أنوار النَّبیّ صلی الله علیه و آله أسرارها و أنواعها

اشارة

أنوار النَّبیّ صلی الله علیه و آله أسرارها و أنواعها

تالیف: عبدالحق بن سبعین المرسی الاندسی

ناشر: دارالآفاق العربیة 2007 - مدینة نصر - قاهره - مصر

ص: 1

اشارة

أنوار النَّبیّ صلی الله علیه و آله أسرارها و أنواعها

ص: 2

الإهداء

إلى:سيدي و شيخي و قدوتي،و حبيب قلبي أحد أركان هذه الطريق،و أعلام العلماء بها علما و عملا،و قالا و حالا، صاحب الحقائق الزاهرة،و المعارف الباهرة،و المراتب العلية في منازل القرب، و المعارج الرفيعة إلى محاضرة القدس،و الكشوف الواضحة عن عوالم الغيب، صاحب الإشارات العالية،و الهمم السامية،و الأنفاس الصادقة،له اليد البيضاء في أحكام الولاء،و القدم الراسخ في درجات النهاية،القطب و الغوث الكبير

مصطفى بن عبد السلام الملوي قدّس اللّه سره و نور ضريحه أحمد فريد المزيدي

ص: 3

ص: 4

تقديم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه المستوجب لكل كمال،المنعوت بكل تعظيم و جمال.

و الصلاة و السلام على من جمع كل خلق و خلق،فاستوى على أكمل الأحوال، و اختص بجوامع الكلم في الأقوال.

و على من ائتم الناس به في التخلق بأخلاقه و شمائله الحسان،من الآل و الأصحاب و التابعين لهم على مرّ الزمان.

السيد الأكرم الذي شرّف الناس بوجوده،هو سيدنا:محمد المختار نور الأنوار، صلوات اللّه و سلامه عليه.

و على آله الطيبين المكرمين،و صحبه السادة المقربين،و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فبين يديك أيها القارئ الكريم كتاب فريد في نوعه،جديد في مضمونه،متبحر مصنفه في كشفه و نطقه.

فقد كرس الشيخ ابن سبعين رسالة خاصة:«في أنوار النبي صلى اللّه عليه و سلّم»؛لأن للنبي أنوارا تختلف باختلاف متعلقاتها و مضافاتها.

و عدة أنواره التي يعددها ابن سبعين ثلاثة و ثلاثون نورا.

فالأول نور العزة،و هو نور الشهادة التي تقال مع شهادة اللّه.

و الثاني نور الغاية الإنسانية،و هي الإسراء،و الإسراء إلى المسجد الأقصى معناه بلوغ الغاية،الذي وصل به إلى محل الكرويين ثم إلى آخر العمارة الروحانية و الجسمانية.

و الثالث نور الإدراك فإنه أدرك اللّه و أبصره...إلخ.

و هكذا يستمر ابن سبعين في تعداد أنوار النبي،و يختمها بقوله إن النبي هو النور المحض.

و لأهمية هذه الرسالة التي قد سبق طبعها مع مجموع رسائل الشيخ المصنف،في باريس سنة 1956 م.

ص: 5

قمت مسارعا بالتحقيق،و الشرح،حيث الجمع و الترتيب،من كلام المشايخ أمثال:

جعفر الكتاني،و أبو الحسن الحرالي،و أبو البركات الأحمدي،و الموصلي،و الشيخ الأكبر، و محمد بن عمر القادري،و الجيلي،و عمر العطار،و السيوطي،و الشيخ القاشاني،و الجامي، و القونوي،و سيدي محمد وفا،و غيرهم كثير،فضلا عن أنفاس شيخنا سيدي مصطفى عبد السلام،قدس اللّه أسرارهم.

و قد قمت بالتحقيق و التخريج و التعليق على كثير مما نقلت و ذكرت،و وضعت مقدمة في التعريف و الدفاع عن المصنف و منهج أهل الحقائق.

و الردّ على من اتهمه بالوحدة المطلقة،و الاتحادية،و دفع شبهة تكفير السادة المحققين من أئمة الصوفية كالشيخ المصنف و سيدي ابن عربي و ابن الفارض و القونوي و غيرهم ممن وجه لهم تلك الاتهامات الباطلة.

هذا..ثم أقول:اللهم صلّ و سلم على سيدنا و مولانا محمد صلاة تتضمن شمول الآمال و تصلح لنا بها جميع الأحوال،و أدخلنا بفضيلتها في حضرة المقربين و على آله و أصحابه إلى يوم الدين،و احشرنا في زمرتهم بلا محنة يا أرحم الراحمين.

كتبه

أحمد فريد المزيدي

0101463027

ص: 6

مقدمة التحقيق

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الشيخ عبد الحق ابن سبعين هو الإمام شيخ الإسلام القطب الوارث المحمدي سيدي:أبو محمد عبد الحق إبراهيم بن محمد بن نصر بن فتح بن سبعين،الإشبيلي المرسي،الرقوطي الأصل،الصوفي المشهور.

ولد في مرسية بالأندلس سنة 613 ه.

و هو من أسرة نبيلة وافرة الغنى هي أسرة ابن سبعين التي تذكر بعض المصادر أنها تصعد في نسبها إلى النبي صلى اللّه عليه و سلّم،و قضى مطلع شبابه في الأندلس.

فدرس العربية و الآداب بالأندلس،ثم ارتحل إلى سبته،و انتحل التصوف على قاعدة زهد الفلاسفة و تصوفهم،و جدّ و اجتهد،و حال في بلاد المغرب.و هو دون العشرين من عمره.

و أخذ التصوف عن أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن محمد بن الدهاق.

و أقام أولا في سبته هو و جمع من أصحابه و أتباعه الذين كانوا قد بدءوا يلتفون حوله و هو لا يزال في الأندلس.

فإنه قضى الفترة الخصبة من حياته الروحية في المغرب،و فيها أيضا ألف معظم رسائله، و جرت له المناظرات العنيفة مع فقهاء المغرب من أعداء الفلسفة و التصوف،فظهرت عليهم حجته و خصمهم بمتانة استدلاله وسعة اطلاعه حتى إن أحد تلاميذ ابن سبعين، و لعله يحيى بن محمد بن أحمد بن سليمان قال في رسالة دافع فيها عن أستاذه-و سماها:

«الوراثة المحمدية و الفصول الذاتية»:إن من بين الأدلة على أنه كان لابن سبعين الوراثة المحمدية أن ابن سبعين«كان من بلاد المغرب،و النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال:«لا يزال طائفة من أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة».

ص: 7

و ما ظهر في بلاد المغرب-هكذا يتابع تلميذه الدفاع-رجل أظهر منه،فهو المشار إليه بالحديث،ثم إن أهل المغرب أهل الحق،و أحق الناس بالحق،و أحق المغرب بالحق علماؤه؛لكونهم القائمين بالقسط،و أحق علمائه بالحق محققهم و قطبهم،الذي يدور الكل عليه،و يعول في مسائلهم و نوازلهم ،السهلة و العريضة،عليه.فهو أي ابن سبعين حق المغرب،و المغرب حق اللّه تعالى»انتهى.

و شاعت شهرته بالزّهد و العلم،فأعجبت به سيدة صالحة ثرية من أهل سبته،و طلبت منه التزوّج منها،فتزوجها.و أقامت له في بيتها زاوية للعبادة.

و يظهر أن شهرة ابن سبعين بالحقائق الإلهية و العلوم العقلية قد استطارت في الآفاق، بدليل ما ورد في مستهل كتاب:«المسائل الصقلية»،و هي المسائل التي كان الإمبراطور فردريك الثاني ملك النورمانديين في صقلية،قد وجهها إلى علماء المسلمين؛تبكيتا لهم فيما ذكر المقري،أو الاستفادة وحب الاستطلاع لما كانت عليه شهرة المسلمين حينئذ بالفلسفة و العلم كما نرى.

و هذه الأسئلة الفلسفية وجّه فردريك الثاني نسخا منها إلى المشرق و مصر و الشام و العراق و الدروب و اليمن،لكن رجعت أجوبة حكماء المسلمين بما لم يرضه فريدريك الثاني،فسأل عن إفريقية«تونس»و من بها،فقيل له:إنها عريّة من هذا الشأن:أي من الفلسفة،و سأل عن المغرب و الأندلس،فقيل له:إن بها رجلا يعرف بابن سبعين.

فكتب فردريك للخليفة الرشيد من أولاد عبد المؤمن في أمرها.

فكتب أمير المؤمنين لعامله بسبتة،و هو:ابن خلاص،أن ينظر في الرجل المذكور أن يرد الجواب على الأسئلة.

و كان مالك الروم يعنى فردريك قد وجه مع رسوله جملة مال.فاستدعى ابن خلاص الإمام قطب الدين،و أوقفه على الأسئلة بأمر الخليفة،فضحك ابن سبعين و ألزم نفسه الجواب.

فدفع له ابن خلاص المال الذي جاء به رسول ملك الروم.فردّه و لم يقبله،و قال:إنما

ص: 8

أجيب عنها احتسابا للّه،و انتصارا للملّة الإسلامية،ثم قرأ قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الأنعام:90]و جاوبه.

فلما بلغ الجواب للملك فردريك أرضاه و وجه بصلة عظيمة فردت عليه كالأولى».

و هذه المسائل الصقلية التي سأل عنها فردريك الثاني علماء المسلمين هي:

المسألة الأولى:عن العالم:هل قديم أو محدث؟.

و المسألة الثانية عن العلم الإلهي:ما هو المقصود منه،و ما مقدماته الضرورية إن كانت له مقدمات؟.

و المسألة الثالثة عن المقولات أي شيء هي؟و كيف يتصرف بها في أجناس العلوم حتى يتم عددها،و عددها عشر،فهل يمكن أن تكون أقل؟و هل يمكن أن تكون أكثر؟و ما البرهان على ذلك؟.و المسألة الرابعة عن النفس:ما الدليل على بقائها و ما طبيعتها؟.

و يتفرغ عن هذه المسألة الأخيرة سؤال عن أين خالف الإسكندر الإفروديسي أرسطوطاليس.

و يظهر أن المكانة التي نالها ابن سبعين بهذا الجواب قد أوغرت صدور الفقهاء عليه.

فراحوا يتهمونه بالكفر،مما اضطر حاكم سبته،ابن خلاص،إلى طرده منها فسكن في بجاية مدة،فلم يطب له المقام نظرا لإغراء الفقهاء به،و تحريضهم عليه،و حسدهم له من كثرة اتباعه و مريديه،فضلا عما بدا في كتاباته و أقواله من كلمات غريبة تشم منها رائحة الكفر.

و قد افتروا عليه أنه قال:لقد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله:«لا نبي بعدى»فيقال:إنه نفي من المغرب بسبب هذه الكلمة.و هذا الكتاب دليل على كذب هذه الدعوى، و كمال أدبه مع النبي صلى اللّه عليه و سلّم،فما هي إلا دسائس،فكان اللّه للشيخ ما أصبره على الأذى.

و كان خروجه من المغرب سنة 642 ه،و هو حينئذ في الثلاثين من عمره.

و معنى هذا أنه أقام بالمغرب حوالي خمس و عشرين سنة،فيها ألف جل كتبه إن لم

ص: 9

يكن كلها،باستثناء كتابه العظيم:«بد العارف»الذي قيل:إنه ألفه و هو ابن خمس عشرة سنة،و اللّه أعلم.

و لا نعرف أنه ألف شيئا بعد رحلته عن المغرب فيما عدا الرسالة التي بعث بها أهل مكة يبايعون فيها السلطان المستنصر باللّه تعالى أبا عبد اللّه محمد بن سلطان زكريا عبد الواحد بن أبي حفص،ملك إفريقية و ما إليها،تولى الملك في تونس سنة 657 ه حتى سنة 674 ه،و على رأسهم شريف مكة أبو نمي محمد الأول الذي كان شريفا على مكة من شوال سنة 652 ه إلى صفر سنة 701 ه،فهذه الرسالة بالبيعة كانت من إنشاء ابن سبعين،و قد سردها ابن خالدون بجملتها في مقدمته.

و ارتحل ابن سبعين حينئذ عن بلاد المغرب فلجأ إلى المشرق.فمرّ بمصر،و أقام بما مدة قصيرة فيها؛لأن مقصده الأول كان الحج.

فقصد مكة المشرفة،و هناك لقي من شريف مكة،أبي نمي محمد بن أبي سعد الذي أصبح شريفا على مكة في شوال 652 ه عطفا و رعاية،و شاع صيته بين أهل مكة بسبب سخائه،فإن أهل مكة كانوا يقولون عنه:«إنه أنفق فيهم ثمانين ألف دينار » و بسبب علمه و كثرة أتباعه ظل في مكة معتمرا،و يقوم بالحج في مواقيته.

و كان أهل مكة يعتمدون على أقواله،و يهتدون بأفعاله.

و اختلف في سفره إلى المدينة،فبعضهم ينكر ذلك؛لأنه فيما روى أبو الحسن بن برغوش التلمساني،و شيخ المجاورين بمكة،و كانت له به معرفة تامة،و كان إذا قرب من باب من أبواب مسجد المدينة يهراق منه دم كدم الحيض،أو لأنه عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها.

و يظهر أن ابن سبعين كان بسبب موقفه السياسي مضطرّا إلى الإقامة بمكة.

فقد قال حين سئل عن سبب إقامته بمكة:«انحصرت القسمة في قعودي بها،فإن الملك الظاهر يطلبني بسبب انتمائي إلى أشراف مكة،و اليمن صاحبها لي في عقيدة،و لكن وزيره حشوي يكرهني».

ص: 10

و صاحب اليمن كان آنذاك الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر الذي تولى الملك في اليمن في ذي القعدة سنة 647 ه،حتى رمضان سنة 694 ه.

فظلّ ابن سبعين في مكة حتى توفي بها يوم الخميس تاسع شوال سنة 669 ه.

و قيل:بضع و ستين،عن نحو خمسين سنة.

و اختلف في سبب وفاته:

فذكر ابن شاكر الكتبي في«فوات الوفيات»قال:«سمعت عن ابن سبعين أنه فصد يديه،و ترك الدم يخرج حتى تصفى»(517/1).

من كلامه:

اعلم أن جميع ما دون في التصوف و الحكمة و غير ذلك مما يجري إلى هذا الشأن، و جميع ما سمعت من العلوم المضنون بها،و الحكمة الإشراقية،و سر الخلافة،و نتيجة النتائج، كل ذلك في الوجه الأول من وجوه التصوف.

و التصوف تسعة أوجه،و بعدها حبل التحقيق.و بعد الحبل نبدأ بعالم السفر،و بعد السفر تقرع باب التحقيق،و النور المبين،و الهرامسة خاصة علموه،و الكتب المنزلة أفادتهم،و أما الفلاسفة بأجمعهم،و رؤسائهم من المشائين،و رئيس المشائين أرسطو و أتباعه من غير ملة الإسلام:ثامسطيوس،و الإسكندر الأفرودسي،و فرفريوس القبرسي، و أرسطاليس الصقلي،و أتباعه من ملة الإسلام مثل:الفارابي و ابن سينا و ابن باجه المذكور في آخر القلائد،و القاضي ابن رشد في بعض أمره،و السهروردى مؤلف«حكمة الإشراق»و التلقيحات و النبذ في أكثره،و الغزالي بوجه ما،و ابن خطيب الرّي في بعض صنائعه،و جميع النبهاء فإنهم لم يصلوا إليه لقصورهم عنه،و لأن علومهم و صنائعهم دون ذلك كله،و اللّه على ما نقول وكيل.

و الصوفية كذلك،إلا السلف الصالح أعني صحابة سيد السادات محمد صلى اللّه عليه و سلّم فإنهم علموه،و معلمهم هو العظيم الذي إذا نظر العارف في شأنه و تتبعه و تصفحه،و تأمله على ما ينبغي و يجمل به،و يصح في حقه علم أن أهل الحق كلهم نقطة من ذكره،و ذرة من قفره.

ص: 11

و قال أيضا:حافظوا على الصلوات،و جاهدوا النفوس في اتباع الشهوات،و كونوا عباد اللّه أوّابين توّابين،و استعينوا على الخيرات بمكارم الأخلاق،و اعملوا على نيل الدرجات السنية،و لا تغافلوا عن الأحكام السنية،و خلصوا مخصص الأحوال الإلهية و مهملها،و ذوقوا مفصل اللذات الروحانية و مجملها،و لازموا المودة في اللّه بينكم،و افعلوا الخير و أصلحوا ذات بينكم،و عليكم بالاستقامة على الطريقة،و قدموا فرض الشريعة على الحقيقة،و لا تفرقوا بينهما فإنهما من الأسماء المترادفة،و اكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا،و قولوا عليها و على أهلها لعنة اللّه،فإنها حقيقة كما سمى اللديغ سليما و أهلها يهملون حد الحلال و الحرام،و يستخفون بأشهر الحج و الصوم و الأشهر الحرم.

قال تعالى: قاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30].

قد غلبت عليهم أحكام الجهل،و أكثروا من جمع الأعراض للولد و الأهل،و حرموا مزية الرحمة و العون،و أسعفوا بسيرة أبي جهل و فرعون.

و اعلموا أن القريب إليّ منكم من لا يخالف سنة أهل السّنة،و يوافق طاعة من له العزة و المنّة،و يؤمن بالحشر و النار و الجنة،و يفضل الرؤية على كل نعمة،و يعلم أن الرضوان بعدها أصل كل رحمة،و يطلب الذات بعد الأدب مع الصفات و الأفعال،و يغبط نفسه بالمشاهدة في القوم و الروح في كامل الأحوال.

و كل مخالف بان منه التخلف و الفساد و إن كان من إخوانكم،فاهجروه في اللّه،و لا تلتفتوا إليه،و لا تسلموا له في شيء،و لا تسلموا عليه حتى يستغفر اللّه العظيم بحضور الكل منكم،و يرضى عن نفسه و حاله و عنكم،و يخرج عن صفاته المذمومة،و يترك نظام دعوته المحرومة.

و أنا أشهد اللّه أني قد خرجت عن كل مخالف سخيف العقل و اللسان،و لا نسبة بيني و بينه في الدنيا و لا في الآخرة،فمن زل قدمه يستغفر اللّه و لا يخدعه قدمه.

و اغتبطوا بما أنتم عليه،فما في العصر من يصل إليه،و القوي الذنب منكم لا تقبلوا له توبة إلا بحلق الرأس،و لبس الصوف،و الوقوف من المغرب إلى العشاء الآخرة،و الصمت.

ص: 12

و من يسمع منكم من يتكلم القبيح في التحقيق و أهله فازجروه و اهجروه و وبخوه و ذموه،و تغافلوا عنه و لا تقبلوا بعد ذلك منه.

و اعلموا أنه لا حاجة لي في السموات و لا في الأرض،و لا في الدنيا و لا في الآخرة، و لا في الأمل المقدر،و لا في الكون المكون،و لا في النظام القديم،و لا في التعليق الصرف، و لا في الشأن المشار إليه،و لا في الجسوم المقيدة،و لا في الذوات المجردة،و لا في الأعراض المبددة،و لا في الكمالات الممتدة،و لا في الحروف المعتدة إلا في ذات اللّه،و في ذات من صحبني من أجله.

و السلام على من صلحت نسبته،و استقامت سنته،و رحمة اللّه تعالى و بركاته!.

و من كلامه رضي اللّه عنه:من طلب ظفر،و من ظفر ربح،و من ربح تأنس،و من تأنس نشط، و من نشط زاد طلبه،و من زاد طلبه أخرج ما لم يقصده و لا يخطر له على قلب،و هو كماله الأخير،و من حصل له كماله الأخير كان من السعداء،و من كان من السعداء اشتدّ طلبه،و زاد شوقه،و عاين الذوات المجردة،و كشف له عالم الأمر،و طالع النظام القديم،و من طالع النظام القديم وقف طلبه من حيث عادته و صفاته،و تحرك من حيث خرق عادته و صفاته بجوهره،و من خرج للفعل من كل الجهات شاهد الذات القديمة بتخرب نظام الحادثة حتى من خبر خبرها،و من إشارتها و مشيرها و وحّد و ركب التوحيد بالسلب الموجد،و جميع ما يعلم سوى الواحد عزّ و جلّ،و قال:لا إله إلا اللّه،بالقضية المستقبلة و هو بالماضية و طلبه بالحاضرة.

و من كلامه رضي اللّه عنه:العقل عند الأشعري غير الروح،و عند الحكيم قولك عقل و قوة مجردة،و نفس ناطقة،أو روح أسماء مترادفة.

و الروح عند علماء الصوفية غير ما ذكر:تارة يطلقونها على الحق الذي قامت به السموات و الأرض،و قيل:هي صفة من صفات الذات،و تارة يطلقون عليها الكلمة، و تارة القضية الجزئية ضابطة النظام فيها كان كل موجود ليست بفيض،و كانت متحدة تعم الأشياء،و ليست باتحاد،و إن كانت ألزم للشيء من ذاته،و ليست بحالة،و إن كانت

ص: 13

جزء ماهية من الشيء المضاف إليها،و إليها يشيرون حيث قولهم:إن في كل شيء سرّا من سره:جمد في الجمادات،و ظهر في النبات،و تحرك في الحيوان،و أعلن في الإنسان.

مؤلفات الشيخ ابن سبعين رضي اللّه عنه و الإشكالية فيها.

لابن سبعين طريقة غريبة في الكتابة:فكلامه مفكك،قليل الاتصال،حتى قال قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد:«جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر و هو يسرد كلاما تعقل مفرداته،و لا تعقل مركباته».

و كذلك يتسم كلامه بكثرة ما يرد فيه من ألغاز و إشارات بحروف أبجد،و له تسميات مخصوصة في كتبه هي نوع من الرموز»كما قال صاحب«عنوان الدراية».

فمن كلامه الغريب مثلا ما يكرره في كتاب«الإحاطة»من عبارة:«إيه!»أو قوله:

«اللّه فقط»و تكرار لكلمة«إيه»اثنتي عشرة مرة في سطر واحد،و استعماله حروف أبجد بطريقة من الصعب استخراجها،كقوله في رسالة«الألواح»:«علمه في الإنسانية إنسان، و في ح ح،و في ن ن،و في ج ج،و في العالمية علم،و في العاقلية عقل».

و من أغرب كلامه الشاطح قوله في ختام«الرسالة الفقيرية»:«السلام على المنكر و المسلم،و العالم و المتعالم،و الغالط و المتغالط».

قلت:فالشيخ ابن سبعين من أهل الاستغراق،و هذا حال من أحوالهم،و لا ينقص ذلك من شأنه فهو وارث محمديّ،و متحقق ربانيّ،و صاحب ذوق نوراني رضي اللّه عنه.

فمن كتبه و رسائله:

-الكلام على المسألة الصقلية.

-رسالة النصيحة(النورية).

-عهد ابن سبعين.

-الإحاطة.

ص: 14

-بد العارف.

-الرسالة الفقيرية.

-الحكم و المواعظ.

-الرسالة القوسية.

-رسالة في أنوار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أنواعها.

-الألواح المباركة.

-الوصية لتلامذته.

-الرسالة الرضوانية.

-رسالة في عرفة.

-رسالة خطاب اللّه بلسان نوره.

-نتيجة الحكم.

-الرسالة الإصبعية.

-الكلام على الحكمة.

-حكم القصص.

-رسائل مختلفة.

قال الصفدي:و له عدة رسائل بليغة المعنى فصيحة الألفاظ جيدة منها رسالة العهد...

فذكرها.

دفع الاعتراض على الشيخ

قلت:هذا و إن الشيخ ابن سبعين كثر عليه الاعتراض من علماء أهل الظاهر،و من الذين لم يفهموا كلامه رضي اللّه عنه.

ص: 15

منهم:ابن تيمية،و ابن قيم،و ابن كثير،و ابن حجر العسقلاني،و ابن دقيق العيد، و التقي الحوراني،و الذهبي،و مرعى بن يوسف الكرمي،و ابن ناصر الدمشقي،و ابن الملقن، و غيرهم كثير.

الرد على من رمى أهل الحق بالزندقة و الكفر

و لهذا فقد رماه بعضهم بالكفر و الزندقة،لعدم فهمهم كلامه و ظنهم فيه الاتحادية و وحدة الوجود على وجه الحلولية و الثنوية،و هذا ليس بصحيح.

و طعنوا في المدرسة الصوفية التي منها الشيخ الأكبر و الصدر القونوي و العفيف التلمساني و ابن سبعين و صاحبه محمد بن عبد الرحمن السيوفي،و الششتري،و ابن الفارض، و ابن أبي واصل،و غيرهم كسيدي علي وفا،و ابنه سيدي محمد وفا قدّس اللّه أسرارهم.

و نحن الآن نذكر أولا:الرد على شبهة التكفير الباطلة:

قال الشيخ الشعراني:

و قد سئل الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي اللّه عنه عن:تكفير المتأولين و المتفوهين بالكلام على الذات و الصفات من غلاة الصوفية،فتوقف في الجواب.

و قال:حتى أنظر و أثبت،فإنه دين.

و قال زاهر ابن أحمد السرخسي:لما دنت وفاة الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه اللّه في داري ببغداد دعاني و من حضر من العلماء،و قال:اشهدوا عليّ بأني لا أقول بكفر أحد من أهل القبلة؛لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد،و الإسلام يشملهم و يعمّهم (1).

فانظر كيف سماهم مسلمين،و هذا الإمام الشافعي و الإمام أبو حنيفة و غيرهما يقولون نقبل شهادة من قال بالوعيد،و الخوارج إلا الخطابية،و هم قوم يشهد بعضهم لبعض من غير معرفة إذا اتفقوا في المذهب.

ص: 16


1- انظر:تبيين كذب المفتري لابن عساكر(ص 149).

و كان المزني أحد أصحاب الإمام الشافعي يمتنع من تكفير أهل الأهواء،و يقول:

إن المسائل التي يقعوا فيها لطاف تدقّ عن النظر العقلي.

و كان إمام الحرمين يقول:لو قيل لنا فصّلوا لنا ما يقتضي التكفير من العبارات مما لا يقتضيه.

لقلنا:هذا طمع في غير مطمع؛فإن هذا بعيد المدرك،وعر المسلك،يستمد من تيار بحار التوحيد،و من لم يحط علما بنهايات الحقائق لم يتحصل من دلائل التكفير على وثائق.

و كان لسان حال أهل التوحيد من الأكابر يقول:

تركنا البحار الزخرات وراءنا فمن أين يدري النّاس أين توجّهنا (1)

و كان أبو المحاسن الروياني و علماء بغداد قاطبة يقولون:

لا نكفّر أحدا من أهل المذاهب المختلفة؛لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:

«من صلّى صلاتنا و استقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فله ما لنا،و عليه ما علينا (2)».

و قد سأل الشيخ شهاب الدين الأذرعي:سيدنا و مولانا شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه اللّه عن تكفير أهل الأهواء و البدع؟

فقال:اعلم يا أخي أن كل مؤمن يستعظم الأمر بالتكفير؛لأنه أمر هائل عظيم الخطر.

و هو كما قال اللّه: وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ .

أو من كفّر إنسانا فكأنه أخبر عنه أن عاقبته في الآخرة العقوبة الدائمة أبد الآبدين، و أنه في الدنيا مباح الدم و المال،لا يمكّن من نكاح مسلمة،و لا يجرّ عليه أحكام أهل الإسلام في حياته و بعد مماته.).

ص: 17


1- من كلام الشيخ الأكبر قدّس سرّه.
2- رواه البخاري(153/1)،و النسائي في الكبرى(76/7)،و الطبراني في الكبير(162/2)،و ابن أبي شيبة في المصنف(428/6).

و اعلم يا أخي أن الخطأ في ترك ألف كافر أهون عند اللّه من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم.

و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إلى اللّه من أن يخطئ في العقوبة (1)».

و في الأثر:«إن اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام لما سأله أن يا بني بيت المقدس أنه لا يا بني بيتي من سفك الدماء،فقال داود عليه السّلام:يا ربّ؛أ لم يكن ذلك في الجهاد في سبيلك؟! قال:بلى،أ ليسوا بعبادي؟!فقال:يا ربّ،اجعل بناء ذلك على يد ولدي سليمان؟قال:

نعم».

ثم إن تلك المسائل التي يحكم فيها بالتكفير لهؤلاء القوم في غاية الدقة و الغموض؛ لكثرة شعبها و اختلاف قرائنها،و تفاوت دواعيها،و الاستقصاء في معرفة الخطاب من سائر صنوف وجوهه،و الاطّلاع على حقيقة التأويل و شرائطه في الأماكن،و معرفة الألفاظ المحتملة التأويل و غير المحتملة،و ذلك يستعدي معرفة طرق اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها و مجازاتها،و استعاراتها،و معرفة دقائق التوحيد،و عوارضه إلى غير ذلك مما هو متعذر جدّا.

و كثيرا ما يتكلّم العارفون باللّه تعالى حين تهب على قلوبهم النفحات الإلهية بالكلام الذي لا يفهم العاقل منهم إلا الخطأ و التناقض،فلا يقبله عقله،و كان الأولى له التسليم؛ لأن العلم الخاص بدائرة الولاية يباين العلم الذي عند العقلاء من العلماء،فالأولياء يقرءون علم العلماء؛لمرورهم على معناه حال السلوك و الترقي عنه،و العلماء بالعكس؛و ذلك لأن طريق القوم مبنيّ على ما يقرب من طريق المعتزلة و الجبرية في بعض الحالات،و هي حالة شهود غيبة الصفات في شهود وحدة جمال الذات،حتى كأن لا صفات.

فعلم مما قررناه:إنه ليس فوق علم العارفين باللّه علم إلا علم اللّه عزّ و جلّ؛فافهم.).

ص: 18


1- رواه الترمذي(33/4)،و مالك في الموطأ(76/3)،و الدار قطني في السنن(84/4)،و ابن أبي شيبة في المصنف(512/5).

و كان الشيخ محيي الدين العربي رحمه اللّه ينشد كثيرا:

عقد الخلائق في الإله عقائد و أنا علمت جميع ما اعتقدوه

و مراد الشيخ:الاطّلاع على ما استندت إليه عقائد الخلق،لا أنه يعمل بجميع عقائدهم مما يخالف السنة؛إذ كل عارف يلزمه بعد الظهور تحقق الحق،و إبطال الباطل،و إعطاء المراتب حقّها.

و قد قلنا في كتابنا المسمى«بالجواهر و الدرر»:أن من أراد الترقي إلى دائرة الولاية فليمح من قلبه كل علم كان طريقه العقل و النظر الفكري،فإذا فعل ذلك فقد تعرض لدخول تلك الحضرة و استنشاق هواها،و بعيد على من أمعن النظر و الفكر في علوم النقول حتى انتقشت تلك العلوم و انطبعت في مرآة قلبه أن يشمّ رائحة من فهم كلام أهل دائرة الولاية؛لأن الموازين العقلية و ظواهر الموازين الاجتهادية تردّ كثيرا من علوم أهل اللّه عزّ و جلّ؛ إذ علوم الأولياء فوق طور العقول،و ميزان العقول و الأفكار لا تعمل هناك.

و بالجملة:فمن أقوى دليل على أن ظواهر المشي على الشريعة لا يغني عن علم الحقيقة قول موسى للخضر عليهما السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]،و لم يكتف بما عنده من علم الشريعة.

ثم تأمّل في إنكار السيد موسى على الخضر عليهما السلام علمه الذي آتاه اللّه له من لدنه،ففي ذلك كفاية لكل معتبر.

و كلام الشيخ محيي الدين العربي و أتباعه و سيدي عمر ابن الفارض و ابن سبعين و غيره غالبه من علوم الخضر عليه السّلام.

و قد ذكرت:من علوم الخضر عليه السّلام في كتابنا المسمى ب(الجوهر المصون)نحو ثلاثة آلاف علم لا يمكن لغير وليّ أن يخوض فيها،و لا في علم منها،و لا يعرف اسمه،فضلا عن الخوض فيه،فتطلّبه؛فإنه كتاب ما أظن أن أحدا صنّف في الإسلام مثله،فلله الحمد على ذلك.

ثم اعلم يا أخي:أن القول بالتكفير يحتاج إلى أمرين عزيزين:

ص: 19

أحدها:تحديد المعتقد،و هو صعب من جهة الاطّلاع على ما في القلب،و تخليصه مما يشوبه.

الثاني:أن الحكم بأن ذلك كفر صعب من جهة صعوبة علم الكلام،و مواضع استنباطه،و تمييز الحق فيه من غيره كما تقدم،و إنما يحصل ذلك لرجل جمع صحة الذهن، و رياضة النفس،حتى خرج عن الميل إلى الهوى،و التعصب،بالكلية بعد الامتلاء من علوم الشريعة و أسرارها،و قلّ أن يوجد مثل هذا،و إذا كان الإنسان يعجز عن تحرير اعتقاده في نفسه فكيف يقدر على تحرير اعتقاد غيره في هذا الزمان الذي صار الناس فيه من كثرة النكد الواقع لهم فيه يشكون في وقت مستهلّ شهورهم و أعيادهم في مدينة مصر مع كثرة ما فيها من العلماء و الصلحاء و أكابر الناس؟!نسأل اللّه اللطف.

فالقول بتكفير شخص معين بما فهمه العلماء من كلامه في غاية الصعوبة؛لتعلقه بالمعتقد الباطن،مع أنه يشترط في القول بالتكفير اعتراف قائله بما أضمره في قلبه، و هيهات أن يحصل.

و أما البينة فلا تكفي في ذلك؛لأنها لا تتعلق إلا بالأمور الظاهرة،لا بما طريقه الفهم.

و إذا رأينا كتابا أوّله:( بسم اللّه الرحمن الرحيم ،و الحمد للّه رب العالمين)و الشهادتان، و ختمه صاحبه بالصلاة و التسليم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما بين ذلك كلام مغلق لا يفهم منه شيء أحسنا الظن به و تركناه،مع أن جميع ما في كتب القوم لا يتعلق شيء منه بأحكام الشريعة المطهرة،و لا يرد شيء منها،و لا يأمر أحدا بترك وضوء و لا صلاة،و لا زكاة،و لا صيام،و لا حجّ،و لا جهاد،و لا غير ذلك مما يهدم تركه الدين أبدا.

ثم أن الغالب على أهل الأهواء و البدع إنما هو التقليد و الانتماء إلى مذاهب أكابرهم على طريقة عوام الفقهاء من عين إحاطة بكنه ذلك المذهب،و ما هو مستمدّ منه من الكتاب أو السنة أو الحقيقة أو المجاز،و القول بتكفير مثل هؤلاء يجرّ إلى فساد عظيم؛لعسر تشخيص الكفر و عدم الإيمان في قلب شخص تسمعه يقول:أشهد لا إله اللّه،و أن محمدا رسول اللّه.

قد علمت من جميع ما قررناه:

إن جميع الأئمة المتقدمين قد مالوا إلى ترك التكفير لأحد من المسلمين،فبهداهم يا أخي اقتده،و لا تغترّ بقول مجازف يوهمك التعصب للدين،و يحط على عقائد كمّل

ص: 20

العارفين،و يخرجهم عن دائرة الإسلام جهلا و ظلما و حسدا و عدوانا.

فقد كان العارف باللّه أبو تراب النخشبي (1)يقول:إذا ألف العبد الإعراض عن اللّه صحبته الوقيعة في أولياء اللّه،و لذلك كان أهل اللّه عزّ و جلّ لا يشتغلون قطّ بالردّ على أحد من أهل الإسلام مقالته في اللّه عزّ و جلّ،أو في شيء استنبطه من أحكام الشريعة،عكس ما عليه أهل الجدال،و إنما شأن أهل اللّه أن يبحثوا عن مستند كل قول في العالم،من أين أخذه صاحبه،و ما ذا استند ذلك القول إليه من حضرات الأسماء الإلهية؛فإنه محال أن يوجد في العالم قول الآن إلا و هو مستند إلى حقيقة إلهية،فليس عند أهل اللّه أن أحدا يغلط في الأحكام الشرعية،إنما يغلط في وجه النسب؛لأن حكم اللّه معصوم حتى بذلك القول من اللّه عزّ و جلّ،فأهل اللّه يأخذون تلك المسألة التي غلط فيها صاحبها،فيجعلونها في موضعها،كما قصّ اللّه علينا ذلك في شأن موسى و الخضر عليها السلام؛فإن الخضر لما أخبر موسى بتأويل أفعاله تبيّن أن ما فعله الخضر كان في محله،فلأهل اللّه الاطّلاع على منزع جميع النحل و الملل و المذاهب اطّلاعا عامّا،فما تظهر نحلة من منتحل و لا ملة من الملل في اللّه أو في أحكامه ما تناقض منها و ما اختلف إلا و يعلمون من أين أخذت، فينسبوها إلى واضعها،ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء،و اللّه ذو الفضل العظيم.

فتحفظ يا أخي:من تجريح عقائد أحد المسلمين،و احم سمعك و لسانك و قلبك،و لا تحكم بخروج أحد من الإسلام إلا إن ترك ما به دخل،فقد نصحكتم،و السلام.

و الحمد للّه ربّ العالمين،و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد و على آله و صبحه و سلّم تسليما كثيرا،اللّهمّ،آته الوسيلة و المقام المحمود الذي وعدته يا أرحم الراحمين،و أدخلنا في شفاعته،آمين (2).

بطلان دعوى وحدة الوجود

و ثانيا:مسألة وحدة الوجود.

اشارة

قال الشيخ الكتاني:ذكر المتكلمون على وحدة الوجود أن هاهنا وحدات ثلاثا:

ص: 21


1- نسبة إلى نخشب بلدة بما وراء النهر،و كان شيخ عصره بالاتفاق،جامعا بين العلم و الدين و الزهد و التصوف بلا شقاق،صحب حاتما الأصم و الخواص و الطبقة و كتب الحديث الكثير،و تفقّه على مذهب الشافعي،و أخذ عنه أحمد بن حنبل و ابن الجلاء و آخرون من الأجلاّء.
2- انظر:الميزان الذرية المبينة لعقائد الفرقة العلية(ص 135)بتحقيقنا.
الأولى منها:وحدة كل موجود على انفراده

و معناها أن كل فرد من أفراد الموجودات الظاهرة و الباطنة من حيث هو له من اللّه تعالى وجه خاص يلقي إليه منه ما يشاء لا يشاركه فيه أحد و له منه أيضا وجهة معينة و صفة مخصوصة لا تكون لغيره بها يتميز عن غيره من سائر المخلوقات و هذه الوجهة هي حقيقته المختصة به و صفته المخصوصة.

قال في«الفتوحات»في الفصل الخامس عشر من الباب الثامن و التسعين و مائة ما نصه:و أما اللّه تعالى فهو مع كل شيء فلا يتقدمه شيء و لا يتأخر عنه شيء و ليس هذا الحكم لغير اللّه تعالى و لهذا له إلى كل موجود وجه خاص لأنه سبب كل موجود و كل موجود لا يصح أن يكون اثنين،انتهى.

يشير إلى هذه الوحدة و إن شئت زيادة بيان لها فقل إنه ما من عين مخلوقة إلا و لها من اللّه خاصية و علامة تميزها عن غيرها من كل ما خلقه اللّه من الأعين من ابتداء الوجود إلى انتهائه كما أن لها منه مادة مخصوصة لا يشاركها فيها عين أخرى،و إن قلنا:إن هذه العين مثل هذه كزيد مثلا مثل عمرو أو هذه الحبة من البر أو غيره مثل هذه فما هي مثلية حقيقية إذ كل واحد منهما لا بد له من مميز يدرك ذلك من خالطه المخالطة الخاصة أو تأمله كذلك أو فتح اللّه عين بصيرته و ذلك المميز هو وجهه المختص به و هو حقيقته الخاصة و صفته المخصوصة فهذه هي وحدة كل موجود.

الثانية:وحدة جميع الموجودات الكونية

من حيث جملتها و هي وحدته صلّى اللّه عليه و سلّم و معناها أن العالم كله من أوله إلى ما لا نهاية له منه شيء واحد بالذات أعني نورانيته واحدة و حقيقة متحدة متضمنة لجميع الحقائق و هي نورانيته صلّى اللّه عليه و سلّم و حقيقته المفاضة من الذات العلية فيضانا متحدا بالفيض الأقدس أولا في العلم ثم بالفيض المقدس ثانيا في العين و الخارج و ما لها من التفاصيل و الوجوه و القيود و الاعتبارات و الخيالات العارضة لا يعددها و لا يكثرها كالذات الواحدة الإنسانية فإنها حقيقة واحدة لا يكثرها و يعددها ما لها من الأعضاء و الحواس الظاهرة و الباطنة و إن كانت متعددة،و هذا معنى ما بلغنا عن بعضهم من أنه كان يقرر وحدة الوجود فيه صلّى اللّه عليه و سلّم و كان بعض أشياخنا ممن جمع بين الظاهر و الباطن يومئ إليها فيقول:إذا رأى إنسانا مقبلا عليه أي إنسان كان مرحبا بالنور المحمدي حتى صار يلقب بهذا اللقب فيقال له:النور المحمدي و كان يشير بذلك إلى أن الأكوان كلها إنما هي

ص: 22

مظاهره صلّى اللّه عليه و سلّم و أنواره المتحدة بالذات،و إن تعددت بالاعتبارات،و أن وجوده إنما هو بوجوده صلّى اللّه عليه و سلّم و إمداده المستمد من الحضرة العلية التي هي حضرة الأحدية.

و في«الجامع»لأبي عبد اللّه محمد بن المشري نقلا عن شيخه أبي العباس التيجاني قال:

الحقيقة المحمدية هي الكون بأسره فلو رفع الحجاب لم تر إلا الحقيقة المحمدية بارزة وحدها عليها أفضل الصلاة و السلام انتهى.

