أشِراط السَّاعَة وَاسرارهَا

اشارة

أشِراط السَّاعَة وَاسرارهَا

محمد سَلَامة جَبر

دَارُالسَّلامِ

للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

كَافةُ حُقُوق الطّبع وَالنّشروَالتَرجَمَة مَحفُوظَة لِلنَّاشِر

دَارالسَّلَام للطَباعَةِ وَالنَّشرِوَالتَّوزیعُ

120 شارع الأزهرت 932820-2631578

ص.ب 191 الغورية فاکس 2621750

الطبعة الأولى 1413ه- 1993م

ص: 2

الإهداء

إلى إخوة لي في الله ...

أحبهم في الله ...

وأتقرب بحبهم إلى الله ...

**

إلى المهاجرين في سبيل الله ...

الفارين بدينهم إلى الله ...

من بطش أعداء الله ...

***

إلى الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه...

فمنهم من قضى نحبه...

ومنهم من ينتظر...

وما بَدَّلُوا تبديلا ...

أهدي هذا الكتاب ...

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدمة الطبعة الأولى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ،وعلى آله وصحبه ،ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

وبعد :

فهذه رسالة في أشراط الساعة ،التزمت فيها بما جاء عن رسول الله صلی الله علیه وآله ، بالسند الصحيح أو الحسن ، مع بيان أقوال أئمتنا الأعلام بإيجاز غير مخل إن شاء الله،حتى يتيسرعلى عامة المسلمين تناولها وفهمها ، فإن العلم بأشراط الساعة من العقائد الإسلامية ، التي ينبغي معرفتها والإيمان بها ،وخصوصا وقد كثر في هذا الزمن منکروها،وردوا ما جاء فيها من الأحاديث أو تأولوها ، جرأة على الله ورسوله ،بغير علم ولا هدى ولاكتاب منير،اللهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس .

وحجة بعض هؤلاء المنکرین،أن ما جاء في أشراط الساعة من أحاديث لا تعدوكونها أحاديث آحاد ، وحديث الآحاد عندهم ليس حجة في الاعتقاد ،لأنه ليس قطعي الثبوت ۔ بزعمهم -.

وحجتهم والحمد لله داحضة ،ودليلهم زائف .

فالزم بأن حديث الآحاد لا يوجب العلم ،یرده أن رسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الأمصاركانوا آحادا ولم يبلغوا شرط التواتر قط،مع أنهم كانوا مكلفين بتبليغ رسالة رسول الله الله ،وأولها عقيدة التوحيد ،فهل طعن واحد ممن أرسل إليهم بحديث الآحاد،أم أن أصحاب الأهواء تنبهوا إلى ما غاب علمه عن الناس أجمعين ؟!

وهذا إذا سلمنا أن ما جاء في أشراط الساعة يعتبر من أحاديث الآحاد ،

ص: 5

ولكن الحقيقة أنها بَلَغَت درجة التواتر الحقيقي أو المعنوي وتلقتها الأمة بالقبول والتسليم، وأعني بالأمة علماءها من أهل السنة ، وهم الحجة في نقد الأسانيد أو اعتبارها،فسقط والحمد لله دليلهم ، وخاب عند بيان الحق ظَنَهم ، وظهر الحق عند أهل الحق،وخسر هنالك المبطلون ، والحمد لله رب العالمين .

وإذا أحب المسلم أن يلقي الله سليم القلب من الأهواء والبدع وأن ينجويوم العرض من العذاب والفزع ، فَليَلزَم مذهبَ سلفِ هذه الأمة الصالح،وليعتزل تلك الفرق الضالة كلها ،ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

وقد جاء في الحديث : « إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا،فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عَضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومُحدَثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة »( رواه أبو داودوالترمذي وقال حسن صحيح ).

ونسأل الله الثبات على الحق والعزيمة في الرشد، واتباع سنة المصطفى صلی الله علیه واله .

ص: 6

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله الذي شرح صدورنا للإيمان ،وهدانا بنوره إلى كمال الإيقان ،وتفضل علينا بالعافية والإحسان ، فعلمنا ما لم نكن نعلم ،وهدانا بنعمة الإسلام إلى الطريق الأقوم،فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبً ا مباركًا فيه ،كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ،شهادةَ مَن يرى أنه لا حول ولا قوة إلا بالله،ويوقن بأن الخير والشر بيد الله ،فلا ضار ولا نافع ،ولا هادي ولا مُضِلَّ إلا الله .

«وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)

وكل ذلك على الحق والحقيقة ،لا تبديل فيه ولا تأويل ، فسبحان أحكم الحاكمين .

«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(2).

وأصلي وأسلم على خير خلق الله أجمعين ،الذي أوتي جوامع الكلم ،وعُلِّمَ عِلمَ الأولين والآخرين ، صاحب المقام المحمود،والحَوض العَذبِ المورود ،الذي بعثه الله رحمة للعالمين ، وإماما للمرسلين ، وشافعا للناس أجمعين ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن قومه،ورسولا عن أمته .

وبعد :

فحينما أخرجت الطبعة الأولى من كتابي ( أشراط الساعة وأسرارها)استصعب على كثير من الناس أن يصدقوا أننا في «نهاية النهاية »من عمر هذا

ص: 7


1- الأنعام : 39 .
2- الأنبياء : 23 .

الكون ، وأن بعثة نبينا محمد صلی الله علیه واله كانت « بداية النهاية»لأن الإنسان مجبول على طول الأمل ، وبعد الأجل ، فليس من اليسير عليه أن يصدق أن آخرتنا قادمة على عجل .

والحق الذي لا مراء فيه،أن كافة الآيات الكونية ،والأدلة اليقينية ،تؤكد صدق ما انتهيت إليه في هذا الكتاب ، من اقتراب يوم النهاية ثم الحساب .

فمن صدق ، فبالحق صَدَّقَ إن شاء الله ،ومن أبي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا،فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا، إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ،إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا»(1).

وقد ادعى بعض المتجرئين على كتاب الله تعالى،أن الساعة ستقوم سنة تسع وسبعمائة وألف بعد الهجرة ، وزعم أن هذا السر الذي لم يتنبه إليه أحدغيره ،مکنون في الحروف التي في أوائل السور القرآنية ،وسيجد القارئ « إن شاء الله »ردي على هذا الزعم الباطل ،في نهاية هذا الكتاب ، والله الموفق .

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق .

ص: 8


1- النازعات : 42 - 46 .

الباب الأول

الفصل الأول: ما جاء في قرب قيام الساعة

قال تعالى :«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا»(1)

ومعنى ( أشراطها ) أي علاماتها المؤذنة بقرب قيامها .

ومن رحمة الله بعباده أن جعل لهم لدنوأجلهم علامات وأقام لقرب ساعاتهم آیات ،لعلهم إلى ربهم يرجعون ،وللتوبة الصادقة يحدثون ،وفي طاعة مولاهم يجتهدون .

وقد كانت أولى الآيات المؤذنة بقرب قيام الساعة،بعثة نبينا محمد صلی الله علیه واله وهذا بنص قوله الصحيح :« بُعثت أنا والساعة هكذا»وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى.

وعن خالد بن عمير رضي الله عنه قال :

«خطبنا رسول الله صلی الله علیه واله، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«أما بعد:فإن الدنيا قدآذنت بصرم ، وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها »(2).

ومعنى الحديث أن الدنيا قد آذنتنا بالقطيعة ،وولت مدبرة ولم يبق منهاإلا بقية قليلة كما يبقى من الشراب في آخر الإناء .

ص: 9


1- محمد : 18 .
2- أخرجه أحمد وابن جریر بسند صحيح .

وهذا مبالغة في قرب يوم القيامة ،وانتهاء أيام الدنيا ،وقد مضى على ذلك أربعة عشرقرنا تتابعت فيها الأشراط الصغرى كلها ،وكان آخرها، ما نراه في أيامنا هذه ،من تطاول الناس في البنيان ،وكانوا من قبل حفاة عراة رعاء الشاة ،كما قال رسول الله صلی الله علیه واله فيما أخرجه مسلم وسيأتي نصه إن شاء الله.

ومن علامات الساعة التي ظهرت أيام رسول الله صلی الله علیه واله وهو في مكة:(انشقاق القمر )وهذا كما قال تعالى :

«اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ،وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ»(1)

وقد جاء في انشقاق القمر ما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه«أن أهل مكة سألوا رسول الله صلی الله علیه واله أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما »وأخرج البيهقي وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند صحيح قال :

«انشق القمر على عهد رسول الله صلی الله علیه واله، فقالت قریش : هذا سحر ابن أبي كَبشَةَ ، قال : فقالوا : انظروا ما يأتي به السفار - أي المسافرون - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، وقال : فجاء السفار،فقالوا :ذلك »يعني شهدوا بانشقاقه .

قال ابن كثير:وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلی الله علیه واله ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .انتهى .

قلت:وسأورد إن شاء الله تعالى ما جاء في أشراط الساعة الصغرى من أحاديث،وسنرى أنها قد وقعت کلها ، إلا ما يتخلل الآيات الكبرى من

ص: 10


1- القمر

احداث ، يظن أنها من العلامات الصغرى وليست منها ،وهذا كما في قوله صلی الله علیه واله فيا رواه البخاري ومسلم .

« إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ،ويظهر الجهل،ويشرب الخمرويفشو الزنا،ويقل الرجال ، ويكثر النساء ،حتى يكون الخمسين امرأة قيم واحد » .

فهذه العلامات التي ذكرت في الحديث وقعت كلها ،وهي من الأشراط الصغرى إلا زيادة عدد النساء عن عدد الرجال حتى تكون النسبة تساوي رجلا واحدا مقابل خمسين امرأة،وهذا والله أعلم ما يتخلل العلامات الكبرى ،ولا يكون إلا بعد حرب عالمية مدمرة تقضي على الحضارة ، وتقتل الرجال ، وتستحي النساء ، لذلك تؤتي النساء في ذلك الزمن على قارعة الطريق، ونسأل الله العافية من تلك الفتن كلها ، ونسأله إذا أراد بقوم فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

***

ص: 11

ص: 12

الفصل الثاني: ذكر ما جاء في قرب قيام الساعة

سأقتصر في هذا الفصل إن شاء الله على ذكر الأحاديث الصحيحة الواردة في قرب قيام الساعة ،وأشراطها الصغرى ، والاكتفاء بشرح الغريب،دون التوسع في ذلك ، فأقول والله المستعان :

1- أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلی الله علیه واله: « بعثت أنا والساعة كهاتين »ويشير بإصبعيه فيمدهما .

2- وأخرجه الإمام أحمد عن بريدة بلفظ :

« بعثت أنا والساعة ، إن كادت لتسبقني ».وسنده حسن .

3- ومن حديث المستورد بن شداد بلفظ :

«بعثت في نفس الساعة ، سبقتها كما سبقت هذه لهذه »لإصبعيه السبابةوالوسطى. أخرجه الترمذي ،وقوله في نفس الساعة أي عند تنفسها ،وهذا كناية عن القرب ،كما يحس الإنسان بنفس الآخر إذا اقترب منه .

4- وأخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلی الله علیه واله:

«ما أجلكم في أجل من كان قبلكم ، إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس » .

5-وروى من طريق مجاهد عن ابن عمر بلفظ:

«كنا عند النبي صلی الله علیه واله والشمس على ( قعیقعان ) مرتفعة بعد العصرفقال:«ما أعماركم في أعمار من مضى إلا ما بقي من هذا النهار فيما مضى

ص: 13

منه» أحمد بسند حسن .

( وقُعَيقِعان )جبل بمكة والمراد اقتراب قيام الساعة كما اقترب غروب الشمس .

6- عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله«والذي نفسي بيده ، لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم،وتجتلدوا بأسيافكم،ويرث دنیاکم شراركم»أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح .

قلت وقد وقع كل ذلك ،فقتل عثمان رضي الله عنه ،وكانت بعد ذلك الفتنة ، ونسأل الله العافية .

7- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان من المسلمين،فيكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعواهما واحدة »متفق عليه.وقد وقع ذلك في معركة صفين .

8- وعنه ، أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«لا تقوم الساعة حتى يكثر الهَرجُ ،قالوا : وما الهَرجُ یارسول الله ؟ قال : القتل ، القتل »مسلم.

9-عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم،يصبح الرجل مؤمنا ،ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع أقوام دينَهم بِعَرَضٍ من الدنيا»الترمذي وقال حسن صحيح .

10-عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :«لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع » الترمذي بسند حسن . ولكع بن لكع يعني اللئيم .

ص: 14

11 -عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال عند قرب وفاته :

« ألا أحدثكم حديثا عن رسول الله صلی الله علیه واله لا يحدثكم به أحد عنه بعدي ؟ سمعت رسول الله صلی الله علیه واله يقول :

« إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم،ويظهر الجهل،ويشرب الخمر،ويفشو الزنا،ويقل الرجال ويكثر النساء ،حتى يكون الخمسين امرأة القيم الواحد »متفق عليه .

12 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله:

«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز،تضيء أعناق الإبل بِبُصری » متفق عليه.

قال ابن حجر : قال القرطبي في « التَّذكِرة »

«قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة،وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء وبعد العتمة ، الثالث من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة (654 ه ) واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة ».

وقال النوري:« تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام »انتهى - فتح الباري ج 13 ص 79 باب خروج النار .

13 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال :أتيت النبي صلی الله علیه واله فقال :

«اعدد ستا بين يدي الساعة:موتي،ثم فتح بیت المقدس،ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال ،حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ،ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون ،فيأتونكم تحت ثمانين غاية،تحت كل غاية اثنا عشر ألفا » البخاري .

ص: 15

وقوله صلی الله علیه واله:« موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم »أي ينتشر فيكم داء یکثر موتكم بسببه ، ولعله الطاعون الذي انتشر بالشام أيام عمر رضي الله عنه ومات فيه أبو عبيدة رضي الله عنه وكثير من المسلمين .

أما غدر بني الأصفر فهم الروم فيأتون تحت ثمانين غاية أي راية،تحت کل راية اثنا عشر ألفا يعني قريبا من مليون ، ولعل ذلك ما حدث في تحالف الغرب على هدم الخلافة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى والله أعلم .

14 -عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«إن أمام الدجال سنون خداعات،يكذب فيها الصادق ، ويصدق فيها الكاذب،ويخون فيها الأمين ،ويؤتمن فيها الخائن ،ويتكلم فيها الرويبضة »أحمد وأبو يعلي والبزار وسنده جيد ، ومثله لابن ماجة من حديث أبي هريرة وفيه :

«قيل وما الرويبضة ؟ « قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة »يعني في مصالح الناس وشؤونهم كما نرى من معظم كتاب الصحف والخطباء .

15 -عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة ،دعوتهما واحدة، وحتي يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله ،وحتي يُقبضَ العلمُ ، وتَكثُر الزلازلُ ،ويتقاربَ الزمانُ،وتظهَر الفتنُ،ويكثر الهَرجُ وهو القتل،وحتي يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقتة ،وحتي يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أب لي به ، وحتي يتطاول الناس في البنيان ،وحتي يمر الرجل بقبرالرجل فيقول:ياليتني مكانه ،وحتى تطلع الشمس من مغربها،فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون،فذلك حين لا ينفع نفسا

ص: 16

إيمانها لم تكن آمنت من قبل أوكسبت في إيمانها خيرا »متفق عليه واللفظ للبخاري وأخرجه مسلم مفرقا .

قلت :وقد وقع كل ما جاء في هذا الحديث مما يعتبر من العلامات الصغرى للساعة،أما العلامات الكبرى كطلوع الشمس من المغرب وتقارب الزمان ، فذلك يكون في نهاية النهاية ، بعد نزول عیسی علیه السلام وقتله الدجال ، ثم خروج يأجوج ومأجوج ،وإهلاك الله لهم ببركة دعاء عيسى ومن معه.

أما ما جاء في الحديث من العلامات الصغرى فقد وقع جميعها والله أعلم ،وأول ذلك ، بدء ظهور الكذابين مدعي النبوة قبل وفاته صلی الله علیه واله، وأولهم وأخطرهم شأنا كان مسيلمة الكذاب ، الذي قتله الله في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه،في معركة اليامة بقيادة سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه .

وأما الفئتان العظيمتان اللتان اقتتلتا ،فقد تحقق ذلك زمن الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه،فوقع الخلاف بين الصحابة-رضوان الله عليهم-عن اجتهاد منهم فكانت معركة الجمل،ومعركة صِفِّين،ثم استشهد أمير المؤمنين وآخر الخلفاء الراشدين المهديين الإمام على کرم الله وجهه ،قتله شقي الدارين ( ابن ملجم )ووقع الأمر كما أخبر به رسول الله صلی الله علیه واله حيث قال لعلي :

« يقتلك شقي الدارين »وانتهى الأمر بتنازل الإمام الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربعين من الهجرة فاجتمع الناس على معاوية بفضل حكمة الحسن بن علي رضي الله عنهما وقد أخبر رسول الله صلی الله علیه واله أيضا بذلك حين نظر إلى الحسن وقال :

ص: 17

«إن ابني هذا سيد ، وإني لأرجو أن يجمع الله به بين فئتين عظمتين من المسلمين »وقد كان والحمد لله رب العالمين .

أما قوله صلی الله علیه واله:«ويقبض العلم»فيفسره ما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :

سمعت رسول الله صلی الله علیه واله يقول:«إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا-يعني ناسا يدعون العلم-فسئلوا ، فأفتوا بغير علم،فضلوا وأضلوا » .

وهذا الحديث صريح في أن المراد بالعلم الذي يقبض هو ما يتعلق بأمور الدين،وليس ما يعم الدين والدنيا ، وإلا فإن علوم الدنيا في ارتفاع حتى غزوا به الفضاء،وحطوا على القمر وعلوم الدين في انحسار،إذا سئلوا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وحسبنا الله ونعم الوكيل .

وأما قوله صلی الله علیه واله «وتكثر الزلازل»فلعل المراد من ذلك شمولها لكل أنحاء الأرض ودوامها ، لأن الزلازل بأصلها موجودة معروفة قديما،فينبغي أن يكون المعنى أن تكثر الزلازل وتتتالى في كل مكان في الأرض علامة على قرب قيام الساعة ، وعلى هذا المعنى فإن هذه العلامة مما لم يحدث بعد،ولعل حدوثها يكون نتيجة حرب نووية تزلزل الأرض في كل مكان والله أعلم .

وأما قوله صلی الله علیه وآله «ويتقارب الزمان »فيفسره حديث آخر رواه الترمذي عن أنس أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال :

«لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان -فتكون السنة كالشهر والشهرکالجمعة ، وتكون الجمعة اليوم ويكون اليوم الساعة ، وتكون الساعة کالضرمة من النار».

ص: 18

فإن كان هذا الحديث على ظاهره فإنه لم يقع بعد،ولعله لا يكون إلا عند اقتراب الساعة قربا كبيرا تختل معه حركة الأرض والكواكب إيذانا بخراب هذا العالم .

أما إذا كان المراد من الحديث غير ظاهره،فيكون المراد من تقارب الزمان سرعة قضاءالحوائج ،وتيسير الوصول إلى أبعد الأماكن بأقل زمن ، وهذا ما نراه اليوم نتيجة لتقدم العلوم وازدهار الحضارة حتى أصبح ما يقضي من الحوائج في الزمن القديم في سنة يتم إنجازه اليوم في أقل من شهر،وعلى هذا فقس ما جاء في الشهر والجمعة والله أعلم .

وأما قوله صلی الله علیه واله: « ویکثر الهَرجُ وهو القتل » .

فالظاهر أن المراد كثرة القتل بصورة ليس لها مثيل في تاريخ البشر وإلا فإن القتل موجود و بكثرة في تاريخ الإنسان الظالم لنفسه ، أما كثرة القتل الذي هو من علامات الساعة الكبرى ، فأرجح والله أعلم - أنه ما يحدث نتيجة حرب نووية مفنية ، يكون الناجي منها في بلاء عظيم حتى ليمر الرجل بقبر الرجل فيقول:«ليتني مكانه »كما قال رسول الله صلی الله علیه واله في الحديث الذي معنا .

وأما كثرة المال حتى يصاب صاحبه بالهم لأنه لا يجد من يقبل صدقته،فقد حدث ذلك في زمن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه،وسيحدث مرة أخرى في زمن عيسى عليه السلام ونسأل الله العافية، والنجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن .

وحسبنا الله ونعم الوكيل .

***

ص: 19

الباب الثاني

أشراط الساعة الكبرى

تمهيد

وبين يدي الساعة علامات مؤذنة بقرب قيامها ، يعد بعضها من علاماتها الصغرى ، أي لا يلزم من ظهورها قرب قيام الساعة قربا بالغا ،بل يجوز أن يكون الباقي من عمر الدنيا أكثر من ألف سنة أو ألفين،ويكون التعبير بالقرب هنا بالنسبة لما مضى من حياة بني آدم على هذه الأرض ، وقد قدمت في الصفحات السابقة ما جاء في الأحاديث من أشراط الساعة الصغرى،وأولها ظهور محمد صلی الله علیه واله، ولعل آخرها « أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان»وقد حدث هذا كما نرى من قرب .

ونحن الآن في انتظار علامات الساعة الكبرى التي إن ظهر أولها تتابعت كحبات العقد إذا انفرط ثم تكون الساعة کالحامل المتم لا تدري متي يفجؤها المخاض .

وأول علامات الساعة الكبرى،ظهور المهدي ثم الدجال ثم نزول عیسی عليه السلام ويقتل الدجال ، ثم يأجوج ومأجوج ، ثم الريح التي تهب بعد موت عيسى عليه السلام فتقبض أرواح المؤمنين ثم الدابة وطلوع الشمس من مغربها ثم النار التي تسوق الناس إلى محشرهم وفي ترتيب ظهور بعض هذه الآيات خلاف بين العلماء سأذكر الراجح منه إن شاء الله .

وسأكتفي بذكر الأحاديث الواردة في ذكر الآيات الكبرى كما فعلت عند ذكر علاماتها الصغرى وذلك لتيسير الوصول إلى ما جاء في أشراطها من أحاديث مفرقة في الكتب مع الحرص على إيراد الصحيح منها والحسن إن شاء الله والله المستعان .

ص: 20

الفصل الأول: ما جاء في ظهور المهدي

قال ابن تيمية في المنتقی ص 534 ما نصه :

«الأحاديث على خروج المهدي صحيحة ،رواها أحمد وأبو داود والترمذي منها حديث ابن مسعود مرفوعا :

16 -«لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي ،واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلماً».

وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة وفيه :

17 - « المهدي من عترتي من ولد فاطمة » .

ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه :

18 -« يملك الأرض سبع سنين » .

19- وعن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن فقال :

«سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم ، يشبهه في الخلق ، ولا يشبهه في الخلق ، يملأ الأرض قسطا ».

فأما حديث«لا مهدي إلا عيسى ابن مريم » فضعيف فلا يعارض هذه الأحاديث انتهى كلام ابن تيمية .

20- وأخرج الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

« سيكون من بعدي خلفاء ، ثم من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء

ص: 21

ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة،ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ،ثم يؤمر القحطاني،فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه »فتح ج 13 ص 214.

وقال ابن خلدون في الفصل الثاني والخمسين من المقدمة ما نصه :

«اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار،أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، و يظهر العدل ،ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى بالمهدي ، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره » .

ثم أورد رحمه الله ما جاء في المسألة من أحاديث ،وسأكتفي هنا بِذِكرِ الصحيح منها أو الحسن والله المستعان .

21- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

«لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي »قال الترمذي حسن صحيح .

22 - وعن علي رضي الله عنه أن رسول صلی الله علیه واله قال :

«لو لم يبق من الدهر إلايوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا » رواه أبو داود وقال ابن خلدون : في سنده مطر بن خليفة مختلف فيه وَوَثَّقه أحمد وابن مَعين والنسائي .

