استراتيجيات الخطاب عند الامام علي عليه السلام

اشارة

بَحرُ العلمِ و مَدَارُ الحَق

رقم الإیداع فی دارالکتب والوثائق العراقیة

1360 لسنة 2016 م

رقم مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda .

رقم تصنیف LC : BP38.08 .A25 2016 .

المؤلف شخصی: خضیر، باسم خیري.

العنوان : استراتیجات الخطاب عند الإمام علی (علیه السلام )مقاربة تداولیة

بیان المسؤولیة: الدکتور باسم خیري خضیر.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی

بیانات النشر: کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة

سلسلة النشر: الکتب العمیة - وحدة علوم اللغة العربیة - مؤسسة علوم نهج البلاغة

تبصرة عامة:

تبصرة ببیلو غرافیة: الکتاب یتضمن هوامش- لائحة المصادر. (الصفحات:(222-226)

تبصرة محتویات:

موضوع شخصی: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 هجریاً- خطب- تحلیل المضمون.

موضوع شخصی: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 هجریاً- خطب- بلاغة.

موضوع شخصی: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 هجریاً- خطب- حوار.

مصطلح موضوعی: التداولیة - تاریخ و نقد.

مصطلح موضوعی: البلاغة العربیة.

مصطلح موضوعی: الخطابة العربیة.

مصطلح موضوعی: علم الدلالة.

مؤلف إضافی: الحسنی، نبیل قدوری، 1965، مقدم.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الكتب العلمية

وحدة علوم اللغة العربية (8)

اِستِرَاتیجیاتُ عندالإمام علی

مقاربة تداولیة

تألیفُ باسِم خَیري خُضیَر

إصدَار

مؤسسةُ عُلُومِ نَهجُ البَلَاغةِ

فیِ العَتبةِ الحُسنیَّةُ المُقَدَسَةُ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه- 2017 م شارع السدرة

- مجاور مقام علی الاکبر (علیه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600

07815016633

هاتف: 07728243600

07815016633

الموقع ا الكتروني : www.inahj.org

الايميل: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *

«وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )

صَدَقَ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيم

(الزلزلة 6- 7- 8)

ص: 5

ص: 6

الإهداء إلى ...أمّ أبيها...

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم و له الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها و أفضل الصلاة وأتمّ التسليم على خير الخلق أجمعين محمد وآله الأطهار الأخيار.

أما بعد:

لا يخفى على اهل العلم والمعرفة إن كلام الإمام علي عليه السلام لم يزل يسير جنباً الى جنب مع كلام القرآن وملازماً له ومن ثم جعل الله تعالى له التجدد المعرفي والاصلاحي في كل وقت وزمان غير آبهٍ لما يزهو به البعض في الحواضر العلمية هنا أو هناك فكل جديد لا يصمد أمام نور علومه، وكل باحث ينحني أمام معارفه لو عقل ما يقول علي (عليه الصلاة والسلام).

حقيقة قد لا يطأطئ لها من شغلهم بريق التطور والمادة فانكروا ما يقولوه العاقلون ونفروا مما يعلمه العارفون، والناس اعداء ما جهلوا ومما جهلوا اقوال اميرالمؤمنين (عليه السلام) وهو القائل:

(لا يعرف ما اقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق وجرى فيها على عرق، (وَمَايَعْقِلُهَا إِلّاَ الْعَالمُونَ ).

والبحث الذي بين ايدينا الموسوم ب- (استراتيجيات الخطاب عند الإمام علي عليه السلام

ص: 9

مقاربة تداولية) للباحث الدكتور باسم خيري خضير إلا واحد من الابحاث الرصينة التي وفق فيها الباحث واجاد في مجالها المعرفي إلا وهو علم اللسانيات وابدع في أحد مناهجها المعاصرة وهو التداولية ووفق في مقاربتها مع تلك الفصول التي تخللها البحث.

فبين الانزياحات اللفظية والاسلوبية وارتكازها في المكونات النفسية وامتزاجها مع علم النفس الاجتماعي كما شهدته الخطبة الشقشقية ، على بيان الدلالات الاقتضائية في هذه الخطبة واظهار اصل الاقتضاء التخاطبي فيها.

ثم الانتقال الى عنصر الحجاج الذي يعد من اهم الاستراتيجيات الاقناعية الفعالة التي يستعملها المتكلم بغية اقناع المتلقي بفحوى خطابه فكان اختيار الباحث لخطبة الجهاد كعينة لهذا الاصل الذي ارتكزت عليه التداولية فوفق في هذه المقاربة.

وانتقالاً الى نظرية الافعال الكلامية وتحليله لاسلوبي الاستفهام والأمر في بعض خطب امير المؤمنين عليه السلام .

ومروراً بالاستلزام الحواري الذي يمثل المعنى في النظرية التداولية واظهار فكرة التعبير عن المعاني الضمنية او ما وراء الخطاب.

وانتهاءاً بالحالة النصية وبيان الروابط الاحالية التي تربط النص الشريف كما جاء في عينة الدراسة لهذا الركن الاساسي الذي قامت عليه التداولية وهي خطبة الأشباح فقد كشف الباحث فيها عن بعض عناصر الاتساق النصي، ليختتم دراسته بجملة من النتائج فكان عملاً مباركاً بذل فيه الباحث جهده وعلى الله اجره.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

السیَدَّ نَبیل قَدٌوری حَسنِ الحسَنی

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 10

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد: قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ »(1)

تعد المناهج اللسانية المعاصرة من الأهمية بمكان؛ لأنها تستشعر حقيقة الأدب واللغة والخطاب بصورة عامة، بما يقارب المفهوم العلمي والعملي , وذلك في تناولها للقضايا بدقة ووضوح وشمولية أكثر من المناهج القديمة،التي توقفت عند حدود وصف الصورة الكتابية، أو اللسان بصورة أدق، مستغنية عن كل ملابسات الخطاب، وظروف إنتاجه، والسياقات المقامية التي أنتجته. وتعد التداولية أفضل تلك المناهج وأصلحها بما تطلع به من استراتيجيات فعالة في كشف حقيقة الخطابات، ولاسيما الخطاب الذي نروم الغوص فيه، بكل ما يحمل من قيمة عليا، وألق متوهج لم ينطفئ على مدى العصور. لقد استطاعت التداولية القفز فوق كل المناهج اللسانية، واستفادت من المنهج البنيوي وطورته، ومن المنهج التحليلي والتفسيري. لقد تعاملت النظرية التداولية مع الخطاب باحترافية واهتمام كبريين، بوصفه فعلا ثقافيا عاليا، ينتج من متكلم منتم إلى حاضنة فكرية ومعرفية، أثرت في إنتاجه، فلم يعد بعد ذلك العمل الإبداعي منعزلا عن السياق الذي ولد فيه، وإنما متجسد فيه، ومجسد له، وأصبح الخطاب نظام كشف عن المتكلم والمتلقي، آخذا بعين الاعتبار كل الإسقاطات الفكرية والتاريخية الثقافية

ص: 11


1- فاطر: 10

والنفسية والاجتماعية لطرفي الخطاب هذين، ودمجها بفعل الخطاب، مولدة بذلك مولود ناضج فذ قادر على فهم كل كنه تلك الأعمال الإبداعية، ومسوق لها، ومتبن لكثير من التفسيرات التي ظلت عصية على المنهج الصوري الكلاسيكي.

لعلي هنا أتبنى بأن المنهج التداولي خير ما يمكن أن يحلل ويستكشف ويخوض في كتاب نهج البلاغة، وذلك للميزات التي تميز فيها خطاب الإمام (عليه السلام)،التي تتساوق مع النهج التداولي، بأبعاده الفكرية والثقافية،فقد انطوى نهج البلاغة على تصوير دقيق لنفسيات الناس المختلفة، وبتعبير آخر أنه اشتمل على نوع من علم النفس الاجتماعي، وهو من أهم العلوم التي امتزجت مع النهج التداولي، وكذلك فلأبعاد النفسية التي ظهرت معبرة عنها تلك الكلمات واضحة، فخلجات نفسه(عليه السلام) ظاهرة في كثير من خطبه، ولاسيما الخطبة الشقشقية وغيرها، مما يمكن للمحلل التداولي تفسير تلك العبارات والانزياحات اللفظية والأسلوبية في ضوء الوظيفة التي أدتهاالتي تطلع بها والكشف عن الاستراتيجيات المستعملة في خطابه (عليه السلام)، لا على أساس صوري بحت، بل على أساس وظيفي برغماتي.

ابتدأ البحث في تمهيد تحدثت فيه عن أصول النظرية التداولية، في الدراسات التي سبقت وجود النظرية، وكذا المرجعيات المعرفية لها، والجدل الحاصل في تعريفها، والاضطراب في ترجمة المصطلح الأجنبي، وعلاقة النظرية بالعلوم اللسانية الأخرى، ولاسيما البلاغة وعلم الدلالة وتحليل الخطاب، ومفهوم الاستراتيجيات بصورة عامة، وكذلك علاقة النهج التداولي بالمنهج البنيوي، ثم تحدثت عن مزايا هذه النظرية من جانب التحليل، وعلاقتها بالمناهج النقدية السائدة.

ثم عرضت في الفصل الأول لأصل مهم من أصول النظرية التداولية، وهوالاقتضاء التخاطبي، ونعني به تلك المشتركات المعرفية بين طرفي الخطاب، التي كثيرا

ص: 12

ما يترك بعض الكلام اعتمادا عليها، فعرضت لتعريفه، ومرجعياته في التراث اللغوي العربي، وكذلك بداية ظهوره في النظرية اللسانية المحدثة، وأقسامه، ومميزاته، وقوانينه،ثم انتقلت لأكشف عن تجليات النظرية في أحد النصوص المهمة من خطابه (عليهالسلام)، فاخترت الخطبة الشقشقية للإمام علي (عليه السلام) وحاولت أن أبحث عن الدلالات الاقتضائية في الخطبة، والكشف عن الاستراتيجيات التي استعملها الإمام في تلك الخطبة.

ثم عرضت في الفصل الثاني لأصل آخر وعنصر هام من عناصر النظرية، وهوالحجاج، الذي يعد من أهم الاستراتيجيات الإقناعية الفعالة التي يستعملها المتكلم بغية إقناع المتلقي بفحوى خطابه. فقمت بتتبع أصول الحجاج المعرفية، منذ بداية نشأته على يد اليونان، ثم تطوره في العصور اللاحقة، وكذا لأهم عناصر الحجاج ومجالاته، و قسمته إلى حجاج فلسفي وآخر بلاغي، وثالث تداولي، ثم اخترت خطبة مهمة من خطب الإمام علي (عليه السلام) وهي خطبة الجهاد، التي مثلت منهاجا عظيما وراسخا لمن جاء بعده، في شحذ الهمم، ورفع الروح المعنوية، والتصدي لمن يريد العبث بالبلاد الإسلامية؛ لما في الخطبة من ادوار معرفية، تتابعت فيها آليات إقناعية مهمة، وظفهاالإمام في سبيل الوصول إلى غايته المنشودة، وهي فوز الناس بنعمة الجهاد.

ثم جاء الفصل الثالث مستعرضا لبؤرة النظرية التداولية المتمثلة بنظرية الأفعال الكلامية، ومرجعياتها، والمراحل التاريخية التي مرت بها النظرية، ابتداء بمقالات أوستين، وتقسيماته للفعل الكلامي، وما أعقبتها من توجهات تلميذه سورل، الذي أضاف على النظرية وطورها، وقام بتقسيم أفعال الكلام على تقسيمات أخر، وبعد ذلك قمت بتطبيق الأفعال الكلامية على خطابات مهمة من خطاباته (عليه السلام) تمثلت في تحليل أسلوبي الاستفهام والأمر في بعض منها،وأهم الاستراتيجيات المستعملة في هذين الأسلوبين. وقمت بتحليل تلك الأساليب والكشف عن القوة الإنجازية لها.

ص: 13

ثم جاء الفصل الرابع مستعرضا لركن آخر من أركان النظرية التداولية، وهو الاستلزام الحواري، الذي يمثل المعنى في النظرية التداولية، وواضعه غرايس، الذيبلور فكرة التعبير عن المعاني الضمنية، أو ما وراء الخطاب، فعرضت لفكرة المستلزمات الخطابية، وعرجت على نشأة المصطلح وتجلياته في التراث العربي، وأقسام الاستلزام الحواري، ومميزاته، ثم انتقلت إلى اكتشاف الاستلزام في خطابات مهمة في كلامه (عليه السلام) وخصوصا في مباحث الاستعارة والكناية.

بعد ذلك جاء الفصل الخامس، عرضت فيه للركن الخامس من أركان الدرس التداولي، وهي نظرية الإحالة النصية، التي تعنى بربط النص على المستويين الداخلي والخارجي، بجملة من الروابط الإحالية، ومراعاة سياقات الخطاب،

والمقامات الحوارية. فبدأت بتعريف النص وأنواع الروابط النصية، وركزت على الإحالة منها، فعرضت لأنواعها، و للروابط الإحالية، ثم كشفت عن عناصر الربط الإحالي في خطبة مهمة من خطبه (عليه السلام) وهي خطبة الأشباح وكشفت بعضا من عناصر الاتساق النصي فيها.

وأخيرا فإني لا أدعي الوصول إلى غاية المأمول في القول، ولكنها محاولة من ضمن كثير من المحاولات، ونقطة في بحور فيض علم علي (عليه السلام). وما توفيق ذلك مني، ولكن هو من توفيق الله إذ مكنني في الغور- على استحياء- في ذلك البحر الهائج، لعلي أستريح بأن أصل إلى شواطئ النعم منه، إنه على ما يشاء قدير: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »(1) والحمد لله أولا وآخر ثم أتم الصلاة وأكمل التسليم على حبيبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

ص: 14


1- البقرة: 286 .

التمهيد / التداولية (النشأة والتقبل):

توطئة

اشارة

يمكن لنا أن نرجع أصل التداولية إلى اتجاهين مختلفين: اتجاه ينطلق في دراسة التداولية من كونها نظرية في التعامل الاجتماعي، تهتم بالجانب الاستعمالي، أي استعمال اللغة بزعامة «أوستن » واتجاه فلسفي منطقي تعود جذوره إلى «بيرس » الذي أطلق عليها اسم «البراغماتية عام 1905» ، و « وليم جيمس» الذي سماها بالذرائعية عام 1978. ومنه فإن البراغماتية اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير بدأت على يد سقراط، ثم تبعه أرسطو، والرواقيون بعد ذلك.

يعود مصطلح التداولية بمعناها اللساني المحدث إلى الفيلسوف والسيميائي الأميركي (شارل موريس) إذ عرفها بأنها جزء من السيميائية، تهتم بدراسة العلاقات بين العلامات ومستعمليها، وتمثل التداولية - بحسب رأيه - أحد عناصر ثلاثة يمكن من خلالها معالجة اللغة في ضوئها، سواء أكانت لغات طبيعية (langues naturelles) أم لغات صورية ( formelles langues ) وهي:

1. التركيب ( syntaxe ): وهو دراسة علاقات العلامات فيما بينها وبين الأشياء، أي ارتباطها بالمعنى، أوالداليات؛ لأنها تختص بالوصف وتفسير الدال الطبيعي في نطقه وصوره وعلاقاته، وتشمل الأقسام الثلاثة (الصوت والصرف والتركيب).

ص: 15

2. الدلالة ( sémantique ): ويُعنى بدراسة العلاقات الشكلية بين العلامات، أو الدلاليات وهي الدراسة التي تختص بوصف العلاقات التي تجمع بين الدوال الطبيعية ومدلولاتها وتفسيرها، سواء أكانت تصورات في الذهن أم أعيانا في الخارج.

3. التداولية ( pragmatique ): وهي دراسة ارتباط العلامات بمؤوليها أي بمستعمليها، أو الدراسة التي تختص بوصف العلاقات التي تجمع بين الدوال الطبيعية ومدلولاتها من جهة، والدالين عليها من جهة أخرى.(1)

ولا تنتمي التداولية إلى أي من مستويات الدرس اللغوي صوتيا كان أم صرفيا أم نحويا أم دلاليا لذلك فالأخطاء التداولية لا علاقة لها بالخروج على القواعد الفونولوجية أو النحوية أو الدلالية، وهي ليست مستوى يضاف إلى هذه المستويات؛ لأن كلا منها يختص بجانب محدد ومتماسك من جوانب اللغة، وله أنماطه التجريدية ووحداته التحليلية، وكذلك فالتداولية لا تقتصر على دراسة جانب محدد من جوانب اللغة، بل من الممكن أن تستوعبها جميعا، وليس لها أنماط تجريدية ولا وحدات تحليل.

وهي كذلك لا تنضوي تحت علم من العلوم التي لها علاقة باللغة على تداخلها معها في بعض جوانب الدرس ك:علم الدلالة:الذي يشاركها دراسة المعنى، وعلم اللغة الاجتماعي: الذي تتشارك معه في تبيين أثر العلاقات الاجتماعية بين المشاركين في الحديث وموضوعه ومرتبة كل من المتكلم والسامع وجنسه، وأثر السياق غير اللغوي في اختيارالسمات اللغوية وتنوعاتها، وعلم اللغة النفسي:الذي يشارك التداولية الاهتمام بقدرات المشاركين التي تؤثر في أدائهم مثل: الانتباه والذاكرة والشخصية، وتحليل الخطاب: ويشتركان في الاهتمام أساسا بتحليل الحوار، ويقتسمان عددا من المفهومات الفلسفية

ص: 16


1- ينظر في أصول احلوار وجتديد علم الكالم، د. طه عبد الرحمن / 28.

واللغوية كالطريقة التي توزع بها المعلومات في جمل أو نصوص، والعناصر الإشارية، والمبادئ الحوارية، وسنحاول فيما يأتي بيان علاقة التداولية بعض تلك العلوم القريبة منها:

1. ينظر في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، د. طه عبد الرحمن / 28 .

واللغوية كالطريقة التي توزع بها المعلومات في جمل أو نصوص، والعناصر الإشارية،والمبادئ الحوارية، وسنحاول فيما يأتي بيان علاقة التداولية بعض تلك العلوم القريبة منها:

أولا: علاقة التداولية بعلم الدلالة:

تعد كل من التداولية والدلالة علمين مترابطين لاشتراكهما بدراسة المعنى بكل جوانبه فالدلالة تدرس المعنى وفقا للوضع بمعزل عن السياق وبعيدا عن المقامات التخاطبية. أما التداولية فتهتم بدراسة المعنى وفقا لاستعماله مراعية في ذلك ظروف المتكلمين ومقاصدهم والسياق المناسب لها.إلا أن ثمة رأي يذهب إلى أن علم الدلالة يعنى بدراسة اللغة ليس بمعزل عن السياق ف” السيمانتيكية تعالج معنى الجملة في إطارأدني من الإشارة إلى المقام، بينما التداولية اللغوية تتولى المعنى ضمن إطار المقام المحدد المعالم والمقاصد)).(1) ومن هنا يتضح التداخل والتكامل بين العلمين،فالتداولية تبدأ من حيث تنتهي الدلالة، إذ تقوم الدلالة بتفسير الملفوظات وتحييد معانيها الحرفية في إطارأدنى من الإشارة إلى المقام، لكن دون الاهتمام بمقاصد المتكلمين، ثم تأتي التداولية لربط مقاصد المتكلمين بالمقام المناسب لهم مراعية في ذلك شروط نجاح أو إخفاق العبارات الكلامية في إطار السياق الذي ترد فيه -فهي على عكس الدلالة -تدرس العلاقات بين النص والسياق ومهتمة بها في الوقت نفسه.(2)

ص: 17


1- ينظر علم الدلالة السانتيكية والبرجماتية في اللغة العربية، شاهر الحسن، دار الفكر للطباعة والنشر(الأردن)ط 1، 2001 / 160 .
2- ينظر الأفعال الكلامية في سورة الكهف / 42 .

ثانيا:علاقة التداولية بالبلاغة:

نسعى في هذا الجانب إلى السير خلف منهج اقترحه عدد من الباحثين، يدور حول لسانيات الخطاب وعلاقاتها بالأنساق الثقافية، ونرى فعالية تداخل الأنساق الثقافية كافة مع المعطى اللساني. وعلاقة التداولية بعلوم البلاغة في هذا الإطار، فالبلاغة من العلوم الغنية التي ارتبط وجودها بالدفاع عن القرآن الكريم، كونه يمثل رسالة تواصلية بين الخالق وخلقه. فلم تكن نشأة البلاغة مرتبطة بالعلوم العقلية، أو اللسانية فحسب، بل هو مزيج من هذا وذاك؛ لذا إننا نقرأ عن ابن المقفع عندما سئل عن البلاغة فأخذ يمزج في تعريفه بين علم البلاغة وعلوم شتى، يقول: «البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى،والإيجاز هو البلاغة ».(1)

تقوم البلاغة على مبدأ التبليغ والتأثير في السامع أثناء عملية التواصل. ومن هنا يصبح التداخل واضحا بين العلمين، إذ إنهما يشتركان في اهتمامهما بدراسة اللغة بوصفها أداة تبليغ وتأثير وتواصل بين المتكلمين، ف- » البلاغة تداولية في صميمها؛ إذ أنها ممارسة الاتصال بين المتكلم والسامع، بحيث يحلان إشكالية علاقتهما، مستخدمين وسائل محددة للتأثير على بعضهما، ولذلك فإن البلاغة والتداولية البرغماتية تتفقان في اعتمادهما على اللغة كأداة لممارسة الفعل على المتلقي ».(2)

ص: 18


1- البيان والتبيين 1/ 115 - 116 .
2- ينظر التداولية البرجماتية الجديدة، خطاب ما بعد الحداثة، ليتش / 66 - 67 .

ثالثا / علاقة التداولية بالبنيوية والتفكيكية:

لقد جاءت التداولية بعد خماض منهجي عسري تدرجت فيه مناهج الدرس اللساني،المحدث، فكما هو معلوم أن البحوث اللسانية قد اهتمت بالدراسات اللغوية من جمیع جوانبها، وما تثريه هذا الدراسات من قضايا جوهرية علي شاكلة أصل اللغة ونشأهتا وتطورها وجوانب التطور في معانيها، وتراكيبها وأصواهتا، لكن الذي ساد هذه التوجهات في تتناولها اللغة بالدراسة والبحث، تركيزها علي الجانب الصوري الوصفي، والنظر للغة علي أساس أنها بناء هيكل هندسي مستقل داخليا عن العالم الخلارجي، فالتحليل البنيوي قائم علي نظرتین: الأولي استقلالیة الخطاب عن أية ملابسات أوظروف خارجية، والأخري تشابك وحداته وترابطها فیما بينها داخليا، ومن ثم فالبنيوي يدرس اللغة في ذاهتا و لذاتها، وهو ميل نحو النزعة الصورية، وهي نزعة نجد جذورها، وبصورة واضحة فی الفلسفة الوضعية، التي كانت تمثل فلسفة العصر - آنذاك - ونموذجا يتبع فی أغلب المجالات المعرفية، وعلي رأسها الدراسات اللغوية، وأدت هذه النزعة إلی قيام تصورلا يولي الاهتمام ألا إلی الجملة الخربية المتضمنة معنى معينا، القابلة للتحليل المنطقي بالمعنى الذي يعطيه هذا التصور للمنطق، كما تأثرت هذه الدراسات بالتصور السوسیري البنيوي للنشاط اللغوي، وبمفهوم التواصل الذي أقترحه هذا التصور. فقد أكد سوسیر أن التواصل هو الوظيفة األساسية للغة، والتواصل حسب فهمه عملية نقل المعلومات، والإخبار من مرسل إلی متلقي، إذ يقوم الطرف الأول بنقل معلومة إلی الطرف الثانی، الذي لم يك عارفا بها- ليس إلا - فوظيفة اللغة هي الأخبار فقط (1) وتقوم البنيوية علی جمع الصوراللفظية المختلفة داخل أية لغة ثم وصف العلاقات بین تراكيبها المختلفة، علی مستوى الروابط والتراكيب، وكذلك عموديا على

ص: 19


1- ينظ-ر الحجاجي-ات اللس-انية عن-د أنس-كومبر وديك-رو، د. الرش-يد ال-رايض، ع-امل الفك-ر الع-دد 1 / م-ج34 ،2005 م / 214.

مستوى العناصر الصرفية في اللغة الواحدة.

لقد وقعت البنيوية أسيرة النسق والنظام، لاسيما وهي تجرد النص الإبداعي من كل مرجعياته الثقافية، بحجة عزل بناه الأساسية وربطها مع البنى الأساسية للقواعدوالمنطق، إتباعا لمقولات الشكلانيين الروس ومفاهيمهم، فانشغلت البنيوية باللغة لا بوصفها أداة تعبير، بل بوصفها غاية لذاتها، وإيغالا في ذلك عمد البنيويون إلى عزل النص الإبداعي عن كل ما هو خارجي عنه، وأصبحت سلطة النص تفوق كل السلطات بما فيها سلطة منتج النص، حينما أعلن رولان بارت موته وتضاؤله (1).إن ما توقعه البنيويون من اكتشاف نسق مغلق للمعرفة حوّل البنيوية إلى حركةتنطوي عل أيدلوجيات وشعارات، وحينئذ خضع المنهج البنيوي إلى عمليات تحسين مستمرة، فالخلاف بين البنيويين حول البحث عن الأبنية في اللغة كأنه غاية في نفسه، وأصبحت اللغة غاية في نفسها، وأهملت الغاية من الخطاب تماما. فسوسير ينظر إلى اللغة على أساس أنها نسق جدلي من العلم بعيدا عن كونها تعبيرا عن الفكر، بافتراض وجود علاقة أزلية جدلية داخل هذا النسق، بين الدال والمدلول، فانصب اهتمامه على الجانبالشكلي من اللغة، داخل النسق اللغوي لها، إذ إننا لا نستطيع مثلا أن نفهم كلمة ساخن إلا من خلال تعارضها بكلمة بارد، فتحولت اللغة إلى بنية مستقلة عن فكر المتكلم والسامع بصورة كبيرة (2).

ثم جاءت التفكيكية بعد البنيوية بوصفها منهجا نقديا أسسه الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، هدف من خلاله دراسة النصوص التي غلبت عليها صفة التناهي والمثالية، اعتمادا على هذا المنهج الذي اقترحه، وقد طرح آراءه في ثلاثة كتب نشرت في سنة 1967

ص: 20


1- ينظر التحليل البنيوي للرواية العربية، د. فوزية الجابري / 38 - 42 .
2- ينظر عصر البنيوية، إديث كريزويل، ترجمة جابر عصفور / 348 .

وهي (حول علم القواعد) و(الكتابة والاختلاف) و(الكلام والظواهر). واستند ديريدا في هذا المنهج إلى قطيعة سبق أن أعلنها الفيلسوف نيتشه تجاه الميتافيزيقيا، وتتجلى التفكيكية في أنها تقوض مفهوم الحقيقة بمعناه ميتافيزيقي كما تقوض الواقع بمعناه الوضعي التجريبي، وتحول سؤال الفكر إلى مجالات اللغة والتأويل.

ويعد منهج التفكيك أهم حركة ما بعد البنيوية في النقد الأدبي إضافة إلى أنها الحركة الأكثر إثارة للجدل في الوقت المعاصر، ويقوم التفكيك على فكرة رفض وجود نظام عام للنصوص اللغوية، ونسف العلائقية بينها.

تتمحور التفكيكية على المخاطب، وقدرته على تفكيك النصوص ثم إقامة بنائها. وقد أعاد دريدا النظر في المفاهيم التي تأسس عليها الخطاب الغربي، الذي لا يعدو أن يكون خطابا ميتافيزيقيا، ويتمثل التّفكيك بكونه ردا على الميتافيزيقيا في قراءة النّصوص فلسفيّة كانت أو غير فلسفية، ويُقصد بالميتافيزيقيا التي يستهدفها التفكيك في هجومه: « كل فكرةٍ ثابتةٍ وساكنةٍ مجتثّةٍ من أصولها الموضوعيّة، وشروطهاالتاريخيّة »(1). لقد عاصرظهور التفكيكية نشوء ما يسمى بالبنيوية التكوينية، التي سعت إلى إعادة الاعتبار للعمل الفكري في خصوصيته دون فصله عن مجتمعه وتاريخه، وهي جدلية التفاعل الكامنة وراءاستمرار الحياة تجددها، فالمنهج البنيوي التكويني لا يلغي الفني لحساب ألا يدلوجي. ابتدأت النظرية عند لوسيان غولدمان، فقد تميز مشروعه هذا ببلورة منهج ينطلق من العمل الأدبي ذاته، ويستعمل منهجية سوسيولوجية وفلسفية؛ لإضاءة البيانات الدالة وتحديد مستويات إنتاج المعنى عبر أنماط من الرؤية للعالم(2).

سعت البنيوية التكوينية إلى إظهار اعتدال وتوازن في تشكيل مسار النقد، وعملت

ص: 21


1- ينظر البنيوية وما بعدها، جون ستروك، ترجمة، جابر عصفور / 179 - 209.
2- ينظر البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، لوسيان غولدمان وآخرون،ترجمة محمد سبيلا / 9.

على إخراجه من حدود البنية الداخلية، والنظام الشكلي، اللذين التزمتهما البنيوية الشكلية،فحققت التكوينية توازنا بين المناهج الشكلية، التي جردت النص الأدبي من مرجعياته الثقافية، وبالغت في مراعاة الشكل والنظام، وبين الاتجاهات التي أفرطت في مراعاة المضمون النفسي والاجتماعي للنص، وأهملت الجانب الشكلي، ورأت أن تحليل العمل لإبداعي يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار منتج النص وبيئته الثقافية، ومرجعياته الفكرية والنفسية والتاريخية، وكذلك الجوانب الشكلية والنظام النسقي للنص الإبداعي(1).

رابعا: علاقة التداولية بتحليل الخطاب:

تعددت تعريفات الخطاب ( Discourse ) وتنوعت، فابتكر (هاريس) مصطلح الخطاب وعرفه بقوله:إن الخطاب منهج في البحث في أيما مادة مشكلة من عناصر متميزة ومترابطة في امتداد طولي سواء أكانت لغة أم شيئا شبيها باللغة، ومشتمل على أكثر من جملة أولية، إنها بنية شاملة تشخص الخطاب في جملته، أو أجزاء كبيرة منه،و يعرفه (بنفنست) بأنه(كل تلفظ يفترض متكلمً ومستمعًا، بحيث يحاول المتكلم التأثير على المستمع بطريقة ما). ويعرفه ( تودروف) إنه (أي منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما).ويعرف(فوكو) الخطاب أنه «النصوص والأقوال كما تعطي مجموع كلماتها ونظام بنائها، وبنيتها المنطقية، أو تنظيمها البنائي”.ويعرفه (هارتمان وستورك) أنه (نص محكوم بوحدة كلية واضحة يتألف من صيغ تعبيرية متوالية تصدرعن متحدث فرد يبلغ رسالة ما)(2).

ويقدم أصحاب معجم «دوبوا وآخرون » ثلاثة تحديدات للخطاب، فالخطاب

ص: 22


1- ينظر التحليل البنيوي للرواية العربية / 133 - 138
2- ینظر معجم تحلیل الخطاب، بارتریک شارودو،دومنيك منغنو، ترجمة عبد القادرالمهري، حمادي صمود / 42 - 46

يعني:

1. اللغة في طور العمل، او اللسان الذي تنجزه ذات معينة، وهو مرادف هنا لمعنى الكلام عند سوسير.

2. الخطاب متتالية الجمل، أو الملفوظ الذي يتعدى الجملة.

3. ويعرف شميدل الخطاب فيقول: يقصد بالخطاب كل لغة متجلية في صورة تواصلية، أو اجتماعية فالخطاب هو لغة التفاعل بين أفراد المجتمع الذين يتواصلون باللغة. وقريبا من هذه التعريفات تعريف أزنبرج « الخطاب الصورة الأولية للنظام الذي تتجلى فيه اللغة الإنسانية، فحين يتم تواصل (منطوق/ مكتوب) بين كائنات بشرية، فإن ذلك يتجلى في شكل الخطاب، ولان التواصل البشري اجتماعي؛ فإن الخطاب في الوقت ذاته الوحدة التي يتحقق فيها نشاط التواصل بوصفه اجتماعيا، فالخطاب إذن وحدة تواصلية أي وحدة ينظم فيها التواصل اللغوي.

ويعرفه كوزيفنيكوفا بقوله (الخطاب مجموعة لفظية تامة وهو الكلام مبنيا كما انه بالوقت نفسه المجموعة التواصلية الكبرى).

وقال برطينيطو: الخطاب متوالية منسقة من الدلائل اللغوية المنتجة في صورة شخصية من قبل المتكلم ومزودة بغرض تواصلي ووظيفة ثقافية محددة(1).

بداية تحليل الخطاب حينما العلماء الغربيون نحو تحليل الخطاب في القرن التاسع عشر، وذهبوا في اتجاه ين:

1- الاول ويمثل الأعمال التي قام بها (كينيث بايك) وزملاؤه، إذ وجدوا تحليل الخطاب

ص: 23


1- ينظر لغة الخطاب السياسي (دراسة لغوية تطبيقية في ضوء نظرية الاتصال) د. محمود عكاشة / 38 - 39 .

في تطر الحقل الأنثروبولوجي، واعتمدوا في تحليل الخطاب معاني الكلمات على تحليل سياق استعمالها الاجتماعي، ومزجوا بين العوامل اللغوية وغير اللغوية.

2. الاتجاه الآخر: ويمثله (هاريس) إذ قدم تصورا لتحليل الخطاب في ضوء النص المستقل، وفصل اللغة عن كل ملابسات السياق الاجتماعي، وقصر الدراسة على الأبعاد الوصفية. وأرى ان ذلك يعد رجعية في التفكير وهو سبب قصور الدراسات السابقة. وقد لاحظ الدكتور سعد مصلوح أن الدراسات الخطابية العربية اتجهت نحو البنيوية، وعدتها المنهج اللساني الوحيد في تحليل الخطاب، بيد أن علم الخطاب يختلف في تحليلاته وفلسفته عن البنيوية، وهذا ما سجلته واعترضت فيه على مناهج دراسة خطاب الغمام علي (عليه السلام) السابقة، ونبقى بحاجة إلى نظرية تتجاوز البيوية دون إهمالها وتعتمد على ما جاء به العلماء في نظريات الخطاب.

يعد مفهوم الخطاب من القضايا المشكلة في الدرس اللساني؛ ذلك لحداثة المفهوم، وتتنوع مرجعياته إذ يتخذ تسنينه الاصطلاحي تبعاً للحقل الذي ينتمي له، فهنالك الخطاب الأدبي، والاجتماعي، والفكري، والإعلامي، غير إن ما يؤسس لمفهوم الخطاب العلوم التي تعمل على إنشائه، ووضع مبادئه وإجراءاته. ولعل أهم الدراسات المشتركة بين العلوم المختلفة المتصلة بالخطاب، هي الدراسات النفسية اللغوية والاجتماعية اللغوية، وهي تجرى لوضع الأسس التجريبية والنظرية لتحليل الخطاب، وتتصل بتحديد طبيعة العمليات المعرفية المستخدمة في إنتاج الخطاب، وفهمه وتخزينه وإعادة إنتاجه. بالإضافة للقواعد المعرفية العامة. وتستقي كلمة خطاب موضوعيتها من المادةالتي تعالجها والسياق الاجتماعي الذي ولدت فيه(1)

ص: 24


1- ينظر بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل / 7.

تكمن علاقة التداولية بتحليل الخطاب في أن كل منهما يهتم بدراسة النصوص وتحليلها من خلال الاهتمام بالمتكلمين، ومقاصدهم والسياق الذي يرد فيه الحوار، وكان نتيجة هذا التداخل اتساع مجالات التداولية وتنوعها،وأصبح من العسير وضع تعريف مانع جامع لها (1).

خامسا: تداولية استراتيجيات الخطاب:

الإستراتيجية( strategy ) مصدر صِناعِيّ مِنَ الفُنُونِ العَسْكَرِيَّةِ وَيُقْصَدُ بِهَا التَّخْطِيطُ وَتَحدِيدُ الوَسَائِلِ الَّتِي يَجِبُ الأخْذُ بِهَا فِي القِمَّةِ وَالقَاعِدَةِ لِتَحْقِيقِ الأهْدَافِ البَعِيدَةِ، وتُسْتَعْمَلُ أيْضاً في الخِطابِ السِّياسِّي، وهي فن وعلم وضع خُطط الحرب وإدارة العمليَّات الحربيَّة فنقول: وضعت الحكومة إستراتيجيَّة مستقبليَّة للنهوض بالاقتصاد القوميّ. ثم سرى المصطلح على أية عملية تخطيط منفذة بدقة، لها أهداف وغايات محددة، وتستعمل فيها أدوات وآليات محددة.

فالإستراتيجية عملية تخطيط لتحقيق سياسة ما والتحكم في الوضع بشكل كلي، وعرفت أيضا بكوﻧﻬا (طرق محددة لتناول مشكلة ما، أو القيام بمهمة من المهمات، أو هي مجموعة عمليات تهدف إلى بلوغ غايات معينة، أو هي تدابير مرسومة من أجل ضبط معلومات محددة والتحكم بها )(2).

فالإنسان يمارس أفعالا كثيرة في حياته، يبتغي من ورائها تحقيق أهداف معينة، ولا يستطيع أن يمارس هذه الأشياء بمعزل عن سياق المجتمع الذي يعيش فيه؛ لذلك فإنه يتخذ طريقة معينة يتمكن بها من مراعاة الأطر التي تحف بعمله أولا، أي عناصر السياق وتمكنه من تحقيق هدفه ثانيا. وتتنوع الأعمال التي ينجزها الإنسان بين أعمال اجتماعية

ص: 25


1- ینظر آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر / 11
2- استراتيجيات الخطاب/ 53.

وثقافية وتجارية ولغوية، غير أن هذا التنوع لا يقف عائقا دون الجزم بالحاجة إلى تنوع في طرق إنجازها.

أما عن مفهوم الإستراتيجية في الخطاب فقد ارتبطت به لكونه عملية يقوم ﺑﻬا المرسل باختيار العبارات والكلمات المناسبة، وكذا اختيار السياق المناسب، فهو قبل التلفظ بخطابه يخطط لكيفية إنتاجه وكذا كيفية إيصال معناه إلى المرسل إليه، فالمرسل يحرص كل الحرص على استعمال اللغة استعمالا دقيقا يتواءم والسياق، وحتى يتمكن من القيام ﺑﻬذه العمليات لا بد وأن تكون لديه كفاية لغوية بالإضافة إلى الكفاية التداولية.

والكفاية اللغوية أحد المصطلحات التي وضعها (تشومسكي) في دراسته للغة هي معرفة المحادث المتكلم، السامع بلغته (1) فالمتكلم يجب أن يكون على معرفة جيدة بلغته،وتشمل هذه المعرفة القواعد الأساسية التي بواسطتها يتم تركيب الجمل وصياغتها صياغة صحيحة فالكفاية اللغوية ينظر إليها على أنها المعرفة المتطلبة لتركيب الجمل الصحيحة الصياغة أو فهمها. غير أن هذه انتقدت من طرف العلماء من أمثال «ديل هايمز » الذی استبدلها بمصطلح الكفاية التواصلية الذي بنى نظريته في الكفاية الاتصالية على أساس ما لحظه من ضيق شديد في مفهوم الكفاية اللغوية عند تشومسكي، فالكفاية اللغوية عند تشومسكي تقتصر فقط على الجانب النحوي لمعرفة المتكلم، وعرف هايمز الكفاية الاتصالية بأنها ( مقدرة المتكلم على إنتاج منطوقات مناسبة لأنماط المواقف الاتصالية المختلفة، لا جمل نحوية، وﺑﻬذا تجاوز هايمز الجانب القواعدي المعياري في اللغة ليركزعلى الوظيفة الأساسية التي تقوم ﺑﻬا اللغة وهي الاتصال الذي من أجله ينشئ المتكلم الجمل والعبارات(2).

ص: 26


1- المعنى وظلال المعنى، محمد محمد يونس / 148.
2- ينظر استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي الشريف، دليلة قسمية / 71 - 72.

وتتعد الاستراتيجيات الخطابية بتعدد الظروف والعوامل الثقافية والتاريخية والبشرية التي يولد فيها الحدث، وإن أي تغيير بأحد عناصر الخطاب يتبعه تغيير في طرقه.فالإستراتيجية بالمقام الأول خطة للوصول إلى الغرض المطلوب، تتحدد وفق محورين: أولهما البعد الذهني، والأخر البعد المادي الذي يشكل تلك الخطة، ويرتكز كلا المحورين على الفاعل الذي يحدد مسار خطته، وزمان تنفيذ أركانها(1).

وتعد الاستراتيجيات الخطابية من أهم القضايا التي تحدد التميز والاختلاف بين الخطابات المتعدد، فالمتكلم لا ينتج خطابه غفلا عن السياق الذي فيه، فلا خطاب دون أن يندمج في سياق معين، يستعمل فيه العلامات اللغوية الطبيعية، وكذلك غير اللغوية، ويتنوع سلوكه تبعا لمقامات ذلك الخطاب، فتارة نجده عدوانيا وأخرى متأدبا وثالثة متحيزا، ورابعة معميا وملبسا.

وتكون الغاية من الخطاب بصورة عامة الوصول لغاية يحددها المتكلم، وللوصول لهذه الغاية فإن المتكلم يعمد إلى استعمال اللغة بكيفيات متغيرة تتناسب مع تغير السياق والأحداث والأشخاص المخاطبون. بمعنى أن الخطاب المنجز يكون خطابا مخططا له سلفا، أي لا يكون اعتباطيا أو عفويا أو عبثيا، ويكون مخططا له بصورة شعورية، ومن هنا يتحتم على المتكلم اختيار الإستراتيجية المناسبة، التي تستطيع أن تعبر عن قصده، وتحقق هدفه بأفضل حالة. وتتدخل العناصر الاجتماعية في تحديد استعمالات اللغة، وفي انتشار بعض الاستراتيجيات على حساب أخرى، مثل استعمال إستراتيجية التأدب بدل الجفاء، والمراوغة بدل الصراحة، بما يسمى الخطاب الدبلوماسي، وكل تلك التنوعات في الخطاب تقضي بأن يمتلك المتكلم كفاءة تداولية معينة(2)؛ لذلك قمت بدراسة اختلاف وتنوع استراتيجيات الإمام علي(عليه السلام) في ضوء الملكة التداولية التي بحوزته.

ص: 27


1- ينظر استراتيجيات الخطاب / 52 - 53 .
2- ينظر استراتيجيات الخطاب / 56 .28

وتضمن خطابه استراتيجيات متعددة أهمها:

1. استراتيجيات توجيهية.مثلتها نظرية أفعال الكلام في الفصل الثالث.

2. استراتيجيات تلميحية. مثلها مفهوما الاستلزام والاقتضاء التخاطبيين في الفصل الأول والرابع.

3. استراتيجيات تضامنية.مثلها ببعدها اللغوي مفهوم الإحالة في الفصل الخامس.

4. استراتيجيات إقناعية. مثلها مفهوم الحجاج في الفصل الثاني.

سادسا:علاقة التداولية بالفلسفة التحليلية:

من الضرورة بمكان معرفة أن نشأت النظرية التداولية توافقت مع نشأة العلوم المعرفية، إذ كان التفكير في الذكاء الاصطناعي في سياق عقلية جديدة، مهدت لظهورالعلوم المعرفية، تربط بعضها ببعض، كعلم النفس والاجتماع واللسان والفلسفة، وعدت اللغة محور الدراسات الفلسفية، إذ تعترف الفلسفة التحليلية بالدور الحيوي الذي تؤديه اللغة في الفلسفة التحليلية، التي كانت المهاد الأول للنظرية التداولية، وإذا أردنا تعريف الفلسفة التحليلية، فإننا نجد كمّ من التعريفات سيقت لها منها (تلك الفلسفة التي ترى أن التحليل الفلسفي للغة كفيل بإيصالنا إلى تفسير فلسفي للفكر، وتفسير الفكر كفيل بإيصالنا إلى الفهم الكلي للكون)(1). لقد أقرَّ بعض الفلاسفة أن مسعى الفلسفة مرتبط بالسعي الحثيث لتجلية المعاني، وتوضيح الأقوال، وفهمها؛ نية تيسير نقلها على شاكلة مفاهيم، والتحليل اللغوي وفقا لهذه الفلسفة يعد نافذة للتفسير الفلسفي للفكر، وهي محاولة إعادة حل المشكلات والموضوعات الفلسفية على أساس علمي، فهي ثورة لتطوير الأفكار السائدة في الفلسفة

ص: 28


1- ينظر المكون التداولي في النظرية اللسانية العربية، ليلى كادة / 15 .

الوضعية، ورد على المثالية التي انبعثت إلى العلن من بعض الشعراء مثل(صمويل كولردج، وكارليل، وبرادلي، وبوزنكويت)(1)

وللفلسفة التحليلية ثلاثة اتجاهات:

1. الوضعانية المنطقية ( Positivisme logique ) بزعامة رودولف كارناب. الذي ميز بين وظيفتين للغة، الأولى: المعرفية، التي تشير إلى وقائع وأشياء موجودة في العالم الخارجي، فتكون تصويرا لها، والأخرى: الانفعالية: فهي أداة التعبير عن الانفعالات التي تجول في خاطره، ويذهبون إلى أن اللغة الجديرة بالتحليل هي اللغة المثالية؛ لقصر اللغة العادية وكثرة أخطائها.

2. الظاهراتية اللغوية:( Phénoménologie du Langage ) بزعامة إدموند هوسرل. وهي علم يبحث دراسة جوهر الأمور، بالعودة إلى جواهر الوجود، إذ تعتقد أنه لايمكن فهم الإنسان أو العالم من غير الانطلاق من وثائقيتهما. وهو اتجاه بعيد عن الاستعمال اللغوي؛ بسبب نزعته الفلسفية المرتبطة بأعماق الوجدان، فهي لا تتبنى الاستعمال العادي للغات الطبيعية كمبدأ أساس؛ لأنه أقصى نفسه بسبب فلسفته اللاواقعية، وبسبب بحثه في الشروط ما قبل الوجودية للأداء اللغوي بعيدا عن الخوض في المقاربة التداولية للغة، التي لا تقوم إلا على أساس واحد هو الاستعمال، فالاتجاه الظاهراتي على هذا الأساس غير تداولي.

3. فلسفة اللغة العادية: ( Philosophe Du Langage Ordinaire ) : فانطلق فتجنشتاين في أبحاثه اللغوية على اعتبار اللغة لعبة، وأداة في أحيان أخر، بوصفها جزءا من الفاعلية التواصلية الاجتماعية، وطريقة في السلوك والحياة في المجتمع(2)،

ص: 29


1- ينظر الفلسفة وقضايا اللغة / 58 .
2- ينظر نفسه / 25 .

وعرفت عنه مقولته المشهورة ( Meaning is use ). ويرتكز بحث العلاقة بين اللغة العادية والفلسفة على ثلاثة افتراضات:

4. إن كثيرا من العبارات الفلسفية الهامة تحيد عن اللغة العادية.

5. إن هذه العبارات مضللة، وتبدو غالبا غير هامة إلى حد ما عندما تعاد صياغتها صورة صحيحة.

6. إن أي عبارة فلسفية تحيد عن اللغة العادية هي عبارة خاطئة وهذا الافتراض الأخيريمثل إشكالا بين الفلاسفة التحليليين، منهم من شكك فيه، ومنهم من أخذه أخذ الواثق كما فعل فتجنشتاين(1)، الذي رفض أي لغة اصطناعية (ميتا لغة) تقف فوق لغتنا(2).

من هذه المنطقة في الفلسفة التحليلية(فلسفة اللغة العادية) خرجت التداولية(3)؛ لأن فلاسفة أكسفورد أعطوا للغة أبعادا سلوكية هامة، بوصفها سلوكا إنسانيا، فدرسوا العلاقة بين المتكلم والمخاطب، فمعنى الكلمة يكمن في استعمالها، فقد رأى رائد الفلسفة التحليلية جورج مور أن الصعوبات والاختلافات التي يزخر فيها تاريخ علم الأخلاق- كما في سائر الدراسات الفلسفية الأخرى- ترجع أساسا إلى سبب بسيط للغاية، أعنيمحاولة الإجابة على أسئلة بدون أن نتبين أولا، وعلى وجه الدقة حقيقة السؤال الذي سنجيب عليه، وتساءل أي مدى يصل الفلاسفة باستبعادهم مصدر الخطأ، إذا ما حاولواالكشف عن السؤال الذي يطرحونه، قبل أن يشرعوا في الإجابة عليه، إذ إن جهدالتحليل والتمييز صعب للغاية عادة، ولهذا لم تكن المشكلة عند مور هي ماذا نعرف، بل

ص: 30


1- ينظر التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد / 21 .
2- ينظر فلسفة اللغة عند لودفيغ فتغنشتاين / 257
3- ينظر التداولية من أوستين إلى غوفمان / 20

ماذا نعني بهذا الذي نعرفه، وبعبارة أخرى فإن غاية الفلسفة عنده ليست اكتشافا لحقائق لم نكن نعرفها من قبل، بل هي توضيح ما سبق لنا معرفته، وأهم وسيلة لهذا التوضيح هي تحليل اللغة العادية؛ لأنها اللغة المعبرة بشكل صادق عن التصورات والمفاهيم التي نتوصل إليها بالحس المشترك(1)

فعكف الفلاسفة على دراسة التأثيرات الفعلية للخطاب، تأثرا باهتمام الفلسفة باللغة منذ القدم، فقد كان أرسطو يميز بين الخطاب الجدلي، الذي يتوجه إلى إنسان مجرد، يختزل في وضعية ذات تشترك مع المتكلم في سننه اللساني، وبين القول الخُطبي، الذي يتوجه إلىإنسان واقعي يتمتع بملكة الحكم، وذي انفعالات وعادات ثقافية، فالتفاعل بين المتكلم والسامع لم يك غائبا عن نظرة الفلاسفة للغة، فكان تفاعل اللغة في محيط سامعيها طاغياعلى تحليلاتهم، وكذا فإن الألفاظ - في وجهة نظرهم- تأخذ قيمتها من تفاعلها في العالم الخارجي، ودلالة القصد محور تقسيم الفلاسفة للخطاب اللغوي، وتلك المباحث من أهم ما تميزت به النظرية التداولية (القصد، والتواصل).

فالتداوليات تهتم بأشكال التفاعل الاجتماعي والتفاعل الخطابي، ودراسة المعطيات اللغوية والخطابية المتعلقة بالتلفظ، وتُعنى بالعملية التواصلية في كل أبعادها النفسية والاجتماعية والأيدلوجية، ودراسة العلاقة بين اللغة والسياق، ولكن اصطلاح «موريس » لم يكن بدعة منه، ولكن سبقه إليه (كانت، وبروس) اللذان حاولا أن يبنيا نظرية عامة للعلاقات، لكننا نستطيع أن نطمئن إلى أن النظرية عند «موريس » لم تتجاوزتحديد أهدافها الوصفية، لكن تطور النظرية كان على يد علماء تلوه، من أمثال (أوستين، وسورل، وغرايس)، إذ يقف أنصار هذا التيار بالضد من آراء مدرسة اللغة الفلسفية الوضعانية وأفكارهم، ونظرتهم إلى اللغة، فأنصار الوضعانية يرون أن وظيفة اللغة لا تتعدى الوصف والإخبار، وهذا الإخبار إما يكون صادقاً وإما كاذباً، ولكن ثمة

ص: 31


1- ينظر التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد / 23 .

وظائف عديدة للتعبيرات اللغوية.

ويمكن لنا مقاربة الوظائف اللغوية في النهج التداولي فيما حدده هاليدي من وظائف،وهي(1):

1. الوظيفة الأدائية: ويعنى بها الكلمات التي يؤدى بها عمل ما، فمجرد النطق بها ينجز فعل ما، كقولك: أوصي بساعتي إلى أخي، فمجرد التلفظ بهذا القول انتقلت ملكية الساعة إلى الأخ.

2. الوظيفة التنظيمية: فمن خلال اللغة يستطيع الفرد أن يتحكم في سلوك الآخرين،وتسمى وظيفة: « أفعل كذا ولا تفعل كذا ».

3. الوظيفة التفاعلية: تستعمل اللغة من أجل الدخول في علاقة مع المحيط، مثل: أنا وأنت؛ لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته.

4. الوظيفة الشخصية: يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤياه الفردية، وتسمح اللغة لمتكلمها التعبير عن انفعالاته الشعورية واللاشعورية، والتعبير عن أحاسيسه ومشاعره الوجدانية والفردية، وتجلية ذوقه الشخصي.

5. الوظيفة التخييلية: تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية، فتساهم اللغة فيبناء عوالم خيالية ممكنة، واستثمار اللغة في التخييل، وبناء التصورات الافتراضية والإبداعية.

6. الوظيفة الاستفهامية: تسمح اللغة بطرح الأسئلة والإشكاليات الاستكشافية والتوقعية من أجل بناء المعرفة، وتحصيل المعارف والعلوم، مثل: لماذا هذا؟.

ص: 32


1- الاتجاه التداولي والوظيفي في الدرس اللغوي، د. نادية النجار / 202 -204

7. الوظيفة الإعلامية، التي يستطيع الفرد من خلالها أن ينقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه.

8- الوظيفة الرمزية، تشير اللغة إلى رموز في العالم الخارجي.

