلكه إن دائرة الاحسان إلى الاخرين تتسع في أكثر من اتجاه وتتفرع إلى اكثر من دائرة، فتشمل مفهوم الاقراض(2) ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(3) والصدقات ﴿إِنَّمَا الصدَقَت لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسكِيِن وَ الْعَامِلِینَ عَلَيهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبهُمْ وَ فى الرِّقَابِ وَ الْغَرِمِینَ وَ فى سبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السبِيلِ فَرِيضةً مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ﴾(4) وما إلى ذلك، فالإحسان للآخرين بركة لاتنحصر في مجال واحد.

وقال (عليه السلام) في النهج: «افْعَلُوا الْخَیْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِیرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِیرٌ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّ أَحَداً أَوْلَی بِفِعْلِ الْخَیْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاللّهِ كَذلِكَ، إِنَّ

ص: 124


1- (1) الوافي، الفيض الكاشاني: 5 / 675 .
2- (*) القرض ما أعطيته لتكافاه، أويرد بعينه.
3- (2) سورة البقرة: 254 .
4- (3) سورة التوبة: 60 .

لِلْخَیْرِ وَالشَّرِّ أَهْلاً، فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُاَ كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ »(1)، فسر الخیر في كلامه ( عليه السلام ) بالإحسان إلى الضعفاء والانعام عليهم ويمكن حمله على كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى، وهذا ما نجده واضحا من خلال الآثار المترتبة على الاحسان في كلام الإمام (عليه السلام) في البعدين الفردي والاجتماعي.

تنقسم الابعاد التربوية للإحسان إلى بعدين:

1-البعد الفردي

وقد أشار الِامام (عليه السلام) إلى البعد الفردي للإحسان بقوله: «وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ .»

وفي الحديث: «إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف اللّه له عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف »(2)، وذلك قول اللّه عزَّ وجلَّ: (واللّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ).

2-البعد الاجتماعي

أشار(عليه السلام) إلى البعد الاجتماعي للإحسان مضيفا عليه صبغة حقوقية،كما في النهج قال: «وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ وَال بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ »(3)، وهذا هو السبيل الأقوم الذي يؤدي إلى تأكيد الاحسان وغرسه في نفوس الناس والدفاع عنه.

عن أبي المأمون الحارثي قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما حق المؤمن

ص: 125


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 4 / 99 .
2- (2) ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق (ت: 381 ه-)، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، 1368 ش، منشورات الشريف الرضي - قم ط 2: 168 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 3 / 89 .

على المؤمن ؟ قال (عليه السلام): «إنَّ من حقّ المؤمن على المؤمن المودَّة له في صدره، والمواساة له في ماله، والخلف له في أهله، والنصرة له عى من ظلمه، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه، وإذا مات الزيارة إلى قبره، وأن لا يظلمه وأن لايغشّه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذّبه، وأن لا يقول له أفّ، وإذا قال له: أفّ فليس بينهما ولاية، وإذا قال له: أنت عدوّي فقد كفر أحدهما، وإذا اتهمه انماث الِايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء »(1). وقد عدّ أهل البيت )(عليهم

السلام) أداء حق المؤمن من أفضل العبادات قال الِامام الصادق عليه السلام: «ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن»(2).

وفي حبس الحقوق وما يترتب عليه من آثار سلبية تعود إلى من تعمد حبسها، عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «يا يونس من حبس حق المؤمن أقامه اللّه يوم القيمة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية، وينادي مناد من عند اللّه هذا الظالم الذي حبس عن أخيه حقه قال: فيوبخ أربعین عاما ثمَّ يؤمر به إلى النار»(3).

وهكذا نجد إن مسألة الاحسان وما يترتب عليها من تعاون وتضامن تتصدر سلم الأولوية في الاهتمامات التربوية للقرآن الكريم والأئمة عليهم السلام وتوجيهاتهم الاجتماعية لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك ورصین.

ص: 126


1- (1) عوائد الأيام، المحقق النراقي ( ت: 12 44 ه- )، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، 1417 - 1375 م، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ( د ط): 223 ، الكافي، الشيخ الكليني: 2 / 170 .
2- (2) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي ( الأول ): 9 / 393 .
3- (3) المصدر نفسه: 9 / 381 .
موارد الاحسان في كلام الإمام (عليه السلام) والقرآن الكريم.

نذكر هنا بعض موارد الاحسان التي أشار إليها الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في كلماته والتي تعد منهجا تربويا في الحياة الاجتماعية.

1. الاحسان للوالدين

يعد الإمام (عليه السلام) الاحسان للوالدين من الاصول التربوية الكبیرة،وقد أعطاها اهتماما بالغا بالحفاظ على حقوقها، إذ من خلالهما تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والاخرة.

يقول الإمام علي (عليه السلام): «إن للولد على الوالد حقا، وإن للوالد على الولد حقا، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية اللّه سبحانه»(1).

قال تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾(2).

فمن خلال الآية المباركة نستنتج بيان معنى الحقوق التي ذكرها الإمام (عليه السلام)، عبر تقديم فعل المعروف للوالدين من خلال:

أ- القول الجميل ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.

ب- الترحم والتحنن عليهما والتواضع لهما ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾(3).

ص: 127


1- (1) مكارم الأخلاق، الشيخ رضي الدين نصر الحسن بن الفضل الطبرسي ( ت:: 548 ه-)، ط 6، 1392 - 1972 م: 1 / 474 / 1627 .
2- (2) سورة الاسراء: 23 .
3- (3) سورة الاسراء: 24 .

ج- الدعاء لهما ﴿وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾(1).

يقول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ): «أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد اللّه واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا باللّه»(2).

2. الاحسان للأولاد

قال (عليه السلام): «وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن»(3).

عن علي (عليه السّلام ): «سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا فإن لم تدروا أذكر أم أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى فإن أسقاطكم إذا لقوكم في القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه ألا سميتني؟ وقد سمى رسول اللّه (صلَّی اللّه عليه وآله) محسنا قبل أن يولد»(4).

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾(5).

3. الإحسان للزوجة

في رسالة أمیر المؤمنین (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام) «لا تملك المرأة

ص: 128


1- (1) سورة الأسراء: الآية 24 .
2- (2) بحار الانوار، العلامة المجلسي: 74 / 6 / 1.
3- (3) شرح رسالة الحقوق، الإمام زين العابدين ( عليه السلام) ( ت: 94 ه- )، شرح: حسن السيد علي القبانچي، 1406 ه-، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر ط 3: 598 .
4- (4) وسائل الشيعة، العلامة الشيخ الحر العاملي: 21 / 388 .
5- (5) سورة الطور: 21.

من الأمر ما يجاوز نفسها فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ولا تعد بكرامتها نفسها واغضض بصرها بسترك واكففها بحجابك ولا تطمعها أن تشفع لغيرها فيميل عليك من شفعت له عليك معها واستبقِ من نفسك بقية فإن إمساكك نفسك عنهن وهن يرين أنك ذو اقتدار خیر من أن يرين حالك على انكسار، فدارها على كل حال وأحسن الصحبة

لها ليصفو عيشك »(1)، وهذا السلوك يؤكده القرآن الكريم في مسألة المعاشرة والاحسان للزوجة، ويجعلها الحجر الاساس في سلامة الاسرة والمجتمع.

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(2).

عن إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما حق المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسنا؟ قال: «يشبعها ويكسوها وإن جهلت غفر لها »، وقال أبو عبداللّه (عليه السلام): «كانت امرأة عند أبي (عليه السلام) تؤذيه فيغفر لها»)(3).

رابعا. الصبر والحلم

قال أمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ... اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِینِ»(4).

ص: 129


1- (1) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي ( الأول ): 9 / 237 .
2- (2) سورة النساء: 19 .
3- (3) الوافي الفيض الكاشاني: 22 / 783 .
4- (4) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام ): 3 / 55 .

قال تعالى:﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً﴾(1). وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(2).

يشير الإمام (عليه السلام) إلى معنى الصبر والحلم الذي تضمنته الآيتان المباركتان.

إن طريق الدعوة والاصلاح والتغیير طريق طويل مليء بالمعوقات والعراقيل، فلا بد وأن يتحلى من تبناه بصفة الصبر، ولابد وأن يتحمل التكاليف المترتبة عليه، وأن يصبر على ردود الافعال الاجتماعية، وتحمل إذى الآخرين في طريق الدعوة إلى اللّه، ويلزم الابتعاد عنهم وهجرانهم أحياناً ليبقى في مأمن من شرهم، ويعطيهم بذلك درسا بليغا(3)، وهذا لا يعني قطع سبل التربية والتبليغ والدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى.

وقال عليه السلام: «عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم، وإليه يعود الجازع»(4).

وقيل: أوحى اللّه إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي، وإن من أخلاقي الصبر(5).

وينبغي هنا أن يكون الصابر حليما حتى ينال احترام الآخرين وتقديرهم، ويملك قلوبهم بحلمه، قال الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام): بالحلم تكثر الأنصار(6). بالاحتمال والحلم يكون لك الناس أنصارا وأعوانا. أحلم تكرم. ضادوا الغضب بالحلم تحمدوا عواقبكم في كل أمر(7).

ص: 130


1- (1) سورة المزمل: 10 .
2- (2) سورة لقمان: 17 .
3- (3) تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي: 19 / 136 .
4- (4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 79 / 137 .
5- (5) المصدر نفسه: 79 / 137 .
6- (6) ميزان الحكمة، محمد الريشهري، تحقيق: دار الحديث، ط 1: 1/ 688 .
7- (7) المصدر نفسه: 689 .

والصبر هو أهم وسائل الاستمرار في الدعوة، فقد صبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ثلاثة عشر عاما على التكذيب والاستهزاء والأذى، وصبر على المغريات والمساومات، وصبر على أذى أهل الكتاب وأذى المنافقین، وأذى أصحابه في العهد المدني.

المسألة الثانية: الأساليب التربوية للقرآن الكريم في خطاب الإمام (عليه السلام).

اشارة

يستخدم الإمام (عليه السلام) في كلماته الأساليب التربوية التي طرحها القرآن الكريم والتي تعد من العناصر الاساسية في تربية الإنسان وهدايته.ومن هذه الأساليب:

أولا. أسلوب الكلمة

اشارة

يقول (عليه السلام) في وصف القرآن: «جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلاْمَ، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى»(1).

الضمیر يرجع إلى القرآن، جعله اللّه ريا لعطش العلماء، إذا ضل العلماء في أمر والتبس عليهم رجعوا إليه، فسقاهم كما يسقى الماء العطش(2)، عن الحسن بن

ص: 131


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام): 2 / 178 .
2- (2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 10 / 200 .

علي العسكري (عليه السلام) في (تفسیره) عن آبائه، عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) - في حديث - قال: أتدرون متى يتوفر على المستمع والقارئ هذه المثوبات العظيمة ؟ إذا لم (يقل في القرآن برأيه)، ولم يجف عنه، ولم يستأكل به، ولم يراء به، وقال: عليكم بالقرآن فإنه الشفاء النافع والدواء المبارك(1)، منه قوله تبارك و تعالى في سورة الزمر:﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(2).

وقد وصف اللّه المؤمن هاهنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر اللّه، و وصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر اللّه وجل قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه و إنعامه وآلاءه التي لا تحصى و أياديه التي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه(3).

فهذه الآية المباركة بيّنت الإيمان بالآثار، ضرورة أن الذي دخل في قلبه نورالإيمان هو الذي يوجل قلبه بذكر اللّه، وإذا سمع من آيات ربه أحسّ حقيقتها بنور إيمانه فلا محالة يزداد إيمانه منها، فإذا زاد إيمانه فهو منقطع عن الخلق إلى الحقّ فلا محالة يتوكل على ربه، هذا بحسب القلب(4)، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إن أحسن الحديث كتاب اللّه، وخیر الهدى هدى محمد(صلى اللّه عليه

ص: 132


1- (1) وسائل الشيعة ( آل البيت )،الحر العاملي: 27 / 33 .
2- (2) سورة الزمر: 23 .
3- (3)تفسير مجمع البيان الشيخ الطبرسي: 6 / 36 .
4- (4)الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي: مراجعة: محسن الأسدي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1428 - 2007 م ط 1: 1/ 301 .

وآله)، وشر الأمور محدثاتها»(1).

يكشف لنا كلام الإمام (عليه السلام) عن الوظيفة النفسية لدى الإنسان وكيف يسلك في مدارج الكمال، من خلال الاهتداء بوحي القرآن والاستضاءة بنوره، فهو معدن الإيمان الَّذي يستنار منه الإيمان الكامل باللّه ورسوله وبما جاء به.حيث يؤكد الإمام (عليه السلام) على وجوب العمل بالقرآن وتحكيم مناهجه التربوية من خلال معرفة الابعاد الآتية:

1- الانذار
اشارة

قال (عليه السلام): «وَكَفَى بِاللّهِ مُنْتَقِماً وَنَصِيراً! وَكَفَى بِالكِتَابِ حَجيجاً وَخَصِيماً »(2)، أي محتجّا وخصيما على وجوب الانفعال عنه وملاحظة شهادته في الآخرة على من لم يتّبعه(3).

والانذار لغة: عبارة عن الإبلاغ مع التخويف(4)، قال الصادق (عليه السلام):(أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم برغبتهم فيما عنده، فإن القرآن شافع مشفع ليس لهم من دونه «أي غیر اللّه لعلهم يتقون أي كي يخافوا في الدنيا وينتهوا عما نهيتهم عنه)(5). ونظیر ذلك قول أمیر المؤمنین (عليه السّلام) في خطبته الغرّاء:(أوصيكم بتقوى اللّه الَّذي أعذر بما أنذر)(6).

ص: 133


1- (1) بحار الانوار، العلامة المجلسي: 77 / 122.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 142 .
3- (3) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 2 / 258 .
4- (4) مطارح الأنظار، الشيخ الأنصاري ( ت: 12 81 ه- )، ط 1: 261 .
5- (5) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 7 / 12.
6- (6) رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ( عليه السلام ) السيد علي خان المدني الشرازي (ت: 1120 ه- )، تحقيق: السيد محسن الأميني، مؤسسة النشر الإسلامي، محرم الحرام 1415 ، ط 4: 5 / 57 .

ويتضح من كلام الإمام (عليه السلام) الإخبار عما يقع في المستقبل من مخاوف واحتجاجات وإنذارات ناتجة من عدم إكرام القرآن وإضاعته وإهانته.

﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾(1).

ويتضح من هنا أن الانذار عبارة عن الإخبار بما يؤدي إلى الخوف في المستقبل. وقيل أيضاً أن الانذار هو الاخافة من مخوف ذي سعة من الوقت ليتم الاحراز منه، إذا لم يكن زمانه واسعاً أطلق عليه الاشعار وتعلَّمه وإكرامه وحرمة إضاعته وإهانته.

مستويات الانذار
أ- على مستوى الفرد

قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾(2).

يشدد سبحانه وتعالى عبر الانذار من حلول عذاب اللّه وسخطه، والتحذير بالمبادرة من خلال التوبة وحسن الظن باللّه سبحانه وتعالى.

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) يجب الاعتدال بین الخوف والرجاء، وعدم طغيان جانب على آخر: «وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللّهِ، وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ، فَاجْمَعُوا بيْنَهُاَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّاَ يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً للّه»(3)

ص: 134


1- (1) سورة الأنعام: 19 .
2- (2) سورة ص: 65 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 3 / 29 .

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى سلوكيات وطبائع الناس بأنها تختلف اختلافا كبیرا، فمن الحكمة إرشادهم وتوجيههم وإصلاحهم من خلال الانذار والتخويف والمسارعة إلى التوبة من خلال الندم فيما فرّط الإنسان في مسیرة حياته، وأن يتيقن عفو اللّه وغفرانه لفداحة ما قام به من ارتكاب القبائح والسيئات، فيعالجها بكثرة الاستغفار، يقول (عليه السلام) في معنى الخوف والرجاء واهميتهما في حياة الإنسان: «الْحَمْدُ للّهِ غَیْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ»(1).