23 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلی الله علیه واله يقول : « المهدي مني ، أجلى الجبهة ، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا،كما ملئت جورا وظلما ، ويملك سبع سنين » أبو داود بسند حسن .

ص: 22

ومعنى ( أجلى الجبهة )قد ذهب شعر رأسه إلى نصفه ( وأقنى الأنف ) طوله ورقة أرنبته مع حدب في وسطه .

24 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال:

« إن في أمتي المهدي يخرج ويعيش خمسا أو سبعا أو ستا - زید الشاك - قال : قلنا : وما ذاك ؟ قال سنين ، قال : فيجيء إليه الرجل فيقول :

يامهدي أعطني ، قال : فيحثوله في ثوبه ما استطاع أن يحمله »

الترمذي وقال هذا حديث حسن .

ولفظ ابن ماجة والحاكم :

25 -«يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع ، وإلا فتسع ، فتنعم أمتي فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قط ، تؤتى الأرضُ أكلها ولا يدخر منه شئ،والمال يومئذ كدوس ، فيقوم الرجل فيقول : يامهدي أعطني فيقول :خذ » .

وقد روى مسلم في صحيحه ما يعتبر تفسيرًا للحديث السابق ،وهوما رواه جابر عن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

26 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلی الله علیه واله «لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا »أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين .

27-وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال:صحيح على شرط الشيخين عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد ابن الحنفية قال :

«كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال له :

« ذلك يخرج في آخر الزمان ، إذا قال الرجل ، الله الله ، قتل ، ويجمع

ص: 23

الله له قزعا كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم،فلا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم ، عدتهم على عدة أهل بدر،لم يسبقهم الأولون ، ولا يدركهم الآخرون ، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر .

قال أبو الطفيل : قال ابن الحنفية:أتريده ؟ قلت : نعم ، قال : فإنه یخرج من بین هذین الاخشبین-یعنی جبلی مکة-قلت:لا جَرَمَ لا ادعها حتى أموت بها -يعني مكة -مات بها أبو الطفيل انتظارا لظهور المهدي كما نبأه محمد ابن الحنفية رضي الله عنه ، والمراد بقزع السحاب قطع السحاب المتفرقة يعني أن أصحاب المهدي يجتمعون من هنا وهناك يؤلف الله بين قلوبهم ، وعدتهم على عدة أهل بدر يعني ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا وهو عدد الرسل من آدم إلى محمد صلی الله علیه واله كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد .

قال ابن خلدون : هذا الحديث إنما هو على شرط مسلم فقط .

28 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلی الله علیه واله :«يكون اختلاف عند موت خليفة ،فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة،فيخرجونه وهوكاره ، فيبايعونه بين الركن والمقام ، ويبعث إليه بعث في الشام ، فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة ، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام ،وعصائب أهل العراق فيبايعونه،ثم ينشأ رجل من قريش ، أخواله كلب ، فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ،وذلك بعث كلب،والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب ، فيقسم المال ، ويعمل في الناس بسنة نبيهم،ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض ، فيلبث سبع سنين ثم يتوفي ،ويصلي عليه المسلمون »أبو داود بسند حسن .

(بجرانه)الجران : باطن العنق ،والجمع جُرُن ، والمعنى أنه قد قر الإسلام واستقام ، كما أن البعير إذا برك واستراح مد جرانه على الأرض .

***

ص: 24

الفصل الثاني: المسيح الدجال « الدجال شر غائب ينتظر » ما جاء في الدجال

أعظم فتنة يبتلى بها المؤمنون هي فتنة الدجال،ويدلك على عظيم فتنته ، وخطرها على إيمان المؤمن ، استعاذة رسول الله صلی الله علیه واله منها في صلاته بعد التشهد قبل التسليم وأمره بذلك .

29- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله: « إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع :

من عذاب جهنم،ومن عذاب القبر،ومن فتنة المحيا والممات،ومن شرالمسيح الدجال » أخرجه مسلم .

ومن استعادته صلی الله علیه واله :

30-«اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار،ومن عذاب القبر وفتنة القبر،وشر فتنة الغنى وشرفتنة الفقر وشر فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من المأثم والمغرم »متفق عليه.

وقد جاء حديث صحيح في كون فتنة الدجال أعظم فتنة تصيب المؤمنين في تاريخهم فقد حَدَّثَ عمران بن حصين عن رسول الله صلی الله علیه واله أنه قال :

31 -«ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال »مسلم وعنه أيضا أن رسول الله صلی الله علیه واله قال : « من سمع بالدجال فلينأ منه ، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه،مما يبعث به من الشبهات »أبو داود بسند صحيح .

ص: 25

ومعنى(فلينأ منه )فليبتعد،وقوله ( يحسب أنه مؤمن )يظن الرجل بنفسه الإيمانَ القويَّ القادر على الثبات أمام فتنة الدجال ،ولكنه حين يراه يفتن به ويتبعه والعياذ بالله .

لذلك جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :أخبرتني أم شَرِيك أنها سمعت رسول الله صلی الله علیه واله يقول :

32 - «ليفرنَّ الناس مِنَ الدجال في الجبال ».

قالت أم شريك :قلت : يا رسول الله ، فأين العرب يومئذ ؟قال:«هم قليل ».

وقد جاء في وصف الدجال وتفصيل خروجه أحاديث كثيرة أكتفي بذکر بعضها إن شاء الله وأستعين بالله .

33 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلی الله علیه واله حديثا طويلا عن الدجال ، فكان فيما حدثنا به أن قال :

« يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة،فينتهي إلى بعض السباخ التي بالمدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خيار الناس فيقول:أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلی الله علیه واله حديثه ، فيقول الدجال:أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته ، هل تشكون في الأمر ؟ فيقولون:لا،فيقتله،ثم يحييه فيقول حين يحييه،والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني اليوم،فيقول الدجال ، أقتله فلا يسلط عليه »أخرجه البخاري .

ولمسلم عن أبي سعيد قال :

34 - قال رسول الله صلی الله علیه واله:

« يخرج الدجال ، فيتوجه قِبَلَه رجل من المؤمنين ، فتلقاه

ص: 26

المسالح-مسالح الدجال - فيقولون له : أو ما تؤمن بربنا ؟

فيقول : ما بربنا خفاء فيقولون:اقتلوه فيقول بعضهم لبعض : أليس نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه ؟ قال : فينطلقون به إلى الدجال ، فإذا رآه المؤمن قال :

يا أيها الناس ، هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلی الله علیه واله، قال : فيأمر الدجال به فیشج،فيقول : خذوه وشجوه ، فيوسع ظهره وبطنه ضربا ،قال :

فيقول:أما تؤمن بي ؟فيقول : أنت المسيح الكذاب ، قال : فيؤمربه ، فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه .

قال : ثم يمشي الدجال بين القطعتين،قال:ثم يقول له:قم :فيستوي قائما قال:ثم يقول له : أتؤمن بي ؟ فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة قال:ثم يقول:يا أيها الناس :إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس ، قال : فيأخذه الدجال ليذبحه ، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا ، فلا يستطيع إليه سبيلا.

قال : فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس إنما قذفه إلى النار،وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله صلی الله علیه واله : هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين .

شرح الغريب :

( الشباخ ) الأراضي التي لا تنبت المرعی .

( بصيرة ) المعرفة واليقين .

( فيشج ) يمد على بطنه .

(المسالح ) قوم معهم سلاح .

ص: 27

( يؤشر بالمئشار ) يشق بالمنشار .

35 -عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

« لأنا أعلم بما مع الدجال منه ،معه نهران يجريان:أحدهما:رأي العين ماء أبيض ، والآخر : رأي العين نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا ،وليغمض ،ثم ليطأطيء رأسه فليشرب منه ،فإنه ماء بارد ، وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه کافر،يقرؤه كل مؤمن ،کاتب وغير كاتب » مسلم .

وفي رواية أخرى لمسلم قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله :

« الدجال أعور العين اليسرى،جفال الشعر،معه جنة ونار ، فناره جنة وجنته نار».

(ظفرة)جليدة تغشي العين ناتئة من الجانب الذي يلي الأنف .

( جفال الشعر ) شعره كثير ملتف .

36- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله : « ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ؟ إنه أعور ، وإنه يجيء بمثال الجنة والنار،فالتي يقول : إنها الجنة :هي النار ، وإني أنذركم به کما أنذر به نوح قومه »متفق عليه .

37-عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

« إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا،إن المسيح الدجال قصير أفحج،جعد أعور ، مطموس العين ،ليست بنائتة ولا جحراء ، فإن التبس عليكم ، فاعلموا أن ربكم ليس بأعور» أبو داود بسند حسن .

(والفحج ) تباعد ما بين الفخذين .

ص: 28

( غير جحراء ) غائرة مختفية .

38 -عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال:حدثنا رسول الله صلی الله علیه واله قال:«الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة »الترمذي وقال حسن غريب .

(المجان)جمع مجنة وهوالترس والمراد بهؤلاء التركمان .

39- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله:«يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا ، عليهم الطيالسة » مسلم .

40-عن مجمع بن جارية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه واله يقول : « يقتل ابن مريم الدجال بباب لد »الترمذي وقال حديث صحيح .

41 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلی الله علیه واله:« على أنقاب المدينة ملائكة ، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال »أخرجه البخاري .

(الأنقاب)جمع نقب وهو الطريق بين جبلين .

42-عن أنس بن مالك رضي الله عنه،عن النبي صلی الله علیه واله قال:«المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله،أخرجه البخاري .

43 . وعن رجل من الأنصار من الصحابة قال :قام فينا رسول الله صلی الله علیه واله فقال : « أنذركم المسيح ... »وفيه « يمكث في الأرض أربعين صباحا،يبلغ سلطانه كل منهل ، لا يأتي أربعة مساجد:الكعبة ومسجد الرسول ، ومسجد الأقصى ،والطور»قال ابن حجر : أخرجه أحمد ورجاله ثقات - فتح ج 13 ص 105 .

وأخرجه أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية - أحد ثقات التابعين - في«الحلية » بسند صحيح إليه قال :

ص: 29

«لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة » .

قال ابن حجر:وهذا لا يقال من قبل الرأي ، فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله ،ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب . انتهى فتح ج 13 ص 92.

44- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلی الله علیه واله :

« يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة ،ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات ، فيخرج إليه كل كافر ومنافق » أخرجه البخاري .

45 - عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال :

« بينما أنا نائم أطوف بالكعبة ،فإذا رجل آدم ، سبط الشعر ينطف رأسه ماء ، قلت : من هذا ؟ قالوا : ابن مريم ، ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين،كأن عينه عنبة طافية ، قالوا :هذا الدجال أكثر الناس به شبها ابن قَطَن رجل من خزاعة»أخرجه البخاري ( سبط الشعر ) منبسط مسترسل ( ينطف رأسه ) يقطر ماء ( طافية ) ذهب نورها .

(ابن قطين ) هو عبد العزى بن قطن من خزاعة مات في الجاهلية .

أما طواف الدجال بالبيت مع أنه محرم عليه دخول مكة فقد أجاب عن ذلك القاضي عياض بأن منعه من دخولها إنما هو عند خروجه في آخر الزمان .

46 - عن عائشة رضي الله عنها قالت:«سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال » أخرجه البخاري .

47 - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال :ذکر رسول الله صلی الله علیه وآله الدجال فقال :«إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست

ص: 30

فيكم ، فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم،فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته،قلنا:وما لبثه في الأرض،قال : أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم،فقلنا يا رسول الله ،هذا اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال : لا ، اقدروا له قدره ،ثم ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، فیدرکه عند باب لد ، فيقتله »

أخرجه مسلم والترمذي مطولاً وأبو داود مختصرا واللفظ لأبي داود .

قوله ( جواركم من فتنته )حماية لكم من فتنته بإذن الله .

أما قوله صلی الله علیه وآله(يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة)قد قال النووي في شرح صحیح مسلم : ج 18 ص65 .

«قال العلماء : هذا الحديث على ظاهره،وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث يدل عليه قوله صلی الله علیه واله : « وسائر أيامه كأيامكم».

وأما قولهم يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟

قال: «لا ، اقدروا له قدره »يعني إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر،ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب وكذا العشاء والصبح » انتهى .

قلت : ويحتمل أن يكون المراد بطول تلك الأيام الثلاثة،اشتداد الكرب على المسلمين بسبب فتنة الدجال حتى لكأن أول أيامه سنة تقديرا لا حقيقة ، وأما تقرير رسول الله صلی الله علیه واله أصحابه على فهمهم لطول تلك الأيام على وجه الحقيقة بدليل إجابته «اقدروا له قدره» فلعله صلی الله علیه وآله أراد أن يبين لهم الحكم

ص: 31

الشرعي فيما لو صادف المسلمون يوما زائدا في الطول كما هو الحال في مناطق القطب وبلاد الشمال الأعلى والله أعلم .

فإن قيل : وكيف أقرهم رسول الله صلی الله علیه واله على فهمهم وهو على خلاف الحقيقة ؟ أقول:هذا ليس من باب التقرير وإنما هو توجيه لبيان ما هو أهم من الأحكام الشرعية فزيادة اليوم عن أربع وعشرين ساعة أمر حاصل فعلا فبيان حكم الصلاة فيه واجب ، خاصة عند السؤال .

فإن قيل:إذا كان مراد رسول الله صلی الله علیه واله بطول بعض أيام الدجال،الطول النسبي لا الحقيقي فلم لم يبين ذلك صراحة ؟

أقول : هذا أبلغ من التعبيروله مثيل من حديث عائشة رضي الله عنها :أن بعض أزواج النبي صلی الله علیه و آله قالت :

« یارسول الله ، أينا أسرع بك لحوقا ؟ قال:( أطولكن يدا ) فأخذوا قصبة يذرعونها ، فكانت سودة أطولهن يدا،فعلمنا بعد : إنما كان طول يدها الصدقة،وكانت أسرعنا لحوقا به،وكانت تحب الصدقة ». متفق عليه .

قلت : فهذا الحديث دل على مشروعية السكوت عن بيان أمر فهمه السامعون على غير وجهه المراد استنادا إلى وضوحه بقرائنه فيما بعد .

فقوله صلی الله علیه واله« أطولكن يدا » أراد به « أكثركن تصدقا على الفقراء » ولكن نساءه فهمن اللفظ على ظاهره فأخذن قصبة يذرعونها،يعني أخذن يقسن بالقصبة أيهن أطول يدا ، ثم تبين لهن بعد ذلك أن المراد على خلاف ما فهمن وهو قول عائشة رضي الله عنها،« فعلمنا بعد إنما كان طول يدها الصدقة » .

ويدل لما قلت أيضا من جواز السكوت وعدم اعتباره تقريرا أحيانا سکوت إبراهيم عليه السلام عن تكذيب النمرود في دعواه أنه يحي ويميت ،

ص: 32

وإضرابه عن ذلك إلى بيان ما أخرس النمرود وأذهله وهو قوله عليه السلام .

«رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1)

فقد فهم النمرود الإماتة والإحياء أن يقتل من يشاء ويعفوعمن يشاء فتركه إبراهيم وفهمه الخاطىء وأورد عليه حجة لا تُرَدُّ فبهت الذي كفر،والحمد لله رب العالمين .

ولست أريد بما قدمت الجزم بأن المراد هو الطول النسبي لبعض أيام الدجال،ولكنه احتمال وارد ، وليس هناك ما يدفعه،كما أنه ليس هناك ما يدفع الوجه الآخر من التأويل،فيكون من أيام الدجال ما يعادل سنة زمنية والله على كل شيء قدير .

أما المراد بقوله صلی الله علیه وآله،فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، فإنها جواركم من فتنته ، فيفسره ما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلی الله علیه واله:

48 - « من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال »وقد ورد الأمر بالإكثار من العمل الصالح قبل أن تفجأنا فتنة الدجال .

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه واله قال :

49 -«بادروا بالأعمال،سبعا ،هل تنتظرون إلا فقرا منسيا ، أو غني مطغيا ، أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا ، أو الدجال فشر

ص: 33


1- البقرة : 258 .

غائب ينتظر أو الساعة الساعة أدهى وأمر »أخرجه الترمذي وقال حديث حسن .

( مفندا )أي موققا في الفند وهو الحرف ( مجهزا ) سريعا .

( سبعا )أي قبل مجيء سبع من الأحوال الطارئة المشغلة التي ذكرها الحديث .

ص: 34

الفصل الثالث: هل الدجال حي .... ؟

اشارة

سؤال عجيب ..

والجواب عنه عجیب ...

فقد جاء في الأحاديث الصحيحة التي لاشك في صحتها ، أن الدجال محبوس في إحدى الجزر في بحر اليمن ، كما صحت أحاديث أخرى في وجود من اجتمعت فيه صفات الدجال ، في عهد رسول الله يقال له « ابن صیاد » أو « ابن صائد » .

وقد اختلف العلماء في شأنه اختلافا كبيرا،لدقة المسألة وخفائها ، وصعوبة الجمع أو الترجيح بين الأحاديث ، فجميعها قوية الأسانيد لا يرقى إليها شك إن شاء الله.

وسأورد هنا إن شاء الله ما جاء في المسألة من أحاديث وأقوال العلماء فيها

ثم أرجح بإذن الله ما أرى أنه الحق والله المستعان .

حديث تميم الداري

50- عن فاطمة بنت قیس رضي الله عنها قالت :

سمعت نداء المنادي ينادي « الصلاة جامعة » فخرجت إلى المسجد ، فصليت مع رسول الله صلی اله علیه وآله، فكنت في النساء التي تلي ظهور القوم ، فلما قضى رسول الله صلی الله علیه واله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك،فقال:«لِيَلزَم كل إنسان مصلاه »ثم قال:« أتدرون لم جمعتكم ؟»

قالوا : الله ورسوله أعلم . فقال صلی الله علیه وآله : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا ، فجاء فبايع

ص: 35

وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال ، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية ،مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة ، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب ، كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره ، فقالوا : ويلك ما أنت ؟

قالت : أنا الجساسة .

قالوا : وما الجساسة ؟

قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل الذي في الدير،فإنه إلى خبركم بالأشواق .

قال : لما سَمَّت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة ، قال :

فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير،فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا،وأشده وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد .

قلنا : ويلك ، ما أنت ؟

قال : قد قدرتهم على خبري ، فأخبروني : ما أنتم ؟

قلنا : نحن أناس من العرب،ركبنا في سفينة بحرية،فصادفنا البحرحين اغتلم،فلعب بنا الموج شهرا ، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب،كثير الشعر،لا ندري ما قبله من دبره من كثرة الشعر،فقلنا:ويلك ،ما أنت ؟فقالت : أنا الجساسة ، قلنا : وما الجساسة،قالت:اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير،فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعا ، وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شیطانة .

ص: 36

فقال : أخبروني عن نخل بيسان ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا : نعم ، قال : أما إنه يوشك ألا تثمر قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟قال:هل فيها ماء ؟قالوا هي كثيرة الماء قال:أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال : أخبروني عن عين زغر،قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال هل في العين ماء ، وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا : نعم ، هي كثيرة الماء،وأهلها يزرعون من مائها قال:أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟قالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب ، قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم ، قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه،قال لهم:قدكان ذلك ؟ قلنا : نعم قال : أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه،وإني مخبركم عني،إني أنا المسيح ، وأني أوشك أن يؤذن لي في الخروج،فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة ، غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما،كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها،وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها،قالت : قال رسول الله صلی الله علیه وآله : وطعن بمخصرته في المنبر« هذه طيبة -هذه طيبة يعني المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟

فقال الناس : نعم ، قال :

« فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة،ألا إله في بحر الشام أو بحر اليمن،لا بل من قبل المشرق.ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو ، وأومأ بيده إلى المشرق .

قالت فاطمة بنت قيس:فحفظت هذا من رسول الله صلی الله علیه وآله » أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي .

ص: 37

وقد رواه مع فاطمة بنت قيس،أبو هريرة ،وعائشة ، وجابر-رضي الله عنهم.قلت :هذا الحديث الصحيح الصريح دل على وجود الدجال مكبلا بالحديد في إحدى جزر بحر اليمن أو الشام ، وأن خروجه سيكون من المشرق ،من خراسان أو أصبهان،كما جاء مفسرا للحديث رقم ( 38 )و( 39 ) من هذه الرسالة .

وقوله صلی الله علیه وآله «من قبل المشرق ماهو»ما ،هنا زائدة وليست نافية والمقصود تأكيد أنه يخرج من جهة المشرق ، فإن قيل :

قد كشفت اليوم كل الجزر صغيرها وكبيرها ،ولم يظهر للدجال فيها أثر فكيف نوفق بين هذا والحديث المذكور .

أقول : إن آمنا بالله ورسوله فالجواب يسير إن شاء الله .

فإما أن نقول:إن الله قد أخفى الدجال عن العيون،فلا يراه الناس وإن وطئوا الجزيرة،وإنماكانت رؤية تميم الداري آية من آيات الله ،في أيام محمد صلی الله علیه وآله زيادة في إثبات صدقه ، فيما أخبر به الرسول المعصوم.صلی الله علیه وآله، لذلك ،رأينا رسول الله صلی الله علیه وآله قد تهلل وجهه حين أخبر أصحابه بالحديث وقال : « فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة » .

شرح الغريب :

( أرفؤوا ) دنوا من البر .

( أقرب ) قوارب صغيرة للنزول إلى الشاطىء .

( اغتلام البحر ) اضطراب أمواجه .

( صلتا ) المسلول من غمده .

( المخضرة ) عصا أو قضيب .

ص: 38

ما جاء في « ابن صیاد » وهل هو الدجال ؟

«ابن صیاد »من مواليد المدينة المنورة،من أبوين يهوديين،اجتمعت فيه علامات الدجال،و أشكل أمره على أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله،وسكت رسول الله صلی الله علیه وآله عن التصريح بحقيقة أمره،فاختلف علماؤنا في شأنه اختلافا كبيرا ،والله أعلم بالحقيقة ، وإني ذاكر هنا ما جاء فيه من أحاديث مع أقوال العلماء في بيان مُشکِلِها، ثم أرجح إنشاء الله ما أرى أنه الحق والله المستعان .

51 -أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال :

«إن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلی الله علیه وآله في رَهط من أصحابه قِبَل ابن صیاد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صیاد يومئذ الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلی الله علیه وآله ظهره بيده،ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله لابن صیاد : « أتشهد أني رسول الله » ؟

فنظر إليه ابن صیاد فقال :«أشهد أنك رسول الأميين » .

فقال ابن صیاد لرسول الله صلی الله علیه وآله:«أتشهد أني رسول الله » ؟

فرفضه رسول الله صلی الله علیه وآله وقال : « آمنت بالله وبرسله » .

ثم قال له رسول الله صلی الله علیه وآله؛ « ماذا ترى » ؟

قال ابن صیاد : « يأتيني صادق وكاذب » .

-فقال رسول الله صلی الله علیه وآله:«خلط عليك الأمر ».

-ثم قال له رسول الله صلی الله علیه وآله: « إني قد خَبَأتُ لك خبيئاً » .

ص: 39

،وخبأ له ( يوم تأتي السماء بدخان مبين )(1).

فقال ابن صیاد : « الدخ » .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:«اخسأ فلن تَعدُوَ قَدرك » .

فقال عمر بن الخطاب:« دعني يارسول الله أضرب عنقه».

فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله » .

وقال سالم:سمعت ابن عمر يقول :

انطلق بعد ذلك رسول الله صلی الله علیه وآله وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صیاد ، حتى إذا دخل رسول الله صلی الله علیه وآله النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهویَختِلُ أن يسمع من ابن صیاد شیئا قبل أن يراه ابن صیاد فرآه رسول الله صلی الله علیه وآله وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها رمرمة أو زمزمة،فرأت أم ابن صیاد رسول الله صلی الله علیه وآله وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صیاد :

« ياصاف ، وهو اسم ابن صیاد - هذا محمد .