يريد أنها سارية فيه كسريان الماء في العود الأخضر بحيث لو زال هذا السريان لصار عدما محضا في الحال قبل المال و لو زالت هذه المظاهر التي هي الحاجبة عنها لم تر إلا هي بارزة وحدها و إلى هذه الوحدة يشير في«الفتوحات»عقب ما مرّ عنه في الوحدة قبلها بقوله:و هو واحد فما صدر عنه إلا واحد فإنه في أحدية كل واحد و إن وجدت الكثرة فبالنظر إلى أحدية الزمان الذي هو الظرف،فإن وجود الحق في هذه الكثرة في أحدية كل واحد فما ظهر عنه إلا واحد،فهذا معنى لا يصدر عن الواحد إلا واحد و لو صدر عنه جميع العالم لم يصدر عنه إلا واحد فهو مع كل واحد من حيث أحديته،و هذا لا يدركه إلا أهل اللّه،و تقوله الحكماء على غير هذا الوجه و هو مما أخطأت فيه،انتهى منه بلفظه.

و قد ذهب الأشاعرة و المتكلمون إلى جواز استناد آثار متعددة لمؤثر واحد بسيط لأنهم قائلون بأن جميع الممكنات المتكثرة كثرة لا تحصى مستندة بلا واسطة إلى اللّه تعالى مع كونه منزها عن التركيب و الحكماء منعوا هذا أعني جواز استناد الآثار المتعددة إلى المؤثر البسيط الواحد الحقيقي من جميع الجهات،و قالوا:إنه لا يجوز أن يستند إليه إلا أثر واحد، و قالوا في معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن الحق تعالى ما خلق إلا واحدا و هو العقل الأول،و العقل الأول أوجد الفلك الأول بمادته و صورته و نفسه الناطقة المدبرة له و أوجد العقل الثاني ثم العقل الثاني أوجد فلكه و مادته و صورته و نفس و العقل الثالث،و هكذا إلى العقل العاشر،ثم خلق العقل العاشر العناصر الأربعة،و المواليد الثلاثة بأنواعها الكثيرة و نفوسها و قواها،و غير ذلك إلى ما شاء اللّه.هذا ما قالوا.

و حمل الأكثرون كلامهم هذا على الظاهر من إثبات فاعل و مؤثر غير اللّه تعالى عما لا يليق به و حقق المحقق الدواني في بعض رسائله أن تحقيق مذهبهم أنه لا فاعل في الوجود إلا اللّه تعالى و بين ذلك بالبيان الشافي فلينظر.

ص: 23

و أهل اللّه تعالى يقولون معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن وجوده تعالى في أحدية كل واحد و أنه مع كل واحد من حيث أحديته كما قاله الشيخ الأكبر،أو أنه ما صدر عن الحق تعالى إلا واحد و هو الوجود المفاض من الذات العلية فيضانا متحدا و العقل الأول و غيره من سائر الموجودات سواء في هذا الوجود المفاض كما قاله غيره.

و قال العارف الجامي في«الدرة الفاخرة الملقبة بحط رحلك»في ترجمة القول في صدور الكثرة عن الوحدة:الظاهر أن الحق ما ذهب إليه الحكماء من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي و لذا وافقهم الصوفية المحققون في ذلك لكن خالفوهم في كون المبدأ الأول كذلك فإنهم يثبتون له تعالى صفات و نسبا تغايره عقلا لا خارجا كما سبق فيجوّزون أن يصدر عنه باعتبار كونه مبدا للعالم كثرة من حيث كثرة صفاته و اعتباراته و أما من حيث وحدته الذاتية فلا يصدر عنه إلا أمر واحد من تلك الصفات و الاعتبارات أي و هو نسبة العموم و الانبساط للوجود المفاض المعبر عنه بالعما قال و بواسطته يلحقه سائر الاعتبارات و بواسطة كثرة الاعتبارات كثرة وجودية حقيقية انتهى منه بلفظه.

و قال صدر الدين القونوي في رسالة«مفتاح الغيب»في ترجمة فصل شريف يشتمل على علم غزير خفي لطيف ما نصه:الوجود في حق الحق عين ذاته و في من عداه أمر زائد على حقيقته و حقيقة كل موجود عبارة عن نسبة تعينه في علم ربه أزلا و تسمى باصطلاح المحققين من أهل اللّه عينا ثابتة.

و في اصطلاح غيرهم ماهية و المعدوم الممكن و الشيء الثابت و نحو ذلك و الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد لاستحالة إظهار الواحد غير الواحد و إيجاده من كونه واحدا أكثر من واحد لكن ذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان الممكنات ما وجد منها و ما لم يوجد معا سبق العلم بوجوده و هذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود عند الحكيم المسمي بالعقل الأول و بين سائر الموجودات و ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة بأنه ما ثم عند المحققين إلا الحق و العالم،و العالم ليس بشيء زائد على حقائق معلومة للّه تعالى أولا كما أشرنا إليه من قبل متصفة بالوجود ثانيا فالحقائق من حيث معلوميتها و عدميتها لا توصف بالجعل عند

ص: 24

المحققين من أهل الكشف و النظر أيضا؛إذ المجعول هو الموجود فما لا وجود له لا يكون مجعولا،و لو كان كذلك لكان للعلم القديم في تغير معلوماته فيه أزلا أثر مع أنها غير خارجة عن العالم بها،فإنها معدومة لا نفسها،لا ثبوت لها إلا في نفس العالم بها،فلو قيل بجعلها لزم إما مساواتها للعالم بها في الوجود،أو أن يكون العالم بها محلاّ لقبول الأثر من نفسه في نفسه،و ظرفا لغيره أيضا،و كل ذلك باطل؛لأنه قادح في صرافة وحدته سبحانه أزلا،و قاض بأن الوجود المفاض عرض لأشياء موجودة لا معدومة،و كل ذلك محال من حيث أنه تحصيل للحاصل،و من وجوه أخر لا حاجة إلى التطويل بذكرها فافهم،فثبت أنها من حيث ما ذكرنا غير مجعولة،و ليس ثمة وجودان كما ذكر بل الوجود واحد،و هو مشترك بين سائرها مستفاد من الحق سبحانه و تعالى.

ثم إن هذا الوجود الواحد العارض للممكنات المخلوقة،ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحق الباطن،المجرد عن الأعيان و المظاهر،إلا بنسب و اعتبارات،كالظهور و التعين و التعدد الحاصل له بالاقتران،و قبول حكم الاشتراك،و نحو ذلك من النعوت التي تلحقه بواسطة التعلق بالمظاهر انتهى المراد منه بلفظه،و قد نقله ببعض حذف منه الجامي في«الدرة الفاخرة».

و في«لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام»في الكلام على الأمر الوحداني ما نصه:

هو المشار إليه بقوله تعالى: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]،و أمره الواحد عبارة عن تأثيره الوحداني بإفاضة الوجود الواحد المنبسط على الممكنات القابلة الظاهرة به،و المظهرة إياه متعددا متنوعا بحسب ما اقتضته حقائقها المتعينة في العلم الأزلي، و ذلك لأن الحق من حيث وحدة وجوده لا يصدر عنه إلا واحد؛لاستحالة إيجاد الواحد من كونه واحدا ما هو أكثر من واحد إلا أن أرباب النظر العقلي من الفلاسفة،يرون أن ذلك الواحد هو العقل الأول،و على قاعدة الكشف هو الوجود العام،و ينبغي أن تعلم أنه ليس المراد بالعموم أنه كلي،لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه،فإن ذلك مما لا يصلح أن يكون موجودا في الأعيان،بل المراد بالعموم اشتراك جميع الممكنات في أنه هو المفاض عليها،المضاف إليها ما وجد منها،و ما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده،و هذا

ص: 25

الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود المسمى بالعقل الأول،و بين سائر الموجودات؛إذ ليس ثم إلا الحق و العالم،العالم ليس بأمر زائد على حقائق معلومة الحق أولا متصفة بالوجود ثانيا انتهى منه بلفظه.

و قد تعرض في«جواهر المعاني»في الفصل الثالث من الباب الخامس نقلا عن شيخه أبي العباس التجاني لإيضاح هذه الوحدة،و بيانها على مذهب القوم،و إبطال ما قاله أهل الظاهر من إحالتها،و إبطال ما ألزموه لمن قال بها،و هو أنها تستلزم تساوي الشريف و الوضيع،و اجتماع المتنافيين و الضدين إلى غير ذلك مما قالوه.

و حاصل كلامه:إن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل،و هي إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة و الخاصية،و ما ذكروه لا يلزم؛لأنه و إن كانت الخواص متباعدة،و الأحكام مختلفة،فالأصل الجامع لها ذات واحدة كذات الإنسان،سواء بسواء،و أيضا فلوحدته وجه ثان و هو اتحاد ذاته في كونه مخلوقا للّه تعالى، و أثرا لأسمائه و صفاته،فلا يخرج فرد من أفراد هذا العالم عن هذا العالم عن هذا الحكم،و إن اختلفت أنواعه،فإن الأصل الذي برز عنه واحد،و وجه ثالث،و هو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضانا متحدا،ثم اختلفت خواصه و أجزاؤه بحسب ما تفصل ذلك الوجود،فإنه يتحد في عين الجملة،و يفترق في حال التفصيل.راجع كلامه، و راجع أيضا كتاب«الجامع»لابن المشري،فإنه تعرض فيه أيضا لهذه الوحدة و بيانها نقلا عن شيخه المذكور.

الثالثة:وحدة الوجود الذي به يتحقق حقيقة كل موجود

،و هي وحدة الحق سبحانه، و معناها أن الوجود من حيث هو حقيقة واحدة،و هي للّه تعالى وحده لا مشارك له فيها، فهو الموجود على الإطلاق،و وجود هذه الكائنات إنما كان باستنادها إليه،و استمدادها منه،و استنشاقها لروائح الوجود من وجوده،و إشراق شعاع وجوده عليها،فهي موجودة بهذا الوجود الذي له تعالى لا بوجود آخر ثان،فلم تكن غيرا من كل وجه؛لأن الغير في عرفهم هو الذي يكون له الوجود من ذاته،و يتصور أن يكون له بنفسه قوام،و هي وجودها ليس من ذاتها،و لا يتصور أن يكون لها قوام بنفسها.

ص: 26

و قد قال الشيخ الأكبر في كتاب«التجليات»له:من لم يكن له وجود من ذاته فمنزلته منزلة العدم،و هو الباطل قال:و هذا من بعض الوجوه التي بها يمتاز الحق تعالى عن الخلق،و هو كونه موجودا أعني وجوده من ذاته انتهى.

كما أنها ليست عينا لما بين التقييد و الإطلاق من تقابل التضاد،و عليه فإثبات الوجود لها توهم؛لأنه يتوهم الجاهل بحالها،و حقيقتها أن لها وجودا و في الحقيقة و نفس الأمر ما ثم إلا وجوده تعالى؛لأن به ظهرت الأشياء كلها،و لذا قيل:

هذا الوجود و إن تعدد ظاهرا و حياتكم ما فيه إلا أنتم

أنتم حقيقة كل موجود بدا و وجودها ذي الكائنات توهم

في باطني من نوركم ما لو بدا أفتي بسفك دمي الذي لا

و لو أنني أبدي سرائر جودكم قال العواذل ليس هذا مسلم

و في«الإحياء»في كتاب التوحيد و التوكل في الكلام على قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل

ما نصه:أي كل ما لا قوام بنفسه،و إنما قوامه بغيره،فهو باعتبار نفسه باطل،و إنما حقيقته،و حقيقته بغيره لا بنفسه،فإذا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء،فإنه قائم بذاته،و كل ما سواه قائم بقدرته،فهو الحق و ما سواه باطل انتهى.

و قال القاشاني في«لطائفه»في مبحث التحقيق ما نصه (1):

التحقيق هو رؤية الحق بما يجب له من الأسماء الحسنى،و الصفات العلى،قائما بنفسه، مقيما لكل ما سواه،و أن الوجود بكمالات الوجود:أي التي هي القوى و المدارك،إنما هو له تعالى بالحقيقة و الأصالة،و لكل ما سواه بالمجاز و التبعية،بل تسميته غيره غير أو سوى مجاز أيضا؛إذ ليس معه غير،بل كل ما يسمّى غيرا،فإنما هو فعله،و الفعل لا قيام له إلا بفاعله،فليس هو بنفسه،ليقال فيه غيرا و سوى،فكان مرجع التحقيق أن ليس في الوجود).

ص: 27


1- انظر:لطائف الأعلام للقاشاني(ص 125).

إلا عين واحدة،قائمة بذاتها،مقيمة لتعيناتها،التي لا يتعين الحق بها؛لاستحالة الانحصار عليه أو التقييد،فهو تعالى الظاهر في كل مفهوم،و الباطن عن كل فهم،إلا عن فهم من قال:إن العالم صورته و هويته،فلهذا صار صاحب التحقيق،لا يثبت العالم و لا ينفيه:أي لا يثبت العالم إثبات أهل الحجاب،و لا ينفيه نفي المستهلكين،فافهم.انتهى منه بلفظه.

مراد أهل اللّه بوحدة الوجود و الوحدة المطلقة

فهذا المعنى هو مراد أهل اللّه بوحدة الوجود،و بالوحدة المطلقة و غير ذلك من العبارات التي يذكرها العارفون من أهل التحقيق،و ليس مرادهم المعنى الفاسد الذي عند أهل الزندقة و الإلحاد،و قد أنكرته عليهم علماء الأمة،و قد كشف عن هذا الشيخ عبد الغني النابلسي في رسالة له سمّاها:«إيضاح المقصود عن معنى وحدة الوجود» (1).

و في«الحكم العطائية» (2):الكون كله ظلمة:أي عدم صرف بالنظر إلى أصله، و حقيقة ذاته،قال:و إنما أناره يعني أظهره،و أزال ظلمة العدم عنه ظهور الحق فيه:أي تجليه عليه أولا بأنوار الإيجاد،و توجهه إليه ثانيا بما يقوم به،و يدوم به وجوده من أنواع الإمداد،فلم يكن وجوده لنفسه و ذاته حتى يعد وجودا مستقلا،و إنما كان وجوده تعالى، و بظهور هذا الوجود في الأشياء ظهرت،و بإشراق شعاعه عليها أشرقت على حسب ما تقتضيه طبائعها و قابليتها،و استعداداتها الثابتة في العلم،ثم قال في الحكم،فمن رأى الكون و لم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده أعوزه وجود الأنوار،و حجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار يعني أن من نظر إلى الكون،و لم يشهد الحق تعالى ببصيرته فيه،أو عنده أو معه كما هو حال أهل التوسط الذين يرون اللّه في الأشياء،أو عندها أو معها و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه فيه أو عنده أو معه أو يشهده قبله،كما هو حال أهل الشهود و العيان الذين يرون الأشياء باللّه،و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله أو يشهده بعده،كما هو حال أهل الدليل و البرهان الذين يرون اللّه بالأشياء،و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه بعده،كان معدودا من أهل الظلام،محجوبا عن اللّه تعالى

ص: 28


1- طبعت بدار الآفاق العربية،القاهرة.
2- الحكمة رقم(320).

بسحب الكون أو الجهل و الغافلة و الآثام،و من شهده في كل شيء أو عنده أو معه أو قبله أو بعده أو فيه،و عنده و معه و قبله و بعده كان من أهل الأنوار،و ممن لم تنحجب عنهم شموس المعرفة بسحب الآثار،و من زال عنه الوهم و العناء،و كان في مقام المحو و الفناء، و غلب عليه شهود الوجود الحق الحقيقي،الذي به كل شيء موجود يرى اللّه وحده،و لذا ينفي ما عداه،و لا يثبت شيئا سواه،و يقول:ما رأيت شيئا سوى اللّه.

و من قول بعضهم في الدار غيره ديار و قول آخر سوى اللّه و اللّه ما في الوجود و يقول عما سواه أنه ظل،و أنه خيال،و أنه سراب،و أنه هالك،و أنه مضمحل زائل أو لا وجود له أصلا،و هو صادق في ذلك كله؛لأن وجود ما سوى الحق إنما هو بالفرض و التقدير، أو الوهم و التخييل،و الوجود الحق الحقيقي إنما هو وجوده تعالى،و وجود ما عداه بوجوده لا بوجود آخر،مما عداه ليس له من نفسه وجود أصلا،فهو بالنظر إلى نفسه عدم صرف،و بالنظر إلى إشراق شعاع الوجود المطلق عليه كالظل له تابع له،و التحقق بهذا المعنى هو زبدة التوحيد،و عمدة أهل التفريد،و في ذلك يقول قائلهم:

اللّه قل و ذر الوجود و ما حوى إن كنت مرتادا بلوغ الكمال

فالكل دون اللّه إن حققته عدم على التفصيل و الإجمال

و اعلم بأنك و العوالم كلها لولاه في محو و في اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال

فالعارفون فنوا و لما يشهدوا شيئا سوى المتكبر المتعال

و رأوا سواه على الحقيقة هالكا في الحال و الماضي و الاستقبال

و قد حكي عن الصديق رضي اللّه عنه أنه كان يقول ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله.

و عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان يقول:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه بعده.

و عن عثمان رضي اللّه عنه أنه كان يقول:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه معه.

و عن علي رضي اللّه عنه أنه كان يقول:لا نعبد ربا لم نره يعني لم نشهده.

ص: 29

و في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«كان اللّه و لا شيء معه،و كان اللّه وحده بلا شيء» (1).

و في«الإحياء»في كتاب المحبة و الشوق في ترجمة بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة اللّه تعالى ما نصه:

و أما من قويت بصيرته و لم تضعف منته:أي قوته،فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا اللّه تعالى،و لا يعرف غيره،و يعلم أنه ليس في الوجود إلا اللّه تعالى،و أفعاله أثر من آثار قدرته،فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه،و إنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها،و من هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا و يرى فيه الفاعل، و يذهل عن الفعل من حيث أنه سماء و أرض و حيوان و شجر،بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق،فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره،كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه،و رأى فيها الشاعر و المصنف،و رأى آثاره من حيث أنه أثره لا من حيث أنه حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض،فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف،و كل العالم تصنيف اللّه تعالى،فمن نظر إليه من حيث أنه فعل اللّه،و عرفه من حيث أنه فعل اللّه و أحبه من حيث أنه فعل اللّه،لم يكن ناظرا إلا في اللّه،و لا عارفا إلا باللّه،و لا محبّا إلا للّه، و كان هو الموحد للحق الذي لا يرى إلا اللّه،بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه،بل من حيث أنه عبد اللّه،فهذا هو الذي يقال فيه:إنه فني في التوحيد،و إنه فني عن نفسه أيضا،و إليه الإشارة بقول من قال:كنا بنا ففنينا عنا،و بقينا بلا نحن.انتهى منه،و قد نقله السيوطي أيضا في«تأييد الحقيقة العلية».

و في كلام بعض العارفين أبى المحققون أن يشهدوا غير اللّه،لما حققهم به من شهود القيومية،و إحاطة الديمومية.

و قال بعضهم:لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع؛فإنه لا غير معه حتى أشهده معه.

و من كلام مولانا عبد السلام بن مشيش لوارثه أبي الحسن الشاذلى:حدد بصر الإيمانه.

ص: 30


1- سيأتي تخريجه و الكلام عليه.

تجد اللّه تعالى في كل شيء،و عند كل شيء،و مع كل شيء،و قبل كل شيء،و بعد كل شيء،و فوق كل شيء،و تحت كل شيء،و قريبا من كل شيء،و محيطا بكل شيء بقرب هو وصفه،و بحيطة هي نعته...إلى آخر ما قال.

و قال بعض العارفين:الحق تعالى منزّه عن الأين و الجهة و الكيف و المادة و الصورة، و مع ذلك لا يخلو منه أين و لا مكان و لا كم و لا كيف و لا جسم و لا جوهر و لا عرض؛ لأنه للطفه سار في كل شيء،و لنورانيته ظاهر في كل شيء،و لإطلاقه و إحاطته متكيف بكل كيف،غير متقيد بذلك،و من لم ير هذا و لم يشهده فهو أعمى البصيرة،محروم من مشاهدة الحق انتهى.

و من كلام القطب سيدي علي وفا رضي اللّه عنه:

هو الحق المحيط بكل شيء هو الرحمن ذو العرش المجيد

و النور المبين بغير شكه هو الرب المحجب في العبيد

هو المشهود في الأشياء يبدو فيخفيه الشهود عن الشهيد

هو العين العيان لكل غيب هو المقصود من بيت القصيد

جميع العالمين له ظلال سجود له في القريب و في البعيد

و هذا القدر في التحقيق كاف فكف النفس عن طلب المزيد

مراتب الإيمان و التصديق

و اعلم أن الإيمان باللّه هو التصديق الجازم بوجوده أولا،و بوحدانيته ثانيا،و باتصافه بصفات الكمال اللائقة به ثالثا،و بتقديسه عن سمات الحوادث رابعا،و هذا التصديق له مراتب ذكر في«القوت»و«الإحياء»أنها ثلاثة و هي في الحقيقة تسعة لأن كل مرتبة من المراتب الثلاث منقسمة إلى ثلاثة،و ذكر الغزالى في آخر كتابه«إلجام العوام»ستة منها و هي أقسام المرتبتين الأوليين،و أما المرتبة الثالثة فذكرها بأقسامها في كتابه«مشكاة الأنوار»،و نحن إن شاء اللّه تعالى نذكر خلاصة المرتبتين الأوليين مع التوسع في المرتبة الثالثة؛لأنها المقصودة هنا.

فنقول المرتبة الأولى:مرتبة إيمان العوام،و هو إيمان التقليد المحض.

ص: 31

و فيها ثلاث مراتب لأنه:

1-إما أن يكون مستندا إلى السماع ممن حسن فيه الاعتقاد بسبب كثرة ثناء الخلق عليه كالعلماء و الأولياء.

2-أو إلى أمارة يظنها العامي دليلا كالقرائن الشاهدة له.

3-أو غير مستند إلى شيء أصلا كأن يسمع القول فيناسب طبعه و أخلاقه فيبادر إلى التصديق به لمجرد موافقته لطبعه.

و هذه أضعف التصديقات لأنه فيما قبله استند إلى دليل ما و إن كان ضعيفا.

المرتبة الثانية:مرتبة إيمان المتكلمين و هو الإيمان الممزوج بنوع من الاستدلال و فيها أيضا ثلاث مراتب لأنه:

1-إما أن يكون حاصلا بالبرهان المحرر المستقصي لشروطه بأصوله و مقدماته.

2-أو بالأدلة الرسمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء و شناعة إنكارها.

3-أو بالأدلة الخطابية التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات و المخاطبات الجارية في العادات.

المرتبة الثالثة:مرتبة إيمان العارفين،و هو المشاهد بنور اليقين و فيها أيضا ثلاث مراتب.

الأولى:مشاهدة أن الوجود كله للّه و أنه لا شريك له فيه أصلا لأن كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو من حيث ذاته لا وجود له بل وجوده مستعار من غيره،و لا قوام لوجود المستعار بنفسه بل بغيره و نسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض فإذا انكشفت هذه الحقيقة للعبد بنور اليقين علم أن الوجود كله له تعالى لا مزاحم له فيه أصلا و أن نسبته لغيره مجاز لا حقيقة.

الثانية:ترقى أصلها من حضيض المجاز إلى ارتفاع الحقيقة و استكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا اللّه و أن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا و أبدا لا

ص: 32

يتصور فيه إلا ذلك لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات لأن كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم صرف،و إذا اعتبرت من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول فهو موجود لا من وجهه و ذاته،بل من الوجه الذي يلى موجده فيكون الموجود هو وجه اللّه فقط و حينئذ فلكل شيء وجهان وجه إلى نفسه و وجه إلى ربه فهو باعتبار وجه نفسه عدم،و باعتبار وجه ربه موجود،فإذا لا موجود إلا اللّه و وجهه كما قال:

كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص:88]يعني فليس بهالك.

و هؤلاء يفتقروا لقيام القيامة ليسمعوا نداء الباري لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار،بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا،و لم يفهموا من معنى قوله اللّه أكبر أنه أكبر من غيره حاش اللّه إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه،بل ليس لغيره رتبة المعية،بل رتبة التبعية،بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه،فالوجود وجهه فقط،فمحال أن يكون أكبر من وجهه،بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة و المقايسة، و أكبر أن يدرك غيره كنه كبريائه نبيا كان أو ملكا بل لا يعرف كنهه إلا هو تعالى.

الثالثة:أهلها بعد ما عرجوا إلى سماء الحقيقة،و لم يروا في الوجود تحقيقا إلا الواحد الحق و أفعاله،لكن منهم من كان له هذا الحال عرفانا علميا،و منهم من صار له ذلك ذوقا حاليا،و انتفت عنهم الكثرة بالكلية استغرقوا في الفردانية المحضة و استلبت فيها عقولهم، فصاروا كالمبهوتين فيها،و لم يبق فيهم متسع لذكر غير اللّه،و لا لذكر أنفسهم أيضا،فلم يكن عندهم إلا اللّه،فسكروا سكرا وقع دون سلطان عقولهم،فقال أحدهم:أنا الحق.

و قال الآخر:سبحاني ما أعظم شانى (1).

و قال الآخر:ما في الجبة إلا اللّه.

و كلام العشاق في حال السكر يطوى و لا يحكى،فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان اللّه في الأرض عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد،بل يشبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه:أنا من أهوى،و من أهوى أنا.ا.

ص: 33


1- انظر:روضة الحبور و معدن السرور لابن الأطعاني(ص 80)بتحقيقنا.

و هذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة فناء،بل فناء الفناء لأنه فني عن نفسه،و فني عن فنائه،فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال،و لا بعدم شعوره بنفسه، و لو شعر بعدم شعوره كان قد شعر بنفسه و تسمى هذه الحالة بالنسبة إلى المستغرق بها بلسان المجاز اتحادا و بلسان الحقيقة توحيدا و انظر:«مشكاة الأنوار»لأبي حامد الغزالى،و «شرح الإحياء»للشيخ مرتضى الزبيدي في أول نصفه الثاني و في مبحث السماع.

و في«لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام»للقاشاني بعد ما ذكر فيه الاتحاد و أنه يطلق و يراد به عدة معاني ما نصه:و منها أن يراد بالاتحاد جميع الموجودات في الوجود الواحد من غير أن يلزم من ذلك ما يظن من انقلاب الحقائق أو حلول شيء في شيء،بل المراد من ذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه لا حقيقة له إلا بالحق سبحانه بمعنى أن الوجود الذي صار به كل موجود موجودا إنما هو الوجود الواجب،و هذا منكر عند أرباب العقول المحجوبة بظلمة الأكوان،فإنهم لا يشاهدون وجهه تعالى في الأشياء لوقوفهم معها،و إلى وحدة الوجود المشترك بين جميع الماهيات المتكثرة أشار الأكابر بقولهم الوحدة للوجود و الكثرة للعلم أي للمعلومات فإنها هي التي كثرت الوجود الواحد المظهر لها بها انتهى منه بلفظه.

و فيها أيضا ما نصه:وحدة الوجود،يعني به عدم انقسامه إلى الواجب و الممكن و ذلك أن الوجود عند هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين و الفلاسفة،فإن أكثرهم يعتقد أن الوجود عرض،بل الوجود الذي ظنوا عرضيته هو ما به تحقق حقيقة كل موجود،و ذلك لا يصح أن يكون أمره غير الحق عز شأنه انتهى المراد منه بلفظه أيضا.

و قال السعد في شرح المقاصد بعد أن أبطل الحلول و الاتحاد ما نصه:و هاهنا مذهبان آخران يوهمان الحلول و الاتحاد و ليسا منه في شيء.

الأول:السالك إذا انتهى سلوكه إلى اللّه،و في اللّه استغرق في بحر التوحيد و العرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته و صفاته في صفاته و يغيب عن كل ما سواه و لا يرى في الوجود إلا اللّه،و هذا الذي يسمونه الفناء في التوحيد،و إليه يشير الحديث الإلهى:

ص: 34

«فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به،و بصره الّذي يبصر به (1)».

و حينئذ فربما صدرت منه عبارات تشعر بالحلول و الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال،و تعذر الكشف عنه بالمقال،و نحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان،و نعترف بأن طريق غيرنا فيه العيان دون البرهان.

الثاني:إن الواجب هو الوجود المطلق و هو واحد لا كثرة فيه أصلا و إنما الكثرة في الإضافات و التعينات التي هي بمنزلة الخيالات و السراب إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على الظاهر لا بطريق المخالطة و الانضمام و يتكثر في النواظر لا بطريق الانقسام و لا حلول هنا و لا اتحاد لعدم الاثنينية و الغيرية انتهى على نقل شارح الإحياء و اللّه أعلم.انتهى.

مسألة الحلول و الاتحاد

اشارة

قلت:مسألة الحلول و الاتحاد و وحدة الوجود قد كثر فيها الكلام من العالم و الجاهل،فكثر الكلام،و تخبطت الآراء،و تنازعت،و بمجرد إطلاق لفظ وحدة الوجود يتوهم الجاهل القول بالحلول و الاتحاد،و نسبها ظلما و عدوانا الكثير من الجهلة قديما إلى سيدنا الشيخ الأكبر و أكابر الأولياء:كالشيخ سيدي عبد الكريم الجيلي،و الشيخ القوني، و الشيخ ابن سبعين،و الشيخ ابن الفارض،و غيرهم رضي اللّه عن جميعهم،و تبعهم على ذلك أتباعهم من المتأخرين.

و إن شئت قلت:أعوانهم في تلك الجهالة،و كان مدخلهم إلى هذه النسبة و تلك الاعتراضات و تجرؤهم على ما يجهلونه من علوم الأولياء نظرهم إلى علوم القوم باعتبار أنها علوم فلسفية،مصدرها الفكر و العقل،و كأنهم لم يسمعوا قول اللّه تعالى:

وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [البقرة:282]،و لا قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [الكهف:65]،و لا قوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، و لا قوله تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ [آل عمران:79]،و لا قوله: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [السجدة:24].

ص: 35


1- سبق تخريجه.

و لا ما روي عن أبي جحيفة قال:سألت عليّا رضي اللّه عنه:هل عندك عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم شيء سوى القرآن؟فقال:«لا و الذي خلق الحبة و برأ النسمة إلا أن يؤتي اللّه عبدا فهما في القرآن و ما في هذه الصحيفة».

قلت:و ما في هذه الصحيفة؟الحديث،و لا ما روي في البخاري:حدثنا إسماعيل قال:

حدثني أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري،عن أبي هريرة قال:«حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وعاءين،فأما أحدهما فبثثته،و أما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»،و لم يبلغهم مما ورد في كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم مما يقرر اختصاص الحق سبحانه لمن شاء من عباده بما شاء من عطاياه،سواء كان المعطى محسوسا أم معنويّا كالعلم باللّه و الفهم في كتابه، فراحوا ينكرون كل ما يجهلونه،و كأنهم أحاطوا بما عند اللّه،أو تحكموا على اللّه في ألا يعطي أحدا من خلقه إلا بعد أن يستأذنهم،و لا يفهم أحدا في كتابه إلا بما فهموه هم بفهمهم السقيم لا غير،فسبّوا و لعنوا أولياء اللّه، وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ [النور:15]،و جعلوا يستشهدون بأقوال أهل الكفر المستشرقين الذين ما أرادوا بالإسلام و المسلمين خيرا قطّ على أئمة الهدى المسلمين،فينسبون العلم اللدني الوارد ذكره في كتاب اللّه و في سنة رسول اللّه تارة إلى المسيحية،و تارة إلى الفلسفة اليونانية،و أخرى إلى الاستنباطات العقلية تبعا لهؤلاء المستشرقين،الذين أدركوا حقيقة علوم التصوف،و ما لها من العظمة بحيث يعجز غير المسلمين عن الإتيان بشيء منها،و كيف لا و هي من السيد الأعظم صلّى اللّه عليه و سلّم متلقاة،و أن التصوف الإسلامي منذ عهد الصحابة إلى الآن السبب الأقوى و الفعّال في دخول جموع الناس في دين اللّه أفواجا،و هذا ما يشهد به التاريخ،فراحوا ينسبونها إلى أنفسهم أو إلى عقل و فكر كما مرّ محاولين بذلك التقليل من شأن العلم في قلوب المسلمين،و لكن هيهات هيهات: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [الصف:8]ببعض من النظريات التي يكذبها التاريخ، و تأباها عظمة الدين الخاتم:

اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:

104].

ص: 36

فترى دافع المتقدمين إلى الإنكار:الحقد،و الحسد،و حب السمعة،و المتأخرين:الجهل الذي ملأ قلوبهم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]فتراهم ينقلون أقوال إخوانهم الذين يمدونهم في الغيّ دون أدنى معرفة بالدليل الذي استند إليه العلماء باللّه،و لا يستبرئ لدينه فيبحث عنه،بل أخذوا يكررون و يرددون الأقوال المنكرة في حقّ سادات الأمة المحمدية ورثة الأنبياء تلك الأقوال العارية بالطبع عن دليل القوم،و كان الأحق بهم قبل أن يؤذنهم اللّه بمحاربته بإيذائهم لأوليائه أن يأخذوا العلم من أهله؛و خصوصا أن علوم القوم موضوعها العقائد المتعلقة بمعرفة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،و تلك أمور محلها القلب،فلا اطّلاع عليها إلا لصاحبها.

و لا تظن يا أخي أن علوم القوم خالية عن تأييد الشرع،أو عارية عن الدليل،كما صوّرها هؤلاء الجهلة،بل الحق الذي لا مرية فيه أنه لا توجد عقيدة قررها القوم في كتبهم إلا و هي محاطة بالدليل الشرعي،و المتتبع لأقوالهم نفعنا اللّه بهم يجدها مصحوبة بالدليل.

فتبرّأ لدينك يا أخي،و إيّاك أن تعترض على أحد من العلماء باللّه بجهلك في أمر جهلته من كلامهم،أو أن يكون لك أيّ نسبة تربطك بهذا الاعتراض فالأمر جدّ و ليس بالهزل.

و انظر كيف نسبوا إلى اللّه في تسميتهم،بل و حقيقتهم في قول:أولياء اللّه،أو العلماء باللّه،أو العارفين باللّه،قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]،فما عاديت في الحقيقة إلا ما نسب للّه؛فانتبه من رقدتك.

و اعلم أني ما ذكرت لك تلك المقدمة في هذا الموضع إعلاما منّي بأن واحدا من العلماء باللّه يقول بالحلول أو الاتحاد معاذ اللّه،و لكن لأوضح لك حقيقة الخلاف،و اللّه يتولى هداك و هو حسبنا و نعم الوكيل.

نصوص القوم في نفيهم للحلول و الاتحاد المتوهم في حقهم

و إليك نصوص ما ذكره ساداتنا العلماء باللّه في نفيهم للحلول و الاتحاد المتوهّم في حقهم الشريف فأقول و باللّه التوفيق:

قال سيدنا في«الفتوحات»في باب الأسرار:من قال بالحلول فهو معلول؛فإن القول

ص: 37

بالحلول مرض لا يزول،و من فصل بينك و بينه فقد أثبت عينك و عينه،أ لا ترى قوله:

«كنت سمعه الذي يسمع به»،أثبتك بإعادة الضمير إليك ليدلك عليك،و ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد،كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل و الفضول فإنه أثبتك حالا و محلا، فمن فصل نفسه عن الحق فنعم ما فعل.

و قال في باب الأسرار أيضا:الحادث لا يخلو عن الحوادث،لو حلّ بالحادث القديم لصحّ قول أهل التجسيم،فالقديم لا يحلّ و لا يكون محلا،و من ادعى الوصل فهو في عين الفصل اه.

و قال في هذا الباب أيضا:أنت أنت،و هو هو،فإيّاك أن تقول كما قال العاشق:«أنا من أهوى و من أهوى أنا»،فهل قدر هذا أن يرد العين واحدة؟لا و اللّه ما استطاع فإنه جهل،و الجهل لا يتعقل حقّا،و لا بدّ لكل أحد من غطاء ينكشف عند لقاء اللّه.

و قال في الباب التاسع و الخمسين و خمسمائة بعد كلام طويل:و هذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق،و لا حلّ فيه الحق؛إذ لو كان عين الحق أو حلّ فيه لما كان تعالى قديما و لا بديعا انتهى.

و قال في الباب الثاني و التسعين و مائتين:من أعظم دليل على نفي القول بالحلول و الاتحاد أنك تدرك عقلا أن الشمس هي التي أفاضت على القمر النور،و أن القمر ليس من نور الشمس شيئا مشهودا؛لأنها لم تنتقل إليه بذاتها،و إنما القمر محلا لها،فكذلك العبد ليس فيه شيء من خالقه،و لا حلّ فيه اه.

و قال في الباب الرابع عشر و ثلاثمائة:لو صحّ أن يرقى الإنسان عن إنسانيته و الملك عن ملكيته و يتحد بخالقه تعالى لصحّ انقلاب الحقائق،و خرج الإله عن كونه إلها،و صار الحق خلقا،و الخلق حقّا،و ما وثق أحد بعلمه،و صار المحال واجبا،فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبدا اه.

و قال في الباب الثامن و الأربعين:لا يصحّ أن يكون الخلق في رتبة الحق تعالى أبدا، كما لا يصحّ أن يكون المعلول في رتبة العلة اه.

ص: 38

و قال سيد الطائفة الجنيد رضي اللّه عنه:التوحيد إفراد القدم عن الحدوث.

و قال سيدي عبد القادر الأمير رضي اللّه عنه في«مواقفه»في حديث مسلم:«إن الحق تعالى يتجلى لأهل المحشر...إلخ»:و فرقة تقرّه في الدنيا و الآخرة:أي التحول المذكور في الحديث من غير حلول و لا اتحاد و لا امتزاج و لا تولّد،مع اعتقاد:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]،و هم العارفون باللّه تعالى أهل التجلي و الشهود في الدنيا اه(ص 353).

و قال أيضا:الموقف الثلاثون:قال لي الحق:«أ تدري من أنت؟فقلت:نعم،أنا العدل الظاهر بظهورك،و الظلمة المشرقة بنورك.فقال لي:عرفت؛فالزم،و إيّاك أن تدّعي ما ليس لك،فإن الأمانة مؤداة و العارية مردودة،و اسم الممكن منسحب عليك أبدا،كما هو منسحب عليك أزلا»اه.

ثم قال في شرح حديث(كنت سمعه):و إنما هي الأحكام العدمية التي ظهر الوجود الحق بها لا غير،و لا اتحاد كما يفهمه العميان،و لا تأويل كما يقول صاحب الدليل و البرهان اه.

و قال في الكلام على حديث«ما وسعني..إلخ»:قلب العارف الكامل المحقق الواصل يصير عين معروفه،و عين ما حققه،مع بقاء التمييز:إله و مألوه،ربّ و عبد اه.

و قال سيدي عليّ بن وفا نفعنا اللّه به:إنما كانت القلوب السليمة تحنّ إلى التنزيه أكثر من التشبيه لأن التنزيه هو الأصل،و التشبيه إنما هو تنزّل للعقول،و من شأن الذات الإطلاق لذاتها،و تساوي النسب لصفاتها؛فاعلم ذلك،و نزّه ربّك عن صفات خلقه اه.

و قال سيدي أيضا:المراد بالاتحاد حيث جاء في كلام القوم:فناء مراد العبد في مراد الحق تعالى،كما يقال:بين فلان و فلان اتحاد،إذا عمل كل منهما بمراد صاحبه.

ثم أنشد:

ص: 39

و علمك أنّ كل الأمر أمري هو المعنى المسمّى باتحاد

و قال سيدي أيضا:الاتحاد لفظ يطلق و يراد به أعلى درجات قرب العبد من الرب.

و انظر يا أخي رحمك اللّه إلى ما قاله هؤلاء السادات في الحلول و الاتحاد؛كي تعلم حقيقة مرادهم بتلك اللفظة،على فرض وقوعها في كلامهم،هو استخدام اللفظ ليس إلا، و دليلي فضلا عمّا ذكرته من نفي القوم لذلك:قال سيدي عليّ رضي اللّه عنه:(إن الاتحاد لفظ) و لم يقل معنى أو حقيقة،فاعلم تلك الأقوال،و عضّ عليها بالنواجذ،و اجعلها أساسا تحمل عليه كلام القوم.

و انظر قول الشيخ الشعراني:و عندي أن هؤلاء القائلين بالاتحاد كلهم لم يصحّ لهم اتحاد قطّ إلا بالوهم،و انظر كلامهم تجده من أوله إلى آخره لا يبرح من الثنوية،فإنه لا بدّ من مخاطب و مخاطب.

و في كلامه رضي اللّه عنه ما يغني عن التعليق من نفي تلك الاعتقادات المتوهمة،و قولي المتوهمة إنما هو بالنظر للمنكر،فإننا إذا أمعنا النظر في كتابات المعترضين على أقوال الكمّل رضي اللّه عنهم نجدها منصبّة حول معنى غير مقصود بالمرة للقائل،و لو ذكرت للقائل معنى تلك المقولة بتفسير المنكر لها؛لكان من أول المنكرين لها و أشد الناس اعتراضا عليها،فإذن تلك العقائد المعترض عليها ليس لها وجود إلا في عقل المنكر،فإنه اعترض على ما فهمه هو،لا على حقيقة المراد باللفظ.