سابعا: تعريف التداولية:

التداولية ذلك المصطلح الذي يقابل مصطلح ( pragmatics )الأجنبي نظرية وجدت لبداياتها منشأ في حضن الفلسفة العادية والمنطقية، إذ نشأ في أحضان المقولات المنطقية، ثائرا عليها ومناقضا لها، وكانت بداياته على يد مجموعة من العلماء الذين كانوا يعرفون برواد الفلسفة أمثال (فريج، وراسل، فتجنشتاين، وستراوسن) الذين حاولوا التمهيد للتداوليات النظرية، وفق مقالات ونظريات العلاقات العامة (1)،لكن الملامح الحقيقية لنشوء المنهج التداولي كانت على يد العالم الأميركي (تشارلس موريس) الذياقترح تلك الأسئلة النموذجية في المنهج التداولي، من قبيل:

1. ماذا نفعل عندما نتكلم؟.

2. ماذا نقول بالتحديد؟.

3. من الذي يتكلم؟.

4. ومن يخاطب بخطابه؟.

5. ولماذا يتكلم على هذا النحو وليس على غيره؟.

وتنوعت تعريفات العلم وبتنوع المصادر المعرفية له، ومن أهم تلك التعريفات:

1. مجموعة من البحوث المنطقية اللسانية، أو هي كذلك الدراسة التي تعنى بدراسة

ص: 33


1- ينظر ما التداوليات، ضمن التداولية علم استعمال اللغة، عبد السلام علوي / 17 .

استعمال اللغة، وتهتم بقضية التلاؤم بين التعبيرات الرمزية والسياقات المرجعية،وال مقامية،والحدثية،والبشرية(الموسوعة الكونية Encyclopaedia Universalis).

2. أو هي دراسة اللغة في الخطاب بالنظر إلى الوسميات الخاصة بالخطاب، قصد تأكيد طابعه الخطابي.

3. أو هي دراسة اللغة بوصفها ظاهرة خطابية واجتماعية وتواصلية، أو هي الدراسة التي تندرج ضمن اللسانيات ويهتم باستعمال اللغة (1).

4. وما دام التركيب دراسة للخصائص التأليفية بين الكلمات، والدلالة بحث في المعنىوما يعكسه من أشياء ملموسة أو مجردة، فان التداولية دراسة الاستعمال اللغوي (Language Usage) (2)

5. أو هي دراسة للمبادئ التي تؤهلنا لإدراك غرابة بعض الجمل أو عدم مقبوليتها، أوهي دراسة اللغة في إطارها الوظيفي، وفهم البنيات الوظيفية واللغوية بالاعتماد على علل واستدلالات غير لغوية (Nonlinguistics).

6. أو هي دراسة العلاقة بين اللغة والسياق، أو دراسة لكفاية مستعملي اللغة في ربطهماللغة بسياقاتها(3).فهي تهتم بمقاصد المتكلم والبحث في أغوار معاني الكلام والمتكلم، ومحاولة اكتشاف الأغراض التي يريدها المرسل من خلال رسالته، فقد تتعدى التداولية المعنى الحرفي إلى المعنى المستتر فهي فرع من علم اللغة بحث كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم، أو دراسة معنى المتكلم، وجوانب السياق التي تشفر كليا في تراكيب اللغة، وهي عندئذ جزء من مقدرة المتكلم.

ص: 34


1- ينظر التداولية من أوستن إلى غوفمان ترجمة صابر حباشة / 18 - 19
2- ينظر المحاورة، مقاربة تداولي، د. حسن بدوح / 7.
3- ينظر الأسس الابستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه / 264 .

7. أوهي دراسة اللغة من وجهة نظر وظيفية، وهذا نوع من التعريف يحاول أن يوضح جوانب التركيب اللغوي بالإحالة على أسباب غير لغوية، لكنه يقصر عن تمييزالتداولية عن كثير من الفروع المهمة في علم اللغة، التي تهتم بالاتجاهات الوظيفية،

كعلم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي.

8. أو هي دراسة جوانب المعنى كلها، التي أهملتها النظرية الدلالية، فإذا اقتصرعلم الدلالة على دراسة الأقوال التي ينطبق عليها مبدأ الصدق والكذب، فإن التداولية تعنى بدراسة ما لا تنطبق عليه شروط الصدق والكذب من الأقوال. فكون المعنىلا يتوقف على تحقق أو عدم تحقق شرط من شروط الصدق، يعني اختلافه الجوهري عن الصدق في القضية، وتعد هذه الفكرة من أهم أفكار رسالة فتجنشتاين، فالقضية تمثل ما تمثله بغض النظر عن كونها صادقة أو كاذبة، مما يدل على أن المعنى سابق للصدق من جهة، وطبيعته مختلفة عن طبيعة الصدق من جهة أخرى، ومن جهة

أخرى فالمعنى محايد لقضية الصدق والكذب(1).

تعنى التداولية بالاستعمال العادي للغة، من خلال مثلث العناصر: المتكلم والسامع مشاركا والحدث التواصلي، وتعنى بتفاعل المقال والمقام، المقال وكل الظروفالخارجية التي تدور حوله، أو تتصل به، وتهتم بالسياقات اللغوية للمتكلمين بحسب المقام اللغوي، فتبحث في الكيفية الخطابية، فهو تخصص لساني يدرس كيفية استعمال الناس للأدلة اللغوية في صلب أحاديثهم وخطاباتهم كما يعني من جهة أخرى بكيفية تأويلهم لتلك الخطابات والأحاديث. فوظيفة اللغة لا تقتصر على نقل المعلومات وإيصالها وإرسالها، أو التعبير عمّ يجول في خواطرنا من أفكار، وما يدور في أنفسنا من خلجات وتبيينها فحسب، وإنما يجب أن تضطلع اللغة بتحويل ما يدور في أنفسنا من أقوال - في إطار ظروف سياقية - إلى أفعال ذات سمات اجتماعية.

ص: 35


1- ينظر فلسفة اللغة عند لودفيف فتغنشتاين / 299 .

فالتداولية ليست علما لغويا محضا بالمعنى التقليدي، بحيث يكتفي بوصف البنى اللغوية وتفسيرها ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، بل هو علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال، ويدمج مشاريع معرفية عديدة في إطار التواصل اللساني وتفسيره، ومن ثمَّ فإن الحديث عن التداولية وعن شبكتها

المفاهيمية يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين العلوم المختلفة؛ لأنها توحي بانتمائها إلى حقول مفاهيمية تضم مستويات متداخلة كالبنية اللغوية وقواعد التخاطب، والاستدلالات التداولية، والعمليات الذهنية المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويين، وعلاقة البنية اللغوية بظروف الاستعمال، فهي كما يرى مسعود صحراوي

تمثل حلقة وصل هامة بين حقول معرفية عديدة، كالفلسفة والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع...الخ(1).

ثامنا / أنواع التداولية:

لما كان مجال البحث في التداولية شديد الاتساع فقد توسعت على فروع كثيرة، ينفرد كل فرع عن الآخر بمميزات خاصة:

1. فهناك التداوليات الاجتماعية ( sociopragmatics ): التي تهتم بدارسة شرائطالاستعمال اللغوي المستنبطة من السياق الاجتماعي.

2. وهناك التداوليات اللغوية ( linguistic pragmatics ): التي تدرس الاستعمال اللغوي من وجهة نظر تركيبية، وهي بذلك تنطلق من اتجاه مقابل للتداولية الاجتماعية، فإذا كانت هذه تنطلق من السياق اللغوي إلى السياق الاجتماعي، فإن تلك تنطلق من السياق الاجتماعي إلى السياق اللغوي.

ص: 36


1- ينظر التداولية عند العرب، مسعود صحراوي / 16.

3. وهناك أيضا التداوليات التطبيقية ( applied pragmatics ): التي تعنى بمشكلات التواصل بالمواقف المختلفة، وبخاصة حين يكون للاتصال في موقف بعينه تبعات خطيرة، كالاستشارات الطبية، وجلسات المحاكمات.

4.ثم التداوليات العامة ( pragmaticsgeneral ): التي تعنى بدراسة الأسس العامة التي يقوم عليها استعمال اللغة استعمالا اتصاليا(1).

تاسعا: مميزات تحليل الخطاب في ضوء النظرية التداولية:

حدد الباحثون مميزات الدرس التداولي فيما يأتي(2):

1. التداولية تقوم على دراسة الاستعمال اللغوي، أو هي لسانيات الاستعمال، وموضوع البحث فيها توظيف المعنى اللغوي في الاستعمال الفعلي، من حيث هو صيغة مركبةمن السلوك الذي يولد المعنى.

2. ليست للتداولية وحدات تحليل( Units of analysis ) خاصة بها، ولا موضوعات مترابطة (correlational topicsatics).

3. التداولية تدرس اللغة من وجهة نظر وظيفية عامة (معرفية cognitive ، واجتماعية social ، وثقافية cultural).

4. تعد التداولية نقطة التقاء العلوم الأخرى، التي لها صلة باللغة، بوصلها وصلة بينها وبين الثروة اللغوية.

5.أولت التداولية أهمية بالغة إلى الجانب الاتصالي، أي دراسة اللغة في علاقتها

ص: 37


1- ينظر آفاق جديدة في الدرس اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة / 15 ، وينظر الاتجاه التداولي و الوظیفی فی الدرس النحوي، د. نادیة النجار/20
2- نفسه / 14

بمستخدميها، في حين ظلت الدراسات اللسانية تستبعده، واعتنت بالتراكيب والمعاني فقط

اختلف الباحثون في تحديد عناصر التداولية، فذهب بعضهم إلى أنها أربعة أو ثلاثة أو خمسة، وأرى أن تحليل الخطاب في ضوء النظرية التداولية يكمن في خمسة مباحث هي:

1. الحجاج.

2. الأفعال الكلامية.

3. الإشاريات (الإحالة).

4. الاقتضاء التخاطبي.

5. الاستلزام الحواري.

ص: 38

عاشرا: خطاب الإمام علي (عليه السلام):

علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلومها، وعلى أمثلته حذا كل قائل وخطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا لأن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي(1). قيل في كلامه: أنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة قال عبدالحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطبه (عليه السلام) ففاضت ثم فاضت، وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب(2).

يعد نهج البلاغة من أعلى المصادر شأنا في الثقافة الإسلامية؛ لذلك يجب أن تتوفّرعند الباحث تلك المقدرة العلمية حتى يستطيع دراسة كلّ أبعاده وزواياه وسبر أغوار كلام الإمام عليه السلام ومن ثمّ يستنير به في فلسفته الإلهية والأيدلوجية الإسلامية ويهتدي إلى القول الفصل والرأي الصحيح.

و لا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعلي(عليه السلام) جميع الوسائل التي تعدّه لهذاالمكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد للّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة. أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة،فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعا أما الذكاء فهو ذكاء مفرط، فتلقى له في

ص: 39


1- ينظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 1/ 45
2- ينظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 1/ 28

كل عبارة من ( نهج البلاغة) عملا عظيما.

لم يك نهج البلاغة كلاما عاديا، فهو كلام فوق كلام المخلوقين، دار خطابه في كثيرمن الأحايين حول منفعة المتلقين،لذلك كان المخاطب حاضرا بشدة، وتنوعت خطاباته تبعا لتنوع حاجات المخاطب، وتنوع الخطاب تبعا لدرجة إقناع المخاطب، والإمام في كلامه يقدم الأهم على المهم بحسب ما يقتضيه المقام، ففي قوله (عليه السلام) (لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ وَ لْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ وَ لاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ اَلَجاهِلِيَّةِ لاَ فِي اَلدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لا عَنِ اَللَّه يَعْقِلُونَ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يْخُرِجُ حِضَانُهاَ شَرّاً)(1) وقد أمر (عليه السلام) صغيرهم بالتأسي بكبيرهم؛ لأنّ الكبير أكثر تجربةوعلماً، وأكيس، وأحزم، فكان بالقدوة أولى، وأمر كبيرهم أنْ يرأف بصغيرهم؛ لأنّ الصغير بمظنة الضعف، وأهلٌ لأن يرحم، ويعذر؛ لقلة عقليته بالأمور، وإنما بدأ بأمر الصغير؛ لأنّه أحوج إلى التأديب، والغاية من هذا انتظام أمورهم وحصول الفهمبما أمربه(2).نلحظ المنحى التداولي في الخطاب، لاسيما في رعاية أحوال المتلقين، وترتيب الكلام وإخراجه تبعا لتنوعهم.

من خلال متابعتي لكثير من الدراسات التي خصت نهج البلاغة بالبحث والتحليل،في شتى علوم العربية من أبحاث قصيرة وأطاريح للماجستير والدكتوراه، وجدت أن أغلب الباحثين يسجلون ملحظا في بداية البحث حول المنهج الذي يرومون تتبعه في أبحاثهم، فيقولون: أنهم يتبعون المنهج الوصفي، وهي حقيقة بادية على كثير من تلك الأبحاث، وهذا أمر غاية في الأهمية، ويحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر. فمما لا شك فيه أن سوسير هو المؤسس الحقيقي للمنهج الوصفي، الذي أهمل الجانب التاريخي للغة، وكذلك فإن لسوسير تأثيرا عظيما في بلورة وتطوير منهج «التزامن » التي عملت عليها

ص: 40


1- نهج البلاغة / 302 .
2- شرح نهج البلاغة، البحراني 3/ 293

البنيوية وقد طبقتها في مجال الدراسات الأدبية الأنثروبولوجية والمعرفية وكذلك النفسية. فكانت الدراسات النقدية قبل سوسير تنظر إلى اللغة كأداة لتسمية الأشياء أو كوسيلة تعبيرية فردية، لكن سوسير استطاع أن يكشف أنها في الدرجة الأولى ليست وسيلة بل هي نظام شكلي لا شعوري يعتمد على الفروق وليس على القيم الإيجابية الثابتة ولهذا أكد على دراسة اللغة كغاية في ذاتها ولذاتها وكذلك أكد على تخليصها من وصايا العلوم الأخرى التي كانت تهيمن عليها وإلى نبذ الأحكام الخارجية التي تثيرها هذه العلوم. لقد نهضت البنيوية بوصفها منهج بحث على تطبيق النموذج اللغوي على المادة قيد الدرس وعمقت أفكار القطيعة مع المؤثرات الخارجية وبذلك استفادت من جهودسوسير والمدرسة الشكلية الروسية والنقد الجديد وجهود المدرسة اللغوية السابقة(1)، وهذا من أكبر المشكلات التي نطرحها على المنهج البنيوي، الذي حاول استنادا إلى سوسير والمنهج الوصفي، قطع اللغة عن كل العلوم التي تحيط بها من العلوم النفسية والتاريخية وغيرها وعن ملابسات وظروف إنتاج الحدث الكلامي، وهذا ما لا نرضاه لدراستنا في تحليل الخطاب، ولاسيما في تحليل خطاب مثل خطاب الإمام (عليه السلام)، ومن ثم فإني أرى أن في كثير من الدراسات السابقة قصورا واضحا في فهم خطابه (عليه السلام) نتيجة اعتمادها على المنهج الوصفي، وهذا ما سيبدو جليا عند كشفي عن قصورالمنهج البنيوي في فهم الخطاب بصورة عامة في التمهيد من هذا البحث، ومن هذا وذاك فإني أتبنى تحليل خطاب الإمام والكشف عن أهم استراتيجياته الخطابية في ضوء النهج التداولي، الذي يعنى بكل الأنساق والعلوم الثقافية والمعرفية التي تحيط بالفعل اللساني، ولا أطلق عليه كلاما بقدر كونه خطابا في مفهوم الخطاب الذي سأوضحه لاحقا.

ومن هنا فإني لا أقصر ضعف المنهج المتبع في معالجة خطاب الإمام وتحليله على الجانب اللغوي، وإنما ومن منطلق أن اللغة حاضنة الأفكار ومستودعها فإنها قصور

ص: 41


1- ينظر البنيوية وما بعدها (النشأة والتقبل) د. سامر فاضل الأسدي / 46.

التحليل يشمل القصور في فهم المعاني والأفكار والمبادئ والقيم التي جاء بها ذلك الخطاب. ولا أريد هنا أن أبخس حق من سار على ذلك المنهج، ولكني أعتقد أننا يجب أن نستفيد من التطور الهائل في العلوم اللسانية، ونوظفه بما يعيننا على فهم ذلك التراث الخالد.

حادي عشر: تداوليات الخطابة:

تعد الخطابة من أكثر الاجناس الادبية التي تعبر عن التواصل الاجتماعي، فتعتمد على عنصرين أساسيين هما: المرسل/ الخطيب، والمرسل إليه/ جمهور المستمعين، ولقد اشتغل البلاغيون القدامى على الخطبة كثيرا، مبينين المضامين المطروقة، وصفاتالخطيب، من قوة وجهارة صوت وغيرها، كما ركزوا على المخاطبين كذلك،بحسب أفهامهم وطبقاتهم السياسية الاجتماعية، لذا كان مدار الخطابة على الإفهام والإقناع(1).

إن هدف الخطيب توصيل الفكرة إلى المستمع وإقناعه بها، ولكنه في أحيان كثيرة يعتمد على المعلومات المشتركة التي تربطه بالمتلقي، فيقع الفهم، فمدار الخطابة على الفهم والإفهام، ومن هنا يبدو أن العرب قد ركزوا على حال المتلقي أكثر من الملقي، وإن كانوا قد ركزوا على هذا الأخير في بعض الجوانب، حتى يستطيع الوصول إلى إفهام المخاطب، فنجد الخطيب كثيرا ما يعتمد على المعلومات الاقتضائية في ذهن المتلقي،فيعمد إلى الإيجاز متى ما قدر أن ثمة معلومات كافية في ذهن المتلقي، ويطنب متى ما أحس بقلة المعلومات في ذهن المتلقي، وبلاغة الخطيب تكمن في تقديره تلك الكمية المعلوماتية في ذهن المتلقي، وكذلك مطابقة الكلام للمعلومات الاقتضائية وتنويعه لاستراتيجياته الخطابية تبعا لذلك التنوع. فيرى البلاغيون أن الكلام عبارة عن كلام

ص: 42


1- ينظر أشكال التواصل في الراث العربي البلاغي في ضوء اللسانيات التداولية سليم حمدان، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة لخضر باتنة، 2009 م. / 85 .

جزئي من مقتضى كلي، فالبلاغة هنا مطابقة هذا الجزئي لذلك الكلي، بمعنى كونه جزءا من أجزائه، بحيث يصح حمل مقتضى الحال عليه، فالكلام الجزئي مطابِق «بكسر الباء » والكلام الكلي مطابَق «بفتحها »(1)

تمثل خطب الإمام علي (عليه السلام) علامة فنية فارقة في تاريخ النثر العربي، فبرع(عليه السلام) في كل شيء من نواحي الخطابة الفنية، من الإيجاز والإطناب في مواقعه، فسلم من الإيجاز في التقصير والإطالة من الإسهاب، وتقدم الناس جميعا في ذلك، كما برع ببلاغة أسلوبه وحسن انتقائه للألفاظ، الشيء الذي جعل كلامه فخما جزلا قويا، له قعقعة كضجة الحرب، وإجلاب الخيل، ووقع الأسل بالأسل، فيه مقاطع شديدة صلبة كضربة السيف، وطعنة الرمح، وصيحة الغضب، وكان إماما في بلاغتهوفيلسوفا ومفكرا في خطابته(2).

تنوعت استراتيجيات الإمام الخطابية تبعا لتنوع السياقات الخطابية، ومقامات الحدث الكلامي، والأهداف التي يبتغي من وراء خطابه في الوصول إليها؛ لذلك نجد كثيرا من أفانين الخطاب في حديثه، تنوعا واضحا في طرق الخطاب، مع إيماننا الكبيربأنه (عليه السلام) كان مخططا لتلك الخطابات وواعيا لها، وموجها بدرجة كبيرة، ومغيرا لها بحسب المقام والغاية التي يبتغيها؛ لذلك سأحاول فيما يلي من البحث الكشف عن أهم الاستراتيجيات الخطابية التي استعملها الإمام (عليه السلام) كاشفا عن تنوع تلك الاستراتيجيات، ومقاربا لها في ضوء النظرية التداولية، ومحاولا بداية كل فصل التنظير للمباحث التداولية، والكشف عن أهم مبادئها وعناصرها وتعريفاتها، ومرجعياتها الفكرية، كي تكون عونا لي في التحليل التداولي.

ص: 43


1- ينظر الإيضاح في علوم البلاغة الخطيب القزويني(ت 739 ه)دراسة وتحقيق:محمد عبد المنعم خفاجي دار الجيل - بيروت الطبعة الثالثة/ 41 .
2- ينظر الخطابة في صدر الإسلام، محمد طاهر درويش / 362 .

ص: 44

الفصل الأول :الاقتضاء التخاطبي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)(الخطبة الشقشقية أنموذجا)

اشارة

ص: 45

ص: 46

المبحث الأول :الاقتضاء التخاطبي ( Presupposition ) الماهية والأدوات:

أولا / مصطلح الاقتضاء التخاطبي:

وهو من الاستراتيجيات التلميحية، ولم يكن مصطلح الاقتضاء (Presupposition ) وليد الدرس اللساني المحدث، فقد وردت تجليات المصطلح في كتابات المتقدمين، يقول القاضي الجرجاني (ت 816 ه): (مقتضى النص هو الذي لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظا، ولكن يكون من ضرورة اللفظ أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا وقيل: هو عبارة عن جعل غير المنطوق منطوقا؛ لتصحيح المنطوق مثاله(فتحرير رقبة) (المجادلة 3 ) وهو مقتض شرعا؛ لكونها مملوكة إذ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فيزداد عليه؛ ليكون تقديرالكلام فتحرير رقبة مملوكة)(1)، فنلحظ أن مقتضى النص هو تلك المعلومات المخزونة في ذهن المتلقي حول اللفظ سواء أكانت شرعية أم عقلية أم اجتماعية أم ثقافية، وبمجرد نطق اللفظ يستحضر السامع كل تلك المعلومات دون النطق بها، وتتوقف دلالة اللفظ ولا تكتمل دون تلك المعلومات، أما قولهم إن (الاقتضاء هو دلالة اللفظ على معنى خارج يتوقف عليه صدقه أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة)(2)،فهو أمر قابل للنقاش، صحيح أن اللفظ يدل على تلك المعاني، ولكن تلك المعاني تكون من مستلزمات اللفظ،

ص: 47


1- التعريفات، القاضي الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري / 289 .
2- دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي عبد رب النبي بن عبد رب الرسول الأحمد نكريدار تحقيق حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية - لبنان / بیروت - 2000 ط 1 / 103 .

وهي كالهالة المحيطة به تظهر بمجرد ظهوره، إذ هي ليست من دلالات اللفظ، وإنما لايصح اللفظ بدونها(لكنه يكون من ضرورة اللفظ، إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به، أو من حيث يمتنع ثبوته عقلا إلا به)(1)، ولكننا لانعدم البعد الشرعي في التعريفين السابقين للأصوليين، ولكن الاقتضاء أوسع دلالة مما ذكر، فمقبولية اللفظ الشرعية ليست وحدها مناط المقال، وإنما المقبولية الاجتماعية والثقافية والسياقية. ولكننا نسجل بأن الأصوليين أول من وضح لديهم مصطلح الاقتضاء، وتجلت أبعاده فعدوه ضروريا للإشارة إلى المحتوى الدلاليالمحذوف من الكلام، وتقديره مهم جدا في طريق البحث عن المعنى، فهو من وظائف إعمال الكلام، وطريقة حمل الكلام الذي لا يبدو ظاهرا منسجما مع الصحة العقلية والشرعية للنص، أو مع صدق المتكلم (ويفترض متكلمو اللغة أن وظيفة المخاطَب باعتماده على القرينة المتبادرة، وعلى أصول التخاطب-لا يقتصر على حمل الكلام على غيرظاهره- إن دعا الأمر إلى ذلك - بل يشمل أيضا توسيع الخطاب ليصبح أكثر مناسبة للمقام التخاطبي، ويُعتقد أن المخاطَب - في تعامله مع اقتضاء النص - يفترض أن المتكلم قد حذف بعض أجزاء الكلام اعتمادا على قدرة المتكلم على إدراكها بمعونة القرينة)(2)، ففي كل عملية تواصل لساني ينطلق المتخاطبون من ركائز ثقافية موحدة،تكون العنصر الأساسي في إنجاح عملية التواصل، ولولا وجود تلك الخلفيات المشتركة لسادت التعمية واللغط، ولما أدى الفعل اللساني دوره المنشود، فقد تبين للقدماء أهمية الاقتضاء في بناء الخطاب، مع استحالة التحدث والتحاور دون استعمال مفهومه، فعدوه جزءا أساسيا في النشاط اللغوي التحاوري، ولكن القدماء لم يهتموا كثيرا في ادوارالاقتضاء وأشكاله، ولم يتفهموا استقلال المسكوت عنه، والذي يعتمد الاقتضاء عليه

ص: 48


1- المستصفى من علم الأصول،أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي دراسة وتحقيق: محمد بن سليمان الأشقر،مؤسسة الرسالة، بیروت، لبنان، ط 1، 1997 م، 2/ 200 .
2- علم التخاطب الإسلامي، محمد محمد يونس / 217 - 218

في بناء دلالة الألفاظ(1).

أما في الدرس اللساني المحدث، فهو أحد عناصر التداولية، وهو مصطلح قريب من اللزوم المنطقي في علم المعاني وهو أحد الاستراتيجيات الخطابية التي يلجأ إليها المتكلم في خطابه، عندما يكون موجزا اعتمادا على المعلومات المشتركة بينه وبين السامع. ومن أهم مميزات الاقتضاء، أنه يقدم تفسيرا صريحا لمقدرة المتكلم على أن يعني أكثر مما يقول بالفعل، أي أكثر مما يعبر عنه بالمعنى الحقيقي للألفاظ المستعملة، إذ يفسر الاقتضاءتلك الخلفيات المعلوماتية المشتركة، بين المتكلم والمتلقي، فالمتكلم يوجه حديثه وينوع استراتجياته على أساس كم المعلومات المخزونة في ذهن المتلقي حول اللفظ الموجّه، فإذا قال أحدهم للآخر: أغلق النافذة، فإنه يفترض مسبقا أن النافذة مفتوحة، وأن هناك مبررا يدعو لإغلاقها، وأن المتكَّلم قادر على الحركة والتنقل، وأن المتكلِّم في موقع الأمرمن المتكلَّم(2)،ويعد (ستالنيكار) الممثل النموذجي للاتجاه التداولي غير الشكلاني القائم على الأعمال المؤسسة لغرايس، فالاقتضاء لا يحدد في مقاربته باعتبار القضايا المعبرعنها، بل باعتبار المقامات التي ينجز فيها، وهي مقامات تضم الدلالات القضوية، ومقاصد المتكلم ومخاطبه، وكذلك الاعتقادات الخلفية على القضايا، وهي قضية مبررة في مسألة التواصل، ومن دونها لا يعتبر التواصل ناجحا(3) . فهو في هذا المفهوم العلاقة بين مواضعات المتكلم والسياق، ويرتبط بشبكة العلاقات حول النص، سواء أ كانت طبيعتها منطقية أم لسانية أم بلاغية أم تداولية أم أصولية، ويمكن أن نعرفه بأنه المعاني المسكوت عنها في الخطاب، وهو من أهم المفاهيم التي قام عليها علم التداول و واضعه

ص: 49


1- ينظر،أدوار الاقتضاء وأغراضه الحجاجية في بناء الخطاب،د.أحمد كروم، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 1 / 139 .
2- ينظر الاتجاه التداولي والوظيفي في الدرس اللغوي / 98
3- ينظر القاموس الموسوعي للتداولية 249/1/

(غرايس) أحد أهم المنظرين لهذا المنهج(1).

وقد ذهب غرايس أبعد من ذلك في تفسير دلالة الجملة، إلى التمييز بين الجملة والقول، فالجملة سلسلة من الكلمات التي يمكن لزيد أو عمرو التلفظ بها في ملابسات مختلفة، ولا تتغير بتغير هذه الملابسات، أما القول فهو حاصل التلفظ بجملة، وهو يتغيربتغير الملابسات والقائلين، فإذا قال زيدٌ: أبني البكر يحتل المرتبة الأولى في صفه،وهويتحدث عن ابنه محمد الذي ولد في ( 1/ 4/ 1995 ) وقال بكر: أبني البكر يحتل المرتبةالأولى في صفه،وهو يتحدث عن ابنه صالح الذي ولد في ( 22 / 6/ 2000 )،وقال عمرو: أبني البكر يحتل المرتبة الأولى في صفه،وهو يتحدث عن ابنه مهدي الذي ولد في ( 18 / 3/ 2005 ) نلحظ أن كلا من زيد وبكر وعمرو قد تلفظوا بالجملة نفسها (أبني البكر يحتل المرتبة الأولى في صفه) لكنهم أنتجوا ثلاثة أقوال مختلفة ليس بالضرورة تأويلها متشابها، في حين أن الدلالة التواضعية للجملة (أبني البكر يحتل المرتبة الأولى في صفه) ظلت ثابتة(2)، ونجد هذا التفريق جليا عند الأصوليين، بين المنطوق والمفهوم، يقول الآمدي(ت 631 ه) (المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ قطعا في محل النطق، وذلك كما في وجوب الزكاة المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة زكاة، وكتحريم التأفيف للوالدين من قوله تعالى (ولا تقل لهما أف) إلى نظائره،وأما المفهوم فهو ما فهم من اللفظ في غيره محل النطق والمنطوق، وإن كان مفهوما من اللفظ، غير أنه لما كان مفهوما من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفا بالمعنى العام المشترك تمييزا بين الأمرين)(3). فالمفهوم أعم من المنطوق، ويشمل كل الدلالات

ص: 50


1- ينظر ادوار الاقتضاء وأغراضه الحجاجية في بناء الخطاب 1/ 179
2- ينظر التداولية اليوم علم جديد في التواصل،آن روبول / جاك موشار،ترجمة سيف الدين دغفوس/ 55
3- الأحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي 3/ 83 - 84 .

غير المنطوقة، التي فهمت من الحدث اللغوي دون النطق بها.

فكل كلمة في الخطاب لها أبعاد اقتضائية محددة؛ لذلك يتم العدول دائما من صيغة إلى أخرى أو من الصفة إلى الاسم وبالعكس،حسب المعنى المراد إيصاله وقدرة اللفظ وأبعاده الاقتضائية، ففي قولنا:(لقد أذن العصر)جوابا على سؤال(كم الساعة؟) لايستطيع علم المعاني وحده أن يمدنا إلا بالتوضيح الآتي على الأكثر:

أ: السؤال /أنا أرغب أن تقول لي (كم الساعة؟)

.ب:الجواب/ لقد أذن العصر في وقت سابق لاستفسارك.

لكن الظاهر لكل من يتكلم العربية أن المراد بالتخاطب يتجاوز المنطوق الحرفي، فالحوار السابق يقصد بالتفصيل:

أ: أرغب أن تقول لي كم الساعة بحسب التوقيت المحلي المتعارف عليه دوليا في اللحظة التي أتكلم بها معك، إذا كان باستطاعتك ذلك.

ب: الحقيقة أنا لا أعرف الوقت الدقيق الآن، لكني أستطيع أن أفيدك بخبريمكنك من أن تستنتج الوقت على وجه التقريب وهو(أن أذان العصر قد مضى منذ فترة وجيزة)، ولا ريب أن هذا المقصود التفصيلي بالذات، أي الاستخبار عن الوقت الدقيق ومحاولة إفادة المعلومات على قدر المستطاع، لا يمكن الوصول إليه كليا بوساطة علم المعاني، بل لا بد من اللجوء إلى الاقتضاء التخاطبي؛ لسد الثغرة الحاصلة بين المقول حرفيا وبين ما يبلغ المستمع، فالاقتضاء في هذا المفهوم هو علاقة بين مواضعات المتكلم والسياق، وهو مرتبط بشبكة العلاقات حول النص سواء أ كانت طبيعتها منطقية أم لسانية أم بلاغية أم تداولية أم أصولية(1)، ففي قوله تعالى:«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

ص: 51


1- ينظر الاقتضاء في التداول اللساني،مجلة عالم الفكر مج 20 ،العدد الثالث، 1989 عادل فاخوري/709-710

وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ »(1)فعطف نبي على رسول دلالة على أن المعنيين يختلفان، تبعا لاختلافهما في العالم الخارجي(2)، وكذا في قوله تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَيَمْسَسْنِي بَشَرٌ)(3) فالافتراض السابق أن كل من تنجب يجب أن تكون حاملا.

فالتواصل اليومي بين الأفراد يبرر وجود المعلومة المشتركة، وهذا التواصل يستوجب إلى حد ما قيامه على خلفيات مشتركة بين الأطراف المتخاطبة، فمثلا لو أن زيدا قال لمحمد : إذا استمر الوضع على ما هو عليه فسأضطر إلى بيع سيارتي، فرد عليه محمد: وأنا كذلك، فمن السهل أن ندرك بأن ثمة معلومات غير منطوقة مشتركة بين المتكلمين،جعلت من الوضعية الاقتصادية والمحلية إطارا لها، ومن الطبيعي أن ثمة أحداثا ترتبت على تلك الوضعية من ارتفاع أسعار الطاقة بحيث لا يتحمل أصحاب السيارات ذلك، وربما غلاء المعيشة، وتدهور الحالة المعيشية، فالمتكلم والمخاطب يتقاسمان الشعور بالحالة

نفسها وربما الخوف من تلك الأوضاع؛ لذلك تطابق رد فعلهما حولها(4).

ويتسع مفهوم الاقتضاء ليشمل المعلومات العامة، وسياق الحال والعرف الاجتماعي والعهد بين المتخاطبين، فللاقتضاء دور معرفي بامتياز؛لأنه يشمل كثيرا من المعارف كالفلسفة والمنطق والسيميائية والفقه والأصول...ألخ.

وللروابط الحجاجية دور مميز في بنية الاقتضاء التداولية، وتعد موضوعا أساسا في تحديد ظواهره وأدواته؛ وذلك للوظيفية الدلالية التي تتخصص بها، وسعيها إلى ترتيب

ص: 52


1- الحج: 52 .
2- ينظر الحجاج في القرآن، عبد الله صولة / 175
3- آل عمران: 47 .
4- ينظر الاقتضاء وانسجام الخطاب، د. ريم الهمامي / 36 .

الجمل داخل النص، انطلاقا من أدوارها الحجاجية المعهودة

فاقتران الواو في الترتيب الزماني، وفقا لقرائن خارجية، يفسرلنا الغرابة في عبارات مثل (نزل الركاب ووصلت الطائرة، وارتوى العشب وأمطرت السماء) لأن العبارات الصحيحة مع المخزون الاقتضائي والبعد الدلالي للواو تكون (وصلت الطائرة ونزل الركاب، وأمطرت السماء وارتوى العشب)(1) .

أما من الجانب الدلالي فموضوع الروابط الحجاجية يتميز بمواضيع دلالية، بحسب نوع الرابط المستعمل ووظيفته الدلالية، وهذا الأمر الذي عزز دور الروابط في الاقتضاء،إذ يتصل موضوعها بالتلازم والسببية والاقتران وكلها إطلاقات تسعى في مضمونها إلى الربط بين طرفين أحدهما يقتضي الآخر، ويستوجب من اقتضائها حكما خاصا،كالتراخي، أو التباعد أو الغاية أو التقديم وغيرها من المواضيع القائمة على إشكالات

عدة في تحديد أوجه الاستعمال(2)، فالروابط الحجاجية تمثل نوعا من الإشارات الاقتضائية، تحدد مسار عملية التوقع الذهني لدى المستمع، وتميل به بحسب الوظائف الدلالية لتك الروابط، فمثلا في قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »ْ(3)ف «هذا فريق آخر، وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدوا أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا التمسك باليهودية،ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا، فالواو لعطف طائفة من الجمل على طائفة مسوق كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله إلا المناسبة بين الغرضين، لا المناسبة بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين، وقال السيد: إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه له كثيرون،فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى، وأصله مأخوذ من قول

ص: 53


1- ينظر،الاقتضاء في التداول اللساني / 151
2- ينظر أدوار الاقتضاء وأغراضه الحجاجية في بناء الخطاب 1/ 147.
3- البقرة: 8

الكشاف وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة «الَّذِينَ كَفَرُوا » كما تعطف الجملة على الجملة، فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة. قال(المحقق عبد الحكيم: وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به صاحب الكشاف)(1)، نلحظ أن استعمال واو العطف ولكن في غرض معين،مع مراعاة الفصل في جملة التشبيه.

وتعد الأغراض البلاغية من أهم الأدوات التي نستعين بها في الكشف عن إستراتيجية الإقتضاء وعن المعلومات الاقتضائية، فكل عملية استنتاج وافتراض وتحليل تهدف إلى تطويق دلالة الألفاظ والتراكيب، في محاولة لتقييد تلك الدلالات وصولا إلى فهم حقيقي لدى المخاطَب، بغية إيصال الخبر، فالانتظام والإيجاز، والإطناب والكناية، وغيرها أبانت عن وجه آخر للاقتضاء، فالإيجاز- مثلا - يعتمد كثيرا على مبدأ الاقتضاء؛ لدوره الفاعل في تصور الألفاظ والدلالات المحذوفة، محاولة لاكتمال الخبر في ذهن المتلقي، فمثلا في قوله تعالى: « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(2)فالعقودَ والْعُهُودَ التزاماتٌ بالقول يُنْشِئُها المتعاقدون والمتعاهدون، وترتبط هذه الالتزامات الإِنشائية بإبرامها بالقول، ولكن كيف يُطالِبُ اللَّهُ عزّ وجلّ بالْوَفاء بها وقد استوفَتْ شروط إبرامها؟ و الجواب: أن الدّليل العقلي يَهدِي إلى أنّ المطلوبَ الْوَفَاءُ بمقتضاها، لأنّ العقود والعهود تُبْمُ بالأَقوال ثم على مَنْ أبْرَمَها أن يلتزم بمقتضاها، فالكلام إذن على تقدير: أوفُوا بمقْتَضَ العقود،وأوفوا بمقتَضَ العهد. والدليل الذي دلّ على المحذوف الاقتضاء العقلي؛ لأن الإيفاء يكون في المترتبات المعهودة بين طرفي التعاقد، وكذلك

المعلومات المشتركة من حيث نوع العقد وزمان الوفاء. ولو استعار شخص متيم وقال

ص: 54


1- التحرير والتنوير المعروف بتفسر ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 ه)، مؤسسة التاريخ العربي، بیروت - لبنان ط 1 2000 م، 1/ 259 .
2- الاسراء:34

لحبيبته: أنت قمر، فهو لم يقصد القمر الموجود في السماء ذلك الجرم السماوي الذي يدورحول الأرض، وإلا لكان كلامه لغوا ساقطا، وإنما يريد مقتضيات القمر، من البياض والبهاء والضياء والحسن والجمال والعلو.

ويرى التداوليون ان الاقتضاء ذو أهمية قسوى في عملية التواصل والابلاغ، ففي التعليميات تم الاعتراف بدوره منذ زمن طويل في تنوع استراتيجيات الخطاب، اذ لايمكن تعليم الأطفال معلومات جديدة إلا بوجود خلفيات مسبقة يمكن الاستناد عليها بوصفها قاعدة وأساس معلوماتي يتم البناء عليه(1)

يقوم مفهوم الاقتضاء على نظرية خاصة في كيفية استعمال اللغة وتنوع استراتيجيات الخطاب، فالممارسات اللغوية بحسب - غرايس - نشاط عقلاني يهدف إلى التعاون بين المتكلم والمخاطب، ولكن هذا الخطاب لا يكون عشوائيا، وإنما محكما بقواعد ومبادئ معينة يطلق عليها مبدأ التعاون، وقواعد مبدأ التعاون معروفة ومعلومة، وهي:

الكمية: وتعني أن يحافظ المتكلم على كمية كلامه، فيسهب متى ما دعا المقام لذلك، ويطنب متى ما دعا المقام لذلك.

الكيفية: وتعني صدق فحوى الخطاب بالنسبة للمتكلم، وكونه معتقدا بما يقول.

الاضافة:تعني كون كلامك ومشاركتك للحديث ملائمة للمقام الخطاب، ومعرفة طريقة افتتاح الكلام، ووقت التدخل وحسن التخلص.

الجهة: وتعنى بكيفية قول الكلام، وكونه واضحا وبعيدا عن اللبس والغموض ومتحريا للايجاز والترتيب(2).

ص: 55


1- ينظر التداولية عند العرب، مسعود صحراوي/ 32 .
2- ينظر الاقتضاء في التداول اللساني / 147

فأي مخاطب يجب أن يراعي تلك القواعد والأسس العامة وبمراعاته لها يحصل الاقتضاء المتعارف أو العام المفهوم، وعند خرق أي قاعدة من هذه القواعد يحصل النوع الاخر من الاقتضاء وهو الاقتضاء غير المتعارف عليه. ويقوم حينئذ بتغيير استراتيجات خطابه، وتكون الصور المجازية والبيانية وسيلته في خرق القواعد، كالتعريض والتلويح والتهكم الاستعارة والتشبية والتهكم.

وأخير فقد وصل بعض الباحثين إلى أن البحث في مقتضيات الجمل والتراكيب يجب ان يكون جزءا من عمل أعم، وهو البحث في مقتضيات النصوص، فنحن نعلم أن الرابط النحوي ضروري للوصول الى مقتضيات الجمل ودلالاتها،ولكنه غير ضروري في البحث في مقتضيات النصوص؛ لأن البحث في مقتضيات النصوص يبحث في تعلقات مقتضيات التراكيب في النصوص، وهذا لا يستدعي ترابطا نحويا؛لأن مقتضيات النصوص تمثل الحصيلة التراكمية لمقتضيات الجمل، وهي بدورها تمثل الحصيلة التراكمية لمقتضيات أجزائها(1)، وهو ما أطلقوا عليه بمبدأ التأليفية، الذي يعني بأن مجموع اقتضاءات نص ما تمثل الحاصل التأليفي لاقتضاءات مجموع جمله.

ثانيا: أنواع الاقتضاء:

1 . الاقتضاء الدلالي: وهو مشروط بالصدق بين قضيتين، فإذا كانت (أ) صادقة، يجب أن تكون (ب) صادقة، مثل: إن المراة التي تزوجها زيدٌ كانت أرملة، فالصدق واجب في هذا النوع من الافتراض، ويجب ان يكون مطابقا للواقع.

1. الاقتضاء التداولي: وهو الذي لا يكون الصدق شرطا في المعنى، مثل قولك لأحدهم وأنت لا تعرف شيئا عنه، وعن نشاطه التجاري: أين تبيع المخدرات؟ فلو أخبرك بالمكان، لاستنتجت أنه يبيع المخدرات أصلا، وقد منعت بعض المحاكم والنيابات

ص: 56


1- ينظر الاقتضاء وانسجام الخطاب/ 476

الغربية هذا النوع من الحديث الاستدراجي، كأن يقول الضابط للمتهم: كم مرة ضربت زوجتك، في إطار التحقيق حول تهمة ضرب الزوجة التي لم تثبت بعد(1).

1. الاقتضاء العرفي: وهو نوع يركز على معاني الكلمات مباشرة، مستغنيا عن مبادئ الحوار، والأمثلة كثيرة على هذا النوع.

2. الاقتضاء العام: وهو نوع يستغني عن السياقات الكلامية، فليس شرطا في فهمه أخذها بعين الاعتبار، بل يعتمد على تراتبية مكوناته، من قبيل العبارات التي تحملصفة السلمية، والتدرج، والترتيب.

ثالثا: قانونا الاقتضاء التخاطبي:

ينبغي على المتحاورين اتباع قانوني الاقتضاء في خطابهم:

1. قانون الاختصار: يقضي هذا القانون أن يضمر الملقي في كلامه ما دلت عليه القرائن، مقالية كانت أو مقامية، والأهم من هذا هو أن اللسان العربي يمتاز على كثير من الألسن بكونه يميل إلى الإيجاز في العبارة، وطي المعارف المشتركة طيا، اعتمادا على قدرة المخاطب في تدارك ما اضمر من الكلام، وفي استحضار أدلته السياقية، بل في إبداعها من عنده متى اقتضت الحاجة، ومعلوم على قدر ما اضمر المتكلم يبذل المستمع الجهد في الفهم.

2. قانون حفظ المقتضَ: يوجب هذا القانون أن يبقى المقتضَ محفوظا في القول متى تقلبت عليه أساليب الكلام، خبرا أو إنشاء، إيجابا أو سلبا، بحيث يبقى في مقدورالمتلقي أن يجد لكل صيغة أسلوبية يرد فيها قول المقتضِ تأويلا يلزم منه وجودالمقتضَ. وينطوي مضمون هذا القانون على افتراض أن لكل صيغة تعبيرية وجها

ص: 57


1- ينظر أفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نخلة/ 28 - 29

فأكثر لفهم معناها، يترتب على ذلك أنه بالامكان تقسيم الصيغ التي يدخل في ترتيبها القول المنظور في اقتضائه على قسمين اثنين: أحدهما، قسم الصيغ التي لا

تحتمل على الأكثر إلا تأويلا واحدا، وهي واجبة الوجود في القول، والثانية قسم الصيغ التي تحتمل أكثر من تأويل وهي جائزة الوجود فيه(1).

رابعا: خصائص الاقتضاء التخاطبي:

1. الإلغاء (قابلية النسخ): وتعني أن الإقتضاء قابل للمحو والتبخر في السياقات اللغوية، أو الاقتضائية، أو في ظروف تتولد فيها افتراضات أو معان اقتضائية مناقضة لما كان يرجى توليده، فلو قلنا مثلا:

ب. لا يدخل زيد في حسبانه أن عمرا شاعرا.

ج. لا أدخل في حسباني أن عمرا شاعرا.

د. عمرو شاعر.

فالملاحظ أن (ت) بنية اقتضائية ل(أ)، ولكن يصعب ملاحظة العلاقة بين (ب-ت)، إذ لا يفهم من (ب) أن عمرا شاعرا، ولا تضمر هذه البنية المعنى المقارب لاقتضاء(ت) ولعل جهة السلب الاقتضائية في (ب) راجعة إلى زمن مخصوص، وهولحظة التلفظ، التي تفيد - هنا- أن عمرا ليس بشاعر، وهي جهة تداولية محمولة على

جهة القول التخاطبي.

5. الخاصية الإسقاطية: نلحظ أن الاقتضاء المركب في حالة الاسقاط، يقوم على تسلسل موجب، تخلقه الروابط والأدوات التركيبية - بالدرجة الأولى - وذلك من قبيل حروف العطف، و(لأن) المعللة، وإذن الاستدلالية وغيرها، ورغم أن هذه الروابط

ص: 58


1- ينظر التكوثر العقلي / 112 -113

لها طابع تداولي، إلا أن اعتمادها البنيوي على التركيب، جعلها تصنف في الاقتضاء الاسقاطي ضمن روابط التأثير على الاقتضاءات والمطروحات على حد سواء، ففي قولهم: (قيل: إن الشك هو تعليق الحكم، وأنه نقيض الرضا والإيمان، لكن معنى كهذا يظهر عائقا كبيرا، ففي مثل هذه الحال، أي فرق يكون بين الشكل والجهل)(1) نلحظ أن الجمل السابقة تشكل مركبات تتفاوت في ابعادها الاقتضائية، وفي الطول والقصر، لكن الجمل لم تتعاون في ترتيب المعنى الدلالي لها، ولم تتساوق بشكل تحفظ فيه تماسك النص وأبعاده الاقتضائية مجتمعة.

ص: 59


1- ينظر الخطاب اللساني العربي، بنعيسى عسو أزاييط 2/ 75 - 77 .

المبحث الثاني :الاقتضاء التخاطبي في الخطبة الشقشقية:

نسعى فيما يلي من البحث، تتبع أحد خطب الإمام المعروفة بالخطبة الشقشقية، ومحاولة تلمس مراعاة الإمام للاقتضاءات الخطابية في حديثه، ومدى انسجام حديثه مع الكلام الكلي في ذهن المتلقي.ومدى تنوع استراتيجياته الخطابية في تلك الخطبة تبعا لنوع المعلومات الاقتضائية وكميتها بينه وبين المتلقي.

يقول (عليه السلام): «أَمَا واَللِّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِيّ مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إلِيَّ اَلطَّيْر»(1)، فابتدأ الخطاب بالقسم؛ لما له من القوة الإنجازية في موضع التأثير؛ لذلك يعد من أهم الاستراتجيات الخطابية التي يستعملها المتكلم. وتكمن قوته التأثيرية في إثبات ما بعده، ونفي أي تردد عندالمخاطب في تصديق الحدث. والتقمص في العربية له معان، منها أن الرجل «تَقَمَّص في النَّهْرِ: تَقَلَّبَ وانْغَمَسَ »(2) وقد يُسْتَعَارُ فيُقَالُ: تَقَمَّصَ الِإمَارَةَ، والخلافة، والوِلَايَةَ،

ص: 60


1- ذكرت إضافة إلى كتاب نهج البلاغة، نثر الدر،أبو سعد منصور بن الحسین الآبي دار الكتب العلمية- بیروت / لبنان - - 2004 م تحقيق: خالد عبد الغني محفوظ ط 1 1/ 187 .تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، د. ت / 124 ،وغيرها
2- تاج العروس من جواهرالقاموس محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني،أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي تحقيق مجموعة من المحققن الناشر دار الهداية. 18 / 129 .

وتَقَمَّصَ لِبَاسَ العِزِّ(1)، و(تَقَمَّصَ قميصَه لَبسه وإِن لَحَسن الْقِمْصة،عن اللحياني ويقال: قَمَّصْتُهُ تقميصاً أَي أَلبستُه فتَقَمَّص أَي لَبِس)(2)، ولم يذكر (عليه السلام) الخلافة، واكتفى بالإشارة إليها في ضمير الهاء؛ لأنها معلومة عند المسلمين، فقد وردت كثير من الأحاديث المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تؤكد أحقية علي بالخلافة، وهذا الشيء من المتواتر عند المسلمين، منها حديث الغدير (من كنت مولاه فعلي مولاه)(3) وغيره، نلحظ أمرا آخر وهو أن فعل التقمص لم يرد في التراث البلاغي إلا ويراد به لبس القميص، أو الأمور الأخرى كالإمارة وغيرها، وقد تطورت دلالته فيالعصر الحديث لتشمل الإدعاء بما ليس له، فالتقمص يعني تقمص الشخصية بأبعادها كلها، يكابد متاعبها ويشقى بأثقالها فيقول، يحاول أن يلبسها، ويقلدها بكل جوانبها، ولا يعني إذا فقط أخذ الدور الذي ليس له، ولكن كلام الإمام علي(عليه السلام) هنا ورد ليدل على الادعاء ولبس ما ليس له، فكلامه يساوق دلالة اللفظ المحدثة، وقوله: فلان، دلالة على الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ولم يذكره؛ لعلم المقابل به، وفي قوله فلان أمور، منها:

1. أن كنايته بفلان فيها ذم للمقابل؛ لان العرب تكني بفلان تذمما من ذكر الاسم.

2. هذه ليست المرة الوحيدة التي يكني بها أمير المؤمنين عن أحقيته بالخلافة، ومن هذه الأحاديث (وفى كتابه (عليه السَّلام) إلى أهل مصر يقول: (فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان ليبايعوّنه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن

ص: 61


1- ينظر نفسه / الصفحة نفسها
2- لسان العرب، (قمص) 7/ 82
3- ينظر المستدرك على الصحيحين:محمّد بن عبد الله المعروف ب « الحاكم النيسابوري «، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية / بیروت، 2002 م. 3/ 419 ، مسند أحمد 2/ 71، وغيرهما كثرمن كتب الحديث.

الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلّ الله عليه وآله، فخشيتُ إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايَتِكُم)(1).

3. وكذلك فهذه ليست المرة الوحيدة التي يتشاكى فيها علي(عليه السلام) من سلب حقه في الخلافة، فكثيرا ما عرض بهذه القضية في أحاديث معروفة،منها: قوله عليه السَّلام عند فتنة الجمل: (فو الله ما زلتُ مدفوعاً عن حقي، مستأثرا عليَّ منذ قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله حتى يوم الناس هذا)(2).

ويروي عليه السَلام حديثاً له مع بعض الصحابة: «وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ عَلَ هَذَاالَامَرِ يَا ابِنَ أبَي طاَلبٍ لَحرَيصٌ فقَلتْ بَل أنَتْمُ وَ الَّلَه لَاحَرَصُ، وَ أبَعْدُ وَ أنَاَ أخَصُّ وَ أقَرَبُ،وَ إنِّمَا طلَبتُ حَقّا لِي وَ أنَتمُ تَحُولُونَ بَينْيِ وَ بَينْهُ، وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ، فَلَمَّ قَرَّعْتهُ باِلْحُجًةِ فِي اَلَملأ اَلحَاضِرينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجيبُنِي بِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّ أَسْتَعْدِيكَ عَلَی قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهمُ فَإنِّهمُ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ، وَ أَجَمعُوا عَلَی مُنَازَعَتِي أَمْراً هُو لِي »(3)، وقوله (عليه السلام) لمّا عزموا على بيعة عثمان: «لقد عَلِمْتُمْ أنّ أحَقُّ النَّاسِ بِها مِنْ غَيْري(وَالله لأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أُمورُ المُسلمينَ) وَلَم يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إلاّ عَلَّيَّ خاصَّةً، التماساً لأجْرِ ذلك وفضلِهِ، وَزُهداً في ما تنافستُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ »(4)، فكل هذه الروايات أغنت عن ذكر الخلافة بلفظها، و شكلت بعد إقتضائيا في معلومات المتلقي.