فثار ابن صیاد ، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله :«لو تركته بين »متفق عليه .

قال أبي بن كعب :«لو تركته بين»يعني:« لو تركته أمه بين أمره».

شرح الغريب :

(اخسأ)خسأت الكلب أي طردته .

( يختل ) يخادعه ويراوغه حتى لا يراه .

ص: 40


1- الدخان : 10 .

الأطم )البناء المرتفع .

(ناهز الحلم) قارب البلوغ .

52- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :

«لقيه رسول الله صلی الله علیه وآله وأبو بكر وعمر-يعني ابن صیاد-في بعض طرق المدينة ، فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: « أتشهد أني رسول الله » ؟

فقال هو«أتشهد أني رسول الله ؟».

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : « آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ما ترى ؟

قال : « أری عرشا على الماء ».

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله « ترى عرش إبليس على البحر،وما ترى ؟» .

قال : أرى صادقين وكاذبا - أو كاذبين وصادقا-.

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله:«لبس عليه ، دعوه »أخرجه مسلم والترمذي-ومعنى(لبس عليه)جاء مفسرا في رواية أخرى «خلط عليك الأمر»أي يأتيه به شیطان فخلط .

53 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:« صحبت ابن صیاد إلى مكة ، فقال لي :

أما قد لقيت من الناس،يزعمون أني الدجال ؟ألست سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول :«لا يدخل المدينة ولا مكة ؟».

قال : قلت : بلى .

قال : فقد ولدت بالمدينة ، وها أناذا أريد مكة ، ثم قال في آخر قوله :

أما والله إني لأعلم مولده ومكانه ، وأين هو ؟

ص: 41

قال أبو سعيد : « فلبسني » أخرجه مسلم .

ومعنى(فلبسني ) جعلني ألتبس في أمره وأشك فيه .

وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد قال :

54-«خرجنا حُجَّاجا -أو عُمَّارًا -ومعنا ابن صائد ، فنزلنا منزلا فتفرق الناس،وبقيت أنا وهو ، فاستوحشت منه وحشة شديدة لما يقال عليه ،وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي ، فقلت : إن الحر شديد ، فلو وضعته تحت تلك الشجرة ؟؟

قال : ففعل ،قال:فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس ،فقال : اشرب أبا سعيد ، فقلت:«إن الحر شديد ، وإن اللبن حار،ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده » .

فقال :

« أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس،يا أبا سعید ، من خفي عليه حديث رسول الله صلی الله علیه وآله ما خفي عليكم معشر الأنصار،ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلی الله علیه وآله ؟

أليس قد قال رسول الله صلی الله علیه وآله «هو كافر » وأنا مسلم ، أو ليس قد قال رسول الله صلی الله علیه وآله: « هو عقيم لا يولد له ولد » وقد تركت ولدي بالمدينة ؟ أوليس قد قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «لا يدخل المدينة ولا مكة »وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة ؟.

قال أبو سعيد :«حتى كدت أن أعذره » .

ثم قال ابن صیاد : « أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده ، وأين هو الآن ؟.

ص: 42

قال أبو سعيد : قلت له « تبا لك سائر اليوم » أخرجه مسلم .

وقوله ( جاء بعس ) العس قدح ضخم يشرب فيه .

( تبا لك ) هلاکا وخسارا .

55-وأخرج مسلم عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم قال :

«لقي ابن عمر ابن صائد في بعض طرق المدينة فقال قوة أغضبه ،فانتفخ-يعني ابن صائد-حتى ملأ السكة ،فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها « فقالت له : رحمك الله ، ما أردت من ابن صیاد، أما علمت أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال : « إنما يخرج من غضبه يغضبها ؟ » .

وفي رواية لمسلم عن نافع قال : قال ابن عمر :

56 -« لقيته مرتين ، فلقيته مع قومه،فقلت لبعضهم،هل تحدثون أنههو ؟ قالوا:«لا والله » .

قال:قلت:كذبتموني ، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالا وولدا وكذلك هو زعموا اليوم،قال:فتحدثنا ، ثم فارقته ، قال : فلقيته أخرى وقد نفرت عينه،فقال : فقلت له :«متى فعلت عينك ما أرى ؟ » .

قال : « لا أدري ».

قلت : لا تدري وهي في رأسك ؟ » .

قال : « إن شاء الله خلقها في عصاك هذه » .

قال : فنخر كأشد نخير حمار سمعت .

ص: 43

قال :«فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت ، وأما أنا : فوالله ما شعرت .

قالوا : وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها ، فقالت :

«ما تريد إليه ؟ ألم تعلم أنه قد قال :

«إن أول ما يبعثه على الناس غضبة يغضبها ؟ » أخرجه مسلم .

قلت:قوله«فوالله ما شعرت »يدل على شدة غضب ابن عمر على ابن صیاد حتى أنه لا يدري ما يفعل ، ويسمى الغضب إذا بلغ تلك الدرجة « إغلاق »لأنه يغلق على الإنسان قصده ، لذلك فإن الطلاق لا يقع ممن طلق وهو في حالة غضب شديد وهو قوله صلی الله علیه وآله :

57-«لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم.

وقول حفصة رضي الله عنها« ألم تعلم أنه قد قال-أي رسول الله صلی الله علیه وآله-إن أول ما يبعثه على الناس غضبة يغضبها » .

هذا القول منها يدل على أنها كانت ترى رأي أبيها وأخيها في أن ابن صیاد هو الدجال،وقد حلف عمر على ذلك أمام رسول الله صلی الله علیه وآله كما سيأتي إن شاء الله وأخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :

58 - « فقدنا ابن صیاد يوم الحرة ».

قلت : يوم الحرة وقع في زمن يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة تقريبا وهذا يدل أن ابن صیاد عاش بين المسلمين في المدينة ما يزيد على سبعين سنة ، وأنه اختفى يوم معركة الحرة ، ولم يدر أحد أين ذهب ،وهذا يبطل ما ورد أنه مات وكشف وجهه ليراه المسلمون ويتأكدوا أنه ليس الدجال .

ص: 44

وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنها أنه كان يقول :

59-« والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صیاد »أخرجه أبو داود بسند صحيح.وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وعن محمد بن المنكدر قال :

60- « رأيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحلف بالله « أن ابن صیاد الدجال ، قال : قلت :«أتحلف بالله ؟».

قال : فإني سمعت عمر يحلف بالله على ذلك عند رسول الله صلی الله علیه وآله فلا ينكره .

صفة والدي الدجال

أخرج الترمذي حديثا يكاد يكون صريحا في كون ابن صیاد هو الدجال المنتظر فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

61 - «يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد،ثم يولد لهما غلام أعور..أضر شيء،وأقله منفعة ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ثم نعت لنا رسول الله صلی الله علیه وآله أبويه فقال :

« أبوه طوال،ضرب اللحم،كأن أنفه منقار ، وأمه امرأة فرضاخية ، طويلة اليديين » قال أبو بكرة :

«فسمعنا بمولود قد ولد على هذه الصفة في يهود المدينة ، قال : فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه،فإذا نعت رسول الله صلی الله علیه وآله فيهما فقلنا:« هل لكما ولد» ؟.

فقالا : « مكثنا ثلاثين عاما لا يولد لنا ولد ، ثم ولد لنا غلام أعور ،أضر شيء ، وأقله منفعة ، تنام عينه ، ولا ينام قلبه .

قال أبو بكرة : « فخرجنا من عندهما ، فإذا هو منجدل في الشمس في

ص: 45

قطيفة،وله همهمة ، فكشف عن رأسه ، فقال : « ما قلتما ؟».

قلنا: : « وهل سمعت ما قلنا ؟ ».

قال : « نعم ، تنام عيناي ولا ينام قلبي » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب .

معنى : ( طِوَال ضرب اللحم )طویل خفيف اللحم .

( منجدل ) مستلق على الأرض .

(فَرضاخية ) ضخمة عظية .

وأخرج الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال :

62-«ولدت امرأة من اليهود غلاما ممسوحة عينه ، والأخرى طالعة ناتئة ، فأشفق النبي صلی الله علیه وآله أن يكون هو الدجال » .

ويشهد لهذا الحديث ما قبله .

ولأحمد والبزار من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال :

63 - بعثني النبي صلی الله علیه وآله إلى أمه فقال:« سلها ، كم حملت به ؟».

فقالت :«حملت به اثني عشر شهرا ، فلما وقع صاح صياح الصبي ابن شهر » .

قلت : وبعد أن أوردت ما جاء في ابن صیاد من حديث أذكر إن شاء الله تعالى أقوال علمائنا في حل هذا الإشكال ، والله المستعان .

رأي الخطابي

قال الخطابي كما نقله ابن الأثير في جامع الأصول ج 1ص 362 .

ص: 46

قال ما نصه :

«قد اختلف الناس في أمر ابن صیاد اختلافا شديدا وأشكل أمره،حتى قيل فيه كل قول ، فيقال :

كيف بقى رسول الله صلی الله علیه وآله رجلا يدعي النبوة كاذبا ، وترکه بالمدينة في داره يجاوره ؟ وما معنى ذلك ؟ وما وجه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان ؟ وقوله بعد ذلك : « اخسأ ، فلن تعدو قدرك » .

ثم قال الخطابي :

« والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنته صلی الله علیه وآله اليهود وحلفاءهم ، وذلك أنه بعد أن قدم المدينة كتب بينه وبين اليهود كتابا صالحهم فيه على ألا يهاجروا ، وأن يتركوا على أمرهم ،وكان ابن صیاد منهم أو دخیلا فيهم ،وكان يبلغ رسول الله صلی الله علیه وآله خبره ، وما يدعيه من الكهانة، ويتعاطاه من الغيب ، فامتحنة النبي صلی الله علیه وآله بذلك ليبرز أمره ويختبر شانه ،فلما كلمه علم أنه مبطل،وأنه من جملة السحرة أو الكهنة ، أوممن يأتيه رئي من الجن ،أو يتعاهده شیطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به ، فلما سمع قوله ( الدخ )نهره فقال « اخسأ فلن تعدو قدرك » .

يريد أن ذلك شيء اطلع عليه الشيطان فألقاه إليه،وأجراه على لسانه ، وليس ذلك من قبيل الوحي السماوي إذ لم يكن له قدر الأنبياء الذين يوحی إليهم علم الغيب،ولا درجه الأولياء الذين يلهمون الغيب فيصيبون بنور قلوبهم ، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطىء في البعض ، وذلك معنى قوله « يأتيني صادق وكاذب».

فقال له عند ذلك : «قد خلط عليك » .

والجملة من أمره ، أنه كان فتنة امتحن الله به عباده المؤمنين .

ص: 47

« لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ »(1)

كما امتحن الله قوم موسى بالعجل.فافتتن به قوم وهلكوا ، ونجا من هداه الله وعصمه ، وقد اختلفت الروايات في كفره ، وفيما كان من شأنه بعد كبره ، فروي أنه تاب عن ذلك القول ، ثم أنه مات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رأه الناس،وقيل لهم : اشهدوا ، وروي غير ذلك ، وأنه فقد يوم الحرة فلم يجدوه،والله أعلم«انتهى كلام الخطابي . قلت :قوله : « ثم أنه مات بالمدينة إلخ ... »هذا غير صحيح ، لما جاء بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه « فقدنا ابن صیاد يوم الحرة » .

وقد تقدم بيانه في الحديث رقم ( 58 ).

وحاصل کلام الخطابي رحمه الله أنه لا يرى أن ابن صیاد هو الدجال،بل هو من الكهنة أو السحرة له شيطان يخبره ببعض الغيب فيخطىء ويصيب كما جاء في شأن الكهان والله أعلم .

رأي القرطبي

قال ابن حجر في الفتح ج6ص 173 .

وقال القرطبي:«كان ابن صیاد على طريقة الكهنة يخبر بالخبر فيصح تارة ويفسد أخرى،فشاع ذلك ولم ينزل فيه وحي ، فأراد النبي صلی الله علیه وآله سلوك طريقة يختبر حاله بها ، وقد روى أحمد من حديث جابر قال :

« ولدت امرأة من اليهود غلاما ممسوحة عينه والأخرى طالعة ناتئة ، فأشفق النبي صلی الله علیه وآله أن يكون هو الدجال».

وللترمذي عن أبي بكرة مرفوعا قال : « يمكث أبو الدجال وأمة ثلاثين

ص: 48


1- الأنفال : 42.

عاما لا يولد لها .. » الحديث رقم (61).

ولأحمد والبزار من حديث أبي ذر قال :

«بعثني رسول الله صلی الله علیه وآله إلى أمه فقال:«سلها كم حملت به ؟ » .

فقالت :«حملت به اثني عشر شهرا ، فلما وقع صاح صياح الصبي ابن شهر ».انتهى كلام القرطبي .

قلت :«وبهذا يكون القرطبي قد وافق الخطابي في كون ابن صیاد أحد الكهنة الدجالين وليس هو المسيح الدجال والله أعلم .

رأي البيهقي

قال في الفتح ج13 ص 326:

«وأجاب البيهقي عن قصة ابن صیاد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«يمكث أبو الدجال وأمة ثلاثين عاما لا يولد لهما ، ثم يولد لهما غلام أعور»-الحديث رقم ( 61 ) من هذه الرسالة .

قال البيهقي :«تفرد به على بن زید بن جدعان وليس بالقوي ، وليس في حديث جابر(رقم 60 من هذه الرسالة ) أكثر من سکوت النبي صلی الله علیه وآله على حلف عمر.فيحتمل أن يكون النبي صلی الله علیه وآله كان متوققا في أمره،ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري( رقم 50 )وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صیاد وطريقه أصح ، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال » .

ثم قال رحمه الله بعد أن أورد حديث تميم الداري وفيه أن الدجال مقید بالسلاسل في إحدى جزر اليمن كما هو مفصل في الحديث رقم ( 50 ) من هذه الرسالة .

ص: 49

قال:«فيه-أي في حديث تميم المذكور - دليل أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غيرابن صیاد،وكان ابن صیاد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبرصلی الله علیه وآله بخروجهم ،وقد خرج أكثرهم ،وكأن الذين يجزمون أن ابن صیاد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم،وإلا فالجمع بينهما بعيد جدا،إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم،ويجتمع به النبي صلی الله علیه وآله ويسأله ، أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر ، موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلی الله علیه وآله، هل خرج أم لا ؟ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع » انتهى كلام البيهقي .

فقلت:قوله:«الأولى أن يحمل على عدم الاطلاع » أراد به أن الأفضل أن تقول:إن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله حين أقسما أن ابن صیاد هو الدجال لم يكونا قد اطلعا على قصبة تميم المذكورة ، وهذا مردود بأن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد رواة قصة تميم أخرجه عنه أبو داود بسند حسن وفيه .

64 . قال ابن أبي سلمة : « شهد جابر أنه ابن صیاد » .

قلت : « فإنه قد مات».

قال : « وإن مات » .

قلت : « فإنه أسلم » .

قال : « وإن أسلم ».

قلت : « فإنه دخل المدينة » .

قال : « وإن دخل المدينة » .

فهذا الحديث صريح في الدلالة على إصرار جابر بن عبد الله على الجزم بأن ابن صیاد هو الدجال رغم ما قيل من موته وإسلامه ودخوله المدينة ،

ص: 50

وكأن جابر رضي الله عنه يرى أن الدجال له شأن عجيب وأنه أوتي من الخوارق ما يُذهِلُ ضعفاء الإيمان ويفتنهم به كقتله أحد المومنين ثم إحيائه ، فليس ببعيد أن يكون الدجال محبوسا في إحدى الجزر،ثم يولد في المدينة من أبوين يهوديين،ثم يختفي يوم مذبحة الحرة سنة ثلاث وستين،ويلجأ إلى يهود أصبهان ، ويختفي هناك إلى أن يظهر في آخر الزمان،والله أعلم .

أما قول البيهقي:«كيف يلتم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم ، ويجتمع به النبي صلی الله علیه وآله ، ويسأله ،أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد ، يستفهم عن خبر النبي صلی الله علیه وآله هل خرج أو لا ؟ »

فهذا القول منه رحمه الله مقبول لو سلمنا أن الدجال تحكمه قوانين البشرية ولا يستطيع خرقها ، أما إذا قلنا إن الله آتاه من الخوارق لاستدراج من في قلوبهم زيغ كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة المذكورة في هذه الرسالة ، إذا قلنا بذلك ينحل الإشكال إن شاء الله ويتفق الرأي مع عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله رضي الله عنهم .

أما احتجاج البيهقي بجهل الدجال ببعثة محمد صلی الله علیه وآله، فمجرد السؤال لا يعد دليلا على عدم العلم ،فقد يسأل من يعلم لتعليم المسؤول أمرا يريد أن يعلمه إياه،فيجعل السؤال ذريعة لذلك ، وهذا كما في قول الدجال لتميم وصحبه :

أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه » .

أي : خير للعرب أن يطيعوا رسول الله صلی الله علیه وآله...

ولا يقال:كيف يدعو الدجال إلى طاعة الرسول وهو من نعلم من عداوته وحربه لله ورسوله ؟.

ص: 51

فإن الله سبحانه وتعالى قد يسخر أشد عباده كفرا وطغيانا،فينطقون بكلمة الحق،كما في الحديث الصحيح حين قال الشيطان لأحد أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله: إذا قرأت آية الكرسي حفظك الله مني .

فلما أخبر الصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قال له :

« صدقك وهو كذوب ».

وكان من أثر كلام الدجال لتميم أن قدم المدينة وأسلم رضي الله عنه .

أما تضعيف البيهقي لعلي بن زید بن جدعان أحد رواة حديث أبي بكرة (61) فقد خالفه في ذلك الترمذي وقال فيه ( صدوق ) والمعروف أن الجرح لا يقبل مالم يكن مبينا،يعني :أن يبين الجارح سبب الجرح وإلا فالتوثيق مقدم .

رأي النووي

قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم ج18ص 46.

باب ذكر ابن صیاد

« يقال له ابن صیاد وابن صائد ، وسمي بها في هذه الأحاديث ، واسمه(صاف)قال رحمه الله : قال العلماء :

« وقصته مشكلة ، وأمره مشتبه ، في أنه الدجال المشهور أم غيره ؟. قال :«ولا شك أنه دجال من الدجاجلة » .

قال النووي ؛قال العلماء :«وظاهر الأحاديث أن النبي صلی الله علیه وآله لم يوح إليه بأنه المسيح ولا غيره،وإنما أوحي إليه بصفات الدجال،وكان في ابن صیاد قرائن محتملة ، فلذلك كان النبي صلی الله علیه وآله لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره،ولهذا قال لعمر رضي الله عنه إن يكن هو فلن تستطيع قتله » .

ص: 52

ثم قال رحمه الله :«وأما احتجاجه هو - أي الدجال - بأنه مسلم والدجال کافر ، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو ، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صیاد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة ، فلا دلالة له فيه ، لأن النبي صلی الله علیه وآله إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض ».

ثم قال النووي:«ومن اشتباه قصته ، وكونه أحد الدجاجلة الكذابين ، قوله للنبي صلی الله علیه وآله: أتشهد أني رسول الله ؟

ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب،وأنه يرى عرشا فوق الماء ، وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال وأنه يعرف موضعه ، وقوله : « إني لأعرفه ، وأعرف مولده ، وأين هو الآن ».

وانتفاخه حتى ملأ السكة - يعني الطريق .

ثم ختم النووي كلامه بقوله الذي دل على رأيه في ابن صیاد ، فقال رحمه الله:

وأما إظهاره الإسلام ،وحجه وجهاده ، وإقلاعه عما كان عليه ، فليس بصريح في أنه غير الدجال » انتهى .

قلت : قوله هذا الأخير فيه دلالة على أن النووي يرجح رأي عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وجابر رضي الله عنهم،لأن ما ظهر من ابن صیاد مما ينافي كونه الدجال الأكبر لا يعتبر منافيا ، لأن ما نص عليه رسول الله صلی الله علیه وآله من شأنه سيكون عند خروجه في آخر الزمان لا قبل ذلك ، والله أعلم .

رأي ابن بطال

قال في الفتح ج13 ص 325 .

قال ابن بطال بعد أن قرر دلیل جابر - أي حلفه تبعا لحلف عمر أمام النبي صلی الله علیه وآله في الحديث رقم ( 60).

ص: 53

«فإن قيل : تقدم أن عمر قال للنبي صلی الله علیه وآله في قصة ابن صیاد رقم (51) «دعني أضرب عنقه».

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: « إن يكن هو فلن تسلط عليه ».

فهذا تصريح في أنه تردد في أمره،يعني فلا بدل سکوته عن إنكاره عند حلف عمر على أنه هو.

قال ابن بطال مجيبا عن هذا الاعتراض : وعن ذلك جوابان :

أحدهما:أن التردد كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه هو الدجال ، فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه .

والثاني : أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك ،وإن لم يكن في الخبرشك ، فيكون ذلك من تلطف النبي صلی الله علیه وآله بعمر في صرفه عن قتله » .

قلت : يعني ابن بطال بجوابه الثاني ، أن قول رسول الله صلی الله علیه وآله لعمر:«إن يكن هو فلن تسلط عليه ».

هذا لا يدل على شك رسول الله صلی الله علیه وآله في أمر ابن صیاد بل هو يعلم أنه الدجال ، ولم يصرح بذلك لحكمة تقتضي الكتمان ،لأن الله لم يأمره بالإعلان ، فسلك مع عمر مسلك اللطف فصرفه عن قتله بما قال عليه الصلاة والسلام .

وهذا يدل أيضا على أن ابن بطال ممن يرون أن الدجال هو ابن صیاد،ولكنه لم يخرج خرجته المعلومة بعد ، والله أعلم .

ثم ذكر ابن بطال ما يدل على أن ابن صیاد هو الدجال ، كالحديث الذي أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر قال :

65 -«لقيت ابن صیاد يوما ومعه رجل من اليهود،فإذا عينه قد طفئت وهي خارجة مثل عين الجمل ، فلما رأيتها قلت :

ص: 54

«أنشدك الله يا ابن صیاد متى طفئت عينك » ؟

قال : لا أدري والرحمن .

قلت : « كذبت ، لا تدري وهي في رأسك ؟ ».

قال : فمسحها ونخر ثلاثا ، فزعم اليهود أني ضربت بيدي صدره ، وقلت له:

« اخسأ فلن تعدو قدرك » .

فذكرت ذلك لحفصة .

فقالت حفصة:« اجتنب هذا الرجل ، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غَضبَةٍ يغضبها ».

وأخرج مسلم هذا الحديث بمعناه ( رقم 56 ) من هذه الرسالة،بلفظ:«لقيته مرتين » فذكر الأولى ثم قال : لقيته لُقيَةً أخرى وقد نفرت عينه ».

قال ابن بطال : فإن قيل هذا أيضا يدل على التردد في أمره والجواب :أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى ابن مريم فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلی الله علیه وآله في قوله :

« إن بين يدي الساعة دجالين كذابين » انتهى .

قلت:كلام حفصة لأخيها عبد الله رضي الله عنهما لا يدل على شكها في ابن صیاد بدلیل تحذ يرها إياه من إغضابه ، فإن خروجه على الناس سيكون بسبب غَضبَةً يغضبها كما سمعت حفصة رسول الله صلی الله علیه وآله يقول ( حديث 56 ).

وقد عَقَّبَ ابن حجر على كلام ابن بطال الأخير فقال :

« ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال فيعود السؤال الأول عن جواب حلف عمر ثم جابر على أنه الدجال المعهود».

ص: 55

قلت : يعني ابن حجر بقوله :

«فيعود السؤال عن جواب حلف عمر ثم جابر ...» .

يعني :«کیف سکت رسول الله صلی الله علیه وآله على حلف عمر بأن ابن صیاد هو الدجال ولم ينكر عليه ذلك إذا كان في حقيقته شك » ؟.