وروي أن داود (عليه السلام): (قال يا رب ما آمن بك من عرفك ولم يحسن الظن بك)(2).

وقال الإمام علي (عليه السلام): «من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه، وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو»(3).

وعنه ( عليه السلام ): «كل خوف محقق إلا خوف اللّه فإنه معلول... إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقدا، وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا»(4).

ب- على مستوى العشيرة

ومن خطبة له (عليه السلام): «إِنَّ اللّهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى اللّه عليه

ص: 135


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 95 .
2- (2) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 1 / 827 .
3- (3) المصدر نفسه: 1 / 827 .
4- (4) المصدر نفسه.

وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ ... فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِنْدَنَا حِینَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ » (1).قال تعالى:﴿وَأَنذِرْ عَشِرَتَكَ الْأَقْرَبِيَن﴾(2).

أمر (صلى اللّه عليه وآله) بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، وأن يقدم إنذارهم على إنذار غيرهم. وروي: أنه جمع بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال: «يا بني عبد المطلب، إني أنا النذير إليكم من اللّه عزوجل، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثم قال:

إن اللّه أمرني أن أنذر عشرتك الأقربین وأنتم عشیرتي ورهطي، وإن اللّه لم يبعث نبيا إلا وجعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله، فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي و يكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فسكت القوم فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام ثلاث مرات، فقام علي (عليه السلام) فبايعه

فأجابه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بن كتفيه وثدييه، فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا، فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله): ملأته حكما وعلما(3).

اعتمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على المنهج التربوي الالهي في التغیر، وهو لابد من الابتداء من الحلقات الأدنى ثم الصعود في سلم درجات التغیر، فبدأ النبي (صلى اللّه عليه وآله) دعوته المباركة من أقربائه وأرحامه، لأنهم اقرب

ص: 136


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 66 .
2- (2) سورة الشعراء: 214 .
3- (3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 18 / 164 .

الناس اليه ليكونوا له سنداً وعونا في جميع الامور.

وفضلا على ذلك فإن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) التزم سياسة عدم المداهنة والمساومة مع أحد، ليستثني أقرباءه مما اعتقد بالرك وانحرف عن مسار التوحيد والعدل.

ج- على مستوى المجتمع

وفي جانب آخر أوصى اللّه نبيه (صلى اللّه عليه وآله) في دائرة أوسع من التعايش السلمي في معاملة الآخرين من أتباعه باللطف والمحبة قوله تعالى ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

وهذا التعبر الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، والذي أشار اليه الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ،يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ»(2).

﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَٰی رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 137


1- (1) سورة الشعراء: 215 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام ): 3 / 84 .

أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِینٌ﴾(1).

﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون﴾ ﴿واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف﴾ والأحقاف من بلاد عاد من الشقوق إلى الأجفر وهي أربعة منازل(2)

2- التبشير

قال (عليه السلام ): «وَنَصَحَ لِاُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً»(3).

التبشیر في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور(4)، منه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(5).

فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة، التي أخذت في الأصل من البشرة، أي وجه الإنسان، وهي إشارة إِلى آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإِنسان(6).

3- التنفير من الدنيا وإثارة الفزع في الآخرة

يقول (عليه السلام): «الْخِطَابِ، وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ، وَنَكَالِ الْعِقَابِ،

ص: 138


1- (1) سورة يونس: 2.
2- (2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 11 / 353 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1/ 215 .
4- (4) ينظر: تاج العروس، للزبيدي: 1/ 2514 .
5- (5) سورة التوبة: 111.
6- (6) الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: 6 / 230 .

وَنَوَالِ الثَّوَابِ. صُفُوفاً، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الاسْتِكانَةِ، وَضَرَعُ الاسْتِسْلَامِ وَالذِّلَّةِ، قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ، وانْقَطَعَ الْأَمَلُ، وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ، وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ، وَأَزِفَ النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ، وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ، وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ، وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ، سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ، مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ، رَعِيلاً صُمُوتاً، قِيَاماً لاَتُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً، وَلاَيَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً، يَحْتَذُون مِثَالاً، وَيَمْضُونَ أَرْسَالاً، إِلَى غَايَةِ الانْتِهَاءِ، وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ. وَسِنَادٌ مَائِلٌ، حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا، وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا، وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا، وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا، وَأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلى ضَنْكَ الْمَضْجَعِ، وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ، ومُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ، وَثَوَابِ الْعَمَلِ، وَكَذلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا، رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، يُونِقُ مَنْظَرُهَا، وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا، غُرُورٌ حَائِلٌ، وَضَوْءٌ آفِلٌ، وَظِلٌّ زائِلٌ»(1).

وهو معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾ِ (2)،

الغرور: وكلّ شيء تمتعت به فهو متاع، تقول إنّما العيشُ متاعُ أيّام ثم يزول - أي بقاء أيام - ومتّعك اللّهُ به وأَمْتَعَكَ واحدٌ، أي: أبقاك لتستمتع به فيما تحب من السرور والمنافع. وكلّ من متّعته شيئاً فهو له متاعٌ ينتفع به(3).

ويتضح من المعنى اللغوي إن العمل للحياة الدنيا متاع الغرور، وهو وارد

ص: 139


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 134 .
2- (2) سورة آل عمران: 185 .
3- (3) العين، الخليل الفراهيدي: 2 / 83 .

في الاشخاص الذين يعتبرونها هدفهم النهائي ومنتهى غاياتهم: فلايعد شيء من الدنيا إلا الزوال والفناء وأنها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد والآخرين(1)، وقال تعالى ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(2).

ويتحدث الإمام (عليه السلام) في موضع ذكر الدنيا ومنغصاتها، فيصفها بفكره المستوحى من القرآن الكريم بالرنق، والرنق: الماء الكدر المتكون من القذى ونحوه وماء رنق ورنق. وقد أرنقته ورنقته(3)، منه قوله تعالى ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾(4)، الماء المهین هو الماء الحقیر والضعيف كما وصفه العلماء.

فالدنيا بزخارفها ومظهرها وخدعها كالماء المختلط بالقاذورات، تظهر لأولئك الذين قد فروا واستوحشوا منها، فلهم عودة لها بعد ذلك تأنس النفوس لها، كما عبر عند ذلك في قوله (واطمأنّ ناكرها قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق المنيّة)، فحب الدنيا وملذاتها وسيلة مؤثرة يستخدمها الشيطان لإيقاع بني أدم في حبائل الشرك من خلال زينتها وزبرجها، كما حذر القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام) من ذلك،: أيها الناس إن اللّه تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة باهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته(5).

والمعنى ان الدنيا حفت بالمكاره والمخاوف (يونق منظرها، ويوبق مخبرها). ظاهرها

ص: 140


1- (1) الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: 18 / 58 .
2- (2) سورة الأنعام: 32 .
3- 2(3) ينظر العين، الخليل الفراهيدي: 5 / 144
4- (4) سورة المرسلات: 20 .
5- (5) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين: 1 / 602 .

الرحمة، وباطنها العذاب (غرور حائل) تخدع ضعاف العقول حتى إذا ركنوا إليها تحولت عنهم وغدرت بهم (وضوء آفل) كالبرق ما إن يلمع حتى يختفي (وظل زائل). كل نعيم في الدنيا إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء (وسناد مائل). من اعتمد عليه سقط وهوى(1)، فالنتيجة التي يتوخاها الإنسان من الركون والخلود إلى الدنيا هو الفزع والاضطراب يوم الاخرة، وهو من إخبارات الإمام (عليه السلام) والقرآن الكريم.

يقول (عليه السلام) واصفا حالة الناس النفسية يوم المعاد، وما ينتابهم من تنفیر وفزع واضطراب: «فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَالزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّىءَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ»(2).

أي الذي يزجر إبله لتسیر بشوله؛ وشول كركع جمع شائل وهي الناقة التي تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلا و أتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية. وشولت الناقة بالتشديد أي صارت شائلة (3).

وفيا ورد من كلامه (عليه السلام) والذي يمزج فيه بین المستقبل والحاضر في حياة الإنسان بوصف الراكب وهو في حالة وقوف (إنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى بالسیر يؤمرون)(4)، وهو معنى قوله تعالى﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى ﴾(5).

ص: 141


1- (1) في ظلال نهج البلاغة،محمد جواد مغنية: 1/ 386 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 51 .
3- (3) مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي: 5 / 405 .
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 52 .
5- (5) سورة طه: 123 .
4- إثارة العاطفة في النفس

وهنا يأتي الدور الآخر للقرآن الكريم، وهو قدرته على إثارة العاطفة وتأجيجها في النفوس، فمن هنا نقول: إن القرآن الكريم ليس تذكرة للعقول فقط وإنما موعظة تثیر المشاعر والعواطف في النفس.

يقول (عليه السلام) في فضل القرآن: «وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لاحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأَوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللّهِ بِمِثْلِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه، فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ »(1)، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

يتحدث الإمام (عليه السلام) عن اسلوب آخر في إعجاز القرآن الكريم وهو التساوي في الخطاب، أي أنه يخاطب العقل والنفس والعاطفة معا في آن واحد،

ص: 142


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 92 .
2- (2) سورة يونس: 57 .

فيترتب على ذلك قناعة الفكر وإثارة العواطف في النفس، مما يجعل تلك القناعة قناة يتدفق منها الايمان إلى القلب، فتتولد القوة الروحية الدافعة للعمل التي تؤثر في استثارة العواطف النفسية.

ونلحظ هذه الخاصية في لفظ وبيان الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) الذي مزج فيه بین الموعظة والشفاء وآلهداية.

قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾(1).

إشارة إلى أن القرآن الكريم كتاب هداية وموعظة اختص هذه بالمتقین الهادفین(2) الذين يتعظون ويبحثون عن كل ما يعمق روح التقوى في نفوسهم ويزيد بصيرتهم بالحق،: وآلهدى: بيان لطريق الرشد، ليسلك دون طريق الغي. والموعظة ما يلین القلب ويدعو إلى التمسك، بما فيه من الزجر عن القبيح، والدعاء إلى الجميل(3)، وهو قوله (عليه السلام): لكم علما فاهتدوا بعلمكم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

ثانيا. أسلوب المثل

اشارة

من الأساليب الأخرى التي عرضها القرآن الكريم بيانه المعجز في ضرب الأمثال: قال ( عليه السلام ): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به، فإنه أبلغ العبر... إن اللّه تبارك وتعالى أنزل القرآن عى سبعة أقسام، كل منها شاف كاف، وهي: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل»(4).

ص: 143


1- (1) سورة آل عمران: 138 .
2- (*) في مرحلة التسليم أمام الحق، وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة.
3- (2) التبيان في تفسير القرآن، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي: 2/ 598 .
4- (3) عيون الحكم والمواعظ،علي بن محمد الليثي الواسطي: 201 .

منه قوله تعالى: ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(1). ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2).﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ)(3).﴿ ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(4).

يظهر من المعاجم اللغوية أن للفظ (المثل) معانٍ مختلفة،منها النظیر والصفة والعبرة وما يجعل مثالا لغیره يحتذى عليه إلى غیر ذلك من المعاني(5)، و المثل - بالكسر والتحريك - الشبه، والجمع أمثال، والمثل - محركة - الحجة، والصفة، والمثال: المقدار والقصاص، إلى غیر ذلك من المعاني(6).

والمثل: المثل أيضا، كشبه وشبه، والمثل المضروب مأخوذ من هذا، لأنه يذكر مورى به عن مثله في المعنى. وقوله: مثل به إذا نكل، هو من هذا أيضا، لأن المعنى فيه إذا نكل به: جعل ذلك مثالا لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثلات أيضا من هذا القبيل، قال اللّه تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمُثلَاتُ﴾(7)

أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله، وواحدها مثل(8).

وذكر العلماء معانٍ أخرى للمثل منها.

قال الزمخشري: إنما ضرب اللّه الأمثال في القرآن تذكیرا ووعظا، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب، أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه، فإنه

ص: 144


1- (1) سورة ابراهيم: 25 .
2- (2) سورة الحشر: 21.
3- (3) سورة الإسراء: 89 .
4- (4) سورة الزمر: 27 .
5- (5) لسان العرب، ابن منظور: 13 / 22، مادة مثل.
6- (6) القاموس المحيط، الفيروز آبادي: 4 / 49 ، مادة مثل.
7- (7) سورة الرعد: 6.
8- (8) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس: 5 / 296 .

يدل على الإحكام(1).

قال الزركشي: إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب،فالمرغب في الإيمان مثلا، إذا مثل له بالنور تأكد في قلبه المقصود، والمزهد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضا تبكيت الخصم، وقد أكثر اللّه تعالى في القرآن، وفي سائر كتبه من الأمثال(2).

يرد على القول الاول والثاني أن ما ذكروه راجع إلى نفس الأمثال لا إلى الضرب بها، فإن الأمثال شيء وضرب الأمثال شيء آخر، لأن إبراز المتخيل بصورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن ليس من مهمة ضرب الأمثال، وإنما هي مهمة نفس الأمثال، وذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرها(3).

والمثل هو الذي يفصل إجمالها، ويوضح إبهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها(4).

وقد لخص لنا الإمام (عليه السلام) نتائج تلك الصور من ضرب الامثال في القرآن الكريم بأنها مواعظ وعبر، وقد ورد الحث على التدبر فيها، والذي يجتمع مع مقام التفكر والتذكر، من خلال قوله (عليه السلام) تدبروا آيات القرآن

ص: 145


1- (1) الاتقان في علوم القرآن، السيوطي: ( ت: 911 ه- ) تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم 1394 ه-/ 1974 م (د ط) (: 2 / 1041 ).
2- (2) البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي: (ت: 794 ه-) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم): دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي 1376 ه- - 1957 م ط 1: 1 / 488 .
3- (3) الأمثال في القرآن الكريم، الشيخ السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) 1420 اعتماد - قم، ط 1: 26 .
4- (4) تفسير المنار، محمد رشيد رضا الحسيني: (ت: 1354 ه-)، 1366 ه- - 1947 م ط 2: 1 / 237 .

واعتبروا به، فإنه أبلغ العبر.

يقول (عليه السلام): «فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمْورَ وَضَرَّسْتُمُوهَا، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَضُرِبَتِ الْأَمْثَالُ لَكُم، وَدُعِيتُمْ إلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذلِكَ إلاَّ أَصَمُّ، وَلاَ يَعْمَى عَنْهُ إلاَّ أَعْمَى. وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللّهُ بِالْبَلَاءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْء مِنَ الْعِظَةِ»(1).

وقال (عليه السلام): «كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ »(2). وعنه (عليه السلام): «نزل القرآن أرباعا: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام»(3).

الفائدة من الأمثال:

لا يخلو ذكر الامثال في القرآن الكريم من فائدة عظيمة أراد الباري عزوجل أن ينتفع بها الناس بوجه عام. ومن هذه الفوائد:

1- محاكاة العقول عبر إخراج الامور الغامضة إلى الظاهر كما في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَال﴾(4).

2- تشبيه المعقول بالمحسوس كتشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة والكلمة

ص: 146


1- (1) نهج البلاغة،خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 94 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 27 .
3- (3) مستدرك نهج البلاغة، الشيخ هادي كاشف الغطاء: (ت: 1361 ه-)، منشورات مكتبة الأندلس بیروت - لبنان ( د ط ): 181 .
4- (4) سورة إبراهيم: 45 .

الخبيثة بالشجرة الخبيثة، قوله تعالى:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾(1).

3- تشبيه العقول بالمعقول قوله تعالى:

3- تشبيه العقول بالمعقول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾(3).

﴿ فَاصْبِرْ كَماَ صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾(5).

فيتحصل: إن التمثيل القرآني يعطي صورة حقيقية تستقر في الاذهان، فتكون أسرع إلى تقبل النفوس وقناعة العقول به.