فإذن الخلاف ليس في المعاني،و إنما هو خلاف نشأ عن استخدام تلك الألفاظ،و دليلي في ذلك ما ذكرته لك من أقوال هؤلاء الأئمة،فخذ تلك القواعد و احكم عليهم بمقتضى قولهم تجدهم جميعا أقرب الخلق إلى اللّه و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و أعرفهم باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.

فإن قلت:فكيف العمل في تلك الأقوال الكثيرة المشحونة باستخدام تلك الألفاظ الموهمة؟!

أقول لك:بعد ما تقدم ذكره من القول إن لم تستطع قبول تلك الأقوال و لم تفهم المعنى الموافق للشرع الذي هو يقينا مراد القائل فتأولها بما يوافق الشرع،فإن الكتب

ص: 40

الفقهية و الشرعية مليئة بالتعارض و الترجيحات و تأويل الأقوال و الأدلة المتعارضة،فقس على ذلك و اللّه هو الموفّق.

و اعلم يا أخي أني لم أذكر لك جميع كلام القوم في نفي الحلول و الاتحاد و وحدة الوجود المتوهمة و إنما ذكرت لك طرفا منه،فإنهم نبّهوا عليه كثيرا فاختر يا أخي لنفسك، وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [الإنسان:30].

و و اللّه لا ينسب القول بالحلول أو غيره من القبائح إلى القوم بعد ما ذكرناه من كلام إلا معاند مكابر،فحمل كلامهم على مرادهم لا غير،و اللّه يقول الحق و هو يهدي السبيل،و السلام.

بحث في ردّ شبه المنكرين على السادة المتحققين:

قال ربنا سبحانه و تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].

قال الكلبي:لا تقل ما ليس لك به علم.

و قال البيضاوي:لا تتبع ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب؛ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [الإسراء:36]:أي كل هذه الأعضاء كان عنه سؤلا.

قال الوالبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهم أجمعين:يسأل اللّه العباد فيما استعملوها، و في هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحلّ،و الاستماع إلى ما يحرم،و إرادة ما لا يجوز،كذا ذكره الواحدي.

و قال ربنا سبحانه و تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا [الأحزاب:69].

قال البيضاوي:فأظهر براءته من مقولهم يعني:مواده و مضمونه،و ذلك أن قارون حرّض امرأة على قذفه بنفسها،فعصمه اللّه تعالى،أو اتهمه ناس بقتل هارون عليه السّلام لما خرج معه إلى الطور،فمات هناك،فحملته الملائكة،و مرّوا بهم حتى رأوه غير مقتول،

ص: 41

و قيل:أحياه اللّه تعالى،فأخبرهم ببراءته،أو قذفوه بعيب في بدنه من مرض أو أدرة لفرط تستّره حياء،فأطلعهم اللّه على أنه بريء،و كان عند اللّه وجيها ذا قرابة و وجاهة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70]،قاصدا إلى الحق، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ [الأحزاب:71]،يوفّقكم للأعمال الصالحات،أو يصلحها بالقبول و الإثابة عليها، وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ،و يجعلها مكفّارة باستقامتكم في القول و العمل، وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ،يعيش في الدنيا حميدا،و في الآخرة سعيدا.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت (1)» رواه البخاري و مسلم.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«من دعا رجلا بالكفر أو قال عدوّ اللّه و ليس كذلك إلا حار:أي رجع عليه (2)»رواه البخاري و مسلم.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قفّى مسلما بشيء يريد به شينه:أي عيبه حبسه اللّه على جسر جهنم حتى يخرج مما قال (3)».

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«من رمى مسلما بشيء يريد شينه به حبسه اللّه على جسر جهنم حتى يخرج مما قال (4)».

و في تفسير البيضاوي قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قفّى مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج (5)».و الرّدغة بسكون الدال و فتحه و الغين المعجمة:الوحل).

ص: 42


1- رواه البخاري(2376/5)،و مسلم(69/1)،و أبو داود(322/3)،و الترمذي(110/4)، و النسائي في الكبرى(394/4).
2- رواه مسلم(69/1)،و البخاري في الأدب المفرد(155/1)،و أحمد(166/5).
3- رواه الطبراني في الكبير(194/20)،و ابن المبارك في الزهد(239/1).
4- رواه أبو داود(270/4)،و أحمد(441/3).
5- رواه أبو داود(305/3)،و أحمد(176/2)،و البيهقي في الكبرى(82/6).

الشديد،و الخبال:صديد أهل النار.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«من أكل برجل مسلم أكلة:أي بأن يغتابه عند عدّوه،أو يسبّه عنده، فيطعمه بسبب ذلك فإن اللّه يطعمه مثلها من جهنم،و من كسا ثوبا برجل مسلم:أي بأن يغتابه أو يسبّه عند عدّوه فيكسوه بسبب ذلك فإن اللّه يكسوه مثله من جهنم،و من قام برجل مسلم مقام سمعه:أي يقول أنه مرائي،و أقواله و أفعاله رياء لأجل عدّوه فإن اللّه تعالى يقوم له مقام سمعة و رياء يوم القيامة (1)».رواه النسائي.

قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إيّاكم و الظن؛فإنّ الظنّ أكذب الحديث،و لا تجسّسوا و لا تنافسوا (2)» رواه البخاري و مسلم.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«حسن الظنّ من حسن العبادة (3)»رواه النسائي و الترمذي و أبو داود:

أي اعتقاد الخير و الصلاح في حق المسلمين عبادة حسنة من جملة العبادات.

قال الشيخ مجد الدين رحمه اللّه تعالى:لا يجوز أن ينكر على القوم ببادي الرأي؛لعلوّ مراقبتهم في الفهم و الكشف،و لم يبلغنا عن أحد منهم أنه أمر بشيء يهدم الدين،و لا نهى أحدا عن الوضوء و لا الصلاة،و لا غيرها من فروض الإسلام و مستحبّاته،إنما يتكلمون بكلام يدقّ عن الأفهام،و كان يقول:قد يبلغ القوم في المقامات و درجات العلوم إلى المقامات المجهولة و العلوم المجهولة التي لم يصرّح بها كتاب و لا سنّة،و لكن أكابر العلماء العالمين قد يردون ذلك إلى الكتاب و السنّة بطريق دقيق لحسن استنباطهم و حسن ظنّهم بالصالحين،و كان يقول:كما أعطى اللّه تعالى الكرامات للأولياء التي هي فرع المعجزات، فلا بدع أن يعطيهم من العبادات ما يعجز عن فهمها فحول العلماء.

و كان شيخ الإسلام المخزومي رحمه اللّه تعالى يقول:لا يجوز لأحد من العلماء).

ص: 43


1- رواه أبو داود(270/4)،و أحمد(229/4).
2- رواه البخاري(1009/3)،و مسلم(1985/4)،و أبو داود(280/4)،و أحمد(245/2).
3- رواه أبو داود(298/4)،و أحمد(304/2)،و ابن حبان(399/2).

الإنكار على الصوفية إلا إن سلك طريقهم،و رأى أفعالهم،و أقوالهم مخالفة للكتاب و السنّة،و إما بالإشاعة عنهم،فلا يجوز الإنكار عليهم،و لا سبّهم،و أطال في ذلك،ثم قال:و بالجملة:فأقل ما يحقّ على المنكر حتى يسوغ له الإنكار على أقوالهم،أو على أفعالهم،أو على أحوالهم أن يعرف سبعين أمرا،ثم بعد ذلك يسوغ له الإنكار منها غوصه في معرفة معجزات الرسل عليهم السلام على اختلاف طبقاتهم،و كرامات الأولياء على اختلاف طبقاتهم،و يؤمن بها و يعتقد أن الأولياء يرثون الأنبياء في جميع معجزاتهم إلا ما استثنى منها.

و منها:اطّلاعه على كتب تفسّر القرآن سلفا و خلفا؛ليعرف أسرار الكتاب و السنّة، و منازع الأئمة المجتهدين،و يعرف التفسير و التأويل و شرائطه،و يتبحّر في معرفة لغات العرب في مجازاتها و استعاداتها حتى يبلغ الغاية.

و منها:كثرة الاطّلاع على مقالات للسلف و الخلف في معنى آيات الصفات و أخبارها،و من أخذ بالظاهر،و من أوّل،و من دليله أرجع من الآخر.

و منها:تبحّره في علم الأصوليين،و معرفة منازع أئمة الكلام.

و منها:و هو أهمها معرفة اصطلاح القوم فيما عبّروا عنه من التجلّي الذاتي و الصوري، و ما هو الذات و ذات الذوات،و معرفة حضرات الأسماء و الصفات،و الفرق بين الحضرات،و الفرق بين الأحدية و الواحدية،و معرفة الظهور و البطون،و الأزل و الأبد، و عالم الغيب و الكون،و الشهادة و الشئون،و عالم الماهيّة و الهويّة،و السكر و المحبّة،و من هو الصّادق في السكر حتى يسامح،و من هو الكاذب حتى يؤاخذ و غير ذلك،فمن لم يعرف مرادهم كيف يحلّ كلامهم،أو ينكر عليهم بما ليس هو من مرادهم انتهى.

و قد شرح الحافظ بن حجر العسقلاني رحمه اللّه تعالى بعض أبيات من تائية الشيخ عمر بن الفارض،و قدّمها إلى الشيخ أبي مدين؛ليكتب عليهم إجازة،فكتب له على ظاهرها:ما أحسن ما قال بعضهم:

سارت مشرقة و سرت مغربا شتّان بين مشرق و مغرب

ص: 44

ثم أرسلها إلى الحافظ،فتنبّه الشيخ لأمر كان عنه غافلا،ثم أذعن لأهل الطريق، و صحب للّه الشيخ أبا مدين حتى مات رحمة اللّه تعالى عليهم أجمعين.

و نقل الإمام القزويني في كتابه«سراج العقول»عن إمام الحرمين:أنه سئل عن كلام الصوفية،فقال:لو قيل لنا:فقولوا ما يقتضي التكفير من كلامهم مما لا يقتضيه لقلنا هذا طمع في غير مطمع؛لأن كلامهم بعيد المدرك و عين المسلك،يغترف من تيار بحر التوحيد،و من لم يحط علما بنهايات الحقائق لم يحصل من دلائل التكفير على وثائق،كما أنشد بعضهم في هذا المعنى:

تركنا البحار الزّاخرات وراءنا فمن أين يدري النّاس أين توجّهنا

و سئل شيخ الإسلام تقي الدين السبكي عن حكم غلاة المبتدعة و أهل الأهواء و المتفوّهة بالكلام على الذات المقدّسة؟فقال:اعلم أيها السائل أن كل من خاف من اللّه عزّ و جلّ استعظم القول بالتكفير لمن يقول لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه؛إذ التكفير أمر هائل عظيم الخطى؛لأن من كفّر شخصا فكأنه أخبر أن عاقبته في الآخرة الخلود في النار أبد الآبدين،و أنه في الدنيا مباح الدم،و المال لا يملك مسلّمة،و لا تجري عليه أحكام المسلمين في حياته و لا بعد مماته،و الخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم،و في الحديث:«لأن يخطئ الإمام في العفو أحبّ إلى اللّه تعالى من أن يخطئ في العقوبة (1)».

ثم أن تلك المسائل التي يفتى فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة و الغموض؛لكثرة سعتها،و اختلاف قرائنها،و تفاوت دعاويها،و الاستقصاء في معرفة الخطإ من سائر صنوف وجهه،و الاطّلاع على حقائق التأويل و شرائطه في أماكنه،و معرفة دلائله في التوحيد و غوامضه إلى غير ذلك مما هو متعذّر على أكابر علماء عصرنا،فضلا عن غيرهم، و إذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقد في عبارة فكيف يحرّرها اعتقاد غيره من عباراته! فما بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرّح بالكفر،و اختاره دينا،و جحد الشهادتين،و خرج).

ص: 45


1- رواه البيهقي في الكبرى(238/8).

عن دين الإسلام،و هذا نادر وقوعه؛فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء و البدع و التسليم للقوم في كل شيء قالوه مما لا يخالف صريح النصوص انتهى.

و ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في«مقدمة الطبقات»قال:أخبرني الشيخ أمين الدين الإمام بجامع«الغمري»بمصر أن شخصا وقع في عبارة موهمة للتكفير،فأفتى علماء مصر بتكفيره،فلما أرادوا قتله قال السلطان:هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟فقالوا:

نعم،الشيخ جلال الدين المحبي أشاج المنهاج،فأرسل السلطان وراءه فحضر،فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان،فقال الشيخ:ما لهذا؟فقالوا:كفر.فقال:ما مستند من أفتى بكفره؟فبادر الشيخ صالح.

و قال:قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين البلقيني في مثل ذلك بالتكفير.

فقال الشيخ جلال الدين المحلي:يا والدي أ ترى أن يقتل رجل مسلم موحد يحبّ اللّه و رسوله بفتوى أبيك؟!حلّوا عنه الحديد.فجرّدوه،فأخذه الشيخ جلال الدين بيده، و خرج و السلطان ينظر فما تجرّأ أحد أن يتبعه.

و كان الشيخ محيي الدين العربي قدّس سرّه يقول كثيرا:ما تهبّ على قلوب العارفين نفحات إلهية،فإن نطقوا بها جهّلهم بها كمّل العارفين،و ردّها عليهم أصحاب الأدلّة من أهل الظاهر،و غاب عنهم أن اللّه سبحانه و تعالى كما أعطى أولياءه من الكرامات التي هي فرع المعجزات فلا بدع أن ينطق ألسنتهم بالعبادات التي تعجز العلماء عن فهمها.

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه اللّه تعالى:و من شكّ في هذا القول فلينظر في كتاب«المشاهد» (1).

أو كتاب«عنقاء مغرب» (2)للشيخ محيي الدين.ه.

ص: 46


1- هو المشاهد القدسية من أعظم كتب الشيخ،و قد حققناه لأول مرة مع شرحه الفخم العظيم للست عجم بنت النفيس البغدادية العامية الأمية،و هو تحت قيد الطبع بدار الكتب العلمية.
2- قد شرحها أكثر من واحد،كالشيخ الداموني،يسر اللّه لنا تحقيقه.

أو كتاب«الشعائر» (1)لسيدي محمد وفا.

أو كتاب«خلع النعلين» (2)لابن قسي.

فإن أكبر العلماء لا يكاد يفهم منه معنى مقصودا لقائل أصلا؛بل خاصّ بمن دخل مع ذلك المتكلم حضرة القدس،فإنه لسان قدسيّ لا يعرفه إلا الملائكة،أو من تجرّد عن هيئة البشرية،أو أصحاب الكشف الصحيح.

و كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول بعد اجتماعه على الشيخ أبي الحسن الشاذلي و تسليمه للقوم:من أعظم الدليل على أن طائفة الصوفية قعدوا على أعظم قواعد الشرع و أساسه ما يقع على أيديهم من الكرامات و الخوارق،و لا يقع شيء قطّ من ذلك لفقيه إلا إن سلك طريقهم كما هو مشاهد.

و كان الشيخ عز الدين قبل ذلك ينكر على القوم و يقول:و هل لنا طريق غير الكتاب و السنة؟فلمّا ذاق مذاقهم و قطع سلسلة الجدل بكراسة الورع صار يمدحهم كل المدح، و لما اجتمع الأولياء و العلماء في وقعة الفرنج بالمنصورة قريبا من ثغر دمياط جلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام و الشيخ مكين الدين الأسمر و الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد و أضرابهم و قد قرأ بعضهم عليهم رسالة القشيري،و صار كل واحد يتكلم،إذ جاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدّس سرّه فقالوا له:نريد أن تسمعنا من معاني هذا الكلام.فقال:أنتم مشايخ الإسلام،و كبراء الزمان،و قد تكلمتم فما بقي لكلام مثلي موضع.فقالوا:لا بدّ من ذلك.فحمد اللّه،و أثنى عليه،و شرع يتكلّم،فصاح الشيخ عز الدين من داخل الخيمة،و خرج ينادي بأعلى صوته:هلمّوا إلى هذا الكلام القريب العهد من اللّه تعالى، رحمة اللّه عليهم أجمعين.

و ذكر الإمام الغزالي في«الإحياء»عن بعض العارفين أنه كان يقول:من لم يكن لهه.

ص: 47


1- و هو شعائر أهل العرفان،تحت قيد الطبع بتحقيقنا.
2- و هو من الكتب المهمة في الحقيقة المحمدية،أتم اللّه لنا تحقيقه،و رزقنا سر العلم و فضله.

نصيب من علم القوم يخاف عليه من سوء الخاتمة و أدنى نصيب منه التصديق به و التسليم لأهله إذا علمت ذلك فأقول و باللّه التوفيق مما نسب المنكرون إلى الشيخ محيي الدين و الشيخ عمر بن الفارض و غيرهما القول بالحلول و الاتّحاد.

قال الشيخ عبد الغني الشامي رحمه اللّه تعالى:و حاشاهم من ذلك؛بل حاشا أدنى مريد سالك في طريق الصوفية الصّادقين إلى يوم القيامة من خطور ذلك في بالهم،أو من إمكانه عندهم،و كيف أمر مستحيل عند المتمسّكين بالعقول من علماء الكلام و غيرهم فما بالك بالذين هم أعلى منهم من المتمسّكين بالإيمان،و الفتح،و الكشف،و الإلهام بعد القيام بحسن المعاملة الشرعية في الظاهر و الباطن من غير بدعة مع الإخلاص،و اليقين، و الزهد،و الورع،و إن أشبهت كلماتهم على غير أهل طريقهم،و فهم منها علماء الإنكار المنكبّون على الدنيا قبائح المفهومات،فإن الأعمال بالنيّات،و لكل امرئ ما نوى،و المرء عدوّ ما جهله:

و كم من عائب قولا صحيحا و أفته من الفهم السقيم

و لعمري:لو يفهم ذلك علماء الظاهر لعذرتهم في أمرهم؛فإنهم يعتقدون كما تعتقد العوامّ من أن اللّه تعالى موجود،و كل مخلوق من مخلوقاته موجود أيضا سبحانه و تعالى، و الوجود عندهم جنس عامّ مشترك بين القديم و بين الحوادث،و إنما يتميّز القديم عن الحوادث بالقدم في ذاته و صفاته،و تتميز الحوادث بالحدوث من العدم في ذواتها و صفاتها و في حال وجودها هي مشاركة للقديم،تعالى في الوجود العام المطلق و هم يعلمون ما ذا يترتب على اعتقادهم هذا؛لأنهم أهل عقول و أفكار،فإذا قيل لهم يلزم على قولكم هذا تركت الحق سبحانه و تعالى من عامّ و خاصّ كبقية الماهيات الحادثة انتحلوا بعقولهم جوابا أسكتوا به خصمهم،و بقوا على اعتقادهم ذلك،و اللّه يعلم المفسد من المصلح،فإن الحلول على الحقّ سبحانه و تعالى في الحوادث يتصور عندهم عقلا،فيحتاجون إلى إقامة الدليل على استحالته و امتناعه،و يتكلّفون في ذلك كما بسط الكلام عليه في كتب علم الكلام، و أما عند المحققين من أهل اللّه تعالى أصحاب الأذواق الوجدانية فلا يتصور الحلول عندهم أصلا،فلا يحتاجون إلى إبطاله؛لعدم تصوره عندهم،و عدم خطوره في بالهم؛فإن وجود

ص: 48

الحق تعالى وجود حقيقيّ ليس بمفهوم لهم أصلا،و إنما عندهم التصديق به على المغيب، و وجود الحوادث أثر من آثار قدرته،و ذلك بالنسبة إلى وجوده تعالى عدم صرف،فكيف لوجود يحلّ في العدم حاشا و كلا!و إذا بطل الحلول بطل الاتحاد بالأولى،و كل الضلالات التي تفهمها علماء الظاهر من كلام المحققين من أهل اللّه تعالى،و يشنّعون بها عليهم بين العوامّ و الجهّال؛لتنقص رتبتهم عندهم،و يحظون بالرفعة في الدنيا،و اللّه يؤتي ملكه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم انتهى كلامه.

و قال الشيخ محيي الدين قدّس سرّه في«عقيدته الصغرى»:تعالى اللّه أن تحلّه الحوادث أو يحلّها.

و قال في«عقيدته الوسطى»:اعلم أن اللّه تعالى واحد بالإجماع،و مقام الواحد يتعالى أن يحلّ فيه شيء،أو يحلّ هو في شيء،أو يتحد بشيء.

و قال في الباب الثالث من«الفتوحات»:اعلم أنه ليس في أحد من اللّه شيء،و لا يجوز ذلك عليه بوجه من الوجوه.

و قال في«باب الأسرار»:لا يجوز لعارف أن يقول:أنا اللّه،و لو بلغ أقصى درجات القرب،و حاشا العارف عن هذا القول حاشاه،إنما يقول:أنا العبد الذليل في المسير و المقيل.

و قال في الباب التاسع و ستين و مائة:القديم لا يكون محلا قطّ للحوادث،و لا يكون حالا في المحدث.

و قال في باب الأسرار:من قال بالحلول فهو معلول؛فإن القول بالحلول مرض لا يزول.

و قال فيه أيضا:الحادث لا يخلو عن الحوادث،و لو حلّ بالحادث القديم لصحّ قول أهل التجسيم،فالقديم لا يحلّ و لا يكون محلا،و من ادّعى الوصل فهو في عين الفصل.

و قال فيه أيضا:اعلم أن العاشق إذا قال:أنا من أهوى و من أهوى أنا فإن ذلك كلام بلسان العشق و المحبة لا بلسان العلم و التحقيق،و لذلك يرجع أحدهم عن هذا القول إذا صحا من سكرته.

ص: 49

و قال في الباب الثاني و التسعين و مائتين:من أعظم دليل على نفي الحلول و الاتحاد الذي يتوهمه بعضهم أن تعلم عقلا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء،و أن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها،و إنما كان القمر مجلى لها،كذلك العبد ليس فيه من خالفه شيء و لا حلّ فيه.

و قال في الباب التاسع و الخمسين و خمسمائة بعد كلام طويل:و هذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق،و لا حلّ فيه الحق؛إذ لو كان عين الحق أو حلّ فيه لما كان تعالى قديما و لا بديعا.

و قال أيضا في الباب الثاني و السبعين و الثلاثمائة بعد كلام طويل:و بالجملة، فالقلوب به هائمة،و العقول فيه حائرة.

ثم قال:و بذلك ظهرت عظمته سبحانه و تعالى.

و قال الشيخ عمر بن الفارض قدّس سرّه في قصيدته نظم السلوك (1):

و كيف و باسم الحقّ ظلّ تخلّقي تكون إذا جيف الضّلال مخيفتي

و ها دحية وافى الأمين نبيّنا بصورته في بدء وحي النبوّة

أ جبريل قل لي كان دحية إذ بدا لمهدى الهدى في صورة بشريّة

و في علمه عن حاضريه مزيّة بماهية المرئي من غير مريّة

يرى ملكا يوحي إليه و غيره يرى رجلا يدّعي إليه بصحبته

ولي من أتمّ الرؤيتين إشارة تنزّه عن رأي الحلول عقيدتي

و في الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر و لم أعد عن حكمي كتاب و سنة

قلت:فكذب و اللّه و افترى من نسب القول بالحلول و الاتحاد إلى الشيخ محيي الدين و الشيخ عمر بن الفارض رضي اللّه تعالى عنهما،و هذه نصوصهما تكذّب هذا المفتري، و اللّه أعلم.ة.

ص: 50


1- انظر:شرح تائية ابن الفارض الكبرى للشيخ القيصري(ص 72)بتحقيقنا،طبع العلمية.

قال الفاضل المحقق ابن حجر في«شرح الهمزية»:و اعلم أن من الكفر الصريح ما حكي عن بعض الكراميّة:أن الولي غير النبي قد يبلغ درجة النبوة.

و عن بعض المتصوفة الجهلة:إن الولاية فوق رتبة النبوة،و أن الولي قد يبلغ حالة يسقط عنه فيها التكليف.

قال الغزالي:و قتل الواحد من هؤلاء خير من قتل مائة كافر؛لأن ضرر أولئك أشدّ في الدين،و ليس من أولئك العالمان العارفان المحققان الوليان الكبيران المحيوي ابن العربي، و السراج ابن الفارض و أتباعهما بحقّ خلافا لمن زلّ فيهم قدمه،و طغى قلمه إلا أن يكون أراد بما قاله الذبّ عن اعتقاد ظواهر عباراتهم المتبادرة عند من لا يحيط باصطلاحهم انتهى.

قال الشيخ عبد الغني الشامي رحمه اللّه تعالى:و أما قول الشيخ الأكبر أنه تعالى أوجد الأشياء و هو عينها فهو مبنيّ عنده على اصطلاحه في معرفة الأشياء و معرفة الحق سبحانه و تعالى؛فإن الأشياء كلها عنده مجرّد تقديرات و تصويرات قائمة به تعالى الذي هو مقدّرها و مصوّرها لا مبنيّ ذلك على اصطلاح غيره من أن الأشياء كلها أعراض و أجسام مستقلة بنفسها في الوجود لها الاستناد العقلي إلى الحق تعالى بالإيجاد؛فإن الوجود في اصطلاح الشيخ الأكبر واحد،و هو:الوجود الحقيقي للّه تعالى حقيقة و لغيره بطريق المجاز الذي هو استعمال الشيء في غير ما هو له،فالأشياء كلها عنده يقال لها:موجودات بطريق المجاز، و الوجود المنسوب إليها نسبة مجازية عدم محض،و إنما الوجود الحقيقي الذي هو مستعمل فيما هو له إنما هو وجود اللّه تعالى،و اصطلاحه هو الذي جاءت به نصوص الكتاب و السنّة،قال اللّه سبحانه و تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص:88]:أي ذاته.

و قال سبحانه و تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ [الرحمن:26،27]:أي ذاته سبحانه و تعالى،و ذاته سبحانه و تعالى هو الوجود الحقيقي الواحد الأحد،الحق المطلق المنزّه عن مشابهة كل شيء،و الأشياء كلها هي الهالكة

ص: 51

الفانية في حدّ ذاتها،و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«كان اللّه و لا شيء معه،و هو الآن على ما عليه كان (1)».

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل (2)».

و الباطل خلاف الحق،و اللّه سبحانه و تعالى هو الحق،و الأشياء كلها هي الباطل،فكل شيء عينه من حيث الوجود القائم به ذلك الشيء،و ذلك الشيء غيره سبحانه و تعالى من حيث الصورة و الشيئية الهالكة الفانية،فصدق حينئذ عند العارف أنه تعالى أوجد الأشياء و هو عينها:أي عين وجودها التي هي موجودة،و اللّه يقول الحق و هو يهدي السبيل انتهى.

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه اللّه تعالى في كتابه«اليواقيت و الجواهر»:

و مما أنكره المتعقّبون على الشيخ بحسب الإشاعة قولهم:أن الشيخ محيي الدين يقول بفساد قول لا إله إلا اللّه،و ذلك كفر.

و الجواب بتقدير صحة ذلك عنه:إن المراد أن الحق سبحانه و تعالى ثابت في الألوهية قبل إثبات المثبت،و من كان ثابتا لا يحتاج إلى إثباتك؛إذ ما ثمة من تثبت ألوهيته من الخلق حتى ينفى،و إنما تعبّد اللّه المؤمن بذلك على سبيل التلاوة؛ليأجره اللّه على ذلك، و حاشا الشيخ أن يصرّح بفساد قول لا إله إلا اللّه هذا لا يقوله عاقل؛لأنها من القرآن العظيم؛فافهم.

و من ذلك دعوى المنكرات الشيخ يقول في كتبه مرارا:لا موجود إلا اللّه.

و الجواب:أن معنى ذلك بتقدير صحته عنه:أنه لا موجود قائم بنفسه إلا هو سبحانه و تعالى و ما سواه قائم بغيره،كما أشار إليه:

(ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل).).

ص: 52


1- رواه البخاري(1166/3)،و الحكيم الترمذي في النوادر(104/4)،و ذكره العجلوني في كشف الخفا(171/2)بنحوه.
2- رواه البخاري(1395/3)،و مسلم(1768/4)،و الترمذي(140/5)،و أحمد(248/2).

و من كان حقيقته كذلك فهو إلى العدم أقرب؛إذ هو وجود مسبوق بعدم،و في حال وجوده متردد بين وجود و عدم لا يخلص لأحد الطرفين،فإن صحّ أن الشيخ قال:لا موجود إلا اللّه،فإن ذلك عند من تلاشت عنده الكائنات حين شهوده الحق سبحانه و تعالى بقلبه كما قال أبو القاسم الجنيد:من شهد الحق لم ير الخلق.

و من ذلك دعوى المنكرات،الشيخ محيي الدين جعل الحق تعالى الخلق واحدا في قوله في بعض نظمه:

فيحمدني و أحمده و يعبدني و أعبده

و الجواب:بتقدير صحته عنه أن معنى يحمدني:يشكرني إذا أطعته كما في قوله:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].

و أمّا قول الشيخ:و يعبدني:أي يطيعني بإجابة دعائي،كما قال تعالى: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [يس:60]:أي لا تطيعوه،و إلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد اللّه تعالى؛ فافهم.

و قد ذكر في الباب السابع و الخمسين و خمسمائة من«الفتوحات المكية»بعد كلام طويل ما نصّه:و هذا يدلّك صريحا على أن العالم ما هو عين الحق؛إذ لو كان عين الحق تعالى ما صحّ كون الحق بديعا انتهى،و اللّه أعلم.

و من ذلك دعوى المنكر بأن الشيخ يقول بقبول إيمان فرعون،و ذلك كذب و افتراء على الشيخ.

فقد صرّح الشيخ في الباب الثاني و الستين من«الفتوحات»:بأنّ فرعون من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين،و الفتوحات من آخر مؤلفاته؛فإنه فرغ منها قبل موته بنحو ثلاث سنين.

قال شيخ الإسلام الخالدي:و الشيخ محيي الدين بتقدير صدور ذلك عنه لم ينفرد به، بل ذهب جمع كثير من السّلف إلى قبول إيمانه؛لما حكى اللّه تعالى عنه أنه قال:آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل،و أنا من المسلمين،و كان ذلك القول آخر عهده بالدنيا.

ص: 53

و قال أبو بكر الباقلاني:قبول إيمانه هو الأقوى من حيث الاستدلال،و لم يرد لنا نصّ صريح أنه مات على كفره انتهى.

و دليل جمهور السلف و الخلف على أنه آمن عند اليأس،و إيمان أهل اليأس لا يقبل، و اللّه أعلم انتهى.

قال الفاضل بن حجر في«الزّواجر»:فإن قلت:قد قال الإمام العارف المحقّق محيي الدين بن العربي في«فتوحاته»:بصحة الإيمان عند الاضطرار،و أن فرعون مؤمن.

قلت:هذا كلام مقرر،و إن كنّا نعتقد جلالة قائله فإن العصمة ليست إلا للأنبياء.

و لقد قال الإمام مالك و غيره:ما من أحد إلا مأخوذ من قوله و مردود عليه إلا صاحب هذا القبر:يعني النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،على أنه قد نقل عن بعض كتب ذلك الإمام أنه قد صرّح فيها بأن فرعون مع هامان و قارون في النار،و إذا اختلف كلام العام فيؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة و يعرض عمّا خالفها انتهى.

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه اللّه تعالى في كتابه«اليواقيت»:و من ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول:بإباحة المكث للجنب في المسجد،فإن صحّ ذلك عن الشيخ فهو موافق فيه لابن عباس و الإمام أحمد بن حنبل،و هو مذهب الإمام المزني و جماعة من التابعين و الفقهاء.

فقول المنكر:إن الشيخ خالف في ذلك الشريعة و أقوال الأئمة المجتهدين مردود.

و من ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول:إن الولي أفضل من الرسول.

و الجواب:أن الشيخ لم يقل ذلك،و إنما قال:اختلف الناس في نبوة النبي و ولايته أيهما أفضل؟و الذي أقول به:إن ولايته أفضل لشرف المتعلق به،و دوامها في الدنيا و الآخرة بخلاف الرسالة؛فإنها تتعلق بالخلق،و تنقضي بانقضاء التكليف انتهى.

و وافقه على ذلك عز الدين بن عبد السلام،فالكلام في رسالة النبي مع ولايته لا في رسالته،و نبوّته مع ولاية غيره؛فافهم.

ص: 54

و بقي مسائل كثيرة نسبت للشيخ،و سيأتي بيان أنها افتراء و كذب على الشيخ،منبوذة في مباحثها،و في المثل السّائر،و يعيا المداري في طريق المخالف،و اللّه أعلم،انتهى ما ذكره في كتاب«اليواقيت و الجواهر».

و قد ذكر رحمه اللّه تعالى بيان افتراء تلك المسائل على الشيخ في مباحثها،فلا نطوّل الكلام بذكرها.

و سئل الإمام النووي عن الشيخ محيي الدين فقال:تلك أمة قد خلت،و لكن الذي عندنا أنه يحرم على كل عاقل أن يسيء الظن بأحد من أولياء اللّه تعالى،و يجب عليه أن يؤوّل أقوالهم و أفعالهم ما دام لم يلحق بدرجتهم،و لا يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق.

و قال رحمه اللّه تعالى في«شرح المهذب»:و إذا أوّل كلامهم فيؤول إلى سبعين وجها، فإن لم يقبل كلامهم تأويلا منها فليرجع على نفسه باللوم،و يقول:يحتمل كلام أخيك المسلم سبعين وجها،و لا تقبل منه تأويلا واحدا ما ذاك إلا تعنّد و تعقّب انتهى.

ثم العجب العجيب و الأمر الغريب ممن تجرأ على خرق إجماع المسلمين،و وقع في حضرة إمام العارفين،و شيخ شيوخ العالمين صاحب القدم من القدم،غوث البريّة،قطب العرب و العجم،من خضعت له الرقاب،و شهدت بسلطنته الأقطاب،بحر العلم اللدنيّ، مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني،روّح اللّه تعالى أروحنا بنفحات روحه، و فتح أقفال قلوبنا بمفاتيح فتوحه،و لا زالت رحمة الرحمن فيّاضة على روحه في كل حين و آن،آمين.

و زعم أن قوله رضي اللّه تعالى عنه و قدّس روحه:قدمي هذا على رقبة كل وليّ للّه، قاله بحظّ نفس و هوى كامن،و حاشاه ثم حاشاه من ذلك؛بل إذا كان كامنا في باطنه يظن أن أصفياء اللّه تعالى مثله منطوون على خبث الضمائر،و متصفون بالصفات الرذائل، نعوذ باللّه العظيم من الخذلان،و سوء الظن بأولياء اللّه أهل العرفان.

و لقد صدق من قال:

و إذا رأى الإنسان نقصا إنّما مرآته تجلي عليه بحاله

ص: 55

فإن من قرّب هذا التقريب و عرف هذا التعريف و مكّن هذا التمكين و صرّف هذا التصريف و خضع له رقاب أكابر الأولياء هذا الخضوع و رجع إليه العارفون باللّه تعالى هذا الرجوع و زفّته العناية هذه الزفات المشعرة بعظيم جلالته و ضرب له الوجود بمعازف السرور عند رؤية طلعته و رقص الكون جميعه طربا لظهور ولايته و حمل بين يديه علم القطبيّة و توّج بتاج الغوثيّ،و ألبس خلعة التصريف العام النافذ في جميع الوجود و مشت أكابر الأولياء من الصدّيقين و البدلاء تحت ركابه بأمر الملك المعبود و اشتهرت في الجود كراماته و جمعه بين علمي الظاهر و الباطن يستحيل أن يكون قال ذلك بحظّ نفس و هوى كامن،و اللّه سبحانه و تعالى يقول في محكم آياته: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:124]،كيف و قد أجمع على فضله و علمه و جلالة قدره الخاص و العام من زمنه إلى هذه الأيام!بل قد ذكر العلماء الأعلام أن كراماته قربت من التواتر بين أهل ملة الإسلام،فيكون صدور هذا القول عنه امتثالا لأمره،و يكون ذلك الأمر تنويها بفضله، و بيانا لعلوّ شأنه،و تعريفا للجاهل بكبر قدره،و إرشادا إلى التعلّق به،و التوسل برفيع جاهه،و غير ذلك من المصالح.

و قد روي في كتاب«مناقبه»من طرق كثيرة بروايات شهيرة عن جماعة من المشايخ الأكابر و العلماء الأفاضل و الأخيار الثقات.

و اشتهر و استفاض حتى في الجهات البعيدة أنه قال في مجلسه و هو على الكرسي يتكلم على الناس:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،و كان في مجلسه حينئذ عامة مشايخ العراق، و روي أنهم كانوا نحوا من خمسين شيخا،

و روي نيفا و خمسين شيخا،منهم:

الشيخ أبو النجيب السهروردي.

و الشيخ قضيب البان الموصلي.

و الشيخ أبو السّعود أحمد بن أبي بكر العطاء.

و غيرهم من المشايخ الأكابر المعدودين.

ص: 56

و روي من طرق كثيرة عن خلائق من الأولياء أنه لم يبق أحد من الأولياء في ذلك الوقت من الحاضرين و الغائبين في جميع آفاق الأرض إلا حنى له رقبته إلا رجلا بأصبهان؛ فإنه لم يفعل،فسلب حاله.

و روي أن الشيخ أبا النجيب السهروردي طأطأ رأسه حتى كاد يبلغ الأرض،و قال:

على رأسي على رأسي على رأسي،قالها ثلاث مرات،و كان من جملة من حنى له رقبته من الغائبين الكبار المشهورين:الشيخ أبو مدين المغربي،و الشيخ عبد الرحيم القناوي، و الشيخ أحمد بن أبي الحسين الرفاعي رضي اللّه عنهم أجمعين.

فأما الشيخ أحمد الرفاعي:فرووا عنه أنه كان جالسا يوما برواقه بأم عبيدة،فمدّ عنقه و قال:على رقبتي،و في رواية أنه قال:و حميد منهم،فسئل عن ذلك،فقال:قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه.

و أما الشيخ أبو مدين المغربي:فرووا عنه أنه حنى رأسه يوما و هو بين أصحابه،و قال:

و أنا منهم اللّهمّ إني أشهدك و أشهد ملائكتك أني سمعت،و أطعت.فسأله أصحابه عن ذلك؟فقال:قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه، فأرّخوا ذلك و هم في المغرب،ثم جاء المسافرون من العراق،و أخبروا أن الشيخ عبد القادر الكيلاني قال ذلك في الوقت الذي أرّخوه.

و أما الشيخ عبد الرحيم القناوي:فرووا عنه أنه مدّ عنقه يوما بقنا،و قال:صدق الصّادق المصدوق.فقيل له:و من هو؟فقال:الشيخ عبد القادر الكيلاني قد قال:قدمي هذا على رقبة كل وليّ للّه،و تواضع له رجال الشرق و المغرب،فأرّخوا ذلك الوقت،ثم جاء الخبر بذلك في ذلك الوقت.

و روي بأسانيد كثيرة من طرق متعددة عن جماعة من كبار المشايخ أنه لم يقل ذلك إلا بأمر.

منهم:الشيخ عدي بن مسافر الأموي قال:إنما وضعت الأولياء كلهم رءوسهم

ص: 57

لمكان الأمر،أ لا ترى الملائكة لم يسجدوا لآدم عليه السّلام إلا لورود الأمر عليهم.

و منهم:و الشيخ أبو سعيد القليوي قال:قالها بأمر لا شكّ فيه،و هي لسان القطبيّة.

و منهم:الشيخ علي الهيتي:لمّا قال الشيخ عبد القادر مقالته تلك صعد إليه فوق الكرسي،و أخذ قدمه،و جعلها على عنقه،و دخل تحت ذيله،فقال له أصحابه:فلم فعلت ذلك؟فقال:لأنه أمر أن يقولها،و أذن له في عزل من أنكرها عليه من الأولياء،فأردت أن أكون أول من سارع إلى الانقياد له.

و منهم:الشيخ أحمد بن أبي الحسن الرفاعي قيل له:هل قال الشيخ عبد القادر:

قدمي هذا على رقبة كل وليّ للّه بأمر أو بلا أمر؟قال:بلى قالها بأمر.

و منهم:الشيخ أبو محمد القاسم قال:لما أمر الشيخ عبد القادر بقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه رأيت الأولياء بالمشرق و المغرب واضعين رءوسهم تواضعا إلا رجلا بأرض العجم فإنه لم يفعل،فتوارى عنه حاله.

و منهم:الشيخ حياة بن قيس الحرّاني قال:قد غشانا زمان مديد في ظلّ حماية سيئات الشيخ عبد القادر الكيلاني و شربنا كئوسا هنيئة من مناهل عرفانه،و لقد كان النفس الصادق يصدر عنه،فيبسط من شعاع نوره في الآفاق استطارة النار،فيقتبس منه الأسرار أصحاب الأحوال على قدر مراتبهم،و لما أتاه الأمر بقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه زاد اللّه جميع الأولياء نورا في قلوبهم،و بركة في علومهم،و علوّا في أحوالهم بسبب وضعهم رءوسهم.

و روي بأسانيد صحيحة متعددة كثيرة عن جماعة من الشيوخ الكبار أنهم أخبروا عنه أنه سيقول مقالته تلك قبل أن يقولها بسنين كثيرة،بعضهم قال ذلك بنحو مائة.

منهم:الشيخ عبد اللّه الجوني روى عنه الشيخ الإمام أبو يعقوب يوسف بن أيوب الهمداني قال:سمعت شيخنا أبا أحمد عبد اللّه بن علي الجوني سنة أربع و ستين و أربعمائة يقول:أشهدت أنه سيولد بأرض العجم مولود،له مظهر عظيم بالكرامات،و قبول تامّ عند الكافة،و يقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،و يندرج الأولياء في وقته تحت

ص: 58

قدمه ذلك الذي يشرق به زمانه،و ينتفع به من رآه.