ولكن الشك الذي توهمه ابن بطال في قصة حفصة وأخيها عبد الله ،لا دليل عليه ،بل الدليل على خلافه،فواضح أنهما كانا يعنيان الدجال الأكبر لاغيره،ولوضوح هذه الحقيقة قال ابن حجر عُقَيبَ قوله السابق :

«لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبرواللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس،وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عقبة عن نافع قال :

«كان ابن عمر يقول والله ما أشك أن المسيح الدجال هو ابن صیاد » .

انتهى كلام ابن حجر .

رأي ابن حجر

قلت : يظهر من كلام الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث جابر الذي أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة رقم ( 7355 ) من الفتح المطبعة السلفية - ج 13 ص 323 .

يظهر بوضوح ميله إلى القول بأن ابن صیاد هو الدجال الأكبر المحبوس في إحدى جزر اليمن .

وهذا نص كلامه رحمه الله :

وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صیاد هو الدجال ، أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا » قصة تميم رقم (50)

ص: 56

من هذه الرسالة .

ثم قال ابن حجر:« وابن صیاد شیطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها ، ولشدة التباس الأمر ، سلك البخاري مسلك الترجيح ، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صیاد ( 60 ) ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم (50).

ثم ذكر ابن حجر ما أخرجه أبو داود بسند حسن من رواية عمر بن أبي سلمة عن جابر قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يوم على المنبر :

إنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم ، فرفعت لهم جزيرة ،فخرجوا يريدون الخبز ...».

الحديث رقم ( 64 ) من هذه الرسالة وفيه « أن جابرا شهد أنه ابن صیاد،فقلت : إنه قد مات ، قال : وإن مات ، قلت : فإنه أسلم ، قال : وإن أسلم ، قلت : فإنه دخل المدينة ، قال : وإن دخل المدينة » .

قال ابن حجر:«وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره ملتبس،وأنه يجوز أن يكون ما ظهر في أمره إذ ذاك لا ينافي ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان ».

ثم قال ابن حجر:« وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذر :

66- «لأن أحلف عشر مرار أن ابن صیاد هو الدجال،أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو».

قال ابن حجر : وسنده صحيح :

67-ومن حديث ابن مسعود نحوه لكن قال « سبعا » بدل عشر . أخرجه الطبراني .

ص: 57

وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن،ومن صوره المتفق عليها عند الشافعية ومن تبعهم ، أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص مالا،وغلب على ظنه صدقه -يعني صدق أبيه - أن له إذا طالبه ، وتوجهت عليه اليمين-أن يحلف على البت - أي على القطع - أنه يستحق قبض ذلك منه » انتهى كلام ابن حجر .

قلت :في كلام ابن حجر دلالة -كما قلت سابقا - على ميله إلى الأخذ برأي عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابنته حفصة زوجة رسول الله صلی الله علیه وآله ، وجابر بن عبد الله ، وأبي ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم .

وحسبنا بهؤلاء -وهم من أجلة الصحابة وعلمائهم-حسبنا بهم حجة في الحكم على ابن صیاد وأنه الدجال الأكبر إلا أنه لم يؤذن له في الخروج بعد، والله أعلم .

رأي الشوكاني

قال الشوكاني في نيل الأوطار ج 7 ص 215 طبعة الحلبي :

«اختلف الناس في أمر ابن صیاد المذكور اختلافا شديدا وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول ، وظاهر الحديث المذكور( رقم 51 من هذه الرسالة ) أن النبي صلی الله علیه وآله كان مترددا في كونه هو الدجال أم لا ؟

وما يدل على أنه هو الدجال ، ما أخرجه الشيخان وأبو داود عن محمد بن المنكدر .

قال:«كان جابر بن عبدالله يحلف بالله أن ابن صیاد الدجال .

فقلت : أتحلف بالله ؟

قال :«إني سمعت عمر بن الخطاب يحلف على ذلك عند رسول الله صلی الله علیه وآله فلا ينكره »وقد أجيب عن التردد - أي شك لرسول صلی الله علیه وآله في ابن صیاد كما

ص: 58

في حديث ابن عمر الذي رواه البخاري ومسلم ومذكور في هذه الرسالة رقم (51) .

«أجيب عن هذا التردد بجوابین :

الأول : أنه تردد صلی الله علیه وآله قبل أن يعلمه الله أنه هو الدجال ، فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه .

والثاني : أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك » انتهى كلام الإمام الشوكاني .

أبو نعيم الأصبهاني

قال ابن حجر : أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد کون ابن صیاد هو الدجال ، فساق من طريق شبيل عن حسان بن عبدالرحمن عن أبيه قال :

67 -«لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ » - يعني أربعة أميال - « فكنا نأتيها - أي القرية اليهودية- فنمتار منها « أي نشتري منها ما نحتاج إليه -«فأتيتها يوما فإذا اليهود يزفنون ويضربون - يعني يرقصون ويضربون بالدفوف - فسألت صديقا لي منهم ، فقال لي :

«هذا ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل ، فبت عنده على سطح فصليت الغداة«أي الفجر»فلما طلعت الشمس إذا الرهج من قبل العسكر،فنظرت ، فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون ، فنظرت فإذا هو ابن صیاد ، فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة » .

قال ابن حجر:«وعبد الرحمن بن حسان ما عرفته والباقون ثقات »انتهى(فتح ج 13 - 327).

ص: 59

نعیم بن حماد

قال ابن حجر:« ذکر نعيم بن حماد شیخ البخاري في كتاب الفتن أحاديث تتعلق بالدجال وخروجه إذا ضمت إلى ما سبق ذكره في أواخر کتاب الفتن ، انتظمت له منها ترجمة كاملة ، منها ما أخرجه من طريق جبير بن نضير ، وشريح بن عبيد ، وعمرو بن الأسود ، وكثير بن مرة ، قالوا جميعا :

« الدجال ليس هو إنسان،وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن ، فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا،فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ، ويقصد عليه ، ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض » انتهى .

قال ابن حجر:وهذا لا يمكن معه كون ابن صیاد هو الدجال ؛ ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض أهل الكتاب»انتهى تعقیب ابن حجر ( فتح ج 13 - 328 ) .

قلت : إنكار ابن حجر لما ذكره الأربعة الثقات من كون الدجال شیطانا لا إنسانا بحجة أنه إن صح ذلك فلا يتصور کون ابن صیاد هو الدجال ، هذا القول منه رحمه الله غير مقبول،فإن قول هؤلاء الثقات :

« الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان».

هذا القول منهم لا يدل على نفيهم كامل الإنسانية عن الدجال،وإثبات انتسابه إلى الجن ، بل لعلهم يريدون أنه مخلوق ممتزج ، كما ذكر ابن وصيف المؤرخ قال :

«الدجال هوشق(الكاهن المشهور)نفسه،أنظره الله،وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها ».

قال ابن حجر : « وهذا أيضا في غاية الوهي ، وأقرب ما يجمع به بين

ص: 60

ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صیاد هو الدجال ، أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا ، وأن ابن صیاد شیطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة ، إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها » انتهى كلام ابن حجر .

قلت :«عجيب أن يجوز ابن حجر کون ابن صیاد أحد الشياطين قد تجسد في صورة إنسان - رغم ولادته من أبوين يهوديين في المدينة - ثم يستبعد أن يكون الدجال المحبوس شیطانا أوثقه النبي سليمان عليه السلام ، فإذا آن أوان ظهوره فك الله عنه أغلاله وخرج وأتته أتان - أي أنثى حمار - ما بين أذنيها أربعون ذراعا ، وهذا لا يمكن تأويله إلا على أنها طائرة عرض ما بين جناحيها أربعون ذراعا والله أعلم .

وعلى كل حال، أرى-والله أعلم-أن الدجال شیطان خالص ،أوهو ممتزج من الإنسانية و الشيطانية ، ولكنه بالتأكيد ليس إنسانا خالصا ، فإن ما حدثنا به رسول الله صلی الله علیه وآله من صفاته ، وشر فتنته ، حتى أن الرجل المسلم يحسب نفسه قويا على مواجهته فإذا جاءه افتتن به رغم شناعة شكله ، وعور عينه ، ومثل هذه التأثيرات لا تكون إلا لشيطان مريد، أو مزيج منه ومن بشر کفارعنيد ونعوذ بالله،ونسأله سبحانه وتعالى العافية من فتن الدنيا وعذاب القبر وعذاب الآخرة بمنه وكرمه آمين .

(أ) ومما يشهد أيضا لدعوى من قال إن الدجال شیطان خالص أو ممتزج ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما :

قال :«صلى بنا رسول الله صلی الله علیه وآله ذات ليلة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قال :

68- « أرأيتكم ليلتكم هذه ؟فإن على رأس مائه سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض » متفق عليه .

ص: 61

قلت:هذا الحديث المتفق على صحته صريح في الدلالة على أن الدجال الموثق في إحدى جزر اليمن ليس بشرا خالصا وإنما هو شيطان أو ممتزج ، وإلا فلو كان إنسيا خالصا لشمله قول رسول الله صلی الله علیه وآله المذكور ومات قبل سنة مائة وعشر أما وقد ثبت بمجموع الأحاديث السابقة أنه سيظل حيا حتى يخرج في آخر الزمان.فدل ذلك على ما قررت من إثبات صحة قول من قال إنه شیطان أو ممتزج والله أعلم .

(ب ) ومما يشهد كذلك لهذا القول أن الدجال محبوس مقيد في تلك الجزيرة قبل عهدرسول الله صلی الله علیه وآله ،وإلى عصرنا هذا،دون طعام أو شراب،إذ لم يرد ما يدل على أنه يطعم ، ومع ذلك فهو حي لم يمت . وليس هذا من خصائص البشر ، وإذا أضفنا إلى ذلك ، اختفاءه عن العيون حتى لم يره بعد تميم أحد رغم كشف كل الجزر في البحر الأحمر نرى أن كل ذلك يؤيد قول الأئمة الثقات الذين ذكرهم نعيم بن حماد شیخ البخاري في كتاب الفتن كما في الفتح على ما سبق بيانه ، والله أعلم .

(ج) ومما يشهد كذلك لهذا القول-بل هو من أكبر الشواهد -قول ابن صیاد لأبي سعيد الخدري :

«والله إني لأعرفه وأعرف مولده ، وأين هو الأن» أخرجه مسلم.

فهذا القول من ابن صیاد کالتصريح بأنه هو الدجال ، فإنه ادعى نوعا من المعرفة به لم يحط بها أكابر الصحابة ، ولا يقال إن شیطانه أخبره بذلك ، فإن إقسامه بالله أنه يعرفه ، يشير إلى معرفته به معرفة شهودية ، لا معرفة غيبية بحسب الوصف،فإن الصحابة جميعا يعرفونه بحسب الوصف،وهو قد ادعى درجة من المعرفة زائدة على ما عندهم .

ص: 62

ثم قوله :

«وأعرف مولده » يحتمل أمرين:فإما أنه أراد ميلاده الأول قبل أن يحبس في الجزيرة ويوثق بالأغلال .

أو أراد مكان مولده الأخيرحين يأذن الله له بالخروج في آخر الزمان ،وهذايكون بقوص من أرض مصر ، كما أخرج نعیم بن حماد شيخ البخاري عن کعب الأحبار«إن الدجال تلده أمه ببلدة قوص من أرض مصر » قال :

« وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة،ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل،وإنما هو في بعض كتب الأنبياء » انتهى .

قلت : وقد أنكر الإمام ابن حجر هذا الأثر لمنافاته الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال ،ولأن مولده قبل مخرجه بالمدة المذكورة مخالف لكونه ابن صیاد ، ومخالف لكونه موثقا في جزيرة من جزائر البحر ..

والحق أن هذا غير قادح فيما أخرجه شيخ البخاري عن كعب الأحبار،لأن عدم نزول خبره في التوراة والإنجيل لا ينافي إنذار موسى وعيسى عليهما السلام قومهما به .

ومولده ببلدة قوص من قرى مصر،لا ينافي كونه ابن صیاد المولود بالمدينة ،ولا ينافي كذلك كونه موثقا في إحدى جزر بحر اليمن ، فإننا إذا سلمنا أنه شیطان خالص أوشيطان ممتزج بالآدمية،كان له أحوال وأحكام تباين أحوال وأحكام البشر،فإنه لأمر أراده الله ،قد أمكنه الله وهو مقيد هناك أن يخرج منه قرينه ليستقر في رحم اليهودية التي مكثت ثلاثين عاما لا تلد ، وكان زوجها أباه مجازًا ، أو سمی كذلك لأنه سقاه وهو في رحم امرأته،وقد مكث في بطنها اثني عشر شهرا وحين وضعته صاح صياح ضبي له شهر،كما جاء في الحديث رقم ( 63 ) من هذه الرسالة ، ثم اختفى يوم

ص: 63

مذبحة الحرة،وظهر عند يهود أصبهان فعرفوه واحتفلوا به وأخذوا يرقصون ويضربون الدفوف كما جاء في الأثر رقم ( 67 ) من هذه الرسالة ،ثم اختفى هناك ولم يعد يراه أحد.

فإذا صح هذا فلا يبعد أن يولد مرة أخرى من أبوين يهوديين بقوص ، كما أمكنه الله من ذلك في زمن رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثم يخرج على الناس بعد ثلاثين سنة من مولده ، والله أعلم .

(د) ومن الشواهد أيضا على حقيقة ابن صیاد الشيطانية قوله لأبي سعيد في إحدى روايات مسلم :

« والله إني لأعلم الآن حيث هو . وأعرف أباه وأمه».

فقول اللعين:« أعلم الآن حيث هو»واضح أنه لا يعني أنه يعلم أنه مقيد هناك في إحدى الجزر ، فهذا أمر يعرفه كل الصحابة،فلا حاجة له إلى تلك الدعوى ، والغالب أنه أراد بذلك نفسه ، بدليل قول أبي سعيد :« فلبسني » أي جعلني ألتبس في أمره وأشك فيه .

وبدليل قول ابن صیاد حين سئل :

«أيسرك أنك ذاك الرجل ؟ » أي الدجال .

قال :«لو عرض على ما كرهته » .

ثم قوله :«أعرف أباه وأمه »الظاهر أنه أراد أباه وأمه الحقيقيين وهما من الجن والآخر من الأنس،كما قال ابن نصيف المؤرخ والله أعلم .

فإن قيل:سيكون خروج الدجال من أصبهان ويتبعه سبعون ألفا من اليهود كما جاء في الحديث الصحيح رقم ( 39 ) من هذه الرسالة .

فكيف يتفق هذا مع دعوى ولادته بقوص من أرض مصر كما ذکر کعب

ص: 64

الأحبار عن بعض كتب الأنبياء ؟

أقول:إن صحت رواية كعب ، فيكون مولده بمصر ، وخروجه بأصبهان ، ويتبعه من سكانها اليهود سبعون ألفا ، وهذا كما ولد ابن صیاد في المدينة ثم فر إلى أصبهان واختفي هناك.

فإن قيل : فما الحكمة من تجسده في ابن صیاد زمن البعثة النبوية ؟

أقول والله المستعان

قد آمنا أن الله بعث محمدا صلی الله علیه وآله مبلغا وليس إليه من الهداية شيء،وإن الله خلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء ، فقد أراد الله ابتلاء أصحاب محمد صلی الله علیه وآله بذلك الدجال،ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، ويهلك الذين في قلوبهم مرض،وإذا تأملنا في الأحاديث الواردة في ابن صیاد نجد أن تاریخ ولادته يقارب تاریخ بعثة النبي صلی الله علیه وآله،وأن تاریخ اختفائه وافق أعظم مصيبة وأشد فتنة أصابت دار الهجرة ومدينة الأنصار حين استباحها جند الشام وفعلوا بها الأفاعيل،وكان ذلك يوم الحرة،وهو قول جابر المروي عنه بالسند الصحيح :

« فقدنا ابن صیاد يوم الحرة » أخرجه أبو داود .

فكأن ابن صیادكان ينتظر مثل هذا اليوم الأسود ليتشفى بالمسلمين،ويرى من فتنتهم ما يسره ، ولعله اكتفى بما رأى فاختفى ، وحسبنا الله وكفى .

وحاصل ما قدمت يجعلني أطمئن إلى الاعتقاد بأن الحق هو ما أقسم عليه عمر بن الخطاب ، ووافقه عليه ولده عبد الله وجابر بن عبد الله وأبو ذر وابن مسعود رضي الله عنهم ، فدجال آخر الزمان المحبوس في إحدى جزر البحر الأحمر، هو بعينه الذي ظهر في المدينة في صورة ابن صیاد ، ووافق مولده

ص: 65

أول مبعث رسول الله صلی الله علیه وآله، وادعى النبوة ، لمحاولة فتنة الصحابة وإفساد الأمر على رسول الله صلی الله علیه وآله، ولكن الله عصم المسلمين من شره،وانكشف دجله ،فأظهر الإسلام حتى لا يطرد من المدينة كما طرد سائر اليهود ، والله يعلم ما شاركفيه اللعين من الفتن التي وقعت بين المسلمين،وأولها مقتل أمير المؤمنين عثمان وآخرها وقعة الحرة التي افتقد فيها ابن صیاد فلم يوجد له أثر .

هذا هو الرأي الراجح عندي بحسب الأدلة المذكورة ، والله أعلم بما هو الحق عنده .

والحمد لله رب العالمين .

***

ص: 66

الفصل الرابع: نزول عیسی علیه السلام

اشارة

«وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا»(1)

نزول عیسی علیه السلام

عيسى حي بجسده عليه السلام

قال تعالى :«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ،بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ،وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا»(2) .

وقال سبحانه : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا»(3).

قال ابن جرير الطبري رحمه الله بعد أن أورد أقوال بعض الصحابة

ص: 67


1- النساء : 159 .
2- النساء :157 - 159 .
3- النساء : 171 .

والتابعين في تفسير قوله تعالى :

«وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمِنَنَّ به قبل موته».

قال :«وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول،وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عیسی عليه السلام » انتهى .

قال ابن كثير:«ولا شك أن هذا الذي قاله ابن كثير جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى عليه السلام وصلبه،وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة بذلك،فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبة لهم فقتلوا الشبه وهم يتبينون ذلك ، ثم أنه رفعه إليه وأنه باق حي،وأنه سينزل قبل يوم القيامة،كما دلت الأحاديث المتواترة،فيقتل مسیح الضلالة ،ويكسر الصليب ،ويقتل الخنزير،ويضع الجزية،یعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان،بل لا يقبل إلا الإسلام ، أو السيف ،فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب،ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ، ولهذا قال سبحانه :

«وإن مِّن أهل الكتاب إلا لَيُؤمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوتِه»أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصاري أنه قتل وصلب «ويومَ القِيامَةِ يكونُ عَلَيهِم شَهيداَ»أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض.انتهى ج1ص 457 مختصر ابن كثير .

وقال الألوسي في «روح المعاني » ج 6 ص 13 .

«وقيل : الضميران لعيسى عليه السلام (يعني الضمير في ، به ، وموته )وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ، وأبي مالك والحسن

ص: 68

وقتادة،وابن زيد،واختاره الطبري،والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا » انتهى .

وروي ذلك عن بعض المفسرين ومنهم ابن عباس بالسَّنَدِ الصحيح أن معنی الآية : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسی .

وهذا لا تعارض بينه وبين المعنى الأول المذكور والمروي أيضا عن ابن عباس بسند صحيح ، فإن الثابت عند أهل الحق أن كل أحد ينجلي له عند احتضاره ما كان جاهلا به فيؤمن،وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها،وهذا كما قال تعالى :

«وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ »(1)

وبهذا يكون المراد بالآية أن جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى عليه السلام سواء عند موتهم ، أو عند نزول عیسی علیه السلام وقبل موته،وتصبح الأديان كلها دينا واحدا هو دين الإسلام ، وهذا أمر متفق عليه عند أهل السنة ولا خلاف فيه والحمد لله لتواتر الأحاديث الصحيحة في نزول عیسی عليه السلام وقتله الدجال والله أكبر ولله الحمد .

ما جاء في نزول عیسی عليه السلام

69 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم ، حکماعدلا ،

ص: 69


1- النساء18.

فیکسر الصليب ويقتل الخنزير،ويضع الجزية،ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ،وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها ».

ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم«وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا»(1).

أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري .

70-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير،ويمحو الصليب،وتجمع له الصلاة ، ويعطي المال حتى لا يقبل،ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتر أو يجمعها »أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح .

71 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال:«كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم».

وفي رواية أخرى : فَأَّمکم منكم».

قال ابن أبي ذئب : « تدري ما أمكم منكم ؟ .

قلت : « تخبرني ».

قال : فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم :أخرجه مسلم .

72 -عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله قال :

«الأنبياء أخوة لعلات ، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد ،وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ،لأنه لم يكن نبي بيني وبينه،وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، وإلى الحمرةوالبياض ، عليه ثوبان ممصران،كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل،فيدق الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع

ص: 70


1- النساء159.

الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام ،ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال،ثم تقع الأمنية على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم،ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم،فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون » (1) .

ومعنى(الأنبياء إخوة لعلات )يعني : أمهاتهم مختلفة ، وأبوهم واحد،والمراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة .

( ثوبان ممصران ) مصبوغان بصفرة يسيرة .

( رجل مربوع ) أو ربعة : بين الطويل والقصير .

وأخرج مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان رضي عنه قال :

73 - ذکر رسول الله صلی الله علیه وآله الدجال ذات غداة،فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل،فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا .

فقال:« ما شأنكم ؟».

قلنا :«یارسول الله ذكرت الدجال غداة،فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل ».

قال:«غير الدجال أخوفني عليكم،إن يخرج وأنا فيكم،فأنا حجيجه دونكم،وإن يخرج ولست فيكم فامرؤحجيج نفسه،والله خليفتي على كل مسلم،إنه شاب قطط،عينه طافية،كأني أشبهه بعبد العزی بن قطن،من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج من خلة بين الشام والعراق ، فعاث يمينا ، وعاث شمالا ، يا عباد الله ، فاثبتوا » .

ص: 71


1- أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح .

قلنا :«یارسول الله فما لبثه في الأرض ؟ »

قال:«أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائرأيامه كأيامكم ».

قلنا :يا رسول الله وذلك اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ .

قال : « لا ... اقدروا له قدره » .

قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض؟.

قال:كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له،فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما انت ذرى وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر،ثم يأتي القوم فيدعوهم،فيردون عليه قوله،فينصرف عنهم،فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم،ويمر بالخربة فيقول لها:أخرجي كنوزك،فتتبعه كنوزها كيعا سيب النحل ،ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا،فيضربه بالسيف،فيقطعه جزلتين،رمية الغرض،ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك،فبينما هو كذلك،إذ بعث الله المسيح ابن مریم عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدرمنه کجمان اللؤلؤ،ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات،ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد،فيقتله،ثم يأتي عليه السلام قوما قد عصمهم الله منه،فیمسح عن وجوههم،ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة،فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى:

(إني قد أخرجت عبادا لي،لا يدان لأحد بقتالهم،فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله (يأجوج ومأجوج )وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر

ص: 72

أولهم على بحيرة طبرية،فيشربون ما فيها،ويمر آخرهم فيقولون:لقد كان هذه مرة ماء، و يحصر نبي الله عيسى وأصحابه،حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم،فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم،فيصبحون فرسی کموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم،فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله،فيرسل الله طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله،ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بیت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة .

ثم يقال للأرض:«أخرجي ثمرك ، وردي بركتك ».

فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها،ويبارك الله في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس » .

فبينما هم كذلك،إذ بعث الله ريحا طيبة،فتأخذهم تحت آباطهم ، فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم،ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة » (1).

شرح الغريب :

(خفض ورفع)حقر الدجال وعظم خطر فتنته .

(قطط)شدید جعودة الشعر .

( عاث )العيث أشد الفساد والإسراع فيه .

( يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة )سبق بيانه بالتفصيل في شرح الحديث رقم ( 47 ) من هذه الرسالة .

ص: 73


1- أخرجه مسلم .