ثالثا. أسلوب القصة.

اشارة

يعد أسلوب القصة الذي اعتمده القرآن الكريم من الآثار التربوية النفسية والتوجيه الخلقي، إسهاماً في عملية التغيیر الإنساني بجوانبها المتعددة، عبر الدروس والعبر والعظة والموعظة التي يقدمها القرآن للإنسان، وبهذا الصدد وعبر عنصر التشويق نجد القصة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع الأغراض

ص: 147


1- (1) سورة إبراهيم: 24 - 26 .
2- (2) سورة البقرة: 13 .
3- (3) سورة النساء: 163 .
4- (4) سورة الاحقاف: 35 .
5- (5) سورة الحج: 47 .

الرئيسة التي جاء من أجلها القرآن الكريم(1)، وقد أشار إلى ذلك الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله: «وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ»(2).

ومن هذا المفهوم نجد الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) خلال هذه العبارات يؤكد على لزوم الاتيان للمذكورات، من خلال تصوير القصة القرآنية وأهدافها والغرض منها عبر آيات عديدة تشر إلى أن القرآن أحسن القصص، لقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾(3) ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾(4) ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(5).

ويتضح من معنى أحسن القصص إظهار الصورة الواضحة حول التغیر التكامي والمعرفي للإنسانية الموجب للهداية والتبصر من حيث التشريع والبناء السلوكي والعقائدي: لذا ينبغي أن يحسن تلاوته وأن يتلى حقّ التلاوة بحسن التّدبّر والنظر لإدراك منافع قصصه ونيل ما فيها من الفوائد العظيمة (6)، قال

تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(7).

ص: 148


1- (1) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم: 354 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 217 .
3- (3) سورة يوسف: 2.
4- (4) سورة آل عمران: 62 .
5- (5) سورة الاعراف: 176 .
6- (6) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 8 / 7.
7- (7) سورة يوسف: 111.
منهج الإمام علي (عليه السلام) في تحليل الاسلوب القصصي في القرآن الكريم

يعد القصص القرآني في منهج الإمام (عليه السلام) منطلقا أساسيا في عرض الحقائق والرؤى في تحقيق الاهداف والاغراض، الذي من أجله تم عرض القصة القرآنية، ومن خلال الاعتماد على تجارب الاقوام الماضین، وما توصلوا اليه من تجارب تاريخية واجتماعية وسياسية، لتكون مرآة عاكسة على جميع المجتمعات الإنسانية من محاسن ومساوئ، وتطور وانحطاط. وهذا ما يؤكده الإمام (عليه السلام) من الاعتبار بسنن الماضین ودراسة تاريخهم والوقوف على منهجية حياتهم، فيحصل الإنسان على مجموعة هائلة من التجارب التاريخية.

ونفهم ذلك من خلال وصيته (عليه السلام) لابنه الحسن المجتبى (عليه السلام): «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ

ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ»(1).

فيتبین من كلامه (عليه السلام) إن المعرفة لا تقاس بالموهبة وحدها، ولابالعمر المديد، وإنا تقاس بالرؤية والخبرة، وكثرة الممارسة، وقد امتدت الحياة بالذين سبقوا الإمام أكثر منه بكثیر، ولكن الإمام جرب ورأى أكثر مما جربوا ورأوا، هذا (أنه سبر أحوال الماضین حتى كأنه عاش معهم من يومهم الأول إلى آخر يوم فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره(2)، وهذا هو المراد والعبرة في قوله تعالى) ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب﴾(3).

ص: 149


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 3 / 41 .
2- (2) في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 3 / 493 .
3- (3) سورة يوسف: 111.

فمن هنا تبرز أهمية عرض القصة القرآنية ومدى تأثيرها في نفوس الناس، ونعرف أيضا لماذا عني القرآن الكريم بتحليل موضوع القصة في أثناء عرضها لكي تتعرف الأمم من ذلك على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد منه في مستقبلها الذي تقدم عليه(1)، فالقصص القرآني في فكر الإمام (عليه السلام) عبرة، وفكرة، وتنبيه.

ولخص لنا الإمام (عليه السلام) أهداف القرآن الكريم من عرض القصص بأسلوب خاص يتناغم مع النفس الإنسانية، من خلال بيان الاهداف الاساسية والمهمة في خدمة الرسالة السماوية.

ومن هذه الاهداف:

1. إثبات النبوة والرسالة.

قال (عليه السلام) في بيان تواتر الرسل والانبياء: «مِنْ سَابِق سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِر عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الاْباءُ، وَخَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَی أَنْ بَعَثَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً (صلى اللّه عليه وآله) لِاِنْجَازِ عِدَتِهِ وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّینَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ»(2).

وعنه ( عليه السلام ): كلما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف، حتى أفضت كرامة اللّه سبحانه وتعالى إلى محمد ( صلى اللّه عليه وآله)(3)، ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ﴾(4). أي متواترين متتابعي بعضهم بعضا، وبعضهم في أثر بعض.

ص: 150


1- (1) مدينة المعاجز السيد هاشم البحراني: (ت: 1107 ه- )، تحقيق: الشيخ عزة اللّه المولائي الهمداني 1413 : مؤسسة المعارف الإسلامية - قم - ايران ط 1: 1 / 6.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 24 .
3- (3) المصدر نفسه: 1 / 185 .
4- (4) سورة المؤمنون: 44 .

يشیر الإمام (عليه السلام) إلى المعالم الاساسية العلمية للقرآن الكريم في طرح الامور الغيبية التربوية بأسلوب قصص محاكاة للعقول وتأثیرا في النفوس. فإن إثبات نبوة نبينا محمد (صلى اللّه عليه وآله) ورسالته من خلال ما ورد عن حياته من قصص الأمم السالفة والأنبياء (عليهم السلام)، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم على أن من أهداف القصة هو هذا الغرض السامي، وذلك في مقدمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها، فقد جاء في سورة يوسف: ﴿«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾(1).

وقوله تعالى مخاطبا نبيه مذكرا قومه بأن هذا القرآن لم يكن من عند محمد نفسه بل هو من عند اللّه: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(2).

فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تشیر إلى أن القصة إنما جاءت في القرآن تأكيدا لفكرة الوحي التي هي الفكرة الأساس في الشريعة الاسامية.

2. التباين في وحدة الدين والعقيدة لجميع الانبياء (عليهم السلام).

قوله (عليه السلام): «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ(4) مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع»(3).

ص: 151


1- (1) سورة يوسف: 3.
2- (2) سورة القصص: 44 .
3- (3) نهج البلاغة،خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 / 24 .

أكدت القصة إن بعثة الأنبياء والرسالات السماوية في جوهرها وساطة بین الخالق والمخلوق، وهدفها واحد من حيث الدين والعقيدة والفكر وهو هداية الخلق إلى الحق والدعوة للتوحيد وعبادة وطاعة الإله الواحد القهار، وتعاونهم على ما يكفل الأمن والعيش للجميع، وهذا الغرض من الاهداف الرئيسة للقرآن الكريم حيث يهدف القرآن من جملة ما يهدف إليه إلى ابراز الصلة الوثيقة بین الاسلام الحنيف وسائر الأديان الإلهية، فعندما يورد القرآن الكريم قصص الأنبياء السابقين، فإنه يريد بيان أن هذه الرسالة السماوية أي الإسلام هو امتداد لكافة الشرائع السابقة، فما كان النبي (صلى اللّه عليه و آله) بدعا من الرسل وما كانت رسالته مخالفة لما سبقها، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(1).

3. ثبات القلوب والنصر الإلهي للأنبياء (عليهم السلام).

يقول (عليه السلام) في النهج: «وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ وَالْبَلَاءِ؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟! اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع، وَلاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاع، حَتَّى إِذَا رَأَى اللّهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاحْتَِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ»(2).

ص: 152


1- (1) سورة الروم: 30 .
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 152 .

يلخص لنا الإمام (عليه السلام) حال الانبياء والاوصياء كيف تعرضوا للأذى الكثیر من الناس في سبيل اللّه سبحانه وتعالى وأنهم رغم ذلك واصلوا الطريق،من خلال الإخلاص والثبات على الحق فأيدهم اللّه تعالى بنصره.

وقد نص القرآن الكريم على هذا الهدف الخاص أيضا بمثل قوله قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *... وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *... فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *... وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ *... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *... وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ *... فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(2).

فمن خلال طرح القصة تتبین النهاية الحتمية التي يريد أن يصورها لنا القرآن الكريم لمعارضي الأنبياء والمكذبین بدعوتهم.

ص: 153


1- (1) سورة هود: 120 .
2- (2) سورة العنكبوت 14 - 16 - 24 - 28 - 34 - 36 - 40 .
4. مبشرين ومنذرين.

يشیر (عليه السلام) إلى الصفات الحميدة التي تحلى بها النبي (صلى اللّه عليه وآله) على مستوى شخصيته والتي تشكل بمجموعها صفات الانبياء السابقين كالأسوة والقدوة عبر التبشیر والتحذير من الارتباط بالدنيا وعدم الزهد فيها والتخلي عنها، يصف ذلك أمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله: «وَنَصَحَ لِاُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً»(1).

يصور الإمام (عليه السلام) البشارة الالهية على لسان الانبياء، لعباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم وحذرهم من العذاب الأليم لمن عصاه منهم، ومن أجل إبراز هذه البشارة والتحذير بصورة حقيقية متمثلة في الخارج عرض القرآن الكريم لبعض الوقائع الخارجية التي تتمثل فيها البشارة والتحذير(2). فقد جاء في سورة الحجر التبشیر والتحذير أولا، ثم عرض النماذج الخارجية لذلك ثانيا.

قال تعالى: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾(3).

وتصديقا لهذه أو ذلك جاءت القصص على النحو الآتي: قال تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾(4). وفى هذه القصة تبدو الرحمة والبشارة من خلال عرض الجوانب التربوية في تاريخ الانبياء (عليهم السلام)، وقد طرحت الآيات

ص: 154


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 215 .
2- (2) ينظرعلوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم: 353 .
3- (3) سورة الحجر: 49 - 50 .
4- (4) سورة الحجر: 51 - 52 .

المباركة نموذجا قصصيا حيا للاعتبار من كلا الجانبین، جانب الانبياء (عليهم السلام) وجانب أتباعهم ومواليهم(1).

وقوله تعالى أيضا في سورة الحجر: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ* «قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ* وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِینَ﴾(2). وفي هذه القصة تبدو (الرحمة) في جانب لوط ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكین.

وفي جانب أخر من عرض القصة و تصديق الأنباء في القرآن الكريم ظهور العذاب الأليم للمكذبین. كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِینَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِینَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(3).

وهناك أهداف وأغراض تربوية إسلامية أخرى يطرحها القرآن الكريم بالشكل القصصي الموحي للعبرة والاعتبار والموعظة.

فقد استهدف القرآن بشكل رئيس تربية الإنسان على الايمان بالغيب وشمول القدرة الإلهية لكل الأشياء، كالقصص التي تذكر الخوارق والمعاجز كقصة خلق آدم،ومولد عيسى، وقصة إبراهيم مع الطیر الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءا منه، وقصة ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا

ص: 155


1- (1) ينظر الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: 8/ 86 .
2- (2) سورة الحجر: 61 - 66 .
3- (3) سورة الحجر: 80 - 81 - 82 - 83 - 84 .

أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(1) وإحياء اللّه له بعد موته مائة عام.

وكذلك استهدف تربية الإنسان على فعل الخبر والأعمال الصالحة وتجنبه الشر والفساد، وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأفعال، كقصة النبي آدم وقصة صاحب الجنتین، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصة سد مأرب، وقصة أصحاب الأخدود. ومما استهدفه القرآن الكريم في التربية الاستسام للمشيئة الإلهية والخضوع للحكمة التي أرادها اللّه سبحانه من وراء العلاقات الكونية والاجتماعية في الحياة، وذلك ببيان الفارق بین الحكمة الإلهية ذات الهدف البعيد والعميق في الحياة الإنسانية والفهم الإنساني للظواهر في الحياة الدنيا، والحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، كما جاء في قصة موسى التي جرت مع عبد ﴿... فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾(2) إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظية والتربوية الأخرى التي تناولها القرآن الكريم لهداية الناس.

والخلاصة: فإن القصة أحد أسباب الهداية الإلهية،لأن القرآن الكريم نزل بأسلوب مؤثر في نفوس الناس، وما من شيء أبلغ أثرا على النفوس من أسلوب القصة الذي اعتمده القرآن في بيان الموعظة والعبرة من خلال الدليل الحسي الملموس والمسموع.

ص: 156


1- (1) سورة البقرة: 259 .
2- (2) سورة الكهف: 65 .

الفصل الرابع : آثار بقاء القرآن الكريم وديمومته بين عرض القرآن الكريم ونهج البلاغة

اشارة

ص: 157

ص: 158

تمهيد:

أولا: إن الإنسان وعبر الخزين العلمي والثقافي الذي يحمله، يمر بمنعطفات خلال مسیرة حياته، تنعكس سلبا وإيجابا على طبيعة تصرفاته وأفعاله، فتظهر عند ذلك الاختلافات والتغیرات على ثقافته وعلومه، فيتصرف بتصرفات ناتجة عن تلك التغیرات الحاصلة على طبيعته وسلوكه.

ثانيا: أن هناك متغیرات نفسية تحصل في طبيعة وسلوك الإنسان خلال مدة حياته مثل الآمال، أو على العكس منها وهو واليأس، أو والفرح أو والحزن، والقلق، والهدوء وغيرها، فهذه المتغیرات في طبيعتها تؤثر على تصرفات الإنسان الإعتيادية الاجتماعية منها، أو الشخصية، فإذا كان القرآن الكريم من صنع الإنسان لابد أن يخضع لهذه المتغرات الطبيعية والنفسية، مع اننا نجد أن القرآن الكريم كاشفا ومتحديا للإنسان وعلومه وحاكيا عن مستقبل البشرية منذ بدئها ومستقبلها وماذا يحدث عليها على آمد العصور، فإذا كان هكذا فلايمكن أن يشهد القرآن الكريم إلى هذه المتغیرات والإختلافات، ومن هنا نكشف عن السر الأساس في بقاء القرآن واستمراره، وأنه لا يزداد مع مرور الزمن وتبدل الأفراد والمجتمعات والحضارات إلا نضارة وتألقاً، وبهذا السر العظيم والمكنون للقرآن الكريم يكون كتاب اللّه خارجاً وسابقاً للدائرة الزمنية والمكانية.

فيبقى مع الزمن ويتحرك أمامه، بينما الحياة تتطور، والناس يختلفون، والأجيال تخلّف أجيالاً، والعلة في ذلك هي أن القرآن يحدثنا عن السنن الإلهية الثابتة، ولا

ص: 159

يحدثنا عن الأحكام والتشريعات المتغیرة فلا تجد في الكتاب الكريم آية، إلا وتجدها ثابتة دائمة. وحتى أن الحديث عن الأمم السابقة، فهو حديث عن الحياة العامة والتأريخ البشري الثابت وما فيه من عبر باقية وسنن إلهية جرت في الماضین وستجري على اللاحقین إلى يوم القيامة، لأنها سنن غیر قابلة للتبديل أو التحويل. إذن فالسنن الإلهية سنن ثابتة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التشريعات القرآنية، فهي تشريعات ثابتة على الرغم من وجود التفاوت في تفسیراتها وتأويلاتها وتطبيقاتها. فالسر الذي يكمن وراء خلود هذا السفر العظيم والذي صدر من عظيم، إنك تشاهده كلما تقادم به الزمن كلما أزدادت معانيه على الرغم من إستقرار الفاظه، وهذا مانلحظه جيدا في مختلف الدراسات التي تتعرض للقرآن الكريم، فهو المناسب الطردي للحضارة والعلوم فكلما تقدمت الحياة تقدمت معاني القرآن.

