أصول التشیع

اشارة

أصول التشیع

نويسنده:حسنی، هاشم معروف

اللغة:عربی

الناشر:دار التعارف للمطبوعات - بیروت - لبنان

سنة النشر:1427 هجری قمری

سنة النشر:2006 میلادی

رمز الكونغرس:BP 211/5 /ح 5 9 الف 6

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

السيد هاشم معروف الحسني

سيرة نقية،و فكر نقي...

نقاء سيرته،و نقاء فكره حقيقتان تواكبان اسمه:حيا و ميتا،حاضرا و غائبا...

ولد السيد هاشم معروف الحسني عام 1919 م في قرية جناتا(قضاء صور-لبنان الجنوبي)و في بيت من بيوت الصلاح و التقوى في جبل عامل، و في رعاية والده السيد معروف،ذلك الرجل الوقور وقار المؤمن،الوديع و داعة الناس البسطاء،الطيب كطيبة الأرض التي كانت تعطيه من خيرها الوفير بقدر ما يعطيها من جهده الجاهد،و صبره المحتسب،و بركة يديه الخيّرتين..في ظل هذه المزايا الكريمة لوالده السيد معروف،نشأ السيد هاشم نشأة كريمة أكسبته منذ الفتوّة وقار الرجال،و وداعة المؤمنين،و طيبة الناس الطيّبين كأرضهم جبل عامل..في ظل هذه المزايا بالذات تمرّس السيد هاشم بأخلاق التواضع و الصدق و عفّة اليد و اللسان و الضمير و ببساطة العيش رغم أنه عاش فتوّته و شبابه في بيت ميسور الحال موفور النعمة..

و يشهد الذين عايشوه أو عاصروه في النجف الأشرف و هو يطلب علم الدين و الشريعة هناك،إن هذه الأخلاق نفسها،و هذه العفة نفسها،و هذه

ص: 5

البساطة الطيبة نفسها،ظلت من مميزاته المرموقة التي كانت تكسبه احترام اساتذته و زملائه و أصدقائه و تلامذته،بل كانت تمنحه حبهم جميعا.

و نستطيع القول جازمين بأن هذه المميزات التي كانت تزداد ترسّخا في شخصية السيد هاشم،طوال أعوام الدراسة في النجف الأشرف،هي أساس ما عرف به أيام طلب العلم هناك من مثابرة مدهشة على الدرس و المدارسة،و من انكباب نادر المثال على الكتاب لا تلهيه عنه مغريات المجالس العامرة،يعقدها أيام العطل الاسبوعية،زملاؤه و أصدقاؤه ترفيها لنفوسهم من عناء الدرس و التدريس...هذا لا يعني أن السيد هاشم كان زمّيتا،أو انطوائيا،أو متحرّجا من مجالس الأنس البريئة،أو كان كزّ المزاج لا تطيب له مؤانسة الأصدقاء و الزّملاء..بل كان أمره على عكس ذلك.كان ألوفا سريع الإلفة طيب المؤالفة،تطرب نفسه للقاء الأصدقاء، يهتزّ جسده كله سرورا و مرحا للفكاهة اللاذعة الناقدة و يضحك لها ملء صدره،بل كثيرا ما كان هو يبادر بها و يرسلها عفوية ضاحكة محببة..غير أنه لم يدع لنفسه أن تسترسل في الاستمتاع بهذا كله،كيلا يطغى على استمتاعه الروحي بتحصيل المعرفة و العلم..لذا كان حريصا على أن يقيم التوازن بين هذا و ذاك في حياته اليومية،و كان ناجحا جدّا في إقامة هذا التوازن بالفعل...

السيد هاشم،طالب العلم،كان نموذجا محترما للطالب المنظّم التفكير و العمل..كان تنظيم عمله اليومي يتناسب مع نسق تفكيره الدقيق التنظيم..فإنه بالرغم من تعدّد عمله اليومي،كميا و نوعيا،كان يبدو صافي الذهن،هادئ الأعصاب،متهلّل الوجه،فكأنه يعمل عملا واحدا سهلا..

مرجع هذه الظاهرة فيه هو قدرته الفائقة على تنظيم فكره و عمله..هذه القدرة كانت له عونا على إنجاز أعماله اليومية كاملة و متقنة دون أن ترهقه

ص: 6

ذهنيا و لا جسديا..بهذا القدر من حسن تصريفه الأمور كانت له الطاقة المدهشة في أن يحضر في اليوم الواحد أكثر من حلقة دراسية،و أكثر من حلقة مذاكرة،و أن يمارس التدريس لأكثر من حلقة و كتاب..غير أن الأهم من كل ذلك أنه كان يتعامل مع زملائه و تلامذته كأنه هو المستفيد دائما منهم في حين كان هو يفيد أكثر مما يستفيد..من هنا كان السيد هاشم نموذجا في التواضع بقدر ما كان نموذجا في تنظيم عمله و تفكيره..

كل أخلاقه و مزاياه هذه سواء ما اكتسبه في نشأته برعاية والده السيد معروف،أم ما ترسّخ فيه منها خلال طلبه العلم بالنّجف الأشرف،هي جميعا أخذت تبرز و تتوهّج،أكثر فأكثر،منذ انتهت مرحلة طلب العلم، و عاد إلى جبل عامل ليمارس مهمّته كرجل دين..في مرحلته الجديدة تغيرت كل الظروف السابقة،و جاءت ظروف مختلفة جدا..و تبدلت شروط الحياة و شروط العمل،بل تبدّلت حتى شروط التفكير..بمعنى أن شخصيته الإنسانية أصبحت عرضة لأن تتكوّن من جديد بصيغة جديدة.و صار من الممكن و المحتمل أن تهتزّ شخصية طالب العلم حين ينتقل فورا إلى مرحلة عليه أن يواجه فيها الحياة و الناس و الأشياء و القضايا بوجه جديد، و بشخصية جديدة،بمواقف جديدة،بعادات جديدة،بمزاج جديد الخ، الخ...

و هنا الامتحان الكبير،العسير،الشاق...هنا التحوّل من شخصية طالب العلم إلى شخصية رجل الدين بكل ما تحتمل شخصية رجل الدين من صفات و صيغ عيش و تفكير،و من أشكال تعامل،مع الناس،مع الواقع الجديد...إنه التحول الصعب.فكيف إذن واجه السيد هاشم ظروفه الجديدة،واقعه الجديد...هل اهتزت شخصيته الطالبية النموذجية أمام شخصية رجل الدين التي كان عليه أن يتقمّصها بسرعة دون اختلال؟

ص: 7

أسئلة كثيرة من هذا النوع تحتشد في الذهن..مع أن سيرة السيد هاشم النقية،و فكره النقي،يقدمان لنا الجواب عن كل هذه الأسئلة بارتياح دون مشقة..فقد بقيا على نقائهما دون انكسار..و بقي السيد هاشم الطالب النموذجي،هو نفسه السيد هاشم العالم رجل الدين المرتجى..بل أصبح أكثر نموذجية،أي أكثر توهجا،أي أكثر حضورا في ظروفه الجديدة منه في ظروفه السابقة كطالب علم...

كل المزايا التي عرفناها في السيد هاشم طالب العلم في النجف الأشرف،أثبتت حضورها الأبهى في العلامة السيد هاشم رجل الدين في جبل عامل:

أخلاق التواضع و الصدق و عفة اليد و اللسان و الضمير و بساطة العيش رغم وفرة أسباب العيش لديه..كل هذه الأخلاق و الصفات فيه،برزت عنده بصيغتها الجديدة منذ بدأ حياته الجديدة كرجل دين.

لكن هذه الأخلاق و الصفات ذاتها اتخذت صيغتها الجديدة مسيّجة بسياج حصين منيع من الورع بأعمق معانيه و أكثرها شمولية،إنه الورع الذي يصون صاحبه لا من مقاربة المحرّمات الدينية التعبّدية وحدها،بل يصونه- أولا و آخرا-من مقاربة المحرّمات التعامليّة بخاصة:دينية،و اجتماعية، و إنسانية و وطنية..إن هذا النوع التعاملي من الورع،هو ما يضع الفارق الحاسم بين الورع العادي و الاستثنائي،أو بين الورع السطحي و العمقي،أو بين الورع الزائف و الحقيقي..

ورع العلاّمة السيد هاشم معروف كان ورعا ذا طبيعة شمولية،أولا، و كان-إلى ذلك-ورعا استثنائيا و عمقيا و حقيقيا..نقول هذا لا اعتباطا و لا امتداحا..و إنما نقوله اعتقادا و استنادا إلى الواقع و الشاهد و الملموس من سيرته النقية..فنحن نعرف من سيرته هذه أنه:

ص: 8

أولا:كان له من صدق إيمانه الديني حصانة قوية و راسخة تمنع عنه الوقوع في شرك المغريات الآثمة مهما تكن عليه من قوة الإغراء و سحره..

و هذا هو الورع الديني..

ثانيا:كان له من إدراكه السليم و حدسه الصائب ما يعصمه من كلا الشّرّين:شر العزلة المطلقة عن الناس دون تمييز بعضهم من بعض،و شر الاندماج المطلق بالناس دون الحيطة و الحذر من بعضهم دون بعض.بفضل هذه العصمة أمكنه اجتناب أهل الشر منهم،مع الإفادة من صلته بالخيّرين فيهم..و هذا الورع الاجتماعي.

ثالثا:كان من سماحة القلب و نبل العاطفة ما يضعه قريبا من الناس الضعفاء و البؤساء و المعذّبين..بفضل هذا القرب الحميم استطاع أن يبلسم بعض الجراح قدر ما لديه من الممكنات..و هذا هو الورع الإنساني..

رابعا:كان له من شرف العقل و نزاهة الضمير ما يبعده عن أهل الشبهات الذين لا يتورّعون عن بيع الوطن و المواطنين لقاء مكاسب شخصية..بفضل هذا الشرف و النزاهة فيه كان قادرا أن يمتنع عن الانزلاق إلى المنحدرات الموبوءة..و هذا هو الورع الوطني..

دخل العلاّمة السيد هاشم معروف الحسني عالم الوظيفة كقاض في المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان..لماذا فعل ذلك؟

نقول واثقين إنه لم يدخل عالم الوظيفة هذه إلا عن ضرورة دفعته إلى ذلك..هذه الضرورة لا يستطيع أن يدركها و يدرك قدرها إلا من عرف ظروف العيش التي يعانيها رجال الدين في جبل عامل،خصوصا منهم أهل العفّة و التواضع و صدق القول و العمل..هؤلاء يعزّ عليهم أن تضطرهم ظروف العيش أحيانا إلى الخروج-و لو مقدار شعرة-عن أخلاقية العفة و التواضع و الصدق..من هذا الوجه المشروع اضطر السيد هاشم أن

ص: 9

يتجنّب حالة الخروج عن أخلاقيته الأصيلة فدخل عالم الوظيفة كارها لا مختارا..لكنه فعل حسنا..لقد أثبت أن الوظيفة ليست شرّا بذاتها،و إنما هي تتشرّف بمن يصاحبها بشرفه،و يلطّخها بالدنس من يلصق بها دنس يده و ضميره..لقد شرّفها السيد هاشم بالفعل:شرّفها بنزاهة يده و شرّف ضميره،و شرّفها بورعه الصارم..و بسيرته النقية.

و لقد أثبت السيد هاشم أيضا خطأ الزعم أن الغرق في حياة الناس أو حياة الوظيفة يلغي فرص النشاط الفكري.أي يلغي ممكنات العمل في مجالات الفكر و العلم..

إن سيرة السيد هاشم و فكره يقولان:لا..بل إن الاتصال بالناس، مهما يكن واسعا و عميقا يكن باعثا لنشاط العقل،و مصدرا لاغتناء الفكر، و ملهما للعمل و الإبداع..فقد برهن السيد هاشم،عمليا،أن فرص الإنتاج العقلي أكثر ما تكون توفّرا حين يكون العالم و المفكّر بين الناس يتعامل معهم و يتعرف احتياجات عقولهم،و يتفهّم قضاياهم و مشكلات حياتهم..

برهن على ذلك بنشاطه الخصب منذ أخذت تتعدّد و تتشابك علاقاته بالناس، ثم منذ أخذت مهمات القضاء الشرعي تزدحم و تتكاثر عليه في المحكمة و في البيت على حد سواء.

و بعد،فليس أقوى دلالة على السيد هاشم معروف الحسني من مؤلفاته العلمية و الفكرية.مؤلفاته وحدها تقول لكم أية سيرة نقيّة،و أي فكر نقيّ، ترك لنا فقيدنا الكبير السيد هاشم معروف الحسني.

ص: 10

أصول التشيع

في هذا الكتاب عرض لأصول التشيع و الإسلام بأدلتها العقلية و النقلية و آراء الفلاسفة الإسلاميين و غيرهم ورد لشبه الملاحدة من الماديين و غيرهم كما يتعرض لأكثر المسائل التي كانت مسرحا للجدل و النقاش و التفسيق و التكفير في مطلع العصر العباسي كمسألة القضاء و القدر و الصفات و العصمة و الإمامة و البعث بجميع مراحله عند الأديان،و النعيم و العقاب إلى جانب لمحات خاطفة عن الأئمة الإثني عشر،و أدلة الأحكام عند الشيعة و السنة إلى غير ذلك من المواضيع معتمدا في جميع مواضيعه على أوثق المصادر الإسلامية و غيرها.

هاشم معروف الحسني

ص: 11

ص: 12

مقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

و الصلاة و السلام على محمد و آله أئمة الهدى الدعاة إلى الحق و الهدى و طاعة اللّه و على أصحاب رسول اللّه الذين اتبعوا سبيله و عملوا بما جاء به من عند اللّه العزيز الحكيم و رحمته و بركاته

لقد وجدت خلال دراستي للتصوف و أحوال الصوفية و مصادر التصوف بين محتويات بعض الكتب الإسلامية التي تعنى بشؤون التصوف من الدسائس و الافتراءات أفكارا و آراء تنسب إلى الشيعة تعبر عن أسوأ أنواع الحقد و العداء و توحي بتخطيط مدروس و متفق عليه لإخراج الشيعة عن حظيرة الإسلام و إعطائهم صفة لا تلتقي مع الإسلام و لا مع غيره من الأديان،و كان لهذه الظاهرة أثرها السيّئ في نفسي،بالرغم من أن التهم المشينة للشيعة لم تكن بالجديد عليّ و لا على غيري منذ القرون الأولى، و لا يزال المحدثون من مؤلفي السنّة يجترونها،و يتحدثون عنها في مؤلفاتهم لقاء مبالغ من الأموال تغدقها عليهم بعض الجهات الحاقدة بدون حساب، و لكن الصورة الأخيرة التي استخلصتها خلال دراستي للتصوف و مصادره التي تجعل الشيعة أسوأ حالا من اليهودية و غيرها من الديانات لم أتصورها،و إلى القراء بعض الأمثلة على ذلك:فقد قال عبد الكريم

ص: 13

الجيلاني في كتابه القنية لطالبي الحق أحد أقطابهم:أن من أحب الروافض أي الشيعة فقد أحب اليهود لأنهم من أقرب الناس إليهم.و مضى يعدد و جهات التقارب و التشابه بين الفريقين،و قال:لقد قال اليهود:لا تصلح الإمامة إلا لرجل من آل داود،و قال الشيعة:لا تصلح إلا لعلي و أولاده، و قال اليهود:لا جهاد في سبيل اللّه حتى يخرج الدجال و ينزل من السماء.

و قال الشيعة:لا جهاد حتى يخرج المهدي من نسل علي و ينادي المنادي من السماء،و اليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم،و كذلك الروافض،و اليهود ينحرفون عن جهة القبلة في صلاتهم،و كذلك الشيعة، و اليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة و كذلك الروافض،و اليهود يستحلون دم كل مسلم،و كذلك الروافض،و اليهود لا يرون على النساء المطلقات عدة، و كذلك الروافض،و اليهود لا يرون في الطلاق الثلاث ما يمنع من رجوع الزوج،و الروافض يجوزون رجوع المطلق ثلاثا لزوجته بدون أن تنكح زوجا غيره،و يقولون بالإضافة إلى كل ذلك بالحلول و الاتحاد و التناسخ إلى غير ذلك من الافتراءات على الشيعة التي لا وجود لها إلا في مخيلة الحاقدين عليهم من أعداء الشيعة و الإسلام كالجيلاني و ابن تيمية و الجبهان و أمثال هؤلاء المشوهين في نفوسهم و تفكيرهم و إسلامهم،فالحلول و الاتحاد و التناسخ و التشبيه و التجسيم و ما إلى ذلك مما لا يجوز عليه سبحانه و لم يظهر إلا في أوساط بعض الأشاعرة و الظاهرية و عامة الصوفية الذين ينتمون إلى المذاهب السنية،و أصحاب هذه المقالات كلهم من الكافرين بنظر الشيعة و أئمة الشيعة،و قد ألف علماء الشيعة منذ أقدم عصورهم حتى اليوم مئات الكتب حول هذه المواضيع و كلهم متفقون على تكفير الحلوليين و الاتحاديين و القائلين بوحدة الوجود و المجسمة و المجبرة و غير ذلك مما لا يجوز عليه سبحانه.

كما و إن كتبهم الفقهية التي لا تحصى تعيد استقبال الكعبة في الصلاة

ص: 14

و اعتداد المطلقة بثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر و عدم جواز الرجوع إليها بعد الطلاق الثالث حتى تنكح زوجا غيره كما نص على ذلك القرآن و احترام دم المسلم و ماله و عرضه بمجرد اعترافه بالوحدانية و نبوة محمد بن عبد اللّه من الضرورات الفقهية،و المنكر لشيء من ذلك بحكم الكافرين و الحاقدين المرتدين عن الإسلام.

لذلك و لغيره مما وقفت عليه أخيرا مما ينسبه الحاقدون على الشيعة رأيت أن أعيد النظر فيما كنت قد كتبته سابقا عن معتقدات الشيعة فرجعت إلى الكتاب المذكور فغيرت فيه و بدلت و ألغيت بعض مواضيعه و أضفت إليه نحوا من سبعين صفحة وقفت فيها طويلا مع الملاحدة و الماديين و عرضت جانبا من معتقدات الأمم و أصحاب الأديان في البعث و المعاد و الجنة و النار و ما يتصل بهذه المواضيع.هذا بالإضافة إلى بعض المواضيع في الإمامة و الصفات و غيرها بنحو أصبح الكتاب بمجموعه و كأنه جديد لم يخرج من المطبعة من قبل و قد سميته أصول التشيع و هذا الاسم لا يختلف عن الأول إلا بالصيغة و الشكل،و أرجو أن يكون كافيا لرد عدوان أولئك الذين يلصقون التهم و الأراجيف جزافا و بلا وازع من ضمير أو إحساس بالمسؤولية و منه سبحانه أستمد العون و السداد إنه قريب مجيب.

ص: 15

مقدمة الطبعة الثانية

لقد كان من أبرز الدوافع لتأليف هذا الكتاب في حينه تلك التهم القاسية التي ألصقها المؤلفون من مستشرقين و شرقيين في الفرق و المعتقدات بالشيعة الإمامية و حاولت فيه الرد بهذا الاسلوب الذي هو أقرب إلى العرض و التبسيط على كل من حاول و يحاول الدس و التشويش و إلصاق البدع و الخرافات بهم زورا و بهتانا.

بهذا الدافع عرضت معتقدات الشيعة الإمامية في أصول الإسلام و غيرها التي نص على بعضها و ألمح إلى البعض الآخر كتاب اللّه الكريم و أكدتها سنة نبيه العظيم صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بالإضافة إلى لمحات خاطفة عن تاريخ الأئمة الإثني عشر و أدلة الأحكام عند السنة و الشيعة و غير ذلك من المواضيع التي لو ألم بها القارئ،لعرف أن الشيعة يقفون مع كتاب اللّه و سنة نبيه جنبا إلى جنب و يحتضنون ولاء أهل بيته الكرام و آراءهم بالمهج و الأرواح،في حين أنهم تحملوا في سبيل ذلك من أعدائهم أسوأ أنواع التعذيب و التنكيل، و قذفوهم بالتهم و الأباطيل ليطفئوا شعلة الحق.التي تجسدت في أقوالهم و آرائهم في مختلف المواضيع و يأبى اللّه إلا أن يتم نوره و لو كره الحاقدون.

ص: 16

مقدمة الطبعة الأولى

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الصلاة و السلام على محمد و آله الأطهار

ليس للشيعة الإمامية عقيدة تختلف عما جاء به القرآن الكريم،و لا رأي في أصول الإسلام يخالف الضرورة من الدين،و لقد كتب علماؤهم و أكثروا عن عقائدهم في مختلف المناسبات،و أبطلوا جميع الشبه التي تخالف نصوص القرآن و السنة،و أعلنوا آراءهم في جميع المواضيع الإسلامية في الفروع و الأصول بصراحة لا تقبل التأويل و التشكيك،و مع ذلك فالكتّاب و بخاصة المستشرقين منهم إذا كتبوا عن الإسلام و المعتقدات يتعمدون الإساءة الى الشيعة و يلصقون بهم عيوب بعض الفرق التي تسترت بالولاء لأهل البيت عليهم السّلام و يحملونهم أوزارها زورا و بهتانا.

و من هؤلاء المستشرق(رونلدسن)الذي وضع كتابا عن عقائد الشيعة أسماه عقيدة الشيعة الإمامية،و يظهر من الكتاب المذكور أن إقامته في العراق لم تتجاوز بضعة أيام معدودات صادفت مواسم الزيارات المتعارفة للنجف و كربلاء فاستغل تلك الحشود و دوّن مشاهداته و ألصقها بالعقيدة الشيعية،في حين أن الطبقات العامة كثيرا ما تتعدى في أعمالها حدود العقيدة الإساسية عند جميع الأمم،ففي تلك اللمحة الخاطفة بين هاتين

ص: 17

المدينتين،وضع قسما من كتابه،و وضع القسم الأكبر منه في المشهد الرضوي في إيران،بعد أن أقام بها ستة عشر عاما قضاها في البحث و التنقيب عن معتقدات الشيعة على حد زعمه،و أكثر ما يعتمد على كتابي المجلسي رحمه اللّه بحار الأنوار و حياة القلوب،و على بعض الكتب التي لا يعتبرها الكثير من علماء الشيعة،و لا يعتمدون على رواياتها و مؤلفيها بالإضافة إلى جملة من المصادر،أصحابها منهم مسلمون من مذاهب شتى و منهم غير مسلمين.لذلك جاء كتابه مثالا للحشد و التلفيق و التشويش لعقائد فرقة من فرق المسلمين لا تقل عن أربعماية و عشرين مليونا تنتشر في جميع أنحاء العالم،ما زالت تستمد عقائدها و تعاليمها من الرسول الأعظم و العترة الطاهرة منذ وجدت بذرة التشيع في فجر الإسلام إلى يومنا هذا،و من استعرض الكتاب و اطّلع على محتوياته لا يرتاب في أن المؤلف قد حاول الدس و إيقاع الفتنة بين المسلمين بشتى الأساليب و في الوقت ذاته يحاول إظهارهم كأمة مختلفة في تفكيرها و جميع شؤونها لا تصلح لغير الاستغلال و الاستثمار.

و حسبك شاهدا على ذلك ما ذكره في صفحة(257)من كتابه،نقلا عن كتاب سماه قاموس الإسلام،قال:«و للشيعة عيد في الثامن عشر من ذي الحجة،يضعون فيه ثلاثة تماثيل من العجين يملأون بطونها من العسل، و هي تمثل أبا بكر و عمر و عثمان،ثم يطعنونها بالمدى فيسيل منها العسل! تمثيلا لأولئك الخلفاء الغاصبين و يسمى هذا العيد بعيد الغدير،و هو كما يقولون يوم نصب محمد عليا وصيا له في غدير خم و هو منزل بين مكة و المدينة».

إن نقله لهذه الاسطورة عن كتاب قاموس الإسلام،أكبر شاهد على ما ندعيه من الدس على الشيعة الإمامية،و بعث روح البغضاء و التفرقة بين المسلمين.

ص: 18

إن الشيعة يحتفلون في بعض العواصم الشيعية بذكرى هذا اليوم فيقف الخطيب و الشاعر مرددين فضل علي و جهاده في سبيل الدعوة الإسلامية، و فضل من ساهم في بناء هذا الدين الإنساني الخالد من صحابة الرسول و غيرهم ممن آمنوا بالإسلام و أخلصوا في تطبيق مبادئه المقدسة و تعاليمه السامية.

و لقد أقام المؤلف ستة عشر عاما في العواصم الشيعية و كانت أكثر إقامته في المشهد الرضوي،و الشيعة في إيران أحرص من غيرهم على التمسك بعقائد الشيعة،و لو فرض وجود ذلك عند الشيعة،لكانت إيران في طليعة من يقوم بتلك التقاليد،فكيف خفي ذلك على المؤلف و لم يجعله من جملة مشاهداته في هذه المدة الطويلة و التجأ إلى نقله عن كتاب قاموس الإسلام؟و على تقدير وجود شيء من هذا النوع قبل مئات السنين عند بعض المذاهب التي تنتمي إلى التشيع فلا صلة له بالعقائد التي تدين بها الإمامية، فما هو المسوغ لذكره و إعادته حيا في زمان قد تحرر من الأوهام و العادات الفاسدة التي كانت وليدة ظروف معينة؟

أجل إن المسوغ لذلك هو بعث هذه الروح السامة في نفوس المسلمين ليستغل أخصامهم ما ينتج عنها من نزاع و تناحر.

و إليك مثلا آخر مما جاء في كتابه،زاعما بأنه من جملة عقائد الشيعة اعتمد فيه على مشاهداته في كربلاء في الأيام المخصوصة لزيارة الحسين عليه السّلام على حد زعمه.

قال:«إذا مات الشيعي فهو عظيم الحظ إن وضعت قلادة من الطين حول رقبته و خاتم من الطين في سبابته اليمنى،و معضد من الطين حول كل من ذراعيه،و صرة من التراب الذي يكنس من القبر في يده اليمنى».

لقد قرأت هذا و أكثر منه حول التربة التي تصنع في مدينة كربلاء في

ص: 19

كتاب المؤلف،و أقمت في جامعة النجف خمسة عشر عاما،وزرت كربلاء أكثر من خمسين مرة خلالها،و لم أسمع بما كتبه المؤلف مدة أقامتي في العراق،و لا أثر لذلك عند الشيعة و لا هو موجود في كتبهم،و كل ما في الأمر أن جماعة من سكان كربلاء يأخذون التراب بعد تجفيفه و تماسكه لأجل السجود عليه،و يستحسن عند الشيعة لهذه الغاية،لأنه من تراب أرض تبضع فيها لحم الحسين في سبيل الحق و العدالة و الحرية،و يصح السجود عند الشيعة عليه و على غيره من التراب و الأحجار و النبات،كما تنص على ذلك عشرات الكتب الشيعية.

و إليك مثلا ثالثا مما كتبه حول وفاة الحسن عليه السّلام بعد أن سرد جملة من الأساطير لم تذكر في كتب التاريخ المعتمدة عند المسلمين.

قال:«و كان الحسن كلما سقي السم يذهب إلى قبر جده و يحتك بحجر من أحجار القبر فيذهب عنه السم،و الشيعة تعد ذلك معجزة للحسن،و بعد هذا اضطربت أعصاب الحسن فقال لأصحابه إن صحته منذ سنوات عديدة لم تكن على ما يرام في المدينة،فقرر الذهاب إلى الموصل،و كان من أسباب ذلك رغبته في الابتعاد عن زوجته التي كان يخافها و صادف أن كان في الموصل رجل أعمى يكره الحسن فسمم رأس عكازته و جاءه يوما يطلب صدقة،و كان الحسن جالسا متربعا و إحدى رجليه على الأرض،فوضع الأعمى رأس عصاه على رجل الحسن و داسها بثقله و أعلن الأطباء أن العصا كانت مسمومة فسقوه بعض الأدوية ليشفى من ذلك».

و أحيانا ينقل المؤلف عن أئمة الشيعة أمورا لا وجود لها في تاريخ الشيعة و لا في تاريخ غيرهم من المسلمين،و يعتمد في ذلك على بعض المستشرقين الذين يكتبون بما يوحيه إليهم الاستعمار و سماسرته،و لو كان المؤلف يحاول أن يأخذ صورة صحيحة عن الشيعة و عقائدهم لتم له ذلك

ص: 20

بأقل من الزمن الذي قضاه في المشهد الرضوي على شرط أن يتصل بعلماء الشيعة في إيران و العراق و غيرهما من الأقطار التي تضم الملايين من الشيعة،و لو فعل ذلك بإخلاص و تجرد لعرف أن تلك الكمية الهائلة من الخرافات و الآراء الفاسدة لا يتعرف عليها الشيعة و لا صلة لها بعقائدهم.

و في الوقت ذاته يأتي كتابه مثلا كريما للنزاهة و الإخلاص و التجرد لخدمة الحقيقة و الواقع.

لهذا و لغيره مما يحاك حول الشيعة من الافتراءات و الدسائس بقصد التشنيع عليهم وضعت هذا الكتاب الذي يصور عقائد الشيعة الإمامية المستوحاة من كتاب اللّه الكريم و سنة نبيه و اعتمدت على أوثق المصادر الشيعية و أغناها في المواضيع التي تناولها هذا الكتاب.

و أعترف بأني لست بأول من كتب حول هذا الموضوع،فلقد سبقني إليه عشرات الكتاب،و لكني لا أعرف كتابا كان بهذا الموضوع بخصوصه، و لأمحصه التمحيص الذي يجب أن يكون،و أبادر إلى الاعتراف بأني قد أخطئ كما يخطئ أي إنسان غيري و أخضع للنقد و الحساب إذا كانا بدافع الإخلاص للعلم و إحقاق الحق،و منه سبحانه أستمد العون و التوفيق.

المؤلف

ص: 21

ص: 22

تاريخ التشيع

الشيعة في اللغة هم الأتباع و الأنصار،و يقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث بلفظ واحد،و هو من المشايعة و المتابعة و في العرف العام أصبح التشيع علما على من تولى عليا و بنيه و أقر بإمامتهم.

و لقد أكثر الكتاب في بدء التشيع لعلي عليه السّلام،فبين من يقول أن التشيع تكوّن بعد وفاة الرسول،و مال آخرون إلى أن الفكرة تكونت يوم مقتل الخليفة الثالث عثمان،و يذهب البعض من الكتاب إلى أنها تكونت أيام فتنة طلحة و الزبير في البصرة،و رجح فريق بأن التشيع نشأ بعد علم الجماعة و اتسع نتيجة للهجوم الموجه على العلويين في عهد معاوية و من جاء بعده إلى غير ذلك من الأقوال.و بعد أن بينا المعنى المراد من هذا اللفظ و الذي أصبح علما عليه،لم يبق مجال للريب في أن فكرة التشيع قد تكونت قبل هذه الأزمنة التي حددها أكثر الكتاب و أنها رافقت فجر الإسلام يوم كان النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يغذي بأقواله فكرة التشيع لعلي عليه السّلام،و يمكنها في أذهان المسلمين و يأمر بها في مواطن كثيرة على اختلاف المناسبات.

و أول ما بدأ بها في مكة المكرمة،يوم اللّه نزل عليه:و أنذر عشيرتك الأقربين.فجمع النبي عند ذلك بني هاشم و أنذرهم كما أمره ربه ثم قال:

ص: 23

أيكم يؤازرني ليكون أخي و وارثي و وزيري و خليفتي فيكم بعدي؟فلم يجبه أحد إلى ما أراد غير علي عليه السّلام.فقال هذا أخي و وارثي و وزيري و خليفتي فيكم بعدي.فكانت هذه الحادثة البذرة الأولى التي بذرها في تكوين فكرة التشيع لعلي عليه السّلام،و استمر طيلة حياته الشريفة يغذيها بأقواله و أفعاله و يمكنها في نفوس المسلمين إلى أن كانت حجة الوداع في السنة العاشرة من هجرته، أمره اللّه سبحانه بأن يعلن استخلافه من بعده و نزلت الآية:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ،وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .

و قد نص جماعة من المفسرين منهم الرازي في تفسيره أنها نزلت في فضل علي ابن أبي طالب،و لما نزلت أخذ رسول اللّه بيد علي عليه السّلام و قال:

من كنت مولاه فعلي مولاه.

فلقيه عمر بن الخطاب و قال:هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة،و هو قول ابن عباس،و البراء بن عازب، و محمد بن علي عليهم السّلام.

ففي ذلك اليوم،و في تلك الصحراء وقف النبي خطيبا في حشد من المسلمين،لم يتفق أن تيسر له قبل ذلك،ضم الأعيان و الرؤساء و وجوه المسلمين من مختلف الجهات و أعلن استخلافه في تلك الصحراء المقفرة قبل أن يتفرق الناس و يأخذ كل منهم طريقه إلى بلده فتكامل نمو تلك الفكرة التي كان يحرص على غرسها بين المسلمين،منذ بدأ يدعو الناس إلى عبادة ربه الكريم و التحرر من عبادة الأصنام و نبذ الشهوات و الأهواء.

و قبل الدخول في الناحية التي نريد بحثها،لا بد من بيان وجهة نظر الطائفة الشيعية في الخلافة الإسلامية،التي هي الأساس في تكوين عقيدة التشيع،و هي النقطة الوحيدة التي يرتكز عليها النزاع القائم بين المسلمين

ص: 24

قديما و حديثا،و لا نريد أن نستوعب الموضوع من جميع نواحيه،ففي كتب الشيعة التي تعد بالمئات كفاية لمن أراد أن يتبسط في الموضوع و يستوعبه من جميع نواحيه لا سيما إذا كان متحررا من النزعات و الأحقاد الموروثة و كان باستطاعته أن يحيط بجميع العوامل و الاعتبارات التي صبغت الخلافة الإسلامية بألوانها،و تركتها مسرحا لآراء الباحثين و بالتالي غنيمة لمن يريد أن يجني لنفسه من وراء هذا التناحر اشهى ما لذ له و طاب.

ص: 25

لمحات من الخلافة بعد وفاة الرسول

و موقف الشيعة منها

كانت الخلافة الإسلامية و لا تزال تشغل تفكير الملايين من المسلمين منذ أن انتقل الرسول إلى ربه حتى الزمن الذي نعيش فيه،و ستبقى جزءا من حياتهم إلى حيث يشاء اللّه.

و للشيعة رأي فيها يرتكز على طبيعة المبادئ الإسلامية و التشريعات المستوحاة من الكتاب و السنة.

فالباحث في تاريخ الدعوة و مبادئها يرى أن الإسلام قد أعلن حربا لا هوادة فيها على التفوق السلالي و العنصري و القبلية،و نادى بإلغاء هذه الفوارق في مواطن كثيرة،و جعل ميزان التفاضل منحصرا في التقوى و الأعمال الصالحة،ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى،الناس لآدم و آدم من تراب،إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم،و كان كل همه تطبيق مبادئه على العالم بأسره ليجمع بني الإنسان تحت لواء واحد و في صعيد واحد،الإيمان باللّه و الإقرار برسالته المقدسة الداعية إلى الإخاء و المساواة،و التضحية في سبيل الحق،و العمل لخير الإنسان،ليحرر الأرواح من طغيان المادة، و يطهر القلوب من سيطرة الشهوات.

ص: 26

و بذلك استطاع أن ينشر ألويته على الآفاق و يقطع تلك المسافات البعيدة الواسعة في سنوات معدودات و أصبحت الدنيا على اتساعها تضيق عن همته و تعتز بمبادئه،و لم يكن من همه أن ينشر على العالم نفوذا سياسيا،و لا أن يضم إلى البقعة التي وجد فيها بقعة أخرى من بقاع الدنيا، لتكون له دولة ذات حدود واسعة تستمد هيبتها مما تدخره من عتاد،و ما تحشده من كتائب و أجناد،إنما الذي كان يهدف إليه و يهمه،هو الإيمان برسالته،لأنها وحدها السلاح القاطع الذي يستطيع المسلمون بواسطتها بسط سلطانهم على الدنيا الضالة،لأنها سلاح من عند اللّه سبحانه،غرس نواتها محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في إبان دعوته في قلوب حفنة من المؤمنين،و غذاها بجهاده المتواصل حتى مكنها من نفوسهم على مدى الأعوام،فلم تهن روحه لقوي متحكم و لم يشتر منهم أمنه و راحته بعطية يلقيها إلى شهواتهم، بل أذاب من روحه الطاهرة ليهدي العصاة و عرض نفسه لأقسى ما يتصور من الأذى،ليحرر الإنسان من عبادة الشهوات و الأهواء،ساومه المشركون ليكون له السلطان عليهم و يرجع عن دعوته بعد أن فشلوا في أساليب التعذيب التي لجأوا إليها معه و مع المؤمنين من أتباعه فرجعوا خائبين خاسرين و قال لعمه كلمته الخالدة:و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي ما تركت هذا الأمر.فلم يكن يفكر أن يمتلك الرقاب و البقاع لتصبح تحت سلطانه،و لا لتهتف له و تصفق بل كان يفكر و يخطط لتصبح العقول و الأرواح مملوكة لتعاليمه،أسيرة لمبادئ القرآن.

تلك المبادئ التي أراد اللّه لها البقاء،و كتب على الإنسان أن يتخذها السبيل إلى معاشه و معاده،و احتاط لها مؤسسها الحيطة الكاملة،التي تساعد على حفظها و اتصالها بالقلوب و النفوس،كي لا تصبح عرضة للأخطار و مسرحا للشهوات و الأهواء،فوضعها بيد أمين لازمه من طفولته فرباه كما يريده لأمته و أمضى معه طوال حياته يستلهم من سيرته و سنته و قرآنه ما لم يتيسر

ص: 27

لأحد سواه و لم يترك الأمر للأمة لتختار لنفسها من ترتضيه لإدارة شؤونها و نشر تعاليم الإسلام لا سيما و أن الإمام يحتل مركز النبي و يجب أن تتوفر فيه أكثر مواهب النبي و صفاته،و أن يكون أفضل الرعية من جميع نواحيه،و لو اخلصت الشعوب في اختيارها و تجردت من النزعات و الأهواء لما استطاعت أن تحيط بتلك المواهب التي يجب أن تتوفر في الحافظ للشريعة و القيم على شؤون الأمة،و المكلف بتنفيذ الأحكام و تطبيق المبادئ.

و إذا وقع الاختيار على غير الكفء تصبح تلك المبادئ في معرض الخطر و تكون مهددة بالزوال،لا سيما أنها كانت يوم وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، بعيدة عن نفوس الكثيرين ممن دخلوا في الإسلام و غريبة عما توارثوه من أسلافهم من العادات و التقاليد التي امتزجت بطبيعتهم و أصبحت جزءا من حياتهم فما أقربهم من الانقلاب على الأوضاع الجديدة إذا وجدوا الفرصة لذلك،لهذا و لغيره كان لا بد للحافظ لتلك المبادئ أن يؤمن الخلف من بعده،و لا يتركه لاختيار الشعب الذي يندفع مع أهوائه و مصالحه و شهواته، و يكثر منه الخطأ في أكثر الأوقات،و لقد كانت الظروف المحيطة بالإسلام في العام الذي انتقل به النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم إلى ربه تشكل خطرا على الإسلام أشبه بالظروف التي أحاطت به يوم بدأ يدعو الناس إلى عبادة اللّه،فلقد ظهر مسيلمة الكذاب و الأسود العنسي،و النبي لا يزال حيا،و القبائل العربية لم يكن إسلامها بشكل واحد،فالكثير منها أسلم اندفاعا مع التيار الإسلامي الجديد،و نرى في بعض الأسر القرشية من أعلن الإسلام و أضمر من ورائه شركه و حقده،كما ذكر جماعة من المؤرخين عن أبي سفيان زعيم الأسرة الأموية،فقد دخل الإسلام عام الفتح،و أمّن النبي عليه الصلاة و السلام كل من دخل بيته،و أفاض عليه من عفوه و كرمه فوق ما يتصوره إنسان من إنسان،و مع ذلك فقد دخل المسجد يوم بويع الخليفة الثالث و هو يحسب أنه خال من غير أسرة الخليفة و حاشيته و قال:تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة،

ص: 28

فو الذي يحلف به أبو سفيان،ما من جنة و لا نار،و لا حساب و لا عقاب؛ و حاول مرات عديدة إيقاع الفتنة بين المسلمين كان أبرزها يوم عرض نفسه على علي عليه السّلام يمنيه النصر إن هو أعلن حربا على الصديق بعد أن بايعه الكثير من الناس،و لكن عليا الحريص على مبادئ الإسلام لم يفته غرض أبي سفيان،فقال له:و اللّه إنك ما أردت بها إلا الفتنة،و إنك طالما بغيت للإسلام شرا.و أمثاله كثيرون كانوا على استعداد للاندفاع في وجه الدعوة حين تساعد الظروف على ذلك،و تاريخ حروب الردة أكبر شاهد على ما ندعيه،في حين أن الدولتين الرومانية و الفارسية كانتا تناصبان الإسلام أشد العداء،و قد بدأهما النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الحرب في حياته،فجهز جيشا إلى الرومان قتل فيه جمع من أعيان المسلمين؛منهم القواد الثلاثة جعفر بن أبي طالب، و عبد اللّه بن رواحة،و زيد بن حارثة.و قبيل وفاته كان يجهز جيشا من المسلمين ضم الوجوه من صحابة النبي بقيادة أسامة بن زيد،و توفي و هو يشدد القول على من يتخلف عن هذا الجيش،هذا بالإضافة إلى الأخطار التي كانت تهدد دعوته في داخل عاصمته و ما حولها عن طريق المنافقين الذين تستروا بالإسلام بعد أن عجزوا عن مقاومة تلك الدعوة بقوة السلاح فأخذوا يعملون في جو من السرية للإطاحة برسالة محمد و لو عن طريق اغتياله كما حاولوا ذلك أكثر من مرة.و لو لا أن القرآن الكريم كان يفضحهم في محاولاتهم لتم لهم ما يريدون،و حسبك شاهدا على ذلك سورة براءة وحدها التي أنزلها اللّه على رسوله بهذه المناسبات،و سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم و كشفت عن واقع أمرهم،و إذا كانت الظروف المحيطة بالإسلام بهذا الشكل المخيف،فهل يكون من الحكمة أن يترك النبي أمته و مبادئه و الأخطار محدقة بدعوته في البلاد و خارجها بدون خلف له يكون أقدر أتباعه و أقواهم على تحمل المسؤوليات،و أنفذهم بصيرة و أعلمهم بتطبيق تلك المبادئ التي أرادها اللّه أن تكون دستورا يرجع إليها الإنسان في

ص: 29

دنياه و آخرته،حاشا للّه و هو اللطيف بعباده،العليم بما أحاط بهم من بلاء، و الخبير بما فطر عليه الإنسان من أهواء و شهوات،أن يترك الأمر فوضى و الأمة تتقاذفها الميول و الأغراض،و يرحل نبيه عن دنياه بدون أن يعين للناس إماما أمينا على شريعته،حريصا على تمكين تلك المبادئ المقدسة في النفوس.بعد أن بلغها الرسول،و تحمل في سبيلها أقصى ما يتصور من الألم و العذاب.

و هذه الاعتبارات ليست وحدها هي الدليل على وجوب نصب الإمام الذي يخلف النبي بعد وفاته،و إنما يعتمدون في ذلك على أدلة كثيرة،و من جملتها الأدلة التي تقضي بوجوب إرسال الأنبياء،و منها قاعدة اللطف،لأن نصب الإمام لطف من اللّه في حق عباده لأنه يقربهم من الطاعة بإرشادهم إليها،و يبعدهم عن المعصية بالنهي عنها و التخويف من عواقبها،و اللطف واجب منه سبحانه بمقتضى رأفته و عطفه على عباده فيكون تعيين الإمام واجبا،و لهم على ذلك أدلة أخرى ذكرها علماء الأمامية في جميع كتبهم التي تعرضت لبحث الإمامة.

و الإمام المنصوب خلفا لصاحب الرسالة عند الشيعة الإمامية هو علي عليه السّلام،و يستدلون على ذلك ببعض الآيات الكريمة الواردة في الكتاب، و بطائفة من الأحاديث الصحيحة بلغت حد التواتر و رواها الفريقان من السنة و الشيعة،بعضها يدل بظاهره و بعضها نص فيما يذهب إليه الإمامية من كونه صاحب الحق الشرعي.

إن فكرة التشيع ليست وليدة التطورات السياسية كما يذهب إلى ذلك صاحب كتاب عقيدة الشيعة،حيث يرجح أن هناك دسائس خفية كان لها اليد الطولى في دعوة الحق الإلهي،و أن عبد اللّه بن سبأ تنقل في البلاد الإسلامية إلى أن استقر أخيرا في مصر،و فيها قام بدور رئيسي في المؤامرة

ص: 30

لمصلحة علي،و أعلن أن من تقدمه من الخلفاء كان غاصبا لحقه الشرعي.

و نحن بدورنا نعتقد بأن الباحث المجرد ينتهي به البحث لا محالة إلى أن دعوى الحق الشرعي لا صلة لها بجميع التطورات السياسية التي حدثت بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم إلى الأزمنة الأخيرة،و إنما كانت وليدة النصوص الكثيرة،بالإضافة إلى اجتباء النبي إياه على جميع طبقات المسلمين و اختصاصه به في خلواته،و إسناد المهمات الكبار إليه كالقيادة و الإستخلاف في موضعه و حنوه و عطفه البالغين عليه،حتى أصبح حبه بنظر المسلمين إيمانا،و بغضه نفاقا،و لقد قال أبو سعيد الخدري:ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه إلا ببغض علي بن أبي طالب.

لذلك فقد توقف جمع من أعيان المسلمين عن بيعة أبي بكر و تمسكوا بالنصوص الكثيرة على خلافة علي عليه السّلام،و من هؤلاء جميع بني هاشم و على رأسهم العباس بن عبد المطلب،و من غيرهم الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان و خزيمة ذو الشهادتين و هاشم بن عتبة و حجر بن عدي و أبو أيوب الأنصاري و غيرهم،و منهم شاعر النبي حسان بن ثابت الذي يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم و اسمع بالنبي مناديا

و قال فمن مولاكم و وليكم فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت ولينا و مالك منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

و هؤلاء قالوا بهذه المقالة،قبل أن يكون لعبد اللّه بن سبأ ذكر في تاريخ الإسلام،و قبل وجوده المزعوم بأكثر من عشرين عاما،و هناك من ينكر أصل وجوده و يدعي أنه من الشخصيات الوهمية،كما يذهب إلى ذلك جماعة من الكتاب و تؤكده الدراسات العلمية ((1)).ي.

ص: 31


1- أنظر عبد اللّه بن سبأ للسيد مرتضى العسكري.

أمثلة في النصوص التي تشير

إلى استخلاف علي عليه السّلام

إن الشيعة كما ذكرنا يدعون النصوص الكثيرة على استخلاف علي عليه السّلام من الكتاب و السنة و نحن نذكر طائفة من الأحاديث التي تكاد أن تكون صريحة فما ندعيه،و نذكر أولا بعض الآيات الكريمة التي يعتمدون عليها في مباحث الإمامة.

منها قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ،وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ(55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ .

لقد اتفق المحدثون و المفسرون من العامة و الخاصة أنها نزلت في علي عليه السّلام حين تصدق بخاتمه على المسكين و هو راكع في صلاته،و جاء في كتاب كشف الحق للعلامة،أجمعوا على نزولها بعلي،و هو مذكور في الصحاح الستة،و في كتاب الحق اليقين للسيد عبد اللّه شبّر اتفاق المفسرين و المحدثين أنها نزلت في علي عليه السّلام و ممن نص على أن الآية نزلت في علي عليه السّلام من المفسرين الرازي و السيوطي و الزمخشري و البيضاوي و السدي و مجاهد و الحسن البصري و غيرهم.و في المراجعات للسيد عبد الحسين

ص: 32

شرف الدين عن القوشجي،في شرح التجريد إجماع المفسرين على نزولها بعلي عليه السّلام،و في الباب الثامن عشر من غاية المرام،أحاديث كثيرة من طريق السنة أنها نزلت في علي عليه السّلام،و جاء في المراجعات عن تفسير الإمام أبي إسحاق النيسابوري الثعلبي في تفسيره الكبير،بالإسناد إلى أبي ذر الغفاري قال:سمعت رسول اللّه بهاتين و إلاّ صمّتا و رأيته بهاتين و إلاّ عمّيتا يقول علي قائد البررة،و قاتل الكفرة،منصور من نصره،مخذول من خذله.إني صليت مع رسول اللّه ذات يوم،فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا،و كان علي راكعا فأومأ بخنصره إليه.و كان يتختم بها،فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره،ثم ذكر أبو ذر ما كان من رسول اللّه من التضرع و الدعاء و قال فو اللّه:ما استتم رسول اللّه كلامه حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ .

و يكاد المتتبع لكتب الحديث و التفسير يقطع في أنها نزلت بعلي في تلك المناسبة.

فالآية الكريمة تثبت الولاية لعلي عليه السّلام لعدم وجود هذه الصفات في غيره،و لأنها جعلت الولاية لمن تصدق و هو راكع بعد أن سأل النبي ربه أن يجعل له وزيرا من أهله،كما جعل ذلك لموسى بن عمران عليه السّلام،و الولاية المجعولة في المقام هي من نوع ولاية اللّه و رسوله،و إن كانت تصدق على الناصر و المحب و غيرهما لغة،إلاّ أنهما غير منحصرين بمن ذكرت له الآية هذه الأوصاف،بل هما عامان لجميع المؤمنين كما قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .

فحصر الولاية في الثلاثة كما هو المستفاد من إدارة الحصر،يقتضي كون الولاية للجميع بمعنى واحد،و هي أحقية التصرف و السلطنة العامة فيما يتعلق بشأن الدين و الدنيا.

ص: 33

و مجمع القول في فقه الآية هو أن اللّه سبحانه قد جعل الولاية للّه و للرسول،و لمن تصدق في حال ركوعه و لازم الحصر المستفاد من أداته هو كون الولاية للجميع بمعنى واحد،و حملها على غير هذا المعنى لا يتفق و الحصر المذكور لثبوتها و الحال ذلك لجميع المؤمنين فلا تبقى فائدة في الحصر المذكور.

و الإيمان في الآية الكريمة،ليس علة في ثبوت الولاية لعلي عليه السّلام،حتى تكون الولاية لكل من اتصف بالإيمان كما هو الحال في جميع علل التشريع،كما قد يتوهم من ذكر هذه الأوصاف في الآية الكريمة،إذ لو كان علة لثبتت الولاية لكل من اتصف بالإيمان،و ينتج من ذلك التفكيك بين ولاية اللّه و الرسول و ولاية المؤمنين المتصدقين في ركوعهم.

ذلك لأن الظاهر من الآية الكريمة أن الإيمان فيها كان للإشارة إلى الموضوع الخارجي،فهي كسائر القضايا الخارجية التي يكون الوصف فيها معرفا عن الموضوع و مشيرا إليه،لأن الولاية التي ثبتت للذين آمنوا هي من سنخ ولاية اللّه و الرسول،و لا شبهة في عدم مدخلية الإيمان في ثبوت الولاية لهما،فالقضية في المقام أشبه ما تكون بقولنا هذا الجالس يجب إكرامه،و هذا العالم يجب تعظيمه فليس الوصف في هاتين القضيتين علة للحكم،و إلا لوجب إكرام كل جالس و تعظيم كل عالم،و إنما أتي بهما للإشارة إلى الموضوع الخارجي،و تمييزه عن غيره من بقية الأفراد،و هكذا الكلام بالنسبة إلى بقية الأوصاف التي اشتملت عليها الآية الكريمة،فولاية الوصي عين ولاية النبي و لا بد أن يكون سببها شيء آخر وراء هذه الصفات التي يتصف بها الكثير من الناس،و هو ما أحاطت به العظمة الإلهية من أسرار نفسية،و فضائل قد احتشدت في صاحب هذا الإمتياز الإلهي لا يشاركه فيها أحد من أفراد الأمة.فالآية بهذا الأسلوب أشبه ما تكون بالنص

ص: 34

الصريح على توليته أمر الأمة بالشكل الذي ثبت للنبي من قبله.

و لا ينافي ذلك الإتيان بصيغة الجمع في الصفات التي تعرف عن صاحب هذا الامتياز،كما ورد في الآية الكريمة حيث قال سبحانه وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ لأن ذلك قد ورد كثيرا في كلام العرب،و في القرآن الكريم أيضا للتفخيم و التعظيم،كما ذكر ذلك في مجمع البيان،و في كتاب الحق اليقين أن لفظ الجمع إما لتعظيم أو لشمول ذلك لسائر الأئمة الطاهرين عليهم السّلام،و قد ورد التعبير عن المفرد بصيغة الجمع في قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ :ففي المراجعات لقد اجتمع المؤرخون و المفسرون أن القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده و أطلق اللّه سبحانه عليه لفظ الناس و هو مفرد.

و حاصل النكتة في التعبير عن الواحد بلفظ الناس،هو أن أبا سفيان أعطى نعيم بن مسعود عشرا من الإبل على أن يخوف المسلمين من المشركين،فكره أكثر المسلمين الخروج مع النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بسبب إرجافه، و خرج النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في سبعين فارسا من المسلمين و رجعوا سالمين،فنزلت الآية في مقام الثناء و المدح لمن خرج مع النبي،و جاء التعبير بلفظ الجمع لأنه أبلغ في مقام الثناء عليهم من لفظ المفرد الذي لا يكون له أثر في النفوس غالبا،و في المراجعات أن التعبير عن المفرد بصيغة الجمع ورد في هذه الآية أيضا،قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ .

و نقل عن المحدثين و أهل الأخبار و المفسرين أن الذي بسط يده رجل واحد من بني محارب و قيل من بني النضير.

و ذكر الزمخشري في كشافه كما نقل عنه في المراجعات،أن النكتة في التعبير بلفظ الجمع هو ترغيب الناس بذلك العمل،و الاهتمام بشأن الفقراء

ص: 35

و الإحسان إليهم،ليرغب الناس في مثله بعد أن استحق صاحبه ذلك الجزاء الرفيع و المنزلة العالية.

و مهما يكن الأمر فالآية الكريمة بعد الاتفاق على نزولها في علي عليه السّلام كما أجمعت عليه الأحاديث الصحيحة من طريق أهل السنّة و الشيعة، و اشتمالها على كلمة الحصر التي يستفاد منها نفي الولاية عن غير الثلاثة المذكورين فيها،تدل دلالة لا تقبل الريب على أن الولاية المجعولة لعلي هي من سنخ ولاية اللّه و الرسول لأن الولاية ببقية معانيها لا تنحصر في الثلاثة كما دلت على ذلك الآيات الكثيرة.

و لقد أضاف إليها علماؤنا جملة من الآيات الدالة على ولايته أمر الأمة بعد النبي،بملاحظة ما ورد من الأحاديث في تفسيرها و أسباب نزولها.

منها قوله تعالى في سورة المائدة يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ،وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .

فلقد ذكر جماعة من المفسرين منهم الطبرسي في مجمع البيان عن تفسير العياشي،بإسناده عن ابن عباس و جابر بن عبد اللّه أنهما قالا:أمر اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أن ينصب عليا إماما للناس من بعده فتخوف رسول اللّه أن يقولوا حابى ابن عمه،و يطعنوا في ذلك عليه،فأوحى اللّه إليه هذه الآية،فقام بتوليته أمر الأمة يوم غدير خم.قال في مجمع البيان و هذا الخبر بعينه قد حدثناه السيد أبو الحمد،عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني،بإسناده عن ابن عمير،في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل و التأويل.و في مجمع البيان ما لفظه:و قد أورد هذا الخبر بعينه أبو اسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره،مرفوعا إلى ابن عباس قال:نزلت هذه الآية في علي عليه السّلام،و أمر النبي أن يبلغ فيه،فأخذ رسول اللّه بيد علي عليه السّلام،و قال من كنت مولاه فعلي مولاه،اللهم و آل من والاه و عاد من عاداه،و قد اشتهرت

ص: 36

الرواية عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام أن اللّه أوحى إلى نبيه أن يستخلف عليا،فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل اللّه إليه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره اللّه بأدائه،و المقصود منها أنك إذا تركت تبليغ ما أنزل إليك من ربك و كتمته،كأنك لم تبلغ شيئا من رسالات ربك.

و مما لا ريب فيه أن الآية الكريمة،بعد ملاحظة ما ورد في تفسيرها و أسباب نزولها،كما ورد من طرق الشيعة و غيرهم،تدل دلالة واضحة أن اللّه سبحانه أمر نبيه أن يعين خلفا له يقوم بالأمر من بعده،و لم يترك دينه الذي يساير الحياة و يعيش مع الزمن،بدون حافظ لمبادئه عليم بأسراره و غوامضه،لا ينجرف مع أهوائه و لا مع ميوله و نزعاته،لا تغريه عظمة السلطان و لا ترهبه سطوة الحاكم.

و الآية الكريمة و إن لم تشتمل على ذكر علي و خلافته باللفظ الصريح إلا أن الحافظين لأسباب نزول آيات الكتاب من صحابة النبي و أئمة أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس،و جعلهم ملجأ للأمة و سبيلا إلى النجاة من الهلكة،ذكروا السبب في نزولها و أوضحوا المراد منها.

و لما هدده اللّه سبحانه بقوله:و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و اللّه يعصمك من الناس،لم يجد بدا من إصدار ذلك البلاغ العام بعد رجوعه من الحجة الأخيرة في حشد من المسلمين و على مفترق الطرق قبل أن يتفرق الناس و يذهب كل إلى وطنه.

و هناك آيات كثيرة يستدل بها الشيعة على أن النبي قد استخلف عليا بأمر من ربه بملاحظة ما ورد في تفسيرها و أسباب نزولها من طريق إخوانهم أهل السنة و من طريق أئمتهم الذين لا ينطقون إلا بلسان جدهم الأعظم صاحب الرسالة.

ص: 37

و نحن في كتابنا هذا نكتفي بهاتين الآيتين،و نمر ببعض الأحاديث المتفق على صحتها عند الفريقين،لنرى مقدار دلالتها على ما يدعيه الشيعة.

ففي الحق اليقين عن أحمد بن حنبل في مسنده،أنه لما نزل قوله تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من أهل بيته ثلاثين فأكلوا و شربوا ثلاثا،ثم قال:من يقضي عني ديني و مواعيدي و يكون خليفتي و هو معي في الجنة؟فقال علي عليه السّلام أنا يا رسول اللّه!فقال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنت.قال و رواه الثعلبي في تفسيره بعد ثلاث مرات،في كل مرة يسكت القوم غير علي عليه السّلام،و ذكر في حاشية الكتاب المذكور هذه الرواية عن كتاب كنز العمال جلد 6 صفحة 397،و تاريخ الطبري جلد 2 صفحة 217 و كامل ابن الأثير جلد 2 صفحة 34 و في شرح النهج عن أبي جعفر الاسكافي أنه قال:

و روي في الخبر الصحيح أنه كلفه،يريد بذلك أن النبي كلف عليا في بدء الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام و انتشارها بمكة،أن يصنع له طعاما،و أن يدعو له بني عبد المطلب،فصنع له الطعام و دعاهم له فخرجوا ذلك اليوم و لم ينذرهم لكلمة قالها عمه أبو لهب فكلفه اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام و يدعو قومه ثانية،فصنعه و دعاهم فأكلوا،ثم كلمهم و دعاهم إلى الدين،و دعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب،ثم ضمن لمن يؤازره منهم و ينصره على دعوته أن يجعله أخاه في الدين و وصيه بعد موته و خليفته من بعده،فأمسكوا كلهم و أجابه هو وحده،و قال أنا أنصرك على ما جئت به، و أؤازرك و أبايعك،فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر،و شاهد منهم المعصية و منه الطاعة،هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي فقاموا يسخرون و يضحكون،و يقولون لأبي طالب أطع إبنك فلقد أمره عليك.و في مجمع البيان قال و اشتهرت القصة عند الخاص و العام،ثم ذكر القصة التي نقلناها،و في المجمع روي عن أبي رافع هذه القصة و أنه جمعهم في الشعب و صنع لهم رجل شاة فأكلوا بأجمعهم،و سقاهم عسا فشربوا كلهم،ثم قال:

ص: 38

إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين،و أنتم عشيرتي و رهطي،و أن اللّه لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا و وزيرا و وارثا و وصيا و خليفة،فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي و وارثي و وزيري و وصيي،و يكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي،فسكت القوم فقال ليقومن قائمكم ثم لتندمن،ثم أعاد الكلام ثلاث مرات،فقام علي فبايعه و أجابه،و نقل جماعة الحديث المذكور بما يقرب مما ذكرناه عن عدد كبير من أعيان المفسرين و المحدثين من إخواننا أهل السنة.

و في الحديث الشريف دلالة على أن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قد هيأ عليا لهذا المنصب منذ بدأ يدعو الناس إلى عبادة اللّه،و إذا أضفنا اشتهار الحديث إلى اتفاق المفسرين للآية الكريمة يحصل لنا الاطمئنان بصدور ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و اختلاف بعض الرواة في بعض نواحي القصة المذكورة،لا يضر في المقام بعد اتفاقهم على الناحية التي نتحدث عنها.

و من النصوص المتفق عليها بين الفريقين قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي،رواه مسلم و البخاري و الترمذي و غيرهم و اعترف ابن حجر و غيره بصحته.و قد ورد هذا الحديث بمناسبات كثيرة،منها أن رسول اللّه خرج في غزوة تبوك،و خرج الناس معه فقال له علي أخرج معك يا رسول اللّه؟قال لا فبكى علي عليه السّلام،فقال له رسول اللّه أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟إنه لا ينبغي أن أذهب إلا و أنت خليفتي.

و قد روى الحديث جماعة غيرهم من أعيان المحدثين بتفاوت لا يضر بالمقصود،منهم الإمام أحمد بن حنبل في كتاب مناقب علي عليه السّلام، و الطبراني و ابن عساكر في تاريخه و البارودي و ابن عدي،و اشتمل على كيفية المؤاخاة و في آخره قال علي يا رسول اللّه ذهب روحي و انقطع ظهري

ص: 39

حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري،فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبي و الكرامة،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و الذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي،و أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي،و أنت أخي و وارثي.

و في غاية المرام قال الباب العشرون قول النبي لعلي عليه السّلام:أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي من طريق العامة و فيه مائة حديث،ثم استطرد في ذكرها بأسانيدها الموجودة في كتبهم و صحاحهم، إلى أن قال الثالث و الأربعون بعد أن ذكر سند الحديث المتصل بأنس لما كان يوم المباهلة آخى النبي بين المهاجرين و علي واقف يراه و يعرف مكانه، فلم يؤاخ بينه و بين أحد،و انصرف علي باكي العين،فافتقده النبي و قال ما فعل أبو الحسن؟قالوا انصرف باكي العين يا رسول اللّه فقال النبي لبلال إذهب و أتني به،فمضى بلال إلى علي عليه السّلام و قد دخل منزله و فاطمة تقول ما يبكيك يا أبا الحسن؟لا أبكى اللّه عينك،قال يا فاطمة آخى النبي بين أصحابه و أنا واقف لم يؤاخ بيني و بين أحد،قالت لعله ادخرك لنفسه،ثم استدعاه بلال فأتى النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقال له إنما ادخرتك لنفسي،ألا يسرك أن تكون أخا نبيك،قال بلى يا رسول اللّه،أنى لي بذلك،فأخذ بيده و أرقاه المنبر ثم قال اللهم هذا مني و أنا منه،ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه،قال فانصرف علي قرير العين فاتبعه عمر بن الخطاب فقال بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي و مولى كل مسلم، و هذه الزيادة موجودة في الحديث الحادي و الأربعين،و في بعضها كما في غاية المرام لا ينبغي أن أذهب إلا و أنت خليفتي،و في حديث السبعين كما في الكتاب المذكور،أنت بابي الذي منه أوتى و خليفتي من بعدي.

و مجمل القول أن الحديث المذكور على اختلاف طرقه و كثرة أسانيده،

ص: 40

قد اعترف بصحته الأعلام من الفريقين وروته الصحاح و غيرها،و إذا لا حظنا متن الحديث،و صدوره من النبي في مختلف المناسبات و اشتماله على الفقرات المختلفة من قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنت خليفتي،و من كنت مولاه فعلي مولاه، و علي وليكم بعدي،و أمثال ذلك من الفقرات التي تدل على أنه في مقام جعل الولاية العامة له من بعده،و أن الحديث الشريف لم يكن حينما خرج في غزوة تبوك خاصة لينصرف إلى استخلافه على المدينة ما دام النبي غائبا عنها في غزوته تلك،كما استخلف موسى أخاه هارون حينما ذهب لمناجاة ربه كما رجح جماعة من محدثي السنة.و السر في ذلك هو أن الحديث قاله النبي لمناسبات كثيرة و عقبه بقوله أنت خليفتي،و أمثالها مما يدل على الخلافة العامة و استثناء النبوة،كما جاء في الحديث،ظاهر في أن جميع المنازل التي كانت لهارون من موسى هي لعلي عليه السّلام بكاملها و من منازل هارون كونه.خليفة لموسى كما حكاه اللّه سبحانه في كتابه حيث قال:

اخلفني في قومي،و بعد أن كانت الخلافة ثابتة لهارون لا بد و أن نقول بثبوتها لعلي بعد النبي،و إلا كان من اللازم استثناؤها كما استثنى النبوة لأي إنسان من بعده،و قضية الاستثناء تقتضي العموم في المستثنى منه،كما و أن استثناء النبوة بعد وفاته من تلك المنزلة التي أعطاها النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لعلي عليه السّلام يدل على أن الثابت لهارون ثابت لعلي في جميع الأزمنة،حتى بعد وفاة الرسول،و إلا لم يكن للاستثناء معنى محصلا لأن العام الإفرادي لا بد و أن يستتبع عموما زمانيا،إما بالتنصيص كما إذا قال القائل أكرم العلماء في كل زمان،أو بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة؛فإذا ورد الخاص،و أخرج فردا من العام،في زمان خاص أو جميع الأزمنة،يبقى العام على حجيته و ظهوره في أفراد العام،و ما نحن فيه قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم«أنت مني بمنزلة هارون من موسى»قضية لها عمومها الزماني و الافرادي،و لو لا الاستثناء لثبتت لعلي عليه السّلام بمقتضاها جميع المنازل التي كانت لهارون من أخيه موسى في

ص: 41

جميع الأزمنة حتى بعد وفاته و لكن استثناء النبوة من بعده يعين المراد من العام،و يكشف عن ظهوره في جميع الأفراد،و يسقط عن الظهور في الفرد الخارج عنه و هو النبوة،و يبقى حجة في كل ما كان لهارون من موسى من الوزارة و الخلافة و وجوب طاعته في حياة النبي و بعدها حيث كان العام ظاهرا في جميع ما كان لهارون حتى النبوة.