( سارحتهم )ماشيتهم .

( أسبغه ضروعا )أطول أثداء لكثرة اللبن .

(أمده خواصر ) أطوله خواصر لكثرة امتلائها من الشبع .

(جزلتين ) قطعتين.

(رمية الغرض )يصيبه إصابة رمية الهدف .

( مهرودتين ) ثوبين مصبوغين بالصفرة وهو قوله في الحديث السابق (ممصرتين ).

(کجمان اللؤلؤ)حبات من الفضة على هيئة اللؤلؤ الكبار-والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه .

(لا يدان لأحد بقتالهم ) لا طاقة .

(حرز عبادي إلى الطور)ضمهم إلى جبل الطور ليكون لهم حرزا أي حافظا من يأجوج ومأجوج .

(النغف)دود يكون في أنوف الإبل .

( فرسی )قتلى .

( زهمهم ) رائحتهم .

(مدر )الطين الصلب .

(كالزلفة)كالمرآة .

(العصابة )الجماعة .

( قحف الرمانة ) مقعر قشرها .

ص: 74

( الرسل )اللبن .

( اللقحة )الناقة ذات اللبن .

( الفئام ) الجماعة .

(يتهارجون تهارج الحمر )يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير .

74- عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«يخرج الدجال في أمتي ،فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوما،أو أربعين شهرا . أو أربعين سنة ، فيبعث الله عيسى ابن مريم،كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين،ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام،فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه،فيبقى شرار الناس في خفة الطير،وأحلام السباع،لايعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ، فيتمثل لهم الشيطان ، فيقول :

ألا تستجيبون » .

فيقولون : فما تأمرنا ؟.

فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دار رزقهم ،حسن عيشهم،ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصى ليتا ، ورفع ليتا .

قال:«وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله»فيصعَقُ ويصعَق الناس،ثم يرسل الله أو قال ينزل الله-مطرا كأنه الطل،فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قیام ينظرون،ثم يقال :

ص: 75

أيها الناس هلموا إلى ربكم «وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ»(1).

ثم يقال : « أخرجوا بعث النار».

فيقال : من كم ؟

فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ».

قال : فذلك «يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا»(2).

وذلك «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ »(3).

أخرجه مسلم والنَّسَائي ومعنى ( أصغى ليتا )أمال صفحة عنقه.قوله :

«لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين سنة »لعل الشك من عبدالله بن عمرو وثبت في الأحاديث الصحيحة المذكورة أنه يمكث أربعين يوما فقط .

75 - عن مجمع بن جارية رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول : « يقتل عيسى ابن مريم الدجال بباب لد»أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح .

76 - عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عن الحق ظاهرين إلى يوم القيامة،فينزل عيسى فيقول أميرهم :«تعال صل لنا ».

فيقول:«لا إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة الله هذه الأمة » أخرجه مسلم .

ص: 76


1- الصافات : 24 .
2- المزمل : 17 .
3- القلم : 42.

قال بعض العلماء :هذا إنما يكون أول نزوله عليه السلام،ثم يؤم المسلمين بعد ذلك،ففي رواية أخرى لابن ماجة : يقول - أي عيسى -« تقدم فصل ، فإنها لك أقيمت »والراجح أن إمام المسلمين يومئذ هو محمد بن عبدالله المهدي والله أعلم .

وفي الحديث دليل على أن الله لا يخلي الأرض من عباده الصالحين،الذين يقاتلون على الحق الذي يتيقنونه،ولعلهم اليوم مجاهدو أفغانستان الصادقون وغيرهم من عباد الله المؤمنين.

صفة عيسى عليه السلام

جاء في الحديث رقم ( 72 ) « فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع »-يعني بين الطويل والقصير-«إلى الحمرة والبياض»يعني أبيض مشربا بحمرة«عليه ثوبان ممصران »أي مصبوغان بصفرة«كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل » .

وفي حديث النواس بن سمعان رقم (73) .

«فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين »يعني ثوبين أصفرين وفي الذي قبله « ثوبان ممصران »وهما بمعنى واحد .

«واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر»يعني قطر ماء،وفي الذي قبله«كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل » .

ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

« وإذا رفعه - أي رفع رأسه -تحدر منه جمان كاللؤلؤ »شبه قطرات الماء في صفائها باللؤلؤ.

«ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث انتهى

ص: 77

طرفه»قال النووي:قال القاضي عياض : وهذا على حقيقته.بمعنى أن كل کافر يموت إذا وجد ريح نفسه عليه السلام ، وريح نفسه يبلغ مسافة مد بصره .

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:« حين أسري بي لقيت موسی علیه السلام»فنعته النبي صلی الله علیه وآله فإذا رجل حسبته قال مضطرب-وفي رواية -ضرب من الرجال« يعني بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته أو بين السِّمَنِ والنحافة-« رَجل الرأس »يعني شعره وسط بين الجعودة والاسترسال-«كأنه من رجال شَنُوءة »إحدى القبائل .

قال : ولقيت عيسى فنعته النبي صلی الله علیه وآله:

« فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس » يعني : حَمَّامًا .

قال : ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه ، وأنا أشبه ولده به »متفق عليه .

قلت : وبهذا تتفق الأحاديث الصحيحة في تحدر الماء من رأس عيسى عليه السلام ، وفي لون ثوبيه ، وفي أثر نفسه الشريف على الكفار حتى أنهم لا يملكون الحياة حين يجدون ريح نفسه عليه السلام ولتلك الأوصاف كلها سر سأبينه إن شاء الله في القسم الرابع من هذه الرسالة.

وقد جاء في حديث صحيح رواه مسلم ما يؤكد أثر نَفَسِه الطاهر عليه السلام في إماتة الكفار ، وفيه :

« فبينما هم يعدون للقتال-أي المسلمون-يسوون الصفوف ، إذ أقيت الصلاة،فينزل عيسى ابن مريم فيؤمهم ، فإذا رآه عدو الله -يعني الدجال - ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو ترکه لذاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله

ص: 78

بيده ، فيريهم دمه في حربته » .

فقوله صلی الله علیه وآله:«فلو ترکه لذاب حتى يهلك »صريح في تأكيد ما جاء في روايةمسلم عن النواس ( رقم 73 ) : ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات » .

أما قوله:«فيؤمهم »لا يعارض الروايات الأخرى في كونه يقدم إمامهم ويقوله له : « إنها لك أقيمت »

فيكون المعنى : فيؤمهم بعد تلك الصلاة،أو يكون المعنى يصبح إماما لهم أي أميرا وخليفة ، وكلا الأمرين حاصل إن شاء الله ، فأمير المؤمنين هو إمامهم في الصلاة،على هذا جرى العمل في القرون الأولي التي شهد لها رسول الله صلی الله علیه وآله بالخيرية .

مدته ومكان دفنه عليه السلام

-قال ابن كثير في تفسيره ج 1 ص 83ه ما نصه :

«تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة أن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ، ثم يتوفي ، ويصلي عليه المسلمون ، وفي حديث عبدالله بن عمر عند مسلم أنه يمكث سبع سنين ، فيحتمل والله أعلم أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة ، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح ، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة أنهم على صورة أبيهم آدم،ومیلاد عیسی ثلاث وثلاثون سنة ، وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم ، أنه رفع وله مائة وخمسون سنة فشاذ غریب بعید » .

ثم قال ابن كثير:«وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم

ص: 79

من تاريخه عن بعض السلف أنه يدفن مع النبي صلی الله علیه وآله في حجرته ، فالله أعلم»انتهى.

قلت : ما ذكره ابن عساکر أخرجه الترمذي عن عبد الله بن سلام الصحابي رضي الله عنه قال : «مكتوب في التوراة صفة محمد صلی الله علیه وآله وعيسى ابن مريم عليه السلام يدفن معه».

وقال أبو مودود المدني :

«قد بقي في البيت موضع قبر»أخرجه الترمذي وقال:هذا حديث حسن غريب .

قلت:الذي ذكره الإمام ابن كثير في الجمع بين روايتي مكث عيسى عليه السلام وأنه يمكث سبع سنين بعد نزوله،ورفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة فيكون مجموع لبثه في الأرض أربعين سنة،هذا هو الراجح والله أعلم لأن الروايتين صحيحتان،والجمع إذا أمكن من غير تكلف أولى من رد إحداهما .

أما ما جاء في دفن عيسى عليه السلام مع رسول الله صلی الله علیه وآله في الحجرة الشريفة فأرجح صحته-والله أعلم-لأن الراوي وهو(عبدالله بن سلام)كان من علماء اليهود وأحبارهم ، ثم أسلم لأنه وجد صفة رسول الله صلی الله علیه وآله في التوراة وكانت التوراة إلى عهد رسول الله صلی الله علیه وآله لم يدخلها التحريف إلا قليلا،فيكون خبر دفن عیسی علیه السلام مع رسول الله صلی الله علیه وآله من أصل التوراة قبل تحريفها،إذ لو كان ثم تحريف لأزيلت الرواية وما معها من صفة محمد صلی الله علیه وآله، ولما لم يحدث هذا تبين لنا أنها على أصلها إن شاء الله .

***

ص: 80

الفصل الخامس: يأجوج ومأجوج

اشارة

«حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»(1)

خروج يأجوج ومأجوج

قال تعالى:«حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»أي يسرعون في المشي إلى الفساد ، والحدب هو المرتفع من الأرض .

ويكون خروجهم بعد نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال بلا خلاف على هذا الترتيب ثم يوحي الله إلى عيسى عليه السلام:(أن حرز عبادي إلى الطور فإني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحدهم بقتالهم)كما سيأتي في الحديث إن شاء الله.

ويأجوج ومأجوج من ولد «یافث بن نوح»عليه السلام ، وهذا على الراجح.

77 -وأخرج الحاكم من طريق عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا » .

وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مثله موقوفا.

قلت:إن صح هذا فمعناه طول أعمارهم في سابق الأزمان حتى أن الواحد منهم لا يموت حتى يرى من أولاده وأولاد أولاده ألفا فصاعدا .

ص: 81


1- الأنبياء : 96.

78 -وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

«ولد لنوح سام وحام ويافث ،فولد لسام العرب وفارس والروم،وولد لحام القبط والبربر والسودان ،وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة »قال ابن حجر:وفي سنده ضعف.

قلت : إلا أن له شواهد من التاريخ والله أعلم .

قال ابن حجر:« ووقع في فتاوى الشيخ محیي الدين : يأجوج ومأجوج من أولاد آدم من غير حواء ، فيكونون إخواننا الأب » .

قال ابن حجر:كذا قال ولم نر هذا عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح،ونوح من ذرية حواء قطعا » انتهى فتح ج 13 ص 107.

وقد ورد في حالهم عند خروجهم ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وقتله على يد عيسى عليه السلام قال :

«ثم يأتيه قوم قد عصمهم الله من الدجال فيمسح وجوههم،ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هم كذلك،إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم،- يعني لا طاقة- فحرز عبادي إلى الطور - يعني حَصَّنهم هناك -ويبعث يأجوج ومأجوج ،فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ،ويمر آخرهم فيقولون:لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصرنبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم النغف-يعني دودا يكون في أنوف الإبل -في رقابهم فيصبحون فرسی- أي موتی-کوت نفس واحدة،ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض ، فلا

ص: 82

يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء الله،ثم يرسل الله مطرا لا يكَنُّ مِنهُ مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة-يعني کالمرآة -ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون تحتها،فبينما هم كذلك،إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم،فتقبض روح كل مؤمن ومسلم،فيبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر-يعني يأتي الرجال النساء علانية دون سترکالحمير -فعليهم تقوم الساعة وقد مضى برقم ( 73 ) تاما .

وفي الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

79 -«لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله ، الله »أخرجه مسلم.وفي رواية للإمام أحمد بسند صحيح .

80- «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله » .

81- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وعقد بيده تسعين »أخرجه مسلم.قال ابن حجر : « وعقد التسعين أن يجعل طرف السبابه اليمني في أصلها ويضمها ضما محكما بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوقة ، ونقل ابن التين عن الداودي أن صورته أن يجعل السبابة في وسط الإبهام »انتهى فتح الباري ج 13 ص 108.

وأخرج ابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :

«لما كان ليلة أسري برسول الله صلی الله علیه وآله، لقي إبراهيم وموسى وعيسى ، فتذاكروا الساعة فبدؤوا بإبراهيم فسألوه فلم يكن عنده منها علم ، ثم سألوا

ص: 83

موسى فلم يكن عنده علم ، فرد الحديث إلى عيسى فقال :

«قد عهد إلي فيا دون وجبتها-يعني قبل وقوعها-أما وجبتها فلا يعلمهاإلا الله » ثم ذكر خروج الدجال فقال :

« فأنزل إليه فأقتله » .

ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج ثم دعاءه بموتهم،ثم بإرسال المطر فيلقي بجيفهم في البحر ، ثم تنسف الجبال،وتمد الأرض مد الأديم،فعهد إلي ، إذا كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا ».

82 - وأخرج البخاري عن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها أن رسول الله صلی الله علیه وآله دخل عليها يوما فزعا يقول :

«لا إله إلا الله ، ويل للعرب ، من شر قد اقترب ، فتخ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ،-وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها-.

قالت زينب : فقلت يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟.

قال : « نعم ، إذا كثر الخبث ».

قال ابن حجر في الفتح ج 3 ص 109 : قوله ( إذا كثر الخَبَث ) فَسَّروه بالزنا وبأولاد الزنا وبالفسوق والفجور » .

ثم قال رحمه الله : قال ابن العربي:«فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه،وكذلك إذا غير عليه ، لكن حيث لا يجدي ذلك،ويصر الشرير على عمله السيء ، ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد فيهلك حينئذ القليل والكثير،ثم يحشر كل أحد على نيته ، وكأن زينب فهمت من فتح القَدر المذكور من الردم أن الأمر إن تمادي على ذلك اتسع

ص: 84

الخرق بحيث يخرجون،وكان عندها علم أن في خروجهم على الناس إهلاکا عاما لهم»انتهى.

من ذو القرنين ؟ ويأجوج ومأجوج ؟

ذو القرنين : هو الملك الصالح الذي جاء ذكره في سورة الكهف ، وهو الذي بنى السد دون يأجوج ومأجوج ليحول بينهم وبين جيرانهم الضعفاء الذين استغاثوا به منهم :

«قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا،قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا »(1)

هذا ما جاء عن بناء السد ، أما مكانه ، ففي الشرق قطقا لقوله تعالى :

«حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ »(2)

أما مكانه على التحديد فلعله سور الصين العظيم - أو سد آخر کشف بمقربة من « ترمذ » بلد الإمام الترمذي المحدث المشهور ، والله أعلم .

قال أستاذنا سيد قطب رحمه الله في هامش ص 412 من الجزء الخامس من تفسيره ( في ظلال القرآن ) ما نصه :

«کشف سد بمقربة من مدينة ترمذ»عرف بباب الحديد،وقد مر به في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي العالم الألماني ( سیلد برجر ) وسجله في

ص: 85


1- الكهف :94-95.
2- الكهف : 90.

كتابه ، وكذلك ذكره المؤرخ الأسباني «کلافيجو»في رحلته سنة 1403 وقال :

إن سد مدينة باب الحديد على الطريق - سمرقند - الهند - وقد يكون هو السد الذي بناه ذو القرنين » انتهى .

قلت : وسواء أكان هذا أو ذاك،فإنهم على كل حال من شعوب الشرق الأقصى والغالب والأرجح أنهم سكان الصين والله أعلم ،

والدليل على ذلك،أنهم يبلغون اليوم ألف مليون يعني ثلث سكان العالم أو قريبا من ذلك ، وما جاء في الحديث من وصفهم بأنهم يشربون مياه الأنهار حتى إذا مر آخر هم ببحيرة طبرية قالوا :«لقد كان بهذه مرة ماء ».

ويدل لذلك أيضا أمر الله تعالى لعيسى عليه السلام أن يحرز المسلمين إلى الطور لأنه لا قدرة لأحد على قتالهم .

ويدل لذلك أيضا أنهم كفرة فجرة إذا انتهوا من أهل الأرض قالوا تعالوا نناجز رب السماء ، كما جاء في الحديث،وهذا متحقق في شيوعي الصين الماركسيين،والله أعلم .

أما ذو القرنين ، فقيل:إنه نبي ، وقيل : بل هو ملك صالح .

وسواء أكان هذا أم ذلك،هل هو الإسكندر اليوناني باني الإسكندرية ،أم هوملك سابق عليه ، كان من ملوك اليمن ،وكان معاصرا لإبراهيم عليه السلام ؟.

قال بُکُل بعض العلماء والله أعلم بالحقيقة .

أما احتجاج أستاذنا سید قطب رحمه الله على أن ذا القرنين ليس هو المقدوني المعروف لأنه كافر والمذكور في القرآن مؤمن جيد الإيمان ، فهو

ص: 86

احتجاج ضعیف،لأن مستندنا في كفر المقدوني هو التاريخ،والتاريخ ظني الدلالة لا يطمئن القلب إلى ما قصه علينا،وحسبنا دليلا على ظنية التاريخ وعدم الثقة به،أنه لم يحدثنا عن إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، بل قصة موسى مع فرعون ، ثم نجاة موسى عليه السلام بقومه وهلاك فرعون وجنوده،هذه الحقائق التي حدثنا بها القرآن من المفروض أن تكون تاريخيا ذائعة شائعة،ولكنها على العكس من ذلك مطموسة ضائعة .

وهذا من أقوى الأدلة على ظنية التاريخ والحمد لله ولم يبق إلا أن نستأنس بما جاءنا عن سلفنا الصالح والله الموفق والهادي للصواب .

قال ابن حجر في الفتح ج 6 ص 382 ما نصه :

«روی الفاكهي من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن ذا القرنين حج ماشيا ، فسمع به إبراهيم فتلقاه ».

ومن طريق عطاء عن ابن عباس:«أن ذا القرنين دخل المسجد الحرام فسلم على إبراهيم وصافحه » .

ومن طريق عثمان بن ساج «أن ذا القرنين سأل إبراهيم أن يدعو له »، فقال : كيف وقد أفسدتم بئري ؟ يعني بئر زمزم .

فقال:«لم يكن ذلك عن أمري » يعني أن بعض الجند فعل ذلك بغيرإذني .

وذكر ابن هشام في التيجان«أن إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في شيء فحكم له » .

قال ابن حجر:«فهذه الآثار يشد بعضها بعضا » .

قلت : وهي تدل على أن ذا القرنين كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام ،

ص: 87

وأنه قدم للحج حين نادي إبراهيم الناس ليحجوا ، عملا بأمره تعالى :

«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(1)

وقد استدل ابن حجر بهذا على أن ذا القرنين المذكور في القرآن ليس هو الإسكندر لأن الإسكندر كان قريبا من زمن عيسى عليه السلام وبينه وبين إبراهيم قريبة من ألفي سنة والله أعلم .

وقال الفخر الرازي في تفسيره:«كان ذو القرنين نبيا »وكان الإسكندر كافرا ، وكان معلمه أرسطو طاليس ، وكان يأتمر بأمره ،وهو من الكفار بلا شك » .

قال ابن حجر:«وشبهة من قال إن ذا القرنين هو الإسكندر ما أخرجه الطبري ومحمد بن ربيع الجيزي في كتاب ( الصحابة الذين نزلوا مصر)بإسناد فيه ابن لهيعة أن رجلا سأل النبي صلی الله علیه وآله عن ذي القرنين فقال :

83 -«كان من الروم فأعطى ملكا فصار إلى مصر،وبني الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به ، فقال : انظر ما تحتك ، قال : أرى مدينة واحدة ، قال : تلك الأرض كلها ، وإنما أراد الله أن يريك ، وقد جعل لك في الأرض سلطائا ، فسر فيها ، وعلم الجاهل وثبت العالم ».

قال ابن حجر : « وهذا لو صح لرفع النزاع ، ولكنه ضعيف ، والله أعلم »انتهى .

قلت : تضعيفه من أجل أن فيه ابن لهيعة تعنت،فإن عبد الله بن لهيعة حسن الحديث على أرجح ما قيل ، وعليه يعتبر الحديث السابق في مرتبة

ص: 88


1- الحج : 27 .

الحسن ما لم تكن فيه علة أخرى غير ابن لهيعة ،ويصح الاحتجاج به على أن ذا القرنين هو الإسكندر المعروف وأنه كان ملكا صالحا ، وهو ما أرجحه والله اعلم.

هل فتح السد ؟ وهل خرج يأجوج ومأجوج ؟

أما أن السد قد فتح،فقد فتح منه قدر يسير بنص قول الصادق المصدوق صلی الله علیه وآله، وذلك في حديثين ، الأول روته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، والثاني رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان وأخرج البخاري حديث زینب .

وقد أوردت الحديثين برق ( 81 - 82 ) وفي الأول يقول رسول الله صلی الله علیه وآله« ويل للعرب ، من شر قد اقترب،فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه « وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ».

قالت : « فقلت يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون » ؟

قال:«نعم ، إذا كثر الخبث »يعني المعاصي والفجور .

وهذا صريح في ابتداء انشقاق السد إلى أن يأذن الله لهم بالخروج زمن عیسی علیه السلام .

ولكن ، هذا الخروج زمن عيسى عليه السلام هو الاجتياح الأكبر الذي هو من علامات الساعة الكبرى،ولا يمتنع أن يكون لهم قبل ذلك خرجة يفسدون فيها،ويهلك بسببها المسلمون ، ولهذا قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

« ويل للعرب من شر قد اقترب ».

وقالت زينب : « أنهلك وفينا الصالحون » ؟

ص: 89

وأرى والله أعلم،أن خرجتهم تلك قد وقعت باجتياح المغول والتتار للمالك الإسلامية وتدمير بغداد واستباحتها وقتل الخليفة المستعصم وآله حتى أنهم قتلوا في بغداد وحدها قريبا من ثمانمائة ألف نفس،وكانت أعدادهم عند الغزو لا حصر لها،ولكن ، هذا الخروج الذي حصل في أوائل القرن السابع للهجرة ليس هو الخروج الأخير يقينا،وإنما هو دونه ، اقتضته الحكمة الإلهية عقوبة للمسلمين حين كثرت فيهم المعاصي والفجور، فكان ذلك تطهيرا لهم لعلهم إلى الله يرجعون ، وقد كان والحمد لله .

ويشبه هذا الاجتياح المغولي للممالك الإسلامية والقضاء على الخلافة العباسية ،يشبه اجتياح الدول الغربية للدول الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر،وأوائل القرن العشرين ، وانتهى ذلك بالقضاء على الخلافة الإسلامية متمثلة في آل عثمان .

وكما كان الهلاك الأول عقوبة عندما كثر الخبث،فكذلك الهلاك الأخير،فلعلنا ندرك سر العقوبة،وسبب الهلاك ، فنعود إلى الله ونطهر نفوسنا وبلادنا من الخبث فلعل الله يرحمنا، ويعيد لنا الكَرَّة على أعدائنا ، وصدق الله العظيم :

«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(1)

رأي الاستاذ سيد قطب رحمه الله

يرى الأستاذ سيد قطب رحمه الله من باب الترجيح لا من باب اليقين أن خروج يأجوج و مأجوج قد تم بغزوهم للممالك الإسلامية في أوائل القرن السابع للهجرة،وأن خروجهم هذا من علامات الساعة الكبرى كما جاء في قوله

ص: 90


1- الرعد : 11 .

تعالى :

«حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ»(1).

قال رحمه الله في الظلال ( طبعة الحلبي ج 5 ص 413 ).

«هذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج ،فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة ، قد وقع منذ زمن الرسول صلی الله علیه وآله فجاء في القرآن :«اقتَرَبَتِ الساعةُ وانشقَّ القَمَر ».

«والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر » إلى أن قال رحمه الله :

(وإذن ، فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين:(اقتربت الساعة)ويومنا هذا ،و تكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسیاح يأجوج ومأجوج ».