وفي إضمار الخلافة ومتقمص الخلافة نكتة أخرى، وذلك لكونهما حاضرين في اقتضاءات المخاطَبين، أو في شرف الحضور الذهني؛ وذلك لقيام القرائن المقامية عليهما،

ص: 62


1- شرح نهج البلاغة: أبو حامد عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني،تحقيق: محمد عبد الكريم النمري، دار الكتب العلمية - بیروت / لبنان - ط 1 - 1998 م، 17 / 152
2- نهج البلاغة 1/ 221
3- نفسه 9/ 306
4- نفسه 6/ 167

وفي إضمارهما تقوية لذكرهما؛ كون السامع يعلمهما علم اليقين، ولا يحتاج لذكرهما، ولو كان المتكلم لديه شك في التباس المقال، لقام بذكرهما؛ لأن عليا(عليه السلام) يحترم مبدأالتعاون بينه وبين المتلقي، وخصوصا قاعدة الجهة التي يتوخى فيها المتكلم الإلباس، ونكتة أخرى وهي استعمال أسلوب التوكيد الذي أعطى دفعة اقتضائية أخرى رفعت

كل الإبهام الموجود في ذهن المتلقي وفي معلوماته المشتركة، وصوبت المقتضى نحو معلومة واحدة مؤكدة وهي ما أضمرها الخطاب. والتأكيد فعل كلام انجازي، وهذاالنوع من السياقات التي دفعت بأوستين إلى التخلي عن التفريق بين الفعل الوصفيوالفعل الإنجازي، الذي يتفرع منه الفعل التأثيري الذي يتحقق نتيجة للكلام الذي يسبقه(1) وهو تأثر المقابل بخطابه. ودلت ( اللام وإن) على المبالغة في طعن الإمام على أبي بكر، وأنه لم يتقمص الخلافة وهو جاهل بحق علي فيها، إنما عن عمد بذلك؛ لأنه يعلم محل علي منها:

لقد أكد الإمام علي (عليه السلام) معرفة الخليفة الأول بمقام الخلافة والولاية للإمام علي عليه السلام، ولكن علام استند (عليه السلام) في تأكيده؟ ولما استعمل

إستراتيجية التوكيد في خطابه؟ استند إلى أبعاد اقتضائية مهمة واقعة في ذهن المتلقي،وهي كون أبي بكر الصديق من المسلمين الأوائل وقد عاصر النبي الأكرم في كل حروبه

وغزواته، وسمع عنه كثيرا من أحاديثه، فلا بد أنه سمع بحديث الولاية مثلا، والذي أقر به (صلى الله عليه وآله وسلم) بولاية علي بن أبي طالب بعده على المسلمين وأحقيته بالخلافة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن «خَرَجَ بِالنَّاسِ فِ غَزَوةِ تَبُوكَ , فَقَالَ لَهُ عَلَّيُّ: أَخْرُجُ مَعَكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّ اللُّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لا، فَبَكَى عَلِيٌّ, فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّه صَلَّي اللُّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَمَا تَرْضَ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّكَ لَسْتَ بنبِيٍّ، إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي، قَالَ: وَقَالَ لَهُ:أَنْتَ وَلِّيٌّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، قَالَ:

ص: 63


1- ينظر تداوليات الخطاب السياسي، نور الدين أجعيط / 70

وَسَدَّ رَسُولُ اللِّهَ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابَ الَمسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عِلّيٍ، فَيَدْخُلُ الَمسْجِدَ جُنُبًا وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ، قَالَ: وَقَالَ:مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِّيٌّ مَوْلاهُ »(1)،والدلائل على معرفة أبي بكر الصديق بمنزلة الإمام علي من الخلافة كثيرة، توضح لنا سبب تأكيد علي على معرفة أبي بكر بهذه المنزلة، دون ذكرها، اعتمادا على المعلومات الاقتضائية عندالمتلقي منها تفسير آية الولاية في سورة المائدة:«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(2) والآية نزلت في علي بن أبي طالب،وقد اشتهر هذا الخبر وثبت، إذ يروى أنّ حسّان بن ثابت الشاعر الأنصاري الصحابي المعروف، نظم هذه المنقبة في شعرا، نقله الآلوسي البغدادي صاحب روح المعاني(3)، يقول فيه:

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً*** زكاةً فدتك النفس يا خيرَ راكعِ

فأنزل فيك الله خيرَ ولاية*** وأثبتها أثنى كتاب الشرايع

إذن، هذه القضيّة لا يمكن المناقشة في سندها بشكل من الأشكال، ولا مجال لان تكذّب هذه القضيّة، أو تضعّف روايات هذه القضيّة، فهي من المسلمات في العقلية المسلمة(4).

ص: 64


1- الحديث متواتر قاله عدد كبیر من العلماء ينظر،نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي دار الكتب العلمية - بیروت - 1995 م تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي 3/ 327 ، تفسر السراج المنیر محمد بن أحمد الشربيني, أشمس الدين دار الكتب العلمية بیروت 1/ 487
2- المائدة:55
3- ينظر روح المعاني 6/ 167 .
4- ينظر مثلا اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص عمر بن علي ابن عادل الدمشقي الحنبلي دارالكتب العلمية - بیروت / لبنان - 1998 ط 1 تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض 7/ 396 تفسر القرآن العظيم، أبو الفداء إساعيل بن عمر بن كثیر القرشي الدمشقي(المتوفى: 774 ه)تحقيق: محمود حسن، دار الفكر 1994 م 2/ 90 وغيرها كثير من المصادر..

فأكد أن الرحى لا قطب لها غيره، فإذا دارت، فإنّ حجرها ينزلق، ولا يطحن القمح فحسب، بل ويدمّر الطحّان والمطحنة، و» ليس من هذا النمط الذي نحن فيه ولكنه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة والتوسع يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب ودورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنها لاتقوم إلا بي ولا يدور أمرها إلا علي. هكذا فسروه وعندي أنه أراد أمرا آخر وهو أني من الخلافة في الصميم وفي وسطها وبحبوحتها كما أن القطب وسط دائرة الرحى »(1)، فهويحيل على أثر الرحى في ذهن المتكلم فيما لو انفصلت عن قطبها، وهي معلومة اقتضائية، فالمخاطب يعلم أن قطب الرحى إذا انفصم عن الرحى أدى إلى ضياع الثمرة المرجوة من الطحن، فالمقصود أنّ الأثر المطلوب من الرّحى كما لا يحصل إلاّ بالقطب ولولاه لم يحصل لها ثمر قط، كذلك الثمرة المطلوبة من الولاية والخلافة، أعنى هداية الأنام وتبليغ الأحكام ونظام أمور المسلمين وانتظام أمر الدّنيا والدّين،لا تحصل إلاّ بوجوده عليه السّلام فيكون الخلافة دائرة مدار وجوده كما أنّ الرّحى دائرة مدار القطب، ففيه إشارة إلى عدم إمكان قيام غيره مقامه وإغنائه غناه كما لا يقوم غير القطب مقامه ولا يغني عنه(2)، وقام التمثيل بدور مهم، بدور كشفي يساعد في توسع الدلالات، و يساعد المتكلم فيفتح له آفاق الخطاب، ويستطيع أن يتخلى عنه، متى ما اطمأن إلى وصول فكرته، وستغني عنه إذا وصل للنتيجة المرجوة(3). للمكون البلاغي أهمية كبيرة في البحث الاقتضائي، ويعد من الاستراتيجيات المهمة التي يلجأ إليها المتكلم، عندما لا يسعفه الكلام الصريح، فالمعاني التي يولدها

ص: 65


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي / 120 - 121
2- ينظر منهاج البراعة 3 / 41
3- ينظر حجاجية الاستعارة والتمثيل شاييم بيرلمان، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 5/ 379

الكلام المجازي لا يمكن توليدها من الكلام الحقيقي. ويتجلى دوره في «معطيات المعنى المتضمن (ب) المرتبط بالمقول (أ) ثم تحديد الحالات التي تلفظ فيها (أ) قصد تحيد المعنى المعين (ب) في الوضعية (ج)»(1)، وتعد مسألة استعمال الصور المجازية من أهم مبادئ الاقتضاء الحاصلة عند «خرق القواعد بشكل صريح وسافر، أو كما يعبر عن ذلك غرايس، عند الاستخفاف ( Flouting) بالقواعد أواستغلالها (exploitation)، هذا بالطبع مع احترام مبدأ التعاون العام؛ لأن المتكلم إذا انحرف عن استعمال موافق للحكموالقواعد،احتاج المستمع على الأقل إلى تقدير مبدأ التعاون؛ كي يوصل عبر استدلالات متتابعة إلى المقتضى الذي يقصد المتكلم إبلاغه. أما البغية من هذا الخرق فهي توليد الصور البيانية »(2)، وتعد مسألة استعمال الصور البلاغية من أهم الكيفيات المعتمدة في هذا النوع من الاقتضاء؛ لذلك نجد هذا النوع سائدا في كلام الإمام علي(عليه السلام)، فقد استعمل حوالي عشر صور بلاغية في قوله «يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَّي اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَاَ ثَوْبا وَ طَوَيْتُ عَنهْا كَشْحا وَ طَفِقْتُ أرتَئيِ بَيْنَ أنَ أصُولَ بيِدٍ جَذَّاءَ أوْ أصَبِرَ عَلَي طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَي هَاتَا أَحْجَى فَصَبْتُ وَ فِ اَلْعَيْن قَذًى وَ فِ اَلَحلْقِ شَجًا»، فقد امتزجت الأغراض البلاغية كلها في بنية الاقتضاء، و حققت أعلى الدرجات في التلميح والرمزية و التعريض بمقاصد المتكلم، وهي سمات جعلت هذا النوع من الخطاب ابلغ من الخطاب الصريح، يقول الجرجاني(ت 471 ه) في هذا المقام « قد أجمعَ الجميعُ على أن الكنايةَ أبلغُ منَ الإِفصاح والتعريض أوقعُ من التَّصريح، وأن للاستعارةِ مزيّةً وفَضلاً و أن المجازَ أبداً أبلغُ منَ الحقيقة. إلا أنّ ذلك وإِن كان معلوماً على الجُملة فإِنّه لا تطمئنُّ نفسُ العاقلِ في كُلَّ ما يُطلبُ العلمُ بِه حتى يبلغَ فيه غايتَهُ وحتّى يغلغلَ الفكرُ إلى زواياهُ

ص: 66


1- ينظر ادوار الاقتضاء وأغراضه الحجاجية في بناء الخطاب 1/ 164
2- الاقتضاء في التداول اللساني/ 152.

«(1)، نلحظ أن الجرجاني يعطي حرية للمخاطَب في إكمال عملية التواصل من خلال الاعتماد على المخزون المعرفي لديه، والبعد الاقتضائي للألفاظ، ومن خلال الألفاظ الرمزية التي سيقت في المقام.

وقوله (عليه السلام) «حَتَّى مَضَ اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ،فَأَدْلَي بِهَا إِلَ فُلاَنٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَ كُورِهَا*** وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَياَ عَجَبا بَينْاَ هُوَ يَسْتقِيلُهَا فِي حَياَتهِ إذِ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطرَّا ضَرعَيهْا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْناَءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخشُنُ مَسُّهَا، وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فيِهَا وَ اَلاِعْتذِارُ مِنهْا فَصَاحِبهُا كَرَاكبِ الَصَّعْبةَ، إنْ أشَنقَ لَاَ خَرَمَ وَ إنِ أسْلَسَ لَاَ تَقَحَّمَ، فَمُنيَ الَناَّسُ لَعَمْرُ الَل بِخَبْطٍ وَ شِمَسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ، فَصَبرْتُ عَلَي طُولِ اَلُمدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ».

فقوله:(أدلى) بها إلى فلان أي ألقاها إليه ودفعها، قال تعالى:«وَ لا تَأكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْاطِلِ وَ تُدْلوا بِها إِلىَ الحكُّام»(2) أي تدفعوها إليهم رشوة، فاستعمل ْعليه السلام المعنى الآخر للإدلاء، وما يحمله من دلالة تحيل على أبعاد اقتضائية مهمة، وهو الذي ورد في تفسير الآية بأن معنى الإدلاء في الآية لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام؛ لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة، فيكون المراد الاعتناء بالنهي من هذا النوع من أكل الأموال بالباطل، والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع، فالمعنى: لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بهافريقا من أموال الناس بالإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاد الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره، فهي تحريم للرشوة، وللقضاء بغير الحق، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب

ص: 67


1- دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر / 70.
2- البقرة: 188.

القضاء بالباطل، فأراد (عليه السلام) تثبيت معنى في ذهن المتلقي مفاده أن توصية أبي بكر بأن الخليفة بعده عمر بن الخطاب بمثابة الرشوة التي تدفع للحكام ليغيروا حكما عن طريقه، ويستبدلوه بآخر باطل(1).

وتمثله بقول الأعشى السابق؛ للماثلة بين حال الأعشى في وقت قوله البيت وحالهعليه السلام، فحيان وجابر في البيت ابنا السمين بن عمرو، فكان حيان رجلا ميسورا و صاحب حصن في اليمامة، وكان الأعشى نديما له، وبعد ذلك تغير الزمن على الأعشى فأراد أن يقارن بين يومه وهو راكب على كور المطية ويوم كان نديما لحيان، فأراد عليه السلام أن يربط بين حياته السابقة في كنف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانته المرموقة التي عرفها العرب، وحاله اليوم بعد أن سلب حقوقه من بعد وفاة لرسول(صلى

الله عليه وآله وسلم) وما قاساه من ظلم وعدوان.

وقوله (عليه السلام):» فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِ حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ (فقد نشأ التعجب عنده من تناقض المواقف، فالخليفة الأول كان يظهر الزهد في الخلافة، بدلالة (يستقيلها) التي تحيل على المخزون الاقتضائي في ذهن المخاطَب،العائد على خطبته أبان تسنمه الخلافة، إذ قال (أقيلوني فلست بخيركم) إذ عقدها لآخر أراد به عمر بن الخطاب، أي جعلها معقودة له لتكون له بعد وفاته، ووجه التّعجب أنّ استقالته منها في حياته دليل على رغبته عنها وزهده فيها، وعقدها لغيره دليل على رغبته فيها وميله إليها، وهو يضادّ الاستقالة الحقيقية فيكون دليلا على كون الاستقالة منه صوريّة، ووجه آخر للتعجب ناشئ من كيفية عقده الخلافة لعمر بن الخطاب، وما حجته في ذلك، وما دليله، فهل له حق في عقد الخلافة لمن بعده دون مشورة أو وصية؟ ويمكن أن يكون عقدها من باب ألبسها إياه عقدا، أو من باب ألزمها بع عقدا ثابتا ومتعاقدا عليه من طرفين الأول الواهب والثاني المستلم.

ص: 68


1- ينظر تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور 2/ 191.

وقوله (عليه السلام): «لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا، وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلِاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَاَ خَرَمَ، وَ إِنْ أَسْلَسَ لَاَ تَقَحَّمَ، فَمُنيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللِّهَ بِخَبْطٍ وَ شِمَسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَ طُولِ اَلُمْدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلِمحْنَةِ ». في كلامه وصف لحال المسلمين فيظل خلافة عمر بن الخطاب، استعمل (عليه السلام) المجاز كعادته أسلوبا في وصف الأحداث؛ لما له من مزية واضحة على الكلام الحقيقي، فاستعمل الاستعارة في قوله

« تشطر ضرعيها (فشبه الخلافة بضرعي الناقة دلالة على اقتسام الخليفة الأول والثاني للخلافة، وهي مما لا يجوز اقتسامه؛ لأن أخلاف الناقة مما يجب أن يحلبا معا، وشاطرت ناقتي إذا احتلبت شطرا وتركت الآخر، وشاطرت فلانا مالي إذا ناصفته (1)و(الحوزة) الطبيعة والنّاحية و(الغلظ) ضدّ الرّقة و(الكلم) بفتح الكاف وسكون اللاّم الجرح(2) يقال: كلمته كلما من باب قتل جرحته ومن باب ضرب لغة، ثمّ أطلق المصدر على الجرح، ويجمع على كلوم وكلام مثل بحر وبحور وبحار، و(العثار) بالكسر مصدر من عثر الرّجل والفرس أيضا يعثر من باب قتل وضرب، وعلم كبا و (الصّعبة) من النّوق غير المنقادة لم تذلل بالمحمل ولا بالرّكوب(3) وشَنَقَ البَعيَر يَشْنِقُه ويَشْنُقُه شَنْقاً

وأَشْنَقَه إذا جذب خطامه وكفَّه بزمامه، وهو راكبه من قِبَل رأْسِه حتى يُلْزِقَ ذِفْراه بقادمة الرحل(4)، نلحظ أن الإمام طرح لوحة مجازية من الاستعارات والكنايات والتشبيهات، خدمة للدور الاقتضائي الذي وعاه وكانت تعبر عن مواقف وأحداث خدمت تقنيات الحجاج، وهذا فن يسمى (فن تصوير الأحداث) فالقارئ لا يكون في مواجهة مباشرة

ص: 69


1- لسان العرب (شطر) 4/ 407 .
2- نفسه (كلم) 12 / 522
3- نفسه (عثر) 4/ 539 .
4- نفسه (شنق) 10 / 187.

مع الإطار المشهدي، وإنما يواجه ما يعرف بفن تصوير الأحداث « السينوغرافيا» التي تتعدى إطار الأحداث التي حصرت، وإنما تعطي لها أبعادا أخرى ترسم طريقة حدوثها، وتعطي للملفوظ شرعية وتقره وتسمح أيضا بتحديد الأشياء التي تتحرك في الأحداث، و ملاحظتها عن قرب وهذا المفهوم يسمح بتحديد المكانة المخصصة للمتلقي(1)، فإنناعندما نؤلف جملة نؤلفها من أجل معنى معين، نريد أن نوصله للمخاطب بصورة معينة، واستعمال الأساليب البلاغية لا يكون تجميليا،وإنما لغاية حجاجية لا يصح أو يكتمل المعنى بدونها، فالمجاز لا يخاطب عقل المخاطب وذهنه فحسب، وإنما يخاطب نفسه وانفعالاته أيضا ومخيلته، ولا شك أن قوة المجاز على الحقيقة أنه يستطيع أن يؤثر في عقل المخاطب ونفسه معا(2).

وقد وصف (عليه السلام) مدة حكم الخليفة الثاني وحال الناس فيها ولكنه لجأ إلى الخطاب البلاغي في وصفه، يقول: (فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس) أي بلي الناس بالخبط، والخبط السير على غير جادة والشماس، النفار والتلون التبدل والاعتراض السير لا على خط مستقيم، كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا، وإنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط، وفرس عرضي يعترض في مسيره؛لأنه لم يتم رياضته وفي فلان عرضية أي عجرفة وصعوبة(3)، وهي إشارة إلى ما روي عن الخليفة الثاني من استشاراته الكثيرة في أحكامه ومنها:(لولا علي لهلك عمر)(4)، وأنه (أي الخليفة الثاني) كان كراكب الناقة الصعبة، يحتاج إلى مداراة، كما أن راكبها يحتاج إلى مداراتها لتقلب أحوالها، فهو إن وجهها

ص: 70


1- ينظر البعد التداولي والحجاجي في الخطاب القراني / 21.
2- ينظر حجاجية المجاز والاستعارة، د. حسن المودن ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 3/ 719 .
3- لسان العرب (عرض) 7/ 165.
4- مفاتيح الغيب،الإمام العالم العلامة والحر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي(ت 606 ه) دار الكتب العلمية - بيروت - 1421 ه - 2000 م، ط 1، 21 / 18.

بالزمام خرم انفها، وان أسلس لها القيادة أخذته إلى المهالك، وهو تشبيه لحاله مع الخلق وصعوبة حكمهم(1).

واستعمل التشبيه هنا للطاقة التخيلية للمشبه به، وكونه إستراتيجية مهمة في وصف الوقائع والأحداث، وكذلك للوقائع المركوزة في ذهن المتلقي، التي تشكل سندا اقتضائيالعملية التشبيه، فأخبار اعتذار الخليفة الثاني عن التفقه كثيرة منها: حينما منع المغالاة في مهور النساء، وقال:» مَن غالى في مهر ابنته أجعله في بيت مال المسلمين،فقامت امرأة في آخر المسجد وقالت له: أما تقرأ قوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيئا) (النساء 20 )؟،فقال: كلّ الناس أفقه من عمر، حتّى المخدّرات في البيوت.(2)» وكذلك أمره برجم مجنونة، فنبّهه علي (عليه السلام) وقال:إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق (فقال عمر: لولا عليّ لهلك عمر)، وخطب عمر الناس يوماً فقال: مَن أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبّ بن كعب، ومَن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومَن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومَن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإنّ له خازن. وفي لفظ: فإنّ الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً(3).كل هذه المعلومات والحوادث المخزونة في ذهن المتلقي، جعلت من كلام أمير المؤمنين مقبولا عندهم، وجعلت كل ما يبوح به موثوقا، معتمدا على قدرته في سرد الحوادث بأسلوب بلاغي مميز.

وقوله (عليه السلام): «حَتَّى إِذَا مَضَي لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّ أَحَدُهُمْ، فَيَا

ص: 71


1- ينظر شرح نهج البلاغة للبحراني / 177 - 178
2- ينظرالسنن للبيهقي، دار الفكر بیروت 7 / 233 ، كنز العماّل عليّ المتّقي بن حسام الدين الهندي، تحقيق الشيخ بكري حياني والشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة / بیروت، 1989 م. 16 / 537 ،الدر المنثور دار الفكر - بروت، 1993 2/ 466
3- ينظر المستدرك 3 / 30 ، 306 ، السُنن الكبرى للبيهقي 6 / 210 .

للَّه وَ للِشُّورَى مَتَى اعِتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِّي مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنهْمُ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلِيَ هَذِهِ اَلنظَّائِرِ، لَكنِيِّ أَسْفَفْتُ إذِ أَسَفُّوا وَ طرِتُ إذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنهْمُ لضِغْنهِ وَ مَالَ اَلْخَرُ لصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ.»

وحتى هنا لانتهاء الغاية، (والغاية لزوم تال الشرطية لمقدمها، أعني جعله لها فيجماعة لمضيه لسبيله)(1) وهي رابط اقتضائي، فما بعدها يقتضي ما قبلها فلو لم يمض لسبيله لما جعلها في جماعة.وظاهرة استعمال المعاني الرابطة ظاهرة عالمية في جميع اللغات الإنسانية، وتتميز العربية بهذه الظاهرة بصورة واضحة، إذ تتسم بأنها لغة الربط في تراتيبها اللفظية والمعنوية، وقد وضح الزمخشري ذلك بقوله(قد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا من ذلك قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل)(2)، فالمعاني التي تتحكم بالتراكيب يمكن لها أن توضح سير الاقتضاءات التخاطبية في النصوص، فبملاحظة معاني الروابط يمكن لنا

أن نرسم خارطة سير المعاني والأحداث، وقد خالف المتكلم مبدأ الكمية في قوله: «مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِّيَ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَ هَذِهِ اَلنَّظَائِر» فلم يقصد المقارنة العادية معهم، ولكن أراد كل مبطلات المقارنة، من علو شأنه، وتميز مكانته في الإسلام مقارنة بهم.

لما طعن أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب، وعلم أنه ميت دعا عليا وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، وقال: مات رسول اللّ، وهو راض عن هؤلاء، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم، ثم قال لمن يعتمد عليه: إن اجتمع علي وعثمان فالقول

ص: 72


1- شرح نهج البلاغة للبحراني / 178.
2- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي دار إحياء الراث العربي - بیروت تحقيق: عبد الرزاق المهدي، 1/ 47الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي دار إحياء الراث العربي - بروت تحقيق: عبد الرزاق المهدي، 1/ 47

ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة،فالقول للذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن ابن عوف لا يعدل بالأمر عن عثمان؛ لأن ابن عوف صهره وزوج أخته، ثم أمر عمر أن تضرب أعناق الستة إن امتنعوا عن تنفيذ أمره(1).فتعجب الإمام من ذلك، فقال: متى اعترض الشك في مع أبي بكر حتى أقرن بسعد بنأبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهما، لكني طلبت الأمر وهو موسوم بالأصاغر منهم، كما طلبته أولا وهو موسوم بأكابرهم، أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة، أما سبب استغرابه من أن يقرن بهؤلاء الناس فهو ما تركز في ذهن المتلقين من أحداث ومعلومات اقتضائية تأكد تفوقه عليهم ديناوعلما ونسبا وخلقا وتسند عملية التعجب وتقويها، منها قوله الذي ذكره بعض المحققين (فلما رأى أمير المؤمنين عليه السّلام ما همّ القوم به من البيعة لعثمان قام فيهم ليتّخذعليهم الحجة، فقال عليه السّلام لهم: اسمعوا منّي فان يك ما أقول حقا فاقبلوا، وإن يك

باطلا فأنكروه ثمّ قال عليه السّلام: أنشدكم باللّ الذي يعلم صدقكم إن صدقتم ويعلم كذبكم إن كذبتم،هل فيكم أحد صلّ القبلتين كلتيهما غيري؟ قالوا: لا، قال:أنشدتكم باللّه هل فيكم من بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان غيري؟ قالوا: لا، قال:فأنشدتكم باللّ هل فيكم أحد عرف النّاسخ من المنسوخ في القرآن غيري؟ قالوا: لا)(2)إلى آخر خبر طويل وتساؤلات كثيرة، وحجج طويلة تبين تفرده وعليهم وعلو قدره حتى قال في نهاية حديثه: (أما إذا أقررتم على أنفسكم واستبان لكم ذلك من قول نبيّكم فعليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأنهاكم من سخطه وغضبه ولا تعصوا أمره، وردّوا الحقّ إلى أهله واتّبعوا سنّة نبيّكم فإنكم إن خالفتم خالفتم الله، فادفعوها إلى من هو أهله وهي له، قال: فتغامزوا فيما بينهم وتشاوروا وقالوا: قد عرفنا فضله وعلمنا أنّه

ص: 73


1- ينظر في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية 1/ 91.
2- منهاج البراعة 3/ 76.

أحقّ النّاس بها، ولكنّه رجل لا يفضل أحدا على أحد، فان وليتموها إيّاه جعلكم وجميع النّاس فيها شرعا سواء، ولكن ولوها عثمان فانّه يهوى الذي تهوون فدفعوها إليه)(1).

وقوله (عليه السلام): «إِليَ أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يْخَضَمُونَ مَالَ اَللِّهَ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إلِيَ أَنِ اِنْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَعَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ » فالنّفج في اللغة الرّفع(2) يقال: نفج الثدى الثوب أي رفعه و(الحضن) الجنب وما بين الإبط والكشح، يقال: للمتكبّ جاء نافجا حضنيه، ولمن امتلاء بطنه من الأكل جاء نافجا حضنيه، والأنسب في المقام الثّاني تشبيها بالبعير المنتفج الجنبين من كثرة الأكل و(النثيل) الروث((3) (المعتلف) موضع الاعتلاف، وهو أكل الدّابة العلف و(الخضم) الأكل بجميع الفم ويقابله القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان، يقال: خضم الشّء كعلم وضرب أكله بجميع فمه، الخضم الأكل بأقصى الأضراس، والقضم بأدناها(4).

وثالث القوم هو عثمان بن عفّان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأثبت عليه السّلام له حالا يستلزم تشبيهه بالبعير و، استعار له صفته بقوله: (نافجا حضنيه)، لقد خالف الإمام مبد الإضافة (الملائمة) لأن الخليفة الثالث لا يمتلك تلك الصفات التي أوردها، وهي صفات البهائم، وإذ تعذر علينا التفسير الحرفي للألفاظ،

ثبت لدينا أنها من قبيل التشبيه، ولكنها من أشد التشبيهات قسوة وأعلاها قيمة وأقواها وقعا وتأثيرا في نفس المتلقي، عندما يكون التهكم ممزوجا بالتشبيه، ويتحرك المعنى الاقتضائي من المشبه به وملازماته وصفاته إلى المشبه وأحواله ووجه الشبه بينهما بمراعاة

ص: 74


1- نفسه 3/ 82
2- ينظر لسان العرب، (نفج) 2/ 381 .
3- نفسه (نثل) 11 / 645 .
4- نفسه (خضم) 12 / 182 .

السياق، قال الشّارح المعتزلي :و هذا من أمضّ الذّم وأشدّ من قول الحطيئة الذي قيل: إنّه أهجى بيت للعرب:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها*** و اقعد فانّك أنت الطاعم الكاسي.

والتشبيه من الأدوات الحجاجية المهمة، فبه نستطيع أن نعبر عن المقاصد اللغوية،وندعم الأفكار، وينبغي ربط أطراف التشبيه بالمقامات والسياقات والممارسات التي

جاءت بها(1)، وتأكيدها في ذهن المتلقي.

وقوله: «وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ» كناية عن كثرة توسّعهم بمال المسلمين وشدّة أكلهم من بيت المال من غير مبالاة لهم فيه (كخضم الإبل) وأكلها بجميع فمها (نبتة الرّبيع) ونباته، ووجه الشّبه أنّ الإبل لمّا كانت تستلذّ نبت الرّبيع

بشهوة صادقة وتملأ منه أحناكها؛ وذلك لمجيئه عقيب يبس الأرض وطول مدّة الشّتآء، كان ما أكله أقارب عثمان من بيت المال مشبها بذلك، لاستلذاذهم به وانتفاعهم منه بعدطول فقرهم، وكذلك التغييرات السياسية التي أجراها، إذ عين كثيرا من أقربائه ولاة على

المسلمين، وكذلك إطلاق أيديهم في بيت المال، واعتراض علي(عليه السلام) عليه(2).

أما مخالفة الصحابة لعثمان، فقد خالف أغلب الصحابة عثمان وأنكروا عليه سيرته، ومنهم: أبو ذر الذي قال فيه رسول الله صلّ الله عليه وآله: «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» حتى نفاه إلى الربذة(3)، ومنهم عمّر بن ياسر الذي قال النبيّ صلّ الله عليه وآله فيه: «إنّ عمّراً مُلئ إيماناً من قَرنِه إلى قَدَمِه» ومنهم

ص: 75


1- ينظر، التمثيل والاستعارة في العلم والشعر والفلسفة،شاييم بيرلمان، ضمن الحجاج مفهومه و مجالاته 5/ 375 .
2- تاريخ الطبري 4/ 338 .
3- ينظر الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 3/ 10 .

عبد الله بن مسعود الصحابي الذي مسح رسول الله صلّ الله عليه وآله على رأسه وقال له: (إنّك غلامٌ مُعلَّم)، وممّن خالفه عائشة، فقد أفتت بقتله بقولها: (اقتُلوا نَعثلاً فقد

كفر)(1)، وعبد الله بن عمر الذي قال عن عثمان: ما منّا إلّا خاذلٌ له أو قاتل.

وقوله: «فَمَ رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَّيَ يَنْثَالُونَ عَلَّيَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلَحْسَنَانِ، وَ شُقَّ عِطْفَايَ مْجُتَمِعِينَ حَوْلِ كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ، فَلَمَّ نَهَضْتُ بِالإْمْرِ نَكَثتْ طَائفِةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى، وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنّهَمُ لَم يَسْمَعُوا كَلامَ اَللَّه حَيثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، بَلَي وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا، وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا» وعرف

الضبع ثخين، يضرب به المثل في الازدحام، وينثالون يتتابعون مزدحمين، والحسنانالحسن والحسين (عليهما السلام)، والعطفان الجانبان من المنكب إلى الورك،والمعنى

خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم والزحام، استعماله (كل) لما لها من الاقتضاءات العامة؛ لأن ثمة تتدرجا سلميا في ألفاظ مثل (كل - بعض) فيقتضي قوله أن الناس لم تصطك به بإحدى جوانبه، بل بكليهما، وقال القطب الراوندي الحسنان إبهاما الرجل. وقوله(عليه السلام) كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم يصف شدة ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه. وقال القطب الراوندي: يصف بلادتهم ونقصان عقولهم؛ لأن

الغنم توصف بقلة الفطنة وهذا التفسير بعيد وغير مناسب للحال. فأما الطائفة الناكثة فهم أصحاب الجمل وأما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين وسماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القاسطين وأما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان، وقد سماهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) القاسطين إلى قوله (ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين)، وهذا الخبر من دلائل نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه إخبار صريح

ص: 76


1- ينظر تاريخ الطبري 4/ 459.

بالغيب لا يحتمل التمويه والتدليس كما تحتمله الأخبار المجملة(1).

وقوله (عليه السلام): «أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلَحْبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ اَلَحْاضِرِ وَقِيَامُ اَلُحْجَّةِ بِوُجُودِ اَلناَّصِرِ، وَ مَا أَخَذَ اَللُّهَ عَلَ اَلْعُلَمَءِ أَلا يُقَارُّوا عَلَ كِظَّةِ ظَالِ وَ لا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَي غَارِبَهِا، وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِاَ وَ لَلَفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ» (أمّا والذي فلق الحبّة) أي شقّها وأخرج النّبات منها بقدرته الكاملة (و برأ النّسمة) أي خلق الإنسان وأنشأه بحكمته التّامة الجامعة (لولاحضورالحاضر) للبيعة من الأنصار والمهاجر أو حضور الوقت الذي وقّته رسول اللّه «صلّي اللّه عليه وآله وسلّم» لقيامه بالنّواهي والأوامر (و قيام الحجّة) عليه السّلام (بوجودالنّاصر) والمعين و لولا (ما أخذه اللّ على العلماء) أي الأئمة عليهم السّلام أو الأعم من (أن لا يقارّوا) ولا يتراضوا ولا يسكنوا (على كظة ظالم) وبطنته (ولا سغب مظلوم)

وجوعه وتعبه، والكظة كناية عن قوّة ظلم الظالم، والسغب كناية عن شدّة مظلوميّة المظلوم، والمقصود أنّه لو لا أخذ اللّ على أئمة العدل، وعهده عليهم عدم جواز سكوتهم على المنكرات عند التمكن والقدرة (لألقيت حبلها) أي زمام الخلافة (على غاربها) شبّه الخلافة بالنّاقة التي يتركها راعيها لترعى حيث تشاء، ولا يبالي من يأخذها وما يصيبها، وذكر الغارب وهو ما بين السّنام والعنق تخييل، وإلقاء الحبل ترشيح (و لسقيت آخرها بكاس أولها) أي تركتها آخرا كما تركتها أوّلا، وخليت النّاس يشربون من كأس الحيرة والجهالة بعد عثمان ويعمهون في سكرتهم كما شربوا في زمن الثلاثة (ولألفيتم دنياكم هذه) التي رغبتم فيها وتمكن حبها في قلوبكم (أزهد عندي) وأهون(من عفطة عنز) أي ضرطتها أو عطستها(2).

اختلف طرق الخطاب في الخطبة الشقشقية، فاعتمد الإمام كثيرا على الاقتضاء

ص: 77


1- ينظر مستدرك الحاكم 3/ 150 .
2- ينظر منهاج البراعة 3/ 97 .

غير المتعارف، عن طريق إستراتيجية خرق قواعدالاقتضاء، مما ولد صورا بيانية كثيرة في الخطبة، مع أن الإمام احترم في كل الصور البيانية التي ساقها مبدأ التعاون العام؛ لأن المتكلم إذا انحرف عن قواعد الحوار احتاج المخاطب إلى تقدير مبدأ التعاون؛ كي يتوصل عبر استدلالات معينه للمعنى الذي يريده المتكلم،ففي قوله: «أَمَا واَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ محَلَّيِ مِنْهَا مَحلُّ اَلقُطبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَيَرْقَى إلِيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَاَ ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَبِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبَِ عَلَ طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَي هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلَحْلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْبا» فقد خالف الإمام قواعد الاقتضاء في عشرة مواضع،و ولدت هذه المخالفات صورا بيانية كثيرة، اعتمد فيها على المقدرة التخيلية للمخاطَب، بمساعدة المعلومات الاقتضائية للمشبه به أو الاستعارات والكنايات المختلفة، وكذلك المعلومات الاقتضائية للحدث الكلامي، أولها قوله: لقد تقمصها أي جعلها كالقميص مشتملة عليه، والضمير للخلافة ولم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه: (حَتَّى تَوارَتْ بِالِحْجابِ)(1) وكقوله تعالى: «كُّلُ مَنْ عَلَيْها فانٍ»(2)فخالف بذلك مقولة الكيفية ولم يحصل الإلباس، فلم يفهم السامع المعنى الحرفي وهو لبس القميص ولكنه فهم المعنى المستعار وهو الخلافة، ولكن الكناية أفادت تثبيت المعنى عن طريق إخفائه دلالة على ثباته في نفس المتكلم، و تشبيه محله من الخلافة بقطب الرحى؛ لما للتشبيه من قوة حجاجية يتم فيها الانتقال من أحد الطرفين إلى الآخر اعتمادا على علاقات المشابهة بينهما المخزونة في ذهن المتلقي، وهي علاقات لا تكون بالضرورة واقعية، بل قد تكون متخيلة لا أساس

ص: 78


1- صورة ص: 32 .
2- صورة ص: 32 .

من الرجوع إليها إلا بالعودة إلى السياق(1)؛ لذلك فإن اختيار الإمام لهذه التشبيه الدقيق راجع لملائمته ذوق السامع وموافقته توجهاته، بحيث يسهل عليه بيان الفوارق و رصد الاختلافات بين عناصرها، والثانية قوله: ينحدر عني السيل يعني رفعة منزلته (عليه السلام) كأنه في ذروة جبل ينحدر السيل عنه إلى الوادي، والثالثة قوله (عليه السلام):ولا يرقى إلي الطير،هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها؛ لأن السيل ينحدر عنالرابية والهضبة، وأما تعذر رقي الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا بل ما هو أعلى من قلال الجبال، كأنه يقول: إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطيرإليها، والرابعة قوله: سدلت دونها ثوبا، أي احتجبت عنها وزهدت فيها، و استعار لذلك لفظ الثوب، وهو من استعارة لفظ لمحسوس للمعقول تقريبا له في ذهن المتلقي، ويرتبط دور الاستعارة الحجاجي بدور التمثيل، فهي تمثيل مكثف، ولا يمكن للدرس اللساني أن يعد الاستعارة مظهرا من مظاهر التجميل في الخطاب؛ لأن دورها يعتمد بشكل كبير

على الدور الحجاجي والوظيفة الحجاجية التي تؤديها. والخامسة قوله: وطويت عنها كشحا، وهو أيضا من استعارة لفظ الكشح تنزيلا لها(أي الخلافة) منزل المأكول الذي منع نفسه من أكلها. والسادسة قوله: أصول بيد جذاء. والسابعة قوله: أصبر على طخية عمياء، وهما من إجالة التفكير في تدبير أمر الخلافة.و الثامنة قوله: وفي العين قذى أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد. والتاسعة قوله: وفي الحلق شجا وهو ما يعترض في الحلق أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق.و العاشرة قوله: أرى تراثي نهبا كنى عن الخلافة بالتراث وهو الموروث من المال.

إن الانتقال في المعاني التي ذكرها الإمام يكون وفق ستراتيجية الانتقال من المعنى الحرفي، وهو مثلا (قطب الرحى ومحله، الجبل المرتفع، اليد الجذاء، الطخية العمياء) إلى المعاني المتلازمة لهذه الألفاظ، فينقل المعنى الاقتضائي إلى الدلالات الحرفية الملازمة

ص: 79


1- ينظر حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام) / 126 .

للألفاظ، ومن ثم ربط تلك الدلالات بما استعير له من الألفاظ، ونلحظ أن عدم الانفكاك من أهم مميزات الاقتضاء في هذه الألفاظ، فالاقتضاء يتعلق بالحدث الدلالي والمضمون القضوي لما هو مقول، وليس للصورة اللغوية التي عليها الألفاظ، وكذلك فان مصداقية القول أدت إلى قابلية التوقع لدى المستمع وقابلية الحسبان، عن طريق الانتقال من المعنى الحرفي للمنطوق إلى المقتضى المطلوب، استنادا إلى مبدأ التعاون بين المتكلم والسامع، وكذلك فإن من أهم السمات التي نلحظها اللاعرفية، فالمعنى الحقيقي المراد إيصاله لا يرتبط بالمعنى العرفي للألفاظ المستعملة، ولا يُستشف المعنى إلا بعدملاحظة السياق ومقامات الخطاب، فالمعنى الاقتضائي لا يساوي المعنى الحرفي ويختلف عنه كثيرا، ولكنه يُعتمد عليه كنواة دلالية في معرفة الاقتضاء بين طرفي الخطاب.

استعمل الإمام الاقتضاء المتعارف في قوله: «حَتَّى مَضَ اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَي بِهَا إِلَي فُلاَنٍ...فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِ حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ » واستعمل القواعد الاقتضائية المعلومة، فمقولته واصفة لحال الخليفة الأول وجاء التعجب نتيجة التناقض في مقولات الخليفة الأول، ولم يكن كلامه ملبسا ولا غامضا ومرتبا زمنيا بين مقولة الأمس واليوم، واستعان بالتمثيل في قوله:«فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ - فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَّيَ يَنْثَالُونَ عَلَّيَ» لما للتمثيل من دور اقتضائي مهم، فشكل نقطة انطلاق لاستدلالات لاحقة لعملية الخطاب، فهو عنصر مهم من عناصر البرهنة والتدليل، فإن أعلى درجات التمثيل سب - بيرلمان- أن ينتمي الموضوع والحامل إلى مجالات مختلفة، ويكون طرفاه متباعدين، لكي يولد التمثيل معاني عديدة، تنبع من التفاعل بين الحامل والموضوع، وهذا ما لمسناه من تباعد الحامل والموضوع في تمثيل الإمام (عليه السلام) (الخلافة الناقة، تجمهر الناس - عرف الضبع) مما ساعد في إغناء المجال الاقتضائي بين طرفي التمثيل، وأضاف المتلقي كثيرا من المعاني على فهمه، فاستعمال الإمام التمثيل والاستعارة لوثوقه في أنهما أبلغ من الحقيقة،

ص: 80

ويؤكد ذلك الاستعمال مرونة العلاقات اللغوية، إذ يستجيب المخاطب للصورة المجازية أكثر من الصورة الحقيقية.

وأفادت الروابط الحجاجية دورا مهما في البنية الاقتضائية النصية للخطبة فاستعمل الرابط (حتى وإلى) «حَتَّى مَضَ اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ - حَتَّى إِذَا مَضَ لِسَبِيلِهِ - إِلَ أَنِ اِنْتَكَثَ فَتْلُهُ» وأفادت ربط الاقتضاء العام للنص، فكل أداة مثلت نهاية حقبة زمنية وولاية لأحد الخلفاء ونهاية حكم احدهم في أمور المسلمين، فقد قرر موشلار وريبول بأن الخاصيةالأساسية للعلائق الحجاجية هي أن تكون سلمية وتراتبية؛ لكي تعطي قوة للعامل الحجاجي.

واستعمل الرابطين (كأن - لكن) في قوله «كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَي وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا» فابتدأ بمقولة عدم سمعهم لكلام الله عز وجل، ثم استدرك بلكن التي نسفت القول الأول وأثبتت أنهم سمعوا قول الله ولكن السبب في مخالفتهم أن الدنيا حليت في أعينهم.

كان للاقتضاء أدوار مهمة في الخطبة الشقشقية، تجلت في المعاني المسكوت عنها، التي اعتمد عليها الإمام في إيجاز ألفاظه، فشكلت تلك المعلومات رصيدا حيا دفع بعملية التواصل، وزاد من فرصة التأثير، وكان للمباحث البلاغية الدور الأكبر، لما للاقتضاءات التي تحملها في طياتها، وكذا كانت الروابط الحجاجية خير معين في فهم كنه الخطاب، وسأذكر بعضا من نتائج الفصل في خاتمة الكتاب.

ص: 81

ص: 82

الفصل الثاني :الحجاج في خطاب الإمام علي (عليه السلام) (خطبة الجهاد أنموذجا)

اشارة

ص: 83

ص: 84

المبحث الأول

توطئة:

اشارة

وهو من أهم الاستراتيجيات الإقناعية ومن مسوغات استعمال استراتيجيات الحجاج:

1. إن تأثيرها التداولي في المرسل إليه أقوى، ونتائجها أثبت وديمومتها أبقى؛ لأﻧﻬا تنبع من حصول الاقتناع عند المرسل إليه غالبا، لا يشوﺑﻬا فرض أو قوة.

2. تمايزها عن الاستراتيجيات المتاحة الأخرى، مثل الاستراتيجيات الإكراهية لفرض قبول القول أو ممارسة العمل على المرسل إليه ومن حصول الإقناع الداخلي أو الاقتناع الذاتي، فاقتناع المرسل إليه هدف خطابي يسعى المرسل إلى تحقيقه في خطابه(1).

3. الأخذ بتنامي الخطاب بين طرفيه عن طريق استعمال الحجاج، فالحجاج شرط في ذلك، لان من شروط التداول اللغوي شرط الاقتناعية فالمرسل عندما يطالب غيره بمشاركته اعتقاداته، فان مطالبته لا تكتسي صبغة الإكراه، ولا تدرج على

ص: 85


1- ينظر استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي الشريف / 130 - 131 .

منهج القمع، وإنما تتبع في تحصيله غرضها سبلا استدلالية متنوعة تجر الغير جرا إلى الاقتناع برأي المحاور، وتقد تزدوج أساليب الإقناع بأساليب الامتناع، فتكون آنذاك اقدر على التأثير في اعتقاد المخاطب، وتوجيه سلوكه لما يهبها هذا الامتناع من قوة في استحضار الأشياء، ونفوذ في إشهادها للمخاطب كأنه يراها رأي العين(1).

4. الرغبة في تحصيل الإقناع، إذ يغدو وهو الهدف الأعلى لكثير من أنواع الخطاب.

5. إبداع السلطة: فالإقناع سلطة عند المرسل في خطابه، ولكنها سلطة مقبولة إذا استطاعت أن تقنع المرسل إليه، إذ لا تحقق إستراتيجية الإقناع نجاحها إلا عندالتسليم بمقتضاها أما قولا أو فعلا وما جعل الإقناع سلطة مقبولة، هو كون الحجاج هو الأداة العامة من بين ما يتوسل به المرسل من أدوات واليات لغوية ومن هنا يكون الإقناع هو مجال المبحث الحجاجي نظرا إلى كونه محدد المقام والمخاطب والإطار القولي أما أهم وظيفة حجاجية في هذا الجمال، بعد الإعداد لقبول. الأطروحة أوالفرضية فيه الدفع إلى العمل، ودفع المخاطب إلى العمل يكون أما بقوة الحجة أوبالسلطة ومن هنا ارتبطت البلاغة المعاصرة وخصوصا نظرية الحجاج وما تعلق بها من مباحث بقضية الإقناع وعد مطلبا أساسيا في شتى العمليات الفكرية (2).

ارتبط الخطاب الحجاجي بالبعد التداولي على مستويات عدة؛ ذلك أن الحجاج يعد ظاهرة متجسدة في الخطاب وبه يتحقق، فهو ملتبس بألبسة لسانية وأسلوبية، على أساس أننا إذا أردنا رصد الصور الأسلوبية في الخطاب الحجاجي أو الصور البنائية الاستدلالية، فإننا مبدئيا سنكون بصدد أفعال كلامية لها مرجعية مقالية ومقامية مشتركة بين المتكلم

ص: 86


1- ينظر أصول الحوار وتجديد علم الكلام / 38 .
2- ينظر مفهوم الحجاج عند بيرلمان، وتطوره في البلاغة المعاصرة، د. محمد سالم الأمین الطلبة، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 2/ 491

والمستمع، أو بين المخاطِب والمخاطَب(1).

من هذه التعالقات بين البحث التداولي والحجاجي أرى أن دراسة التحليل التداولي الحجاجي،أو بنية الخطاب الحجاجي التداولي تكون في دراسة ما انبثقت عن تلك النظريات من مباحث، أو ما شكلته من نقاط تلاق بين النظريتين، وأعني بها نظرية الأفعال الكلامية، والاقتضاء والاستلزام الحواريين، والسلم الحجاجي، وما يتفرع عنه من أدوات لغوية تتمثل بالروابط والعوامل الحجاجية (فإذا كان الحجاج فعلا استدلاليا وإستراتيجية خطابية مهمة يأتي به المتكلم بغرض إفادة المستمع وإقناعه خصوصا في الأدوار الخطابية، فإن المجال التداولي يعد مجالا أرحب وأوسع للوصف الاستدلالي، للمتكلم والمستمع، الذي تدل عليه في الحجة أدوات لغوية خاصة، وعلى هذا الأساس فإن هذا الالتقاء بين الوصف الاستدلالي الحجاجي والمجال التداولي، ينطلق أساسا من تصور المعنى في استثماره لعلاقات متعددة تضم الملفوظ مع ربطه بظروف المقال، وما يستتبع ذلك من تحديد للقرائن المعنوية المحددة لطبيعة الخطاب، أي الاهتمام بالمجال التداولي، وكذلك بموضوع الدلالة الذي يربط بالجمل من حيث دراستها بلاغيا،لتحديد صدقها أو كذبها، وهذه الجمل يسعى الجانب التداولي إلى تحليلها وعدم اختزال وصف قيمتها الإخبارية في الوصف الدلالي فقط، بل ليبرهن على الطريقة التي تسهم فيها قرائن العلاقات بإعطاء اتجاه تداولي للجملة، وأيضا لفرض نتيجة على المخاطب عن طريق التحاور المتبادل في الكلام)(2).

شكل الحجاج مشتركا معرفيا بين كثير من العلوم في العصر الحديث تتجاذبه كل حسب المنظور والأدوات التي تعالجه فيها، وبات من أهم العلوم الإنسانية، ولاسيما

ص: 87


1- ينظر الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله، د. رضوان الرقبي،عالم الفكر مج 40 ،العدد.68/2
2- ينظر الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله / 86

في العقود الأربعة الأخيرة.ويعد من أهم الاستراتيجيات التي يلجأ إليها المتكلم بغية إقناع المتلقي بخطابه. وعلى الرغم من أن الحجاج مثل - منذ داية الحضارة اليونانية والرومانية - موضوعا للبحث، إلا أنه مر بانكسارات وتطورات عديدة، وكان الاهتمام به في إطار أشمل يمثل الاهتمام بالتواصل، إذ ينبثق الاهتمام بالحجة من الاهتمام بما يتعلق بالرسالة وطريقة نقلها وإيصالها(1).

أولا: الحجاج في الفكر العربي:

لقد أولى العرب قديما اهتماما خاصا للكلام والتخاطب، فكانوا يقسمون الكلام بحسب المتلقي، يقول أبو هلال العسكري(ت بعد 400 ه):(وإذا كان موضع الكلام على الإفهام فالواجب أن تقسّم طبقات الكلام على طبقات الناس، فيخاطب السّوقي بكلام السّوقة، والبدويّ بكلام البدو، ولا يتجاوز به عما يعرفه إلى ما لا يعرفه، فتذهب

فائدة الكلام، وتعدم منفعة الخطاب)(2) فالمخاطب مدار القول عندهم، يدور الكلام ما دارت حالته ووضعه في المجتمع، وإفهامه غاية المتكلم، ولا يوصف الكلام بالبيان إلا إذا كان مفهما: (لان مدار الأمر على البيان والتبيين وعلى الإفهام والتفهيم وكلما كاناللسان أبين كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل، إلا أن المفهم أفضل من المتفهم وكذلك المعلم والمتعلم)(3).

اختلفت مواضع الحجاج في الثقافة العربية، ففي الجاهلية-العصر الذي يمثل نقاء اللغة- حوت الخطابة في كثير من جوانبها أبعادا حجاجية واضحة، كخطب قس

ص: 88


1- ينظر تاريخ نظريات الحجاج، فيليب بروتون، جيل جوتيه، ترجمة محمد صالح الغامدي/ 13 .
2- كتاب الصناعتين(الكتابة والشعر) أبو هلال العكسري(ت 395 ه) / 21
3- البيان والتبيين،أبو عثان عمرو بن بحر الجاحظ(ت 255 ه)،تحقيق عبد السلام محمد هارون 1/

بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فضلا عن المفاخرات والمجادلات والوصايا، والمناظرات الشعرية، وكانت لهم خطب مشهورة فقد (ذكروا من خطب العرب العجوز وهي خطبة لال رقبة، ومتى تكلموا فلا بد لهم منها أو من بعضها، والعذراء وهي خطبة قيس بن خارجة؛ لأنه كان أبا عذرها والشوهاء وهي خطبة سحبان وائل وقيل ذلك لها من حسنها، وذلك أنه خطب بها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب)(1)، حتى نزل القرآن على صدر الرسول الكريم، فكان نصا حجاجيا بامتياز.

يمكن لنا أن نتلمس ملامح الحجاج في الثقافة الإسلامية في ثلاثة اتجاهات:

1. اتجاه أدبي خطابي يمثله الجاحظ(ت 255 ه): كان الجاحظ رجل محاجة ومناظرة،

متكلما وعارفا بتصاريف الكلام، معتزليا ملما باللغة والنحو الأديان والثقافات، عاش فترة خصبة في التاريخ الإسلامي، نضجت فيها العلوم والمذاهب والاتجاهات، وأضفى عليه مذهبا وبعدا جدليا آخر(2)،انخرط في نحلة تعد اللغة والبلاغة سلاح المناظرين والمجادلين، الذين يتوخون نصرة مذهبهم والإقناع به؛ لذلك ربط البلاغة بأهداف إقناعية محددا للكلام أدوارا في الخصومة، ومنازعة الرجال ومناضلة الخصوم، ومحاججة أرباب النحل ومقارعة الأرباب(3)، يعرفالجاحظ البيان بقوله: (والبيان اسم جامع لكل شيء، كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير؛ حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجرى القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت

ص: 89


1- البيان والتبيين 1/ 348 .
2- ينظر الحجاج في الخطابة النبوية / 45 .
3- ينظر بلاغة الإقناع في المناظرة / 61 .

عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع)(1)، فالمشروع البلاغي للجاحظ يقوم على وظيفتين أساسيتين، الإفهام والإقناع:

الوظيفة الإقناعية: فالوظيفة الخطابية وما يتصل بها من إلقاء وإقناع، واحتجاج ومناظرة، فتحليل إستراتيجية كتاب البيان والتبيين يوضح وجود محاولة لوضع نظرية لبلاغة الإقناع.

الوظيفة الإفهامية: و(بدونها لا تقوم الوظائف الأخرى التي لا تعدو أن تكون تطويرا لها يؤدي إليه نوع المتكلم وجنس الكلام)(2)فالتواصل لا يتم إلا من وجه الإفهام والتفهم.

1. اتجاه منطقي فقهي يمثله ابن وهب: انشغل ابن وهب في معالجة البيان بالنظر إلى قيام المعاني في النفس؛ لأنه يرى بأن أول قسم من الدلالة قائم على بيان الأشياء بذواتها وهو (بيان الاعتبار) فإذا تحقق هذا النوع جاء النوع الثاني وهو (بيان الاعتقاد»ليتم من خلاله إبلاغ المتلقي بما اعتقد شفاهة أو كتابة. استند ابن وهب البيان في البرهان إلى الاستدلال والإقناع، وارتبطت بلاغته بالخطابة، ويمكن «تلمس الصفة الإقناعية في دفاع ابن وهب عن البيان المعرفي، حين اعتبر بأن وجوه البيان تشف عن العملية العقلية وتعكس نشاطها، فالناس يدركون الوجود ومشاهده عن طريقالعقل والحواس (الاعتبار) ثم يختزنون هذه المعارف فتركز في نفوسهم لتصبح اعتقادا ينقلونه إلى غيرهم بالعبارة والكتاب؛فيحققون بذلك تداوله)(3).

2. اتجاه بلاغي منطقي يمثله السكاكي(ت 626 ه): ارتبط البيان عند السكاكي بما

ص: 90


1- البيان والتبيين 1/ 76 .
2- التفكير البلاغي عند العرب، حمادي صمود / 200 .
3- بلاغة الإقناع في المناظرة/ 69 .

يحققه من منفعة تتمثل في الاحتراز عن الوقوع في الخطأ، وموضوع علم البيان عنده الصيغ التي لا تقف عند دلالتها الوضعية، بل تتجاوزها إلى دلالات عقلية، إشارة إلى الملازمات بين المعاني(1)، يقول: (وإذا عرفت أن إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية، وهي الانتقال من معنى على معنى بسبب علاقة بينهما كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه، ظهر لك أن علم البيان مرجعه اعتبار الملازمات بين المعاني)(2).

ويصر السكاكي على تقاطع البلاغة (أساس علمي البيان والمعاني) مع النحو منجهة، والمنطق(الحد والاستدلال) من جهة أخرى. واهتم بمقامات الإبلاغ ودورها في العملية الإقناعية، يقول:(لا يخفى عليك أن مقامات الكلام متفاوتة. التشكر يباين مقام الشكاية ومقام التهنئة يباين مقام التعزية، ومقام المدح يباين مقام الذم، ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب، ومقام الجد في جميع ذلك يباين مقام الهزل، وكذا مقام الكلام ابتداءيغاير مقام الكلام بناء على الاستخبار أو الإنكار، ومقام البناء على السؤال يغاير مقام البناء على الإنكار، جميع ذلك معلوم لكل لبيب وكذا مقام الكلام مع الذكي يغاير مقام الكلام مع الغبي، ولكل من ذلك مقتضى غير مقتضى الآخر)(3)، فالقصدية والمقام وحال المتكلم أسس ثابتة في فلسفة السكاكي البلاغية، ويتحدد الخطاب بناء عليهما.

لا يقوم التصوير البياني عند السكاكي على مجرد التخييل، بل إن جوهره استدلالي،ما دامت مرجعه اعتبار الملازمات بين المعاني، فالتصوير إذن عملية استدلالية تقوم على الانتقال من المعنى إلى معنى المعنى، أو من الدلالة الوضعية إلى أخرى عقلية:الأولى

مطابقة والثانية مستلزمة، وتتم الملازمة بين المعاني من هتين،جهة الانتقال من الملزوم

ص: 91


1- ينظر الحجاج في البلاغة النبوية / 55 .
2- مفتاح العلوم، تحقيق نعيم زرزور/ 330 .
3- مفتاح العلوم / 168 .

إلى اللازم وهو المجاز كأن تقول:رعينا غيثا، والمراد لازمه وهو النبت، والثانية من للازم إلى الملزوم كما في الكناية، كأن تقول طويل النجاد، والمراد طول القامة الذي هو ملزوم طولالنجاد (1)، فطالب الصورة البيانية يتوخى المسلك الذي يتوخاه صاحب الاستدلال والاستلزام،وهي ملامح فلسفة السكاكي البلاغية، علاوة على عنصر المقامية والإقناعية.

أما في الفكر العربي الحديث فيمكن لنا تلمس الجدة في الطرح في بعض أبحاث المحدثين، ولاسيما الذين نظروا إلى الحجاج من زوايا غير لغوية، كالفلسفة والمنطق، ومنهم الدكتور طه عبد الرحمن، الذي يرى نظرية الحجاج انطلاقا من صفة الخطابة ف-(الأصل في تكوثر الخطاب هو صفته الحجاجية، بناء على أنه لا خطاب بغير حجاج)(2)، ويرى أن حقيقة الخطاب تبنى على قصد التوجه إلى الآخر وقصد إفهامه، مضافا إليهما قصدان آخران هما:

أ. قصد الإدعاء: ومقتضاه أن المنطوق به لا يكون خطابا حقا حتى يحصل من الناطق الصريح على صريح الاعتقاد لما يقول في نفسه وتمام الاستعداد لإقامة الدليل عليه عند الضرورة، ولا يسمى المخاطِب مخاطِبا حتى يكون مستعدا لإقامة الدليل على

دعواه.

ب.قصد الاعتراض: ومقتضاه أن المنطوق لا يكون منطوقا حتى يكون للمخاطَب الحقفي المطالبة بالدليل على قوله، وهنا يثبت أن الحجاج هو الأصل في الخطاب(3).

ثم يقوم عبد الرحمن بتصنيف الحجاج على ثلاثة أصناف:

ص: 92


1- ينظر بلاغة الإقناع في المناظرة / 78 .
2- التكوثر العقلي / 213 .
3- ينظر نفسه / 225 - 226 .

أ. الحجاج التجريدي:ونعي به ترتيب صور العبارات بعض النظر عن مضامينها واستعمالاتها.

ب. الحجاج التجريدي: وهو إقامة الدليل على الدعوى بالبناء على فعل التوجيه الذي يختص به المستدل، علما بأن التوجيه هنا فعل إيصال المستدل لحجته إلى غيره، وهي مقاربة مع نظرية أفعال الكلام التي جعلت أساس الكلام ا من مفهومي القصد

والفعل.

ج. الحجاج التقويمي:وهو إثبات الدعوى بالاستناد إلى قدرة المستدل على أن يجرد من نفسه ذاتا ثانية ينزلها منزلة المعترض على دعواه، ولا يقف المستدل على فعل إلقاء الحجة على المخاطب، بل يتعدى ذلك إلى النظر في فعل التلقي؛ باعتباره هو نفس أول متلقٍ لما يلقي، فيبني أدلته أيضا على مقتضى ما يتعين على المستدل له أن يقوم به، مستبقا استفساراته واعتراضاته ومستحضرا مختلف الأجوبة عليها، ومستكشفا إمكانات تقبلها وإقناع المخاطب بها(1).

وي ضفي عبد الرحمن على الحجاج صفته التداولية، فهو فعالية تداولية جدلية، تداولي لأن طابعه الفكري مقامي اجتماعي، فيأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الحال من معارف مشتركة و مطالب إخبارية وتوجهات ظرفية، وهو جدلي لأن هدفه إقناعي قائم بلوغه على التزام صور استدلالية أوسع وأغنى من البنيات البرهانية الضيقة، ولا تبنى فيها الانتقالات على صور القضايا منفردة كما هو شأن البرهان، بل على أساس الصورومضامينها واستعمالاتها، وأن يطوى في هذه الانتقالات كثيرا من المقدمات والنتائج، و أن يفهم المخاطَب معانيا غير التي نطق به المخاطِب، تعويلا على المجال التداولي

ص: 93


1- ينظر نفسه / 227 - 228 .

المشترك بينهما(1).

ثانيا:الحجاج في الفكر الغربي:

يمكن لنا تحديد بدايات نشأة الفكر الحجاجي عند فلاسفة اليونان، ولاسيما أرسطو؛ لأن معظم مؤلفاته تحمل صبغة حجاجية، وتحمل كثيرا من آراء أستاذه أفلاطون، فذهب

إلى أن الجدل والخطابة متصلان بعضهما ببعض؛ لأنهما أمور يلجأ إليها الإنسان بطبيعته الجدلية، في سبيل إثبات رأيه، ويحاولون جهد ما أمكنهم إقناع المخاطب بوجهة نظرهم،

ومعارضة وجهة النظر الأخرى، وكل تلك الغاية تحتاج إلى وسائل لإثباتها(2).

الخطابة عند أرسطو لا تحدد ببعدها الإمتاعي بل بمهمة الإقناع التي تطلع بها؛ لذلك عرفها بقوله: (إنها الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان)(3) فالإقناع مركزي فيها، وغاية الإقناع الوصول إلى الاعتقاد،ويعتمد في إنتاجه على أركان متعددة هي(4):

أ. الخطيب: وهو حجة مقنعة في الاستدلال الخطبي بأخلاقها وعنصر الثقة فيها، وهي عوامل تمنح الخطاب قوته ومصداقيته.

ب. المتلقي: أي ما يتعلق بالآثار النفسية والاجتماعية التي تحدث لدى المقول إليه، إذ لا بد من الإقناع من التهيئة النفسية والاجتماعية والانفعالية للسامعين من أجل استدراجهم وتحقيق انقيادهم للخطيب.

ص: 94


1- ينظر في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، طه عبد الرحمن / 65 .
2- ينظر الخطابة/ 75 .
3- الخطابة / 29 .
4- ينظر بلاغة الإقناع في المناظرة / 54 - 55 .

ج. القول: فالإقناع يتوقف على نوعية القول الذي يجب بناؤه حجاجيا، والعمل على تعبئته بالأدلة القادرة على إقامة الاعتقادات أو تغييرها؛ لأن الإقناع يحدث عن الكلام نفسه إذا أثبتنا حقيقة أو شبه حقيقة بواسطة حجج مقنعة مناسبة للحالة المطلوبة.

انصرف اهتمام أرسطو إلى صناعة الخطابة بوصفها حجاجا إقناعيا، الهدف منه استرجاع الحقوق المسلوبة ودفع الضر عن المظلومين بوساطة اللغة، بهدف إنقاذ الخطابة من أزمتها الشكلية التي طغت عليها نتيجة أفكار السفسطائيين، و قسم رؤيته لدور اللغة على مستويين(1):

الأول: معرفي لغوي، يتم فيه تطوير اللغة واختيار الحجج اللائقة بكل مقام.

الآخر: اجتماعي إنساني يعنى بقضايا الفرد والمؤسسة وعلاقة بعضهما ببعض.

أما في الفكر الغربي الحديث فقد نشر الفيلسوف والقانوني البلجيكي الأستاذ في جامعة بروكسل (شاييم بيرلمان) بمشاركة (لوسي أولبيرشتس تيتكا) كتاب (رسالة في الحجاج) وذلك عام 1970 م، وأعيد نشر الكتاب أكثر من مرة تحت العنوان الفرعي

(البلاغة الجديدة) الذي يرتبط بالبلاغة الأرسطية مع بعض لتحديثات، ويدخل هذا الفهم الجديد في قطيعة مع المنطق البرهاني وفلسفة الوضوح على الطريقة الديكارتية؛ذلك لفتح المجال أمام منطق حجاجي غير رياضي(2)، فاعتبر بيرلمان أن التصور الديكارتي قاد إلى حصر غير مبرر للمجالات الواسعة والممتدة للفكر الإنساني، وهذه المجالات التي لا تقوم على الضرورة والبداهة هي ما يشكل موضوع الحجاج، إذ أن هذا

ص: 95


1- ينظر الحجاج في الخطابة النبوية، د. عبد الجليل العشراوي/ 19، والحجاج في البلاغة المعاصرة،محمد سالم الأمن الطلبة / 46.
2- ينظر تاريخ نظريات الحجاج / 41 .

الأخير يتعلق غالبا بالمحتمل من الأفكار.

مثلت محاولة بيرلمان خطوة جديدة ومتطورة في تجديد الفكر الأرسطي، في وقت استقرت البلاغة في صيغتها المحسناتية الشعرية، محاولة لإعادة البلاغة إلى صيغتها الحجاجية، وحيث كانت المزينات الجمالية مجرد روادف لغوية ودعامات تسعى إلى بعث الإقناع والفعل، لا إلى الاستمتاع الجمال غير العابئ بالتأثير وتعديل الرأي والسلوك،و هي محاولة لربط البلاغة المعاصرة بأصولها الأرسطية(1).

عمل الباحثان على تلخيص الحجاج من التهمة الملاحقة لأصل نسبه وهي الخطابة،وهي تهمة المغالطة والمناورة والتلاعب بعواطف الجمهور، وعملا على تخليص الحجاج من صرامة الاستدلال الذي يجعل المخاطب به في وضع ضرورة وخضوع واستلاب

رأي. فالحجاج عندهم ذو معقولية وحرية، يتخذ من الحوار المتكافئ سبيلا إلى الوصول للاعتقاد والتسليم، بعيدا عن الاعتباطية واللامعقول(2).

يعرف المؤلفان الحجاج بقولهما: (هو دراسة تقنيات الخطاب، التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات،أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم)(3)

وكانت إسهامات عالمين آخرين هما « ديكرو »و »أنسكومبر » واضحة في بلورة الفكر الحجاجي، فقد عرض المؤلفان نظريتهما في الحجاج عام 1983 م في كتاب (الحجاج في اللغة) وهو حجاج لساني بحت، إذ يقوم المتكلم بتقديم قول ما يفضي إلى التسليم بقول

ص: 96


1- ينظر مدخل إلى الحجاج / 33 .
2- ينظر الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خال مصنف في الحجاج- الخطابة الجديدة، لبرلمان وتيتكا، عبد الله صولة، ضمن أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم / 298 .
3- نفسه / 299 .

آخر، عمل صريح بالحجة، وعمل بالاستنتاج،وتستند أعمالهما مرجعيا إلى الإسهامات التداولية التي ميزت نظرية الأفعال اللغوية عند (أوستين) و(سورل) كما تستند إلىبعض أبحاث (إميل بنفست) وتمثل نظريتهما تيارا تداوليا مختلفا قارب الحجاج من زوايا مغايرة، فلم يكن همهما بناء الحجاج على الأسس الفلسفية أو المنطقية أو البلاغية، ومن ثم لم ينشغلا بوقائع الإقناع، بل بحثا في الدور الحجاجي الذي يلعبه الكساء اللغوي لهذه الوقائع؛ لذلك انتهيا إلى أن اللغة تحمل في طياتها بعدا حجاجيا كامنا في صميم بنيتها الداخلية مسجلا فيها وليس عنصرا مضافا، فمعنى الأقوال لا ينفصل عن طابعها الحجاجي(1). فالحجاج موجود في بنية اللغة ذاتها، وليس فيما ينطوي عليه الخطاب من بنيات شبه منطقية، فالخطاب وسيلة الحجاج ومنتهاه في الوقت نفسه، واللغة تحمل بعدا حجاجيا في جميع مستوياتها، فهي وسيلة سجالية - بحسب نظريتهما - ومسرح لظهور المقتضى بوصفه شكلا من أهم الأشكال الحجاجية الكامنة.

مجالات الحجاج:

اشارة

تطور الدرس الحجاجي قديما في الثقافتين الغربية والعربية، لكنه كان واضحا في الثقافة الغربية القديمة، وممنهجا بشكل أوضح؛ نتيجة ارتباطه بعلم الكلام والجدل والخطابة والبلاغة، وعانى اضطرابا في بداية نشأته على يد السفسطائيين، الذين ربطوه بالمنفعة الذاتية، وبالجدل ولكون خطابهم مبنيا على الأغاليط الدلالية من خلال التلاعب بالمقدمات والفرضيات والحجج والنتائج، في حين اعتمد أفلاطون في مرحلة متقدمة على منهج المحاورة في سبيل دحض توجهات السفسطائيين، فاعتمد الفلسفة الحقيقية مقابل فلسفة السفسطائيين الخادعة، وجاء أرسطو بفكر ميز فيه بين الجدل والخطابة، وأعطى حرية للمناقشة المتكافئة، وأخذ الإقناع دوره في أفكاره، وفي العصر الحديث تطور

ص: 97


1- ينظر بلاغة الإقناع في المناظرة / 95 .

الدرس الحجاجي أكثر على يد أعلام وفلاسفة ذهبوا مدارس شتى، وكان في التراث العربي ملامح مهمة للدرس الحجاجي، وكان في الدرس العربي المحدث إسهامات واضحة، ولكني استطيع أن أنحى منحى جديدا، أرى فيه أن للحجاج استراتيجياتمحددة، وهي عبارة عن مثلث، يقع في هرمه الحجاج ذو الآليات المنطقية والفلسفية، وقاعدتاه الحجاج التداولي والبلاغي، وكل من الهرم والقاعدة يضطلع بأدوار حجاجية،تلعب دورا تكامليا، عبر أدوات معينة، وسنحاول فيما يلي من الدرس بعد تبيين هذه المباحث تطبيق هذا المنهج على خطاب الإمام (عليه السلام)،إذ نرى فيه قيما حجاجية ثابتة.

1- الحجاج البلاغي:

تعد المباحث البلاغية من أهم الاستراتيجيات الحجاجية التي يستعملها الباث؛لاستمالة المخاطَب والتأثير فيه؛ لما تحمله أساليبها من شحنات تأثيرية في نفس المتلقي، ولكن الحجاج ليس علما يوازي البلاغة، بل هو ترسانة من الأساليب والإمكانات اللفظية والأدواتية يتم اقتراضها من البلاغة؛ خدمة للعملية الإقناعية؛ لذلك من اليسير الحديث عن اندماج الحجاج والبلاغة في كثير من الأساليب، ولما كان مجال الحجاج هو المحتمل وغير المؤكد والمتوقع، فكان من مصلحة الخطاب الحجاجي الاعتماد على لأساليب البلاغية والبيانية التي تُظهر المعنى بطريقة أجلى وأوقع في النفس(1).

ينطلق حديثنا عن أدوار البلاغة الحجاجية من فكرة تفاعل اللغة والفكر، فيعتقد(ريتشاردز) في كتابه فلسفة البلاغة بوجود تفاعل حقيقي بين اللغة والفكر، فلا لغة من دون فكر، ولا فكر من دون لغة، وقد انتقد في هذا الصدد تصور (باركلي) حول فصل الأفكار عن الكلمات المعبر عنها؛ مما ينتج فصلا بين المعاني الأصلية والمجازية، فينتج عنه

ص: 98


1- ينظر التداولية والحجاج، مدخل ونصوص، صابر حباشة / 50 .

تحطيم الحقيقة الشعرية والوظيفة الجمالية للكلمات(1) فلا أفكار دون وجود حاضنات لها تقدمها وتحمل في طياتها بؤرا حجاجية تحاول التأثير في نفس المخاطَب، فللمتكلم طريقتان لتبليغ مقاصده كما يقول الجرجاني (ت 471 ه): (الكلامُ على ضربين: ضربٌ أنتَ تصلُ منه إِلى الغرضِ بدلالةِ اللفظِ وحدَه وذلك إِذا قصدتَ أن تُخبِرَ عن زيدٍ مثلاًبالخروجِ على الحقيقة فقلتَ: خرجَ زيدٌ وبالانطلاقِ عن عمرٍو فقلتَ: عمرٌو منطلِقٌ و على هذا القياس، وضربٌ آخرُ أنتَ لا تصلُ منه إِلى الغرضِ بدلالة اللفظِ وحده ولكنْ يدلُّك اللفظُ على معناه الذي يقتضيه موضوعُهُ في اللغُّة ثُمَّ تجِدُ لذلك المعنى دَلالةً ثانيةٌ تصلُ بها إلى الغرضِ. ومدارُ هذا الأمرِ على الكنايةِ والاستعارة والتمثيلِ) (2)، ونجد هذا التصور عن علماء الغرب المحدثين، فيرى «ميار» أن المتكلم يوظف في حديثه ضربين من الخطابات: المصرح به والضمني، فالمصرح به هو الظاهر، أما الضمني فتمثله الإمكانات الهائلة المختلفة في طرح التبليغ، وفي هذا الإطار بالذات يرتبط الحجاج بالبلاغة، وترتب على ذلك أن تنهض لغويا بما يضمن تحديد أشكال الإقناع والتأثير بحسب مقصد المخاطب مقتضيات المقام(3).

2- الحجاج التداولي:

إن دراسة التحليل التداولي الحجاجي،أو بنية الخطاب الحجاجي التداولي تكون في دراسة ما انبثقت عن تلك النظريات من مباحث، أو ما شكلته من نقاط تلاق بين النظريتين، وأعني بها نظرية الأفعال الكلامية، والاقتضاء والاستلزام الحواريين،

ص: 99


1- ينظر البلاغة والاستعارة من خال كتاب فلسفة البلاغة.أ. رتشاردز، د. سعاد أنقار، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 2/ 457 - 458 .
2- دلائل الإعجاز، تحقيق محمد التنيجي/ 203 .
3- ينظر البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة لميشال ميار، محمد عي القارصي، ضمن أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم / 394 - 395 .

والسلم الحجاجي، وما يتفرع عنه من أدوات لغوية تتمثل بالروابط والعوامل الحجاجية، وتمثل تلك المباحث أهم الاستراتيجيات التداولية الحجاجية (فإذا كان الحجاج فعلا استدلاليا يأتي به المتكلم بغرض إفادة المستمع وإقناعه خصوصا في الأدوارالخطابية، فإن المجال التداولي يعد مجالا أرحب وأوسع للوصف الاستدلالي، للمتكلم والمستمع، الذي تدل عليه في الحجة أدوات لغوية خاصة، وعلى هذا الأساس فإن هذا الالتقاءبين الوصف الاستدلالي الحجاجي والمجال التداولي، ينطلق أساسا من تصور المعنى في استثماره لعلاقات متعددة تضم الملفوظ مع ربطه بظروف المقال، وما يستتبع ذلكمن تحديد للقرائن المعنوية المحددة لطبيعة الخطاب، أي الاهتمام بالمجال التداولي، وكذلك بموضوع الدلالة الذي يربط بالجمل من حيث دراستها بلاغيا، لتحديد صدقها أو كذبها، وهذه الجمل يسعى الجانب التداولي إلى تحليلها وعدم اختزال وصف قيمتها الإخبارية في الوصف الدلالي فقط، بل ليبرهن على الطريقة التي تسهم فيها قرائن العلاقات بإعطاء اتجاه تداولي للجملة، وأيضا لفرض نتيجة على المخاطب عن طريق التحاور المتبادل في الكلام)(1).

3- الحجاج الفلسفي:

ينطلق هذا النوع من الحجاج في التمييز بين الاستدلال التحليلي، والاستدلال الديالكتيكي، فالأول مرتبط بالصواب والمنطق، وأما الآخر فينطلق من المقدمات التيتشكل من الآراء المقبولة عموما، والقابلة للصواب، وذلك بهدف استنباط أو قبول أطروحات أخرى.ويشكل معرفة المتكلم بالمتلقي الذي يريد إقناعه شرطا مسبقا لأي فعل حجاجي، ولأي إستراتيجية خطابية يروم المتكلم طرحها. ويجب على المتلقي توقع

ص: 100


1- ينظر الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله / 86 .

كيفية تلقي المتلقي رسائله الإقناعية، وأن يندمج هذا التوقع في تصور الرسالة نفسها(1)، فضلا عن ذلك فهي تقدم تصورا عميقا لمستويات حضور الكاتب في خطابه، ودرجات ذلك الحضور بوصفه حركة حجاجية يقصد بها مخاطبا آخر ليس حاضرا بالفعل لحظة الكتابة، لكن جميع أبعاده متصورة لدن المؤلف، أو هكذا ينبغي أن تكون، ومن ثم فهذا الكاتب يعمق فكرة المستمعين الواردة في البلاغة الكلاسيكية، لكنه يركز على غيابهم المادي فقط. وهذا منهج معاصر يحاول دراسة كل أنواع البراهين والحجج،وهو عنصر ثراء للنظرية الحجاجية، هذا إذا تم تطعيمها ببعض المعطيات السيميولوجية الهرمنيوطيقيةالمعاصرة(2).

إن للخطاب الحجاجي تقنياته القائمة في جوهرها على استراتيجيات الفصل والوصل الحجاجيين لا النحويين، لكن للخطاب قبل أن يستوي كيانا مشكلا من تقنيات حجاجية يواجه بها المتكلم المخاطب لإيقاع التصديق منطلقات حجاجية مدارها على مقدمات تؤخذ على أنها مسلمات، يقبل بها الجمهور، واختيار هذه المقدمات وطريقة صوغها وترتيبها له في حد ذاته قيمة حجاجية، بحيث يبدو الفصل بين درس منطلقات الحجاج ودرس تقنيات الحجاج فصلا متكلفا(3).

فكل حكم يعرضه المتكلم يكون مستندا إلى قيم وحقائق مهمة، وستظل تلك الأحكام عرضة للتساؤل ما لم تدعم بالتقانات الحجاجية الصارمة، ويبقى والمتلقي مشككا في قبول احتمالات صدق أو كذب القضية دون تلك التقانات(4).

ص: 101


1- ينظر تاريخ نظريات الحجاج / 45 .
2- ينظر مفهوم الحجاج عند بيرلمان 2/ 496 .
3- ينظر في نظرية الحجاج / 23 .
4- ينظر التفكير فلسفيا،كريس هورنر، وإمريس ويستاكون، ترجمة د. ليلى الطويل / 229 .

المبحث الثاني :البعد الحجاجي في خطبة الجهاد

تعد خطب الجهاد من الخطب العظيمة التي قالها الإمام علي (عليه السلام) وقدخطب بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عامله

عليها، قال فيها: «أمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلِجْهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلَجْنَّة فَتَحَهُ اَللَّهُ لَخِاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لبِاَسُ اَلتقَّوَى وَ دِرْعُ اَلله اَلْحَصِينةُ وَ جُنتَّهُ اَلْوَثيِقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبةً عَنهُ أَلْبسَهُ اَلله ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَ شَمِلَهُ الَبلَاءُ وَ دُيِّثَ باِلصَّغَارِ وَ اَلْقَمَاءَة وَ ضُرِبَ عَلَ قَلْبهِ باِلْإِسْهَابِ [الَأْسْدَاد] وَ أدُيِلَ اَلَحْقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلِجْهَادِ وَ سِيمَ اَلَخْسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ أَلاَ وَ إنِّيِ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلِيَ قِتَالِ[حَرْبِ] هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لَيْلاً وَ نَاَراً وَ سِّراً وَ إِعْلاَناً وَ قُلْتُ لَكُمْ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِ عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ فَهَذَا وَ هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلَْنْبَارَ وَ قَدْ

قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنيِ أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَ اَلَمْرْأَةِ اَلُمْسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلُمْعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعُثهَا مَا تَمتْنَعُ [ تَمنْعُ] مِنهْمُ إلِا باِلاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافرِينَ مَا نَالَ رَجُلا مِنهُمْ كَلْمٌ وَ لا أُرِيقَ لَهمُ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللِّه يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يْجَلِبُ اَلْهمَّ مِنَ اِجْتمِاَعِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَ بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُعَلَيْكُمْ وَ لا تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لا تَغْزُونَ وَ يُعْصَ اَلله وَ تَرْضَوْنَ فَإذِا أَمَرْتُكُمْ باِلسَّيْرِ

ص: 102

إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلَحْرِّ [اَلصَّيْفِ] قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلَحْرُّ وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ باِلسَّيْرِ إلَيهِم فِي الَشِّتاَءِ قُلْتمُ هَذِه صَباَرَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْناَ يَنسَلخِ عَناَّ اَلْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَارا مِنَ اَلحْرَّ وَ اَلْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ اَلَحْرِّ وَ اَلْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَ اَللِّه مِنَ اَلسَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ وَ لا رِجَالَ حُلُومُ اَلأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ اَلِحْجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّ لَ أَرَكُمْ وَ لَ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَ الَلهُ جَرَّتْ نَدَما وَ أعَقَبتَ سَدَما [ذَمّا] قَاتَلَكُمُ الَله لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبيِ قَيحْا وَ شَحَنتْمُ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِ نُغَبَ اَلتَّهْمَمِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَّيَ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ اَلِخْذْلاَنِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِ طَالبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالَحْرْبِ لِلَّه أَبُوهُمْ وَ هَلْ أَحَدٌ مِنهُمْ أَشَدُّ لَهاَ مِرَاساً [مُقَاماً] وَ أَقْدَمُ فيِهَا مُقَاماً مِنيِّ لَقَدْ نَهضتُ فيِهَا وَ مَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَ اَلسِّتِّينَ وَ لَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ.(1)»

ويُمكن أن نستوضح الخصائص الفنية لهذه الخطبة مِن خلال السمات التي عرضه الدكتور محمد بن سعد الدبل:

أ. حسن الافتِتاح، والاستهلال.

ب. تقسيم الخِطاب، مع الاحتفاظ بوحدة الهدف الوظيفي للخطبة.

ج. التفنُّن في الأسلوب.والتنوع في المباحث البيانية.. حسن الختام والتخلص.

أما حسْنُ الافتِتاح فيتبيَّ مِن بَدءِ الخطبة، إذ تدخُل في الغرض دون مقدِّمات وعرض واستدلال، ودليل ذلك قوله (عليه السلام): «أما بعد، فإن الجهاد باب مِن أبواب الجنة، فمَن تركه رغبة ألبسَه الله ثوب الذل..» إلى قوله: «ومنع النصف»، فالأسلوب التعبيري في الافتتاح جاء في غاية الإحكام؛ حيث اعتمد على الأسلوب الإخباري في جُل تتراوح

ص: 103


1- نهج البلاغة / 60 - 64 .

بين الطول والقِصر.

أما تقسيم الخطاب فقد جاء وفق تقسيمات تتناسَب مع أحوال السامعين، أولئك الذين كان يأمرهم بالجهاد، ولكنهم يتباطؤون في الخروج، ويَعدون بالنفير في وقت غير الذي قيل لهم، وأول هذا التقسيم قوله (عليه السلام):

«ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهارًا وسرًّا وإعلانا)، ثم التأكيد في طلب الخروج إلى القتال مِن قوله:

«وقلتُ لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، والله ما غُزي قوم قطُّ في عقر دارهم إلاذلوا)، ثم بيان نتيجة هذا الحث والطلب مِن قوله:(فتواكلتم وتخاذلتم، وثَقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظِهريًّا)، ثم بيان ما ترتب على العصيان والتأخُّر عن القتال من قوله: (حتى شُنَّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردَت خيله الأنبار، وقتل حسان - أو ابن حسان - البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالاً صالحين، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهَدة فينزع حَجْلها ورِعاثها.»

ثم يلتفت بأسلوب الخِطاب إلى لون تعبيري آخَر يَمل في ثناياه عددًا من جمل التقريعواللوم؛ حيث يقول:

«فيا عجبًا مِن جدِّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم، فقبحًا لكم وترحًاحين صِتُم هدفًا يُرمى، وفيئًا يُنتهب »، ويلي هذه العبارات جمل تتَّسم بالقِصر والسجع الحسَن غير المتكلَّف مِن قوله: «يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصى الله وترضون.» ثم يَنتقل التقسيم في الخطاب إلى أسلوب حواري تقريعي تتوالى في ثناياه عدد مِن

ص: 104

المؤكِّدات؛ كصيغة الأمر، والقسَم، والجمل الاسمية من قوله:(فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا ينسلخ هذا القر..) إلى قوله (عليه السلام): «فأنتم والله من السيف أفرُّ، والله لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة - والله - جرَّت ندمًا.»

أما خصوصية التفنُّن في الأسلوب فتكاد تكون هذه الخطبة مِن نسج الحقيقة الصرفة التي لم يُمازجها أسلوب خيالي مِن استعارة أو فنٍّ كنائي إلا ما جاء من الاستعارة في قوله: (ألبسَه الله ثوب الذلَّ)؛ فقد جعل للذل ثوبًا ليكون أشمل في عقاب الله وأخذه.

ونلحظ أنماطًا مِن المقابلات البديعة في قوله: «سرًّا وإعلانًا، وليلاً ونهارًا »، و(باطلهم وحقكم)، و(الحر والبرد)، وقد حفل إطار الخطبة هنا بألوان من الألفاظ المتخيَّة المُنتقاة التي تلاءم الجملة والتركيب، وتُضفي على المعنى جلالة ومهابة وروعة، وبخاصة أن موضوع هذه الخطبة موضوع يتحدَّث عن الجهاد وعن فئة تباطَأت في الخروج إليه، وقد صحب قوة ألفاظ الخطبة ووضوحها وجمالها وسلاستها وبُعدها عن الغرابة عمقُ المعنى و وضوحه وشرفه واقتضاء المقام له، والشأن في ذلك ما قاله أبو هلال العسكري: «ومَن أراد معنى كريمً فليَلتمِس له لفظًا كريمً؛ فإن حق المعنى الشريف في اللفظ الشريف، ومِن حقِّهما أن تصونهما عما يُدنِّسهما ويفسدهما ويهجنهما.(1)»

وأما أسلوب الخاتمة فقد جاء ملائمً لما أثير في الخطبة مِن معاني اللَّوم والتقريع، والحث على الجهاد، ونتائج التباطؤ في النفير، وما يلزم الرعية من طاعة أولي الأمر، جاء الختام ملائمً؛ إذ انقطع صوت الغضب بجملة واحده قد لا تجاوز خمس كلمات من قوله: «ولكن لا رأي لمَن لا يُطاع.»

الختام يَمل مِن أسلوب اللوم والتقريع ما يَتناسب مع البناء الشعوري الذي نسجَت

ص: 105


1- الصناعتين / 140 .

خيوطه وأحكمت لبناته عاطفة صادقة حرَّى تتقطَّع أسفًا وحزنًا وغضبًا على ركون هذه الفئة وإخلادها إلى الأرض عاجزةً عن قتال عدوِّها(1).

أما في مجال التحليل الحجاجي فقد تنوعت الاستراتيجيات الخطابية في هذه الخطبة، وتفنن (عليه السلام) في عرضها تبعا للغاية المخطط لها، ونعني بها إقناع المتلقي بالجهاد وحثه عليه. فقد ابتدأ الإمام حديثه عن حقيقة الجهاد، كونه بابا من أبواب الجنة، وهي مقدمات حجاجية يلجأ إليها الخطيب، وينطلق منها الفعل الحجاجي، ويستعملها لتحقيق الإقناع، وتشكل موجهات حجاجية وحاملا للاتفاق. وتمثل ما هو مشترك بين عدة أشخاص أو بين جميع الناس، ولا تكون عرضة للدحض أو الشك وهي نقطة الانطلاق(2)، وتنقسم على وقائع مشاهدة أو معاينة من ناحية، ووقائع مفترضة من ناحية أخرى.وتعد الحقيقة التي عرضها نقطة اتفاق عند المتلقين، فالجنة جزاء المجاهدين، قال تعالی:«لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3) «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »من هنا بدأ الفعل الحجاجي عند الإمام و هو لباس التقوى وهي لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قال الله سبحانه:«يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ»(4) ، ثم انتقل الإمام من المقدمات الحجاجية إلى التقنيات الحجاجية ونقصد بها الطرائق الموظفة في توجيه الحجاج، وتقسم على طرائق وصل وطرائق فصل، والمقصود بالطرائق أو الحجج الاتصالية تلك التي تقرب بين العناصر

ص: 106


1- من خصائص الخطابة في الجاهلية والإسلام، د. محمد بن سعد الدبل، الألوكة الأدبية/ : htpp://ixzz3Yt.AYHVo5/52859/0
2- ينظر بلاغة الإقناع / 87 .
3- التوبة: 88 - 89 .
4- الأعراف: 26 .

المتباينة، ومن أشكالها الحجج شبه المنطقية، والحجج المؤسسة على بنية الواقع، والحجج المؤسسة لبنية الواقع(1)، أما الثانية فالمقصود بها تلك الحجج المستعملة في إحداث القطيعة وإفساد اللحمة بين عناصر تشكل عادة كلا لا يتجزأ. ومن هذا التقنيات تقنية التتابع السببي، فالعلاقات السببية علاقات حجاجية، وتقوم على الربط بين الأحداثالمتتابعة بعلاقات سببية، فهو حجاج يرمي إلى أن يُستخلص من حدث ما وقع سببٌ أحدثه،وأدَّى إليه كقولنا:اجتهد فنجح، نجح لأنه اجتهد، ويرمي كذلك إلى التكهن بما سيحدث،مثل: يجتهد وسينجح»، وإننا نستطيع أن ندافع بالقول: إن هذه الدائرة الاستخباراتية جيدة؛ ذلك أن الجيش الذي تنتمي إليه قد انتصر في جميع المعارك (2)» ومعنى هذا أن الربط السببي يكون في اتجاهين: من السبب إلى النتيجة، ومن النتيجة إلى السبب(3). فقوله: «فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ (السبب) أَلْبَسَهُ اَللُّهَ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَ شَمِلَهُ اَلْبَلَاءُ وَدُيِّثَ باِلصَّغَارِ وَالَقَمَاءَة وَ ضُرِبَ عَلَ قَلْبهِ باِلْإِسْهَابِ [الأَسْدَاد] وَ أدُيِلَ الَحْقُّ مِنهُ بتِضَييِعِ اَلِجْهَادِ وَ سِيمَ اَلْخَسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ(النتيجة) فعرض السبب ثم النتيجة المترتبة عليه،وكذلك استعمل هذا الحجة في قوله: «فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِ عُقْرِ دَارِهِمْ(السبب) إِلاَّ ذَلُّوا (النتيجة)» وكذلك في قوله «فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ(السبب) حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ(النتيجة)» وتكثر الحجج السببية في جل الخطابات المتجهة غاياتها صوب الإقناع، وتتضاعف وتشتد في الخطابات التي يرمي أصحابها إلى البرهنة العقلية، فرد الحقائق إلى أسبابها يتضمن فعلا حجاجيا يجعل تلك الحقائق أمورا متمكنة ومصادرات راسخة لا تبدل ولا تحول، وإنما تؤخذ مأخذ العقائد الكلية التي تضاف إلى الإيمان بقداسة الخطاب وعلو منزلته(4).

ص: 107


1- ینظر الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته/ 324 .
2- تاريخ نظريات الحجاج / 50 .
3- ینظر الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته / 332
4- ينظر الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل / 284 .

واستعمل الإمام رابطا حجاجيا واضحا وهو (حتى) في قوله :«فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ» وهي من أدوات السُلَّم الحجاجي، لدورها في ترتيب منزلة العناصر، وتربط حتى بين حجتين في سلم الكلام،ولكن هاتين الحجتين ليستا في الدرجة نفسها من القوة، ولكن ضمن إستراتيجية محددة تكون فيها الحجة التي تأتي بعد

(حتى) الحجة الأقوى.

واستعمل الإمام حجية السلطة في قوله: «قُلْتُ لَكُمْ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ » فأمره لهم جاء من السلطة التي يمتلكها كونه أميرا للمؤمنين، وخليفة عليهم، وإلا لما استطاع أن يأمرهم، وتعد حجية السلطة من الحجج المهمة والاستراتيجيات القوية، التي تدفع فعل الإقناع باتجاه الأمام وهي حجج تغذيها هيبة المتكلم ونفوذه وسطوته، فشهادة أي شخص على قضية ما تعتمد على نفوذه ومكانته الاجتماعية. ويمثل السلطة العلماء والفلاسفة والكهنوت والإجماع والرأي العام. وعادة ما تكون حجة السلطة غير وحيدة، وإنما تأتي ساندة لحجج أخرى. وكثيرا ما نعمد إلى الثناء على هذه قبل أن نستعملها حججا في خطابنا. وتتخذ السلطة أي سلطة من نفسها حقيقة متبناة، توجب الطاعة والخضوع محيلة تلك الخطابات إلى خطابات تمترس خلفها، ومن ثم تعمل من خلال ممارسات شعائرية على إكسائها بهالة قدسية تفرض على المتلقي قبول أي فكرة ما استنادا إلى تلك القدسية(1).

ومن الحجج التي استعملها الإمام، دافعا باتجاه إقناع المتلقي بدعوة الجهاد، وحاثا على تبني تلك الدعوة، حجية الأفعال الكلامية فقوله في بداية الخطبة: «أمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلِجْهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلَجْنَّةِ فَتَحَهُ اَ للُّهَ لَخِاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَ دِرْعُ اَ للِّهَ اَلَحْصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ (فعل كلام وعدي) فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَ شَمِلَهُ اَلْبَلاَءُ وَ دُيِّثَ باِلصَّغَارِ وَ اَلْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَي قَلْبهِ باِلْإِسْهَابِ [اَلْأَسْدَادِ] وَ أُدِيلَ

ص: 108


1- ينظر أنطقة المحرم / 45 .

اَلَحْقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلِجْهَادِ وَ سِيمَ اَلْخَسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ (فعل كلام وعيدي)» فنظریة الأفعال الكلامية من أهم الأسس التي قامت علیها اللسانیات التداولیة في منظومة البحث اللغوي العربي المعاصر، وذلك باعتبارها المجسد الحقیقي للاستعمالات اللغویةفي الواقع وفعلا الكلام السابقين من أفعال الوعد ( Les promissifs ): وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بالنهوض بسلسة من الأفعال المستقبلية، ومنها أفعال العرض والوعد والوعيد.فالجزء الأول اتخذ طابع الوعد والترغيب بمن سلك طريق الجهاد، بينما اتخذ الجزء الثاني من القول طابع الوعيد والترهيب لمن رغب عن الجهاد واتركه.

استعمل الإمام حجة أخرى وهي حجة النموذج في قوله: «وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَي اَلَمْرْأَةِ اَلُمْسلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلُمْعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمتَنِعُ [تمَنْعُ] مِنهُ إلِا باِلاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ» فكانت حجته حركة استباقية، و استشرافا مستقبليا، لما يحص بالمستقبل، بعد القياس السابق للمتشابه، دفع العملية الإقناعية إلى الأمام، وأثبت حجية قوله، وزاد من درجة اعتقاد المتلقي بكلامه، فالحجاج بالنموذج ليس مجرد تسجيل للمظاهرالمستكشفة بالإدراك المقصود أو بالصدفة، أو مجرد إسقاط لفائدة محصلة على واقعة طارئة، بل هو حيوية تسري في إدراكنا لمكونات المحيط جملة، وهو ترجمة لحركة الفكر إلى الأمام أبعد من المعطى، فمن يتخلف عن الجهاد، ومن لم يغزُ سوف يلحق به ما لحق بالنموذج الحجاجي الذي طرحه (أي أهل الأنبار) وسيحصل له ما حصل له. وهي إستراتيجية دافعة نحو الهدف الأساس من الإقناع، وتمثل دفعة قوية للمتلقي لتبني الفكرة المعروضة، وسد الطرق الأخرى جميعها أمامه.ومثل ذلك النموذج معلومة اقتضائية لدى طرفي الخطاب، فكل منهما يعرف تلك الحادثة، ومن ثم سيقيس عليها الأحداث المستقبلية.

ومن الحجج التي استعملها الإمام في الخطبة حجة التناقض، التي تعد من الحجج

ص: 109

شبه المنطقية والتناقض وعدم الاتفاق ونقصد به وجود قضيتين أحدهما تنفي الأخرى،وعرضهما على الواقع مما يسبب تبني إحداهما و طرح الأخرى، وهي قوله:» فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللِّهَ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يْجَلِبُ اَلْهمَّ مِنَ اِجْتمِاَعِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَ بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ «فعرض الإمام قضيتين متناقضتين، أولهما اجتماع هؤلاء الناس على باطلهم، وتلك مفارقة؛ لأن الباطل قلما يُتمع حوله، وتفرق أصحاب الحق عنه، وهو أمر قليل في الأعراف الاجتماعية، وتعد من السخرية الاجتماعية فيكون الكشف عن التناقض بين قضيتين لإقصاء إحداهما، مما يؤدي إلى تبني الأخرى. فالتناقض غالبا ما يسهل الكشف عنه، وغالبا ما يكون كشف التعارض مثارا للسخرية؛ لذا عد بيرلمان السخرية والهزء من أهم الأسلحة الحجاجية(1).ومن ثم دفع الناس نحو الاتفاق على الحق ونبذ الفرقة.

ومن الحجج البلاغية حجية التشبيه في قوله:» يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال « فروحية الرجل تختلف عن روحية المرأة، ونفسيته تفرق عن نفسيّة المرأة، والرجل إنما يكون رجلا إذا كانت فيه صفات الرجال كالشجاعة والبطولة والغيرة والحميّة والإباء والفتوة، وسائر صفات الرجولة، فإذا فقدها فهو شبيه بالأطفال غير البالغين، ومن مزايا الرجل: العقل الوافر، والفكر الوقاد، فان فقدهما الرجل فهو نظير المرأة؟ لأن النساء ضعيفات البنية، ولأن الصفات المتقدمة غير مطلوبة من المرأة، وفاقد صفات الرجال مثيل المرأة وإن كان من جنس الرجال، وخلقته وصورته كالرجال، فهؤلاء القوم رجال صورة وخلقة، ولا رجال غيرة وحمية وبطولة وفتوة، وحلومهم أي عقولهم عقول الأطفال الذين لا عقل لهم، وشبّه عقولهم أيضا بعقول النساء المخدرات أو العرائس.وأفاد بيان عدم كفاءتهم لتدبير الحرب، وسائرشؤون البلاد. وتعد حجة التشبيه من الحجج المهمة؛ لأننا كثيرا ما نصادف أشياء نجد أنفسنا مضطرين إلى تقويم بعض الأشياء انطلاقا من أشياء أخر «فعندما نقول: خد أحمد كالتفاحة، أو إنه جميل كأدونيس، فإننا نعمل على تشبيه وقائع مع بعضها البعض،

ص: 110


1- ينظر الحجاج في البلاغة العربية / 128 .

بطريقة تبدو أكثر ميلا للبرهنة وإعطاء الحجة منها لمجرد المشابهة، أو المماثلة البسيطة بين الطرفين.(1)»

ويمكن أن نتلمس حججا أخرى من تشبيهه هذا:

1. أنه نفى عنهم صفة الرجولية؛ لاستجماعها ما ينبغي من صفات الكمال الإنساني كالشجاعة والأنفة والحمية والغيرة، و عدم هذه الكمالات فيهم وإن كانوا بالصورة المحسوسة للرجال الموجبة لشبههم بهم، وذلك قوله: يا أشباه الرجال.

2. أنه وصفه لهم بحلوم الأطفال، وذلك أن ملكة الحلم ليست عند الطفل، وإن كانت قوة الحلم له، لكن قد يحصل لهم ما يتصور بصورة الحلم، كعدم التسرع إلى الغضب عن خيال يرضيه، وأغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه، فهو «إذن نقصان، وكان تركهم الجهاد حلما عن أدنى خيال كتركهم الحرب بصفين عن خدعة الشام، فذلك في غير موضعه حتى كان من أمرهم ما كان، فأشبه رضا الصبيان فأطلق اسمه عليه.

3. إلحاق عقولهم بعقول النساء؛ ذلك للمشاركة في النقصان، وعدم عقليتهم لوجوه المصالح المختصة، بتدبير المدن والحرب(2).

ومن الحجج البلاغية التي استعملها الإمام في الخطبة حجية الاستعارة في قوله: (لباس التقوى، ودرع الله الوثيقة، وثوب الذل) ووجه المشابهة أن الإنسان يتقي العدو أو سوء العذاب يوم القيامة كما يتقي بثوبه ما يؤذيه، واستعار ثوب الذل بأن الذل سيلبسه ويغطيه كما سيغطيه الثوب. فالاستعارة من الآليات الحجاجية المهمة، التي يمارس المتكلم من خلالها التأثير في المتلقي، من خلال فعاليتها في التأثير في الأذهان والأفهام، و هي إستراتيجية خاصة من الاستدلال العقلاني ومن الفضائل المعرفية والإدراكية، ولها

ص: 111


1- حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي(رضي الله عنه) د. كمال الزماني / 126 .
2- ينظر شرح نهج البلاغة، البحراني 2/ 38 .

وظيفة مركبة يرتبط فيها العقل بالإحساس،والفكري بالنفسي، تسعى إلى إحداث قطيعة وقلب انتظارات ومفاجأة توقعات، وإعادة النظر في نظام الخطاب،وهي بهذا تسمح فيالوقت نفسه بالإحساس والتفكير(1). وتنبه الجرجاني إلى وظيفتها الإقناعية وقال:» فقد حصل من هذا الباب أن الاسم المستعارَ كلما كان قَدمُه أثبتَ في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضَنَّ به، وأَشَدَّ محاماةً عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجعَ إلى الظاهر وتصرِّح بالتشبيه،فأمرُ التخييل فيه أقوى،ودعوى المتكلم له أظهر وأتَمُّ»(2). فالاستعارة لا تقيم مماثلة بين المراجع، وإنما تربط علاقة تطابق معين بين مضامين التعابير، ولا تحيل على طريقة نظرتنا للمراجع إلا بشكل غير مباشر(3).

واستعمل الإمام سلما حجاجيا في قوله «لقد ملأتم قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِ نُغَبَ اَلتَّهْمَمِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَّيَ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ اَلِخْذْلاَنِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِ طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالَحْرْب.»

(ن) قول قريش

- حتى

- أفسدتم رأيي عليه

- جرعتموني نغب التهمام

- شحنتم صدري غيضا

- ملأتم قلبي قيحا

فالسلم الحجاجي من الاستراتيجيات المهمة التي يلجأ إليها المتكلم لترتيب

أقواله،وهو مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية موفية بالشرطين

ص: 112


1- ينظر حجاجية المجاز والاستعارة، حسن مودن، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 3/ 725 - 726 .
2- أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا / 276 .
3- ينظر التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد / 149 .

التاليين(1):

1. كل قول يقع في مرتبة ما من السلم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القولالموجود في الطرف الأعلى جميع الأقوال التي دونه.

2. كل قول كان في السلم دليلا على مدلول معين، كان ما يعلوه مرتبة دليلا أقوى عليه.

فكل الحجج الموجودة في السلم السابق أدت إلى تقوية الحجة التي تليها، وصولا إلى النتيجة التي عرضت في قمة السلم الحجاجي، مستعملا العامل الحجاجي (حتى) الذي لعب دورا محوريا في ضبط نسق الحجاج، فلقد أقر (موشلار وريبول) بأن الخاصية الأساسية للعلائق الحجاجية هي أن تكون سلمية وتراتبية، وسبب نعتها بهذه الصفة إنما هو ما يوفره العامل الحجاجي من تقوية للحجة حتى يجعلها غير متساوية قوة وضعفا تأثيرا وإقناعا، ومن ثم يكون العامل الحجاجي المحرك للعلائق الحجاجية داخل الملفوظ ذاته، فالعامل (حتى) ساعد على تقوية إيقان المتلقي بالنتيجة، بل ساعد في رسم صورة المسلك الذي ينبغي أن يقطعه المسار وصولا إلى النتيجة، وهو في أثناء ذلك كله يقوي النتيجة التي يروم المتكلم الوصول إليها، وإقناع المتلقي بها(2).

ومن الروابط الحجاجية التي استعملها الإمام في الخطبة (لكن) في قوله:»لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّ ابِنَ أبَيِ طَالبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ باِلْحرَبِ لِله أبُوهُمْ وَ هَلْ أحَدٌ مِنهُمْ أَشَدُّ لَاَ مِرَاساً [مُقَاماً ] وَ أَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهضتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ و هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَ اَلسِّتِّينَ وَ لَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ» يوضح الرابط (لكن) علاقة القوة الحجاجية ويوضح أيضا مفهوما جديدا هو مفهوم التناقض الحجاجي، وتفترض هذه العلاقة أنه إذا كانت حجة (ق) تنتمي إلى قسم حجاجي تحدده النتيجة(ن) فإنه

ص: 113


1- ينظر اللسان والميزان / 277 .
2- ينظر العوامل الحجاجية في اللغة العربية، د. عز الدين الناجح / 133 - 134 .

توجد حجة أخرى (قُ) تنتمي إلى قسم حجاجي آخر تحدده النتيجة المناقضة(لا-ن)(1) و هو حرف استدراك، والاستدراك أن تنسب حكما لاسمها يخالف المحكوم عليه قبلها، وتصويب الخطاب صوب الدعوى التي يدَّعيها المخاطب، و للاستدراك غاية تداوليةكبرى تتمثل في دعم الحجة التي تأتي بعده،ومنحها قوة ومصداقية أكبر، تقول (ديبورا شيفرن) «(لكن) من أدوات تنسيق الخطاب، إلا أن لها وظيفة تداولية مختلفة، وهي أن تجعل للوحدة التي تليها فعلا مضادا؛ ولأن هذا الدور مؤسس على معناها المضاد، فإن مدى استعمالها الذهني أضيق من مدى الواو... إذ لا تنسق لكن بين الوحدات الوظيفية إلا إذا كان هناك بعضا من العلاقات المتضادة في محتواها الذهني والتفاعلي.(2)

ويمكن لنا رسم مخطط لفعالية العامل الحجاجي:

علي بن أبي طالب رجل شجاع ليس لديه خبرة بالحرب

لكن

النتيجة (يكسب الحرب) رابط إقصائي النتيجة(يخسر الحرب)

ص: 114


1- ينظر القاموس الموسوعي في التداولية 1/ 301 .
2- ()آليات الحجاج وأدواته، عبد الهادي الشهري، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته 1/ 104 .