فحديث المنزلة بعد التأمل فيه،و فهمه فهما صحيحا يكفي لإثبات الوصية و الخلافة،لا سيما و أنه لم يصدر منه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لمناسبة واحدة بل صدر منه بمناسبات كثيرة،و في بعضها كان يعقبه بما يرفع الالتباس و التشويش، و يكشف لهم بكل صراحة عن مقصوده،كقوله أنت ولي الأمر من بعدي و أمثال ذلك كما قدمنا.

و من جملة النصوص الصريحة فيما تدعيه الإمامة ما ذكره شارح النهج بسند ينتهي إلى زيد بن أرقم،إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال ألا أدلكم على ما أن تسالمتم عليه لم تهلكوا:إن وليكم اللّه،و إن إمامكم علي بن أبي طالب، فناصحوه و صدقوه فإن جبرائيل أخبرني بذلك،و الرواية محكوم بصحتها بين علماء الحديث،و هي صريحة في إمامة علي و كونه وليا من بعده،و لذا أمر النبي أن يناصحوه و يصدقوه،و لا معنى للمناصحة و التصديق إذا لم يكن له عليهم ولاية الإطاعة و المناصحة،فالنبي بعد أن أعلن أنه إمامهم أمرهم بمناصحته و تصديقه فيما يقول،و يحكم في رعيته،و لو كان إماما في العلم و الفتوى كما يذهب إلى ذلك في شرح النهج في مقام تأويل الحديث المذكور لم يكن لأمر النبي أمته بمناصحته معنى معقولا يتناسب مع بلاغته و سمو تفكيره،و كأن صاحب النهج رأى أن هذا التأويل لا يتفق و ظاهر الحديث المذكور،لذلك ذكر وجها آخر للتخلص مما يذهب إليه شيوخ المعتزلة،من شرعية الخلافة على النهج الذي وقعت عليه فقال ما حاصله

ص: 42

أن الإمامة كانت لعلي بمقتضى هذا الحديث و غيره،و لكنه أقرها في غيره و تنازل عنها لمن تقدمه في الحكم و لذلك توليناهم و قلنا بصحة خلافتهم، إلى غير ذلك من التمحلات التي اضطرتهم إليها أمثال هذه الأحاديث الصريحة فيما تدعيه الشيعة.

و إذا كانت الإمامة لعلي عليه السّلام بالجعل الإلهي كما هو المفروض في هذه الأحاديث،و أن اللّه سبحانه أمر جبريل بأن يخبر النبي بذلك كما جاء في هذا الحديث فكيف يسوغ لعلي أن يتنازل لغيره و يقرهم على ولاية أمر الأمة،و هل خفيت المصلحة عنه سبحانه و أدركها علي عليه السّلام حتى تنازل عما جعله اللّه له و أعطاه إياه،و متى ثبت أنه تنازل عن حقه و أقر غيره مختارا غير مكره؟و لقد فرضت عليه ظروف الإسلام في تلك الفترة من الزمن أن يعمل و إياهم صفا واحدا دفعا للأخطار التي أحدقت بالإسلام في ذلك الظرف العصيب.و للنبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم مواقف كثيرة نص فيها على ولاية علي عليه السّلام من بعده كان يتعمدها لأدنى مناسبة تقتضي ذلك.

ص: 43

حديث الغدير

و أكثر مواقفه اشتهارا و انتشارا بين المسلمين،ذلك البلاغ العام الذي أذاعه على الجماهير التي رافقته بعد رجوعه من حجة الوداع،في بقعة تسمى الغدير قبل أن تتفرق الجماهير التي حجت في تلك السنة.

و قبل أن يتفرق ذلك الملأ،نزل في تلك الصحراء و حط فيها أثقاله، فصنع له المسلمون منبرا من اقتاب الإبل،و اجتمعوا حوله،فقام فيهم خطيبا،يعدد نعم اللّه على عباده،ثم استجوبهم فاعترفوا له بالولاية و أنه أولى بهم من أنفسهم ثم أخذ بيد علي عليه السّلام و رفعها إليه حتى بان بياض ابطيه،و جعل له الولاية العامة التي جعلها اللّه له.

و ذكر في غاية المرام الحادث المذكور بتسعة و ثمانين حديثا من طريق العامة.و في جميعها يقول النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فوق المنبر و هو آخذ بيد علي عليه السّلام،من كنت مولاه فعلي مولاه،و في بعضها زيادة على ذلك،علي خليفتي من بعدي.و جاء في أكثر المرويات أنه نزلت الآية على النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.و هي:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ،و هو في غدير خم وقت القيلولة في شدة الحر،بحيث لو وضع اللحم على الأرض لشوي،فأمر باجتماع الناس و عملوا له منبرا

ص: 44

من أحجار فقام عليه خطيبا ثم قال:أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟قالوا بلى يا رسول اللّه!فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.

و في بعض الروايات أن عمر بن الخطاب قال له:بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة،و يدعي جماعة من المحدثين أن الحديث من نوع المتواتر و قد رواه في الصواعق و في المستدرك للحاكم،و في كنز العمال،و مسند أحمد،و خصائص النسائي،و المواقف و شرحها و شرح التجريد للقوشجي،و السيرة الحلبية،و غير ذلك من كتب الحديث و التاريخ.

و في المراجعات أن الطبراني أخرج الحديث بسند مجمع على صحته عن زيد بن أرقم ذكر خطبة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و في آخرها قوله،أيها الناس إن اللّه مولاي و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم،فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه.

و إن المتتبع فيما كتبه نقلة الحديث في هذا الموضوع،يقطع بصحته لكثرة رواته و كثرة من كتب فيه،و في كتاب الحق اليقين،عن ابن المعالي الجويني،أنه كان يتعجب و يقول:شاهدت مجلدا ببغداد في يد صحاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه:المجلد الثاني و العشرون من طرق من كنت مولاه فعلي مولاه،و يتلوه المجلد التاسع و العشرون.

فالحديث المذكور من أصح الأحاديث سندا و أشهرها رواية و الاختلاف في متنه لا يضر بالمقصود..لأن كل من رواه ذكر فيه الفقرات التي استدل بها الإمامية على خلافة علي عليه السّلام.

وقف النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في حرارة الشمس و الوحي يهدد رسالته و ينذره إن هو تأخر عن أداء ما بقي منها،و يبعث في نفسه الأمن و الاطمئنان مما كان يحاذر و يخشى من قومه.

ص: 45

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .

و صعد النبي المنبر و بيده علي يرفعه حيث يراه الجمع بكامله و قال:

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟فكلهم استعجل الجواب و قال نعم يا رسول اللّه!فاسترسل في حديثه يقول من كنت مولاه فعلي مولاه.

و قد دلنا القرآن الكريم على أن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم،و أن له الصلاحية الواسعة في إدارة شؤونهم و يملك من أمورهم فوق ما يملكون.

حيث يقول:النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

و بعد أن أقروا له بذلك جعله لعلي من بعده،بقوله من كنت مولاه فهذا علي مولاه،فلم يفهم من هذه الفقرة بعد أن استنطقهم و أقروا بالولاية العامة،إلا أن تلك الولاية التي ثبتت له بنص القرآن هي بعينها لعلي من بعده بنفس الاسلوب و اللغة التي ثبتت ولايته العامة بها.

و لو لا الآية الكريمة لما فهمنا من النبوة إلا القيام بوظائف الدين الراجعة إلى عالم الآخرة،و لم يكن لها هذا المعنى الواسع.فالولاية العامة من هذه الصيغة هي أقرب ما يفهمه المسلمون منها لأنهم فهموا ذلك منها من قبل،و لأنها لغة القرآن التي ألفتها نفوسهم و امتزجت بأرواحهم،و لذا لم يكن أحد يشتبه عليه المراد من هذه الفقرات يوم ذاك.

و في كثير من روايات الغدير:أن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أفرد خيمة لعلي عليه السّلام و دخل عليه المسلمون أفواجا يبايعونه بالإمارة و الولاية.

أما غير هذا المعنى من المعاني التي يتحملها هذا اللفظ،كالصديق و الوارث و المحب و الناصر و السيد و المالك و غير ذلك من المحتملات لا يمكن أن يكون هو المراد في هذا المقام بعد ملاحظة ما أحاط به من المناسبات و الملابسات.

ص: 46

هذا بالإضافة إلى أنه ليس لبيان هذه المعاني أهمية تستدعي موقف النبي في حرارة الشمس،ليخطب في أصحابه فوق الرمال الملتهبة و الوحي ينذر بالعقاب إن لم يبلغ المسلمين في ذلك الوقت بالذات.

و متى كان المسلمون يشكون في صداقة علي و صحبته للرسول و كونه ناصرا لدين اللّه لكي يقف النبي و يعلن للناس هذا الإعلان العام.و أي مناسبة بين أحد هذه المعاني و بين قوله ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أقرارهم له بذلك.

و لقد ذكر الرواة أن عليا عليه السّلام جمع الناس في رحلة الكوفة أيام خلافته و فيهم بقية من أصحاب الرسول،ثم قال:أنشد اللّه كل امرئ مسلم سمع من رسول اللّه يوم غدير خم ما سمع إلا قام،فقام ثلاثون صحابيا منهم إثنا عشر بدريا فشهدوا بحديث الغدير سماعا من رسول اللّه.

أتراه فعل ذلك ليثبت أحد هذه الاحتمالات من قول الرسول و كلهم حتى من نازعه الخلافة يعترف له بأوثق الصلات بالرسول و أمتن الولاء، و أعظم الأثر في تكوين الإسلام و خدمة النبي و الدين.

و أخيرا فإن الصيغة التي استعملها النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في النص على ولاية علي من بعده،هي من أوضح الصيغ التي يمكن أن يتأذى بها هذا المعنى إذا نظرنا إليها بعين الإخلاص و التجرد عن الأهواء.

و ليس غيرها بأوضح منها دلالة على ما تدعيه الشيعة الإمامية.

و لو فرض أن النبي أتى بغيرها لم تنسد في وجه المفرقين أبواب الاحتمالات و التأويلات لتصرفهم عما يراد منها و لو إلى أبعد الاحتمالات.

على أن الحديث قد اشتمل كما في بعض الروايات على قوله علي خليفتي من بعدي،و كثير من الورايات التي صدرت منه بحسب المناسبات الخاصة،وردت بهذه العبارة أيضا.

ص: 47

و لكن إخواننا بين منكر لها و بين من تأول مفادها بما ليس بمراد لصاحب الرسالة.و إذا أردنا أن نفتح باب التأويل و التلاعب في الأحاديث لا يبقى شيء إلا و يجوز فيه ذلك فتبطل حجية الظواهر الكاشفة عن مراد المتكلم و يؤدي ذلك إلى محق اللغة و عدم إمكان التفاهم.

هذه صورة مجملة عن الخلافة الإسلامية عند الإمامية،و الأدلة كما تدل على أن الفكرة تكونت يوم افتتح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسالته تدل على ما تدعيه الشيعة من أنها حق إلهي،كما كانت النبوة من قبل،غايته أن النبي يتولى إصدار هذا البيان و يبلغه لأمته.و لم يكن حرص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على انتقال الحق من بعده لعلي احتكارا لهذا المنصب في ذريته لأنه زوج ابنته و أب لأولادها كما يميل إلى ذلك في عقيدة الشيعة.ذلك لأنه لا يعتمد في فكرته هذه على غير الحدس و قياس النبوة على غيرها من المناصب التي تجوز فيها الوراثة و الاستئثار،و قد خفي عليه أن الإسلام قد أعلن حربا لا هوادة فيها على هذه النواحي.بل كان ذلك منه بأمر من اللّه تطبيقا لمبدأ تقديم الأصلح على غيره و الأرجح على المرجوح و معرفة الأصلح و الأرجح لا تتيسر في الغالب إلا عن طريق العالم بالسرائر و الخبير بما تخفيه الأنفس و ما يضمره الغد.

و الأمة مهما بلغت من الرقي و الحضارة لا يمكن أن تصل إلى هذه الغاية كما نشاهد في أرقى الأمم اليوم و قبل اليوم،تلك الأمم التي أصيبت بأسوأ أنواع النكسات و الصدمات نتيجة لسوء تصرف الحاكمين و استئثارهم بخيرات الشعوب و مقدرات الأمم.

فالكفاءة و المقدرة على إدارة شؤون الأمة،و تطبيق مبادئ الإسلام تطبيقا يضمن العدل العام و الحرية و المساواة،كما يريد اللّه سبحانه هذه الصفات و غيرها بعد أن تجمعت في علي عليه السّلام اختاره اللّه للخلافة بعد نبيه، و لم يطالب بها على أساس القرابة كما يذهب إلى ذلك العقاد في كتابه عبقرية الإمام.

ص: 48

قال و كيف ينازع القوم بهذه الحجة،مع أن في المسلمين عمه العباس، و هو أقرب منه للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد بلغ من السن مرتبة تخوله أن يقف في صف من تقدم للخلافة،إن عليا لم يعتمد في إثبات حقه في الخلافة على قرابته من الرسول:و هو الخبير بأن الخلافة الإسلامية مسألة عالمية لا توزن بميزان القرابة.

و لا يؤتم فيها برأي الأفراد و الجماعات،و يعلم أيضا بأن النبي لم يكن في يوم من الأيام يصور الإسلام للعرب،و للناس عامة،بصورة السيادة الهاشمية.هذا بالإضافة إلى أن نفس مبادئ الإسلام تأبى ذلك لأنها تقوم على أساس المساواة بين الناس ورد المفاضلة بينهم إلى الأعمال و الأخلاق،فأحب الخلق إلى اللّه أنفعهم للخلق،و لو كان عبدا أسود، و أكرمهم على اللّه أشدهم تمسكا بتعاليمه مهما كان عنصره،كل ذلك لم يغب عن بال علي عليه السّلام،و لا انتهج غير هذه الخطة في جميع أدوار حياته و حديث القرابة كان إلزاما لأخصامه الذين اتخذوه سلاحا في إقصاء خصومهم الأنصار عن الخلافة،لأنهم و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من شجرة واحدة،و لما بلغت حجتهم هذه عليا عليه السّلام كان من المفروض عليه أن يحتج على المهاجرين بالمنطق الذي احتجوا به على الأنصار،و تغلبوا به على الموقف فقال لما بلغه ذلك:

لقد احتجوا بالشجرة و تركوا الثمرة و هي حجة لا بد منها في هذا الموقف و لا يجوز غيرها لأنها سلاحهم الوحيد و منطقهم الذي شق لهم الطريق إلى الخلافة و لقد استرسل العقاد في حديثه إلى أن قال:

إن أحق الناس أن يفطن إلى هذه الحكمة لهم أولئك الغلاة الذين زعموا أن وراثة الخلافة في بني هاشم حكم من أحكام اللّه:لكان أعجب شيء أن يموت النبي و ليس له عقب من الذكور و أن يختم القرآن و ليس فيه

ص: 49

نص صريح على أحد من أهل البيت و غير ذلك من الحجج التي لا تتناسب مع عبقرية العقاد و تحرره في دراسته.

إن الشيعة الإمامية هم الذين يدعون أن الخلافة الإسلامية حكم من أحكام اللّه،و ضرورة من ضرورات المذهب،و لا رأي للأمة فيها..

و لكنهم لا يقولون ذلك على أساس القراية و النسب حتى تكون في أعقاب النبي و إنما يقولون بذلك على أساس اختيار الأصلح و الأفضل من أي أسرة كان و بأي لون اتصف،لأنه يقوم مقام النبي في حفظ الشريعة و تطبيق مبادئ الإسلام،فيجب أن تتوفر فيه أفضل الصفات و أكمل المواهب،و ليس باستطاعة الإنسان أن يدرك ما يستره الغيب،و ما ينتج من النفوس عند صراع الشهوات و الأهواء و الكفيل بذلك هو اللّه سبحانه،و قد اختار لعباده عليا لأنه الأصلح و الأفضل كما يعترف بذلك أكثر المسلمين.

هذا هو الذي تبنى عليه نظرية الحق الإلهي و أصحاب هذه النظرية ليسوا من الغلاة كما يذهب إلى ذلك العقاد و إنما هم الشيعة الإمامية.

الظاهر أن اسم الغلاة يتسع عند العقاد و غيره،لكل من أحب أهل البيت،و أحسن ما يمكن أن نعتذر به للعقاد و غيره ممن يلصقون بالشيعة عيوب غيرهم هو الجهل بعقائد الشيعة،و لو أنهم وقفوا عند جهلهم لوجدنا السبيل إلى معذرتهم واضحا لا لبس فيه،و لكنهم حملوا الإمامية أوزار غيرهم من الفرق الضالة.و ما زال علماء الشيعة يكتبون دفاعا عن حقهم، و يناشدون إخوانهم المسلمين الرجوع إلى كتب الشيعة أنفسهم حرصا منهم على وحدة الإسلام،و رغبة منهم في الوقوف صفا واحدا في وجه العدو المشترك.و أرجو أن يكون كتابي هذا ردا لكل عدوان من هذا النوع.

ص: 50

أصول الإسلام

عند الشيعة الإمامية

أصول الإسلام عند الشيعة الإمامية أربعة:التوحيد،و العدل،و النبوة، و المعاد.و على هذه الأربعة تقوم دعامة الإسلام،و بها يكون الإنسان مسلما إذا أقر بها لسانه،و لا يجب التفتيش عن خفايا نفسه،فالإقرار باللسان يكشف عن موافقة الجنان في الغالب،و يكفي للحكم بإسلام المقر ما لم يعلم من حاله عدم التصديق بواحد منها.

و على ذلك علماء الطائفة الشيعية،و أحاديث أئمتهم بذلك بلغت حد الاستفاضة و عند أكثرهم لا بد من معرفة هذه الأركان بالأدلة العقلية.

التوحيد-لقد أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه سبحانه و صفاته الثبوتية و السلبية،و ما يصح عليه و يمتنع منه بواسطة الدليل،و هكذا الحال في بقية أصول الإسلام،كما و أنه لا يصح الاعتماد في إثباتها على النقل المستفاد من الكتاب و السنة لأن إثبات الأصول بالكتاب و السنة يتوقف على ثبوت هذين الأمرين،و ثبوتهما إنما يكون بعد فرض ثبوت النبوة،و هي تتوقف على ثبوت الواجب،فلو افترضنا أن إثبات الواجب و النبوات بطريق النقل،بالكتاب و السنة يلزم الدور الباطل و كون الشيء علة لنفسه،إلا أن

ص: 51

يشتمل الكتاب و السنة على أحد الأدلة العقلية فيصح الاستدلال بهما لدليل العقل لا من حيث كونه كتابا منزلا من عند اللّه.

و لم يترك القرآن الكريم ناحية من النواحي التي تلفت نظر الإنسان إلى وجود الخالق المدبر إلا و نبه عليها و عرضها عرضا ينسجم مع أسلوبه و بلاغته بالمنطق السليم المقنع الذي يعتمد على الأسباب و المسببات و على البديهيات التي تنسجم مع الفطرة و العقل كما يبدو ذلك من آياته الكثيرة التي جاءت لتلفت نظر الإنسان إلى تنظيم الكون بسماواته و كواكبه و بحاره و جباله و سهوله و ما بين ذلك من كائنات لها خصائصها و ميزاتها و ما إلى ذلك من الموجودات بما لا يدع مجالا للريب و التردد في أن هذا الكون العظيم العجيب بكل ما فيه من الذرة إلى أعظم الكائنات و الموجودات لا يمكن أن يوجد تلقائيا أو صدفة بدون موجد مدبر.و لكي لا يذهب الإنسان بعيدا إلى بقية الكائنات فقد أرشده إلى التأمل في خلقه و نشأته و تركيبه،ذلك لأن السماء بكواكبها و أجرامها و عجائبها و البحار و محتوياتها و كائناتها الحية و الأرض بما فيها من أصناف المخلوقات و النباتات كل هذه الكائنات ليست بأعظم و لا بأدل على وجود الخالق المدبر.

و علام نتلمس البراهين الفلسفية على وجود اللّه سبحانه و وحدانيته و هذا الكون زاخر بصنوف الآيات و البراهين على وجوده و هي تدعو إلى الإيمان و القناعة بيسر و سهولة لا تشوبهما أوهام الفلاسفة و لا غموض الفلسفة و عناؤها.

و لعل من الخير للإنسان أن لا يسرف في البحث عن كنه اللّه تعالى و حقيقته لأن ذلك مما يستحيل على العقول إدراكه و التوصل إليه مهما اتسعت آفاقها و تعاظم و عيها،و متى كلفها الإنسان فوق وسعها و أرهقها يزجها في متاهات لا تحمد نتائجها.

ص: 52

و حيث كان اللّه سبحانه منزها عن حدود الزمان و المكان و عن قيود الزمان و المكان استحال على العقل تصوره و إدراكه،و كيف يتاح له ذلك و هو عاجز عن إدراك كنه مخلوقاته و اكتشاف ما فيها من ألغاز و أسرار الحياة و الروح و العقل و حتى كثير من دقائق المرئيات و جلائها.

بل إن كل ما استطاع أن يتوصل إليه البشر من معرفة اللّه عز و جل إنما جاء عن التفكير في كائناته و آيات صنعه و عجائب مخلوقاته فاستدلوا بها على وجوده و بقاياتها و تنظيمها على حكمته و انسجامها و تنسيقها على و حدانيته،و من أجل ذلك جاء التحذير و الترهيب عن التفكير في ذات اللّه تعالى كما تؤكد ذلك النصوص الكثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الأطهار من ذريته،و من ذلك ما جاء عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال:إياكم و التفكر في اللّه و لكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمة اللّه فانظروا إلى عظيم خلقه.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من نظر في اللّه كيف هو و أين هو فقد هلك.

إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تحذر من الاسترسال و الاعتماد المطلق على العقل في معزل عن الكون و ما فيه من الكائنات و عجائب المخلوقات.

و ما ذاك إلا لأن الآيات و الكائنات أدل على موجدها و أصدق في الدلالة عليه من غيرها،ذلك لأن كل موجود اتصف بغاية خاصة و فائدة ملحوظة كالكتاب المؤلف و القصر المشيد و الجهاز الخاص المعد لبعض الأغراض و الأهداف فإنه يدل دلالة واضحة و سليمة على أن موجده و صانعه ذو عقل سليم و قصد نبيل عرف الغاية من صنعه فأوجده لأجلها،و كلما تمتنت الصلة و تكشفت غاية الموجد و حكمته في صنعه يتضاعف اليقين بحكمته و قصده مما أوجد و إن لم نر الموجد أو يخبرها عنه مخبر،و تلك حالة طبيعية ليس بإمكان أحد أن يتنكر لها أو يتجرد عنها،فكيف يتابع هذا

ص: 53

الكون العظيم بعناصره المختلفة و آياته الباهرة و سماواته المتعالية و ما ازدانت به من شمس و قمر و كواكب و ما حوته الأرض من صنوف الأحياء البشرية و الحيوانية و النباتية و أنواع الجمادات و ما تجلت به من آيات القدرة و الإبداع و الانسجام و دقة النظام و حكمة التدبير و سمو الغاية،و بلا شك فإن كل واحدة من هذه الآيات توجب اليقين الجازم بأن لهذا الكون خالقا عظيما و مدبرا حكيما خلقه بقدرته و أنشأه بإرادته و قصده،و أنا لا أريد من ذلك أن أستعرض جميع الآيات الكونية و إنما الذي أريده الإشارة إلى الإنسان نفسه باعتباره أسمى و أروع مظاهر القدرة الإلهية و إبداعها الفذ لتميزه على سائر المخلوقات بخصائصه و مواهبه الجسمية و الفكرية تلك الخصائص و المواهب التي ما برح العلماء يستجلون غوامضها و يحاولون استكشاف أسرارها منذ عشرات القرون و مع ذلك فلم ينتهوا إلى شيء بالقياس إلى البقية الباقية من أسرارها.

أتحسب أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر

لذا فإن اللّه سبحانه قد أرشد الإنسان إلى التأمل و التفكير في خلقه و نشأته و تكوينه لأن في ذلك ما يغنيه عن التأمل في غيرها و يوفر عليه عناء البحث و التأمل العميق في بقية الكائنات التي تعجز عن إدراكها و استيعابها إمكانيات الإنسان.

ص: 54

أطوار الجنين

يستهل الجنين حياته الأولى باقتران نطفة الرجل بما يسمونه بويضة الأنثى،و بعد اقترانهما يدخل الجنين في طوره الأول و حسبما يقرر العلم أن البويضة الملقحة سرعان ما تنقسم إلى خليتين ثم تتكاثر حتى تصل إلى ملايين الخلايا لتكون المواد الأولية لصياغة الجنين و تكوينه،و منها يقطع الجنين مراحل التطور شهرا بعد شهر حتى يتكامل خلقه و نموه،ففي الشهر الأول ينمو و يكبر خمسين ضعفا عن بدء تكوينه يوم كان بويضة مخصبة كذرة الرمل.

و قد واكبت العناية الإلهية الجنين و أحاطته بصنوف الرعاية فحضنته بكيس الأمنيون و هو كيس يضم سائلا يغمر الجنين ليعطيه دفئا ملائما لا يتغير باختلاف الجو و درجات حرارته،و يقيه في الوقت نفسه شر الصدمات التي قد تصيب الأم.و في نهاية الشهر الثاني يصبح حجم الجنين كبيضة الدجاجة تقريبا و في نهاية الشهر الثالث يتخلق الجنين و تبدو عليه الصفات البشرية،و في خلال الشهر الرابع تتجلى به الفروق الجنسية،و في نهاية السادس يظهر له الحاجبان و الأهداب،و في نهاية الشهر السابع يصفو جلده أكثر من ذي قبل و يظهر عليه الشعر الدقيق،و في خلال الشهر التاسع يكتمل نموه و يصبح مؤهلا لخروجه إلى عالم النور.

ص: 55

و حينما يولد الطفل يبدأ بالتنفس و استنشاق الهواء،و إذا تأملت خلق الجنين وجدت آيات القدرة و الإبداع تطالعك في جميع خصائصه و جوانبه.

من ذلك أن اللّه عز و جل ابتدعه من نطفة دقيقة لا يكاد الطرف يدركها بحيث لو اجتمعت نطف البشر الأحياء في العالم كله لو سعتهم جوزة صغيرة،ثم أودع كل نطفة سماتها البدنية و خصائصها الموروثة مما تسبب في اختلاف البشر في الصور و الأجناس و الخصائص نتيجة لاختلاف صفاتهم الموروثة.

فكيف اختلف البشر و تمايزوا كلهم من نطفة واحدة لا يتميز بعضها عن بعض و كيف احتشدت عوامل الوراثة في نطف الملايين من البشر فحفظت لكل إنسان سماته الخاصة به و خلاله الموروثة،و كيف اتحدت خلايا الجنين في أطوارها و نتائجها؟فاستحال بعضها لحما و بعضها أعصابا و بعضها أوردة و شرايين،و غدا بعضها عينا باصرة أو لسانا ناطقا أو أذنا واعية و كلها من مادة واحدة.

و كيف اتفقت عناصر أبدان البشر في تركيبها من لحم و دم و أعصاب و ما إلى ذلك من المواد الموجودة في كل إنسان،و مع ذلك فقد اختلفوا في ألوانهم و سماتهم و مواهبهم و طبائعهم،فكان منهم الأبيض و الأسود و الجميل و القبيح و الذكي و البليد و الكريم و البخيل و ما إلى ذلك من الصفات و المواهب التي لا يتفق اشتراك شخصين اثنين في أكثرها فضلا عن جميعها.

و في هذا الاختلاف من الحكم و المصالح ما تعجز العقول و الأفهام عن إدراك الكثير منها،و هكذا تجلت حكمة اللّه عز و جل في حياتية الإنسان و جمال تصوره إذ أودع فيه من أسراره ما جعله آية فريدة لا يمكن للفكر مهما بلغ من السمو و الكمال أن يتخيل صورة أبدع و لا أكمل منه في جميع ما فيه من صور و مواهب.

ص: 56

و كثيرا ما يدهش الإنسان و تبهره المكتشفات العلمية و الأجهزة المخترعة على اختلافها لروعة ابتكارها و دقة تصميمها و سمو أهدافها،و لو فكر الإنسان في نفسه و ما تنطوي عليه من صنوف الأجهزة و الجوارح و ما تتصف به من سمو الإبداع و دقة التصميم و ما تؤديه من الوظائف و الأعمال لأصابه ما يشبه الذهول و الدهشة،و لم يعد يرى لتلك الأجهزة و المخترعات قيمة تستحق الوقوف عندها و التأمل العميق فيها بجانب القوى و المواهب الموجودة في الإنسان بالإضافة إلى تكوينه و المراحل التي مر بها إلى أن يصبح إنسانا،أفلا يكفي الجاحدين ذلك كله دليل على وجود الصانع المدبر و الخالق المبدع و صدق اللّه حيث يقول:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14).

و قال سبحانه: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ .

و قال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78).

إلى كثير من الآيات الكريمة التي تعرضت لأكثر النواحي في خلق الإنسان و تكوينه و مواهبه التي لا تحصى منذ وجوده في أرحام الأمهات نطفة و علقة و مضغة و عظاما و إنسانا كاملا مؤلفا من مئات الأجزاء و آلاف الشرايين و العروق لكل واحد منها مهمة يؤديها بأمانة و إتقان إلا إذا اصطدم بما يحول بينه و بين أدائها فيختل توازنه حينذاك.

هذا بالإضافة إلى سمعه و بصره و نطقه و إحساسه و ما ينفعل به من الحالات المختلفة بسبب ما فيه من الأجهزة التي تؤدي غايتها و يقوم كل منها بدوره،كتحليل الطعام إلى عناصر مختلفة تتوزع على الجسم ليأخذ كل عضو منه حسب حاجته،و توزيع الدم من مكانه الرئيسي،و هو القلب إلى

ص: 57

جميع أنحاء الجسم بواسطة الشرايين التي لا يحصى عددها،ثم يرجع إلى القلب بواسطة الأوردة و مرور الهواء الجديد الذي يجلبه التنفس لإصلاح الدم بعد فساده.

و مرة أخرى يوجه القرآن نظر الإنسان إلى خلق الذكر و الأنثى من جميع الكائنات الحية،فيقول و من كل خلقنا زوجين لعلكم تذكرون،و في آية ثانية:فاطر السموات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام أزواجا إلى غير ذلك من الآيات الكبيرة التي تؤكد أن جميع ما في الكون من حيوان و نبات و إنسان أوجد اللّه منه الذكر و الأنثى لأن الحياة لا تنتظم بدون ذلك في جميع المخلوقات على السواء فهل من الممكن أن تكون الصدفة هي التي أوجدت هذا الازدواج.

و لو تجاوزنا حدود العقل و افترضنا أن الكون وجد اتفاقا و بلا فاعل مريد،و أن الاتفاقات المتكررة توصلت إلى تكوين الإنسان،فهل الممكن أن تتكرر الصدفة بوجود كائن آخر و آخر و آخر إلى ملايين الملايين يماثله في الشكل و يختلف عنه أشد الاختلاف في الغرائز و المواهب و الإدراك و أكثر الإحالات.هذا بالإضافة إلى أن حدوث الكون بما فيه صدفة كما يدعي الجاحدون لا يحتم بقاؤه و دوامه محتفظا بتناسقه و نظامه فلماذا انتظم الكون بعد فرض وجوده صدفة و لم يعره التبعثر و الانحلال و تعمه الفوضى كأن تشرق الشمس من المغرب أو تغيب في المشرق و يبزغ القمر تارة بدرا و أخرى مباشرة هلالا و يصير الليل نهارا و النهار ليلا و يلد الإنسان حيوانا و الحيوان إنسانا إلى غير ذلك من المصادفات التي تلزم القائلين بأنه لم يوجد بإرادة حكيم قادر مدبر.

و جاء في كتاب أضواء على الأرض و الفضاء أنه يوجد في القارة الجنوبية المتجمدة نوع من الطيور تضع الانثى منه بيضها في أشهر الشتاء

ص: 58

حيث تتلبد الثلوج تضعه في جيب من جلدها في الطرف الأعلى من رجلها، و يبقى فيه البيض إلى أن يفرخ و يكبر الفرخ و يشتد و يصبح بإمكانه مقاومة الصقيع فعندها تتركه و شأنه،فهل هذا الجيب و هذا التدبير و جدا صدفة كما زعم الجاحدون؟بدون إرادة حكيم مدبر و لماذا وجد في رجلها و لم يوجد في ظهرها أو محل آخر؟و السلام على علي بن أبي طالب عليه السّلام القائل:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه معه و صدق من قال:

و في كل شيء له آية تدل على أنه واحد.

هذه الحقيقة يدركها الإنسان بفطرته السليمة البعيدة عن الأوهام و الشبه التي لا ترتكز على أساس من العلم و المنطق.و قد عبر عن هذا الواقع البدوي و هو ينكر على الجاحدين بقوله:البعرة تدل على البعير و أثر الأقدام يدل على المسير سماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج،أفلا يدلان على اللطيف الخبير؟ و مهما يكن الحال فالأدلة على وجود الخالق المدبر أكثر من أن تحصى و قد عرض قسما منها القرآن بمختلف الأساليب لأنه يخاطب أقواما ينكرون و آخرين يشركون،و أقواما يعبدون الشمس و القمر و ما صنعته أيديهم من الأحجار و الأخشاب،و قلما تخلو سورة من البراهين على وجوده و وحدانيته.

هذا بالإضافة إلى الأدلة العقلية التي استدل بها المتكلمون و الفلاسفة، و لا بد و أن نشير إلى بعضها بالبيان التالي:

و هو أن نسبة الوجود إلى الماهية إما أن يكون ضروريا كنسبة الجاذبية و الحركة إلى الأرض،و إما أن يكون ممتنعا كنسبة السكون لها،و إما أن لا يكون شيء منهما،و الأول هو الواجب و الثاني هو الممتنع،و الثالث هو المسكن لذاته،و من أحكامه ان ذاته لا تقتضي وجودا و لا عدما،إذ لو اقتضت الوجود لكان واجبا و لو اقتضت العدم لكان ممتنعا و من أمثلة ذلك هذا العالم،فإنه بلحاظ ذاته لا مرجح لوجوده على عدمه،و لا بد له من سبب

ص: 59

لوجوده و لعدمه خارج عن حقيقته و ماهيته،و هذا السبب لا يخلو في مقام التصور عن أن يكون واجبا بذاته،أو ممكنا،فإن كان واجبا فهو اللّه سبحانه و إن كان ممكنا فلا بد له من سبب أيضا فلا بد و أن ينتهي إلى كون السبب الأخير واجبا بذاته و هو ما لا يحتاج في وجوده إلى سبب آخر،و الا يلزم تسلسل العلل إلى ما لا نهاية له،أو الدور الباطل و هو تقدم الشيء على نفسه.

بيان ذلك أن علة الممكن إن كانت ممكنة و كان سببها ممكن يلزم تقدم الشيء على نفسه لأن كونها علة يقتضي تقدمها عليه و من حيث كونها ممكنة و هو علتها يقتضي تأخرها عنه،و إن كانت علتها غيره و هي ممكنة فتلك العلة تحتاج إلى علة و هكذا و هو التسلسل الباطل،و يبقى علينا أن نفترض سؤالا آخر قد يعترض تفكير الإنسان الساذج المفطور على التساؤل و التطلع إلى حقائق الأشياء،هو أنه إذا كان وجود العالم باعتباره ممكنا مقتضيا لوجود اللّه سبحانه،فمن أوجد اللّه.و بقليل من التفكير يدرك الإنسان أن هذا النوع من التساؤل من مخلفات عهد الطفولة الذي لا يقتنع إلا بالمحسوسات،أما الذين يتجاوزون هذه المرحلة و يعملون تفكيرهم يدركون أن النتيجة الحتمية لكونه تعالى الموجد لكل لشيء أنه خالق غير مخلوق،و لا يمكن أن يكون محتاجا في وجوده إلى سبب،لأنه لو قلنا أن كل كائن لا بد و أن يستمد وجوده من غيره حتى اللّه سبحانه يلزم أن لا يوجد شيء أبدا،لأن وجود الشيء يحتاج إلى سبب موجد،و قبل وجوده لا يوجد ذلك الشيء و السبب أيضا يحتاج إلى موجد،فلا بد و أن تنتهي إلى السبب الأخير الموجود بذاته و لو افترضنا أن السبب الأخير لا بد له من سبب،يلزم عدم وجوده لعدم سببه،و يلزم عدم وجود كل ما هو سابق عليه،مثلا لو افترضنا أن النقد لا يمكن أن نأخذه من شخص إلا إذا أخذه هو من شخص آخر،بحيث لا يوجد منه فرد غير مأخوذ من فرد آخر يلزم أن لا يوجد شيء يسمى نقدا، و هكذا الحال بالنسبة إلى جميع الكائنات و الموجودات.

ص: 60

مع الماديين

لعل شبهة الماديين من أبرز الشبه و أكثرها شيوعا بين الملاحدة الذين يزعمون أن العالم بشكله الرائع و نظامه الدقيق الرتيب إنما هو من صنع المادة وحدها و ليس وراءها خالق و مدبر قد أوجد كل شيء بحكمته و إرادته و إن الحياة في نظرهم ليست إلا مجموعة من القوانين الطبيعية و الكيماوية و ليس وراء نشأة الإنسان و غيره من الكائنات غاية أو تدبير بل إن كل ما في الوجود ليس إلا نتيجة لاجتماع ذرات أجزائه عن طريق المصادفة.و أضاف إلى ذلك(بيرتراند راسل)و هو يلخص النظرية المادية أضاف يقول:و جميع ما قام به الإنسان عبر الأجيال من أعمال فذة و ما اتصف به من ذكاء و إخلاص مصيره الفناء المرتبط بنهاية المجموعة الشمسية،و سيدفن جميع ما حققه الإنسان من نصر و ما بناه من صروح المدنية تحت أنقاض هذا الكون،و أضاف أن هذه الأمور جميعها حقائق لا تقوى فلسفة من الفلسفات على إنكارها.

و ملخص رأي الماديين هو أن الحياة تنشأ و تتولد تلقائيا من المواد الجامدة و هذا من أسوأ أخطائهم لأن المادة إن كانت مشتملة على الحياة لكي تتولد منها الأحياء و تعطي الحياة لغيرها فمن الذي أوجد فيها الحياة، و إذا كانت فاقدة لها فكيف يتولد الحي ممن لا حياة فيه؟

ص: 61

و قد جاء في كتاب اللّه يتجلى في عصر العلم إن(رسل تشارلز)قال:

جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحي قد باءت بخذلان و فشل ذريعين،كما جاء في الكتاب المذكور صفحة 52 أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية و التجمعات و الهجائن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم لأنها لا تقوم على أساس المنطق و الإقناع.

هذا بالإضافة إلى أن المادة المزعومة أ إما أن تكون لا شيء أو شيئا، و على تقديره إما أن تكون ناشئة بذاتها و إما أن تكون قديمة أزلية،و إما أن يكون لها خالق و موجد،و الفرض الأول على تقديره يلزمه أن يكون العدم أصلا للوجود و هو من المحالات التي لا يمكن تصورها،و كونها شيئا حاصلا بذاته من المحالات أيضا لاستحالة حدوث الشيء من غير محدث، و كذا احتمال كونها قديمة أزلية لأن المادة متغيرة و المتغير لا بد و أن يكون حادثا.و قد أثبت العلم استحالة قدم المادة و أزليتها حيث إن قوانين الديناميكا الحرارية تنص على أن عناصر الكون تستنفد طاقاتها الحرارية تدريجا و أنها ستؤول بعد طول الوقت إلى درجة الصفر فتنعدم حينذاك الطاقة و تستحيل معها الحياة فوجود الكون زاخرا مزدهرا بألوان الحياة دليل على حدوثه و انتفاء أزليته فيتعين أن يكون للمادة و جميع ما في الكون منشئا و خالقا و هو اللّه سبحانه.

و من مناقضات الماديين أنهم قد اعترفوا بحرمان المادة من العقل و الحياة ثم أعطوها صفات الخالق و نسبوا إليها ما لا يجوز على غيره، و كيف استطاعت المادة أن تمنح البشر عقلا راجحة و ألبابا نيرة و هي عديمة العقل و من المعلوم أن الفاقد للشيء لا يمكنه أن يعطيه،و المعطي للشيء لا

ص: 62

يتصور فيه أن يكون فاقدا له،و مع اعترافهم أيضا بأن المادة جامدة لا حياة فيها فكيف تكون أصلا للوجود و تعطي الحياة لغيرها من الأعشاب و الأشجار و الطيور و الأسماك و الحيوان و الإنسان و ما إلى ذلك من أنواع الموجودات الحية.

و جاء في مجلة عالم الفكر الكويتية أن بعض العلماء أحصى ما يقارب المليون من نوع الحيوانات المختلفة و حوالي ربع مليون نوع من النبات و لكل نوع من العوالم أصنافه و لكل صنف أفراده و لكل فرد ملامحه و خصائصه التي لا يشارك بها غيره في الغالب،و هل من الممكن أن يكون السبب الأول و الأخير لكل هذه الكائنات المختلفة المتنوعة ما يسمونه بالمادة الجامدة أو الصدفة كما يزعم الجاحدون.و قال الدكتور(رسل تشارلز آرتست):أن من ينكر وجود اللّه لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع بعض الذرات و الجزئيات عن طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة و صيانتها و توجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلية الحية ((1)).

و جاء في صفحة 52 من كتاب اللّه يتجلى في عصر العلم في معرض رده على الماديين أن الإيمان بالدين تدعمه الاكتشافات العلمية و قد أيدت العلوم فعلا كثيرا من النبوءات التي جاءت بها الكتب المقدسة،و لا شك أن العلوم سوف تكشف في المستقبل عن صحة كثير من الأمور الأخرى التي وردت في تلك الكتب و التي لم يصل إليها علمنا بعد.فعلم الفلك مثلا يشير إلى أن لهذا الكون بداية قديمة و أن الكون يسير إلى نهاية محتومة،و ليس مما يتفق مع العلم أن نعتقد أن هذا الكون أزلي ليس له بداية أو أبدي ليس له نهاية فهو قائم على أساس التغيير و في هذا الرأي يلتقي العلم بالدين،و العلوم9.

ص: 63


1- اللّه يتجلى في عصر العلم،ص 79.

بحكم طبيعتها المادية أعجز من أن تبحث عن اللّه بطرقها المادية أو أن تدرك كنه ذاته تعالى،و لكن ملاحظة عجائب هذا الكون قد دعت كثيرا من علماء الفلك الأمناء إلى الاعتقاد بأنه لا بد و أن يكون لهذا الكون باتساعه الفسيح و نظامه المعجز مدبر لا نراه و لا نستطيع أن ندرك كنهه.

و قد ذهب بعض الماديين كما جاء في أصول العقيدة للسيد الصدر أن جرثومة الحياة هبطت إلى الأرض على نيزك من نيازك الفضاء و منها تولدت الكائنات الحية و انتشرت فيها الحياة.

و يبدو من أقوال الماديين و شطحاتهم أنهم يرسلون آراءهم و لا يفكرون بما يترتب عليها من النتائج التي تدينهم و تبعث على السخرية و تلزمهم بما يفرون منه،و إذا كانت جرثومة الحياة قد هبطت إلى الأرض على كوكب من كواكب الفضاء،فمن أوجد الحياة في مستقرها الأول؟و من لوازم الاعتراف بوجودها في الفضاء أن يكون لها موجد كما هو الحال بالنسبة لغيرها من الممكنات التي لا توجد إلا بموجد.و من الذي سخر النيزك لأن يتحمل تلك الرحلة إلى الأرض حاملا لها تلك الهدية و هو لا يملك الإدراك و الاختيار و إذا كانت رحلته عن طريق الصدفة و الاتفاق،فكيف استمرت تلك الصدفة و دامت الحياة فيها بذلك الإتقان و التدبير المحكمين.إلى غير ذلك من اللوازم التي لا يمكن لعاقل أن يلتزم بها.

و كما يجب الاعتقاد بوجوده يجب الاعتقاد بوحدانيته،و أنه لا شريك له في خلقه و تدبيره و لا تصح العبادة لغيره.و من أشرك بعبادة ربه فقد أصبح في عداد المشركين.

قال سبحانه:و لا تشرك بعبادة ربك أحدا،و لقد قال علي عليه السّلام في وصية لولده الحسن عليه السّلام،و اعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله،و لرأيت آثار ملكه و سلطانه.

ص: 64

هذا بالإضافة إلى أنه لو فرضنا تعدد الواجب لزم كونه مركبا لأن كل متماثلين لا بد و أن يكون كل منهما مركبا من جزأين على أقل التقادير و لا بد و أن يشتركا في جزء يحصل به التماثل،و يختص كل منهما بجزء يميزه عن الآخر و بدون ذلك لا يصدق التعدد،فلو كان الواجب اثنين مثلا لزم أن يشتركا في الوجوب و يختص كل منهما بما يميزه عن الآخر فيكون كل منهما مركبا كما هو المفروض.

و الواجب لا يمكن أن يكون مركبا و لا محدودا،و لو كانا اثنين لا بد و أن يحد أحدهما الآخر و فرض تعدد الواجب مناقضة صريحة،لأن التعدد يقتضي كون الواجب متناهيا محدودا،و غير متناهي،ذلك لأنه لو افترضنا أن الواجب اثنان لا بد و أن يكون بينهما حد كما ذكر و ذلك الحد غيرهما و كونه غيرهما يقتضي أن يكون بينه و بينهما حد،و هو غير الثلاثة الأول و هكذا يقال بالنسبة إلى الحد الثالث و الرابع و إلى ما لا نهاية له.

و قد فرضنا كونه متناهيا كما هو اللازم من التعدد و هذا الوجه مأخوذ من كلام الإمام الرضا عليه السّلام في حديث رواه عنه الكليني في المجلد الأول من الكافي.

و يعتقد الشيعة أن الواجب لا يحويه حيز و لا جهة من الجهات، و المراد بالحيز هو المحل الذي يحل فيه المتحيز،و الجهة هي ما يمكن مقابلتها و الإشارة إليها ممن كان في الجهة الأخرى،و قد بينا أن الواجب هو الموجود بنفسه من غير أن يفتقر في وجوده إلى شيء آخر و لو كان له محل أو جهة لكان مفتقرا في وجوده إليهما و لكان محدودا،و هو خلاف المفروض،و لذا نقول بأنه ليس بجسم،إذ لو كان جسما لكان له أبعاد ثلاثة،طول و عرض و عمق،و كلما كان كذلك كان محتاجا إلى المكان و لو احتاج إلى المكان لخلى منه المكان الآخر،و لازم ذلك كونه محدودا،و هو

ص: 65

سبحانه مع كل شيء و خارج عن كل شيء لا يحويه مكان و لا يخلو منه مكان.

و يعتقد الشيعة أن الواجب لا يرى و لا يتغير حيث إن وجوده لم يكن لسبب من الأسباب و هو عين ذاته و من هو كذلك يستحيل عليه التغير،لأن التغير هو زوال الحالة الأولى،و تبدلها بحالة غيرها،و هذا لا يكون إلا بزوال سببها و حدوث سبب للحالة الثانية،و هذا غير معقول في الواجب إذ ليس وجوده شيئا آخر وراء ذاته و قد اثبتنا أنها ليست وليدة سبب من الأسباب،و القديم لا سبب لوجوده و إلا خرج عن كونه قديما،و فرض التغير يتنافى مع كونه قديما،و هذا أمر واضح لا يحتاج إلى أكثر من فهم معنى الواجب تقدس اسمه.

و كما لا يتغير لا تدركه الأبصار و لا يشار إليه بالحواس،لا في الدنيا و لا في الآخرة،لأن المرئي بالبصر لا بد و أن يكون في جهة تخالف جهة الرائي،و قد عرفت أن الواجب هو الموجود بذاته ليس جسما و لا حالا في جسم،و لا في جهة خاصة لا يحويه مكان،و لا يكون مقابلا لجهة و مع هذه التقادير يستحيل أن يرى للزوم كون المرئي في جهة و مكان،و لا بد من مسافة بين الرائي و المرئي فإن رآه كله كان مركبا محدودا،و إن رأى بعضه كان مبعضا متحيزا و تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ص: 66

المحدثون و الأشاعرة

و المجوزون لرؤيته جماعة من محدثي السنة حيث و صفوه بصفات مخلوقاته فقالوا بأن له يدا و عينا و رجلا و غير ذلك و أسرف بعضهم فقال بأنه ينزل في كل ليلة من ليالي الجمع إلى سماء أهل الدنيا،و يقول هل من تائب هل من مستغفر؟إلى غير ذلك مما هو موجود في كتب الفرق و المعتقدات، و قال الأشاعرة بأنه يرى يوم القيامة كما يرى القمر ليلة غامة،و قد خالفوا في ذلك نصوص القرآن الدالة على امتناع رؤيته.قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و هي واردة في مقام تعظيمه و تنزيهه عن أن تحيط به الأبصار،و قال سبحانه مخاطبا لنبيه موسى عليه السّلام«لن تراني»و كلمة لن تدل على النفي المؤبد،و إذا امتنع على موسى أن يراه امتنع في حق غيره و قال حكاية عن قوم موسى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .

و لو كان هذا ممكنا لما وصفهم بالظلم الموجب للعقاب إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الصريحة في عدم إمكان ذلك.

هذا بالإضافة إلى المرويات الصحيحة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام التي تؤكد استحالة رؤيته و تندد بأنصار هذه المقالة،فمن ذلك ما رواه في أصول

ص: 67

الكافي عن صفوان بن يحيى قال:سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فأدخلته عليه، فسأله عن الحلال و الحرام،حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد،فقال أبو قرة إنا روينا أن اللّه قسم الرؤية و الكلام بين النبيين فجعل الكلام لموسى و الرؤية لمحمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فقال الإمام عليه السّلام:فمن المبلغ عن اللّه إلى الثقلين من الإنس و الجن في أنه لا تدركه الأبصار،و لا يحيطون به علما،و ليس كمثله شيء، أليس هو محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال بلى.قال كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند اللّه،و أنه يدعوهم إلى اللّه،بأمر اللّه و يقول لهم عن اللّه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثم يقول لهم إني رأيت اللّه بعيني و أحطت به علما،و هو على صورة البشر؟أما تستحون؟ما قدرت الزنادقة أن ترميه بشيء حتى قالوا يأتي من عند اللّه بشيء ثم يأتي بخلافه! قال له أبو قرة فإنه تعالى يقول وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقال الإمام عليه السّلام:إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى يريد بذلك ما كذب فؤاد محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و ما رأت عيناه.ثم أخبر بما رأى فقال:

لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى و آيات اللّه غير اللّه.و لقد قال سبحانه: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فإذا رأته الأبصار فقد أحيط به علما،قال أبو قرة:

أفنكذب الروايات؟قال الإمام عليه السّلام إذا كانت الرواية مخالفة للكتاب كذبتها.

و الأحاديث الواردة عن أئمة الشيعة على نفي الرؤية كثيرة جدا.و ما ورد في القرآن الكريم ما يدل بظاهره على الرؤية أو التجسيم لا بد من التصرف فيها بنحو من أنحاء التجوز الشائع في كلام العرب،و من نفى عنه التجسيم كبعض الأشاعرة و المحدثين و ادعى رؤيته في الدنيا و الآخرة كما يزعمون فقد ناقض نفسه بنفسه و كان كمن أنكر النتيجة بعد أن سلم بمقدماتها.

ص: 68

الواجب لا يحل بغيره

و لا يتحد مع غيره

و يعتقد الشيعة أن الواجب لا يحل بغيره و لا يتحد مع غيره:و المراد من الحلول أن يكون موجودا في محل على نحو يكون قائما فيه،و المراد من الاتحاد صيرورة الشيئين أو الأكثر واحدا،و هذا لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى الواجب،لما ذكرناه من أن الواجب هو الموجود بنفسه و لا يفتقر في وجوده إلى الغير،و ما كان كذلك لا بد و أن يكون غير متناه،و إلا لزم كونه محتاجا إلى المكان،و إذا لم يكن متناهيا فلا يتصور فيه الحلول،لأن الحلول يلزمه أن يكون محدودا،و إذا فرض كونه محدودا كان متناهيا.

و أيضا الحال يفتقر إلى محل يحل فيه،و إذا افتقر إلى المحل كان ممكنا، و المفروض كونه واجبا،هذا بالإضافة إلى أن الحلول في مكان يستلزم الخلو من المكان الآخر و هو سبحانه موجود في كل مكان.

و اتحاده مع غيره على أن يكون هو و ذلك الغير شيئا واحدا محال أيضا،و يترتب عليه ما ذكرناه من اللوازم الباطلة التي لا يمكن تصورها فضلا عن التصديق بها و فكرة الاتحاد قد عزت المسلمين عن طريق المسيحيين القائلين باتحاد الناسوت باللاهوت كما ذهب إلى ذلك بعض

ص: 69

الكتاب و الواقع أن ما يسميه المسيحيون باتحاد الناسوت باللاهوت دخل على المسيحية عن طريق التصوف الصيني الذي سبق المسيحية بمئات السنين.

و الحلول و الاتحاد هما المرحلة الأخيرة من مراحل التصوف و قد اشتهر أبو زيد البسطامي و الجنيد و الشبل بالقول بالاتحاد،كما اشتهر الحسين بن منصور المعروف بالحلاج بالحلول و على أساسه قتل سنة 309 و ينسب القول به محمد بن نصير النميري و جماعة من الغلاة الذين ظهروا في عصر الإمام الحسن العسكري(ع)،و قد تبرأ منهم و كفرهم و أمر أصحابه بالبراءة منهم و مطاردتهم كما كفرهم علماء الشيعة في مختلف العصور.

و يكاد الفرق بين الحلول و الاتحاد أن يكون اعتياديا ذلك لأن الاتحاد يرجع في واقعه إلى اتحاد المخلوق مع الخالق،كما يرجع الحلول إلى أن الخالق قد حل في المخلوق و اتحد معه في نهاية الأمر،و يختلفان عن وحدة الوجود التي ذهب إليها محي الدين المعروف بابن عربي المتوفى سنة 638 هجرية لأنه يعني بوحدة الوجود أن الوجود بكل ما فيه من الموجودات المتعددة حقيقة واحدة و هي اللّه سبحانه و ما تراه العين من الأشياء في عالم الحس هو عبارة عن صور و صفات و أسماء جوهرها واحد،فالجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و كل وجود هو اللّه لا غير،و إلى غير ذلك من أقوال الصوفية و شطحاتهم التي لا تقرها الأديان و لا تتفق مع العلم و المنطق في شيء،و كانت أهدافهم من وراء تلك الشطحات تشويه الإسلام و أصوله بعد أن عجزوا عن مقاومة الزحف الإسلامي الذي اكتسح بلادهم بما فيها من دول و معتقدات بتعاليمه السهلة السمحة في بضع سنوات معدودات.

ص: 70

صفات الخالق

اشارة

تنقسم الصفات إلى ثبوتية و سلبية،فالثبوتية هي التي تثبت له ما يليق بذاته كالقدرة و العلم و الكلام و السميع البصير و ما إلى ذلك من صفاته و خصائصه،و أما السلبية فهي التي تنفي ما لا يليق بذاته كالقدم و البقاء و الوحدانية،فإن معنى كونه قديما أنه لا أول له و معنى بقائه أنه لا آخر له، و معنى وحدانيته أنه لا ند و لا شريك له.

ص: 71

القدرة

و المراد من صفة القدرة الثابتة لذاته هو كونه قادرا على الفعل و على عدمه،أي أنه إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل،أي لا شيء من الفعل و الترك ضروري للفاعل كما ذهب لذلك المتكلمون و أهل الأديان،و أضافوا إلى ذلك أن اللّه سبحانه قد أوجد الكون على نظامه الحالي و ترتيبه بمشيئته، و لو لم يشأ لم يكن و لم يوجد.

و قال الفلاسفة:إن إيجاد الكون من لوازم ذات اللّه سبحانه بنحو يستحيل انفكاكه عنه و عدم إيجاده بحال من الأحوال،أي أن مشيئته للفعل من لوازم ذاته التي لا تنفك عنها،لأن الفعل فيض منه و الفيض كالعلم من صفات الكمال،و عدمه نقص كالجهل و اللّه سبحانه منزه عن الجهل و النقصان.

و قد رد المتكلمون على الفلاسفة الذين اعتبروا المشيئة من لوازم ذاته بما حاصله أن مشيئة اللّه إذا كانت من لوازم ذاته لم تكن مقدورة له و لم يكن مختارا فيما يصدر و صدر عنه من الخلق و التدبير و أن جميع ما صدر عنه يلزم أن يكون قد صدر عنه قهرا و من اللوازم الطبيعية لذاته كحرارة النار و برودة الماء و نحو ذلك كما يلزمهم أن يلتزموا بقدم العالم لأن فعله من لوازم ذاته على حد زعمهم و ذاته سبحانه قديمة فأفعاله لا بد و أن تكون قديمة تبعا لذاته لاستحالة تخلف الأثر عن المؤثر و المعلول عن علته.

ص: 72

و أجاب الفلاسفة بما حاصله بأن كلمة القادر لا تعني أكثر من أن الفعل المقدور يصدر عن الفاعل بإرادته و اختياره سواء أكان مقارنا لوجود الفاعل في الزمان أو متأخرا عنه،و ما دام الكون صادرا عن مشيئة اللّه سبحانه فيتصف اللّه بالقدرة كما و أنه لا يلزم من كون مشيئة اللّه ملازمة لذاته أن يكون اللّه غير مختار في فعله و يصدر عنه الفعل قهرا،كما تصدر الحرارة عن النار على حد تعبيرهم لأن تبعية المشيئة للذات و كونها من لوازمها لا يمنع من كون الخلق و التدبير و كل أفعاله تصدر بإرادته و اختياره أي أنه لا بد و أن يختار الخلق و التدبير لأن اختياره فيض منه و الفيض كمال و عدمه نقصان و اللّه منزه عنه.

و هل تعم قدرته جميع الأشياء و المقدورات حسنة كانت أو قبيحة أو أنها لا تشمل غير الحسن،أما القبيح فلا يقدر عليه،فقد جاء عن الأشاعرة و الإمامية و أكثر المعتزلة أن جميع الأشياء الحسن منها و القبيح داخل تحت قدرته لأن المقتضى للقدرة هي ذاته تعالى و نسبتها لكل منهما واحدة،غير أن الأشاعرة يدعون بأن اللّه لا يقبح منه شيء و كل ما يفعله يصبح حسنا و لو كان قبيحا بنظر الناس.

و في مقابل رأي الأشاعرة ذهب الإمامية و أكثر المتعزلة إلى أن للّه داعيا إلى فعل الحسن و لا صارف له عنه،و لا داعي له لفعل القبيح و في الوقت ذاته له صارف عنه،في حين قدرته عليه،و مع وجود القدرة و الداعي يجب الفعل،و مع عدم الداعي لا يجب عليه،و على أساس ذلك يكون فعل القبيح بالنسبة إليه ممكنا بالذات لقدرته عليه و ممتنعا بالعرض لعدم الداعي إليه.

و قال النظام أحد أقطاب المعتزلة:إن اللّه لا يقدر على القبيح،لأنه مع العلم بقبح الفعل يكون فعله سفها،و مع الجهل بقبحه يكون نقصا و كلاهما محال عليه سبحانه.و كلامه هذا لا يدل على أكثر من أن القبيح لا يصدر منه سبحانه و لا ملازمة بين ذلك و بين عدم قدرته عليه.

ص: 73

التجسيم و التشبيه

من المتفق عليه بين الشيعة الإمامية منذ تأسيس التشيع في فجر الإسلام و حتى عصرنا الحالي،و سيبقى من صلب المعتقدات الشيعية،أن اللّه سبحانه ليس بجسم و لا بجوهر و لا عرض و لا في جهة أو زمان و مكان و لا يتحد بغيره أو يحل في شيء من مخلوقاته،ذلك لأنه لو كان جسما لكان حادثا مفتقرا إلى حيز و مكان يحويه و يحل فيه،و لو كان في مكان أو جهة لخلت منه بقية الأمكنة و الجهات و لزوم كون المكان الذي حواه و الجهة التي هو فيها قديمان مع العلم بأنه لا قديم غيره و كل ما في الكون حادث من فيضه،هذا بالإضافة إلى أنه من لوازم التجسيم افتقاره إلى الغير كما بينا في الفصول السابقة.

و لو كان عرضا لكان قائما بغيره و محتاجا لسواه كما هو الشأن في غيره من الأعراض و الماهيات التي يتوقف وجودها على غيرها.

قال الظاهرية أتباع داوود الظاهري المتوفى سنة 270،و غيرهم من الحنابلة و الكرامية و من يجمعهم اسم المشبهة كالصوفية من حيث إنهم شبهوا الخالق بالمخلوق بما في ذلك أكثر الفرق الإسلامية،قالوا:أن اللّه جسم و لكنهم اختلفوا في تركيبه و شكله و مكانه فمنهم القائل بأنه مركب من

ص: 74

لحم و دم و أنه على صورة شاب أمرد،و أضاف إلى ذلك جماعة من صوفية القرن الثالث أنه يمشي في الشوارع و الأسواق و يلتقيه الناس و لا يعرفونه، و قال بعض المشبهة من الحنابلة أنه على صورة شيخ أشمط،و أضاف إلى ذلك بعضهم بأن طوله سبعة أشبار بشبر نفسه و أنه يجلس على العرش و يئط من تحته أطيطا،أي يحن إليه حنينا و أنه يزيد عن عرشه من كل ناحية أربعة أصابع و ينتقل من مكان إلى مكان،و قال بعضهم:إنه يسكن على العرش من الجهة العليا ليشرف على خلقه،و أضاف إلى ذلك بعضهم بأنه يركب حمارا و ينزل عن عرشه في كل ليلة جمعة و ينادي هل من تائب؟فأتوب عليه؟هل من مستغفر لأغفر له.

و قال داوود الظاهري و أتباعه من المجسمة:إن اللّه بعد طوفان نوح بكى على الناس حتى رمدت عيناه فعادته الملائكة من مرضه هذا الذي استمر به زمنا طويلا.

و لعل المشبهة و المجسمة من أهل السنة قد أخذوا فكرة التجسيم و التشبيه من ظواهر بعض الآيات و من الأحاديث التي رواها أبو هريرة و أمثاله من الكذبة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و دونها محدثو السنة كالبخاري و أمثاله في مجاميعهم من غير تدبر لمضامينها و لا تحقيق في أسانيدها.

و من المعلوم أن السنة أنفسهم يلتزمون بتأويل القرآن في كثير من الموارد و بدون سبب لذلك كما يبدو للمتتبع في تفاسيرهم و مجاميعهم، و يقفون مع النص الحرفي لبعض الآيات مع وجود عشرات القرائن و الأدلة على أن المدلول الظاهري لتلك الآيات غير مرادفها،و لا يمكن إرادته لما يترتب عليه من المحاذير التي لا يمكن الالتزام بها و مجاراتها في حين أن تفسير اليد بالقدرة في الآية: يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و الوجه بآثاره أو رعايته في الآية وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ،و تفسير مجيء الرب في الآية و جاء ربك بالأوامر و النواهي و الآيات البينات على وجود و تفسير الاستواء على العرش

ص: 75

بالاستيلاء على الكون إلى غير ذلك من التأويلات.هذا النوع من التأويل الذي يلتزمه الشيعة لتنزيه اللّه عما ألصقه به أكثر أهل السنة ليس بعيدا عن ظواهر تلك الآيات و لا غريبا عن مؤدياتها و مضامينها و تفرضه الأدلة العقلية و النقلية التي تنزه اللّه عن كل ما يشبه مخلوقاته.

و قد نقل الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه القرآن و الفلسفة عن فخر الدين الرازي أن أول من قال بالتشبيه و التجسيم في الإسلام هم الروافض كما نسب إليهم ذلك غيره من مؤلفي السنة،و ليس ذلك بغريب على مؤلفي السنة و علمائهم فقد نسبوا إليهم القول بالحلول و الاتحاد و الغلو و غير ذلك من مقالات محدثي السنة و فرقهم،فالحلول و الاتحاد و التناسخ و الجبر و التجسيم و غير ذلك من المقالات التي تجر من ورائها الكفر و الإلحاد كلها ظهرت في أوساطهم بين الظاهرية و الأشاعرة و بعض المعتزلة و الصوفية الذين ينتمون بأغلبيتهم الساحقة إلى المذاهب السنية كما أثبتنا ذلك في كتابنا بين التشيع و الصوف.و منذ وجد التشيع في مطلع الدعوة الإسلامية لم يذهب أحد ممن ينتسبون إليه إلى القول بالتجسيم،و قد ألف علماء الشيعة مئات الكتب في تنزيه الخالق عن التشبيه و الظلم و إرادة المعاصي و فعل القبيح و التكليف بما لا يطاق و ما إلى ذلك من المواضيع التي أجازها عليه الأشاعرة و جماعة من المحدثين و قادة الفرق السنية و قد حكم جماعة من فقهاء الشيعة و علمائهم بكفر المجسمة،و جاء عن الإمام الرضا و غيره من أئمة أهل البيت عليه السّلام إن من قال بالتجسيم و الجبر فهو كافر.أما بقية الصفات كالسميع و البصير و الحي و المريد و الدائم و الباقي و غيرها فهو سميع و بصير و لكن لا بآلة و لا جارحة و معنى سمعه و بصره أنه محيط بما يصلح أن يسمع و يبصر،و على ذلك فمرجع حقي السمع و البصر بالنسبة إليه إحاطته بكل شيء و عدم خفاء شيء عليه،لأن السمع و البصر الثابتان له لو كانا بآلة تشبه الآلات الموجودة لدى سائر مخلوقاته لزم كونه جسما مركبا من أجزاء

ص: 76

متباينة و مختلفة لكل جزء منها وظيفة تخصه و تختص به و ذلك من المحالات بالنسبة إليه تعالى.

و قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات:إن استحقاق القديم سبحانه لهذه الصفات كلها من جهة السمع دون القياس و دلالة العقل و أن جميعها لا تعني أكثر من علمه و إحاطته بالمسموعات و المبصرات،و مضى يقول:أنه لا خلاف بين شكلي الإمامية في شيء من ذلك و لم يخالف في ذلك سوى معتزلة البصرة و المشبهة من محدثي السنة و فقهائهم.