ثم ذكر رحمه الله حديث زينب المذكور ثم قال :

«وقد كانت هذه الرؤية - أي رؤیا رسول الله صلی الله علیه وآله بفتح جزء من السد- منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن ، وقد وقعت غارات التتار بعدها،ودمرت مدن العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد(هولاكو) في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول صلی الله علیه وآله،وعلم ذلك عند الله وكل ما نقوله ترجيح لا يقين»انتهى.

قلت : وما أحسن ما ختم به قوله رحمه الله،«وعلم ذلك عند الله ، وكل ما نقوله ترجيح لا يقين ».

ص: 91


1- الأنبياء : 96 .

بل اليقين الذي لاشك فيه أن خروج يأجوج ومأجوج الذي ورد في القرآن على أنه من علامات الساعة ، وجاء في الأحاديث الصحيحة كذلك،هذا الخروج لم يقع بعد،لأن من أبرز علامات هذا الخروج معاصرته لزمن نزول عيسى عليه السلام،ويهلكهم الله عزوجل ببركة دعاء عيسى وأصحابه فيرسل عليهم دودا في رقابهم فيموتون جميعا كنفس واحدة،هذا جاءت الأحاديث الصحيحة المقطوع بصحتها والحمد لله .

لذلك فإن احتمال کون الغزو المغولي هو الخروج الكبيرغير وارد البتة،وإنما هو خروج جزئي تنبأ به رسول الله صلی الله علیه وآله بقوله « ويل للعرب ، من شر قد اقترب ».

وكان ذلك عقوبة حين كثر الفساد كما قال رسول الله صلی الله علیه وآله حين سألته زينب : « أنَهلِكُ وفينا الصالحون » ؟.

قال : « نعم إذا كثر الخَبَثُ».

وهذا هو اليقين والحمد لله رب العالمين.

***

ص: 92

الفصل السادس: طلوع الشمس من المغرب

اشارة

«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا »(1)

طلوع الشمس من المغرب وأثر ذلك

قال تعالى :«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»

وقد جاء بيان هذه الآية -التي يغلق معها باب التوبة-عن رسول الله صلی الله علیه وآله بالأحاديث الصحيحة المتواترة،وهي على القطع طلوع الشمس من المغرب،فإذا طلعت يختم على كل قلب بما فيه ،ونسأل الله العافية .

وهي على الترتيب تلي وفاة عيسى عليه السلام،ثم الدابة،ثم الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين ، ثم النار التي تسوق الناس إلى محشرهم ، ثم الساعة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

وقد جاء في طلوع الشمس من مغربها أحاديث كثيرة أذكر بعضها إن شاء الله ، والله المستعان.

86 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله:«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس،آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا »أخرجه البخاري ومسلم .

ص: 93


1- الأنعام : 158

85 -وأخرج الشيخان عن أبي ذر الغفاري حديثا قريبا منه وفيه :

«فيوشك ياأبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت ،وذلك حين (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) »متفق عليه .

وأخرج أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال :

89- أشرف علينا رسول الله صلی الله علیه وآله من غرفة ونحن نتذاكر الساعة،فقال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات:طلوع الشمس من مغربها، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ،وخروج عيسى ابن مريم،وخروج الدجال،وثلاثة خسوف:خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس-تبيت معهم حيث باتوا ، وتَقِيلُ معهم حيث قالوا»أخرجه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح وأخرج مسلم نحوه .

87 -وعن صفوان بن عَسَّال رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول:

«إن الله فتح بابا قبل المغرب عرضه سبعون عاما للتوبة ،لا يغلق حتى تطلع الشمس منه»أخرجه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجة .

88 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال:

« إن الهجرة خصلتان ،إحداهما تهجر السيئات،والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ، ولا تنقطع ما تُقُبِّلَتِ التوبة ، ولا تزال التوبةُ تَقبَلُ حتى تطلع الشمس من مغربها،فإذا طلعت،طبع على كل قلب بما فيه،وكفي الناس العمل »قال ابن كثير«هذا الحديث حسن الإسناد،ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم » .

ص: 94

وقال ابن كثير في تفسير الآية : فقوله تعالى :

«لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » أي إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم،وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة وعليه يحمل قوله تعالى :

«أو كسبت في إيمانها خيرا »أي ولا يقبل منها کسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك . انتهى كلام ابن کثیر .

89 - وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ،أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال:«بادروا بالأعمال ستا ، طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان أوالدجال ، أو الدابة ، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة »مسلم .

قوله:(ستا)يعني قبل أن تفجأکم ستة أمور هي المذكورة في الحديث .

(الدخان ) وقع لكفار مكة على الراجح ، وقيل لم يقع بعد .

( الدابة ) سيأتي بيانها إن شاء الله .

(خاصة أحدكم ) الفتن والعياذ بالله .

90-وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :

«حفظت من رسول الله صلی الله علیه وآله حديثا لم أنسه بعد،سمعته يقول:«أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى ،وأيتهما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها قريبا » مسلم .

قلت : قوله صلی الله علیه وآله :

« أول الآيات خروجا طلوع الشمس ...» يعني أول أشراط الساعة الكبرى

ص: 95

المؤذنة بقرب انتهاء العالم قربا عظيما ، فإن طلوع الشمس من المغرب إيذان باضطراب هذا الكون وخراب العالم،وهذا يقين إن شاء الله ، فإن الأحاديث الدالة على سبق نزول عیسی وقتله الدجال ثم خروج يأجوج ومأجوج هذه الأحاديث صحيحة وصريحة،ومن أظهر الأدلة على ذلك أن باب التوبة يغلق بطلوع الشمس من المغرب،بينما يقبل الإسلام ممن أسلم في زمن عيسى عليه السلام .

وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله صلی الله علیه وآله لعبد الله بن سلام :

91 -«أما أول أشراط الساعة ،فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب »(1).

فالمقصود من الأولية هنا كونها أولى العلامات الدالة على قيام الساعة وبعدها يكون النفخ في الصور،وسيأتي لذلك مزید بیان في المبحث الخاص بتلك النار إن شاء الله.

قال ابن حجر في الفتح ج 11 ص 353 .

« الذي يترجح من مجموع الأخبار،أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغيرالأحوال العامة في معظم الأرض،وينتهي ذلك بموت عيسى عليه السلام،وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة » انتهى.

ص: 96


1- أخرجه البخاري .

الفصل السابع: الدابة

الدابة خلق من خلق الله ، لا يدری کنهها ، ولا يدرك سرها ،والله أعلم بحقيقتها.إلا أن الحق الذي لا مراء فيه ،أنها خارجة إن شاء الله تعالى ،لتميز المؤمن من الكافر،فتخطم أنف الكافر ، وتجلو وجه المؤمن،حتى يعرف كل صاحبه،ولا يخفى عليه إيمانه أوكفره،وظاهر الأحاديث يدل على أن خروجها يكون بعد وفاة عيسى عليه السلام،إما قبل طلوع الشمس من مغربها بقليل أو بعدها بقليل ،والله أعلم أي ذلك كائن ،ويدل لذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو :

قال:حفظت من رسول الله صلی الله علیه وآله حديثا لم أنسه بعد،سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول:

92 - «إن أول الآيات خروجا:طلوع الشمس من مغربها،وخروج الدابة على الناس ضحى وأيتهما كانت قبل صاحبتها ،فالأخرى على أثرها قريبا » .

وقد مضى برق (90) مع شرحه .

قال الألوسي في تفسيره ج 20 ص 21:«والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر»ويدل على ما ذكرنا من الحق،ما أخرج أحمد والطيالسي ونعيم ابن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه ،وابن ماجة وابن جرير،وابن المنذر،وابن أبي حاتم ،وابن مردويه ،والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

ص: 97

93 -«تخرج دابة الأرض،ومعها عصا موسى،وخاتم سليمان،فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتخطم أنف الكافر بالعصا،حتى يجتمع الناس على الخوان ، ويعرف المؤمن من الكافر » قال الترمذي حديث حسن .

ثم قال رحمه الله :

94-وأخرج البخاري في تاريخه عن بريدة رضي الله عنه قال :

«ذهب بي رسول الله صلی الله علیه وآله إلى موضع بالبادية قريب من مكة ، فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلی الله علیه وآله :

«تخرج الدابة من هذا الموضع ، فإذا شبر في شبر» .

قلت : يعني مكان خروجها لا يزيد عن شبر في شبر .

ثم قال رحمه الله :«وقصارى ما أقوله في هذه الدابة ، أنها دابة عظية ذات قوائم،ليست من نوع الإنسان أصلا،يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض ،وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه : ( من الأرض )نوع إشارة - على ما قيل - إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد،بل هو بطريق التولد » انتهى کلام الألوسي .

وقال ابن كثير في تفسيره ج 2 ص 682 من المختصر :

«هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس،وتركهم أوامر الله،وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض،قيل من مكة ، وقيل من غيرها فتكلم الناس على ذلك ،قال ابن عباس والحسن وقتادة : تكلمهم كلاما «أي تخاطبهم مخاطبة»وقال عطاء الخراساني:تكلمهم فتقول لهم :(إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ).

ويروى هذا عن طريق علي رضي الله عنه ،واختاره ابن جرير الطبري .

انتهى كلام ابن كثير .

ص: 98

قلت : والظاهر والله أعلم أن خروج الدابة تال لطلوع الشمس من مغربها ، لأن باب التوبة يغلق بهذا التغيير في نظام الكون ،فتأتي الدابة ،فتميز من كان مؤمنا ،ومن كان كافرا،ثم تأتي الريح الطيبة من قبل الشام أو اليمن فتقبض أرواح المؤمنين ،ولا يبقى على الأرض إلا لكع بن لكع عليهم تقوم الساعة ونعوذ بالله .

ويدل لما قلت من كون آية الطلوع سابقة على آية الدابة ما ذكره ابن حجر في الفتح ج 11 ص 355:

«وعند نعیم بن حماد عن عبد الله بن عمرو قال:«لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا ، حتى تطلع الشمس من مغربها ،فيناديهم مناد:«ياأيها الذين آمنوا قد قبل منكم،ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة ، وجفت الأقلام ، وطويت الصحف » .

ومن طريق يزيد بن شریح:«إذا طلعت الشمس من المغرب يطبع على القلوب بما فيها ، وترتفع الحفظة وتؤمر الملائكة ألا يكتبوا عملا » .

وأخرج عبد بن حميد والطبري بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها :

«إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام ،وطويت الصحف،وخلصت الحفظة،وشهدت الأجسام على الأعمال ».

قال ابن حجر:« هذا الأثر وإن كان موقوفا على عائشة فحكمه حكم الرفع » .

ثم قال رحمه الله بعد أن أورد تلك الآثار وغيرها :

«فهذه آثار يشد بعضها بعضا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة ولم يفتح بعد ذلك ، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل

ص: 99

يمتد إلى يوم القيامة ،ويؤخذ منها أن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بيوم الساعة » انتهى كلام ابن حجر .

قلت :وفي ذلك دليل على أن خروج الدابة على الناس ضحى يلي طلوع الشمس من المغرب ، وأن الساعة من ذلك قريب قربا عظيما بحيث لا يولد عند ذلك مولود إلا وتسبقه الساعة قبل أن يبلغ سن التكليف ،فإن باب التوبة مغلق إلى يوم القيامة،والعدل الإلهي يأبى أن يأخذ الولد بجريرة أبيه ،اللهم إلا إذا كان إغلاق باب التوبة على من شهد طلوع الشمس من المغرب لا على غيره . والله أعلم .

***

ص: 100

الفصل الثامن: الريح الطيبة

جاء في آخر حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

«فبينما هم كذلك -يعني ينعمون بخيرات الأرض و برکاتها بعد إهلاك الله يأجوج ومأجوج- إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن ومسلم،ويبقى شرار الناس،يتهارجون تهارج الحمر،فعليهم تقوم الساعة »(1) .

وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :

قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

«فيبعث الله عيسى ابن مريم أنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه -أي الدجال يهلکه الله بيد عيسى عليه للسلام -ثم يمكث الناس سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ،ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير- أو إيمان - إلا قبضته ،حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضة ،فيبقى شرار الناس في خفة الطير،وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا » (2).

قلت :وهذه الريح الطيبة تكون بعد وفاة عيسى عليه السلام ،فقد جاء في الحديث الصحيح أن عيسى عليه السلام يتوفي بعد أن يمكث في الأرض أربعين سنة ويصلي عليه المسلمون ، فلو كانت هذه الريح في حياته عليه

ص: 101


1- سبق برقم 73.
2- تقدم تاما برقم 74 .

السلام لما وجد من المسلمين من يصلي عليه،فتبين أنها تكون بعد وفاته بسبع سنين كما في حديث عبد الله بن عمرو السابق والله أعلم .

وقد جاء في رواية أبي هريرة عند مسلم :

90 -قال رسول الله صلی الله علیه وآله «إن الله يبعث ريما من اليمن ألين من الحريرفلا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته » أخرجه مسلم.

قلت :في هذا الحديث: « يبعث الله ريحا من اليمن ».

وفي حديث عبد الله بن عمرو السابق.« ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام » .

في الظاهر تعارض ، وقد أجاب الإمام النووي عن هذا فقال :

«ويجاب عن هذا بوجهين :أحدهما ،يحتمل أنهما ريحان شامية ويمانية .

والثاني : يحتمل أن مبدأها من أحد الإقليمين،ثم تصل الآخر وتنتشر عنده والله أعلم » انتهى .

وقال رحمه الله :

« أما الحديث الآخر:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة »فليس مخالفا لهذه الأحاديث ، لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة ،وعند تظاهر أشراطها فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب ، والله أعلم .

«وأما قوله صلی الله علیه وآله :«مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان »ففيه بيان للمذهب الصحيح أن الإيمان يزيد وينقص » .

ص: 102

«وأما قوله صلی الله علیه وآله :«ريجا ألين من الحرير»ففيه والله أعلم إشارة إلى الرفق بهم والإكرام لهم » ... ( شرح حديث مسلم ج 2 ص 132).

قلت : وآية الريح هذه هي الأخيرة في الأشراط الكبرى المؤذنة بقرب قيام الساعة قربا عظيما حتى لكأنها الحامل المتم التي اكتمل لها تسعة أشهر لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا كما جاء في الحديث رقم (81) من هذه الرسالة .

فإذا أذن الله بخراب هذا العالم ، والانتقال إلى العالم الآخر،عالم الجزاء والبقاء،تكون أولى العلامات على ذلك نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم وسيأتي بيانها إن شاء الله في المبحث التالي والله المستعان .

***

ص: 103

الفصل التاسع: آية النار-وتقارب الزمان

اشارة

ورد في آية النار أحاديث مختلفة،وقد اجتهد العلماء في الجمع بينها ،والله أعلم بالحقيقة .

96- فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز ، تضيء أعناق الإبل ببصری »وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال:«أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ».

97 - وأخرج مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال :

« اطلع رسول الله صلی الله علیه وآله علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان،والدجال،والدابة وطلوع الشمس من مغربها ،ونزول عيسى ، ويأجوج ومأجوج ،وثلاثة خسوف :خسف بالمشرق وخسف بالمغرب،وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك : نار تطرد الناس إلى محشرهم ».

وفي رواية أبي داود«وآخر ذلك :تخرج نار من اليمن،من قعر عدن ،تسوق الناس إلى المحشر ».

هذا ما جاء في آية النار من أحاديث .

أما الحديث الأول ، وفيه « تخرج نار من أرض الحجاز... » فقد مضى هذا وانقضى .

ص: 104

قال القرطبي في التذكرة:«قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة،وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة،واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت » انتهى .

قال ابن حجر في الفتح ج 13 ص 79 معقبا على ذلك :

«والذي ظهر لي أن النار المذكورة في حديث الباب هي التي ظهرت بنواحي المدينة كما فهمه القرطبي،وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى »انتهى كلام ابن حجر . قلت : وليس المقصود بالحشر هنا حشر الآخرة ، فذلك إنما يكون بعد البعث،ولكنه حشر آخر يكون قرب قيام الساعة لحكمة يعلمها رب العباد .

وأما اختلاف الرواية من المشرق إلى المغرب(وفي بعض الأحاديث من قعرعدن تسوق الناس إلى المحشر)فقد وفق ابن حجر بينهما بقوله في الفتح ج 11 ص 378 :

«وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب،وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن،فإذا خرجت ، انتشرت في الأرض كلها ، والمراد بقوله «تحشر الناس من المشرق إلى المغرب »إرادة تعميم الحشرلا خصوص المشرق والمغرب،أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق»انتهى .

قلت : هذا ما محصل من الجمع بين الأحاديث،أما حقيقة تلك النار،وكيفية حشرها الناس، فلا يعلمه إلا الله .

ص: 105

تقارب الزمان

أما تقارب الزمان ،فهو من العلامات المؤذنة بقيام الساعة،إلا أنه لم يردفيه حديث يبين موعده بين الآيات السابقة،فالله أعلم متى يكون ...

وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

98 -«إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان ،وينقص العلم ،وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج ».

قالوا : يا رسول الله ، وما الهرج ؟ قال : « القتل ، القتل » .

قلت : قد فسر ابن الأثير تقارب الزمان بأنه كناية عن قصر الأعمار وقلة البركة فيها،قال:« وقيل : وهو أن الزمان يتقارب حتى تكون السنةكالشهر،والشهرکالجمعة،والجمعة اليوم ، واليوم الساعة ،والساعة كاحتراق السعفة ».

قلت : وهذا التفسير الأخير هو الأصح والله أعلم،فقد ورد فيه حديث ضعيف إلا أن حديث الشيخين يشهد له بالصحة والله أعلم .

99 -فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة کالشهر والشهر الجمعة وتكون الجمعة اليوم ،ويكون اليوم کالساعة ،وتكون الساعة كالضرمة من النار »أخرجه الترمذي وقال غريب .

قلت :وليس ببعيد أن يجعل الله الأرض تسرع في دورانها حول نفسها فيتقارب الزمان علامة على خراب العالم كما جعل طلوع الشمس من مغربها علامة على قرب خرابه كذلك والله على كل شيء قدير .

ص: 106

الخسوفات الثلاثة

أما الخسوفات الثلاثة التي جاءت في الحديث رقم (97) «خسف بالمشرق وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ».

فالظاهر أنها نوع من الخسف يغایر ما نعهده مما يقع كثيرا منه في العالم ، بل لا يكاد يمضي عام إلا ونسمع بزلزال أو ثورة بركان في المشرق أو المغرب،فلعل المراد والله أعلم ، الخسف الذي يحدث نتيجة حرب نووية تدمر الحضارة في الشرق والغرب على السواء أما الخسف الذي يقع بجزيرة العرب فلعله المذكور في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

100 -«يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ».

قالت عائشة : قلت « یارسول الله ، كيف يخسف بأولهم وآخرهم ،وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم».

قال:«يخسف بأولهم وآخرهم ، ثم يبعثون على نياتهم »متفق عليه واللفظ للبخاري .

وقد ذكر أبو الفرج الجوزي في كتاب(فهوم الآثار)أنه قد وقع خسف بالعراق والمغرب ، وهلك بسبب ذلك خلق كثير،وهذا صحيح،ولكن هل هذا هو الخسف المراد بالحديث المذكور أم هو كسائر ما يقع بالأرض من خسوفات ؟

الظاهركما قلت أن الخسف المراد ،والذي هو من أشراط الساعة لم يقع بعد ، ونسأل الله العافية.

ص: 107

النفخ في الصور

النفخ في الصور،قيام الساعة ،وخراب لهذا العالم الفاني،وعمارة لذلك العالم الباقي،عالم الآخرة،عالم توضع فيه الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا،وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما .

قال تعالى :«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ،مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ،فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ»(سورة يس الآيات : 48-50).

وهذه هي النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله من الملائكة المقربين،ثم يتوفاهم ليتحقق قوله سبحانه :

«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»( سورة الرحمن الآيتان : 26 - 27 ) .

وقوله سبحانه :«كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »(سورة القصص الآية :88).

وقوله :«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»( سورة آل عمران الآية : 185 ) .

ثم يحي الله إسرافيل عليه السلام صاحب الصور،ويأمره بنفخة البعث ،فإذا هم قيام ينظرون .

وهذا كما قال تعالى :«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ،قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ»( سورة يس الآيتان : 51 - 52 ) .

وبين النفختين أربعون ولا يدري ، أربعون سنة أو أربعون شهرا ، أو

ص: 108

أربعون يوما والله أعلم أي ذلك كائن ،والأحاديث التي حددت المدة بالسنين فيها مقال ، والحديث الصحيح لم يعين .

فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

101 -«قال رسول الله صلی الله علیه وآله:«ما بين النفختين أربعون »قيل :«أربعون يوما ؟».

قال أبو هريرة:«أبيت»يعني أبيت أن أعين .

قالوا :«أربعون سنة ».

قال : « أبيت » .

قال أبو هريرة :«ثم ينزل من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا بلي ، إلا عظم واحد،وهو عجب الذنب،منه يركب الخلق يوم القيامة »متفق عليه .

قلت : قوله صلی الله علیه وآله :

« وليس من الإنسان شيء إلا بَلِيَ،إلا عظم واحد وهو عَجبُ الذَّنَب » .

ولمسلم:«إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا ،منه يركب يوم القيامة ».

قالوا:«أي عظم هو یارسول الله ؟».

قال : « عجب الذَّنَب ».

قلت:هذا من المشكلات،فإن المشاهد أن الإنسان كله يبلى وإن تأخر عظمه عن لحمه،و الحديث صحيح متفق على صحته ، ورسول الله صلی الله علیه وآله صادق ولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى،والخروج من هذا الإشكال مبسوط في كتابي (حقيقة الإنسان ).

ص: 109

إن المراد«بعجب الذنب »ليس هو « عظم العصعص »ولكنه « الذرة الأصلية »التي انحدرت إلينا من أبينا آدم عليه السلام،ومنها خلق الإنسان ، وهي في غاية الصغر بحيث احتوى صلب آدم عليه السلام على كافة ذرات ذريته ، وأوصلها بإذن الله إلينا بالتناسل .

ويدل لما قلت الحديث الصحيح،عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلی الله علیه وآله قال :

102 -«إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة،فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كلمهم قبلا -يعني كلمهم ربهم مواجهة-».

قال:(ألست بربکم ؟ ).

قالوا:(بلى شهدنا )أخرجه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك .

ويدل لما قلت أيضا من أن الإنسان خلق من تلك الذرة الأصلية ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

103 -«كل ابن آدم تأكله الأرض،إلا عجب الذنب ،منه خلق ، ومنه يركب »والشاهد في الحديث قوله :( منه خلق ) .

ومعلوم قطعا أن الإنسان لم يخلق من عظم العصعص،وإنما من النطفة ،فتكون الذرة الأصلية كامنة في النطفة ، والله أعلم .

***

ص: 110

الباب الثالث

اشارة

«اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون »الآية الأولى من سورة الأنبياء

قرب قيام الساعة

يراد بقيام الساعة أمران :

الأول:قيام ساعة كل إنسان الخاصة به،وساعة كل إنسان موته .

الثاني:الساعة الكبرى،يعني خراب هذا العالم الدنيوي والانتقال إلى ذلك العالم الأُخرَوِي لتجزى كل نفس بما تسعى .

ومما جاء في المعنى الأول لقيام الساعة ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت:

104-«كان الأعراب إذا قَدِمُوا على رسول الله صلی الله علیه وآله سألوه عن الساعة ،متى

الساعة ؟

فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول :

«إن يَعِش هذا لم يدركه الهرم ،حتى قامت عليكم الساعة »متفق عليه .

وواضح أن رسول الله صلی الله علیه وآله صرفهم عن الاهتمام بأمر الساعة الكبرى،إلى تدبرأمر ساعتهم يعني موتهم ،ومن مات فقد قامت قيامته ، والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار،وأولى بالإنسان أن يستعد لما هو قريب ويتجهز للموت بإحسان العمل،وإخلاص النية ،من أن يضيع وقته بالسؤال عن الساعة الكبرى ومتى تكون .