ومن الحجج التي استعملها الإمام في خطبته حجية القياس،وذلك في قوله: » فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ باِلسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلْحِرَّ [اَلصَّيْفِ] قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْناَ يُسَبَّخْ عَناَّ اَلْحُّر وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا اَلْبَرْدُ(حقائق)كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ اَلَحْرِّ وَ اَلْقُرِّ فَإذَا كُنتُمْ مِنَ اَلَحْرِّ وَ اَلْقُرِّ تَفِرُّونَ(استدلال) فَأَنْتُمْ وَ اَللِّهَ مِنَ اَلسَّيْفِ أَفَرُّ(نتيجة)» فالحجاج بالقياس يتمثل في تقديم الحجج والأدلة المؤدية إلى نتيجة معينة، وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، وبعبارة أخرى يتمثل الحجاج في إنجاز متواليات من الأقوال، بعضها هو بمثابة الحجج اللغوية، وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج التي تستنتج منها.فكون اللغة لها وظيفة حجاجية يعني أن التسلسلات الخطابية محددة،لا بواسطة الوقائع( les faits ) المعبر عنها داخل الأقوال

فقط، ولكنها محددة أيضا وأساسا بواسطة بنية هذه الأقوال نفسها، وبواسطة المواد اللغوية التي تم توظيفها وتشغيلها.

تنوعت آليات الحجاج وأدواته في خطبة الجهاد،ودارت تلك الآليات بين آلياتبلاغية، مثل التشبيه والاستعارة ركنا أساسيا فيها، وكذلك الآليات المنطقية، إذ استعمل حججا منطقية وشبه منطقية، وأخرى مبنية على الواقع، وكانت حجية السلطة والنموذج والحجج التتابعية حاضرة في خطبة الجهاد، فضلا عن الآليات التداولية التي مثلتها نظرية أفعال الكلام والاستلزام والاقتضاء التخاطبيين، وكذلك فقد لعبت الروابط والعوامل الحجاجية دورا مميزا في عملية الدفع الإقناعية؛ لما تحمله في طياتها من حمولة إقناعية، وقوة في توجيه مسار الحجاج. ومثلت السلالم الحجاجية جانبا من جوانب الفعل الحجاجي في خطبة الجهاد.

تنوعت أدوار الخطاب في خطبة الجهاد من حيث الموضوعات، وتنوعت الاستراتيجيات الحجاجية التي استعملها الإمام في خطبته. فكان القسم الأول في ذكر لثواب الجهاد، ومنزلة المجاهدين عند الله، ثم تحول الخطاب لذكر عقاب المتخلفين عن

ص: 115

الجهاد ومصيرهم وعاقبة المتخلفين عن الفعل المقدس، ثم تحول الخطاب في سبب دعوة الجهاد، واستعمل فيها الإمام حجية الاستكشاف المستقبلي لمن يتخلف عنه، بعد ذلك عرض بملفوظات وصفية متناقضات عدوهم ومسببات قوتهم، ثم تحول مسار الخطاب نحو الذم والتهكم والتقريع والسخرية من المتلقي الذي يخالف مريدات الإقناع، وختم الإمام بحجية منطقية مفادها أن من لم يطيعه قومه فلا سبيل إلى وجود رأيه؛ لأن من مستلزمات الرأي وجود من يقتنع بالرأي ويسير بهداه. كل تلك التنوعات بالخطاب صبت في بوتقة واحدة، وجاءت متراصفة متراتبة في سبيل الغاية الحجاجية الأسمى للفعل الخطابي، وهي الدعوة للجهاد وإقناع المتلقي به.

ص: 116

الفصل الثالث: الأفعال الكلامية في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

ص: 117

ص: 118

المبحث الأول

القسم الأول : نظرية أفعال الكلام (Actes locutoire)

(النشأة والتطور):

وهي من الاستراتيجيات التوجيهية، وسبب اختيار المرسل لهذه الإستراتيجية إصرار المرسل على تبليغ قصده من وراء الخطاب وكذا توجيه المرسل إليه من خلال النصح والتحذير والإرشاد وهذه الأفعال لا تقتضي استعمال المرونة في الخطاب، كما أنه يودي باستعمال هذه الإستراتيجية أن يفرض قيدا على المرسل إليه بشكل أو بآخر، وإن كان قيدا بسيطا وأن يمارس فضولا خطابيا عليه أو توجيهه لمصلحته بنفعه من جهة، وبإبعاده عن الضرر من جهة أخرى وهذا النوع من الخطاب التوجيهي قد يكون نوعا من التدخل والضغط على المرسل.وهناك مسوغات عديدة لاستعمال هذه الاستراتيجيات منها:

1. عدم تشابه المتكلم والمتلقي في السمات العامة، فيحتاج بذلك المتلقي إلى النصح والتوجيه.

2. عدم وجود تكرار باللقاءات بين المتكلم والسامع، إذ تنحصر لقاءاتهما بالمحافل الرسمية، فليس هناك عمق بالمعرفة الشخصية.

3. الشعور بالتفاوت بين مستويات التفكير بين طرفي الخطاب، مما يؤثر في فهم كل منهما لطبيعة الآخر.

ص: 119

4. رغبة المرسل في الاستعلاء في منزلته الذاتية بما يملك من صفات تحول خطابه إلى سلطة على المتلقي.

5. إصرار المتكلم على تنفيذ قصده، وإنجاز تبليغه؛ لذلك تعد أفعال هذا النوع بالأفعال الإنجازية.

6. حصول تحد واضح لتعليمات المتكلم، مما يؤدي إلى تمسكه بها و توكيده عليها.

1. مناسبة السياق التفاعلي لاستعمال التوجيهية، بين الطبيب والمريض، عندما لا يلتفت إلى التراتب الاجتماعي، فلا يراعى كون الطبيب أميرا أو وزير، فينصب اهتمام المتكلم على التبليغ والمتابعة والتأثير(1).

تتمحور نظرية أفعال الكلام حول منزع وظيفي تداولي، يعالج القوة الكلامية للوحدات القولية، ويعنى بجميع أشكال التعامل القولي (L’INTERACTION VERBALE) . فبدأت مسيرة تلك النظرية بالثورة على مفهوم الوصف المسند في الغالب للغة، الذي أقصى كثيرا من العبارات المستخدمة بحجة عدم خضوعها لمعيار الصدق والكذب، وفي هذا الصدد بدأ «أوستين » - ضمن محاضرات (وليام جايمس)(2)- عمله بالكشف عن التعارض بين نوعين من المنطوقات، المنطوقات التقريرية الوصفية (constative utterences) ونوع آخر يتشابه مع النوع الأول تشابها ظاهريا في البنية، غير أنه لا يقوم بالوظيفة التي يقوم بها هذا النوع ويسمى «أوستين» هذا النوع بالمنطوقات الأدائية ( performative utterences ) وإذا كانت المنطوقات الأولى تجرى عليها قوانين الصدق والكذب، من مثل قولنا:الجو جميل، فإن النوع الثاني من الملفوظات لا تحكمه هذه القوانين، ويحتاج في مقابل ذلك إلى جملة من الشروط والمعايير تضمن نجاحه، وذلك

ص: 120


1- ينظر استراتيجيات الخطاب / 328 - 330 .
2- ينظر التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجاك موشلار، ترجمة د. محمد الشيباني/ 31 .

من مثل قولنا: افتتح رئيس البرلمان الجلسة(1)، وكذلك قولنا: إني أتخذ عادة المرأة لتكون زوجة شرعية لي، وقولنا: إني أسمي هذا المسجد باسم «علي بن أبي طالب(عليه السلام) «وقولنا:إني أهب ساعتي لأخي، فالمنطوقات التي وردت في الجمل السالفة لا تصف شيئا أو تخبر عنه أو تقرره أو تثبته، وليست منطوقات صادقة أو كاذبة، ولكن بمجرد النطق بها يعتبر أداء لفعل ما، ويقترح أوستين تسميتها بالجملة الأدائية(2)فقولك لأي شيء ما تكون أنجزته في الوقت نفسه،ويشكل القول الحدث الرئيس في الفعل الكلامي في هذا النوع من المنطوقات(3).

أولا / جهود أوستين:
اشارة

جاءت نظرية «أوستين» كرد فعل مضاد لطرائق التحليل السائدة آنذاك، التيكانت تحلل الجمل مجردة من سياقها الخطابي المؤسساتي، وبمعزل عن كل ملابسات القول وظروف إنتاج الحدث الخطابي، وبمعزل كذلك عن صفات كل من طرفي الخطاب،وانقسمت نظريته على ثلاث مراحل:

1- مرحلة التمييز بين الملفوظات الوصفية والإنجازية:

فبدأ في هذه المرحلة برفض تقسيم الملفوظات السائد على ملفوظات إنجازية، وأخرى وصفية، ليس لها عمل سوى وصف العالم الخارجي، كما نقول: جاء زيد، فليس للملفوظ وظيفة سوى الإخبار، وهذا الإخبار إما أن يصدق، أي أن يتلاءم مع العالم الخارجي، أو يكون كاذبا بعدم تلاؤمه، فأنكر أن تكون الوظيفة الوصفية الوظيفة الوحيدة للملفوظات الإخبارية وأطلق على هذا التوصيف بالمغالطة الوصفية، وذهب يرفض

ص: 121


1- ينظر تداولية النص الشعري، جمهرة أشعار العرب أنموذجا / 148.
2- ينظر التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد / 138 .
3- ينظر نظرية أفعال الكلام العامة / 18 .

تلك التقسيمات واعتمد على بعض الملفوظات الوصفية (الأدائية) التي يكون الوصف فيها غير خاضع لمعيار الصدق والكذب، كقولهم: أنت طالق، أو كقولك عندما بشرت بغلام: أسميه محمدا، وأخرى إنجازية، وهي الأفعال التي تنجز أفعالا معينة عند النطق بها (الإنشائية) كالأمر والنهي والاستفهام والعرض والتحضيض... (1)، وذهب إلى القول بأن الأفعال الوصفية تنجز فعلا ما بمجرد أن ينطق المتكلم بها، فالقول هو الفعل،

وبذلك فكل الأفعال هي أفعال إنجازية.

2- مرحلة تقييم معايير نجاح الفعل الكلامي:

وضع أوستين جملة من المعايير المقالية والمقامية، التي يشترط وجودها لنجاح الفعل الكلامي:

أ. المعايير المقامية، وهي:

2. يتعين وجود إجراء عرفي مقبول محدد متفق عليه بين المتخاطبين في الفعل التواصلي،كما في الزواج مثلا وطقوسه المعهودة، فإذا لم تتوفر هذه الإجراءات لم يتحقق الفعل الكلامي، كما في التمثيليات مثلا.

3. يجب أن يكون الشخص المتلفظ للفعل الكلامي ملائما للفعل، فلو نطق حاجب المحكمة وقال للمتهم: حكمنا عليك بالسجن، لم يكن الشخص ملائما؛ لان ليس من اختصاصات الحاجب النطق بالحكم.

4. يجب أن يؤدي جميع المشتركين بالعملية التواصلية أدوارهم دون لبس أو تمويه، فلو حصل أي لبس أو تمويه سيؤدي إلى إخلال في العملية التواصلية.

5. يجب أن يكون المتكلم صادقا بتعبيراته، فلو قلت لشخص: أنا احبك كوالدي، فيجب

ص: 122


1- ينظر أفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر/ 61 - 62 .

حينئذ أن تكون مشاعرك صادقة وملائمة لألفاظك.

6. يجب ألا يتراجع المشاركون في العملية التواصلية إلى آخر لحظة من العملية.

7. يجب أن يتم الفعل الكلامي كاملا دون نقص.

ب- المعايير المقالية: وتتمثل في جملة من الشروط:

1- ينبغي أن ينتمي الفعل إلى فئة الأفعال الإنجازية (الأمر والاستفهام والتمني والترجي...).

2- يجب أن يكون الفعل مبنيا للمعلوم.

3- يجب أن يكون الفاعل نفس المتكلم.

4- يجب أن يكون زمن المتكلم في الحاضر.

5- وبالرغم من جهود أوستين في التفريق بين الأفعال الإنجازية والتقريرية، لكنه لم يفلح في التفريق بينهما، وظلت حدود هذين النوعين متقاربة، فشروطهما متقاربة جدا، وتوصل أخيرا إلى مرحلته النهائية.

ص: 123

3.مرحلة الفعل الكلامي:

فقد توصل إلى أن جميع الأفعال الكلامية تتكون من ثلاثة أقسام على النحو الآتي(1):

أ. فعل القول (الفعل اللغوي) (Acte locutoire ): ويراد به (طلاق الألفاظ في جمل مفيدة ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة) ففعل القول يشمل بالضرورة على أفعال لغوية فرعية وهي المستويات اللسانية المعهودة: المستوى الصوتي والمستوى الصرفي والتركيبي والدلالي.

لكن «أوستين» يسميها أفعالا، الفعل الصوتي وهو التلفظ بسلسلة من الأصوات المنتمية إلى لغة معينة، والتركيبي فيؤلف مفردات طبقا لقواعد لغة معينة، والدلالي فهو توظيف هذه الأفعال حسب معان وإحالات محددة، فقولنا: (إنها ستمطر) جملة، ولكنا لا نعرف ماهيتها، هل هي إخبار؟ أم تحذير بعدم الخروج، أم أمر بحمل مظلة أم غير ذلك، إلا بالرجوع إلى قرائن السياق لتحديد «قصد المتكلم» أو غرضه من الكلام (2).وهذه الأفعال الفرعية متداخلة فيما بينها، بحيث أنها تنجز في وقت واحد، فنحن حين ننتج سلسلة من الأصوات التي تنتمي إلى لغة معينة ضمن شكل عرفي يمكن معرفته وننجز هذا العمل بقصد مساوق أيضا؛ لأننا في العادة لا نتكلم ضد إرادتنا، كما يمكننا أن نتحكم في لغتنا ومع ذلك فللملفوظات اللغوية سلسلة كاملة من السمات الخاصة بها، فهي تتآلف على شكل سلسلة من الأصوات التي تنتظم في مجموعات صوتية وفقا لقواعد نحوية وتركيبية ذات دلالة معينة، ومن خلال إنتاج الأصوات نقوم في الوقت ذاته بأحداث فونولوجية ومورفولوجية ونحوية.

ص: 124


1- ينظر نظرية أفعال الكلام العامة، أوستين، ترجمة عبد القادر قينيني / 115 - 128 .
2- ينظر التداولية والحجاج، صابرحباشة / 97 .

ب. الفعل المتضمن في القول (Acte illocutoire): وهو الفعل الإنجازي الحقيقي إذ «إنه عمل ينجز بقول ما» وهذا الصنف من الأفعال الكلامية هو المقصود بالنظريةبرمتها؛ ولذلك اقترح «أوستين» تسمية الوظائف اللسانية الثاوية خلف هذه الأفعال ب-» القوة الانجازية» ومن أمثلته: الاستفهام، والتوكيد، والتحذير، والأمر...ألخ، فلو قلنا مثلا: هل سيكون الجو جميلا غدا؟ فالنظر إلى الجملة في السياق البلاغي لا يعدو كونها استفهاما، أما إذا نظرنا إلى مقامات المستمعين فقد يتغير حكمنا عليها؛ لأنه سيأخذ قيمة أخرى، فإنجاز المتكلم للفعل الكلامي في الجملة وهو الاستفهام یضعه في مقام المنتظر لإجابة ما من المستمع لأنه المخصوص بفعل الخطاب داخل علاقة تضطره إلى إعطاء جوابه(1)، ولكي یتحقق فعل الاستفهام یشترط «أوستین» فهم المستمع للقوة الخطابیة التي یعطیها المتكلم لملفوظه، وقوة الخطاب هي كل ما یتعلق بإنجازه ویكسبه نوعیة خاصة: كأمر - وعد - استفهام، وعلیه فعملیة إنجاز الفعل الكلامي وتحققه متعلقة بقصد المتكلم وفهم السامع لهذا القصد فهما جیدا ومن ثم الاستجابة له، انطلاقا من القوة الإنجازیة المتضمنة في الفعل الكلامي وذلك لأن اللغة حسب «أوستین » نشاط وعمل ینجز، أي أن المتكلم لا یخبر ویبلغ فحسب،بل إنه یفعل أي یعمل، ويقوم بنشاط مدعم بنیة وقصد یرید المتكلم تحقیقه من جراء تلفظه بقول من الأقوال. ويجب التنبيه على أهمیة المتكلم ودوره في تحدید قصده ودرجة قوة ملفوظه الإنجازي وفهم المستمع للخطاب، وردة فعله التي تحدد مدى فهمه لقصد المتكلم ودرجة تأثره بالخطاب، كما تشیر إلى دور كل هذه العناصر في إنجاح العملیة التبلیغیة بین المتخاطبین، فإذا كانت القوة الإنجازیة مثلا في الجملة السابقة هي الاستفهام فإن نتیجة هذا الخطاب تتمثل في الإجابة عن السؤال وهي نتیجة طبیعیة أو الرفض، وهنا لا بد من إعادة النظر في درجة فهم المستمع للسؤال،

ص: 125


1- ينظر السياق والنص الشعري، علي آيت أوشان / 70

الذي هو عبارة عن فعل إنجازي أراد المتكلم من خلاله أن یبلغ متلقیه أمراما(1)

ج. الفعل الناتج عن القول (Acte perlocutoire): وأخيرا يرى «أوستين» أنه مع القيام بفعل القول، وما يصحبه من فعل متضمن في القول (القوة) فقد يكون الفاعل (وهو هنا الشخص المتكلم) قائما بفعل ثالث هو التسبب في نشوء آثار: (الإقناع والتضليل والإرشاد، التثبيط...ألخ) ويسميه «أوستين »: الفعل الناتج عن القول، وسماه بعضهم (الفعل التأثيري) (2).

فما دامت كل إرسالية موجهة إلى مخاطب معين، فإنها تسعى بالضرورة إلى إقناعه بفعل ما، وكنتيجة لذلك استجابته لهذا الفعل، وتسمى هذه الاستجابة فعلا إستجابيا أو فعل التأثير في الخطاب(3)، فلو قلنا مثلا: الأفعى على الحصيرة، فالفعل القولي لهذا الملفوظ هو الحدث اللغوي وما يشمله من الأصوات والبنية الصرفية والدلالة، والفعل الإنجازي وهو التحذير من وجود الأفعى، والجانب التأثيري بيان الخوف منها وابتعاده عنها.

ص: 126


1- ينظر مبادئ في اللسانيات، خولة طالب الإبراهيمي / 161-162
2- ينظر التداولية عند العرب، مسعود صحراوي / 41 - 42 .
3- ينظر السياق والنص الشعري / 71 .
تصنيف أوستين لأفعال الكلام:

ويصنف «أوستين » أفعال الكلام في كتابه (كيف نصنع الأشياء بالكلمات؟) إلى خمسة أصناف(1):

أ. أفعال القرار:(Les verdictifs) وتتعلق بالأفعال التي ترتبط بالأحكام ذات الصيغة القضائية، الإدانة - التبرئة - إصدار المراسيم...ألخ.

ب. أفعال التنفيذ (Les exercitifs): وتشتمل أفعالا محملة بقرارات في كيفية التصرف كالأوامر، الطلب،التوصية، لنصح..ألخ.

ج. أفعال الوعد (Les promissifs ): والتي تفرض على المتكلم التزاما معينا بكلامه، كأفعال الإقرار والوعد والرغبة...ألخ. د. الأفعال السلوكية (Les comportatifs): وتضم الأفعال التي تتخذ في موقف معين، كأفعال الاستحسان والتوبيخ والتهنئة والشكر والرثاء..ألخ.

ه. أفعال العرض:(Les expositifs): وتتضمن الأفعال التي تترجم طريقة ما لعرض الأشياء التي نتحدث عنها: كأفعال الاستشهاد والوصف والتنويه والنفي والإنكار...ألخ.

فالتداولية في نظر «أوستين» جزء من علم أعم هو دراسة التعامل اللغوي من حيث هو جزء من التعامل الاجتماعي، وبهذا فهو ينتقل باللغة من مستواها اللغوي إلى مستوى آخر هو المستوى الاجتماعي في نطاق التأثر والتأثير، فالتداولية تدرس الاتصال اللساني في إطاره الاجتماعي، والذي يملي خصوصيات تؤثر في الفعل الكلامي(2).

ص: 127


1- ينظر التداولية من أوستين إلى غوفمان/ 62 .
2- ينظر الاتصال اللساني في اللسانيات التداولية، سامية بن يامنة، مجلة دراسات أدبية العدد الأول.57 / 2008
ثانيا / جهود سورل:
اشارة

وجاء بعد «أوستين» تلميذه الأميركي «جون سورل» الذي نظم هذه المفاهيم وطورها في كتابه أفعال الكلام (Speech acts)، وأضاف إلى «أوستين» ما يسمى بأثر فعل التلفظ، فقام - سورل - في هذه الوقت بعملية تعديل على تقسيمات (أوستین) للفعل الكلامي على أساس التفريق بین أربعة أفعال تنجز في الوقت نفسه وهي:(فعل القول، الفعل القضوي، الفعل الإنجازي،الفعل التأثیري).

1. فعل القول Acte d|énonciation يتجلى في القول بعبارة تلفظية ما وفقا للمبادئ الصوتیة والتركیبیة للغة ما، ویضم كل من الفعل الصوتي والتركیبي عند(أوستین).

2. ويماثل الفعل الدلالي في التقسيم الأوستیني (Acte propositionnel) الفعل القضوي، الذي كان جزءا من (فعل القول) فضلا عن الفعل الصوتي النحوي، إلاأن (سورل) منحه جزءا مستقلا عن هذه الأفعال، وینقسم الفعل (القضوي) عنده

على قسمين أساس ینی وهما: الفعل الإحالي والفعل الحملي.

3. الفعل الإحالي ( Acte de reference ) یسهم في ربط الصلة بین المتكلمین المتكلم والسامع ویمكن توضیح ذلك من خلال الأمثلة الآتیة:

أ. أبلغكم بأني سأنسحب غدا من الرابطة.

ب. الخليل بن أحمد عالم لغوي.

ج. بغداد عاصمة العراق.

فالجملة (أ) أحالت على «الأنا » في «أبلغكم » بصیغة الفعل المضارع «أفعل » وعلى

ص: 128

«ضمير المخاطب الجماعة » المضاف إلى «كم » الذي ییحل على مجموعة من الأشخاص في العالم الخارجي. أما «الخليل» في الجملة (ب) فیحیل على اسم شخص معین معرففي مجال اللغة، كما تحیل كلمة «بغداد » في الجملة (ت) على اسم علم لمكان معین، ويجب التنبه هنا على أن «سورل» فرق بین الإحالة كفعل، والإحالة كنتیجة، ذلك أن الكلمات التي تكون جملة ما إذا عزلت عن سیاق المتحدثین بها تكون كلمات معجمیة ذات معنى عام، وتفقد دلالاتها على التخصیص أو التعریف أو التحدید.

الفعل الإنجازي:”Acte illocutionnaire”

يفترق ما اقترحه «سورل» في هذا الجزء من الأفعال عما اقترحه أستاذه «أوستین»، فالفعل الإنجازي دائما هو الفعل الذي یتحقق في الواقع بمجرد التلفظ به؛ فقد یكون أمرا مثلا أو تهدیدا أو نصحا أو تمنیا مثل (آمرك، أنصحك، أعدك)،وطرح أبعادا كثيرة

يختلف فيها كل فعل إنجازي عن الآخر(1)، ومن هذه لاختلافات:

أ. الاختلاف في الغرض الإنجازي للفعل: فالغرض الإنجازي من الأمر مثلا محاولة التأثير في السامع ليقوم بفعل ما، بينما الغرض من الوعد إلزام المتكلم نفسه فعل غرض ما.

ب. الاختلاف في اتجاه المطابقة: فبعض الأفعال تطابق العالم الخارجي مطابقة تامة كالإخباريات، وبعضها مطابقة بعضية كأفعال الوعد والرجاء.

ج. الاختلاف في الموقف النفسي للمتكلم: فأفعال الوعد والوعيد يكون المتكلم فيها

عازما على إنجاز الفعل، فيما يكون راجيا في الأمر والرجاء، ونادما في الندم.

د. الاختلاف في قوة الفعل: فقولك للطالب: لعلك تدرس فتنجح، أضعف من

ص: 129


1- ينظر آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر / 75 - 77 .

قولك: أصر على أن تدرس لكي تنجح.

ه. الاختلاف في منزلة المتكلم والسامع:فمنزلة المتكلم حول قوة الأفعال، من الأمر إلى الالتماس إلى الدعاء.

و. الاختلاف في طريقة ارتباط القول باهتمامات المتكلم والسامع، كالاختلاف بين المدح والرثاء، وبين التهنئة والتعزية.

ز. الاختلاف في العلاقة بسائر عناصر الخطاب والسياق الذي يقع فيه: فقولك: أجيب أو استدل أو أعترض... يربط الأقوال السابقة باللاحقة.

ح. الاختلاف في المحتوى القضوي: الذي تحدده القوة الإخبارية والرسائل الدالة،كالاختلاف بين الإخبار والتوقع، فالإخبار يكون عن أمر مضى، والتوقع يكون لأمر في المستقبل.

ط. الاختلاف في كون الأفعال قابلة للأداء: فمعظم الأفعال الإنجازية قابلة للأداء (أقرر، أعد، آمر، استنتج...) وثمة أفعال لا تؤدى بالقول فقط، فأنت لا تستطيع أن تقنع شخصا بشي بقولك: أنا أقنعك، أو تفزعه بقولك أنا أفزعك.

ي. الاختلاف في أسلوب أداء الفعل: كالاختلاف بين الإعلان والإسرار، فهما لايختلفان في الغرض الإنجازي ولا في المحتوى القضوي، بل في أسلوب الأداء.وأعاد تصنيف الأفعال على الأقسام الآتية(1) :

أ. الإخباريات(Les Assertives): والغرض الإنجازي فيها نقل المتكلم لواقعة ما، بحيث يكون مسؤولا عن تحقق هذه الواقعة العالم الخارجي، وأفعال هذا الباب

ص: 130


1- ينظر الفعل اللغوي بن الفلسفة والنحو، يحيى بعطيش، ضمن التداوليات علم استعمال اللغة/100

تحتمل الصدق والكذب، أي المطابقة مع العالم الخارجي.

ب. أفعال الوعد (Les promissifs): وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بالنهوض بسلسة من الأفعال المستقبلية، ومنها أفعال العرض والوعد والوعيد.

ج. التوجيهيات (Les Directives): والغرض منها توجيه المخاطب لعمل شيء ما في العالم الخارجي، وشرط المطابقة مع العالم والخارجي مهم، إضافة إلى الإخلاص والرغبة في حصول الفعل، ودخل فيه الاستفهام والأمر والرجاء والاستعطاف

والدعوة والنصح والإذن.

د.أفعال تعبيرية ( Les expressifs ): وهي الأفعال التي تعبر عن الحالة النفسية

للمتكلم، ومن أمثلتها أفعال الشكر والاعتذار والتهنئة والترحيب.

ه.أفعال إعلانية ( Les declrartifs ): وهي الأفعال التي تحدث تغييرات فورية في نمط الأحداث العرفية، التي غالبا ما تعتمد طقوس اجتماعية، كأفعال إعلان الحرب والطلاق والطرد.

ص: 131

المبحث الأول

القسم الثاني / أفعال الكلام في الموروث العربي:

اشارة

لا نعدم لنظرية أفعال الكلام تجليا في الموروث العربي، فقد قسم كثير من العلماء الكلام إلى ثلاثة أقسام (خبر وطلب وإنشاء)، يقول ابن هشام الأنصاري «ثم قلت وَهُوَ خَبَرٌ وَطَلَبٌ وَإِنْشَاءٌ وأقول هذا التقسيم تبعثُ فيه بعضهم والتحقيق خلافه وأن الكلامينقسم إلى خبر وإِنشاء فقط وأن الطلب من أقسام الإِنشاء وأَن مدلول قُمْ حَاصِلٌ عندالْتلفظ به لا يتأخر عنه وإنما يتأخر عنه الامتثالُ وهو خارج عن مدلول اللفظ .(1)»

وفرق النحويون بين الخبر والإنشاء بمعيار الصدق والكذب، يقول ابن السراج: «الاسم الذي هو خبر المبتدأ هو الذي يستفيده السامع ويصير به المبتدأ كلاماً وبالخبر يقع التصديق والتكذيب، ألا ترى أنك إذا قلت: عبد الله جالس فإنما الصدق والكذب وقع في جلوس عبد الله لا في عبد الله؛ لأن الفائدة هي في جلوس عبد الله... .(2)

ولعل من أهم مباحث الإنشاء الطلبي مبحثي الأمر والنهي والاستفهام، والتمني والترجي :

وسآخذ مثالا أسلوبي الأمر والاستفهام:

ص: 132


1- شرح شذور الذهب تحقيق عبد الغني الدقر/ 39 .
2- الأصول في النحو، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي 1/ 62 .
أولا: الأمر:

تركز تعريف النحويين للأمر على ثلاث مقومات: وهي الطلب والصيغة المخصوصة والرتبة أي كون الأمر أعلى رتبة من المأمور،

ومعنى الأمر في أصل اللغة نقيض للنهي، فهذا طلب لإيقاع الفعل، وذاك لتتركه، أما التعريف الاصطلاحي فهو: طلب إيجاد الفعل، أو قول القائل لمن دونه أفعل، ويعرفه العلوي بقوله: » وهو صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة

الغير على جهة الاستعلاء، فقولنا: « صيغة تستدعي، أو قول ينبئ » ولم نقل (افعل) و(لتفعل) كما يقول المتكلمون والأصوليون لتدخل جميع الأقوال الدالة على استدعاء الفعل نحو قولنا:(نزال) وصه فإنهما دالان على الاستدعاء من غير صيغة (افعل) .(1).

وقد يخرج الأمر إلى أغراض دلالية أخرى(2)، عندما تخالف ألفاظه مبادئ الحوار، وقواعد التعاون التي أقرها غرايس وغيره، فتتكون أجواء دلالية أخرى، نستطيع أننتلمسها من خلال عمليات التحليل التداولية.

ثانيا / الاستفهام:

الاستفهام في أصل اللغة (طلب الفهم) نقول: « استفهمه سأله أن يفهمه، وقد استفهمني الشيء فأفهمته وفهمته تفهيما»(3) ومن ثَمَّ فإن جملة الاستفهام جملة طلبية.

ص: 133


1- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/ 281 - 282 .، وينظر أساليب الطلب عند النحوين والبلاغين، د. قيس الأوسي / 83
2- يخرج الأمر إلى دلالات متعددة نستشفها من سياق الحديث، كالإباحة والتخير والتسوية و الدعاء و التهديد والتأديب والتعجب والخبر والتبكيت والتسليم، والتكوين والندب والتعجيز، والتمني والتحسیر والالتماس والإهانة.
3- لسان العرب (فهم) 12 / 459 .

وللاستفهام وظيفتان: طلب التصديق، وطلب التصور.

1. طلب التصديق: وهو الذي يسأل عن الجملة التي بعد كلمة الاستفهام: أصادقة هي أم غير صادقة؛ ولذلك يجاب عنها ب- «نعم» أو «لا» ويستعمل في هذه الجملة حرفان:الهمزة وهل.

وهذان الحرفان يتفقان في أشياء ويختلفان في أشياء؛ فهما يتفقان في دخولهما على الجملة بنوعيها: الاسمية والفعلية:أزيد موجود؟ أسافر زيد؟ وهل زيد موجود؟ هل سافر زيد؟.

ويقول النحاة: إن الهمزة هي الأصل في الاستفهام، ومن ثَمَّ فهي تفترق عن «هل » باستعمالات خاصة: فهي تدخل على الجملة المثبتة، والجملة المنفية، أما «هل » فلا تستعمل إلا مع الجملة المثبتة: حضر زيد أو حضر عمرو؟ أ فحضر عمرو؟ أثُمَّ حضر عمرو؟ ومع «هل» تقول: وهل حضر عمرو؟ فهل حضر عمرو؟ ثم هل حضر عمرو؟.

2. طلب التصور: وتستخدم فيه الهمزة وبقية كلمات الاستفهام؛ لأنك هنا لا تسأل عن «صدق» الجملة المستفهم عنها، بل تسأل عن «تصور » المستفهم عنه.

وقد يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى معان مجازية أخرى نتيجة لمخالفة المتكلم مبادئ الحوار، ومن تلك المعاني (التسوية والإنكار والتقرير والتهكم، والأمر والتعجب والاستبطاء،والاستبعاد والتحذير، والتنفير التشكيك والنفي)(1).

وسأحاول في المبحث الثاني دراسة أهم انزياحات أسلوبي الأمر والاستفهام ن وأهم الاستراتيجيات الخطابية التي دعت لذلك الانزياح.

ص: 134


1- ينظر معاني النحو، د. فاضل السامرائي 4/ 199 - 203 .

المبحث الثاني :الأفعال الكلامية في خطاب الإمام علي (عليه السلام):

في خطبة له (عليه السلام) خطب بها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير الأنصاري صاحب معاوية على عين التّمر، وهو عين ماء قرب الكوفة، وفيها يبدي عذره ويستنهض الناس على نصرته، يقول: «مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَ لاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصرِكُمْ رَبَّكُمْ أَمَا دِينٌ يْجَمَعُكُمْ وَ لا حِمَيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً وَ لاَ تُطِيعُونَ لِ أَمْراً حَتَّى تَكْشِفَ اَلْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ اَلَمْسَاءَةِ فَمَ يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ وَ لاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ دَعَوْتُكُمْ إلِيَ نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ اَلَجْمَلِ اَلْأَسَّرِ وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ اَلنِّضْوِ اَلْأَدْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ إلِيَ مِنكُمْ جُنيَدٌ مُتذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأنَّمَا يُسَاقُونَ إليَ الَموْتِ وَ هُمْ يَنظُرُونَ»(1). فسياق الخطبة في استنهاض الناس وحثهم على النصرة، ومعرفة السياق ضرورة في التحليل التداولي؛لأن السياق «situation» والمقام «Contexte» من العناصر المهمة في الدراسة التداولية؛ نظرا لدورهما في عملية الفهم والإفهام؛ لأن غير العارف بمقاصد المتكلم وأغراضه وبأحوال السامع أثناء العملية التبليغية وبكل ما يحيط بها من عناصر أخرى مكونة لعنصري السياق والمقام «لا يستطيع أن يصل إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده المتكلم أثناء حديثه؛ ونظرا لأهمية هذين المفهومين في المنهج التداولي هناك من اللغويين

ص: 135


1- نهج البلاغة / 81 - 82 .

من يسمي التداولية بالمقامية»(1).وبالتالي فإننا لا نستطيع الكشف عن استراتيجيات الخطاب دون معرفة مقامات الخطاب، وعليه فإن نظرية أفعال الكلام تطلع بالكشف

عن استراتيجيات الخطاب المستعملة، من خلال تركيزها على مقامات التلقي، والأفعال المنجزة في تلك المقامات.

وقوله «منيت بمن لا يطيع إِذَا أَمَرْتُ وَ لاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ... » ملفوظات تقريرية وصفية، يقرر فيه حالته، وكيف أنه بلي بأتباع لا يسمعون كلامه، ولا يجيبون دعوته، وقوتها الإنجازية في إظهار التحسر والخيبة على ما تحصل من أتباعه، وإظهار الملامة عليهم، ومن ثم التأثير فيهم لعلهم يرعوون على ما يرتكبون من مخالفة له، ومن ثم

يتحقق التأثير المنشود وهو تلبيتهم لأوامره ونصرتهم له. ويمكن تصنيف هذه الأفعال ضمن الأفعال السلوكية (Les comportatifs) (حسب أوستين): وتضم الأفعال التي تتخذ في موقف معين؛لأنها تضم التوبيخ في طياتها،أو ضمن الأفعال تعبيرية(Les expressifs)

(حسب سورل) لأن الأفعال السابقة تعبر عن الحالة النفسية للمتكلم. فالمشاعر النفسية التي نتلمسها في الخطبة نابعة من الكلمات المحملة ب- » الأسى والألم، و مثلها كثير في كلام الإمام(عليه السلام) وما ذلك إلا لأنه كان يهتم برعيته وبالإنسان أينما كان أكثر من اهتمامه بنفسه وأهله، ولكن ما يصنع؟ وبأي شيء ينفذ الحاكم سلطانه إذا كانت القوى المعدة للتنفيذ تسمع ولا تجيب، وكل ما لاقاه الإمام وقاساه من جنده وأصحابه - تجمعه وتحكيه كلمة واحدة، وهي قوله: «أريد أن أداوي بكم، وأنتم دائي «ولا شيء أشد قسوة من داء دواؤه داء (2)

وقوله: » مَا تَنْتَظِرُونَ؟ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ؟ » ملفوظات إنجازية:

فعل كلامي --------- ما تنظرون؟ / أما دين يجمعكم؟

ص: 136


1- آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر/ 52 .2.
2- آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر/ 52 .2. في ظلال نهج البلاغة 1/ 247 - 248 .

فعل إحالي ---------- يحيل على أتباعه، وهي إحالة قبلية مقامية، فالمخاطب غير موجود في النص.

الفعل الإنجازي ------- استفهام على سبيل الإنكار عن سبب تأخرهم للنصرة، وعن وجود الدين الذي يجمعهم.وتكمن القوة الإنجازية في كون الأفعال من أفعال الوعيد (Les promissifs):يفسره قوله اللاحق:أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً وَ لاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْراً، فمن لا يسمع كلامه ولا يطيع أوامره سيكون الخذلان نصيبه.

الفعل التأثيري ------ التوبيخ والتحقير، واستنهاض الهمة، والعزيمة للذود عن شرف الإسلام والمسلمين.ومن ثم لعل ذلك يؤدي إلى أن يرعووا وينهضوا ويستجيبوا له.

اقتضاء-------- اقتضاء خذلانهم له في كثير من الحوادث السابقة.يفسره قوله التقريري اللاحق في الخطبة «أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي

قَوْلاً وَ لاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْراً» وهو خطاب لا يوحي بزمانيته، وإنما بارتكاز ملكة الخذلان في نفوسهم، دليل استعمال دلالة الأفعال (أقوم، أنادي، لاتسمعون، لا تطيعون) التي دلت على التجدد في الفعل وتكراره.

استلزام ------- وجوب نصرة الله، وان من لا ينصر الله لا دين يجمعه وهو خارج عن الملة، وذلك أن» الأسباب التي توجب اجتماعهم لنصرة الله، والغضب له، بسؤالهم عنها هل هي موجودة لهم أم لا سؤالا على سبيل الإنكار أيضا، إذ هم يدعون وجودها لهم وهي الدين، الذي لأمروا بلزومه والاتحاد فيه كما قال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلّاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(1) »(2) ومن

ص: 137


1- البينة: 5
2- شرح نهج البلاغة، البحراني 2/ 100 .

يخالف فسيعاقبه الله بأن يلبسه ثوب المذلة والحقارة. وهو من أفعال الوعيد والتهديد.فإن الله سيولي عليهم من لا يرحمهم ولا يراعي حدود الله فيكم، ولكنه سيبتليكم مرة أخرى دليل ما رواه المعتزلي عن « زيد بن علي (عليه السلام) قال علي (عليه السلام) في هذه الخطبة: أيها الناس إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عني وضربتكم بالدرة، فأعييتموني أماإنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذبوكم بالسياط وبالحديد، فأما أنا فلا أعذبكم بهما. إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة، وآية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين أظهركم فيأخذ العمال وعمال العمال رجل يقال له يوسف بن عمرو، ويقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت فانصروه فإنه داع إلى الحق. قال وكان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد (عليه السلام) .(1)»

وفي خطبة له، تسمى الغراء وفيها نعوت الله (عز وجل) ثم الوصية بتقواه، ثم التنفير من الدنيا، قال وهو يذكر بنعم الله: «فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ اَلشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ اَلْهَرَمِ؟ وَ أهْلُ غَضَارَة الَصِّحَّةِ إلِا نَوَازِلَ الَسَّقَمِ، وَ أهْلُ مُدَّة الْبقَاءِ إلِا آوِنَةَ الْفَناَءِ مَعَ قُرْبِ الَزَّوَالِ وَ أُزُوفِ اَلاِنْتقِالِ، وَ عَلَزِ اَلْقَلَقِ وَ أَلَ اَلمضَضِ وَ غُصَصِ اَلْجرَضِ، وَ تَلَفُّتِ اَلاِسْتِغَاثَةِ بنِصُرَةِ اَلَأْفَدَةِ وَ اَلْأَقْرِبَاءِ وَ اَلْأَعِزَّةِ وَ اَلْقُرَنَاءِ، فَهَلْ دَفَعَتِ اَلْأَقَارِبُ؟ أَوْ نَفَعَتِ اَلنَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحلَّةِ اَلْأمَوَاتِ رَهِيناً وَ فِي ضِيقِ اَلَمْضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ اَلْهوَامُّ جِلْدَتَهُ وَ أَبْلَتِ اَلنَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ اَلْعَوَاصِفُ آثَارَهُ وَ مَاَ اَلحْدَثَانُ مَعَالَهُ وَ صَارَتِ اَلْأجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّیتهَا وَ اَلْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتَهِا وَ اَلْأرْوَاحُ مُرْتَهَنةً بثِقَلِ أَعْباَئِهَا مُوقنِةَ بِغَيبِ أَنْباَئهَا لا تُسْتزَادُ مِنْ صَالحِ عَمَلهِا وَ لا تُسْتعَتبُ مِنْ سَيئِّ زَلَلِهَا»(2) قوله «فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ اَلشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ اَلْهَرَمِ؟ وَ أَهْلُ غَضَارَةِ اَلصِّحَّةِ إِلاَّ نَوَازِلَ اَلسَّقَمِ » وقوله: «فَهَلْ دَفَعَتِ اَلأقَارِبُ؟ أَوْ نَفَعَتِ اَلنَّوَاحِبُ» فعلان كلاميان.

فعل كلامي ----------- استفهام / فهل ينتظر؟ / فهل دفعت؟.

ص: 138


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 2/ 466 - 467
2- نهج البلاغة / 128 - 129 .

فعل إحالي ------- إحالة بعدية (أهل الشباب / الأقارب)

فعل دلالي ------- (مجيء الشيب بعد الشباب / لا يغني الأقارب عن الموت)

فعل اقتضاء -------- (تمسك الناس بالحياة الدنيا، في مقابل سريان النظام الإلهي، فكل إلى زوال / تمسك هؤلاء بأهلهم وأحبابهم، في مقابل نفي منه (عليه السلام)بأن لا يدفع الأقارب وغيرهم الموت إّذا جاء.

فعل استلزام إنجازي ----- -----ابتداء يبدو أنها أفعال حمكية أو من جنس أفعال القرار (Les verdictifs) لارتباطها بالأحكام والإنذار والتوبيخ في الوقت نفسه، إصدار حكم بأن لا ينفع الإنسان سوى أعماله الصالحة، وعليه التزام طريق الحق وعدم الحياد عنه وتدخل في هذا الحكم الأفعال اللاحقة «وَ أَهْلُ مُدَّةِ اَلْبَقَاءِ إِلاَّ آوِنَةَ اَلْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ اَلزَّوَالِ وَ أُزُوفِ اَلاِنْتِقَالِ، وَ عَلَزِ اَلْقَلَقِ وَ أَلَ اَلَمْضَضِ وَ غُصَصِ اَلَجْرَضِ، وَ تَلَفُّتِ

اَلِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ اَلَحْفَدَةِ وَ اَلأَقْرِبَاءِ وَ اَلْأَعِزَّةِ وَ اَلْقُرَنَاءِ» وثمة قوة إنجازية مستلزمة أخرى في إنذار الناس وتهديدهم وتوبيخهم، والإنكار عليهم بأنهم ينتظرون غير هذا الأمور وتقريعا على ذلك الانتظار، وتوبيخهم بقرينة «وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ اَلْأَمْوَاتِ رَهِيناً وَ فِي ضِيقِ اَلمضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتكَتِ اَلْهوَامُّ جِلْدَتَهُ وَ أَبْلَتِ اَلنوَّاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ اَلْعَوَاصِفُ آثَارَهُ وَ مَحاَ اَلْحدَثَانُ مَعَالمهُ وَ صَارَتِ اَلْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتهِا وَ اَلْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتَهِا وَ اَلْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لاَ تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا وَ لاَ تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا» فتلك المنازل التي ذكرها، تسهل على من يضع الله نصب عينيه، ولا يتكل على أحد سواه، وتصعب على من يتكل على غيره، لولا يلتزم بأوامره ونواهيه. ويعد الإنكار من أهم الدلالات الاستلزامية التي يخرج إليها أسلوب الاستفهام، ونظير ذلك كثير في القرآن الكريم منه قوله تعالى: « أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الَمْلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلً عَظِيمً »(1). ومن ثم فإن التأثير الذي يُراد منه من تلك الأفعال

ص: 139


1- الإسراء: 40 .

هو التثبيط عن تلك الأفعال، التي تبعد الإنسان عن ملكوت الرحمة والغفران، وعن الطريق الحق الذي رسم له، وبالتالي تمسكه بذلك الطريق لما فيه خير ومنفعة.

ومن خطبة له (عليه السلام) في ذكر المكاييل والموازين: «عِبَادَ اَللِّهَ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَ عَمَلٌ مَحفْوظٌ فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لا يَزْدَادُ اَلخْيَرُ فيِهِ إِلا إدِبَاراً وَ لا الَشَّرُّ فيِهِ إلِا إِقْباَلا وَ لا الَشَّيطَانُ فِي هَلاَكِ الَناَّسِ إلِا طَمَعا فَهَذَا أوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ اضِرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ اَلنَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنيِّاً بَدَّلَ نعِمَةَ اَللِّهَ كُفْراً أَوْ بَخِيلاً اتِّخَذَ اَلْبُخْلَ بِحَقِّ اَللِّهَ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ اَلوَاعِظِ وَقْراً أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ اَلُمْتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَ اَلُمْتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جِمَيعاً عَنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا اَلدَّنِيَّةِ وَ اَلْعَاجِلَةِ اَلُمْنَغِّصَةِ وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ خُلِقْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي إِلاَّ بِذَمِّهِمُ الَشَّفَتاَنِ اِسْتِصْغَارا لقِدْرِهِمْ وَ ذَهَابا عَنْ ذكِرِهِمْ فَإنَّا ل وَ إنِّا إلِيِه رَاجِعُونَ ظَهَرَ الَفَسَادُ فَلا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَ لا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اَللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أَعَزَّ

أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لاَ يُخْدَعُ اَللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَ لاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ لَعَنَ اَللَّهُ اَلآْمِرِينَ بِالَمْعْرُوفِ اَلتَّارِكِينَ لَهُ وَ اَلنَّاهِينَ عَنِ اَلُمْنْكَرِ اَلْعَامِلِينَ بِهِ .(1)»

ابتدأ الإمام خطابه بذكر حقيقة متعارف عليها مثلت مركزا لحججه اللاحق وهي إنكم مع ما تأملون من الخلود في هذه الدنيا وبقاء الأموال.» أثوياء مؤجلون «أي: مقيمون بآجال معيّنة شبابا وكهولا وشيوخا، فليس الأمر كما تأملون من الخلود. يا أيّهاالناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّ لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى، ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفّ ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا

ص: 140


1- نهج البلاغة / 235 - 236 .

يعلم من بعد علم شيء.

ثم تحول الخطاب إلى أسلوب الأمر الذي يعد من الاستراتيجيات التوجيهية، الذي خرج إلى دلالة استلزامية يراد منها التعجيز في قوله: «اِضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ اَلنَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنيِّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اَللِّهَ كُفْراً أَوْ بَخِيلاً اتِّخَذَ اَلْبُخْلَ بِحَقِّ اَللِّهَ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ اَلَموَاعِظِ وَقْراً» وقد يراد بأسلوب الأمر التعجيز نظير قوله تعالى: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ»(1).

فعل كلامي ------(أين خياركم؟ / أين أحراركم؟/ أليس قد ظعنوا جميعا؟/ أفبهذا تريدون؟)

فعل إحالي ----- (إحالة على الأشخاص المخاطبين ومن ثم على الأمم السابقة، وأخذ النموذج من حيواتهم).

الاقتضاء -----(وجود مجموعة من المطففين، فيتم استعمال حجة النموذج؛ دفعا باتجاه إقناعهم بترك هذه الصفة المذمومة، ومن ثم معرفة المتلقي بحال الأمم السابقة،

وبالقانون الإلهي، وبالتالي أغنى عن ذكر أحوال تلك الأمم نتيجة للمعلومات المشتركة بين طرفي الخطاب ).

الانجاز -----(أين خياركم؟ استفهام استنكاري وقوته الانجازية في إظهار التّحسر والتحزّن / وهو من باب «تجاهل العارف تنبيها لهم على ما صاروا إليه من الفناء وفراق الدنيا»(2) و قوله: أليس قد ظعنوا؟ استفهام، وقوته الإنجازي إظهار الإبطال والإنكار أو التّقرير لما بعد النّفي / وقوله: أفبهذا؟ استفهام على سبيل التوبيخ

ص: 141


1- الرحمن: 33 .
2- شرح نهج البلاغة، البحراني 3/ 134 .

والتّقريع).

الاستلزام ------(فعل كلام تهديدي ووعيدي، لمن يخالف شرع الله ويخالف شرع الله وحدوده). ومن ثم حث الناس على الإنصاف في معاملاتهم ورد الحقوق؛ لما فيه خير لهم وللناس أجمعين.

وفي كتاب له لمعاوية يقول (عليه السلام): «وَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلابَيِبُ مَا أَنْتَ فيِهِ مِنْ دُنْياَ قَدْ تَبهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بلِذَّتَهِا دَعَتكَ فَأَجَبتْهَا وَقادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا وَ إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَ مَا لا يُنْجِيكَ مِنْهُ مُنْجٍ مِجَنٌّ فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ خُذْ أُهْبَةَ اَلِحْسَابِ وَ شَمِّرْ لَاِ قَدْ نَزَلَ بِكَ وَ لاَ تُمَكِّنِ اَلْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ وَ إِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ اَلشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجرَى اَلرُّوحِ وَ اَلدَّمِ وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا معَاوِيَةُ سَاسَةَ اَلرَّعِيَّةِ وَ وُلاَةَ أَمْرِ اَلْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ وَ نَعُوذُ بِاللِّهَ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ اَلشَّقَاءِ وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَدِياً فِي غِرَّةِ اَلْأُمْنيِّةِ مُختَلِفَ اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ وَ قَدْ دَعَوْتَ إلِيَ اَلْحرَبِ فَدَعِ اَلناَّسَ جَانبِاً وَ اُخْرُجْ إلِيَّ وَ أَعْفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْقِتاَلِ لتِعَلَمَ أَيُّناَ اَلمرِينُ عَلَی قَلْبِهِ وَ اَلمْغَطَّى عَلَ بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ الَسَّيفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الَقَلْبِ ألْقَى عَدُوِّي مَا اِسْتَبدَلْتُ ديِناً وَ لا اِسْتحَدَثْتُ نَبيِاّ وَ إنِّي لَعَلَي اَلْمِنْهَاجِ اَلَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فيِهِ مُكْرَهِينَ وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَنَ وَ لَقَدْ لِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَنَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً فَكَأَنِّ قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ اَلحَرْبِ إِذَا عَضَّتكَ ضَجِيجَ اَلجْمَالِ باِلْأَثْقَالِ وَ كَأَنِّي بجِمَاعَتِكَ تَدْعُونِ جَزَعاً مِنَ اَلضَّرْبِ اَلمتُتَاَبعِ وَ اَلْقَضَاءِ اَلْوَاقعِ وَ مَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إلِيَ كتِاَبِ اَللهِ وَ هِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ»(1).

فعل كلامي ----- أ) وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ/ب) فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ خُذْ أُهْبَةَ

ص: 142


1- نهج البلاغة / 467 - 469

الَحِسَابِ وَ شَمِّژْ لِماَ قَدْ نَزَلَ/ت) وَ مَتىَ كُنتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الَرَّعِيَّةِ وَ وُلاةَ أمْرِ الَأُمَّةِ بِغَيْر قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لا شَرَفٍ بَاسِقٍ/ ث)أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ اَلْأُمْنيِةِّ مُختَلِفَ اَلْعَلانِيَةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ/ ج) فَدَعِ اَلنَّاسَ جَانِباً وَ اُخْرُجْ إِلَّيَ وَ أَعْفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْقِتَالِ.

فعل إحالي ----- أ- ب- ت- ث- ج) إحالة تركيبية مقامية على مرجع خارجي، بضميرالمخاطب (أنت) والمرجع خارج النص وهو معاوية، باستعمال ضمائر مختلفة، بارزة مرة وأخرى مستترة.