و منهم:الشيخ تاج العارفين أبو الوفاء قال لمن حضره لما أتى الشيخ عبد القادر لزيارته و هو شابّ:قوموا لوليّ اللّه،و ربما يمشي إليه في وقت خطوات،و كان الشيخ عبد القادر يتكرّر إليه،فلمّا تكرّر منه قوله:قوموا لوليّ اللّه قال له أصحابه في ذلك،فقال لهذا الشاب وقت إذا جاء افتقر إليه فيه الخاص و العام،و كأنّي أراه قائلا ببغداد على رءوس الأشهاد و هو محقّ:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،فتوضع له رقاب الأولياء في عصره؛ إذ هو قطبهم،فمن أدرك منكم ذلك الوقت فليلزم خدمته.

و منهم:الشيخ عقيل المنيحي (1)قدّس سرّه سئل عن القطب في وقته؟فقال:هو في وقتنا هذا بمكة مخفيّ لا يعرفه إلا الأولياء،و سيظهر هنا،و أشار إلى العراق.

و هو شريف يتكلّم على الناس ببغداد،يعرف كراماته الخاص و العام،و هو قطب وقته، يقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،و تضع له الأولياء رقابهم،و لو كنت في زمانه لوضعت له رأسي،ذلك الذي ينفع اللّه به من صدّق بكراماته من سائر الناس.

و منهم:الشيخ على بن وهب البخاري قدّس سرّه قال:إن اللّه تعالى قد نوّر الوجود بظهور رجل اسمه عبد القادر،مظهره في العراق،يقول ببغداد:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،و يقرّ أولياء عصره بفضله.

و منهم:الشيخ حمّاد الدبّاس قدّس سرّه قال الشيخ أبو النجيب عبد القادر السهروردي:كنت عند الشيخ حمّاد بن مسلم الدبّاس ببغداد سنة ثلاث و خمسمائة، و الشيخ عبد القادر يومئذ في صحبته،فجاء،فجلس بين يديه متأدّبا،ثم قام،فسمعت الشيخ حمّاد يقول بعد قيام الشيخ عبد القادر لهذا العجمي:قدم تعلو في وقتها على رقاب الأولياء في ذلك الوقت،و ليؤمرنّ أن يقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،و ليقولنّ،).

ص: 59


1- نسبة إلى منحة من قرى دمشق بالغوطة،و قيل:المنبجي:نسبة على منبج،و انظر:معجم البلدان لياقوت(205/5)،و الطبقات الكبرى للشعراني(117/1)،و الكرامات للنبهاني(153/2).

و لتوضعنّ له رقاب الأولياء في زمانه.

و قد سبق قول الغوث في قصة ابن السقّاء،و مما أخبر به جماعة من المشايخ الكبار أهل الكشف و الأنوار و المعارف و الأسرار قدّس اللّه تعالى أرواحهم عن هيئة الحال،لما قال الشيخ عبد القادر ذلك المقال.

منهم:الشيخ أبو سعيد العز بن أحمد القيلوي قال:لما قال الشيخ عبد القادر:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه تجلّى الحق سبحانه و تعالى على قلبه،و جاءته خلعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على يد طائفة من الملائكة المقرّبين و البهاء بمحضر من الأولياء من تقدّم منهم و من تأخّر،الأحياء بأجسادهم،و الأموات بأرواحهم،و كانت الملائكة و رجال الغيب حافّين بمجلسه،واقفين في الهواء صفوفا حتى انسدّ الأفق بهم،و لم يبق وليّ للّه تعالى في الأرض إلا حنى عنقه.

و منهم:الشيخ بقا بن بطو قدّس سرّه قال:لما قال الشيخ عبد القادر:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه قال الملائكة:صدقت يا عبد اللّه.

و منهم:الشيخ عدي بن مسافر الأموي قدّس سرّه،و الشيخ أحمد الرفاعي قدّس سرّه روى عن الشيخ عدي أنه لما ذكر بين يديه الشيخ عبد القادر قال:بخ بخ،ذلك قطب الأرض،وضع ثلاثمائة وليّ للّه،و سبعمائة غيبي،ما بين جالس في الأرض و مارّ في الهواء، ممتدة أعناقهم له في وقت واحد حين قال:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه.

قال الراوي:فعظم ذلك عندي،ثم بعد مدة أتيت أم عبيدة؛لأزور الشيخ أحمد بن الرفاعي،فذكرت له ما سمعت من الشيخ عدي،قال:صدق الشيخ عدي.

و منهم:الشيخ ماجد،و الشيخ مطر قدّس سرّهما روي عن الشيخ ماجد أنه قال:لما قال الشيخ عبد القادر:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه لم يبق للّه وليّ في الأرض في ذلك الوقت إلا حتى عنقه تواضعا له،و اعترافا بمكانته،و لم يبق ناد من أندية صالحي الجن من جميع الأقطار في الآفاق في ذلك الوقت إلا و فيه ذكر ذلك،و قصدته وفود صالحي الجن من جميع الأقطار مسلّمين عليه،و تائبين على يديه،و ازدحموا في بابه.

ص: 60

قال الراوي:فأتينا إلى الشيخ مطر؛لزيارته و في أنفسنا أعظام ما سمعناه من الشيخ ماجد،فلمّا دخلنا عليه رحّب بنا.

و قال:صدق أخي الشيخ ماجد فيما أخبركم به عن الشيخ عبد القادر.

و منهم:الشيخ مكارم قدّس سرّه قال:أشهدني اللّه عزّ و جلّ أنه لم يبق أحد ممن عقد له الولاية في أقطار الأرض أدناها و أقصاها إلا شاهد علم القطبية محمولا بين يدي الشيخ عبد القادر،و تاج الغوثية على رأسه،و رأى عليه خلعة التصريف النافذ في الوجود و أهله ولاية و عزلا معلمة بطرازي الشريعة و الحقيقة،و سمعته يقول:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه، و وضع رأسه،و ذلل قلبه له في وقت واحد حتى الأبدال العشرة.

قال الراوي:قلت:من هم؟قال:الشيخ بقا بن بطو،و النهر ملكي،و الشيخ أبو سعيد القليوي،و الشيخ علي بن الهيتي،و الشيخ عدي بن مسافر الأموي،و الشيخ موسى الزولي، و الشيخ أحمد الرفاعي،و الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي،و الشيخ محمد بن عبيد البصري، و الشيخ حيّاة بن قيس الحرّاني،و الشيخ أبو مدين المغربي قدّس اللّه تعالى أرواحهم أجمعين.

و منهم:الشيخ خليفة قدّس سرّه،و كان كثير الرؤيا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

روى عنه الشيخ أبو القاسم بن أبي بكر بن أحمد بن أبي السعادات البندنيجي أنه قال:

رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت:يا رسول اللّه،قد قال الشيخ عبد القادر:قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه.قال:صدق الشيخ عبد القادر،كيف لا و هو القطب و أنا أرعاه!.

فهذه نبذة يسيرة مما يتعلق بقول الشيخ عبد القادر قدّس سرّه مقالاته المذكورة،و قد أضربت عن أشياء كثيرة مما يتعلق بذلك و مما يدل على عظمة فضله و جلالة قدره،ضربت و حذفت الأسانيد للاختصار،و لا حاجة إليها أيضا؛لكثرة ما في ذلك من الأشهار،و قد ذكر بعض أهل العلم أن كراماته قربت من التواتر يعني:قرب حصول العلم بوجودها من العلم القطعي الحاصل بكثرة الرواة البالغين حدّ التواتر المعروف؛لكثرة المخبرين عنها.

و بالجملة:فهذا الذي ذكرته من فضله،و إن عظم فهو قطرة من بحر فضائله،أو غبار من رمال ساحله.

ص: 61

و قد روي بالسند الصحيح عن الشيخ أبي الرضا محمد بن أحمد بن داود البغدادي المعروف بالمقيّد قال:كنت كثيرا ما أتوقع من أسئلة عن شيء من صفات القطب، فدخلت أنا و الشيخ أبو الخليل أحمد بن أسعد بن وهب بن علي المقري إلى جامع الرّصافة، فوجدنا فيه الشيخ أبا سعيد القيلوي،و الشيخ على الهيتي،فسألت الشيخ أبا سعيد عن ذلك؟فقال:إلى القطب انتهت رئاسة هذا الأمر في وقته،و عنده تحط رحال جدالة هذا الشأن.

قلت:فمن هو هذا؟قال:هو الشيخ عبد القادر الكيلاني،فلم أتمالك أنا،و ثبت، و وثبوا كلّهم؛لنحضر مجلس الشيخ عبد القادر،و لا تقدّم منا أحد و لا تأخّر و لا تفرّقنا و ما منّا إلا من يشتهي أن يسمع شيئا في هذا المعنى،فوافيناه يتكلم،فلمّا استقر بنا المجلس قطع كلامه،و قال:إني للواصف أن يبلغ وصف القطب و لا مسلك في الحقيقة إلا و له فيه مأخذ مكين،و لا درجة في الولاية إلا و له فيها موطئ ثابت،و لا مقام في النهاية إلا و له فيه قدم راسخ،و لا منازلة في المشاهدة إلا و له منها مشرب هنيء لا يشقى جليسه،و لا يغيب شهوده،و لا يتوارى عن حاله بشر تابع له حدّ ينتهى إليه،و وصف ينحصر فيه، و تكلّف يجب عليه.

ثم أنشد بعد كلام طويل في ذلك من غير ترنّم و لا أغان:

ما في الصبابة منهل مستعذب إلا ولي فيه الألذّ الأطيب

أو في الوصال مكانة مخصوصة إلا و منزلتي أعزّ و أقرب

و هبت لي الأيام رونق صفوها فحلا مناهلها و طاب المشرب

و غدوت مخطوبا لكلّ كريمة لا يهتدي فيها اللبيب و يخطب

أنا من رجال لا يخاف جليسهم ريب الزمان و لا يرى ما يرهب

قوم لهم في كلّ مجد رتبة علويّة و بكلّ جيش موكب

أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها طربا و في العلياء بان أشهب

أضحت جيوش الحبّ تحت مشيئتي طوعا و مهما رمته لا يعزب

ص: 62

أصبحت لا أملا و لا أمنية أرجو و لا موعودة أترقب

ما زلت أرتع في ميادين الرّضا حتّى وهبت مكانة لا توهب

أضحى الزمان كحلة مرقومة تزهو و نحن لها الطراز المذهّب

أفلت شموس الأوّلين و شمسنا أبدا على فلك العلا لا تغرب

ثم قال:كل الطيور تقول و لا تفعل،و البازي يفعل و لا يقول،و لأجل هذا صار أكفّ الملوك سدّته،فقال إليه الشيخ أبو منصور بن المبارك الواعظ المعروف بجرادة.

و أنشد يقول:

بك الشهور تهنّا و المواقيت يا من بألفاظه تغلو اليواقيت

الباز أنت فإن تفخر فلا عجب و سائر النّاس في عيني فواخيت

و أشمّ من قدميك الصدق مجتهدا لأنّه قدم في نعله الصيت

فقام الشيخ علي بن الهيتي و قبّل قدم الشيخ عبد القادر،قال:فكتبنا المجلس عندنا و حفظنا ما وقع فيه.

قال الموصلي:و قد أوّل بعض العلماء قوله قدّس سرّه:

قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه،فقال:المراد بذلك شريعتي و علمي الذي هو شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،كما يقال:القدم على القدم:أي العلم على العلم،و اللّه أعلم.

قال اليافعي في كتابه«نشر المحاسن»:

اعلم وفّقنا اللّه تعالى و إيّاك لفهم الحق و اتّباعه و جعلنا جميعا ممن انتفع به و نفع الغير بانتفاعه أن القوم وردوا بحرا ليس له ساحل،و كل أحد من المنكرين عليهم من ذلك المورد ما حلّ،و بما فيه من جواهر المعارف و الأسرار و الحكم جاهل،و سقوا بكؤوس الوصل راح المحبة التي لم يشمّ ريحها من لم يقض من قتل نفسه بحبّه،فأخذ ينكر عليهم من لم يعرف تلك الجواهر التي لا يعرفها إلا من هو في ذلك البحر ماهر؛و ذلك لجهله بالأسرار التي في تلك المعارف،و الرّاح التي في تلك المغارف.

ص: 63

فإن الشّطح الصادر عنهم منه ما وقع منهم في حال السكر و الغيبة بواردات الأحوال، و السكر سبب مباح يسقط التكليف بالشرع بالشرط المعروف في كتب الفقه،و منه ما صدر منهم على سبيل الحكاية عن اللّه عز و جلّ.

قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في«عوارف المعارف»:

و ما يحكى عن أبي يزيد قوله:(سبحاني ما أعظم شاني)أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن اللّه عز و جلّ.

قال:و هكذا ينبغي أن يعتقد في الحلاج قوله:(أنا الحق) (1).

و ممن قال أن هذا القول صدر عنه في حال السكر الشيخ عبد القادر الكيلاني،و منه ما أمروا به،فصدر عنهم امتثالا للأمر،و يكون ذلك الأمر تنويها بفضلهم،و بيانا لعلوّه.

ص: 64


1- قلت:و قيل لأبي القاسم الجنيد قدّس اللّه روحه:إن أبا يزيد يسرف في الكلام.قال:و ما بلغكم عن إسرافه في كلامه؟قيل يقول:«سبحاني سبحاني ما أعظم شاني». فقال الجنيد:إن الرجل مستهلك في شهود الإجلال،فنطق بما استهلكه؛لذهوله في الحق عن رؤيته إيّاه،فلم يشهد إلا الحق تعالى،فنعته،فنطق به،و لم يكن من علم ما سواه و لا من التعبير عنه ضنّا من الحق به،أ لم تسمعوا مجنون بني عامر لما سئل عن اسم نفسه؟فقال:ليلى،فنطق بنفسه،و لم يكن من شهوده إيّاه فيه،و قيل له:من أنت؟قال:أنا من ليلى و من ليلى أنا.و انظر:روضة الحبور و معدن السرور في مناقب الجنيد و أبي يزيد طيفور(بتحقيقنا). و قال الشيخ أبو النصر السراج رحمه اللّه:و قد قصدت بسطام فسألت جماعة من أهل بيت أبي يزيد عن هذه الحكاية فأنكروا ذلك،و على تقدير صحة ذلك،فنقول:قوله سبحاني سبحاني على معنى الحكاية عن اللّه عز و جلّ أنه يقول:سبحاني سبحاني لأنا لو سمعنا رجل يقول:لا إله إلا أنا فاعبدني،لا يختلج في قلوبنا شيء غير أنا نعلم أنه هو ذا يقرأ القرآن،أو هو يصف اللّه بما وصف به نفسه،و كذلك لو سمعنا دائما أبا يزيد و غيره و هو يقول:سبحاني سبحاني،لم نشك أنه يسبح اللّه و يصفه بما وصف به نفسه. و كذا قال:الشيخ شهاب الدين السهروردي في العوارف:و ما يحكى عن أبي يزيد قوله:سبحاني حاشا للّه أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن اللّه تعالى. قال:و هكذا ينبغي أن يعتقد في الحلاج قوله أنا الحق.و انظر:كتابنا في الإمام الجنيد قدس سره.

شأنهم،و تعريفا للجاهل بكبر قدرهم،و إرشادا إلى التعلّق بهم،و التوسل برفيع جاههم، و غير ذلك من الصالح،و من ذلك قول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدّس سرّه:

«قدمي هذه على رقبة كل وليّ للّه».

و شطحات المشايخ كثيرة جدّا،فكل ما بلغك عن أحد منهم من شطح فاحمله على أحد المحامل المذكورة على حسب ما يليق بحاله تسلم و تغنم إن شاء اللّه تعالى انتهى.

ص: 65

ص: 66

أنوار النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم أسرارها و أنواعها تأليف الشيخ الإمام القطب عبد الحق بن سبعين المرسى الأندلسى (المتوفى سنة 669 ه) إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدى

ص: 67

ص: 68

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

رسالة في أنوار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم

اشارة

قال الشيخ ابن سبعين قدس اللّه سره:

الحمد للّه الذي بنوره يعلم و يعبد،و بحضوره يعرف و يشهد،الذي خلق النيّرات و النجوم المسخرات،و أودع الأرواح سر عهده الأول الأوصل،و ذكرها صورة المفارق للمواد،و جعل القلوب مظاهر ملكه الأكمل،و زينها بالعلوم و العقل المستفاد،و جعل طريقة خليله إبراهيم عليه السّلام بما ظهر من الأنوار لعالم الإنسان،و طريقة حبيبه محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بما بطن من الأسرار،و خصّه بمقام الإحسان فكان ذلك مريدا و كان هذا مرادا،ثم إنه مات و صحفت صحفه كما صحفت صحف موسى،و هذا بالضد توفي صلّى اللّه عليه و سلّم،و عاشت شريعته، و الذي كان مبددا في حياته صلّى اللّه عليه و سلّم اجتمع بعد مماته،و لا تركته العناية حتى جعلت من الرسل من يتبعه و هو عيسى عليه السّلام.

فلمّا أبصرت هذه العناية الكبرى،و حققت أن كل درجة بالنظر إلى درجته هي النعمة الصغرى حتى عظم أمره في الدنيا،و أكبر أمره هي في الأخرى.

و إذا أبصرت من آياته ما أبصرت نبهتك،ثم أتتك بعدها أخرى اجتمعت في نفسي، و نزعت بالجملة إلى حضرة جلالته حتى إني غبت بذلك عن حسي،و أهملت معاشرة جنسي،و اشتدّ بالغلو في صلاته أنسي.

قلت عن غائب عينه إرساله و زاجر أكده إجلاله:

يا أيها الإنسان!و المراد بهذا الجنس و له أقصد بالخطاب و لا أبالي على أي حال كان فإن الحقائق إذا تعينت،و نور اللّه إذا كان مظهره الأفضل هو به على الوجه الأكمل و القدر الأوصل.

قيل فيه بحسب الطاقة:فمن مسلم و من ضده و من عاش و من مبصر و من موف و من مقصّر من ذلك،و من مقتصد،و من مطفف،و من مجتهد.

و قد خرج بنا الكلام إلى غير الذي قصدناه بالقصد الأول،و بالقصد أيضا كان.

ص: 69

فنرجع فنقول:

يا هذا المسلم النور قد استولى و تراكم بالغرض،و زاد حتى غلب الكمية و الكليات بل الخطوط المتوهمة،حتى إنه يفوت ما يقال و ما يتوهم و ما يعلم و يقدر،و لا تلحقه لمبالغة الإعياء،و الناس في تصوره على أنحاء و على مراتب،و بقدر نصيب كل،و عادة اللّه تعالى في عباده أن ما من عليم إلا و فوقه عليم،و ما من حكيم إلا و فوقه من هو منه أحكم، و فوق الكل أحكم الحاكمين العليم الحكيم،ثم انقسم اعتقاد الجهال على أربعة أقسام.

و الذي يرجع إلى حاصل ما يعتقدون و يقولون فيه،أعني في نور النبوة و المقام المحمدي على أنحاء.

فنترك الكلام على المخالف لنا إلى موضوع آخر،و نتكلّم على مراتب أمته صلّى اللّه عليه و سلّم، و خصوصا على المعنى الحاصل المعلوم منهم،من حيث النار هذه و من طالع ظهورها.

فنقول:هم أربع درجات،و بينهما طبقات دون كذا،و عند كذا منها بالنسبة إلى كل واحد،فالذي في الدرجة الأولى هو الذي يقول:أنا أعتذر و أستخرج في ذلك العجائب، و أصرف الأمور إلى مراتبها الأولى.

و الثاني الذي يتلوه في الدرجة الثانية هو القائل:ما هذه إلا مصيبة أو شبهة يثقب فيها مع المخالف لنا في المسألة،لكنه إنا للّه و إنا إليه راجعون.

و الثالث الذي بينهما هو القائل:هذا ينبغي أن يكتم و لا يتكلم به؛فإنه يخاف مما يعود على العوام به.

و الرابع هو الذي يقول:هذه مصيبة أصيب بها عين الإسلام،و يا لها من كائنة ما أصعبها،و كأنها ثانية لنفخة الصعق أو هي أختها،هذه مبطلة،هذه قاصمة الظهر،هذه غير هينة.

و الذي يجد الأسف و لا يعلل هو يمتد في الأولى إلى الثانية،و الذي يضحك و لا يعلم ما أمره في ذلك بالجملة،و كأنه غير معتبر عنده إلا من حيث أنه يقول إذا سمع القول فقط، و ما يشعر النفس بأمر يوهم أو يحرك،و هذا يمتد مع الثانية إلى الثالثة،و الذي يقول هذه

ص: 70

من الشروط،و إذا كان اللّه يفعل هذا بحبيبه فما يفعل بغيره،يفعل ذلك من قبل الموعظة.

و الجميع من ذكر يضحك منهم العلم،و تبكي عليهم المعرفة (1)،و يهملهم التمكين (2)، و يحملهم التحقيق (3).

فاعلم أنت و أهل الدرجات أن نور السموات و الأرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،مظهره و مشكاة مصباحه و وحيه زيتونة زيتها،ثم هو نفسه نور اللّه،و كذا وحيه و معجزاته و آياته،و مجموعة ما قال في ذلك و بعد نور النبوة و اتصافه بها.

و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«اللهم اجعل لي نورا في قلبي و نورا في جسمي و نورا في شعري (4)»، و تتبع جوارحه كلها كذلك.

ثم قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«و اجعلني نورا».

ثم كان صلّى اللّه عليه و سلّم يذكر اللّه في كل زمان فرد،و القرآن من أسمائه النور،و كان يتلوه و عليه أنزل بالملك تارة،و تارة من حيث روعه الداخل،ثم طلب الرفيق الأعلى عند موته،و محل الأنوار و روحه هناك يتنعم،فهذه أنوار معها أنوار،و أنوار بعد أنوار و قبل أنوار،ثم أنوار لا نهاية لها،ثم نور اللّه الذي لا يحد و لا يكيّف،لا يفوته في روحه و عقله و حسه و خياله و جميع مواده الباطنة و الظاهرة،ثم أنوار آيات تلحق بذاته ينبغي أن يقال لا نهاية لأنواره.

ثم إذا نظر إلى مضافها و إلى مشارها بالجملة و إلى جملة ما هو عليه لا ينبغي للعاقل إلا أن يقول: ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة:54].).

ص: 71


1- قال سيدي محمد وفا:المعرفة هي أعلى مراتب العلم الثلاثة؛لاستغناء موصوفها في حصول ما تعلّقت به عن إعمال النظر الصحيح،و هذا هو حق اليقين،و حقيقتها:وجود ينتفي معه و هم مرجوح و ظنّ راجح و الشكّ المتساوي،و غايتها:تعلق العلم بمعلوم ذاتيّ لموصوف مغايرة من عين واحدة الذي لا يستقل غيره بنفسه دونه اه.
2- قال سيدي محمد وفا:التمكين:رسوخ القدم في حضرات الفعل.
3- التحقيق:هو ما يحصل معه القطع الذي يستحيل معه وجود النقيض،و حقيقته:وجدان وجود في كشف يستحيل معه الستر الموجب لتوهم الغيب،و غايته:بلوغ يوجب الوقفة؛لاستحالة توهم مطلوب سيحصل انتهى.
4- رواه الترمذي(482/5).

و بعد هذا كله لو سمعت من المحققين من أمته:ما هي الأنوار؟و إلى كم تنقسم؟و ما المراد بها؟و ما عالمها و كونها؟هي عندهم عوالم الاتصال الثلاث،و الكمال الثاني،و بعد هذا كلامهم فيها.

و في التجليات هو المطلب الأقصى للمباحث،و المتألّه بالأمر الخاص العزيز،و لهم ما هو أعلى،فكيف لسيدهم الذي هو السبب لذلك كله،و هو الصورة المفيدة لذلك،و مما يصلون إليه حتى أنهم يضحكون من الأنوار العقلية التي يشعر بها اصطلاح الحكماء! و كذلك يعللون مراتب المثل المعلقة بعد الطبيعة بالجملة،و أنوار التولد و الاستدلال،و غير ذلك بالكلية،و الأنوار الحادثة في النفوس الجزئية،و كذلك يسخرون بالأنوار المضافة بعد علم الثالوجي (1)،علم الوحدة،و علم أحكام التوحد هناك.

و لهم في الأنوار جملة مقاصد ما هي قبيل من يذكر عندهم،فإن أضعف أنوارهم عواشق الأفضل ممن تقدم.

فاعلم أني قلت ذلك لكي تتنبه.

و أما أنوار المقامات و الأسماء عندهم ثم الأنوار الباطنة و الخلافة الآلية (2)،و نور الإحاطة،و نور التقدير المثالي،و نور التعرض الذي يصحب لصاحبه السكينة،ثم نور اللّه الذي إذا فرض دائرة وضعية كان الحق المحض ذات المقدر الواقف.

فاعلم يا هذا من يكون الضعيف من أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،يجد أن هذا عين المحبوب الأعز عنده،ثم يطلب له بيان حال مجده،إن كان يريد أن يبين ذلك ببرهان فهو صاحبه بالجملة،و إن كان يريد أن يبين البين فهو يتحرك في سلسلة جنونه،و ينوع السخف، و يقسم أشخاص فنونه،و إن كان على جهة أن يقال هذا يقول:و هذا ينطق بكذا،و يروم أن يحمد،فقد قصم ظهر قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فمن أمر من أجله رجال اللّه ألا يرفعوا أصواتهم،فكيف يسمح به أن يتهم أن يدبر بغيرم.

ص: 72


1- أي علم الإلهيات.
2- آليّ أي:إلهي من تجلّي الحق تعالى و لا نهاية للتجلّي فلا نهاية للعلم.

مجده الإلهي؟!أعوذ باللّه من الحرمان،التوبة يا غير خبير!التوبة يا غبي الذات!التوبة يا غافل!التوبة يا غالط!التوبة يا جاهل!التوبة يا ضعيف المجموع!و سلام على من اتبع الهدى.

القول على أنواع أنوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم

اعلم أن أنواره صلّى اللّه عليه و سلّم تختلف باختلاف متعلقاتها و مضافاتها،و من حيث الأقل و الأكثر، و الأشد و الأضعف،هذا بالنظر إلى نوع النوع لا أنها تنقص أو تضعف من حيث أنها أنوار إلا بأمر يلحقها في نفس الأمر.

فمن ذلك:

-نور عزته.

-ثم نور الغاية الإنسانية.

-ثم نور الإدراك.

-ثم نور النبوة.

-ثم نور النشأة.

-ثم نور السابقة.

-ثم نور التشريف.

-ثم نور التدلل.

-ثم نور التركيب.

-ثم نور المولد.

-ثم نور الخلقة.

-ثم نور التربية.

-ثم نور الانتقال.

-ثم نور النهاية.

ص: 73

-ثم نور التضمن.

-ثم نور العادة.

-ثم نور التسخير.

-ثم نور الاتباع.

-ثم نور اللواحق.

-ثم نور الجاه.

-ثم نور الخطابة.

-ثم نور المقايسة.

-ثم نور التفضيل.

-ثم نور الإحاطة.

-ثم نور الحصر.

-ثم نور الكشف.

-ثم نور التزكية.

-ثم نور المكانة الكبرى.

-ثم نور الانفراد.

-ثم نور الذّكر و العلامة.

-ثم نور العلانية.

-ثم نور الخصوصية في أول حاله.

-ثم نور الخير المحض.

-ثم نور اللواء.

-ثم نور العبودية.

ص: 74

فأما النور الأول:و هو نور العزة:فهو نور الشهادة التي تقال مع شهادة اللّه:هذا كشف عن عزته عند اللّه،و منها أيضا في جملة أحكام أمته صلّى اللّه عليه و سلّم فيها يتبع كالتشهد في الصلاة و الآذان.

و أما الثاني:و هو نور الغاية الإنسانية:فهو شأنه الذي كان ليلة الإسراء،فإن الأنبياء خير البشر جاز عليهم في السموات،ثم تركهم و قطع عوالم الملأ.

فهذه نورانية كشف بها أنه وصل الغاية و بلغها ثم وصل إلى محل الكروبيين ثم إلى أكثر ثم إلى آخر العمارة الروحانية و الجسمانية.

و أما النور الثالث:و هو نور الإدراك:فإنه أدراك اللّه و أبصره على أي نوع كان و على أي مذهب إن كانت العلمية أو الأخرى ثم كان يبصر من خلفه صلّى اللّه عليه و سلّم كما كان يبصر من أمامه،و أيضا إدراك الجنة قبل موته.

و أيضا كوشف عن الذي في قبره يعذب،و أيضا كشف له عن الجنة في عرض الحائط.

و أيضا أبصر الملك على صورته التي خلق فيها ثم على أنحاء بعد ذلك هذا نور كشف له عن أعز المدركات كلها.

و أما النور الرابع:و هو نور النبوة:فهو ما له ظهر من الآيات و ما تحدّى به من المعجزات،ثم ما أدرك من النوع الأكمل.هذا كشف له به عن مقام النبوءة و أظهر اللّه به قدره و مكانه.

و أما النور الخامس:و هو نور النشأة:فهو الذي كشف له مكانته و عناية اللّه به و حفظه و ما فعلت الملائكة به و تطهيره و شق بطنه و اتصافه بما يجب و كونه كان يتيما محفوظا حتى إن أمه الأولى حدثت عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه كان يسبح في بطنها و عند ولادته تعنى و بعدها و أمه أعني أم تربيته كذلك كانت تقول إذا أكلت الطعام المختلف فيه لا يشرف لبنها.و جملة الأمر كان مجموع قرائن أحوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

و أما النور السادس:و هو نور السابقة:فكونه في الأول أريد بذلك،فإنه قد أخبر أنه سيد ولد آدم،و كان و كل ذلك عن اللّه،و خبر اللّه لا يتغير،و كذلك علمه لا يتبدل

ص: 75

و أيضا كونه قال:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»فكشف له هذا الطين أنه كان مشتهر ما بين الأنبياء في الأزل قبل الكون و أظهر أنه نبيّ،و هو ممكن الوجود و قبل كونه و هذه أيضا سابقة ثانية،و كذلك اسمه في اللوح إذا أرادت الملائكة ترحم عباد اللّه و تدعو اللّه فيهم لكي يدفع أو يرفع عنهم العذاب النازل-قصدوه و توسلوا له به.

ذكر ذلك ابن شوع و رفعه إلى أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه.

و أما النور السابع:و هو نور التشريف:فهو النور الذي كشف له عن الخصوصية الملكوتية و رسم اسمه مع اسمه في اللوح و كتب بالنور.

و أما النور الثامن:و هو نور التدلل:كشف له عن مقام القرب و هو قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى [النجم:8]لأمر.

و أما النور التاسع:و هو نور التركيب:فهو الذي انكشف له به عن الغاية العظمى في التوحيد فإنه كان إذا فكر في الموجودات ثم في النظام القديم ثم في سر القدر ثم في الأمور العالية كان يغان على قلبه إذا ركب هذه المعلومات العزيزة.

و أما النور العاشر:و هو نور المولد:فإنه كشف له عن سعادة مولده بالبرهان الفلكي الإلهي السماوي فإنه كان له نصبة عجيبة لم يبصر قط في أيام العالم مثلها ثم ظهر يوم مولده في الآفاق مائة معجزة منها خمود نار فارس و انشقاق إيوان كسرى و زلزلة أبداد الهنود.

و أما النور الحادي عشر:و هو نور الخلقة:فكان صلّى اللّه عليه و سلّم يظهر بين عينيه النور الذي لا يخفي على أحد حتى إن من العرب من كان يغنيه في إيمانه عن طلب المعجزة و الآية منه.

و مع ذلك أيضا النور في تبسمه و في جبينه كما حدثت عائشة رضي اللّه عنها.و في موضوعه كله.و لما كلامه و أفعاله و حركاته كل أكوانه و ما ظهر من خلقه،و ما بطن من مجموعة أنوار هذا في أصل وضعه.و كيف،و هو أيضا قد قال اللهم اجعلني نورا بعد ما عدد أجزاء بدنه صلّى اللّه عليه و سلّم و هذا كشف له أنه النور بل نور النور الروحاني و الجسماني.

و أما النور الثاني عشر:و هو نور التربية:فما كشف له عن العناية الحافظة له و العصمة

ص: 76

الإلهية التي لا يشترط فيها العقل و أسباب التكليف و العلامات مثل السحابة التي كانت تظله،و ما ظهر في بنيان البيت و مصارعته لأبى جهل هذه كلها أنوار كاشفة لأمور خارقة للعادة.

و أما النور الثالث عشر:و هو نور الانتقال:فهو النور الذي كان يبصر في عين أبيه و أمه،و ما سمع في ذلك بعد ما حملت به أمه،و كونه صلّى اللّه عليه و سلّم ورث ذلك منهم بعد ولادته صلّى اللّه عليه و سلّم و انتقاله من الظهر الظاهر إلى الظهر الطاهر و حكى أبو الفضل عياض أنه كان كل من تقدم من آبائه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أوقع في الرحم ما أودع اللّه تعالي في ظهره من نطفة المصطفي صلّى اللّه عليه و سلّم يجد الفراغ و الكسل و تختل عليه أحواله كلها حتى جاهه في الناس،هذا بالنظر إلى مكانه الأول و هذا النور كشف له عن نورانية نطفته صلّى اللّه عليه و سلّم.

و أما النور الرابع عشر:و هو نور النهاية:فهو نور اللّه تعالى الذي ختم به النبوة و انتهي الأمر عنده،و صور التكميل بالجملة.و هذا أظهر له صلّى اللّه عليه و سلّم أنه خير الرسل.فإنه نسخ ما ظهر أنه صاحب نهاية الأمور الذي يرجع إليه و الكامل الذي لا يمكن أن يزاد فيه و لا ينقص منه.

و أما النور الخامس عشر:و هو نور التضمن:فهو الذي كشف له به أن الذي كان عليه أسهل و أكمل من الذي سلكه أبوه إبراهيم عليه السّلام فإن هذا كان في أمره كالمختار المحبوب و أبوه كالطالب المجتهد.و قصة انتقال إبراهيم عليه السّلام تعلمك بالحال.

و أما النور السادس عشر:و هو نور التسخير:فهو كشف له صلّى اللّه عليه و سلّم أنه الغاية في السموات و الأرض و أن القمر انشق له و الكواكب سخرت لحفظ نظام ملته و تلك أيضا معجزة ظهرت في مدة ملته صلّى اللّه عليه و سلّم و هي باقية و غفل عنها كثير من الناس و هي الشهب التي ترسل على الشياطين.و ما ذلك إلا بركة كتابة و لأجل موضوعه و كذلك الملائكة من تسخيره و خدمته،فإنها تكتب فضائل أمته صلّى اللّه عليه و سلّم و قاتلت معه صلّى اللّه عليه و سلّم،و إلى الآن أولياء أمته في منادمتهم و مخاطبتهم مشافهة،و كذلك الصور الروحانية كلها.

و هذا نور كشف له أنه المدلل في السموات و الأرض،و في كل العوالم.

ص: 77

و أما النور السابع عشر:و هو نور العادة:فإنه أظهر في أيام الدنيا و أيام العالم و أيام الدين من العدل و صلاح الأحوال و سياسة المنزل و التدبير المحمود،فأظهر له أنه الحكيم الأعظم.

و أما النور الثامن عشر:و هو نور الأتباع:فما ظهر لهم من النصر بالسنان فإنهم استفتحوا بلاد الكفر من بعده صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما فتح اللّه به و ما ظهر على رجال أمته من الكرامات على العلماء من العلوم على أنحائها.

و بالجملة ظهر أن الأمر فيه مع الأنبياء و الرسل هو الأمر فيهم مع علماء و الملل و الدول.

و قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ [البقرة:143] فهي ذلك الآية.

و أما النور التاسع عشر:و هو نور اللواحق:فما بعده من الآيات التي أخبر به و ما أيضا في العالم من العجائب فهي له حتى فضائل أمته فإنها هي فضائله.

فإن قلت:لا تحصر كراماتهم و علومهم،فقد قلت:لا نهاية لمعجزاته صلّى اللّه عليه و سلّم،هو فإنه الأصل في ذلك.و الذي يفيد الكرامة بتبعيته هو الكامل.حتى أن هذا النوع باتباعه يترجح على المعجزة الحاضرة معه،فإن تلك بإزاء تكذيبه و لضرورة المعاند،و هذه من عند اللّه على جهة الإكرام ثم هي أيضا مركبة بزيادة أمر محمود و هذا أظهر له صلّى اللّه عليه و سلّم أصل كل فضل و سعادة و عناية.

و أما النور العشرون:و هو نور الجاه:فهو كشف له أنه واحد اللّه في التخصيص و الشفاعة تدل على ذلك و أشباهها.

و أما النور الحادي و العشرون:و هو نور الخطابة:فكونه كيف له أنه الذي أوتي جوامع الكلم.

و أما النور الثاني و العشرون:و هو النور الذي سميته نور المقايسة:فهو كشف له أنه إذا جمع في الذهن جميع الأنبياء و الرسل في تقديره لفضلهم.

ص: 78

و دليله أنه أعلم الخلق باللّه،و الدرجة التي هناك لا تقاس بما بعدها،و إن تعددت فإن المجموع لا يقوم منه ما يساوى،فإن الذوات لا تتحد،فاعلم.

و أيضا إذا قلنا:إنه أفضل من إبراهيم فالمرتبة أو الدرجة التي يفضله بها أي شيء يقاس بها لا بدّ لها من تنظير تنظر معها،ثم سلمنا أنه أرفع الأنبياء منزلة في الجنة،و الكل دونه فلا ينفع ما عظم و اجتمع،فإنه مع ما هم فيه ينظر إليهم من تحت.

فاعلم ذلك و لا تقس الأمر فيه بالمحسوس،فتقول:هو صاحب ألف درهم في التمثيل، و هم من مجموع الكل منهم،و إن كان لكل واحد منهم مائة جملة.

قيل:ما الأمر الذي نحن فيه هذا يشابهه،فإنك هناك تقيس الأمر بقدره و هي درجة عند اللّه،فاعلم.

و أما النور الثالث و العشرون:و هو نور التفضيل:فهو يكشف له صلّى اللّه عليه و سلّم على قدره بالنظر إلى الرسل عليهم السلام،و مقر له بأنه سيد ولد آدم عليه السّلام.

و قول اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ،فنحن في الأمم مثله هو في الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

و أما النور الرابع و العشرون:و هو نور الإحاطة:فهو يكشف له أنه عين المعنى المجموع الذي إليه تصل العناية العلمية و العملية،و مع كل محمود محترم يشار إليه فهو الذي أحاط بها،و جميع ما تفرّق في الأنبياء اجتمع به و له و لأمته و في ملته صلّى اللّه عليه و سلّم.

و أما النور الخامس و العشرون:و هو نور الحصر:فهو النور الذي يكشف له عن الخواص عن المراتب و عن المنامات حتى عن أقصر ما يمكن.

فإذا قدرنا أنه نالها لا يجد أحد بعده ما يطلب مثل ما تقول يتيمة الدهر عند الملك لا يملكها أحد معه كذلك القول فيه،فله الوسيلة و الدرجة الرفيعة،فهذا هو الحصر فإنه الذي ملك الأوفى من الكل.

و أما النور السادس و العشرون:و هو نور العلامة و الدلالة:فهو الذي كشف له صلّى اللّه عليه و سلّم صورة منتظرة و معتبرة،فإن الكتب نطقت به،و كذلك الصنائع العلمية كلها حتى الكهانة.

ص: 79

و من علاماته أيضا صلّى اللّه عليه و سلّم ما ظهر عليه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلّى اللّه عليه و سلّم و ما كان قط لأحد؛ثم علامات صدقه المتأخرة.

و هذا يكشف له أنه كذلك وحده.

و مما ينبغي أن يقال لأهل الكتاب:هذا نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم،قد أخبرنا عن أمور قد ظهرت بعده، حتى إن من بعض أتباعه لو تحدّى بها لم يعلم حدود رسوله وجد الصواب في قطع الخصم و أنتم ما الذي أخبركم به هذه أنواره.

و أما النور السابع و العشرون:و هو نور الخصوصية:فهو الذي يكشف له أنه لا مقام أمامه و لأمر ما بعده و السعادة الإلهية فإنه نال ما منعه الغير في السعادة.

و أما النور الثامن و العشرون:و هو نور الخير المحض:فهو الذي يكشف له عن كمال ما ظهر منه و ما بطن له،فإنه في نومه معصوم الخيال،و في ذلك العلوم،و في قيامه و يقظته لا ينطق عن الهوى،و في عقله فلم تغلب قط شهوته عقله:

فإن علم الكتاب و الفضائل على ما ينبغي،و علم إذا أفرط في ذلك حتى قال اللّه تعالى:

وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]،قيل:من السّنّة.

و أما النور التاسع و العشرون:فهو نور اللواء:و هو النور الذي يكشف له أنه ينشر مجده في القيامة.

و أما النور الثلاثون:و هو نور الانفراد:فهو الذي يكشف أنه صلّى اللّه عليه و سلّم خبر متبوع.

قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ [آل عمران:110]فمتبوعها خير متبوع.

و أما النور الواحد و الثلاثون:و هو نور العبودية:فهو يكشف له عن الإضافة الخاصة التي هي نفس المنعم فقط.

قال اللّه تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1].

ص: 80

و أما النور الثاني و الثلاثون:و هو نور التزكية:فهو يكشف له كونه صلّى اللّه عليه و سلّم حجة اللّه على العالمين.