ومن هنا نتحدث في هذا الفصل عن سر خلود وديمومة القرآن في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: تبيان لكل شيء:

يقول الإمام علي (عليه السلام) في حقيقة بقاء القرآن وأسرار خلوده: «وَفِي الْقرْآنِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ... وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْء»(1).

يتحدث الإمام عن السر وراء خلود هذا النص العظيم بلغة موحية ابتعد فيها سلام اللّه عليه عن المباشرة حيث حرص على ايصال المعنى من خلال لغة إشارية ذهنية، عندما وصف بعض دلائل الإعجاز في هذا الكتاب العزيز، حيث قص أخبار الأمم الماضية ويتحدث عن المعاصرة على الرغم من ان تلك المعاصرة غیر ثابته فنحن في زمن متغیر، الا انه عليه السلام يريد أن يلفت انظارنا إلى أن

ص: 160


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي ( عليه السلام )، 4 / 74 .

القرآن هو دائم مع كل زمان، وهذا دليل قطعي على خلوده ، فضلا عن ذلك إخباره عن الغيب، من خلال كلامه ( عليه السلام ) (وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ)، وهذا دليل آخر متعاضد مع ماسبقه للوقوف على أهم مواطن بقاء القرآن على الرغم من عاديات الزمن.

ويعبر الإمام (عليه السلام) في إضاءة هذه الحقيقة إلى أن القرآن الكريم نور يستضاء به على مدى العصور وتغیرات الزمان ، يضاف إلى ذلك سببا آخر هو أن القرآن يتكلم عن السنن الإلهية الثابتة وهي غیر قابلة للتغیر، كما ورد في وصف الباري عز وجل: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(1)، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)(2)، فالآيات القرآنية ثابتة دائمة والاحكام التشريعية متغیرة، ويتحدث القرآن الكريم عن الأمم والحضارات والاجيال السابقة ومستقبلها وما جرى عليها من تغیرات عامة و ما فيها من عبر، (إذن؛ فالسنن الإلهية سنن ثابتة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التشريعات القرآنية، فهي تشريعات ثابتة على الرغم من وجود التفاوت في تفسیراتها وتأويلاتها وتطبيقاتها)(3)، لأنه نور وضياء وهداية، وتطهیر للقلب وأنه صراط وركن وثيق للبشرية جمعاء لها أن تتكىء عليه. ويبین الامام علي (علیه السلام) حقيقة من حقائق الأسرار العظمية للقرآن الكريم إنه: «نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ»(4).

ص: 161


1- (1) سورة الأحزاب: 62 .
2- (2) سورة فاطر: 43 .
3- (3) في رحاب القرآن، السيد محمد تقي المدرسي: 19 / 1.
4- (4) نهج البلاغة: خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 49 |.

المسألة الثانية: فصاحة القرآن وبلاغته:

قال (عليه السلام): «وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ»(1).

يشیر (عليه السلام) هنا إلى مجموعة من عناصر بقاء وخلود القرآن الكريم وأبرزها (الفصاحة والبلاغة القرآنية)، التي تحدى بها الفصحاء والبلغاء من عموم البشر، فلا يمكن لإحد أن يصل إلى عمق أغواره ويدرك تخوم اطرافه، وهذا ما سنوضحه من خلال البحث. وقد اشارت معجمات اللغة إلى معنى الفصاحة:

(الفَصاحةُ البَيان فَصُحَ الرجلُ فَصاحة فهو فَصِيح من قوم فُصَحاء وفِصاحٍ وفُصُحٍ، تقول رجل فَصِيح وكلام فَصِيح أَي بَلِيغ ولسانه فَصِيح أَي طَلْقٌ)(2)، منه قوله تعالى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ .)(3).

والفصاحة: (هي خلوص الكلام من التعقيد وضعف التأليف)(4). أمّا البلاغة (فهي مصدر قولك بلغ الرجل بالضمّ إذا صار بليغا وهو أن يبلغ بعبارته أقصى

ص: 162


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 55 .
2- (2) مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي (ت: 721 ه-)، تحقيق: ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين، 1415 - 1994 م دار الكتب العلمية - بیروت – لبنان ط 1: 261 ، وينظر: لسان العرب - محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى: (ت: 711 ه- ): دار صادر – بیروت ط: 3 - 1414 ه-: 2 / 544 .
3- (3) سورة القصص: 34 .
4- (4) الحدائق الناضرة، المحقق البحراني (ت: 11 86 ه-)، تحقيق: محمد تقي الإيرواني : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (د ط): 10 / 111

مراده باللفظ من غر إيجاز مخلّ)(1).

وسميت (البلاغة): (لأنها تبلغ بالمعنى إلى القلب) (2)، قال صاحب الجواهر(أنه لا معنى لها إلا وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها، فما كانت دلالته أتم يترجمها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن يستولي على هوى النفوس، وينال الحظ الأوفر من ميل القلوب(3).

إذ هناك علاقة مشركة بین الفصاحة والبلاغة، ونسبة بينها نسبة العموم والخصوص من وجه (إن كل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغا) فتكون الفصاحة جزء من البلاغة، وهذا ما نجده واضحا من خلال كلمات الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) عندما يتحدث عن القرآن الكريم بأنه كائن موجود يمتاز بالفصاحة والبلاغة، قد تحدى الفصحاء والبلغاء من العرب.

ويعبر الإمام (عليه السلام) عن فصاحة القرآن وبلاغة بأنه خلوه من المتناقضات اللغوية التي تؤدي إلى تبعثر المعاني، بمعنى (خلوصه من تنافر الحروف وغرابتها ومخالفة القياس)(4).

فالإمام (عليه السلام) يبن من خلال كلامه أن القرآن بین في فصاحته،

ص: 163


1- (1) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني (ت: 679 ه-) تحقيق: عني بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها 1:1362 ش: مركز النشر مكتب الاعلام الاسلامي - الحوزة العلمية - قم – ايران، ط: 1/ 19
2- (2) التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: 2/ 158
3- (3) جواهر الكلام، الشيخ الجواهري (ت: 12 66 ه-) تحقيق: تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني: 1365 ش،: دار الكتب الإسلامية – طهران، ط 2: 11/ 329 .
4- (4) تاج العروس، الزبيدي (ت: 12 05 ه-)، تحقيق: علي شیري، 1414 ه- - 1994 م: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بروت، (د ط): 1/ 57 .

وبلاغته وتناسق ألفاظه ومضامین موضوعاته، ومنتهى جلالته، وبه سمي بأسماء مختلفة و لقب بألقاب كثیرة، (أنه كتاب تفصيل، وبيان تحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه.

ثم إنه (عليه السلام) أردف كلامه بالتنبيه على أن الكتاب العزيز واف بجميع المطالب إن تدبروا معناه ولاحظوا أسراره فقال (عليه السلام): «وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ » أي حسن معجب بأنواع البيان وأصنافه وغرابة الأسلوب وحسنه وائتلاف النظم وانساقه، وهذا ما يطلق عليه بالحقائق الظاهرية للقرآن الكريم، «وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ » إشاره إلى الحقائق الباطنية للقرآن الكريم (التأويل)، لاشتماله على أنواع

الحكم من أمر بحسن ونهي عن قبيح وخبر عن مخبر صدق ودعاء إلى مكارم الأخلاق وحث على الخیر والزّهد واشتماله على تبيان كلّ شيء وعلى ما كان وما يكون وما هو كائن)(1).

كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي: (نحن واللَّه نعلم ما في السّماوات وما في الأرض وما في الجنّة وما في النّار وما بین ذلك، ثمّ قال: إنّ ذلك في كتاب اللَّه ثمّ تلا قوله تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(2))(3). وفي الكافي عنه (عليه السلام): «إنّ لأعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنّة وأعلم ما في النّار وأعلم ما كان وما يكون ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ

ص: 164


1- (1) ينظر، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 3/ 277 .
2- (2) سورة النحل: 89 .
3- (3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 65 / 237 .

ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب اللَّه عزّ وجلّ إنّ اللَّه يقول: فيه تبيان كلّ شيء »(1)، (لا تفنى عجائبه ) أي الأمور المعجبة منه (ولا تنقضي غرائبه) أي النكت الغريبة فيه (ولا تكشف الظلمات) أي ظلمات الشبهات (إلا به) أي بسواطع وكنوز أنواره ولوامع أسراره وبراهین معرفته(2).

ويمكن إدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم، من خلال طرحه لموضوعات ومسائل مهمة مندمجة في عبارات قصیرة وعميقة وحية وغنية المحتوى وناطقة، متحدية المعاني والالفاظ اللغوية الاخرى، كما يشیر إلى ذلك الامام علي (عليه السلام) في كلامه: «جَعَلَهُ اللّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ... وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى»(3).

فيتضح من خلال ذلك: ان السبب الأول من أسباب خلود وبقاء القرآن الكريم هو فصاحة ألفاظه وبلاغة بيانه تطمئن له النفوس وتهتدي به القلوب، فهو ليس بكتاب يشاطر الأذهان أو يجبر المتلقي على التعسف في الفهم.

ومن لطائف هذا البقاء للقرآن الكريم أنه لم يتحدث لفئة معينه، أو كما يقولون لا يفهمه الامن خطب به، أنما هو كتاب يستسقي منه جميع الناس، كما وصفه سيد البلغاء والموحدين علي (عليه السلام): «جَعَلَهُ اللّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ... وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى »، بمعنى أن الإنسان من خلال القرآن وعدله يتبع النهج السليم في البحث والتدبر والتفكیر ويتقرب سلوكا وروحا إلى اللّه تعالى: (قُلْ إنِّمَاَ

ص: 165


1- (1) الكافي، الكليني: 1/ 261
2- (2) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1 / 322 .
3- (3) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 178

أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّ هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(1)

ومن مختار كلام أمیر المؤمنین (عليه السلام): روى عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت أمیر المؤمنین وقد سأله رجل عن القرآن فقال: «عليكم بكتاب اللّه فإنه الحبل المتین، والنور المبین، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد، وولوج السمع من قال به صدق، ومن عمل به سبق»(2).

المسألة الثالثة: التناسق في اللفظ والمضمون:

القرآن الكريم الكتاب الالهي السماوي ومعجزة النبي (صلى اللّه عليه واله)، تحدى الحوادث المضطربة خلال مدة ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة الالهية، وبالرغم من المتغیرات والحوادث التي حصلت، لم يكن لها تأثیرا في تناسق كلمات وموضوعات القرآن الكريم من حيث الشكل والمضمون.

ومن أسرار بقائه، هو التناسق بین التعبرات اللفظية ومضمون الحالة التي يصورها القرآن الكريم. أشار إلى ذلك الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في خطبة له: «فَإِنَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ، فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُم، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا... وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمِهِ كَالْجاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عَنْدَ اللّهِ أَلْوَمُ...

ص: 166


1- (1) سورة الجاثية: 22
2- (2) كتاب تذكرة الخواص، 163 ، نقلا: نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت – لبنان (د. ط): 1/ 380

وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذَي نَبَذَهُ فَالْتَمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، هُمْ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ»(1)

يصور الإمام (عليه السلام) في كلامه تناسق اللفظ مع المضمون في النص القرآني، ويشبه ذلك عبر كلامه «لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ »، الاهتداء بالقرآن الكريم من دون إهمال والاعراض عنه، يعد إحياء له وتركه يؤدي إلى اماتته.

ويعبر القرآن الكريم عن ذلك بصور من أهما هو وصف حالة الكفار الذين لم يستسقوا من نور هداية الاسلام، من خلال عدم أيمانهم به بالصم البكم في قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَ يَعْقِلُونَ .)(2).

فمن خلال كلام الإمام (عليه السلام) وسياق الآية المباركة، نجد التناسق بین اللفظ والمعنى، لأن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم ونعتهم بنعوت خاصة لما سبق ذلك في تفريطهم من تلقي الحق والاهتداء به، أي نبذوا القرآن ونقضوا ميثاقه وتركوا رشده وجعلوا وراء ظهورهم فجعلهم اللّه شر الدواب، حيث أبتلاهم اللّه سبحانه وتعالى بالصمم والبكم، فلا يستطيعون أن يسمعوا كلمة الحق ولا ينطقوا به، (لأنه تعالى لم يجد عندهم خیرا و لم يعلم به و لو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع والقبول، و لو أنه تعالى رزقهم السمع و الحال هذه لم يثبت السمع

ص: 167


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1، 2/ 8 - 32 ، 216 .
2- (2) سورة الأنفال: 22.

و القبول فيهم بل تولوا عن الحق و هم معرضون)(1).

فكلمة الدواب التي وردت في سياق الآية المباركة متناسقة مع الحالة التي صورها القرآن الكريم عن حالة ممن لم ينتفع بهدي القرآن الكريم ورد بما جاء من حجة بالغة ينتفي حال التعقل عنهم، فيكونوا صما ربكما وعميانا مثلهم كمثل الحيوان لا يفهمون ولا يعقلون كما وصفهم سبحانه وتعالى بذلك.

قال (عليه السلام) «إنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْشَّرَّ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا»(2).

فيتضح إن القرآن الكريم مصدر العلم الالهي الخارق لقوانن الطبيعة في تحديه وإعجازه المنسجم مع فصاحة وبلاغة، المتناص في ألفاظه ومضامينه، إنه باق وخالد على مر العصور هو كما وصفه مولانا مولا الموحدين علي (عليه السلام) بكلامه، لا تفنى عجائبُه، ولا تنقي غرائبُه، ولا تنكشف الظلمات إلَّا به.

المسألة الرابعة: الصدق في مطابقة الدعوة والتحدي:

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في وصف معجزة نبي الرحمة (صلى اللّه عليه واله) بانها تتحدى المشككين والجهال وإنها محسوسة للبشر يقول (عليه السلام): «وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ.... كِتَابُ اللّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَى بَعْض، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللّهِ، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللّه»(3)

ص: 168


1- (1) تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: 9/ 22.
2- (2) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 79 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 17 .

فالإمام (عليه السلام) يتحدث عن القرآن الكريم وسر بقائه وديمومته، وأنه حجة على كل مؤمن، وخصم لكل معاند، وهو دليل قوله تعالى («إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)(1)، وسر بقائه أنه يفسر بعضه بعضا، وسرا مكنونا كاشفا عن موضوعاته،( لأن فيه مطلقا ومقيّدا ومجملا ومبيّنا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها، بعضها يكشف القناع عن بعض ويستشهد ببعضها على المراد ببعض آخر)(2)، وهذا دليل واضح على إن القرآن الكريم قد تحدى العقول بالإتيان بمثله، قال تعالى («اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(3)، و قوله متشابها (أي يشبه بعضه بعضا في الحسن و الصدق و الثواب و البعد عن الخلل و التناقض فهو كله متشابه من هذا الوجه)(4).

فالتحدي من الشرائط الأساسية في مفهوم وتحقيق خلود القرآن الكريم، بمعنى إنه قد ابهر عقول المخالفین والمشككين، وقد تحدى سبحانه وتعالى المشركین بأن يأتوا بآية واحدة، فثبت أن القرآن معجزة خالدة، بل ان الآية الواحدة منه هي معجزة بحد ذاتها.

ويجب أن يكون المتحدي صادقا في دعواه بكون المتحدى به هو معجزة له:

ص: 169


1- (1) سورة الإسراء: 9.
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي (ت: 1324 ه- )، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي ، مطبعة الاسامية بطهران، الناشر: بنياد فرهنگ امام المهدي، ط 4: 8/ 317 .
3- (3) سورة الزمر: 23
4- (4) مجمع البيان، الشيخ الطبرسي (ت: 548 ه-)،: تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققین الأخصائين: 1415 - 1995 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت – لبنان (د.ط): 2/ 242

(وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة: آية نبوتي و دليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت: كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه اللّه تعالى دال على كذب المدعي للرسالة، لأن ما فعله اللّه لم يقع على وفق دعواه. وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب(1) لعنه اللّه تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعل اللّه سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه، لأنها وقعت على خاف ما أراده المتنبئ الكذاب)(2).