فعل اقتضاء ------- أ)غرور المخاطب، وانخداعه بالدنيا الزائلة، وانقياده لملذاتها، وانخداعه برفاق نافقين.ب) قدرة المتكلم على فرض الأمر وتمكنه وثقته بنفسه، كونه صاحب أمر وتفويض بحكم الناس، وتملكه من رقابهم، ورعايته لهم ووضوح خطاب التنكيل والترهيب، فسلطة المتكلم حاضرة في أي تحليل تداولي. ففي أفعال الكلام يرتبط مقصد المتكلم بالسياق، إذ يوضح السياق الغرض الحقيقي من الكلام على نحو صحيح دون أي لبس أو غموض؛ أي إنْ كان يريد بمنطوقه الوعد أو الاستفسار أو التحذير أو التهديد أو التوبيخ أو غيرها، ويشترط أن يكون المتكلم في موقع السلطة حتى يصبح منطوقه طلبا حقيقيا. ت) اقتضاء نفي كون المخاطب(معاوية) أو أهله أو عشيرته ممن لهم نصيب في الحكم، أو ممن لهم يد في الإسلام، أو يكونون ممن شهدت الدنيا بورعهم وحلمهم ودينهم الذي يؤهلهم لحكم الناس، فلا شرف عال سبقوا به الناس، ولا قدم قصب في الإسلام.ث) اقتضاء قدرة المتكلم على تحذير المخاطب، وتمكنه من فعل التحذير، فلا ينطلق فعل التحذير ممن لا يكون مؤهلا له. ج) اقتضاء جنوح المخاطَب نحو الفتنة، وجر المسلمين لقتال بعضهم البعض، وهو من أشد ما نهى عنه الدين القيم.

فعل إنجازي ------- أ) استفهام على سبيل التقرير، وهو فعل وعيد وتهديد من المتكلم للمتلقي، بأن عذاب الله محيط بمن غرتهم الدنيا وخدعتهم أهواؤها. ب) فعل

ص: 143

تخويف وتهديد من سوء مآله ونكال مآبه في الآخرة بقوله شمّر لما قد نزل بك أي تهيّأ لأمر هائل وخطب عظيم، فيقال: فلان شدّ عقد إزاره، أو كشف عن ساقيه أو شمّر عن ساقيه، أو شمّر ذيله، أو نحوها إذا تهيّأ لأمر هائل وخطب عظيم وفظيع، ويمكن تصنيف هذا في الفعل ضمن التوجيهيات (حسب سورول) ( Les Directives ): فالغرض منه توجيه المخاطب لعمل شيء ما في العالم الخارجي، وشرط المطابقة مع العالم والخارجي مهم، إضافة إلى الإخلاص والرغبة في حصول الفعل.ت) متى كنتم... الخ استفهام على سبيل الإنكار، قوله: بغير قدم سابق استفهام آخر أيضا على سبيل التعنيف والعتاب والإنكار والنفي أي:أبغير قدم سابق وشرف باسق. فمتى كان لبني أمية الحظ في الحكم، وهنا تجب الإشارة إلى أنه (عليه السلام) لا يقصد بقدم السبق الجاهلية، بل قدم السبق في الإسلام، وهذا حظ لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنيه، لا يزاحمهم أحد عليه من الناس.ث) الفعل أحذرك) من الأفعال الأدائية الإعلانية: (Les declrartifs )

وهي الأفعال التي تحدث تغييرات فورية في نمط الأحداث العرفية، التي غالبا ما تعتمد طقوس اجتماعية، كأفعال إعلان الحرب والطلاق والطرد.وتكمن قوتها الإنجازية بفعل تلفظها، وبمجرد لفظها تتحقق تلك القوة.

فعل استلزامي -----أ) استلزام زوال كل حجب السلطة والمال والوجاهة والسلطان، وصيرورة الفرد مع أعماله، يحاسب عما اقترفه، ويثاب بما أحسن، وهذا الفعل (حسب أوستين) يمثل فعلا من أفعال القرار التي يصدرها الإمام، فزوال حكم السلطان الجائر سنة إلهية، استقاها الإمام من الحكم الإلهي دليل قوله تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص 5) ف-» نكتة إظهار «الذين استضعفوا» دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل، فإن الله رحيم لعباده، وينصرالمستضعفين المظلومين الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً»(1) لذلك يمكن تصنيف قوله: « وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ

ص: 144


1- تفسير التحرير والتنوير 20 / 70 .

إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلاَبِيبُ...ألخ » ضمن أفعال القرار (Les verdictifs) التي ترتبط بالأحكام ذات الصيغة القضائية، الإدانة - التبرئة - إصدار المراسيم...ألخ. ب)

استلزام حضور الحساب، ومجيء العقاب لمن غرر بالمسلمين، وساقهم لقتال بعضهم. ت) تهكم وسخرية، فليس للمخاطب حظ له ولا لأهله بالحكم، ومن ثم سيفشلون في إدارة دفة الحكم الإسلامي العادل الحق، وإن استطاعوا تكوين دولة قائمة على الدم والسيف وحكم الأقارب وفساد في البلاد والعباد. ث) استلزام قدرة المتكلم على تولي زمام الحرب، واستلزام غلبته بها، إن توفرت أجواء الحرب النظيفة بعيدا عن الخديعة والمكر.

ثم تحول خطاب الإمام عندما انتهى من تبكيت المقدمات التي تسند حجج معاوية، وقام بتعرية كل الحجج ونسفها، انتقل إلى نسف الوقائع التي يستند إليها، ونقد سبب خروجه وتبكيته، من خلال قوله: وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَنَ وَ لَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَنَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً « وهي كل الآتي:

فعل كلامي ------ أ) زعمت. ب) فَاطْلُبْهُ.

فعل انجازي ---- أ) ملفوظ تقريري، جاء بصيغة الفصل والقطع، ونفي الكلام قوته الإنجازية في بيان خطأ الكلام اللاحق له، وزيف مدعيه. ب) فعل كلام انجازي، وقوته الإنجازية في تعجيز المتلقي، لأن ليس من قصده طلب دم عثمان وإن كان ظاهر القصد هذا، وإنما طلب الحكم والإمارة على غير وجه حق.وكذلك تخويفه بذكر الحرب وما يتبعها من أهوال، وأنه وجماعته يضجون بها ويجزعون منها.

فعل دلالي ----- أ) دلالة الزعم هنا التكلم على خلاف الحق. ب) دلالة الفعل هنا أمر بطلب دم عثمان، مع الأخذ بنظر الاعتبار خلاف زعمه بقرينة (إن كنت طالبا).فعل اقتضاء ---- أ) مقتل عثمان، وزعم معاوية بأنه طالب بثأره، وتواتر كذبه ونفاقه عند المسلمين، لاسيما سيرته التي يعرفها المتلقي، بحيث أن الإمام عندما يتهمه

ص: 145

بأنه زاعم وكاذب بحجته، لا يجد من يرفض خطابه من المتلقي؛ نتيجة للمعلومات المسبقة الراكزة في أذهانهم عن المتكلم عليه، ومسألة أخرى وهي أن الإمام ليس من قتلة عثمان فلا مطالبة عليه. ب) اقتضاء عدم قدرة معاوية على مواجهة الإمام في الحرب بقرينة «فاطلبه إِنْ كُنْتَ طَالِباً فَكَأَنِّ قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ اَلَحْرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ اَلِجْمَالِ بِالْأَثْقَالِ وَ كَأَنِّ بِجَمَعَتِكَ تَدْعُونِ جَزَعاً مِنَ اَلضَّرْبِ اَلُمْتَتَابِعِ وَ اَلْقَضَاءِ اَلْوَاقِعِ وَ مَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إِلَي كِتَابِ اَللَّهِ وَ هِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ » وهي من أفعال الوعيد ( Les promissifs ): فالمتكلم ملتزم بالنهوض بتلك السلسلة الكلامية تؤهله

لذلك السلطة التي يمتلكها الإمام، تلك السلطة التي كونتها الخلفية الاجتماعية والدينية له، من خلال منزلته العظيمة في الإسلام وقربه من الرسول، ومواقفه التي ساهمت في تقوية شوكة الإسلام.

لقد تساوقت أنواع الخطاب ومجالاته هنا، ابتداء بالاستفتاح وذكر حقيقة الحياة، وفلسفة الوجود، ومن ثم توجيه الخطاب نحو معاوية، ولاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار سياقات الخطبة، ومحاولة الإمام درأ الفتنة، ومنع قتال المسلمين مع بعضهم، وصولا إلى توجيه الخطاب المباشر نحو معاوية بأن يترك الناس وشأنهم، ومن ثم إلقائه الحجة على معاوية وعلى الطرفين من الناس، بأن معاوية لم يك طالبا لثأر عثمان بل طامعا في السلطة، صبت تلك الخطابات في غاية تواصلية مفادها حث الناس على ترك معسكر النفاق والالتحاق بمعسكر الإيمان.

ومن خطبة له يعظ الناس فيها، يقول: «بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِي اَلظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ ذُرْوَةَ اَلْعَلْيَاءَ اَلْعَلْياَءِ وَ بنِاَ أَفْجَرْتُمْ عَنِ السّرِارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَ يَفْقَهِ اَلْوَاعِيةَ، وَ كَيفَ يُرَاعِي الَنبَّأْةَ مَنْ أَصَمَّته ُاَلصَّيْحَةُ؟ رُبِطَ جَنَانٌ لَم يُفَارِقْهُ اَلَخْفَقَانُ مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ اَلْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ اَلُمْغْتَّرِينَ حَتَّى سَتَرَنِي عَنكُمْ جِلْبَابُ اَلدِّينِ وَ بَصَّرَنيِكُمْ صِدْقُ اَلنيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَي سَنَنِ اَلَحْقِّ فِ جَوَادِّ اَلَمْضَلَّةِ حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لاَ دَليِلَ وَ تَْتَفِرُونَ وَ لاَ تُيِهُونَ اَلْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ اَلْعَجْمَءَ ذَاتَ اَلْبَيَانِ عَزَبَ [غَرَبَ] رَأْيُ اِمْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي مَا شكَكْتُ فِي اَلَحْقِّ مُذْ

ص: 146

أُرِيتُهُ لَم يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَ نَفْسِهِ بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ اَلْجُهَّالِ وَ دُوَلِ اَلضَّلاَلِ اَلْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَ سَبِيلِ اَلحْقِّ وَ اَلْبَاطِلِ مَنْ وَثِقَ بِمَءٍ لَمْ يَظْمَأ.(1)»

قوله: «بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِ اَلظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ ذُرْوَةَ اَلْعَلْيَاءَ اَلْعَلْيَاءِ وَ بِنَا اِنْفَجَرْتُمْ أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرَار» ملفوظات تقريرية، قوتها الإنجازية في تبيين وتأكيد وإثبات قضية مهمة، وهي بأن علو شأن العرب والمسلمين، وهدايتهم وخروجهم من ظلمات الجهالة إلى نور الإسلام، لم يكن إلا بسبب النبي الأكرم وآل بيته الأشراف. وهي من الأفعال الإخبارية ( Les Assertives ): والغرض الإنجازي فيها نقل المتكلم لواقعة ما، بحيث يكون مسؤولا عن تحقق هذه الواقعة العالم الخارجي، وأفعال هذا الباب تحتمل الصدق والكذب، أي المطابقة مع العالم الخارجي. ولا شيء أكثر تحققا من المعلومة التي ساقها الإمام حول فضل النبي وآله على العرب والمسلمين.وقوله: تسنمتم، أي ركبتم سنامها وسنام كل شيء أعلاه، فبتلك الهداية وشرف الإسلام علا قدركم وشرف ذكركم.

قوله: وَ كَيْفَ يُرَاعِي اَلنَّبْأَةَ (الصوت الخفي) مَنْ أَصَمَّتْهُ اَلصَّيْحَةُ؟ فعل كلام استفهامي، وقوته الإنجازية في إفادة معنى التعجب،وفعل الإحالي يعود على مرجعية مقامية خارج النص.وهو من أفعال العرض( Les expositifs ) لتضمنه عرضا لحقيقة ما ونفي ما سواها.

فقد يخرج الاستفهام في بعض الأحايين إلى دلالات استلزامية يفهم منها معنى التعجب، نظير قوله تعالى:«قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ »(2) فالاستفهام في « أألد وأنا عجوز» مستعمل في التعجب. وجملة « أنا عجوز» في موضع الحال، وهي مناط التعجب. وزادت تقرير التعجب بجملة « إنّ هذا لشيء عجيب» وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها

ص: 147


1- نهج البلاغة / 34 - 35 .
2- هود 72.

لكمال الاتّصال، وكأنّا كانت متردّدة في أنهم ملائكة فلم تطمئنّ لتحقيق بشراهم(1). وثمة قوة إنجازية أخرى في هذه الكلمة فهو في مورد الاعتذار لهم على سبيل التهكم

والذم، ووجهه أنه كيف يلتفت لقولي من لم يلتفت لقول الله ورسوله على كثرة تكراره على أسماعهم وقوة اعتقادهم بوجوب قبوله، وكيف يؤاخذون بسماعه وقد أصمهم نداء الله(2). بل أنه استلزام النفي وارد هنا في الاستفهام، فكيف يراعي النبأة (العبرة الضعيفة) من لم ينتفع بالعبرة الكبيرة الجلية الظاهرة، بل فسد عنها، فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف(3)

لما كانت التداولية تهتم بالسياق والطبقات المقامية التي ينتج فيها الخطاب، فكان لمقصد من الخطاب هو الذي يخضع المتلقي إلى السياق، فلا يستطيع حينئذ تجاوزه إلى مقاصد أخرى، فسلطة المتكلم نابعة من سياقات القول، وبالتالي درجة المقبولية أو التفاعل لدى المتلقي. من هنا رأينا أن أفعال الكلام في خطب الإمام جاءت بصورة متساوقة مع مقاصد الخطاب وجاءت مجسدة لإستراتيجيات الخطاب التي رسمها (عليه السلام)، وبصورة متراتبة مع درجات المقبولية، والنتائج المرجوة نتيجة ذلك التفاعل.

ص: 148


1- ينظر تفسير التحرير والتنوير 12 / 120 - 121 .
2- ينظر شرح نهج البلاغة، البحراني 1/ 335 .
3- ينظر شرح نهج، ابن أبي الحديد المعتزلي 1/ 160 .

الفصل الرابع :الاستلزام الحواری في خطاب الإمام علي (علیه السلام)(الاستعارة و الکنایة أنموذجا)

اشارة

ص: 149

ص: 150

المبحث الأول

أولا / ماهية الاستلزام الحواري:

وهو من الاستراتيجيات التلميحية، التي يختارها المرسل استجابة لدواع سياقية، تجعله يعدل عن اللفظ الصريح إلى استعمال اللفظ غير المباشر؛ لدواع معينة كالسلطة أو التأدب، وقد تنبه القدماء لهذا النوع من الاستراتيجيات، يقول الرازي:» العدول عن الحقيقة إلى المجاز إما لأجل اللفظ أو المعنى أو لهما...وأما الذي يكون لأجل المعنى فقد تترك الحقيقة إلى المجاز لأجل التعظيم والتحقير ولزيادة البيان ولتلطيف الكلام أما فكما يقال سلام على المجلس العالي فإنه تركت الحقيقة ها هنا لأجل الإجلال، وأما التحقير فكما يعبر عن قضاء الحاجة بالغائط الذي هو اسم للمكان المطمئن من الأرض، وأما زيادة البيان فقد تكون لتقوية حال المذكور وقد تكون لتقوية الذكر، أما الأول فكقولهم رأيت أسدا... وأما الثاني فهو المجاز الذي يذكر للتأكيد، وأما تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام كلام فلو وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه أصلا؛ لأن تحصيل الحاصل محال وإن لم تقف على شيء منه أصلا لم يحصل لها شوق إليه، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم فيحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته لذة وبسبب حرمانها من الباقي ألم

ص: 151

فتحصل هناك لذات وآلام متعاقبة واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى وشعور النفس بها أتم» .(1)

ويلجأ المتكلم إلى الاستراتيجيات التلميحية لمسوغات عديدة أهمها:

1. التأدب في الخطاب، مراعاة لما تقتضيه بعض السياقات الخطابية، مثل البعد الشرعي الذي يفرض الابتعاد عن القول الفاحش وغيره.

2. إعلاء المرسل لذاته على حساب الآخرين وإضفاء التفوق عليهم، بذكر معايبهم والانتقاص منهم، ويمكن ذلك بالتلميح على هؤلاء أو تحقيرهم أو التهكم منهم.

3. العدول عن محاولة إكراه المرسل على إنجاز فعل ما أو إكراهه عليه فيعمد إلى التلميح به.

4. الاستغناء عن عدد من الخطابات والاكتفاء بإنتاج خطاب واحد ليؤدي معنيين في آن واحد حرفي ضمني(2).

والاستلزام الحواري مفهوم لصيق بلسانيات الخطاب، التي أخذ معها البحث اللساني منحى متميزا، إذ لم يعد الأمر معهما يُعنى بوضع نظريات عامة لعملية الخطاب، وإنما انصب الاهتمام على العملية في حد ذاتها، ومن ثم رحت جملة من الأسئلة من مثل: هل الخطاب عملية تبنى على القواعد؟ ثم ما نوعية تلك القواعد؟ وما مصير عملية الخطاب أو(التخاطب) إذا لم يتم الالتزام بتلك لقواعد(3).

يعد الاستلزام الحواري (implicature conversational) من أهم مباحث التداولية، وألصقها فكرة بطبيعة البحث التداولي، وأبعدها عن مجالات البحث

ص: 152


1- المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر فياض العلواني 1/ 465
2- ينظر استراتيجيات الخطاب 371 - 374
3- ينظر الاستلزام الحواري في التداول اللساني، العياشي أدراوي/ 17 .

الدلالي(1)، فتتمحور فكرته حول العلاقة بين المتكلم والمخاطب، وتحديد دلالات الخطاب عن طريق التفاعل بينها، وطريقة اكتشاف المخاطَب لمقصود المتكلم، وكذلك مجموعة المعاني الحقيقية الحرفية في خطابه، والمعاني الأخرى غير الحرفية في خطابه. فثمة معان صريحة يلقيها الباث، لا يتكلف المخاطب مشقة في الوصول إليها، وثمة إضمارات حوارية مكنونة في بعض الخطابات، يرمي الاستلزام التخاطبي إلى الوقوف عليها في التداول الفعلي، فيفسرها ويؤلها وفقا للظروف والسياقات المحيطة بها، سواء أكانت نفسية أو اجتماعية أو ثقافية أو تاريخية، ومنها ما يعنى بالسيكولوجيا الشعبية (عادات وتقاليد الشعوب).فالمتكلم لا يبني كلامه بعزلة عن العالم الخارجي، أو عن المخاطب

بصورة خاصة، بل على ضوء الفرضيات التي بناها مسبقا عن المتلقي، وشخصيته الثقافية والاجتماعية وقدراته الفكرية على استنباط المعاني والاستدلال عليها(2).

وعلى أية حال فالاستلزام الحواري يعنى بالكشف عن إستراتيجية الانزياح من المعاني الظاهرية إلى المعاني الضمنية التي غالبا ما ترتكز على عملية التأويل الدلالي،وتغادر المعطيات الظاهرة، ومن ثم يتم الانتقال من المعنى الصريح إلى معنى (مستلزم حواريا) إلا أن هذا الانتقال يطرح كثيرا من الإشكالات تتعلق بالأساس بماهية التأويل الممكن إعطاؤه للجملة التي تتحمل المعاني.

ثانيا / خصائص الاستلزام الحواري:

وفقا ل(غرايس) فإن الاستلزام الحواري يتصف بمجموعة من السمات، وهي(3)

ص: 153


1- ينظر أفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود احمد نخلة / 32 .
2- ينظر المكون التداولي في النظرية اللسانية العربية، أطروحة دكتوراه، جامعة لخضر باتنة، ليلى كادة: .108
3- ينظر القاموس الموسوعي للتداولية 1/ 270 - 273 ، وينظر أفاق جديدة / 38 .

1. الاستلزام قابل للإلغاء، ويحدث ذلك عادة بأن المتكلم يضيف قولا يسد الطريق أمام المخاطب وهو في طريقه نحو الاستلزام، أو يحاول دونه، فيمكن للمتكلم أن يلغي قولا دون أن يتسبب ذلك في تناقض ما فإذا قالت قارئة لكاتب مثلا: لم أقرأكل كتبك، فقد يستلزم ذلك عنده أنها قرأت بعضها، فإذا أعقبت كلامها بقولها:الحق أني لم أقرأ أي كتاب منها، فقد ألغت الاستلزام، وإمكان الإلغاء هذا هو أهم اختلاف بين المعنى الصريح والمعنى الضمني، وهو الذي يمكن المتكلم من أن ينكر ما يستلزمه كلامه.

2. الاستلزام لا يقبل الانفصال عن المحتوى الدلالي(عدم الانفكاك)(1) ونقصد بذلك أن الاستلزام الحواري متصل بالمعنى الدلالي لما يقال لا بالصيغة، فلا ينقطع مع استبدال مفردات أو عبارات بأخرى ترادفها. ولعل هذه الخاصية هي التي تميز الاستلزام الحواري عن غيره من أنواع الاستدلال التداولية مثل الاقتضاء التخاطبي، كما يتضح ذلك في الحوار الذي يدور بين أخوين:

- لا أريدك أن تسلل إلى غرفتي على هذا النحو.

- أنا لا أتسلل، ولكن أمشى على أطراف أصابعي؛ خشية أن أحدث ضوضاء. نلحظ أن المراد من الخطاب لم يتغير، وهو رفض دخول الغرفة خلسة، مع تبدل المفردات

1. الاستلزام متغير، تبعا لاختلاف السياقات المقامية، فالمعنى الواحد يمكن أن يؤدى إلى استلزامات مختلفة في سياقات مختلفة، فإذا سألت طفلا يحتفل بيوم ميلاده مثلا: كم عمرك؟ فهو طلب للعلم، وإذا سألت السؤال نفسه لصبى عمره خمسة عشر عاما فقد يستلزم السؤال مؤاخذة له على نوع من السلوك لا تقبله منه. ومثل ذلك

ص: 154


1- ينظر الخطاب اللساني العربي 2/ 336 .

أن يقال لرجل سرق متاعه يوم العيد: تلك أفضل هدية، ومن الممكن أن تقال هذه العبارة نفسها لرجل تلقى رسالة من صديق قديم يوم العيد، أو طالب بشر بنجاحه.

2. الاستلزام ممكن تقديره(خاصية التأويل والحسبان): بمعنى أننا نستطيع الوصول إلىالمعاني المستلزمة بخطوات محسوبة، فلو وصفنا مثلا رئيسة وزراء بريطانيا السابقة (مارغريت تاتشرد) بالمرأة الحديدية، لوصلنا للمعنى المستلزم بسهولة، لأننا أردنا أن نضفي عليها بعض صفات الحديد كالصلابة والقوة.

3. عدم الوضعية: تترجم هذه السمة ببساطة بأن الاستلزامات الخطابية لا تمثل جزءا من المعنى الوضعي للعبارات اللغوية، ولكنها تستلزم سلمية في المعالجة بين المعنى الحرفي والضمني، وبين المظاهر الصدقية وغير الصدقية للقول(1).

ثالثا /لماذا تحاورية اللغة؟:

التحاور موضوع التداوليات، فاللغة فيما يرى البعض ممارسة تخاطبية تفاعلية تقوم بين ذوات متكلمة وأخرى مستمعة محكومة بالانتماء إلى المجموعة اللغوية نفسها، ويتم التبادل اللغوي بينها عن طريق عبارات هي حصيلة لعلاقات التفاعل الاجتماعي بين المتخاطبين. وبهذا يغدو كل خطاب شكلا من التخاطب الحي الذي يدرس بمختلف العناصر المكونة له من قبيل المظهر اللغوي والمقام وعلاقات المتخاطبين فيما بينهم(2).

ولما كان التخاطب يقضي اشتراك جانبين عاقلين في إلقاء الأقوال وإتيان الأفعال، لزم أن تنضبط هذه الأقوال بقواعد تحدد وجوه فائدتها الإخبارية أو قل فائدتها التواصلية

ص: 155


1- ينظر القاموس الموسوعي للتداولية 1/ 272 .
2- ينظر الاستلزام الحواري / 21

نسميها قواعد التبليغ، علما أن موضوع التبليغ موضوع للدلالة على التواصل الخاص بالإنسان. كما لزم أن تنضبط هذه الأفعال بقواعد تحدد وجوه استقامتها الأخلاقية أو قل التعاملية نسميها بقواعد التهذيب، مع العلم أن موضوع التهذيب للدلالة على التعامل الأخلاقي(1).

رابعا / مبادئ الحوار:

اشارة

يرى غرايس أن كل عملية تحاور بين طرفين تحتكم إلى مجموعة من القوانينوالقواعد والمبادئ العامة، التي يحتكم إليها طرفا الخطاب، وتكون هذه القوانين محترمة من قبل طرفي الخطاب، وتحدد تلك القوانين ما يجب أن يفعله المساهمون في الحدث اللغوي بأقصى طريق تعاوني عقلي كاف، وأي خرق لتلك القوانين يؤدي إلى اختلال المعنى، وحدد غرايس هذا المبدأ وأطلق عليه مبدأ التعاون (cooperative principale) الذي تتفرع عنه مجموعة من القواعد أو مقولات، وهي كالآتي(2)

1. مقولة الكم ( quantity ): أي اجعل كلامك على قدر المعلومات المطلوبة، لا زيادة فيه أو نقصان، فلو أن أحد الأمهات سألت ابنها: هل نظفت أسنانك وغسلت ثيابك؟ وأجابها بأنه نظف أسنانه وسكت، فهنا أخل بقاعدة الكم؛ لأنه أجاب عن أحد طرفي السؤال وسكت عن الآخر.

2. مقولة الكيفية( Quality ): وتعني بان يكون كلامك صادقا، وتتحرى فيه النزاهة والشفافية، فلو أن معلما خاطب تلميذه بعد أن سلمه نتيجة الامتحان، الذي أخفق فيه فقال له: إن إجابتك مذهلة، فهنا أخل المعلم بمبدأ الكيف؛ لأن كلامه لم يك صادقا.

ص: 156


1- ينظر اللسان والميزان / 237 .
2- ينظر التداولية من أوستين إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة / 84 - 85 .

33 مقولة الإضافة أو الملائمة ( relation ): أن تجعل مساهمتك في الحوار ملائمة لمقتضى الحال، وليناسب مقالك مقامك، واجعله مفيدا لعملية التواصل، فلو أن والد تلميذ سأل أستاذ التلميذ عن مستوى ابنه في مادة الحساب؟ فأجابه المعلم: بأن الطالب لديه شغف بمادة التأريخ، فهنا خرج المعلم عن قاعدة الملائمة، فجوابه لم يكن مساوقا لمقتضى السؤال.

4. مقولة الجهة الطريقة ( manner ): احترز من الالتباس والإجمال، وليكن كلامك مرتبا وموجزا، فلو أن معلما خاطب تلميذه: اذهب وادخل المفتاح في باب غرفتيوأدره ثم ادخل الغرفة وافتح أدراج مكتبي وابحث عن كتاب النحو ثم أغلق باب الغرفة بالمفتاح جيدا واجلب الكتاب، فهنا حدث خرق نتج عنه عدم الإيجاز في الكلام. وقد وجدت جذور هذا المنهج في مقولة نشتاين: « إن ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح، وأما ما لا نستطيع أن نتحدث عنه فلا بد أن نصمت عنه»(1)

إن الهدف من مبدأ التعاون وضع أسس وقوانين منضبطة للحوار، محترمة من طرفي التواصل، حتى وإن لم يشعرا بها أو يعرفاها، فهي معروفة ومركوزة في سليقة المتكلمين،يفترض المتخاطبون على بعضهم الاحترام المتبادل لهذه القواعد، بما يسمح للمتقبل أن ينشئ الدلالة المناسبة، وبعكسه فعلى المخاطب أن ينحرف عن الدلالة الحرفية، ويتجاوزها، ويبحث عن دلالة استلزامية غير مباشرة، يجدها في مظان القول، وهذا يفسر سبب الفشل في أي حوار لا يحترم تلك القواعد، فلو سأل سائل: من فاز بجائزة نوبل في اللسانيات العربية؟ وكان الجواب: وهل توجد لسانيات عربية؟ فالملاحظ أن الإجابة تعتبر إجابة فاشلة؛لأنها خالفت مبدأ الكم والورود، لكن يبدو أن المجيب أراد تعاونا من شكل آخر؛ لأنه خلق مجالا دلاليا آخر، وهذا ما يؤدي إلى خلق افتراض نقيض

ص: 157


1- ينظر فلسفة اللغة عند فتغنشتاين، جمال حمود / 247

للمؤشرات السطحية(1)، مفاده تأخر الدراسات اللسانية في الوطن العربي، ومن ثم عدم ارتقائها لمرتبة تخصص لها جائزة في التصنيف والبحث.

لكن مبادئ غرايس لم تسلم من القدح والاعتراض، لاسيما أنها خلت من قواعد التهذيب والمبادئ الجمالية والأخلاقية في الحوار؛ لذلك استدرك بعض اللغويين على

غرايس جملة من المبادئ، وهي:

1. مبدأ الملائمة(المناسبة):

1. وواضعاه (سبربر، وويلسون) ونعني به وجوب كون الكلام ملائما للمقام، وتضيفمقاربتهما خطوة أخرى إلى ما جاء به غرايس الذي نظر إلى الاستلزامات الخطابية

كونها تعبر عما تم تبليغه وليس ما قيل، بينما يريان أن التحديد اللغوي الفرعي يشمل ما قيل وما تم تبليغه، وبعبارة أخرى فإن التأويل اللساني المعتمد على المنظومة اللسانية، الذي يكشف عن الصيغة المنطقية للقول لا يكفي لتحديد ما يقال، وإنما يجب إثراؤه بوساطة عمليات تداولية للتوصل إلى تحديد تام لما قيل.

لقد اعُتمد في هذا المبدأ على الملكات المعرفية لدى المخاطبين، وعلى دور السياقات في تحديد المعنى، فلو سأل زيد صديقه: هل زرت لندن؟ وأجابه بانه لم يزر أي عاصمة اوربية، فهذا دليل واضح بانه لم يزر لندن؛ لان المعلومات السياقية للمخاطبين تفضي إلى أن لندن عاصمة أوربية(2)

2. مبدأ التأدب:

تعود صياغة هذا المبدأ إلى (لاكوف) التي فرعت منه ثلاث قواعد، يجب على المتكلم

ص: 158


1- ينظر الخطاب اللساني العربي 2/ 289 - 290
2- ينظر التداولية اليوم علم جديد في التواصل آن روبول، جاك موشلار / 99 - 100 .

مراعاتها أو مراعاة أحدها؛ للوصول إلى غاية التواصل الكاملة، وهي:

أ. قاعدة التعفف: أي لا تفرض نفسك على المتلقي، ولتحفظ له مكانته، ولا تتطفل على شؤون الآخرين.

ب. قاعدة التخير: لتجعل المتلقي يتخذ خياراته بنفسه، ولا تفرضها عليه، ولتكن خياراته مفتوحة.

ج. قاعدة التودد: لتتودد للمرسل إليه، ولتكن صديقا له(1).

تهدف قاعدة التعفف إلى أن يتجنب المتكلم الإلحاح على المخاطب، أو إكراهه على فعل أمر ما أو القبول بفكرته، وأن يتحرى الألفاظ التي تبين احترامه للمسافة بينه وبين

المخاطب، وأن يتجنب الكلمات ذات الدلالات الوجدانية كأفعال القلوب(2)، وأنيتجنب استعمال أساليب الطلب بصورة مباشرة، ومقاربة هذا التوجه موجودة في التراث الديني، قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ »(3) وقوله جل اسمه: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ »(4).وأن يتحرى الملمحات الفعلية الحك مكأعتقد وأتوقع(5)، بما يجعل مجالات التوقع مفتوحة، ومن ثم ترك الخيار للمخاطب في الحکم و عدم سلبه الحریة في الرأي في اتخاذ القرارات.

أما قاعدة التخير فتقضي بأن يتجنب الباث أساليب التقرير المباشرة، ويأخذ ،

ص: 159


1- ينظر إستراتيجيات الخطاب، عبد الهادي الشهري / 100 .
2- ينظر اللسان والميزان (التكوثر العقلي) طه عبد الرحمن / 241 .
3- آل عمران: 159 .
4- النحل: 125
5- ينظر المكون التداولي في النظرية اللسانية / 133 .

بأساليب التشكك كالاستفهام مثلا، كما لو كان متشككا في كلامه، بحيث يترك للمتلقي حرية الاختيار، كأن يقول: ربما ترغب في قراءة هذا الكتاب، بدلا من: ينبغي عليك قراءة هذا الكتاب، وثمة مسألة أخرى ففي حال رفض المتلقي إرادة المتكلم فحينئذ لا يضيره ذلك؛ لأنه لم يوضح بأنه قد طلبها فعلا(1).

أما قاعدة التودد، فإنها توجب على المتكلم أن يعامل المتلقي معاملة الند للند، ولا تفيد هذه المعاملة إلا إذا كان المتكلم أعلى مرتبة من المستمع أو في رتبته، ومتى ما استعمل المتكلم الأدوات اللغوية التي تبين مساواته للمستمع،كالألقاب والكنايات انس به المستمع واطمئن إليه.

يقوم مبدأ التأدب على العلاقة بين المتكلم والمستمع، فثمة معايير خارج حدود الشكل اللغوي، تتقاسم أطراف الخطاب مراعاتها للوصول إلى أعلى درجات التواصل

والمقبولية من طرفي الخطاب.

3. مبدأ المواجهة:

ونعني صيانة المتكلم وجه غيره، وعدم إيراد ألفاظ التهديد التي تؤثر على القيمة الاجتماعية للمستمع، ونعني بالوجه الذات الاجتماعية للأفراد التي دأبوا على الحفاظ عليها، والألفاظ التي تؤذي الوجه ألفاظ الطلب المباشر، التي تحمله على أداء شيء ما، كألفاظ الأمر والنهي والتحذير والتهديد والوعيد، أو المدح والتهنئة اللذين يحملان المتكلم على حفظهما، وثمة ألفاظ التهديد السلبي كالذم والسخرية والتهكم. يمثل الوجه رغبات الإنسان الحقيقية، ولقد حدد (براون و ليفنسن) واضعا مبدأ المواجهة نوعين من الوجه:

ص: 160


1- ينظر اللسان والميزان (التكوثر العقلي) / 241 .

أ. الوجه الدافع: وهو رغبة الإنسان في ألا يعترض الآخرون على أفعاله.

ب. الوجه الجالب:وهو رغبة كل واحد منا في أن تكون رغباته محترمة عند الآخرين(1).

كان لابد من تحديد خطط تخاطبية للتخفيف من آثار التهديد، أي خطط تتحقق بوساطة صيغ تعبيرية معلومة، وهي كما يلي:

أ. أن يمتنع المتكلم عن إيراد القول المهدد.

ب. أن يصرح بالقول المهدد من غير تعديل يخفف من جانبه التهديدي.

ج. أن يصرح بالقول المهدد مع تعديل يرفع الضرر عن الوجه الدافع.

د. أن يصرح بالقول المهدد مع تعديل يرفع الضرر عن الوجه الجالب.

ه. أن يدع بالقول عن طريق التعريض تاركا المستمع يختار الطريقة المناسبة(2).

و. وإذا طبقنا هذه الخطط على طلب شخص من صديقه أن يناوله كتابا ما:

ز. قد يمتنع عن الطلب؛ لأن ذلك يضر بوجه صديقه ويثقل عليه.

ح. قد يطلب دونما الاستعانة بصيغ التلطف فيقول: أطلب منك أن تناولني هذاالكتاب.

ط. قد يطلب منه بصيغ تدفع الضرر عن الوجه الدافع فيقول: هل لك أن تناولني هذاالكتاب.

ي. قد يطلب منه بصيغ تدفع الضرر عن الوجه الجالب فيقول: ألا تبادر إلى إعطائي هذا

ص: 161


1- ينظر استراتيجيات الخطاب / 103
2- ينظر التكوثر العقلي / 244 .

الكتاب لحاجتي الماسة إليه في بحثنا المشترك.

ك. قد يطلب بصورة التعريض، فيقول كم أحتاج إلى هذا الكتاب الذي بقربك في بحثي.

4. مبدأ التأدب الأقصى:

وواضعه (ليتش) في كتابه (مبادئ التداوليات)الذي يعد مكملا لمبدأ التعاون، وصاغ مبدأه في صورتين:

أ. سلبية، قلل من الكلام غير المؤدب.

ب. إيجابية، أكثر من الكلام المؤدب(1).

يتفق ليتش مع الثقافة العربية، بوصف الذات كلها المحور الذي يجب أن تتوجه نحوه بوصلة الخطاب، وعدم حصرها بالوجه، يقول الجاحظ (ت 255 ه) في هذا المقام،

واضعا المرسل محورا للكلام: « ومدار الأمر على إفهام كل قوم بقدر طاقتهم والحمل عليهم على أقدار منازلهم، وأن تواتيه آلاته وتتصرف معه أداته، ويكون في التهمة لنفسه

معتدلا وفي حسن الظن بها مقتصدا، فإنه إن تجاوز مقدار الحق في التهمة لنفسه ظلمها فأودعها ذلة المظلومين، وإن تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها أمنها فأودعها تهاون

الآمنين، ولكل ذلك مقدار من الشغل ولكل شغل مقدار من الوهن، ولكل وهن مقدارمن الجهل »(2). ينطلق (ليتش) من مبدأ التعاون واصف إياه ودوره في عملية التواصل؛ لأنه الرابط بين قصد المتكلم والمعنى الدلالي لألفاظه، وناقدا له لقصوره عند المستوى التبليغي، ومغفلا أدوار التداول النفسية والاجتماعية؛ لذلك اقترح مبدأ التأدب الأقصى

ص: 162


1- ينظر نفسه / 246 .
2- البيان والتبيين، الجاحظ (ت 255 ه) تحقيق عبد السلام محمد هارون 1/ 93 .

الذي يحاول التوسع في عملية التبليغ بالتأدب ليصل إلى مستوى تكوين الصداقات، والروابط التي يصعب فك عرى اتصالها(1).

وثمة قواعد متفرعة من مبدأ التأدب الأقصى:

أ. قاعدة اللباقة: ولها صورتان: قلل من خسارة الغير، وأكثر من ربح الغير.

ب. قاعدة السخاء: ولها صورتان: قلل من ربح الذات، وأكثر من خسارة الذات.

ج. قاعدة الاستحسان: ولها صورتان: قلل من ذم الغير، وأكثر من مدح الغير.

. دقاعدة التواضع: ولها صورتان: قلل من مدح الذات، وأكثر من ذم الذات.

ه. قاعدة الاتفاق: ولها صورتان: قلل من اختلاف الذات والغير، وأكثر من اتفاق الذات والغير.

و. قاعدة التعاطف: ولها صورتان: قلل من تنافر الذات والغير، وأكثر من تعاطف الذات والغير.

نلحظ أن قواعد التأدب الأقصى تروم إلى رفع كل صور التنافر الاجتماعي بين الأفراد، للوصول بعملية التبليغ إلى القيمة الجمالية الصافية، من كل مظهر من مظاهر التعارض الاجتماعي.

يسوق عبد الهادي الشهري مثالا بصياغات مختلفة.

أ. أعرني سيارتك.

ب. أريد أن تعيرني سيارتك.

ص: 163


1- ينظر استراتيجيات الخطاب / 109 - 110 .

ج. هل يمكن أن تعيرني سيارتك؟

د. لعلك تعيرني سيارتك.

إذ يعبر المرسل عن قضية واحدة، وهي استعارة السيارة في المستقبل، لكن عباراته تتدرج في لباقتها، ابتداء بالعبارة الأولى الصريحة، التي قد تثير نفور المخاطب، وانتهاء

بالعبارة الأكثر لباقة(1).

1. مبدأ التصديق:

بعد تمحيص الدكتور طه عبد الرحمن لمبادئ الحوار السابقة، استدرك مبدأ آخر ذهب إلى أن له جذورا راسخة في التراث الإسلامي مثل (مطابقة القول للفعل أو تصديق

العمل للكلام)، وصاغ مبدأه على النحو الآتي:

-لا تقل لغيرك قولا لا يصدقه فعلك.

ينبني هذا المبدأ على عنصرين: أحدهما «نقل القول» الذي يتعلق بما أسماه بالجانب التبليغي من المخاطبة، والآخر» تطبيق القول» الذي يتعلق بما سماه بالجانب التهذيبي

للغة(2).

استقى عبد الرحمن قواعد تواصل متفرعة على بمبدأ التصديق من تراثنا الإسلامي ومما أورده الماوردي(ت 450 ه)(3):

أ. ينبغي أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع أو لدفع ضرر.

ص: 164


1- ينظر استراتيجيات الخطاب / 113 .
2- ينظر أدب الدنيا والدين أبو الحسن الماوردي، تحقيق محمد كريم راجح/ 283 .
3- ينظر التكوثر العقلي / 249 .

ب. ينبغي أن يأتي به المتكلم في موضعه ويتوخى إصابة فرصته.

ج. ينبغي أن يقتصر الكلام على حاجته.. ديجب أن يتخير اللفظ الذي به يتكلم.

وثمة قواعد مرتبطة بمبدأ التصديق استقاها عبد الرحمن من التراث الإسلامي على النحو الآتي:

-_قاعدة القصد: لتتفقد قصدك في كل قول تلقي به إلى الغير.

- قاعدة الصدق: لتكن صادقا فيما تنقله إلى غيرك.

- قاعدة الإخلاص: لتكن في توددك للغير متجردا من النفعية(1).

يفرض المبدأ على المتكلمين ألا يوردوا في كلامهم إلا ما يعدوه صدقا، ولا يصدروا الأوامر والنواهي إلا فيما يرغبون في تحقيقه وانجازه، أو ما يرغبون في الكف عنه، وألا

يستفهموا إلا عما يسعون إلى معرفة الإجابة عنه.

مبدأ الإخبارية: وهو من القوانين الخاصة التي تتعلق بمضمون الملفوظ، فهو ضد مقولة: نتكلم لكي لا نقول شيئا، والإخبار اللغوي من مكونات التواصل اللغوي،

الذي يمثل رغبة المتكلم في تمثيل الفكر وتجسيده؛ ليكون معروفا عند الآخر(2).

يتمحور مبدأ الإخبارية على فكرة أن المعلومات المخبرة يجب أن تكون مجهولة لدى السامع، فتحصل الفائدة فيما إذا سمعها لأول مرة، أما إذا كانت معلومة لديه فلا فائدة

من الإخبار، ويكون حشوا حينئذ.

ص: 165


1- ينظر التكوثر العقلي / 250 .
2- ينظر البعد التداولي والحجاجي في الخطاب القرآني / 73

إن طرفي التحاور يعتمدان اعتمادا كليا على مبادئ الحوار التي قدمت الحديث عنها، وكل طرف من أطراف الحوار يعتمد على معرفة الطرف الآخر للقواعد واحترامها،وأي خرق لهذه القواعد يتبعه اختلاف في دلالة النص، على مستوى اللفظة والتركيب، ويحدث الخرق بعد أن يستحيل فهم النص وتفسيره في ضوء دلالته الحرفية، فيتم العدول

إلى الدلالات الاستلزامية، وفق قواعد ومبادئ ثابتة سنحاول التعريف ببعضها فيما يليمن البحث.

خامسا / الدلالة الحرفية والدلالة الاستلزامية:

جرت البلاغة - منذ أرسطو على الأقل - على تمييز الاستعمال الحرفي للغة من الاستعمال غير الحرفي، فإذا قلنا: القط فوق الحصير، فإننا نستعمل اللغة حرفيا، وإذا قلنا لأحد الأطفال: غرفتك حظيرة أبقار، فإن استعمال اللغة هنا غير حرفي؛ لأننا نريد أن نبلغه أن غرفته متسخة وغير مرتبة، تشبه حظيرة الأبقار(1)، فأي تواصل يكون تصريحيا بشكل جزئي، وضمنيا بشكل جزئي أيضا، وكل دلالة تنشأ في قسم منها معطيات ضمنية، وغالبا ما يبدو في الواقع نصيب الضمني أكثر من نصيب الحرفي؛ لأنه موجود بالغالب حيثما نظرت، سواء تعلق الأمر بالمعنى الحرفي، أو بالقيمة اللاقولية أو بالأعمال غير المباشرة، أو بالإخباريات، أو برؤية للعالم يختص بها لسان معين(2).

لقد اهتم اللسانيون بالقوة الإنجازية، وعدوها أساسا في فهم النصوص، بوصفها المعنى المقصود الذي يريد المتكلم إبلاغه بكلامه حرفيا، أو ما نسميه بالسياق اللغوي، الذي يتكون من:

أولا: الوحدات الصوتية والصرفية والكلمات التي يتحقق بها التركيب والسبك.

ص: 166


1- ينظر التداولية اليوم علم جديد في التواصل / 181 .
2- ينظر التداولية من أوستين إلى غوفمان / 144

ثانيا: طريقة ترتيب هذه العناصر داخل التركيب.

ثالثا: طريقة الأداء اللغوي المصاحبة للجمل أو ما يطلق عليه التطريز الصوتي، وظواهر هذا الأداء المصاحب المتمثلة في النبر والتنغيم والفاصلة الصوتية.

ويمكن إضافة سياق الحال إلى السياق الحرفي كونه من مستلزماته فهو: السياق الذي جرى في إطاره التواصل بين طرفي الخطاب، ويقع تحته زمن الخطاب ومكانه والخلفيات المعرفية لطرفي الحوار، وكذا:

1. شخصية المتكلم والسامع، وتكوينها الثقافي، وشخصيات من يشهد الكلام من غيرهم، وجنس المتكلم والسامع، وعددهم، وعلاقتهم ببعض.

2. العوامل والظواهر الاجتماعية ذات العلاقة باللغة، والسلوك اللغوي لمن يشارك في العمل الكلامي، كحالة الجو والوضع السياسي...الخ.

3. وكذا أثر النص الكلامي في طرفي الخطاب، كالإقناع أو الألم أو الضحك(1).

فالمعنى الحرفي ينتج عن طريق ضم هذه العناصر إلى بعضها، وحينما يتعذر فهم النص بعد ذلك، ويكون الفهم مستحيلا، نلجأ إلى المعاني المستلزمة، وثمة دلالات نطلق عليها الدلالات الأصول ك(الخبر والاستفهام والأمروالنهي والتمني والدعاء والتحذير والتحضيض والالتماس) وكذلك المعنى الحقيقي مقابل المعنى المجازي، وأخرى فرعية تمثل الدلالات المستلزمة أو الفروع أو الدلالات الضمنية، التي تخرج إليها تلك الدلالات الأصلية، وتتدرج عملية الانتقال من النسق الحرفي إلى النسق الضمني في مراحل عديدة:

1. معالجة التعبير بوصفه تعبيرا حرفيا.

ص: 167


1- ينظر نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث / 85 - 86

2. التوصل إلى عدم حرفية دلالة الألفاظ والتراكيب.

3. اعتماد إستراتيجية تفكيكية بديلة للوصول إلى الدلالة المستلزمة.

فمن الدلالات المستلزمة المشهورة قولهم: كثير الرماد كناية عن الكرم.

أ. قال المتكلم: إن زيدا كثير الرماد -----------(إثبات / فعل كلامي)

ب. السياق سياق مدح بكثرة العطاء------------(السياق / قرائن الحال)

ج. المخاطب يدرك أن كثرة الرماد ليست مما يمتدح به---------(الخلفية المعرفية)

د. ما يعرضه المتكلم غير ملائم --------------(مبدأ الملائمة). هما دام المتكلم على عقد التعاون فلا بد أنه قاصد إلى معنى آخر ---(مبدأ التعاون).

و. ما دام السياق مدحا لكثرة العطاء فلا بد من علاقة بين كثرة الرماد وكثرة العطاء (الملائمة المعقولية الإفادة).

ومن هنا تبدأ خطوات الاستدلال:

أ.كثرة الرماد ناتجة عن كثرة الجمر.

ب. كثرة الجمر ناتجة عن كثرة إحراق الحطب.

ج. كثرة إحراق الحطب ناتجة عن كثرة الطبخ.

د. كثرة الطبخ دليل على كثرة الأكلة.

ه. كثرة الأكلة دليل على كثرة الضيوف.

ص: 168

و. كثرة الضيوف دليل على الكرم.

ز. الكرم مما يمتدح به (الخلفية المعرفية).

إذن كثرة الرماد تعني وفرة الكرم(1).

نلحظ أن الاستلزام الحواري قائم على فكرة استكشاف المعنى الضمني الذي يلمح من علمية التخاطب، ولكن خروج المتكلم عن المعنى الحرفي إلى المعنى الضمني أو الباطني لا يكون خروجا جماليا كما دأبت عليه معظم البلاغات التي سبقت، وإنما هو خروج ضمن إستراتيجية محسوبة من قبل المتكلم؛ لأن إخفاء المعنى دون إظهاره يولد قيمة ومعنى يختلف عن إظهاره وبيانه، واختيارات المتكلم تمثل اختلافات معرفية نابعة من اختلاف القدرات التداولية التي يمتلكها عمن سواه.

ص: 169


1- ينظر المكون التداولي في النظرية اللسانية / 396 - 397

المبحث الثاني :الاستلزام الحواري في خطاب الإمام علي(عليه السلام):

تنتج المعاني المستلزمة غالبا من خروج الأساليب الطلبية والخبرية عن ظاهر قصدها إلى معان مستلزمة أخرى تستنتج من سياقات التخاطب، وكذلك من مباحث الحقيقة والمجاز البلاغيين، ويكون ذلك الخروج ضمن استراتيجيات خاصة يتبعها المتكلم بغية حصول الفائدة من خطابه، ولضيق المقام اخترت خروج بعض من الألفاظ عن معانيها الحرفية إلى معاني مستلزمة تحت مباحث الكناية والاستعارة في خطاب الإمام (عليهالسلام) وسآخذ نماذج على ذلك.

من الاستلزام الحواري في خطاب الإمام قوله في خطبة له: «بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِ اَلظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ اَلْعَلْيَاءَ...» (1) فتسنمتم من ركوب السنام، والعلياء ليس لها سنام، وإنما السنام للناقة، فمن هنا خرق الخطاب مبدأ المناسبة، ورحنا نبحث عن جو دلالي آخر، فسياق الخطبة في مدح ال بيت النبوة، وفضلهم على الناس أجمعين، إذ أخرجوهم من الظلمات إلى النور وساروا بهم إلى علياء الدنيا، فتزعموا ركب الحضارة، وسلطوا على رقاب الناس، ولكن مع ذلك كله ومع كل الفضل لأل البيت على الناس إلا أنهم واجهوا

ص: 170


1- نهج البلاغة / 34 .

الإحسان بالإساءة والغدر كما يقول (عليه السلام) في تكملة الخطبة «مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ اَلْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بحِلْيَةِ اَلُمْغْتَّرِينَ حَتَّى سَتَرَنيِ عَنْكُمْ جِلْبَابُ اَلدِّينِ وَ بَصَّرَنيِكُمْ صِدْقُ الَنيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَ سَنَنِ الَحْقَّ فِي جَوَادِّ الَمضَلَّةِ حَيثُ تَلْتَقُونَ وَ لا دَليِلَ وَ تْحَتفَرُونَ وَ لاَ تُمِيهُونَ» فسياق الخطبة يدلنا على أن التسنم يعني الوصول إلى قمة العلياء في الدنيا؛لان السنام هو قمة الناقة، وهي استعارة عن تلك المنزلة التي وصل إليها العرب بفضل النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار. ولأن الدنيا ليس لها سنام، بل للناقة، ويمثل قمتها وأعلى مكن فيها، فسنام الدنيا إذن أعلى مكان فيها وقمتها.

يشتغل البحث التداولي على تفاعل الخطاب مع المتلقي، ومقصدية الباث، ولماخطاب الإمام موجه لفئة معينة ولمتلق معين في ظروف معينة، فتفاعل الخطاب معالمتلقي، ودوره في إحداث نمط فكري معين، ولاسيما في متلقين الإمام يسهل للمحلل التداولي تلمس مواضع الإبداع والإجادة في خطابه.

ومن استعاراته التي تحوي معنى مستلزما قوله في خطبة له: «قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ اَلْإِيمَانِ وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَ حُدُودِ اَلَحْلاَلِ وَ اَلَحْرَامِ وَ أَلْبَسْتُكُمُ اَلْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِ وَ فَرَشْتُكُمُ اَلَمْعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ اَلْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِ فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا اَلرَّأْيَ فِيمَ لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ اَلْبَصَرُ وَ لاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ اَلْفِكَرُ»(1) فاستعاراته في (ألبستكم العافية) و(فرشتكم المعروف) فشبه العافية بالرداء الذي ألبسهم إياه، وشبه المعروف بالفراش الذي فرشه لهم، فقد عمد الخطاب إلى إستراتيجية مخالفة قواعد الكيف والملائمة، ورحنا نتلمس معانيا مستلزمة من قوله. فالخطاب خطاب تذكير ونصح ووصف لعدله وكيف أنه جعل لهم عافية في الدنيا والدين.» قال الليث العافية دِفاعُ الله تعالى عن العبد يقال عافاه اللهُ عافيةً وهو اسم يوضع موضِع المصدر الحقيقي وهو المُعافاةُ»(2) فالمعنى

ص: 171


1- نهج البلاغة / 143 .
2- لسان العرب(عفا) 15 / 72 .

المستلزم من خلال تحكيم سياق التذكير هو أن عدله (عليه السلام) وطريقة حكمه في إدارة الدولة جعلت أمورهم مراعاة ومسيرة مرضي عنها من قبل الله(سبحانه وتعالى) وجعل تلك العناية ملازمة لهم، فهي كاللباس الذي لا يخلعونه، مادام هو حاكمهم، ومادام وصيا عليهم، وبذلك فلا حكم أعدل من حكمه، ولا يوجد شخص أحق منه فيتولي رقابهم.ولا ننسى ما ركز في ذهن المتلقي من حوادث العدل والحكمة التي عرفت عنه (عليه السلام)، التي مثلت إيقونة للعدل والشجاعة ومثالا يحتذى به، فمثلت تلك المعلومات المخزونة في ذهن المتلقي دفعا لعملية الإبلاغ والتواصل.وبما أن العافية ليست

من الملابس التي تلبس، وبما أن الملابس والرداء مما يقي الناس ويكون ملازما لهم،فلبس العافية معناه أن تكون ملازمة لهم.