و نسب الإيجي في صفحة 89 من المواقف إلى أنهما صفتان زائدتان على العلم كما تقتضيه ظواهر النصوص القرآنية،كما و أنه يدعي بأن الأكثرية الغالبة من المعتزلة تتفق مع الأشاعرة في ذلك.

و أما الحياة بالنسبة إليه تعالى فليس معناها أن فيه قوة تستطيع النمو و الاعتدال كما هو الحال بالنسبة إلى الحيوان و النبات،بل معناها بنظر الإمامية القائلين بأن صفاته عين ذاته يرجع إلى معنى سلبي أي ليس بمحال عليه أن يعلم و يقدر على كل شيء و بعد أن ثبتت قدرته و علمه فلا بد و أن يكون حيا.و ذهب الأشاعرة و بعض المعتزلة القائلين بأن صفاته غير ذاته أنها صفة توجب صحة العلم الكامل و القدرة الشاملة،إذ لو لا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم و القدرة لكان اختصاصه بهما عن غيره ترجيح بدون مرجح كما جاء ذلك في شرح التجريد صفحة 177 و المواقف للايجي صفحة 81.و أما كونه مريدا فقد اتفق الجميع على ثبوت هذه الصفة له، بدليل أنه قد أوجد بعص الممكنات دون بعض في حين أن قدرته تضم جميع الممكنات و علمه محيط بجميع الكائنات،و لا سبب لذلك إلا تعلق إرادته ببعضها دون البعض الآخر.

و قد اختلفوا في المراد من إرادته سبحانه،فأبو الحسين الصالحي

ص: 77

و النظام و الجاحظ و العلاق و أبو القاسم البلخي و غيرهم من قادة المعتزلة ذهبوا إلى أنها عبارة عن علمه بما في الفعل من المصالح و المنافع و يسمونها بالداعي إلى إيجاد الفعل،كما فسرها غير هؤلاء من الأشاعرة و الحنابلة بأنها صفة زائدة على العلم و مغايرة لذاته تعالى.

و جاء في أوائل المقالات للشيخ المفيد أحد أقطاب الشيعة في القرن الرابع الهجري،إن إرادته لأفعاله هي نفس أفعاله،و إرادته لأفعال خلقه هي أمرهم بتلك الأفعال،و أضاف إلى ذلك أن هذا المعنى للإرادة يتفق مع ما جاء من الآثار عن الأئمة بهذا الخصوص و هو مذهب الإمامية إلا من شذ منهم.

ص: 78

كلام اللّه

لقد اتخذت هذه المسألة مظهرا من أعنف مظاهر الصراع العقائدي بين المسلمين في الشطر الأخير من القرن الثاني و امتد إلى أواسط القرن الثاني، و قد تعرض بسببها بعض المناصرين لأحد الرأيين للقتل،و تعرض آخرون للسجون و لأسوأ أنواع التعذيب من الحاكمين،و الذي سبب حدة الصراع بين المعتزلة من جهة و المحدثين و الفقهاء من جهة أخرى تدخل الحاكمين و مساندة فريق منهم إلى المعتزلة أولا،و مساندة فريق آخر إلى المحدثين و الفقهاء بعد انقراض عصر المأمون و المعتصم و الواثق و كانت فكرة خلق القرآن هي التي فجرت الصراع بين الفريقين.و لا بد و أن يكون لمصلحة الحاكمين لأنهم حينما يتدخلون في المواضيع الدينية لا بد و أن يكون ذلك لمصلحتهم،و قد حدثت بين الفريقين خلافات في أكثر المسائل و من بينها من كانت صلته بالدين أوثق كمسألة خلق الأفعال و نحوها و مع ذلك فلم ينته الخلاف فيما بين الفريقين إلى الحدود التي انتهى إليها في مسألتي كلام اللّه و خلق القرآن حث اتسع العداء بينهم و بين غيرهم من العلماء و المحدثين، و أصبح اسم المعتزلة عندهم يرمز إلى الإلحاد و الزندقة و التمرد على نصوص الوحي،كما أصبح المحدثون ينظر المعتزلة يمثلون الجمود و التقليد الأعمى للسلفيين.و مهما كان الحال فلقد اتفق الحاكمون مع المعتزلة على أن القول

ص: 79

بعدم خلق القرآن كما يدعي المحدثون يضاهي قول النصارى في المسيح و يؤدي إلى القول بتعدد القدماء،و مهد لهذه الأفكار أحد فقهائهم أحمد بن أبي داود و كان من المقربين إلى المأمون العباسي و أوثقهم في نفسه فكتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يخيروا الفقهاء و المحدثين في مسألتي كلام اللّه و خلق القرآن و فرض عليهم أن ينزلوا أشد العقوبات بكل من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسائل.

و مجمل القول في تحديد الصراع في هذه المسألة أنه هل هناك أمر آخر وراء هذه الألفاظ يسمى كلاما حقيقة،أو أن الكلام الحقيقي هو هذه الألفاظ،فقال الأشاعرة:إن الكلام الموجود في الكتب السماوية ليس بكلام اللّه حقيقة،و إن كلامه قديم قائم بذاته تعالى تماما كالعلم و القدرة و الإرادة و غيرها من صفاته و هي الكلمات المسطورة في الكتب السماوية التي نستعملها و نتلفظ بها تعبر عن الكلام الحقيقي القائم بذاته،و أسرف بعض الحنابلة إسرافا لا مبرر له فقال بأن جلد المصحف و الغلاف الذي يوضع فيه و الحبر الذي كتب به كل ذلك أصبح قديما بعد أن كان حادثا قبل استعماله لتغليف القرآن و كتابته،و أضاف إلى ذلك الأشاعرة في معرض تأييدهم لما ذهبوا إليه،بأن اللفظ إذا لم يعبر عن صفة في النفس يكون لفظا مجردا أشبه بلفظ الببغاء،و بأن كلام اللّه صفة له و كل ما هو صفة لذاته لا بد و أن يكون قديما كذاته و يعبرون عن تلك الصفات بالكلام النفسي،أما الأصوات و الحروف و الكلمات الموجودة في الكتب السماوية فليست كلاما على وجه الحقيقة بل هي معبرة عن كلامه و حاكية له،و لذا فإنها قد تختلف بالأزمنة و الأمكنة و اللغات،و الكلام الحقيقي لا يختلف و لا يتغير،و كما تدل عليه الألفاظ تدل عليه الإشارة و الكتابة و هو مغير لتلك الدلالات بجميع أنواعها.إلى غير ذلك مما جاء في أدلتهم البعيدة عن منطق الدين و الإسلام.

ص: 80

و قال الإمامية و المعتزلة:أن كل من يوجد كلاما يدل على معنى فهو متكلم،و المعاني القائمة في النفس لا صلة لها بالألفاظ و دلالتها فكلام اللّه هو نفس الكلمات الموجودة في التوراة و الإنجيل و القرآن و هي حادثة كسائر الكائنات،و لا يلزم من القول بحدوثها أن يكون اللّه سبحانه محلا للحوادث،لأنه يخلق الكلام في الشجرة و اللوح المحفوظ و على لسان جبرائيل،بل و على لسان النملة التي تحدثت مع سليمان كما حكى اللّه عنها في كتابه،و على أساس ذلك يمكن القول بأن التكلم بالنسبة إليه تعالى كالخلق و الرزق من الصفات التي تنسب إلى الذات بعد حدوث منشئها و لا كالعلم و القدرة و الحياة.

و قال العلامة الحلي في كتابه كشف الحق و نهج الصدق:لا شك في أن اللّه سبحانه متكلم بمعنى أنه أوجد صروفا و أصواتا مسموعة قائمة بالأجسام كما كلم موسى من الشجرة فأوجد فيها الأصوات و الحروف، و مضى يقول:إن الأشاعرة فيما ذهبوا إليه خالفوا عقولهم و عقول سائر البشر و أثبتوا له كلاما لا يفهمونه هم و لا غيرهم و العقل و السمع يتطابقان على أنه كلامه محدث ليس بأزلي لأنه مركب من الحروف و الأصوات و يمتنع اجتماع حرفين دفعة واحدة فلا بد و أن يكون أحدهما سابق على الآخر و المسبوق حادث بالضرورة و السابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة.

و جاء على الإمام الهادي الذي عاصر ذلك الصراع المرير بين الفريقين الأشاعرة و المحدثين من جهة و المعتزلة من جهة أخرى و سمع إسراف الفريقين و غلوهم في تأييد آرائهم و مذاهبهم الذي اتسم بالتعصب و الانتقام، جاء عنه أنه قال:نحن نرى أن الجدل في القرآن بدعة اشترك فيها السائل و المجيب فتعاطى السائل ما ليس له و تكلف المجيب ما ليس عليه و ليس

ص: 81

الخالق إلا اللّه و ما سواه مخلوق و القرآن كلام اللّه لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضالين.

و جاء عن الإمام الصادق أنه قال:القرآن محدث غير مخلوق و غير أزلي مع اللّه سبحانه.

إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة عن الأئمة عليهم السّلام التي أنكروا فيها على المعتزلة استعمال بعض الأوصاف لكلامه تعالى كما أنكروا على الأشاعرة قولهم بأنه قديم قائم بذاته كالعلم و القدرة و غيرهما من صفاته تعالى بل هو محدث و غير أزلي كما نصت عليه ذلك رواية الإمام الصادق عليه السّلام و أشارت إليه الآية من سورة الأنبياء.

ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ .

ص: 82

علم الله

إن اللّه يعلم ذاته و الكون بما فيه من أحداث كلية و جزئية،و لا يتقيد علمه بزمان و مكان،كما و أن علمه بالجزئيات كعلمه بالكليات،و قد استدل المتكلمون على علمه تعالى بأنه قد أوجد الموجودات على أصلح الوجوه و أنفعها و نظمها تنظيما دقيقا محكما و تاما و أعطى لكل شيء خلقه،و لا شيء أدل على علمه من الإحكام و الإتقان و هو من البراهين الملموسة التي لا تقبل التشكيك و التأويل.

كما استدل الفلاسفة على علمه بما حاصله أن كل شيء سوى اللّه من الممكنات،و كل ممكن مستند إليه سبحانه إما ابتداء أو بالوسائط فذاته إذن هي العلة لكل شيء،و هو يعلم ذاته بالضرورة،و العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.

و قيل أن اللّه لا يعلم الجزئيات و الحوادث الفردية،و لا يمكن أن يجهلها لأن الجهل بها نقصان و اللّه منزه عنه،و العلم بها يستدعي محذورين الأول أنه لو علم بالجزئيات لأصبح الممكن واجبا لأن علمه لا ينفك بحال من الأحوال عن المعلوم فإذا علم بوجود شيء فلا بد و أن يوجد و إلا انقلب علمه خطأ و جهلا و اللّه منزه عنهما.

ص: 83

و المحذور الثاني أن الجزئيات تتغير و تتبدل حيث توجد بعد أن تكون معدومة و تنعدم بعد وجودها و هي في تغير دائم،و لو علم اللّه لزم أن يتغير علمه و يتبدل تبعا لتغير الجزئيات و تبدلها لأن العلم صورة مطابقة للمعلوم مع أن علم اللّه ثابت على و تيرة واحدة و لا يتجدد في حالة من الحالات.

و فرارا من هذين المحذورين قال الفلاسفة:إن اللّه لا يعلم الجزئيات المتغيرة ابتداء بلا واسطة و إنما يعلمها عن طريق أسبابها و عللها لأنه يعلم ذاته و العلم بذاته علم بكل شيء لأنها هي العلة الأولى و المرجع لجميع الأشياء إما ابتداء أو بتوسط العلل الثانوية و العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.و لعل أفضل ما قيل في دفع هذا الشبه و الاحتمالات التي لا تمت للواقع بصلة من الصلات،هو أن اللّه يعلم الجزئيات بذاتها و أسبابها كما يعلم الكليات و لا يلزم من ذلك تغيير و تبديل في علم اللّه لأن علمه بالجزئيات لا يعني أكثر من نسبة الجزئي و إضافته إلى علمه فإذا انتفى الجزئي تنتفي إضافة وجوده إلى علمه أما علمه به فيبقى كما هو بدون تغيير و تبديل،فإذا وجد زيد مثلا ينسب وجوده إلى علم اللّه و يضاف إليه،فإذا انعدم زيد تنتفي نسبته لا غير إلى علم اللّه أما العلم به فلا ينتفي و هو باق لا يتغير.و مهما كان الحال فقد نص القرآن الكريم على أنه يعلم الكليات و الجزئيات بذواتها و أسبابها كما يعلم الجواهر القائمة بغيرها و الموجودات الخارجية و الذهنية و لا يغرب عن علمه شيء مهما كان نوعه و لونه كما تنص على ذلك الآية التالية: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ .

و جاء في آية ثانية من سورة الأنعام: وَ عِنْدَهُ،مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ .

ص: 84

و في آية من سورة ق وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي أثبتت له العلم بجميع الكائنات و الأشياء صغيرها و كبيرها و حتى ما توسوس به نفس الإنسان من الخطرات و بعد ذلك يكون الحديث عن الجزئيات و الكليات و التفصيل بينها من الفضول الذي لا محل له.

ص: 85

الصفات و الذات

بعد الاتفاق على ثبوت صفات الكمال للّه وقع الخلاف بينهم في أنها عين ذاته أو أنها غيرها و زائدة على الذات،و لا بد لتوضيح محل الخلاف و تحقيق ما ينبغي المصير إليه من البيان التالي:

لا مجال للخلاف في أن صفات الخالق على نوعين:نوع لا ينفك عن ذاته تعالى بحال من الأحوال بنحو يكون ثبوت الوصف عين ثبوت الذات كالحياة و القدرة و العلم و ما إلى ذلك صفاته الثبوتية،و نوع من صفاته ينفك عنه و هي صفات الأفعال التي تتجدد و توجد بعد أن لم تكن،و بلا شك في هذا النوع من الصفات كالخالق و الرازق و نحوهما،و هذا النوع من الصفات لا بد و أن يكون حادثا و متأخرا عن الذات،لأن اتصافه بالخلق و الرزق و المالك إنما يصح بعد وجود المخلوق و المرزوق و المملوك و كما يبدو أن النوع من الصفات خارج عن محل الخلاف بين المتكلمين و الفلاسفة،لأن من يذهب إلى أن هذا النوع من الصفات الإضافية الحادثة هي عين ذاته عليه أن يلتزم بأن اللّه حادث كما و أن القول بأنها غير ذاته و لكن ذاته محل لها يلزمه أن يقول بأن اللّه محل للحوادث،و لم يذهب لذلك أحد،و اتفقوا على أن هذا النوع من الصفات الإضافية هي غير ذاته و زائدة عليها.

ص: 86

و كما يخرج عن محل النزاع هذا النوع من الصفات الإضافية تخرج عن نزاعهم الصفات المجازية،مثل مريد و كاره و غضبان و مبغض و محب و كاره و نحو ذلك لأن المعنى المراد من كونه تعالى مريدا هو علمه بالمصلحة و من كونه كارها علمه بالمفسدة و من كونه مبغضا و غضبانا أنه يعاقب و يحاسب إلى غير ذلك من الصفات المجازية التي ترمز إلى غيرها من المعاني.

و من ذلك يتبين أن محل الخلاف إنما هو في الصفات الذاتية كالعلم و القدرة و الحياة و نحوها لا في الصفات المجازية و لا في الإضافية.

و قد ذهب الإمامية و جماعة من المعتزلة إلى أن صفاته الذاتية هي عين ذاته و أنه قادر بذاته لا بقدرة غير الذات زائدة عليها و عالم وحي بذاته لا بعلم و حياة زائدتين عليها و هكذا غيرها من الصفات الذاتية،و قد استدلوا لذلك بأن القديم واحد لا غير و ليس في الأزل غيره و كل ما عداه ممكن و كل ممكن حادث،و لو افترضنا أن صفات اللّه غير ذاته فإما أن تكون قديمة أو حادثة،و على الأول يلزم تعدد القديم،و على الثاني يلزم أن يكون اللّه قد وجد في الأزل بدون علم و لا حياة و لا قدرة لأن المفروض أن هذه الصفات قد حدثت بعده و كلاهما فيتعين أن تكون صفاته عين ذاته و نفس حقيقته.

و قال الأشاعرة أن صفاته قديمة و زائدة على ذاته و أنه عالم بعلم و قادر بقدرة و استدلوا على ذلك بقياس الغائب على الحاضر و قالوا:لقد رأينا أن العالم هو الذي يقوم به العلم فكذلك الحال بالنسبة إليه تعالى،و قد غاب عن هؤلاء أن قياس شيء على شيء إنما يصح مع وجود علة مشتركة بين الطرفين،و اللّه ليس كتله ليصح قياس الإنسان أو غيره عليه،هذا بالإضافة إلى أنه يلزم أن يكون اللّه مفتقرا إلى غيره و هو العالم إذ لو لاه لم يكن عالما و أن يكون مقتصرا إلى القدرة التي لو لاها لم يكن قادرا مع أن اللّه سبحانه غني لا يحتاج لشيء و يحتاج إليه كل شيء،و يلزم بالإضافة إلى ذلك أن

ص: 87

يكون مركبا من أجزاء كثيرة،و كل مركب ممكن كما تقرر ذلك في محله، و يلزم أيضا تعدد القديم،و قد قال فخر الدين الرازي في معرض رده عليهم:

أن النصارى أثبتوا ثلاثة قدماء و الأشاعرة أثبتوا تسعة.

و خير ما قيل في المقام أن البحث عن صفات اللّه و أنها عين ذاته أو غيرها من البدع و الفضول الذي لا يترتب عليه أي فائدة من الفوائد فاللّه سبحانه لم يكلف عباده بأكثر من إقرارهم له بالقدرة و الحياة و العلم و الخلق و الرزق و ما إلى ذلك من صفات الكمال و الجلال و الجمال أما كيف هي و كيف حالها و هل هي عين الذات أو غيرها و نحو ذلك من الكيفيات فالعقول مهما سمت و اتسعت آفاقها تظل قاصرة و عاجزة عن إدراك حقيقتها و واقعها و كيفية اتصافه بها،و كل ما يمكنها إدراكه و يجب عليها الإقرار به و الاطمئنان إليه أنه ليس كمثله شيء و هو الخالق لكل شيء و بيده الرزق و الموت و الحياة و كل صفات من صفات الجلال و الجمال و الكمال فهي ثابتة له لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير.

ص: 88

الحسن و القبح العقليات

يعتقد الشيعة الإمامية بالحسن و القبح العقليين،و المراد منهما هو حكم العقل ابتداء بحسن بعض الأفعال و قبح بعضها بنحو يكون الشرع مقررا و موافقا لما حكم به العقل.

فالصدق و الوفاء و شكر المنعم و الإحسان هذه الصفات يتسحسنها العقل و يستحق المتصف بها مدحا و مثوبة،و الظلم و التعدي و الخيانة كل هذه الصفات توجب ذما و عقوبة بنظر العقل أيضا،و لا يتوقف حكم العقل بقبح هذه و حسن تلك على الشرع.

و خالف في ذلك الأشاعرة فقالوا أن الحسن و القبح شرعيان و العقل لا رأي له في حسن شيء أو قبحه،و المعول في ذلك على الشرع،فما حكم بحسنه فهو الحسن،و ما حكم بقبحه فهو القبيح،و في ذلك مخالفة لما فطر عليه الإنسان،فإن من نشأ في بلاد لا يعلم بأحكام الشرع و لا يسمع بالشرائع،لو خير بين الصدق و الكذب لا يختار على الصدق شيئا و لو لا أنه يراه حسنا بحسب فطرته لما فرق بينهما و رجح أحدهما على الآخر.

و لا نشك في أن من ينكر الشرائع و الأديان السماوية يحكم بحسن بعض الأفعال و قبح بعضها و لا يتوقف في ذلك و هذا مما يشهد به الوجدان.

و الحسن و القبح كما يراد منهما صفتا الكمال و النقص،كالعلم و الجهل

ص: 89

كذلك قد يتصف الشيء بالحسن باعتبار المصلحة الداعية إلى فعله،كما يتصف بالقبح من حيث المفسدة الداعية إلى تركه.

و الحسن و القبح بهذين الاعتبارين يرجعان إلى الشيء إما بملاحظة ذاته كما في المعنى الأول،و إما باعتبار ما يترتب عليه من المصلحة و المفسدة كما هو الحال في المعنى الثاني للحسن و القبح.

و يطلق الحسن و القبح على الشيء باعتبار استحقاق فاعله للمدح و الذم،فما تعلق به المدح و ترتب عليه الثواب يسمى حسنا و ما تعلق به الذم و ترتب عليه العقاب يتصف بالقبح.

أما الحسن و القبح بالمعنى الأول و الثاني فلا أظن أن أحدا يقول بتوقفهما على أمر الشارع فأوصاف الكمال يحكم العقل بحسنها،و لا يتوقف على بيان الشارع و الرسول،و كذلك الحال في أوصاف النقص، و هكذا بالنسبة إلى الحسن و القبيح بالمعنى الثاني.فالحكم بحسن ما فيه المصلحة و قبح ما فيه المفسدة لا يخالف فيه أحد و لا يتوقف على حكم الشرع في ذلك،فينحصر النزاع إذن بين الأشاعرة و غيرهم من الإمامية و المعتزلة بالمعنى الثالث للحسن و القبح.

فالإمامية يدعون أن العقل يحكم بحسن بعض الأفعال و مدح فاعلها، وجد الشرع أو لم يوجد،كما يحكم بقبح بعض الأفعال و ذم فاعلها أيضا.

و فيما لا يدرك العقل حسنه أو قبحه لا بد من حكم الشرع فيه لنحكم عليه بالحسن أو القبح،و الأشاعرة يدعون أن الحسن و القبح بهذا المعنى إنما يكون من حيث أمر الشارع و نهيه،فما لم يكن منه أمر و نهي لا يدرك العقل قبحه و حسنه لكي يستحق الفاعل مدحا أو ذما،و مهما يكن الأمر فالمسألة محررة في كثير من كتب علمائنا الكلامية كالعلامة و المرتضى و المفيد و غيرهم ممن تأخر عنهم،كما هي محررة في كتب السنة كالمواقف للايجي و شرحها للجرجاني و الملل و النحل للشهرستاني و المستصفي للغزالي و غيرها.

ص: 90

القضاء و القدر

عند الشيعة الإمامية

لقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:كل شيء بقضاء و قدر،و ورد أن أفعال العباد بقضاء اللّه و قدره،و قد وردا في الكتاب و السنة بمعان مختلفة.

منها الخلق و الإتمام،كقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلقهن سبعا و أتمهن سبع سموات،و منها الحكم و الإيجاب كقوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ .و منها الإعلام و الإخبار كقوله: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي أعلمناهم و أخبرناهم،و كما ورد القضاء بمعان مختلفة،فقد ورد القدر بمعنى الخلق،كقوله: وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها و بمعنى الكتابة كقوله سبحانه: إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ و ورد لغيرهما أيضا.و مهما يكن الحال فإن أريد من كون أفعال العباد بقضاء اللّه و قدره هو الحكم عليهم بها و إيجابها عليهم فلا نمنع من ذلك لأن الحكم عليهم و إلزامهم لا يلزم منه أن يكونوا مجبورين عليها كما سنبين ذلك في مسألة الجبر و التفويض،و كذا إذا أريد منهما البيان و الكتابة أو العلم بأنهم سيفعلونها،و لا يلزم من جميع ذلك ما يتنافى مع مذهب الإمامية.

ص: 91

و أما القضاء و القدر بمعنى الحق و الإيجاد فليس في آيات الكتاب و سنة النبي ما يدل عليه فمعنى القضاء و القدر في أفعال العباد هو علم اللّه سبحانه أو كتابته في اللوح المحفوظ لأفعال عباده،و علمه بما يفعله العبد أو كتابته لذلك لا يلزم منه كون الإنسان مجبورا على شيء من الأفعال.

و جاء في بعض المرويات عن الأئمة عليهم السّلام ما يشير إلى المراد منهما فمن ذلك ما رواه في الكافي عن الأصبغ بن نباتة أن شيخا قام إلى علي عليه السّلام فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء اللّه و قدره؟فقال:و الذي فلق الحبة و برأ النسمة،ما وطئنا موطئا و لا هبطنا واديا إلا بقضاء اللّه و قدره،فقال الشيخ فعند اللّه أحتسب عنائي،و ما أرى لي من الأجر شيئا.فقال علي عليه السّلام أيها الشيخ لقد عظم اللّه أجركم في مسيركم و أنتم سائرون،و في منصرفكم و أنتم منصرفون،و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين،و لا إليها مضطرين،فقال الشيخ فكيف و القضاء و القدر ساقانا،فقال و يحك لعلك ظننت قدرا لازما و قضاء حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب، و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و لم تأت لائمة من اللّه لمذنب،و لا محمدة لمحسن،و لم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء و لا المسيء أولى بالذم من المحسن،تلك مقالة عباد الأوثان،و جنود الشيطان و شهود الزور و أهل العمى عن الصواب،و هم قدرية هذه الأمة و مجوسها.

إن اللّه سبحانه أمر تخييرا،و نهى تحذيرا،و كلف يسيرا،و لم يعص مغلوبا،و لم يطع مكرها،و لم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا،و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا،ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ:فما القضاء و القدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟فقال عليه السّلام:

هما الأمر من اللّه و الحكم.ثم تلا قوله سبحانه: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ فنهض الشيخ مسرورا و هو يقول:

ص: 92

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا

فالقضاء و القدر بما لهما من المعنى الذي يقول به الإمامية،كما يظهر من هذا الحديث و غيره،لا يتنافيان مع اختيار العبد بنحو يصح معه الثواب و العقاب.

و بما أن الحديث عن القضاء و القدر كان و لا يزال من أهم المباحث النظرية و أكثرها تعقيدا منذ اتجه المسلمون في العصر الأول إلى المسائل النظرية و محاكمتها مع أصول الإسلام و تعاليم القرآن،و ظلت مسألة القضاء و القدر،أو الجبر و التفويض تفرض نفسها على الباحثين في أصول العقائد و علم الكلام و تحتل جانبا كبيرا من تفكيرهم و مؤلفاتهم حتى يومنا هذا.

و لقد وقف الشيعة الإمامية في جانب و وقف غيرهم في جانب آخر، فقال الشيعة لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين بين كما جاء في حديث الإمام الصادق،أي أن الإنسان ليس مجبورا على أفعاله،و لا هو مستقل في التصرف استقلالا كاملا لا رأي للّه في شيء منها كما يزعم القدرية من المعتزلة و غيرهم،و استدل الشيعة على ذلك بالإضافة إلى الأدلة العقلية ببعض النصوص القرآنية و المرويات عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام و لا بد لنا و نحن نمر بهذه المشكلة من عرض موجز لمختلف الآراء و الأدلة عليها و ما يمكن أن يقال فيها من تصويب و تخطئة.

فمن الأدلة التي ذكرها الإمامية في كتبهم و مناظراتهم أن العاقل لا يغفل عن الفرق بين الحركات الاختيارية و غيرها و يرى نفسه مختارا في جميع أفعاله و تصرفاته،و يستحسن بنظر العقل أن نمدح فاعل الخير و المحسن إلى الناس،و أن نذم الظالم الجائر و المسيء لغيره،فلو لا أن الأفعال من صنع الإنسان و تصح نسبتها إليه بدون تجوز لما استحق مدحا أو ذما و لذا فإن

ص: 93

الأفعال التي يكون الإنسان مسلوب الإرادة فيها لا يستحق المتصف بهما ذما أو مدحا،لأنه كالآلة بالنسبة إليها.

و منها أن اللّه سبحانه أمر عباده بأشياء كثيرة و جعل لها حدودا ليقف الإنسان عندها و نهاهم عن أشياء،و أراد منهم فعل ما أمرهم و ترك ما نهاهم عنه.

قال سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ و التكليف لا يجوز بحكم العقل إذا كان الفاعل هو اللّه،لأنه إذا خلق فينا الفعل كان واجب الحصول،و إن لم يخلقه كان ممتنع الحصول،و ما كان وجوده واجبا و عدمه ممتنعا لا يكون مقدورا و غير المقدور لا يصلح التكليف به عقلا،لاستناد الشيء إلى أسبق علله و أقواها و إن كان الإنسان شريكا مع اللّه سبحانه فالتأثير إنما يكون لأقوى الأسباب و هو اللّه سبحانه،و إذا لم يكن للعبد شأن في ذلك كانت التكاليف لغوا من الآمر،و المؤاخذة على فعل ما نهى عنه من أفحش أنواع الظلم.

و قد سئل الإمام موسى الكاظم عن المعصية هل هي من اللّه أو من العبد؟فقال:لا تخلو من ثلاث،إما أن تكون من اللّه و ليس من العبد شيء، فليس للحاكم أن يؤاخذ عبده بما لم يفعل،و إما أن يكون من العبد و من اللّه،فليس للشريك الأقوى أن يؤاخذ الأصغر بذنب هما فيه سواء،و إما أن تكون من العبد و ليست من اللّه،فإن شاء عفا و إن شاء عاقب،و لقد قال بعض الشعراء في ذلك:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها احدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها

ص: 94

و تقريب الدليل بوجه آخر هو أنه مما لا شبهة فيه أن الأفعال تصدر بعد القصد و وجود الداعي و انتفاء الموانع شرعية كانت أم عقلية،كما و أن الترك إنما يكون لوجود الداعي إليه،و الصارف عن الفعل فالإنسان إذا جاع و تيسر لديه الطعام و انتفت الموانع عن تناوله لا بد و أن يأكل لا محالة،و مع فرض أن الأفعال من صنع اللّه سبحانه لا يكون للقصد،و وجود الداعي،و انتفاء الموانع،أثر في وجود الأفعال و تركها،و الضرورة تقضي ببطلان ذلك لأن الإنسان إذا لم يكن مقهورا على الفعل لا يتصور صدوره منه مجردا عن الداعي إليه و القصد إلى فعله.

و لو قطعنا النظر عن هذه الأدلة،فالوجدان خير شاهد على أن أفعال العباد إنما تصدر عنهم مختارين في صدورها،و يرى الإنسان نفسه حين العمل قادرا على الفعل و الترك،و هو الذي نعنيه من الاختيار في المقام.

و يستدل الإمامية على بطلان شبهة الجبر بآيات كثيرة من كتاب اللّه، و الآيات الواردة في المقام منها ما هو صريح في أن الفعل من صنع الإنسان كقوله سبحانه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ و قوله سبحانه حكاية عن قابيل و هابيل فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ و قوله: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على نسبة الفعل إلى العبد،و كونه صادرا منه من غير أن يكون مجبورا على ذلك.و لو كان الفاعل غيره أو كان له شريك في ذلك لما صح إسناد الفعل إليه بهذا النحو.

و من الآيات الكريمة ما هو صريح في مدح المؤمن على إيمانه و وعده بالثواب و الدرجات الرفيعة في دار الجزاء،و ذم الكافر على كفره،و تهديد المنافقين بالعقاب على كفرهم و نفاقهم،كقوله سبحانه: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ و في آية أخرى: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و قوله سبحانه:

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و قوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ و قوله:

ص: 95

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها إلى كثير من أمثال هذه الآيات الصريحة في وعد المطيع بالثواب و توعد العصاة بالعقاب،و جاء في كثير من آيات الكتاب ما يشير إلى توبيخ العبد على كفره و عصيانه،كقوله: وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى و هي إنكار في معرض الإستفهام.و قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ و لو كان سبحانه غير مريد للإيمان كيف يأمرهم به و يوبخهم على تركه.و كيف ينهي عن الكفر و قد أراده و خلقه فيهم،و كيف ينكر عليهم لبس الحق بالباطل و يقول لهم لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .و إذا كان هو الذي صدهم عن السبيل كيف يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ و من النصوص القرآنية ما هو صريح في تخيير العبد في أفعاله،و كونها معلقة على مشيئته قال سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ و قوله: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً .

و يتضمن قسم من الآيات الكريمة الحث على الطاعة و المسارعة إلى عمل الخير و الإحسان كقوله: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ و لو كان الإنسان مجبورا على الفعل لا يجوز أمره بالمسارعة و الاستباق،و العاجز عن القيام بأوامر الملولى لا يصح تكليفه بالمسارعة إلى امتثالها،إن هؤلاء أرادوا أن يثبتوا للّه القدرة و العظمة،فأثبتوا له الظلم و الجور و العبث و اللغو،من حيث لا يشعرون.

و قد حكى اللّه سبحانه عن العصاة و المنافين اعترافهم بالتقصير و عدم قيامهم بما فرض عليهم كقوله ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)و قوله كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ .

ص: 96

و لو كان العبد مجبورا في أفعاله لكان له على اللّه الحجة البالغة إذا أراد أن يعاقبه على معصيته،و كان له أن ينسب الجور و الظلم إلى اللّه في تعذيب عباده،و لا محل لاعترافهم بالتقصير و التعذيب للرسل،كما هو مفاد الآيات الكريمة،و أي فائدة للرجعة التي يتمناها الكافر و المنافق،كما حكى اللّه سبحانه ذلك عنهم،إذا لم يكن الفعل تحت سلطان العبد.

قال سبحانه: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ و غيرهما من الآيات الكريمة الحاكية لطلب الرجعة بلسان العصاة،و إذا لم تكن الأفعال من صنع العبد يكون هذا الطلب لغوا إذ لا اختيار له ليختار الأعمال الصالحة و يتجنب المعاصي.

و أخيرا فالعقل و الكتاب و الوجدان،هذه الثلاث تشهد ببطلان هذه الشبهة،و تثبت اختيار العبد في جميع تصرفاته و أفعاله،بنحو من أنحاء الاختيار،يخرجه عن الجبر و لا يلحقه بالتفويض و لازم ذلك ثبوت الواسطة التي عناها الإمام عليه السّلام بقوله«أمر بين بين»،ذلك لأنهما ليسا كالنقيضين اللذين لا يجتمعان و لا يرتفعان،و لا كالضدين اللذين لا ثالث لهما،و إنما هما ضدان يمكن ارتفاعهما و ثبوت أمر ثالث محلهما،كما كشفت عن ذلك الأدلة العقلية و النقلية.

و إرادته سبحانه المتعلقة بالإيمان و الطاعة مع فرض أن العبد ربما يتحقق منه الكفر و العصيان في هذا الحال،لا تستوجب تخلف إرادته عن مراده بالمعنى المستلزم لعجزه و عدم قدرته،و ذلك لأن إرادته التكوينية التي هي عبارة عن العلم بالنظام الكامل لا تنفك عن مراده،و إلا لزم انقلاب علمه جهلا،و لكن لا علاقة لها بما نحن فيه،و إرادته التشريعية ليست إلا العلم بالمصلحة في فعل المكلف و لا يلزم من عدم وجود المراد في حال وجودها التفكيك بينهما و بين المراد.

ص: 97

بيان ذلك أن وجود الشيء خارجا إذا كان له أكثر من مقدمة لا بد و أن يكون لكل واحدة من تلك المقدمات أثر في جهة من جهات وجوده،و لو اشتركت كلها في جهة واحدة امتنع تعددها و كانت بأجمعها مقدمة واحدة.

ثم أن المصلحة الداعية إلى إرادة الوجود،تارة تقتضي حفظ الوجود من جميع الجهات،و بلحاظ جميع المقدمات،و لازم ذلك تعلق الإرادة به من جميع الجهات بحيث ينشأ من تلك الإرادة النفسية إرادة غيرية بعدد تلك المقدمات تتعلق كل واحدة منها بواحدة من المقدمات.

و أخرى لا تكون المصلحة مقتضية لحفظ وجوده من جميع الجهات، بل يلحظ جهة دون غيرها،و لازم ذلك تعلق الإرادة به من تلك الجهة دون غيرها،و ينشأ من تلك الإرادة النفسية إرادة غيرية تتعلق بالمقدمة الحافظة للوجود من جهة تشريع الحكم.و صدور الفعل من المكلف إذا لم يكن مما تقتضيه نفس الطبيعة،يتوقف على أمور ثلاثة:تشريع الحكم،و علم المكلف به الموجب لحدوث الداعي العقلي إلى فعله،و عدم مزاحمة الداعي العقلي بداعي أقوى منه،فكل من هذه الثلاثة مقدمات لوجود الفعل خارجا،فيكون تشريع الحكم من مقدمات وجود الفعل و يكون حافظا لبعض جهات وجوده فالإرادة التشريعية هي إرادة الشي بلحاظ وجوده بعد فرض وجود المصلحة فيه.

و أما الإرادة التكوينية فهي التي تتعلق،بالفعل من جميع جهات وجوده و يستحيل تخلفها عن المراد و الحال هذه،و هذا بخلاف التشريعية فلا يستحيل فيها ذلك لأنها تدعو إلى وجود الفعل خارجا من حيث التشريع لا من جميع الجهات التي يتوقف عليها الوجود،و قد بينا أن الوجود الخارجي يتوقف على أمور ثلاثة منها تشريع الحكم و جعله على المكلف فتكون الإرادة التشريعية من قبيل الداعي إلى وجود الفعل الخارج،و من هنا يتوجه

ص: 98

سؤال آخر:و هو أن الكفر و الإيمان لا إشكال بتعلق إرادته التكوينية بهما من جميع الجهات التي تقتضي وجودهما،و قد فرضنا أنها لا تتخلف عن المراد،فلا يكون ترك الكفر،و الإيمان داخلا تحت اختيار العبد و قدرته، ليصح التكلف بهما،و الاختيار معتبر فيه عقلا.

و بعد ملاحظة ما ذكرنا يتضح الجواب عن هذه الشبهة،لأن تعلق الإرادة بهذين يمكن أن يكون على نحوين:أحدهما أن تتعلق بهما بلا توسط إرادة العبد،كتعلقها بسائر الممكنات الموجودة و ثانيهما أن تتعلق بهما بتوسط إرادة العبد بأن يكون الإيمان مثلا الصادر عن إرادة العبد هو المتعلق للإرادة التكوينية.

فإن كان تعلق الإرادة على النحو الأول لزم كون وجود الإيمان مثلا خارجا عن قدرة العبد و اختياره،و إن كان على النحو الثاني لزم أن يكون باختيار العبد و إرادته.و إلا لزم تخلف الإرادة عن المراد،لأن الإرادة لم تتعلق به مجردا عن اختيار العبد،بل تعلقت به بلحاظ صدوره عنه باختياره، فلو وجد الإيمان مجردا عن اختيار العبد تخلفت الإرادة عن المراد لأن متعلقها الوجود الصادر عن الاختيار لا الوجود المطلق.

و من أراد أن يتبسط في الموضوع فعليه بمراجعة الكتب الكلامية لعلماء الشيعة كالعلامة و المرتضى و غيرهما.

بقي أن أصحاب الشبهة ربما يتمسكون لإثبات شبهتهم زيادة عما ذكروه بظواهر بعض الآيات الواردة في الكتاب الكريم،و لست في كتابي هذا بصدد ذكر الأدلة و نقضها أو تصحيحها إلا أني أحببت أن أتعرض لبعض نواحي هذه المسألة،لكثرة الأسئلة حولها و حول ظواهر بعض الآيات التي يمكن أن تكون مدركا لأصحاب شبهة الجبر.لذلك فإني أذكر بعض الآيات،و الجواب عنها حسبما هو موجود في كتب علماء الطائفة الذين

ص: 99

تناولوا هذه المسألة في كتبهم المعدة لمثل هذه المواضيع.

فمن الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ و ظاهر الآية يقتضي كونه سبحانه هو الموجد للإيمان في نفوسهم،لأن النور هو الإيمان و الظلمة هي الكفر،و قد أضاف ذلك إليه سبحانه فيكون هو الفاعل.

و بعد التأمل في الآية الكريمة يتضح أنها بعيدة عما يدعيه أصحاب الشبهة المذكورة لأن النور و الظلمة،كما يمكن أن يراد بهما الكفر و الإيمان،يجوز أن يراد بهما الجنة و النار،و ظاهرها يساعد على المعنى الأخير لهما،لأن إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور بعد فرض اتصافهم بالإيمان كان في رتبته سابقة على الإخراج،و لا يصح و الحال ذلك أن يراد بهما غير الثواب و العقاب لأنه فرض ثبوت الإيمان لهم،و من يثبت إيمانه يخرج من غضب اللّه و عقابه إلى رضوانه و ثوابه،و لو أريد من النور الإيمان و من الظلمة الكفر،يلزم التناقض في مدلول الآية الكريمة،و عليه يكون مفادها،أن المؤمن بوصف كونه مؤمنا يخرج من الكفر إلى الإيمان، و خروجه من الكفر إلى الإيمان يقتضي كونه كافرا قبل الإخراج و قد فرضنا إيمانه كما هو نص الآية و هو تناقض ظاهر.

و يؤكد ما ذكرناه من معنى الآية قوله سبحانه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أسند إخراجهم إلى الطاغوت، و لازم ذلك كون الطاغوت هو الفاعل للكفر،لو فسرنا الظلمة و النور بالكفر و الإيمان و لا يلتزم بذلك صاحب الشبهة،فلا بد و أن يكون المراد بالنور و الظلمة الثواب و العقاب في المقامين،لأن الإخراجين من نوع واحد، و إنما نسب الإخراج إلى الطاغوت،مع أن اللّه سبحانه هو الذي يدخل العبد جنته و ناره،من حيث إنه زين لهم الكفر و التمرد على المولى و صدهم عن

ص: 100

إطاعته،و أغراهم بمعصيته،فصحت هذه النسبة توسعا و تجوزا في الكلام، كما و أن نسبة الإخراج من الظلمة إلى النور للّه سبحانه،لأنه رغب عبده في الطاعة و قوى في نفسه الدواعي التي تسهلها له بعد وجود بقية المقدمات.

و من جملة الآيات أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ(95) وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ و المراد من الآية كما يفهم صاحب الشبهة و اللّه خلقكم و خلق الذي تعملونه أي و خلق أعمالكم،و إذا كانت الأعمال مخلوقة للّه سبحانه،لا يصح منه أن يعاقب عليها،و إلا كان ظالما لعباده.

و لكن بعد التأمل في الآية يتضح أن المراد بقوله:و ما تعملون هو و ما تعملون فيه من الأحجار و الأخشاب التي تتخذونها أربابا تعبدونها من دون اللّه.و المراد من الآية هو الإنكار عليهم و توبيخهم على عملهم لأنهم نحتوا الأصنام في الأحجار و الأخشاب و اتخذوها آلهة لهم مع أن ما ينحتون فيه من مخلوقاته سبحانه فقد عبدوا مخلوقا مثلهم.فليست الآية في مقام الأخبار عن خلق الأعمال و إنما هي في مقام الإنكار عليهم لأنهم عبدوا صنما صنعوه في مخلوق من مخلوقاته سبحانه.

و من جملة الآيات التي استند إليها أصحاب الشبهة،قوله سبحانه:

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ .

و الذي يمكن أن يقال تمشيا مع المجبرة،إن المراد بالغواية هو الضلال،و إذا أراد اللّه سبحانه أن يضل قوما لا تتخلف إرادته عن مراده، فلا يبقى أثر لنصح الرسول و إرشاده،و إذا كانت الغواية منه لا يحسن منه سبحانه العقاب عليها و إلا كان ظالما لعباده،و لو أن المجبرة يلتزمون بجواز الظلم و عدم قبحه لم يبق لنا نزاع معهم في هذه المسألة.

و بعد التأمل في الآية يظهر أن اللّه سبحانه لم تقع منه الغواية و لم يردها لعباده.و إنما أخبرهم على لسان رسوله،أن نصح النبي لا ينفع إن كان اللّه

ص: 101

يريد غوايتهم،و جواز وقوع الإرادة منه سبحانه لا يدل على أن المراد بالغواية هو التمادي في المعصية،بل من القريب أن يكون المراد بها هو العقاب،فيكون معنى الآية هو أن نصحي و إرشادي لا يدفع عنكم العقاب ما دمتم مصرين على ما أنتم عليه من الضلال و العصيان،إلا أن تطيعوا و تتوبوا إلى ربكم من سوء أعمالكم.

و قد عبر سبحانه عن العقاب بالغواية في آية أخرى،قال: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا .و هو مصدر مشتق من«غوى».

و مهما يكن فالمراد من الآية أن نصحي و إرشادي لا يدفع عنكم عذاب اللّه و عقابه،ما دمتم مصرين على سوء أعمالكم.

و في الأمالي للسيد المرتضى عن جعفر بن حرب أن الآية كانت في طائفة من قوم نوح تدعي بأن اللّه أراد غوايتهم و عدم إيمانهم به،فنبههم اللّه سبحانه على فساد مذهبهم على سبيل الإنكار لقولهم أي أن اللّه كما تقولون و تزعمون يفعل فيكم الكفر و العصيان،فما ينفعكم نصحي و لا تطلبوه مني، و أنتم على هذه العقيدة الفاسدة لأنكم لا تنتفعون به،إذ كان هو الذي يغويكم.

و يمكن أن يكون المراد بها أن النصح لا ينفع الظالم عند عقابه و نزول العذاب به،إذ لو تاب و الحال هذه،لا تنفعه التوبة و لا تقبل منه،فلا فائدة في نصحه و إرشاده.

و من الآيات قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ،و قوله في السورة نفسها: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ،و في سورة الأنعام مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و غير ذلك من الآيات التي جعل فيها هداية العبد و ضلاله مترتبة مشيئة اللّه سبحانه.

ص: 102

و الجواب عنها أنه ليس في هذا ما يدلنا على أنه قد أضل فريقا من عباده و هدى فريقا آخر،بل غاية ما تدل على أنه لو اقتضت مشيئته ذلك لوقع العبد في شريك العصيان و الخذلان من حيث قدرته على التصرف بعباده بكل أنحاء التصرفات و لا يتنافى ما عليه الإمامية القائلين بالعدل و عدم جواز القبح عليه سبحانه لأن قدرته على كل شيء لا يستوجب فعل القبيح تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و ثانيا-أن المراد بالضلال هو أن يسلب العبد ألطافه و فؤاده فيما إذا تواترت عليه الحجج و البراهين،و بقي مصرا على طغيانه و إعراضه عنها،ففي هذه الحالة يبقيه اللّه على ما يختار و يمنع عنه اللطف الإلهي،و النور الذي يمكن أن يهتدي بواسطته إلى اللّه سبحانه،و لا تضر في هذه الأحوال نسبة الإضلال إلى اللّه،لأن العبد بطغيانه و تمرده كان سببا لإعراضه عنه،و عدم إزاحة الشر من نفسه فتركه على ما هو عليه خذلان منه سبحانه لذلك العبد المتمرد،فليس المراد منها أنه خلق الضلال و الهداية بعباده،لا أمرهم بها، و مهما يكن الحال فجميع الآيات التي يمكن أن تكون محلا للشبهة ليست نصا فيما يدعون،و ظاهر بعضها-و إن دل على ذلك-و لكن هذا الظاهر لا بد من التصرف فيه بعد قيام الدليل العقلي على عدم جواز نسبة الظلم إليه سبحانه، لا سيما و أن الكثير من آيات الكتاب نص في ما تدعيه الإمامية.

و من جملة الآيات قوله سبحانه وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فهي تدل بظاهرها على أن اللّه سبحانه إذا أراد أن يهلك قوما و يعذبهم أمر المترفين منهم ففسقوا و كان فسقهم مترتبا على الأمر،فكأنه أمرهم بالفسق أو أمرهم ليفسقوا و معنى ذلك أنه أراد منهم الفسق ليعذبهم عليه،فلا يكون السبب في العقاب عصيان العبد المنبعث عن اختياره و تمرده على اللّه سبحانه،بل هو من حيث إرادته لذلك

ص: 103

ابتداء،غايته أنه أمرهم بعد أن أراد عقابهم،ليتحقق منهم الفسق،فكأنه يريد أن ينتقم منهم على كل حال،و لكنه يريد أن يخلق له سببا للانتقام.

و سواء كان مفادها أنه أمرهم بالفسق،أو أراد أن ينتقم منهم فأوجد السبب لذلك،ليصح منه العقاب و أيا كان مفادها فلا يجوز عليه سبحانه.

و يمكن الجواب عنها بأن قوله أمرنا مترفيها،ليست جوابا لقوله و إذا أردنا أن نهلك قرية،بل هو صفة لأهل القرية،فيكون مفادها و إذا أردنا أن نهلك قرية صفتها أنا أمرنا مترفيها،ففسقوا فيها،و خالفوا ما أمرناهم به باختيارهم و إرادتهم.

و على هذا تكون إذا بدون جواب ظاهر،و قد استغنى عنه بدلالة الكلام عليه،و نظير ذلك في الاستغناء عن جواب إذا لدلالة ظاهر الكلام عليه قوله تعالى: حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ .

و قد ورد حذف الجواب للاستغناء عنه اختصارا،و على هذا لا تكون المعصية مفروضة الوجود قبل أن تتعلق إرادته بعقابهم.

و يمكن أن يكون في الآية تقديم و تأخير،و يكون المعنى على هذا الوجه إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة و فسقوا أردنا هلاكهم و عقابهم.

نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ مع أن الغسل إنما يجب قبل القيام إلى الصلاة،و المراد منها هو الأمر بغسل وجوههم و أيديهم عند القيام للصلاة.

و هذا النحو من التصرف بعد وجود الشاهد عليه،لا يتنافى مع ظاهر الآيات الكريمة.

و كما لا يقول الشيعة بالجبر لا يقولون بالتفويض،سواء فسرناه بإرجاع

ص: 104

الأمر إلى العبد،و استغلاله بجميع الأفعال استقلالا تاما على وفق مشيئته و اختياره،و ليس للّه في أعماله صنع و لا سلطان له عليه فيما يفعل،أو فسرناه بتفويضه أمر الخلق و الرزق إلى بعض عباده،كما يظهر مما رواه الصدوق بسنده عن يزيد بن عمر قال:دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السّلام فقلت له يا ابن رسول اللّه!روي لنا عن الصادق أنه قال:لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين بين فما معناه؟فقال عليه السّلام من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها،فقد قال بالجبر،و من قال أن اللّه سبحانه فوض أمر الخلق و الرزق إلى حججه،فقد قال بالتفويض،فالقائل بالجبر كافر و القائل بالتفويض مشرك،فقلت يا ابن رسول اللّه!فما أمر بين بين؟فقال وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به،و ترك ما نهوا عنه فقلت فهل للّه مشيئة و إرادة في ذلك؟فقال أما الطاعات فإرادة اللّه و مشيئته فيها الأمر بها و الرضا و المعاونة عليها،و إرادته و مشيئته في المعاصي النهي عنها،و السخط لها، و الخذلان عليها فقلت فللّه عز و جل فيها القضاء و القدر قال نعم،ما من فعل يفعله العبد من خير و شر إلا و للّه فيه قضاء،قلت فما معنى القضاء؟قال الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم،من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة،فالرواية تنص على أن التفويض بالمعنى الثاني يؤدي إلى الشرك باللّه سبحانه،لأن الخلق و الرزق من وظيفة الخالق،و من أثبتهما لغيره فقد جعل له شريكا في سلطانه،و التفويض بهذا المعنى قول لبعض الفرق من الغلاة.

و أما التفويض بالمعنى الأول،فيلزمه أن يرضى اللّه سبحانه عن كل ما يفعله العبد من خير أو شر،و لا يصح منه العقاب و الحالة هذه،لأنه ترك لعبده أن يفعل ما يشاء و لا يتدخل في شيء من أموره و أفعاله.

فنتيجة التفويض بهذا المعنى كنتيجة الجبر من حيث عدم صحة العقاب

ص: 105

على المعصية،و في شرح عقائد الصدوق للمفيد في تفسير الواسطة بين القولين:

إن اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم و مكنهم من أعمالهم و حدد لهم الحدود في ذلك و نهاهم عن القبائح بالزجر و التخويف،و الوعد و الوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها،و لم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها،و وضع لهم الحدود فيها و أمرهم بحسنها و نهاهم هن قبيحها،فهذا هو الفصل بين الجبر و التفويض.

ص: 106

النبوة

اشارة

الأصل الثالث عند الشيعة النبوة-يعتقد الشيعة الإمامية بنبوة محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،كما يعتقدون بنبوة من تقدمه من الأنبياء،و المشكك بنبوته كالمنكر لها كافر بإجماعهم.

و أدلتهم على ذلك كثيرة،منها أن اللّه سبحانه لم يكن لاغيا في خلقه و لا عابثا في إرادته،و إنما خلقهم لمصالح ترجع إليهم،و هو الغني عن عباده،و الغني لا يفتقر لغيره في ما هو غني فيه،و لا بد من إرشادهم لتحصيل تلك المصالح المترتبة على وجودهم و لا يتم ذلك إلا بواسطة من يختاره لأداء تلك المهمة،و هو أعلم حيث يجعل رسالته.و بعد أن خلقهم لمصالح ترجع إليهم،و لم يكن العقل كافيا في إدراك الحسن و القبح في جميع الأفعال،و إنما يدرك حسن بعض الأفعال و قبح بعضها،و لا طريق إلى معرفة ذلك إلا بواسطة الرسول المبلغ عن اللّه سبحانه.

و منها أن اللّه سبحانه كلف العباد بعبادته،و أراد منهم ما يقربهم إليه، فقال سبحانه وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ و وصف نفسه باللطف بهم في قوله اَللّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ و لا يمكن التوصل إليه ليعملوا بما يريد، و يتجنبوا عما يكره وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ

ص: 107

يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ فلا بد من إرسال الرسول ليكون واسطة بين العبد و ربه ليرشدهم إلى ما فيه الخير لهم، و ينهاهم عما فيه العقاب،و يجمعهم تحت لواء واحد،و على شرع واحد، ليعملوا جميعا لما فيه خيرهم و سعادتهم.

و روي في الكافي عن هشام ابن الحكم،عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام أنه قال:من أين تثبت الأنبياء و الرسل؟قال عليه السّلام إنا لما أثبتنا أن لنا خلقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق،و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا، لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشروه،و يحاجهم و يحاجوه،ثبت أن له سفراء في خلقه و عباده،يعبرون عنه إلى خلقه، و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم،و ما به بقاؤهم،و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه،المعبرون عنه عز و جل،و هم الأنبياء صفوته من خلقه،حكماء مؤيدين بالحكمة،مبعوثين بها،غير مشاركين للناس،على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شيء من أحوالهم.

و منها دليل اللطف،و هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى الطاعة، و أبعد من المعصية.و الرسول تتحقق به تلك الفائدة فيجب على اللّه سبحانه و إلا كان العقاب منه قبيحا.و قد حكى اللّه سبحانه ما يمكن أن يجري على لسان عباده،لو أنه عذبهم قبل إرسال الرسل إليهم بقوله: وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فأخبر أنه لو منعهم اللطف في بعثه الأنبياء،لكن لهم أن يسألوا بهذا السؤال و لا يكون لهم ذلك إلا إذا كان عقابهم قبيحا.

و من أراد أن يحيط علما بهذه المباحث،فعليه أن يرجع إلى كتب الشيعة،فلقد أولت هذه النواحي المزيد من العناية.

ص: 108

و لقد أقام الإمامية الأدلة الكافية لإثبات نبوة سيد الرسل،و خاتم الأنبياء،محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،الذي أسس مبادئه المقدسة على العدل و خدمة الإنسانية،و أوجد للإنسان نظاما يأخذ بيده في شتى الميادين.

و ذكروا له من المعجزات الدالة على نبوته،ما ثبت صدورها عنه باجماع المسلمين،في جميع عصورهم،و لو لم يكن له إلا شريعته و كتابه الكريم،لكفى بهما دليلا على أنه رسول من إله لطيف خبير.

ص: 109

عصمة الأنبياء

لقد كانت العصمة و لا تزال،معركة لآراء الباحثين في الصور الإسلامية الأولى،يوم كان رجال الحكم يريدون أن يشغلوا العلماء و المفكرين بمثل هذه المباحث،لينصرفوا عن سوء تصرفاتهم،و تبقى الخلافة الإسلامية موردا عذبا ينهلون بواسطتها ما توحيه إليهم الشهوات و الأهواء.

كانت العصمة و لا تزال محلا للجدال نفيا و إثباتا إلى الأنبياء،و قبل أن نشير إلى الناحية التي كانت معركة لآراء الباحثين،لا بد لنا من التعرض لمعناها.ففي(شرح النهج للمعتزلي)ذهب جماعة إلى أنها عبارة عن وجود خاصية في نفس الإنسان تمنعه من الإقدام على المعصية،و آخرون إلى أنها عدم القدرة على المعصية.و نقل قولا ثالثا ادعى أن عليه الأكثر من أهل النظر،و حاصله أن العصمة تكون مع التمكن من الطاعة و المعصية، و تحصل بعد قدرة العبد على كلا الأمرين من أمور أربعة:أن يكون الإنسان قوي الإرادة،لا ينقاد مع شهواته و ميوله النفسية،و هو المراد بالملكة المانعة من الفجور،الباعثة على الطاعة.الثاني أن يكون الإنسان عالما بفوائد الطاعة و مضار المعصية.الثالث وجود البيان من اللّه سبحانه و وصوله إلى المكلف.الرابع أن يحاسب على الخطأ و لو كان نسيانا أو سهوا.فإذا

ص: 110

اجتمعت هذه الأربعة،ملكة تدعو الإنسان إلى الطاعة،و علم بمضار المعصية و منافع الطاعة،و بيان و اصل إليه،و محاسبة على الخطأ و لو كان عن سهو أو نسيان،تحصل العصمة التي هي عبارة عن عدم المعصية خارجا،فتكون هذه الأربعة مقدمات للعصمة،و هي بهذا المعنى تتفق مع ما عليه الإمامية في معناها.

قال العلامة الحلي:العصمة لطف يفعله اللّه سبحانه بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك،لأنه لو لا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله فتنتفي فائدة البعثة.

و قريب من ذلك ما جاء في كتاب الحق اليقين حيث قال:العصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب،مع كونه قادرا على المعاصي كلها، و ليس معنى العصمة أن اللّه يجبره على ترك المعصية بل يفعل به ألطافا يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها.

و اعتبار عدم القدرة على المعصية،كما ذهب إليه بعضهم يستلزم كونه مجبورا على الطاعة،فلا يبقى محل للثواب،و يتنافى مع التكليف،و يلزم الإكراه في الدين،و قد قال تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ و يلزم كون المعصوم أدنى مرتبة من صلحاء المؤمنين القادرين على المعصية التاركين لها.

و الذي عليه الإمامية خلافا لغيرهم من بقية الفرق الإسلامية هو القول بعصمة الأنبياء قبل البعثة و بعدها،عن جميع المعاصي صغيرها و كبيرها، و دليلهم على وجوبها قبل البعثة،هو أنه لو وقع منه العصيان،و فعل القبيح قبل بعثه،و عرف الناس منه أنه يخطئ و يصيب،و يفعل الأمور القبيحة،لا يمكن أن يركنوا إليه بعد ذلك،إذا جاءهم مدعيا للرسالة،و لا سيما أن من يفعل القبيح تسقط منزلته في نفوس عارفيه،المطلعين على واقع حاله، و حقيقة أمره،و كيف يعهد اللّه سبحانه أمر النبوة التي هي من أعظم المراتب

ص: 111

و أسماها،لمن فعل القبيح فيما مضى من حياته،ثم يأمره بأن ينهي الناس عما كان يفعله بالأمس،إن اللّه سبحانه قد أراد من عباده التصديق بأنبيائه، و الأخذ بتعاليمهم و نصائحهم،و رغبهم بذلك بشتى الوسائل،و وعد المؤمنين منهم خيرا و أجرا عظيما،و إذا جاز على النبي أن يكذب في ماضيه فكيف تطمئن نفوسهم بصدقه في حاضره،و أي ضرورة تدعونا إلى هذا القول الذي لا يتفق مع مرتكزات العقلاء،و أي مانع من أن يختار اللّه سبحانه لتلك الرسالة الكريمة من طهر نفسه من الدنس،و كان المثل الأعلى لجميع الصفات الإنسانية المثلى،لتكون الفائدة به أتم و الغرض أقرب إلى الحصول،و لقد قال سبحانه في محكم كتابه لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ و لا شك في أن مرتكب القبيح ظالم لنفسه غير محتفظ بكرامتها،و النبوة عهد من اللّه و أمانة يجعلها في عنق من يختاره،و يراه أهلا لأدائها و القيام بأعبائها.

هذا مجمل ما عليه الشيعة الإمامية في العصمة قبل البعثة،و أما العصمة بعدها،فالذي عليه الشيعة هو العصمة عن الذنوب كلها صغيرة كانت أم كبيرة.عمدا كانت أو سهوا،من غير فرق بين ما يرجع إلى عالم تبليغ الأحكام و غيرها مما يرجع إلى أحوالهم الخاصة،و أفعالهم و تروكهم.

و يتفق الشيعة مع بقية المسلمين فيما يرجع إلى تبليغ الأحكام،و مع المعتزلة خاصة فيما يتعلق بالكبائر مطلقا،و الصغائر الموجبة للاستخفاف، كما يظهر ذلك من شارح النهج.

و مهما يكن الحال فهذه المسألة تكاد تكون على إطلاقها مما تفرد بها الإمامية و قد أقاموا الأدلة الكافية لإثباتها.

منها أن النبي إذا لم يكن معصوما،لم يحصل الوثوق بالشرائع لأن النبي مبلغ عن اللّه.و لو جاز عليه أن يكذب و يعصي،جاز أن يزيد فيما أوحي إليه،أو ينقص،أو يأمر بما لم يؤمر فيه من ربه،حسب ما توحيه إليه

ص: 112

شهواته و ميوله،إذا كان كغيره من بقية أفراد الإنسان،و حينئذ تنتفي فائدة بعثته و لم يحصل الغرض من نبوته.

و منها أنه إذا لم يكن معصوما كان أسوأ حالا من بقية أفراد الأمة،لأن درجة النبوة من أرفع الدرجات و أقربها للّه سبحانه،و كلما ازداد الإنسان علما باللّه،ازداد قربا منه،و خضوعا له،فلو وقع منه العصيان و الحال هذه لزم أن يكون أسوأ حالا ممن لم يكن بتلك المرتبة،و كان مسؤولا أكثر من غيره لأن العقاب على قدر المعرفة،و يتفاوت بتفاوت ظروف الإنسان و ملابسات حياته،و في جملة من آيات الكتاب الكريم ما يدل على أن الجزاء قد يتضاعف بحسب حال المكلف مع وحدة المعصية،قال سبحانه مخاطبا نساء النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ و غير ذلك مما دل على تفاوت حكم الزاني بين الإحصان و عدمه،و العقل يساعد على أن العالم باللّه مسؤول أكثر من غيره على حسب مراتب العلم المقرب منه سبحانه.

و لقد عاتب اللّه سبحانه من يرشد غيره و ينسى نفسه،و يعمل على خلاف ما يعلم، أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ و قال سبحانه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و لازم القول بوقوع المعاصي من الرسل أن يكون النبي مصداقا لهذه الآيات الكريمة.

إن رسالة الأنبياء لا تكلف الإنسان فوق ما يطيق،أنها تسير مع الزمن و تساير الحياة،و ليس في طبيعة الإنسان ما يتنافى مع تلك الرسالة،فليس من الصعب أن يلتزم بها الكثير من الناس،و يعمل على نهجها،و لو رجعنا إلى الوراء قليلا و درسنا حياة العظماء،و المصلحين،لوجدنا عددا ليس بالقليل تجرد لخدمة الإنسانية،و أعرضوا عن الملاذ و الشهوات،و التجأوا

ص: 113

إلى الكهوف و الغابات ليؤدوا إلى الإنسانية رسالة فرضتها عليهم إنسانيتهم المثلى،و لم يكن ما حف بهم من أسباب النعيم و دواعي المتعة و مؤهلات المعيشة الناعمة،ليصرفهم عن تفكيرهم في مشاكل الحياة الغاصة بالكوارث و الآلام و الأحزان،فانصرفوا عن كل ما أحاط بهم من نعمة و نعيم،إلى الكهوف و الغابات يبحثون عن السعادة،و يقنعون باليسير من القوت يستجدونه من أكف المحسنين،و لا شك أن لهذا القسم من البشر ملكات قوية قادتهم إلى أشرف الغايات و أنبلها و حالت دون ما تهوى نفوسهم من الرغبات و الشهوات و الملذات.

و ليست العصمة التي ندعيها للأنبياء و الأوصياء،إلا قوة في النفس تقودهم إلى ما يعملون لأجله من سعادة الإنسان و خيره،يتحملون في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى و الألم،فلم يشغلهم ما أحاط بهم عن عبادة اللّه و آلام الناس و العمل لخير الإنسان و سعادته،فكأنهم يجنون أطيب الأثمار و أشهاها و خير شاهد على ذلك موقف الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من قومه حيث لاقى أقسى ما يتصور من الأذى و العذاب و لما يئسوا من تراجعه،اجتمعوا إلى أبي طالب ليكون ابن أخيه ملكا عليهم،يحكم فيهم كما تحكم الملوك برعيتها على أن يترك دعوته.فرده بكلمته الخالدة:

«و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي،ما تركت هذا الأمر» فعادوا سيرتهم الأولى تعذيبا و إيذاء و تشريدا،و تنكيلا بأتباعه،و ازداد صبرا و نشاطا،و إيمانا بمبادئه،و تم له ما أراد.

و من كانت له الملكات الرفيعة لا يجوز أن ينقاد لشهواته،و ينخرط مع من يقترفون السيئات و الآثام.

هذه طائفة من الأدلة التي يستدل بها الإمامية على عصمة الأنبياء،و هي كافية لإثباتها،و لكن النصوص القرآنية قد تعرضت لاحوال جملة من

ص: 114

الأنبياء،و تدل بظاهرها على وقوع المعصية منهم فلا يبقى لأدلة العصمة فائدة يعتمد عليها،في مقابل اخبار اللّه سبحانه العالم بسرهم و علانيتهم، فلا بد من رفع اليد عن هذه الأدلة،أو تأويل الآيات الكريمة،بما يتفق مع بلاغة الكتاب و إعجازه.

قال سبحانه في سورة يوسف،حاكيا ما جرى له مع امرأة العزيز:

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

و هي بظاهرها تدل على تبادل العزم على الفحشاء من كليهما و لو لا برهان ربه لقاده هواه إلى هذه المعصية و لكن المتأمل في الآية الكريمة،يرى فيها ما هو أدل على نزاهة يوسف و طهارة نفسه،لأن صدر الآية ناطق بأنها همت به بدون قيد أو شرط و أما يوسف فإرادته لذلك وردت معلقة على حصول شرط لم يتحقق و المشروط عدم إذا لم يوجد شرط حيث إن همه بها كان معلقا على عدم رؤيته لبرهان ربه و قد رآه،فلا هم منه و لا إرادة،و يكون همه بها جوابا للشرط،و قد تقدم عليه،كما في قوله قائل:كنت قصدتك، لو لا أن زيدا صدني عن ذلك.