و أما النور الثالث و الثلاثون:و هو نور المكانة الكبرى:فهو الذي يكشف له عن جلاله صلّى اللّه عليه و سلّم في التكميل و في التحديد و في التتميم،و عوالم غير هذه و معنى غير هذا كله.

و أيضا كون بعض أمته يتجلّى للّه خاصة و للناس عامة،و هذه مرتبة أعلى مما ذكر،و بهذا يكشف له صلّى اللّه عليه و سلّم عن أمر ما عند العقول منه ما تفرض مقدمة،و لا تضع قضية،و لا تنقل مخاطبة صناعية و هنا يجب الإمساك عليه فاعلم ذلك كله،و كيف كشف له حتى إن أمورا قلّ وجودها في الملائكة،فكيف في غيرهم!و هذا كشف لنا أنه في عوالم غير هذه،و بقى في ذلك.

قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107].

فاعلم و لا تقل يا من هو من أهله إلا أنه هو النور المحض،و له ما لا عين رأت و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر.

كملت و الحمد للّه رب العالمين

ص: 81

شرح أنوار الأنوار المحمدية

النور الأول

و هو نور العزة:

فهو نور الشهادة التي تقال مع شهادة اللّه:هذا كشف عن عزته عند اللّه.

و منها أيضا في جملة أحكام أمته صلّى اللّه عليه و سلّم فيها يتبع كالتشهد في الصلاة و الأذان.

*قلت:و عزّة اللّه بعزته في قوله: وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ [المنافقون:8].

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ بتيسير أسباب العزّة،و هي:الاستقامة المحمدية الأزلية.

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ فقد ألقى اللّه عليه أستار العزة الإلهية.

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ :أي الامتناع و جلالة القدر.

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ :أي العزيز،و معناه:الذي لا نظير له في خلق اللّه تعالى.

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ :أي له روح العزة؛لأنه مظهر كمالات العزيز الحكيم، و لرسوله الذي هو القلب لا مرسل إلى القوى،كالسلطان إلى الجنة،و لا بدّ للخليفة من العزّة الذاتية و الإضافية.

وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ :أي و للمؤمنين الذين أعزهم اللّه بعزة نفسه و بعزة رسوله،فإنهم حزب اللّه الغالبون،و إنهم الجند المنصورون،فلهم الفعل الذي هو عين العزة،و لأعدائهم الانفعال الذي هو عين الذلة،فالمؤمنون في درجة الذكورة و إن كانوا إناثا،و المنافقون و الكافرون في درجة الأنوثة و إن كانوا ذكروا،فعليك بالتشبه بالذكور حتى تكون مذكرا حقيقيّا.

و قال الشيخ الأكبر في كتاب«التجليات»في الكلام على تجلي العزة ما نصه:

ما لك و للحق تعالى أية مناسبة بينك و بينه،و في أي وجه تجتمع،اترك الحق للحق،فلا يعرف الحق إلا الحق،يقول الحق:و عزة الحق لا عرفت نفسك حتى أجليك لك،و أشهدك إياك،فكيف تعرفني،تأدب فما هلك امرؤ عرف قدره،و اقتد بالمهتدين من عباده انتهى.

و قال فيه أيضا:في تجلي بأي عين تراه من زعم أنه يدركه على الحقيقة فقد جهل،

ص: 82

و إنما يدركه المحدث من حيث نسبته إليه،كما علمه من حيث نسبته إليه.

و قال الشيخ صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي،تلميذ الشيخ الأكبر و ربيبه،في رسالة له سمّاها«مفتاح الغيب»ما نصه:

و لما كان الحق تعالى من حيث حقيقته في حجاب عزه لا نسبة بينه و بين ما ستراه، كما سبق التنبيه عليه،كان الخوض فيه من هذا الوجه،و التشوق إلى طلبه تضييعا للوقت، و طلبا لما لا يمكن تحصيله،و لا الظفر به إلا بوجه جلي،و هو أن وراء ما تعيّن به أمر به ظهر كل متعين لذلك.

قال سبحانه بلسان الرحمة و الإرشاد: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران:30]،فمن رأفته أن اختار راحتهم،و حذرهم عن السعي في طلب ما لا يحصل،لكن لهذا الوجود الحق من حيث مرتبته عروض و ظهور في نسب علمه التي هي الممكنات،و يتبع ذلك العروض و الظهور أحكام و تفاصيل و آثار بها تتعلق المعرفة التفصيلية،و فيها و منها يفهم الكلام،و أما ما وراء ذلك فلا لسان له،و لا خطاب يفصله، بل الإعراب عنه يزده إعجاما،و الإفصاح إبهاما على ما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى.انتهى منه بلفظه.

و مثله للعارف باللّه الجامي قدّس سره في شرحه لنقش الفصوص الذي سمّاه نقض النصوص فراجعه.

و في التعريفات للسيد الشريف الجرجاني ما نصه:

حجاب العزة هو العمى و الحيرة؛إذ لا تأثير للإدراكات الكثيفة في كنه الذات،فعدم نفوذها فيه حجاب لا يرتفع في حق الغير أبدا انتهى.

و في كتاب«اللمع الأفقية»و هو كتاب التراجم للشيخ الأكبر في ترجمة المنة ما نصه:

حجاب العزة لا يرفع،و لا يمكن أن يرفع،و آخر حجاب يرفع رداء الكبرياء عن وجهه في جنة عدن،كما جاء الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

و قال القطب سيدي عبد الكريم الجيلي في كمالاته في الكلام على اسمه تعالى(الواسع)

ص: 83

ما نصه:و الإنسان الكامل و لو عرف أنه هو اللّه،و تحقّق بما تحقق به من الأسماء و الصفات، فإنه لا يبلغ غاية الكنه الذاتي،و لا يستوفيه بوجه من الوجوه.

و لهذا قال الصديق الأكبر:العجز عن الإدراك إدراك.

و قال سيد المقربين،و خاتم المرسلين:«لا أحصي ثناء عليك (1)».

و قال تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]يعني المقربين و الكمّل، المحققين من الأنبياء و المرسلين،و من دونهم من الأولياء و الصديقين،و سائر المؤمنين و الكافرين جميعا ما قدروا اللّه حق قدره،بل هو فوق ما عرفوه،و قدره وراء ما قدروه فافهم.انتهى منه بلفظه.

و قال الشيخ الأكبر في شرحه لترجمان الأشواق:

كل من الخلق واقف خلف حجاب العزة الأحمى،و عند هذا الحجاب تنتهي علوم العالمين،و معرفة العارفين،و لا يصح لأحد أن يتعدّى هذا الحجاب و لو كان من أكابر الأحباب.

و قال سيدي علي بن وفا رحمه اللّه:جلّت ذات الحق تعالى أن تدخل تحت إحاطة علم أو إدراك انتهى.

قلت:و ذكروا أن الحقيقة المحمدية من ورائها حجاب العزة،و هو حجاب الكبرياء و العظمة الذي لا ينخرق لأحد ثمة،و حينئذ فهما نوران حاجبان للخلق عن رؤية تجليات الحق:نور العزة الذي هو نور الكبرياء و العظمة،و نور الحقيقة المحمدية و هو الثاني.

و الحقيقة أيضا دونها حجب الأنوار،فلا مطمع لأحد في الوصول إليها،و لا في تخطي الحجب المشرفة عليها،و عليه فتجليات الحق تعالى له صلّى اللّه عليه و سلّم كلها من وراء حجاب الكبرياء و العظمة،الذي هو وصف من أوصاف ذاته المعظمة.).

ص: 84


1- رواه مسلم(352/1).

النور الثاني

و هو نور الغاية الإنسانية:

فهو شأنه الذي كان ليلة الإسراء،فإن الأنبياء خير البشر جاز عليهم في السموات،ثم تركهم و قطع عوالم الملأ.

فهذه نورانية كشف بها أنه وصل الغاية و بلغها،ثم وصل إلى محل الكروبيين،ثم إلى أكثر ثم إلى آخر العمارة الروحانية و الجسمانية.

*قلت:قال الشيخ جعفر الكتناني رضي اللّه عنه:

قال الشيخ الأكبر في الفتوحات في الباب الثامن و التسعين و مائة في الفصل السابع و الثلاثين ما نصه:

لما أراد اللّه تعالى كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه،و أعطاها جميع حقائق العالم،و تجلّى لها في الأسماء كلها،فحازت الصورة الإلهية و الصورة الكونية،و جعلهما روحا للعالم،و جعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبر له،فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم،كما أنه إذا فارق منه ما فارق كان فراقه لذلك الصنف من العالم كالخدر لبعض الجوارح من الجسم فتتعطل تلك الجارحة؛لكون الروح الحساس النامي فارقها كما تتعطل الدنيا بمفارقة الإنسان،فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه،فلما كان له هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته،فصحّت له الخلافة و تدبير العالم و تفصيله انتهى.

و منها:إنه مخلوق من ذات اللّه بلا واسطة،كما في الحديث الذي يذكره أرباب الكشف و هو:«أنا من اللّه و المؤمنين مني (1)»و هذا لم يكن لغيره.

و في حق سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي:عجائب ملكنا و ملكوتنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لتلك الآيات

ص: 85


1- ذكره العجلوني في كشف الخفا(237/1).

اَلْبَصِيرُ [الإسراء:1]بها.

فالضمير في(إنّه)يعود عليه صلّى اللّه عليه و سلّم كما هو المتبادر من الآية.

و ذكره الشيخ الأكبر في«فتوحاته»فقال:إنه أسري به فرأى الآيات،و سمع صريف الأقلام،فكان يرى الآيات و يسمع فيها ما حظه السماع،و هو الصوت انتهى.

و قال في حقّه أيضا: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم:18]يعني الآية الكبرى و هي حقيقته عليه السّلام؛إذ لم يخلق اللّه آية هي أكبر منها و لا أفخر و لا أعجب،كيف و هو أول المخلوقات،و لأجلها و منها تفرعت الكائنات.

و قيل:معناه الآيات العظام:أي الآيات التي هي أكبر الآيات و أعظمها و أجلها،دفعا لما يتوهم من أنه إنما اطلع على الآيات الصغار،و كيف و هو أفضل الخلق و أكرمهم على اللّه تعالى،فالمناسب لقدره كبار الآيات لا صغارها،مما لم يكشف لأحد سواه صلّى اللّه عليه و سلّم.

فإنه لما أسري به أتته ملائكة السماوات فما فوقها خاضعة طائعة،و أظهر الكل الانقياد له و الدخول تحت حكمه و ولايته،و جاءت لدعوته الأشجار و الأحجار و الحيوانات العجم،و كلمته بلسانها و سجدت له،و انقادت لأمره.

أسرى به ليلا من المسجد الحرام الأدنى،و عرج به إلى السماوات،و زاد به إلى مقام قاب قوسين أو أدنى،فأوحى إلى عبده ما أوحى،و كلّمه كفاحا تكليما،و أمدّه من العلوم اللدنية و الكونية بما لا يخطر ببال أحد،و لا هو حاصل في أمنيته،و تممها بالقطرة التي قطرت على لسانه ليلة الإسراء من بحر العلم الأزلي،و بيده الكريمة التي وضعها بين كتفيه تتميما.

و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و الترمذي في التفسير في سورة(ص)،و اللفظ له و لأحمد و المروزي في كتاب«الصلاة»عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«آتاني الليلة ربي»،و في رواية أحمد:«أتاني ربّي عزّ و جلّ اللّيلة في أحسن صورة-أحسبه يعني في المنام-قال كذا في الحديث و في رواية أحمد-أحسبه يعني في النّوم-فقال:يا محمّد هل تدري فيم يختصم الملأ؟قال:قلت:لا».

ص: 86

قال النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي-أو قال نحري -فعلمت ما في السّماوات و ما في الأرض،ثمّ قال:يا محمّد،هل تدري فيم يختصم الملأ؟قال:قلت:نعم (1)».الحديث.

و قد أخرجه الترمذي (2)من حديث سلمة بن شبيب و عبد بن حميد قال:حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس به ثم قال:قال أبو عيسى:يعني نفسه،و قد ذكروا بين أبي قلابة و بين ابن عباس في هذا الحديث رجلا.

ثم أخرجه ثانيا من حديث محمد بن بشار،حدّثنا معاذ بن هشام يعني الدستوائي، حدّثني أبي عن قتادة،عن أبي قلابة،عن خالد بن اللجلاج،عن ابن عباس،عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«آتاني ربي في أحسن صورة فقال:يا محمد قلت لبيك ربي و سعديك قال:فيم يختصم الملأ؟قلت:ربي لا أدري فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما بين المشرق و المغرب... (3)»الحديث.

و قال الترمذي فيه:هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قال:و في الباب عن معاذ بن جبل و عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،ثم أخرج ثالثا من حديث محمد بن بشار:حدّثنا معاذ بن هانئ،حدّثنا أبو هانئ اليشكوري،حدّثنا جهضم بن عبد اللّه عن يحيي بن أبي كثير،عن زيد بن سلام،عن أبي سلام:أي و هو منظور الحبشي،عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك السكسكي،عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال:احتبس عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات غداة عن صلاة الصبح،حتى كدنا نتراءى عين الشمس،فخرج سريعا فثوب بالصلاة،فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و تجوز في صلاته،فلما سلم دعا بصوته،قال لنا:على مصافكم كما أنتم،ثم انفتل إلينا ثم قال:أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة،إني قمت من الليل،فتوضأت و صليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى انشغلت،فإذا أنا بربي تبارك و تعالى في أحسن صورة،فقال:يا).

ص: 87


1- رواه أحمد(368/1).
2- رواه الترمذي(366/5).
3- رواه الترمذي(367/5).

محمد،قلت:لبيك رب،قال:فيم يختصم الملأ؟قلت:لا أدري،قالها:ثلاثا،قال:فرأيته، وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي،فتجلّي:أي انكشف و ظهر،و بدا لي كل شيء،يعني من العوالم العلوية و السفلية مطلقا،كما هو ظاهره و عرفت:أي عرفته عيانا-كما قاله ابن حجر الهيتمي في شرح المشكاة-فقال:يا محمد،قلت:لبيك ربي، قال:«فيم يختصم الملأ،قلت:في الكفارات... (1)»الحديث.

ثم قال:قال أبو عيسى:هذا حديث حسن صحيح،سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال:هذا حديث حسن صحيح،و قال:هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر،قال:حدّثنا خالد بن اللجلاج،حدّثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم...فذكر الحديث.

و هذا غير محفوظ هكذا،ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

و روى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش،عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و هذا أصح،و عبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى.

قلت:حديث ابن عباس من طريق أيوب عن أبي قلابة أخرجه أيضا أحمد في مسنده من روايته عن عبد الرزاق،عن معمر،عن أيوب به.

و من طريق قتادة عن أبي قلابة أخرجه أيضا أبو يعلى في مسنده من رواية هشام الدستوائي عنه.

و قد ذكر أحمد بن حنبل أن قتادة أخطأ فيه،و أخرجه من وجه آخر عن ابن عباس، رواه ابن جرير الطبري في تفسيره،و فيه سياق آخر و زيادة غريبة فقال:حدّثنا أحمد بن عيسى التميمي،حدّثنا سليمان بن عمر بن سيار،حدّثني أبي عن سعيد بن زربي،عن عمر بن سليمان،عن عطاء،عن ابن عباس قال:).

ص: 88


1- رواه الترمذي(368/5).

قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«رأيت ربي في أحسن صورة،فقال لي:يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ؟فقلت:لا يا رب،فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي،فعلمت ما في السماوات و الأرض،فقلت:يا رب في الدرجات و الكفارات،و نقل الأقدام إلى الجماعات،و انتظار الصلاة بعد الصلاة،فقلت:يا رب،إنك اتخذت إبراهيم خليلا، و كلمات موسى تكليما،و فعلت و فعلت،فقال:أ لم نشرح لك صدرك،أ لم أضع عنك وزرك،أ لم أفعل بك،أ لم أفعل؟قال:فأفضي إليّ بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها،قال:

فذلك قوله في كتابه: ثُمَّ دَنا إلى قوله: ما رَأى [النجم:8:11]،فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي (1)».

أورده ابن كثير في تفسيره و قال:إسناده ضعيف،و السيوطي في الدر المنثور.

و حديث معاذ أخرجه أيضا من طريق جهضم بن عبد اللّه بالسند السابق أحمد في مسنده،و ذلك بنحو من رواية الترمذي هذه،و فيه أيضا:«فتجلى لي كل شيء و عرفت»،و من عنده أورده ابن كثير في تفسيره.

و قال عقبه:هو حديث المنام المشهور،و من جعله يقظة فقد غلط،و هو في السنن من طرق،قال:و هذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد اللّه اليمامي به،و قال:حسن صحيح انتهى.

قلت:و بكون الرؤية هنا منامية يرتفع إشكال قوله:«في أحسن صورة»؛لأن الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلا،و المتشكل بغير شكله،على أن الصوفية رضوان اللّه عليهم ذكروا أن الحق تعالى يتجلّى لخلقه على طريق التنزل منهم إليهم في الصور كلها من غير حلول،و لا كيفية،و لا تغير عما هو عليه في ذاته العلية من التنزيه،و عدم المثلية، مستدلين على ذلك زيادة على ما كوشفوا به منه بأدلة نقلية.

و في المرقاة لعلي القاري الحنفي قال:سمعت شيخنا الشيخ عطية السلمي ناقلا عن شيخه أبي الحسن البكري أن للّه تعالى تجليات صورية مع تنزه ذاته الأحدية عن المثلية،).

ص: 89


1- ذكره ابن كثير في التفسير(252/4).

قال:و بهذا يندفع كثير من المتشابهات القرآنية و الحديثية انتهى.

و حينئذ فما ورد في الكتاب أو السّنة من التنزيه مصروف إلى الذات الهوية،و ما ورد فيهما من التشبيه مصروف إلى الصور التي يقع التجلّي فيها،و اللّه أعلم.

و قد أخرج حديث معاذ المذكور محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة،و ابن خزيمة،و الحاكم في صحيحيهما،و الروياني،و الطبراني في الكبير،و ابن مردويه، و الدار قطني،و ابن عدي،و غيرهم.

و أفاد غير واحد من الحفاظ أنه حديث قويّ صحيح،و حديث عبد الرحمن بن عائش بالياء و بالهمز،و يقال له:عياش،أخرجه جماعة ممن نذكره قريبا.

و أخرجه أيضا من غيرهم محمد بن نصر في كتاب«الصلاة»،و الطبراني في السّنة، و الحكيم الترمذي في النوادر،و أفاد في«الإصابة»في ترجمة عبد الرحمن بن عائش هذا أن رواية الوليد ابن مسلم بالتصريح بسماع ابن عائش من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،أخرجها ابن خزيمة، و الدارمي،و البغوي،و ابن السكن،و أبو نعيم،من طرق إليه أعني إلى الوليد،و أنه لم ينفرد بالتصريح المذكور،بل تابعه فيه حماد بن مالك الأشجعي،و الوليد بن مزيد البيروتي، و عمارة بن بشر،و غيرهم،عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر،أخرج رواية الأول و هو حماد:البغوي و ابن خزيمة من طريقه عن جابر.

و رواية الثاني و هو ابن مزيد:الحاكم،و ابن منده،و البيهقي من طريق العباس ابنه عنه عن ابن جابر و الأوزاعى.

و رواية الثالث و هو عمارة:الدار قطني في كتاب الرؤية من طريقه عن ابن جابر.

قلت:و في الجمع في مسند عبد الرحمن بن عايش الحضرمي قال ابن عساكر:له حديث واحد عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي،قال:«صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات غداة فقال قائل:ما رأيت أسفر وجها منك الغداة،فقال:ما لي و قد رأيت ربي الليلة في أحسن صورة،فقال لي:يا محمد فيم يختصم الملأ؟قلت:لا أعلم،فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي،فعلمت ما في السماوات و الأرض،ثم تلا: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]الحديث (1)».

ص: 90

قلت:و في الجمع في مسند عبد الرحمن بن عايش الحضرمي قال ابن عساكر:له حديث واحد عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي،قال:«صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات غداة فقال قائل:ما رأيت أسفر وجها منك الغداة،فقال:ما لي و قد رأيت ربي الليلة في أحسن صورة،فقال لي:يا محمد فيم يختصم الملأ؟قلت:لا أعلم،فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي،فعلمت ما في السماوات و الأرض،ثم تلا: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]الحديث (1)».

رواه ابن منده و البغوي و البيهقي في السنن و ابن عساكر انتهى.

و أخرج الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة محمد بن المبارك الصوري من طريق عبد اللّه الدارمي عنه عن الوليد،عن ابن جابر،عن خالد بن اللجلاج،سمعت عبد الرحمن بن عايش،سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«رأيت ربي في أحسن صورة،قال:فيم يختصم الملأ قلت:أنت أعلم يا رب،فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء و ما في الأرض،و تلا: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ انتهى.

و أخرج البيهقي في كتاب«الأسماء و الصفات»في باب ما ذكر في الصورة من طريق الوليد بن مزيد البيروتي،قال:حدّثنا ابن جابر قال:و حدثنا الأوزاعي أيضا قالا:حدّثنا خالد بن اللجلاج،قال:سمعت عبد الرحمن بن عياش الحضرمي يقول:«صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات غداة فقال له قائل:ما رأيتك أسفر وجها منك الغداة،فقال:ما لي و قد تبدا لي ربي في أحسن صورة،فقال:فيم يختصم الملأ يا محمد؟قال:قلت:أنت أعلم أي رب، قال:فيم يختصم الملأ يا محمد؟قلت:أنت أعلم أي رب،فوضع كفه بين كتفي،فوجدت بردها بين ثديي،فعلمت ما في السماء و الأرض،و تلا هذه الآية: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].

قال:فيما يختصم الملأ يا محمد؟قلت:في الكفارات رب..الحديث (2)».

و أفاد في الإصابة أيضا رواية بشر بن بكر التي أشار إليها الترمذي،و هي التي لم يقع فيها تصريح بالسماع،أخرجها الهيثم بن كليب في مسنده،و ابن خزيمة،و الدار قطني من طريقه عن ابن جابر،عن خالد بن اللجلاج،سمعت عبد الرحمن بن عايش يقول:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.ه.

ص: 91


1- رواه الطبري في التفسير(247/7).
2- تقدم تخريجه.

قلت:و في المشكاة عن عبد الرحمن بن عائش قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«رأيت ربي في أحسن صورة،قال:فيما يختصم الملأ؟قلت:أنت أعلم،فوضع كفه بين كتفيا فوجدت بردها بين ثديي،فعلمت ما في السماوات و الأرض،و تلا: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].

رواه الدارمي مرسلا انتهى.

قال ابن حجر الهيتمي في شرحها في معنى(فعلمت ما في السماوات و الأرض):أي جميع الكائنات التي في السماوات،بل و ما فوقها،كما يستفاد من قصة المعراج،و الأرض هي بمعنى الجنس:أي و جميع ما في الأرضين السبع،بل و ما تحتها،كما أفاده إخباره عليه السّلام عن الثور و الحوت اللذين عليهما الأرضون كلها.انتهى على نقل صاحب المرقاة.

و زاد و يمكن أن يراد بالسماوات:الجهة العليا،و الأرض:الجهة السفلى،فيشمل الجميع،ثم ذكر أنه لا بدّ من التقييد في هذا،و له المراد ما أعلمه اللّه به،فما فيهما قال:

و ذكر يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر انتهى.

قلت:جميع من أدلته التقييد في التخصيص،و اللفظ يفيد العموم،و هناك ما يعضضه، و يدل على بقائه على عمومه كرواية:«فتجلّى لي كل شيء و عرفت».

و رواية:«و علمني كل شيء»،و لا مانع من عمومه لا شرعا و لا عقلا،مجرد استبعاد العقول القاصرة المحصورة لذلك لا يفيد في هذا الباب،كما هو واضح لأولي الألباب، و اللّه أعلم.

و أفاد في الإصابة أيضا أن عبد الرحمن بن عايش قال:هذا مختلف في صحبته.

فقال ابن حبان:له صحبة.

و البخاري:له حديث واحد إلا أنهم مضطربون فيه.

و ابن السكن يقال له:صحبة،و ذكره في الصحابة محمد بن سعد،و البخاري،و أبو زرعة الدمشقي،و أبو الحسن بن سميع،و أبو القاسم البغوي،و أبو عروبة الحراني،و غيرهم.

ص: 92

و قال أبو حاتم الرازي و الترمذي:لم يسمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم راجعها في ترجمته.

و في الاستيعاب و أسد الغابة:لا تصح له صحبة؛لأن حديثه مضطرب.

قلت:و من المحدثين من روى هذا الحديث عنه عن رجل من الصحابة من غير تعيين.

أخرج أحمد و الطبراني عن عبد الرحمن بن عايش الحضرمي،عن رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات غداة و هو طيب النفس،مسفر الوجه، فسألناه فقال:و ما يمنعني و أتاني ربي الليلة في أحسن صورة،فقال:يا محمد،قلت:لبيك ربي و سعديك،قال:فيم يختصم الملأ؟قلت:لا أدري،فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي،حتى تجلّى لي ما في السماوات و ما في الأرض،قال:ثم قرأ: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] (1)».

قال في الخصائص الكبرى:له طرق و هو مطول انتهى.

قلت:و في تلاوته للآية المذكورة إشارة إلى أنه كشف له عن الملكوت و الأسفل، و أري ما فيهما،كما وقع ذلك لسيدنا إبراهيم الخليل عليه السّلام،و المناسب لمقامه عليه السّلام أن يكون كشفه أكمل،و ما اطّلع عليه من ذلك أجلى و أتم و أفضل،فيكون قد تجلّى له جميع ما في الكون حتى رآه و علمه علما تفصيليّا،و لا مانع من ذلك لا عقلي و لا شرعي،و ربنا قدير على كل شيء،و نبيه أهل لكل خير صلّى اللّه عليه و سلّم.

و قد قال البيهقي في كتاب«الأسماء و الصفات»بعد إخراجه لحديث ابن عياش هذا عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بلا واسطة ما نصه:

هذا حديث مختلف في إسناده،فروي هكذا،و رواه زهير بن محمد عن يزيد بن يزيد ابن جابر:أي و هو أخو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر السابق عن خالد بن اللجلاج،عن عبد الرحمن بن عياش،عن رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

و رواه جهضم بن عبد اللّه عن يحيى بن أبي كثير،عن زيد بن سلام،عن أبي سلام،م.

ص: 93


1- تقدم.

عن عبد الرحمن بن عياش الحضرمي،عن مالك بن يوخامر،عن معاذ بن جبل،عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

و رواه موسى بن خلف العمي عن يحيى:أي ابن أبي كثير،عن زيد:أي ابن سلام، عن جده ممطور،و هو أبي سلام،عن أبي عبد الرحمن السكسكي،عن مالك بن يوخامر، عن معاذ.

و قيل فيه غير ذلك.

قلت:أفاد في الإصابة أن طريق زهير بن محمد أخرج له أحمد في مسنده قال:و لكن رواية زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري و غيره،و هذا منه و إن طريق جهضم بن عبد اللّه أخرجها أحمد و ابن خزيمة و الروياني و الترمذي و الدار قطني و ابن عدي و غيرهم،و إن طريق موسى بن خلف أخرجها الدار قطني و ابن عدي،و نقل عن أحمد أنه قال:هذه الطريقة أصحها.

قال الحافظ:فإن كان الأمر كذلك فإنما روي هذا الحديث عن مالك أبو عبد الرحمن السكسكي،لا عبد الرحمن بن عائش،و يكون للحديث سندان:ابن جابر عن خالد عن عبد الرحمن بن عائش،و يحيي عن زيد عن أبي سلام عن أبي عبد الرحمن عن مالك عن معاذ،قال:و يقوي ذلك اختلاف السياق بين الروايتين انتهى.

ثم قال البيهقي عقب ما مرّ عنه:و رواه أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس و قال فيه:

أحسبه يعني في المنام،و رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس.

قلت:رواية أيوب تقدم أنه أخرجها أحمد و الترمذي،و رواية قتادة الترمذي و أبو يعلى.

قال في الإصابة:و رواه أيوب عن أبي قلابة مرسلا،لم يذكر فوقه أحد،أخرجه الترمذي و أحمد،و كذا أرسله بكر بن عبد اللّه المزني عن أبي قلابة،أخرجه الدارقطني، و رواه سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي قلابة،فخالف الجميع قال:عن أبي أسماء عن ثوبان،و هي رواية أخطأ فيها سعيد بن بشير،و أشد منها خطأ رواية أخرجها أبو بكر النيسابوري في الزيادات من طريق يوسف بن عطية،عن قتادة،عن أنس،و أخرجها

ص: 94

الدارقطني و يوسف متروك انتهى.

ثم أخرج البيهقي بسنده إلى البخاري قال:عبد الرحمن بن عائش الحضرمي له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه،و هو حديث الرؤية.

قال الشيخ:أي البيهقي:و قد روي من أوجه أخر كلها ضعيفة،و أحسن طريق فيه طريق جهضم بن عبد اللّه،ثم رواية موسى بن خلف،و فيهما ما يدل على أن ذلك كان في المنام انتهى.

قلت:بعد ما نقل في الإصابة عن ابن السكن أنه ليس لعبد الرحمن بن عائش حديث غير هذا،و ذكر أنه سبقه إلى ذلك البخاري،و لكن ليس في عبارته تصريح،قال عقب ذلك:قلت:و قد وجدت له حديثا آخر مرفوعا،و له حديث ثالث موقوف،ثم ذكر الأول راجعه،ثم هذا الحديث وارد أيضا عن جماعة آخرين من الصحابة غير الأربعة المذكورين،معاذ و ابن عباس و عبد الرحمن بن عائش متصلا أو مرسلا،و الرجل من الصحابة،فأخرج الطبراني في السّنة،و ابن مردويه عن جابر بن سمرة مرفوعا:«إن اللّه تجلّى لي في أحسن صورة،فسألني فيم يختصم الملأ؟قلت:يا رب،ما لي به علم،فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي،فما سألني عن شيء إلا علمته..

الحديث (1)».

و أخرجا أيضا عن أبي هريرة مرفوعا:«رأيت ربي في أحسن صورة فقال:يا محمد، فقلت:لبيك ربي و سعديك ثلاث مرات،قال:هل تدري فيم يختصم الملأ؟قلت:لا فوضع يده بين كتفي،فوجدت بردها بين ثديي،ففهمت الذي سألني عنه،فقلت:نعم يا رب..الحديث».

و أخرجا أيضا و الشيرازي في الألقاب عن أنس قال:«أصبحنا يوما فأتنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبرنا فقال:أتاني ربي البارحة في منامي في أحسن صورة فوضع يده بين ثديي و بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمني كل شيء..الحديث».).

ص: 95


1- رواه ابن أبي عاصم في السنة(203/1).

قلت:و هذه الرواية رواية:«فتجلّى لي مع كل شيء و عرفت»،يفيدان أنه أعلم بكل شيء،و اطّلع على كل شيء مما يتعلق بأمر العوالم كلها دنيا و أخرى.

و أخرجه أيضا محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة مرفوعا:«أتاني ربي في أحسن صورة،فقال:يا محمد،فقلت:لبيك و سعديك،قال:فيم يختصم الملأ؟قلت:لا أدري فوضع يده بين ثديي،فعلمت في مقامي ذلك ما سألني عنه من أمر الدنيا و الآخرة...

الحديث».

قلت:و هو يفيد أن السؤال وقع عن أشياء عديدة،منها ما يتعلق بأمر الدنيا،و منها ما يتعلق بأمر الآخرة،و إن لم يخبر أصحابه بها كلها.

و أخرج البزار و الطبراني في السّنة،و محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة،عن ثوبان قال:خرج إلينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد صلاة الصبح فقال:«إن ربي عز و جل أتاني الليلة في أحسن صورة،فقال لي:يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ؟فقلت:لا أعلم يا رب،قال:فوضع كفيه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري،فتجلّى لي ما بين السماء و الأرض،فقلت:نعم يا رب يختصمون في الكفارات و الدرجات (1)...الحديث».

و أخرج البزار أيضا عن ابن عمر مرفوعا:«إني صليت في مصلاه فضرب على أذني، فجاءني ربي تبارك و تعالى في أحسن صورة...»الحديث ذكره السيوطي في خصائصه الكبرى مختصرا فيه على هذا القدر.

و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الرحمن الجمحي المكي قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه تجلّى لي في أحسن صورة،فسألني فيم اختصم الملأ؟فقلت:ربي لا علم لي به،فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي،فما سألني عن شيء إلا علمته (2)».م.

ص: 96


1- رواه أحمد(378/5)،و الدارمي(170/2)،و ابن أبي عاصم في الآحاد و المثاني(49/5)، و الروياني في مسنده(429/1)،و الطبراني في الكبير(141/20)،و الحكيم الترمذي في النوادر(/3 120).
2- تقدم.

فهؤلاء أيضا ستة من الصحابة:جابر بن سمرة،و أنس،و أبو أمامة،و ثوبان،و ابن عمر،و معهم واحد من التابعين و هو عبد الرحمن الجمحي.

و ذكر في الجمع ممن ورد عنه من الصحابة أبا رافع،و طارق بن شهاب البجلي الكوفي،و كانت له رؤية،و لم يسمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على ما قال أبو داود،و أبا عبيدة بن الجراح و نص كلامه:

«أتاني الليلة ربي تبارك و تعالى في أحسن صورة-أحسبه قال في المنام-فقال:يا محمد أ تدري فيم يختصم الملأ؟قلت:لا،فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات و ما في الأرض..»ثم ذكر بقية الحديث.

و قال في تخريجه:عبد الرزاق،و أحمد،و عبد بن حميد،و الترمذي،و قال:حسن غريب،و محمد بن نصر في كتاب«الصلاة»عن ابن عباس،و الترمذي،و الطبراني في الكبير،و ابن مردويه عن معاذ بن جبل،و الطبراني في الكبير،و ابن مردويه عن أبي أمامة، و الطبراني في الكبير،و ابن مردويه عن أبي رافع،و الطبراني في الكبير،و ابن مردويه عن طارق بن شهاب،و الطبراني في السّنة،و ابن مردويه عن جابر بن سمرة،و الحكيم، و الطبراني في السّنة،و ابن مردويه عن أبي هريرة،و الطبراني في السّنة،و ابن مردويه عن أنس،و الطبراني في السّنة،و الخطيب عن أبي عبيدة بن الجراح،و الحكيم،و الطبراني في السّنة،عن عبد الرحمن بن عياش الحضرمي،و أحمد عنه عن بعض الصحابة،و الحكيم، و البزار،و الطبراني في السّنة عن ثوبان انتهى.

و هاهنا في هذا الحديث رواية فيها بعد ذكر الوضع،فعلمت علم الأولين و الآخرين، ذكره غير واحد من المعتبرين و صححوها،و لم أقف الآن لشدة القصور في بعض الكتب على من خرّجها من الأئمة الحفاظ في كتابه.

و ممن ذكره العارف باللّه سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه:«الجواهر و الدرر» و حديثها على ما قال:«أتاني الليلة آت من ربي-قال:و في رواية:أتاني ربي عز و جلّ- فوضع أصابعه بين ثديي حتى وجدت برد أنامله،فعلمت علم الأولين و الآخرين».

ص: 97

ثم ذكر أنه سأل شيخه سيدي علي الخواص عن المراد بهذا الحديث:هل العلم عام لجميع ما علمته أمته من معقول و منقول في فقه أو نحو أو أصول أو غير ذلك؟فقال له:

نعم،هو شامل لجميع ذلك،قال:فقلت له:فما المراد بالأولين و الآخرين؟فقال:من تقدمه من الأمم،و من تأخر من أتباعه إلى يوم القيامة،راجعه.

و في«الفتوحات المكية»في الباب الرابع و الثلاثين بعد ما ذكر أن للّه تعالى عبادا خرق لهم العادة في إدراكهم العلوم،فمنهم من جعل له إدراك ما يدرك بجميع القوى بقوة البصر خاصة،و آخر بقوة السمع،و هكذا جميع القوى،ثم بأمور عرضية خلاف القوى من ضرب و حركة و سكون،و غير ذلك ما نصّه:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه ضرب بيده بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي، فعلمت علم الأولين و الآخرين».

فدخل في هذا العلم كل معلوم معقول و محسوس مما يدركه المخلوق،فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية و المعنوية،فلهذا قلنا:إن ثم أشياء أخر خلاف هذه القوى تدرك به المعلومات انتهى.

و قال ابن حجر المكي في شرح الهمزية لدى قوله لك ذات العلوم ما نصه:أكثر علوم نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم تتعلق بالمغيبات بدليل:«فعلمت علم الأولين و الآخرين»انتهى.

و تقدّم في كلام الشيخ سيدي عبد الغني النابلسي في شرح الفصوص و صفه بالصحة أيضا،و قد أشار إليه من قال:

إن تك فاتح الخيرات طرّا فإنك قد ختمت المرسلينا

لوم الآخرين عليك قصت و قد أوتيت علم الأولينا

كما أشار إلى حديث:«أنا مدينة العلم و على بابها (1)»من قال أيضا:

قلبي بمنجد نازل بقبابى فيها مليح سيد الأعراب).

ص: 98


1- رواه الديلمي في الفردوس(36/1)،و الحاكم في المستدرك(137/3).

عرضت عليه كنوز الأرض فلم علما بأن مصيرها لذهاب

و إذا سألت عن العلوم فإنه لمدينة مفتوحة الأبواب

و قد ذكر غير واحد أنه وقع هذا الوضع مرة أخرى ليلة الإسراء،ففي كتاب لأبي الحسن علي بن غالب،تكلّم فيه على أحاديث الحجب نقلا عن أبي الربيع بن سبع في شفاء الصدور،عن ابن عباس قال:قال علي:سلوني قبل أن تفقدوني،سلوني عن علم لا يعلمه جبريل،و لا ميكائيل،أعلمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مما علمه ربه ليلة الإسراء،ثم ذكر الحديث.

و فيه أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أتاني جبريل و كان السفير بي إلى ربي،إلى أن انتهى إلى مقام،ثم وقف عند ذلك فقلت:يا جبريل،في مثل هذا المقام يترك الخل خله؟فقال:إن تجاوزته احترقت بالنور»إلى أن قال:يعني النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«و سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه.فوضع يده بين كتفي بلا تكييف و لا تحديد،فوجدت بردها بين ثديي،فأورثني علم الأولين و الآخرين،و علمني علوما شتى،فعلم أخذ عليّ العهد بكتمانه؛إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري،و علم خيّرني فيه فكنت أسر إلى أبي بكر و إلى عمر و إلى عثمان و إليك يا أبا الحسن،و علمني القرآن،فكان جبريل عليه السّلام يذكرني به،و علم أمرني بتبليغه إلى العام و الخاص من أمتي،و لقد عاجلت جبريل عليه السّلام في آية نزل عليّ بها،فعاتبني ربي و أنزل عليّ: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:

114]».انتهى المراد منه.

و قد نقله في المواهب اللدنية في المقصد الخامس في الإسراء و المعراج من قوله:(أتاني جبريل)إلى آخره،لكنه جعله من حديث ابن عباس،فأوهم أن ابن عباس رواه بلا واسطة،و ليس كذلك.

و قال في آخره:رواه في كتاب شفاء الصدور كما ذكره ابن غالب،و العهدة في ذلك عليه انتهى.

ص: 99

و قال الحافظ الشامي في معراجه (1)بعد نقله لكلام صاحب المواهب:هذا و هو كذب بلا شكّ انتهى.

فجزم ببطلانه مع نقل غير واحد له من أهل اللّه و غيرهم،و ممن نقله الشيخ الأستاذ المربي القطب أبو زين العابدين سيدي المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي،ثم الوافي في نزهة الراوي،و بغية الحاوي في الباب الخامس منه في بدء الوحي و الإسراء،و ربك أعلم بما في نفس الأمر.

و في«روح البيان»لدى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] الآية أثناء كلامه على قصة الإسراء ما نصه:

قال صلّى اللّه عليه و سلّم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه،فوضع يده بين كتفي بلا تكييف و لا تحديد، قال:أي يد قدرته؛لأنه سبحانه منزّه عن الجارحة،فوجدت بردها فأورثني علم الأولين و الآخرين،و علمني علوما شتى،فعلم أخذ على كتمانه؛إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري،و علم خيرني فيه،و علم أمرني بتبليغه إلى العام و الخاص من أمتي و هو الإنس و الجن.

قال:و هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هذه العلوم الثلاثة،كما يدل عليه الفاء و هي زائدة على علوم الأولين و الآخرين،فالعلم الأول من باب الحقيقة الصرفة،و الثاني من باب المعرفة،و الثالث من باب الشريعة،انتهى منه بلفظه.

و قال العلاّمة ابن زكرى في شرحه لصلاة ابن مشيش ما نصه:جميع علوم النبيين و المرسلين تنزلت فيه صلّى اللّه عليه و سلّم،كما يدل عليه قوله:«أورثني ربي علم الأولين و الآخرين».

و في شرح البردة للزركشي عن ابن عباس أنه عليه السّلام لما ولد قال في أذنه رضوان خازن الجنان:أبشر فما بقي لنبيّ علم-:أي بكسر فسكون-إلا قد أعطيته،فأنت أكثرهم علما،و أشجعهم قلبا انتهى.

و هذا الذي نقله عن ابن عباس ذكر في المواهب اللدنية أنه رواه الحافظ أبو بكر بنم.