وكذلك في قوله في خطبة له: «اِتّخَذُوا اَلشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاَكاً وَ اِتّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ اَلزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ اَلشَّيطَانُ فِي سُلْطَانهِ وَ نَطَقَ باِلْباَطلِ

عَلَ لسِانهِ (1) فباض وفرخ في صدورهم استعارة للوسوسة والإغواء، ومراده طول مكثه وإقامته عليهم لأن الطائر لا يبيض ويفرخ إلا في الأعشاش التي هي وطنه ومسكنه ودب ودرج في حجورهم أيضا استعارة، أي ربوا الباطل كما يربي الوالدان الولد في حجورهما.

ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم وامتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم وينطق بألسنتهم أي صارالاثنان كالواحد(2) «و وجه المشابهة أن الطائر لما كان يلازم عشه فيبيض ويفرخ فيه أشبهه الشيطان في إقامته في صدورهم وملازمته لهم »(3). فخالف الخطاب بذلك مبدأ المناسبة، والملائمة والجهة ؛ لأن الشيطان لا يبيض ولا يفرخ، بذلك يبدو الكلام الحرفي معميا

1

ص: 172


1- نهج البلاغة / 37 .
2- ينظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 1/ 173 .
3- شرح نهج البلاغة، البحراني 1 / 346 .

وملبسا. وهذا التفسير نجده عند (تيريزا زينسكا) التي فسرت الاستعارة على أنها خرق مقصود لنوع من المعايير الكلامية، فينتقل التركيب من معناه الحرفي إلى معنى مستلزم على طريق الاستعارة بوصفها إحدى أدوات ذلك الانتقال(1). وبما أن السياق سياق ذم وتقريع وسخرية من هؤلاء الذين تحكم الشيطان بهم، ووسوس لهم طويلا، بحيث امتزجت أفعاله بهم، فالمعنى المستلزم طول مدة ارتكابهم للفواحش والسيئات، التي تعد من وسوسات الشيطان ومن أفاعيله.

لقد اشتغلت الاستعارة في خطاب الإمام(عليه السلام) ضمن التخييل، الذي هو طبيعة فطرية للإنسان، فأخرجت الخطاب من عالم المألوف إلى عالم اللامألوف، وهذا التخييل ضروري في لخطاب؛ لأن الخطاب هنا مبني على هدف الإقناع، الذي يمكنأن تسهم فيه الأقاويل المخيلة شريطة ألا تكون مكثفة غريبة أو مركبة؛ لأن تلك تخرج الخطاب من النثر إلى الشعر وهو ما يرفضه أرسطو(2).

وقوله في خطبة له: «جَعَلَهُ اَللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ اَلْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ اَلْفُقَهَاءِ وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ اَلصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلاً مَنيِعاً ذِرْوَتُهُ وَ عِزّاً لَمِنْ تَوَلاَّه ُوَ سِلْماً لَمِنَ دَخَلَهُ وَ هُدًى لَمِنِ اِئْتَمَّ بِهِ وَ عُذْراً لَمِنِ اِنْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لَمِنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لَمِنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لَمِنْ حَاجَّ بِهِ وَ حَامِلاً لَمِنْ حَمَلَهُ وَ مَطيِّةً لَمِنْ أَعْمَلَهُ وَ آيَةً لَمِنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لَمِنِ اِسْتَلْأَمَ وَ عِلْماً لَمِنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لَمِنْ رَوَى وَ حُكْماً لَمِنْ قَضَي»(3) قوله (عليه السلام) ومطية لمن أعمله استعارة يقول كما أن المطية تنجي صاحبها إذا أعملها وبعثها على النجاء فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه ومعنى إعماله إتباع قوانينه والوقوف عند حدوده. فالخطاب خطاب تذكير وتنبيه للمؤمنين،

ص: 173


1- ينظر المكون التداولي / 381 .
2- ينظر اللغة والخطاب، عمر أوكان / 204 .
3- شرح نهج البلاغة، البحراني 3 / 415 .

ووصف لنعمة الله على الناس، ولكن كلا من المتكلم والمتلقي مؤمنون بمبادئ الحوار وخصوصا مبدأ الكيفية( Quality )فيتحرى المتكلم الصدق في كلامه، ويتحرى فيه النزاهة والشفافية وكذا الملائمة، وعموما فليس من الصدق أو الملائمة أن يكون القرآن مطية يمتطى، فخالف بذلك مبادئ الحوار، ولكنه ذهب إلى معنى مستلزم، يراد به وصف القرآن بصفة الإنقاذ، وحمل الناس نحو ضفة الأمان.وبما أن القرآن مما لا يمتطى وبما أن من سمات المطية أن تعبر براكبها إلى بر الأمان، فالقرآن لا يشك جعله الله حاملا

للإنسان إلى بر الأمان.

ثم إن مقام الخطبة هنا مقام نصح وإرشاد وتذكير، فعملت الاستعارة ضمن مقامات التلقي التي تحتفي فيها النظرية التداولية، فالخطيب يلقي كلامه في حفل ما وعلى أسماعجماعة معينة ما، وفي مناسبة ما معلومة وهذا يتطلب من الخطيب المتصدر خصالا نفسية وشخصية تشد أزره، وتقوي حجته وعزيمته، فهو ممتحن لا سلاح له حتى یصل إلى مقصده سوى الاقتدار وقوة العارضة والثقة بالنفس(1).لقد خرق الإمام مبادئ الحوار آنفة الذكر، ولكن ثمة شروط معينة التزم بها الإمام (عليه السلام) مكنتنا من تلمس وتحقيق فحوى الالتزام:

1. يجب ألا يُترك مجال للإعتقاد بأن الإمام لم يحترم مبادئ التعاون.

2. افترض عليه السلام أن المتلقي يدرك بأن المعنى غير الحرفي ضروري؛ كي لا يقع تناقض بين المعنى الحرفي وبين ما نص عليه في الشرط الأول.

3. يظن المتكلم أن المخاطب قادر على الاستنتاج والإدراك الحسي للفكرة التي تتعلق بضرورة الانطلاق من الافتراض الوارد في الشرط الثاني(2)

ص: 174


1- ينظر التفكير البلاغي عند العرب / 212 .
2- ينظر الاستلزام الحواري/ 102 .

فتفسير الاستعارة هنا في ضوء النظرية التداولية، يكمن أساسا في استثمارها لمبادئ التعاون عند غرايس وغيره، فاستثمار مبدأ الكم في الاستعارة يجعل التفسير غير الحرفي للألفاظ في الاستعارة غير ذي نفع أو جدوى، واستثمار مبدأ الكم يكون عن طريق النظر إلى اقتصادية الاستعارة وإيجازها. واستثمار مبدأ الكيف يكون بالنظر إلى المعاني غير الحرفية في الاستعارة وكيف أنها ظاهرا تعد هراء من القول.ويمكن استثمار مبدأ الملائمة في البعد الجمالي الذي تضيفه الاستعارة للأقوال.

ويمكن لنا أيضا تلمس تداولية الأقوال الاستعارية آنفة الذكر في خطاب الإمام علي (عليه السلام) من خلال فعل الإثبات الذي تجلى في خطاباته، وهي خاصية تداولية متميزة في وظيفة أفعال الكلام، وهو قريب من قول الجرجاني في الاستعارة، الذي ربط بينها وبين الإثبات الذي يتفاعل مع قصد المتكلم، محور النظرية التداولية:» أنّك إذاقلتَ: رأيتُ أسداً فقد ادَّعيتَ في إنسانٍ أنّه أسدٌ وجعلتَهُ إيّاه ولا يكون الإِنسانُ أسداً. وإِذا قلتَ: «إذْ أصبحت بيدِ الشَّمال زمامُها « فقد ادَّعيتَ أن للشَّمال يداً. ومعلومٌ أنه لايكونُ للرَّيح يد، وهاهنا أصلٌ يجبُ ضبطُه وهو أنَّ جعلَ المشبَّهِ المشبَّهَ به على ضربينِ: أحدُهما أنْ تُنزلَهُ منزلةَ الشيءِ تذكرُه بأمرٍ قد ثبَت له فأنتَ لا تحتاجُ إلى أن تعملَ في إثباتهِ وتَزْجِيَتَهِ. وذلك حيثُ تُسْقِطُ ذكرَ المُشَبَّهِ منَ الشَّيئين ولا تذكرُه بوجهٍ منَ الوُجوهِ كقولك رأيتُ أسداً. والثّاني أن تجعلَ ذلكَ كالأمْر الذي يحتاجُ إلى أن تعملَ في إثباتِه وتَزجيتهِ. وذلك حيثُ تجري اسمَ المشبَّه به صراحةً على المشبَّه فتقولُ: زيدٌ أسدٌ وزيد هو الأسد. أونجيءُ بِه على وجهٍ يرجع إلى هذا كقولك: إنْ لقيتَه لقيتَ به أسداً وإِن لقيتَهُ ليَلقينَّك منهُ الأسد. فأنت في هذا كلَّه تعملُ في إثبات كونِه أسداً أو الأسد وتضعُ كلامك له. وأمّا في الأول فتُخرجُه مُرجَ ما لا يحتاجُ فيه إلى إثبات وتقرير. والقياسُ يقتضي أن يقُالَ في هذا الضربِ أعني ما أنتَ تعملُ في إثباته وتَزجيتهِ أنّهُ تشبيهٌ على حدَّ المُبالغة ويقتصرُ على هذا

ص: 175

القدر ولا يُسمّى استعارةً».(1)

ومن الاستلزامات الحوارية في خطبة له ينصح الناس ويوجه إلى الترغيب في الآخرة بقوله: «ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنة »(2)( فكنى(عليه السلام) عن نتيجة هذه الأعمال الصالحة والطالحة ب- (السباق) حيث تفوز الفرس في ذلك السباق أو قد تخفق، فتوفرت في خطابه أحد شروط التداول اللغوي، وأقصد بها الاعتقادية، فهذا الشرط يتعلق بجملة الأمور التي يعتقدها المتحاورون على سبيل الإيمان بها قوة وضعفا، يقينا أو شكا، فكل محاور يعتقد القضايا الضرورية والبديهية والمسلم بها، فضلا عن كونه يعتقد الرأي الذي يعرضه على الغير، ويعتقد صحة هذا الاعتقاد وما يلزم عنه وصحة الدليل الذي يقيمه عليه، فإلام قدم لوحة فنية في غاية الإبداع وخالف مبادئ الحوار، ولا سيما مبدأ الجهة اوالطريقة، ولكنه خلق جوا دلاليا آخر، فشبه الحياة الدنيابسباق يتسابق فيه الناس نحو غاية وهدف، يبذلون في سبيله مهجهم، والسبق غير مرئي لنا وغير مادي عندنا، وهو الجنة، ولكنه راكز في اعتقادات المتحاورين، فاعتمد على الخلفيات المعرفية المشتركة بينه وبين متلقيه.وقوله: بأن السبقة الجنة، فقد نزل الجنة منزلة المتلقي، الذي يعرف من رصيد عاداته وتقاليده أن غاية كل سباق ومظنته وصول المتسابقين إلى تلك الغاية وتسابقهم عليها، يبذلون فيها كل هدهم، وتساعدهم في ذلك إمكاناتهم الجسدية، لكن هذه الغاية مع تشبيهها بالسبقة المادية تختلف عنها بأن ما يؤهل الفائزين ليس إمكاناتهم الجسدية بقدر ما كنزوا في حياتهم من أعمال صالحة تهيئهم لعبور السراط وصولا إلى السبقة الكبرى.

ومن كناياته في خطبة له (عليه السلام) يومئ فيها إلى ذكر الملاحم «... حَتَّى تَقُومَ اَلْحرَبُ بِكُمْ عَلَي سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا مَملُوءَةً أَخْلافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقبِتَهُا أَلا وَ فِي

ص: 176


1- دلائل الإعجاز تحقيق د.محمد التنجي / 67 .
2- نهج البلاغة / 64 .

غَدٍ وَ سَيَأْتِ غَدٌ بمِاَ لا تَعْرِفُونَ يَأْخُذُ اَلْوَالِ مِنْ غَيْرِهَا عُمَّلَاَ عَلَي مَسَاوِئِ أَعْمَلِاَ وَ تَخْرُجُ لَهُ اَلْأرْضُ أَفَاليِذَ كَبِدِهَا وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَاليِدَهَا فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ اَلسِّيرَةِ وَ يْحُيِي مَيِّتَ اَلْكتِاَبِ وَ الَسُّنَّةِ »(1) الساق الشدة ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ)(2). والنواجذ أقصى الأضراس عند الأسد وغيره. والكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها كما أن غاية الغضب أن تبدو النواجذ.فخالف الخطاب مبدأ الملائمة فليس للحرب نواجذ، وليست ممن تغضب حتى تبدو نواجذها وهنا رحنا نبحث عن معنى استلزامي عندما تعذر علينا تفسير الألفاظ حرفيا،وبما أن المقام الخطبة في وصف الحرب، ووصولها إلى غاية في الاتساع والشمول، مقام تهويل في شدة شراستها و، وتبدو حلوة للمحاربين حتى إذا اشتدت ضراوتها وعلا غبارها، بانت قسوتها، وامتحنت صبر الرجال وجلادتهم.

فاستعمل الإمام في خطابه هذا سياقا نفسيا محضا تركز على التهويل من شدة الحرب،وبيان عظم شأنها، وذهب إلى دمج الحالات الذهنية والنفسية بغية التأثير فيهم، في نظرية تداولية للخطاب؛ لتصبح المقاصد والرغبات حالات ذهنية مسؤولة عن برنامج الفعل والتفاعل، وهذه الحالات مناط الوصف والتفسير التداولي، بوصفها السياق النفسي لإنتاج الخطاب(3).وللتعبير الكنائي القدرة على استيعاب البعد التلميحي للخطاب، من خلال أنها تستلزم من المتكلم عملا ذهنيا من جهة، وفتح باب التأويل عند المرسل إليه، وتوظيف البعد الثقافي الذي يقوم على استدلال عكسي، أي الاستدلال بما مضى في الزمان، وشاع بين الناس التعامل وفقه.

ومن المعاني المستلزمة في خطابه، في خطبة له يذكر فيها أهل البصرة «كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ يَرْجُو اَلْأَمْرَ لَهُ وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ لاَ يَمُتَّانِ إلِيَ اَللِّهَ بِحَبْلٍ وَ لاَ يَمُدَّانِ إِلَيْهِ

ص: 177


1- نهج البلاغة / 246 .
2- القلم: 42.
3- ينظر استراتيجيات الخطاب / 44 .

بِسَببٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبهِ وَ عَمَّ قَليِلٍ يَكْشِفُ قنِاَعَهُ بِهِ وَ الله لَئِنْ أَصَابُوا اَلَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا وَ لَيَأْتيِنَّ هَذَا عَلَ هَذَا قَدْ قَامَتِ اَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ اَلُمْحْتَسِبُونَ قَدْ سُنَّتَ لَهمُ اَلسُّنَنُ وَ قُدِّمَ لَهمُ اَلْخبَرُ وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ وَ اَللِّهَ لا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اَللَّدْمِ يَسْمَعُ اَلنَّاعِيَ وَ يْحَضُرُ اَلْبَاكِيَ ثُمَّ لا يَعْتَبِ»(1) فضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبير ويمتان يتوسلان الماضي ثلاثي مت يمت بالضم، والضب الحقد، والمحتسبون طالبو الحسبة وهي الأجر ومستمع اللدم كناية عن الضبع تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها، فيقول(عليه السلام): لا أكون مقرا بالضيم راغنا أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة وأتباعه فلا يكون عندي من التغيير والإنكار لذلك إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم. السياق سياق ذم وتحقير لساكنيالبصرة ومثيري الفتنة فيها، وسياق بيان موقفه الثابت تجاه ما يفعلانه، واستشراقه لما سيفعلوا لو غلب أحدهم الآخر، وفي خضم كل تلك الأحداث تركز خطاب الإمام على بيان موقفه فخرق بذلك قانون الكيف، فانزاح عن المعنى الأصلي إلى معنى مستلزم، أؤدي بلفظ غير حرفي، روعي فيه استراتيجية إفهام خاصة، بحيث قدرة ذلك اللفظ وتفاعله في ذهن المتلقي، بحيث يفوق المعنى المستلزم آداء المعنى الحرفي، وروعي كذلك سياق التلقي،فلو أؤدي هذا المعنى في زمان ومكان مختلفين لما أدى الدور الخطابي المنوط به وهو ما اكده عبد القاهر الجرجاني(ت 471 ه) في المعنى الكنائي » ألا ترى أنك لمّا نظرتَ إِلى قولِم: هو كثيرُ رمادِ القدر وعرفتَ منه أنَّم أرادوا أنه كثيرُ القِرى والضِّيافة لم تعرفْ ذلك مِنَ اللفظ ولكنك عرفتَه بأن رجعتَ إِلى نفسك فقلتَ: إِنه كلامٌ قد جاء عنهم في المدح ولا معنى للمدح بكثرة الرمادِ. فليس إِلا أَنَّم أرادوا أن يَدلُّوا بكثرة الرماد على أنه تُنصبُ له القدورُ الكثيرةُ ويطبخ فيها للقرى والضيافة وذلك لأنه إِذا كَثُرَ الطبخُ في القدور كَثُر حراقُ الحطب تَتَها. وإِذا كَثُرَ إِحراقُ الحَطَبِ كَثُرَ الرمادُ لا محالة ».(2)

ص: 178


1- نهج البلاغة/ 258 .
2- دلائل الإعجاز / 316 .

فمدار المعنى المستلزم في الكناية هو العدول عن التصريح إلى التلميح في القول، مع عدم امتناع إرادة المعنى الأصلي.

مستمع اللدم

المعنى الحرفي المعنى المستلزم

الضبع الأبي، رافض الظلم والضيم

تقدم الكناية فكرة متطورة للمعنى الأصلي الجائز فهمه من التعبير، وارتباطها بقصد المتكلم الذي لا يريد إيصال المعنى الظاهري المباشر للكلام، بل يريد إيصال فكرة أخرى لا يمكنه أن يوصلها عن طريق استعمال الأسلوب المباشر؛ لأسباب تداولية تتمثل فيحساسية الحديث في بعض المواضيع، التي يمكن أن تؤثر على أبعاد العلاقة مع المخاطب، وهو باستعمال الكناية يحفّز مخاطبه على بذل طاقة إضافية، متمثلة في استثمار الكفاءة التأويلية للمخاطب؛ لفهم قصد المخاطِب الذي لا يريد التصريح به، بل يضمنه في كلام يبدو عاديا وبسيط المأخذ إلى حد ما وهو تجل حقيقي لفكرة غرايس عن الاستلزام الحواري. وكذلك فأن الاستعارة بوصفها مجازا، قامت في خطاب الإمام (عليه السلام) على الجمع بين شيئين أو فكرتين، انطلاقا من علاقة المشابهة بينهما ؛ لتقديم فكرة جديدة أو صورة مبتكرة، تدخل في عملية التخييل والإقناع؛ لأنها عند « قدمائنا العرب المتنورين ليست فقط زخرفا، أو نقشا لتزيين الكلام، ولكنها فن لغوي تداولي يعطي للقول قوته الدلالية، و» إصابته النفسية تأثيرا، وانفعالا واستحسانا» .(1)

ص: 179


1- حجاجية الصورة الفنية في الخطاب الحربي، محمد عمران / 67

ص: 180

الفصل الخامس :الإحالة النصية في خطاب الإمام علي عليه السلام(خطبة الأشباح أنموذجا)

اشارة

ص: 181

أولا: مفهوم النص:

يعرّف (قاموس الألسنية) الذي أصدرته مؤسسة لاروس (النصّ) على النحو التالي: «إن المجموعة الواحدة من الملفوظات، أي الجمل المنفذة، حين تكون خاضعة للتحليل، تسمّى: (نصاً) فالنص عينة، من السلوك الألسني، وإن هذه العينة يمكن أن تكون مكتوبة، أو محكية »(1)و اعتبار(النص) عينة، يعني أنه يعكس بحدّ ذاته (ملاك) اللغة، أي كل ما يتعلق بها بصفتها نظام علامات لغوية تستعمل كوسيلة اتصال بين المتكلمين بها؛ فأياً كانت اللغة التي تنتمي إليها (المادة اللغوية) التي ندرسها، فالعينة منها عندما تكون محل الدراسة تسمى نصاً، وذهب العالم الألسني (هيالمسليف) إلى استعمالمصطلح (نص) بمعناه الواسع جداً، فأطلقه على أي ملفوظ، أي كلام منفذ، قديماً كان أو حديثاً، مكتوباً أو محكياً، طويلاً أو قصيراً. فإن عبارة: (stoop) أي:(قف) هي في نظر (هيالمسليف) نص، كما أن جماع المادة اللغوية ل (رواية) بكاملها هي أيضاً نص(2).

أما (تودوروف) فإنه يبدأ مقالته عن (النص) في مؤلفه: - القاموس الموسوعي لعلوم اللغة بقوله: » تجدّ الألسنية بحثها بدراسة (الجملة) ولكن مفهوم النص لا يقف على نفس المستوى الذي يقف عليه مفهوم الجملة، أو القضية، أو التركيب، وكذلك هو متميز عن الفقرة التي هي وحدة منظمة من عدة جمل ثم يقول: (النص) يمكن أن يكون جملةً، كما يمكن أن يكون كتاباً بكامله، وإن تعريف النص يقوم على أساس استقلاليته وانغلاقيته، وهما الخاصتان اللتان تميزانه، فهو يؤلف نظاماً خاصاً به، لا يجوز تسويته مع النظام الذي يتم به تركيب الجمل، ولكن أن نضعه في علاقة معه، هي علاقة اقتران، وتشابه(3). وذهب (هارتمان) إلى أن اللغة المستعملة في الواقع الفعلي، العلامة الفعلية (أي اللغوية)

ص: 182


1- قاموس الألسنية، لاروس، باريز / 486.
2- ينظر النص والأسلوبية (بين النظرية والتطبيق) عدنان بن ذريل / 15 .
3- ينظر القاموس الموسوعي لعلوم اللغة / 375

المنظمة وهذه العلامة في العادة هي النص أو بمعنى أدق هي النص بعينه، ووفق ذلك فالنص قطعة ما ذات دلالة وذات وظيفة، فهي قطعة مثمرة من الكلام، فيرى أن معالجة النص ينبغي فيها تحليل الأسس الحاملة للمعلومات وتأثيراتها الداخلية داخل النص، والانتقال من مضامين خارج النص (قضايا الموقف والسياق)، وضرورة الاستعانة بالعلوم الأخرى فهو علامة لغوية أصلية، تبرز الجانب الاتصالي والسيميائي وفيه تقديم اللفظ على المعنى ولكنه يبرز الدور الاتصالي؛ لما له من أثر في تكوين الخطاب(1)، وذهب إلى أن الاهتمام بلسانيات النص في العصر الحديث سببه معرفة إنتاج النصوص في ظروف اجتماعية متميزة(2). وهذا الاتجاه جاء رافضا للدراسات اللغوية البنيوية):النحو التحويلي التوليدي (لدى تشومسكي ونحو التبعية التعليق) (لدى تنيير «ونحو الحالة (لدى (فليمور) الذين اهتموا بالمركب الفعلي أو العمل) الإسناد( بوصفه نواة الجملة، فجاء رد بعض العلماء رافضا لهذا التوجه والقيد المقتصر على دراسة الجملة، فسعى(هاريس) إلى دراسة الوحدة الممثلة لتتابعات الجمل، التي عرفت فيما بعد بالنص، الذي أطلق على نمط هذه الدراسة النهج المجاوز للجملة، وقد جاء ذلك في بحثه)تحليل الخطاب( الذي اهتم فيه بتوزيع العناصر اللغوية في النصوص، كما اهتم بالرابط بين النص وسياقه الاجتماعي(3)، والحق» أن النحاة هم الذين أخذوا على عاتقهم دراسة الجملة من الناحية الوضعية، فصاغوا قواعدها، واستقصوا أنماطها، ولكنهم لم يتجاوزوا حدود الجملة في دراستهم وتحليلاتهم، بل تركوا هذه المهمة للبلاغيين والأصوليين،(4) فالتفريق بين الاتجاهين في دراسة نحو الجملة الذي يقف عند حدود الجملة ويراها

ص: 183


1- ينظر علم لغة النص:المفاهيم والاتجاهات، لونجمان، ترجمة سعيد بحري، القاهرة،ط 1، 1997 م/ 102-101
2- ينظر علم النص ونظرية الترجمة، د. يوسف نور عوض / 18 .
3- ينظر علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، د. صبحي إبراهيم الفقي:، ط 1 دار قباء، القاهرة / 23 .
4- قضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب، د. محمد محمد يونس / 51 .

الوحدة اللغوية الكبرى، ونحو النص الذي يرى ضرورة تجاوز الجملة إلى البحث في سمات الترابط بين سلسلة من الجمل القصيرة أو الطويلة، ويرى (برينكر) أن النص وحدة لغوية وتواصلية في الوقت نفسه(1)، (وحده شميت) بأنه جزء حدد موضوعيا ومحوريا من خلال حدث اتصالي ذي وظيفة اتصالية إنجازية(2)،ويذهب هاليداي ورقية حسن إلى أن النص وحدة دلالية ينجز في شكل جمل متعالقة، فكل متتالية من الجمل تشكل نصا شريطة أن تكون بين هذه الجمل علاقات،أو على الأصح بين عناصر هذه الجمل علاقات(3)، ويرى بارت أن نظرية النص نقد مباشر لأية لغة واصفة بالدرجة الأساس أي أنها مراجعة لعملية الخطاب.

نستخلص من ذلك أن مصطلح النص عندما يستخدم في الأدب ينبغي أن يعتمد على عدد من الأبعاد الهامة طبقا للسياق الذي يرد فيه. فإذا أطلقناه على التكوين الفني المحدد وجعلناه قائما في مقابل مفهوم العمل الأدب تركنا لهذا الأخير الاعتداد بالأبعاد التاريخية الاجتماعية والثقافية للنص الأدبي، ونجعله يتضمن علاقات بالمبدع الذي ينشئه والجمهور الذي يتلقاه(4). فالنص بذلك «وحدة كلامية مكونة من جملتين فأكثرتحقيقا أو تحقيقا وتقديرا، منطوقة أو مكتوبة لها بداية ونهاية تتحدد بها وتتداخل مع منتجها ولغتها في علاقة عضوية ثابتة وهي تتجه إلى مخاطب معين أو مفترض و يمكن أن تصاحب تلك الوحدة الكلامية بعض الإشارات السيميائية غير اللغوية التي قد تؤثر فيها»(5)

ص: 184


1- ينظرإشكالات النص جمعان بن عبد الكريم / 31 .
2- ينظرعلم لغة النص، سعيد بحيري / 108 .
3- ينظر لسانيات النص/ مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي / 12 - 13 .
4- ينظر بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل / 217
5- إشكالات النص / 32 .

يعد علم النص من أحدث فروع علم اللغة، ويرى سعيد بحيري أن بدايته الفعلية كانت في مطلع السبعينيات، بعد أن اكتملت ملامحه الفارقة، وإن كان من المستحيل أن ينفصل عن علوم أخرى انفصالا كاملا؛ لأنه يرتكز على خاصية جوهرية له تحول دون ذلك، ألا وهي خاصية التداخل، فلا خلاف حول استقائه أكثر أسسه ومعارفه من علوم تتداخل معه تداخلا شديدا، بحيث يمكن أن يشكل أدواته في حرية تامة، ثم تصب نتائج تحليلاته في هذه العلوم، فتزيدها ثراءً وتكشف عن كثير من ألوان الغموض في مسائلها وقضاياها. ومن تلك العلوم التي ارتكز علم النص على رصيدها العلمي،علم اللغة الوصفي، وعلم اللغة الوظيفي، وعلم اللغة التركيبي، وعلم اللغة التحويلي التوليدي، كما أنه يتداخل مع علوم أخرى مثل البلاغة، والأسلوبية(1).

ويمكن تلخيص دوافع نشأة علم النص فيما ما يلي:

1. العلاقة الوثيقة التي ربطت بين اللسانيات والدرس الأدبي منذ عقود ثلاثة في أوروبا، وترددت أصداؤها في الدراسات العربية منذ وقت قريب.

2. كانت دراسة الخطاب أو النص واقعة منذ زمن بعيد في نطاق علوم أخرى تتجاذبها كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والدراسات الأدبية، ولكن النصوص مادة لغوية بالضرورة؛ولذلك أحس المشتغلون بهذه التخصصات حاجة ماسة إلى خدمة المعالجة المنضبطة التي تؤديها اللسانيات الحديثة على خير وجه، فكان الاتجاه إلى نحو النص.

3. توصل المشتغلون بعلوم اللسان إلى أن اللغة ليست مجرد نماذج وأنماط للجمل، ولكنها مرآة وأداة وسلاح، ومن ثم فإن الفهم الحق لنظريتها لا يمكن أن يتحقق باجتزاء الجمل من السلوك القولي في شموله وتكامله، والتزام حدود نحو الجملة..

ص: 185


1- ينظر علم لغة النص / 5.

4. أثبتت الخبرة العملية للسانيين المعاصرين تميز نحو النص على نحو الجملة حتى في إطار الغرض القريب، وهو الوصف النحوي الخاص للغة ما(1).

ثانيا / الاتساق النصي:

الاتساق النصي مصطلح لصيق بدراسة البنية السطحية للنص، ويدرس الروابط التي تجعل من النص متماسكا، عرفه محمد خطابي بقوله:» ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنص/ خطاب ما، ويهتم فيه بالوسائل اللغوية (الشكلية) التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب أو خطاب برمته «(2)ويعد هو والانسجام النصي عمودي التماسك النصي، فقد شغلت قضية التماسك النصي فكر الباحثين،واحتلتموقعا مركزيا في الأبحاث النصية التي تعنى بدراسة النصوص اللغوية، التي جاءت لتتجاوز لسانيات الجملة لتناسب النصوص بوصفها جملا كبرى (كلية النص)؛ لأن النص في منظور علماء النصية جزء لا يتجزأ، تربط بين أجزائه عناصر معينة « والحق أن تعبير علم النص (Text Grammar) تعبير جديد أطلق على ميدان من البحث غايته القصوى فهم أوجه الترابط النحوي المتجاوزة للجملة الواحدة إلى سلسلة طويلة أو قصيرة من الجمل، تؤلف نصا محددا، ووجود الروابط النصية أمر طبيعي؛ لأنها تساعد على تماسكه الشكلي والمعنوي»(3)

وقع اختلاف في ترجمة التماسك من الانكليزية (cohesion) فترجمه محمد خطابي إلى الاتساق، وتمام حسان إلى السبك، والهام أبو غزالة إلى التضام وعمر عطاري إلى الترابط، وعبد القادر قنيني إلى الالتئام. ومهما يكن فقد ووضعت رقية حسن مجموعة من قواعد

ص: 186


1- ينظر، دراسة لغوية لصور التماسك النصي. مصطفى قطب / 46 .
2- لسانيات النص / 5.
3- ينظر في اللسانيات ونحو النص، د. إبراهيم خليل / 215 .

التماسك النصي في الانكليزية في زمن مبكر( 1968 م) قياسا لغيرها من الباحثين، وما لبثت أن صنفت مع هاليدي كتابا آخر حول التماسك في الانكليزية(1)، وضع (روبرت دي بيوجواند) مجموعة من المعايير النصية التي يجب أن تتوافر في النص لضمان تماسكها وهي (السبك، الحبك، القصد، القبول، الإعلام، المقامية، التناص)(2):

1. السبك أو الربط النحوي. Cohesion

2. الحبك، أو التماسك الدلالي وترجمها د. تمام حسان بالالتحام. Coherence

3. القصد أي هدف النص. Intentionality

4. المقبولية، وتتعلق بموقف المتلقي من قبول النص. Acceptability

5. الإخبارية أو الإعلام،أي توقع المعلومات الواردة فيه أو عدمه.Informativity

6. المقامية، وتتعلق بمناسبة النص للموقف. Situationality

7. التناص .Intertextuality

وقسمها أحمد عفيفي على أقسام مشابهة هي(إعادة اللفظ، والإحالة، والربط الرصفي، والتضام، والاستبدال، والتعريف، والحذف)(3) فالعلاقات هي أساس تماسك النص، التي بناءً عليها عرف النص بأنَّه: «حدث تواصُلي يلزم لكونِه نصًّا أن تتوافَر به معايير للنصِّية مجتمعة، ويَزول عنه هذا الوصْف إذا تخلَّف واحد من هذه المعايير »(4). ولكن

ص: 187


1- ينظر في اللسانيات ونحو النص / 227 .
2- ينظر النص والخطاب والإجراء روبرت دي بيوجواند، ترجمة تمام حسان / 103 - 105
3- ينظر نحو النص / 105 .
4- ينظر نحو أجرومية للنص الشعرى: دراسة في قصيدة جاهلية، سعد مصلوح: مقال بمجلة فصول،المجلد العاشر، العددان الأول والثاني، يوليو 1991 م/ 154 .

ثمة تساؤلا: هل لا بدَّ من توافُر هذه المعايير السَّبعة مجتمعة في النَّصِّ، ليصير النص نصًّا؟ يرى (سعد مصلوح) أن تحقُّق هذه الشُّوط السبعة ضروري ليكون النَّصُّ نصًّا (كما هو واضح في تعريفه)،بينما يرى بعض الباحثين أنَّ (دي بيوجراند) لم يعنِ ضرورة تحقُّق هذه المعايير السَّبعة في كلِّ نصٍّ، وإنَّما يتحقَّق الاكتِمال النَّصِّ بوجودها، وأحيانًا تتشكَّل نصوص بأقلِّ قدر منها(1)، فالنص لا يحتاج إلى المعايير السبعة أنفة الذكر مجتمعة حتى يتم تماسكه، وإنما بتحقق بعضها ممكن أن يكون متماسكا، وشرط التماسك والمداخلة والترابط بين النصوص، فالنظر إلى النصوص اللغوية من جانب علم التداولية؛ لما للدور الرئيس في تحليل النصوص في إطارها الاجتماعي، وبذلك لا يكون التماسك النصي خاصية تجريدية للأقوال، بل ظاهرة تأويلية تعتمد على المعارف الذاتية للقارئ، الذي يقوم بعملية بناء دلالي، معتمدا على طبيعة النص الذي يتطلب البناء، كونه نصا غير عشوائي، وإنما نصوص متعاقبة ومترابطة ترابطا تراتبيا محكما، وما تلك المعايير إلاأدوات ربط معرفية بين مكونات النص.

ثالثا: الإحالة: (Refernce)

وهي من الاستراتيجيات التضامنية وهي الاستراتيجيات التي يحاول المتكلم أن يجسد بها درجة علاقته بالمتلقي ونوعها، وأن يعبر عن مدى احترامه له ورغبته في المحافظة على تلك العلاقة، أو تطويرها بإزالة الفوارق بينهم.وتعد الإشاريات من أهم الآليات اللغوية للاستراتيجيات التضامنية(2)؛ لأنها تسهم في ربط الخطاب بالمتلقي وإذابة الفروقات بينهما، ودليلا على اتفاق المتلقي والمتكلم.

وقد نوه النحويون إلى الإحالة بوصفها من أهم قواعد التماسك النصي شيوعا

ص: 188


1- ينظر علم لغة النص / 146 .
2- ينظر استراتيجيات الخطاب / 286 .

وتداولا، تربط بين النصوص والعبارات، فهي من أهم أدوات الاتساق النصي، ونعني بها وجود عناصر لغوية لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل، وإنما تحيل إلى عناصر أخر؛ لذا تسمى عناصر محيلة، مثل الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وتتفرع إلى مقامية

ونصية، وتتفرع الثانية إلى قبلية وبعدية(1)، وهي من أهم أدوات الربط، والسبك، ومن المعايير المهمة التي تسهم بشكل فعال في الكفاءة النصية، فهي قادرة على صنع جسور كبرى للتواصل بين أجزاء النص المتباعدة والربط بينها ربطا واضحا.

ويتوسع مفهوم الإحالة ليشمل قضايا ذات صلة بفلسفة اللغة، والنقد ولسانيات النص، وأضحت ملازمة لكل فعل كلامي بغض النظر عن طبيعة الأشياء أو الأمورالتي تحيل إليها، وعن موضوعية الإحالة وتطابقها مع حقيقة المرجع أو الواقع، وهي ليست منوطة فقط بصيغ العبارات الاسمية بل تتعلق بكل أركان الجملة(2).

وتعد الإحالة أهم عناصر التماسك بين أجزاء النص وإن كثرت وتباعدت، فهي علاقة دلالية، ومن ثم لا تخضع لقيود نحوية إلا أنها تخضع لقيد دلالي وهو وجوبتطابق الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه، فالعلاقة بين المحيل والمحال إليه علاقة تطابق. وكقاعدة عامة يمكن أن تكون عناصر الإحالة مقامية أو نصية، وإذا كانت نصية فإنها يمكن أن تحيل على السابق أو على اللاحق، وحتى يمكن الحكم بنصية النص وترابطه لا بد من معرفة موضع الإحالة ليتم ربط خيوط النص مع بعضه، وإلا بقيت حلقات مفقودة تفقد النص نصيته، أوتبقي الباب مفتوحا للتأويلات والاجتهادات، فوجود عنصر مفترض ينبغي أن يستجاب له، وكذا وجوب التعرف على الشيء المحال إليه في مكان ما(3).

ص: 189


1- ينظر لسانيات الخطاب / 16 - 17 .
2- ينظر إشكالات النص / 347 .
3- ينظر لسانيات الخطاب، / 16 21 .

وتكمن أهمية الإحالة في تماسك النصوص فيما بينها باعتمادها على غيرها ف- «كلمازادت الإحالات ف الجملة زاد اعتمادها على غيرها في فهمها، واضمحل استقلالهابنفسها، فتزايدت قوتها الربطية، والتعلقية، وقدراتها التماسكية، وكل ذلك يدعم سمة النصية في كلام المؤلف».(1)

رابعا:عناصر الإحالة

*رابعا:عناصر الإحالة$ينظر النص والخطاب والإجراء / 173 . $:

1. المتكلم أو الكاتب (صانع النص) وبقصده المعنوي تتم الإحالة إلى ما يريد، إذ يشير علماء النص إلى أن الإحالة عمل إنساني.

2. اللفظ المحيل: وهذا العنصر الإحالي ينبغي أن يتجسد إما ظاهرا أو مقدرا، كالضمير أو الإشارة، وهو الذي سيحولنا ويغيرنا من اتجاه إلى آخر داخل النص أو خارجه.

3. المحال إليه: وهو موجود إما خارج النص أو داخله من كلمات وعبارات أو دلالات وتفيد معرفة الإنسان بالنص وفهمه في الوصول إلى المحال إليه.

4. العلاقة بين اللفظ المحيل والمحال إليه، شرط التطابق بين اللفظ المحيل والمحال إليه

خامسا: أنواع الإحالة:

يميز الباحثون بين نوعين من الإحالة:

1. إ. حالة مقامية: (Exophorice Reference)

وهي الإحالة التي تكون خارج النص، وهي إحالة عنصر لغوي إحالي على عنصر إشاري غير لغوي موجود في العالم الخارجي، كأن يحيل ضمير المتكلم المفرد على ذات

ص: 190


1- قضايا في اللغة واللسانيات / 59 .

صاحبه المتكلم، إذ يرتبط عنصر لغوي إحالي بعنصر إشاري غير لغوي وهو ذات المتكلم، ويمكن فهم مرجعيتها من خلال سياق الموقف، ومن أهم عناصرها ضمير المتكلم وضمير المخاطب والاسم العلم. إذ يعود ضمير المتكلم في الغالب إلى المرسل، أما المخاطب فيعود إلى المستقبل، وقد يعود الاسم العلم إلى الاسم المخاطب، أو الى مرجع إحالي آخر يفهم من السياق، ويرى هاليدي ورقية حسن أن هذه الإحالة تساعد في تكوين النص؛لكونها تربط اللغة بسياق الموقف، إلا إنها لا تساهم في تماسكه بشكل مباشر، فهي تضع أساس العلاقة بين النص والخارج، أو الموقف بعناصره المختلفة. فاسم الإشارة (هذا)في قوله تعالى: «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأ لُوهُمْ إِن كَنُوا يَنطِقُونَ»(1)، إشارة إلى كبير الأصنام الذي جعلوه آلهة وهو موجود خارج النص. وسأبدأ بأخذ نماذج من خطبة الأشباح للإمام علي(عليه السلام) كاشفا عن موطن الاتساق والتماسك فيها.ومن الإحالة المقامية ما جاء في خطبة الأشباح في قوله (عليه السلام): «فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِّمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ»(2) فقد أحال (عليهالسلام) على السائل، الذي كان سببا في بدأ الإمام بخطبة الناس، وذلك أن رجلاً أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين! صف لنا ربّنا لنزداد له حباً و به معرفة.فغضب(عليه السلام) ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غصّ المسجد بأهله. فصعد المنبر وهو مغضب متغيّ اللون، وهو مُشار خارجي ليس موجودا في داخل النص، أفادت الإحالة ربط العناصر الكلامي بالعناصر غير الكلامية.وكذلك جميع الأعلام الواردة في داخل النص الذي اجتزأته مثال (الشيطان) عنصر خارجي، (النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 191


1- الأنبياء: 63 .
2- نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح / 150 .

عنصر خارجي (أئمة الهدى) عنصر خارجي... الخ.وأرى أن تلك الإحالات ساهمت في ترابط النص، ولكن هذه المساهمة كانت في الربط الدلالي، فعلم من قوله: السائل، بأن المرجع هو العنصر الخارجي الذي كان سببا في وجود الخطبة أو المحرك الأساس له، وبالتالي بالربط مع العالم الخارجي ربط تداولي مع سياقات نشوء الحدث الكلامي.

2. الإحالة النصية:(Endophorice Reference)

وهي الإحالة إلى عنصر لغوي مذكور في النص، سعيا إلى انسجام النص وربط أجزائه ببعضها، وتقسم بحسب موضع العنصر اللغوي المحيل إلى:

1. إحالة قبلية: وفيها يشير العنصر الإحالي إلى ما يتقدمه من العناصر اللغوية المختلفة، وهي من أكثر أنواع الإحالة شيوعا، كقوله تعالى: ««وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ»(1) وقوله:«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(2) وقوله:«هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ»(3) فضمير الغائب في (ربه) يعود على مرجع سابق له،متعلق به، ومطابق له، وهو على التوالي (إبراهيم، آدم، زكريا) ومنه ما جاء في خطبة الأشباح: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الَمضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الإقرار بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغيْبِ الْمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ -تَعَالَي- اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَم يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً، فاقْتَصِرْ عَلَي ذَلِكَ، وَلاَتُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَي قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهاَلكِينَ »(4).فقد ذكر جملة

ص: 192


1- البقرة: 124 .
2- البقرة: 37 .
3- آل عمران: 38 .
4- نهج البلاغة / 150 .

من العناصر المحيلة التي تحيل إلى مرجع واحد قبلها وهي (هم، الذين، (هم في أغناهم) (الواو في جهلوا) (الهاء في تركهم) فكل هذه العناصر تحيل على مرجع قبلي وهو قوله:(الراسخين) وأسهمت العناصر المحيلة بربط أجزاء النص بعضهاببعض، بحيث لم تتم إعادة لفظة (الراسخين) وتكفلت تلك العناصر بالإحالة والتعويض عليها وعنها.

الراسخين :

هم

الذين

هم في(أغناهم،اعترافهم، تركهم)

الواو في (جهلوا)

2. عدية: وهي «عناصر لغوية تشير إلى معلومات تالية في داخل سياق القول، ليس لها الوظيفة الفرعية التي تتصف بها الروابط الإحالية، إذ لا تنوب عن لفظ سابق وترمز إلى دلالة سيميائية بمفردها»(1)، كقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(2)، فكل الآيات اللاحقة مفسرة للضمير في (إنه). ومنه في قوله في خطبة الأشباح: «فَهَبْ لَنَا فِي هذَا الَمْقَامِ رِضَاكَ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الاَيْدِي إِليَ مَن سِوَاكَ،« إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ » فاسم الإشارة (هذا) أحال على مرجع بعدي وهو (المقام).وأفادت علاوة على الربط الإحالي تهيئة المتكلم، وجلب انتباهه للكلام اللاحق.وقوله (عليه السلام): «... لِاَنَّهُ الَجْوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبْخِلُهُ إِلَحْاحُ المُلِحِّينَ... » فالضمائر في (يغيضه - يبخله)عائدة

ص: 193


1- الربط الذرعي في النص العربي،فالح العجمي، مجلة أبحاث اليرموك المجلد 12 ، العدد 1، 1994 /256
2- الواقعة: 77 - 80 .

على الضمير المتقد في (لأنه).

فالإحالة النصية الداخلية تؤدي إلى ترابط النص، وترتيب العلاقات الدلالية بين مكوناته وتحقق مثالية التعبير التي تعرف بأنها تعاقب أفقي متناسق لوحدات لغوية مترابطة تقوم على أسس محددة من حيث التسلسل، وضمائر الإحالة النصية تشكل داخل النص سلسلة من الحلقات التي تبني النص إذ يعتبر النص وحدات لغوية متتابعة بسلاسل إضمار متصلة(1).

وتقسم الإحالة بحسب العنصر اللغوي الذي تحيل عليه على:

1. إحالة معجمية: وهي الإحالة الأكثر شيوعا، إذ يقوم العنصر المحيل بالربط بين أجزاء الكلام عن طريق تعويض اللفظة المفردة بما يشير إليها في داخل النص أو خارجه(2).

2. إحالة تركيبية وهي إحالة تشير إلى أكثر من لفظ في المفرد، فقد تشير إلى جملة أو إلى أكثر من جملة «في البنية التركيبية، تحكم الجملة الأولى سائر الجمل اللاحقة لها، إن وجدت بحكم ورودها في البداية في نقطة الانطلاق، وهي المعلم الأول المؤسسي لكل المعالم في النص »(3)، كقوله تعالى: «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِيِن»(4) فقد أحال اسمالإشارة إلى القران الكريم بجميع آياته وسوره.ومنه ما جاء في خطبة الأشباح في حديثه عن صفات الله: «الاَوَّلُ الَّذِي لمَ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَءٌ قَبْلَهُ، وَالاخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِّيَ الأبصار عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا

ص: 194


1- ينظر مدخل إلى علم اللغة النصي،فولفجلنج، فيهفجير، ترجمة فالح العجمي / 25 .
2- ينظر إشكالات النص / 352 .
3- دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعيد بحيري / 97 .
4- يوسف: 1.

اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحَالُ، وَلاَ كَانَ فِ مَكَان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الانتِقَالُ، وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنفَّسَتْ عَنهُ مَعَادِنُ الِجْبَالِ، وَضَحِكَتْ عِنهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ، مِنْ فلِزِّ اللُّجَيْن وَالْعِقْيَانِ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الَمرْجَانِ، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِ جُودِهِ... »(1) فاسم الإشارة الأخير (ذلك) لم يحل على لفظ أو محيل مفرد وإنما على جملة من الأقوال والتراكيب وهي كل تلك الصفات التي ذكرها (الأول، الآخر...الخ) فأحال اللفظ المحيل على تراكيب كثيرة وهي من بداية النص الذي اجتزأته، وأغنى عن ذكرها مرة أخرى حينما أراد(عليه السلام) أن يقرر بأن تلك الأقوال لا تؤثر في وجوده (سبحانه).

ويمكن تقسيم الإحالة باعتماد الفاصل بين العنصر الإحالي ومفسره على نوعين:

1. إحالة ذات مدى قريب: وتجري في مستوى الجملة الواحدة، إذ لا توجد فواصل تركيبية، كقوله تعالى:«وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ»(2) فضمير المتكلم في (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) يحيل على عنصر إشاري داخل الآية. ومنه ما جاء في خطبة الأشباح:« ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِاِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الاَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلاَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وَبَينَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ، وَسُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ، وَوَرَاءَ ذلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الاَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُور تَرْدَعُ الاَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا»(3) فالضمير في (ملا بهم) يعود على المرجع القريب منه وهو (خلقا) وكذلك الضمير في (أجوائها) يعود على مرجع قريب (سماواته).

ص: 195


1- نهج البلاغة / 149 - 150 .
2- يوسف: 43 .
3- نهج البلاغة / 155 .

1. إحالة ذات مدى بعيد: وتجري بين الجمل المتصلة أو المتباعدة في فضاء النص، فتتجاوز الحدود والفواصل التركيبية القائمة بين الجمل(1)، كقوله تعالى:««لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ »(2)، فقد أحال الضمير في (قصصهم) على موضوعات بعيدة في القرآن الكريم. ومنه ما جاء في خطبة الأشباح: «فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِيءْ بنِوُرِ هِدَايَتهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِاَّ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَي اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ» فالهاء في (صفته) تحيل على جميع الآيات في القرآن الكريم التي تذكر صفات الله (سبحانه وتعالى) فمادلك القرآن عليه من صفته فائتم به واتبعه أيها السائل عن صفات الله، وكذلك جميع ما ذكر في سنن النبي عن صفات الله وحديث الأئمة الأطهار، وما لم يدلك عليه فليس عليك أن تخوض فيه، وهذا الكلام تصريح بأن البحث إنما هو في النظر العقل في فن الكلام فلا يجوز أن يحمل على ما هو بمعزل عنه(3).والملاحظ أن هذه الإحالة بعيدة تحيل على نصوص وعبارات وتراكيب داخل القران الكريم في سورة كثيرة، وخارجه من حديث النبي وحديث الأئمة الأطهار.

وذهب بعضهم إلى تقسيم الإحالة على خمسة أنواع(4):

1. إشاريات شخصية: ونعني بها الضمائر الشخصية الدالة على المتكلم والغائب والمخاطب، وتعد من الإحالة النصية؛ لأنها تحيل على شيء خارج النص، كالضمير أنا أو نحن، وينبغي تحقق شرط الصدق في هذا النوع من العناصر، فلو قالت امرأة:

ص: 196


1- ينظر نسيج النص، الأزهر الزناد / 123 - 124 .
2- يوسف: 111 .
3- ينظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد تحقيق محمد عبد الكريم النمري 1/ 408 .
4- ينظر أفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة / 17 - 26 .

أنا أم نابليون، لوجب تحقق شرط الصدق في الزمان والمكان، والظروف التاريخية التي تنجح القول.

2. شاريات زمنية: وهي مجموعة من الكلمات تدل على زمان يحدده السياق، بالقياس إلى زمان التكلم، فزمان التكلم هو مركز الإشارة الزمانية في الكلام، وإذا لم يعرف التبس الحدث على السامع، وهي مجموعة من الظروف مثل (الآن، غدا، أمس، اليوم)،

كقوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(1) فأفادت الإحالة الظرفية هنا إلى بيان ووالوقت المستحضر بقوله: ﴿آلآن﴾ هو زمن نزولها. وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين، لا أكثر، رفقاً بالمسلمين واستبقاء لعددهم.

3. إشاريات مكانية: وهي عناصر مكانية تحيل على مكان حدوث التكلم، يعتمد في استعمالها على معرفة مكان الحدث الكلامي، ويجب أن يكون المكان معروفا لدى المخاطب، كقولك: أحب أن اعمل هنا، فالمكان المشار إليه معروف لدى المخاطب، ولولا معرفته لأبهم الخطاب على السامع، وهي مجموعة من الظروف مثل (هنا، هناك، فوق، تحت، أمام، خلف، هذا، ذاك، قريب، بعيد).

4. إشاريات الخطاب: قد تلتبس هذه العناصر مع الإحالة بالسابق أو اللاحق؛ لذلك أسقطها بعضهم، ومنهم من ميز بينهما، فالإحالة بالضمير، يتحد فيها المرجع بين ضمير الإحالة وما يحيل عليه، كقولك زيد كريم، وهو ابن كرام أيضا، فالمرجع الذي يعود إليه زيد وهو واحد، أما إحاليات الخطاب فهي لا تحيل إلى ذلك المرجع،

ص: 197


1- الأنفال: 66

بل تخلق المرجع فإذا كنت تروي قصة ثم توقفت وقلت: تلك قصة أخرى فالإشارة هنا إلى مرجع جديد.

5. إشارات اجتماعية: وهي ألفاظ وأساليب تحيل إلى مجموعة من العلاقات الاجتماعية بين المتكلمين والمخاطبين، من حيث هي علاقة ألفة ومودة أو علاقة رسمية، ويمثلها ضمير المتكلم المعظم نفسه (نحن)و(انتم) للمفرد المخاطب، وألفاظ مثل (فخامة الرئيس، وجلالة الملك، ومعالي الوزير، وسمو الأمير...الخ).

6. الموصولات:وهي الإشارة بالاسم الموصول؛ لأنها من الألفاظ الإشارية التي لا تمتلك دلالة مستقلة، بل تعود إلى عنصر أو عناصر أخرى، مذكورة من أجزاء أخرى من الخطاب، وتقوم على مبدأ التماثل والتطابق مع ما هو محال إليه، وتمثل الأسماءالموصولة هذا القسم، كقوله تعالى:

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ »(1)، فالاسم الموصول (الذي) قوى المعنى وذلك بإحالته السابقة إلى الرسول الأكرم.

7. إشاريات الأعلام:تقوم الأعلام بالإحالة بالطريقة ذاتها التي تقوم العبارات المرجعية بالإحالة بها، ويتساءل (سورل) عما إذا كانت الأسماء الأعلام ذات معنى؟ وأجاب (ج. س. ميل) بأن الأسماء الأعلام ليس لها معنى، فهي تصرح ولا تدل دلالة حقيقية، أي أنها تحيل على الموضوع دون أن تقول عنه شيئا، ودون أن تصف مظهرا من مظاهره، ولكن القضية الإحالية في الأعلام هي أن تستعمل الاسم العلم خارج استعماله العادي، فتلبسه قيمة مرجعية سياقية، كقولنا: جاء عنترة، فنحن لا نريد عنترة بعينه، وإنما ما يمثله من مرجع سياقي، من الشجاعة والفروسية المعروفة(2).