و نتيجة هذا الجواب،هو أن الذي تحقق منها لم يقع منه،لأن البرهان الذي تلقاه من ربه حال بينها و بين ما تريد،و لو لا ذلك لجرى له مثل ما جرى معها،و هذا لا يتنافى مع عصمة الأنبياء.

و يمكن الجواب بوجه آخر،و هو أن المراد من همه بها ميل نفسه و رغبته في ذلك،لأن فيه ما في سائر البشر،إلا أن الناحية الروحية فيه تسيطر دائما على شهواته و غرائزه الجنسية،و الهم بمعنى الرغبة و الشهوة واقع في اللغة،و جواب لو لا محذوف من الكلام أي لو لا أن رأى برهان ربه لعزم على تحقيق رغبته و ميل نفسه.

ص: 115

و الذي يدل على عدم عزمه على الزنا قوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ و معنى ذلك أن قد صرفنا عنه كل سوء و فحشاء،لدلالة المفرد المعرف على ذلك و من صرف اللّه عنه السوء و الفحشاء،و كان من عباده المخلصين كيف يعزم على مثل ذلك؟و هل يتصف بالإخلاص من عزم على مثل هذا الجرم؟و إن لم يتحقق منه الفعل، و العزم على الجريمة من جملة أنواع التجري الكاشف عن لؤم في النفس.

و في الآية وجوه غير هذين ذكرها السيد المرتضى في كتابيه الأمالي و تنزيه الأنبياء.

و من الآيات التي تنافي بظاهرها العصمة قوله تعالى،في سورة ألم نشرح،خطابا للنبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ بحجة أن المراد بالوزر هو الذنب كما ورد إطلاق الأوزار على الذنوب و الخطايا في بعض الآيات الكريمة.قال السيد المرتضى:إنما سميت الذنوب أوزارا لأنها تثقل كاسبها و حاملها،و كل شيء أثقل الإنسان جاز أن يسمى وزرا،و على هذا لا يمتنع أن يراد بالوزر في هذه الآية،هو الغم الذي أصاب النبي من شرك قومه و تعذيبهم له و لأصحابه المؤمنين،فلما أعلى اللّه كلمة الإسلام و شرح صدره و بسط يده،و جعل كلمة المشركين هي السفلى،ذكره اللّه بألطافه و نعمه عليه،ليقابل ذلك هو و أتباعه بالشكر للّه سبحانه،و في آخر السورة ما يدل على ذلك.

و من الآيات قوله سبحانه في سورة الضحى: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى و الضلال هو الخروج عن طريق الحق إلى الباطل،و هو خلاف ما عليه الإمامية من العصمة المطلقة قبل النبوة و بعدها و بعد التأمل نرى أن الآية في مقام تعداد النعم التي توالت على النبي،بعد الفقر و اليتم و الحيرة التي أصابته،يوم كان بمكة يدعو الناس إلى اللّه،في حين أن المشركين جادين

ص: 116

في إيذائه و التنكيل بأتباعه،فخرج من بينهم لا يدري أين يذهب،في ظلام الليل و سكونه فلم يجد ملجأ إلا الغار الذي ستره عن قومه فاطمأن إليه و من ذلك انطلق إلى هجرته الميمونة فآواه بعد اليتم،فكان مأوى الأيتام و كفيلا للمساكين بعد أن كان مكفولا لجده تارة،و لعمه أخرى،و هداه الحيرة التي ألمت به من عداء قومه،حتى ضاقت عليه مكة و شعابها فاتسعت له الدنيا، و تفتحت إليه أبوابها،و أغناه بعد الفقر بما أفاض عليه من غنائم الحرب، و ضريبة الزكاة،و خراج الأرض.

قال سبحانه: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى(5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى(7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)فليس الخروج عن الحق هو المعنى الذي يختص به لفظ الضلال و إنما يتسع له و لغيره،و لقد حاول البعض أن يمس عصمة الأنبياء بما وقع للنبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من تزويجه بزينب ابنة عمته بعد أن طلقها زيد زوجها الأول تمسكا بما روى أن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم دخل دارها يسأل عن زوجها زيد،فرآها على حين غفلة منها،و أعجبه جمالها، فبنى أن يتزوج منها إن تم طلاقها،و مذ رجع زوجها أخبرته بما كان من النبي،فظن أنها دخلت في نفسه،فعزم على طلاقها.فقال له النبي أمسك عليك زوجك،كما حكى اللّه سبحانه في كتابه وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي تخفي في نفسك،رغبتك بها و تقول لزوجها أمسكها،و اتق اللّه في معاشرتها،و هذا مخالف لما انطوت عليه نفسك.

و هذا لا يليق بالأنبياء،و يدل على خسة في الطبع،و لؤم في النفس، و النبي أعظم نفسا و أعلى شأنا من ذلك.و ليس في الآية ما يدل على أن زواجه بها كان على هذه الحالة.

ص: 117

و الذي وقع عليه هو أن زينب قريبة النبي،طلبها الأشراف من المسلمين، فلم يوافق النبي على زواجها،فلما أعتق زيدا مولاه و قد كان تبناه،أراد أن يكرمه بهذا الزواج نظرا لإيمانه و إخلاصه للدعوة الإسلامية،و في نفس الوقت أراد أن يحارب ما في نفوس المسلمين من كبرياء و ترفع على الموالي،بعد أن ساوى الإسلام بين الناس،و حطم العنصرية بأقدامه،و لم يفرق بين جنس و جنس إلا بالتقوى،و العمل الصالح،أراد أن يقر هذا المبدأ،فزوج زيدا من قريبته زينب،و لما سمعت بهذا الزواج أنفت نفسها و نفس أخيها عبد اللّه و غضبت من ذلك فكانت الآية الكريمة: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فتم الزواج،و تم الطلاق بعد ذلك، نتيجة لنزاع بينهما و كما يدل على ذلك قوله سبحانه:«أمسك عليك زوجك و اتق الله».

و الطلاق مهما كان سببه لا بد و أن يدخل على المرأة في الغالب ألما و غما،و لما كان هو السبب في هذا الزواج أراد أن يتدارك ذلك و يضمها إلى بيته و نسائه،و يرفع عنها ما لحقها من تزويج الموالي بالأحرار،و آلام الطلاق،فحدث نفسه بذلك،و لكنه خشي قولهم أن محمدا تزوج زوجة ابنه و قد كانوا ينزلون الأدعياء منزلة الأولاد،كما هي سنة الجاهلية،فعاتبه اللّه على ذلك بقول: وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ فما تخفيه نفسك يحققه اللّه لك،و لا حرج عليك فيما أحله اللّه و إن لم يكن مألوفا عند الناس.

وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ و نسخ سنة الجاهلية بقوله سبحانه: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، ثم نفى سبحانه بنوة زيد للنبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ.

فليس في الآية الكريمة التي حكت قصة هذا الزواج إشعار بما تضمنته

ص: 118

الرواية السابقة،و لا منافاة فيها لمقام النبوة بل هو عمل إنساني إن دل على شيء فإنما يدل على أرفع مراتب النبل و الخلق الكريم.

و من الآيات التي تنافي بظاهرها العصمة قوله تعالى: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً.

و سواء أريد بالفتح المبين المذكور في الآية الكريمة فتح مكة المكرمة، أو صلح الحديبية الذي وقع بين النبي و المشركين بدون قتال،و كان له أثره في انتشار الدعوة الإسلامية،و في مجمع البيان عن الزهري:لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية،و ذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم،و تمكن الإسلام من قلوبهم،و أسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام،و هذه المناسبة يمكن أن تسمّى فتحا.

و مهما يكن المراد منه،فقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ يدل على وقوع الذنب منه قبل البعثة و بعدها،أو قبل الفتح و بعده،على اختلاف الآراء في ذلك جمعا بينها و بين الأدلة القاضية بعصمة الأنبياء أحدها أن الذنوب التي غفرها اللّه هي ذنوب أمته،و إنما أضيفت إليه لما بينه و بينها من الإتصال،و هذا الجواب مستفاد من رواية المفضل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال:سأله رجل عن هذه الآية،قال:و اللّه ما كان له صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من ذنب،و لكن اللّه ضمن أن يغفر ذنوب شيعته ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر، و في رواية أخرى عن عمر بن يزيد عن الصادق عليه السّلام قال ما كان له من ذنب، و لا هم بذنب و لكن اللّه حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له،و هذا الجواب بعيد عن ظاهر الآية،فإن صح ما رواه المفضل،و عمر بن يزيد عن الصادق عليه السّلام في تفسيرها،لزمنا التعبد به و هو أعلم بمراد اللّه سبحانه.

الثاني ما حكاه في المجمع عن السيد المرتضى،أن الذنب مصدر

ص: 119

أضيف إلى المفعول،و المراد ما تقدم من ذنبهم إليك من منعهم إياك عن مكة،و صدهم لك عن المسجد الحرام،و تكون المغفرة في المقام بمعنى الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه المشركين،أي يزيل اللّه تعالى ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة،بما يفتح لك من مكة،و لذلك جعله جزاء و غرضا في الفتح و وجها له و لو أنه أراد مغفرة ذنوبه،لم يكن لقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ معنى معقولا لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح فلا تكون غرضا فيه،و هذا الوجه أيضا كسابقه لا يساعد عليه ظاهر الآية الكريمة،و الذي أراه في هذه الآية الكريمة هو أن الذنوب التي غفرها له اللّه هي الذنوب التي نسبها المشركون إليه لأنهم يرونه عاقا ظالما مسيئا إليهم،سفه أحلامهم،و نبذ تقاليدهم،و دعاهم إلى إله لم يعرفوه.ثم حاربهم و قتل رجالهم،و حطم الأوثان،و حرر العقول من عبادتها،و انطلق بأقصى طاقته يدفع عنهم أثقال الجمود،و انطلقوا يبالغون في إيذائه و تعذيبه و التنكيل بأتباعه فهو المسيء بحسابهم مع أنهم بالغوا و أسرفوا في إيذائه، فلم يكتف بدعوتهم إلى اللّه حتى قتل رجالهم،و أدخل عليهم الخزي و العار على حد زعمهم.

و حين دخل مكة بجيشه المتحمس حسبوا لذلك ألف حساب و حساب، و ظنوا أنهم سيلاقون جزاء أعمالهم،و كانوا منه على وجل و خوف شديدين، و أول ما بدأ به أن أشاع الأمن و الطمأنينة في شوارع مكة و شعابها،و أعلن العفو العام،من دخل داره فهو آمن،و من ألقى سلاحه هو آمن،و زاد على ذلك أن جعل لابي سفيان ما لم يجعل لغيره،و ما يوم حمزة عمه ببعيد عنه، فكان في ذلك اقصى ما يمكن أن يتصوره الإنسان،من النبل و كرم الأخلاق،و محاربة الغريزة الإنسانية المفطورة على الثأر و لذة الانتقام.

فلا صدر أرحب من صدره و لا أروع من إنسانيته،الحنان يغمر قلبه

ص: 120

و الرحمة التي حملتها نفسه الكريمة تتسع لأهل مكة و حتى لأبي سفيان و زوجته التي أكلت من كبد عمه الحمزة العزيز على قلبه و نفسه و فصلت أعضاءه عضوا عضوا.

لمسوا منه عكس ما كانوا يتصورون،و فوق ما كانوا يأملون،لو أنهم أحسنوا إليه و عاملوه بغير ما كان.

فكان من الطبيعي و الحال هذه أن يغفروا ماضيه و يرجعوا إليه نادمين و يستقبلوا ما يكون من أمره بعد هذا اليوم بإعجاب و ارتياح،فلا ذنب له بعد اليوم،لقد دلهم هذا الفتح المبين على ما كان يضمره لهم من خير و سعادة.

و أضاف المغفرة إليه سبحانه لأنه هو الذي أعانه على هذا الفتح و هيأ له أسبابه،فكان من آثاره دخولهم في الإسلام مؤمنين بصدق الدعوة و أنها الطريق لسعادة الإنسان.و هذا النوع من التجوّز شائع في لغة العرب،و آي الكتاب الحكيم،و الذي يساعد على هذا المعنى سياق الآيات الكريمة الواقعة بعد هذه الآية قال سبحانه لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ فوقعت المغفرة غاية له و غرضا منه وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ و أي نعمة أعظم من رجوع أولئك الطغاة إليه نادمين،يقابلون دعوته بكل ارتياح و انشراح. وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً بهذا الفتح الذي دفع عجلة الدعوة بخطى حثيثة،و قوة جبارة.

ص: 121

الإمامة

اشارة

و قبل الحديث عن الإمامة و الآراء فيها ينبغي التمهيد للحديث عنها بالإشارة الموجزة إلى المعتقدات الإسلامية في الأصول و الفروع و ما اتفق عليه المسلمون منها و ما اختلفوا فيه و لو بشكل عابر.

لقد قسموا الأمور الدينية إلى أصول و فروع و يعنون بالأصول الإيمان باللّه و رسله و كتبه و اليوم الآخر،و العلم الذي يبحث عن هذه الأمور هو علم التوحيد أو علم الكلام،كما يعنون بالفروع العبادات كالصلاة و الصيام و الحج و الزكاة،و المعاملات كالبيع و الإجارة و الزواج و الطلاق و الوصايا و المواريث و غير ذلك من المواضيع الفقهية،و العلم الذي يتعرض لهذه المواضيع يعرف بعلم الفقه و التشريع.

و قد اختلف المسلمون في الأصول و الفروع و تباينت آراؤهم في الكثير من مسائل هذين العلمين،و لكن اختلافهم لم يكن في التوحيد و النبوة و لا في بقية الأصول و تشريع الصلاة و غيرها من بقية الفروع بل كان في عوارض هذه المواضيع و توابعها و ملحقاتها.

إن المسلمين على اختلاف نزعاتهم و مذاهبهم لم يختلفوا في اللّه و وحدانيته بل في صفاته و أنها عين ذاته أو غيرها،و لا في رسالة محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و عصمته حين نبوته،بل كان خلافهم في ثبوتها له قبل النبوة و بعدها أو بعد

ص: 122

نبوته فقط،و لا في نزول القرآن عليه من اللّه سبحانه،بل في كونه قديما أو حادثا،كما و أنهم متفقون على الحشر و النشر،و إذا كان من خلاف بينهم في شيء من ذلك فهو في كيفيته و أنه بالأرواح وحدها أو بها و بالأجسام إلى غير ذلك من الصراع في هذه المواضيع الذي لا يمس جوهر الأصول و لا يبلغ بأحد حدود الكفر باللّه و كتابه و بما أنزله على رسله و أنبيائه.

و ما ذكرناه عن خلافهم في الأصول لا يختلف في شيء عن خلافهم في الفروع فلم يختلفوا في تشريع الصلاة و أوقاتها و عدد ركعاتها و الجهة التي يجب أن يتجه المصلي إليها و لا في صيام رمضان بكامله و تشريع الزكاة و النكاح و الطلاق و بقية المعاملات بل في بعض الشروط و الكيفيات و الحالات التي يجب أن تتم العبادة عليها.

كما و أن اختلاف الفرق و المذاهب في الأصول و العقائد و انقسامها إلى أشاعرة و إمامية و معتزلة لا يستدعي اختلافها في التشريع و الفقه و فروعه، و حتى أن الفرقة الواحدة المتفقة في أصول العقائد قد تختلف في المسائل الفقهية و تنتمي إلى أكثر من مذهب واحد من المذاهب الأربعة كما هو الحال بالنسبة إلى الأشاعرة.و قد اختلف علماء الإمامية في أكثر المسائل الفقهية بنحو لا يكاد الباحث يجد اثنين من علمائهم متفقين في جميع المسائل و أحيانا يلتقي علماء الإمامية مع علماء المذاهب الأربعة في مسائل الفقه و التشريع مع ما بينهم من خلاف و تباعد في الأصول،و كانت مسألة الإمامة من أبرز المسائل الخلافية بين المسلمين و ساعدت على تعدد الفرق و أحدثت فجوات واسعة بينهم أكثر من أي مسألة أخرى،و وضع فيها كل من السنة و الشيعة عشرات المجلدات،و كانت و لا تزال من أبرز ما حدث بينهم و أسوأها أثرا على مسيرة الإسلام و تطبيق مبادئه خلال تلك القرون المتتالية من تاريخه.

و مهما كان الحال فالإمامة و الخلافة كلمتان تعبران عن معنى واحد

ص: 123

و هو الرياسة العامة في أمور الدين و الدنيا نيابة عن الرسول الذي كان يتمتع بتلك الامتيازات و المهمات،و صاحب هذا الامتياز يسمونه الإمام تارة و الخليفة أخرى،فهو باعتبار قيادته للأمة و كونها تابعة له كما يتبع المصلي من يؤمه في الصلاة فمن هذه الناحية يسمونه إماما،و من حيث إنه يخلف الرسول في قيادة الأمة و إدارة شؤونها الدينية و الدنيوية يسمونه خليفة و الظاهر اتفاق المسلمين على أن الإمام أو الخليفة له على الناس من الولاية و السلطان ما للرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لأنه نائب الرسول،و ليس للمسلمين مقام الشرف من مقام الرسول،و من بلغ هذا المقام فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر،و على الأمة أن تحترم مقامه لأنه يرمز على مقام الرسول و لأنه القائم على دين اللّه و الأمين على حفظه و رعايته و تنفيذ تعاليمه بأمانة و إخلاص لا تشوبهما شائبة.

و جملة القول:إن السلطان خليفة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و حمى اللّه في بلاده و ظله الممدود على عباده،و من كان ظل اللّه في أرضه و خليفة الرسول فولايته كولاية الرسول في أمور الدين و الدنيا و كل من يلي شيئا من أمور المسلمين في عهد الخليفة من وزير أو قاض أو وال و محتسب و غير ذلك من و ظائف الدولة،فهو وكيل عن الإمام و نائب عنه،و هو وحده صاحب الرأي في اختيارهم و محاسبتهم و عزلهم عن مناصبهم إذا اقتضت مصلحة الأمة شيئا من ذلك.

و بعد أن لخص الأستاذ علي عبد الرزاق صلاحيات الإمام أو الخليفة عند المسلمين بما يقرب من هذا النحو في كتابه الخلافة و أصول الحكم وقف موقف الناقد لموقفهم هذا و اعتبره إسرافا حتى في إعطاء جميع هذه الصلاحيات للأنبياء فضلا عن خلفائهم،فقال ما حاصله:إن إعطاء هذه السلطات كلها لخليفة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم متفرع على ثبوتها للرسول نفسه،و يجب أن نبحث أولا عن صلاحيات الرسول و مهماته و بمقدار ما يثبت له من

ص: 124

الصلاحيات يمكن الالتزام بثبوتها لخليفته من بعده،لأنه فرع عنه و الفرع لا يزيد على أصله،و مضى يقول؛إن رسالة محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لا تشمل السلطة الدينية و الدنيوية و إنما هي كرسالة عيسى و موسى و غيرها من إخوانه الأنبياء لا تتعدى النواحي الروحية و تعتمد على الإقناع و الوعظ و الإيمان و خضوع القلب لا على القوة و البطش و إخضاع الجسم،و من أين لنا أن نثبت أن اللّه سبحانه قد أعطى لنبيه محمد ولاية الأنبياء الروحية و ولاية الحكام الزمنيين،و لا دليل لنا على ذلك سوى ممارسة النبي لهذه النواحي و قيامه بأعمالهم،و مجرد قيامه بما يشبه أعمال السلاطين و الحكام لا علاقة له برسالته و لا يدخل في اختصاصها من قريب أو بعيد،لأن تعاطيه لتلك المهمات لم يكن من شؤون الدين،بل هو في سبيل الملك و تكوين حكومته الإسلامية،و الحكومات لا تقوم إلا بالسيف و القهر و الغلبة.

و بتعبير آخر إن جميع ما أتى به محمد بن عبد اللّه و مارسه مما يعود إلى الشؤون السياسية و الدينية إنما كان بصفته حاكما و رئيسا لتلك الدولة التي أسسها بعد أن استقر في المدينة لا بصفته نبيا و رسولا يبلغ عن اللّه سبحانه و يمثل إرادته في كل ممارساته و أعماله،و أضاف إلى ذلك أن الآية الكريمة لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي تشير إلى أنه ليس للنبي أن يستعمل القوة كغيره من الحكام في تنفيذ الأحكام،و أن مهمته لا تتعدى ناحية الإرشاد و التوجيه و الوعظ و غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى الإيمان برسالته إلى غير ذلك مما جاء في كتابه حول تقريب نظريته هذه من الإسفاف الذي لا مبرر له.

لقد تحدث علي عبد الرزاق عن رسالة محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و كأنه يريد أن يؤكد نظرية القائلين بوجوب فصل الدين عن الدولة و السياسة، و أصحاب هذه النظرية يعالجونها بهذا النوع و أمثاله من التلفيق و التضليل، في حين أنه قد وضع كتابه للبحث عن الخلافة كما يقتضيها الإسلام

ص: 125

و تفرضها مصلحة المسلمين،و كان عليه و الحال هذه أن يعتمد على الكتاب و السنة و يستنطقهما في مقام تحديده لرسالة محمد و الصلاحيات التي منحها اللّه له.و عندما نعود إلى الكتاب و السنة نجد المعنى المراد من الرسالة يتسع لجميع السلطات دينية و دنيوية و لجميع الصلاحيات التي كان يمارسها النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في مختلف الشؤون،فقد نصت الآية السادسة من سورة الأحزاب على أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم،و جاء في آية ثانية من السورة نفسها ما يؤكد مضمون الآية الأولى حيث قال سبحانه:

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.

و جاء في حديث عنه أنه كان يقول:أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، و قال في حديث الغدير:ألست أولى بكم من أنفسكم؟قالوا:بلى يا رسول اللّه.فعقب على ذلك بقوله:من كنت مولاه فعلي مولاه،و الولاية في الآية و الحديث شاملة لجميع الأمور دينية كانت أو دنيوية،و لو كانت تعني نوعا خاصا من أنواعها لوجب ذكره بالخصوص و حيث لم يذكر نوعا منها بخصوصه تعين إرادة العموم منها و قد تقرر في علمي البيان و الأصول أن عدم ذكر المتعلق دليل على إرادة جميع الأفراد من العام،و على أساس ذلك قالوا:إن المتكلم إذا قال ما أكلت و لم يذكر نوعا من أنواع المأكولات كان قوله هذا دليلا على أنه لم يأكل شيئا.

و بخصوص الآية لا إكراه في الدين التي أيد فيها دعواه فهي أجنبية عن المقام و لا صلة لها بما نحن فيه من قريب أو بعيد و هي لا تعني أكثر من أن ما جاء به محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بعد أن كان متفقا مع الفترة و مقترنا بعشرات الأدلة و البراهين على صحته لا مجال للإكراه عليه و لأن ما يحصل بواسطة الإكراه لا ينفع شيئا و لا يكون إيمانا ما لم يقترن بالقناعة و الاطمئنان إلى صحة مبادئه و أصوله،و لا وجه للإكراه ما دامت الأدلة كافية لتركيز العقيدة و الاقتناع بها.

ص: 126

الخلاف في وجوب نصب الإمام

بعد أن اتفق عامة المسلمين على أن الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا نيابة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و أن الإمام يتولى جميع المهمات التي للنبي -سياسية كانت أو غيرها-اختلفوا في أن نصب الإمام هل هو واجب أو لا؟و على تقدير وجوبه فهل يجب على اللّه أن يعين الإمام و ينص عليه كما عين النبي و ينص عليه أم يجب على المسلمين أن يختاروا الإمام منهم،و هل يجب عليهم بحكم العقل أو أن الشرع يفرض عليهم ذلك.

لقد ذهب الخوارج و حاتم الأصم من المعتزلة (((1)))إلى عدم وجوب نصب لا على اللّه و لا على المسلمين عقلا و شرعا،و احتج الخوارج لذلك أولا بعدم وجود إمام في كل عصر تتوافر فيه الشروط المطلوبة،و ثانيا بأن آراء الناس مختلفة و أهواءهم متباينة و أحزانهم متعددة فإذا أرادوا نصب إمام انحرف كل حزب و كل فريق مع أهوائه بما يؤدي إلى إثارة الفتن و الحروب كما تدل على ذلك التجارب التي مر بها المسلمون منذ وفاة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و لو افترضنا أن كلمتهم اتفقت على تعيين من تتوفر فيه الشروط المطلوبة فلهم تعيينه إماما من غير أن يكونوا ملزمين بذلك شرعا أو عقلا.

ص: 127


1- لقد عاش الأصم في أواخر القرن الثاني و أوائل القرن الثالث و كانت وفاته سنة 237.

و قال الزيدية و المعتزلة:يجب على المسلمين أن يختاروا الإمام الذي تتوفر فيه الشروط لحفظ النظام و إدارة شؤونهم و لكن بحكم العقل لا بدليل من الشرع،و احتجوا لذلك بأن وجود الناس بدون حاكم يسبب الفوضى و انتشار الفساد و الإضرار بالعباد و دفع الضرر و الفساد واجب بحكم العقل و لا يتم ذلك إلا بوجود حاكم و ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.

و قال أكثر الإمامية:إن نصب الإمام واجب على اللّه بحكم العقل لأن الإمام لطف من اللّه يقرب الناس من الطاعات و يبعدهم عن المعاصي فهو أشبه بالأسباب الداعية لعمل الخير و ترك الشر و إذا كان نصب الإمام لطفا من اللّه و اللطف بمعنى إيجاد الدواعي للطاعة و التسهيلات لها واجب على اللّه بمقتضى كرمه و رأفته بعباده فيكون نصبه واجبا.

و قد تعرضت هذه النظرية لنقد الأشاعرة بما حاصله بأن اللطف الذي تدعونه إنما يتحقق إذا كان الإمام موجودا و ظاهرا يبين للناس ما يخفى عليهم من طرق الخير و يحاسبهم على التقصير و الإهمال،و الإمام صاحب هذه الصلاحيات لا وجود له،و وجوده مستورا و متخفيا عن الناس كما تدعون لا يحقق الغاية من نصبه.

و قد أجاب الإمامية بما حاصله أن اللّه سبحانه قد أوجد الإمام الجامع لكل الصفات التي تؤهله للقيادة و القيام بمهمات الإمامة دنيوية كانت أو دينية و قد نص على إمامته بواسطة النبي كما نص كل إمام على خليفته و ما عليه إلا أن يعرض نفسه لكل ما يطلب منه و على الناس أن تسمع له و تنقاد لأوامره و توجيهاته و تنضم تحت لوائه و قد فعل اللّه ما عليه و لكن الناس قد اخافوا الإمام و راحوا يطاردونه و يعرضونه لأشد الأخطار مما اضطره للتخفي و عدم الظهور الذي يحقق الغاية من نصبه.و مجمل القول إن اللّه سبحانه قد عين الأئمة بعد النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و أمر رسوله بتبليغ ذلك كجزء من رسالته التي أرسله اللّه

ص: 128

بها و قد بلغ النبي و نص عليهم بأسمائهم و صفاتهم في عشرات المناسبات و لكن الأمة قد غيرت و بدلت و جرفتها الأهواء و الشهوات إلى حيث انتهى إليه مصيرها الذي لا يعكس وجه الإسلام و لا يعبر عن واقعه الكريم و كان على المسلمين بعد النبي و بعد غيبة الإمام اختيار الحاكم الذي يسير في الأمة على خطاها صاحب الرسالة و الأئمة من بنيه في جميع المجالات التي تفرضها مصلحة الإسلام و المسلمين في مختلف العصور.

أما تسمية نصب الإمام باللطف أو بغيره من المصطلحات فلا يعدو أن يكون مجرد اصطلاح و تعليل لأمر صدر من اللّه سبحانه و لا يحيط بعلمه غيره و بلا شك فإنه لا يختار لهم إلا الأصلح و الأنسب الذي يحقق لهم العزة و الكرامة و السعادة في الدارين.

و مهما كان الحال فلقد ادعى الأشاعرة بأنه لا يجب على اللّه نصب الإمام لا عقلا و لا شرعا لأنه لا يجب عليه شيء و لا يقبح منه شيء و في الوقت ذاته فلقد أوجبوه على المسلمين شرعا لا عقلا و اعتبروهم مسؤولين تجاه اللّه إذا هم أهملوا هذا الأمر،و استدلوا على ذلك بإجماع الصحابة لأنهم بادروا على حد تعبيرهم إلى بيعة أبي بكر و تسليم الأمر إليه و مضى المسلمون من بعده مع بقية الحكام و الخلفاء على ذلك و على هذا الأساس كانت خلافتهم صحيحة و نافذة و من خرج عليها فقد خرج على إجماع المسلمين و استحق لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين كما يدعون و يزعمون بهذا النوع من التلفيق و التضليل.

و على أساس هذا المبدأ فإن الاجماع الذي تم على خلافة علي عليه السّلام قد استقطب عامة المهاجرين و الأنصار و الأقطار ما عدا بلاد الشام التي كان يتحكم بمصيرها معاوية بن هند أشد الناس عداوة للّه و رسوله،و قد خرج طلحة و الزبير و عائشة و من كان على شاكلتهم من المروانيين بعد أن بايعوا

ص: 129

عليا عليه السّلام طائعين غير مكرهين فبناء على مبدأ الأشاعرة من أنه لا دليل على صحتها سوى إجماع الصحابة و التابعين و إن الخارج على من أجمع عليه عدد الذين أجمعوا على أبي بكر خارج على جماعة المسلمين و يستحق لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين بناء على ذلك ينبغي تطبيق هذه الأحكام على طلحة و الزبير و عائشة و أمثالهم ممن أسموهم بالصحابة و أحسب أنهم لا يلتزمون بذلك بل يحاولون إضفاء صفة القداسة عليهم و حتى على ابن هند و أمثاله من الخوارج على الإسلام بحجة أنهم من الصحابة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في صحابته يزعمهم:أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم متجاهلين ما رواه عنه شيخ محدثيهم محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه من أنهم سيرتدون من بعده و لا ينجو منهم إلا مثل همل النعم و غيرها من الأحاديث التي تشير إلى ارتدادهم عن دينهم من بعده كما جاء في المجلد الرابع و غيره من صحيحه.

ص: 130

موقف علي عبد الرزاق

من دعوى الإجماع

لقد قال الأستاذ علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام و أصول الحكم بمقالة الخوارج من أنه لا يجب نصب الإمام على اللّه و لا على الناس لا بنظر الشرع و لا بنظر العقل و وقف من الأشاعرة موقفا سليما يتسم بالواقعية من الإجماع الذي يدعيه الأشاعرة و عامة أهل السنة على خلافة أبي بكر جاء فيه أن الإجماع المزعوم لا عين له و لا أثر و إنما هو مجرد دعوى فلا الصحابة أجمعوا على الخلافة و لا التابعون لهم و لا غيرهم من علماء المسلمين لأن الأصل في الخلافة عند المسلمين أن تقوم على أساس المبايعة الاختيارية و رضا الناس و رغبتهم و بخاصة أهل الحل و العقد من أقطاب المسلمين،و مضى يقول:إن التاريخ يثبت بالأرقام أن كل خلافة وجدت بعد الرسول قامت على القوة و الرهبة و على أساس المادة المسلحة و لم يكن للخليفة ما يحيط بمقامه سوى الرماح و السيوف،و لم يوجد لدى المسلمين خلافة واحدة قامت على الرضا و الحرية و الاختيار،و مع وجود عشرات الشواهد من التاريخ على ذلك فكيف ساغ لهؤلاء أن يستدلوا بعمل الصحابة و التابعين و علماء المسلمين في جميع العصور على أن الخلافة كانت منذ وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم تقوم على الإجماع وحده،و مضى يقول:إن

ص: 131

زعامة النبي كانت دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير،و قد انتهت الرسالة بموته،و ما كان لأحد أن يخلفه في زعامته كما لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته و إذا وجدت زعامة بعد الرسول بين أتباعه فهي زعامة مدنية سياسية، زعامة سلطان و حكومة لا زعامة دين و وحي.

و نحن مع الاستاذ علي عبد الرزاق فيما يعود إلى الإجماع المزعوم على خلافة أبي بكر و من جاء بعده من الحاكمين و أن زعامة النبي كانت دينية عن طريق الرسالة،و لكننا لا نقره على قوله ما كان لأحد أن يخلفه في زعامته لأن الرسول منذ الأيام الأولى لبعثته كان يهيئ من يخلفه في تنفيذ رسالته و السير بها في أرجاء الدنيا الواسعة كما يريده لها صاحب الرسالة و من غير المعقول أن يذهب عن هذه الدنيا و يتركها بين يدي أصحابه و أنصاره لتعبث بها الأهواء و الأطماع و النزعات،و قد عين لها القائد الحكيم و نص عليه بصراحة لا تقبل التأويل في عشرات المناسبات كما أثبتنا ذلك بالأرقام و الأدلة القاطعة خلال حديثنا عن التشيع و مصدره في الفصل الأول من فصول هذا الكتاب و في غيره من كتبنا حيث كانت تفرض علينا المناسبة ذلك.

ص: 132

شروط الإمامة

اشارة

لقد اتفقوا على أن الإمام يجب أن يكون مسلما ذكرا ((1))بالغا عادلا عالما بأحكام اللّه ذا بصيرة بالأمور واسعة تتسم تصرفاته بالحكمة في السلم و الحرب شجاعا يصمد للشدائد و يحمي الدين من التلاعب و الانحراف و اختلفوا في الشروط التالية:

1-فقد ذهب الخوارج و جماعة من المعتزلة أنها تصلح لكل إنسان قرشيا كان أو غيره،و قال الأشاعرة و أكثر المعتزلة أنها لا تجوز لغير القرشيين لقول النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الأئمة من قريش.

و قال الإمامية الإثنا عشرية أنها لعلي و من بعده لولده الحسن و منه إلى الحسين و منه لأولاده التسعة كما هو مقرر في أصولهم،و ذهب الزيدية إلى أنها في أولاد علي من فاطمة الزهراء عليها السّلام من غير فرق بين أولاد الحسن و الحسين عليهما السّلام عى شرط أن يعلن الحرب على الظالمين.

ص: 133


1- و جاء في الملل و النحل للشهرستاني أن ابن حزم قال بنبوة أم موسى و مريم بنت عمران و أم اسحاق زوجة إبراهيم،و على أساس ذلك تجوز الإمام للمرأة بطريق أولى إذا جازت لها النبوة لأنها أعظم من الإمامة.

العصمة

2-لقد تحدثنا عن العصمة خلال حديثنا عن النبوة و عما قيل حول عصمة النبي و آراء الفرق فيها و فيما يعود إلى عصمة الإمام فقد اتفق الأشاعرة و المعتزلة على عدم وجوب عصمته لأن أبا بكر كان إماما و لم يكن معصوما على حد تعبيرهم،و ذهب الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع الفواحش و الذنوب عمدا و سهوا و بعد أن أنكروا إمامة أبي بكر و غيره من أدعيائها استدلوا على أن العصمة من الشروط الأساسية في الإمام بأن الأئمة حفظة الشرائع و القوامون عليها و هم من هذه الناحية كالأنبياء و بأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم و دفع الفاسد و حسم مادة الفتن و أن الإمام لطف من اللّه يمنع القوي من التعدي و العدوان و يحمل الناس على فعل الطاعات و اجتناب المحرمات و يقيم الحدود و الفرائض إلى غير ذلك من المهمات التي عليه أن يتولاها و يرعاها،فلو جازت عليه المعصية و صدرت منه لانتفت فائدته و افتقر إلى إمام آخر يتولى تقويم اعوجاجه و إرجاعه إلى الطريق السليم،و لأنه لو عصى لوجب الإنكار عليه و إرجاعه إلى الطريق السليم من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإنكار عليه يتنافى مع وجوب طاعته التي فرضها اللّه على عباده بقوله:أطيعوا اللّه و الرسول و أولي الأمر منكم.

ص: 134

هذا بالإضافة إلى أنه لو صدرت منه المعصية لكان أسوأ حالا من أقل أفراد الرعية لأن الهفوة من الكبير و لو كانت صغيرة أعظم من الكبيرة من غيره من أفراد الأمة.

و مما يؤيد عصمة الإمام قوله تعالى لإبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ،فقد نصت الآية على أن الإمام لا يكون ظالما و العاصي ظالم لنفسه إذا كانت معصية في حدود أعماله و تكاليفه و ظالم لغيره إذا كانت تشكل اعتداء على الغير.

و لا بد و أن يكون الإمام أفضل الرعية في جميع صفاته عند الإمامية و استدلوا لذلك بالعقل و النقل،أما العقل فلأنه يحكم بقبح تقديم المفضول على الفاضل و غير الأعلم على الأعلم ما دام الرجوع إلى الأعلم ممكن و أما النقل فلقوله تعالى في الآية من سورة يونس أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ حيث إن الآية قد أنكرت على من لا يتبع الأفضل و لا يقول بأنه أحق بالاتباع من غيره.

أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

ص: 135

الحاكم الجائر

و مع اختلاف المسلمين في بعض شروط الحاكم فهم متفقون على أنه يجب أن يكون عادلا،و لكن الأشاعرة مع أنهم يشترطون عدالة الحاكم، فقد ذهبوا إلى وجوب الصبر على جوره و ظلمه:

و جاء في المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبي زهرة أن أهل السنة قالوا الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عادلا محسنا،فإذا لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما في الخروج عليه من استبدال الخوف بالأمن و إهراق الدماء و شن الغارات و الفساد و ذلك أعظم من الصبر على جوره و فسقه.

و قد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يأمر بوجوب الصبر على الجور و ينهى عن الخروج على الحاكم الجائر نهيا صريحا كما جاء ذلك عن الأمامين مالك و الشافعي و أكثر فقهاء السنة.

و الذي عليه الإمامية و أكثر المعتزلة هو وجوب مناهضة الجائر بكل الوسائل و عدم جواز السكوت عنه حتى و لو أدى إلى إراقة الدماء لأن جهاد الظالمين من أعظم أصول الإسلام و ركن من أركانه و قد حث عليه القرآن و الحديث بشتى الأساليب و قال سبحانه في الآية من سورة التوبة: إِنَّ اللّهَ

ص: 136

اِشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

و من المعلوم أن المراد بالحاكم الجائر هو الذي يعتدي على حقوق العباد و كرامتهم و يشهر بالقيم و المقدسات فمقاومته و الحال هذه لإرجاعه عن غيه و ضلاله أو لانتزاع السلطة من يده و وضعها في أيد أمينة تطبق العدالة و تعطي لكل إنسان حقه من أفضل أنواع الجهاد الذي فرضه اللّه على عباده،و السكوت عن الجائر المستهتر بحقوق اللّه و حقوق عباده المستغل لخيرات الأرض و مواردها الطبيعية لشهواته،السكوت عنه مع التمكن من انتزاع السلطة من يده مع وجود البديل الصالح هو إقرار للظلم و البغي و العدوان.و قد لعن القرآن الكريم في عشرات الآيات الظالمين و أعوانهم و مناصرتهم في قول أو فعل و قال في الآية الكريمة من سورة النساء:

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً .

و قال في الآية 75 من السورة نفسها: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أقرت مبدأ الجهاد في سبيل اللّه و فرضته على المؤمنين للدفاع عن المقدسات و حقوق الإنسان و كرامته.

ص: 137

المعراج عند الشيعة الإمامية

يعتقد الشيعة الإمامية بمعراج النبي من مكة إلى السماء،و منها إلى المسجد الأقصى،و قد وقع الخلاف عند غيرهم في أنه كان بالروح و حدها أو بها مع الجسد.و يستند الشيعة إلى الكتاب و السنة الصحيحة.قال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا و ظاهر الآية الكريمة هو ما عليه الإمامية لأنه قال اسرى بعبده،و لفظ العبد ينصرف إلى الإنسان بهيكله،و إذا جاز أن يكون بالروح خاصة جاز أن يكون بهما معا،لأن قدرته لا تحد،و لا يستعصي عليها شيء،ما دامت هذه المسألة من باب الإعجاز،و إظهار القدرة الإلهية،كما و أن الظاهر من قوله سبحانه لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أنه رأى ذلك ببصره،و أن ما حدّث به قومه كما في حديث المعراج المروي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام و غيره من أئمة المسلمين و علماء التفسير،كان بطريق المشاهدة الحسية،و كون المعراج في حال النوم كما يذهب إلى ذلك بعضهم يقتضي أن يكون طيفا،و عليه لا خصوصية للنبي في عالم الأطياف لجواز ذلك على سائر الناس،مضافا إلى أن الآية الكريمة واردة في مقام الدلالة على عظمة اللّه سبحانه،و قدرته البالغة،و أن النبي هو الذي اختص بهذه الكرامة.و لو فرض أن الإسراء كان في النوم لا يكون بتلك الأهمية و لا يستحق تلك العناية.

ص: 138

و مهما يكن الحال فالمعراج عند الإمامية من الضروريات و منكر الإسراء خارج عن الإسلام لدلالة صريح القرآن عليه و لقول الإمام الصادق عليه السّلام،ليس منا من أنكر أربعة:المعراج،و سؤال القبر،و خلق الجنة و النار،و الشفاعة.و أما الكيفيات الموجودة عند الشيعة و غيرهم المتضمنة للمشاهدات و الحالات الخاصة،فما دل عليه الحديث الصحيح عن النبي و عترته،وجب الاعتقاد فيه و الإيمان بوقوعه،و بدون ذلك لا يجب التصديق بشيء من الكيفيات المنقولة،و منكرها لا يخرج عن التشيع فضلا عن الإسلام.

ص: 139

حساب القبر

يعتقد الشيعة الإمامية كغيرهم من الفرق الإسلامية بحساب القبر،و أما كيفية السؤال و مقداره و كيفية العقاب و الثواب الناتجين عنه،فقد وردت بها أخبار كثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و عترته عليهم السّلام،و الظاهر أن السؤال في القبر مما أجمع عليه المسلمون و إن وقع الاختلاف في كيفية السؤال،و ما ينتج عنه من الجزاء.

قال الصدوق في كتابه المسمى(الاعتقادات):اعتقادنا في المسألة في القبر أنها حق لا بد منها،فمن أجاب بالصواب فاز بروح و ريحان في قبره، و بجنة النعيم في الآخرة،و من لم يجب بالصواب فله نزل من حميم في قبره،و تصلية جحيم في الآخرة،و أكثر ما يكون عذاب القبر من النميمة و سوء الخلق.و استدل على ذلك بقوله تعالى رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ الآية.و قال المفيد رحمه اللّه جاءت الأثار الصحيحة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،أن الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم،و ألفاظ الأخبار بذلك متقاربة،منها أن ملكين للّه تعالى يقال لهما ناكر و نكير ينزلان على الميت فيسألانه عن ربه و نبيه و دينه و إمامه،فإن أجاب بالحق سلموه إلى ملائكة النعيم و إن ارتج عليه سلموه إلى ملائكة العذاب.و قال أيضا و ليس ينزل الملكان إلا على حي و لا يسألان إلا من يفهم المسألة،و هذا يدل على أن اللّه يحيي العبد بعد موته.

ص: 140

فالسؤال عند الشيعة من الضروريات،و لازمه أن اللّه يحيي العبد ثم يميته،و يدل على ذلك الكتاب الكريم،قال سبحانه: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11).قال في مجمع البيان:«اختلف في معناها على وجوه:أحدهما أن الإماتة الأولى في الدنيا بعد الحساب،و الثانية في القبر قبل البعث،و الإحياء الأول في القبر للمسألة و الثانية في الحشر للحساب.

الثاني أن الإماتة الأولى حال كونهم نطفا فأحياهم اللّه في الدنيا،ثم أماتهم الموتة الثانية،ثم أحياهم للبعث،فهاتان حياتان و موتتان.

الثالث أن الحياة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر و الموتة الأولى في الدنيا و الثانية في القبر».ذكر هذه الوجوه الثلاثة في المجمع عن المفسرين، و الأول و الثالث منهما يشتركان في إثبات المقصود.و أما الوجه الثالث فمع أنه خلاف ظاهرها،لا تصدق الإماتة على النطفة قبل اللقاح و صيرورتها بدء إنسان،و إنما هي قبل أن تصل إلى هذه المراحل ميتة بدون أن يميتها اللّه سبحانه.و لا يمنع ذلك كونها قابلة للتفاعل إذا اتصلت بغيرها،و بعبارة ثانية أن الإماتتين في الثانية من نوع واحد،و لا يتم ذلك إلا على التفسير الأول و الثالث.

و نظيرها في الدلالة على الحياة في القبر للمسألة قوله سبحانه في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)قال في مجمع البيان:كنتم نطفا في أصلاب آبائكم و بطون أمهاتكم فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء ثم يميتكم ثم يحييكم في القبر للمسألة ثم إليه ترجعون أي يبعثكم اللّه سبحانه يوم الحشر للحساب و المجازاة على الأعمال و قد أشار علي عليه السّلام إلى حساب القبر في خطبة ذكرها السيد الرضي في نهج البلاغة.قال عليه السّلام:«حتى إذا انصرف المشيع،

ص: 141

و رجع المتفجع،أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال،و عثرة الامتحان، و أعظم ما هناك بلية،نزول الحميم،و تصلية الجحيم،و فورات العسير».

و الظاهر من كلامه عليه السّلام أن حساب القبر يقع بعد الدفن و انصراف المشيعين،و أن الميت يقعد في حفرته،و لازم ذلك عودة الحياة إليه،و أنه يعرف مصيره بعد السؤال،إما إلى جنة،و إما إلى نار،و قوله عليه السّلام و أعظم ما هناك بلية نزول الحميم،لا يراد منه عذاب جهنم،لأن عذابها إنما يكون بعد حشر الناس و حسابهم الأخير،و إنما يراد منه نوع من أنواع العذاب أعده اللّه للمنافقين بعد استجوابهم في القبر بعد الدفن،فيكون هذا الموقف أشبه باستنطاق العبد بواسطة ملائكة أعدهم اللّه سبحانه لهذه الغاية،فيعرف العبد مصيره إما إلى جنة يبشر بها أو إلى نار عرف أن نهايته ستكون إليها و يمكن أن يعرض المنافق على النار في المدة التي تقع بين حساب القبر و المحشر،و يكون هذا العرض عذابا و عقابا،قال سبحانه بالنسبة إلى آل فرعون: اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ .

و قد ورد في الدعاء الذي نسبه أبو حمزة الثمالي إلى الإمام زين العابدين عليه السّلام ما هو صريح في حساب القبر،و أن الميت تعود إليه الحياة، و قد ذكر هذا الدعاء الطوسي في مصباحه،و نسبه إلى الإمام عليه السّلام و هو من الأدعية الموثوق بصدورها عن الإمام.قال عليه السّلام مناجيا ربه:«فما لي لا أبكي،أبكي لخروج نفسي،أبكي لظلمة قبري،أبكي لضيق لحدي،أبكي لسؤال منكر و نكير إياي»و مما لا شك فيه أن السؤال المذكور هو سؤال القبر كما تؤكد ذلك النصوص الكثيرة.

ص: 142

البعث أو المعاد

اشارة

و قبل الحديث عن المعاد الإسلامي أو البعث الإسلامي لا أرى ما يمنع من تقديم بعض الصور عن البعث عند الإمام التي سبقت الإسلام على اختلاف أجناسها و انتماءاتها.

فقد جاء في معتقدات الفراعنة أن البعث لا يكتب إلا للأخيار الذين لم يرتكبوا الآثام و لم يفعلوا الشرور هذا القسم من الناس الذين يجدهم (اوزير)الآلهة مبرئين من جميع الذنوب يسمح لهم بأن يعيشوا مخلدين في حقل الفيضان السعيد،أي الحدائق السماوية حيث توجد الوفرة و الأمن و الدوام.

و تلك الحقول الفردوسية لا يمكنهم الوصول إليها إلا باستخدام صاحب المعبر و هو أوزير الذي لا يقبل في مأربه إلا من لم يرتكب إثما من الرجال و النساء،أما الأشرار فيتركون حيث هم في قبورهم يجوعون و يظمأون و يطعمون التماسيح البشعة و لا يخرجون من قبورهم أبدا.

و الذي يحاسب الموتى هو(اوزير)فيزن قلب كل من يريد الركوب في قاربه في كفة ميزان في مقابل ريشة في الكفة الأخرى ليتأكد من صدقه،أما الذين لا ينجحون فيحكم عليهم بالبقاء في قبورهم إلى الأبد في جوع و ظمأ

ص: 143

تنهشهم التماسيح البشعة و يساعد أزير في هذا الحساب عدد من القضاة و المحلفين يحكمون في براءة الإنسان أو إدانته،و قد يتدخل الكهنة لنقل بعض الناس من قبورهم فيعلموهم بعض الأشياء لاجتياز الامتحان الذي يتولاه أوزير إلى غير ذلك عن معتقداتهم في البعث كما جاء ذلك في كتاب اللّه و الإنسان لعبد الكريم الخطيب و غيره.

ص: 144

البعث عند الفرس

من المعلوم أن البلاد الفارسية كانت مسرحا لكثير من الديانات و المعتقدات الصينية و الهندية،و لعل الزرادشتية من أهم الديانات الفارسية و أكثرها انتشارا فيما بينهم،و تنسب لنبيهم زرادشت،و تقوم عقيدة البعث عندهم على أساس أن للإنسان رسالة على هذه الأرض فإذا أداها على أصولها كان له الحق بالانضمام إلى الملائكة في الملأ الأعلى،و إذا قصر في أداء رسالته يبقى في عالم الظلام،و من أسباب البعث و الخلود عندهم هو أنهم يعتقدون بأن المعركة بين الخير و الشر و النور و الظلام تستمر اثني عشر ألف عام هي عمر الإنسان على هذه الأرض،و تبقى الحرب بينهما سجالا ينتصر فيه الخير و النور تارة و الشر و الظلام تارة أخرى في أربع دورات كل دورة ثلاثة آلاف من الأعوام،و يطلب من الإنسان ليكون من الخالدين السعداء أن ينضم إلى جند الخير خلال تلك المعارك،و ستغلب قوى الشر في آخر الأمر أي بعد اثني عشر ألف سنة و يكون مصيرها الفناء و ينتصر الحق في كل مكان و لم يعد للشر وجود أبدا،و ليس للجسد أي قيمة بعد موته عند الزرادشتيين لأنه قد أدى دوره مع الروح التي لبسته إن خيرا و إن شرا و لم يكن سوى شبحا تجسدت فيه الروح و لذا فإنه كان يأمر بأن تلقى الأجسام إلى الكلاب أو الطيور لتأكلها و لا تسمح ديانته بدفنها أو إحراقها كما كان يفعل اليونان.

ص: 145

البعث عند المانويين

لقد ظهرت طائفة المانويين بعد الزرادشتيين في عهد سابور بن اردشير ملك الفرس و ادعى النبوة و أشاع في الناس مذهبا شبيها بمذهب الوجوديين المنتشر في عصرنا الحالي في أوروبا و الولايات المتحدة و هو يرى أن القيامة ليست حياة بعد الموت،و إنما هي انتصار للنور على الظلام بتقريب أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها في بعض الحالات فنظرت الروح فرأت النور،فبعثت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر،فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكا من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية فخالط الدخان النسيم و خالط الحريق النار و خالط النور الظلمة و خالط السموم الريح و خالط الضباب الماء،فما كان في العالم من منفعة و بركة فمن أجناس النور،و ما فيه من مضرة و فساد فمن أجناس الظلمة،فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكا من ملائكته فخلق العالم الأرضي على هذه الهيئة ليخلص أجناس النور من أجناس الظلمة.و تمضي العقيدة المانوية في أسطورتها إلى القول:بأن جميع أجزاء النور تستمر في الصعود و الارتفاع حتى تصل إلى عالمها،و أجزاء الظلمة تستمر في النزول و التدني حتى تتخلص الأجزاء و تنحل التراكيب و يصل كل إلى عالمه،و ذلك ما تعنيه كلمتا القيامة و المعاد عنده كما نص على ذلك الشهرستاني في المجلد الثاني من الملل و النحل و عبد الكريم الخطيب في كتابه اللّه و الإنسان.

ص: 146

البعث في الديانات الهندية

من الصعب حصر الديانات و المذاهب المتفرعة نظرا لكثرتها لأن أكثرها يقوم على الاستيطان و التأمل العميقين و تجويع الجسد و إرهاقه بالرياضات العنيفة الصارمة و كانت نتائج هذه الحالات مختلفة أشد الاختلاف حسب استعداد النفوس لها و تفاعلها معها.

و الذي يغلب على الديانات الهندية جميعها هو إنكار البعث على الصور المعروفة في الأديان السماوية،و نظرا لأن الديانات الهندية لا تعرف البعث الجسدي نشأت بينهم عقيدة حرق الأجساد بعد موتها،و عندما يموت الإنسان تنتقل روحه إلى حيوانات أخرى و تلبس صورا و أجسادا لا حدود لها فكلما بلي جسد تنتقل إلى جسد آخر و تلبسه و هو الذي تعنيه كلمة التناسخ.

كما و أن العقاب و الثواب عندهم ليس جنة و لا نارا و إنما هما في الجسد الذي تنتقل إليه الروح بعد فراقها للجسد الذي كانت تلبسه،فإن كانت أعمالها رديئة في الجسد الذي فارقته تلبس جسدا لحيوان خسيس، و تبقى فيه بمقدار جريمتها،فإذا تم عقابها تنتقل منه إلى حيوان أرقى، و هكذا تبقى تتقلب في دورات لا تنتهي و تنتقل من بدن إلى آخرى إلى ما لا

ص: 147

نهاية له،و هم بين ما ذهبوا إلى أن النفس تتقلب في جميع الأجساد نباتية أو حيوانية،و بين من يقصرون انتقالها إلى أبدان الحيوانات لا غير،و بين من لا يجوزون دخول نفس الإنسان في غير جسم الإنسان إلى غير ذلك من أساطيرهم و خرافاتهم التي لا يعنينا إحصاؤها و إحصاء فروعها.

و للهنود آراء أخرى حول البعث لا ترتكز على أساس من العلم و المنطق و التفكير السليم(كالنرفانا)بعد أن مر الهنود بمرحلة طويلة كانت عقيدة التناسخ من أوسع المعتقدات انتشارا بينهم،و بالتالي أصبحت مبعثا لهموم الهندي و ضجره من الحياة و فزعه من الموت،و انتابه الخوف من المصير الذي يهوي إليه بعد موته من حيث عدم علمه بالكائن الذي تحل فيه روحه،أهو كلب أو حمار أو حشرة من الحشرات أو نبتة من النبات،فراح يفكر في الفرار من هذا المصير المشؤوم و بعد رياضات عنيفة و تأملات عميقة انتهى به الحال إلى مرحلة(النرفانا)و هي عودة الروح إلى المطلق حيث السكون و الخمود،إذا تخلى عن جميع شهوات نفسه و عن جميع حاجات جسمه و رغباته و لم يعد يحس بفرديته بحيث يبلغ مرتبة الفناء في المطلق و الاتحاد بالكلي الذي انفصل عنه حينا من الدهر و يتلاشى كما تتلاشى الأنهار المتدفقة في البحار و تفقد أسماءها و أشكالها،و بذلك الاتحاد يتخلص من العودة إلى الولادة من جديد كما يذهب القائلون بالتناسخ من تنقلهم بين الحيوانات على اختلافها إلى غير ذلك مما جاء عن معتقدات القدامى عن البعث و أشكاله ممن كانوا ينتسبون لأديان ابتدعوها لأنفسهم.

و كما تحدث أصحاب الأديان عن البعث بطرقهم و معتقداتهم تحدث عنه جماعة من الفلاسفة القدامى بأساليبهم الخاصة(كفيثاغورس)و أمثاله، و جاء عنه أنه كان يقول:أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس

ص: 148

صارت بعد الموت إلى العالم الأعلى و سكنت في مسكنها الذي يلائمها و يجانسها،و تصحب معها إلى عالمها العلوي جانبا من الجسد الذي كانت تلبسه في حياتها الدنيا،و هذا الجانب الذي يصاحب الروح من الجسد إلى عالمها العلوي هو عبارة عن مادة لطيفة خالية من كل ثقل و كدر،و هو على حد تعبيرهم جوهري النار و الهواء اللذين يشتركان في بناء الجسد،و الجرم المؤلف من الماء و الأرض فإنه يندثر و يفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي.

و ملخص رأيه أن الروح يصحبها إلى عالمها العلوي الجوانب الشقيقة من الجسد،أي أنها تحمل معها انطباعات الجسد الذي تلبست به و الذي يحفظ لها ذاتية و شخصية،و هو كما يفهم من كلامه أشبه بصورة الجسد التي تميزه عن غيره و ما عدا ذلك من الجسد فإنه يندثر و يفنى إلى حيث لا رجعة.

بينما يرى الفيلسوف هرقل الحكيم،الذي عاش قبل الميلاد،يرى أن يوم القيامة هو يوم الحشر للأموات جميعا الطيبين و الأشرار و كل يلقى مصيره في ذلك اليوم حسبما قدمت يداه،غير أنه يدعي أن السماء في النشأة الآخرة لا تبقى بها كواكب،و كواكبها تهبط إلى الأسفل و تحيط بالأرض و ما يهبط منها ما كان من أجزائها نارا خالصا،و ما كان منها نورا يبقى في محله،و النفوس الشريرة الخبيثة تبقى في الأرض فيما تحيط بها الكواكب النارية التي هبطت إلى الأرض تعاقب بها إلى الأبد،و أما النفوس الشريفة الطيبة فتصعد إلى العالم الذي تمخض نورا و بهاء و حسنا تتنعم فيها إلى الأبد أو اللّه سبحانه يمسح تلك الأنفس كل دهر مسحة فيتجلى لها حتى تنظر إلى نوره المحض الخارج من جوهره الحق.

و يصور(ايناذوقليس)الفيلسوف اليوناني القيامة تصويرا خياليا ينتهي به إلى تخليص البشر بكامله من غير فرق بين الطيب و الخبيث و يشترك في

ص: 149

البعث و الخلاص اللّه سبحانه و العقل الكلي و النفس الكلية فتضرع النفس الكلية إلى العقل،و العقل الكلي يتضرع إلى اللّه فإذا استجاب اللّه للعقل يستجيب العقل عندها للنفس الكلية،و عندما يستجيب العقل إليها تعمل النفس عملها في دعوة النفوس الجزئية تشرق النفس على العالم بنورها فتستضيء به الأنفس الجزئية و تشرق الأرض و العالم بنور ربها حتى تعاين الجزئيات كلها و تتصل بكلياتها و تستقر في عالمها مسرورة محبورة.

ص: 150

المعاد في اليهودية

يدعي المستشرق(ول ديورانت)أن عقيدة اليهود في الحياة الآخرة لم تكن وليدة الشريعة السماوية التي جاء بها موسى أن موسى لم يستطع أن يدخل إلى قلوبهم بشيء مما جاء و حينما آمنوا بإله موسى آمنوا به على أن يكون لهم قوة عاملة في الحياة اليومية يدور معهم حيثما داروا،و مضى يقول:لم يكن اليهود في عهد الرخاء يؤمنون بالحياة الآخرة،و لم يكن تعاملهم مع(يهوه)إلا على أساس دنيوي،فهو إله حرب و قوة يدفع عنهم الأعداء و يحمي وجودهم في حياتهم تلك المليئة بالخير و الرفاهية،فلما ضعف أمرهم و تبددت دولتهم،و يئسوا من(يهوه الإله)أن يكون الإله العامل في خدمتهم تغيرت نظرتهم إلى الحياة و امتلأت قلوبهم ضيقا بها و سخطا عليها فألقوا بأطماعهم إلى ما وراء هذه الحياة و دفعوا بآمالهم إلى حياة أخرى يلقون فيها ما لم يلقوه في هذه الدنيا،و أضاف إلى ذلك(ول ديورانت)في كتابه قصة الحضارة الجزء الثاني صفحة 345 أنه لم يكن في هذا الدين-أي شريعة موسى-جحيم يخصص لعقاب المذنبين،و لكن أرض الظلام التي تحت الأرض لم تكن أقل هولا عن هذا الجحيم،و كان يلقى فيها الموتى جميعهم الطيب منهم و الخبيث،و مضى يقول:أن فكرة البعث لم تدر في خلد اليهود إلا بعد أن فقدوا الرجاء في أن يكون لهم

ص: 151

سلطان في هذه الأرض،و كل ما عندهم عن الحياة الآخرة لم يكن إلا وليد يأسهم من مكان كريم في هذه الدنيا،و لعلهم أخذوا فكرة البعث عن الفرس أو شيء منها عن المصريين القدامى.

و بلا شك فإن ما جاء في قصة الحضارة(لول ديورانت)عن البعث في شريعة موسى عليه السّلام لا يخلو من الإسفاف و التجني من غير أن يقدم دليلا مقبولا على ذلك،لأن موسى من الأنبياء الذين حملوا الشرائع إلى الناس من عند اللّه الذي يجازي المحسن و العامل بأوامره و التارك لما نهى من الشرور و لا يسوي بين الظالم و المظلوم و بين الأخيار و الأشرار و لا يكون ذلك إلا بالحساب الأخير و هو البعث ليكافئ المحسن على إحسانه و يلاقي المسيء جزاء ما اقترفت يداه،و لا بد و أن تكون شريعة موسى بن عمران قد حملت إلى بني إسرائيل صورة واضحة عن البعث و الحساب و الجنة و النار، و إذا لم تكتب التوراة في عهد موسى و قد كتبت بعده بمئات السنين أو بعشرات السنين كما يدعي أكثر الباحثين و قد عبث الكهنة و الحاكمون في عهودهم بصورتها الأصلية كما تؤكد الدراسات هذه الناحية فذلك لا يصلح أن يكون دليلا على أن شريعة موسى لم تتحدث عن البعث و الحياة الآخرة، و إن ما عندهم و في أسفارهم عن الحياة الآخرة كان وليد يأسهم من مكان كريم في هذه الدنيا بعد الانتكاسات و الهزائم التي تعرضوا لها،و لماذا نجوز عليهم أن يأخذوا فكرة البعث عن الفرس و المصريين القدامى و لا نجوز عليهم أن يأخذوها من شريعة موسى المكتوبة في الصحف الأولى أو المحفوظة في الصدور و فيهما شروح مطولة و فصول كافية عن البعث و الجزاء و الجنة و النار،و هو الأقرب إلى الواقع و الاعتبار إن لم يكن متعينا.

ص: 152

المعاد في الديانة المسيحية

المعاد لعله من الأركان الرئيسية في رسالة السيد المسيح عليه السّلام و يتصل بالإيمان باللّه اتصالا وثيقا كما هو الشأن في جميع الرسالات السماوية و إن اختلفت أشكاله و حالاته بعض الاختلاف بين أتباع الأديان حسب أفهامهم و تفسيراتهم ليوم القيامة و كيفية الحساب و ما يتبعهما من المثوبات و العقوبات كما قد يختلف شكل الإله في بعض الديانات عن البعض الآخر كما يبدو ذلك من نظرة المسيحيين في السيد المسيح و تفسيراتهم له،و يدعي بعض الباحثين أن الإنجيل لم يواجه قضية البعث و الحساب مواجهة صريحة لأنه لم يكن من همه أن يقرر عقيدة أو يشرح مذهبا،لأنه أرسل إلى بني إسرائيل الذين سبقه إليهم أنبياء كثيرون و تركوا فيهم كتابين سماويين التوراة و الزبور، و في التوراة مع ما دخل عليها من تحريف شروح و فصول واسعة عن البعث و الجزاء و الجنة و النار،لذا فإنهم لم يكونوا في حاجة إلى إعادة الحديث عن ذلك،و إنما الذي كانوا في حاجة إليه رسالة تحاول الحد من تلك القسوة التي تمكنت من قلوبهم و نفوسهم فنزعت منها الرحمة و الحب و ملأتها ضغينة و حقدا و أنانية لما نزل بهم من ويلات،و لما أصابهم من تشتيت و تشريد على يد أعدائهم من الأشوريين و البابليين و غيرهم من الأمم التي كانوا يتعرضون للقضاء عليها و إبادتها فكانت تحركاتهم تعود عليهم

ص: 153

بالويلات و الدمار،فكانت مهمة السيد المسيح أن يبعث في تلك القلوب الصلدة المتحجرة و لو قطرات من الإخاء و الحب و التراحم.

لقد كان اليهود في عهد المسيح يعرفون اللّه سبحانه و لكنهم لا يتعاملون معه،و يعرفون البعث و الجزاء و لا يحسون بهما،و لذا فإن كل ما جاء في الإنجيل عن البعث و الجزاء فهو من باب التذكير بهما و الترغيب في الإعداد لهما،و التخويف من المصير السيّئ لمن لا يعملون الصالحات.

و الكلمات التي كان يلقيها السيد المسيح لم يرد فيها ذكر للبعث و عن المرحلة الفاصلة بينه و بين الموت بل كانت تذكيرا لهم بملكوت السماوات و الأرض و أنه هو الجزاء الموعود فإما أن ينتقل الإنسان بالموت إليه و إما إلى خارجه،فقد جاء في بعض عظاته طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات،طوبى للحزانى فإنهم يتعزون،طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض،طوبى للجياع و العطاش لأنهم يشبعون،إلى غير ذلك من عظاته و وصاياه التي تشير إلى أن الإنسان بالموت ينتقل إما إلى رحمته و إما إلى خارجها.

و ذهب ابن سينا في رسالته التي تحدث فيها عن المعاد أن العقيدة المسيحية ترى الحياة الآخرة للروح وحدها و ليس للجسد فيها نصيب مع أن البعث يشمل الإنسان بروحه و جسده،و مع ذلك فإن الجسد لا ينال شيئا هناك من مطالبه و الثواب و العقاب للروح وحدها.

و جاء في رده على ما ذهبوا إليه كما نسب إليهم،جاء في رده عليهم أنه إذا كان الإنسان هو البدن أو كان مؤلفا من البدن و النفس و كان البدن شريكا للنفس في الأعمال الحسنة و القبيحة فيجب أن يثاب البدن و يعاقب بالثواب و العقاب البدني المفهوم لدى العالم،و إن كان الثواب و العقاب روحانيين فما الغرض من بعث الأجساد ما دام لا ينالهما شيء.