ص: 100


1- يقصد الصالحي صاحب سبل الهدى و الرشاد،في الآيات البينات،و الآيات العظيمة،و اللّه أعلم.

عائذ في كتابه«المولد»قال كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح بردة المديح،قال في شرح المواهب:و هذا أرسله ابن عباس،و مرسل الصاحب و صل في الأصح و حكمه الرفع؛إذ لا مجال للرأي فيه انتهى،و اللّه أعلم.

و أخرج أحمد و أبو داود في سننه،و اللفظ له،و الحاكم في المستدرك،و البيهقي، و الطبراني في الكبير عن المقدام بن معديكرب الكندي مرفوعا:«ألا إنّي أوتيت الكتاب و مثله معه ألا إنّي أوتيت القرآن و مثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن (1)»الحديث.

أخرجه أبو داود في باب لزوم السّنة من كتاب السّنة،و أخرجه الترمذي أيضا في أبواب العلم لكن لا بهذا اللفظ،و أورده الحافظ ابن حجر في أول لسان الميزان بلفظ:«ألا إني أوتيت الكتاب»،و مثله معه:«ألا إني أوتيت القرآن»،و مثله معه.

و ذكر بقية الحديث ثم قال:حسّنه الترمذي،و صحّحه الحاكم و البيهقي انتهى.

و أورده بعضهم من عند أبي داود و ابن حبان من حديث المقدام أيضا بلفظ:«ألا إني أوتيت الكتاب و ما يعدله..الحديث».

و معناه:أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أوتي القرآن العظيم بما اشتمل عليه من الأحكام الظاهرة،و العلوم المتكاثرة التي يمكن أن تدرك منه لأهل العلم الظاهر بالوجوه المعروفة،و الطرق المألوفة، و مثلها معها من الأحكام التي لم يصرح بها فيه،و العلوم التي لا يدركها منه أكثر العلماء، و إن كان يمكن أن تستنبط منه بوجه غير مألوف،و أمر غير معروف،لمن أمدّه اللّه بعلومه اللدنية،أو تقول معناه أنه عليه السّلام أوتي القرآن العظيم بعلومه و أسراره و خواصه،و جميع ما يشتمل عليه من تصريح أو تلويح أو رمز أو إشارة،و من ظاهر و باطن الباطن إلى غير ذلك من كل ما يمكن أن يعلمه منه البشر و الخلق من غيره صلّى اللّه عليه و سلّم،و أوتي أيضا مثل ذلك و ما يعدله من علوم أخر،و أحكام مختصة به،و معارف و أسرار لا يحاط بها،انفراد بها صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يؤتها أحد سواه،أخذها صلّى اللّه عليه و سلّم من ربه تبارك و تعالى بلا واسطة شيء،و يمكنه أخذها).

ص: 101


1- رواه أبو داود(200/4)،و أحمد في مسنده(130/4).

و استنباطها من القرآن أيضا؛لكونه جامعا لعلوم الأولين و الآخرين،و لكن بفهم اختص به،و إلهام خاص لم يحصل لغيره،و الأول أقرب إلى الأفهام،و الثاني أنسب و أليق بالمقام، و اللّه أعلم.

النور الثالث

و هو نور الإدراك:

فإنه أدرك اللّه و أبصره على أي نوع كان و على أي مذهب إن كانت العلمية أو الأخرى،ثم كان يبصر من خلفه صلّى اللّه عليه و سلّم كما كان يبصر من أمامه.

و أيضا إدراك الجنة قبل موته.

و أيضا كوشف عن الذي في قبره يعذب.

و أيضا كشف له عن الجنة في عرض الحائط.

و أيضا أبصر الملك على صورته التي خلق فيها،ثم على أنحاء بعد ذلك.

هذا نور كشف له عن أعز المدركات كلها.

*قلت:قوله:(الإدراك)فمطلق الإدراك؛اسم لحقيقة اتصال المدرك بالمدرك و هو كالجنس،و العلم،و المعرفة،و التعقّل،و الإحساس بالسمع و البصر و سائر القوى و الآلات كلها ألقاب،و صفات لمطلق الإدراك يحدث و يتعيّن بحسب تقيّده بالآلات المتوسطة من المدرك و المدرك و بحسب المراتب و المحال التي يقع فيها الإدراك فيتقيّد لديها.

و يندرج فيه:المعرفة،و العلم،و التعقّل،و الفكر،و التصوّر،و الفهم،و الإحساس بالحواس الظاهرة و الباطنة على اختلاف ضروبها و طبقاتها؛و هو حقيقة التصور و أقسامه محصورة فيما نذكر:

و أولها من وجه أدراك الخلق بالخلق في الخلق؛أعني:إدراك ما يسمّى مخلوقا بمثله في مثله على اختلاف القوى و المدارك التي يحصل بها.

الإدراك الآخر إدراك الخلق بالحق في الخلق الآخر،و إدراك الخلق في الحق الآخر إدراك

ص: 102

الخلق بالحق في الحق،فيكون حينئذ مرآة لحقائق الخلق لا للخلق الآخر إدراك الحق بالخلق في الخلق الآخر إدراك الحق بالحق في الخلق الآخر إدراك الحق بالخلق في الحق الآخر إدراك الحق بالحق في الحق.

و هذا بعد تجاوز مقامات المعرفة و التوحيد التي من جملتها رؤية الحق بالخلق في الحقن و هذا الذي أخبرت عنه،إدراك الحق بالحق في الخلق هو المترجم عنه ب«كنت سمعه و بصره» (1).

و فوقه ما هو عكس الأول و هو أن يصل العبد بعد استهلاك كثرته في وحدة الحق غلبة حكم ما به الاتحاد على حكم ما به الامتياز من الأمور التعددية؛سمع الحق و بصره و سائر صفاته الذاتية الوحدانية الحقيقية،فيسمع بما به يبصر بما به ينطق بما به يسعى بما به يعقل،و إليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم.

«إن اللّه قال على لسان عبده:سمع اللّه لمن حمده».

و فوقه مقام الجمع بين الأمرين و الواصفين المذكورين،و فوقه مقام أحدية الجمع و له الجمع بين كل ما ذكره دون الحصر فيه و صفا و حكما،فيرى بذاته و يسمع بذاته،كالحق في مرتبة غناه الذاتي مع قطع النظر عما أوجد،فظهر فيه أو به،فيستغنى عن السوى،كان السوى من كان،فافهم.

و حينئذ يكون مثلا و يكون على الصورة تماما،فيكون مقتضى ذاته الظهور و التلبس.

ص: 103


1- رواه البخاري(2284/5). قلت:و أما معناه عند أكابر القوم فقد ورد فيه:قال سيدي علي وفا قدّس سرّه:معنى:«كنت سمعه...»إلى آخره...أن ذلك الكون الشهودي مرتّب على ذلك الشرط،الذي هو حصول المحبة،فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث المشار إليه بقوله(كنت سمعه)،لا من حيث التقرير الوجودي. و قال الشيخ قدّس سرّه في الباب الثامن و الستين:المراد ب«كنت سمعه و بصره»إلى آخره:انكشاف الأمر لمن تقرب إلى تعالى بالنوافل،لا أنه لم يكن الحق سمعه قبل التقرّب،ثم كان الآن تعالى اللّه عز و جلّ عن ذلك،و عن العوارض الطارئة.قال:و هذة من أعز المسائل الإلهية اه.

بكل ما ذكر بحسب المراتب و الدرجات،لا بحسب من ذكر من أرباب المدارك التقييدية، فيستوعب و لا يتعيّن بوصف يعرف و يحدّ به؛لانحصاره فيه حكما أو عينا.

و قوله:(ثم كان يبصر من خلفه صلّى اللّه عليه و سلّم كما كان يبصر من أمامه).

و أخرج مالك في الموطأ في العمل في جامع الصلاة و أحمد و الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا:«أ ترون»،و في رواية قال:«هل ترون قبلتي هاهنا -:أي مقابلتي و مواجهتي في جهة القبلة فقط-فو اللّه ما يخفى عليّ خشوعكم و لا ركوعكم،إنّي لأراكم من وراء ظهري» (1).

و أخرج مسلم و اللفظة له النسائي و ابن خزيمة في صحيحه عنه أيضا قال:«صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما ثم انصرف فقال:يا فلان أ لا تحسن صلاتك،أ لا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي،فإنما يصلي لنفسه،إني و اللّه لأبصار من وراء كما أبصر من بين يدي،و لفظ ابن خزيمة في آخره:«إنكم ترون أني لا أراكم:أي و اللّه لأرى من خلف ظهري كما أرى من بين يدى» (2).

و أخرج عبد الرزاق في جامعه و الحاكم في المستدرك،و أبو نعيم من حديثه أيضا مرفوعا:«إني لأنظر إلى ما ورائي كما أنظر إلى ما بين يدي» (3).

و أخرج أحمد و عبد الرزاق بسند صحيح من حديثه أيضا:«و الذي نفسي بيده إني لأنظر-زاد في رواية في الصلاة-إلى من ورائي،كما أنظر إلى من بين يدي فسووا صفوفكم،و أحسنوا ركوعكم و سجودكم» (4).

و في رواية لأحمد:«إني أنظر-أو قال:إني لأنظر-ما ورائي كما أنظر ما بين يدي...»الحديث.).

ص: 104


1- رواه البخاري(408).
2- رواه مسلم(423)و النسائى(495/1).
3- رواه ابن حبان في الصحيح(250/14).
4- رواه أحمد(505/2).

و أخرج أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:«إني أراكم من وراء ظهري».

و أخرج أحمد و الشيخان و النسائي عن أنس مرفوعا:«أتمّوا الرّكوع و السّجود، فو الّذي نفسي بيده إنّي لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم و إذا ما سجدتم (1)»هكذا ذكره السيوطي في الجامع عازيا له لمن ذكر.

و قد أخرجه البخاري في مواضع منها في باب الخشوع في الصلاة و لفظه فيه و هو لمسلم أيضا:«أقيموا الركوع و السجود فو اللّه إني لأراكم من بعدي»،و ربما قال:«من بعد ظهري إذا ركعتم و إذا سجدتم».

و منها في باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة،و ذكر القبلة،و لفظه فيه عن أنس بن مالك قال:صلّى بنا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم صلاة ثم رقى المنبر فقال في الصلاة و في الركوع:«إني لأراكم من ورائي كما أراكم يعني من أمامي».

و منها في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف و لفظه فيه حدّثنا أنس قال:أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بوجهه فقال:«أقيموا صفوفكم و تراصوا فإني أراكم من وراء ظهري (2)».

و قد عزى في الجمع هذا اللفظ للبخاري و النسائي،و ابن حبان في صحيحه عن أنس.

و منها في الترجمة قبل هذه و لفظه فيها:«أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهرى».

و أخرجه أيضا مسلم في الصلاة بألفاظ منها قوله عن أنس أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أتموا الركوع و السجود،فو اللّه إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم و إذا ما سجدتم».

قال:و في حديث سعيد:«إذا ركعتم و سجدتم».

و منها قوله عن أنس قال:صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم،فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال:«أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع،و لا بالسجود،و لا).

ص: 105


1- رواه البخاري(7278)،و مسلم(425)،و النسائى(216/2).
2- رواه البخاري(253/1).

بالقيام،و لا بالانصراف،فإني أراكم أمامي و من خلفى.ثم قال:و الذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا،و لبكيتم كثيرا،قالوا:و ما رأيت يا رسول اللّه،قال:

رأيت الجنة و النار (1)».

رؤيته عليه السّلام لأصحابه من وراء ظهره رؤية حقيقية،ثم الرؤية المذكورة في هذه الأحاديث مذهب الجمهور،و هو الصواب المختار أنها على ظاهرها،و أنها رؤية حقيقية، و إدراك حقيقيّ،اختص به صلّى اللّه عليه و سلّم،انخرقت له فيه العادة،و على هذا عمل البخاري،فإنه أخرج هذا الحديث في علامات النبوة،و كذا نقل عن أحمد و غيره خلافا لمن حمل الرؤية فيه على الرؤية القلبية،و هي رؤية البصيرة،و إن صح أو على العلم إما بوحي بأن يوحى إليه كيفية فعلهم،و إما بإلهام بأن يلهمه اللّه تعالى حالتهم و هيأتهم،فإن ذلك بخلاف ما تظاهرت عليه الظواهر التي لا يحيلها عقل،و لا يعارضها شرع،و لو كان المراد العلم لم يقيد بقوله:(من وراء ظهري).

و منهم من حملها على أنه كان يلتفت يمينا و شمالا التفاتا يسيرا،لا يلوي فيه عنقه، يدرك به حال من وراءه،و لا يخفى ما فيه من التكلف و العدول عن الظاهر بلا موجب مع ما فيه من ارتكاب ما لا يليق بالمقام،و قد أنكره أحمد على قائله،و الظاهر أنها كانت من غير عضو و لا مقابلة،و لا شيء مما جرت به العادة بناء على مذهب أهل الحق،و هم أهل السّنة من أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص،و لا مقابلة،و لا شعاع،و لا تتوقف على ضوء،و لا على قرب،كما لا تتوقف على الآلة المخصوصة التي هي العين، و إنما هذه أمور عادية يجوز عقلا حصول الإدراك مع عدمها،و لذا حكموا بجواز رؤية اللّه تعالى في الدار الآخرة،خلافا لأهل البدع بوقوفهم مع العادة.

و جوز بعضهم كونها برؤية عينية،و إنه انخرقت له فيهما العادة أيضا،و صحّح آخرون كونها بعين خلف ظهره يرى بها من ورائه،لا يحجبها الثياب و لا غيرها،و بعض المتكلمين أن تكون بإدراك خلق له في القفا أعم من كونه في بنية أم لا أخذا من قوله في بعض الروايات:«إني لأبصار من قفايا كما أبصر من بين يدي».).

ص: 106


1- رواه مسلم(320/1).

و قيل:كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما،لا يحجبهما أيضا ثوب و لا غيره،قاله مختار بن محمود الحنفي الزاهدي شارح القدوري من الحنفية.

و رده أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني قائلا هذا مع ما وصف به من كمال الخلقة يشين،و لو أن إنسانا كانت له عينان في قفاه لكان أقبح شيء،و خيال غيره هو قول مرغوب عنه بل ساقط،و نازع بعضهم فيه،و في القولين قبله بأنها تحتاج لتوقيف من الشارع.

و رواية:(من قفايا)ليست نصّا في المراد.

و قيل:بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته،كما تنطبع في المرآة،فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم،ورد بأنه يحتاج أيضا إلى توقيف،و ظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة.

و يؤيّده ما أخرجه الحميدي في مسنده،و ابن المنذر في تفسيره،و البيهقي عن مجاهد في قوله تعالى: وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ [الشعراء:219]،قال:كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من أمامه (1).

و يحتمل أن يكون ذلك واقعا في جميع أحواله صلّى اللّه عليه و سلّم و هو الظاهر،و مذهب أهل الباطن، و محققي أهل الباطن،و نقل عن مجاهد أيضا و عن جمع من المتقدمين،و عللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه؛لأنه كان يرى من كل جهة؛لأنه كان كله نورا،و قد ثبت مثله لكثير من خواص أمته،و ما ذاك إلا بما أمدّهم اللّه به من نور مشكاته المفاض عليهم.

و في الفتوحات في الباب التاسع و الستين في معرفة أسرار الصلاة و عمومها ما نصه:

اعلم أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كله وجه بلا قفا،فإنه قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إني أراكم من خلف ظهري»، فأثبت الرؤية لحاله و مقامه،فثبتت الوجهية له،و ذكر الخلف و الظهر لبشريته صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنهم ما).

ص: 107


1- رواه الخلال في السنة(99/1)،و ابن حبان(250/14)،و انظر:تفسير الطبري(124/19)، و القرطبي(144/13)،و ابن كثير(353/3).

يرون رؤيته و يرون خلفه و ظهره صلّى اللّه عليه و سلّم،و لما ورثته صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا المقام،و كانت لي هذه الحالة:

كنت أصلّي بالناس بالمسجد الأزهر بمدينة فاس،قلت:و هو المعروف الآن بمسجد عين الخيل،قال:فإذا دخلت المحراب أرجع بذاتي كلها عينا واحدا،فأرى من جميع جهاتي كما أرى قبلتي،لا يخفى على الداخل و لا الخارج،و لا واحد من الجماعة حتى إنه ربما يسهو من أدرك معي ركعة من الصلاة،فإذا سلمت و رددت وجهي إلى الجماعة أدعوا أرى ذلك الرجل يجبر ما فاته فيخل بركعة،فأقول له:فاتتك كذا و كذا،فيتم صلاته و يتذكر،فلا يعرف هذه الأشياء،و لا هذه الأحوال إلا من ذاقها،انتهى منها بلفظها.

و في نزهة الزاد و بغية الحاوي للعارف باللّه القطب سيدي المختار بن أحمد الكنتي في الباب الخامس في بدء الوحي و الإسراء ما نصه:

ثبت عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه لما حمل على الرفرف و التمع بصره جعل يرى بجميع بدنه،فيرى من أمامه كما يرى من خلفه،و كما يرى عن يمينه و شماله،و ذلك بأن صار كله بصرا،فحينئذ تأهل أن يرى ربه لما أمدّه به من وضع يده بين كتفيه حتى وجد بردها على فؤاده،فعلم بذلك علوما شتى،ثم قطرت نقطة العلم على قلبه و فؤاده،فازداد علما على علم،انتهى المراد منه بلفظه.

و قال العارف الحفني في حاشيته على الجامع الصغير في الكلام على رواية:أتموا الركوع و السجود ما نصه:

قوله لأراكم أي:رؤية إدراك و كشف قلبي،فلا تتوقف على وجود البصر،و لا على وجود الضوء،فهو خرق للعادة.

قال:و هذا الإدراك حاصل له صلّى اللّه عليه و سلّم من حين رأى ربه ليلة الإسراء بعين بصره،و ما قيل:

(كان له صلّى اللّه عليه و سلّم حدقتان في ظهره)رد بأن ذلك مشوه للخلقة،و قد كان سيدنا موسى يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء مسيرة عشرة أيام،و قيل:فراسخ من حين كلّمه اللّه تعالى، ثم قال:فذاك الإدراك ليس بحدقتين في ظهره،كسم الخياط لا يحجبهما الثياب،كما قال بعضهم فإنه لا أصل له؛إذ هو مشوه،و ليس هذا خاص بالصلاة انتهى.

ص: 108

و في فيض القدير في حديث:«أتموا الصفوف»ما نصه:قال في المطامح في أبي داود عن معاوية ما يدل على أن هذا كان في أواخر عمره.

و لذا قال عياض:كان ذلك له بعد ليلة الإسراء كما كان موسى يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من عشرة فراسخ بعد ليلة الطور،انتهى منه بلفظه.

قال الشيخ جعفر الكتاني:و عياض ذكر هذا في الشفاء في فصل وفور عقله صلّى اللّه عليه و سلّم من الباب الثاني فراجعه.

و في الحديث عن عائشة رضي اللّه عنهما أنها سئلت عن هذا الإدراك،فقالت:«زيادة زاده اللّه إيّاها في حجته»،و هو بضم الهاء،يعني في معجزته.

و ضبط بعضهم لها و هو بفتحها على أن معناه أن هذه الزيادة إنما وقعت له في آخر عمره في حجة الوداع،غير صحيح.

مراقبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه،و قد ذكروا من جملة فوائد هذه الأحاديث مراقبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه في حالة الصلاة،كما أنه كان يراقبهم في غيرها من الأحوال سرّا و علانية، ظاهرا و باطنا،غيبة و حضورا،و قد كان على قدمه في هذا كبار العارفين و الأولياء،حتى كان الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه كثيرا ما يقول لأصحابه على كرسيه:إني أراكم كالزجاجات.

و كم من مريد أراد أن يرتكب بعض المحرمات و هو غائب عن شيخه،فخرج عليه و منعه من ذلك،و قضاياهم في هذا كثيرة:

منها:إنه وقع لعارف أن مريده أراد الزّنا بامرأة،فلما همّ سمع صوت شيخه من بلاد بعيدة يقول له:هكذا تفعل يا فلان،ففرّ هاربا.

و وقع لآخر مع مريده في نظير هذا أنه ما شعر إذ هم إلا و الشيخ قد لطمه لطمة أذهبت بصره،فخرج و أمر من جاء به إلى الشيخ،فقال:ادع اللّه لي أن يرد بصري،فإني تائب إلى اللّه تعالى،فقال:نعم،و لكن لا تموت إلا أعمى،فدعى له فردّ عليه بصره،ثم عمي قبل موته بثلاثة أيام.

ص: 109

و وقع للشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني أنه كان له تلميذ بالعجم فهمّ بالزنا بامرأة فضربه الشيخ بقبقابه مع زجر و غضب بحضرة الفقراء،فلم يدروا ما الخبر،حتى قدم الشخص العجمي بقبقاب الشيخ بعد شهر تائبا.

أمدّنا اللّه تعالى بمدد أوليائه،و منّ علينا بسلوك سبيل أصفيائه آمين.

و قد حكى بقى بن مخلد عن عائشة أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يبصر و يرى في الظلمة،كما يبصر و يرى في الضوء،و هذا أخرجه عنها البيهقي،و ابن عدي،و ابن عساكر،و إسناده ضعيف.

و أخرج البيهقي أيضا في الدلائل عن ابن عباس قال:كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء،و هو أيضا ضعيف ضعّفه غير واحد،لكنه حسن بشواهده،و ما اشتهر من خبر لا أعلم ما وراء جداري.

قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه في فيض القدير في الكلام على حديث:«أتموا الصفوف»لا أصل له.

قال في الفيض و يعرض وروده:فالمراد به أنه لا يعلم الغيب إلا باطلاعه تعالى.انتهى و راجع ما تقدّم في هذا الخبر،و اللّه الهادي و المرشد بمنّه (1).

و أخرج أحمد و الشيخان و الترمذي و قال:حسن صحيح،و النسائي،و أبو عوانة،و ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا قال:سمعت النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:

«لمّا كذّبني قريش قمت في الحجر،فجلّى اللّه لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته و أنا أنظر إليه» (2).

و في هذا انكشاف الأشياء له صلّى اللّه عليه و سلّم عند التوجه و الالتفات إليها بحقائقها و أحوالها و متعلقاتها،و نظره بعين البصر و البصيرة إليها بحيث لا يغيب عن نظره شيء منها،و هذا واقع لغيره من أولياء اللّه تعالى،فكيف به صلّى اللّه عليه و سلّم الذي كل نوال من نواله،و كل خير و فضل).

ص: 110


1- انظر:فيض القدير(243/2).
2- رواه البخاري(4433).

في العالمين منه،و من أياديه و أفضاله.

و أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة و أحمد و الحميدي و البخاري في مواضع منها علامات النبوة،و مسلم في الفتن،و العدني،و ابن حماد في الفتن،و أبو عوانة،و الحاكم في المستدرك، عن أسامة بن زيد،قال:أشرف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على أطم من آطام المدينة فقال:«هل ترون ما أرى إنّي لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر (1)»

و في رواية:«إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كموقع القطر».

و في أخرى:«إني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم مواقع القطر (2)».

فائدة:يجوز رؤية الشيء و سماعه قبل وجوده للأنبياء و الأولياء.

قلت:و بهذا الحديث و نحوه استدلّ الصوفية على جواز،بل وقوع رؤية الشيء و سماعه قبل وجوده للأنبياء و الأولياء،بناء على ما هو المتبادر من هذا الحديث أنها رؤية بصرية، و قضايا الأولياء في رؤيتهم بل و سماعهم للأشياء قبل وجودها لا تنحصر كثرة،و من ثم أطبقوا على رؤيته تعالى،و سمعه للمعدوم الممكن الذي علم أنه سيوجد مخالفين في ذلك للمتكلمين في قولهم:إن السمع و البصر إنما يتعلقان بالموجودات،و المراد بها كل ما له تحقق في الخارج فقط،و لا يتعلقان بالمعدوم ممكنا كان أو مستحيلا.

و من أدلّة الصوفية في هذا قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة:1].

فإن قولها إنما كان فيما لا يزال،و تعلق سمعه و بصره إنما هو في الأزل.

و قد قال العلاّمة ابن زكري في بعض تقاييده التي قيّدها على الصغرى للسنوسي:

ما قاله الصوفية هو المتعين؛لأن تعلقهما تعلق انكشاف،فيلزم على تخصيصه بالموجود حال وجوده بعده في الأزل انتهى.).

ص: 111


1- رواه البخاري(1779)و مسلم(2885).
2- رواه البخاري(1317/3).

نقله الشيخ جسوس في شرح عقائد الرسالة،و في بعض أجوبة الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن يوسف السنوسي،لما ذكر له اعتراض بعض المتأخرين على ما وقع لأبي طالب المكي:أي في«قوت القلوب»من التصريح بتعلق سمع اللّه تعالى و بصره بالموجودات و المعدومات قبل وجودها،و إن مثله وقع في المواقف النفرية الصوفية:أي و وقع أيضا للشيخ الجليل القصري مؤلف:«شعب الإيمان في شرح الأسماء»قال:

لا يخفى على ما في اعتراضه على هذا الولي من سوء الأدب،بل الواجب التسليم لأولياء اللّه تعالى فيما خفي علينا علمه من كلامهم؛إذ ليس يستوي من ينظر في النور و من ينظر في الظلمات.انتهى نقله العارف الفاسي في حواشيه على شرح الصغرى،و اللّه أعلم.

و أخرج أحمد و الترمذي في أبواب الزّهد و قال:حسن غريب،و ابن ماجه و الحاكم في المستدرك،و الضياء المقدسي في المختارة،و أبو الشيخ في العظمة،و أبو نعيم،و ابن منيع عن أبي ذرّ رفعه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّي أرى ما لا ترون،و أسمع ما لا تسمعون، أطّت السّماء،و حقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ و ملك واضع جبهته ساجدا للّه،لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا،و ما تلذّذتم بالنّساء على الفرش و لخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى اللّه لوددت أنّي كنت شجرة تعضد (1)».

و أخرج الطبراني في الكبير،و الضياء،و ابن أبي حاتم في التفسير،و أبو الشيخ في العظمة،و أبو نعيم عن حكيم بن حزام،قال:بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أصحابه إذ قال لهم:

«أ تسمعون».

و في لفظ:«هل تسمعون».

و في آخر«تسمعون ما أسمع؟قالوا:ما تسمع من شيء،قال:إني لأسمع أطيط السماء و ما تلام أن تئط ما فيها موضع شبر».).

ص: 112


1- رواه الترمذي(556/4)،و أحمد في المسند(173/5)،و ابن ماجه(1402/2).

و في رواية:«قدم إلا و عليه ملك ساجد أو قائم (1)».

و أخرج ابن منده،و ابن عساكر عن عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه مرفوعا:

«هل تسمعون ما أسمع أطت السماء،و حق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا و عليه ملك قائم أو راكع أو ساجد (2)».

و تقدّم من حديث سيدنا العباس عند البيهقي و غيره أنه عليه السّلام كان و هو في المهد يسمع وجبة القمر:أي سقطته حين يسجد تحت العرش.

ذكره السيوطي في خصائصه و غيره.

و فيها أيضا أنه عليه السّلام كان يسمع حفيف أجنحة جبريل و هو بعد في سدرة المنتهى، و يشم رائحته إذا توجّه بالوحي إليه،و ذكر ذلك أيضا الشعراني في«كشف الغمة»ناقلا له عن خط شيخه جلال الدين السيوطي.

قلت:و هذا أعني رؤية الإنسان للأشياء البعيدة عنه جدّا في الأرض برّا و بحرا،و في السماء أو ما فوقها،و سماعه لها و شمه لرائحتها لا ينكر،فإنه واقع لأولياء اللّه كثيرا،فكيف به عليه السّلام.

و في«الفتوحات»في الباب الثاني و ثلاثمائة ورد في حديث نبوي صحيح عند أهل الكشف و إن لم يثبت طريقه عند أهل النقل لضعف الراوي،و لقد صدق فيه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لو لا تزييد في حديثكم،و تمريح في قلوبكم،لرأيتم ما أرى و لسمعتم ما أسمع (3)»انتهى.

قلت:و هو طرف من حديث أخرجه أحمد،و ابن جرير الطبري،و لفظ ابن جرير فيه:

«لو لا تمريح قلوبكم،و تزيدكم في الحديث،لسمعتم ما أسمع».و تقدم لفظ أحمد و ما في الحديث من الكلام،فليراجع.).

ص: 113


1- رواه الطبراني في الكبير(201/3).
2- رواه ابن عساكر في تاريخه(381/52).
3- رواه أحمد(266/5).

و في المواهب اللدنية من خصائصه عليه السّلام أنه كان يبلغ صوته و سمعه ما لا يبلغه صوت غيره و لا سمعه،قال شارحها:فقد كان يخطب فتسمعه الهواتف في البيوت،و يسمع أطيط كما السماء مر بسط ذلك في شمائله انتهى.

و انظر إلى ما أخرجه البيهقي و أبو نعيم عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم جلس يوم الجمعة على المنبر،فقال للناس:اجلسوا،فسمعه عبد اللّه بن رواحة،و هو في بني علم،فجلس في مكانه و فيه معجزة و كرامة،و كأنه فهم أن الخطاب عام في حق من بلغه الصوت،و لو كان خارجا عن المسجد النبوي،و لو بعيدا منه،و لذلك جلس امتثالا و أدبا،و كأن القرينة على ذلك بلوغ الصوت له بطريق المعجزة الخارقة للعادة،و إن لم يظهر لجلوسه هو في مكانه فائدة،فقد تكون موجودة و لا يطلع عليها؛إذ قد تخفى في بعض الأوامر و النواهي، و لذلك يحكم الفقهاء على ما خفيت فيه بأنه تعبدي،و اللّه أعلم.

و انظر أيضا إلى ما ورد من قول سيدنا عمر بن الخطاب أثناء خطبته يوم جمعة لسارية ابن زنيم الدؤلي،و كان قد أمره على جيش و سيره إلى فارس،و ذلك سنة ثلاث و عشرين من الهجرة،فرآهم من المدينة و هو يخطب،و قد جعل العدو عليهم كمينا على يسار الجبل:

يا سارية الجبل،الجبل،يعني خذ طريق الجبل و احذر كمين العدو،و رفع صوته فألقى اللّه ذلك في أسماع سارية و أصحابه،و كانوا بنهاوند بلد بأقصى العراق جنوبي همدان،بينها و بين المدينة أكثر من مسيرة شهر،فعدلوا إلى الجبل،ففتح اللّه عليهم و هي قضية مشهورة، أخرجها الواقدي و سيف في الفتوح،و البيهقي في الدلائل،و اللالكائي في شرح السّنة، و ابن الأعرابي في كرامات الأولياء،و ابن مردويه،و غيرهم.

راجع الإصابة في ترجمة سارية المذكور.

و في لطائف المنن:إن القطب الحلبي الحافظ أفرد لطرقها جزءا.

قال بعضهم:و كان هذا في حياة سارية،فلما مات في مصر دفن أيضا في قلعة الجبل، فكأنه امتثل قول عمر بعد وفاته أيضا.

راجع الرحلة الكبرى لسيدي عبد الغني النابلسي.

ص: 114

و في العهود المحمدية في عهد الاستعداد لوقوف عرفة ما نصه:

إن للّه تعالى رجالا يسمعون كلام من بينهم و بينه مسيرة ثلاثين ألف سنة،وراثة إبراهيمية قال:و قد وقع لي في ابتداء أمري أني كنت أسمع كلام من في أقطار الأرض من الهند و الصين و غيرهما،حتى إني كنت أسمع كلام السمك في البحار المحيطة،ثم إن اللّه حجب ذلك عني،و أبقى معي العلم كي لا أنكر مثل ذلك على أحد.

و كان سيدي أحمد بن الرفاعي يتكلم على الكرسي بأم عبيدة،فيسمعه من حوله من القرى،و اللّه على كل شيء قدير انتهى.

و قد ذكر بعض الكبار أنه انخرق لسمعه صلّى اللّه عليه و سلّم و بصره و شمه و إدراكه و لمسه و سائر حواسه جميع الكون،و سائر المملكة الربّانية،و أنه يرى منها ما شاء متى شاء،و يسمع و يسمع و يشم و يشم و يلمس و يتناول،و يأخذ و يعطي،كذلك و يحول و يتصرف،و يفعل ما شاء على الوجه الذي شاء،و أذن له فيه،و لا ينحجب عنه شيء،أو يمتنع منه أيّا كان، إذا أراده على أي وجه كان،و أي وصف في المملكة كلها عموما.

قلت:و الأحاديث و الآثار الواردة في هذا الباب و الحكايات المنقولة عن أهل اللّه تعالى تشهد بذلك،و تأمّل ما تقدّم عن الشيخ عبد السلام الأسمر أن اللّه تعالى أطلعه على جميع الكائنات،و كشف له عن ملكوت السماوات و الأرض و الجنة و ما فيهما ظاهرا و باطنا.

و عن سيدي أحمد بن الرفاعي من أنه صحب ثمانمائة ألف أمة ممن يأكل و يشرب و يروث و ينكح،و أنه لا يكمل الرجل حتى يصحب هذا العدد،و يعرف كلامهم و صفاتهم و أسماءهم و أرزاقهم و آجالهم،و لا تستقر نطفة في فرج أنثى إلا و ينظر إليها،و يعلم بها، و أمثال هذا عن الأولياء كثير،و هم قطرات أو جداويل من بحار علمه و معرفته،و ما أطلعه اللّه عليه و أراه إياه،بل ما نالوا ذلك إلا منه،و لا اغترفوه إلا من بحره الطام الذي لا حدّ له و لا نهاية،و العقول كلها لا تتسع لإدراك ماهيته و حقيقته،و اللّه ذو الفضل العظيم و المن على ما يشاء من خلقه،لا رب سواه سبحانه و تعالى.

و قوله:(إدراك الجنة قبل موته).

ص: 115

أخرج مالك في الموطأ و أحمد و الشيخان:البخاري في العلم و الطهارة و الكسوف و الاعتصام و الاجتهاد و السهو،و مسلم في الصلاة،و غيرهم من حديثها أيضا في صلاة الكسوف،و اللفظ لمسلم قالت:فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قد تجلّت الشمس،فخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الناس فحمد اللّه و أثنى عليه،ثم قال:«أما بعد..ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة و النار»الحديث.

و لفظ مالك في الموطأ،و البخاري في باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف،و في باب:من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل من كتاب الطهارة:

فلما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حمد اللّه و أثني عليه ثم قال:«ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة و النار،الحديث (1)».

و في أخرى للبخارى في العلم في باب:من أجاب الفتيا بإشارة اليد و الرأس،فحمد اللّه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أثنى عليه ثم قال:«ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة و النار (2)».

و في أخرى لأحمد عنها:«أيها الناس إنه لم يبق شيء لم أكن رأيته إلا و قد رأيته في مقامي هذا».

و في هذه الرواية أنه قال:«أيها الناس إنكم لن تسألوني عن شيء حتى قام رجل فقال:

من أبي؟قال:أبوك فلان الذي كان ينسب إليه (3)».

و في أخرى له:«لقد أدنيت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لأتيتكم بقطف من قطافها،و لقد أدنيت مني النار حتى قلت:يا رب و أنا معهم (4)»الحديث.

و أخرج الشيخان و النسائي من حديث عائشة في صلاته أيضا:«لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته» (5).).

ص: 116


1- رواه البخاري(358/1،رقم 1005)و مالك(188/1)،رقم(447).
2- رواه البخاري(44/1)،رقم(84).
3- رواه أحمد(354/6).
4- رواه أحمد(351/6).
5- رواه البخاري(44/1)،و مسلم(601/2)،و النسائي(131/3).

و في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم و النسائى:«وعدتم حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا-أي:عنقودا-من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم،و لقد رأيت جهنم يحطم-أي:يكسر و يزاحم-بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت،و رأيت فيها عمرو بن لحي و هو الذي سيب السوائب (1)».

و أخرج مالك في الموطأ،و أحمد،و الشيخان،و النسائي،و ابن حبان في صحيحه،و ابن جرير من حديث ابن عباس في صلاته أيضا قالوا:«يا رسول اللّه رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك كففت-و في رواية:تكعكعت-فقال:إني رأيت-و في لفظ للبخاري:أريت-الجنة فتناولت منها عنقودا و لو أخذته-و في رواية:و لو أصبته- لأكلتم منه ما بقيت الدنيا،و رأيت-و في رواية:و أريت-النار فلم أر منظرا قط-و في رواية:فلم أر منظرا كاليوم قط-أفظع،و رأيت أكثر أهلها النساء...الحديث (2)».

و أخرج مسلم و اللفظ له،و ابن جرير الطبري من حديث جابر بن عبد اللّه قال:

كسفت الشمس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في يوم شديد الحر الحديث.

و فيه أنه عليه السّلام قال:«إنه عرض عليّ كل شيء تولجونه-و في رواية ابن جرير:

توعدونه-فعرضت عليّ الجنة حتى لو تناولت منها قطفا أخذته-أو قال:تناولت منه قطفا فكثرت يدي عنه-و عرضت عليّ النار،فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذّب في هرة لها ربطتها،فلم تطعمها و لم تدعها تأكل من خشاش الأرض،و رأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار (3)»الحديث.

و أخرج أحمد و مسلم و اللفظ له من حديثه أيضا قال:«انكسفت الشمس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم (4)»الحديث.

و فيه أنه عليه السّلام قال:«ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه،و قد جيء).

ص: 117


1- رواه البخاري(406/1)،و مسلم(619/2).
2- رواه البخاري(1003)و مسلم(907)،و مالك(444)،و أحمد(298/1)،و النسائى(/1 578)و ابن حبان(96/7).
3- رواه مسلم(266/2)،(903).
4- رواه مسلم(631/2).

بالنار و ذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها،و حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار،كان يسرق الحاج بمحجنه،فإن فطن له قال:إنما تعلق بمحجني،و إن غفل عنه ذهب به،و حتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها و لم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا،ثم جيء بالجنة و ذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي،و لقد مددت يدي و أنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه،ثم بدا لي ألا أفعل،فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه (1)».

و لابن خزيمة من حديث سمرة بن جندب قال:«لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم و آخرتكم (2)».

و لأحمد من حديثه أيضا:«إني و اللّه لقد رأيت منذ قمت أصلي لكم ما أنتم لاقون من أمر دنياكم و آخرتكم (3)».

و لفظ البيهقي في سننه الكبرى من حديثه:«و اللّه لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم و آخرتكم (4)»الحديث.

و أورده السيوطي في جامعه الكبير في(يا أيها الناس)و قال فيه:«فقد أريت في مقامي و أنا أصلّي ما أنتم لاقون في دنياكم و آخرتكم».

ثم عزاه لتخريج أحمد و أبي يعلى و ابن خزيمة و الطحاوي و ابن حبان و ابن جرير و الطبراني في الكبير و الحاكم في المستدرك و البيهقي في السنن و الضياء المقدسي عن ثمرة و لفظ رواية الطبراني في الكبير عنه:

«ما رأيتم من شيء في الدنيا له لون و لا نبئتم به في الجنة و لا في النار إلا و قد صور لي من قبل هذا الجدار منذ صليت لكم صلاتي هذه،فنظرت إليه مصورا في جدار المسجد (5)».

و أخرج أحمد و النسائي و ابن جرير من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال:).

ص: 118


1- رواه مسلم(623/2).
2- رواه ابن خزيمة في صحيحه(326/2).
3- رواه أحمد(16/5).
4- رواه البيهقي في الكبرى(339/3).
5- رواه أحمد(16/5)،و الروياني(70/2)،و الحاكم(479/1)،و ابن حبان(102/7)،و البيهقي في الكبرى(339/3)،و الطبراني في الكبير(189/7).

«انكسفت الشمس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم»الحديث.

و فيه:«و الذي نفس محمد بيده لقد أدنيت الجنة مني حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها،و لقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم..

الحديث (1)».

و لفظ أحمد:«أيها الناس إن الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه عز و جلّ،فإذا كسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد،فو الذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة حتى لو أشاء لتعاطيت بعض أغصانها،و عرضت على النار حتى إني لأطفئها خشية أن تخشاكم..

الحديث (2)».

و في لفظ آخر له و للنسائي قال:فلما صلّى قال:«عرضت عليّ الجنة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها،و عرضت عليّ النار،فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، و رأيت فيها سارق بدنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و رأيت فيها أخا بني دعدع سارق الحجيج فإذا فطن له قالوا:هذا عمل المحجم،و رأيت فيها امرأة طويلة سوداء،تعذّب في هرة ربطتها فلم تطعمها و لم تسقها،و لم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت (3)»الحديث.

و في حديث أحمد عن المغيرة بن شعبة:«إنّ النّار أدنيت منّي حتى نفخت حرّها عن وجهي فرأيت فيها صاحب المحجن،و الّذي بحر البحيرة و صاحبة حمير صاحبة الهرّة (4)».

ففي هذه الأحاديث رؤيته للجنة و النار و ما فيهما،و عرضهما عليه كما تعرض الأشياء و الرعية على الملوك لمعرفتها،و تفقد أحوالها،و رؤيته لكل شيء لم يكن رآه قبل، و لكل شيء وعد به هو أو وعدت به أمته،و لكل شيء تلاقيه أمته في دنياها و آخرتها، و لكل شيء رأوه في الدنيا،و أنبئوا به في الجنة و النار.).