يعبر الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) عن صدق دعوة الرسول (صلى اللّه عليه واله) بأنها الدعوة الصادقة والهادفة في بناء الإنسان والإنسانية، ويشیر إلى ديمومة بأنها لكل زمان ولكل مكان على مر العصور: «بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَعُيُونٌ لاَ يُنضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ »(3)، حيث جعله اللّه سبحانه وتعالى بلاغا للرسالة السماوية، كما في قوله تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)(4) أي إلّا أداء الرّسالة و بيان الشريعة أو كفاية لها كما في قوله تعالى في وصف القرآن (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(5) أي موعظة بالغة كافية، كما وصفه الامام (عليه السلام) بالبحر الذي لا يغور ماؤه (بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ): (أي لا ينزحه كلّه و لا يفنيه

ص: 170


1- (1) أنه كان يدعي أن هذا الماء يصعد إلى الاعلى مثا، ولكنه عندما قراء التعويذات نشف ماء البئر، لأن معجزه لم يكن مطابق لما أدعاه.
2- (2) تفسير القرطبي: 1/ 71
3- (3) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 177
4- (4) سورة النور: 54
5- (5) سورة ابراهيم: 52

المستقون، و هو إشارة إلى عدم انتهاء العلوم المستفادة منه، فإنّ فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة)(1).

(ولم يقتصر سبحانه على مجرّد بعثه وإرساله، بل بعثه (صلَّی اللّه عليه وآله) ما يدلّ على صدق دعواه ومقاله من البراهین والدلائل الباهرات والمعجزات الخارقة للعادات وأعظمها (قرآن قد بيّنه وأحكمه)(2) أي كشفه وأوضحه وجعله متقنا مضبوطا مستقيما نظمه خاليا عن الخلل والاختلاف كما قال عزّ من قائل: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِنَ)(3) وقال تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ

فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِرٍ)(4).

قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(5).

و قال تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)(6). ويشهد لذلك قول الإمام (عليه السلام) أيضاً: «فَانْظُرْ أَيُّها السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِیءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ(صلى اللّه عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَی اللّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللّهِ عَلَيْكَ»(7).

ص: 171


1- (1) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 12/ 308
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 9/ 65
3- (3) سورة آل عمران: 138
4- (4) سورة هود: 1
5- (5) سورة النساء: 82
6- (6) سورة هود: 4.
7- (7) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 162 .

المسألة الخامسة: القرآن الكريم من الاصول المعرفية والحياتية للبشر:

أولا: يعتبر القرآن الكريم من الكتب المعرفية الذي لا يتحدث إلا بالحق ولايقول الاالصدق فكل شيء فيه صدق وحق، حيث أفصح الباري سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بقوله: («لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(1)، فالقرآن الكريم يتحدث عن الوقائع التاريخية على مر العصور في سابق ولاحق ويكشف لنا عن الحقائق الغيبية التي لا تكذب في كتاب اللّه المجيد. وهذه من الأسرار العجيبة في بقاء وديمومة القرآن الكريم إنه يتحدث عن الإنسان والنجوم والزمن والطبيعة ومتغيراتها، ولاغرابة في ذلك، لأنه الصادر من خالق الكون وقدرته وعظمة، ولا يمكن ان يتحول هذا الكلام الالهي المتمثل بالقرآن الكريم إلى كلام عتيق ككلام البشر يردف في رفوف المكاتب ومستودعات المتاحف، كما كان مصیر أحاديث البشر وكتبهم. يقول الامام علي (عليه السلام): «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»(2)

فالقرآن الكريم يبقى للإنسان على مر العصور، ولا يحدث الإنسانية الا بصدق وحق، لأنه الكلام الذي يعلو ولا يعلو عليه، فهو العلم المضيء في ظلام الجاهلية، ومن شأن ذلك العلم أن يطرد الجهل والجهلاء، وهذا أحد الاسباب المؤدية إلى تأثر الكثیر وانصياعهم في فترة جهاد الرسول (صلى اللّه عليه واله ) كما أشار الإمام أمیر المؤمنین إلى ذلك بقوله (عليه السلام): «وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً. وَاعْلَمُوا

ص: 172


1- (1) سورة فصلت: 42 .
2- (2) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 158 .

أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لاحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأَوَائِكُمْ»(1).

ثانيا: يعد القرآن الكريم من الاصول الحياتية للبشر، ومن خلاله تستطيع البشرية أن تتقدم نحو الرقي والازدهار وتعيش العيش الهنيء في جميع مجالات الحياة، سواء على المستويين المعاشي أو الاجتماعي، كما عبر عنها القرآن الكريم في مسألة الإسراف والتبذير كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(2)، وفي العلاقات الإجتماعية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(3)، حيث توضح أن العدل هو صمام الأمان في طبيعة العلاقات بین أفراد الإنسانية جميعاً(4)، وعبر القرآن الكريم ترتقي البشرية في سلم الصعود وفي مدارج القرب الالهي، يقول الإمام علي (عليه السلام): «فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ»(5).

وفي جانب التربية الروحية للقرآن الكريم إن هناك آثار مترتبة على كل من سلك في القرآن طريقا للهداية.

ص: 173


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام(: 2 / 91 .
2- (2) سورة الاعراف: 31 .
3- (3) سورة المائدة: 8.
4- (4) في رحاب القرآن: السيد محمد تقي المدرسي: 18 / 1.
5- (5) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2/ 95 .

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله اللّه عز وجل مع السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزا ( أو حجزا ) عنه يوم القيمة يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غیر عاملي فبلغ به أكرم عطائك فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلتین من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثمَّ يقال له: هل أرضيناك فيه ؟ فيقول القرآن يا رب: قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا فيعطى إلا من بيمينه والخلد بيساره ثمَّ يدخل الجنة فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثمَّ يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك ؟ فيقول: نعم قال: ومن قرأه كثیرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه اللّه عز وجل أجر هذا مرتن»(1).

فيتحصل مما تقدم: إن سر ديمومة وبقاء القرآن إنه كتاب اللّه، وخاتم الرسالات السماوية، وقد جعله اللّه تفصياً لكل شيء، ولم يخصصه لجماعة دون غيرها، بل جعله كتاب الجميع، ميسراً لهم ذكره.

ومن عظمة القرآن أنه لم يكن كتاب علم خاص، أو موضوع محدد، بل هو كتاب الإنسان والمجتمع والحضارة، وهو كتاب التشريع والحكم، وهو كتاب الإقتصاد والسياسة، وهو كتاب العقائد والاخلاق..وبكلمة أنه كتاب الحياة.

وأكثر من ذلك إن آياته البينات لم تحددها معاني الكلمات، ولم تؤطرها عقول العباقرة.. بل هي كالشمس تشرق كل يوم لتلبس الكون حلة جديدة من أشعتها الذهبية. فكل مرة تقرأ القرآن تلمس فيه معاني جديدة، وتكتشف آفاقاً لم تكن قد خطرت على بالك من قبل.

ص: 174


1- (1) روضة المتقین في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي ( الأول ): 13 / 122، الوافي: الفيض الكاشاني: 9 / 1699 .

إنه كتاب حي لا يجرأ الموت الاقتراب منه، لأنه كتاب الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، من هنا يتأكد علينا أن نعي قيمة القرآن الكريم، ونعظم قدره في واقعنا، ونهتم به ونستفيد منه في صياغة شخصياتنا وبناء امتنا على غرار مناهجه وتوصياته. ويجدر بنا أن لا نتوانى في هذا الطريق، لأنه يضمن لنا الحياة الطيبة في الدنيا والنجاة من النار والفوز بالجنة في الآخرة.

المسألة السادسة: الشمولية والسعة

اشارة

من موارد سر ديمومة القرآن وخلوده أنه يمتاز بالشمولية والسعة، حيث لم يقف القرآن الكريم عند واحد من الجوانب الإنسانية، بل تحدث بشمولية إعجازية بديعة عن كل مرافق الحياة التي يحتاج الإنسان اليها، وهذا ما نجده واضحا في الجوانب الدينية والتعبدية، ومن هذه الجوانب:

أولا: الجانب الفكري العقدي الذي تحدث عنه القرآن الكريم والإمام علي (عليه السلام).

ويتمثل هذا المورد من الشمول بيان حقيقة وتوحيد اللّه سبحانه وتعالى بصورة واضحة من خلال بيان ذاته المقدسة، وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(1)، وقال سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)(2)، وقال عزوجل (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(3).

ص: 175


1- (1) سورة النساء: 36 .
2- (2) سورة الإسراء: 23 .
3- (3) سورة النحل: 36 .

وبالتمعن فيما أثر عن أمیر المؤمنین علي (عليه السلام) من نصوص في عمق توحيد اللّه سبحانه وتعالى، ينفي (عليه السلام) عن اللّه سبحانه العددية لقوله: «الْأَحَدُ لاَ بِتَأْوِيلِ عَدَد، وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنَى حَرَكَة وَنَصَب، وَالسَّمِيعُ لاَ بِأَدَاة، وَالْبَصِرُ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَة، وَالشَّاهِدُ لاَبِمُمَاسَّه، وَالْبَائِنُ لاَبِتَرَاخِي مَسَافَة، وَالظّاهِرُ لاَبِرُؤيَة، وَالْبَاطِنُ لاَ بِلَطَافَة »(1)، لأن العددية تعني في مضمونها كما يرى الامام (عليه السلام) القلة والكثرة والتجزئة فالواحد بطبيعة الحال أول الأعداد وهو أقل من الأثنین ويمكن تجزئته، وهو ما يستحيل تطبيقه على اللّه سبحانه.

ثم أن توحيد الذات يعني، أن لا شريك للّه ولامثيل له ولا يتصور شبهة كما في قوله: «أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لاشريك له، الاول لا شيء قبله، والآخر لاغاية له »(2)، فاعتبار أولوية ونهايته مطلقة تقتضي بذاته الدوام الأبدي، لأنه (سبحانه أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، أبدي سرمدي، ولو سبقه العدم أو انتهى اليه لكان حادثا، ولا بد لوجود الحادث من سبب، بمعنى فإن لم يكن هذا السبب ذاتيا - كما هو الفرض - احتاج إلى غیره، وإذن فلا مفر من الانتهاء إلى سبب الأسباب)(3).

وفي توحيد الصفات ابهر القرآن الكريم العقل الإنساني، حيث يكشف الاسرار الباطنية في معرفة صفاته سبحانه وتعالى، كالعدل والقدرة، والحلم، والعلم، والقوة.. وتعداد هذه الصفات قد كشف عنها القرآن الكريم، أن وجود كل صفة في ذاته منفردة.

لذلك يرى الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) أن هذه الصفات التي كشفها

ص: 176


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) ( تحقيق صالح )، 813 .
2- (2) في ظلال نهج البلاغة نهج البلاغة، خطبة: محمد جواد مغنية: 1 / 84 .
3- (3) المصدر نفسه.

القرآن هي في حقيقتها صفات ذهنية من ابتكار العقل الإنساني، ويمكن فهم ذلك من قول الامام(عليه السلام) «وَكُلُّ عَزِيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ، وَكُلُّ قَوِي غَيْرَهُ ضَعِيفٌ، وَكُلُّ مَالِك غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ، وَكُلُّ عَالِم غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ، وَكُلُّ قَادِر غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ»(1).

ثانيا: الجانب التشريعي

يتضمن القرآن الكريم تشريعات كاملة لمختلف جوانب الحياة، فيشمل بین دفتيه العبادات والمعاملات، والعقوبات، والسياسة الخارجية، ومعاهدات السلم والحرب والحياد، وسائر الأنظمة التي يقوم عليها المجتمع، وتتصف هذه التشريعات القرآنية بصفتن رئيسيتين وهما: الشمولية والديمومة(2).

ولهذا جعله اللّه سبحانه وتعالى للناس دستورا هاديا وشافيا، وجعله خالدا دائما على مر الزمان والاجيال، قال تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(3).

وفي نهج البلاغة: قال أمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللّهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرِّيُّ النَّاقِعُ، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لَلْمُتَعَلِّقِ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ»(4).

ص: 177


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 112.
2- (2) ينظر: علوم القرآن، محمد باقر الحكيم: 72 .
3- (3) سورة النحل: 89 .
4- (4) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 49 .

المسألة السابعة: الانسجام الفطري:

من عناصر أسرار خلود القرآن الكريم أنه يحاكي الفطرة الإنسانية في حقيقتها، لأن في باطن كل فرد في المجتمع هناك ميولات كامنة في نفسه، كل واحدة من هذه الميولات تحقق دورا مستقل في سعادة الإنسان، من خلال التربية والمنهج الصحيح القائم على الركيزة والاساس القويم وهو القرآن الكريم.

وهذا المنهج الذي طرحه القرآن الكريم والذي يشیر اليه الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام) في بعض خطبه، هو من أجل إيقاظ الفطرة عند الإنسان واستغلال الثروات الإلهامية لدى الإنسان عبر تفجیر طاقاته النفسية والعقلية.

يقول (عليه السلام) في هذا الصدد: «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ »(1)، تعد بعثة الأنبياء في جوهرها وساطة بین الخالق والمخلوق، وهدفها هداية الخلق إلى الحق، وتعاونهم على ما يكفل الأمن والعيش للجميع، وهذا هو أمل الطيبین الأحرار منذ وجد الإنسان على سطح الأرض(2).

المراد بعهد اللَّه هنا ميثاق الفطرة الذي أشار اليه الإمام ( عليه السلام ) بقوله: «لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ » كما في قوله تعالى: («فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(3).

ص: 178


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، 1 / 24 .
2- (2) ينظر: في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1 / 56 .
3- (3) سورة الروم: 30 .

ومن وظيفة الأنبياء أن يرشدوا الناس إلى مذاهب الحياة المشروعة، ويحذروهم من الحرام، لأن الدنيا على آلامها وأحزانها ماضية بهم إلى الزوال. وبهذا يتبین معنا ان وظيفة الأنبياء هي الانذار والتبشیر، وانهم لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا، وما زاد على ذلك من غرائب الأوصاف، وعجائب الصور فليس من الدين في شيء، كما أشار (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: «وَلَمْ يُخْلِ اللّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل، أَوْ كِتَاب مُنْزَل، أَوْ حُجَّة لاَزِمَة، أَوْ مَحَجَّة قَائِمَة»(1).

لا تقوم الحجة للَّه على خلقه إلا بعد البيان منه تعالى، والمعصية من العبد، وليس من الضروري أن يكون البيان من رسول اللَّه مشافهة ووجها لوجه، بل يكون أيضا بكتاب اللَّه كالقرآن، واما بالنسبة إلى الحجة الكاشفة عن حقائق وبواطن القرآن الكريم، والذي عبر عنه (عليه السلام) بالعقل والمعصوم: «لاَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِم للّه بِحُجَّة، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً ». فعصمة القرآن هي التي لا تجعل الباطل يأتيه من بيه يديه أو من خلفه، وهذا التحصین الإلهي المنيع ما جعل القرآن معجزا لطالما هو محرم على البشر من حيث الولوج إلى الفاظه، فهذا سبب آخر يؤيد إعجازه.

المسألة الثامنة: لا تنقضي علومه وإنه محفوظ إلى يوم القيامة:

إن سر بقاء القرآن وديمومته نصا وروحا دليل بقاء نبوة الرسول الاعظم (صلى اللّه عليه واله)، وهذا الدليل يستمر مادام القرآن باقيا، لإنه يعبر عن مبادئ الرسالة والشريعة، لا ينقص من قيمة الدليل الاساس على الرسالة الخاتمة، ولكن ليس هذا فقط، بل إنه يمنح أبعادا جديدة من المعرفه البشرية، التي عبرها يتجه

ص: 179


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 4 / 37 .

الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة، ولأهمية دور القرآن الكريم في الحياة، عرض الامام أمیر المؤمنین (عليه السلام) ذلك الدور من خلال علاقة الباطنية بالقرآن فیرى للقرآن ظهر وبطن، وأن آياته خزائن للعلم، وهذه الخزائن بطبيعة الحال كما يراه علي (عليه السلام) هي العمق الفكري والعلمي لكل آية من آيات كتاب اللّه، ولاينال عامة الناس بالنظرة البدائية الأولى العابرة إلى كتاب اللّه هذا العمق الفكري لآيات القرآن، ولاتكاد الرؤية تلك الرؤية إلى القرآن تتجاوز السطح الظاهر منه، يقول (عليه السلام) «وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ»(1).

قال ابن ميثم: ان القرآن الكريم يكون واف بجميع المطالب إذا تدبّروا معناه ولاحظوا أسراره وتطَّلعوا على غوامضه فيحرم عليهم أن يتسرّعوا إلى قول ما لم يستند إليه وذلك في قوله ظاهره أنيق حسن معجب بأنواع البيان وأصنافه وباطنه عميق لا ينتهى إلى جواهر أسراره إلَّا أولو الألباب، ومن أيّد من اللَّه بالحكمة وفصل الخطاب ولا تفني الأمور المعجبة منه ولا تنقضي النكت الغريبة فيه على توارد صوارم الأذهان وخواطف الأبصار ولا تكشف ظلمات الشبه الناشئة من ظلمة الجهل إلَّا بسواطع أنواره ولوامع أسراره(2).

ويقول السيد الهاشمي حبيب اللّه الخوئي: ولعمري انّه كتاب شرع المناسك للناسك، وشرح المسالك للسالك، وهو خلاص المتورّطین في الهلكات، ومناص المتحيّرين في الفلوات، ملاذ كلّ بائس فقیر، ومعاذ كلّ خائف مستجير، مدينة المآرب، وغنية للطالب، لأنّ ما أودع فيه كلام عليه مسحة من الكلام الإلهي، وفيه

ص: 180


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، 1 / 55 .
2- (2) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، 1 / 322 .

عبقة من الكلام النبويّ صلَّی اللَّه عليه وآله، ظاهره أنيق وباطنه عميق، مشتمل على أمر ونهي، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وجدل ومثل وقصص، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، يدلّ على الجنّة طالبها، وينجي من النار هاربها، شفاءمن الدّاء العضال، ونجاة من ظلمة الضلال، دواء لكلّ عليل، ورواء لكلّ غليل، وأمل لكلّ آمل، وبحر ليس له ساحل، وكنز مشحون بأنواع الجواهر والدّرر، تفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر.

ومع ذلك قد احتوى من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعان وشئون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربيّة والنكات الأدبيّة والمحاسن البديعيّة ما يعجز عن تقريره لسان البشر(1). والحكمة من ديمومة القرآن الكريم فليس لها حد، كما نال منها الإنسان نصيبا من المعرفة والحكمة، بل يلتقي بعرق جديد من المعاني والافكار والحكم، وكأنه العین والمعین الذي لا يستنزفه، كلما اخذوا منه حل محله ماء جديد من خزائن اللّه تعالى تحت الأرض، وهو ما اشار اليه الإمام علي بن الحسین (عليه السلام) يقول: «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»(2).

وكان (عليه السلام) يقول في صفة القرآن في الدعاء عند ختم القرآن: وفرقانا فرقت به بین حلالك وحرامك، وقرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتابا فصلته لعبادك تفصيلا، ووحيا أنزلته على نبيك محمد صلى اللّه عليه وآله تنزيلا، وجعلته نورا تهدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه، وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يخفي

ص: 181


1- (1) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 1 / 5.
2- (2) وسائل الشيعة ( آل البيت )،الحر العاملي، 6 / 198 .

على الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته(1).

واشار الآصفي بكلامه إلى هذه: وهذه الحقيقة يعرفها جيدا العلماء الذين يغترفون من بحر القرآن، فقد مر عى هذا الكتاب اربعة عشر قرنا، يخوض في بحره العلماء والمفسرون والحكماء والمفكرون، وكلما جاء جيل جديد من المفكرين والعلماء والمفسرين فتح اللّه تعالى لهم من خزائن كتابه ما لم يعرفه من قبلهم من المفسرين والعلماء، فخزائن المعاني والمعرفة في القرآن يشبه المعین الذي لا ينضب والعین التي لا تنقطع عن الجريان، والمعدن الذي تتصل جذوره بأعماق الأرض، لاينفذ ما فيه مهما اخذ الناس منه(2).

يقول أمیر المؤمنین(علیه السلام) في صفة القرآن: «فَهُوَ مَعْدِنُ الاْيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ، وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ، وَأَثَافِيُّ الاْسْلَامِ وَبُنْيَانُهُ، وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ. وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَعُيُونٌ لاَ يُنضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ، وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وَأَعْلَامٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عنْهَا الْقَاصِدُونَ جَعَلَهُ اللّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلاْمَ، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى»(3).

ص: 182


1- (1) الصحيفة السجادية (ابطحي)، الإمام زين العابدين (عليه السلام) 194 .
2- (2) في رحاب القرآن، محمد مهدي الآصفي، 105 .
3- (3) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 10 / 195 .

وعنه ( عليه السلام ) - أيضا -: «وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ»(1).

المسألة التاسعة: سلامته من التحريف

من القضايا الاساسية والامور الهامة التي حضي بها القرآن الكريم أنه خالد ودائم لكل زمان ومكان، سالم من شبهات التحريف، لأن هناك وثيقة بن إعجاز القرآن وصيانته من التحريف، فضلا عن إشتماله على نظم ومضمون يفوقان قابلية الإنسان أو على الأقل حتى مداركه من حيث النظم، وأي عمل من شأنه الإخلال بهذا النسق التركيبي والمضمون الذي يمد العقول بأشكال من القصص والعلوم والإشارات الكونية والخلقية العجيبة، والتي أثبتت قدرتها على التحدي ومن ثم إعجاز الآخر المخاطب سواء كان من الجن، أو الإنس، وفاقت اللغة ونظمها تلك الطاقات التي لم تخرج من حيز الفهم عندي المتلقي، ولا يمكن لها أن تدخل ضمن الطور التأليفي للقران الكريم، ولو كان التأليف اللفظي وإنتاجه للمعاني بهذه الطريقة لكفى بالقرآن معجزا، وإن اللّه تبارك وتعالى تحدى الجن والإنس أن يأتون بمثله من حيث بنائه التركيبي والتأليفي، و الإ لم يتحداهم بما هو فوق طاقاتهم التكوينية من حيث علوم القرآن وقصصه عن الماضین وحديثه عن المستقبل، ومن هنا فإن مسألة تحريف القرآن تتطلب إنكار الإعجاز القرآني بصورة عامة، ويترتب على ذلك إنكار نبوة الرسول الاكرم (صلى اللّه عليه و آله) لأنّه مع ثبوت التحريف لا يمكن الإستدلال بالقرآن أو الإستنباط منه، وإن القرآن هو المصدر الأول للتشريع، ومن ثم فهو الإستناد الذي توكل اليه

ص: 183


1- (1) نهج البلاغة: الخطبة 176 .

الروايات والتي أمرونا أهل البيت(عليهم السلام) بعرضها على القرآن، وبثبوت تحريفه، لايمكن عرض الروايات عليه، فيتعطل بذلك الأخذ بها(1). حيث قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(2). وقال تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبیرٍ )(3).(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(4).

فإنّ القرآن الكريم الموجود بین أيدينا هو الكتاب الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) للإعجاز والتحدّي وتعليم الأَحكام والتفريق بن الحلال والحرام، وقد كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة على ما هو عليه الآن من عدد سوره وآياته، وهو متواتر على هذه الهيئة التي هو عليها اليوم،وهو متفق عليه اليوم بن مذاهب المسلمين وفرقهم(5).

وقد ورد المنع عن التحريف في كلام الامام علي (عليه السلام) فالقرآن... حجة اللّه على خلقه اخذ عليه ميثاقهم وارتهن عليه أنفسهم أتم نوره وأكمل به دينه وقبض نبيه صلى اللّه عليه وآله وقد فرغ إلى الخلق من احكام الهدى به فعظّموا منه سبحانه ما عظم من نفسه فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه الا وجعل له علما باديا وآية محكمة تزجر عنه أو تدعو اليه فرضاه فيما بقي واحد وسخطه فيما بقي واحد(6).

ص: 184


1- (1) ينظر: سلامة القرآن من التحريف وتفنيد الافتراءات على الشيعة، د. فتح اللّه المحمدي، 5.
2- (2) سورة الحجر: 9.
3- (3) سورة هود: 1.
4- (4) سورة فصلت: 42 .
5- (5) ينظر: علوم القرآن، محمد باقر الحكيم، 54 .
6- (6) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، 2 / 111.

يقول الشارح البحراني: «أخذ عليهم ميثاقه » الضمر في أخذ اللَّه وفي ميثاقه للكتاب، وذلك الأخذ هو خلقهم وبعثهم إلى الوجود إلى أن يعملوا بما اشتمل عليه الكتاب من مطالب اللَّه الحقّة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم (وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(1) الآية، والتقدير أخذ عليهم ميثاق بما فيه.

وقوله: «وارتهن عليه أنفسهم ». أي جعل أنفسهم رهنا على العمل بما فيه والوفاء به (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(2)،«وأتمّ به نوره »: أي نور هدايته للخلق، والنور المتمّم هو نور النبوّة وهو المشار إليه بقوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)(3) وإطفائُه بما كانوا يقولونه من كونه (صلَّی اللَّه عليه وآله وسلم) معلَّم مجنون وساحر كذّاب، وكون القرآن أساطير الأوّلین اكتتبها. وكذلك أكرم به دينه. فإتمام النور هو سلامته من المعارضة وظهوره على من أراد ضياع هويته. وقوله: «وقبض نبيّه ». إلى قوله: «به ». كقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، وأحكام الهدى بيان طرقه وكيفيّة سلوكها وتثبيتها في قلوب المؤمنین. ثمّ أمر بتعظيم اللَّه سبحانه وتعالى.

يقال: عظَّمت من فلان. كما يقال: عظَّمته، وما هنا مصدريّة: أي عظَّموه كتعظيمه نفسه: أي اطلبوا المناسبة في تعظيمكم له كتعظيمه نفسه. ثمّ أشار إلى وجه وجوب تعظيمنا له وهو قوله: لم يخف عنكم شيئا من دينه بل كشفه لنا وبيّنه بأجمعه بقدر الإمكان، ولم يترك شيئا من مراضيه ومكارهه إلَّا نصب عليه علما

ص: 185


1- (1) سورة الأعراف: 172 .
2- (2) سورة الفتح: 10 .
3- (3) سورة التوبة: 32 .

ظاهرا أو آية واضحة من كتابه يشتمل على أمر بما يرضيه أو زجر عمّا يكرهه(1).

منها: رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) أنه كتب في رسالته إلى سعد الخیر: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية»(2).

فإن في قوله (عليه السّلام) يعجبهم هناك بدل يحزنهم هنا دلالة على أن يكون المراد بالجهال هناك الحافظین للحروف فإنهم جهال في الحقيقة ولا يجوز إرادته هاهنا لأنه لا يلائم الحزن إلا أن يقال إن حفظ الرواية من دون رعاية يؤدي إلى حزنهم في العاقبة وفيه بعد. فراع يرعى حياته وهو الذي يريد بذلك وجه اللَّه عز وجل والدار الآخرة عالما كان أو جاهلا وراع يرعى هلكته وهو الذي يريد به الدنيا والمباهاة به فعند ذلك أي عند النظر إلى قلوبهم وضمائرهم والاطاع على نياتهم وسرائرهم اختلفا وتغايرا بعد أن يكونا متحدين بحسب الظاهر في الاهتمام به، وإنما ينكشف ذلك بحيث يراه الناس جميعا في الآخرة ويوم تبلى السرائر (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(3).

القرآن الكريم كتاب اللّه المنزل على رسوله النبي الامین صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهو دستور الإسلام الخالد (لا يأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَینِ يَدَيهِ ولا مِنْ خَلفِهِ) ، وقد أجمع المسلمون على أنّه المصدر الأول في التشريع الِاسلامي، والمرجع الاساس في استقاء الفكر والعقيدة والنظم والمفاهيم الإسلامية؛ ولذلك كله حرص الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على سلامة هذا القرآن وتبليغه كما

ص: 186


1- (1) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، 3 / 401 .
2- (2) الوافي، الفيض الكاشاني، 1 / 170 .
3- (3) ينظر: الوافي، الفيض الكاشاني، 1 / 171 .

أنزل حرفاً بحرف وكلمة كلمة، وكيف لا يحرص على ذلك وهو برهان نبوته، ومعجزة الإسلام الخالدة.

المسألة العاشرة: مقياس للحق والباطل:

أن التعايش في هذه الدائرة، أن يحكم الإنسان القرآن على نفسه تحكيما، ويتخذه مقياسا للحق والباطل، ويجعله ميزانا ومعيارا لفهم الأشياء والاشخاص، والخطوط، وكلما التبس عليه امرا استوضح القرآن فيه، وكلما خشي على نفسه من الشطط والزيغ استنصح القرآن في نفسه، وكلما رأى من نفسه ميلا ورغبة إلى غیر ما يميل اليه القرآن ويرغب فيه اتهم نفسه وصدّق القرآن.

يقول الإمام أمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ»(1).

وفي مقام البيان قال الخوئي في شرحه: «وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُم » أي اتّخذوه ناصحا لكم رادعا لأنفسكم الأمّارة عن السّوء والفحشاء والمنكر لتضمّنه الآيات الناهية المحذرة والوعيدات الزاجرة المنذرة «وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ » أي إذا أدت آرائكم إلى شيء مخالف للقرآن فاجعلوها متّهمة(2).

وهو ما أشار اليه ابن ميثم البحراني في بيان قوله (عليه السلام): «وَاسْتَغِشُّوافِيهِ أَهْوَاءَكُمْ ». قال هنا استغشوا وفي الآراء اتّهموا، لأنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة من غیر مراجعة العقل فإذا حكمت النفس عن متابعتها بحكم فهو غشّ

ص: 187


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، 2 / 92 .
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي، 10 / 204 .

صراح، وأمّا الرأي فقد يكون بمراجعة العقل وحكمه وقد يكون بدونه، فجاز ان يكون حقا وجاز أن يكون باطلا فكان بالتهمة أولى.

فما خالف من قول، وقانون ورأي كتاب اللّه فهو باطل، وما وافقه فهو حق، وهذا هو معنى اتخاذ القرآن مقياسا للحق والباطل.

عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه واله): «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به، وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(1).

وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(2).

فمتى اصبح القرآن مقياسا في التفكیر كان ذلك آية خضوع الإنسان للقرآن، ودخوله في دائرة نفوذ القرآن وتأثیره، ومن دون ان يتخذ الإنسان القرآن مقياسا للتفكیر والتصور والتصديق لايدخل في هذا المجال.

المسألة الحادية عشرة: أنه معجزة الرسالة الخاتمة

اشارة

القرآن الكريم كتاب اللّه المعجز الذي تحدى اللّه به الاولین والاخرين من الانس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك عجزا بينا، وهو معجزة الرسول الخاتم(صلى اللّه عليه واله) ومن خلاله ثبتت رسالته ونبوته الخاتمة للرسالات السماوية، فإعجاز القرآن باق، وبقاء الإعجاز دليل على بقاء الرسالة المحمدية الاصيلة، وأنها رسالة عامة للبشر جمعاء، وفي بقاء الرسالة السماوية لكل

ص: 188


1- (1) اصول الكافي: 1/ 55 .
2- (2) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي ( الأول )، 6 / 34 .

زمان و لكل مكان دليل بقاء للشريعة الاسلامية.

ومن مظاهر إعجاز القرآن ماورد عن أمیر المؤمنین (عليه السلام) في وصف القرآن أنه معجز قال: «ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»(1).