ص: 154

و الإنصاف أن البعث حقيقة واقعة في الديانة المسيحية كما تتحدث الأناجيل و لكنها لم تفصح عن واقعه بما يرفع الالتباس،فمرة تجعل مقر المحسنين ملكوت السماوات و مقر غيرهم في خارجه،و مرة يصور عمل الإنسان أو حياته بحقل من الحنطة ينبت فيه الزوان فيأمر الرب وقت الحصاد بجمع الزوان و إحراقه و يأمرهم بأن يجمعوا الحنطة إلى مخزنه كما جاء في إنجيل متى الإصحاح الثالث عشر،و في الإصحاح المذكور يقول:

يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاشر وفا علي الإثم و يطرحونهم في أتون من النار،هناك يكون البكاء و صرير الأسنان..

و حينئذ يضيء الابرار كالشمس في ملكوت أبيهم،إلى غير ذلك من نصوص الأناجيل التي تلبسها الكثير من الضباب و حجب النظر عن كشف ما وراءها،و لعل ما طرأ على الإنجيل الصحيح من تغير و تبديل و تحريف هو الذي أوجد هذا الضباب الذي حجب الأنظار عما جاء به السيد المسيح و عن رسالته المثلى.لقد جاء في إنجيل متى الإصحاح الثالث عشر أن ابن الإنسان يرسل ملائكته كما ذكرنا نص العبارة:فمن هو ابن الإنسان الذي يجعل إليه المسيح التصرف في هذا الوجود و يجعل له أمر البعث و الجزاء، أهو اللّه؟و كيف يوصف الإله بأنه ابن الإنسان،و هل لابن الإنسان ملكوت و ملائكة يعملون في ملكوته،إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا تزال في حاجة إلى أجوبة مقنعة و حلول ربما تكون مستعصية.و نكتفي بهذا المقدار من الإشارة إلى البعث عند الأمم و في الشرائع التي سبقت الإسلام لتتحدث عنه كما جاء في القرآن الذي اعتبره جزءا متمما للإيمان باللّه،و قدم لمنكريه و جاحديه من الأدلة و الحجج البالغة ما يكفي لإقناعه متفاديا كل ما من شأنه أن يضع السائل و القارئ في جو من المتاهات التي تزيده حيرة و ضلالا.

ص: 155

مشاهدة المعاد في القرآن

اشارة

لقد أولت الشريعة الإسلامية الإيمان باللّه و باليوم الآخر المزيد من العناية و اختصتهما بالمزيد من الشرح و التوضيح،و لا أكون مغاليا حين أقول أن هذين الأمرين هما الأساس الذي كانت الدعوة منذ مراحلها الأولى و حتى آخر مرحلة منها تحرص عليهما و تؤكد على الإيمان بهما في الكتاب و السنة،و كأن ما عداهما من التوابع لهما.

لهذا نجد القرآن الكريم في أكثر من موضع بل و في عشرات المواضع يجمع بين الدعوة إلى الإيمان باللّه و اليوم الآخر.

ففي الآية من سورة البقرة يقول سبحانه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)و في الآية من سورة النساء وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، و في سورة التوبة، إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، و فيها يقول: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، و في سورة المجادلة لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تربط الإيمان باللّه باليوم الآخر ذلك اليوم الذي يعود فيه الإنسان كما كان في دنياه ليلقى جزاء أعماله و ما كسبته يداه،حتى كان الإيمان باللّه لا يتم و لا يكتمل إلا مع الإيمان بذلك اليوم.

ص: 156

و لعل السر في ذلك أن الدعوة إلى الإيمان باللّه لا تعطي ثمارها المرجوة إلا إذا اقترنت بالحياة الآخرة و ما فيها من ثواب و عقاب لأنها عقيدة و ثمرتها العمل بأوامر اللّه و اجتناب نواهيه ابتغاء رضوان اللّه في الدار الآخرة،و قد جاء في الآية الكريمة: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.

لقد تناول القرآن الكريم قضية البعث بأروع و أوفى ما جاء به من فنون المنطق و مسالك الرأي،و لم يتحدث عنها من ناحية واحدة و بأسلوب واحد،إلى فئة معينة من الفئات،بل تحدث عنها إلى الفلاسفة و إلى العلماء و إلى عامة الناس و خاطب الجميع بالحجة الدامغة و الدليل المفحم و الشاهد المبين.

و على هذا الأساس فقد تعددت مواقف القرآن و تعددت المشاهد و الصور التي تشهد لقضية البعث و تتحدث عن إمكانها في حين أن الأكثرية الغالبة في مطلع الدعوة قد واجهوا هذه القضية بشيء من الإستغراب أكثر من أي شيء آخر جاء به الإسلام،و الذين مرت على أذهانهم فكرة البعث قبل الدعوة على قلتهم كانوا يرونه نوعا من التناسخ و نحو ذلك من الصور المشوهة التي تسربت إلى الجزيرة من خارجها فيما تسرب إليها من آراء و أفكار و مذاهب كانت تدين بها الأمم السابقة من الصينيين و الهنود و البابليين و حتى من اليهودية و النصرانية التي تأثرت تعاليمهما بأفكار تلك الأمم و معتقداتها.

و قد حكى القرآن الكريم كثيرا من صور الإنكار و حجج المنكرين فمن مقولاتهم ما جاء في سورة الإسراء و قالوا: أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، و في الآية من سورة مريم يقول: وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، و في الآية من سورة يس، وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ

ص: 157

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78)،و في الآية من سورة النحل، وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ، و في سورة التغابن،و قالوا: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، و في سورة النازعات يقولون: ...أَ إِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ(10) أَ إِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً(11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، و في سورة الإسراء،و قالوا: أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً إلى كثير من الآيات التي تعرضت لتصورات أولئك الماديين الذين ينكرون الحياة بعد الموت و يرون وقوعها مستحيلا،و في ذلك يقول بعض المنكرين لها من شعراء العرب:

يخبرنا ابن كبشة أن ستحيا و كيف حياة أصداء و هام

و لقد وقف القرآن من منكري البعث أكثر من موقف مرة بإلقاء الرعب في قلوبهم من غير أن يواجههم بالاتهام و بالأدلة عليه فقال في الآية من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ، و في الآية من سورة الفرقان، وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً، و في الآية من سروة الروم: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ، و في الآية من سورة العنكبوت:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و في الآية من سورة الكهف أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.

إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تلقى على أسماع المنكرين للقاء اللّه يوم المحشر صورا مفزعة لذلك المصير السيّئ الذي سينتهي إليه كل من كفر بذلك اليوم الذي يجازي فيه المحسنون و يعاقب فيه المسيئون.

و مرة أخرى يعرض لهم الدار الآخرة في صور مختلفة فيها عذاب و مغفرة و جنات تجري من تحتها الأنهار و نار وقودها النار و الحجارة.

ص: 158

لقد تحدث القرآن عن الآخرة في القرآن مائة و خمسة عشر مرة حسب المناسبات لأهميتها وصلتها الأكيدة بالإيمان باللّه و رسالاته،ففي الآية من سورة قال سبحانه: وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٌ، و قال في آية ثانية: وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى، و قال في الآية من سورة التوبة:

أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ، و قال في الآية من سورة النساء: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، و في سورة آل عمران: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تتحدث عن الآخرة بما فيها من نعيم و عذاب لكي يبدو المعاد للإنسان بصوره المتنوعة قبل وقته الموعود فيعد له العدة بما يقدمه من أعماله الصالحات.

و بعد هذين الموقفين يقف القرآن من منكري البعث موقفا صريحا،و بعد أن يكرر مواقفهم و تحفظاتهم منه يفند أقوالهم و حججهم قولا قولا و يصور لهم مشاهد الآخرة مشهدا بعد مشهد بأسلوب يزعجهم و يملأ قلوبهم فزعا و كربا،كما يبدو ذلك من آياته الكثيرة التي ذكرنا بعضها.

و قد جاء هذا النوع من التدرج و التمهيد للدفاع مرة بإلقاء الرعب في قلوبهم و تحذيرهم،و أخرى بترغيبهم بثواب الآخرة و نعيمها و تخويفهم من عقابها من غير أن يواجههم بالاتهام و الجحود،و ثالثة بالبراهين القاطعة و الحجج الدامغة قد جاء في منتهى الدقة و الروعة إلا أن هذه الصور التي رسمها لهم عن اليوم الآخر تبعث في نفوسهم شتى أنواع الخوف و الحذر و تهيئها إلى الإمعان في التفكير و الرجوع عن ضلالها عند ما تستمع إلى الأدلة و الحجج البالغة،هذا بالإضافة إلى أن التصديق بما وراء الغيب و بغير المحسوسات لا يتم في الغالب إلا بعد التمهيد بهذه الأساليب و نحوها و نظرا لخطورة هذا الموضوع و دقته فقد عالجه القرآن بشتى أنواع الحجج و الأساليب و البراهين التي لا تقبل الجدال و النقاش حسب اختلاف الشبهة

ص: 159

و جهات التشكيك.قال سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ أي نفعل ما وعدناكم به،و فيها دلالة على قدرته على طي السماء و ذهابها عن عالم الحس،و أعادة العالم بعد فنائه كما أوجده ابتداء لأنه يملك القدرة على ذلك فهو أقدر على أن يعيد الإنسان كما بدأه.و في سورة مريم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً و في سورة المجادلة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ و في سورة الطور: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً(9) وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ و في سورة عبس: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و لقد تعرض الكتاب الكريم إلى أن الإنسان يرجع يوم المحشر كما كان في الدنيا بهيكله لا بروحه،قال تعالى في سورة النور: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و هي صريحة في رجوع الإنسان بجسمه كما كان في الدنيا،و أن أعضاءه التي سخرها في سبيل شهواته، تشهد عليه في ذلك اليوم و قال سبحانه في سورة ياسين أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.

و قد أقام سبحانه في هذه الآية الحجة البالغة على كل من أنكر البعث، و قاس النشأة الثانية على النشأة الأولى،التي هي أدل على قدرته من الثانية، لأنه خلقه من نطفة ميتة،ثم جعله علقة،ثم مضغة،ثم عظما،و كسى العظم لحما،و جعل فيه الروح،و أخرجه من بطن أمه،و نقله من حال إلى آخر، إلى أن أصبح ذا عقل و تفكير،يخاصم و يجادل في آيات ربه.و من قدر على إيجاد الإنسان،و المرور به في هذه المراحل،حتى أصبح إنسانا سويا كاملا،فهو أقدر على إعادته كما كان في دنياه.

ص: 160

ثم ندد سبحانه على المنكر للبعث بعد أن أوجده بتلك المراحل الدقيقة فقال: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ثم عاد سبحانه إلى تأييد النشأة الثانية،منكرا عليهم جحودها و استعظامها،فقال: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ قال في مجمع البيان:أي جعل لكم من الشجر الرطب المطفئ للنار نارا محرقة يعني بذلك«المرخ و العفار»و هما شجرتان يتخذ الأعراب زنودهما لإيقاد النار و مع مضادة النار للرطوبة فإذا احتاج أحدهما إلى النار حك بعضهما ببعض فتخرج منهما نارا،و من قدر على ذلك قدر على أن يعيد الإنسان يوم حشره للجزاء.ثم أدلى سبحانه بحجة ثالثة بصورة الاستفهام التقديري فقال: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ.

فهذه على عظمته أدل من تينك الحجتين،لأن الإنسان قد تدرج إلى مراحل متعددة حتى أصبح إنسانا،و الشجر الأخضر تخرج منه النار بعد اتصال الجسمين و هما المرخ و الغفار و لكن السماوات و الأرض،على عظمتهما و كثرة أجزائهما أوجدهما دفعة بعد العدم.و من كانت له تلك القدرة كان على إعادة الإنسان الصغير أقدر،لأن مادته لم تذهب و الذي ذهب هو صورته النوعية،أي ما به يكون الإنسان إنسانا.و قد نبه سبحانه على البعث بهذا النحو من القياس على النشأة الأولى في سروة القيامة.قال تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى إلى أن قال: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى و قوله سبحانه أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أن صنع الإنسان و جميع ما في الكون لأول مرة أهم و أعظم من إعادة صنعه بعشرات المرات،إن المخترع يظل أمدا طويلا أمام الأمر الذي يريده و يبقى أمدا يقلب وجوه الرأي و يجري عشرات التجارب حتى إذا استطاع أن يحقق ما يريد يصبح إعادة صنعه عملا آليا يصنع منه الألوف و عشرات الألوف

ص: 161

بدون أي مشقة أو تعب يذكر،و اللّه سبحانه يقول لهؤلاء الذين يرون استحالة إعادة الخلق بعد فنائه ما دام الخلق الأول قد تم و حصل بدون جهد و إعياء فإعادته أيسر علينا و أهون بملايين المرات، أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ(81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. و لقد سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كما حكى ذلك سبحانه بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260).فأخذ إبراهيم أربعة من الطير،و قطعها و فرق أجزاءها، و مزج بعض أجزائها ببعض،و فرقها على الجبال العشرة أو السبعة على اختلاف التفاسير،ثم دعاها إليه فميز اللّه بعضها عن بعض،و أعادها إليه حية كما كانت،و هكذا يعود الإنسان حيا بعد انعدام صورته و تفرق أجزائه كما كان في حياته الدنيا.

و أما كيفية الحساب بعد المعاد،و من الذي يحاسب،فقد وردت الأخبار الصحيحة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و عترته و صحابته الكرام ببيانه،فالاعتقاد بكيفية خاصة للحساب ليس ضروريا في عقيدة الشيعة و الاختلاف في الكيفية و الشكل لا يضر بالتشيع و لقد تعرض علماء الإمامية في كتبهم الكلامية،لرد جميع الشبه على المعاد الجسماني فمن أراد أن يتبسط في ذلك فعليه أن يرجع إلى تلك الكتب.

ص: 162

شهية الأكل و المأكول

و حاصل الشبهة بأننا نفرض أن زيدا مات و استحال جسمه إلى تراب، ثم استحال التراب إلى نبات و تغذى عمرو بذلك النبات فيستحيل جسم زيد إلى جسم عمرو،و بناء على إعادة الأجسام بعينها فإن أعيد عمرو الآكل لم يكن زيد المأكول معادا فتنتفي الإعادة بالنسبة لأحدهما لا محالة.و قررها بعض الفلاسفة بأسلوب آخر محصله أنه إذا أكل إنسان إنسانا آخر فإن كان الآكل كافرا و المأكول مؤمنا لزم تعذيب المؤمن لأنه استحال إلى بدن الكافر و الكافر معذب،و إن كان الآكل مؤمنا لزم أن يكون الكافر منعما لأنه استحال إلى جسم المؤمن و المؤمن منعم.

و أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة بأن للإنسان أجزاء أصلية و أجزاء عرضية و التي تستحيل إلى بدن آخر هي الأجزاء العرضية،أما الأصلية فلا تصير جزءا من غيرها بل تبقى على حقيقتها من أول العمر إلى آخره.

كما أجاب عنه الفلاسفة بأن حقيقة الإنسان هي نفسه لا بدنه و الأكل إنما يقع على البدن لا النفسي التي بها يكون الإنسان إنسانا.

و مهما كان الحال فالمعول على ما جاء في القرآن الكريم من حيث الحساب و العقاب و قد نص على أن الإنسان يعود بجسمه كما كان في الدنيا و تشهد عليه يداه و رجلاه و من أنكر شيئا من ذلك فقد خالف الإسلام و التشيع و كان مع الكافرين.

ص: 163

الجنة و النار

بعتقد الشيعة الإمامية بأن الجنة و النار دار الجزاء.قال الشيخ أبو جعفر الكليني في رسالته الاعتقادات:«اعتقادنا أن الجنة دار البقاء،لا موت فيها و لا هرم،و لا سقم و لا مرض،و لا آفة و لا زوال،و لا هم و لا فقر»و قال المفيد رحمه اللّه في شرحه لاعتقادات الصدوق:«الجنة دار النعيم،جعلها اللّه سبحانه دارا لمن عرفه و عبده،و نعيمها دائم لا انقطاع له»إلى أن قال:

«و ثواب أهل الجنة الالتذاذ بالمآكل و المشارب و المناظر و المناكح و ما تدركه حواسهم مما يطبعون على الميل إليه»و ليس في الجنة من البشر من يلتذ بغير مأكل و مشرب،و قول من يزعم أن في الجنة بشرا يلتذ بالتسبيح و التقديس من دون الأكل و الشرب قول شاذ عن دين الإسلام،و هو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون ملائكة،لا يطعمون و لا يشربون و لا ينكحون،و لقد كذبهم اللّه سبحانه في كتابه:بما رغب به العاملين باللّه سبحانه،قال في سورة الرعد: أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النّارُ و الذي يتتبع في القرآن الكريم آيات العذاب و آيات النعيم يرى أن رحمة اللّه قد سبقت غضبه و أن جنته أرحب من ناره،و أن الخير الذي يفيض منها جدير بأن يملأ الوجود فلا يبقى للنار مكان و أن اللّه سبحانه لم يترك بابا من الأبواب يوفر للإنسان

ص: 164

دخول الجنة و ينجيه من جهنم و أهوالها،إلا و دعا إليه و فتحه في وجه الإنسان و سهل له سلوكه،و من أمثلة ذلك قوله سبحانه: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَ الضَّرّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، و في الآية من سورة الحج إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، و في الآية من سورة ص ...وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ(49) جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ إلى غير ذلك من الآيات التي تضع الجنة في متناول كل إنسان و ترشده إلى عشرات الطرق الموصلة إليها،ثم وصفها له بما يبعث في نفسه الرغبة و الشوق إليها بما لا عين رأت و لا أذن سمعت به و لا خطر على قلب بشر،فيقول له:فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين،و فيها سرر مرفوعة و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة و زرابي مبثوثة،و فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن لم يتغير طعمه و أنهار من خمر لذة للشاربين و فيها حور مقصورات في الخيام،و أصحابها في شغل فاكهون،تعرف في وجوههم نضرة النعيم،و يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون،و يحلون فيها من أساور من ذهب و يلبسون ثيابا خضرا من سندس و استبرق إلى غير ذلك من أوصافها و أوصاف أهلها التي تفوق حدود التصور.

و أما النار فالآيات التي تعرضت لوصفها و وصف ما فيها من ألوان العذاب كثيرة إلى حد أنه قلما تخلو سورة من سور القرآن من الحديث عن جهنم أو أهلها تصريحا تارة و تلويحا أخرى.إنها نار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة،و إنها لظى نزاعة للشوى،و هي سقر و ما أدراك ما سقر لا تبقي و لا تذر لواحة للبشر،و هي التي لا تضيق بأهلها مهما كثروا و فيها شره و نهم لا تشبع أبدا،يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد و تكاد تميز من الغيظ،و طعامها من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون،و فيها شجرة الزقوم

ص: 165

طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم،و أهلها لا يذوقون بردا و لا شرابا إلا حميما و غساقا إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي و صفت عذابها و طعامها و أدوات التعذيب و التنكيل و الموكلون بأهلها من الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون،و وصف المعذبين فيها و ما ينتابهم من الندم و الحسرات على تفريطهم و استهتارهم برسل اللّه و ما جاؤوا به من أنظمة و تشريعات.

و من البلاء الذي يلقاه أهل النار فوق بلائهم أنها تتحرك يوم ذاك بما فيها من طاقات حرارية و بما تحمل في أحشائها من كريه الطعام و وبيل الشراب و بما في ساحاتها المتسعرة من زبانية و سلاسل و أغلال تتحول بكل هذه الطاقات إلى عدو مبين تطلب و ترها من هؤلاء المساقين إليها لتجد فيهم طعامها فهي إذ تطبق عليهم و تضمهم إليها تعمل فيهم مخالبها في حنق و غيظ تكاد تميز من الغيظ كلما سألها خزنتها هل امتلأت تقول هل من مزيد؟

و يبقى أن العذاب الذي وعد به الكافرين و العاصين لأوامره و نواهيه هل هو خالد بمعنى أن الكافرين و غيرهم من الفساق و العصاة مخلدون في نار جهنم أو هو دائم بالنسبة لفريق و موقوت بالنسبة لفريق آخر؟ففي كثير من الآيات أن المعذبين خالدون في نار جهنم و هذه الآيات أكثرها بالنسبة لمن كفر باللّه و رسله،فمن ذلك قوله تعالى:إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من اللّه شيئا و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

كما جاء في بعضها ما يوهم الخلود حتى بالنسبة لغير الكفار من مرتكبي الكبائر،كقوله تعالى:وعد اللّه المنافقين و المنافقات و الكفار نار جهنم خالدين فيها،فعطف الكفار على المنافقين و المنافقات يشير إلى أنهما من غير الكفار.

و قال الشيخ المفيد رحمه اللّه في شرحه لاعتقادات الصدوق؛أن كل

ص: 166

آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة باللّه.

و جاء في شرح التجريد للعلامة الحلي:أن المسلمين قد أجمعوا على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع،و اختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين،فالوعيدية ((1))من المعتزلة قالوا بأنهم كالكفار مخلدون،و ذهب أكثر المعتزلة و الأشاعرة و عامة الإمامية إلى أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار و فرقوا بين صغار الذنوب و كبارها بفروق لا تخرج عن كونها اعتبارية أو إضافية.

و بعد هذا الإيجاز قال:و الحق أن عقاب أهل الكبائر ليس بدائم و استدل كذلك فيما استدل بقوله تعالى:فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و الإيمان باللّه و رسله من أعظم أعمال الخير،و بأنه لو قلنا بأن صاحب الكبيرة من المخلدين في جهنم لزمنا أن نقول:بأن المطيع للّه إذا عصاه بكبيرة واحدة في آخر عمره كان مع المخلدين و ذلك لا يقره العقل،بل هو ظلم لا يجوز نسبته إلى اللّه لأنه يستلزم تجاهل جميع حسناته و صالح أعماله،و ليس من مذهبنا الإحباط كما تذهب إليه بعض الفرق السنية،لقوله تعالى:فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره،هذا بالإضافة إلى منافاته لحكم العقل و لأنه يؤدي إلى نسبة الظلم إلى اللّه،تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.ه.

ص: 167


1- الوعيدية هم القائلون بأن على اللّه سبحانه أن يفي بوعده و وعيده و هم أكثر المعتزلة لأنه وعد المطيعين بالنعيم و توعد العاصين بالعقاب و كلاهما وعد يجب الوفاء به،بينما يدعي الإمامية أن على اللّه أن يفي بوعده كرما منه و تفضلا،و ليس عليه أن يفي بما توعد به بمقتضى رحمته بعباده و عفوه كما وصف نفسه.

القرآن

القرآن عند الشيعة الإمامية

تدين الشيعة الإمامية بتعظيم القرآن و تقديسه،و أنه الكتاب المنزل على محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و هو المرجع الأول عندهم في الفروع و الأصول،و كل واقعة لا يوجد حكمها في الكتاب،يرجعون فيها إلى سنة رسول اللّه و أحاديث عترته من بعده،بعد أن صح عندهم أنه لا ينطق عن الهوى.و قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في حديث أجمع المسلمون على صحته أني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي.و في القرآن المحكم و المتشابه،و الناسخ و المنسوخ و المجمل و المبين،و العام و الخاص،و الفرائض و السنن،و القصص و الحكم و المواعظ،و كثير مما يحتاج إليه الإنسان في معاشه و معاده.

و الذي بين أيدي المسلمين،هو الذي يؤمنون به و يعتقدون نزوله على النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،لا زيادة و لا نقصان،و لا تغيير و لا تبديل،و من نسب لهم غير ذلك فقد افترى عليهم الكذب،و الاخبار المنسوبة إلى أئمة الشيعة،بأن عليا عليه السّلام جمع القرآن بعد وفاة النبي،و عرضه على المسلمين فرفضوه لما فيه من الزيادة و النقصان،مكذوبة على أئمة الشيعة،و هي من صنع الدساسين المستأجرين للسلطة الحاكمة ليشوهوا سمعة الأئمة الهداة و لو

ص: 168

صح وجود قرآن لعلي عليه السّلام يزيد عما بين أيدي المسلمين،فالزيادات إنما هي من التفاسير التي تلقاها من الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و قد دونها علي عليه السّلام باعتبار أنها منزلة من اللّه لا لأنها من القرآن.

و لقد أمر الأئمة بالرجوع إلى الموجود بين أيدي الناس و منه أخذوا الكثير من أحكام اللّه،و رغبوا في تلاوته،و إذا تعارض الخبران و لم يمكن الجمع بينهما بنحو التخصيص أو التقييد فقد أمروا بالرجوع إلى الكتاب و عرضهما عليه و الأخذ بما وافقه منهما.

قال الشيخ الصدوق في اعتقاداته:«اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم هو ما بين الدفتين»و ما في أيدي الناس ليس بأكثر من و لا أقل.و من نسب إلينا غير ذلك فهو كاذب.و في التعليقة على أوائل المقالات للمفيد،قال العلامة الشهرستاني:أن القرآن المنزل من اللّه على رسوله إنما هو الموجود بين الدفتين،و نقل عن السيد المرتضى أن القرآن محفوظ من الزيادة و النقصان.و قال المفيد في أوائل المقالات عن جماعة من الإمامية أنه لم ينقص منه كلمة و لا حرف و لا سورة،و لكن حذف ما كان مثبتا في مصنف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله و تفسير معانيه عن حقيقة تنزيله،و ذلك كان منزلا من اللّه سبحانه،و إن لم يكن قرآنا.و قد يسمى تأويل القرآن قرآنا.

قال تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ و على ذلك تحمل أحاديث النقصان إن ثبت صدورها على أئمة أهل البيت عليه السّلام على أن أحاديث النقص موجودة في صحاح السنة كصحيح البخاري و مسلم و غيرهما من كتب الحديث الموثوقة عندهم و لقد تعرضنا لهذا الموضوع في كتابنا دراسات في الكافي و البخاري بصورة واسعة و أثبتنا بالأرقام أن أحاديث التحريف من صنع الغلاة و المأجورين للكذب على أهل البيت.

ص: 169

و الأخبار عن أئمة الشيعة في فضل قراءته و حمله،و وضعه في البيت، و النظر إليه فوق حد الإحصاء.ففي الوافي عن عبد اللّه بن سليمان عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال من قرأ القرآن قائما في صلاته كتب اللّه له بكل حرف مائة حسنة،و من قرأه في صلاته جالسا كتب اللّه له بكل حرف خمسين حسنة،و في غير صلاة كتب اللّه له بكل حرف عشر حسنات،و في الوافي عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قلت له جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي،فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف،قال فقال لي:بل اقرأه و انظر في المصحف،إن النظر في المصحف عبادة،و روى غيرهما مجموعة من المرويات،في مقام الترغيب و التقديس للقرآن الموجود بين أيدي المسلمين.

و مع كل ذلك فقد نسب إليهم دعاة التفرقة القول بالتحريف و أغرب من ذلك ما جاء في كتاب الاستاذ خالد محمد خالد(الديمقراطية)و هو أحد المتخرجين من جامعة الأزهر.

قال:و هناك دولة مثل إيران،و مثل العراق،أما الأولى فيدين جميع أهلها بمذهب الشيعة إلا قليلا منهم،و أما الثانية فتضم من الشيعة عددا غير قليل،و الشيعة كما نعلم،لبعض طوائفهم قرآنا غير قرآننا،و هم لا يعترفون بالسنة و أحاديث الرسول التي يرويها و ينقلها أئمة أهل السنة،مع أن هذا التراث الهائل يمثل المذكرة التفسيرية لمبهم القرآن و مجمله،و استطرد في حديثه يلصق بالشيعة ما يبرأون منه،و الذي يهمنا الآن و نحن نتحدث عن عقيدة الشيعة في القرآن،أن نحاسبه على قوله أن لبعض فرقهم قرآنا غير قرآن المسلمين.

إن الشعبين،الإيراني و العراقي شيعيان بتمامهما،خلا حفنة قليلة في العراق لا تزيد عن العشرين بالمائة،لها مذاهبها المختلفة،و أكثريتها من

ص: 170

إخواننا أهل السنة.و إيران بأجمعها،و أكثرية العراق الساحقة من الشيعة الإمامية و في النجف جامعة دينية من أشهر الجامعات،و أقدمها في الشرق،و إليها يهاجر الشيعة من أقطار الدنيا الواسعة لدراسة العلوم الدينية و لم يسمع أحد من الشيعة أن لبعض فرق الشيعة في هذين البلدين قرآنا غير قرآن المسلمين،و عندهم أن الشاك في آية من آيات القرآن،الموجودة بين إيديهم خارج عن الإسلام،فما ندري من أي مصدر يستقي الأستاذ هذه النظرية.

و قد كتب سماحة رئيس محكمة الاستئناف الشيخ محمد جواد فقيه مقالا وافيا بالموضوع في مجلة العرفان حول ما يلصقه الأستاذ خالد بالشيعة،و بالتالي حاول أن يبرر أخطاءه بعدم إطلاعه على معتقدات الشيعة و كتبهم،و لو كان الأمر كذلك كان من اللازم أن يعتذر الأستاذ خالد لسماحة الشيخ و الشيعة إذا كان في كتابه كما يصفه الشيخ مجردا عن الدوافع النفسية و رواسب القرون الأولى.

و بعد أن نسب الأستاذ خالد إلى الشيعة ذلك لا نستغرب قوله بعد هذا، إن الشيعة لا يعترفون بالسنة و أحاديث الرسول التي يرويها و ينقلها أئمة أهل السنة،لأن هذه النسبة أقل ضررا على المسلمين من سابقتها،و سنتعرض في الفصول الآتية إلى مراجع الأحكام عند الشيعة و كيف يقسمون الأحاديث المروية عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و عترته عليه السّلام،و منه يعرف الأستاذ خالد و غيره،ممن لا يتجردون في أبحاثهم لخدمة الحق و الواقع،أن الشيعة يعتمدون على حديث أهل السنة كما يعتمدون على حديث غيرهم من الشيعة إذا كان رواته من المعروفين بالوثاقة و الاستقامة في دينهم.و لو رجع الاستاذ خالد إلى مجمع البيان و غيره من تفاسير علماء الشيعة،لعرف أنا نعتمد على آراء جميع المفسرين،و لا نفرق بين طائفة و أخرى،إذا ساير التفسير أصول الإسلام و فروعه و لم يخالف الضرورات من الدين.

ص: 171

الشفاعة عند الشيعة

يعتقد الشيعة الإمامية أن النبي و الأئمة و بعض الأولياء،يشفعون لفريق ممن آمن باللّه،و ارتكب بعض الذنوب،و قد جعل اللّه ذلك للمؤمن تكريما له و مكافأة على تفانيه و إخلاصه لدعوة ربه،فلم يكتف له بما أعده من الدرجات الرفيعة للعالمين بل جعل له الصلاحية الواسعة ليشفع بمن شاء من المؤمنين.

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق:اعتقادنا في الشفاعة أنها لمن ارتضى دينه من أهل الكبائر و الصغائر،فأما التائبون من الذنوب فغير محتاجون إلى الشفاعة.قال النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:من لم يؤمن بشفاعتي فلا أنا له اللّه شفاعتي.

و قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:لا شفيع أنجح من التوبة،و الشفاعة للأنبياء و الأوصياء،و لا تكون لأهل الشك و الشرك،و لا لأهل الكفر و الجحود،بل تكون للمذنبين من أهل التوحيد.و قال المجلسي:و يجب أن نؤمن بشفاعة النبي و الأئمة، فإن اللّه لا يخلف وعده بالثواب لمن أطاعه،و يمكن أن يخلف الوعيد بأن يغفر لمن عصاه من المؤمنين من غير توبة تفضلا منه و كرما.

و قال المفيد في كتابه أوائل المقالات،بعد أن ذكر أن النبي و علي و الأئمة من ولده،يشفعون فيشفعهم اللّه،قال و على هذا القول إجماع

ص: 172

الإمامية إلا من شذ منهم،و قد نطق به القرآن و تضافرت به الأخبار،و في حاشية الكتاب المذكور،اتفق كافة فرق المسلمين على ثبوت الشفاعة لنبينا صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لكنهم اختلفوا في معناها،فالمعتزلة قالوا بأنه يشفع للمؤمن الطائع،و ينتج من شفاعته زيادة المنافع،و قال غيرهم أنها للعصاة و الفساق من أهل الإيمان،و ينتج عنها سقوط العقاب عنهم.و مهما يكن فلا شبهة في ثبوتها للنبي و الأئمة عند الشيعة.بل حتى لبعض الأولياء الصالحين.

و يمكن أن يستدل على أصول ثبوتها،بما جاء في الكتاب الكريم قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً و المراد من الآية كما في مجمع البيان،لا تنفع في ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره، إلا شفاعة من أذن له اللّه أن يشفع،و رضي قوله فيها من الأنبياء و الأولياء و الصديقين و الشهداء،و فيها دلالة على أنها لا تقبل من أصحاب الذنوب، لأن المذنب في أمس الحاجة إلى من يتوسط في أمره فلا يصلح أن يكون وسيطا لغيره كما تدل على ذلك الآية وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً ،و في سورة مريم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا،بعد أن حكى عن المجرمين في قوله يوم نسوق المجرمين إلى جهنم وردا،قال لا يملكون الشفاعة،و المراد بذلك أن الشفاعة لا يملكها إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا،أي من عاهد اللّه و التزم بما عاهد عليه،و أهل الذنوب و الكبائر لم يلتزموا بما عاهدوا اللّه عليه من فعل الطاعات و اجتناب السيئات،و في سورة المؤمن ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فهي تدل على أن الشفاعة في يوم الحساب،و لكن الظالم ليس له قريب ينفعه و لا شفيع يطاع قوله فيه.

و في سورة سبأ وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ،و إنما يأذن سبحانه لمن رضيه و ارتضاه من عباده،و هم الأنبياء و الأولياء.و في آية

ص: 173

أخرى وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فهذه الآيات الكريمة تكاد أن تكون نصا في الشفاعة و الأخبار الكثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و عترته صريحة في ذلك،و لقد قال الصادق عليه السّلام ليس منا من أنكر أربعة:

المعراج،و خلق الجنة و النار،و سؤال القبر،و الشفاعة.

و يظهر من بعض الأخبار أن الشفاعة تكون لبعض المذنبين دون بعض، و يظهر ذلك مما رواه في الوافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال الذنوب ثلاثة:ذنب مغفور،و ذنب غير مغفور،و ذنب نرجو لصاحبه و نخاف عليه، قال الراوي:فبينها لنا يا أمير المؤمنين!قال:أما الذنب المغفور،فذنب عاقب اللّه فاعله في الدنيا،و اللّه أحلم و أكرم من أن يعاقب عبده مرتين و أما الذنب الذي لا يغفره،فظلم العباد بعضهم لبعض،إن اللّه سبحانه إذا برز للخليقة،أقسم قسما على نفسه فقال:و عزتي و جلالي،لا يجوزني ظلم ظالم،و لو كفا بكف.و أما الذنب الثالث،فذنب ستره اللّه على عبده، و رزقه التوبة منه،فأصبح خائفا من ذنبه،راجيا لربه،فنحن له كما هو لنفسه،نرجو له الرحمة و نخاف عليه العقاب.و المراد بقوله فنحن له أي نشفع به إلى اللّه،و يخاف أن يرد شفاعتنا،و يعاقبه على ذنبه.و روى صالح بن عقبة عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال:قلت لأبي عبد اللّه رجل فجر بجارية أخيه،فما توبته؟قال عليه السّلام:يأتيه فيخبره،و يسأله أن يجعله في حل و لا يعود.قلت:فإن لم يجعله من ذلك في حل؟قال:يلقى اللّه سبحانه زانيا،خائنا.قلت فالنار مصيره!قال:شفاعة محمد و شفاعتنا تحيط بذنوبكم يا معشر الشيعة،فلا تعودوا،و لا تتكلوا على شفاعتنا،فو اللّه ما نال شفاعتنا أحد إذا فعل هذا،حتى يصيبه ألم العذاب،و يرى هول جهنم.

و يتأكد هذا المعنى في كثير من كلماتهم عليهم السّلام فقد جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنه قال لفاطمة عليها السّلام:اعملي يا فاطمة فلن أغني عنك من اللّه شيئا.و قولهم:الجنة لمن أطاع اللّه و لو كان عبدا حبشيا،و النار لمن عصاه و لو كان سيدا قرشيا.

ص: 174

و قولهم:لا تنال شفاعتنا مستخفا بالصلاة،فما عرف عنهم إلا التخويف من عذاب اللّه،و الترغيب في طاعة اللّه،و في مناجاة أمير المؤمنين،و حفيده الإمام زين العابدين عليه السّلام،خير شاهد على أنهم لم يكونوا في وقت من الأوقات،يمنون أحدا بالشفاعة و السلامة من العذاب بل أرادوا أن ينتهج الإنسان سبيلهم القويم و طريقهم الواضح،فقد روي في الكافي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام أنه قال:ليس من شيعتنا من كان في بلد فيها أربعون ألف نسمة و فيهم من هو أروع منه.

و في رواية صالح بن عقبة و غيرها دلالة على أن الشفاعة في حقوق اللّه خاصة،و أما ما يكون حقا للعباد فلا تشمله أدلة الشفاعة و لا بد من العقاب عليه إلا إذا أبرأه صاحب الحق.فالشفاعة على هذا النحو لا ينكرها العقل، و أقرها كتاب اللّه الكريم،و الإيمان بكل ما هو موجود في اختبارها من الكيفيات و مقدار عمومها و ثبوتها للمؤمنين ليس ضروريا في دين الإسلام و لا في مذهب الشيعة.

ص: 175

الأئمة الإثناعشر

اشارة

عند الشيعة

لقد ذكرنا رأي الشيعة الإمامية في الخلافة الإسلامية،و أنها بالنص الإلهي،و لا رأي للأمة فيها.و قد نص النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم على إمامة الإثني عشر، و الروايات التي نصت على إمامتهم،رواها الفريقان بأسانيد متعددة، و مضامين مختلفة و ذكرها الكثير ممن عنى بنقل الحديث و السنن،منهم العلامة في كتابه كشف الحق و نهج الصدق،فقد جاء في كتاب المذكور عن الزمخشري بإسناده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنه قال فاطمة مهجة قلبي و إبناها ثمرة فؤادي،و بعلها نور بصري،و الأئمة من ولدها أمناء ربي،و نقل أيضا في كتابه المذكور عن السدي في تفسيره،و هو من علماء أهل السنة و ثقاتهم أن سارة لما كرهت مكان هاجر،أوحى اللّه إلى إبراهيم،أن ينطلق بإسماعيل و أمه،حتى ينزل بيت النبي التهامي يعني بذلك مكة المكرمة،فإني ناشر ذريته و جاعل منهم نبيا عظيما و مظهره على الأديان،و جاعل من ذريته إثني عشر عظيما.و في الكتاب المذكور أيضا عن أحمد بن حنبل في مسنده و غيره،عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنه قال للحسين عليه السّلام:أنت السيد ابن السيد أخو السيد أبو السادة،أنت الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمة،أنت الحجة

ص: 176

ابن الحجة أخو الحجة أبو الحجج التسع.من صلبك تاسعهم قائمهم، و هذا الحديث مروي في الطبري و غيره بتفاوت لا يضر بالمقصود.

و حديث الثقلين المروي في صحاح أهل السنة،كابن حنبل و الثعلبي، و أبي داود في صحيحه،و مسلم و غيرهم،و قيل بأن طرقه تزيد على مائتي طريق،و في الحديث الشريف أمرهم بالتمسك بكتاب اللّه و أهل بيته و كرر قوله:أذكركم اللّه و أهل بيتي،ثم قال فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا.و ما تدين به الشيعة من إمامتهم لا يزيد عما اشتمل عليه الحديث الشريف،لأن الإمامة عندهم ليست إلا الأخذ بقول الإمام،و الرجوع إليه في مشاكل الحياة،و الاقتداء بسيرته المثلى و أخذ معالم الدين عنه.و لازم ذلك أن يكون أفضل أهل زمانه و أعلمهم باللّه،و أقربهم إليه و أبعدهم عن معصيته.

و ذكر ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج،عن صاحب حلية الأولياء عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أنه قال:من سره أن يحيا حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا و يعتقد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهمي و علمي،فويل للمكذبين لهم من أمتي،القاطعين فيهم صلتي،لا أنالهم اللّه شفاعتي.و روى المحدثون طائفة من المرويات تنص على أن خلفاء النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم إثنا عشر خليفة،ذكرها أصحاب الصحاح في صحاحهم و غيرهم،ففي بعضها لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة،و يكون عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش،و في آخر يكون من بعدي إثنا عشر خليفة كلهم من قريش،و غير هاتين كثير بهذا المضمون.

و لو قطعنا النظر عن الطائفة الأولى التي نصت على أنهم من عترته، و أن الحسين أبو الأئمة التسعة،و أن التاسع من ولد الحسين قائمهم،و عن

ص: 177

الأحاديث التي صرحت بأسمائهم واحدا بعد آخر،و رجعنا إلى الطائفة الثانية التي نصت بأن خلفاءه إثنا عشر قرشيا،فلا يساعدنا المنطق على القول بأن هذه الأحاديث جاءت لتخبرنا عن مستقبل الخلافة الإسلامية، و أنها لا تكون إلا في قريش،بحيث لا يكون هذا الامتياز إلا للقرشيين، و لا حظ لغيرهم في ذلك،لأن هذا يتناقض مع المبدأ الإسلامي،القاضي بإلغاء كل تفوق يكون من غير طريق الدين و الأعمال الصالحة،ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى،إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم،فلا بد و أن تكون هذه الأحاديث مشيرة لأشخاص معروفين عنده مميزين عن غيرهم جمعوا أفضل الصفات و بلغوا أسمى مراتب الكمال التي يمكن أن يبلغها الإنسان،و أخذوا بأهداب الرسول و توسموا خطواته و نهجوا على سنته.

فنظر إليهم من وراء السنين البعيدة بواسطة الوحي من ربه،و الأرض تشرق بأنوارهم،و تتعطر من طيبهم،فنص عليهم كما أمره ربه بهذه النصوص العامة و الخاصة.و لو أغمضنا النظر عن ذلك،فمن البعيد أن يراد بهذه الأخبار من تداول الخلافة الإسلامية،لأن عددهم يزيد عما اشتملت عليه هذه الروايات،أضعافا مضاعفة و أبعد منه أن يكون المراد بهم خلفاء بني أمية،كيزيد بن معاوية و أمثاله،ممن تعاقبوا على الحكم و تداولوه بينهم.

و أبعد منهما أن يكون المراد من تلك الأحاديث الصلحاء من الخلفاء البالغين إثني عشر خليفة،كما ذكر ذلك بعض الشراح لهذه الأحاديث.و لو افترضنا أن الصلحاء منهم يبلغون هذا العدد،فظاهر الأخبار لا يساعد على ذلك،و ليس النبي في مقام بيان الصلحاء و تمييزهم عن غيرهم،و إنما الذي يظهر منها أنه في مقام بيان من يخلفه في حفظ دينه،و أداء رسالته،و السير على نهجه و سنته،و لم تتوفر هذه الصفات بغير الأئمة الإثني عشر من ذريته و عترته.

و اغتصاب حقهم و صدهم عن القيام بشؤون الأمة لا يخرجهم عن

ص: 178

كونهم الخلفاء الشرعيين،كما لا يخرج النبي عن النبوة لو فرض أن الناس لم يؤمنوا برسالته.و قد حكى اللّه سبحانه ما كان من قصة نوح مع قومه، و أنه ألح في دعوتهم للإيمان به و ألحوا في عنادهم،قال سبحانه: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً، فكان آخر أمرهم أن دعا عليهم،فأغرقهم اللّه،و لم يبق معه إلا حفنة من المخلوقات،فلم يخرج بذلك عن النبوة،و لقد قال النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في حديث أجمع علماء الحديث على صحته في الحسن و الحسين عليه السّلام إن ولدي هذين إمامان قاما أو قعدا،و لا شك أن المراد بالقيام و القعود،هو القيام بأمر الأمة،و القعود عنه.و الشيعة كما يعتمدون على هذه النصوص في إثبات إمامة الإثني عشر،يعتمدون أيضا على النصوص الخاصة الواردة عن طريق العترة الطاهرة على إمامتهم و لم ينتقل أحد من الأئمة إلى ربه إلا بعد أن نص على إمامة خلفه من بعده.

و لقد كانت الظروف السياسية،تفرض عليهم أحيانا عدم الإعلان العام،و التكتم في أمر الخلف الجديد و ذلك بإعلام فئة من الموثوقين العارفين بتكتم و حرص شديدين كما كان الحال بعد وفاة الإمام جعفر، و ولده موسى عليهما السّلام.و كان لذلك أثره البالغ في انتشار المذاهب و تعددها في تلك الفترة من الزمن.

ص: 179

علي بن أبي طالب

هو الإمام الأول عند الشيعة.ولد في مكة المعظمة بعد عام الفيل بثلاثين سنة.و عند جمهور من الشيعة الإمامية و غيرهم من مؤرخي السنة و محدثيهم أنه ولد في الكعبة المشرفة،و كان للنبي من العمر سنة ولادته ثمان و عشرون سنة.و في المجلد الأول من شرح النهج أن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان يتيمّن بتلك السنة،لولادة علي عليه السّلام فيها،و يسميها سنة الخير و البركة، و شاهد فيها من الكرامة و القدرة الإلهية ما لم يكن شاهده من قبل.و قال لأهله لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح اللّه علينا بولادته أبوابا كثيرة من النعمة و الرحمة.و كان كما قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ناصره و المحامي عنه،و كاشف الغم عن وجهه،و بسيفه ثبت دين الإسلام،و أرست دعائمه و تمهدت قواعده.و هو أول من أسلم مع النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم على رواية أكثر المؤرخين و أصحاب السير،بعد خديجة زوجة النبي.و في شرح النهج روايات كثيرة تنص على أنه أول من آمن بالرسول،و فيه عن أنس بن مالك:استنبأ النبي يوم الإثنين،و صلى علي يوم الثلاثاء.و في الشرح عن إسماعيل بن أياس بن عفيف الكندي، عن أبيه عن جده قال:كنت امرءا تاجرا،فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة،و كان امرءا تاجرا،فو اللّه إني لعنده بمنى،إذ خرج رجل من خباء له قريب منه فنظر إلى الشمس،فلما رآها قد

ص: 180

مالت قام يصلي،ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل،فقامت خلفه تصلي،ثم خرج غلام راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي فقلت للعباس:ما هذا يا عباس؟قال:هذا محمد بن عبد اللّه ابن أخي.قلت:من هذه المرأة؟قال:هذه امرأته خديجة بنت خويلد! قلت من هذا الفتى؟قال علي بن أبي طالب ابن عمه!قلت:ما هذا الذي يصنع؟قال يصلي و هو يزعم أنه نبي!و لم يتبعه على أمره إلا امرأته و ابن عمه هذا الغلام،و يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى و قيصر.و لقد اختلفت الروايات في سنه يوم إسلامه.

ففي بعضها أنه كان له من العمر ثلاث عشرة سنة،و في بعضها الآخر إثنتا عشرة سنة،و قيل أكثر من ذلك و أقل.و مهما يكن الحال فسواء كان أول المسلمين أو ثالثهم،فقد استقبل الإسلام في صباه،لم تدنسه آثام الجاهلية و لم يسجد لغير اللّه سبحانه و افتتح حياته بالجهاد بإيمان راسخ، و إخلاص يقوده إلى التفاني و التضحية في سبيل الرسول،و دعوته الميمونة.

و رافق جميع التطورات التي مرت بها الدعوة،فكانت الغزوات و الحروب و هو في طليعة المجاهدين بلا منازع في ذلك.و تم للنبي الانتصار و حقق اللّه على يده و يد الرسول عزا للإسلام و المسلمين،و نص النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم على استخلافه من بعده في كثير من المناسبات،و في سنة وفاته بعد رجوعه من حجة الوداع كان النص العام على حشد من المسلمين لم يتفق أن تيسر له قبل ذلك.

و لم يكن أحد من المسلمين يحتمل أن الخلافة ستكون إلى غيره،إلى أن كانت وفاة الرسول الأعظم.و جرى بين المهاجرين و الأنصار ما نقله إلينا التاريخ،من تنافس على الخلافة أدى إلى تغلب المهاجرين و اتفاق الكثير منهم على أبي بكر.

ص: 181

هذا و النبي في البيت الذي توفي فيه،و علي منصرف بكله إلى تجهيزه و استقبال المعزين له بمصابه بالراحل العظيم،قد شغله أمر النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم عن دنياهم بما فيها من منافع و أعراض فلم تشأ له نفسه الكبيرة أن يترك النبي جنازة،و يذهب حيث اجتمع الفريقان لإثبات حقه الشرعي في الخلافة الإسلامية،و لما دعي إلى بيعتهم تنكر لتلك المفاجأة و أدلى حجته البالغة فالتف حوله جمع ليس بالقليل من أهل البصائر و الإيمان الثابت و مضي زمن و هو يجادل القوم و يذكرهم مواقف النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و يعيد إلى ذاكرتهم ما غاب عنها من النصوص التي تؤيد دعواه فأحس الكثير منهم بالمسؤولية و تجسمت لهم الأخطار،إن هم مضوا مع التيار الإسلامي الذي غير و بدل.

و في تلك الفترة القصيرة كانت ردة جماعة من مسلمي العرب في الجزيرة،و كانت نبوءة مسيلمة الكذاب و استغلاله الموقف الراهن بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و تفشي أمر النزاع على الخلافة إلى خارج العاصمة الإسلامية، فبدأ العصيان و التمرد على مبادئ الإسلام،و اتسعت حلقاتهما بين العرب، فخشي علي عليه السّلام إن هو استمر على نزاعه مع القوم أن تبدد جهود محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في أكثر من عشرين عاما،و رجع إلى ماضيه اللامع الحافل بالخدمات الجليلة في سبيل توطيد دعائم الدين،و نشر تعاليم الإسلام لأن مصلحة الإسلام بنظره قبل كل شيء،و إذا كان يطالب بحقه في الخلافة فذاك لكي تعمل على بعث الدين قويا في نفوسهم و نشر تعاليم الإسلام،و الخلافة لا تساوي بحسابه شيئا إذا لم تكن طريقا لهذه الغاية.و هو القائل لابن عمه عبد اللّه بن العباس و هو يخصف له نعله،و اللّه إن إمرتكم لأهون عندي من هذه النعل،إلا أن أحق حقا و أبطل باطلا...

أما و قد توالت الأحداث و وقع ما لم يكن بالحسبان و انتشرت دعوة المرتدين و نبوءة مسيلمة و أساليبه المغرية،و الدين جديد لم يأخذ سبيله في

ص: 182

النفوس،آثر عند ذلك أن ينخرط في صف المسلمين،و يعمل و إياهم على صعيد واحد،بالرغم مما سلف منهم مع زوجته الطاهرة فاطمة بنت النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كما أجمع على ذلك التاريخ.و لما وصل إلى حقه بعد نهاية الخليفة الثالث عثمان رافقت الحوادث سني خلافته فكانت واقعة البصرة على يد طلحة و الزبير،و السيدة عائشة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و تلتها حادثة صفين بقيادة معاوية بن أبي سفيان و كان من نتائجها حادثة النهروان بعد الفشل الذي لحق بجيشه من آثار دعوة معاوية و ابن العاص إلى السلم و رفع المصاحف،بعد أن ظهرت الغلبة لأصحاب علي عليه السّلام،و كاد الفتح أن يتم لهم.

فكانت كل أيامه محنا و عذابا مرا،في سبيل اللّه إلى أن انتقل إلى ربه على يد عبد الرحمن الخارجي لعنه اللّه،ليلة الحادي و العشرين من شهر رمضان بعد أن مضى على وفاة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ثلاثون عاما و له من العمر خمس و ستون سنة،و قيل أقل من ذلك.

ص: 183

الحسن بن علي

الإمام الثاني من أئمة الشيعة

ولد الحسن بن علي في السنة الثانية من هجرة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من مكة إلى المدينة،و روى الصدوق في الأمالي عن علي بن الحسين عليه السّلام،أنه لما ولد الحسن قالت فاطمة لعلي سمه،فقال ما كنت لأسبق باسمه الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، فجاء رسول اللّه،فأخرج إليه في خرقة صفراء،فقال ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء،ثم رمى بها و أخذ خرقة بيضاء فلفه فيها ثم قال لعلي هل سميته؟فقال:ما كنت لأسبقك باسمه.فسماه رسول اللّه حسنا،و لقد بقي مع جده نحوا من سبع سنين أو ثمانية،و كان يقول فيه و في أخيه الحسين:

أنهما سيدا شباب أهل الجنة،و أنهما إبناي،و إبنا بنتي،اللهم إنك تعلم أني أحبهما،فأحبهما،يكرر ذلك مرارا،و روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه دخل على النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و على ظهره الحسن و الحسين،و هو يقول نعم الجمل جملكما،و نعم العدلان أنتما،و عن البراء بن عازب قال:رأيت النبي حاملا الحسن و يقول:اللهم إني أحبه فأحبه،و قال أبو هريرة رأيت النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يمص لعاب الحسن كما يمص الرجل التمر،إلى كثير من أمثال هذه الروايات.

ص: 184

و قد نص على إمامته،و إمامة أخيه الحسين عليه السّلام،فقال:هما إمامان قاما أو قعدا.و هو و أخوه الحسين و أمهما فاطمة عليهم السّلام،المعنيون في آية المباهلة بقوله أبناءنا و أبناءكم،كما ذكر ذلك جمع من المفسرين،و رواه الفريقان،و ادعى العلامة في كتابه كشف الحق إجماع المفسرين على ذلك.

و في الكتاب المذكور أن آية التطهير نزلت في علي و الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السّلام.و روي ذلك عن أحمد بن حنبل،و غيره من مشاهير إخواننا أهل السنة،و أكثر المفسرين لكتاب اللّه،و نقل عن أبي عبد اللّه محمد بن عمران،عن أبي الحمراء قال:خدمت النبي نحوا من تسعة أشهر أو عشرة، عند كل فجر لا يخرج من بيته حتى يأخذ بعضادتي باب علي عليه السّلام فيقول:

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته فتقول فاطمة و علي و الحسنان و عليك السلام يا رسول اللّه.ثم يقول:الصلاة رحمكم اللّه،إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت،و يطهركم تطهيرا.و كانت الأعوام السبع أو الثمانية،التي قضاها مع جده الأعظم،حافلة بالتدليل على فضله و حبه، و الإعلام عن مستقبله اللامع الحافل بالمآثر و الفضائل،و ورثه الرسول أشياء كثيرة لا يعادلها شيء في الدنيا،و غرس في نفسه الزكية تعاليمه المقدسة، و آي الكتاب الكريم،لتجني منها أمته أطيب الأثمار و أشهاها،و كان هو المربي و الموجه له و لأخيه الحسين،و بعد وفاته رجعا إلى أحضان علي عليه السّلام،فكان يزقهما من علمه الواسع الذي أخذه عن الرسول، و يرعاهما كما ينبغي لأب مثله أن يرعى وديعة رسول اللّه في أمته.فكان مثالا للقداسة في نفوس المسلمين،و لم يغب عنهم ما كان يصنع معه الرسول و يحيطه به من العطف و الحنان،و لم ينس أحد منهم قوله فيه و في أخيه الحسين:من أحبني فليحب حسنا،حسن مني و أنا من حسن،هذان إمامان قاما أو قعدا.و قد شاهده المسلمون بالأمس القريب يمص من لعابهما،و يقول نعم الجمل جملكما و نعم العدلان أنتما.لذلك كان من

ص: 185

الطبيعي أن يحتل المقام الأسمى من نفوس المسلمين،بعد أن شاهدوا صنع النبي معه،و سمعوا قوله فيه،بالإضافة إلى تلك المجموعة الهائلة من الفضائل التي كانت تحتشد في نفسه الكريمة.و لم تكن خلافته القصيرة، بعد أن انتقل والده إمام الهدى إلى جوار ربه ضريبة على المسلمين استجابوا لها تحت تأثير القوة،و الإغراء بالأموال،و إنما كانت بنظرهم رحمة تتصل حلقاتها من علي عليه السّلام إلى نبيهم الذي اختار لهم و أحسن الاختيار،يوم قال:

الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا.و لكن النفوس الشرهة و الأرواح الشريرة،التي اشتراها معاوية بالأموال،و النفوس الضعيفة التي سلبها الأمن و القرار،استجابت لأمانيه ففقد الحسن عليه السّلام قوته التي كان قد أعدها لحرب معاوية بعد وفاة أبيه بأشهر قليلة،و للرغبة و الرهبة،أثرهما الفعال في ذلك،و لم يبق مع الحسن عليه السّلام إلا حفنة قليلة من ذوي البصائر و النيات الصادقة،لا تستطيع القيام بهذا العبء الثقيل.

و لم يغب عنه تخاذل أهل الكوفة عن أبيه من قبل،حتى تمنى فراقهم بالموت أو القتل،فاختار أصلح الطريقين لنفسه و لأمة جده،فسلم أمر الخلافة إلى معاوية على كره منه،بعد شروط و عهود أهمها الإحسان إلى شيعتهم و مساواتهم لسائر أفراد الأمة،و رجوع الأمر من بعده إلى الحسن عليه السّلام،و لكن معاوية الماكر،لم يف للحسن بشيء مما عاهد اللّه عليه،و أعلن سوء نواياه بعد أيام قليلة من توقيعه وثيقة الاتفاق يوم دخل الكوفة و خطب الناس،فقال:إني ما قاتلتكم لتصوموا و لا لتصلوا،و لكن لأتأمر عليكم،ثم تناول شروط الهدنة بينه و بين الحسن عليه السّلام،فقال ألا و إن كل شرط أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به بشيء منه.

ليس بغريب أن يصدر من معاوية ذلك،و إنما الغريب أن يقول غيره و يفي بما عاهد اللّه عليه،فالنزاع بين أمية و هاشم،من قبل لم يقع إلا لأن

ص: 186

أمية أراد أن يحتكر السيادة لنفسه،و قد رأى الناس من هاشم الرجل الذي استطاع بحسن نواياه أن يمتلك القلوب و الألباب.و لم تكن ثورة أبي سفيان على النبي من قبل،إلا لأن الإسلام قد حطم الجبابرة و أعز المؤمنين، و فضل جبيرا الحبشي الصالح على أبي سفيان القرشي الجبار،و لم يكن معاوية بأطهر نفسا من أبيه و هو القائل يوم انتهت الخلافة الإسلامية إلى سليل أمية عثمان،و قد دخل أبو سفيان مسجد النبي و هو يحسب أن ليس في المسجد إلا الخليفة و حاشيته،تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة،فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة و لا نار،و لا حساب و لا عقاب إذن ليس بالغريب أن يقول معاوية في حشد من أهل الكوفة ضم أعيانهم و رؤساءهم إني قاتلتكم لأتأمر عليكم،و كل شرط أعطيته للحسن لا أفي له فيه، و بالفعل قال ذلك و شرع في تنفيذ مقالته،فتتبع الشيعة بأشد أنواع الأذى و العذاب،على يد الجبابرة من ولاته،بالقتل تارة و التشريد و الحبس أخرى،و نظرا لتلك الأزمة العظيمة التي اجتاحت الشيعة،قال الناس:أول ذل دخل الكوفة يوم سلم الحسن الأمر إلى معاوية،و قال له جمع من شيعته الخائفين المشردين:السلام عليك يا مذل المؤمنين،و غير ذلك مما كان يضطرهم سوء صنيع معاوية و ولاته إلى مفاجأة الحسن به،و هو مع كل ذلك صابر على ما نزل به منتظر وعد ربه الذي وعد به عباده الصابرين.

يذهب إلى بيت اللّه ماشيا في كل عام و النجائب تقاد بين يديه و يتفقد الأيتام و المساكين،فيحمل إليهم الطعام و ينفق عليهم من أمواله في السر و العلانية،و ينشر أحكام اللّه بين عباده.

و أخيرا فما أحب معاوية أن يذهب من دنياه بدون أن يكون له خلف يتولى أمر المسلمين ليشاركه أوزاره،فجعل ولاية العهد لولده المعروف عند الناس بالاستهتار بمقدسات الإسلام،و السكر و الفحشاء،و لما علم أن

ص: 187

وجود الحسن عليه السّلام سيقف في طريق إنجاز هذه الفكرة بدأ يعمل جهده للتخلص من الحسن عليه السّلام و أخيرا تم له ما أراد،بواسطة جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن بعد أن أغواها بالأموال،و وعدها بالزواج من ولده الذي سيلي أمر الأمة في القريب العاجل،و بعد أن نفذت له إرادته،و فى لها بالأموال الطائلة و تنكر لأمر الزواج فلم يف لها به و حين طالبته بذلك تنكر لهذا الطلب،و جال في خاطره أن من يقدم على قتل ابن رسول اللّه لخليق به أن يقدم على قتل ابن معاوية،إذا رأى من مصلحته ذلك.

و في المجلد الأول من شرح النهج عن عمران بن إسحاق قال:كنت مع الحسن و الحسين عليه السّلام في الدار،فدخل الحسن المخرج و عبد أن خرج قال:لقد سقيت السم مرارا ما سقيت مثل هذه المرة،لقد لفظت كبدي فجعلت أقلبها بعود معي،فقال الحسين و من سقاك السم؟قال و ما تريد منه؟أتريد أن تقتله ان يكن هو هو!فاللّه أشد نقمة منك،و إن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء.

انتقل إلى جوار ربه الكريم في شهر صفر سنة إحدى و خمسين للهجرة، و له من العمر سبع و أربعون عاما،و دفن إلى جانب أمه الصديقة الزهراء عليها السّلام في البقيع،بعد أن عارضت السيدة عائشة في دفنه مع جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و خرجت على بغل يقودها مروان و معها جماعة من الأمويين و أنصارهم و هي تقول:لا يدفن الحسن مع جده أو تجز هذه تعني بذلك ناصيتها و كادت الفتنة أن تقع لو لا أن الحسين عليه السّلام تراجع عن دفنه إلى جوار جده و دفنه في البقيع حيث قبره الآن.

ص: 188

الحسين بن علي

الإمام الثالث من أئمة الشيعة

الحسين بن علي،شهيد الإباء و التضحية،و بطل التاريخ،الثائر على الظالم و الباطل،كأنه بركان انفجر يقذفهم بالحمم،و يندفع عليهم كالسيل، و إن كان في ذلك هلاكه،ما دام أراح ضميره،و أرضى ربه،و مات دون مبدئه و غايته.ولد الحسين في شعبان في السنة الرابعة من الهجرة،و سماه رسول اللّه حسينا كما سمى أخاه حسنا من قبل،تولى النبي حسينا من حين ولادته إلى يوم وفاته،فكانت روحه الطاهرة كالعدسة اللاقطة،ترسم ما تقع عليه من وحي النبوة،الذي أهدى الإنسانية بنوره،و زودها من ضيائه.ما عرف أحدا قبل جده الأعظم و ما أحس بعطف إنسان قبل عطفه،و لا غذاه أحد قبل لسانه الكريم،فارتسمت روح النبوة في طبيعته و ملأت نفسه الكبيرة،فكان إنسانا حين دبت به الحياة،لم تسيطر عليه الطبيعة بل سيطر عليها فانقادت إليه كما يريد.و لا غرابة في ذلك بعد أن تعهدته النبوة، و غمرته بروحانيتها و حبها،و قال فيه جده:حسين مني و أنا من حسين.و لقد روى الرواة عن طريق البراء بن عازب أنه قال:رأيت النبي يحمل الحسين على عاتقه و هو يقول اللهم إني أحبه فأحبه.و روي عن أسامة بن زيد أنه

ص: 189

قال:طرقت النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ذات ليلة في حاجة لي،فخرج النبي و هو مشتمل على شيء لا أدري ما هو فلما فرغت من حاجتي،قلت ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟فكشف فإذا الحسن و الحسين على و ركيه،فقال:هذان ابناي و إبنا ابنتي،اللهم إني أحبهما فأحبهما و أحب من يحبهما،و كان يرشف ثناياه تارة،و يمتص من لعابه أخرى و انتقل بعد وفاة جده إلى أحضان أبيه علي عليه السّلام،فنشأ الحسين كما تشاء له تلك التربية العالية،مخلصا لرسالة جده متنكرا للباطل شديدا على الظالم:لا تغريه الدنيا بنعيمها و مغرياتها، ينشطه الجور و يوقظه الظلم و يثيره أنين الضعفاء و عويل المنكوبين،يرسل صوته قويا ينفذ إلى الأعماق فتلتهب له ضمائر المظلومين،ألا و إني لا أرى الموت إلا سعادة،و الحياة مع الظالمين إلا برما.

فشق الطريق لكل من ينشد الإصلاح،و يحب المعروف و يحارب المنكر و يعمل لتقويض دولة الظالم و سلطان أهل البغي و كان له النصر في النهاية.

و لرب نصر عاد شر هزيمة تركت بيوت الظالمين طلولا

نص على إمامته و إمامة أخيه الحسن من قبله جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بحديث مشهور بين الرواة.الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا.و نص على إمامته و إمامة أخيه الحسن بن علي عليهما السّلام في آخر أيام حياته،كما روي ذلك في الوافي،عن حماد بن عيسى عن اليماني و ابن أذينة،عن أبان عن سليم بن قيس،قال:شهدت وصية أمير المؤمنين عليه السّلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه السّلام و أشهد على وصيته الحسين و محمدا و جميع ولده،و رؤساء شيعته و أهل بيته.ثم دفع إليه الكتاب و السلاح،و قال لابنه الحسن عليه السّلام:يا بني أمرني رسول اللّه أن أوصي إليك،و أدفع كتبي و سلاحي كما أوصى إلي رسول اللّه و دفع إلي كتبه و سلاحه.و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى الحسين.ثم أقبل على ولده الحسين و قال له:و أمرك رسول اللّه

ص: 190

أن تدفعها إلى إبنك هذا.ثم أخذ بيده علي بن الحسين عليه السّلام و قال له:و أمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي و أقرئه من رسول اللّه و مني السلام.و في رواية الوافي عن المفضل بن عمر في حديث طويل،أن الحسن عليه السّلام استدعى محمد بن الحنفية و قال له:يا محمد بن علي إن الحسين بعد وفاتي إمام من بعدي،إلى أن قال إن اللّه قد اصطفى محمدا، فاختار محمد عليا،و اختارني علي للإمامة،و اخترت أنا الحسين.و غير هاتين كثير،و كلها صريحة في إمامته و إمامة أخيه الحسن عليه السّلام.و قد ذكرنا فيما سبق قسما من الروايات الصريحة في إمامة الإثني عشر،و أنه أبو الأئمة التسعة.و لقد بقي بعد أخيه الحسن عشر سنين قضاها في خلافة معاوية ابن أبي سفيان،و حين جعل معاوية أمر الخلافة الإسلامية لولده يزيد من بعده، كان عليه السّلام لا يدع فرصة إلا و يعلن فيها للملأ الإسلامي عن رأيه في تلك البيعة و عن مصير المسلمين إن استقام الأمر ليزيد بعد أبيه.و لما مات معاوية اضطربت أعصاب يزيد من الحسين عليه السّلام،لعلمه بما له في نفوس المسلمين من العظمة و القداسة،و أنهم لا يعدلون به أحدا إن هو تعرض لأمر الخلافة.