ص: 119


1- رواه النسائي(574/1).
2- رواه أحمد(159/2).
3- رواه النسائي(138/3).
4- رواه أحمد في المسند(245/4).

و في الحديث الأول أنه علم كم خزنة النار،و حملة العرش،و أنه أوتي فواتح الكلم و خواتمه:أي أوائله و أواخره و جوامعه:أي أسراره التي جمعت فيه.

و الكلم يحتمل أن يراد به خصوص الكلام العربي،و أن يراد به كل الكلام من جميع اللغات التي لبني آدم،أو التي لسائر الخلائق من جنّ و إنس و ملك و حيوان و غيرها،و هو أظهر لمعرفته بلسان الكل،و بعثته له على القول المرتضى،و اللّه أعلم.

و قد ذكر المحققون من العلماء أن رؤيته عليه السّلام للجنة و النار في صلاة الكسوف هي رؤية عين،بأن رفعت الحجب بينه و بينها حتى رآهما رؤية حقيقية،و طويت المسافات بينه و بينهما حتى أمكنه أن يتقدّم إلى الجنة،و أن يتأخر عن النار،و لا مانع من هذا و هو الأقرب،و الأشبه بظاهر الحديث و يؤيده ما ذكروه،و يأتي في هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى من أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إذا قالوا:رأينا الجنة أو النار أو غير ذلك، فالمرئي لهم هو الحقيقة دون المثال،بخلاف الولي.

و يؤيّده أيضا ما وقع في بعض الروايات المذكورة،من أنه تناول من الجنة عنقودا،و في الرواية الأخرى:إنه أراد أن يأخذ منها قطفا،و هو اسم لكل ما يقطف،و ما وقع في بعضها أيضا من أنهما دنتا أو أدنيتا منه،و أنه جعل ينفخ خشية أن يغشاهم حر النار.

و منهم من حمل الرؤية (1)فيهما على رؤية المثال،و أنهما مثلتا له و صورتا في قبلة المسجد،كما تنطبع الصورة في المرآة،فرأى جميع ما فيهما،و استدلّ له بحديث أنس الآتي،و هو في الصحيح:«لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الجنة و النار ممثلتين في قبلة هذا الجدار».

و في رواية:«و الذي نفسي بيده لقد عرضت عليّ الجنة و النار آنفا في عرض هذا الحائط و أنا أصلي،فلم أر كاليوم في الخير و الشر».ة.

ص: 120


1- الرؤية:المشاهدة بالبصر،لا بالبصيرة.حيث كان الإبصار من النشأة العاجلة أو الآجلة.قال الكليم صلوات اللّه عليه و سلامه:(أرني أنظر إليك)و لم يقل:أشهدني،فإنه المشاهدة بالبصر كانت حاصلة له حين طلب الرؤية.

و فيه أن هذه قصة أخرى وقعت له في صلاة الظهر،و لا مانع أن يرى الجنة و النار مرتين بل مرارا عديدة على صور مختلفة.

و منهم من حملها على العلم،و أن اللّه عز و جلّ زاده الآن من العلم بحالهما تفصيلا لم يكن له قبل؛ليزداد بذلك خوفه و رجاؤه و علمه،و هو أضعف مما قبله،بل في غاية البعد.

و في شرح ابن أبي جمرة لمختصره لصحيح البخاري في الكلام على حديث أسماء السابق في الوجه الثالث ما نصه:

قوله عليه السّلام:«ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا»،فيه دليل على أنه عليه السّلام لم يكن يرى من الغيب جميعه في الزمن المتقدم قبل هذا الموطن إلا البعض،و أنه في هذا الموطن تكملت له الرؤية لتلك الأشياء كلها،ثم تردّد في أنه أخبر بجميع الغيوب،أو بما يحتاج به الإخبار إلى أمته،و ما يخصه عليه السّلام في ذاته المكرمة،أو مما أكرمه اللّه للاطلاع عليه،و استظهر الثاني منهما.

ثم قال في الوجه الخامس:فيه دليل على عظيم قدرة اللّه تعالى؛إذ إنه عليه السّلام رأى في هذه الدار في هذا الزمن اليسير ما لم يره ليلة المعراج في العالم العلوي،و مشاهدة الملكوت، و فيه دليل على أن القدرة لا تتوقف في شيء ممكن؛لأنه عليه السّلام رأى في هذا الزمن اليسير أمورا عظام،ثم عقلها جميعا مع إبقاء أوصاف البشرية عليه.

ثم قال في الوجه السادس:قوله عليه السّلام:«حتى الجنة و النار»،هذا اللفظ محتمل لوجهين:

الأول:أن يكون عليه السّلام أراد أن يخبرهم بأنه عاين كل ما يلقون بعد خروجهم من هذه الدار حتى يستقروا في الجنة أو النار.

الثاني:أن يكون عليه السّلام أراد أن يخبرهم بعظيم ما رأى من أمور الغيب بذكر الجنة و النار،تنبيها على ذلك؛لأن الجنة قد روي أن سقفها عرش الرحمن،و النار في أسفل سافلين تحت البحر الأعظم:أي الذي عليه قرار الأرضين،فإذا رأى هذين الطرفين،فمن باب أولى أن يرى ما بينهما،انتهى منه بلفظه.

و قال الكرماني في قوله:«ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته»ما نصه:

ص: 121

فإن قلت:هل فيه دلالة على أنه صلّى اللّه عليه و سلّم رأى في هذا المقام ذات اللّه تعالى؟

قلت:نعم إذ الشيء يتناوله،و العقل لا يمنعه،و العرف لا يقتضي إخراجه انتهى.

و عبارته في«إرشاد الساري»في كتاب العلم:«ما من شيء لم أكن أريته»بضم الهمزة:أي مما تصح رؤيته عقلا،كرؤية الباري تعالى،و يليق عرفا مما يتعلق بأمر الدين و غيره«إلا رأيته»:رؤية عين حقيقة حال كوني في مقامي انتهى.

و قال الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق قوله:«في مقامي»يجوز أن يكون المراد به المقام الحسّي و هو المنبر،و يجوز أن يكون المراد به المقام المعنوي،و هو مقام المكاشفة و التجلّي بالحضارات الخمسة،التي هي عبارة عن حضرة الملك و الملكوت و الأرواح، و الغيب الإضافي،و الغيب الحقيقي،فإنه البرزخ الذي له التوجه إلى الكل،كنقطة الدائرة بالنسبة إلى الدائرة،صلوات اللّه عليه و سلامه،و نفحنا من نفحات قدسه بمتابعته انتهى.

و قوله:(و أيضا كشف له عن الجنة في عرض الحائط).

قد تكرّرت رؤيته عليه السّلام للجنة و النار يقظة و مناما،و دخوله لهما و إخباره عما فيهما كثيرا،و كثرت الأحاديث الواردة في ذلك.

أخرج أحمد و البخاري في عدة مواضع منها في النكاح،و الترمذي عن عمران بن حصين،و أحمد عن عبد اللّه بن عمرو،و أحمد،و مسلم،و الترمذي،عن أنس،و أبو داود الطيالسي و هناد و مسلم و النسائي عن ابن عباس،و ابن منده و أبو نعيم عن عبد الرحمن بن حارثة ابن السلمي عن جده رفعوه:«اطّلعت في الجنّة-يعني ليلة الإسراء أو في النوم أو بالوحي أو بالكشف بعين الرأس أو بعين القلب لا في صلاة الكسوف و لا كما قيل- فرأيت أكثر أهلها الفقراء،و اطّلعت في النّار،فرأيت أكثر أهلها النّساء» (1).

و في رواية لعبد اللّه بن الإمام أحمد في زيادات المسند عن ابن عمرو ابن العاص:س.

ص: 122


1- رواه البخاري(4902)و أحمد(716/4)و الترمذي(716/4)عن عمران بن حصين،و أحمد( 173/2)عن عبد اللّه بن عمرو،و أخرجه مسلم(2737)و أحمد(234/1)و النسائي في الكبرى(/5 399)و الطيالسي في مسنده(112/1)عن عبد اللّه بن عباس.

«فرأيت أكثر أهلها الأغنياء و النساء».

و رواه أحمد عن أبي هريرة بلفظ:«اطّلعت في النّار فرأيت أكثر أهلها النّساء و اطّلعت في الجنّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» (1).

و أخرج البخاري و مسلم و النسائي عن أسامة بن زيد مرفوعا:«قمت على باب الجنّة فإذا عامّة من دخلها المساكين و إذا أصحاب الجدّ محبوسون إلاّ أصحاب النّار فقد أمر بهم إلى النّار و قمت على باب النّار فإذا عامّة من دخلها النّساء» (2).

و أخرج أحمد و الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا:«رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه-يعني أمعاءه-في النار،و كان أول من سيب السوائب».

زاد في رواية:«و بحر البحيرة».

و أخرج أحمد و البخاري في عدة مواضع،و مسلم و ابن ماجه عن أبي هريرة،و ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر مرفوعا:«بينا أنا نائم رأيتني في الجنّة،فإذا امرأة تتوضّأ إلى جانب قصر،فقلت:لمن هذا القصر؟فقالوا:لعمر بن الخطّاب،فذكرت غيرته، فولّيت مدبرا».فبكى عمر و قال:أ عليك أغار يا رسول اللّه (3).

و أخرج ابن عساكر عن أنس مرفوعا:«أدخلت الجنة فرفع لي قصر فقلت:لمن هذا؟ قالوا:لعمر بن الخطاب،فما منعني أن أدخله إلا غيرتك».

قال أبو بكر بن عياش راويه عن حميد عن أنس:فقلت لحميد:في النوم أو في اليقظة؟ قال:لا بل في اليقظة (4).

و أخرج البخاري من حديث جابر مرفوعا:«رأيتني دخلت الجنّة،فإذا أنا بالرّميصاء امرأة أبي طلحة و سمعت خشفة،فقلت:من هذا؟فقال:هذا بلال،و رأيت قصرا بفنائه).

ص: 123


1- رواه أحمد(297/2).
2- رواه البخاري(6181)،و مسلم(2736).
3- رواه البخاري(3070)،و مسلم(2395)،و أحمد(339/2)،و ابن ماجه(107).
4- رواه ابن عساكر في تاريخه(147/44).

جارية،فقلت:لمن هذا؟فقال:لعمر»الحديث (1).

و أخرج أحمد و الترمذي و ابن خزيمة في صحيحه من حديث عبد اللّه بن بريدة عن أبيه و هو بريدة بن الحصيب قال:أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما فدعا بلالا فقال:«يا بلال بم سبقتني إلى الجنّة إنّي دخلت الجنّة البارحة فسمعت خشخشتك أمامي»الحديث (2).

و أخرج أحمد و الشيخان من حديث أبي هريرة قال:قال نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لبلال عند صلاة الفجر:«حدّثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة؛فإنّي سمعت اللّيلة خشف نعليك بين يدي في الجنّة»الحديث (3).

و لفظ البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال لبلال عند صلاة الفجر:«يا بلال حدّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام،فإنّي سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنّة» الحديث (4).

و أخرج الترمذي و الحاكم و صححه و تعقب عن أبي هريرة أيضا مرفوعا:«رأيت جعفرا يطير في الجنّة مع الملائكة بجناحين» (5).

و أخرج الطبراني في الكبير عن جابر مرفوعا:«رأيت خديجة على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه و لا نصب»،و إسناده صحيح،و اقتصار من اقتصر على حسنه تقصير.

و أخرج النسائي و الحاكم في المستدرك عن أنس مرفوعا:«دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت:من هذا؟فقالوا:حارثة بن النعمان،كذا لكم البر،كذا لكم البر (6)»:أي له قال:هذه الدرجة بسبب بره لأمه.ة.

ص: 124


1- رواه البخاري(3476).
2- رواه الترمذي(620/5)،و أحمد(355/5)و ابن خزيمة(213/2).
3- رواه مسلم(2458)،و أحمد(333/2).
4- رواه البخاري(1098).
5- رواه الترمذي(654/5).
6- رواه الحاكم في صحيحه(229/3)،و النسائي في الكبرى(65/5)عن عائشة.

و إسناده صحيح كما في الإصابة.

و أخرج أحمد و مسلم و النسائي عن أنس مرفوعا:«دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي فقلت:ما هذه الخشفة؟فقيل:الخميصاء بنت ملحان يعني أم سليم الأنصارية».

و أخرج البخاري و الترمذي و قال:حسن صحيح،و ابن حبان في صحيحه عن أنس أيضا مرفوعا:«بينا أنا أسير في الجنّة إذ عرض لي نهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ-المجوف- قلت للملك:ما هذا؟قال:هذا الكوثر الذي أعطاكه اللّه-قال-ثمّ ضرب بيده إلى طينة،فاستخرج مسكا ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما (1)».

و أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند جيد عن عائشة مرفوعا:«ادخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين».

و أخرج الطبراني في الكبير بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا:«دخلت الجنة فرأيت على بابها:الصدقة بعشرة و القرض بثمانية عشر (2)».

و أخرج الطبراني في الكبير عن أوس بن أوس الثقفي مرفوعا:«بينا أنا جالس إذ جاءني جبريل فحملني فأدخلني جنة ربي،فبينا أنا جالس إذ جعلت في يدي تفاحة فانفلقت التفاحة بنصفين،فخرجت منها جارية لم أر جارية أحسن منها حسنا،و لا أجمل منها جمالا،تسبح تسبيحا لم يسمع الأولون و الآخرون بمثله،فقلت:من أنت يا جارية؟قالت:

أنا من الحور العين،خلقني اللّه تعالى من نور عرشه،فقلت:لمن أنت؟فقالت:أنا للخليفة المظلوم عثمان بن عفان (3)».

و خرّجه الملائي في سيرته من حديث أنس،و خيثمة بن سليمان من حديث عقبة بن عامر الجهني.

راجع«الرياض النضرة».).

ص: 125


1- رواه الترمذي(449/5).
2- رواه الطبراني في الكبير(249/8).
3- رواه الطبراني في الكبير(219/1).

و أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب أن عمر بن الخطاب قال:يا رسول اللّه خبّرني بما رأيت في الجنة ليلة أسري بك؟فقال:يا ابن الخطاب،لو لبست فيكم ما لبس نوح في قومه ألف سنة أحدثكم كما رأيت في الجنة لما فرغت منه...»الحديث ذكره السيوطي في الجامع في مسند علي.

و هو يدل على أن ما حدّث به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن الجنة و النار،و العالم العلوي و السفلي، شيء يسير جدّا،بل أقل من القليل بالنسبة لما يعلمه،و أطلع عليه من أحوال ذلك.

و أخرج الحاكم في المستدرك عن أنس قال:«صلّى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة صلاة فمدّ يده ثم أخرجها فسألناه عن ذلك؟فقال:إنه عرضت عليّ الجنة،فرأيت فيها أغصان دالية، قطوفها دانية،فأردت أن أتناول منها شيئا،و عرضت على النار فيما بينكم و بيني حتى رأيت ظلي و ظلكم فيها (1)».

و أخرج أيضا عن ابن مسعود رفعه:«إنه عرضت عليّ الجنة،فرأيت فيها دالية قطوفها دانية،فأردت أن أتناول منها شيئا،فأوحي إليّ أن استأخر،فاستأخرت،و عرضت عليّ النار فيما بينكم و بيني حتى رأيت ظلي و ظلكم فيها،فأومأت إليكم أن استأخروا،فأوحي إليّ أن أقرهم...الحديث».

و أخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال:بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فتقدمنا معه،ثم تناول شيئا ليأخذه،ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب:يا رسول اللّه،صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه؟قال:

إنه عرضت عليّ الجنة و ما فيها من الزهرة و النضرة،فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به،فحيل بيني و بينه،و لو أتيتكم به لأكل منه ما بين السماء و الأرض لا ينقص منه».

ذكره ابن كثير في تفسيره.

و أورده في الجمع من عند أحمد،و عبد بن حميد،و أبي يعلى،و الشاشي،و الضياء عن).

ص: 126


1- رواه الحاكم في المستدرك(503/4).

جابر بلفظ:«عرضت عليّ الجنة بما فيها من النضرة،فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به،فحيل بيني و بينه،و لو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء و الأرض و لا ينقص،ثم عرضت عليّ النار،فلما وجدت سفعها تأخرت عنها»الحديث.

و أخرج أحمد،و الحاكم في المستدرك،و الضياء المقدسي من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه مرفوعا:«عرضت عليّ الجنة بما فيها من الزهرة و النضرة،فتناولت قطفا من عنبها لآتيكم به،و لو أخذته لأكل منه من بين السماء و الأرض لا ينقصونه،فحيل بيني و بينه،و عرضت عليّ النار،فلما وجدت حر شعاعها تأخرت»الحديث (1).

و أخرج مسلم من حديث أنس أنه عليه السّلام قال:«و الّذي نفس محمّد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا».قالوا:و ما رأيت يا رسول اللّه؟قال:«رأيت الجنّة و النّار» (2).

و أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و الترمذي و قال:حسن صحيح،و اللفظ له و النسائي و الحاكم و صححه،و البيهقي في الدلائل،و ابن جرير،و ابن مردويه عن حذيفة بن اليمان قال:«أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-يعني ليلة الإسراء-بدابّة طويلة الظّهر ممدودة هكذا خطوه مدّ بصره،فما زايلا ظهر البراق حتى رأيا الجنّة و النّار و وعد الآخرة أجمع ثمّ رجعا عودهما على بدئهما قال:و يتحدّثون أنّه ربطه لم يفرّ منه و إنّما سخّره له عالم الغيب و الشّهادة (3)».

و في لفظ عن حذيفة أنه حدّث عن ليلة أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:«ما زايل البراق حتى فتحت له أبواب السماوات،فرأى الجنة و النار و وعد الآخرة أجمع،ثم عاد».

و لفظ ابن مردويه كما في الدر المنثور:«فأري ما في السماوات و ما أري في الأرض...

الحديث».).

ص: 127


1- رواه أحمد(352/3)و الحاكم في المستدرك(647/4).
2- رواه مسلم(426).
3- رواه الترمذي(307/5).

و في الجمع للسيوطي:«أتيت بالبراق و هو دابة أبيض طويل،يضع حافره حيث منتهى طرفه،فلم نزايل ظهره أنا و جبريل حتى أتيت بيت المقدس،ففتحت لي أبواب السماء، و رأيت أبواب الجنة و النار».

رواه أحمد و ابن أبي عمر و أبو يعلى و ابن حبان و الحاكم و الضياء عن حذيفة انتهى.

و أخرج أحمد و البخاري في عدة مواضع منها في الصلاة و الرقاق و الفتن و الاعتصام، و مسلم في المناقب في فضائل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و الترمذي في التفسير،و النسائي في الرقائق، و غيرهم،و اللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خرج حين زاغت الشمس، فصلّى الظهر،فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة،و ذكر أن بين يديها أمورا عظام ثم قال:«من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه،فو اللّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا،قال أنس:فأكثر الناس البكاء،و أكثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقول:

«سلوني سلوني؟»قال أنس:فقام إليه رجل فقال:أين مدخلي يا رسول اللّه؟قال:

«النار»فقام عبد اللّه بن حذافة،فقال:من أبي يا رسول اللّه؟قال:«أبوك حذافة»،ثم أكثر أن يقول:«سلوني سلوني؟»،فبرك عمر على ركبتيه و قال:رضينا باللّه ربّا، و بالإسلام دينا،و بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم رسولا،قال:فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين قال عمر ذلك،ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أو لي؟و الذي نفسي بيده لقد عرضت عليّ الجنة و النار آنفا في عرض هذا الحائط،و أنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير و الشر (1)».

هكذا أورده في باب ما يكره من كثرة السؤال من كتاب الاعتصام،و ساقه أيضا بنحوه في باب وقت الظهر من كتاب الصلاة،و أورده في باب التعوذ من الفتن من كتاب الفتن بلفظ عن أنس رضي اللّه عنه قال:

سألوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أحفوه بالمسألة فصعد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم المنبر فقال:«لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته لكم».

و لفظ رواية مسلم:«لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم»،فلما سمع ذلك القوم أرموا و رهبوا أن يكون بين يديه أمر قد حضر.).

ص: 128


1- رواه البخاري(6864)،و مسلم(2359).

ثم قال البخاري في روايته عن أنس:فجعلت أنظر يمينا و شمالا،فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي،فأنشأ رجل كان إذا لاح يدعى إلى غير أبيه فقال:يا نبي اللّه من أبي؟فقال:

«أبوك حذافة»،ثم أنشأ عمر فقال:رضينا باللّه ربّا،و بالإسلام دينا،و بمحمد رسولا، نعوذ باللّه من سوء الفتن،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما رأيت في الخير و الشر كاليوم قط،إنه عرضت لي الجنة و النار حتى رأيتهما دون الحائط».

و في رواية مسلم:«لم أر كاليوم قط في الخير و الشر،إني صورت لي الجنة و النار فرأيتهما دون هذا الحائط».

و أورده البخاري أيضا في باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة،و لفظه فيه عن أنس ابن مالك قال:صلّى بنا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ثم رقي المنبر فأشار بيده قبل قبلة المسجد،ثم قال:

«لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الجنة و النار ممثلتين في قبلة هذا الجدار،فلم أر كاليوم في الخير و الشر ثلاثا».

و في لفظ لمسلم في الفضائل عن أنس بن مالك:بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن أصحابه شيء فخطب فقال:«عرضت عليّ الجنة و النار،فلم أر كاليوم في الخير و الشر،و لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا»الحديث.

و قد ذكره السيوطي في جامعه الصغير من عنده،فقال شارحه المناوي في«فيض القدير»ما نصه: (1)

و قد تجلّى له صلّى اللّه عليه و سلّم الكون كله،و زويت له الأرض بأسرها،فأري مشارق الأرض و مغاربها،و كل ذلك عند اندراج المسافات في حقه انتهى.

قلت:و قوله:(في عرض هذا الحائط)العرض بضم العين:الجانب.

و قيل:الوسط.

و قيل:الجهة.).

ص: 129


1- انظره في الفيض:(312/4).

و عرض الجنة و النار عليه في الحائط يحتمل أن يكون حقيقة،و أنه عليه السّلام رآهما من ذلك الموضع،كما يقال:رأيت الهلال في منزلي في الطاق،و المراد من موضع الطاق،و يدل له قوله في الحديث الآخر:«فتناولت منها قطفا من عنب»،لكن هذه رؤية أخرى في صلاة الكسوف غير هذه الرؤية أنها في صلاة الظهر،و يحتمل أن يكون مجازا من باب التمثيل، و أنه ضرب له صلّى اللّه عليه و سلّم مثلهما،و شرح له أمرهما بأمر أريه في الحائط و جهته و يدل عليه رواية مثلث لي،و صورت لي،و القدرة صالحة لكليهما.

و قد قال الأبي في شرح مسلم قال القرطبي:ظاهر أحاديث الكسوف أنه صلّى اللّه عليه و سلّم رأى الجنة حقيقة؛لتناوله العنقود،و النار؛لتأخره مخافة أن يصيبه لهبها،و لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:رأيت فيها فلانا و فلانا.

و ظاهر هذه الأحاديث يعني أحاديث صلاة الظهر أنها صورت له صلّى اللّه عليه و سلّم،و لا إحالة في ذلك،كما تصور الأشياء في الأجسام الصقيلة،فإن قلت:الحائط ليس بصقيل،قيل:

الصقالة شرط عاديّ لا عقليّ،فيجوز أن تنخرق له العادة فتمثل له في الحائط انتهى.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة و النار» الحديث (1).

و الأخبار كثيرة متواترة حتى لا يكاد أن يرتاب فيها أحد من المسلمين و السلام.

انتهى.

و قوله:(كوشف عن الذي في قبره يعذب).

و أخرج أحمد و ابن حبان في«صحيحه»عن أبي أمامة:إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مرّ على قبرين، فقال:«إنهما ليعذبان الآن و يفتنان في قبريهما.قالوا:و حتى متى هما يعذبان؟قال:غيب لا يعلمه إلا اللّه،و لو لا تمزع قلوبكم و تزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع».

ذكره بهذا اللفظ في«جمع الجوامع»و عزاه لمن ذكر،و ذكره المنذري في«الترغيب»).

ص: 130


1- رواه البخاري(86)،و مسلم(905).

بلفظ آخر،و قال:رواه أحمد و اللفظ له و ابن ماجه كلاهما من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم،يعني ابن عبد الرحمن الشامي عنه،يعني عن أبي أمامة.

قلت:و لفظ أحمد:حدّثنا أبو المغيرة،حدّثنا معان بن رفاعة،حدّثني علي بن يزيد قال:سمعت القاسم أبا عبد الرّحمن يحدّث عن أبي أمامة قال:«مرّ النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم في يوم شديد الحرّ نحو بقيع الغرقد،قال:فكان النّاس يمشون خلفه قال:فلمّا سمع صوت النّعال وقر ذلك في نفسه،فجلس حتى قدّمهم أمامه؛لئلا يقع في نفسه شيء من الكبر، فلمّا مرّ ببقيع الغرقد إذا بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين-قال-فوقف النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:

«من دفنتم هاهنا اليوم؟»قالوا:يا نبي اللّه فلان و فلان.قال:«إنّهما ليعذّبان الآن و يفتنان في قبريهما».قالوا:يا رسول اللّه،فيم ذلك؟قال:«أمّا أحدهما فكان لا يتنزه من البول،و أمّا الآخر فكان يمشي بالنّميمة».و أخذ جريدة رطبة فشقّها ثمّ جعلها على القبرين قالوا:يا نبي اللّه،و لم فعلت؟قال:«ليخفّفنّ عنهما».قالوا:يا نبي اللّه و حتى متى -يعني إلى متى يعذّبهما اللّه؟قال:«غيب لا يعلمه إلاّ اللّه».قال:«و لو لا تمزيع قلوبكم أو تزيّدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع» (1).

و علي بن يزيد هذا اختلف فيه،و وثقه ابن معين و الجوزجاني و الترمذي و صحح له، و قال العجلى:ثقة يكتب حديثه،و ليس بالقوي.

و ابن ماجه رواه في باب من كره أن يوطأ عقباه من أبواب قصر العلم و العلماء،إلا أنه اقتصر على صدره إلى قوله:من الكبر.

و قوله:(لئلا يقع في نفسه شيء من الكبر)معناه في نفس من وقع له مثل هذا؛لأنه عليه السّلام معصوم،فهو من التنبيه على ضعف حالة البشر،و أنهم محل للآفات كلها إلا من عصمه اللّه تعالى.

و أيضا أبصر الملك على صورته التي خلق فيها.

مرتبة عالم المثال و هي عبارة عن الأشياء الكونية المركبة اللطيفة التي لا تقبل التجزئة و التبعيض و لا الخرق و الالتئام.).

ص: 131


1- رواه أحمد في المسند(266/5).

و قال في«نقش النصوص»:العالم المثالى هو عالم روحاني من جوهر نوراني،شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوسا مقداريّا،و بالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانيّا، و ليس بجسم مركب مادي،و لا جوهر مجرد عقلي؛لأنه برزخ وحد فاصل بينهما،و كل ما هو برزخ بين الشيئين لا بدّ و أن يكون غيرهما،بل له جهتان يشبه بكل منهما ما يناسب عالمه،إلا أن يقال:إنه جسم نورانيّ في غاية ما يكون من اللطافة،فيكون حدّا فاصلا بين الجواهر المجردة اللطيفة و بين الجواهر الجسمانية المادية الكثيفة،و إن كان بعض من هذه الأجسام أيضا ألطف من بعض،كالسماوات بالنسبة إلى غيرها،فليس بعالم عرضي كما زعم بعضهم؛لزعمه أن الصور المثالية منفكة عن حقائقها،كما زعم في الصور العقلية،و الحق أن الحقائق الجوهرية موجودة في كل من العوالم الروحانية و العقلية و الخيالية،و لها صور بحسب عوالمها انتهى.

و قال آخرون:عوالم المثال عالم لطيف بالنسبة إلى الأجرام،كثيف بالنسبة إلى الأرواح،فهو برزخ بين عالمي المجردات و الأجسام؛لتجرده عن المواد،كالمجردات، و امتداده كامتداد الأجسام،غير قابل للفصل و الوصل،مثل قبول هذه الأجسام.

و قال:هذه العبارات واحد،سمي بالعالم المثالي؛لكون أول مثال صوري لما في الحضرة العلمية الإلهية من صور الأعيان و الحقائق،و لكونه مشتملا على صور ما في العالم الجسماني من عرش و كرسي و سماوات و أرضين،و ما في جميعها من الأملاك و غيرها، و ليس هناك معنى من المعاني الممكنة،و لا روح من الأرواح إلا و له صورة مثالية مطابقة لما هو عليه؛إذ لكلّ منها نصيب من الاسم الظاهر،و كل ما له وجود في العالم الحسي هو في العالم المثالى دون العكس.

و لذلك قال أرباب الشهود:إن العالم الحسي بالنسبة للعالم المثالي كحلقة ملقاة في بيداء،لا نهاية لها،و الأصل في وجوده الكتاب و السّنة و الكشف الصحيح.

أما الكتاب:فقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم:17].

و أما السّنة:فأحاديث كثيرة،منها قوله في حديث بدء الوحي في البخاري و غيره:

ص: 132

«و أحيانا يتمثّل لى الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول (1)».

و استدلّ البيهقي لذلك بما أخرجه الشيخان عن عائشة أن الحارث بن هشام رضي اللّه عنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:يا رسول اللّه،كيف يأتيك الوحي؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أحيانا يأتني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّه عليّ،فيفصم عنّى و قد وعيت عنه ما قال،و أحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول».

قالت عائشة رضي اللّه عنها:و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليتفصد عرقا (2).

فهذا الحديث و نحوه صريح في أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان ينتقل من حالته المعروفة إلى حالة تستلزم الاستغراق و الغيبة عن الحالة الدنيوية،حتى ينتهي الوحي و يفارقه الملك.

قال السراج بن البلقيني:هي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت،فهو مقام برزخيّ يحصل له عند تلقّي الوحي،و لما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال،خصّ اللّه نبيه ببرزخ في الحياة يلقي اللّه فيه وحيه،المشتمل على كثير من الأسرار،و قد يقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره،اطّلاع على كثير من الأسرار،و ذلك مستمدّ من المقام النبوي،و يشهد له حديث:«رؤيا المؤمن جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة (3)»انتهى.

و يشهد له حديث مجيء الملك بسورة(اقرأ)حيث قال:«فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد (4)»:أي بلغ الغط مني غاية و سعي.

و منه الغط في الماء،و كأنه أراد ضمني و عصرني،أخرجه الشيخان.).

ص: 133


1- رواه البخاري(3043)،و مسلم(2333)،و الترمذي(3634)،و النسائي(147/2)،و مالك في الموطأ(202/1)،و أحمد في المسند(158/6).
2- رواه البخاري(2/1).
3- رواه البخاري(38/9)،و مسلم(52/7)،و أبو داود(416/4)و الترمذي(123/9).
4- رواه البخاري(22/1)،و مسلم(97/1).

و حديث:«فأخذ بحلقي (1)»:أي ضمني و خنقني،أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بسند حسن.

و أما الكشف فأجمع العارفون باللّه على إثباته كشفا و شهودا خلافا لمن أنكره مستدلا على إنكاره بطريق النظر و العقل،ثم هو عند من أثبته قسمان:قسم يشترط في إدراكه القوة المتخيلة،المتصلة بنشأة الإنسان،فلا يدرك إلا بها،و يذهب بذهابها،و يسمّى مثالا مقيّدا،و مثالا متصلا،و هو نوعان:نوع مقيد بالنوع،و نوع غير مقيّد به،و لكنه مشروط بحصول غيبة و فتور ما في الحس،كما في الواقعات المشهورات للصوفية،و أول ما يراه الأنبياء عليهم الصلاة و السلام من الوحي إنما هو الصور المثالية المرئية في النوم و الخيال،ثم يترقون إلى رؤية الملك في المثال المطلق أو المقيد في غير حال النوم،لكن مع فتور في الحس.

و قسم لا يشترط فيه ذلك،أعني القوة المتخيلة،فيحصل بدونها،و لا يذهب بذهابها، و يسمّى مثالا مطلقا،و مثالا منفصلا،و هو حضرة ذاتية قابلة دائما للمعاني و الصور، فتجدها بخاصيتها لا يكون غير ذلك.

و من هذا القسم الثاني و هو المطلق الصور المرئية في المرايا و نحوها من الأجسام الصقيلة،و تشكل الملك كجبريل عليه السّلام بمثل صورة دحية الكلبي أو غيره،و الأنبياء و الأولياء بمثل أشكالهم العنصرية،و تصور الأعمال الصالحة بصور حسنة جميلة،و السيئة بصور ظلمانية قبيحة،و الأنبياء و الكمّل أكثر ما يرون الأشياء و يشاهدونها في حضرة المثال المطلق،و كل ما يرى فيها لا بدّ أن يكون حقّا مطابقا للواقع:أي للصورة الخارجية من غير اختلال،و من ثم لا يحتاج فيها إلى تعبير بخلاف حضرة المثال المقيد،فشأنها أن يعبر عن الصورة الممثلة فيها إلى المعاني المقصودة منها،فمن ثم تحتاج إلى التعبير في الغالب،و هو الجواز من صورة ما رأى إلى أمر آخر،و هو المعنى المراد بها.).

ص: 134


1- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده(ص 215،216).

النور الرابع

و هو نور النبوة:

فهو ما له ظهر من الآيات،و ما تحدّى به من المعجزات،ثم ما أدرك من النوع الأكمل.هذا كشف له به عن مقام النبوءة،و أظهر اللّه به قدره و مكانه.

*قلت:قال ابن دحية:النبي:يهمز و لا يهمز،فالنبي بلا همزة معناه:الرّفيع الشّأن، العالي الأمر،أخذ من النّباوة:و هي ما ارتفع من الأرض،و من جعله من النبإ بهمزة؛لأنه ينبئ عن اللّه تعالى،أي:يخبر،فهو منبّئ،أو لأنه تنبّأ هو بالوحي،و قد همزه نافع في جميع القرآن،و قال العباس بن مرداس السلمي:

يا خاتم النّباء إنك مرسل بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا

إنّ الإله بنى عليك محبّة من خلقه و محمّدا سمّاكا

و هذا البيت،و الاشتقاق،و قراءة أهل المدينة تثبت فيه الهمزة،و ترك همزة على التخفيف،فمن جعل التخفيف فيه لازما،و هو قراءة الأكثرين قال:في جمعه،أنبياء،مثل تقيّ و أتقياء،و وصيّ و أوصياء.

قال النحوي،العالم أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل في كتاب:«الاشتقاق»له:

و سمعت عليّ بن سليمان يقول:الأولى في العربية في«نبي»ترك الهمز،و يدل على ذلك القرآن،و ذلك قوله عز و جلّ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]،فهذا جمع غير مهموز،كما يقال:صفيّ و أصفياء،و لو كان مهموزا لقلت في جمعها:نباء،كما تقول:كرماء في جمع كريم.

و لم يأت القرآن الكريم بنبإ،و إنما جاء في شعر عباس بن مرداس.

و قيل:النبي«الطريق»سمّي بذلك لأنه«الطريق»إلى اللّه،و سمي رسل اللّه أنبياء لأنهم «الطرق»إلى اللّه،إلا أن كل رسول نبي،و ليس كل نبي رسولا P لأن الرسول هو المرسل للأمة من قبل اللّه عز و جل،داعيا إليه،و صادعا بالدلالة عليه،و مرشدا إلى كلّيات المصالح العامة التي يستقيم بها نظام الدنيا،و ينال الفوز الأكبر في العقبى،ناسخا بشرعته لشرعة

ص: 135

من تقدمه من الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين،و هو مخاطب من اللّه جلّ جلاله،و مخبر عنه إما بوساطة الملك كفاحا،و إما من وراء حجاب صراحا،و هو سماع الكلام القديم كما سمعه موسى صلّى اللّه عليه و سلّم بنص القرآن العظيم،و نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بنص الحديث الكريم.

و الوحي على ضروب:فمنه هذا،ثم وحي رسالة بواسطة ملك،و وحي تلقّ بالقلب كما ذكر عن داود عليه السّلام،و الرسول يعمّ البشر و الملائكة،و النبي يخصّ البشر،و قد جاء بذلك القرآن العظيم.

و أما النبي فهو المبلّغ عن اللّه عز و جلّ للأمة التي هو من جملة شيعة رسولها،و اتّباعه ما يؤمر بتبليغه إليها من بشارة و نذارة إما بإلهام،أو منام،أو مخاطبة بعض الملائكة الكرام عليهم السلام،و ليس له نسخ شيء من شرعة من تقدمه.

و أما قوله جل من قائل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ [الفتح:29].

و كذلك: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144].

و كذلك: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب:40].

و قول عيسى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:2].

فإنما أراد جلّ و علا تعريفه بالاسم؛ليعلم من جحده أن أمره و كتابه هو الحق،و لأنهم لم يعرفوه إلا بمحمد و لو لم يسمه لم يعلم اسمه من الكتاب العزيز،مع أن اسمه مشتقّ من اسم اللّه عز و جلّ كما مدح به:

و شقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود و هذا محمّد

و لم يواجهه في القرآن العظيم باسمه؛بل ناداه فيه بالنبوة و الرسالة.

و ناداه باللطف: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1].

و يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1].

و ناداه بالرمز بقوله جلّ من قائل: طه [طه:1].

ص: 136

و قال الحرالي:النبوة الخاصة به صلّى اللّه عليه و سلّم هي نبوة الرفعة المشتقة من نبوة الأرض،و هو ما ارتفع منها،فلرفعته في وجوه الرفعة كلها عروجا و تدليا رفعة إحاطة لا رفعة اختصاص كان صلّى اللّه عليه و سلّم نبيّ النبوة التي هي علوّ،و علت نبوته عن أن تكون خبرا من النبأ؛لاستغنائه بالعلم عن الخبر،و لذلك و اللّه أعلم لما قيل له:يا نبيء اللّه(بالهمزة)قال:«لست بنبيء اللّه؛ أنا نبيّ اللّه (1)»،فبين اختصاصه بنبوة العلو و الرفعة،و تنزهه عن نبوءة النبأ و الإخبار، الذي هو حظّ من لا علم له بما نبئ به.

فلما علمه اللّه ما لم يكن يعلم كان صلّى اللّه عليه و سلّم نبيّ علوّ،لما انتهى إليه علمه إلى الغاية الجامعة المحيطة فكان العالم بالحق الأعلم باللّه،كانت نبوة تماما،فكان النبيّ المكمل بما يشير إليه الدوم كلمة(ال).

فإذا أطلق اسم النبيّ اختصّ به هو صلّى اللّه عليه و سلّم،و إلا قيل:نبيّ بني إسرائيل،و نبيّ بني فلان.

فهو النبيّ المحيط النبوة،الذي كلّ النبوة من نبوته،السابق في النبوة،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:

«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين (2)»،و هو صلّى اللّه عليه و سلّم النبيّ بما أوحى إليه ربه ما أوحى بلا واسطة ملق و لا مبلغ،المنتهي في النبوة إلى جمع علو السمع،و العين المنتهية إلى الوجد العليّ الذي هو به نور كله،قلبه و قبره و شعره و بشره و لحمه و عظمه و دمه،حتى كان صلّى اللّه عليه و سلّم طاهر الدم طاهر جميع الفضلات بما هو نور كله،فهو النبيّ مطلقا في ذاته نور،و فى بيانه إنارة.

قال السبكي:أرسل للخلق كافة من لدن آدم،و الأنبياء قبله بعثوا بشرائع معينات، فهو نبي الأنبياء،و أرسل إلى الجن بالإجماع و إلى الملائكة في أحد القولين،رجحه السبكي.

زاد المازري:و إلى الجمادات و الحيوانات و الحجر و الشجر،و بعث رحمة للعالمين حتى).

ص: 137


1- رواه الديلمي في الفردوس(420/3)،و ابن عدي في الكامل(437/2)،و ذكره الذهبي في الميزان (376/2)،و ابن حجر في لسان الميزان(5/4).
2- ذكره المناوي في فيض القدير(54/5)،و العجلوني في كشف الخفا(169/2)،و القاري في المصنوع(142/1)،و المباركفوري في تحفة الأحوذي(56/10).

الكفار بتأخير العذاب عنهم،و لم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة،و بأن اللّه أقسم بحياته و أقسم على رسالته،و تولى الرد على أعدائه،و خاطبه بلطف ما خاطب به الأنبياء، و قرن اسمه باسمه في كتابه،و فرض على العالم طاعته و التأسي به فرضا مطلقا لا شرط فيه و لا استثناء،و وصفه في كتابه عضوا عضوا،و لم يخاطبه في القرآن باسمه،بل:يا أيها النبي يا أيها الرسول،و حرم على الأمة نداءه باسمه.

و كره الشافعي أن نقول في حقه:(الرسول)بل(رسول اللّه)؛لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة،و فرض على من ناجاه أن يقدم بين يدي نجواه صدقة ثم نسخ ذلك،و لم يره في أمته شيئا يسوؤه حتى قبضه بخلاف سائر الأنبياء،و بأنه حبيب الرحمن، و جمع له بين المحبة و الخلة،و بين الكلام و الرؤية،و كلمه عند سدرة المنتهى،و كلم موسى على الجبل،قاله ابن عبد السلام.