قال السيد الهاشمي حبيب اللّه الخوئي: وقد علمت هناك أيضا أنّ القرآن مشتمل على علم ما كان وما يكون وما هو كائن وإليه أشار هنا بقوله «أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي » أي أخبار اللَّاحقین كليّاتها وجزئياتها وأحوال الموت والبرزخ والبعث والنّشور والقيامة والجنّة والنّار ودرجات الجنان ودركات الجحيم وأحوال السّابقين إلى الأولى والسّائرون إلى الأخرى، وتفاوت مراتب المثابین والمعاقبین في الثواب والعقاب شدّة وضعفا وقلَّة وكثرة وغیر ذلك ممّا يحدث في المستقبل. «وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي » أي أخبار السّابقين وكيفيّة بدء الخلق من السّماء والأرض والشّجر والحجر والنّبات والإنسان والحيوان وقصص الأنبياء السّلف وأممهم ومعاصريهم من ملوك الأرض والسّلاطين وغیر ذلك ممّا مضى.

«وَدَوَاءَ دَائِكُمْ » لاشتماله على الفضائل العلميّة والعمليّة بها يحصل إصلاح النّفوس والشّفاء من الأمراض النّفسانيّة والبرء من داء الغفلة والجهالة «وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ » لتضمّنه القوانین الشّعية والحكمة السّياسيّة الَّتي بها نظام العالم واستقامة الأمور(2).

فيتضح من كلام الخوئي ان اعجاز القرآن الكريم دليل واضح على بقاء القرآن وخلوده، لأنه نعمة باقية وحجة بالغة على البشر.

ص: 189


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 54 .
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي، 9 / 337 .

وأما وجوه الإعجاز التي للقرآن كثيرة ومن أهمها

أولا: الإعجاز اللغوي والبلاغي.

إن كل نبي يأتي بمعجزة عصره فكانت معجزة موسى (عليه السلام) العصا لأن السحرة في زمانه كانوا يحملون العصي ويخيلوا للناس بأنها ثعبان وجاء النبي عيسى (عليه السلام) بالطب لأن في زمانه اشتهروا بالطب فكان يشفي المرضى ويبرء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن اللّه، أما إعجاز القران فكانت بلاغته واحدة من المعاجز الجمّة حيث أن العرب كانوا بلغاء وتمتعوا بقدر عال من الخبرة في الكلام وجودته، وتلمسوا مواضع أسرار الجمال اللفظي التي بدورها كانت بابا من أبواب الدخول إلى الإعجاز البياني في القرآن الكريم. فحينما رأوا آيات القران عرفوا أن هذا الكلام ليس من صنع البشر، بل هو كلام من رب قدير بديع، وقد تحداهم اللّه بأن يأتوا بآية من مثله، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(1).

فقد أدهشت فصاحته وبلاغته ونظمه عقول العلماء، فالقرآن هو معجز بلفظه ومعناه ولهذا خضعة لهذا الكلام و إعترف به مشركو قريش بأنه كلام رباني، قال تعالى (وَجَحَدُوا بِمَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(2)، وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(3). وقال (عليه السلام): «وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ،

ص: 190


1- (1) سورة البقرة: 23 .
2- (2) سورة النمل: 14
3- (3) سورة الزمر: 23

وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عَنْدَ اللّهِ أَلْوَمُ»(1).

ثانيا: الإعجاز في الاخبار عن لمغيبات:

فمن إعجازه هو الأنباء بالغيبيات سواء كانت هذه الغيبيات متعلقة بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال «كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه»(2).

فقد أخبر القرآن الكريم بأمور كثیرة ستقع في المستقبل ثم وقعت كما اخبره سبحانه وتعالى، وهذا يؤكد أنه نزل من عند اللّه، إذ لايعلم الغيب إلا اللّه تعالى ومن اخبارات القرآن الكريم الغيبية هو إخباره عن الماضي عن قصص الاقوام السابقة وأخبار الصالحین، اخبر بها الوحي النبي الاعظم (صلى اللّه عليه واله) قال تعالى: («تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(3).

ثالثا: الإعجاز العلمي

ونريد به ما أورده القرآن من نظريات وقوانین توصل إليها العلم الحديث فيما بعد في مسار الأرض وإنشطار النجوم، وتعدد الأفلاك، وابعاد السماوات، وزوجية الكائنات، دون إستعمال القرآن لقوانین الحس والتجربة والمعادلة وإنما

ص: 191


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 216
2- (2) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي ( الأول ): 12 / 198 .
3- (3) سورة هود: 49 .

جاء ذلك ابتداء، وما ورد فيه كان دون سابق معرفة بشرية بالحيثيات المتناثرة فيه حتى ثبت أن القرآن لا يعارض ما يتوصل إليه العلم بل هو الأساس في ذلك فيما أفاده جملة من المتخصصن.

قال أمیر المؤمنین (عليه السلام): «إنّ اللّه تعالى قد خصّكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك لأنّه اسم سلامة وجماع كرامة، اصطفى اللّه تعالى منهجه، وبیّن حججه من ظاهر علم، وباطن حكم، لا تفني غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مرابيع النّعم، ومصابيح الظَّلم، لا تفتح الخیرات إلَّا بمفاتحه، ولا تكشف الظَّلمات إلَّا بمصابيحه، قد أحمى حماه، وأرعى مرعاه، فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي»(1).

وقال الشارح الهاشمي: ثمّ أخذ عليه السّلام في إظهار منّة اللّه عليهم بالقرآن الكريم وتخصيصهم به من بین سائر الكتب واعدادهم لقبوله من سائر الأمم. ثمّ نبّه على بعض أسباب إكرامه تعالى لهم به أمّا من جهة اسمه فلأنّه مشتق من السّلامة بالدّخول في الطَّاعة(2).

(الكون من صنع الباري سبحانه وتعالى، ومن خلال القرآن الكريم والعلوم الحديثة نستطيع الوقوف على أسرار وروائع هذا الكون البديع وفى هذا ما يؤكد أن الكون هو كتاب اللّه الصامت، وآن القرآن هو كتاب اللّه الناطق بما يدل على علم اللّه بأسراره)(3).

والقرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، وكتاب ينطق بلغة الأعمال، وهو الكون فكل شيء فيه هو آية تدل على أنه واحد ولكن هذه الآية لا يفهمها إلَّا ذو

ص: 192


1- (1) بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 30 / 40 .
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي: 9/ 183 .
3- (3) القرآن وإعجازه العلمي، محمد اسماعيل إبراهيم: 48 .

قلب سليم وعقل مجرد عن التحيز والتقليد(1).قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(2).

ومن خلال هذا التمعن والتدبر في القرآن الكريم، نجد فيه قضايا علمية تبهر العقول وتعد من الإعجاز في الامور والقضايا العلمية، على الرغم من جهل الجاهلین فيها على حد تصورهم وظن عقولهم، التي اوقفوها في القرآن الكريم على حد القضايا اللغوية أو السحر وماشابه ذلك.

فالقرآن الكريم يخاطب الإنسانية والعقل البشري، لكي يصل الإنسان بعقله وروحه إلى اقصى درجات الكمال في فهم الآيات الالهية التي تتحدث عن الكون وصانعه، يقول سبحانه وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(3)، وقال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(4).ويتضح أن قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم تظهر متجددة يوم بعد يوم، وهذا ما ينبأ عن عظمة الدين الإسلامي وسعة آفاقه في جميع العلوم والمعارف إلا وكان في هذا الكتاب الكريم بيانه.

رابعاً: الإعجاز التشريعي.

ويتمثل بما فصله القرآن بآيات الأحكام وفقه القرآن بما لا عهد لمناخ الجزيرة بتفصيلاته الدقيقة، فقد نظّم حياة الفرد والأمة بأحكام لا مزيد على إبرامها برباط الحرية دون فوضى وبريق الإمتثال دون إستعباد، فالأحوال الشخصية قد نظمت

ص: 193


1- (1) التفسير المبين، محمد جواد مغنية: 272 .
2- (2) سورة العنكبوت: 43
3- (3) سورة فصلت: 53 .
4- (4) سورة ص: 87 - 88 .

بأحكامها الجديدة في الزواج والطلاق والعدة والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح والقصاص والديون والعقود بما لم تسبق إليه أعرق الأمم تشريعاً، وأعمقها تفقهاً، بل كانت مفردات حياة جديدة متأطرة بإطار التطوير الإنساني ثم تكفل القرآن ببيان فروض وواجبات منظمة ضمن الحياة اليومية كالصلاة بفرائضها ونوافلها، وفي جملة من الشهور كالصوم والحج والعمرة، وفي خلال السنة كالزكاة والخمس في المحاصيل والغنائم.

إن هذه الأبعاد المترامية الأطراف في التشريع لا يمكن أن يصدر تعاليمها إلا خالق هذا الكون ومنظم شؤونه، إذ لم تعرف الحضارة البشرية هذا التفصيل الدقيق في نوعية الاحكام وجزئيتها.

يقول أمیر المؤمنین (عليه السلام): «كِتَابَ رَبِّكُمْ [فِيكُمْ:] مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، مُفَسِّراً جُمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ. بَيْنَ مَأْخُوذ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، وَمُوَسَّع عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ، وَبَيْنَ مُثْبَت في الكِتابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُوم في السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَوَاجب في السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّص في الكِتابِ

تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِب بِوَقْتِهِ، وَزَائِل في مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبير أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِير أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ، وَبَيْنَ مَقْبُول في أَدْنَاهُ، ومُوَسَّع في أَقْصَاهُ»(1).

وقوله (عليه السلام) في ذكر في الحج: «وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الاَنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الحَمَامِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ

ص: 194


1- (1) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 26 .

عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتِهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بمَلاَئِكَتِهِ المُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ الاْرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلاِسْلامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمينَ)»(1).

فيتحصل مما تقدم في هذا الفصل: ان القرآن الكريم معجزة الرسول الأبدية التي فيها أخبار الماضین وما ذكر فيه من عبر ومواعظ الأنبياء عليهم السلام ومعاجزهم كمعاجز موسى وعيسى وفيه ذكر الكتب السماوية كزبور داود وتورات موسى وإنجيل عيسى عليهم السلام إلا أن أقوامهم حرّفوا هذه الكتب السماوية وغیروا ما بهذه الكتب حسب مصالحهم لكن من معاجز القران الكريم هو لا يقدر أحد أن يحرفه كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(2)، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(3). ويقول الامام (عليه السلام): «فَالْقُرآنُ...أَتَمَّ نُورَهُ، وَأكْرَمَ بِهِ دِينَهُ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله) وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ. فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ

ص: 195


1- (1) نهج البلاغة خطب الإمام علي (عليه السلام): 1 / 26 .
2- (2) سورة الحجر: 9.
3- (3) سورة يونس: 37 .

وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ(1).

تم إكمال هذا البحث المتواضع بعون اللّه تعالى، فما هذا إلا جهد قليل فإنني لا أدعي لهذا العمل الكمال، فالنقص من طبيعة البشر، ولربما قد فاتني الكثیر ولكنني أسأل اللّه عز وجل أن وفقت فيه لخدمة مولاي أمیر المؤمنین سلام اللّه عليه، وأن يكون هذا العمل بدايةً لإبراز ميدان مهم من ميادين التقدم العلمي والحضاري في مجال الدراسات القرآنية وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمین.

ص: 196


1- (1) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام): 2 / 111.

الخاتمة والاستنتاجات:

بعد هذه الرحلة المميزة مع موضوع علمي كبیر في مصدرين من مصادر التشريع الإسلامي وهما القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع، وكلام أمیر المؤمنین عليه السلام الذي هو المصدر الثالث بعد السنة النبوية الشريفة والقرآن الكريم، لذا كان هذا البحث في بعض القضايا التي جاءت بین القرآن الصامت والقرآن الناطق، وقد وضعنا فيه جهدنا؛ لنصل إلى بعض النتائج التي تضمنها هذا العمل في طياته ومنها:

1- من خلال الوقوف على آثار القرآن الكريم وجدنا أنه يتحدث بلغة الاعجاز: بأن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الالهية بما يخرق نواميس الطبيعة وأن يعجز عنه غیره وتكون شاهداً على صدق دعواه.

2- إن لكل نبي أو رسول معجزة دليل على صدق دعوة نبوته ورسالة، وأنه مبعوث من قبل اللّه تعالى، وخلافا لذلك لا تظهر الحجة الربانية على الخلق، حيث إن القرآن هو معجزة اللّه سبحانه وتعالى ودليل قاطع على صدق نبوة نبينا (صلى اللّه عليه وآله).

3- إن من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم بلاغة القرآن وفصاحته، وما

ص: 197

احتوى على المعارف الكبرى التي جاء بها من صفات اللّه تعالى عدله ومعاده، وإرسال الانبياء والرسل، واستقامة بيانه التشريعي، وأنباءه الغيبية والعلمية التي جاء بها.

4- إن من معالم آثار القرآن الكريم في منهج الإمام أمیر المؤمنين (عليه السلام) هو سر خلوده واستمراره في كل عصر وزمان وأنه كتاب محفوظ حفظت أصوله وسلمت تعاليمه إلى يوم القيامة، يقول عليه السلام: «وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ »(1)،﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ﴾(2)، بعكس الرسالات السماوية الأخرى التي جاءت في وقت معین ثم انتهت على يد المحرفین والمزورين وتجار الدين، فهو قوله تعالى﴿«مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)(3).

5- إن الإيمان بالغيب ضرورة عقلية وحيوية وإنسانية وعلمية وليس بوسع أي إنسان أن يبرهن على عدم وجوده، من حيث إن منطق إنكار الغيب لو أذنت به البشرية لتعطلت مسیرة الحياة ولم يجني الإنسان سوى التيه والتخبط وإنكار الشرائع؛ لأن مسار الغيب فوق مدارك العقل البشري أمرنا أن نؤمن بها لأن ذلك من تمام الإيمان وتعد واحدة من أركانه، فضلاً عن كون إيماننا بها نابع من طلاقة قدرة اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 198


1- (1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 16 .
2- (2) سورة الحجر: 9.
3- (3) سورة النساء: 46 .

6- إن القرآن الكريم سيبقى الأقوى أمام كل الشبهات التي تثار حوله لأنه حقيقة اللطف الالهي والقوة القاهرة بتذليل الارض والسموات لعقل الإنسان،لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، «فَإِنَّهُ حَبْلُ اللّهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ الْأَمِينُ »(1) قال سبحانه وتعالى: ﴿«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)(2).

7- من معالم الآثار التربوية في فكر الإمام (عليه السلام) أسلوب الخطاب القرآني التربوي في مخاطبة العقل والنفس، من خلال تنظيم وصياغة حياة الفرد والمجتمع والسيطرة على الشهوات والاهواء، عبر صناعة الإنسان والانسانية، مما يجعل المجتمع طاهراً ومنظماً تعمه الرحمة والسعادة، يقول (عليه السلام) في وصف القرآن بانه شفاء من جميع الأمراض: «فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأَوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّاَلُ»(3).

8- من خلال البحث وجدنا الإعجاز القرآني يتمثل عبر أمثلة من القصص التي تحتوي في طياتها الحكمة والعلم ومعاني العبرة والموعظة، «لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ»(4).

وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين

ص: 199


1- (1) خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 95 .
2- (2) سورة لقمان: 20 .
3- (3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 2 / 91 .
4- (4) المصدر نفسه 1 / 56 .

ص: 200

المصادر والمراجع

1. الاتقان في علوم القرآن، السيوطي: (ت: 911 ه- ) تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم 1394 ه-/ 1974 م (د. ط).

2. الاحتجاج، ابي منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي (ت: 548 ه- )، منشورات الشريف الرضي (د ط).

3. اختيار مصباح السالكين، ابن ميثم البحراني (ت: 679 ه-): تحقيق وتقديم وتعليق: الدكتور شيخ محمد هادي الأميني، مؤسسة للآستانة الرضوية المقدسة، مجمع البحوث الاسلامية، 1408 - 1366 ش، ط 1.

4. أعيان الشيعة، السيد محسن الاميني (ت: 1952م)، تحقيق السيد حسن الامین، دار التعارف للمطبوعات بیروت، 1403 ه- ( د. ط).

5. الأمثال في القرآن الكريم، الشيخ السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) 1420 اعتماد - قم، ط 1.