ص: 111

ويوافق الحديث السابق ما أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه :

105 - «أن رجلا سأل رسول الله صلی الله علیه وآله : متى الساعة ؟

فسكت رسول الله صلی الله علیه وآله هنيهة،ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شَنَوءة،فقال:« إن عمر هذا الغلام لم يدركه الهرم ، حتى تقوم الساعة ».

قال أنس : « وذلك الغلام من أترابي يومئذ».

قلت هذا ما جاء في الساعة بمعناها الأول ،أما ما جاء بمعناها الثاني وهو خراب هذا العالم فأحاديث كثيرة لا تكاد تحصى،ومقصودي الآن إثبات قرب ذلك اليوم قربا عظما حتى لأ خشى على حفدتنا أن يشهدوها ،وأسأل الله أن يجنبنا وذرياتنا شهود ذلك اليوم الذي لا يكون فيه حيا إلا من غضب الله عليه ولعنه ولا تجدوا أحدا منهم يقول«لا إله إلا الله»كما جاء في الحديث الصحيح .

فنسأل الله العافية لنا ولمن وراءنا من الذرية اللهم آمين .

وأعود إلى تبيين قرب قيام الساعة بما صح من الأحاديث ، وما يشاهد من الأحوال فأقول والله المستعان :

متى الساعة ؟

أما علم وقتها على التعيين ، فأمر لا يعلمه إلا الله ، وهذا كما قال تعالى :

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ

ص: 112

اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

هذا في علم وقتها على التحديد .

أما وقتها على التقريب،فأمر ممكن إن شاء الله ولا مانع منه شرعا،بل قد جاءت الأحاديث الصحيحة ،مصرحة بقربها ،وبيان أشراطها الصغرى والكبرى ،حتى لكأننا نراها رأي العين ، والحمد لله رب العالمين .

وعليه،فإننا إذا خضنا في بيان قرب الساعة ،واجتهدنا في التعرف على وقتها على وجه التقريب ، وذلك باستقراء ما وقع من علاماتها ،لا نكون بذلك باحثين عما لا يعنينا ،ولا متكلفين ما لا طاقة لنا على العلم به،والله الموفق والهادي للصواب .

قال ابن حجر في قوله صلی الله علیه وآۀه :

«بعثت أنا والساعة كهاتين »قال : ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى :«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ »(2) .

لأن علم قربها لا يستلزم علم وقت مجيئها مُعَيَّنًا ، انتهى فتح ج 11 ص 350 قلت :وهذا ما سأسلكه في البحث إن شاء الله ،فأثبت قربها وأجتنب بیان وقتها وأفوضه إلى علام الغيوب ، فأقول :

تقدم في الباب الأول من هذه الرسالة أحاديث كثيرة تدل على قرب قیام الساعة ولا أطيل باعادتها،وإنما أكتفي بذكر بعضها والإشارة إلى البعض الآخر.

ولعل أصرح حديث ورد في المسألة ما أخرجه الترمذي والطبري عن المستورد بن شداد :

ص: 113


1- سورة الأعراف : 187 .
2- سورة لقمان : 34 .

«بعثت في نفس الساعة ،سبقتها كما سبقت هذه لهذه »وأشار لإصبعيه ،السبابة والوسطى .

قال ابن حجر : وقوله (في نفس )كناية عن القرب ، أي بعثت عندتنفسها .

وقال ابن الأثير في النهاية .

« بعثت في نفس الساعة »أي بعثت وقد حان قيامها وقَرُبَ ،إلا أن الله أخرها قليلا ، فبعثني في ذلك النفس ، فأطلق النفس على القرب ».

قال:«وقيل : معناه أنه جعل للساعة نفسا نفس الإنسان ،أراد أني بعثت في وقت قريب منها أحس فيه بنفسها كما يحس بنفس الإنسان إذا قرب منه،يعني بعثت في وقت بانت فيه أشراطها وظهرت علاماتها » انتهى .

وأخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال :

106 -«بعثت أنا والساعة كهاتين ، كفضل إحداهما على الأخرى » .

وضم السبابة والوسطى قلت:ومعنى قوله (كهاتين )مشيرا إلى السبابة والوسطى يضمهما يعني بذلك صلی الله علیه وآله أن ما بقي من عمر الدنيا بالنسبة لما انقضى منهما كما زادت الوسطى على السبابة في الطول،يعني قريبا من الخمس ، فشبه عمر الدنيا من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة بالإصبع الوسطى،وشبه ما مضى إلى عهده صلی الله علیه وآله بالسبابة وهي الشاهد، فيكون فرق ما بينهما في الطول هو الزمن الباقي على قيام الساعة .

قال القاضي عياض وغيره .

«أشار هذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه وبين الساعة » .

ص: 114

قال القرطبي في « الُمفهِم » :

«حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها ».

وقال في « التذكرة »:

ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه ، لكن سياقه يفيد قربها، وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى :

( فقد جاء أشراطها ) انتهى .

وأورد الإمام الطبري في مقدمة تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنها قال :«الدنيا جمعة من جمع الآخرة ، سبعة آلاف سنة »(1).

قلت:قي سنده يحیي بن يعقوب وحماد بن أبي سليمان فيهما مقال ،هذا مع أنَّ أبا حاتم قال في يحي « محله الصدق » ( انظر الميزان رقم 9656 ).

أما حماد،فهو فقيه الكوفة وثَّقَه ابن مَعِين وغيره ( انظر الميزان رقم 2253)وعليه فيكون الحديث صحيح الإسناد عن ابن عباس إلا أنه موقوف عليه وقد رجحه الطبري على ما عداه مما جاء عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وفيه أن الدنيا ستة آلاف سنة مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة .

ثم أورد ابن جرير حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال : «ما أَجَلُكم في أجَل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس »قال ابن حجر في الفتح ج 11 ص 351.

« حديث ابن عمر-المذكور-صحیح متفق عليه فالصواب الاعتماد عليه وله محملان :

ص: 115


1- وجه الاحتجاج بهذا الأثر عن ابن عباس أنه مما لا يعلم بالرأي فيحمل على السماع ، أو أنه مما آتاه الله من علم لدنی ببركة دعاء رسول الله صلی الله علیه وآله( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ).

أحدهما:أن المراد بالتشبيه التقريب ، ولا يراد حقيقة المقدار .

والثاني:أن يحمل على ظاهره ، ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا انتهى .

قلت : وعليه ،فإن صح كلام ابن عباس أن عمر الدنيا سبعة الآف سنة ،وما قاله ابن حجر في تفسير الحديث السابق أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار ، إن صح هذا وذاك ،فنحن إن شاء الله على أبواب الساعة الكبرى ،وفي انتظار أول علاماتها التي إن ظهرت تسلسلت وتتابعت كحبات العقد إذا انفرط ،وحسبنا الله ونعم الوكيل .

وقال الألوسي في ( روح المعاني ) ج 26 ص 53:

«ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعَيَان وامتلأت منها البلدان ،ومع هذا كله ، أمر الساعة مجهول ، ورداء الخفاء عليه مسدول ».

ثم قال رحمه الله : «قال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف :

«الذي دلت عليه الآثار،أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف سنة ، ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة » -يعني ثانية -وبنى الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وأن النبي صلی الله علیه وآله بعث في آخر الألف السادسة » .

ثم قال « وأفرد الحافظ السيوطي - أفرد رسالة لذلك كله ، وقال :

« تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة ».

قلت : وهذا كله تقریب لا تحديد ،ومبناه على غلبة الظن لا على اليقين .

ص: 116

ولكن اليقين الذي لا شك فيه أننا من الساعة قريب ، وداعي الحق ينادي ولا مجيب ، وقد مضت جمیع علامات الساعة الصغرى وانقضت ، و« اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون».

ما المراد بعمر الدنيا

تقدمت الأحاديث الصحيحة في تقدير ما بقي من عمر الدنيا بمقدار الخمس تقريبا ، وذلك في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله.

إلا أن الإشكال في تحديد البداية .لنطرح الأربعة أخماس وننظر كم بقي من الخمس الباقي .

فمعنا الآن أربعة مطالب :

المطلب الأول :إثبات أن ما بقي من عمر الدنيا يساوي الخمس .

المطلب الثاني : إثبات أن المراد بعمر الدنيا هو«عمر البشرية» لا عمر«الكون»أو«الأرض ».

المطلب الثالث : إثبات أن ما مضى من عمر البشر من عهد أبينا آدم عليه السلام إلى يومنا هذا لا يزيد عن سبعة آلاف عام .

المطلب الرابع :تقدیر وقت قيام الساعة بالتقريب بناء على تحقيق المطالب الثلاثة السابقة .

أما تحقيق المطلب الأول:فقد تقدم بإيراد الحديثين الصحيحين أحدهما عن ابن عمر بلفظ :

« ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس »متفق عليه .

ص: 117

وروي من طريق مجاهد عن ابن عمر بلفظ :

«كنا عند النبي صلی الله علیه وآله والشمس على قعیقعان مرتفعة بعد العصر فقال:

« ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه »رواه أحمد بسند حسن و(قعیقعان ) جبل بمكة .

والحديث الثاني : أخرجه الشيخان كذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

«بعثت أنا والساعة كهاتين ،كفضل إحداهما على الأخرى »وأخرجاه كذلك عن سهل بن سعد الساعدي قال :

« رأيت رسول الله صلی الله علیه وآله قال بإصبعيه هكذا:الوسطى والتي تلي الإبهام،وقال : بعثت أنا والساعة كهاتين » متفق عليه .

فهذان حدیثان اتفق على صحتهما البخاري ومسلم وهما صريحان في كون ما بقي من عمر الدنيا يساوي الخمس تقريبا .

أما الأول : فجعل الباقي كما بقي من النهار حين آذنت الشمس بالمغيب بعدصلاة العصر .

وأما الثاني : فجعل الباقي كما بقي من السبابة لتلحق بالوسطى .

والتقديران متقاربان والحمد لله ، ولا خلاف .وبهذا يتحقق المطلب الأول .

أما تحقيق المطلب الثاني :وهو إثبات أن المراد بعمر الدنيا هو مدة حياة البشر من عهد آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة ، فيدل لذلك قوله صلی الله علیه وآله في الحديث المذكور سابقا :

« ما أجلكم في أجل من كان قبلكم..».

ص: 118

وفي رواية : « ما أعمارك في أعمار من مضى..».

وجه الاستدلال : أنه صلی الله علیه وآله نسب أجل أمته الباقي لها إلى ما مضى من تعمير الأمم السابقة ، ولم ينسب ذلك إلى بداية خلق الأرض ، ومعلوم أن المراد بمن كان قبلنا هم بنو آدم وليس غيرهم ، فثبت بذلك أن المقصود من عمر الدنيا هو عمر البشر وليس عمر الأرض ، وهذا على التحقيق والحمد لله .

ومما يشهد لذلك أيضا أن عمر الأرض قد قدر بالحساب الچيولوچي بثلاثة آلاف مليون سنة فلو كان المقصود بعمر الدنيا عمر الأرض ، وقد مضى منه أربعة أخماس يكون الباقي على قيام الساعة منذ عهد رسول الله صلی الله علیه وآله سبعمائة وخمسين ألف عام،مضى منها ألف و أربعمائة ، فانظر ماذا يبقى ؟ ..

ولا يخفی بطلان هذا ومنافاته لبدائه العقول ، وصريح النقول : فثبت القول الأول والحمد لله رب العالمين .

أما تحقيق المطلب الثالث:وهو إثبات أن عمر الدنيا بمعنى حياة البشرعلى هذه الأرض لا يزيد عن سبعة آلاف عام ....

فأشد ما يعارضه ويعكرعليه،هو زعم الزاعمين أنه عُثِرَ على جماجم وعظام بشرية في بعض الكهوف يزيد عمرها عن أربعين ألف سنة ، بل زعم بعضهم أن تاريخ الإنسان على هذه الأرض يعود إلى ألف ألف سنة ( مليون ).

وأيسر ما أرد به تلك المفتريات،أن الباحثين عن تاريخ الإنسان أنفسهم مختلفون أشدالاختلاف في الحكم على ما عثروا عليه من عظام وجماجم ،هل هي خاصة بجنس البشر،أم تخص مخلوقات أخرى لا يعلمها إلا الله ؟وهل هذا التاريخ الذي قدروه لحياة تلك المخلوقات صحيح أم مبالغ فيه ؟

وفي هذا يقول المؤرخ الفيلسوف(ول ديورانت)في كتابة (قصة الحضارة ) ص 11 من الكتاب الأول من المجلد الأول :

ص: 119

«وقد وجد علماء الآثار الفرنسيون في هذا الإقليم -العراق وإيران-آثارا بشرية يرجع عهدها إلى عشرين ألف عام ، كما وجدوا شواهد تدل على قيام ثقافة راقية يرجع عهدها إلى عام ( 4500 ) أربعة آلاف وخمسمائة قبل الميلاد ».

ويعقب ( ول ديورانت ) على هذا بقوله :

يعتقد الأستاذ برستد أن مرجان ، وبمبلي ، وغيرهما قد بالغوا في قدم هذه الحضارة » انتهى .

قلت : هذا مع أن (ول ديورانت ) ممن يؤمنون بأن حضارة الإنسان ممتدة عبر عشرات الآلاف من السنين ، وإن لم يكن معه دليل إلا اتباع الظن .

ويدل لهذا التخبط والظن الذي وقع فيه علماء الآثار والمؤرخون قول ( ول ديورانت ) في كتابه ( نشأة الحضارة ) ص 177 .

« متى وكيف بدأ الإنسان استخدام المعادن ؟

لسنا ندري ،نقولها مرة أخرى ،وكل ما نستطيع أن نقوله على سبيل الظن،أنه بدأ بفعل المصادفة فلو حددنا هذا التاريخ بسنة (4000) أربعة آلاف قبل الميلاد أو نحوها ، أبصرنا أمامنا صورة لعصر المعادن والكتابة والمدنية لا تمتد إلى أكثر من ستة آلاف عام ، نراها بمثابة الذيل الصغير الذي أعقب عصرا حجریا امتد على وجه الدهر أربعين ألف عام على أقل تقدير ، أو أعقب عمرا طويلا عاشه الإنسان مداه مليون عام » .

قلت:انظر إلى هذا السخف من هؤلاء الناس الذين طلبوا الحقائق من الظن ، وحرموا نعمة الإيمان وتصديق الرسل ....

ص: 120

إنني كمسلم والحمد لله أعتقد أن آدم عليه السلام كان أكثر تحضرا من(ول دیورانت ) وأمثاله ، وأن الله عَلَّمَه كل شيء ليستطيع الحياة على هذه الأرض،ويحقق فيها معنى الخلافة وهذا كما قال تعالى :

«وَعَلَّمَ آدمَ الأسماء كُلَّها »(1)

وهؤلاء الذين لا يدينون دين الحق يجعلون من آدم وذريته-هذا إذا كانوا يؤمنون به أصلا- يجعلون منهم جهلة لا يعلمون ،بکما لا يتكلمون ، وكفرة بربهم لا يؤمنون ..

هكذا يقول علم تاريخ الأديان،وعلم تاريخ الإنسان،ثم تعلم الإنسان الأول بزعمهم النطق من الطير والحيوان،واكتشفت النار صدفة بعد أن كان يأكل اللحم نيئا،وعبد الطواطم ليتقي بها من شر الطبيعة ، ثم تدرج في الرقي حتى اكتشف المعادن قبل ستة آلاف سنة على الأكثر،و كان اكتشاف المعادن أيضا بطريق الصدفة،بينما عاش الإنسان قبل ذلك أربعين ألف سنة على الأقل -إن لم يكن مليون - عاش في عصور الجهالة والظلام يأوي إلى الكهوف ، ويتخذ أدواته من الحجارة !!

أما من يؤمن بالله واليوم الآخر،ويؤمن بنبوة آدم عليه السلام،وأن الله علمه أسماء كل شيء ، وما أهبطه إلى الأرض إلا وقد علمه وأهله وهيأه للحياة فيها،والتعامل مع ما عليها،والانتفاع بخيراتها وما ادَّخَرَهُ الله فيها ....

من يؤمن بذلك كله،يجزم أن العصر الذي بدأت فيه الكتابة والمدنية والذي قَدَّرُوه ظنا بما يقرب من ستة آلاف سنة قبل الميلاد ،هذا العصر هو بداية تاريخ الإنسان على الأرض ، مع الاختلاف بتقدير الزمن ، إلى ما يوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما الذي ذكرته سابقا عن ابن جریر

ص: 121


1- سورة البقرة : 31.

الطبري ورجحه ، وفيه :

« الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة ».

فإذا مضى أربعة أخماسها في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله ، يكون الباقي على الساعة ألف سنة وأربعمائة ونحن اليوم في عام ألف وأربعمائة من الهجرة فلو كان الحساب الذي قدرته صحيحا ، لوقعت الواقعة في أيامنا هذه ولكننا لم نشاهد من علاماتها الكبرى شيئا حتى الآن فدل ذلك على الخطأ في الحساب والتقدير،وهكذا يصدق قوله تعالى:كما هو حق دائما وأبدا:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

قلت :ومما يشهد كذلك لقول ابن عباس في عمر الدنيا،عدد من أرسلهم الله من الرسل إلى الناس ، من آدم إلى محمد صلی الله علیه وآله رسلا مبشرين ومنذرين فإن عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر رسولا عدا الأنبياء ،وهذا كما جاء في زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 7 وقال : « رواه أحمد وابن حبان في صحيحه».

فإذا علمنا أن عدد الرسل المكلفين بتبليغ الرسالة لا يزيد عن العدد المذكور وأن أكثرهم كانوا متعاصرين في زمن واحد تقريبا،كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسلیمان وزكريا وعيسی .

كل هؤلاء كان منهم اثنان أو أكثر في زمان واحد، وقد أخبرنا الله في سورة يس أنه أرسل ثلاثة رُسُل إلى قرية واحدة وفي وقت واحد ،

ص: 122


1- الأعراف : 187 .

فقال سبحانه :«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ،إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»(1).

إذا تبين ذلك نستطيع أن نقدر فترة إرسال أولئك الرسل بالتقريب ،فنقول :

لو أن كل ثلاثة أرسلوا في مدى خمسين أو ستين عاما يعني في كل جيل تقريبا في المعدل تكون المدة من عهد آدم إلى رسولنا محمد صلی الله علیه وآله قريبة من المدة التي قدرها ابن عباس رضي الله عنهما يعني ستة آلاف عام إلا قليلا ، وهذا يعادل أربعة أخماس ما مضى من عمر الدنيا التي قال ابن عباس فيها:«الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة » .

ومما يشهد كذلك لصحة قول ابن عباس هذا ،أن طوفان نوح لم يتجاوز خمسة آلاف عام في القدم ، ومعلوم أن نوحا أول رسل الله بعد آدم،وأنه عمر ألف سنة إلا خمسين عاما، وعمر آدم قريبا من ذلك،فيكون ما مضى من عمر الدنيا قريبا من سبعة آلاف سنة،فتكون الساعة الكبرى على الأبواب ،وأنه لم يبق لها إلا أشراطها الكبرى التي إن ظهر أولها تسارعت حتى أواخرها ، ويدل لذلك ما العالم عليه من فساد عم البلاد والعباد،والقوة والسلطان بید أكبر دولتين كافرتين فاجرتين،وأصبح المسلمون اليوم أضيع من الأيتام على مائدة اللئام،ولا أمل ينجي القلة المؤمنة،من طغيان الكثرة الفاجرة،إلا أن يأذن الله بظهور عبده المهدي،ومن ورائه المسيح عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فيحي به موات العالم ، كما أحيا به من قَبلُ الموتى بإذنه ، والله حسبنا ونعم الوكيل .

ص: 123


1- يس : 13 - 14 .

وبما قدمت يتحقق المطلب الرابع ، وهو تقدیر وقت قيام الساعة متداخلا مع المطلب الثالث وهو إثبات قول ابن عباس في عمر الدنيا،وبذلك نكاد نوقن أننا على مشارف النهاية ، وعلى هذا تشهد كل آية ،فالنذير النذير ،فلم يبق من الحياة إلا قليل .

وصدق الله العظيم :«اقتَرَب للنَّاس حِسَابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضُون » .

وخير ما أختم به هذا التحقيق ، قول رسول الله صلی الله علیه وآله:

107-«كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن ، وحنى جبهته ،وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر فينفخ ».

قال أبو سعيد الخدري:فكأن ذلك ثقل على أصحابه فقالوا:فكيف نفعل یارسول الله ؟ أو نقول ؟

قال:قولوا :حسبنا الله ونعم الوكيل،على الله توكلنا» أخرجه الترمذي وله شواهد والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق .

***

ص: 124

الباب الرابع

من أسرار أشراط الساعة تمهید الرمزية في الوجود

الرمزية في الوجود حقيقة جلية ، غير أنها لدقتها على العقول عصية ، فما من شيء في الوجود إلا ويشير إلى معان خفية ، وأسرار علية ،يعرفها من عرفه الله إياها ،ويجهلها من حجبها الله عنه وأخفاها .

وسأذكر بعض أحاديث تدل على اعتبار تلك الرمزية في الوجود لأعبر من إثبات ذلك إلى بيان طرف من أسرار أشراط الساعة وما ترمز إليه من معان دقيقة إن شاء الله .

فقد جاء في صحيح البخاري أنه لما جاء سهيل بن عمرو موفدا من كفارمكة للتفاوض في صلح الحديبية ، قال رسول الله صلی الله علیه وآله.

108 -«قد سهل لكم من أمركم » فكان رسول الله صلی الله علیه وآله فهم بطريق الرمز والإشارة ، من اختيار الله لسهيل بن عمرو وتسخيره قريشا ليرسلوه للمفاوضة ، فهم من ذلك رسول الله صلی الله علیه وآله، أن الله قد قضى بتيسير أمر المفاوضة التي كانت قد تعقدت حتى كادت تنذر بحرب،ولكن الله سَلَّم وسَهَّلَ ، وكان سهيل هو الذي أمضى صلح الحديبية وأنهي بذلك المشكلة التي تعقدت .

وأصرح من ذلك في الرمزية قول رسول الله صلی الله علیه وآله في الصحيح :

109 -«رأيت في منامي كأني في دارعقبة بن رافع ،وأتينا من رطب ابن طاب ، فأولته الرفعة لنا في الدنيا ،والعاقبة لنا في الآخرة ، وأن ديننا قد طاب ».

ص: 125

فإن قال أحد : هذه رؤيا والرؤيا غالبا ما تأتي بالرمز ، فأقول :

إنما مقصودي إثبات الرمزية وحسب سواء أكانت في المنام أم في اليقظة ،وعلى كل حال ، سأورد إن شاء الله القصة الثابتة التالية التي وقعت يقظة لا مناما ، وفيها ما يلوي عنق الجاحد ، ويقطع إن شاء الله لسان المعاند .

110 -«فقد أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه،أنه توضأ في بيته ثم خرج فقال :«لألزمن رسول الله صلی الله علیه وآله، ولأكونن معه يومي هذا ؟

فجاء المسجد،فسأل عن النبي صلی الله علیه وآله، فقالوا : « وجه ههنا ».

قال : فخرجت على أثره أسأل عنه ،حتى دخل بئر أريس،فجلست عند الباب،حتى قضى رسول الله صلی الله علیه وآله حاجته ، وتوضأ ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس ،وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ،ودلاهما في البئر ، فسلمت عليه ثم انصرفت ،فجلست عند الباب فقلت«لأكونن بواب رسول الله صلی الله علیه وآله ».

فجاء أبو بكر رضي الله عنه ، فدفع الباب ، فقلت : من هذا ؟

قال : أبو بكر .

قلت : على رِسلِكَ .

ثم ذهبت فقلت : « یارسول الله ، هذا أبو بكر يستأذن » .

فقال : « ائذن له وبشره بالجنة » .