ص: 198


1- الأعراف: 157 .
2- الاتجاه التداولي والوظيفي في الدرس اللغوي، د. نادية النجار/ 90 - 95 ،وينظر نسيج النص/ 118 .

سادسا: خصائص الإحالة: تتسم الإحالة بجملة من الخصائص:

1. أنها خالية من الدلالة، فلا تحوي على شيء بذاتها، وإنما بما تشير إليه، أو تحيل عليهمن صفة أو ذات أو شيء مفرد أو أشياء متعددة ومتنوعة، وعلى هذا فهي مفرغة من الدلالة، أو أنها غير ذات معنى، ما لم يتعين ما تشير إليه، فهي أشكال فارغة في المعجم الذي يمثل المقام الصف(1).

2. تتسع الإحالة في النصوص، فنجدها تحيل إلى مرجع سابق، أو إلى مرجع لاحق، ومرة تحيل إلى ما هو قريب، ومرة ثانية إلى ما هو بعيد، وتارة إلى معنى، وأخرى إلى ذات، وتارة إلى لفظ وأخرى إلى جملة أو جملة عديدة.

3. الألفاظ الإحالية أقصر غالبا مما تدل عليه، أو تشير إليه من الألفاظ، فالمتأمل يلاحظ قصر الألفاظ عما تشير إليه، وتتفق فكرة الاختصار مع قانون(زيف) الذي أشار إليه (روبرت دي بوجراند) الذي يقول: «كلما كثر استعمال الكلمة تعرضت لأن تكون أو أن تصبح أقصر، وهذا ليس ببعيد عن العربية؛ لأنها تميل إلى الاختصار،خصوصا الضمائر، فهي أخصر من الظواهر كما في الضمير (هم) في (لهم) في آخر الآية إذ قام مقام عشرين ظاهرا(2): «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(3)

ص: 199


1- ينظر نسيج النص / 116 ، وينظر الإشاريات مقاربة تداولية يوسف السيساوي، ضمن التداوليات علم استعمال اللغة / 442 .
2- ينظر ظاهرة التخفيف في النحو العربي، أحمد عفيفي / 352
3- الأحزاب: 35 .

4. لا بد من إخضاع هذه الألفاظ لمجموعة من الضوابط عن استعمالها؛ لكيلا تتحول دلالاتها إلى إشكالية لا فائدة من وراءها غير الغموض، فعندما تتعدد المرجعيات للفظ فان ذلك يمثل إشكالية.

5. لا بد من الإشارة إلى كفاءة الألفاظ الإشارية، حين تستعمل تلك الألفاظ للإشارة إلى قطع كبيرة من المعلومات، كقوله تعالى: «هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَّرَ مَآبٍ» (ص 55 )، فالإشارة هنا تستوعب جزءا كبيرا من الخطاب.

6. يمكن أن يعطي اللفظ الإشاري معطى جديدا ليس في النص، فالمتكلم بإمكانه صياغة نصه بشكل يمكن أن يقدم فيه معلومات جديدة تفهم من طريقة الإشارة، وفي هذه الحالة يكون المتلقي مضطرا لإضافة هذه المعلومات الجديدة إلى ذهنه؛ لتسوية الدلالة بين اللفظ المشير والمشار إليه(1).

7. يمكن للإحالة أن تساهم في حدوث التناسق النصي خلال الإيجاز، وتجنب الإطناب،وهو من تجليات عيوب الكلام، فلو تأملنا قولنا:

أ. خذ ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، واذبحه، وانتفه، ثم أفرغ أحشاءه، ثم خلله، ثم، احشه، ثم ضعه على النار، ثم قلل النار عليه، وبعد أن ينضج قدمه للضيوف.

ب. خذ ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، واذبح ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وانتف ديكا روميا سمينا حيا يتراوح

وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وافرغ ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وخلل ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، واحش ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وضع على النار

ص: 200


1- الإحالة في نحو النص، أحمد عفيفي/ 527 .

ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وقلل النار على ديك رومي سمين حي يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات، وقدم للضيوف ديكا روميا سمينا حيا يتراوح وزنه من 4- 5 كيلوغرامات(1).

نلحظ أن الإحالة كلفتنا، إطنابا كان من الممكن حصوله، يؤدي بوصف لطبخة ماإلى حديث مضحك، ولكن الاختصار أدى إلى تجنب ذلك الحشو في الكلام.

سادسا:أدوات التماسك الإحالي:

اولا: الضمائر:

جاء الاهتمام بالضمير في عملية الربط؛ لأن له دورا كبيرا في فهم المعاني النحوية، فلا شك أن الضمائر تؤدي وظيفة مهمة جداً في عملية الربط؛ ذلك أن عودها إلى مرجع معين، يغني عن تكرار ما رجعت إليه وهذا يؤدي إلى تماسك أجزاء الجملة، ومن المعروف أن الضمير يعود من جملة الخبر على المبتدأ ومن جملة الحال على صاحب الحال ومن جملة النعت على المنعوت ومن جملة الصلة على الموصول. فيجعل الجملة في كل حالة من هذه الحالات واضحة الوظيفة غير معرَّضة للّبس(2).

والإبهام صفة الضمائر فتحتاج دائما إلى مرجع إحالي ف-«متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظراً عقبى الكلام كيف تكون، فيتمكن منه المسموع فضل تمكن »(3). بمعنى أن «الضمير حين يطرق النفس من غير أن يكون له عائد يعود عليه يصيرها إلى حالة من الغموض والإبهام... فتستشرف إلى اكتشاف الحقيقة المتوارية وراء الغموض المثير، فإذا

ص: 201


1- ينظر القاموس الموسوعي في التداولية آن روبول، جاك موشلار، 2/ 383 .
2- ينظر اللغة العربية، معناها ومبناها، تمام حسان / 113
3- الإيضاح، الخطيب القزويني، دار إحياء العلوم، بيروت، / 70 .

جاءت الجملة المفسرة تمكن معناه ووقع في القلب موقع القبول.(1)»

وتعد الضمائر من أكثر أدوات الربط الإحالية، وهي عنصر مهم من عناصر اتساق النص، وقد يحال بالضمائر إلى الأشخاص كقوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ» أو الأشياء كقولنا: غسلت العنب ثم أكلته، أو الأحداث كقولنا: التوبة ليست سهلة لأنها تحتاج إلى تصميم، وقد يحال بها على فحوى كلام ورد سابقا كقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2)، أو لاحق، وقد يحال بها على مرجع مستنبط استنباطا من السياق النصي كقوله تعالى: «قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنيِ عَنْ نَفْسِ»(3)إذ يفهم المرجع من السياق وهيامرأة العزيز، أو السياق الذهني كقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِالْقَدْرِ» (4)(5).

وهي نوعان: ضمائر تحيل إلى خارج النص، إذ تندرج ضمنها جميع الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب، وضمائر تحيل إلى داخل النص، وتندرج ضمنها ضمائر الغيبة بجميع أنواعها، وهي أهم من النوع الأول؛ لأنها تسهم في اتساق النص وتماسكه، وثمة من قسمها على قسمين ضمائر ملكية (بيتي، بيتك، بيتهم، بيتنا) وأخرى وجودية (أنا، نحن، أنت، هو، هم...). وهي كثيرة في خطبة الأشباح، أكبر من أن تحصى، ومنها ما جاء في خطبة الأشباح الضمير (هو) في قوله: «الَحْمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الَمْنْعُ وَالُجْمُودُ، وَلا يُكْدِيهِ الاِعْطَاءُ وَالُجْودُ إذْ كُلُّ مُعْط مُنتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانعِ مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ، وَهُوَ الَمْنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ » وقوله: «مِنْهُمْ مَنْ هُوَ في خَلْقِ الْغَمَمِ الدُّلَّحِ، وَفي عِظَمِ الِجْبَالِ الشُّمَّخِ، وَفي قَتْرَةِ الظَّلاَمِ الاَيْهَمِ » فالضمير يحيل على المرسلين المتقدم «جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ

ص: 202


1- خصائص التراكيب، د.محمد أبو موسى، مكتبة وهبة القاهرة، ط 4، 1416 ه/ 246 .
2- المائدة: 8.
3- يوسف: 26 .
4- القدر: 1.
5- ينظر قضايا في اللغة واللسانيات / 61 .

الأمانة عَلَ وَحْيِهِ، وَحَّمَلَهُمْ إِلى الُمْرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ» وكذلك الضمير (هي) في قوله: «لَمَّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ علَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الاَرْضِ النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ الِجْبَالِ الاَعْشابَ، فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا، وَتَزْدَهِي بِمَ أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ، أَزَاهِيرِهَا، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ... » ومن الإحالة بالضمير (هم) قوله:«كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ عَلَ الْخِلْقَةِ الُمْخْتَلِفَةِ الْقُوَى، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ » فاستعمل الضمير (هم) أربع مرات وكله يحيل علىالعادلين في بداية الفقرة. وقد عمل الضمير هنا على ربط وشائج النص، وأغنى عن ذكر اللفظ المرجع مرات عديدة. وكذلك استعمال ضمير المخاطَب (الكاف) مرات عديدة:

الله(جل):

بك

شبهوك

نحلوك

جزأوك

قدروك

وقد قامت الضَّمائر على النص السابق بدوْرِها في ترابُط النَّصِّ، فقد لعِب الضَّمير الدَّور الأساسيَّ في ترابُط النَّصِّ، فالضَّمير العائد إلى ذات الله كان المركز والمحور الذي يدور حوله النص، فالجمل كلُّها ترتبط به وتشَدُّ إليْه، فلم تخلُ جُلة من جُل النَّصِّ من ضمير رابط يشدُّها بما سبقها ويربطها بما سبق.

ومن استعمال ضمير المخاطب (أنت) « اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الَجْمِيلِ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُول، وَإِنْ تُرْجَ فأَكْرَمُ مَرْجُوٍّ » وهذه الإحالة إحالة مقامية خارجية، فالمرجع خارج النص، عمل على ربط النص بذلك المرجع الإحالي. ومن المعلوم أن الضمير أنت لا يقف استعماله عند الجانب الإحالي، إذ يطلع بدور تداولي

ص: 203

مهم، فيشير إلى أن المشاركين في الخطاب ذوو علاقة وثيقة من الناحية الاجتماعية، وقد فرض (لاكوف) في قاعدة التودد وجوب استعمال الضمير الدال على المخاطب لجلب العطف والرحمة من المستمع، خصوصا إذا كان أعلى درجة من المتكلم.

وقد تكون الإحالة بضمائر المتكلم كما في قوله: «اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لي فِيَما لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ، وَلاَ أُثْنِي بِهِ عَلَي أَحَد سِوَاكَ، وَلاَ أُوَجِّهُهُ إلِيَ مَعَادِنِ الَخْيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَعَدَلْتَ بِلِسَاني عَنْ مَدَائِحِ الاْدَمِيِّينَ، وَالثَّنَاءِ عَلَي الَمْرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ. اللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْنعَلَ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاء، أَوْ عَارِفةٌ مِنْ عَطَاء، وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَليِلاً عَلَ ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الَمْغْفِرَةِ» فالضمائر في (لي، أثني، لساني، رجوتك) ضمائر المتكلم تحمل قيمة تداولية تتمثل في اعتماده أساسا على مبدأ المشاركة بين طرفي العملية التواصلية، لأنه يحمل مشاركة ذهنية بين المتكلم والمخاطب وهي من تطلع بفعل الإحالة، وهذا ما يسهل على الإمام في استدعائه لتضامن المخاطب له وانصياعه لخطابه.

فضلا عن الضمائر المستترة. وكذا ضمير المخاطب، الذي يحيل على مرجع خارج النص فضلا عما ذكرته قبل أسطر، ففي قوله:« اللَّهُمَّ وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ، وَلَم يَرَ مُستحِقّا لِذِه المحَامِدِ وَالمْمَادحِ غَيرَكَ، وَبِي فَاقَةٌ إِلَيكَ لا يْجَبُرُ مَسْكَنتَهَا إلِا فضْلُكَ، وَلا يَنعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إلِا مَنُّكَ وَجُودُكَ، فَهَبْ لَناَ فِي هذَا المقَامِ رِضَاكَ، وَأَغْننِاَ عَنْ مَدِّ الاَيْدِي إِلَي مَن سِوَاكَ، (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فالكاف في (أفردك، لك، غيرك،إليك، فضلك، منك، وجودك، رضاك، سواك، إنك):

ص: 204

الذات الإلهية :

أفردك

لك

غيرك

إليك

فضلك

منك

وجودك

رضاك

سواك

إنك

تحيل على مرجع واحد ذكر في بداية الفقرة وهو قوله:(اللهم).كذا عملت الإحالة هنا فضلا على الربط النصي، عملت تماسكا وظيفيا في بنية الخطاب، فاطلع الضمير بتبيين الوظيفة الدلالية للمرجع الإحالي، وكون تملك تلك الوظائف راجع له وحده، فالهبة والفضل والرضا...الخ راجعة لمرجع واحد.نسجل هنا أننا نرى أن الإحالة المقامية يمكن لها أن تساهم في عملية الاتساق النصي وهو خلاف ما ذهب إليه بعض علماء النص، فاطلعت بمهمة الربط فضلا عن الدور التداولي الذي لعبته من خلال ربطها سياقات الخطاب بعضها ببعض.

ممَّا سبق يتَّضح جليا الدَّور الهام الذي تقوم به الضَّمائر كأدوات ترابط نصية في تَقيق نصيَّة النَّصِّ، ببناء شبكة العلاقات الَّتي تربِط بين أجزاء النص ربطًا محكمً يتَّحد فيه البناء، ولو أردْنا تشبيه هذا الدَّور النصِّ للضَّمير في عمليَّة التَّابط النصي، ولم يك ذلك الترابط شكليا فقط بل اطلعت بالربط الدلالي، فضلاً عن ربك سياقات القول ومقاماته، وكذلك أواره وقصد المتكلم وتفاعل قصده مع السامع.

ص: 205

ثانيا:أسماء الإشارة:

عدها سيبويه من المبهمات(1)، فتقع على العاقل وغيره،على أعلام الأشخاص وأسماء الأشياء وتعد ثاني عناصر الاتساق النصي، ولا تظهر دلالاتها في ما تحيل عليه، وتوضح مدى القرب والبعد من المتكلم.وتطلع أسماء الإشارة بدور تداولي من دواعي استعمالها؛ ذلك لأن ذلك الاستعمال متأتي من قدرتها على تجسيد التضامن، يقول السكاكي: «وأما الحالة التي تقتضي كونه(المسند إليه) اسم إشارة فهي متى صح إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة إليه حسا واتصل بذلك داع مثل أن لا يكون لك أو لسامعك طريق إليه سواها، أو أن تقصد بذلك أكمل تمييز له وتعيين... أو أن تقصد بقربه تحقيره واسترذاله... وببعده تعظيمه .(2)»

وتحال بطريقتين :

1. بأسماء الإشارة، وثمة ثلاثة مستويات:

بعيدة ويعبر عنها ب(ذلك وفروعه) ومنه (ذلك) في خطبة الأشباح في قوله: «فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَ دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِّمَا لَيْسَ فِ الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِ سُنَّةِ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ » وهي إحالة تركيبية، فاسم الإشارة (ذلك) يحيل على قوله: فَكِل علمه. والإحالة باسم الإشارة (تلك) في قوله: «ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِسْكَانِ سَمَوَاتِهِ، وَعِمَرَةِ الصَّفِيحِ الاَعْلَي مِنْ

مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلَاَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ ».وهي إحالة بعدية؛ لأن المرجع مذكور بعد اللفظ المحيل،

ص: 206


1- ينظركتاب سيبويه 1/ 125 .
2- مفتاح العلوم / 183 - 184 .

وساهمت الإحالة هنا بشد الانتباه وتهيئة المتكلم للخطاب اللاحق؛ لما له من الأهمية في ثنيات النص.

وقريب ويعبر عنه ب- (هذا وفروعه) ومنه في إحالة (هذه، وهذا) «اللَّهُمَّ وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ، وَلَمْ يَرَ مُستَحِقّاً لِهذِهِ الَمْحَامِدِ وَالَمْمادِحِ غَيْرَكَ ».وهي إحالة بعدية قريبة، فالمرجع الإحالي مذكور بعد اللفظ المحيل.

2. الإحالة بالإشارة الظرفية:

يوجد أسماء إشارة في العربية تفيد الظرفية، وهي (ثم وهنا) وقد تلحق الكاف بهنا فتصبح (هناك).ومنه في قوله: «جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الاَمَانَةِ عَلَ وَحْيِهِ، وَحَّمَلَهُمْ إِلى الُمْرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ... » فالإحالة هنا قبلية نصية، أحالت على المذكور سابق من قوله:« ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِسْكَانِ سَمَوَاتِهِ، وَعِمَرَةِ الصَّفِيحِ الاَعْلَي مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ... » فالظرف أحال على السماوات المذكور، وأفادت الإحالة هنا فضلاعن ربط النصي معنى تداولي، بأن هيئة للمتلقي صورة واضحة ونقلته إلى المكان الذي جاء الحديث عنه.

ثالثا: الموصولات:

تقوم الأسماء الموصولة بوظيفة الضمائر من حيث المرجع والربط فمثل: رأيت الرجل الذي تحدث عنه الناس فالذي حيل أو يرجع إلى الرجل، فيرتبط بما قبله وما بعده عن طريق ضمير الصلة.

أَشارَ بوجراند إلى الاسم الموصول بوصفه «وسيلةً من وسائل الإحالة »(1)، وذكرها الأزهر الزناد وقال: «أنّا من الألفاظ الإحالية التي لا تملك دلالة مستقلة، بَلْ تعودُ إلى

ص: 207


1- ينظر النص والخطاب والإجراء/ 32 .

عنصر أَو عناصر أُخرى مذكورة في أجزاءٍ أُخرى من الخطاب »(1)،فلا تمتلك دلالة مستقلة بل تكون دلالتها فيما تحيل عليه، وتقوم على مبدأ التماثل والتطابق فيما هو موجود، يظهر جليا في الاسم الموصول المخصوص (الذي، التي، اللذان اللتان،الذين...) وتقوم بوظيفة الربط الاتساقي من خلال ذاتها،وما تحيل عليه،فتصنع ربطا مفهوميا بين ما قبلها وما بعدها.

ومن الإحالات الموصولية في خطبة الأشباح «الأول الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيءٌ قَبْلَهُ، والآخرالَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ» فالإحالة هنا مقامية خارجية، أحالت على مرجع خارج النص وهو الله (سبحانه) استفدنا من الضمير في صلة الموصول في تحديد ذلك المرجع والاسم الموصول (التي)في قوله: «وَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أحْدَثَها آثَارُ صَنعَتهِ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَليِلاً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَي الُمْبْدِعِ قَائِمَةٌ» فالإحالة هنا نصية قريبة أحال اللفظ المحيل على مرجع قريب داخل النص وهو قوله: «البدائع » و(الذين) في قوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِ الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الَمْضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ ».وقد تكون الإحالة بال الموصولة، كما في قوله: «وَنَظَمَ بِلاَ تَعْلِيق رَهَوَاتِ فُرَجِهَا، وَلاَحَمَصُدُوعَ انْفِرَاجِهَا، وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهَا، وَذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ، وَالْصَّاعِدِينَ بِأَعْمَلِ خَلْقِهِ... » فال التعريف في الهابطين والصاعدين موصولة.

الإحالة بأل التعريف:

تقسم أل في العربية على ثلاثة أقسام « فالعهدية: هي التي عهد مصحوبها، بتقدم ذكره. نحو: جاءني رجل فأكرمت الرجل، أو بحضوره حساً، كقولك لمن سدد سهماً:

القرطاس، أو علماً، كقوله تعالى (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)(2)،و أَلْ العَهْدِيّة: ثلاثة أنواع:

ص: 208


1- نسيج النص / 118 .
2- التوبة: 40 .

1. لِلعَهْد الذِّكْرِي: وهي التي يتقدم لمَصْحوبها ذكر نحو (كَما أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَونَ رَسُولاً، فَعَصَي فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(1).

2. للعَهْد العِلمي، ويقال له: العَهْدُ الذِّهْني، وهو أنْ يَتَقَدَّم، لِمَصْحوبِا عِلْمٌ نحو:) (إنَّكَ بالوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى)(2). و(إذْ هَمُا في الغَارِ) لأنَّ ذلك مَعْلُومٌ عندهم.

للعَهْدِ الحُضُورِي: وهو أنْ يكونَ مَصْحُوبُا حَاضِاً نحو (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ)(3) أي اليَوْمَ الحَاضِرَ وهُوَ يومُ عَرَفَةَ ونحو «افْتَحِ البابَ للدَّاخِلِ ». ومنه في بداية خطبة الأشباح في قوله (عليه السلام): «فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ... » فال التعريف في السائل عهدية؛ لأنها أحالت المتلقي على عهد ذكري سابق بين المتكلم والسامع، وذلك أن سبب الخطبة هو ذلك السائل الذي سأل الإمام عن وصف الله مما دفع بالإمام إلى الصعود على المنبر والخطبة بالناس.والجنسية بخلافها. وهي قسمان: أحدهماحقيقي، وهي التي ترد لشمول أفراد الجنس. نحو (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)(4)، ومنه في خطبة الأشباح في قوله: «جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الأمانة عَلَ وَحْيِهِ، وَحَّمَلَهُمْ إِلى الُمْرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ... » فال التعريف في الشبهات جنسية، وتعني عصمهم من جنس الشبهات،وكذا في قوله: «الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَ غَيْرِ مِثَال امْتَثَلَهُ، وَلاَ مِقْدَار احْتَذَى عَلَيْهِ.. » فال التعريف في الخلق جنسية أي ابتدع جنس الخلق. والآخر مجازي، وهي التي ترد لشمول خصائص الجنس، على سبيل المبالغة. نحو: أنت الرجل علماً، أي: الكامل في هذه الصفة. ويقال لها: التي للكمال، وأما التي لتعريف الحقيقة، ويقال لها: لتعريف الماهية، فنحو قوله

ص: 209


1- المزمل: 15 - 16 .
2- طه: 12 .
3- المائدة: 3.
4- العصر: 2.

تعالى: «وَجَعَلنَا مِنَ المَاءِ كُّلَ شَيْءٍ حَّيٍ»(1)، واختلف في هذا القسم. فقيل: هو راجع إلى العهدية. وقيل: راجع إلى الجنسية. وقيل: قسم برأسه».(2)

رابعا: الإحالة بالمقارنة:

تعمل المقارنة في ترابط النص وتقوم على شيئين يشتركان في سمة، فيقوى أحدهما على الآخر، فالمقارنة تقوي المقارن بالمقارن به فتعمل على كسر القيد الدلالي عن المشبه

وفتحه على احتمالات الدلالة التي يقدمها المشبه به، وكذلك تعني وجود عنصرين يقارن النص بينهما، وتنقسم إلى المطابقة والتشابه، وتقوم على ألفاظ من مثل وصف الشيء بأنه شيء آخر أو يماثله أو يوازيه، وبعضها يقوم على المخالفة كأن تقول): يضاد أو يعاكس أو أفضل أو أكبر أو أجمل)(3)، والإيحاء مقرون مع المقارنة على مستوى النص في توجيه الدلالة من الغموض إلى الوضوح ومن التخيل إلى الحقيقة لرسم الصور المتعاقبة وتعمل المقارنة من ناحية الصدق الفني في ربط أجزاء النص، فالمقارنة تقوم بوظيفة اتساقية في النص وتقسم على:

1. 1. عامة، وتتفرع إلى: التطابق(مطابق مكافئ، مرادف، نفسه عينه مماثل مساو) والتشابه)شبيه، مشابه) والاختلاف(مخالف، مختلف، مغاير، آخر، أيضا)(4).

2. 2. خاصة، وتتفرع إلى كم وكيف (اسم التفضيل وفروعه) ومنه في خطبة الأشباح في قوله: «ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِسْكَانِ سَمَوَاتِهِ، وَعِمَرَةِ الصَّفِيحِ الاْعْلَي مِنْ مَلَكُوتِهِ،

ص: 210


1- الأنبياء: 30 .
2- الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي / 194 - 195 .
3- لسانيات النص / 19 .
4- ينظر قضايا في اللغة واللسانيات / 82 .

خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلاَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الُمْسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ... » فأحالت لفظة الأعلى على وجود منازل عديدة في ملكوته، فاختار لهؤلاء المنزلة الأعلى بينها وقامت تلك اللفظة الإحالية برسم صورة واضحة في ذهن المتكلم، بحيث رتبت الملكوت الأعلى على مراتب، وأشارت بأن كل مرتبة عليا يسكنها من علت مكانتهم، وفاضلت وقارنت بين تلك المنازل.وكذا قوله: «اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الَجْمِيلِ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُول، وَإِنْ تُرْجَ فأَكْرَمُ مَرْجُوٍّ.اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لي فِيَما لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ، وَلا أُثْنيِ بِهِ عَلَي أَحَد سِوَاكَ، وَلا أُوَجِّهُهُ إلِيَ مَعَادِنِ الَخْيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَعَدَلْتَ بِلِسَاني عَنْ مَدَائِحِ الاْدَمِيِّينَ، وَالثَّنَاءِ عَلَي الَمْرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ. اللهُّمَّ وَلكِلِّ مُثنْ عَلَي مَنْ أثَنْىَ عَليَهِ مَثوُبَةٌ مِنْ جَزَاء، أوْ عَارِفةٌ مِنْ عَطاَء; وَقدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَ ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الَمْغْفِرَةِ... » فعلمت لفظة (خير) على المقارنة بين مراتب المؤملين عند الإنسان وفضلت من أمل بالله على غيره، فصار لدى المتلقي علم بأن الخير يمكن أن يطلب من غير الله ولكنه حينئذ يكون زائلا، ولكن بالمقارنة مع الخير المرجو من الله ذلك الخير الباقي ما بقيت الحياة وما اختلفت منازلها وسواء أ كانت حياة دنيا أم أخرى، ولفظة(أكرم) التي قامت بالمقارنة مع من يرجوهم الإنسان، وفضلت الله على كل المرجوين.

اطلعت الإحالة بأدوار مهمة في خطاب الإمام (عليه السلام) فقامت بوظيفة الربط الشكلي، على مستوى الربط النصي بربط وحدات النص الداخلية مع بعضها، وكذلك الربط المقامي الخارجي، بربط النصوص بمراجعها الخارجية فعمد الإمام (عليه السلام) إلى إستراتيجية خاصة تقوم على ربط النصوص،واعتبار النص كلا متماسكا، فأضحى خطابه (عليه السلام) متماسكا متساوقا، ليس على صعيد نصوصه بل على صعيد النص ومراجعه الخارجية. كما لعبت العناصر الإحالية بمختلف أنواعها في تماسك النص، من

ص: 211

ضمائر وأسماء إشارة وموصولات وغيرها.

استعمل الإمام مئات الإحالات وخصوصا بضمائر الغيبة والمخاطب التي تحيل على الذات الإلهية، ولم تطلع تلك العناصر بوظائف الربط الإحالية أو الشكلية فحسب، وإنما قامت بربط الخطبة، موضوعيا من خلال ربط الخطاب بالمرجع الأول لمعاني الخطبة، وهي الذات لإلهية، فنوع الإمام (عليه السلام) الخطاب وقسمه وتنقل بين أنواع عدة خلال الخطبة، لكن بقيت العناصر الإحالية من يربط خطابه بعضه ببعض، فتنقل بين توحيد الله ونفي الصفات المادية عنه، إلى ذكر صفاته (جل) ثم إلى علم الله وقدرة الله، وبيان إنعامه وجوده ورزقه على الناس، كل تلك الموضوعات وجهت بوساطة العناصرالمحيلة إلى مرجع خارجي، وهو الذات الإلهية، التي تمركزت الخطبة على مدحها والثناء عليها.

ومن ثم نرى أن التماسك النصي في الخطبة تجسد في الصلابة والوحدة والاستمرار. فالتماسك هو الذي يبرز خواص أي نظام للتفكير سواء أ كان نظرية أم نصيا، ويعني أن أجزاء هذا النظام لابد من ترابطها الحميم فيما بينها، مما يقتضي أن تقوم بينها روابط تمّثل شبكة لضبط العلاقات القريبة والبعيدة. وهو خاصية دلالية للخطاب تعتمد على فهم كلّ جملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجمل.

ص: 212

الخاتمة

ص: 213

ص: 214

خاتمه

كون المتلقي محور خطاب الإمام (عليه السلام)، فكانت غايته (عليه السلام) إقناع ذلك العنصر المتعنت، ولاسيما في ظل عصف الظروف والشبهات والمحن وأهواءالنفس والمال التي سيطرت على نفوسهم،فما كان منه (عليه السلام) إلا أن يخاطب الناس وفق مبادئ محكمة رصينة، فاقت كل العلوم وأسست لعلوم أخرى، ومثلت نبراسا لمن خلفه.وبذلك اختلفت الاستراتيجيات الخطابية التي استعملها تبعا لاختلاف المتلقي وسياقات الخطاب. ولأجل الكشف عن تنوع تلك الاستراتيجيات ذهبت إلى أن المنهج التداولي بوصفه منهجا تحليليا وتفسيريا ونقديا متكاملا،خير من يستطيع تحليل استراتيجيات الخطاب عند الإمام (عليه السلام)، فهو منهج يرقى فوق المناهج اللسانية المعروفة ولاسيما الشكلانية أو الوصفية، ويرتق فتوقها، ويقوم ما اعوج منها، ولاسيما أنه لم يهمل أهم جوانب التحليل اللغوي، ونعني بها المتلقي، ذلك الجانب المظلم المهمل في الدرس اللساني العربي، قديمه وحديثه، فلم يكن واردا في ذهن اللغويين وأطروحاتهم

المرجع الأول للحدث اللغوي، فكان من نتائج ذلك الإهمال أن اعترى المناهج اللغوية النقص، وسادها التخبط، وبخاصة في مناهج الدرس اللساني المحدثة، ولاسيما البنيوية التي جعلت من النص محور الدرس اللساني، ولم تعنى سوى ببنيات الحدث الكلامي من التراكيب النحوية، والدلالات اللفظية، في ضوء المقاربات مع المتشابهات المعنوية، فتساوقت مبادئ الدرس التداولي المحدث مع الصفات المعرفية لخطاب الإمام (عليه السلام)

وكان مما أشار إليه البحث عناية رواد الدرس التداولي بالمتلقي للخطاب، وجعله ركناأساسيا في عملية تفسير الحدث الكلامي وطريقة تفاعل النص مع مستعمليه، فالتداولية علم استعمال اللغة من قبل مستعمليها، تركز على طريقة فهم النصوص وتأويلها من قبل المخاطب، فهو مرجع البحث عن معنى النصوص، ومتحكم بطريقة التأويل، وكل

ص: 215

صفاته الثقافية والتاريخية والمعرفية تؤثر في إنتاج الحدث الكلامي.

نشأ الدرس التداولي في رحم النهج الفلسفي التحليلي، وتحليل اللغة العادية بخاصة، فقد سادت في بدايات القرن العشرين فكرة أهمية اللغة في التواصل الاجتماعي، فنشأة النظرية التداولية توافقت مع نشأة العلوم المعرفية، إذ كان التفكير في الذكاء الاصطناعي في سياق عقلية جديدة، مهدت لظهور العلوم المعرفية، وأهمية اللغة تكمن بأنها ترتبط العلوم المعرفية بعضها ببعض، كعلم النفس والاجتماع واللسان والفلسفة، وعدت اللغة محور الدراسات الفلسفية، إذ تعترف الفلسفة التحليلية بالدور الحيوي الذي تؤديه اللغة في التحليل الفلسفي، التي كانت المهاد الأول للنظرية التداولية، فمركزية اللغة بالنسبة للفلسفة فكرة سائدة عند الفلاسفة، إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة يمكن فهمها فهما جيدا عن طريق العناية باللغة، هذا تحول في التحليل الفلسفي نحو الاهتمام باللغة، يسمى بالعرف الفلسفي ب(التحول اللغوي).

تعددت الاستراتيجيات التي استعملها الإمام (عليه السلام) وتنوعت على أقسام:

1. استراتيجيات توجيهية.مثلتها نظرية أفعال الكلام في الفصل الثالث.

2. استراتيجيات تلميحية. مثلها مفهوما الاستلزام والاقتضاء التخاطبيين في الفصل الأول والرابع.

3. استراتيجيات تضامنية.مثلها ببعدها اللغوي مفهوم الإحالة في الفصل الخامس.

4. استراتيجيات إقناعية. مثلها مفهوم الحجاج في الفصل الثاني.

الاقتضاء التخاطبي: العلاقة بين مواضعات المتكلم والسياق، المرتبطة بشبكةالعلاقات حول النص، سواء أكانت طبيعتها منطقية أم لسانية أم بلاغية أم تداولية أم أصولية، ويمكن أن نعرفه بأنه المعاني المسكوت عنها في الخطاب،أو هو تلك المعلومات

ص: 216

غير الملفوظة في الخطاب،التي يستغني عنها الملقي؛ ليقينه بعلم المتلقي بها، التي يعتمد عليها فهم المعنى، فكل جملة أو تعبير تحتوي على تصوير لحال معينة، تقتضي جملا أو تعبيرات أخرى.

وأهم مميزات الاقتضاء، أنه يقدم تفسيرا صريحا لمقدرة المتكلم على أن يعني أكثر مما يقول بالفعل، أي أكثر مما يعبر عنه بالمعنى الحرفي للألفاظ المستعملة، إذ يفسر الاقتضاء تلك الخلفيات المعلوماتية المشتركة، بين المتكلم والمتلقي، وتنوعت الاقتضاءات التخاطبية في الخطبة الشقشقية، بين اقتضاءات الإمام، وخلفيته المعرفية، واقتضاءات المتلقين، وخلفياتهم المعرفية، ومقام الحدث الكلامي وما أفضاه على دلالات الخطبة. واختلفت طرق الخطاب عند الإمام، فتنوعت بين اقتضاء متعارف(حرفي)، وآخر غير متعارف، خرق الإمام به قواعد الحوار، وخرج الكلام إلى صور مجازية متنوعة. وكان الانتقال في المعاني التي ذكرها الإمام يكون بالانتقال من المعنى الحرفي، إلى المعاني المتلازمة لهذه الألفاظ، فينقل المعنى الاقتضائي إلى الدلالات الحرفية الملازمة للألفاظ، ومن ثم ربط تلك الدلالات بما استعير له من الألفاظ.

كشف البحث عن أن الحجاج فعالية برجماتية / جدلية: فهو برجماتي لأن آلياته الفكرية مقامية واجتماعية، فيضع مقامات التلقي بعين الاعتبار من معارف مشتركة خلفيات معرفية متشاركة. ويهدف إلى إنتاج معارف مشتركة اجتماعيا. وهو أيضا جدلي؛ لأن هدفه إقناعي يتمحور حول استدعاء أكبر قدر من الصور، وأغنى من البنيات البرهانية الضيقة، كأن تبنى الانتقالات فيه لا على صور القضايا وحدها كما هو شأن البرهان، بل على اجتماع الصور والمضمون، وأن يطوى في هذه الانتقالات كثيرا من المقدماتوالنتائج، وان يُفهِم المتكلم المخاطب معاني غير التي نطق بها تعويلا على قدرة المخاطب على استحضارها إثباتا أو إنكارا كلما انتسب إلى مجال تداولي مشترك مع المتكلم.

ص: 217

تنوعت الاستراتيجيات البرجماتية الحجاجية في خطبة الجهاد، فقد وضع الإمام (عليه السلام) هدفا واضحا مفاده إقناع المتلقي بفلسفة الجهاد، وضرورة الزحف،

فوظف في سبيل ذلك جملة من استراتيجيات الإقناعية التي ساقها في سبيل إقناع المتلقي، وقد تنوعت هذه الاستراتيجيات على ما يأتي:

1. استراتيجيات منطقية: تمثلت في المقدمات الحجاجية التي مهدت الطرق لعملية الإقناع، من حقائق ووقائع مشتركة، ثم منطلقات حجاجية تمثلت في حجج متنوعة أهمها حجج التتابع السببي وكذلك حجية السلطة، وحجية التناقض.

2. استراتيجيات تداولية: تمثلت في أفعال الكلام التي جاءت في مسار حجاجي، مرة بالوعد والترغيب، وأخرى بالوعيد والتهديد، أسهمت في دفع المتلقي ورسم مسار العملية الإقناعية، وكذلك لعبت السلالم الحجاجية دورا في وضوح أهداف الحجاج، وتراتبيتها المنطقية، ولعبت الروابط والعوامل الحجاجية دورا مهما في عملية الإقناع.

3. استراتيجيات بلاغية: أسهمت مباحث علم البيان في توضيح الفعل الحجاجي، وبيان مساره خدمة للعملية الإقناعية، من مباحث الكناية والتشبيه، التي ساقها الإمام، واعتمد على خاصيتها الحجاجية.

يمكن أن تكون نظرية أفعال الكلام بؤرة العملية التواصلية في خطاب الإمام (عليه السلام) ذلك لتوسع الخلفيات المعرفية التي ولدت منها، واتساعها لتشمل مباحث عديدة لسانية وخطابية ومعرفية متميزة، وقد مثلت نظرية أفعال الكلام بؤرة المنهج التداولي، بدءا من أوستين الذي ميز بين الملفوظات الوصفية والإنجازية، ثم حاولالتقريب بينهما، رافضا فكرة التمييز بين الخبر والإنشاء،منشئا ما يسمى بالقوة الإنجازية ومقسما الفعل الكلامي على ثلاثة أقسام فعل القول والكلام والإنجاز، ثم جاء بعده الخاتمة

ص: 218

تلميذه سورل الذي طور النظرية وأضاف فعل التأثير وأعاد تقسيم الأفعال التي قسمها أستاذه، ورأينا كيف اطلعت تلك النظرية بتحليل القوة الإنجازية لبعض من أقواله (عليه السلام) فكانت أساليب الأمر والاستفهام وغيرها منتجة قوى ودلالات استلزامية بعيدة عن معنى الاستفهام، ومنجزة ومؤثرة في المتلقي مرة بالترهيب وأخرى بالاستنكار وثالثة بالتعجب ورابعة بالتهكم وغيرها.

جاء معظم خطاب الإمام (عليه السلام) بعيدا عن دلالات الألفاظ الحرفية؛ ذلك للرصيد الفكري الكبير الذي امتلكه الإمام، وكذلك لوعيه بأفضلية المعاني المنزاحة عن الأصلية، ومثل ذلك الخطاب لوحة مشرقة في تاريخ البيان العربي، أما في النظرية التداولية فقد مثل المعنى الضمني خاصية مهمة من خصائص واهتمامات تلك النظرية، فبحث في صفات اللغات الطبيعية؛ كونها تتيح لمستعمليها الخروج عن الكلام المباشر إلى الكلام غير المباشر (المعنى المستلزم) ويتيح النهج التداولي للمتكلمين الكشف عن المعنى المستلزم والوصول إليه بطرق وقواعد مرتبة وبعمليات استدلالية معروفة، فمن المعروف أن العملية التحاورية تخضع لمبادئ حوار ثابتة، تقيد كلام المتحاورين، وتوجب الأعراف اللغوية على طرفي الحوار احترام تلك المبادئ، وإن أي خرق لتك المبادئ يؤدي

إلى اختلال المعنى وانزياحه عن المعنى الحقيقي إلى معنى مستلزم. فرحت أبحث عن الدلالات المستلزمة في بعض من خطابات الإمام (عليه السلام) ولاسيما في مباحث الكناية والاستعارة، وقمت بتحليل خطابه وفقا للمبادئ الحوارية المعروفة، والتمسنا الخروقات التي حصلت لتلك المبادئ، ومن ثم انطفاء المجالات الدلالية المعهودة، وتجلي مجالات دلالية أخرى تشكل إطارا لتلك المعاني المستلزمة.

شكل النص محور الدراسات اللسانية فيما بعد الوظيفية؛ فجاء حاملا لأفكار كثير من المناهج ولاسيما البنيوية ومت بعدها، فالنص عبارة عن قطعة لغوية ما ذات دلالة و وظيفة، فهو قطعة مثمرة من الكلام، وذهب أغلب الباحثين إلى أن معالجة النص ينبغي

ص: 219

فيها تحليل الأسس الحاملة للمعلومات وتأثيراتها الداخلية - داخل النص - والانتقال من مضامين خارج النص (قضايا الموقف والسياق)، وضرورة الاستعانة بالعلوم الأخرى فهو علامة لغوية أصلية، تبرز الجانب الاتصالي والسيميائي، وفيه تقديم اللفظ على المعنى ولكنه يبرز الدور الاتصالي؛ لما له من أثر في تكوين الخطاب، من هنا نستطيع أن نجد المقاربة بين لسانيات النص والنهج التداولي، فضلا عن كون أهم عنصر من عناصر التماسك النصي (الإحالة) يعد عنصرا مميزا من عناصر التماسك النص. فمما لا شك فيه أن قضية التماسك النصي من أهم القضايا التي شغلت علم اللغة النصي ونحوالنص، فاحتل التماسك موقعا مركزيا في الأبحاث النصية التي تعنى بدراسة النصوص اللغوية، التي جاءت لتتجاوز لسانيات الجملة لتناسب النصوص بوصفها جملا كبرى (كلية النص)؛ لأن النص في منظور علماء النصية جزء لا يتجزأ، تربط بين أجزائه عناصر معينة. فثمة عوامل غير لسانية تساهم في بنية النص، وتوجه عملية التخاطب، كبيئة

المتكلم، والفضاء الزمكاني، ونوعية المستمع، تسهم بشكل كبير في عملية التواصل، وهذا خلاف ما جرت عليه النظرية البنيوية، والنحو التوليدي بصفة خاصة، من اعتبار الوظيفة التمثيلية للغة وظيفة أساسية، وما الوظيفة التواصلية إلا وظيفة ثانوية.

فذهبت أتلمس الاتساق النصي في خطابه (عليه السلام) واخترت خطبة الأشباح أنموذجا، وكشفت عن عناصر الاتساق فيها وكيف أسهمت في بناء الوظيفة للخطبة.

من عناصر إضمارية وأخرى إشارية وثالثة موصولة، اطلعت تلك العناصر بربط ذلك النص بعضه ببعض، وكذلك ربطته مع العالم الخارجي، وكل المراجع الإحالية خارجه،فجاءت الخطبة بذلك متساوقة متماسكة منسجمة، مرتبطة وشائجها.

تنوعت الاستراتيجيات الخطابية التي تناولتها في هذا البحث، فكشفت عن تنوع الخطاب تبعا لتنوع سياقاته وتنوع متلقيه، فاستراتيجيات خطاب السلم تختلف عنها في الحرب، كما تختلف عن تلك التي تقال في الترغيب عنها في الترهيب، والتهنئة والشكر

ص: 220

تختلف عن الذم والتقريع، كشف البحث عن أن مقاربة خطاب الإمام علي(عليه السلام) في ضوء النظرية التداولية كشف لنا أبعاد ذلك الخطاب وفحواه، فوجدناه خطابا حركيا غير قارٍ يتحرك باتجاه المتلقي ويدور ما دارة منفعته، اكتسى بلباس النفع والنصيحة والإرشاد، وابتعد عن لباس الحيلة والمكر والدهاء، تلون بلون منفعة الناس في الدنيا والآخرة، كشفنا عن دور المتلقي في إنتاج ذلك الخطاب وتوجيهه وتغير استراتيجياته، وهو خلاف ما ذهب إليه المنهج الوصفي والبنيوي بصورة خاصة، فكشفنا عن أهمية

السياق في ذلك التنوع ودوره الكبير في إنتاج الحدث الكلامي.

ص: 221

المصادر

- القرآن الكريم.

- الاتجاه التداولي والوظيفي في الدرس اللغوي، نادية النجار، مؤسسة حورس، الإسكندرية، ط 1، 2013 .

- الأحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الرياض، المملة العربية السعودية، ط 1 2003 م.

- استراتيجيات الخطاب، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتب الجديدة، بيروت، لبنان، ط 1، 2004 م.

- أشكال التواصل في التراث العربي البلاغي في ضوء اللسانيات التداولية سليم حمدان، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة لخضر باتنة، 2009م.

- أفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود احمد نحلة، دار المعرفة الجامعية 2002.

- الاقتضاء في التداول اللساني، مجلة عالم الفكر مج 20 ، العدد الثالث، 1989 عادل فاخوري.

- الاقتضاء وانسجام الخطاب، د. ريم الهمامي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان ط 1 2013 م.

- أنطقة المحرم، سعد محمد رحيم، دار ومكتبة عدنان، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 2013 م.

- أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، مجموعة باحثين،

ص: 222

تونس د. ت، د. ط.

- الإيضاح في علوم البلاغة الخطيب القزويني(ت 739 ه)دراسة وتحقيق:محمد عبد المنعم خفاجي دار الجيل - بيروت ط 3.

- البعد التداولي والحجاجي في القرآن الكريم، د. قدري عمران، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط 1، 2012 .

- بلاغة الإقناع في المناظرة، د. عبد اللطيف عادل، منشورات ضفاف / الاختلاف، بيروت لبنان ط 1، 2013 م.

- تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني،أبوالفيض، الملقّب بمرتضى،الزَّبيدي تحقيق مجموعة من المحققين الناشر دار الهداية.

- تاريخ نظريات الحجاج فيليب بروتون، جيل جوتيه، ترجمة محمد صالح الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، الرياض، ط 1، 2011 م.

- التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 ه)، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت

- لبنان ط 1 2000 م.

- تداوليات الخطاب السياسي، نور الدين أجعيط، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط 1،2012 .

- التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجاك موشلار، ترجمة د. محمد الشيباني، دار الطليعة للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط 1، 2003 م.

- التداولية عند العرب،مسعود صحراوي دار الطليعة للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 2005 م.

ص: 223

- تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، د. ت.

- التعريفات، القاضي الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1995 م.

- تفسير السراج المنير محمد بن أحمد الشربيني, شمس الدين دار الكتب العلمية بيروت.

- تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه)تحقيق: محمود حسن، دار الفكر 1994 م

- التفكير البلاغي عند العرب، حمادي صمود، دار الكتاب الجديد، بنغازي ليبيا ط 3، 2010 م.

- التفكير فلسفيا،كريس هورنر، وإمريس ويستاكون، ترجمة د. ليلى الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2011 م.

-الحجاج في البلاغة المعاصرة، د. محمد سالم محمد الأمين الطلبة، دار الكتاب الجديد،بنغازي، ليبيا، ط 1، 2008 م.

- الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، عبد الله صولة، دار الفارابي،بيروت - لبنان، ط 2، 2007 م.

- الحجاج مفهومه ومجالاته، د. حافظ إسماعيل ليوي،عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2010 م

- الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل، د. علي الشبعان، دار الكتاب الجديد، بنغازي، ليبيا، ط 1، 2010 م.

ص: 224

- حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام)، د. كمال الزماني عالم الكتب الحديث، إربد - الاردن 2012 م.

- الخطاب اللساني العربي (هندسة التواصل الاضماري)د. بنعيسى عسو ازاييط، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، اربد، الأردن ط 1 2012 .

- الخطابة في صدر الإسلام، محمد طاهر درويش.

- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)،تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي القاهرة ط 5 2004 م.

- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: محمود الألوسي أبو الفضل: دار إحياء التراث العربي - بيروت ط 1.

- شرح نهج البلاغة، كمال الدين بن ميثم البحراني(ت 679 ه)، منشورات الفجر بيروت لبنان ط 1.

- شرح نهج البلاغة: أبو حامد عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني(ت 656 ه)، تحقيق: محمد عبد الكريم النمري، دار الكتب العلمية -بيروت / لبنان - ط 1 - 1998 م.

- علم التخاطب الاسلامي، محمد محمد يونس، دار المدار الاسلامي بيروت - لبنان ط 1 2006 م.

-في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، انتشارات كلمة الحق، طهران ط 1 1427 ه.

- القاموس الموسوعي في التداولية، جاك موشلار - آن ريبول، مجموعة من المترجمين، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2010 .

ص: 225

- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي دار إحياء التراث العربي - بيروت تحقيق: عبد الرزاق المهدي.

- اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص عمر بن علي ابن عادل الدمشقي الحنبلي تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض دار الكتب العلمية -

بيروت / لبنان - 1998 ط 1.

- لسان العرب، ابن منظور (ت 711 ه) دار صادر بيروت ط 1.

- اللسان والميزان (التكوثر العقلي) د. طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1998 م.

- المستصفى من علم الأصول،أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي دراسة وتحقيق:محمد بن سليمان الأشقر،مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان الأولى ط 1،

.1997

- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي، تحقيق علي عاشور، دارإحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، مؤسسة المظفر الثقافية، النجف الأشرف ط 12008 م.

- نثر الدر،أبو سعد منصور بن الحسين الآبي دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - - 2004 م تحقيق: خالد عبد الغني محفوظ ط 1.

- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية - بيروت - 1995 م.

ص: 226

المحتويات

مقدمة المؤسسة ... 9

المقدمة... 11

التمهيد / التداولية (النشأة والتقبل): ... 15

توطئة ... 15

أولا: علاقة التداولية بعلم الدلالة: ... 17

ثانيا:علاقة التداولية بالبلاغة: ... 18

ثالثا / علاقة التداولية بالبنيوية والتفكيكية: ... 19

رابعا: علاقة التداولية بتحليل الخطاب: ... 22

ص: 227

خامسا: تداولية استراتيجيات الخطاب:.... 25

سادسا:علاقة التداولية بالفلسفة التحليلية:... 28

سابعا: تعريف التداولية: .... 33

ثامنا / أنواع التداولية: ... 36

تاسعا: مميزات تحليل الخطاب في ضوء النظرية التداولية:... 37

عاشرا: خطاب الإمام علي (عليه السلام): ... 39

حادي عشر: تداوليات الخطابة:.... 42

الفصل الأول

الاقتضاء التخاطبي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

(الخطبة الشقشقية أنموذجاً)

المبحث الأول: الاقتضاء التخاطبي ( Presupposition ) الماهيةوالأدوات ... 47

أولا / مصطلح الاقتضاء التخاطبي:.... 47

ثانيا:أنواع الاقتضاء:... 56

ثالثا: قانونا الاقتضاء التخاطبي: ... 57

رابعا: خصائص الاقتضاء التخاطبي:... 58

المبحث الثاني: الاقتضاء التخاطبي في الخطبة الشقشقية .... 60

ص: 228

الفصل الثاني

الحجاج في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

(خطبة الجهاد أنموذجا)

المبحث الأول: الحجاج المفهوم والمجالات..... 85

توطئة:... 85

أولا: الحجاج في الفكر العربي: ... 88

ثانيا:الحجاج في الفكر الغربي: .... 94

مجالات الحجاج: .... 97

-1 الحجاج البلاغي: ... 98

-2 الحجاج التداولي:... 99

-3 الحجاج الفلسفي: ... 100

المبحث الثاني: البعد الحجاجي في خطبة الجهاد .... 201

الفصل الثالث

الأفعال الكلامية في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

المبحث الأول ... 119

القسم الأول : نظرية أفعال الكلام ...119 (Actes locutoire)

(النشأة والتطور): ... 119

أولا / جهود أوستين: ... 121

ص: 229

-1 مرحلة التمييز بين الملفوظات الوصفية والإنجازية: .... 121

-2 مرحلة تقييم معايير نجاح الفعل الكلامي: ... 122

3. مرحلة الفعل الكلامي: ... 124

تصنيف أوستين لأفعال الكلام: .... 127

ثانيا / جهود سورل: ... 128

الفعل الإنجازي:... 129" Acte illocutionnaire "

المبحث الأول ... 132

القسم الثاني / أفعال الكلام في الموروث العربي: ... 231

أولا: الأمر: ... 133

ثانيا / الاستفهام: ... 133

المبحث الثاني: الأفعال الكلامية في خطاب الإمام علي (عليه

السلام) ... 531

الفصل الرابع

الاستلزام الحواري في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

(الاستعارة والكناية أنموذجا)

المبحث الأول: الاستلزام الحواري (المصطلح والأدوات): ....... 151

أولا / ماهية الاستلزام الحواري:....................................... 151

ثانيا / خصائص الاستلزام الحواري:.................................. 153

ص: 230

ثالثا /لماذا تحاورية اللغة؟:... 155

رابعا / مبادئ الحوار:.... 156

-2 مبدأ التأدب: .... 158

-3 مبدأ المواجهة: .... 160

-4 مبدأ التأدب الأقصى:.... 162

خامسا / الدلالة الحرفية والدلالة الاستلزامية:.... 166

المبحث الثاني: الاستلزام الحواري في خطاب الإمام علي(عليه

السلام)... 170

الفصل الخامس

الإحالة النصية في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

(خطبة الأشباح أنموذجا)

أولا: مفهوم النص:... 182

ثانيا / الاتساق النصي:.... 186

ثالثا: الإحالة: ...188 (Refernce)

رابعا:عناصر الإحالة: ... 190

خامسا: أنواع الإحالة.... 191

سادسا: خصائص الإحالة: تتسم الإحالة بجملة من الخصائص: .. 199سادسا: أدوات التماسك الإحالي:.... 201

ص: 231

اولا: الضمائر:... 201

ثانيا: أسماء الإشارة: ... 206

ثالثا: الموصولات: .... 207

رابعا: الإحالة بالمقارنة:... 210

الخاتمة.... 215

المصادر ... 222

المحتويات: .... 227

ص: 232

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.