6. الأمثل في تفسیر كتاب اللّه المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشرازي، مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام، ط 1: 1426 ه-.

7. الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي: تحقيق مراجعة: محسن الأسدي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1428 - 2007 م ط 1.

8. بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111ه-)، تحقيق: عبد الرحيم الرباني الشیرازي: 1403 ه- - 1983 م: مؤسسة الوفاء - بیروت - لبنان، ط 3.

9. بحوث في تاريخ القرآن وعلومه: السيد میر محمدي زرندي، ( 142 ه- )، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط 1.

ص: 201

10. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي: (ت: 794 ه-) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم): دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي 1376 ه- - 1957 م، ط 1.

11. بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت: 282 ه-)، تحقيق: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير - القاهرة (د.ط).

12. البيان في تفسیر القرآن، السيد الخوئي (ت: 1413 ه-)،: 1395 - 1975 م: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت - لبنان، ط 4.

13. تاج العروس، الزبيدي (ت: 12 05 ه-)، تحقيق: علي شیري، 1414 ه- - 1994 م: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت، (د.ط): 1/ 57 .

14. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن اسحق اليعقوبي (ت: 292 ه- )،دار الكتب العلمية، لبنان، 1419 ه-، ط 1.

15. التبيان في تفسیر القرآن، شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(ت: 460 ه-)،

تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصر العاملي:، 1409 ه-،: مكتب الإعلام الإسلامي، ط1 .

16. تحفة السنية في شرح نخبة المحسنية،السيد عبد اللّه الجزائري (ت: 1173 ه- )، تحقيق: شرح

الجزائري ( د ط).

17. التعريفات، الجرجاني (ت: 816 ه-) تحقيق مجموعة من العلماء: 1403 ه- - 1983 م: دار الكتب العلمية بیروت - لبنان، ط 1.

18. تفسیر الآصفي، المولى محمد محسن الفيض الكاشاني(ت: 1019 ه-)، تحقيق: محمد حسین الدرايتي - محمد رضا نعمتي : مركز الابحاث والدراسات الاسلامية، ط 1، 1418 ه-.

19. تفسیر الصافي، محمد بن محسن الفيض الكاشاني (ت: 1091 ه- )، صححه وقدم له وعلق عليه: الشيخ حسین الاعلمي ، مؤسسة الهادي إيران (د. ط).

20. تفسیر الصراط المستقيم، السيد حسین البروجردي، صححه وعلق عليه: الشيخ غلام

ص: 202

رضا بن علي اكبر، قم، مؤسسة أنصاريان، 1416 ه-، ط 1.

21. تفسیر العياشي، ابو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي (ت: 320 ه-)، تحقيق العلامة سيد هاشم المحلاتي: منشورات مؤسسة الاعلمي بیروت لبنان، (د ط).

22. تفسیر القرآن الكريم، السيد مصطفى الخميني (ت: 1398 ه- )، تحقيق: مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، جمادي الثاني 1418 - 1376 ش، (د. ط).

23. التفسیر المبین، محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه- )، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي: 1403 - 1983 م، ط 2.

24. تفسير المنار، محمد رشيد رضا الحسيني: (ت: 1354 ه-)، 1366 ه- - 1947 م، ط 2.

25. التوحيد، الشيخ ابي محمد المفضل بن عمر الجعفي الكوفي (ت: في اواخر القرن الثالث) تحقيق قيس العطار، دار المرتضى - بیروت لبنان، ط 1، 1037 - 1110 ه-.

26. ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق (ت: 381 ه-)، تحقيق: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، 1368 ش، منشورات الشريف الرضي - قم، ط 2.

27. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي( ت: 671 ه-)، تحقيق و تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان ( د ط).

28. جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت: 321 ه-) تحقيق: رمزي منیر بعلبكي، دار العلم للملايین - بیروت، (ط 1 1987 م ).

29. جواهر الكلام، الشيخ الجواهري (ت: 12 66 ه-) تحقيق: تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني: 1365 ش، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 2.

30. حاشية رد المحتار، ابن عابدين (ت: 12 52 ه-)، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، 1415 ه- - 1995 م، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت - لبنان (د. ط):

31. الحدائق الناضرة، المحقق البحراني (ت: 1186 ه-)، تحقيق وتعليق: محمد تقي الإيرواني: مؤسسة النشر الإسلامي، قم المشرفة، (د ط).

32. حياة الإمام الحسین (عليه السلام)، الشيخ باقر شريف القرشي (ت: 1433 ه-)، مطبعة

ص: 203

الآداب - النجف الأشرف 1394 - 1974 م، ط 1.

33. خزانة الأدب، البغدادي (ت: 1093 ه- )، تحقيق: محمد نبيل طريفي/إميل بديع اليعقوب، بیروت - دار الكتب العلمية 1998 م، ط 1.

34. دائرة المعارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، دار المعرفة بيروت لبنان، ط 2.

35. الدر المنثور في التفسیر بالمأثور، جال الدين السيوطي (ت: 911 ه-)،: دار المعرفة للطباعة والنشر - بیروت لبنان، (د ط).

36. رسائل آل طوق القطيفي: أحمد بن الشيخ صالح آل طوق القطيفي (ت: 1245 ه-)، تحقيق: تحقيق ونشر شركة دار المصطفى صلى اللّه عليه وآله لإحياء التراث، 1422 - 20 م دار المصطفى صلى اللّه عليه وآله لإحياء التراث ط 1.

37. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى (ت: 436 ه-)، تحقيق: تقديم: السيد أحمد الحسيني / إعداد: السيد مهدي الرجائي، مطبعة الخيام: دار القرآن الكريم - قم، 1405 (د ط).

38. روضة المتقین في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي (الأول): (ت 1003 ه-):تحقيق: علي بناه الاشتهاردي - حسین الموسوي الكرماني: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسن كوشانيور، ط 1.

39. رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام) السيد علي خان المدني الشیرازي (ت: 1120 ه- )، تحقيق: السيد محسن الحسيني الأميني، مؤسسة النشر الإسلامي، محرم الحرام 1415 ، ط 4.

40. زاد المسیر في علم التفسیر ابن الجوزي (ت: 597 ه-)، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد اللّه، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: جمادى الأولى 1407 - كانون الثاني 1987 م، ط 1.

41. سفينة البحار، الشيخ عباس القمي (ت: 1294 - 1359 ه-)، تحقيق: مجمع البحوث الإسلاميّة التابع للآستانة الرضويّة المقدّسة. دار الاسوة للطباعة والنشر 1416 ط 2.

ص: 204

42. شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني (ت: 1081 ه- )، تحقيق مع تعليقات: المیرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، 1421 - 2000 م، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت - لبنان، ط 1.

43. شرح رسالة الحقوق، الإمام زين العابدين (عليه السلام) (ت: 94 ه-)، تحقيق: شرح: حسن السيد علي القبانچي، 1406 ه-، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر، ط 3.

44. شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني (ت: 679 ه-) تحقيق: عني بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها: 1362 ش: مركز النشر مكتب الاعلام الاسلامي - الحوزة العلمية - قم - ايران، ط.

45. شرح نهج البلاغة،ابن أبي الحديد، (ت: 656 ه-)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم::مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، (د ط).

46. الصحيح من سیرة النبي الأعظم (صلى اللّه عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي، دار الحديث للطباعة والنشر - قم - ايران، 1426 - 1385 ش، ط 1.

47. الصحيفة السجادية الإمام زين العابدين (عليه السلام) (ت: 94 ه-)، تحقيق: السيد محمد باقر الموحد الابطحي الأصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) / مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر - قم 25 محرم الحرام 1411 ه-، ط.

48. الظن، السيد كمال الحيدري، تحقيق: محمود نعمة الجياشي: 1429 - 2008 م مطبعة: ستاره، دار فراقد للطباعة والنشر، ط 1.

49. العلم والحكمة في الكتاب والسنة: محمد الري شهري، تحقيق مؤسسة دار الحديث الثقافية، ط 1.

50. علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم (ت: 1425 ه-)، مؤسسة الهادي - قم: مجمع الفكر الإسلامي، ربيع الثاني 1417 ه-، ط 3.

51. عوائد الأيام، المحقق النراقي (ت: 1244 ه-)، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، 1417 - 1375 م، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي (د ط).

ص: 205

52. العین، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175 ه-)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي - الدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة - ايران - قم،، 1409 ه-، ط 2.

53. عيون الحكم والمواعظ،علي بن محمد الليثي الواسطي: تحقيق: الشيخ حسن الحسني البيرجندي، دار الحديث، ط 1، 1376ه-. ش.

54. الغدير، الشيخ الأميني (ت: 1392 ه- )، دار الكتاب العربي - بیروت - لبنان 1397 - 1977 م، ط 4.

55. الغيبيات في نهج البلاغة دراسة تاريخية موضوعية، غزوان عبد الكاظم المرزوك، مؤسسة علوم نهج البلاغة (العتبة الحسينية)، 1437 ه- - 2016 م، ط 1.

56. فقه القرآن، قطب الدين الراوندي (ت: 573 ه-) تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مكتبة آية اللّه العظمى النجفي المرعشي، ط 2 - 1405 ه-.

57. الفقه والمسائل الطبية، الشيخ محمد آصف المحسني: ياران - قم،ط 1.

58. الفوائد الطوسية: الحر العاملي (ت: 11 04 ه-)، تحقيق: علق عليه وصححه العالمان المتتبعان الحاج السيد مهدي الازوردي والشيخ محمد درودي: شعبان 1403 المطبعة العلمية - قم (د ط).

59. في رحاب القرآن: السيد محمد تقي المدرسي: دار محبي الحسين (عليه السلام) (د ط).

60. في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه-)، 1427 ه-، مطبعة ستاره: انتشارات كلمة الحق، ط 1.

61. فيض القدير شرح الجامع الصغیر، المناوي (ت: 1031 ه- )، تحقيق: تصحيح أحمد عبد السلام، 1415 - 1994 م، دار الكتب العلمية - بیروت (د ط).

62. الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329 ه- )، تحقيق: تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، 1365 ش، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 4.

63. الكافي، الشيخ الكليني: 1/ 229 ، وينظر: بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت: 290 ه-)، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج میرزا حسن كوچه باغي،

ص: 206

سنة الطبع: 1404 - 1362 ش، منشورات الأعلمي - طهران (د. ط).

64. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلي (ت: 726 ه- )، تحقيق الآملي، 7141 ه-، مؤسسة نشر الإسلامي - قم، ط 7.

65. الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (ت: 1094 ه-) تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري: مؤسسة الرسالة - بروت (د. ط).

66. لسان العرب - محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى: (ت: 711 ه- ): دار صادر - بیروت ط 3 - 1414 ه-.

67. مجمع البحرين، العالم المحدث الفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي (ت: 1085 ه- )، تحقيق أحمد الحسيني:المكتبة المرتضوية لا حياء الاثار الجعفرية (د. ط).

68. مجمع البيان، الشيخ الطبرسي (ت: 548 ه-)،: تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققین الأخصائيین: 1415 - 1995 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت - لبنان (د.ط)

69. مجمع الفائدة، المحقق الأردبيلي (ت: 993 ه-)، تحقيق: الحاج آغا مجتبى العراقي، الشيخ علي پناه الاشتهاردي، الحاج آغا حسن اليزدي الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ذي الحجة 1414 ط 1.

70. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشاني (ت: 1091 ه- )، تحقيق صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، انتشارات إسلامي وابسته به جامعه مدرسین حوزه علميه قم، ط 2.

71. المحيط في اللغة،إسماعيل بن عباد بن العباس، أبو القاسم الطالقاني، المشهور بالصاحب بن عباد (ت: 385 ه-)، تحقيق: محمد حسن آل ياسین، 1414 ه-- 1994 م بیروت لبنان ط 1.

72. مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي (ت: 721 ه-)، تحقيق: ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين، 1415 - 1994 م دار الكتب العلمية - بیروت - لبنان ط 1.

ص: 207

73. مختصر كتاب الفارق بین المخلوق والخالق، الباچچي زاده، تحقيق: تلخيص وتصحيح: هيئة محمد الأمین، فرع مركز الأمین في مدينة قم، (د. ط).

74. مدينة المعاجز السيد هاشم البحراني: (ت: 1107 ه- )، تحقيق: الشيخ عزة اللّه المولائي الهمداني 1413 : مؤسسة المعارف الإسلامية - قم - ايران ط 1.

75. مستدرك نهج البلاغة،الشيخ هادي كاشف الغطاء (ت: 1361 )، منشورات مكتبة الأندلس، (د ط).

76. مسند الإمام علي (عليه السلام): السيد حسن القبانجي: تحقيق: التحقيق: الشيخ طاهر السلامي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بیروت - لبنان، (ط 1، 1421 - 2000 م).

77. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: (ت: 460 ه-): مؤسسة فقه الشيعة - بیروت - لبنان سنة 1411 - 1991 م، ط 1.

78. مطارح الأنظار،الشيخ الأنصاري (ت: 1281 ه- )، ط 1.

79. معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ت: 395 ه-)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي،(د. ط)، 1404 ه-.

80. مفاتيح الجنان، الشيخ عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (ت: 1359 ه-- 1940 م) دار الاضواء بیروت لبنان (د. ط).

81. مفاهيم القرآن، جعفر السبحاني، مؤسسة الإمام الصادق، إيران،(د. ط).

82. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني (ت: 425 ه-)، دفتر نشر الكتاب 1404 ه-(د ط).

83. مكارم الأخلاق، الشيخ رضي الدين نصر الحسن بن الفضل الطبرسي (ت: 548 ه-)، ط 6، 1392 - 1972م.

84. الملائكة في نهج البلاغة، محمد حمزه الخفاجي، سلسلة الكتب العلمية مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1.

ص: 208

85. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588 ه- )، تحقيق: تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف: 1376 - 1956 م(د. ط).

86. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب اللّه الهاشمي الخوئي (ت: 1324 ه- )، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، مطبعة الاسلامية بطهران، الناشر: بنياد فرهنگ امام المهدي(عج)، ط 4.

87. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين الراوندي (ت: 573 ه-)، تحقيق: السيد عبد اللطيف الكوهكمري مكتبة آية اللّه المرعشي العامة - قم، 1406 ه- (د.ط).

88. ميزان الحكمة، محمد الري شهري، تحقيق: دار الحديث، ط 1.

89. الميزان في تفسیر القرآن، السيد الطباطبائي (ت: 1402 ه-)،: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (د. ط).

90. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، المقداد السيوري (ت: 826 ه-)، تحقيق المقداد السيوري، 1417 ه- - 1996 م، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت - لبنان، ط 2.

91. نفحات الولاية شرح نهج البلاغة،الشيخ ناصر مكارم الشرازي، بیروت لبنان 1430 ه- 2009 م ط 1.

92. النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد (ت: 413 ه-)، تحقيق: رضا المختاري، دار المفيد، بیروت - لبنان، 1414 ه- - 1993 م، ط 2.

93. نهج البلاغة خطب الإمام علي ( عليه السلام )، الشيخ محمد عبده (ت: 1323 ه-)، 1412 ه- - 1370 ش: النهضة - قم، دار الذخائر- ايران، ط 1.

94. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت - لبنان (د. ط).

95. الهدى إلى دين المصطفى: الشيخ محمد جواد البلاغي (ت: 1328 ه-)، 1405 ه- - 1985 م،

ص: 209

مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت - لبنان، (د ط).

96. الوافي، الفيض الكاشاني (ت: 1091 ه-) تحقيق: مركز التحقيقات الدينية والعلمية في مكتبة الإمام أمیر المؤمنین علي (عليه السلام): ربيع الثاني 1416 ه- . ق، شهريور 1374 ه- . ش، مكتبة الإمام أمیر المؤمنین علي (عليه السلام) العامة - أصفهان ط 1.

97. الوسائل: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت: 11 04 ه-)، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ايران قم (د. ط).

ص: 210

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.