فأقبلت حتى قلت لأبي بكر:ادخل ورسول الله صلی الله علیه وآله يبشرك بالجنة .

فدخل أبو بكر حتى جلس عن يمين النبي صلی الله علیه وآله في القف(والقف ما يبني حول البئر ) ودلى رجليه كما صنع رسول الله صلی الله علیه وآله ، وكشف عن ساقيه .

ص: 126

ثم رجعت وجلست،وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني ،فقلت : إن يرد الله بفلان - يعني أخاه - خيرا يأت به ، فإذا إنسان يحرك الباب ، فقلت : من هذا ؟

فقال : عمر بن الخطاب .

فقلت : على رِسلِكَ ( يعني تمهل ) ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله،فسلمت عليه وقلت : هذا عمر بن الخطاب يستأذن .

فقال : ائذن له ، وبشره بالجنة .

فجئت عمر ، فقلت : اذِنَ ويبشرك رسول الله صلی الله علیه وآله بالجنة .

فدخل فجلس مع رسول الله صلی الله علیه وآله في القف عن يساره ،ودلى رجليه في البئر .

ثم رجعت فجلست فقلت:إن يرد الله بفلان خيرا -يعني أخاه - یأت به.

فجاء إنسان ، فحرك الباب ، فإذا هو عثمان ، فقلت : على رِسلِكَ .

وجئت رسول الله صلی الله علیه وآله، فأخبرته فقال:ائذن له ، وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه .

فجئت إليه فقلت:ادخل ، ويبشرك رسول الله صلی الله علیه وآله بالجنة مع بلوی تصيبك ، فحمد الله وقال : الله المستعان .

فدخل فوجد القف قد مليء ،فجلس وجاههم من الشق الآخر».

قال سعيد بن المسيب : «فأولتها قبورهم » متفق عليه .

قلت : والشاهد في الحديث قول سعيد بن المسيب :«فأولتها قبورهم » .

ص: 127

يعني اعتبر الحادثة رمزا يشير إلى مكان قبورهم وأن رسول الله صلی الله علیه وآله وصاحبيه في حجرة واحدة أما عثان فلم يبق له مكان إلا جوارهم .

فدفن قُبَالَتَهُم في البقيع رضي الله عنهم وأرضاه .

وهذا أصرح ما جاء في اعتبار الرمزية وأقواه ، لأنه ليس رؤيا منامية ، ولكنه حادثة واقعية ، والحمد لله رب العالمين .

***

ص: 128

الفصل الأول: الإنسان عالم صغير

اشارة

وتسليما بتلك الرمزية في الوجود قال حكم اؤنا :

« الإنسان عالم صغير »

وقال أحدهم:وتزعم أنك جرم صغير،وفيك انطوى العالم الأكبر،فالعظام ترمز إلى الجبال الرواسي التي لولاها لانهدَّ جسده وأصبح کومة من اللحم ، والدم يعني البحار،والعروق تعني الأنهار ، والشعر يرمز إلى الزرع ،وحيث يتكاثف الشعر في بعض المناطق ، فذلك إشارة إلى الغابات وهكذا .

وقد كتبت ما يشير إلى ذلك في رسالتي «خصائص الأنوثة»وجعلت الأرض في مقابلة الرجل والقمر في مقابلة الأنثى ،وبينت أوجه المشابهة الدقيقة بينهما ، فالحمد لله على ما وفق .

واليوم ، أذكر إن شاء الله،أوجه الشبه بين الكون العظيم وهذا الإنسان الصغير ، فأقول والله المستعان :

الإنسان روح الوجود

الإنسان روح هذا الوجود بل من أجله خلق هذا الوجود كله لذلك فإنه يفني ويبيد حين تجتمع البشرية على الكفر بالله ،والجحود لآياته،كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم«لا تقوم الساعة على رجل يقول : الله الله » .

فإذا فقدت البشرية إيمانها بالله،ولم يبق فيها من يقول لا إله إلا الله،فقد فقد الكون روحه الذي يحيا به والذي خُلِقَ من أجله ،وهذا كما خلق الإنسان من أجل أن تسكنه الروح التي هي حقيقة الإنسانية ، ولم يخلق

ص: 129

ليكون مجرد لحم ودم كالحيوان ، فالإنسان خليفة الله على الأرض ،وما استحق تلك المنزلة العالية إلا لأن الله خلقه مؤهلا للنفخة الربانية «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي».

وهذا لا يكون إلا بعد مائة وعشرين يوما من ابتداء الحمل كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان .

ويقابل هذا في الوجود خلق آدم عليه السلام،فكما أن النطقة لما استعدت لاستقبال الروح الإنسانية أرسل الله إليها الملك ونفخ فيها الروح بإذن الله ....

كذلك لما استعد الكون لاستقبال الخليفة ،قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فكان الخليفة آدم وذريته في مقام روح هذا الوجود الذي يحيا به إلى أن يرث الله الأرض،ومن عليها وما عليها كما كانت النفخة في الجنين حين استعد لقبولها،روح الإنسان وحقيقته الربانية التي يحيا بها على الأرض، حياته ، إلى أن يتوفاه الله،إما مؤديا حق الخلافة فيسعد ، أو الافيشقى والعياذ بالله.

وتمثل البشرية إلى عهد إبراهيم عليه السلام فترة المراهقة والطيش عند الشباب فلا يستمعون لنصيحة ، ولا يرعوون لحكمة،فيؤدي بهم ذلك إلى الهلاك .

فلذلك لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ،فكان شأنهم كما قال نوح عليه السلام في كتاب الله :

«وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا»(1).

ص: 130


1- نوح :7.

حتى يئس عليه السلام من إيمانهم وإيمان ذرياتهم بعد تلك المدة المديدة التي قضاها بينهم ، عند ذلك دعا عليهم بالهلاك،فإنهم غير جديرين بالحياة التي ما خلقت إلا للمؤمنين الذين يحققون معنى الخلافة في الأرض .

قال تعالى :«وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا،إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»(1).

هذا وقد جاء في الأثر أن عدد من آمن مع نوح ونجوا معه في السفينة لا يزيد عن ثمانين من الرجال والنساء وهذا حصيلة ألف سنة من الدعوة .

ولم تكن الأمم التالية السابقة على إبراهيم عليه السلام أحسن حالا من قوم نوح ،فقد حدثنا سبحانه عن عاد وثمودَ وقوم تُبَّع وأصحاب الأيكة،كل كذب الرسل فحق وعيد،وكانت عقوبة جميعهم الاستئصال لأنه لم يكن فيهم خير يرجي من حياتهم ولا من ذرياتهم ،وهذا كما قال نوح عليه السلام :

«إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»(2).

فاقتضت حكمة الله استئصالهم من جذورهم،لتتسع الأرض بعد ذلك لمن يأتي بعدهم من ذرية المؤمنين ، ثم بدأت البشرية تعبر مرحلة الطيش والمراهقة إلى فترة العقل والاتزان فكانت هذه المرحلة هي ما بعد إبراهيم عليه السلام إلى محمد صلی الله علیه وآله، وفي هذه المرحلة من حياة البشر،كان يزداد عدد المستجيبين لدعوة الرسل،وكان يرجي ممن كذبوا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله،لذلك فقد رفع عذاب الاستئصال،وبقي عذابهم بالقتل والأسر.

واستمر الحال على هذا حتى بلغت البشرية سن النضج والكمال العقلي في عهد رسولنا محمد صلی الله علیه وآله، وهذا يقابل في حياة الإنسان سن الأربعين .

ص: 131


1- نوح : 26 ، 27 .
2- نوح : 27 .

وإذا كان هذا يساوي أربعة أخماس عمر البشرية على ما سبق تحقيقه،ويبقى الخمس على قيام الساعة ، تكون البشرية قد قضت وهي في سن الخمسين من حياة الإنسان ، وهذا عمر قصير في مقاییسنا .

ومثل هذا لا يحدث إلا إذا كان الإنسان مسرفا على نفسه بالمعصية والفجور وشرب الخمر فيحكم على نفسه بالإعدام البطيء ويموت وهو في سن الشباب أو ما يقاربه .

وهذا ينطبق على حال البشرية على هذه الأرض فإنها إذا عمرت سبعة آلاف سنة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها تكون قد قضت فيما يقابل سن الخمسين من حياة الإنسان،فإذا قلنا إن الإنسان إذا أسرف على نفسه بالمعاصي،قتل نفسه عن قريب فكذلك الشأن في تاريخ البشرية،فإنه تاريخ أسود مظلم،مليء بالظلم والكفر والفسوق والعصيان،وحسبنا اليوم ما نرى من غلبة الكفرة الفجرة على العالم،وامتلاكهم لمقدراته وخيراته وسعيهم في الأرض فسادا ، حتى أنهم ليملكون من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم أربع مرات.فهل يرجي من قوم هذا شأنهم أن يعمروا ؟

يقيني-والله أعلم-أن الله أرحم من أن يترك عباده في ه ذا الظلم والظلام،ولكنها ساعة النهاية قد دنت ووفاة البشرية قد أظلت وأشراط الساعة قد أطلت،وحساب العباد على رب العباد.

وحسبنا الله ونعم الوكيل .

***

ص: 132

الفصل الثاني: أسرار الأشراط الكبرى

اشارة

تقدم بيان وجه الشبه بين الإنسان والعالم الصغير،وأن روح هذا العالم الصغير-أي الإنسان- نفخها الله فيه بعد ثلاثة أربعينات لبثها في بطن أمه كما في الحديث المتفق على صحته ،وأن هذه الروح ليست هي التي يحيا بها الإنسان حياته الحيوانية،بل هوحي كسائر الأحياء منذ كان نطفة ثم علقة،فإنه يتغذى وينمو،أما حياته بالروح المنفوخة فيه بعد ثلاثة أربعينات،فهي حياته كإنسان،استقرت فيه حقیقته الإنسانية التي أقل بها لمعرفة الله سبحانه والخلافة في الأرض، فكان الإنسان بها سيد الكون كله بإذن الله،وكان هذا الكون مسخرا للإنسان كذلك باذن الله.

غير أن الإنسان إذا طغى وتجبر،ونَسِيَ خالقه وأنه منه أكبر،وَفَسَقَ وفَجَرَ،ثم ولى مدبرا واستكبر ، إذا فعل الإنسان هذا،قصمه الله وقَطَّعه أفلاذا ،وهكذا شأن العالم إذا كثر فيه الفساد وعم فيه الهَرج وساد فإنه حينئذ يكون من الساعة قريب ، وإن فاجأته علاماتها فليس ذلك بعجيب.

وأول أشراط الساعة الكبرى محمد بن عبد الله المهدي،يصلح الله به حال الأمة ويهدي،وهذا رمز وإشارة إلى ما يطرأ على حال الإنسان في مرض موته ،فإنه تضعف فيه حينئذ حيوانيته وتعلو أنوار روحانیته ويتطلع إلى رحمة الله ويهتدي بهدى الله .

فهذا ما يقابل ظهور المهدي من أطوار الموت في الإنسان،وسرکون المهدي من سلالة محمد صلی الله علیه وآله أن داعي الهداية في مرض الموت يكون من داخل الإنسان لا من خارجه ، ومحمد صلی الله علیه وآله منا ونحن من أمته،فناسب أن تكون أول أشراط الساعة كأول علامات الموت في الإنسان وذلك مرض الموت الذي

ص: 133

لا شفاء له إلا بالموت ، وإذا تأملنا في حال العالم اليوم فلا يشك عاقل أنه يعاني مرضا بل أمراضا مميتة قاتلة وقد أعجزت أمراضه الأطباء المعالجين ، ولا شفاء له إلا أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ثم يحاسبهم ربهم على ما عملوا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ،وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1) .

سر نزول عيسى عليه السلام

أما سر نزول عيسى عليه السلام فإنه يرمز إلى صحوة الموت التي تشاهد عند سائر من بلغوا سكرات الموت الأولى ،ويلبثون كذلك وقتا قصيرا،حتى يحسب ذووهم أنهم قد عرفوا،ثم سرعان ما تنتكس حالتهم،ويدخلون في مرحلة معاناة سكرات الموت المذهلة فينكشف لهم حينئذ الحق المبين ويعلمون أنهم ما كانوا مهتدين-وهذا إذا كان المتوفي من غير المؤمنين الصالحين-وإلا فإن كان صالحا یری مقعده من الجنة فيهش له ويبتسم ويحب لقاء الله حينئذ.

وسر نزول عيسى عليه السلام دون غيره من الرسل أنه ولد لا من أب وأم،ولكن من مريم وحدها حين نفخ روح القدس في جيب درعها،فكان من ذلك عيسى بإذن الله ،ولهذا كان من أسماء عيسى الخاصة به أنه (كلمة الله ، وروح الله )ولأنه روح الله كان من معجزاته إحياء الموتى بإذن الله،وليس معنى ذلك أن في عيسى من الله شيء،فسبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا،فإن الله منزه عن الحلول في المخلوقات ومنزه عن أن تحل فيه المخلوقات بل«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،اللَّهُ الصَّمَدُ ،لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ ،وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُوًا أَحَدٌ »

ومن اعتقد غير ذلك ونسب إلى عيسى شيئا لا يليق بالبشر ، فقد كفر

ص: 134


1- الزلزلة : 7، 8.

ياجماع الأمة ،ولا خلاف والحمد لله .

وأما وصفه عليه السلام بأنه روح منه،فإنها إضافة تشريف ، كما تقول هذا بيت الله والمراد تشریفه بنسبته إلى الله .

ومما يدل على أن عيسى عليه السلام مميز بخاصية الإحياء بإذن الله،ما وصفه به رسول الله صلی الله علیه وآله بقوله :

(إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ) .

وفي رواية ( يقطر رأسه كأنما خرج من دیماس ) يعني من حمام .

وفي رواية ( يقطر رأسه وإن لم يصبه بلل ) .

كل ذلك يدل على أن في عيسى عليه السلام سر الإحياء بإذن الله فإن الماء الذي يقطرمن رأسه وإن لم يصبه بلل يشير إلى سر الحياة ، وهذا كما قال تعالى :

«وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(1).

ويدل كذلك لما أشرت إليه من أن نزول عيسى عليه السلام رمز لصحوة الموت عند من أشرف على الموت،كونه لابسا عند نزوله ثوبين أصفرین كما جاء في الحديث الصحيح ، وهذا لصفرة الموت عند من يعاني سكراته ،وحسبنا الله ونعم الوكيل.

سر الدجال

الدجال شر غائب ينتظر كما قال رسول الله صلی الله علیه وآله وفتنته الكبرى التي هي من أشراط الساعة تقابل فتنة من يعاني سكرات الموت،حين يأتيه إبليس وهو على هذه الحال من الكَرب والضيق،فيدعوه إلى أن يموت يهوديا أو

ص: 135


1- الأنبياء : 30.

نصرانيا ، ويشككه في إسلامه .

وهذه هي فتنة المات التي استعاذ منها رسول الله صلی الله علیه وآله وقَرَنهَا بفتنة المسيح

الدجال فقال :

( اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر،ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ) .

ففتنة إبليس لنا حين الموت تقابل فتنة الدجال للناس قُبَیلَ قيام الساعة التي هي موت العالم ونهاية الدنيا .

ونسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .

سر طلوع الشمس من مغربها

وعالم الآخرة ، هو جهة الغروب بالنسبة لعالم الدنيا،فإذا بلغت الروح الحلقوم،واقترب خروجها إلى عالم الحق والحقيقة،أشرقت من ذلك العالم الآخر شمس الحقيقة ، وطلعت تباشير النور من جهة غروب الروح،فعند ذلك يُغلَقُ بابُ التوبة ولا يقبل عمل،وهذاكما قال رسول الله صلی الله علیه وآله.« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها،فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون،وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أوكسبت في إيمانها خيرا »أخرجه البخاري،وأخرج مسلم قريبا منه .

وبذلك يتبين بوضوح أن طلوع الشمس من مغربها يقابل بطريق الرمزوالإشارة طلوع شمس الحقيقة من العالم الآخر عند النزع الأخير ثم ليس إلا الموت ، أما المؤمن فتُنتَزَعُ روحه نزعا رقيقا لیِّنا ، وأما الكافر فتنتزع روحه نزعا عنيفا وهذا ما يقابل ما جاء عن الريح الطيبة التي تنتزع أرواح المؤمنين نزعا هينا لينا.وتدع في الأرض كل فاجركفار يتهارجون فيها تهارج الحمر ،عليهم تقوم الساعة فتنتزع أرواحهم نزعا خشئا عنيفا .

ص: 136

ونسأل الله العافية في الدنيا والآخرة .

أما يأجوج ومأجوج فيكون خروجهم أول نزول عيسى عليه السلام وبعد قَتلِهِ الدجال ، وقبل أن تنعم الإنسانية بآخر أيامها الهنية الرخية في فترة حكم عيسى عليه السلام .

وَرَمَزنا لتلك الفترة البالغة في القصر«بصحوة الموت» التي تمر على كل مُحتَضَر يموت على فراشه كما هو مشاهد .

وعليه خروج يأجوج ومأجوج رمز وإشارة إلى هجوم عوامل الفناء المحقق في جسم الإنسان ولا ينفع في دفعها طب ولا دواء ، وهذا يقابل قوله صلی الله علیه وآله:

«وبينما هو كذلك إذ أوحى الله عزوجل إلى عيسى ابن مريم:(إني قد أخرجت عبادا لي،لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور) ويبعث الله يأجوج ومأجوج،وهم من كل حدب ينسلون »( رواه مسلم ومض برقم (73 )).

فهؤلاء الذين لا طاقة لأحد بقتالهم حتى عيسى عليه السلام وأصحابه،يقابلون في المثال والرمزية عوامل الفناء في الإنسان حين تدنو ساعة الموت ، أما دعاء عيسى عليهم وإهلاك الله لهم حتى ينعم الناس بعد ذلك نعمة لم يعهدوها من قبل فذلك إشارة إلى صحوة الموت التي تحدثت عنها في أسرار نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام .

سر الدابة

أما الدابة فإنها تخرج بعد أن يكون أمرالناس قد تقرر بطلوع الشمس من المغرب،ولا ينفع نفسا حينئذ إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا،وهذا إشارة واضحة إلى إغلاق باب التوبة على المحتضر ، إذا

ص: 137

أشرقت عليه شمس الحقيقة من عالم الآخرة ،وهو يمثل جهة الغرب بالنسبة العالم الدنيا ، فهناك تغرب الأرواح لتشرق في عالم البرزخ حيث تحيا حياة حقيقية ، إما منعمة وإما معذبة ، وعبر الشَّرعُ عن ذلك بعذاب القبر أو نعيه ، ونسأل الله العافية .

فإذا بلغ الإنسان تلك المرحلة من انكشاف الحقيقة وأغلق عليه باب التوبة خرجت دابة الأرض تكلم الناس أنهم كانوا بآياتنا لا يرقنون فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر،فيجلس الناس على الخوان الواحد يعرف كل صاحبه أمؤمن هو أم كافر .

ويقابل هذا الذي ذكرت من شأن الدابة ما يراه المحتضر من بشری الملائكة له إن كان من أهل الجنة،أو تعنيفهم له وإنذاره بمقعده من النار إن كان من أهل النار،وهذا كما قال تعالى :

«وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ»(1).

وقال تعالى :«وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ»(2)

أما في حق المؤمنين فيقول سبحانه وتعالى :«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

فهذا ما تشير إليه آية الدابة من أسرار الموت ونهاية الدنيا لتبدأ مراحل

ص: 138


1- الأنعام : 93 .
2- الأنفال : 50.
3- النحل : 32 .

الحياة الأبدية الخالدة ، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين أنعم عليهم فهداهم إلى صراطه المستقيم بمنه وكرمه آمين .

أما النار التي تحشر الناس من المشرق إلى المغرب فلعلها تقابل ما يحس به المحتضر من نار الألم حين تنزع روحه وتحشر من عالمها الشرقي عالم الدنيا الذي أشرقت فيه إلى عالمها الغربي عالم الآخرة حيث تغرب هناك بالنسبة لنا وتشرق بالنسبة لذلك العالم .

وبعد :

فهذا ما فتح الله به علي من علم أشراط الساعة وأسرارها.وأسأل الله أن يجعله عملا مقبولا نافعا خالصا لوجهه الكريم،وأن يغفر لي ما زل به القدم،وطغى به القلم وحسبي الله ونعم الوكيل .والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله،لقد جاءت رسل ربنا بالحق .

تم بحمد الله في مساء الخميس السادس من شهر شعبان سنة ألف وأربعمائة من الهجرة الموافق 19 /6/ 1980 .

محمد سلامة جبر

كويت - السالمية

ص ب : 8102 رمز بريدي 22052

ت / 5737710

ص: 139

للمؤلف

(1) أشراط الساعة وأسرارها .

(2) أحوال الآخرة وأهوالها .

(3) أحكام النقود في الشريعة الإسلامية .

(4) شرح رسالة النقود لابن عابدین .

(5) الإنسان بين الجبر والاختيار .

(6) القضاء والقدر .

(7) المذهب الحق في القضاء والقدر .

(8) إلام ندعو .. وكيف ؟.

(9) الإخوان المسلمين دعاة حق لا طلاب حكم.

(10) حقيقة الإنسان .

(11) الشوری .

(12) خصائص الأنوثة .

(13) حكم التأمين في الشريعة الإسلامية .

(14) ماذا بعد الحرب الثالثة ؟ ( مسرحيات إسلامية قصيرة ) .

(15) حب وفلسفة ( مأساة قلبين ) .

(16) لوعة الحرمان ، وحلاوة الإيمان ( قصة ).

(17) فتاوى وبحوث شرعية (1)[نكاح المتعة - الزواج العرفي - العادة السرية ].

(18) فتاوى وبحوث شرعية (2) [ سماع الغناء - مصافحة الأجنبية ].

(19) هل هن ناقصات عقل ودين .

(20) لا يرد القضاء إلا الدعاء .

(21) فتاوى وبحوث شرعية (3):(22 ) فتاوى وبحوث شرعية (4) .

ص: 140

فهرس الموضوعات

الموضوع

الإهداء...3

مقدمة الطبعة الأولى...4

مقدمة الطبعة الثانية...7

الباب الأول

الفصل الأول :

ما جاء في قرب قيام الساعة...9

الفصل الثاني :

ذکرما جاء في قرب قيام الساعة...13

الباب الثاني

أشراط الساعة الكبرى...20

الفصل الأول :

ما جاء في ظهور المهدي...21

الفصل الثاني :

ما جاء في الدجال...25

الفصل الثالث :

هل الدجال حي ... ؟...35

ما جاء في « ابن صیاد »،وهل هو الدجال ؟...39

صفة والدي الدجال...45

رأي الخطابي ...46

ص: 141

رأی القرطبی...48

رأي البيهقي...49

رأي النووي...52

رأي ابن بطال...53

رأي ابن حجر...56

رأي الشوكاني...58

أبو نعيم الأصبهاني...59

نعیم بن حماد...60

الفصل الرابع :

نزول عيسى عليه السلام...67

ما جاء في نزول عيسى عليه السلام...69

صفة عيسى عليه السلام...77

دته ومكان دفنه عليه السلام...79

الفصل الخامس :

خروج يأجوج ومأجوج...81

من ذو القرنين ؟ ويأجوج ومأجوج ؟...85

هل فتح السد ؟ وهل خرج يأجوج ومأجوج...89

رأي الأستاذ/ سيد قطب ( رحمه الله )...90

الفصل السادس :

طلوع الشمس من المغرب...93

الفصل السابع :

الدابة...97

ص: 142

الفصل الثامن :

الريح الطيبة...101

الفصل التاسع :

آیة النار-وتقارب الزمان...104

الباب الثالث

قرب قيام الساعة...111

متى الساعة...112

ما المراد بعمر الدنيا ؟...117

الباب الرابع

من أسرار أشراط الساعة...125

الفصل الأول :

الإنسان عالم صغير...129

الفصل الثاني :

أسرار الأشراط الكبرى...133

سر نزول عيسى عليه السلام...134

سر طلوع الشمس من مغربها...136

سرالدابة...137

ص: 143

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.