فكان كل همه أن يستلب منه البيعة،ليستغلها في إخماد كل ما يمكن أن يحدث ضد سلطتهم الجائرة،التي استجاب لها الكثير من المسلمين بتأثير السيف و الدينار،و في نفس الوقت يخدع بها الملايين من المسلمين.لذلك فقد أرسل إلى أمير المدينة يأمره بأخذ البيعة من الحسين خاصة و من الناس عامة،و كان من الطبيعي أن لا يتم له ذلك،و أن لا ينزل الحسين عند طلبه.

و بعد جدال دار بينه و بين أمير المدينة و حاشيته،أعلن لهم الحسين عليه السّلام عن رأيه في خلافة يزيد بقوله:إنا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة،و يزيد رجل فاسق معلن بالفجور و مثلي لا يبايع مثله.و خرج من المدينة قاصدا

ص: 191

مكة حيث يجتمع المسلمون فيها لأداء فريضة الحج.و في تلك السنة كان الحج أكثر منه في غيرها،و كثرت الوفود لتعرف ما يؤول إليه أمر الأمة،في عهدها الجديد المظلم:و انعكفوا على الحسين يجددون العهد برسول اللّه.

و فيهم الكثير ممن وعى حديث الرسول فيه و في أخيه الحسن و لم يغب عنهم قوله:حسين مني و أنا من حسين.و كانت الكوفة أشد الأقطار الإسلامية نقمة على الأوضاع،و تحفزا للثورة.و قد اذاقهم معاوية من قبل الوانا من العذاب،و هو المعروف عند الكثير من أتباعه بالحلم،فماذا يكون حالهم إذا كان أميرهم هذا الأرعن الجبار الأحمق؟فاستغاثوا بالحسين،و كتب إليه أكثرهم،حتى اجتمعت عنده آلاف الكتب،و في جميعها يقولون ليس لنا إمام غيرك،و لا سلطان علينا لسواك،فرأى نفسه بإزاء أمر لا مفر منه،و لا محيد عنه و ملايين المسلمين يستغيثون به،و يرونه المنقذ الوحيد من هذا السلطان الجائر.فظن أنهم رجعوا عن ماضيهم الأسود مع أبيه و أخيه،إلى الطريق الواضح و تابوا للّه سبحانه من سوء صنيعهم،و مع ذلك فلم يقذف بنفسه في ذلك التيار الهائج،و لم يكن لتلك الكتب و لا لأصواتهم المتعالية بالاستغاثة،ما يكفي بحسابه للركون إليهم و الاطمئنان بصدقهم،فأرسل إليهم إبن عمه مسلما،و هو من خيرة قومه،العارفين بتدبير الأمور و قيادة الجماهير،ليستعلم له الحال و يستطلع له القلوب،و زوده برسالة إلى أهلها يعلمهم فيها بقدومه عليهم،إن كتب له سفيره بصدق نياتهم،و مضاء عزيمتهم،و رجوعهم عما سبق منهم مع أبيه و أخيه من قبل.فاحتفوا بمسلم و رحبوا بقدومه،و بايعه الرؤساء و الأتباع على الموت،و بدأوا يجمعون الأموال و السلاح استعداد للوثبة على سلطان يزيد الجائر،فلم ير مسلم بدا،و قد رأى منهم الإيمان بهذه الدعوة،و العزم على التضحية في سبيلها مهما كلفهم ذلك،إلا أن يكتب إلى الحسين يعلمه عن نتائج رحلته، و تماسك أهل الكوفة في أمرهم،و عظيم ولائهم لأهل هذا البيت.

ص: 192

فاستجاب عند ذلك حسين عليه السّلام دعوتهم،و خطب في مكة المكرمة في حشد من المسلمين فقال:إني لم أخرج بطرا،و لا أشرا،و لا مفسدا،و لا ظالما،و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي،أريد أن آمر بالمعورف و أنهى عن المنكر،فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق،و من رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين، و توجه على اسم اللّه و في سبيل اللّه،و هو يتلو قول ربه: وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ .و منذ وصل إلى مقره الأخير من أرض العراق،فوجئ بغدر أهل الكوفة و خيانتهم مسلما،و قتله مع نفر من وجوه شيعته،فحاول أن يرجع إلى مدينة الرسول،أو إلى جهة أخرى من بلاد اللّه الواسعة،فلم يتم له ذلك،و أصبح بين أمرين إما أن يقاتل بتلك الحفنة القليلة من صحبه و ولده و بني عمه و إما أن يستسلم لهم و يبايع إبن زياد ليزيد.أما البيعة فقد أعلن عن رأيه فيها يوم استدعاه الوليد حاكم المدينة ليلا بقوله:إن يزيد معلن بالفجور و مثلي لا يبايع مثله،و كأنه يشير بذلك إلى شروط الخلافة الإسلامية و أن الخليفة حامي القرآن،و نائب الرسول و المعني بقوله تعالى: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فلا بد و أن يكون رمز الدين لتجب إطاعته على الأمة،أما إذا كان فحاشا لماظا،كانت مبايعته ضلالا و كفرا،فكان من المحتم أن يرفضها اليوم، كما رفضها بالأمس،فاختار القتال و هو يردد لا أرى الموت إلا سعادة، و الحياة مع الظالمين إلا برما.

و إذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا

و هو يعلم أن يزيدا لا يتركه حيا،ما دام يفكر أن في بقائه خطرا على عرشه،و قد أشار في خطبته التي ألقاها في البيت قبل خروجه من مكة إلى ما سيكون من حاله فقال:كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات،بين النواويس و كربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا.

ص: 193

مضى هو و صحبه و هو يقول و اللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل،و لا أقر لكم إقرار العبيد،فماتوا ميتة الكرامة،و استقبلوا اللّه بوجوههم المشرقة،و كان النصر في النهاية لهم.فكانت شهادة الحسين عليه السّلام من أشهر الحوادث في تاريخ الإسلام و أفجعها و أشرفها،و أعظمها أثرا في التاريخ، سنة إحدى و ستين من الهجرة،في العاشر من المحرم،و لا يعنينا في هذا الموضوع أن نتوسع في تاريخ أئمة الشيعة أكثر من ذلك.

ص: 194

علي بن الحسين

الإمام الرابع من أئمة الشيعة

علي بن الحسين الملقب بزين العابدين و السجاد،و المشهور بين الرواة أن أمه من أشراف السبي الذي استولى عليه المسلمون في حربهم مع الفرس زمن الفتح الإسلامي.تزوجها الحسين عليه السّلام فأولدت له عليا سنة ثمان و ثلاثين من الهجرة في أواخر أيام جده علي عليه السّلام في الكوفة.فنشأ علي في بيت أبيه،بيت النبوة و مهبط الوحي بيت تحمل أقسى ما يتصور من الألم و المحن في سبيل اللّه و في سبيل القرآن فقاسى ما قاساه آباؤه من قبله، و استقبل في صباه محنة جده الأعظم،و هو صريع في محرابه،و محنة عمه الحسن و هو يلفظ كبده بين يديه من السم الذي دسه إليه خليفة المسلمين معاوية بن هند،و جاءت بعد ذلك أيام أبيه،و الإسلام يستغيث بمن ينقذه من الأخطار المخيفة التي أحدقت به من جميع نواحيه،فكانت ثورة الحسين عليه السّلام مفروضة عليه بحكم الظرف الذي وجد فيه،و كان لها أحسن الأثر و أبلغه في تاريخ الإسلام و اتساع التشيع،كما نتج منها انهيار العرش الذي بناه معاوية لولده من بعده.

أسفرت تلك الثورة المباركة عن قتله و قتل اسرته و بنيه و صحبه الكرام.

ص: 195

و لو لا مشيئة اللّه سبحانه لكان السجاد في عداد القتلى.كل ذلك شاهده الإمام زين العابدين،و شاهد ما هو أمر على النفس من جميع ذلك،شاهد رأس أبيه على الرماح،من كربلاء إلى الكوفة،و منها إلى الشام و جسده يداس بحوافر الخيل،و عماته و أخواته و نساء المسلمين تساق بالقوة و العنف إلى عبيد اللّه بن مرجانة،و إلى يزيد في الشام.

و كان القيد في ساقيه،و الحبل من عنقه إلى عنق عماته و أخواته،و مع كل تلك المصائب فقد رأى أن ذلك في طاعة اللّه قليل.فلم يكن الموت شيئا عند علي و آله،و لا القتل مهانة في حسابهم و إنما الحياة مع الظالمين هي العار.أرادوا اللّه فاجتباهم إليه و أنكروا الباطل فهان كل شيء في سبيل الحق و الحرية و العدالة التي كانوا ينشدونها،خفق الحسين عليه السّلام و هو في طريقه إلى العراق فسمع من يقول،القوم يسيرون و المنايا تسير في أثرهم فقال:إنا للّه و إنا إليه راجعون،فقال ولده علي مما استرجعت؟فقص عليه رؤياه.فقال:أولسنا على الحق يا أبتاه؟قال الحسين عليه السّلام نعم!و الذي إليه مرجع العباد قال إذن لا نبالي بالموت ما دمنا على الحق.

و لقد نص على إمامته جده علي عليه السّلام كما نص عليه أبوه الحسين.و في بعض الروايات أن الحسين عليه السّلام أودع وصيته أم سلمة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و فيها عهده إلى الإمام زين العابدين.

و عاش بعد أبيه ما يزيد على الثلاثين عاما،و الكآبة تبدو عليه،و الحزن باد في وجهه،و كلما اجتمع إليه وفد من وفود الأقطار الإسلامية كان يردد عليهم تلك المأساة و يقص عليهم من أخبارها ما يلهب النفس،و يحز فيها أقسى ما يتصور من الألم،فكان لذلك أثره البالغ في العواصم الإسلامية، الكوفة تعلن الثورة و تظهر الندم،و أهل المدينة يحسون بتلك الصدمة التي أصابت الإسلام في الصميم،فأنكروا أمر يزيد و طغيانه،و نتج عن هذا

ص: 196

الإنكار أن أتم يزيد رسالة أبيه الإصلاحية،فسرح جيشه لحرب صحابة النبي و أبنائهم و أمر قائده أن يأخذ البيعة من أهلها على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية،و كان له ما أراد،بعد قتال ذهب ضحيته آلاف الصلحاء و الأبرياء و أباح قائد مسلم مدينة الرسول لجيشه الظافر،و استعرض الصلحاء و العلماء فبايعوا على أنهم عبيد أذلاء،إلا الإمام زين العابدين،فلقد انجاه اللّه من شره و دفع عنه بأسه و كيده.

قال المسعودي في مروج الذهب:بايع الناس على أنهم عبيد ليزيد، و من أتي أمره مسرف ((1))على السيف،غير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،فقد لاذ بالقبر و هو يدعو اللّه،فأتي به إلى مسرف و هو مغتاظ عليه يتبرأ منه و من آبائه فلما رآه و قد أشرف عليه،ارتعد و قام له و أقعده إلى جانبه،و قال له سلني حوائجك!فلم يسأله من أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه،ثم انصرف عنه فقيل لعلي عليه السّلام رأيناك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟قال قلت اللهم رب السماوات السبع و ما أظللن،و الأرضين السبع و ما أقللن،رب العرش العظيم،رب محمد و آله،أعوذ بك من شره،و أدرأ بك في نحره،أسألك أن تؤتيني خيره،و تكفيني شره.و قيل لمسلم رأيناك تسب هذا الغلام و سلفه فلما أتي به إليك رفعت منزلته فقال:ما كان ذلك لرأي مني لقد ملئ قلبي منه رعبا.

و في مروج الذهب أن المختار الثقفي كتب إلى علي بن الحسين السجاد،يريده على أن يبايع له و يقول بإمامته و يظهر دعوته.و أنفذ إليه مالا كثيرا فأبى أن يقبل ذلك منه و سبه على رؤوس الملأ في مسجد النبي ((2))و هكذا بقي الإمام زين العابدين في الأعوام الثلاثين التي قضاها بعدم.

ص: 197


1- هو مسلم بن عقبة.
2- و كان ذلك منه خوفا من بني أمية،و بني الزبير الطامعين في الحكم.

أبيه عليه السّلام معرضا عن الدنيا و بهجتها لا تغريه أبهة السلطة و لا بلهنية الحياة، و انقطع إلى عبادة ربه و نشر تعاليم الإسلام.فإذا جاء الليل و نامت العيون، قام هو و غلمانه يحمل الطعام و الأموال و صرر الدراهم و الدنانير إلى بيوت الأيتام و المساكين ثم يرجع إلى مناجاة ربه،يدعو لنفسه تارة و للمسلمين أخرى و للمرابطين في الثغور ثالثة بأبلغ منطق و أروع بيان و أعذب الكلمات.

يشتري الرقاب و يعتقها بالغا ثمنها ما بلغ ابتغاء مرضاة ربه.و في تذكرة الخواص عن طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين كان كثير الحديث عاليا رفيعا خائفا ورعا عابدا.و في الكتاب المذكور كان إذا توضأ للصلاة اصفر لونه،و إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة،فيقال له مالك؟فيقول ما تدرون لمن أريد أن أناجي!و لقد وقع حريق في داره و هو ساجد فقال الناس:

النار!النار!يا ابن رسول اللّه فما رفع رأسه حتى أطفئت.فقيل له ما الذي ألهاك عنها؟قال النار الكبرى.

و كان إذا أتاه سائل يقول:مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة و في التذكرة عن أحمد بن حنبل أن علي بن الحسين كان يعول مائة بيت في المدينة،و كان يبعث إليهم ما يكفيهم ليلا،فقال أهل المدينة بعد موته،ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.و كان يقول:عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة،و هو غدا جيفة،و عجبت لمن شك في اللّه و هو يرى عجائب مخلوقاته و عجبت لمن شك في النشأة الأخرى و هو يرى النشأة الأولى،و عجبت ممن عمل لدار الفناء و ترك دار البقاء.

و في طبقات ابن سعد كان علي بن الحسين يقول أيها الناس أحبونا حب الإسلام،فو اللّه ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا.و في رواية حتى بغضتمونا إلى الناس.و روى الرواة أن علي بن الحسين خرج من المسجد يوما فاعترضه رجل و سبه،فلحقه جماعة من المسلمين و هموا به

ص: 198

شرا،فقال عليه السّلام دعوه!ثم قال للرجل:ما ستر اللّه عنك من أمرنا أكثر مما ذكرته،ألك حاجة نعينك عليها؟فاستحى الرجل منه،ثم خلع عليه خميصة كانت عليه و أعطاه ألف درهم فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول:أشهد أنك ابن رسول اللّه،و في التذكرة عن جماعة من الرواة أن ضيوفا طرقوا باب الإمام زين العابدين،فاستعجل خادما له فأخرج شواء من التنور و أقبل عجلا و بيده(السفود)و بين يدي علي عليه السّلام غلام صغير،فسقط السفود على الصغير فنش و مات فبهت الخادم و اضطرب فنظر إليه علي عليه السّلام و قال:إنك لم تتعمد ذلك أنت حر لوجه اللّه.

و كان مما أوصى به ولده الإمام محمد الباقر:يا بني لا تصحبن خمسة،و لا ترافقهم في طريق أبدا:لا تصحبن فاسقا فإنه يبيعك بأكلة،فما دونها،و لا بخيلا فإنه يقطع بك عن ماله أحوج ما كنت إليه،و لا كذابا فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب،و يقرب منك البعيد.و لا أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.و لا قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في مواضع من كتاب اللّه.

و لقد أجمع المؤرخون على اختلاف نزعاتهم،على أنه وحيد زمانه في كل نواحيه.و انتقل إلى ربه سنة خمس و تسعين من الهجرة و عاش سبعا و خمسين عاما.و قيل أكثر من ذلك.و دفن في المدينة مع عمه الحسن وجدته فاطمة عليهم السّلام.

ص: 199

محمد الباقر

الإمام الخامس من أئمة الشيعة

الإمام أبو جعفر محمد بن علي الملقب بالباقر،ولد عليه السّلام في المدينة سنة سبع و خمسين من هجرة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و عاش مع جده الحسين عليه السّلام ثلاث سنين،و ختمت الأعوام الثلاثة التي قضاها مع جده الحسين عليه السّلام بأعظم محنة مرت على أهل البيت.و في طفولته شاهد أعظم الرزايا و المصائب التي توالت على أبيه من حكام ذلك العصر،الذي انغمس فيه الحكام بالشهوات،و ابتعدوا عن مفاهيم الرسالة السماوية،رسالة القرآن الكريم، و استهتروا إلى أبعد حدود الاستهتار بمقدسات الإسلام،أولئك الذين كانت تعج قصورهم بالفسق و الفجور،و تقوم دعائمها على الظلم و الجور و جميع أنواع الرذيلة و المنكرات.و قد غمر هذا التيار الذي استولى على قصور الخلفاء و الحكام،الكثير من المسلمين.و السلطة لها أثرها في توجيه الشعوب،لا سيما و أن للخلافة الإسلامية طابعها الديني.و الناس على دين ملوكهم في جميع العصور.فمارس المسلمون لذائذ العيش و مغريات الدنيا،و جميع المنكرات،عاش الإمام الباقر عليه السّلام في تلك الظروف مع هشام بن عبد الملك و غيره من الجبابرة،و استدعاه هشام إلى الشام و هو يلتهب غيظا عليه،فأنجاه اللّه من شره في حين أن البقية الصالحة من

ص: 200

المسلمين كانت تئن و تضج من تلك الأوضاع الفاسدة،و تستغيث به للتخلص من سلطان أمية الذي أوشك أن يأتي على تعاليم الإسلام،و جهود صحابة النبي و سيرة خلفائه من بعده.و أحس الكثير منهم بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل مسلم للتخلص من هذا السلطان الجائر.و لكن الإمام الباقر و قد رأى من قبل خذلان الناس لآبائه و تركهم في ساعات المحنة،و شاهد في أيام أبيه كيف بالغ الحكام في تعذيب الشيعة و التنكيل بالأبرياء،و في شرح النهج المجلد الثالث،نقل حديثا طويلا عن الإمام الباقر صور فيه الإمام حالة الشيعة،و سوء صنيع الولاة معهم،و كثرة الدس في أخبار أهل البيت،مما يشين في سمعتهم،و يفسد علاقتهم بالناس.و قال عليه السّلام في الحديث:ثم جاء دور الحجاج فقتلهم شر قتلة،و أخذهم بكل ظنة و تهمة، حتى أن الرجل كان يتمنى أن يتهم بالكفر و الزندقة و لا يتهم بالتشيع لعلي عليه السّلام.لذلك و لما شاهده بنفسه آثر أن يعيش منعزلا عن السياسة،منصرفا إلى التعليم و الإرشاد و نشر الأحاديث فكانت مدرسته تضم آلاف الرواة و مجالسه لا تخلو من المناظرة في التوحيد و الأئمة و غيرهما من الأصول الإسلامية حتى غلب عليه اسم الباقر.و روى الرواة أن النبي سماه بهذا الاسم يوم أخبر جابرا بأنه سيبقى إلى أن يدرك رجلا من ولد فاطمة سميّ رسول اللّه يبقر العلم بقرا.

و قال الجوهري في الصحاح و التبقر هو التوسع في العلم،و كان يقال لمحمد بن علي بن الحسين،الباقر لتبقره في العلم.

و وصفه ابن سعد في طبقاته كما في التذكرة،أنه كان عالما عابدا،ثقة، روى عنه أبو حنيفة و غيره من أعلام الأمة.و قال أبو يوسف قلت لأبي حنيفة لقيت محمد بن علي؟قال نعم!و سألته يوما فقلت له:أراد اللّه المعاصي؟ فقال:أفيعصي اللّه قهرا،قال أبو حنيفة:فما رأيت جوابا أفخم منه.و قال عطاء:لقد رأيت الحكم بن عينية عنده كأنه عصفور مغلوب و قد كان الحكم

ص: 201

عالما نبيلا جليلا في زمانه كما يصفه الاخباريون.

و يظهر من التاريخ أن سني إمامته بعد أبيه البالغة تسع عشرة سنة تهيأ له فيها ما لم يتهيأ لأبيه من قبل،فلقد كثر الرواة عنه،و اتسع له المجال لنشر الحديث في مختلف الجهات،و أصبح هو و ولده الصادق عليه السّلام من أعظم المصادر الإسلامية في التشريع و غيره من فنون الإسلام.و روى عنه جابر الجعفي،و هو من ثقات الرواة و أعاظم نقلة الحديث،أكثر من خمسين ألف حديث.و روى عنه محمد بن مسلم و كان من أعيان أصحابه و أصحاب ولده الصادق ثلاثين ألف حديث،و كثير غير هذين كزرارة و حمران ابني أعين و ابن أبي يعفور و الصيرفي و الأعمش.و قد أدرك هؤلاء الصادق و رووا عنه أيضا،و كانوا عنده من المقربين.و لعل الذي هيأ هذا الجو للإمام الباقر هو عدم تعرضه لأمر الخلافة و اطمأن الحكام منه بذلك و قد أيقنوا بأنه لم يساهم في ثورة أخيه زيد و ولده يحيى و عرفوا منه أنه كان يشير على أخيه و غيره من العلويين بالخلود و السكينة.

و قد بدأ المسلمون في عصره يدرسون الدين عن طريق المنطق و المحاكمة العقلية،فكثرت الشبه فيما يرجع إلى أصول الإسلام،في التوحيد و القضاء و القدر و الجبر و التفويض.و أراد الخلفاء أيضا أن تروج تلك البضاعة لتشغلهم عن التفكير في الخلافة و سوء تصرفات الحكام.

و كان للإمام الباقر السهم الوافر في الدفاع عن العقيدة الإسلامية.

و جاء في الوافي و غيره من كتب الحديث،أن نافع بن عبد اللّه الأزرق كان يقول:لو علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا،يخصمني أن عليا عليه السّلام قتل أهل النهروان،و هو غير ظالم لهم لرحلت إليه.فقيل له و لا ولده؟فقال:أفي ولده عالم؟فقيل له:هذا أول جهلك.و هل يخلون من عالم؟قال فمن عالمهم اليوم؟قيل محمد بن علي،فرحل إليه في جمع من

ص: 202

أصحابه،حتى أتى المدينة،فاستأذن على أبي جعفر عليه السّلام،فقيل له هذا عبد اللّه بن نافع!فقال:و ما يصنع بي و هو يبرأ مني و من آبائي؟ثم قال الإمام لغلامه:أخرج إليه،و قل له إذا كان الغد فأتني،فلما أصبح دخل عليه عبد اللّه في أصحابه،و قد جمع الإمام أبناء المهاجرين و الأنصار و قال:فمن كانت عنده منقبة لعلي عليه السّلام إلا ذكرها.فتحدث جماعة منهم بما اشتهر من فضله و مناقبه،فلم ينكر عبد اللّه الأزرق شيئا مما ذكروه و لكنه نسب له الكفر بعد تحكيم الحكمين في صفين،فذكر الإمام عليه السّلام و من معه حديث خيبر، و قول النبي لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله ثم استنطق الإمام خصمه فاعترف بصدق الحديث.فقال له أبو جعفر أخبرني عن اللّه سبحانه،أحب عليا يوم أحبه و هل يعلم أنه يقتل أهل النهروان أو أنه لا يعلم؟و هنا أخذته الحجة من جميع نواحيه فإن قال لا يعلم فقد نسب الجهل إلى اللّه و إن قال أنه يعلم،فإذا لم يستحقوا القتل كان علي مجرما بقتالهم،و اللّه لا يحب المجرمين فكيف أحبه اللّه.فقام الخارجي من مجلسه مخصوما،و في توحيد الصدوق عن عبد اللّه بن سنان عن أبيه قال:حضرت أبا جعفر عليه السّلام فدخل عليه رجل من الخوارج،فقال له يا أبا جعفر عليه السّلام أي شيء تعبد؟قال أعبد اللّه!قال رأيته؟قال لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يعرف بالقياس،و لا يدرك بالحواس، و لا يشبه الناس،موصوف بالآيات لا يجور في حكم،ذلك اللّه لا إله إلا هو.فخرج الرجل و هو يقول:اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.و في توحيد الصدوق عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر فقلت قوله عز و جل:يا إبليس،ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟فقال عليه السّلام اليد في كلام العرب القوة و العظمة.قال سبحانه:و السماء بنيناها بأيد،أي بقوة.و قال:أيدهم بروح منه،أي قواهم.و يقال لفلان عندي أيادي كثيرة أي فواصل و إحسان، و له عندي يد بيضاء أي نعمة.

ص: 203

و سأله عمر بن عبيد عن قوله سبحانه: وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى و ما ذلك الغضب؟فقال أبو جعفر هو العقاب يا عمر!أنه من زعم أن اللّه عز و جل زال من شيء،إلى شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين،إن اللّه لا يستفزه شيء و لا يغيره شيء،إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة عنه في مقام المناظرة مع أهل الشبه و الآراء الفاسدة.و كان يقول ما أنعم اللّه على عبد نعمة فشكرها إلا استوجب المزيد قبل أن يظهر شكره على لسانه،و قال ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل أو أكثر، و قال و اللّه لموت عالم أحب إلى إبليس من موت سبعين عابدا،و روى عنه بعض أصحابه فقال:قال لنا محمد بن علي:أيدخل أحدكم يده جيب صاحبه فيأخذ منها ما يريد و هو لا يعلم؟قلنا:لا يا ابن رسول اللّه!فقال:

اذهبوا فلستم اخواننا كما تزعمون.

و كان لا يمل من مجالسة الأخوان و يقول:بئس الأخ أخ يرعاك غنيا و يقطعك فقيرا.و لقد نص على إمامته أبوه علي بن الحسين عليه السّلام بحضور نفر من خلص الشيعة،كما ذكر في الكافي و غيره من كتب الحديث.و انتقل إلى جوار ربه و هو ابن سبع و خمسين سنة في أيام هشام،و قيل في أيام يزيد بن عبد الملك سنة 114 و قيل غير ذلك،و دفن في البقيع مع أبيه و عمه الحسن وجدته الصديقة عليهم السّلام.

ص: 204

جعفر الصادق

الإمام السادس من أئمة الشيعة

جعفر بن محمد الملقب بالصادق،ولد سنة ثلاث و ثمانين للهجرة، و انتقل إلى ربه سنة مائة و ثمان و أربعين،فمدة إمامته خمس و ثلاثون سنة، أو أقل من ذلك حسب اختلاف الروايات في سنة وفاته و ولادته.و عاش مع أبيه الباقر وجده زين العابدين أكثر من ثلاثين سنة،قضى شطرا منها مع جده و أبيه الباقر في بيت لا عهد له إلا بالمصائب و المحن و النوازل،جديد عهد بمأساة الدهر و كارثة الأيام و الليالي فاجعة كربلاء،و في صباه شاهد كارثة عمه زيد و ولده يحيى،و سمع انين المظلومين من شيعة آبائه الأطهار و عويل الأيتام،فاستقبل في طفولته النكبات و الأصوات المتعالية من الظلم و الجور و التنكيل بالصلحاء من عباد اللّه.

و عاش مع أبيه زمنا ليس بالقصير،يلقنه فيه علوم الدين و شؤون الدنيا، حتى بلغ فوق ما تبلغه طاقة الإنسان.و أجمع المؤرخون على أنه كان أعلم أهل زمانه و أورعهم و أنصحهم للّه و لأمة جده رسول اللّه و ملأت آثاره دنيا العرب و الإسلام.

قال الشهرستاني:كان أبو عبد اللّه الصادق ذا علم غزير في الدين

ص: 205

و أدب كامل في الحكمة،و زهد في الدنيا،و ورع تام عن الشهوات و قد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه ما تعرض للإمامة قط،و لا نازع أحدا في الخلافة،و من غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شطط،و من تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط،و من أنس باللّه استوحش من الناس.إلى أن قال:و برئ من القول بالرجعة و البدء و التناسخ و الغلو و الحلول و التشبيه و لا يحتاج الإمام الصادق إلى قول كاتب أو عالم أو مؤرخ،فهو غني عن كل ذلك،و في سيرته الطيبة و جهاده المتواصل في سبيل نشر رسالة الإسلام خير شاهد على ما ندعيه،و كل أئمة الشيعة هم الصفوة من الناس،و الخيرة من البشر،لم تعثر بهم قدم،و لا وجد لهم أخصامهم ما يشين،بالرغم من حرصهم على ذلك و عدائهم السافر لهم و لكن الظروف التي تهيأت للإمام الصادق لم تتهيأ لغيره،فمنذ بزغ فجره،و ابتدأ بنشر رسالته،بدأ الضعف يدب في جسم الدولة الأموية،و اشتعلت فيها الفتن،فاستغل أخصامهم هذه الظروف،فأعلنوا الثورة على حساب العلويين،تضليلا للرأي العام الإسلامي الذي كان يتحرق لما نزل بأهل هذا البيت من الكوارث و النوائب.

في هذا الظرف وجد الإمام بين الأمويين و أخصامهم،و كلاهما في أمس الحاجة إلى سكوته و رضاه.فالحزب الأموي الحاكم قد أحس بنتيجة ما سلف منهم مع آبائه،و الحزب الآخر قد اتخذ من حادثة الطف و ما تلاها من الحوادث على هذا البيت،سلاحا أمضى من السيف لتكتل المسلمين ضد العهد الأموي الجائر،ففي أواخر أيام تلك الدولة و أوائل أيام الدولة الجديدة استطاع الإمام الصادق أن يملأ الدنيا بآثاره،و يحيي أمة ما كان لها وجود في تاريخ الإسلام،لو لا جهاده و جهاد آبائه المتواصل في سبيل رسالة الإسلام.

و أنى اتجهت تسمع من يقول حدثني جعفر بن محمد،و هكذا كان إلى

ص: 206

أن انتهى عهد السفاح العباسي،و جاء عهد المنصور الدوانيقي و رسالته تزداد اتساعا،و اسمه يسير في أرجاء دنيا الإسلام العريضة بأسرع ما يكون من الخطى،فخافه المنصور و استدعاه إليه مرات عديدة،و هو حاقد عليه.

و لكن لم يجد السبيل إلى قتله،لأن الملايين من المسلمين يأخذون عنه معالم الدين،و كلهم يشهدون بأنه لم يفكر يوما من أيامه بأمر الخلافة، فبماذا يعتذر إليهم إن قتله؟كما كان يصنع بالأقربين من اسرته الثائرين عليه.

و الإمام لم يخلع طاعة،و لم يفارق جماعة المسلمين،و لا حدث نفسه بأمر الخلافة،لذلك فإن ما رواه بعض الرواة من أنه مات مسموما لا تؤيده النصوص القطعية و إن كان ممكنا.و جاء في التذكرة أن المنصور حج في سنة سبع و أربعين،و بعد انتهاء الحج قدم مدينة الرسول،فأمر وزيره الفضل بن الربيع أن يأتيه بجعفر بن محمد عليه السّلام و كان حاقدا عليه،قال الفضل فتغافلت عن ذلك،طمعا أن ينسى المنصور و تهدأ نفسه،فأعاد علي القول ثانيا و ثالثا،فلم أر بدا من أن أستدعيه فلما جاءنا الإمام،قلت له لقد أرسل إليك لأمر عظيم،و ما أظنك بناج منه،فلم يكن من الإمام إلا أن قال:لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم.ثم دخل على المنصور فسلم عليه،فلم يرد السلام،و قابله بما شاء له الحقد و الحسد و الطغيان و الجبروت،و قال له:اتخذك أهل الأمصار إماما يجبون إليك الزكاة،و تلحد في سلطاني و تبغيه الغوائل،قتلني اللّه إن لم أقتلك.فقال الإمام عليه السّلام:يا أمير المؤمنين، إن سليمان النبي أعطي فشكر،و أن أيوب ابتلي فصبر،و أن يوسف ظلم فغفر،فاقتد بأيهم شئت!فلم يجد الإمام بدا من مقابلته بهذا الأسلوب اللين الهادئ الذي هو من أبلغ ما يمكن أن يكون في مثل هذه الحالات و مع ذلك فهو ينطوي على الموعظة البالغة لقد قصد الإمام بذلك أن يلفت نظره إلى أن اللّه إذا أنعم على عباده استحق شكرهم،و أنت في أعظم نعم اللّه،و ليس من الشكر التنكيل بالأبرياء على الظنة و التهمة،و إذا كنت تراني بلاء عليك فاللّه

ص: 207

سبحانه إذا ابتلى عبدا من عباده لزمه الصبر لينال أجر الصابرين،و إذا ظلم العبد فالعفو أقرب للتقوى و اللّه مع المحسنين.و لم يكن الإمام عليه السّلام في هذا الأسلوب اللين يخاف على نفسه فحسب،و إنما كان يعظه أحيانا بمثل هذا الأسلوب أو أشد منه خوفا على شيعته و بني عمه و على عامة المسلمين.

فأطرق المنصور مليا،ثم رفع رأسه،و أدناه إليه و طيب نفسه،و دعا له بالخير و أجلسه على سريره،و مسح على لحيته بالغالية،و أجازه بالأموال و الهدايا النفيسة،ثم و دعه بكل إجلال و إكبار،و هكذا كان يصنع كلما استدعاه إليه.

و ذكر أبو نعيم في الحلية أن المنصور استدعى الإمام الصادق إليه يوما، فأجلسه إلى جانبه فوقع الذباب على وجه المنصور،و لم يزل يقع عليه حتى ضجر المنصور منه،فقال يا أبا عبد اللّه و كانت كنية الإمام الصادق،لم خلق اللّه الذباب؟فقال الصادق:ليذل به أنف الجبابرة!فوجم المنصور و أصابه انقباض.و يروي الرواة أن المنصور استدعاه إليه يوما فعاتبه على قطيعته له و قال له:لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟فأجاب عليه السّلام ليس لنا من أمر الدنيا ما نخافك عليه!و لا عندك من أمر الآخرة ما نرجوه منك و لا أنت في نعمة نهنئك بها،و لا في نقمة فنعزيك.

فقال المنصور:«تصحبنا لتنصحنا!»فقال له الإمام:«إن من يريد الدنيا لا ينصحك،و من يريد الآخرة لا يصحبك»فلم يكن الإمام في عظته هذه من اللين ما كان في سابقتها.كان في عظته هذه كأنه صاعقة على أهل الباطل و الظالمين،و أهل الدنيا،و كشف له في جوابه عن أن دنياه هذه ليس لنا فيها من نصيب،لأنها تقطع الصلة بينك و بين أهل الآخرة و أوضح له في هذا الجواب بأن من يريد الآخرة لا يصحبك،لأن أبوابها مغلقة دونك،و لا سبيل لك و لأتباعك إليها،ما دام الجور سبيلك و الباطل منهجك،و الحق من وراء ظهرك.

ص: 208

و قال لولده موسى عليه السّلام يا بني إن من مد عينه إلى مال غيره مات فقيرا، و من لم يرض بما قسم اللّه له اتهم اللّه في قضائه،و من استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه،و من كشف حجاب عورة غيره انكشفت عورات بيته، و من سل سيف البغي قتل فيه،و من حفر لأخيه بئرا أوقعه اللّه فيها،يا بني قل الحق و إن كان مرا لك و عليك.

و في مجالس المفيد عن كثير بن علقمة قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أوصني،فقال:أوصيك بتقوى اللّه،و الورع و العبادة و طول السجود،و أداء الأمانة و صدق الحديث،و حسن الجوار فبهذا جاءنا محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،صلوا في عشائركم،و عودوا مرضاكم و احضروا جنائزكم و كونوا لنا زينا،و لا تكونوا علينا شينا،حببونا إلى الناس و لا تبغضونا إليهم،جروا لنا كل مودة، و ادفعوا عنا كل شر،فما قيل فينا من خير فنحن أهله،و ما قيل فينا من شر فو اللّه ما نحن كذلك،لنا حق في كتاب اللّه،و قرابة من رسول اللّه،و ولادة طيبة،هكذا قولوا إلى الناس.

و وعظ رجلا فقال:لا يفقدك اللّه حيث أمرك،و لا يجدك حيث نهاك! فقال له الرجل:زدني!قال:لا أجد.

و في مجالس المفيد عن خيثمة قال:دخلت على أبي عبد اللّه أودعه، و أنا أريد الشخوص إلى المدينة،فقال:أبلغ موالينا السلام،و اوصهم بتقوى اللّه و العمل الصالح،و أن يعود صحيحهم مريضهم،وليعد غنيهم على فقيرهم و أن يشهد حيهم جنازة ميتهم،و أن يتلاقوا في بيوتهم و يتفاوضوا على الدين،فإن في ذلك حياة لأمرنا،رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا،و أعلمهم أنه لا يغني عنهم من اللّه شيئا إلا العمل الصالح،فإن ولايتنا لا تنال إلا بالورع،و إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره.

ص: 209

و قال عليه السّلام:الأخوان ثلاثة:مواس بنفسه،و آخر بماله،و هما الصادقان في الإخاء،و الآخر يأخذ منك البلغة،و يريدك لبعض اللذة،فلا تعده من أهل الثقة.

و لست بصدد ذكر آثاره عليه السّلام،و لقد كتب الكتاب و أكثروا في الإمام الصادق،و قل من استطاع أن يحيط بنواحي عظمته.

و لقد نص على إمامته أبوه الإمام الباقر كما ذكر في الكافي و غيره،كما نص على إمامة ولده موسى بن جعفر عليه السّلام و مات سنة ثمان و أربعين و مائة، و له من العمر خمس و ستون سنة،و أمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الخليفة الأول،و دفن في البقيع مع جده و أبيه وجدتهم فاطمة عليهم السّلام.

ص: 210

موسى الكاظم

الإمام السابع من أئمة الشيعة

موسى بن جعفر الملقب بالكاظم عليه السّلام ولد بالمدينة سنة مائة و ثمان و عشرين،و ذكر الرواة أن الإمام جعفر،ترك من الأولاد موسى،و محمد المعروف بالديباج لحسنه،و إسحق،و علي بن جعفر،و عبد اللّه الأفلح، و اسماعيل و إليه تنتسب الطائفة الاسماعيلية،و يحيى و العباس و غير هؤلاء من الأناث.و كانت وفاة الصادق بعد أن مضى على خلافة المنصور عشر سنين.

و كان للإمام موسى يوم ذاك من العمر عشرون سنة قضاها مع أبيه:

و رافق جميع الأدوار التي مر بها والده الإمام عليه السّلام و رأى المنزلة الرفيعة التي كان يحتلها بين المسلمين و كثرة الملتفين حوله ليأخذوا عنه معالم الدين، و من المعلوم أن المنصور لم يكن يعجبه أن يرى رجلا في سلطانه له مثل هذا الظهور،و لا سيما و أنه من بيت علي عليه السّلام صاحب الحق الشرعي،و لكنه لم ير بدا من الإبقاء عليه و الاحتفاظ بحياته،تحت الرقابة الشديدة،و الإمام يعلم ذلك،و يعلم أن الظروف التي وجد فيها الإمام،هي التي حالت بينه و بين ما كان يضمر له من التنكيل به أو قتله و كان من المفروض على الإمام

ص: 211

في مثل هذه الظروف أن يتكتم في أمر خلفه الجديد من بعده،فأوصى وصية عامة ظهرت لسائر الناس،بلغها الوالي في المدينة للمنصور،و دل الخاصة من أصحابه على إمامهم الجديد لعلمه أن المنصور سيبذل قسما كبيرا من إمكانياته للقضاء على أئمة هذا البيت.و يؤكد ذلك ما رواه أبو أيوب الجوزي قال:بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل،فدخلت عليه، و هو جالس على كرسي و بين يديه شمعة و في يده كتاب فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي و هو يبكي،و قال هذا كتاب محمد بن سليمان والي المدينة،يخبرني أن جعفرا قد مات،فإنا للّه و إنا إليه راجعون ثلاثا،و أين مثل جعفر،ثم قال لي اكتب فكتبت صدر الكتاب،ثم قال اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدمه و أضرب عنقه فرجع الجواب إليه أنه أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور،و محمد بن سليمان و عبد اللّه و حميده و موسى،فقال المنصور ليس إلى قتل هؤلاء سبيل.

و هذه الرواية تكشف لنا عن النوايا السيئة التي أضمرها المنصور لخليفة الإمام الصادق عليه السّلام و أنه سيتتبع خلفه و يضيق عليه مهما كلفه ذلك من ثمن و هذا أمر لمسه الإمام الصادق و أيقن بوقوعه و لذا أدخل المنصور و حاكم المدينة في وصيته،و أرشد الخواص من أصحابه إلى الإمام موسى كما أودع علم ذلك عند البعض من بنيه كعلي بن جعفر و أخيه إسحاق،و كلاهما يرويان عن أخيهما موسى عليه السّلام و ما ينسب إليهما من الروايات يعد من القسم الصحيح في عرف المحدثين في الغالب.

و في الإرشاد للمفيد عن المفضل بن عمر،قال كنت عند أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام:فدخل أبو إبراهيم ولده موسى عليه السّلام و هو غلام فقال أبو عبد اللّه استوصي به وضع أمره عند من تثق به من أصحابك.

و في الإرشاد عن عبد الرحمن بن الحجاج،قال دخلت على جعفر بن

ص: 212

محمد في منزله فإذا هو في مسجد له في داره و هو يدعو،و على يمينه موسى ابن جعفر يؤمن على دعائه،فقلت جعلني اللّه فداك قد عرفت انقطاعي إليك و خدمتي لك،فمن ولي الأمر من بعدك؟فقال يا عبد الرحمن أن موسى قد لبس الدرع و استوى عليه إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تؤكد إمامته بعد أبيه و في أكثرها يبدو على الإمام التخوف من إعلان هذا الأمر،و من هنا نعرف السبب في انتشار المذاهب في تلك الفترة.

فالإعلان عن الإمام الجديد لم يكن عاما،و أولاد الإمام الصادق كثيرون،و الشيعة ينتظرون خليفة الإمام ليأخذوا عنه معالم الدين، و الإمام عليه السّلام لم يرشد الناس إلى خليفته موسى بشكل يرفع الالتباس و يقطع أمل أهل الأطماع،و إنما أرشد إليه الخواص من شيعته و بنيه،و أوصاهم بالتكتم الشديد.فكان من المنتظر في مثل هذه الأحوال أن يرجع بعض الفئات من الشيعة لكل من يدعي الأمر من أولاد الإمام الصادق و فيهم من له البروز و الظهور،فرجع جماعة إلى عبد اللّه الأفطح،و آخرون إلى إسماعيل، و بلغ من تشتت أمر الشيعة أن افترقوا خمس فرق كما ذكر ذلك النوبختي في كتابه فرق الشيعة.

و لكن القائلين بإمامة موسى عليه السّلام هم خلص الشيعة و أعيانهم و ذوو البصائر و الدرجات الرفيعة منهم،و أهل العلوم و الفقه و النظر،و رجع إلى مقالتهم الكثير من الشيعة ممن كان قد رجع إلى أخويه عبد اللّه و إسماعيل كما ذكر النوبختي و غيره من كتاب الفرق.

و تدلنا الحوادث و الروايات أن حياة الأئمة عليهم السّلام كانت بلون واحد تغمرها الآلام و المصائب،فلا دلال في طفولة كما تشاء الطفولة،و لا نعيم في عيش،و لا راحة في شيخوخة.

استقبل الإمام موسى إمامته خائفا هو و شيعته الذين عرفوا بأمره و بقية

ص: 213

الشيعة من أصحاب أبيه كانوا ينشدون الحق و يطلبون إمامهم فلا يصلون إليه و لا يستطيع أن يدلهم على نفسه خوفا من أولئك الطغاة الجبارين.

و روى المفيد في إرشاده عن هشام بن سالم،قال:كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد اللّه عليه السّلام أنا و محمد بن النعمان صاحب الطاق،و الناس مجتمعون على عبد اللّه بن جعفر،ظنا منهم أنه صاحب الأمر بعد أبيه،فدخلنا عليه و الناس عنده،فسألناه عن الزكاة في كم تجب،فقال في مائتي درهم خمسة دراهم.فقلنا له ففي مائة!قال درهمان و نصف،قلنا و اللّه ما تقول المرجئة هذا فقال و اللّه ما أدري ما تقول المرجئة،قال فخرجنا ضلالا ما ندري إلى أين نتوجه،و إلى من نقصد فبينما نحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه يومي إلي بيده،فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر المنصور،و كان له بالمدينة جواسيس،ليعرف على من يجتمع إليه الناس،فيؤخذ و تضرب عنقه،فخفت أن يكون ذاك منهم،فقلت للأحول:تنحّ فاني خائف على نفسي و عليك،و إنما يريدني ليس يريدك.فتنحى الأحول عني بعيدا،و تبعت الشيخ و قد ظننت أني لا أقدر على التخلص منه.فما زلت أتبعه،و قد عزمت على الموت،حتى ورد بي باب أبي الحسن موسى،ثم خلاني و مضى،فإذا خادم على الباب فقال لي ادخل رحمك اللّه،فدخلت فإذا أبو الحسن موسى عليه السّلام،و مضى الراوي في روايته إلى أن قال:فقلت أفأنت الإمام بعد أبيك؟قال لا أقول ذلك!فقلت في نفسي لم أصب طريق المسألة،ثم قلت له أعليك إمام؟قال لا!قال فدخلني شيء لا يعلمه إلا اللّه إعظاما و تهيبا،ثم قال له:أسألك كما كنت أسأل أباك،قال سل و لا تذع فإن أذعت فهو الذبح،و بعد أن سأله عما يريد قال له إن شيعة أبيك ضلال، فالق إليهم هذا الأمر و ادعهم إليك،فقد أخذت علي الكتمان قال من أنست منهم رشدا فالق بهم و خذ عليهم الكتمان.

و مهما يكن الحال،فقد عاش بقية أيام المنصور و موسى الهادي

ص: 214

و المهدي العباسيين إلى أن كانت خلافة هارون الرشيد و مضى في هذه المدة ينشر رسالته و يجتمع عليه رواة الشيعة ممن كانوا مع أبيه و غيرهم.و في أيام الرشيد ظهر من أمره ما كان يخفي من قبل،فانتشر صيته و اتسع أمره و كثر الرواة عنه و ناظر أهل العقائد الفاسدة في أصول الدين و فروعه و كاد أن يتم له ما كان لأبيه فوشى به ابن أخيه علي بن إسماعيل إلى الرشيد فحبسه في البصرة و بغداد.

و كان يقول في دعائه:اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك و قد فعلت فلك الحمد على ذلك،و انقطع عليه السّلام إلى عبادة ربه، و أخيرا دس إليه الرشيد السم بواسطة أمير الحبس السندي بن شاهك.

و كانت وفاته سنة مائة و ثمانية و ثمانين،و له من العمر خمس و خمسون سنة،و قيل أكثر من ذلك و دفن في مقابر قريش حيث قبره الآن في المدينة المعروفة بالكاظمية.

ص: 215

علي الرضا

الإمام الثامن من أئمة الشيعة

علي بن موسى الرضا عليه السّلام و ذكر المسعودي في مروج الذهب أن الإمام موسى عليه السّلام قضى سنة ست و ثمانين بعد المائة،و كان قد مضى على خلافة الرشيد أربع عشرة سنة أو أكثر من ذلك،و أن إمامة الرضا بعد أبيه عشرون سنة و سنه يوم وفاته خمس و خمسون سنة كما روى ذلك المفيد.

عاش مع أبيه خمسا و ثلاثين سنة،و القسم الوافر منها كان في خلافة هارون و الإمام موسى عليه السّلام في حبسه بين البصرة و بغداد مكبوت المشاعر لا يستطيع أن يجهر بالحق و يقوم بأداء رسالته،و ظل في تلك المدة تحت غطاء من الأحزان و الألم،لم تثر له ثائرة و لم يجهر بالخلاف على أحد من الحكام،تجتمع إليه الحفنة بعد الحفنة من أصحاب أبيه،تحت ستار من التقية،و يشاهد ما يحز من نفسه الألم مصارع الأقربين من بني عمه و آل أبي طالب،و الشك يعترض الكثير من شيعة آبائه فيرجع بعضهم إلى غير الإمام الشرعي،و البعض الآخر تصارعه الحيرة،و الحكام و أعوانهم البرامكة يضللون الرأي العام الشيعي في أمر الإمام موسى عليه السّلام ليرجعوا على إمامته، و الإمام الرضا يشاهد كل ذلك و لكنه لا يملك أن يفصح عما في نفسه

ص: 216

ليسترشد به الضال و يهتدي إليه الحائر فيلتزم جانب الهدوء و التستر خوفا من سلطان الرشيد،فما أشبه أيامه هذه بأيام من تقدمه من آبائه،تاريخ يشبه بعضه بعضا،و سلسلة من الكوارث يتصل طرف منها بعلي عليه السّلام و طرفها الآخر بآخر أئمة هذا البيت.و هكذا بقي الإمام الثامن إلى أن كانت فاجعة أبيه و هو على أكتاف أربعة من الحمالين من السجن إلى الشوارع التي تحتشد فيها المارة إلى الجسر الذي يربط كلا من طرفي المدينة بالآخر،و الحمالون ينادون بموته بلهجة تنم عن الامتهان و التحقير حتى لا يبقى لأحد من الشيعة المتسترين أمل في حياة إمامهم و خروجه من سجنه.

و عاش الإمام بعد أبيه عشرين سنة،قضى شطرا منها فيما بقي من أيام الرشيد،و هو الإمام بعد أبيه،و انحرف كثير من الشيعة في آرائهم،و كثرت المذاهب و تعددت الفرق،فبين من رجع في الإمامة إلى غيره من اخوانه، و بين من قال بأن الإمام غائب و سيظهر بعد حين إلى الناس،و فرقة من الشيعة قالت بإمامته و هم الخواص الذين سمعوا من أبيه النص عليه،و بدأ أصحابه يتصلون به و يدعون الشيعة إلى إمامته فرجع إليه جماعة من الشيعة و ظهر أمره بين أصحاب أبيه،و قام بأداء رسالته،ينشر تعاليم الإسلام و يناضل أهل الشبه و العقائد الفاسدة على خوف و وجل شديدين.و عاش السنين الثمانية بعد إمامته حتى تقلص ظل الرشيد،و كانت أيام ولديه و ما وقع فيها من أحداث أدت إلى خلافة المأمون العباسي و في هذا الظرف تهيأ له الجو المناسب لأداء رسالته كما يريد،و قد جاء المأمون في هذه الدولة كما جاء قبله عمر بن عبد العزيز في أيام بني أمية،و لم يكن المأمون في سيرته يشبه أحدا ممن تقدمه من البيت العباسي،الذي أنسى الناس ظلم الأمويين،و أصبح يجري على لسان أكثر الناس قول القائل:

يا ليت جور بني مروان دام لنا و ليت عدل بني العباس في النار

ص: 217

فعلي عنده أفضل الخلق بعد الرسول،و أبناء علي هم الصفوة من بعده، لهم حق في كتاب اللّه،و قرابة من رسول اللّه و ولادة طيبة،و لقد صاهر عليا عليه السّلام و ولده محمدا بعد موت أبيه الرضا عليه السّلام و كان يدعو الناس إليه و يجتمع إليه العلماء للمناظرة،فانبسط التشيع في أيامه و رجع إلى إمامة الرضا أكثر الضالين بعد وفاة أبيه وجده عليه السّلام،و امتدت جذور التشيع إلى أعضاء الدولة فكان الفضل بن سهل وزير المأمون شيعيا و قائده طاهر بن الحسين يميل إلى التشيع،و غيرهما كثير من أعيان الدولة.و كثر الموالون لأهل البيت و حقنت دماء الشيعة،و كان عليه السّلام شديدا على بني عمه و اخوته الذين استغلوا لين المأمون و حسن صنيعه مع الإمام،فوثب محمد بن إبراهيم من أولاد الحسن عليه السّلام في الكوفة و استفحل أمره،و وثب في مكة الحسين بن الحسن الأفطح و لم يبق قطر إلا و فيه علوي يمني نفسه الأمارة و يمنيه الناس بالوثبة.و كان من جملة الثائرين اخوه زيد،فظفر به المأمون و بعث به إلى أخيه علي من غير أن يمسه بأذى،فوبخه الإمام و أنكر عليه هذا الأمر و كان مما قال له سوأة لك يا زيد!ما أنت قائل لرسول اللّه إذا سفكت الدماء و أخفت السبل و أخذت المال من غير حله!غرك حمقاء أهل الكوفة! و قول رسول اللّه أن فاطمة أحصنت فرجها فحرم اللّه ذريتها على النار،إن هذا لمن خرج من بطنها مثل الحسين و الحسين لا لي و لك،و اللّه ما نالوا ذلك إلا بطاعة اللّه،فإن أردت أن تنال بمعصية اللّه ما نالوه بطاعة اللّه إنك إذن لأكرم على اللّه منهم.

و يروي بعض الرواة أن المأمون لما رأى الإمام يعظم في أعين الناس، و التشيع يزداد انتشارا و اتساعا،حتى دب التشيع في أركان الدولة،أحس أن الخطر قد أحدق به إن هو مضى مع الرضا كما كان،و رأى في الوقت نفسه أن الأقربين إليه من أسرته قد أعلنوا التمرد و العصيان على مخافة أن ينتقل الأمر من أيديهم إلى ولد علي عليه السّلام فاستدعى الإمام إلى مقر ملكه خراسان،

ص: 218

و أظهر أنه سيوليه الأمر من بعده ليكون الإمام تحت رقابته في العاصمة التي اتخذها مقرا لعرشه.

فانتقل الإمام إليها و كانت ولاية العهد على كره من الإمام عليه السّلام و كان موته مسموما بعد ذلك كما تزعم هذه الطائفة من الأخبار،و ليس في التاريخ ما يؤيد هذا الرأي،و أنه استدعاه إليه نتيجة لتلك المؤثرات التي أشرنا إليها،فيمكن و ليس بالبعيد أن يكون ذلك نتيجة لحسن نواياه،و لأنه عرف الحق لأهله و تنكر لسيرة الماضين من آبائه الذين أمعنوا في ظلم أهل البيت قتلا و سما و تشريدا.

كما لم يثبت التاريخ أن المأمون كان يتصنع في تقريب الإمام لم يثبت كونه مات بعنب مسموم أهداه إياه المأمون و كانت به نهايته.

و قد نص على إمامته الإمام موسى عليه السّلام و دل عليه الأعيان من شيعته و أوصاهم كما ذكرنا بالتكتم خوفا عليه من الرشيد.

روى المفيد في إرشاده عن داود الرقي قال:قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام جعلت فداك إني قد كبرت سني فخذ بيدي و أنقذني من النار من صاحبنا بعدك؟قال فأشار إلى ابنه أبي الحسن الرضا فقال:هذا صاحبكم بعدي، و في الإرشاد عن داود بن سليمان قال:قلت لأبي إبراهيم أني أخاف أن يحدث حدث و لا ألقاك فأخبرني من الإمام بعدك؟فقال هذا و أشار إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام و غيرها كثير كما ذكر المحدثون في مجاميع الحديث كالكافي و غيره.

و كانت وفاته بطوس من أرض خراسان حيث قبره الآن يقصده الشيعة من جميع الأقطار و أمه يقال لها أم البنين.

ص: 219

محمد الجواد

الإمام التاسع من أئمة الشيعة

الإمام محمد بن علي الجواد عليه السّلام،قال النوبختي في كتابه فرق الشيعة:

ولد محمد بن علي الجواد سنة خمس و تسعين و مائة،و أشخصه المعتصم في خلافته إلى بغداد لليلتين بقيتا من المحرم من سنة عشرين و مايتين،و توفي بها في آخر ذي القعدة،و دفن في مقبرة قريش عند جده الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام و له من العمر خمس و عشرون سنة و شهران و كانت إمامته سبع عشرة سنة.

قد يختلج الشك أذهان البعض من الناس في إمامة هذا الشاب الذي فقد والده و استقبل في صباه أمر الإمامة،في عصر كان الساسة فيه يبذلون قسما من إمكانياتهم للحط من مقام أهل البيت،لأنهم يرون في بيت علي وحده المنافس الوحيد لسلطانهم و لم تجتمع العناصر التي تؤهل للخلافة في بيت من بيوت المسلمين كما اجتمعت لأهل هذا البيت،نسب رفيع و جهاد في سبيل اللّه متواصل،و إعراض عن الدنيا و مغرياتها،و وصية من رسول اللّه و عتها أجيال و أجيال،كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،و علم يتدفق كالسيل صغيرهم و كبيرهم فيه سواء،بهذه الخصائص

ص: 220

ملكوا القلوب،و استولوا على الألباب رغم الصعاب التي اعترضتهم، و الستار الحديدي الذي بنته السلطات بينهم و بين الناس:و يأبى اللّه إلا أن يتم نوره و لو كره المشركون.

عناصر لم تكن إلا في بيت محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،بيت الإلهام و الحكمة و القرآن و المعجزة.بيت كان وحده ينافس الجبابرة و عباد الشهوات،فلا غرابة إذا كان سليل هذا البيت،و هو لم يتجاوز العقد الأول من عمره إماما للشيعة بمشيئة اللّه،كما كان عيسى حين ولادته نبيا بإذن اللّه.و لقد كانت الأسرة الحاكمة في زمانه تعمل بكل ما لديها للتخلص منه أو إهماله،فثارت ثائرتهم على المأمون الذي أحسن صحبته كما أحسن لأبيه من قبيل،يريدون بذلك إقصاءه و الحط من مقامه الرفيع في نفس المأمون،مخافة أن يكون له من ولاية العهد ما كان لأبيه محتجين عليه بالخروج على سيرة آبائه و أسلافه مع أبناء علي عليه السّلام فرد عليهم بقوله:إن ما كان يفعله آبائي مع أهل هذا البيت،فقد كانوا به قاطعين للرحم و أعوذ باللّه من ذلك.

و اللّه ما ندمت على استخلاف الرضا،و لقد سألته أن يقوم بالأمر و أنزعه عن نفسي،فأبى و كان أمر اللّه قدرا مقدورا،أما أبو جعفر محمد بن علي عليه السّلام فقد اخترته لبروزه على كافة أهل الفضل في علمه و فضله مع صغر سنه و الإعجوبة فيه ذلك،و أنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته من فضله فيعلموا أن الرأي ما رأيت.و ألحت أسرة الخليفة على إقصاء الإمام الجواد عليه السّلام،و أخيرا و بعد جميع محاولاتهم الفاشلة،استقر رأيهم أن يجمعوا له العلماء للمناظرة أملا منهم أن يسأل فلا يجيب،و بذلك يتم لهم ما يريدون،فأجابهم المأمون إلى ذلك بكل انطلاق و مذ استقر المجلس الحافل بالعلماء و أعيان الدولة و مختلف الطبقات،تقدم يحيى بن أكثم إلى الإمام و سأله عمن قتل الصيد في الحرم و هو يأمل أن الجواب سيستعصي

ص: 221

على الإمام،فاستوضح الإمام سؤاله بشكل يتضمن عشرات الأسئلة،فلم يدر كيف يجيب.ثم سأله الإمام ثانيا فوجم حائرا،فكانوا في اقتراحهم هذا قد ضاعفوا منزلة الإمام في نفس المأمون.و بقي الإمام عليه السّلام مدة خلافة المأمون ينشر أحكام اللّه بين عباده،و يروي للناس الفرائض و السنن، و يناضل أهل الآراء الفاسدة إلى أن رجع إلى إمامته الكثير من الشيعة.

و اتسعت سمعته في دنيا المسلمين و زوجه المأمون من ابنته،و بعد انتقال الخلافة إلى المعتصم العباسي استدعاه من المدينة إلى بغداد و أقام بها نحوا من سنة،و انتقل إلى ربه و قد نص على إمامته الإمام الرضا عليه السّلام، روى المفيد في إرشاده عن صفوان بن يحيى قال:قلت للرضا عليه السّلام قد كنا نسألك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر،فكنت تقول سيهب اللّه لي غلاما، و قد وهبه لك و أقر عيوننا به،فلا أرانا اللّه يومك،فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السّلام و هو قائم بين يديه،فقلت:جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين،قال:و ما يضره من ذلك؟قد قام عيسى بالحجة و هو ابن أقل من ثلاث سنين!و في الكافي و الإرشاد و الوافي روايات كثيرة عن أبيه الرضا تنص على إمامته.

ص: 222

علي الهادي

الإمام العاشر من أئمة الشيعة

علي بن محمد الملقب بالهادي،ولد الإمام الهادي في المدينة سنة مايتين و اثنتي عشرة للهجرة،و كان له من العمر يوم توفي أبوه ثمان سنوات، و أشخصه المتوكل إلى سامراء سنة ثلاث و ثلاثين،و كان له من العمر إحدى و عشرون سنة.و بقي في سامراء إلى أربع و خمسين و مائتين،فيكون عمره يوم توفي اثنين و أربعين سنة أو أقل من ذلك،كما ذكر النوبختي و المفيد و غيرهما.

و قد نص على إمامته أبوه قبل وفاته،و في الإرشاد عن إسماعيل بن مهران قال:لما خرج أبو جعفر من المدينة إلى بغداد في المرة الأولى، قلت له جعلت فداك،إني أخاف عليك من هذا الوجه،فإلى من الأمر بعدك؟فرجع إلي بوجهه ضاحكا و قال ليس كما ظننت في هذه السنة.

فلما استدعاه المعتصم في الثانية سرت إليه فقلت له جعلت فداك،أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟فبكى حتى اخضلت لحيته،ثم التفت إلي فقال عند هذه تخاف علي..الأمر بعدي إلى ابني علي،و رواه الكليني في أصول الكافي،و قاله المفيد في إرشاده.

ص: 223

و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا إن أثبتناها هنا ضاق بها الكتاب.

و في اجتماع العصابة على إمامة أبي الحسن عليه السّلام و عدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتبس فيه الأمر،اغنانا عن إيراد الأخبار على التفصيل.و في فرق الشيعة للنوبختي:أن أصحاب محمد بن علي عليه السّلام قالوا بإمامة ابنه علي بن محمد فلم يزالوا على ذلك سوى نفر منهم يسير عدلوا إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد ثم رفضوا إمامة موسى و رجعوا إلى امامة علي بن محمد الهادي عليه السّلام و لم يزالوا على ذلك حتى كانت وفاته بسر من رأى.

فاستقبل الإمامة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره كما استقبلها أبوه من قبل،و بقي في المدينة إلى أن بلغ العشرين أو أكثر منهلا عذبا لرواد العلم، و موئلا لشيعة آبائه الكرام يأخذون عنه أحكام الدين حتى اتسعت شهرته في إيران و العراق و سائر البلاد الإسلامية يرجع إليه القريب منه،و يكتب إليه البعيد عنه في مشاكلهم،و عاش زمنا على هذه الحالة.

و رواية التذكرة تدلنا على مقدار عظمته في النفوس،قال إن المتوكل بعد أن عرف ميل الناس إليه خاف منه،فدعا يحيى بن هرثمة،و قال:إذهب إلى المدينة و انظر حاله و أشخصه إلينا،قال يحيى:فذهبت إلى المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما،ما سمع الناس بمثله خوفا على علي الهادي،و قامت الدنيا على ساق لأنه كان كثير الإحسان إلى الناس،معرضا عن الدنيا،فجعلت أسكتهم و أحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه،و أنه لا بأس عليه حتى هدأت الحالة،و كان المتوكل معروفا بالعداء لأهل البيت، و بلغ به العداء كما ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 236،و ابن جرير الطبري،أنه حرث قبر الحسين،و منع الشيعة من زيارته و نكل بهم و فرض عليهم الضرائب إن هم استمروا على زيارة الحسين عليه السّلام و إلى ذلك يشير ابن السكيت في أبياته التالية:

ص: 224

تاللّه إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله فغدا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما

و قيل أن هذه الأبيات للبسامي،و أيا كان قائلها فهي تعطينا صورة صادقة عن مبلغ ما كان يضمره خليفة المسلمين لأهل بيت النبي من العداء و النصب فلا غرابة إذا تحامل على الإمام الهادي و هو معاصر له و قد يتخوف منه على سلطانه.

و الشيعة في أيامه،أكثر منهم في الأدوار السالفة و كلهم قال بإمامته، و كانت الحاشية المحيطة بالمتوكل تدين بالنصب و العداء لأهل البيت، كعلي بن الجهم،و محمد بن داود الهاشمي،و أبو السمط،فزينوا له الوقيعة بالإمام،و خوفوه من كثرة الشيعة و اتساع سمعته،و ما زالوا به حتى استدعاه إلى سامراء سنة ثلاث و ثلاثين،فكان الإمام تحت رقابته،و منع الناس من الإتصال به.خلا نفر من أصحابه كانوا يأتونه متسترين،فيأخذون عنه، و يبلغوا من لا يقدر على الوصول إليه،و يكتبون بما يأخذون لأهل الأمصار النائية،و في المجلد الثاني من مروج الذهب:

إن جماعة من حاشية المتوكل سعوا بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل،و قالوا له أن في منزله سلاحا و كتبا و غيرهما،فوجه إليه ليلا عددا كبيرا من الأتراك و غيرهم هجموا عليه في منزله على حين غفلة،فوجدوه في بيت وحده مغلق عليه،و عليه مدرعة من الشعر،و ليس في البيت شيء من الأثاث و الفراش سوى الرمل و الجص،و على رأسه ملحفة من الصوف متوجها إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد،فأخذ على ما وجد عليه،و حمل إلى المتوكل في جوف الليل،فمثل بين يديه و المتوكل يشرب و في يده الكأس...

ص: 225

فلما رآه أعظمه و أجلسه إلى جنبه،و لم يكن في منزله شيء مما قيل فيه،و لم يكن على حالة يتعلل بها عليه،فناوله المتوكل الكأس الذي بيده فقال الإمام يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي و دمي قط،فاعفني منه فعفاه.

ثم قال له أنشدني شعرا أستحسنه فاعتذر الإمام بقلة روايته للشعر و خصوصا إذا كان من النوع الذي يستحسنه المتوكل في وصف الغلمان و الخمر و الجواري،و لكن الجبار ألح في طلبه،فأنشده الإمام عليه السّلام:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل

و استنزلوا بعد عز من معاقلهم فاودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود ينتقل

و استمر الإمام ينشد المتوكل شعرا من هذا النوع،حتى خاف عليه الحاضرون من بطشه.

لقد فشل الساعون بدسيستهم على الإمام عليه السّلام و لم ير المتوكل مجالا للتنكيل به.فأراد أن يحقره في مجلس يضم حاشيته و ندماءه السكارى، فناوله كأسا كان قد أعدها لنفسه و هو يعلم أن الإمام يحارب الخمر كما يحارب جميع المنكرات و يرى أن شارب الخمر كعابد الوثن،كما روي ذلك عن آبائه واحدا بعد واحد عن النبي عن ربه.و بعد أن يئس منه عدل في تحديه إلى لون آخر،فاستنشده الشعر الذي يلتذ بسماعه،و لم يكن يحسب أن الإمام سينزل عليه تلك الصواعق،و يصفعه بتلك العظات البالغات، و يلمسه بكلتا يديه ما يكون من أمره و أمر غيره من الجبابرة العاتين عبيد الشهوات و الأهواء،أراد المتوكل أن يصغر من أمر الإمام فكبر في نفوس الملايين من الناس من حيث لا يقصد فصور له الإمام حالة الجبابرة و السلاطين بعد قليل الزمن،يسألون فلا يجيبون،فيفصح القبر عن سوء حالهم،و قبح مصيرهم.التيجان يرثها قوم آخرون،و الوجوه الناعمة يعبث

ص: 226

فيها الدود و الحشرات،و الأموال تنتقل إلى أعدائهم،و القصور العالية يسكنها قوم آخرون و بالتالي ستكون عبرة للأجيال.

تلك عظة من عظات القرآن قصها اللّه على نبيه لتكون عبرة لأهل الدنيا، صاغها الإمام شعرا،نزولا عند رغبة المتوكل فأبكاه بها و أبكى حاشيته، و انصرف الإمام من مجلسه مشيعا بكل حفاوة و إكرام،و ما زال الإمام الهادي في أيام المتوكل عرضة للأذى و الإساءة،قضى الأعوام في السجون بين حين و آخر،و انتقل إلى ربه الكريم راضيا مرضيا في عهد المعتز العباسي سنة مائتين و أربع و خمسين،و قيل اثنين و خمسين و نص على إمامة ولده الحسن العسكري من بعده كما فعل آباؤه من قبله.

ص: 227

الحسن العسكري

الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة

الحسن بن علي الملقب بالعسكري عليه السّلام،قال النوبختي و المفيد و غيرهما،أن الحسن بن علي عليه السّلام ولد سنة اثنين و ثلاثين و مايتين،و توفي سنة ستين و مايتين،و إذا رجعنا إلى وفاة أبيه عليه السّلام سنة أربع و خمسين،تكون إمامته ست سنين،و لعل السبب فيما غلب عليه من اللقب،هو أن الدار التي كان يسكنها مع أبيه في سر من رأى تقع في محلة أسمها العسكر كما جاء في بعض كتب الحديث.

عاش مع أبيه اثنين و عشرين سنة،كان القسم الوافر منها في سامراء مع المتوكل و المعتز العباسيين و لحقه من الأذى ما لحق بأبيه في جوار المتوكل،و بعد وفاة أبيه قام بأعباء الإمامة،و قال بإمامته أكثر الشيعة و رجع إليه عامتهم سوى نفر يسير قالوا بإمامة أخيه جعفر،المعروف عند الشيعة و جماعة من المحدثين بالكذاب و الموصوف كما جاء في كتب التاريخ بالاستهتار في دينه،و كانت الدعوة إلى إمامته عن طريق السلطة الحاكمة في زمانه،و مع ذلك لم يرجع إليه و لا اطمأن به أحد من الشيعة سوى من ذكرنا،و في الإرشاد عن الحسن بن محمد و محمد بن يحيى و غيرهما قالوا:

ص: 228

جرى في مجلس أحمد بن عبيد اللّه ابن الخاقان يوما ذكر العلوية و مذهبهم، و كان أحمد بن عبيد اللّه شديد التعصب و الانحراف عن أهل البيت،فقال ما رأيت و ما عرفت بسر من رأى رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد في هديه و سكونه و نبله و كبرته عند أهل بيته و بني هاشم كافة و تقديمهم إياه على ذوي السن و الخطر،و كذلك كانت حاله عند القواد و الوزراء و عامة الناس،ثم ذكر حديثا طويلا حكاه أحمد بن عبيد اللّه عن أبيه استعرض فيه ما كان لأبي محمد العسكري من مكانة عالية عند العلماء و الوزراء و جميع الطبقات.و استعرض أيضا ما كان عليه أخوه جعفر من الفسق و الخلاعة، و ذكر في الحديث نفسه ما كان يبذله جعفر لحاشية الخليفة من الأموال الكثيرة و كيف كان يتملق للسلطان،كي يحمل الشيعة على القول بإمامته.

و أن عبيد اللّه قال له يوما و قد جاء يستعين به على الدعاية له:يا أحمق إن السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك و أخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له،فإن كنت عند شيعة أبيك و أخيك إماما فلا حاجة لك إلى السلطان و غيره،و إن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بالسلطان و غيره، و الحديث طويل نقلنا منه اليسير لبيان ما كان للإمام عليه السّلام عند جميع الطبقات من المنزلة الرفيعة،و لأجل ذلك كان تحت الرقابة الشديدة و حالوا بينه و بين الاتصال بشيعة آبائه،و مع كل هذه المحاولات التي كانت تقوم بها السلطة كان التشيع في عصره قد اتسع و امتد إلى أكثر المدن و العواصم،و كانت مدينة قم في عهده و عهد أبيه من العواصم الشيعية الكبرى،بالإضافة إلى سامراء و بغداد و المدائن و الكوفة و غيرها من المدن و العواصم التي كانت تضم عددا كبيرا من الشيعة،يشكل مجموعة تتجاوز الملايين في ذلك العصر و كانوا على اتصال دائم بالإمام العسكري.و قد نص على إمامته أبوه قبل وفاته.روي في أصول الكافي عن علي بن عمر النوفلي أنه قال:كنت مع أبي الحسن في صحن داره فمر بنا محمد ابنه،فقلت له جعلت فداك هذا

ص: 229

صاحبنا بعدك؟فقال لا!صاحبكم بعدي الحسن.و في الكافي عن علي بن مهزيار قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام إذا كان كون و أعوذ باللّه فإلى من؟قال عهدي إلى الأكبر من ولدي!و كان الحسن أكبر ولده،و الأخبار في أصول الكافي و غيره كثيرة،و كلها تفيد بصراحة تامة أن الإمام بعد علي أبي الحسن الهادي ولده الحسن العسكري عليه السّلام و قد انتقل إلى ربه في خلافة المعتمد العباسي سنة ستين و مايتين و دفن مع أبيه في سر من رأى.

ص: 230

المهدي محمد بن الحسن

الإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة

محمد بن الحسن الملقب بالمهدي،ولد في النصف من شعبان سنة خمس و خمسين و مايتين و عاش مع أبيه خمس سنين،و قد أخفى أبوه أمره إلا عن نفر يسير من خاصته،و لذا لم يعرف أكثر العامة أن له ولدا و افترق الشيعة بعده فرقا كثيرة،و السلطة الحاكمة يوم ذاك هاجمت دار أبي محمد الحسن عليه السّلام و وضعت عليه الرقابة و فتشته تفتيشا دقيقا للقبض على خليفته الجديد،و أخيرا أصدرت المراسيم بأن إمام الشيعة قد مات و لا خلف له، و انحصر إرثه بنظر السلطة الحاكمة بأخيه جعفر،و كان صنيعة الحاكم فحاولت السلطة إرجاع الشيعة إلى إمامته ليتم لها القضاء على عقيدة التشيع لأهل البيت،و لكن الخواص من الشيعة الذين سمعوا النص عليه من أبيه و شاهدوه بأعينهم بين يدي أبيه في خلواته،ظلوا متمسكين بولائه و عملوا تحت ستار من التقية لإرجاع الشيعة إليه.و ساعدهم على ذلك ما نقله المحدثون عن أئمة الشيعة من إمامة الثاني عشر،و أنه ابن الإمام العسكري.

و عدم توفر شروط الإمامة في جعفر بن علي المستهتر الخليع صنيعة الحكام في عصره لهذا و لما هو المعروف من أصول الشيعة المأخوذة عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم

ص: 231

و الأئمة من بعده،أن الإمام المعصوم الحافظ للشريعة لا بد من وجوده في كل عصر و لا تخلو منه الأرض،و أنه خاتمة خلفاء النبي الإثني عشر كما روي ذلك بالطرق الصحيحة،لجميع هذه الإعتبارات بقي العدد الأكبر من الشيعة متمسكا بهذه الفكرة،حتى رجع جمهورهم إليها،و قالوا بإمامته، و بإمامته تنتهي سلسلة الخلفاء الإثني عشر من ذرية النبي كما نص على ذلك مرات عديدة.

و قد أصبح اسم الشيعة الإمامية مختصا بمن قال بإمامتهم على الترتيب الذي ذكرناه.فمن زاد واحدا أو نقص لا يصدق عليه هذا الاسم.

كما و أن الفرق التي كانت تفرضها السياسة،و الضغط الشديد على الأئمة حتى اضطرهم إلى التستر و أدى تسترهم إلى رجوع صعفاء الشيعة إلى غير الإمام الشرعي هؤلاء لا يدخلون في اسم الشيعة اليوم و إذا تحدثنا عن عقائد الشيعة أو تحدث غيرنا عن ذلك فإنما يراد الشيعة الإمامية.

و أعداء الشيعة كانوا لا يزالون يدسون على الشيعة بسبب ما يرونه من الشذوذ في معتقدات الفرق التي كانت تدين بولاء أهل البيت و انتحلت لنفسها مذهبا لا يتفق مع قواعد الإسلام،و لم يكتفوا بذلك حتى اتخذوا من عقيدة الشيعة بإمامة الثاني عشر سلاحا يطعنون به عقيدة الإمامية،مع أن أحاديث المهدي ليست من مختصات الإمامية بل هي متواترة عند جميع فرق المسلمين و دونتها طوائف كثيرة من أئمة نقلة الحديث في كتبهم حتى أصبحت عقيدة لطوائف من المسلمين من أيام محمد بن الحنفية إلى زمن متأخر عن الإمام الثاني عشر كما يظهر ذلك من الكتب التي تعنى بالفرق الإسلامية.

و من رجع إلى عقيدة الشيعة في الإمامة،و كيف انتهت إلى الثاني عشر لوجد ما يكفي لرد هذا العدوان.

ص: 232

إن النبي الكريم الذي لا ينطق عن هوى في نفسه و لا يقول إلا ما يوحى إليه من ربه،نص على الأئمة الإثني عشر بأحاديث كثيرة بعضها صريح فيما تدعيه الإمامية،و بعضها الآخر و إن كان مطلقا،إلا أنه لا ينطبق إلا على ما يقول به الشيعة.و المتتبع يرى ارتباكا شديدا من شراح السنة في الخلفاء الإثني عشر المعنيين بهذه الأحاديث،و هل يساعدنا المنطق السليم على تفسير خلفائه الإثني عشر بخلفاء بني أمية و فيهم يزيد بن معاوية،و الوليد الذي جعل القرآن غرضا لنباله،و أمثال هذين ممن يشهد التاريخ باستهتارهم و خروجهم على مبادئ الإسلام و مقدساته،أو خلفاء بني العباس الذين أسرفوا في الظلم و العدوان و الاستهتار بالقيم و المقدسات و أفسحوا المجال للترحم على عهد أسلافهم الأمويين و قال أحد الشعراء معبرا عن مدى الاستياء و التذمر من جور العباسيين:

يا ليت جور بني مروان دام لنا و ليت عدل بني العباس في النار

و مهما يكن الحال فالشيعة على أصولهم في الخلافة الإسلامية مرتاحون من كل هذه الإعتبارات و التأويلات.لأنهم يقولون بعصمة الأوصياء و الأنبياء،و القرآن الكريم يقول: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد نص الرسول على الأئمة بعددهم و أسمائهم كما أوحى إليه من ربه،و نص كل واحد منهم على إمامة من يليه.

فمن النصوص الخاصة على إمامته ما رواه الصدوق و غيره عن أبي هاشم الجعفري،قال:قلت لأبي محمد عليه السّلام جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك.

فقال:سل.قلت:سيدي هل لك ولد؟فقال:نعم،قال:فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟قال:بالمدينة!و في الكافي عن عمر الأهوازي، قال:أراني محمد ابنه و قال هذا صاحبكم بعدي.

و ذكر الشيخ الطوسي في كتابه المسمى بالغيبة و عشرات الأحاديث

ص: 233

الصريحة بإمامته و تجد في غير الكتاب المذكور عددا كبيرا من الروايات التي تنص على أن الإمام الثاني عشر هو محمد بن الحسن العسكري،و أنه المهدي الذي عنته أحاديث المهدي المنتشرة بين أحاديث السنة و الشيعة.

و كما نصت الروايات عن النبي و أوصيائه الأحد عشر على إمامته بعد أبيه كذلك نصت على حياته الطويلة و خروجه في الظرف المناسب،ليميت الباطل و يحيي الحق،و تلك آية من آيات اللّه وقع نظيرها من قبل كما حكى سبحانه من أمر نوح و أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما،و لقد كذّب اللّه سبحانه اليهود فيما ادعوه من صلب المسيح،فقال: ...وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فموته لم يقع بمقتضى هذه الآية،و لم يقتل بمقتضى الآية السابقة.و قوله سبحانه إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ لا يراد من الوفاة هنا الموت و على تقديره فلا ظهور فيها على أنه وقع،فلعله سيقع فيما بعد ذلك،و العطف بالواو لا يفيد الترتيب.و لو أغمضنا النظر عن حياة عيسى،ففيما حكاه اللّه سبحانه من قصة نوح مع قومه خير شاهد على وقوع ما يخالف المألوف من حياة الإنسان.و ليس في طبيعة الإنسان ما يمنع من طول حياته،و في الأحاديث و التاريخ قصص للمعمرين ذكرها أكثر المؤرخين،و كأنها من الحقائق التي لا تفترضها شبهات.

منهم لقمان بن عاد و قد عاش ما يزيد على خمسماية سنة على أقل التقادير،و أدرك سبعة أنسر في حياته و عاش حتى أدرك آخرها(لبد)و في المثل السائر(طال الأمد على لبد)و قال فيه الأعشى:

لنفسك إذ تختار سبعة أنسر إذا ما مضى نسر خلوت إلى نسر

و قال لأدناهن إذ حل ريشه هلكت و أهلكت ابن عاد و ما تدري

ص: 234

و ذكر الرواة أن قيس بن ساعدة الأيادي عاش سبعمائة سنة و قيل أقل من ذلك و كثير غير هذين عاشوا بين الثلاثمائة و الأربعمائة منهم عمر بن ربيعة بن كعب المعروف بالمستوغر.

قال أصحاب الأنساب أنه عاش ثلاثمائة و عشرين عاما،و قاربت وفاته ظهور الإسلام.و هو القائل:

و لقد سئمت من الحياة و طولها و عمرت من عدد السنين مئينا

مائة أتت من بعدها مائتان لي و ازددت من عدد الشهور سنينا

هل قد بقي إلا كما قد فاتنا يوم يكرّ و ليلة تحدونا

و ينقل له التاريخ قصصا كثيرة.

و منهم زهير بن حبّاب أو خبّاب عاش مائتين و عشرين سنة و هو من الشعراء،ذكره المرتضى في أماليه.و منهم ذو الأصبع العدواني و هو حرثان بن حرث،عاش ثلاثمائة،و قيل أقل من ذلك و هو القائل:

لا يبعدن عهد الشباب و لا لذاته و نباته النضر

و منهم الربيع بن ضبع الفزاري،و لقد قال عن نفسه أنه عاش مائتين في فترة عيسى،و أكثر من مائة في الجاهلية،و قد أدرك عبد الملك ابن مروان و أنشده:

إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة و الفتاء

و قد دون له التاريخ حديثا طويلا مع عبد الملك يوم دخل عليه كما نص على ذلك أكثر المؤرخين.

و منهم حنظلة بن الشرقي عاش مائتي سنة.

و هو القائل:

حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل يدنو لصيد

قصير الخطو يحسب من رآني و لست مقيدا اني بقيد

ص: 235

و منهم عبد المسيح بن بقيلة الغساني،عاش أكثر من ثلاثماية و خمسين عاما،و ذكر التاريخ غير هؤلاء،و حديث الدجال مثبت في صحاح اخواننا المسلمين،و للخضر أحاديث كثيرة تنص على حياته مشهورة بين المسلمين، و بعد هذا لا يبقى مجال للشك في أن الإنسان قد يعيش المئات من الأعوام،و إن كان ذلك شذوذا بالنظر إلى غالب أفراد الإنسان.

و الشيعة لا يقولون بأن حياته الطويلة على وفق المألوف من حياة البشر،و إنما يرون أن ذلك لأمر اقتضته مشيئة اللّه سبحانه و احتجابه لا يمنع من إمامته بعد أن كان لمصلحة تقتضيه،كما قد يحتجب النبي عن قومه خوفا منهم على حياته و قد وقع ذلك لبعض الأنبياء كموسى و يونس و محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و لا يتفاوت الحال في طول المدة و قصرها،فكما يكون الاحتجاب في مدة قصيرة لمصلحة تقتضيه،كذلك قد تقتضي المصلحة غيبة أكبر و أطول، و المسؤولية في ذلك تقع على عاتق الأمة التي اضطرته لهذا الاحتجاب، كما اضطرت آباءه من قبل للتستر في دعوتهم و عدم الإعلان بها في كثير من الأوقات.و لقد كانت الأمم السابقة تقتل الأنبياء و تشردهم،و لا يضر ذلك في نبوتهم و صدق دعوتهم.

و لا أريد أن أتبسط في الموضوع فالمجال أوسع من ذلك،و الشبهة حوله ليست وليدة العصر الحاضر،بل تساير حياته الشريفة،و علماء الشيعة المنتشرون في أقطار الدنيا الواسعة ما زالوا يكتبون و يدفعون شبه أهل الباطل بالبراهين و الأخبار الصحيحة من التاريخ الذي وجد فيه و احتجب عن الناس إلى يومنا هذا،و لو أردنا أن نحصي ما كتبه علماء الشيعة حول هذا الموضوع،لتجاوز العشرات من الكتب.

ص: 236

عقيدة الشيعة

في الأئمة الإثني عشر

إن الشيعة الإمامية يرون أن الإمامة بما لها من صلاحيات واسعة من الضرورات التي تقتضيها الحياة حفظا للنظام،و تطبيقا للعدالة الإجتماعية و قد كانت النبوة قبل أن تكون الإمامة،فكانت السلطة للدين،و الأعمال تقاس بميزان العقيدة و الإخلاص،و جاء القرآن الكريم يهدف إلى ذلك بجميع مواده و فصوله لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،يستمده النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من وحي السماء لا من تفكيره و اختباراته.

و ما ثبت للإمام من بعده هو عين ما كان للنبي،فلا بد و أن يكون عالما بخفايا تلك الشريعة محيطا بمحتويات ذلك النظام إحاطة كاملة لا عن طريق الاجتهاد الناشئ عن التفكير و الاستنتاج لأن ذلك لا يمنع الخطأ في كثير من الأحيان.

أجل إن الإمام يجب أن تتوفر فيه أكمل الصفات و المواهب و لا ندعي له الإلهام و علم الغيب،و إن جاز على أصحاب النفوس الصافية المجردة عن المادة أن يدركوا الواقع أحيانا،و إنما أقول أن الرئيس الثاني يأخذ العلم من الأول و لا نصيب لكليهما في أمر الغيب،لأنه من مختصاته

ص: 237

سبحانه،عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.

فالرسول لا يعلم إلا ما علمه إياه ربه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و لقد قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم مالي و لهم يسألوني عما لا أعلم،و إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي،فلقد أودع فيه اللّه قوة كاملة تؤهله أن يكون أمينا على وحيه و حافظا لأمانته،و الإمام الذي يخلفه بعد أن ثبت أن أمر تعيينه لا يرجع إلى الأمة لا بد و أن يكون عنده من العلم و القدرة ما يؤهله للقيام بالمهمة التي ألقيت على عاتقه و يمكنه من أدائها و لا يكون ذلك عن طريق الوحي،لأنه من مختصات الأنبياء،فلا بد و أن يكون عن طريق تعليم النبي له،فالنبي الكريم بعد أن أوحي إليه أمر المختار للإمامة أعده لهذه المهمة إعدادا كاملا،و أفاض عليه مما أوحاه إليه ربه حتى ملك شعاب نفسه و جوانب روحه لينقطع العذر و يزول الريب من نفوس المرتابين،و لزمته ملكة العصمة التي تسيطر على جميع القوى الشريرة الموجودة في الإنسان ليمتنع عن ارتكاب الجرائم و يرتفع عن الوقوع في الخطأ،و بذلك يسهل التصديق به و يصبح بإمكانه أن يستظهر على جميع الصعاب،و يبلغ للناس عهد اللّه كاملا لا نقصان فيه و لا زيادة.

فنسبة علم الغيب لغير اللّه تكذيب لنصوص القرآن و مخالفة لصريح آياته،و الذي ندعيه و ندين به هو أن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم علمه اللّه سبحانه بطريق الوحي تارة و الإلهام اخرى ما يتعلق بأمور الدين،و شيئا مما يتعلق بأمور الدنيا،و لقد قال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لا علم لي إلا ما علمني ربي.و لقد كان يسأل أحيانا عن بعض أسرار الكون فلا يجيب،و ينتظر أمر الوحي فيما كان يسأل عنه، و ما عند الإمام من معلومات تتعلق بأمور الدين و بعض الشؤون الأخرى، كانت عن طريق النبي لا غير،فلقد كاشفه بعض الحوادث التي ستمر على الناس في مستقبل الزمان و أخبر عنها الإمام عليه السّلام قبل وقوعها بعشرات السنين،كما أخبر بقتله و قتل ولديه و ما جرى عليهما،و قيام الدولتين

ص: 238

الأموية و العباسية،و جرائم الحجاج الثقفي و اخباره و عن التتر و الزنج،و في شرح النهج للمعتزلي فصول حول هذه المواضيع،و ذكرها غيره من المؤرخين كاليعقوبي و غيره و هذا لا يعني أنه يعلم ما وراء المستقبل،و إنما هو عن طريق وحي اللّه إلى رسوله كما ذكرنا.

و لقد ورد في بعض الروايات أن الإمام الصادق و غيره كانوا يعرفون ضمائر بعض الأفراد و يخبرون بما في النفوس،و الشيعة لا تمنع من ذلك، و لا تراه مستحيلا،لجواز كونه عن طريق الفراسة و صفاء النفس،أو عن طريق الإلهام من اللّه سبحانه،و ليس الإلهام من مختصات الأنبياء،فقد حكى القرآن الكريم ما كان من قصة أم موسى،لما اشتد فرعون في طلب الحوامل: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ و على جميع التقادير فليس ذلك من شروط التشيع،و لا من شروط القول بإمامتهم.قال المفيد في كتابه أوائل المقالات:

إن الأئمة من آل محمد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد،و يعرفون ما يكون قبل كونه..و ليس ذلك بواجب في صفاتهم،و لا شرط في إمامتهم، و إنما أكرمهم اللّه به و أعلمهم للطف في طاعتهم و التمسك بإمامتهم،و ليس ذلك بواجب عقلا،و لكنه وجب لهم من جهة السماع،و أما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد،لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد،و لا يكون هذا لغير اللّه سبحانه.

و قال رشيد الدين محمد بن شهراشوب كما نقل عنه في التعليقة على الكتاب المذكور:النبي و الأئمة يجب أن يعلموا علم الدين و الشريعة،و لا يجب أن يعلموا الغيب،و ما كان و ما يكون،لأن ذلك يؤدي إلى أنهم

ص: 239

مشاركون للقديم تعالى في جميع معلوماته،إلى أن قال:و يجوز أن يعلموا الغائبات و الكائنات الماضيات أو المستقبلات بإعلام اللّه تعالى لهم..

و مجمل القول أن الشيعة يقولون:أن الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه و أكملهم و يبرأون من كل من ينسب إلى أئمتهم أكثر من ذلك و يقفون عند المنزلة التي وضع الأئمة أنفسهم عندها،و حددها الإمام الرضا عليه السّلام في دعائه:اللهم إني أبرأ إليك من الحول و القوة،و لا حول و لا قوة إلا بك، اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نعلمه في أنفسنا،اللهم لك الخلق،و منك الأمر و إياك نعبد و إياك نستعين،اللهم أنت خالقنا و خالق آبائنا الأولين و آبائنا الآخرين،اللهم لا تليق الربوبية إلا بك و لا تصلح الإلهية إلا لك،اللهم نحن عبيدك و أبناء عبيدك،لا نملك لأنفسنا نفعا و لا ضرا،و لا موتا و لا حياة و لا نشورا،اللهم إن من زعم أن لنا الخلق و علينا الرزق فنحن إليك منه برءاء،اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون و اغفر لنا ما يزعمون.

و في منهج المقال عن عبد الرحمن بن كثير،قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام يوما لأصحابه،لعن اللّه المغيرة بن سعيد،لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر و الشعبذة و المخاريق،أن المغيرة كذب على أبي و أن قوما كذبوا علي ما لهم أذاقهم اللّه حر الحديد،فو اللّه ما نحن إلا عبيد خلقنا اللّه و اصطفانا،ما نقدر على ضر و لا نفع،إن رحمنا فبرحمته، و إن عذبنا فبذنوبنا.لعن اللّه من قال فينا ما لم نقله في أنفسنا،و لعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا،و إليه مآبنا و معادنا و بيده نواصينا.

و ما رواه المفيد في إرشاده،و الصدوق في الكافي،و غيره من رواة الحديث من أحاديث الجفر الكبير و مصحف فاطمة عليه السّلام و غير ذلك،فلا تمنع منه الشيعة،و لا تقول بأنه من علم الغيب.فمن الجائز القريب أن

ص: 240

النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أملى على علي عليه السّلام بعض ما نزل عليه من الوحي،مما يرجع إلى عالم التشريع و غيره من الحوادث،و دونها علي عليه السّلام،و بقيت عند أبنائه في جملة ما ورثوه من العلم،و يؤيد ذلك ما ذكره المفيد في إرشاده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام أنه قال:أما الجفر الأحمر فوعاء من أدم فيه سلاح رسول اللّه و لن يخرج حتى يقوم قائمنا أهل البيت و أما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى،و انجيل عيسى،و زبور داود،و كتب اللّه الأولى.و أما مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حوادث،و أما الجامعة فهي كتاب بإملاء رسول اللّه و خط علي عليه السّلام،فيها و اللّه ما يحتاج الناس إلى يوم القيامة من حلال و حرام،حتى أن فيها إرش الخدش و الجلدة،فليس في شيء من الروايات الصحيحة ما يدل على أنهم يعلمون شيئا عن غير طريق النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.

و مما لا شك فيه عند أكثر الرواة،أن النبي قال:أنا مدينة العلم و علي بابها،و قال علي عليه السّلام كما في كتب الحديث:علمني رسول اللّه ألف باب من العلم،يفتح لي في كل باب ألف باب.و كلامه صريح في أن ما أخبر به من الحوادث التي وقعت بعده بعشرات السنين إنما كان عن طريق الرسول الأعظم.

و مع ذلك فهذا النوع من العلم،لا تتوقف عليه إمامتهم،و لا يزيدهم فضلا و شرفا.ففي سيرتهم و حياتهم،ما يكفي لكونهم أفضل ما أنجبته الإنسانية و أنبل ما يمكن أن تبلغه إمكانيات المخلوق،لذا فإن من ينفي عنهم هذا النوع من العلم لا يخرج عن كونه إماميا مواليا صحيح العمل و العقيدة ما دام لم يؤد نفيه إلى مخالفة الكتاب الكريم،أو تكذيب رواية معلومة الصدور عن النبي أو أحد خلفائه الطيبين و قد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في كتابنا دراسات في الكافي و البخاري بحثا وافيا مفصلا يقينا عن إعادته في المقام.

ص: 241

اليقين بأصول الإسلام

إن الشيعة يرون أنه لا بد من اليقين الجازم بأصول الدين و المذهب، و المراد بأصول الدين التوحيد،و ما يتبعه من صفاته تعالى الثبوتية و السلبية، و النبوة و ما يتعلق بها من العصمة و غيرها،و المعاد و ما يتبعه من الثواب و العقاب و الجنة و النار،و ما كان من الأصول راجعا للمذهب فهو الإمامة و تتبعها إمامة الإثني عشر.و لا بد من اليقين الجازم بهذه الأمور للآيات الكريمة الدالة على عدم كفاية الظن،و عدم جواز التعويل عليه مطلقا في الأصول و الفروع فمن ذلك قوله سبحانه:

إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ،و قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ،و غيرها من الآيات الكريمة.و هي بإطلاقها تدل على عدم جواز الاعتماد على الظن في إثبات الواقع في الفروع و الأصول و لكن قام الدليل على جواز الاعتماد على الأدلة الظنية في الفروع فتبقى الآيات بالنسبة إلى الأصول على حالها،و حيث كان مفادها عدم جواز الاعتماد على الظن،فلا بد من اليقين الجازم الموجب لسكون النفس و اطمئنانها،و ينص الشهيد الثاني في رسالته حقائق الإيمان و غيرها من العلماء،على وجوب معرفة اللّه سبحانه و بقية الأصول بالنظر و الدليل، و عدم الإكتفاء فيها بالتقليد،و خالف في ذلك جماعة من أعلام المسلمين فجوزوا التقليد في العقائد الأصولية.

ص: 242

ثم أن القائلين بوجوب المعرفة بالنظر،بين قائل بوجوبها بالعقل و آخر بكفاية الأدلة المؤدية إلى اليقين الجازم،و صريح كلام الشهيد الثاني وجوب المعرفة بالأدلة العقلية عند الإمامية و المعتزلة لأن شكر المنعم يتوقف على الاعتراف بنعمه و الاعتراف بها يتوقف على معرفته و لا تحصل معرفته في الغالب بالطرق الظنية و لا بالتقليد لجواز الخطأ في الإمارات و كذب المخبر في اخباره،و قال العلامة في كتابه الحادي عشر:

أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه و صفاته الثبوتية،و ما يصح عليه و يمتنع منه و النبوة و الإمامة و المعاد بالدليل لا بالتقليد.

و قال العلامة الأنصاري في فرائد الأصول:و قد ذكر العلامة في الباب الحادي عشر،فيما يجب معرفته على كل مكلف من تفاصيل التوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد،أمورا لا دليل على وجوبها،مدعيا أن الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعذاب،و هو في غاية الاشكال.

نعم يمكن أن يقال أن مقتضى عموم وجوب المعرفة مثل قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ أي ليعرفون.و قول النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس و كذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف،بقرينة استشهاد الإمام بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق،و عمومات طلب العلم،فمقتضى جميع ذلك هو وجوب معرفة اللّه جل ذكره،و معرفة ما جاء به النبي على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم،فيجب الفحص حتى يحصل اليائس،فإن حصل العلم بشيء من هذه على وجهه و حقيقته اعتقد و تدين،و إلا توقف و لم يتدين بالظن.إلى أن قال:هذا حال وجوب المعرفة مستقلا،و أما اعتبار ذلك شرطا في الإسلام و الإيمان فلا دليل عليه.بل تدل على خلافه الأخبار

ص: 243

الكثيرة المفسرة لمعنى الإسلام و الإيمان.ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السّلام المروية في الكافي أن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و هو بمكة عشر سنين،فلم يمت بمكة أحد في تلك الفترة يشهد أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه إلا دخل الجنة بإقراره،و لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد و التصديق بالنبي و بكونه رسولا صادقا فيما بلغ،و ليس المراد معرفة تفاصيل ذلك،و إلا لزم أن تكون حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة غيره في صدر الإسلام لأن النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان يكتفي بالاعتقاد الإجمالي من أكثر الناس و يرتب عليهم آثار الإسلام و الإيمان.

و هناك روايات كثيرة تدل على أن الإسلام و الإيمان هما الإقرار و الاعتقاد بهذه الأصول،من غير تعرض فيها إلى ناحية الدليل،كصحيحة ابن اليسع قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخبرني من دعائم الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير في معرفة شيء منها،و من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه و لم يقبل منه عمله،و من عرفها و عمل بها صلح دينه و قبل عمله فقال عليه السّلام شهادة أن لا إله إلا اللّه،و الإيمان بأن محمدا رسول اللّه،و الإقرار بما جاء به من عند اللّه،و حق في الأموال،و الولاية التي أمر اللّه بها و هي ولاية آل محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و قال الشيخ الأنصاري بعد أن بنى على اعتبار الجزم و التصديق في الأصول:و كيف كان فالأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد لعدم الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة و التصديق و الاعتقاد، و تقييدها بطريق خاص لا دليل عليه،مع أن الإنصاف أن النظر و الاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطن لوجوب النظر في الأصول لا يفيد بنفسه الجزم لكثرة الشبه الحادثة في النفس و المدونة في الكتب و يمكن أن يقال أن المراد من الاعتقاد الحاصل على الدليل هو الدليل الإجمالي نظير استدلال الإعرابي،البعرة تدل على البعير،و أثر الأقدام على المسير،و سماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج أفلا يدلان على اللطيف الخبير،و هذا المقدار من

ص: 244

الدليل ميسور لدى أغلب الناس بمجرد الانتباه و الالتفات و لذا كان الإسلام مقبولا بمجرد الإقرار الكاشف عن الاعتقاد،و أما الاستدلال التفصيلي فلا يتسنى إلا للقليل من الناس و لازم اعتباره نفي الإيمان عن أكثر المسلمين، و لا يمكن الالتزام بذلك فلا بد من القول بكفاية الجزم الحاصل من التقليد فيما يتعذر حصوله من الدليل التفصيلي بالنظر لنوع الإنسان.

ص: 245

أدلة الأحكام

اشارة

عند الشيعة الإمامية

يرجع الشيعة الإمامية في أصول الدين و فروعه و جميع أحكام الدين إلى الأدلة الأربعة:الكتاب و السنة و الإجماع و العقل.و كل واقعة من الوقائع النظرية لا يخلو الوقوف على حكمها من أحد هذه الأدلة الأربعة التالية.

ص: 246

الكتاب

المرجع الأول هو الكتاب الكريم.و الشيعة من أشد الناس تمسكا فيه، و محافظة عليه،و التزاما بنظمه و قوانينه و تشريعاته،و عليه يعتمدون في دفع شبه المبطلين و الملحدين،و يرونه المقياس الصحيح للحق و الهداية،و معجزة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الخالدة،لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،لا تحريف فيه و لا تبديل فهو كما نزل على النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،قد أعجز الفصحاء و البلغاء في أسلوبه و نظمه،و أخباره عما كان و سيكون من حوادث الأمم و معتقداتها، و أحوال الأنبياء و ما جرى لهم في أيامهم.و قص علينا قصصا لولاه لما كان لها وجود في تاريخ الأمم،و تناول الكثير مما يرجع إلى عالم التشريع في المواريث و الوصايا و المعاملات و العبادات و الصدقات و غيرها،فأحصيت آيات الأحكام فيه بما يبلغ خمسماية آية،و ألف علماء الشيعة الإمامية كتبا في آيات الأحكام منهم الجزائري و المقدادي و غيرهما،و الكتب التي تعنى بهذا الموضوع تحمل اسم آيات الأحكام.

و المهم الآن هو أن القرآن،هو المرجع الأول في أحكام الدين أصولا و فروعا و في كل واقعة يعرض الاشتباه في حكمها و قد أمر النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كما في الحديث المشهور المتفق عليه بين جميع المسلمين بالرجوع إليه،«إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي».و في الوافي عن أبي عبد

ص: 247

اللّه الصادق عليه السّلام أنه قال:القرآن هدى من الضلالة،و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة،و ضياء من الأحداث،و عصمة من الهلكة،و رشاد من الغواية،و بيان من الفتن و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة،و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار،و في الوافي عن جابر قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:يا معاشر قراء القرآن اتقوا اللّه تعالى فيما حملكم من كتابه، فإني مسؤول و إنكم مسؤولون،إني مسؤول عن تبليغ الرسالة،و أما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب اللّه و سنتي،و في القرآن العام و الخاص، و المطلق و المقيد،و المجمل و المبين،و المحكم و المتشابه،و الناسخ و المنسوخ

فالعام و الخاص فيه مثل قوله سبحانه: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا و قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أمثالها.و المجمل هو الكلام الذي ليس له ظاهر، بنحو يكون بحسب متفاهم العرف قالبا لمعنى خاص ليس له ظهور فيه و المبين على خلافه،و من ذلك قوله: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما و الإجمال في الآية إما لأن اليد تستعمل في الأنامل و الأصابع و نفس الكف،و أما الأن تعليق القطع باليد لا ظهور له في محل القطع، نظير قول القائل قطعت الحبل،من حيث عدم ظهوره في محل القطع.

و منه قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ،و أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ حيث يمتنع تعلقها بالأعيان فلا بد من تقدير محل صالح لذلك، و الصالح لذلك متعدد و ليس بعضه معينا من اللفظ بدون قرينة تدل عليه.

و أما المحكم و المتشابه،فقد ذكر في مجمع البيان لهما معان متعددة،منها أن المحكم،ما علم المراد من ظاهره من غيره قرينة تقترن به نحو قوله أن اللّه لا يظلم الناس شيئا،و لا يظلم مثقال ذرة،و المتشابه ما لم يعلم المراد من ظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه نحو قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى

ص: 248

عَلَى الْعَرْشِ فهو بحسب المعنى اللغوي محتمل لأن يكون كاستواء الجالس على السرير،و أن يكون بمعنى التسلط و الاستيلاء،فكل من المعنيين يمكن دلالة اللفظ عليه،و لكن الأول منهما ليس بمراد قطعا،لأنه يؤدي لما لا يجوز عليه سبحانه،فيتعين الثاني و لكن ليس من ظاهر اللفظ.

و أما النسخ فيدل على أصل وقوعه قوله في سورة البقرة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها أي نؤخرها،فلا ننزلها و ننزل بدلا منها مما يقوم مقامها في المصلحة،و ذكر هذا المعنى في مجمع البيان في جملة ما ذكره من معاني هذه الكلمة،و هو موافق لما ذكره أهل اللغة في المراد من قول العرب:

نسأت الناقة أي تأخرت في المرعى حتى سمنت،و يدل عليه أيضا أن التكليف الشرعي تابع للمصلحة في الفعل المكلف به،و لو لاها لما أوجبه الشارع،فمن الإيجاب الشرعي نستكشف وجود المصلحة في الفعل و إذا كان وجوب الأفعال لأجل المصالح القائمة بها،فكما يجوز أن تكون المصلحة مستمرة لا تتفاوت بحسب الأزمنة كذلك يمكن أن تكون المصلحة في وقت دون آخر.أو يكون في المماثل مصلحة أقوى منها و لا يلزم من ذلك البداء المستلزم لجهل الأمر تعالى عن ذلك علوا كبيرا.و ذلك لعدم كون النسخ راجعا إلى تغيير إرادته أو ظهور ما كان قد خفي عليه،بل معناه أن المصلحة الداعية إلى التشريع كانت إلى زمان وجود الحكم المماثل،فلا يكون دليل الناسخ رافعا لدليل المنسوخ بل يفيد إثبات حكم جديد في محل قد انتهى أمد الحكم الأول فيه لانتهاء مصلحته،و مهما يكن الحال فلا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب،و قد دلت على ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة البقرة: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ و مفاد هذه الآية كما في مجمع البيان و غيره وجوب الإيصاء للأزواج بما ينتفعن به حولا كاملا

ص: 249

من النفقة و الكسوة و السكن قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا،ثم خرجت بلا ميراث.

و قد نسخت هذه الآية بقوله تعالى من سورة البقرة: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و بقوله تعالى: وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ .فالآية الأولى نسخت الاعتداد حولا بالاعتداد أربعة أشهر و عشرا،و الآية الثانية نسخت عدم استحقاقها للميراث بعد الحول،و منها آية تغيير القبلة إلى المسجد الحرام بعد أن كانت إلى بيت المقدس،و منها قوله سبحانه: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فامتنع المسلمون عن مناجاته غير علي عليه السّلام فتصدق و ناجاه،ثم نسخت بقوله تعالى: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ .

فالنسخ واقع بلا شبهة في ذلك ولست الآن بصدد التوسع في هذا الموضوع،و إنما المهم في المقام هو التنبيه على أن المرجع الأول في استنباط الأحكام هو الكتاب الكريم،و ليس لكل أحد أن يرجع إليه في الأحكام و إنما يرجع إليه من درس اللغة العربية و علم الأصول و الفقه و الحديث و وقف على أسباب النزول و معاني الألفاظ و ما يتبع ذلك من معرفة اللغة و مشتقاتها.

ص: 250

السنّة

المصدر الثاني من المصادر التي يستمدون منها أحكام اللّه الأحاديث المروية عن النبي و أئمة المسلمين من بعده،و عليها يعتمدون في جميع أبواب الفقه الإسلامي و أصوله بعد القرآن الكريم.

و قد عنوا بها العناية الكاملة للتنقيب عن الأحاديث التي تركن إليها النفس و دونوا الحديث في كتبهم و أشهر الكتب التي أعدت لتدوين الحديث الكتب الأربعة:الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني،و من لا يحضره الفقيه لمحمد بن بابويه الصدوق،و كتابي التهذيب و الاستبصار لمحمد بن الحسن الطوسي،و الوافي لمحسن الفيض،و الوسائل للحر العاملي و ألفوا كتبا غيرها تشتمل على أسماء الرواة كل باسمه و صفاته و سيرته،و على القواعد و الأسس التي يمكن التوصل بها إلى معرفة الأحاديث الصحيحة و تمييزها عن غيرها و قسموا الحديث إلى أقسام أربعة أو أكثر،و وضعوا أصول علمي الدراية و الرجال و ألفوا فيهما عشرات الكتب لتصفية الحديث و بيان ما يجوز الاعتماد عليه و ما لا يجوز.و الكتب التي تناولت هذه المواضيع توجد في جميع المكتبات الإسلامية في إيران و العراق و غيرهما من الأقطار.و تلك الجهود الجبارة التي قام بها فريق من علماء الطائفة الشيعية،كانت من النتائج الطبيعية للظروف القاسية التي اجتاحت الشيعة في عهد الدولتين

ص: 251

الأموية و العباسية و كانت من أقسى الأدوار التي مرت في تاريخ الطوائف الإسلامية و نتج عنها آلاف الأحاديث المكذوبة على أهل البيت،و أول من غرس نواتها معاوية بن أبي سفيان يوم صالح الحسن بن علي عليه السّلام على شروط لم يف له بشيء منها،و انصرف بعد ذلك بكل اتجاهاته يغذي تلك النواة بالاضطهاد و العسف و الجور و المطاردة حتى ضيق على الشيعة الخناق،و سد عليهم منافذ الحياة إلى كثير من الوسائل التي استعملها في محاربة الشيعة،حتى بلغ الأمر أن أصبحت نسبة التشيع لعلي جريمة تجر من ورائها ألوانا من العذاب و أصبح الرجل يتمنى أن ينسب للكفر و الزندقة و لا ينسب للتشيع لعلي و أبنائه عليهم السّلام.و في شرح النهج كتب معاوية نسخة واحدة بعد عام الجماعة،أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته،فقام الخطباء،في كل كورة و على كل منبر يلعنون عليا عليه السّلام و يبرأون منه و يقعون فيه و في أهل بيته،و كان أهل الكوفة من أشد الناس بلاء يومئذ لكثرة من فيها من الشيعة،و قد استعمل عليها زياد بن سمية و ضم إليه البصرة،فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم،و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل،و شردهم عن العراق،فلم يبق فيها معروف منهم،و كتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الآفاق،أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة.ثم كتب نسخة إلى جميع عماله قال فيها انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته،الذين يروون فضائله و مناقبه،فأدنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم،و اكتبوا بكل ما يروي رجل منهم باسمه و اسم أبيه و عشيرته،ففعلوا ذلك،حتى أكثر المرتزقة في فضائل عثمان.

و لما كثر ذلك كتب إلى عماله يأمرهم أن يحملوا الناس على الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين،ليكون له و لأبيه و أقاربه نصيب من ذلك،لأنهم عاصروا النبي مع من أدركوه و عاصروه،ثم أمر عماله أن لا

ص: 252

يتركوا منقبة يرويها أحد في فضل أبي تراب إلا و يأتوا بناقض لها في الصحابة و مشى على منهاجه من جاء بعده من الخلفاء الأمويين طيلة حكمهم.

فهيأت هذه الفرصة مجالا واسعا لعدد غير قليل من الزنادقة و المنافقين من أهل الأطماع و المنافع،الذين كانوا يتمرغون على أعتاب قصر الحمراء و غيره من قصور الخلفاء التي كانت تعج بالظلم و الفساد و المنكرات لوضع الحديث و الكذب على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.و لقد روى أبو هريرة عنه أكثر من ستة آلاف حديث مع أنه أسلم قبل وفاة الرسول بثلاث سنين،و غيره من الصحابة الذين صحبوا الرسول طيلة حياته و لم يرووا عنه نصف هذا العدد،و ليس من البعيد أن يكون قد نتج من هذا الاتجاه المعاكس لأهل البيت من يضع الأحاديث عن الأئمة عليهم السّلام في الطعن على الخلفاء و الصحابة و في المناقب و الفضائل ثم جاء عهد العباسيين أشبه ما يكون بعهد من مضى فأنسى الشيعة ما لا قوه في العصر الأموي المرهق بجميع أنواع الظلم و الأذى و الطغيان و وضع الحديث الذي يحط من شأن علي و بنيه عليهم السّلام و لقد كثر الدس و الافتراء في عهد المنصور العباسي يوم انطلق الإمام الصادق و أبوه الباقر عليه السّلام ينشران أحكام الإسلام و تعاليمه و في الوقت ذاته كان آلاف الرواة ممن أخذوا عنهما يروون أحاديثهما في مختلف المواضيع،فثقل ذلك على المنصور و أعوانه، و اتجه إلى مكافحة هذا النشاط بالتشويش على أهل البيت بما لا يتفق مع أصول الإسلام و مبادئه و سخر فئة من المأجورين كعبد الكريم بن أبي العوجا،و المغيرة بن سعيد و أمثالهما.

و جاء عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام يقول:لا تقبلوا علينا حديثا إلا إذا وافق القرآن و السنة أو كان معه شاهد من أحاديثنا المتقدمة،فإن المغيرة بن سعيد لعنه اللّه،قد دس في كتب أصحاب أبي

ص: 253

أحاديث كثيرة لم يحدث بها أبي،فاتقوا اللّه و لا تقبلوا ما خالف قول ربنا و سنة نبينا،و في منهج المال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا عند الناس يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا.ثم ذكر المغيرة و بزيغ الحائك و السري و أبا الخطاب و معمر و بشار الأشعري و حمزة اليزيدي و صائد النهدي،و قال لعنهم اللّه أجمع و كفانا مؤونة كل كذاب،و الأحاديث عن الصادقين حول هذه الفرقة الضالة المستأجرة من الدساسين تنص على أنهم خلفوا مجموعة من الأحاديث أضافوها إلى التراث الإسلامي النبوي ليخلطوا الحق بالباطل و الصحيح بالفاسد،لذا فإن علماء الطائفة بذلوا قسما من إمكاناتهم فصنفوا الحديث،و وضعوا الكتب في علمي الرجال و الدراية،لتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها.ثم قسموا الحديث إلى متواتر و آحاد، و يعنون بالمتواتر أن ينقله جماعة بلغوا من الكثرة حدا يمنع من اتفاقهم على الكذب،و لا إشكال عندهم بحجية هذا النوع من الأخبار،و الآحاد هو الذي لا ينتهي إلى حد التواتر سواء كان الراوي واحدا أو أكثر.و قد اتفق الأكثر على جواز العمل بأخبار الآحاد في الأحكام و استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة،ذكرها الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول و ذكرها غيره ممن تقدم عليه و تأخر عنه.و هذا النوع من المرويات حسب التصنيف الآخر للأحاديث على أربعة أصناف صحيح و حسن و موثق و ضعيف،فإن كان رواته إماميين ممدوحين بالوثاقة سموه صحيحا،و إن كانوا إماميين ممدوحين و لكن لم يعرفوا بالوثاقة أو كان الممدوح بعضهم مع توثيق الباقي سموه حسنا.

و إن كانوا كلا أو بعضا غير إماميين و كانوا معروفين بالوثاقة سموه موثقا،و ما عدا ذلك فهو من نوع الضعيف الذي لا يجوز الاعتماد عليه إلا إذا اقترن ببعض القرائن التي تؤكد صدوره عن المعصوم و الأنواع الثلاثة

ص: 254

كلها تشترك في جواز العمل بها،و إن كان بعضها أعلى من بعض،و يقدم على غيره في مقام التعارض.و ذكر في الوافي أن هذا الإصطلاح حدث في زمان العلامة الحلي،و تبعه عليه جمع ممن تأخر عنه،و لم يكن معروفا عند المتقدمين:و إنما المتعارف عندهم إطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه،و اقترن بما يوجب الوثوق به و الركون إليه، كوجوده في الأصول الأربعمائة المشهورة بينهم المنقولة عن مشايخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة،أو وجوده في أصل معروف الإنتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم،كزرارة و محمد بن مسلم، و الفضيل بن يسار،أو وجوده في أصل من الأصول المنسوبة إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم كصفوان بن يحيى، و يونس بن عبد الرحمن و غيرهما،أو يكون مأخوذا من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها و الاعتماد عليها،سواء كان مؤلفها من الإمامية ككتاب الصلاة لحريز بن عبد اللّه،و كتب بني سعيد،و علي بن مهزيار أو من غير الإمامية ككتاب حفص بن غياث القاضي و الحسين بن عبد اللّه السعدي و غيرهما،و قال الصدوق في كتاب الفقيه:إن كل ما أذكره في هذا الكتاب هو ما أفتي فيه و أحكم بصحته،و أعتقد أنه الحجة فيما بيني و بين ربي تقدس ذكره و ما يرويه في كتابه المذكور فيه الإمامي و غيره،و في الوافي قال:

و سلك على هذا المنوال كثير من علماء الرجال فحكموا بصحة حديث بعض الرواة كعلي بن رياح مع أنه من غير الإماميين.و المقصود من هذا التبسيط هو رد عدوان بعض الكتاب القائلين بأن الشيعة لا يعملون بأخبار إخوانهم أهل السنة و يلصقون بهم عيوب تلك الفرق البائدة الضالة و في الوقت ذاته يدعون أنهم يتجردون في دراستهم لخدمة الحق و الواقع و يتحررون عن النزعات القديمة.قال الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه الديموقراطية:

و الشيعة في إيران و العراق لا يعترفون بالسنة،و أحاديث الرسول التي يرويها

ص: 255

و ينقلها أئمة أهل السنة،مع أن هذا التراث الهائل يمثل المذكرة التفسير لمبهم القرآن و مجمله.

إن من يكتب عن الشيعة و ينسب إليهم هذه الأراجيف لا عذر له في زماننا هذا،و قد ملأت كتب الشيعة الدنيا الواسعة،و مكاتب العالم مشحونة بكتبهم،نعم إن هؤلاء يكتبون بما ورثوه عن تلك العصور المظلمة التي تسابق فيها المرجفون إلى الدس و التشويش عن الشيعة تلبية لرغبات الحكام و المستغلين.

ص: 256

الإجماع

المصدر الثالث:إن الإجماع الذي يرجع إليه الشيعة،عند عدم وجود الدليل المعتبر من كتاب أو سنة،هو إجماع العلماء في عصر واحد أو عصور متعددة بحيث يكشف عن دخول المعصوم في المجمعين و لا يضر في ذلك وجود المخالف إذا كان معلوم النسب أما إذا كان مجهولا نستثقي فائدة الإجتماع لاحتمال كون المخالف هو الإمام عليه السّلام،إذ لا يوجد عصر يخلو من الإمام المعصوم و مدعي الإجماع يكون حاكيا لقول المعصوم بلا واسطة،فالدليل الدال على حجية خبر الواحد،يدل على حجية الإجماع، كما هو ظاهر الأكثر.

و خالف بذلك الشيخ الأنصاري في فرائده،مدعيا أن الأدلة على حجية أخبار الآحاد إنما تدل على حجيتها عن حسن،باعتبار أن الراوي ينقل ما سمعه من الإمام عليه السّلام و الإجماع ليس كذلك و لا يهمنا أن تتوسع في هذه الناحية،و إنما المقصود هو أن الإجماع لا دليل على اعتباره دليلا في الأحكام الشرعية إذا لم يكن كاشفا عن رأي المعصوم و على هذا تنحصر فائدة الإجماع فيما إذا لم يتعين قول الإمام كما يتفق ذلك في أكثر الأوقات و بخاصة في زمن الغيبة و لو فرض أن علمنا بقول المعصوم بعينه بين المجمعين فلا تبقى للإجماع فائدة،و مهما يكن الحال فإن الشرط في حجية

ص: 257

الإجماع كون المعصوم إحدى المجمعين،و لا يضر خروج الواحد و الإثنين و الأكثر إذا عرفوا بأسمائهم و نسبهم،للعلم ببقاء الإمام مع الباقين،بل لو كان الإمام أحد ثلاثة و لم يعرف بعينه كان قولهم حجة بالغا المخالف ما بلغ،قال العلامة:

و كل جماعة قلت أو كثرت،و كان قول الإمام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله لا لأجل الإجماع فيكون المدعي للإجماع يحكي قول الإمام بلا واسطة.

و العلم بدخول الإمام مع المجمعين،إما أن يكون عن طريق الحس كما إذا سمع قول الإمام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم،فيعلم بقول الإمام و إن لم يعرفه بعينه،و إما أن يكون لقاعدة اللطف كما يذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي،قال:إذا كان على القول الذي انفرد به الإمام دليل في كتاب أو سنة،فلا يجب إظهار قوله لإمكان معرفته عن طريق الدليل،و إلا وجب عليه إظهار من يبين الحق في تلك المسألة لأن وظيفته ذلك و لأن وجود الإمام لطف من اللّه سبحانه بعباده ليدلهم على ما يقربهم من مرضاته، و قد يكون انكشاف قول الإمام لمدعي الإجماع عن طريق الحدس و هذا قد يكون منشؤه إخبار جماعة اتفق له العلم بعد اجتماعهم على الخطأ بحيث لو حصل لغيره كما حصل له،لعلم بالمطابقة لقول الإمام و قد يكون منشؤه اجتهاد المخبر خاصة بأن يكون قد اعتمد على أصل أو قاعدة أو رأي بعض من يحسن بهم الظن بفنون فاعتقد بأن الكل يقولون بمقالتهم فادعى الإجماع.و هذا النوع لا إشكال بعدم حجيته،لأنه بني على الحدس و هو لا يغني عن الحق شيئا،و لا يكشف عن الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام و الذي استند إليه الطوسي لا يثبت دخول الإمام مع المجمعين و صريح كلام المرتضى أن ذلك ليس بواجب عن الإمام بعد أن كانت الأمة هي السبب في احتجابه.

ص: 258

و ناقل الإجماع إذا استند إلى مبادئ محسوسة توجب له العلم بموافقة قول الإمام من غير أن يستلزم ذلك بحسب العادة،لا يخرج في هذه الحالة عن كونه حدسا لا تشمله أدلة الأخبار،و الأحكام لا تصاب بالحدس،نعم إذا تيسر لمدعي الإجماع الإطلاع على أقوال جميع العلماء في عصر من العصور،يحصل الاطمئنان بدخول الإمام معهم إذا لم يكن مخالفا في المسألة أو كان،و لكن كان معلوم النسب،و مهما يكن الحال فمدرك الإجماع عند الشيعة هو قول المعصوم الداخل مع المجمعين.

و أما الإجماع عند أهل السنة فهو أصل من الأصول الشرعية قائم بنفسه،و استدلوا عليه بحديث:«من فارق القاعة،و خرج عن الجماعة مات ميتة جاهلية»و رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:«لا تجتمع أمتي على ضلال» و بقوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يد اللّه مع الجماعة.و غير ذلك كما حكاه الشيخ في كتاب العدة و غيره من المؤلفين في هذه المواضيع،و استدلوا بالإجماع على شريعة خلافة أبي بكر،و أكثر القائلين بحجيته عندهم بين من يخصه بإجماع الصحابة،و بين من يشترط اتفاق أهل المدينة،فلا بد من اتفاق الكل بالرأي ليتحقق الإجماع و من ذلك تبين أن الإجماع الذي استدلوا به على خلافة أبي بكر لم تتوافر فيه الشروط المطلوبة بالإجماع لأن جماعة من أعيان المسلمين منهم العباس بن عبد المطلب و الزبير بن العوام و غيرهما كانوا إلى جانب علي عليه السّلام و مع هذا الخلاف المفروض لا تكون مسألة الخلاف مشمولة،لأدلة الإجماع المصطلح عندهم.

ص: 259

العقل

المصدر الرابع:و المراد من دليل العقل الأصول الأربعة:البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب.و هذه الأصول على اختلاف مواردها إنما يصح الاعتماد عليه و العمل بهما عند الجهل بالواقع،و عدم وجود الدليل من الكتاب و السنة و عدم توافر أركان الإجماع على حكم الواقعة المشكوك حكمها فيكون الموضوع لهذه الأصول هو الشك في الحكم الواقعي الناتج من عدم وجود الدليل على الحكم،فإن لا حظنا الحالة السابقة،على زمان الشك جرى الاستصحاب،و إن لم نلاحظ الحالة السابقة،و كان التكليف معلوما بنوعه أو جنسه،فإن أمكن الاحتياط كان المتعين،و إن لم يكن جرت أصالة التخيير،و إن لم يكن التكليف معلوما و شك في حكم الواقعة كان أصل البراءة.

أما الأصول الثلاثة:البراءة و التخيير و الاحتياط،فلا شبهة في كونها من الاصول العقلية.

ذلك لأن البراءة إنما تجري في ظرف الشك في التكليف،الناتج عن عدم البيان الواصل إلى المكلف،بعد الفحص في مظان وجوده.و في هذه الحالة يحكم العقل بقبح العقاب قبل أن يصل دليل التكليف بالمشكوك،

ص: 260

و موضوع الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بالتكليف،و تردد المكلف به بين أمرين أو أمور،يتمكن من الإتيان بها،فالعقل في هذه الحالة يحكم بوجوب الإتيان بها امتثالا لأمر المولى.

و مورد التخيير هو تردد المأمورية بين أمرين لا أهمية لأحدهما على الآخر في ظرف عدم التمكن من إتيانهما معا فيدور الأمر بين تركهما معا أو الإتيان بأحدهما مخيرا.و الثاني هو المتعين بنظر العقل ارتكابا لأقل المحذورين،و فرارا من أعظم الخطرين.

أما الاستصحاب و هو الأخذ بالحالة السابقة و البناء على ما كان بالأمس إلى زمان الشك فليس من الأصول العقلية بل يدور أمره بين أن يكون أصلا تعبديا إن كان المدرك فيه الأخبار كقوله عليه السّلام لا تنقض اليقين بالشك و قوله:إذا شككت فابني على اليقين إلى غير ذلك من المرويات التي تعرضت لهذا الأصل،و بين أن يكون إمارة تفيد الظن بالواقع إذا كان مدركه بناء العقلاء،الراجع إلى أن العقلاء بفطرتهم يلتزمون ببقاء المتيقن السابق إلى زمان الشك إلى أن يحصل العلم بزواله،و يجوز أن نسميه عقليا بهذه الملاحظة.

و إذا وجد الدليل المعتبر على حكم الواقعة المشكوكة يمتنع جريان هذه الاصول لأن الشك بالواقع أخذ في موضوعها،و مع وجود الدليل يرتفع الشك تعبدا فلا يبقى موضوع للاصول المذكورة.و الحكم المستفاد من أحد هذه الأصول يسمى حكما ظاهريا،و قد يسمى بالواقعي الثانوي بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك و لا يلزم اجتماع الحكمين المتضادين على تقدير مخالفة الحكم المستفاد من الأصل للحكم الواقعي المجعول للواقعة المشكوك حكمها،إما لاختلاف الرتبة بينهما و وحدتها من جملة الوحدات الثمانية التي يتوقف عليها التضاد،أو لأن المجعول في بعضها

ص: 261

كالإستصحاب هو البناء العملي على أن المؤدي هو الواقع.فإن صادف الواقع لم يكن غيره و إلا كان الجري العملي واقعا في غير محله،و في بعضها الآخر كالاحتياط إنما يجب في مورده للمحافظة على الواقع فيشبه الوجوب الغيري من هذه الناحية و المسألة محررة تحريرا واسعا في كتب الإمامية التي تبحث عن هذه الأصول الأربعة و يجد الباحث فيها مادة من أخصب المواد و أعظمها نفعا و أوثقها صلة بالفقه الإسلامي و قد جاءت هذه نتيجة لفتح باب الإجتهاد على مصراعيه،الذي أضاف إلى الثروة الإسلامية ثروة أخرى أنتجها الفكر الشيعي.و عند الشيعة أصول أخرى غير هذه الأربعة يعتمدون عليها في فقههم كفاعة الفراغ و التجاوز و أصالة الصحة، و قاعدة اليد،و الولد للفراش،و غير ذلك مما هو موجود في كتبهم الفقهية و الأصولية التي تتجاوز أرقامها المئات.

و تسمى الأصول و القواعد عندهم بالأدلة الاجتهادية،و لا يرجع إليها الفقيه إلا بعد بذل الجهد في نصوص الكتاب و السنة و التثبت من أدلتها و مواردها و مقدار عمومها،إلى غير ذلك مما هو مدون في المجاميع الفقهية و الأصولية.

ص: 262

موقف الشيعة من القياس

بعد أن اتسعت رقعة الإسلام و انتقل المسلمون من حياتهم البدائية المحدودة من جميع نواحيها إلى المرحلة الثانية من حياتهم التي استقبلوا فيها حضارة الفرس و الرومان و تفتحت لها قلوبهم و عقولهم وجدوا أنفسهم في وضع يختلف أشد الاختلاف عما كانوا عليه،و دعتهم الحاجة إلى التعرف على أحكام تلك الحوادث المتجددة،فوجد الفقهاء أنفسهم مضطرين إلى الفحص و البحث في الكتاب و السنة،و لكن الكتاب لم يستوعب جميع الأحكام لأنه في بعض الأحيان يضع المبادئ و القواعد و يترك التفاصيل للنبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.و المرويات عن الرسول لم تتوافر شروط الأخذ بها و الاعتماد عليها لجميع الفقهاء و بخاصة العراقيين منهم لبعض الملابسات و الاعتبارات فرجعوا إلى اجتهاداتهم،و كان من نتائجه الأصول الثلاثة:الاستحسان.و الاستصلاح،و القياس.

أما الاستحسان فهو من أصول التشريع عند الاحناف و المالكية و الحنابلة،و وقف منها الشوافع موقفا سلبيا،و جاء عن الشافعي أنه قال:

من استحسن فقد شرع.

و عرفه أبو الحسن الكرخي،بأنه هو العدول عن الحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه يقتضي العدول عن الحكم الأول سواء

ص: 263

كان الحكم المعدول عنه ثابتا بعموم أو دليل خاص أو قياس أو غير ذلك من أدلة الأحكام.

الاستصلاح و هو من أدلة الأحكام عند المالكية و الحنابلة و لم يأخذ به الشوافع و الأحناف،و جاء عنهم أنهم قالوا من استصلح فقد شرع،و هو عبارة عن الحكم في مسألة لا حكم فيها لمصلحة يهتدي إليها المجتهد برأيه.

أما القياس فقد اشتهر به الأحناف و غالوا في استعماله حتى كاد الحديث أن يكون مهجورا بينهم،و أخذ به الفقهاء الثلاثة و لكنه عند الحنابلة من أضعف الأدلة،و عرفه بعضهم بأنه إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لعلة جامعة بينهما،و استدلوا على ذلك بأمور كثيرة منها أن العلة الموجودة في الأصل هي التي أوجبت تعلق الحكم به،و هي بعينها موجودة في الفرع فيجب أن يثبت له مثل ذلك الحكم،هذا بالإضافة إلى الوثيقة التي كتبها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري اعرف الأشياء و النظائر و قس الأمور بعضها ببعض،و بما جاء عن بعض الصحابة مما يشير إلى جواز الاعتماد عليه عند الحاجة.

و وقف الشيعة منه موقفا سلبيا حتى أصبح ذلك معروفا من مذهبهم لأن القرآن الكريم قد منع من الاعتماد على الظن.و القياس لا يفيد أكثر من ذلك.و قال الشيخ الطوسي في كتابه«العدة»لقد جاء عن علي عليه السّلام أنه قال:

لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره.

و عن أبي بكر أنه قال:أي سماء تظلني،و أي أرض تقلني،إذا قلت في كتاب اللّه برأيي.و عن عمر بن الخطاب إياكم و أصحاب الرأي فإنهم أعداء للسنن،لقد أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا و أضلوا.و قال:إياكم و المكايلة.قيل له و ما هي؟قال المقايسة:و نقل في

ص: 264

العدة عن جمع من الصحابة النهي عن استعمال القياس.و روايات أهل البيت صريحة في حرمة العمل به.منها ما ذكره في الوافي عن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال:السنة لا تقاس،ألا ترى أن المرأة تقضي صومها و لا تقضي صلاتها،يا أبان!إن السنة إذا قيست محق الدين.و في الوافي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام أنه قال:ما لكم و القياس إن اللّه لا يسأل كيف أحل و كيف حرم.و عن الصادق عليه السّلام:أن أصحاب المقاييس لم تزدهم المقاييس إلا بعدا عن الحق و إن دين اللّه لا يصاب بالقياس.

و الشيعة قد يعتمدون على العلة المنصوصة أحيانا،و يلحقون غير المنصوص عليه بالمنصوص،إذا اقترن بالعلة على شرط أن تكون علة للحكم.كما إذا ورد لا تشرب الخمر لأنه مسكر،فيثبتون الحرمة لكل مسكر،و لكن ذلك ليس من باب القياس و إنما هو لأن موضوع الحرمة في واقع الأمر هو المسكر،فتكون كسائر القضايا الحقيقية التي يتعلق فيها الحكم على الموجود،و ما يفرض وجوده،فكل ما فرض وجوده و كان مسكرا يحرم شربه،و بهذا تمتاز علل الأحكام على حكمة التشريع التي لا يلزم من تخلفها انتفاء الحكم،على أن القياسيين يعتمدون على اجتهادهم في استخراج العلل،و الاجتهاد يخطئ و يصيب كما لا يخفى.

ص: 265

الفرق التي تفرعت عن الشيعة

اشارة

يهمنا في هذا الفصل أن نقارن بين عقيدة الشيعة الإمامية و عقائد الفرق التي تفرعت عن التشيع لعلي و بنيه عليه السّلام لذلك فإنا نتحدث عنهم من ناحية العقيدة،ليظهر للملأ مقدار الظلم الفاحش الذي يقع به من يكتب عن الشيعة الإمامية،و يلصق بهم أوزار تلك الفرق التي كانت تدين بالولاء لعلي و ولده،ثم خرجت عن التشيع و الإسلام معا.

و قد أسرف بعضهم إسرافا لا مبرر له فعد الخوارج من فرق الشيعة، كما يظهر من الشهرستاني في الملل و النحل قال في المجلد الأول:أول من خرج على أمير المؤمنين علي عليه السّلام جماعة ممن كانوا معه في حرب صفين، و أشدهم خروجا عليه و مروقا من الدين الأشعث بن قيس،و مسلم بن فدك التميمي،و زيد بن حصن الطائي،حين قالوا:القوم يدعون إلى كتاب اللّه و أنت تدعونا إلى السيف..

لقد سبق منا أن التشيع في عرف الشيعة يعني أن عليا هو صاحب الحق الشرعي في الخلافة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لا غيره،و ليس كل من أظهر له الطاعة،بعد أن صارت الخلافة إليه من الشيعة فالجمهور من الناس يقولون بخلافته بعد مقتل عثمان عدا معاوية و أتباعه من أهل الشام،و أول من قام

ص: 266

بفكرة الخوارج هو الأشعث و جماعة معه في صفين،و ليس كل من كان معه إذا لم ير رأي الشيعة في الخلافة يكون شيعيا،و إن دان له بالطاعة في أيام خلافته،لذلك فإن عد الخوارج من فرق الشيعة من الأخطاء التي لا يساعد عليها التاريخ و لا يقرها البحث و الدراسة لتاريخ الفرق و معتقداتها.

ص: 267

الغلاة

و أول هذه الفرق كما يدعي أكثر الكتاب أولئك الذين أفرطوا في الولاء لعلي عليه السّلام و نسبوا إليه الألوهية،قال في المجلد الأول من شرح النهج:

و أول من جهر بالغلو في أيامه عبد اللّه بن سبأ ((1))،قام إليه و هو يخطب فقال له أنت أنت،و جعل يكررها،فقال له و يلك من أنا؟فقال أنت اللّه!فأمر بأخذه و أخذ قوم كانوا معه و عرضهم على النار،فمن تاب و رجع خلى سبيله،و من أصر على مقالته أحرقه بالنار،و كان عبد اللّه بن سبأ ممن أظهر التوبة،و تشفع فيه عبد اللّه بن العباس فنفاه علي عليه السّلام إلى المدائن فأقام بها إلى أن قتل علي عليه السّلام و لما بلغه قتله قال:و اللّه لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة،لعلمنا أنه لم يمت و لا يموت،حتى يسوق العرب بعصاه.و نقل هذه المقالة النوبختي في كتابه فرق الشيعة،و قال الشهرستاني في المجلد الأول:الغلاة هم الذين غلوا في حق أئمتهم،حتى أخرجوهم عن حدود الخليقة،و حكموا فيهم بأحكام الآلهة.و في الكتاب المذكور:لقد تشعبت أصناف الغلاة حين زعموا أن عليا حي لم يقتل،و فيه الجزاء الإلهي و هو الذي يجيء في السحاب،و الرعد صوته و البرق سوطه،و أنه سينزل بعد

ص: 268


1- لقد أثبتت الدراسات العلمية أن عبد اللّه بن سبأ من الشخصيات الوهمية التي لا وجود لها في تاريخ المسلمين.

ذلك إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا.و إنما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي عليه السّلام إلى ربه،و اجتمع على مقالته جماعة ممن كان من شيعة علي عليه السّلام و في شرح النهج المجلد الثاني ثم ظهر المغيرة بن سعيد مولى بجيلة،فأراد إن يحدث لنفسه مقالة يستهوي بها قوما و ينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا.

فغلى في علي عليه السّلام،و قال لو شاء علي عليه السّلام لأحيا عادا و ثمودا و قرونا بين ذلك،ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة و أمعنوا في الغلو فادعوا حلول الذات الإلهية المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين،و قالوا بالتناسخ و جحدوا البعث و النشور،و أسقطوا الثواب و العقاب،و قال قوم منهم إن الثواب و العقاب ملاذ هذه الدنيا و مشاقها،و تولدت من هذه المذاهب القديمة التي قال بها سلفهم مذاهب أفحش منها قال بها خلفهم حين صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية و هي التي أحدثها محمد بن نصير النميري و كان من أصحاب الحسن العسكري عليه السّلام،و المقالة المعروفة بالإسحاقية و هي التي أحدثها إسحاق بن زيد بن الحرث:و كان من أصحاب عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر.و كان يقول بالإباحة و إسقاط التكاليف،و قال في علي أنه شريك للرسول في النبوة.و أما محمد بن نصير فلقد ادعى أنه وكيل لأبي الحسن علي الهادي،ففضحه اللّه بما أظهره من الإلحاد و الغلو، و القول بالتناسخ،ثم ادعى أنه نبي أرسله علي بن محمد بن الرضا عليه السّلام، و جحد إمامة الحسن العسكري،ثم ادعى بعد ذلك الربوبية.و ما جاء في فرق الشيعة للنوبختي مواقف لما في شرح النهج،عن محمد بن نصير.و زاد النوبختي،أن أتباع أبن نصير يسمون النميرية.

و من فرق الغلاة الكاملية أصحاب أبي كامل،و هؤلاء كفروا جميع الصحابة بتركهم بيعة علي عليه السّلام،و طعنوا في علي لأنه لم يطالب بحقه،

ص: 269

و قالوا بالتناسخ،و أن الإمامة نور يتناسخ من شخص لآخر،و هو في شخص نبوة و في آخر إمامة كما ذكر ذلك الشهرستاني.

و عن خطط المقريزي أن المغيرية من الغلاة،و صاحبهم المغيرة بن سعيد،لقد ادعى أولا أن الإمام بعد الباقر عليه السّلام هو محمد بن عبد اللّه الحسن،ثم ادعى الإمامة لنفسه و ادعى بعد ذلك النبوة،و قال بالتشبيه كما في الملل للشهرستاني.

و منهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب،و كان متصلا بالإمام الصادق فلما وقف الإمام عليه السّلام على غلوه الباطل تبرأ منه و لعنه و أمر أصحابه بالبراءة منه و لعنه،و قد زعم أن الأئمة أنبياء،ثم قال بألوهية جعفر بن محمد و آبائه كما في الملل للشهرستاني و غيره من كتب الفرق.

و منهم المنصورية أصحاب أبي منصور العجلي،و كان من أصحاب الباقر عليه السّلام فلما أظهر الغلو تبرأ منه الإمام عليه السّلام فادعى الإمامة لنفسه،و ادعى الألوهية لعلي عليه السّلام و أنه عرج إلى السماء،و أن الجنة و النار رجلان أمرنا بمعاداة أحدهما،و موالاة الآخر،كما في الملل و النحل و غيره.

و منهم العلبائية أصحاب العلباء بن دراع الدوسي أو الأسدي و كان يقول أن عليا هو الذي بعث محمدا،و أن محمدا بعث ليدعو إلى علي عليه السّلام، و من هذه الفرقة من قال بإلهية خمسة أشخاص و هم أصحاب الكساء،و أنهم شيء واحد،و قد حلت الروح فيهم بالسوية،ذكر ذلك في الملل،و في كتاب الشيعة في التاريخ عن خطط المقريزي.

و للغلاة فرق كثيرة و أقوال كلها فاسدة،لا تتفق مع العقائد التي استمدها المسلمون من الكتاب الكريم،و السنة الشريفة فضلا عن عقائد الشيعة الإمامية.و لقد تبرأ منهم أئمة الشيعة،و أعلنوا عن رأيهم بكل صراحة في أصحاب هذه الشبه و الآراء الفاسدة،و لقد قال الإمام الصادق عليه السّلام في

ص: 270

رواية رواها عنه أبان بن عثمان:كان و اللّه أمير المؤمنين عبدا طائعا و الويل لمن كذب علينا إني ذكرت عبد اللّه بن سبأ،فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمرا عظيما،ما له لعنه اللّه،كان علي و اللّه عبدا صالحا،ما نال الكرامة من اللّه إلا بطاعته للّه،و ما نال رسول اللّه الكرامة من اللّه تعالى إلا بطاعته للّه.

و ذكر الشهرستاني في الملل أن أبا جعفر الباقر عليه السّلام قال:برئ اللّه و رسوله من المغيرة بن سعيد،و بيان ابن سمعان،فإنهما كذبا علينا أهل البيت.

و روى زرارة أن أبا جعفر عليه السّلام كان يقول:لعن اللّه بيانا التبان،إن بيانا كان يكذب على أبي،و أشهد أن أبي علي بن الحسين كان عبدا صالحا.

و عن هشام بن الحكم أنه قال:قال أبو عبد اللّه الصادق:أن بيانا و السري و بزيغا لعنهم اللّه تراءى لهم الشيطان بأحسن صورة من قرنه إلى سرته،كما جاء في الكافي و الوافي و غيرهما.

و قد تقدمت الرواية عن الصادق عليه السّلام،في جملة من الكذابين منهم أبو الخطاب،و حمزة اليزيدي،و النهدي،و بشار الأشعري و السري،و قد لعنهم جميعا،و عن اسحاق ابن عمار،إن أبا عبد اللّه قال لبشار الأشعري لما دخل عليه:اخرج عني لعنك اللّه،و اللّه لا تظلني و إياك سقف ابدا.فلما خرج قال عليه السّلام ويله ما صغر اللّه تصغير هذا الفاجر أحد.إنه شيطان ابن شيطان خرج ليغري أصحابي و شيعتي فاحذروه،و ليبلغ الشاهد الغائب..

و في منهج المقال عن أبي محمد الحسن العسكري،أنه كتب ابتداء منه إلى أحد مواليه،إني أبرأ إلى اللّه من محمد بن نصير الفهري و ابن بابا القمي،فأبرأ منهما،و أني محذرك و جميع موالي و مخبرك أني ألعنهما عليهما لعنة اللّه فتّانين مؤذيين آذاهما اللّه،يزعم ابن بابا أني بعثته نبيا،و أنه

ص: 271

بابي،ويله لعنه اللّه،سخر منه الشيطان فأغراه،فلعن اللّه من قبل منه ذلك، يا محمد إن قدرت أن تشرخ رأسه فافعل.

و في حديث للإمام زين العابدين،مع جماعة من أصحابه قال لهم:ما برح حبكم لنا حتى أصبح علينا عارا،يريد بذلك أن ينهاهم عن الإسراف في المدح و الولاء البالغ مرتبة الغلو،و الخارج عما تألفه طباع البشر.و قال الإمام الصادق و هو يعلم أصحابه،كيف يذكرون أئمة أهل البيت.لنا ذكر في كتاب اللّه،و نسب من رسول اللّه،و ولادة طيبة،هكذا قولوا إلى الناس!!و لعل من أهم العوامل لتفشي هذه الآراء الفاسدة في زمن العباسيين حرص الحكام على إضعاف السلطة الروحية التي كان يتمتع بها أئمة الشيعة،فرفعت من مكانتهم العالية في نفوس الجماهير،فظن الحكام أن في هذا الاتجاه الدنيء سبيلا للحط من مكانتهم،بعدما رأوا أن القتل و التشريد و الاضطهاد قربهم إلى الناس،و جر عليهم العطف و التظلم لحالهم،فلجأوا إلى هذا الاسلوب،و يشهد لذلك ما رواه المفيد في إرشاده،أن المتوكل قال يوما لبعض خاصته:و يحكم قد أعياني أمر ابن الرضا عليه السّلام،و جهدت أن يشرب معي و ينادمني،فامتنع،وجدت أن أجد فرصة في هذا المعنى،فلم أجدها.فقال له بعض من حضر:إن لم تجد من ابن الرضا ما تريد،فهذا أخوه موسى يشرب و يخالع،فأحضره و أشهره فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك،فلا يفرق الناس بينه و بين أخيه،و من عرفه من بسطاء الناس اتهم أخاه بمثل فعاله.

ص: 272

الكيسانية

قال الشهرستاني:الكيسانية هم أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،و قيل أنه تلميذ محمد بن الحنفية،و يعتقدون فيه الإحاطة بالعلوم كلها،و اقتباسه من الإمامين الحسن و الحسين الأسرار بجملتها،و يرون أن الدين طاعة رجل حتى حملهم ذلك على تأويل الأحكام الشرعية،كالصلاة و الصوم و الزكاة و الحج،و قال بعضهم بجواز تركها بعد الوصول إلى طاعة الرجل.و قالوا بالتناسخ و الحلول و الرجعة،و هؤلاء بين قائل بأن الإمامة في واحد لا يموت،حتى يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا،و بين من يقول بانتقال الإمامة إلى غيره.وعد الشهرستاني منهم المختارية أصحاب المختار الثقفي،كما عده من الكيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنفلية،و أن محمدا تبرأ منه لما اطلع على سوء عقيدته،و نسب إليه القول بالبداء،و أن الملائكة تنزل عليه على صورة حمام أبيض،و عنده كرسي مغشى بالديباج،يدعي أنه من ذخائر أمير المؤمنين عليه السّلام و منهم الهاشمية أتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية،و قد انتقلت إليه الإمامة من أبيه على حد زعمهم و نسبوا إليه علم الظاهر و الباطن،و جميع أسرار العلوم و أنه ورث ذلك عن أبيه،و أخذها أبوه عن جده علي عليه السّلام،و افترقوا بعد ذلك إلى فرق خمسة الفرقة الأولى تدعي أنه

ص: 273

أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس،و صارت الخلافة في ولده حتى انتهت إلى أبي العباس السفاح،و لهم الحق في ذلك لاتصالهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و فرقة منهم تدعي انتقال الخلافة من أبي هاشم إلى ابن أخيه الحسن ابن علي بن محمد بن الحنفية،و فرقة تدعي انتقالها من أبي هاشم إلى أخيه علي بن محمد.و قالت فرقة بخروجها من بني هاشم إلى عبد اللّه بن عمرو الكندي بوصية من أبي هاشم و أن روح أبي هاشم تحولت إليه، و لكنه كان مستهترا في الدين لذلك رجع من قال بإمامته إلى عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر.و كان يرى تناسخ الأرواح من شخص إلى آخر،و أن روح اللّه تناسخت حتى وصلت إليه،و حلت فيه،و ادعى الألوهية و النبوة معا،و أنكر القيامة و الثواب و العقاب،و بعد أن مات بخراسان افترق أصحابه،فبين من قال بأنه حي لم يمت،و بين من زعم بأن روحه تحولت إلى إسحاق بن زيد الحارث الأنصاري و هؤلاء يسمون الحارثية.يقولون بإباحة المحارم و يعيشون عيشة من لا تكليف عليه.و قد حصل بين أصحاب عبد اللّه بن معاوية و أصحاب محمد بن علي بن عبد اللّه العباس خلاف في الإمامة،و كل يدعي الوصية من أبي هاشم إليه.

و منهم البيانية أتباع بيان بن سمعان النهدي،القائلين بانتقال الإمامية من أبي هاشم إليه،و هؤلاء يقولون بأن عليا هو اللّه و قالوا في تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ إن المراد بذلك علي عليه السّلام و أن الرعد صوته و البرق بسمته.ثم ادعى بيان انتقال الجزء الإلهي إليه بنوع من التناسخ،و ذلك الجزء هو الذي استحق به آدم سجود الملائكة، و زعم أن معبوده على صورة إنسان،و أنه يهلك إلا وجهه،و هو المعني بقوله كل شيء هالك إلا وجهه،و النهدي صاحب هذه المقالة قتله خالد بن عبد اللّه القسري،و من فرق الكيسانية الرزامية أتباع«رزام»و هؤلاء ساقوا الإمامة من علي عليه السّلام إلى ابنه محمد ثم إلى أبي هاشم،و منه إلى علي بن عبد اللّه بن

ص: 274

العباس بالوصية و منه إلى محمد بن علي و ولده إبراهيم و قد ظهر بخراسان في أيام أبي مسلم،و قيل أنه كان على مذهبه،و ادعوا حلول الروح فيه، و لهذا أيده اللّه على بني أمية،و قالوا بتناسخ الأرواح،و منهم المقنع الخراساني،و هو عطاء الساحر،و قد ادعى بأنه هو اللّه و تبعه جماعة دانوا بترك الفرائض،و إن الدين معرفة الإمام لا غير،و لهم أقوال كثيرة غير هذه، و قد اقتبسنا هذا و لخصناه من ملل الشهرستاني و غيره من كتب الفرق و المعتقدات و في فرق الشيعة للنوبختي أن الكيسانية تنسب إلى المختار الثقفي،لأنه الملقب بكيسان،و ينسب إليه النوبختي أنه كان يكفر من تقدم عليا،و أنه يزعم نزول الوحي عليه،كما تقدم ذلك عن«الملل»،ثم يستطرد النوبختي في تعداد فرق الكيسانية،باختلاف يسير عن صاحب الملل، ولكنهما يشتركان في نسبة العقائد الفاسدة،و الآراء الشاذة،و الغلو في الأئمة،و الإفراط في الزندقة،لكثير من هذه الفرق الضالة.و يذكر النوبختي أن الكربية أصحاب ابن كرب،و منهم حمزة بن عمار البربري،كانوا يعتقدون أولا أن الإمامة لمحمد بن الحنفية،و هو المهدي،كما سماه أبوه بهذا الاسم،و أنه غائب لا يموت،و سيرجع فيملك الأرض،ثم تطورت عقيدتهم فادعى حمزة البربري أنه نبي هذه الأمة،و أن محمدا هو اللّه.و قد بعثه رسولا من قبله،و ينقل عنه غير ذلك مما يوجب الكفر و الزندقة و أن أبا جعفر محمد بن علي عليه السّلام لعنه و تبرأ منه و كذبه في كل ما يدعيه،و أوصى أصحابه بالبراءة منه فرجع عنه أصحابه إلا بيان بن سمعان و هاثد الهندي.

و قد ذكرنا بعض المرويات عن الإمامين الصادق و الباقر عليهما السّلام في شأن هذين و أمثالهما من دعاة الكفر و الزندقة،و مهما يكن الحال فجميع فرق الكيسانية،إن صح ما ينسب إليهم،فلا نشك بكفرهم،و خروجهم عن الإسلام،فضلا عن التشيع،و إن لم يصح عنهم ذلك فهم كسائر المحكوم بإسلامهم،و إن خالفوا الإمامية في ترتيب الإمامة على النهج المتعارف عند

ص: 275

الشيعة،و أما المختار الثقفي فقد ذكره التاريخ و الباحثون في الملل و العقائد،و نسبوا إليه بعض الأباطيل التي لا تتفق مع أركان الإسلام و أصوله.

و الفريق الكبير من علماء الشيعة الإمامية ينزه المختار مما نسب إليه من الأباطيل،منهم العلامة الحلي و ابن طاووس،و المحقق الأردبيلي، و غيرهم من أعيان العلماء.كما ذكر ذلك السيد عبد الرزاق و غيره فيما كتب حول تنزيه المختار،و لقد ورد الحديث عن أئمة أهل البيت في الطعن عليه، و البراءة منه،و ورد ما يدل على ولائه و استقامته في عقيدته،و في بعضها أن الإمامين السجاد و ولده الباقر عليه السّلام كانا يترحمان عليه و يذكراه بأطيب الذكر.

و ليس من البعيد أن يكون للظروف القاسية التي كانت تحيط بالإمامين أعظم الأثر في ذمه و البراءة منه،و ليس في تمسكه بمحمد بن الحنفية دليل قاطع على أنه قال بإمامته،و من الغريب أن يكون أراد بذلك استجلاب الناس،ليتم له ما أراد من التنكيل بقتله الحسين عليه السّلام و في الوقت نفسه أراد أن يبقي الإمام الشرعي زين العابدين،بعيدا عن التدخل بشؤون السلطان، خوفا أن تناله يد السوء و البغضاء،كما نالت أباه من قبله،و مهما يكن حاله فلقد وقف موقفا لا ينساه له التاريخ،و لا صاحب الرسالة و أبناءه أئمة الهدى،حارب البغي و الجور،و نصر العترة الطاهرة و جرى على يده ما خفف عن أهل البيت من آلام تلك الفاجعة الأليمة،التي بكى لها النبي قبل وقوعها بعشرات السنين،و بقيت مرارتها في قلوب الأئمة من أهل البيت و شيعتهم طيلة حياتهم.

ص: 276

الزيدية

لقد كثرت الروايات عن أئمة أهل البيت في فضل زيد بن علي و نزاهته عما نسب إليه من أمر الإمامة،و جاء في حديث الإمام الرضا عليه السّلام مع المأمون:يا أمير المؤمنين!لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي بن الحسين، فإنه من علماء آل محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،غضب للّه عز و جل فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله.و لقد حدثني أبي موسى بن جعفر عليه السّلام أنه سمع أبا جعفر عليه السّلام يقول رحم اللّه عمي زيدا إنه دعا إلى الرضا من آل محمد.و لو ظفر لوفى بما دعا إليه،و لقد استشارني في خروجه فقلت له يا عم!إن رضيت أن تكون أنت المقتول بالكناسة فشأنك،فلما ولى قال جعفر بن محمد عليه السّلام ويل لمن سمع داعيته و لم يجبه.فقال له المأمون يا أبا الحسن:أليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء!قال الرضا عليه السّلام:إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق،و أنه كان اتقى اللّه من ذلك.إنه قال أدعوكم إلى الرضا من آل محمد و في كفاية الأثر عن عمرو بن المتوكل البلخي عن أبيه،قال:لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه و هو متوجه إلى خراسان،فما رأيت رجلا في فضله و عقله مثله،فسألته عن أبيه فقال:قتل و صلب بالكناسة،ثم بكى و بكيت حتى غشي عليه فلما سكن قال رحم اللّه أبي،كان أحد المتعبدين، قائما ليله،صائما نهاره جاهد في سبيل اللّه حق جهاده،فقلت يا ابن رسول

ص: 277

اللّه هكذا يكون الإمام بهذه الصفة؟فقال يا عبد اللّه إن أبي لم يكن بإمام، و لكن كان من السادة الكرام و زهادهم،و كان من المجاهدين في سبيل اللّه.

قلت يا ابن رسول اللّه إن أباك قد ادعى الإمامة لنفسه و خرج مجاهدا في سبيل اللّه،و قد جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فيمن ادعى الإمامة كاذبا،فقال:مه مه يا عبد اللّه إن أبي كان أعقل من أن يدعي ما ليس له بحق،إنما قال أدعوكم إلى الرضا من آل محمد،عني بذلك ابن عمي جعفرا عليه السّلام،قلت فهو اليوم صاحب فقه قال نعم هو أفقه بني هاشم،و غير هاتين مما هو صريح في أنه لم يطلب الإمامة لنفسه.و ورد عن الباقر عليه السّلام ويل لمن سمع داعيته و لم يجبه،و عن الصادق:إذا دعاكم فأجيبوه و إذا استنصركم فانصروه،و يظهر من الروايات الكثيرة أنه كان في المرتبة الثانية بعد الإمامة في علمه و قداسته و إخلاصه للّه سبحانه،و المبادئ الإسلامية المقدسة بعد أئمة هذا البيت،و بدافع الحرص على مبادئ الإسلام كانت ثورته،و لم ترض له نفسه الكبيرة أن يرى هشاما يعبث بالمقدسات يشتم سيد الهاشميين في زمانه أخاه الباقر،و قد وفد عليه زيد ليشكو إليه ظلم عماله،و سوء صنيعهم مع الرعية،فحجبه هشام على بابه أياما مع سوقة الناس و لما دخل عليه أو عز لمن في مجلسه من الأذناب و عباد الشهوات و الأطماع أن لا يفسحوا له ليجلس مع الناس،فوقف زيد و هو يردد:«ما أحب الحياة أحد إلا ذل»،فتحداه هشام بقوله:بلغني أنك تذكر الخلافة و تتمناها،و لست هناك لأنك ابن أمة،فقال زيد:إن اللّه اختار إسماعيل بن إبراهيم و بعثه نبيا و هو ابن أمة و أخرج منه خير البشر،فلم يدر هشام ما يجيب،فعدل إلى أسلوب آخر فرضه عليه حقده و عداؤه للّه و لرسوله،فقال لزيد:ما فعل أخوك البقرة؟فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه و قال:سماه رسول اللّه الباقر،و أنت تسميه البقرة،لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا،فيرد الجنة و ترد النار،فأخرجه هشام من مجلسه و هو يريد به المدينة،و علم زيد

ص: 278

أن في ذلك هلاكه على يد عاملها،فالتجأ إلى الكوفة و فيها أكبر مجموعة من شيعة آبائه و أعداء البيت الأموي الجبار فكان من أمره ما قصه علينا التاريخ.

و مهما يكن الحال فالذي يهمنا هو أن نتعرف إلى الزيدية من ناحية العقيدة،لنعرف مدى اتصالهم بالشيعة الإمامية.و الذي يظهر من الشهرستاني أن الزيدية المنسوبين إلى زيد بن علي عليه السّلام خصوا الإمامة في أولاد فاطمة عليها السّلام و لكنهم يخالفون ما عليه الإمامية فهي عندهم لكل عالم زاهد شجاع خرج بالسيف،فمن جمع هذه الصفات كان إماما،تجب طاعته،من أولاد الحسن أو الحسين عليهم السّلام،و لذلك قالوا بإمامة محمد و إبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن و قد خرج في أيام المنصور،و تجوز عندهم الإمامة لشخصين في عصر واحد إذا خرجا في قطرين و جمعا شروط الإمامة.

و في الملك للشهرستاني أن زيدا تتلمذ على واصل بن عطاء المعتزلي و كان يرى رأي المعتزلة في الخلافة الإسلامية،و أن شيعة الكوفة رفضوه لأنه لم يتبرأ من الشيخين،و كان له مع أخيه الباقر جدال حول تلمذته على واصل بن عطاء،مع أنه يجيز الخطأ على علي عليه السّلام في قتال أهل البصرة و أهل الشام،و يرى فيه غير ما يراه آباؤه و أكثر المسلمين،و لأنه يشترط في الإمامة الخروج بالسيف.كان الإمام الباقر ينقض عليه قوله بوجوب الخروج بالسيف بإمامة أبيه التي يقول فيها زيد مع أنه لم يخرج على أحد بالسيف.و بعد أن قتل زيد و قام ولده يحيى بالسيف قال بإمامته أصحاب هذه العقيدة و مضى إلى خراسان و التف حوله جمع ممن يرى ظلامة أهل البيت،و بعد قتال جرى لهم مع ولاة بني أمية قتل يحيى بالجوزجان و خفت أمر الزيدية إلى أن ظهر بخراسان ناصر الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن عمرو بن الحسين عليه السّلام و كان يلقب الناصر فتبعه الوالي فخرج إلى الديلم

ص: 279

و أهله على غير الإسلام فدعاهم إليه على مذهب زيد بن علي فدخلوا فيه على مذهب الزيدية في الأصول و الفروع و هم أصناف ثلاثة جارودية و سليمانية و بترية.

و الجارودية هم أصحاب أبي الجارود و هو زيد بن المنذر الهمداني فقالوا بالنص على علي عليه السّلام بوصفه لا باسمه و هو يخالف زيدا في رأيه بمن تقدم عليا من الخلفاء الراشدين و يذهب قسم منهم إلى أن الإمام بعد زيد هو محمد بن عبد اللّه بن الحسن و على رأيهم في ذلك أبو حنيفة.و في مقاتل الطالبيين أن أبا حنفية كتب إلى إبراهيم أخي محمد بن عبد اللّه يشير عليه أن يقصد الكوفة سرا لأن فيها من الشيعة من يبيت المنصور و يقتله فظفر المنصور بالكتاب و بعث إليه فسقاه شربة فمات فيها و قيل أنه قتله لأنه أبى أن يتولى له القضاء.و القائلين بإمامة محمد بن عبد اللّه بن الحسن،ذهب بعضهم إلى أنه المهدي و أنه حي لم يقتل و سيخرج فيملأ الأرض عدلا، و ذهب آخرون أنه قتل و انتقل الأمر منه إلى محمد بن القاسم بن عمرو بن علي بن الحسين صاحب الطالقان.و كانت العامة تلقبه الصوفي،لأنه كان يدمن لبس الصوف و قد مات في حبس المعتصم.و فرقة تدعي انتقال الإمامة ليحيى بن عمر صاحب الكوفة،و هو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد و قتل في أيام المستعين،فهؤلاء أتباع أبي الجارود،و كان يسمى سرجوب.سماه بذلك الإمام الباقر عليه السّلام و قد فسره الإمام عليه السّلام بأنه شيطان أعمى يسكن البحر و أما السليمانية فهم أصحاب سليمان بن جرير،و كان يرى أن الإمامة شورى بين المسلمين،و تصح في المفضول مع وجود الأفضل و يخطئ الأمة في اختيارها غير علي عليه السّلام و يرى أن عثمان قد أحدث في الإسلام ما لم يعهد من قبل،و يرى ضلال عائشة و طلحة و الزبير لإقدامهم على قتال الخليفة الشرعي،و تبعه جماعة من المعتزلة منهم كثير بن إسماعيل النواء،قالوا بوجوب الإمامة لإقامة الحدود،و ولاية الأيتام،

ص: 280

و حفظ بيضة الإسلام،و قتال الأعداء و غير ذلك من المصالح الراجعة لشؤون المسلمين.و لا يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه،لأن هذه المصالح تقوم بالمفضول و أما البترية و الصالحية و هم أصحاب كثير النواء الأبتر،فليس بين قولهم و قول من تقدمهم،فيما يرجع إلى الإمامة و أصول الدين اختلاف جوهري غير أنهما يجيزا ظهور إمامين في عصر واحد،كل واحد في قطر خاص.و ما ذكرناه من رأي الزيدية في الإمامة و اختلافهم في ترتيبها،و عقيدتهم في الإمام لخصناه من ملل الشهرستاني و من فرق النوبختي،بعد أن عدد فرقهم و ذكر منها الجارودية و هم أتباع زياد بن المنذر الملقب بسرجوب،و العجلية،و البترية،نسب إلى الجارودية القول بأن جميع ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم من حلال و حرام،هو عند آل النبي،صغيرهم و كبيرهم فيه سواء حتى من كان في المهد،و من شك في ذلك فهو كافر باللّه.و ما غير الجارودية فلا يرون هذا الرأي في أهل البيت،و يرون أن العلم مشترك بينهم و بين سائر الناس،و يمكن أن يكون لغيرهم ما لهم،و أن يكون أعلم منهم،و جميع من كتب عن الزيدية و تعرض لعقيدتهم،لم ينسب إليهم الشذوذ و الخروج على أصول الإسلام و فروعه الضرورية،و إنما يختلفون مع غيرهم من المسلمين في أصل الإمامة،و هم كما يخالفون الشيعة يخالفون فيها أهل السنة،فهم بنظر الشيعة كغيرهم من المسلمين الحافظين لأصول الإسلام و فروعه،كما جاءت في الكتاب الكريم،و السنة النبوية الشريفة.و يرون لهم ما لغيرهم من الحقوق التي فرضت على المسلم لأخيه المسلم.و الشيعة يرحبون بكل من ينتسب إلى التشيع على أن يكون معتدلا في عقيدته،مواليا لأهل البيت كما حددوا الولاء لشيعتهم،ذكر في كتاب اللّه،و نسب يتصل برسول اللّه،و ولادة طيبة.

ص: 281

الاسماعيلية

لقد ظهر مذهب(الاسماعيلية)بعد وفاة الإمام جعفر بن محمد عليه السّلام في حين كانت حياة الإمام عليه السّلام أثقل ما تكون على المنصور و حاول أكثر من مرة أن يجد سببا لقتله يستطيع أن يجابه به الرأي العام فلم يجد لذلك سبيلا.

و قبل وفاة الإمام عليه السّلام أوصى إلى ستة نفر أحدهم المنصور،لعلمه أن المنصور سيتتبع خلفه كما كان يرافقه في حياته،لذلك تكتم في الوصاية إلى الإمام الشرعي ولده موسى عليه السّلام و بقي شيعته المنتشرون في أنحاء الدولة في حيرة بعد وفاته و أخيرا اهتدى إليه جماعة منهم،و قالت فرقة منهم بإمامة ولده إسماعيل،و كان قد مات في حياة أبيه،و حملت جنازته على رقاب الناس،و تقدم الإمام سريره و أمر بوضعه على الأرض مرارا كثيرة و في كل مرة يكشف عن وجهه ليراه الناس،و كأنه كان يعلم أن القوم سيخلقون الشبهة حول وفاته،فكتب سجلا في وفاته أشهد عليه جماعة منهم أمير المدينة و أرسله إلى المنصور،كما ذكر ذلك في شرح النهج و مع كل ذلك فقد قالت فرقة من الشيعة بحياته بعد أبيه،و ادعت أن الإمام أظهر موته خوفا عليه من خلفاء بني عباس،و قالوا بإمامته.و في الملل للشهرستاني أنه رفع للمنصور إن إسماعيل بن جعفر رؤي بالبصرة،و أنه مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن اللّه تعالى،فبعث المنصور إلى الصادق يخبره أن ولده إسماعيل

ص: 282

من الأحياء و أنه رؤي في البصرة و أرجع السجل إليه و عليه شهادة أمير المدينة،هذه الرواية تدلنا على أن المنصور كان يهتم في تشتيت أمر الشيعة حتى لا يتفقوا على الإمام الشرعي موسى بن جعفر عليه السّلام و قد مثّل دورا هاما في ترويج هذه الشائعة،لتنتشر بين ضعفاء الشيعة فيرجعوا إليه بعد أبيه،و لم يكن المنصور ممن يؤمن بصدق هذه الأسطورة و لا ممن يتردد في وفاته قبل أبيه بعد أن تلقى نبأ وفاته من عامله على المدينة،و لكنه أراد أن يخلق المزاحم للإمام الشرعي فأوصى إلى عملائه بوضعها عسى أن تجد سبيلها إلى فئة من ضعفاء الشيعة و المستضعفين منهم و تم له ما أراد و بخاصة بعد ما بدأ بالتضييق على الإمام موسى بن جعفر و مطاردته حتى اضطره للتستر و لو عن الخواص من شيعته،و راجت فكرة حياة إسماعيل بعد أبيه و أصبحت حياته عقيدة لطائفة من المسلمين،لا تزال آثارها سارية حتى اليوم.و مهما يكن الحال،فالاسماعيلية يقولون بإمامة ولده محمد بن إسماعيل من بعده، و به يبتدئ المستورون من الأئمة الذين يسيرون في البلاد سرا،و يظهرون الدعاة جهرا و هؤلاء يقولون بأن الأرض لا تخلو من إمام حي قائم إما ظاهر مكشوف و أما باطن مستور،لا بد من ظهور دعاته،و يزعمون أن الأئمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة،كأيام الاسبوع،و السماوات السبع و الكواكب السبع،و قد انتهى الدور الأول بإمامة إسماعل و ابتدأ الدور الثاني بإمامة ولده محمد ابن إسماعيل.و هكذا كل دور ينتهي بسبعة من الأئمة و يقولون أن العالم السفلي تديره الكواكب السبعة:زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر.

و لهم عقائد أخرى لا ترتكز على الأسس الإسلامية،و لا صلة لها بعقائد الشيعة الإمامية.و قد ذكرها الشهرستاني في الملل و النحل.و في فرق الشيعة للنوبختي أن الفرقة الثانية من فرق الاسماعيلية القائلين بإمامة محمد ابن إسماعيل،قالوا أن الإمامة كانت لإسماعيل،فلما مات في حياة أبيه

ص: 283

جعلها جعفر بن محمد لولده محمد بن إسماعيل.و لا تنتقل الإمامة من أخ إلى أخ بعد الحسن و الحسين عليهما السّلام و لا تكون إلا في الأعقاب،و ليس لعبد اللّه و موسى بن جعفر في الإمامة من نصيب،كما لم يكن لمحمد بن الحنفية حق فيها مع ابن أخيه علي بن الحسين عليه السّلام.و أصحاب هذا القول يسمون المباركية و ينسبون إلى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر.و يقول النوبختي أن فرقة من الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب،دخلت في الاسماعيلية،و أقرت بموت إسماعيل في حياة أبيه و أن الإمامة لولده محمد بن إسماعيل و إنما رجع هؤلاء إلى إمامة محمد بن إسماعيل بعد أن قالوا بنبوة أبي الخطاب،و حاربهم عيسى بن موسى بن محمد أمير الكوفة، فقتلهم،و كانوا سبعين رجلا و لم يفلت منهم إلا رجل واحد يسمى سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبي خديجة،و بعد قتل أبي الخطاب رجع من قال بمقالته من أهل الكوفة إلى إمامة إسماعيل كما ذكرنا.

و لهؤلاء مذاهب شتى،فمنهم من قال بأن روح جعفر عليه السّلام تحولت إلى أبي الخطاب،و منه إلى محمد بن إسماعيل و ساقوا الإمامة في ولده، و تشعبت منهم فرقة تسمى القرامطة،و سميت بذلك لنسبتها إلى رجل من أهل السواد من الأنباط،كان يلقب قرموطية،كما ذكر المرتضى في الفصول المختارة من كلام المفيد،و كانوا أولا يقولون بمقالة المباركية،ثم خالفوهم إلى أن الأئمة سبعة أولهم علي و سابعهم إسماعيل،و منه إلى ولده محمد،و هو القائم المهدي و زعموا أن النبي قد انقطعت عنه الرسالة في حياته يوم أمر بنصب علي عليه السّلام في غدير خم.و أن محمد بن إسماعيل حي في بلاد الروم،و هو القائم المهدي،و يريدون بالقائم أنه يأتي بشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،و أنه من أولي العزم،و أولوا العزم عندهم سبعة:نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد و علي و محمد بن إسماعيل.

و احتجوا على نسخ شريعة محمد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بما رووه عن جعفر عليه السّلام أنه قال:لو

ص: 284

قام قائمنا علمتم القرآن جديدا.و أنه قال:الإسلام بدئ غريبا و سيعود كما بدئ فطوبى للغرباء،و قالوا إن اللّه سبحانه جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم،و يريدون بها الإباحة للمحارم،و جميع ما خلق اللّه في الدنيا،و هو المراد بقوله: وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و فسروها بموسى بن جعفر و ولده،يعنون بذلك أن لا نصيب لهم في الإمامة و من يدعي إمامة موسى و ولده يجب قتله،بمقتضى قوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً إلى كثير من تلك الآراء الفاسدة،و العقائد الباطلة التي لا تتفق و تعاليم القرآن،و أحاديث النبي الكريم و عقائد جميع المسلمين.و يظهر من الشهرستاني أن الباطنية كانوا يسمون في العراق القرامطة،و في خراسان الملاحدة،و أنهم من فرق الاسماعيلية،و أن مذهبهم نشأ في منتصف القرن الثالث،و يمتازون عن فرق الشيعة باسم الاسماعيلية،و أنهم لا يثبتون الوجود و العدم إلى اللّه و لا العلم و لا الجهل،و لا القدرة و العجز،لأن الإثبات الحقيقي له سبحانه يقتضي الشركة بينه و بين سائر الموجودات،و ذلك يؤدي إلى التشبيه،و لا يحكمون عليه بالإثبات المطلق،و لا بالنفي المطلق،لأنه إله المتقابلين ثم مضى يشرح آراءهم و معتقداتهم شرحا مسهبا لا يعنينا ذكره.و في كتاب الشيعة في التاريخ أن القرامطة ينسبون إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط،لقصر قامته و رجليه،و تقارب خطوه،و قد ظهر بسواد الكوفة سنة 264 و اشتهر مذهبهم في العراق،و قام منهم عبد اللّه الملقب بالمدثر ببلاد الشام،و أبو سعيد الجنابي بالبحرين و دخل جماعة في دعوتهم و مالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن،و هو تأويل شرائع الإسلام.

و في مجمع البحرين:و القرمطي واحد القرامطة،و منه تحول الرجل قرمطيا،و هم فرقة من الخوارج عن الإسلام.و عن البهائي:أن القرامطة دخلوا مكة سنة 310 في أيام الموسم،و أخذوا الحجر الأسود،و بقي

ص: 285

عندهم عشرين سنة،و قتلوا خلقا كثيرا،و ممن قتلوا علي بن بابويه،كان يطوف بالبيت فقطعوا عليه طوافه،و ضربوه بالسيف فأنشد:

ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

و في التعليقة على الملل و النحل:أن مذهب القرامطة نشأ في منتصف القرن الثالث،وضعه قوم أشربوا في قلوبهم بغض الدين و كراهية النبي الكريم،و من الفلاسفة و الملاحدة و المجوس و اليهود،ليصرفوا الناس عن دين اللّه إلى أن قال:و كان أصل دعوتهم ظهور ميمون القداح سنة 176، فنصب للمسلمين الحبائل و ذهب إلى أن الفرائض و السنن رموز و إشارات، و هو يقول بإمامة علي عليه السّلام خاصة،ليستر بجلال الإسلام و بجاه علي و آله كفره و زندقته،و كان يسر اليهودية و يظهر الإسلام،و ظهر أيام قرمط فاجتمعا و أخذا ناموسا يدعوان إليه،فسموا بالقرامطة و اجتمع عليهم جماعة يفسدون في الأرض،و في كتب السير و الملل اختلاف حول مبدأ ظهورهم و أول من خرج منهم و كيفية اتساع أمرهم،و كل من كتب عنهم ذكر لهم ما لا يتفق مع تعاليم الإسلام و أصوله،فهم عند الشيعة أسوأ حالا من الغلاة و الخوارج و من الظلم نسبتهم إلى الإسلام فضلا عن التشيع لأهل البيت.

ص: 286

الشمطية و الفطحية

قال النوبختي:قالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبي عبد اللّه الصادق، أن الإمامة من بعده لمحمد بن جعفر،و هو و موسى و اسحاق لأم واحدة، و في الفصول المختارة للمفيد:إن أبا عبد اللّه جعفر بن محمد كان في داره جالسا فدخل عليه ولده محمد و هو يوم ذاك صبي صغير،فعدا إليه فكبا في قميصه و وقع لوجهه،فقام إليه أبو عبد اللّه فقبله،و مسح التراب عن وجهه و ضمه إلى صدره و قال:سمعت أبي يقول إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي،و هذا الولد شبيهي و شبيه رسول اللّه،و هذه الفرقة تسمى الشمطية لنسبتها إلى رجل يقال له يحيى بن أبي الشمط.

و قال المفيد في الإرشاد:كان محمد بن جعفر شيخا شجاعا يصوم يوما و يفطر آخر،و يرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف و قد خرج على المأمون بمكة،و تبعه الزيدية الجارودية،و ذكر هذه الفرقة الشهرستاني، و كل من تعرض لها لم ينسب لها ما يتنافى مع عقائد المسلمين.

و في فرق النوبختي و ملل الشهرستاني و غيرهما،أن القائلين بإمامة عبد اللّه بن جعفر الملقب بالأفطح هم الفطحية و هو و إسماعيل لأم واحدة و أكبر أولاد الإمام جعفر،و في فصول المفيد زعموا أن أباه قد قال:الإمامة لا

ص: 287

تكون إلا في الأكبر من ولد الإمام.و قد كان عبد اللّه أفطح الرجلين،و قيل أن لهم رئيسا من أهل الكوفة اسمه عبد اللّه الأفطح،و مهما يكن فقد قال بإمامة عبد اللّه بن جعفر جمع كبير من الشيعة،و ساعده على ذلك تكتم الإمام موسى خوفا من المنصور و الرشيد.و بعد أن اختبره بعض الأعيان من الشيعة في بعض أمور الدين،رجعوا عن إمامته.و في الإرشاد أن عبد اللّه بن جعفر،كان أكبر أولاد الإمام جعفر بعد إسماعيل،و لم تكن منزلته عند أبيه كغيره من ولده،و كان متهما بالخلاف عليه في الاعتقاد و يخالط الحشوية، و يميل إلى مذهب المرجئة،و ادعى لنفسه الإمامة.و المرجئة قسم من الخوارج يرون رأيهم فيما يتعلق ببعض مسائل الإمامة،و للإرجاء معنيان:

أحدهما التأخير،و الثاني إعطاء الرجاء.و هم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية..كما لا ينفع مع الكفر طاعة،و الإرجاء بمعنى التأخير و هو تأخير صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة،فلا يقضى عليه بحكم في الدنيا،أو تأخير علي عليه السّلام إلى الدرجة الرابعة كما سارت عليه الخلافة الإسلامية كما يدعي بعض الكتاب في تفسير الإرجاء.

ص: 288

الواقفية

لقد اشتدت الأزمة على الشيعة بعد وفاة الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام، و كان وزير الرشيد يحيى بن خالد البرمكي يقول:لقد أفسدت على الرافضة دينهم،لأنهم يقولون أن الدين لا يقوم إلا بإمام حي،و هم لا يدرون اليوم أن إمامهم حي أو ميت،كما اشتد الرشيد على الشيعة و تتبعهم بألوان من العذاب و الجور،فتفرقوا في أمر الإمامة بعد موسى ابن جعفر،فقالت فرقة منهم بإمامة الرضا عليه السّلام و فرقة بقيت تصر على حياة الإمام موسى بن جعفر و قالوا أنه لم يمت و لا يموت حتى يملأ الأرض عدلا،كما ملئت جورا.

و ذهب قوم منهم إلى أنه يرجع إلى الحياة بعد أن مات،و لكنه اختفى.و من وقف عليه،و لم يقل بانتقال الإمامة إلى الإمام علي بن موسى عليه السّلام يسمون الواقفية.و من هؤلاء فرقة يقال لها البشرية.أصحاب محمد بن بشير من أهل الكوفة،يقولون أن موسى لم يمت و لم يحبس و أنه حي غائب و هو القائم المهدي،و قد استخلف في أيام غيبته محمد بن بشير و أوصى إليه، و علمه جميع ما تحتاج إليه الرعية،كما أوصى محمد بن بشير إلى ولده سميع بن محمد،و هكذا تنتقل الإمامة من واحد لآخر في زمن غيبة الإمام موسى على حد زعمهم و لقد طعن هؤلاء على الإمام الرضا عليه السّلام و من جاء من بعده من الأئمة و كفروا القائلين بإمامتهم.

ص: 289

و زعموا أن الفرض من اللّه الصلاة و الخمس و الصيام،و أنكروا الحج و بقية الفرائض،و ينسب إليهم القول بالإباحة المطلقة و التناسخ،و أن الأئمة ينتقلون من بدن إلى بدن إلى غير ذلك من المقالات الفاسدة،كما ذكر ذلك النوبختي و غيره.

و في الغيبة للطوسي:أن أول من أظهر عقيدة الوقف علي بن أبي حمزة البطائني،و زياد بن مروان القندي،و علي بن عيسى الرواسبي.و ذكر أن السبب في ذلك الأموال الكثيرة التي كانت عند وكلائه،فكان له عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار،و عند علي بن حمزة البطائني ثلاثون ألفا و له عند غيرهما ما يعادل هذا المبلغ أو أكثر لذا فإنهم أنكروا وفاته كي لا ينتزع خلفه الأموال من أيديهم،و مهما يكن فإن من قال بمقالة محمد بن بشير و أتباعه،فهو كغيره من فرق الضلال خارج عن الإسلام و مقدساته و لكن تلك الفرق على كثرتها لم يكتب لها البقاء الطويل،و كثير منها لم يتجاوز الأعوام القليلة.و ليس لذلك سبب سوى أنها كانت وليدة الظروف و الدعايات التي كانت تقوم بها السلطة الحاكمة لتشتيت أمر الشيعة، و إضعاف جانب الأئمة من عترة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و لم يبق من تلك الفرق إلا الزيدية،و هم الأكثرية من سكان اليمن،و من أئمتهم الإمام محمد البدر التي لم تدم إمامته طويلا ((1))،و هذه الطائفة تدين بما عليه بقية المسلمين في أصول الإسلام و فروعه كما جاءت في الكتاب و السنة.

و الاسماعيلية و يوجد منهم عدد ليس بالقليل في الهند،و يقال لهم البهرة،و لم يعرف عنهم التمسك بما كان ينسب إلى بعض الفرق من أسلافهم المعروفين بالسبعية،و هؤلاء يترددون على النجف و كربلاء بشكلة.

ص: 290


1- لقد انتقلت الإمامة من أحمد إلى ولده محمد البدر و خلال 1964 قام جماعة من الضباط الأحرار بانقلاب ضد نظام الحكم في اليمن فسيطروا على أكثرية البلاد و تبدل نظام الحكم في اليمن و انتهى دور الإمامة عند هذه الفرقة.

متواصل لزيارة العتبات المقدسة و يتسترون في عباداتهم و أكثر معتقداتهم، و لعلهم أكثر اعتدالا من بقية الاسماعيلية السبعية أتباع كريم خان و غيره القائلين بالحلول و إباحة جميع المحرمات.

و من بقايا تلك الفرق الفرقة التي تحمل اسم العلويين اليوم و يوجد منهم في سوريا و شمال لبنان عدد غير قليل،و المعروف عنهم أنهم لا يقولون بمقالة أسلافهم القدامى،و يرون رأي إخوانهم المسلمين في الأصول و أكثر الفروع،و لو فرض أنهم اليوم على ما مضى عليه أسلافهم،فلا نتحاشى في خروجهم عن الإسلام فضلا عن التشيع.

ص: 291

رأي الشيعة في زيارة قبور الأئمة

إن من رجع إلى تاريخ الأمم على اختلاف عقائدها و نزعاتها،يعلم أنها تقدس العظماء و القادة من أبنائها المصلحين،و لربما تخرج بذلك على المألوف،فترفعهم إلى حدود الآلهة،كما حدث ذلك لعظماء الهند و الصين و غيرهما من عظماء العالم،فالذكريات تقام لهم على مدى الأعوام، و الألقاب الضخمة تكال لهم بلا حساب اعترافا لهم بالجميل،و تقديرا لجهودهم المبذولة في خدمة الإنسانية و لكي تتخذ الأجيال من حياتهم دروسا ينهلون من معينها و يجنون من ثمراتها أشهى ما لذ لهم و طاب من المثل و التضحيات في سبيل خير الإنسان.

و لم يكن للشيعة منذ بزغ فجر التشيع إلى اليوم الذي نعيش فيه،عرف خاص و لا عادة تخالف المألوف عند الناس،و إنما نهجوا في جميع حالاتهم نهج غيرهم من الأمم و الطوائف رأوا في علي و بنيه أفضل ما أنجبته الإنسانية بعد الأنبياء،و خير ما يقوم به العظماء و القادة من الأعمال،فكانوا معهم أحياء و أمواتا كما ينبغي لأمة تريد أن تفي لعظمائها و قادتها،فلم يرتفعوا بهم عن وظيفة المخلوق و لم يبلغوا بهم ما بلغته الأمم بعظمائها من قبل،عظموهم أحياء و قدسوهم أمواتا،لأنهم نهجوا نهج الرسول الأعظم و تمسكوا بكتابه، لن يفترقا حتى يردا على رسول اللّه،حاربوا الباطل و أهله،و خدموا الإنسانية

ص: 292

خدمة تكفل لها النجاح و السعادة لو قدر لها أن تسير على نهجهم القويم، و سبيلهم الواضح،أمعن حكام الجور في تعذيبهم و تشريدهم و الدس عليهم و أمعنوا في معارضتهم غير مسلمين و لا مهادنين،مهما بالغ الحكام في تعذيبهم و التنكيل بهم،لتتوفر للإنسان حريته و كرامته التي و هبها له اللّه و أكدها الإسلام،يستوحشون من الدنيا إذا لم تكن سبيلا لإسعاد الإنسان،و يأنسون بالليل و وحشته ما دام اللّه معهم و إياه يعبدون و يقدسون.

و لو أدرك ضرار آخرهم لوصفهم جميعا بمثل ما وصف به عليا يوم قال له معاوية صف لي عليا يا ضرار فوصفه بتلك الصفات التي أبكت معاوية على جحوده و طغيانه و لا أريد أن أذكر الآن فضائلهم،فلقد دون لهم التاريخ ما لم يدون لغيرهم من المزايا الطيبة،و الآثار الحميدة بالرغم من الرقابة الشديدة التي وضعتها السلطات في زمانهم على الرواة و حفاظ السنن و الأحاديث.و ما زالت آثارهم أنفع ما يقدمه التاريخ للأجيال مهما بلغ الإنسان و تطورت الحياة،و الذي أريده أن ما تقوم به الشيعة من الذكريات و الزرايات،في كل عام لشهيد الإباء و العظمة،و الأئمة الهداة علي و بنيه لا يزيد عما هو متعارف عند جميع الناس من الاحتفالات و الذكريات،تكريما لما كانوا يعملون لأجله،و يهدفون إليه من الجهاد المقدس،و الثورة على الظلم و اغتصاب الحقوق و الحريات،و تكريما للبطولة و التضحية و اعتزازا بالإباء و الكرامة.

و لم تكن أهداف علي و بنيه لشيعتهم و محبيهم فحسب،بل كانت للإنسانية جمعاء،كرسالة الأنبياء و المصلحين.

يحتفل الشيعي بذكرى الحسين عليه السّلام في العشر من المحرم من كل عام، و في أكثر أيام السنة و ستبقى ذكراه بما فيها من المآسي و الفظائع ماثلة لكل متشيع لأهل البيت و لكل مسلم آمن بمحمد و مبادئه و تعاليمه،و يقصد الشيعي زيارة علي و الحسين و يبذل في سبيل ذلك الأموال الطائلة،بقلب خاشع

ص: 293

و نفس مطمئنة،لا ليقدس الأحجار التي بني فيها ذلك الصرح المقدس و لا ليشاهد ذلك الذهب الوهاج،و إنما يقصد من الزيارة و الذكريات أن يعاهد اللّه في ذلك الحفل الذي يجمع مئات الألوف من الناس على اختلاف أوطانهم و لغاتهم،و في تلك البقعة المباركة التي أريقت على تربتها تلك الدماء الزكية و تقطعت فوقها تلك الأجساد الطاهرة،في سبيل الحق و العدل و الحرية،أن يحيا و يموت على ما مات عليه علي و الحسين و أبناؤهما الطيبون و يتخذ من سيرتهم درسا نافعا و سبيلا إلى ربه الكريم.

و عندما يقف الزائر على قبور أولياء اللّه يقول:أشهد أنكم أقمتم الصلاة،و آتيتم الزكاة،و أمرتم بالمعروف،و نهيتم عن المنكر،و نصحتم للّه و لرسوله،إني سلم لمن سالمكم،و حرب لمن حاربكم،محقق لما حققتم، و مبطل لما أبطلتم،فأسأل اللّه أن يجمعني معكم على الحق و الهدى، و يجعلني معكم في الدنيا و الآخرة.

يردد الزائر فضلهم في الزيارة،و يمجد بطولتهم و يعتز بإبائهم و كرامتهم و يتمنى لنفسه و لمن يحب أن ينهج على نهجهم و يحيا و يموت على ما عاشوا و ماتوا عليه.

و لقد كان أئمة الشيعة يحرصون أشد الحرص،لتبقى تلك المأساة حية في نفوس المسلمين يتحدثون بها في كل زمان و تصبح جزءا من حياتهم تدفعهم إلى الثورة على الباطل و الإخلاص للحق و الجهاد في سبيل مبادئ القرآن الكريم و سنة نبيه العظيم.

و لقد قال الإمام الصادق لبعض أصحابه أتذكرون ما صنع بجدي الحسين؟لقد ذبح كما يذبح الكبش و قتل معه سبعة عشر شابا من أهل بيته و إخوته،ما لهم على وجه الأرض من مثيل،و لم يقصد الإمام بذلك أن يستدر الدموع من العيون و لا أن يثير المشاعر و الأحزان،و إنما يريد بذلك أن يغرس

ص: 294

في نفوس الناس عظمة الحق،و الاستهانة بكل شيء في سبيله،كما صنع جده الحسين عليه السّلام فضحى بكل ما لديه من مال و بنين و أخيرا بنفسه الكريمة و هي نفس رسول اللّه في سبيل العدل و الحرية و المساواة و خير الناس أجمعين.

و يقول الإمام الرضا عليه السّلام و هو يحدث أصحابه عما جرى على الحسين و صحبه الطيبين:فقل متى ذكرتهم،يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزا عظيما.

يريد من أصحابه أن يكونوا مع أصحاب الحسين بروحهم و عزيمتهم، و إيمانهم بمبادئ القرآن و سنن الأنبياء و المصلحين العاملين لخير الإنسان، يريد أن يقول الإمام:لكل زمان ظالم كيزيد و جبار كعبيد اللّه بن مرجانة.

فكونوا في زمانكم على الظالم الجبار،كما كان أصحاب الحسين على يزيد و أتباع يزيد.و هكذا يجب أن يقول كل إنسان في كل زمان:يا ليتني أكون مع أصحاب الحسين لأفوز فوزا عظيما،و لقد خاطبهم الإمام الصادق بقوله:أشهد أنكم أحياء عند ربكم ترزقون،فهم الأحياء عند اللّه و عند الناس و ما زالت ثورتهم من أنفع الدروس للإنسانية و حينما نحيي الحسين و أنصاره بقلوبنا و أرواحنا نحيي في الوقت ذاته كل ثائر على الظلم و الطغيان على المستعمرين المستغلين و بخاصة أولئك الذين اغتصبوا بلاد العرب و المسلمين و شردوا أهلها من ديارهم و أوطانهم و أقاموا دولة من شذاذ الآفاق في بلادهم لتكون قاعدة لهم ينفذون منها للاستغلال و التسلط و القضاء على المثل التي جاء بها الإسلام و بقية الأديان.

و في عقيدتي أن الحسين بن علي عليه السّلام الذي نتمرغ على أعتاب حرمه باعتزاز لو كان في عصرنا هذا لمثّل مع إسرائيل و أعوانها نفس الدور الذي مثله في كربلاء ضد الظلم و الطغيان و التسلط على حرية الإنسان و كرامته.

لهذا تهدف الذكريات و الزيارات،التي يقوم بها شيعة أهل البيت، و لهذه الغاية أمر أئمتهم بها،و قد اتخذ أعداء الشيعة من هذه الذكريات

ص: 295

و صمة على الشيعة فنسبوا إليهم عبادة القبور و المغالاة في تعظيمها،و ذهبوا إلى أن الشيعة يستبدلون الحج بالزيارة،و لم يرجعوا إلى الشيعة أنفسهم ليعلموا أن الشيعة لا يرون الزيارة من الفرائض،و إنما يرونها من الأعمال الراجحة يثاب فاعلها،و لا يأثم من تركها كما لا يضر تركها في التشيع إذا لم يكن من استخفاف بعترة النبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.

و ليس الأمر في الحج كذلك،فتركه مع الاستطاعة و القدرة على الإتيان به من الكبائر،و الإنكار لوجوبه يؤدي إلى الخروج عن الإسلام،لأنه يرجع إلى تكذيب القرآن الكريم و الرسول الأعظم،و لقد وردت الأحاديث عن النبي و أوصيائه في فضل الكعبة.و قال الإمام الصادق عليه السّلام ما خلق اللّه بقعة في الأرض أحب إليه من الكعبة،و لا أكرم عليه منها.

و في كثير من الأخبار من استطاع و لم يحج مات على غير الإسلام.

فالحج في دين الإسلام فريضة كالصلاة و الصيام و غيرهما من الفرائض، و نص الكتاب الكريم على ذلك بقوله سبحانه:

وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً و ليس الأمر كذلك في زيارة قبور أهل البيت.

و إن من أعظم حقوق الرسول على أمته تعظيم عترته،و التمسك بولائها،و أخذ معالم الدين عنها،و حديث الثقلين،يأمرنا بالرجوع إليها، و إلى القرآن،ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا.و في الحديث المتواتر:مثل أهل بيتي كسفينة نوح من تمسك بها نجا،و من تخلف عنها غرق و هوى.

فهل يعاب على الشيعة بعد ذلك لأنهم اتبعوا سيرة الرسول،و أحبوا عترته و وفوا لنبيهم في ذريته،و قد جعل اللّه أجر رسالته مودة قرباه،قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.

ص: 296

مصادر الكتاب

مجمع البيان للطبرسي

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

مروج الذهب للمسعودي

الكامل لابن الأثير

الحق اليقين للسيد عبد اللّه شبر

المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين

كشف الحق و نهج الصدق للعلامة الحلي

شرح التجريد للعلامة الحلي

الحادي عشر للعلامة الحلي

أوائل المقالات للشيخ المفيد

الفصول المختارة للشيخ المفيد

مع الشيعة الإمامية للشيخ محمد جواد مغنية

الوافي لمحسن الفيض

أصول الكافي للكليني

معالم الفلسفة للشيخ محمد جواد مغنية

ص: 297

شبهات الملحدين و الإجابة عنها للشيخ محمد جواد مغنية

الإرشاد للشيخ المفيد

الغيبة للشيخ الطوسي

الملل و النحل للشهرستاني

فرق الشيعة للنوبختي

العدة للشيخ الطوسي

الاعتقادات للصدوق

الاعتقادات للمجلسي

الشيعة في التاريخ للشيخ محمد حسين الزين

الشيعة للشيخ محمد حسين المظفري

تذكرة الخواص لإبن الجوزي

ينابيع المودة

حقائق الأصول للسيد محسن الحكيم

فرائد الأصول للشيخ مرتضى الأنصاري

الأمالي للسيد المرتضى

المعارف المحمدية للشيخ محمد الخالصي

زيد الشهيد للسيد عبد الرزاق المكرم

غاية المراد للسيد هاشم البحراني

منهج المقال للاسترابادي

الأدب في ظل التشيع للشيخ عبد اللّه نعمه

اللّه يتجلى في عصر العلم لنخبة من العلماء الأمريكيين ترجمة الدكتور عبد المجيد سرحان

اللّه و الإنسان لعبد الكريم الخطيب

ص: 298

الفهرس

السيد هاشم معروف الحسني سيرة نقية،و فكر نقي 5

أصول التشيع 11

مقدمة 13

مقدمة الطبعة الثانية 16

مقدمة الطبعة الأولى 17

تاريخ التشيع 23

لمحات من الخلافة بعد وفاة الرسول و موقف الشيعة منها 26

أمثلة في النصوص التي تشير إلى استخلاف علي عليه السّلام 32

حديث الغدير 44

أصول الإسلام عند الشيعة الإمامية 51

أطوار الجنين 55

مع الماديين 61

ص: 299

المحدثون و الأشاعرة 67

الواجب لا يحل بغيره و لا يتحد مع غيره 69

صفات الخالق 71

القدرة 72

التجسيم و التشبيه 74

كلام اللّه 79

علم الله 83

الصفات و الذات 86

الحسن و القبح العقليان 89

القضاء و القدر عند الشيعة الإمامية 91

النبوة 107

عصمة الأنبياء 110

الإمامة 122

الخلاف في وجوب نصب الإمام 127

موقف علي عبد الرزاق من دعوى الإجماع 131

شروط الإمامة 133

العصمة 134

الحاكم الجائر 136

ص: 300

المعراج عند الشيعة الإمامية 138

حساب القبر 140

البعث أو المعاد 143

البعث عند الفرس 145

البعث عند المانويين 146

البعث في الديانات الهندية 147

المعاد في اليهودية 151

المعاد في الديانة المسيحية 153

مشاهدة المعاد في القرآن 156

شهية الأكل و المأكول 163

الجنة و النار 164

القرآن عند الشيعة الإمامية 168

الشفاعة عند الشيعة 172

الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة 176

علي بن أبي طالب 180

الحسن بن علي الإمام الثاني من أئمة الشيعة 184

الحسين بن علي الإمام الثالث من أئمة الشيعة 189

علي بن الحسين الإمام الرابع من أئمة الشيعة 195

ص: 301

محمد الباقر الإمام الخامس من أئمة الشيعة 200

جعفر الصادق الإمام السادس من أئمة الشيعة 205

موسى الكاظم الإمام السابع من أئمة الشيعة 211

علي الرضا الإمام الثامن من أئمة الشيعة 216

محمد الجواد الإمام التاسع من أئمة الشيعة 220

علي الهادي الإمام العاشر من أئمة الشيعة 223

الحسن العسكري الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة 228

المهدي محمد بن الحسن الإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة 231

عقيدة الشيعة في الأئمة الإثني عشر 237

اليقين بأصول الإسلام 242

أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية 246

الكتاب 247

السنّة 251

الإجماع 257

العقل 260

موقف الشيعة من القياس 263

الفرق التي تفرعت عن الشيعة 266

الغلاة 268

ص: 302

الكيسانية 273

الزيدية 277

الاسماعيلية 282

الشمطية و الفطحية 287

الواقفية 289

رأي الشيعة في زيارة قبور الأئمة 292

مصادر الكتاب 297

ص: 303

صدر للمؤلف

عقيدة الشيعة الإمامية

تاريخ الفقه الجعفري

المبادىء العامة للفقه الجعفري

الشيعة بين الأشاعرة المعتزلة

نظرية العقد في الفقه الجعفري

الحديث و المحدثين دراسات في الكافي للكليني

و الصحيح للبخاري

المسؤولية الجزائية في الفقه الجعفري

الأحاديث الموضوعة

أصول الفقه الجعفري

الولاية و الشفعة و الإجارة في الفقه الإسلامي

سيرة المصطفى

سيرة الأئمة الإثني عشر

بين التصوف التشيع

أصول التشيع

الوصايا و الأوقاف و إرث الزوجية و العول و التعصيب

من الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي

الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ

من وحي الثورة الحسينية

نظرات جديدة في الفرق و المذاهب الإسلامية

صور مشرقة من وحي الإسلام

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.