و جمع بين القبلتين و الهجرتين،و جمع له بين الحكم بالظاهر و الباطن معا،و نصر بالرعب مسيرة شهر أمامه و شهر خلفه،و أوتي جوامع الكلم،و أوتي مفاتيح خزائن الأرض على فرس أبلق عليه قطيفة من سندس،و كلّم بجميع أصناف الوحي،عد هذه ابن عبد السلام.

و هبط عليه إسرائيل و لم يهبط على نبيّ قبله،عد هذه ابن سبع،و جمع له بين النبوة و السلطان،عدّ هذه الغزالي في الإحياء.

و أوتي علم كل شيء إلا الخمس التي في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ [لقمان:34].

و قيل:إنه أوتيها و أمر بكتمها،و الخلاف حار في الروح أيضا،و بيّن له أمر الدجال ما لم يبن لأحد،و وعد بالمغفرة،و هو يمشي حيّا صحيحا.

قال ابن عباس:ما أمّن اللّه أحدا من خلقه إلا محمدا.

قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [الفتح:2].

و قال اللّه تعالى للملائكة: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29].

ص: 138

و قال عمر بن الخطاب:«و اللّه ما تدري نفس ما ذا مفعول بها،ليس هذا إلا للرجل الذي قد بين له أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر»صلّى اللّه عليه و سلّم،أفرده الحاكم،و رفع ذكره؛فلا يذكر اللّه جلّ جلاله في أذان و لا خطبة و لا تشهد إلا ذكر معه،و عرض عليه أمته بآخرهم حتى رآهم،و عرض عليه ما هو كائن في أمته حتى تقوم الساعة.

قال الأسفراييني:و عرض عليه الخلق كلهم من لدن آدم فمن بعده،كما علم أسماء كل شيء،و هو سيد ولد آدم (1)،و أكرم الخلق على اللّه،فهو أفضل من سائر المرسلين، و جميع الملائكة المقرّبين،و كان أفرس العالمين،عد هذه ابن سراقة،و أيّد بأربعة وزراء:

جبريل و ميكائيل و أبي بكر و عمر،و أعطي من أصحابه أربعة عشر نجيبا،و كل نبي أعطي سبعة،و أسلم قرينه،و كان أزواجه عونا له،و أصحابه أفضل العالمين إلا النبيين و كلهم يجتهدون.

و لهذا قال:«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم (2)»،و مسجده أفضل المساجد، و بلده أفضل البلاد بالإجماع،فيما عدا مكة على أحد القولين فيها و هو المختار،و تربتها مؤمنة،و غبارها يطفئ الجذام،و نصف أكراش الغنم فيها،مثل ما عليها في غيرها من البلاد،و لا يدخلها الدجال و لا الطاعون،و صرف الحمى عنها أول ما قدمها،و نقل حماها إلى الجحفة،ثم لما أتاه جبريل بالحمى و الطاعون أمسك الحمى بالمدينة،و أرسل الطاعون إلى الشام،و لما عادت الحمى إلى المدينة باختياره إياها لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها، حتى جاءت وقفت ببابه و استأذنته فيمن يبعثها إليه،فأرسلها إلى الأنصار (3)،و أحلت له مكة ساعة من نهار،و حرم ما بين لابتي المدينة.

و قال المازري و القاضي عياض:لا تقتل حيات المدينة التي للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلا بإنذار، و الحديث الوارد في إيذان الحيات خاصّ بها،و يسأل عنه الميت في قبره،و استأذن ملك).

ص: 139


1- رواه مسلم(59/7).
2- ذكره المناوي في فيض القدير(297/6).
3- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(305/2).

الموت عليه و لم يستأذن على نبي قبله،و البقعة التي دفن فيها أفضل من الكعبة و من العرش، و يحرم التكني بكنيته،و التسمي باسمه محمد،و التسمي بالقاسم؛لئلا يكنى أبوه أبا القاسم، حكاهما النووي في شرح مسلم (1)،و يجوز أن يقسم على اللّه به (2)،و ليس ذلك لأحد، ذكر هذه ابن عبد السلام،و لم تر عورته قط،و لو رآها أحد طمست عيناه،و ذكر المازري في توثيق عرى الإيمان من خصائصه:أنه لخواص الأنبياء و أنه نبي الأنبياء،و أنه ما من نبي إلا و له خاصة نبوة من أمته إلا و في هذه الأمة عالم من علمائها يقوم في قومه مقام ذلك النبي في أمته و ينحو منحاه في زمانه،و لهذا ورد:«علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (3)».

و ورد:«أن العالم في قومه كالنبي في أمته (4)».

و من خواصه أن سماه اللّه عبد اللّه و لم يطلقها على أحد سواه و إنما قال: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء:3]، نِعْمَ الْعَبْدُ [ص:30].

و من خواصه:أنه ليس في القرآن و لا غيره صلاة من اللّه على غيره،فهي خصيصة اختصه اللّه بها دون سائر الأنبياء انتهى.

النور الخامس

و هو نور النشأة:

فهو الذي كشف له مكانته و عناية اللّه به و حفظه،و ما فعلت الملائكة به و تطهيره، و شق بطنه،و اتصافه بما يجب،و كونه كان يتيما محفوظا حتى إن أمه الأولى حدثت عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه كان يسبح في بطنها و عند ولادته تعنى و بعدها و أمه أعني أم تربيته كذلك

ص: 140


1- رواه البخاري(226/4)،و مسلم(169/6).
2- رواه ابن ماجه(441/1).
3- ذكره المناوي في فيض القدير(384/4).
4- رواه الديلمي في الفردوس(373/2)،و ذكره العجلونى فى كشف الخفا(318/2).

كانت تقول:إذا أكلت الطعام المختلف فيه لا يشرف لبنها.

و جملة الأمر كان مجموع قرائن أحوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

*قلت:قال الشيخ الكتاني:جرت المشيئة الإلهية الأزلية بإيجاد الإنسان الكامل أولا و بالذات من الذات الأحدية،و جعله أصلا و منبعا لجميع العوالم الخلقية،و مادّة ممدة لكل ذرة من ذرات البرية،فكان منه الأمر و الخلق،و كل جمع و فرد،و منه المبدأ و إليه المنتهي و فيه كل ما يرام و يشتهى و المفاض عليه سر الذات و المحلى بحلي الصفات،و المسمى بالأسماء العلية،و المخلوق على الصورة الجليلة البهية،و المعلّم بلا واسطة،و المقرب بدون رابطة،و المعنى دون غيره حقيقة بالخطاب،و المنزل عليه أصالة كل ما أنزل من كتاب.

فهو رسول الرسل و نبي الأنبياء،هو المبعوث إلى كل من تقدم أو تأخر من الأمم و سائر البرية و جميع الأصفياء و المعطى جزاما و الخليفة،المفوض إليه أمر العوالم كلها وفاقا بين المحمديين من أهل اللّه لا خلافا،أشرف الموجودات مكانة و مكانا،و أعلاها و أسماها منزلة و منزلا و أولاها،أدار اللّه عليه رحى مخلوقاته،و جعله قطب فلك جميع مصنوعاته،فكان لهذا العالم الكوني القطب الأصلي و الأب الحقيقي لكل موجود منه فرعي أو أصلي،و القطبية لغيره بحكم النيابة عنه و العارية،و الكل في قبضته و تحت ولايته الممتدة و السارية.

و قد غسل قلبه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ما شقّ بماء النسيم في طست من ذهب مملوء ثلج؛فهو أنقى الخلق و أتقاها،استخرجا قلبه صلّى اللّه عليه و سلّم ملكان عظيمان أجلّ الملائكة،فشقّاه،فاستخرجا منه علقة سوداء،فطرحاها،ثم غسلا قلبه و بطنه بذلك الثلج حتّى أنقياه.

و رأت أمه حين وضعته نورا خرج منها أضاءت له قصور بصري،و لم تجد في حملها به ما تجده النساء من المشقّة،و إنما عرفت حملها به بإخبار ملك أتاها بين النوم و اليقظة، و بشّرها بأنها حملت بسيد هذه الأمة و نبيّها،مع ارتفاع حيضتها،و انتقال النور الذي كان في وجه عبد اللّه والده إلى وجهها.

و حصلت ليلة مولده إرهاصات كثيرة منها:

ص: 141

خمود نار فارس،و لم تخمد قبل ذلك بألف عام.

و ارتجاج إيوان كسرى حتى انشقّ و سقطت منه أربع عشرة شرافة.

و غيض بحيرة ساوة.

و تنكس جميع الأصنام،و كذا انتكست عند الحمل به.

و مات أبوه عبد اللّه و أمه حامل به على الصحيح الذي عليه أكثر العلماء.

و لهذا كان المسمّى له بمحمد،و العاق عنه بشاة يوم سابع ولادته:جده عبد المطلب صلّى اللّه عليه و على آله و صحبه و سلم.

النور السادس

و هو نور السابقة:

فكونه في الأول أريد بذلك،فإنه قد أخبر أنه سيد ولد آدم،و كان و كل ذلك عن اللّه،و خبر اللّه لا يتغير،و كذلك علمه لا يتبدل و أيضا كونه قال:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»،فكشف له هذا الطين أنه كان مشتهر ما بين الأنبياء في الأزل قبل الكون و أظهر أنه نبيّ،و هو ممكن الوجود و قبل كونه،و هذه أيضا سابقة ثانية.

و كذلك اسمه في اللوح إذا أرادت الملائكة ترحم عباد اللّه و تدعو اللّه فيهم لكي يدفع أو يرفع عنهم العذاب النازل-قصدوه و توسلوا له به.ذكر ذلك ابن شوع و رفعه إلى أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.

*قلت:قال الشيخ الكتاني:روى مسلم في المناقب،و أبو داود في السّنة عن أبي هريرة:

«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة،و أنا أول من ينشق عنه القبر،و أنا أول شافع و أول مشفع (1)».

و حديث أحمد،و الترمذي في المناقب و قال:حسن صحيح،و ابن ماجه عن أبي سعيد

ص: 142


1- رواه مسلم(2278).

الخدرى:«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر،و بيدى لواء الحمد و لا فخر،ما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى،و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر،و أنا أول شافع و مشفع و لا فخر (1)».

و حديث الدارمي،و الترمذي مختصرا و قال غريب عن أنس مرفوعا:

«أنا أوّل النّاس خروجا إذا بعثوا و أنا قائدهم إذا وفدوا و أنا خطيبهم إذا أنصتوا و أنا شفيعهم إذا حبسوا و أنا مبشّرهم إذا أيسوا (2)».

و في رواية:«أيسوا الكرامة،و المفاتيح يومئذ بيدي،و لواء الحمد يومئذ بيدي و أنا أكرم ولد آدم على ربّي يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور».

و حديث الطبراني في«الكبير»عن عبد اللّه بن سلام:«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر،و أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر،و أول شافع و مشفع،لواء الحمد بيدى يوم القيامة تحتي آدم فمن دونه».

و حديث الديلمي عن ابن عباس:«و أنا سيد الأولين و الآخرين من النبيين و لا فخر».

و حديث البيهقي في«فضائل الصحابة»،و الحاكم في«المستدرك»و صححه و تعقب:

«أنا سيد العالمين».

و حديث الدارمي بسند رجاله ثقات،و البخاري في«تاريخه»،و الطبراني في «الأوسط»و البيهقي،و أبي نعيم عن جابر،و ابن عساكر في«تاريخه»عن أبي هريرة:«أنا قائد المرسلين و لا فخر»الحديث (3).

و حديث أبي الحسن القطان في«المطولات»،و ابن عساكر قال في:«الجمع»:و سنده حسن.).

ص: 143


1- رواه أحمد في المسند(2/3)،و الترمذي(587/5).
2- رواه الدارمي(39/1)،و الترمذي(585/5).
3- رواه أحمد في المسند في مسنده(137/7)،و ابن ماجه(1443/2)،و الترمذي(586/5)، و الحاكم في المستدرك(88/4).

عن حذيفة:«ولد آدم كلهم تحت لوائي يوم القيامة و أنا أول من يفتح له باب الجنة».

و حديث أحمد،و الترمذي،و ابن ماجه،و الحاكم في«المستدرك»و البيهقي،و ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي بن كعب:«إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين و خطيبهم و صاحب شفاعتهم غير فخر (1)».

و حديث الطبراني في«الكبير»،و الضياء عن جابر،و الحاكم و صححه و تعقب عن عائشة،و الدارقطنى في«الأفراد»عن ابن عباس:«إذا كان يوم القيامة كان لواء الحمد معي،و كنت إمام المرسلين و صاحب شفاعتهم».

و حديث سعيد بن منصور و سمويه و الضياء المقدسي عن جابر:«أنا سيد النبيين و لا فخر».

و حديث ابن النجار عن أم كرز:«أنا سيد المرسلين إذا بعثوا،و سابقهم إذا وردوا، و مبشرهم إذا أيسوا،و إمامهم إذا سجدوا،و أقربهم مجلسا إذا اجتمعوا،أتكلم فيصدقني، و أشفع فيشفعني،و أسأل فيعطيني».

و حديث الطبراني،و البيهقي في«الدلائل»و عياض في«الشفاء»عن ابن عباس:«و أنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على اللّه و لا فخر (2)».

و حديث الترمذي و قال:حسن غريب و الدارمي و أبي نعيم عنه أيضا:«و أنا أكرم الأولين و الآخرين و لا فخر (3)».

و حديث الحاكم في«المستدرك»،و ابن عساكر عن عبادة بن الصامت:«إني لسيد الناس يوم القيامة و لا فخر و لا رياء،و ما من الناس من أحد إلا و هو تحت لوائي يوم القيامة (4)».ت.

ص: 144


1- رواه الحاكم في مستدركه(83/1)،و الطبراني في الكبير(184/2).
2- رواه الطبراني في الكبير(56/3).
3- رواه الترمذي(587/5)،الدارمي(39/1).
4- ذكره الهيثمي في زوائده(376/10)و قال:رواه الطبراني و إسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة و بقية رجاله ثقات.

و حديث الديلمي عن جابر:«أنا أشرف الناس حسبا و لا فخر،و أكرم الناس قدرا و لا فخر..الحديث (1)».

و حديث الطبراني في«الكبير»،و ابن النجار في«تاريخه»عن عمر:

«إن الجنة حرّمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها،و حرّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي (2)».

و حديث ابن أبي حاتم في«تفسيره»و أبي نعيم في«الدلائل»من طرق عن قتادة عن الحسن،عن أبي هريرة و ابن سعد عن قتادة مرسلا:«كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في البعث».

و في رواية:«أول الأنبياء خلقا و آخرهم بعثا».

و حديث أحمد،و البخاري في«تاريخه الكبير»،و أبي نعيم و البغوي و ابن السكن و ابن سعد،و الطبراني،و الحاكم،و صححه،و البيهقي عن ميسرة الفجر،و البزار،و الطبراني، و أبي نعيم من طريق الشعبي عن ابن عباس،و ابن سعد عن عبد اللّه بن أبي الجدعاء التميمي أو الكناني:«كنت نبيّا و آدم بين الروح و الجسد».

و حديث الترمذي و قال:حسن صحيح غريب.

و الحاكم و البيهقي و أبي نعيم عن أبي هريرة قال:«قالوا:يا رسول اللّه،متى وجبت لك النبوة؟قال:و آدم بين الروح و الجسد (3)».

و حديث أحمد،و ابن حبان،و الحاكم،و البيهقي،و الطبراني،و البزار،و أبي نعيم عن العرباض بن سارية:ر.

ص: 145


1- رواه الديلمي في الفردوس(45/1).
2- رواه الطبراني في الكبير(63/3).
3- رواه الحاكم في المستدرك(665/2)،و الترمذي(585/5)،و قال:هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه،و في الباب عن ميسرة الفجر.

«إني عبد اللّه و خاتم النبيين (1)».

و في لفظ:عند اللّه في أم الكتاب لخاتم النبيين،«و إن آدم مجندل في طينته (2)».

و حديث أحمد،و أبي يعلى عن جابر،و أبي نعيم عن عمر بن الخطاب:«و الذي نفس محمد بيده لو أن موسى كان حيّا»-زاد في رواية اليوم-ما وسعه-أي ما جاز له- «إلا أن يتبعني».

و حديث أحمد،و أبي داود،و ابن حبان في«صحيحه»،و البيهقي في«شعب الإيمان»، عن جابر:«أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى؟لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعي (3)».

و حديث أحمد أيضا و البزار عنه:«و اللّه لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني (4)».

و حديث الدارمي عنه أيضا:«و الذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه و تركتموني لضللتم عن سواء السبيل،و لو كان حيّا و أدرك نبوتي لا تبعني (5)».

و حديث ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لما قرب اللّه موسى إلى طور سيناء نجيا قال:أي رب هل أحد أكرم عليك مني قربتني نجيّا و كلمتني تكليما؟قال:نعم محمد أكرم عليّ منك (6)».

و حديث النسائي عنه أيضا:أنه عليه السّلام صعد المنبر و قال:«أيها الناس أي أهل الأرض).

ص: 146


1- رواه أحمد في المسند(127/4)،و الحاكم في المستدرك في مستدركه(453/2)و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
2- رواه ابن عساكر في تاريخه(168/1).
3- رواه البيهقي في شعب الإيمان(200/1).
4- رواه أحمد في المسند(338/3)،و الهيثمي في زوائده(174/1)و قال رواه البزار و عند أحمد بعضه و فيه جابر الجعفي و هو ضعيف أتهم بالكذب.
5- رواه الدارمي(126/1).
6- رواه البيهقي في شعب الإيمان(271/5).

تعلمون أكرم على اللّه عز و جلّ؟فقالوا:أنت (1)»أخرجه في القسامة.

و حديث مسلم عن أبي هريرة و حذيفة و حديثه معا في الشفاعة:و فيه قول إبراهيم عليه السّلام:«إنما كنت خليلا من وراء وراء»:أي من وراء مرتبة الحبيب التي هي المرتبة الحائلة بين الرب و جميع الخلق (2).

و حديث الحاكم في«تاريخه»عن أبي بن كعب:«و الذي نفسي بيده إن إبراهيم ليرغب في شفاعتي (3)».

و حديث مسلم عن أبي بن كعب:إن اللّه تعالى قال له عليه السّلام في مسألة ترديده في قراءة القرآن على حرف و على حرفين و على سبعة أحرف:«و لك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها،قال:فقلت:اللهم اغفر لأمتي،اللهم اغفر لأمتي،و أخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السّلام (4)».

إلى غيرها من الأحاديث الواردة في هذا الباب،كالأحاديث الواردة بأن عيسى عليه السّلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بشريعته،و يكون على دينه و ملته،و الواردة في تمني غير واحد من المرسلين أن يكون من أمته و أتباعه المختصين به و زمرته،فإنها كلها تؤذن بأنه نبي الأنبياء،و رسول الرسل،و سيدهم،و إمامهم،و زعيمهم،و أخصهم،و أقربهم، و أعرفهم باللّه،و أعلمهم به،و أولاهم بالكرامة،و أحقهم بالفخامة و الزعامة،فيكون باسم الخلافة أولى و أحق،و لكل كرامة من اللّه لخلقه أسرع و أسبق،و الخلفاء قبله و بعده نوابون عنه،و تابعون له،و لهذا لم يبعث إلى الخلق عامة إلا هو خاصة صلّى اللّه عليه و سلّم،و مما يؤذن بذلك أيضا ما ذكره غير واحد من المحققين من أن السجود الواقع لآدم عليه السّلام من الملائكة إنما كان من أجل ما أكرم به في صورته الآدمية من الظهور بالسمة المحمدية و في الفتوحات المكية سجود الملائكة لآدم إنما كان لأجل الصورة لا لأن علمهم الأسماء انتهى.).

ص: 147


1- رواه النسائي(227/4).
2- رواه مسلم(187/1).
3- رواه ابن عساكر في تاريخه(330/7).
4- رواه مسلم(561/1)،رقم(820).

و هو محتمل لأن يريد به الصورة الإلهية أو المحمدية أو هما معا و في«الطبقات الشعرانية»في ترجمة أبي المواهب الشاذلي أنه كان يقول:كان سجود الملائكة لآدم عليه السّلام إشارة لتواضع الصغير للكبير،و إظهارا للكرامة بظهور صورته بسمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذلك أن رأس آدم ميم،و يديه حاء،و سرته ميم،و رجليه دال،و كذا كان يكتب في الخط القدي،م انظر تمامه.

و ذكر آخرون أنه إنما كان من أجل ما كان في جبهته و جبينه من نور سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و يرحم اللّه القائل:

يا بني الزهراء لا لاقيتم أبد الآباد سوء من أحد

سركم لاح بمعنى آدم فلذا كل إليه قد سجد

و في«الفتوحات المكية»في الباب العاشر بعد ما ذكر فيها أنه ثبت له صلّى اللّه عليه و سلّم السيادة و الشرف على أبناء جنسه من البشر،و أن الذين تقدموا على زمن ظهوره كانوا في العالم نوابه من آدم إلى آخر الرسل،و هو عيسى عليه السّلام لو كان موجودا بجسمه من لدن آدم إلى زمن وجوده لكان جميع بني آدم تحت حكم شريعته إلى يوم القيامة حسّا،و إنه الملك و السيد على جميع بني آدم،و إن جميع من تقدمه كان ملكا له و تبعا،و الحاكمون فيه نواب عنه،و إن هذا إذا كان الملك عبارة عن الأناسي خاصة،فإن نظرنا إلى سيادته صلّى اللّه عليه و سلّم على جميع ما سوى الحق كان ملكه و سيادته على جميع الخلق ما نصه:

فالإنسان آخر موجود من أجناس العالم،فإنه ما ثم إلا ستة أجناس،و كل جنس تحته أنواع،و تحت الأنواع أنواع،فالجنس الأول:الملك،و الثاني:الجان،و الثالث:المعدن، و الرابع:النبات،و الخامس:الحيوان،و لما انتهى الملك و تمهد و استوى كان الجنس السادس:

جنس الإنسان،و هو الخليفة على هذه المملكة،و إنما وجد أخيرا ليكون إماما بالفعل حقيقة لا بالصلاحية و القوة،فعند ما أوجد عينه لم يوجده إلا واليا سلطانا ملحوظا ثم جعل له نوابا حين تأخرت نشأة جسده،فأول نائب كان له و خليفة آدم عليه السّلام ثم ولده و اتصل النسل،و عين في كل زمان خلفاء إلى أن وصل زمن نشأة الجسم الطاهر المحمدي صلّى اللّه عليه و سلّم،فظهر مثل الشمس الباهرة،فاندرج كل نور في نوره الساطع،و غاب كل حكم في

ص: 148

حكمه،و انقادت جميع الشرائع إليه،و ظهرت سيادته التي كانت باطنة،فهو الأول و الآخر،و الظاهر و الباطن،و هو بكل شيء عليم.انتهى المراد منه.

و قد تقدّم قبل هذا تمام كلامه في هذا المرام انتهى.

و في الفتوحات المكية في الباب الثالث و السبعين في الجواب عن السؤال السادس و السبعين من أسئلة الحكيم الترمذي،و هو ما لواء الحمد بعد أن ذكر أنه حمد الحمد،و هو أتم المحامد و أسناها و أعلاها مرتبة،و إنه سمى لواء لأنه يلتوي على جميع المحامد،فلا يخرج عنه حمد،و إنه لا يكون إلا بالأسماء،و آدم عليه السّلام عالم بجميعها كلها في المقام الثاني من مقامه صلّى اللّه عليه و سلّم ما نصه:

فكان قد تقدّم لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم علمه بجوامع الكلم،و الأسماء كلها من الكلم،و لم تكن في الظاهر لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم عينا،فيظهر بالأسماء؛لأنه صاحبها،فظهر ذلك في أول موجود من البشر و هو آدم عليه السّلام،فكان هو صاحب اللواء في الملائكة بحكم النيابة عن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنه تقدم عليه بوجوده الطيني،فمتى ظهر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كان أحق بولايته و لوائه،فيأخذ اللواء من آدم يوم القيامة بحكم الأصالة،فيكون آدم فمن دونه تحت لوائه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد كانت الملائكة تحت ذلك اللواء في زمن آدم،فهم في الآخرة تحته،فتظهر في هذه المرتبة خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الجميع انتهى.

النور السابع

و هو نور التشريف:

فهو النور الذي كشف له عن الخصوصية الملكوتية،و رسم اسمه مع اسمه في اللوح و كتب بالنور.

*قلت:قال الشيخ أبو عبد اللّه المكيّ:و لهذا الاسم الكريم يعني محمدا إشارات لطيفة من حيث صورته و مادته:أي من جهة حروفه المادية،و من جهة هيئته الصورية.

أما الأول:فلما اشتمل عليه في اعتبار حروفه من ميم الملكوت الأجلى،و حاء الحياة و الحفظ الذي به،و فيه كتب العلم الأسنى،و ميم الملكوت الباطني في ميم الملك الظاهر، و دال الدوام منه،و الاتصال الماحية لوهمي الانقطاع و الانفصال.

ص: 149

و أما الثاني:فإن صورة هذا الاسم على صورة الإنسان؛فالميم الأولى رأسه،و الحاء جناحاه،و الميم الثانية بطنه،و الدال رجلاه،و الإنسان صغير و كبير كما هو في مصطلح القوم انتهى.

للعلماء في تفسير الملك و الملكوت عبارات حاصلها أن الملك هو:التصرف في الأمور، و في تحقيقه كلام يطلب من محله،و الملكوت:عظم الملك؛لأنه مبالغة فيه كالرّهبوت، و لهذا فسر الملك بعالم الشهادة،و الملكوت بعالم الغيب،و هو عالم الأمر.

و قيل:الملك:ما يدرك بالحس،و الملكوت:ما لا يدرك به.

و ذكر بعضهم عبارة أبسط من هذه فقال:عالم الملك:عالم الشهادة،و يقال:عالم الخلق،و هو عالم الأجسام و الجسمانيات،و يكون بقدرة اللّه تعالى بعضه من بعض، و بتضمنه التغير،و عالم الملكوت عالم الغيب،و يقال له:عالم الأمر،و هو عالم الأرواح و الروحانيات،و هو ما أوجده اللّه تعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج،و بقي على حالة واحدة من غير زيادة و لا نقصان،و الجبروت عالم الأسماء و الصفات الإلهية،يعني صفات العظمة و العلو.

و قيل:هو عالم بين العالمين يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك،فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت.

و أما الحاء:فقد تقدم أنه يمكن أن تكون إشارة إلى الحكم و الحكمة و الحلم.

و أما الدال:فيمكن أن تكون مشعرة بالدلالة كما سبق،و مظاهر الدلالة الكبرى أربعة:و هي:العلم المأمور في الأزل بكتابة الكائنات،و اللوح المحفوظ،و أمين الوحي، و مبلغه للخلق عليهما أفضل الصلاة و أزكى التسليمات،و لا يعارض ما ذكرناه هنا ما أسلفناه؛لأن المقام مقام التماس نكات،و النكات لا تتزاحم،فكل ما بدا و ظهر للفهم من وجوه اللطائف المناسبة لا يبعد و لا يستنكر،و أما هيئته فحركة الميم الأولى هي الضمة التي هي أقوى الحركات،يناسبها قوة ذلك الملك،و ظهور سلطانه،و إشارته في قوله تعالى:

وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الفتح:3].

ص: 150

و في نحو: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8].

وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32].

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28].

وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء:81].

إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر:51].

كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي [المجادلة:21].

و حركة الحاء هي الفتحة،و كم فتح اللّه بحكمه و حكمته و حلمه قلوبا عميا،و آذانا صمّا،و مناسبة فتح حاء الحكم لضمة ميم الملك،تظهر بأدنى توجه.

و حركة الميم الثانية:الفتحة المؤيدة بالتشديد المشعر بتأكد ملك الآخرة؛لبقائه و استمراره،و عزة آثاره،و عدم تناهي أسراره،و أما ملك الدنيا فهو و إن قوي سلطانه و ظهر إبّانه معرض للزوال بزوال محله،فكأنه نموذج بل مقدمة للثاني،و تقدم كلام الشيخ أبي عبد اللّه المكي في فصل معاني حروف الاسم المكرم فلا تغافل عما فيه.

و أما الدال:فمورد للحركات الإعرابية،و كذا للسكون إذا تجرد الاسم عن العوامل اللفظية و المعنوية،أو وقف عليه،و هذا يناسبه توارد واردات الدلالات الملكية و الإلهامية، و تنوع أنواع النعيم في دوام التنعيم،و مراتب التعظيم في دار التكريم،و سكون أشرف وارده بأعظم الموارد،و لا شبهه في التجرد حينئذ من طوارق العوارض الدنيوية،و الدنيا دار الأكدار،و الجنة دار القرار،فإن قبلت أن سكون الميم الثانية يسبب الإدغام يناسبه الإشارة إلى السكون البرزخي،و إلى أن البرزخ هو المنزلة الثانية الكائنة بين الدارين، الفاصلة بين المقامين،فلا بأس،و أيّ بعد لفهم يلتمس من سر ذلك المقتبس،و أن تدعني و خيالي،فقد رضيت بحالي،فاطو عنّي بيانك و بديعك،لا أسمع صنيعك،ما أنت طبيبي، خلني و حبيبي،لا زال هيامي يتجدد،و غرامي يتأكد،و فؤادي يتوقد.

إذا ذكر اسم محمد هنالك تقوم القلوب على أقدام الخدمة،و تطرق رءوس العقول؛ مهابة لتلك الحرمة،و تذرف عيون الأرواح حنينا إلى تلك النعمة،و تسبح الملائكة تعظيما

ص: 151

لتلك النعمة،و تطمئن العوالم لعموم تلك الرحمة،أول من وحّد نور محمد،قارن في أشهد، إذ هو أحمد،سيد من يحمد،أشرف من يحمد،صدا الجوانح،من نداءه صائح،و الشوق صادح،و البدر لائح.

أشرق البدر علينا من ثنيّات وجب الشكر علينا ما دعا للّه داع

قال بعض أرباب التسليك:الناظرين إلى مدارج الإيقاظ لا إلى إعراب الألفاظ و كسر قفص طبعك يكشف لك الغطا،ألق للأكوان سمعك تسمع كلّ شيء.

قال الجلال السيوطيّ في الخصائص:و من خصائصه أن اللّه تعالى قرن اسمه باسمه في كتابه عند ذكر طاعته و معصيته و فرائضه و أحكامه و وعده و وعيده؛تشريفا و تعظيما.

قال تعالى: وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1].

وَ يُطِيعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ [التوبة:71].

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [الحجرات:15].

بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ [التوبة:1].

وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ [التوبة:3].

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ [الأنفال:24].

شَاقُّوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ [الحشر:4].

وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ [الجن:23].

يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ [المائدة:33].

مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لا رَسُولِهِ [التوبة:16].

ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ [التوبة:29].

قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ [الأنفال:1].

فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ [النساء:59].

ص: 152

و قوله: ما آتاهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ [التوبة:59].

أَغْناهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74].

كَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ [التوبة:90].

أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الأحزاب:37]انتهى.

النور الثامن

و هو نور التدلل:

كشف له عن مقام القرب و هو قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى لأمر.

*قلت:قال الشيخ القاشاني في القرب:هو القيام بالطاعة،و القرب:هو دنو العبد من اللّه تعالى بكل ما يعطيه من السعادة،لأقرب الحق العبد،فإنه من حيث دلالة: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد:4]،عليه قرب عام سواء كان سعيدا،أو شقيا،فكل عبد، في كل وقت،تحت حكومة الأسماء الإلهية قرب،من حيث تجلي اسم إلهي و بعد من حيثية اسم آخر،فالقريب من المضل فلا بعيد من الهادي،و العكس،فكل اسم يعطي قربا، فالسعادة ترجع إلى هذا القرب المصطلح عليه،و قد يكون للحق قرب خاص من العبد زائد على قربه العام.

كما قال تعالى لموسى و أخيه عليهما السلام: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى ،فإن هذه المعية،معية العناية بالحفظ و الكلاءة،لا المعية العامة،فقرب العبد من الحق بكل ما يعطي من السعادة يتبع له قربا خاصا من الحضرات بالحقية،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم عن ربه تعالى:«من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا،و من تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا،و من أتاني يسعى أتيته هرولة».

و القرب على قسمين:علمي،و عملي.

فالعلمي:أعلاه العالم بتوحيد الألوهية،و هو على نوعين نظرى،و شهودي.

ص: 153

و العملي:على نحوين:

قرب بأداء الواجبات:و هو القرب الفرضي كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم عن ربه تعالى:«ما تقرب المقربون بأحب إليّ من أداء ما فرضته عليهم».

و قرب نفلى:كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم عن ربه تعالى:«لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه،فإذا أحببته،كنت له سمعا و بصرا».و مداد العمل المقرب:

إما من الباطن إلى الظاهر،فأعمه و أتمه الإيمان.

و إما من الظاهر إلى الباطن،فأعمه و أتمه الإسلام.

و إما من القلب الجامع بين الظاهر و الباطن،فأعلمه و أتمه الإحسان.

فمقتضى القرب النفلى:تجلى الحق للعبد متلبسا القابلية المحدودة.

و مقتضى القرب الفرضي:تجلي الحق له،و ظهور العبد بحسب الحق،غير محدود،و لا متناه.

فالتمييز بين قوسي الحقانية و العبدانية في القرب المفرط إن كان خفيا يعبر ب«قاب قوسين».

و إن كان أخفى يعبر عنه ب«أو أدنى».

و من هنا قال قدس سره:و قد يطلق على حقيقة:«قاب قوسين»،فالتجلي بحكم هذا القرب،إن كان في مادة و صورة،تتبعها القرب في النسبة المكانية،في مجلس الشهود،و إن كان في مجلس الشهود،و إن كان في غير مادة،كان قرب المنزلة و المكانة،كقرب الوزير من الملك..فافهم.

و قال الشيخ محمد بن عمر القادري:اعلم أن قاب قوسين مقام القرب الأسمائي باعتبار التقابل بين الأسماء في الأمر الإلهي المسمى دائرة الوجود كالإبداء و الإعادة و النزول،و الفاعليّة،و القابليّة،و هو الاتحاد بالحق مع بقاء التمييز و الاثنينية،المعبر عنه بالاتصال،و لا أعلى من هذا المقام إلا مقام أو أدنى لارتفاع الاثنينية،الاعتبار به و التمييز

ص: 154

هناك بالفناء المحض،و الطمس الكلي للرسوم كلها تنبيه في تفسير الآية،ثم دنا:أي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من اللّه تعالى و ترقى عن مقام جبريل بالفناء في الوحدة،و الترقي عن مقام الروح.

و في هذا المقام قال جبريل عليه السّلام:«لو دنوت أنملة لاحترقت (1)»إذ وراء مقامه ليس إلا الفناء في الذات،و الاحتراق بسبحات الجمال لا سبحات الجلال؛لأن سبحات الجلال هي أنوار تجليات الصفات،و سبحات الجمال هي أنوار تجليات الذات،و الاحتراق بالجمال،فتدلى:أي مال إلى الجهة الإنسيّة بالرجوع من الحق إلى الخلق حال البقاء بعد الفناء،و الوجوب الموهب الحقاني،فكان قاب قوسين:أي كان صلّى اللّه عليه و سلّم مقدار دائرة الوجود الشاملة للكل المنقسمة بخط موهوم إلى قوسين،باعتبار الحق و الخلق،و الاعتبار هو الخط الموهوم القاسم للدائرة إلى نصفين،فباعتبار البداية و التداني يكون الخلق هو القوس الأول الحاجب للهوية في أعيان المخلوقات و صورها،و الحق تعالى هو النصف الأخير،و باعتبار النهاية و التدلي،فالحق هو القوس الأول الثابت على حاله أزلا و أبدا،و الخلق هو القوس الأخير الذي يحدث بعد الفناء بالوجود الجديد الذي وهب له.

و هذا ما دامت الاثنينية أو أدنى من مقدار القوسين بارتفاع الاثنينية الفاصلة الموهومة لاتصال أحد القوسين بالآخر،و تحقق الوحدة الحقيقة في عين الكثرة بحيث تضمحل الكثرة فيها و تبقى الدائرة غير منقسمة بالحقيقة،و هذا نهاية الولاية.

فما أكمل نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما أسعدنا به صلّى اللّه عليه و سلّم،فلله الحمد و المنّة على هذا النبي الكريم الذي شرف الأكوان صلّى اللّه عليه و سلّم.

لائحة سدرة المنتهى شهود الخلائق الكونية،و قاب قوسين شهود:(الرقائق الأسمائية) أو أدنى شهود الذات،و رؤيتها شهود لا أكمل منه.

النور التاسع

و هو نور التركيب:

فهو الذي انكشف له به عن الغاية العظمى في التوحيد،فإنه كان إذا فكّر في

ص: 155


1- رواه أبو نعيم في الحلية(55/5).

الموجودات،ثم في النظام القديم،ثم في سر القدر،ثم في الأمور العالية كان يغان على قلبه إذا ركب هذه المعلومات العزيزة.

*قلت:قال الشيخ جعفر:و لهذا قال عليه السّلام:«ليغان على قلبي،فأستغفر اللّه (1)»:أي لتتراكم الأنوار و المعارف على قلبي،و تكثر التجليات الذاتية و الصفاتية على باطني و لبي بسبب ترقي في المعارج العرفانية و الكمال،و ارتقاء على ما هو أعلى و أوسع في الحال، فأستغفر اللّه مما كنت فيه قبل ذلك،و أتوب إليه مما أسلفته من التقصير هنالك.

و قد نقل الشيخ زروق في بعض شروحه على الحكم العطائية أن أبا الحسن الشاذلي اجتمع بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و قال:يا رسول اللّه إنك قلت:«إنه ليغان على قلبي؟»قال:نعم،قال:

ما هذا الغين؟فقال صلّى اللّه عليه و سلّم:

«هو غين أنوار لا غين أغيار يا مبارك»فسمّاه مباركا و أجابه بهذا الجواب.

و في اللطائف للقاشاني في الكلام على الغيون بعد ما ذكر أنه يراد بها تجليات الذات الأقدس ما نصه:

تكاد الذي يغطي قلبه صلّى اللّه عليه و سلّم و يغسله إنما هو تجليات ذاتية متظاهرة فكان لقوة حقيقتها، و غلبة أحديتها تمحو حطم بشريته،و تمحو أثر خلقيته،بحيث لا تبقي أثرا و لا رسما،بل تذهب العين في العين بالكلية فلهذا يستغفر اللّه:أي يطلب الغفر و الستر خوفا من غلبة أحكامها عليه،و تظاهر آثارها؛لئلا يهمل حكم نبوته،و كمال وسطيته،و لئلا يظهر أثر ذلك للخلائق فيعبد،أو يقال فيه كما يقال في عيسى و عزيز عليهما السلام انتهى.

و مثله ذكره أيضا الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن سعيد بن أحمد بن محمد سعد الدين الفرغاني في شرحه لتائية ابن الفارض الكبرى،و هو أول شارح لها،و وفاته في حدود سنة سبعمائة،و في كلام غير واحد من الأكابر أن الترقّي المذكور له صلّى اللّه عليه و سلّم غير مقصور على حالة الحياة الدنيوية،بل هو موجود في حياته البرزخية،و في الموقف،و في الجنة،لا ينقطع ما دام ملك اللّه موجودا،فخرج من هذا أن علمه صلّى اللّه عليه و سلّم و مقامه و كماله يقبل الزيادة دائما و أبدا،).

ص: 156


1- رواه مسلم(2075/4).

و إن غايات كمالاته و علومه و مراتبه و ارتقائه لا حد لها و لا انتهاء،بل هو دائم الترقّي بما لا يطلع عليه و يعلم كنهه إلا اللّه تعالى،و إن الترقّي الحاصل له صلّى اللّه عليه و سلّم هو في الذات الإلهية و كمالاتها و أسرارها و علومها لا في غير ذلك.

و ذكر بعضهم أنه عليه السّلام كان يزداد علما بجزئيات الأسماء الإلهية و الكوائن الجزئية التي لا تتناهى قال:لأن الكائنات لا تزال تظهر كل آن بالتجلّي الإلهي،و كل تجلّ له اسم إلهي يخصه يظهر من الغيب؛إذ لا تكرار في التجلّي للوسع الإلهي،فلهذا كان صلّى اللّه عليه و سلّم لا يزال يزداد علما مع الآنات دنيا و برزخا و آخرة و إن كان عالما بما لا يتناهى إجمالا.

و في عبارة:إن الترقي حاصل له في مدارج الجزئيات الداخلة تحت أجناس الكمالات المتعلقة بإكمال الدين و الشفاعة للمذنبين،الحاصلة له صلّى اللّه عليه و سلّم على الكمال قبل وفاته؛لأن جزئياتها و أشخاصها لا تنتهي إلى غاية كنعيم أهل الجنة فليتأمل.

النور العاشر

و هو نور المولد:

فإنه كشف له عن سعادة مولده بالبرهان الفلكي الإلهي السماوي،فإنه كان له نصبة عجيبة لم يبصر قط في أيام العالم مثلها،ثم ظهر يوم مولده في الآفاق مائة معجزة:

منها:خمود نار فارس،و انشقاق إيوان كسرى،و زلزلة أبداد الهنود.

*قلت:بيان مولده الشريف:اختلفوا في عام ولادته،فالأكثرون أنه عام الفيل،بل حكي الاتفاق عليه،و المشهور أنه ولد بعده بخمسين يوما.

و الصواب:إنه بمكة بالعشب،و المشهور أنه بالمسجد المشهور الآن بالمولد،و كان بعد طلوع فجر يوم الإثنين،ثاني عشر شهر ربيع الأول على المشهور،و قيل:ثامنه،و انتصر له كثيرون،قيل:و هو قول أكثر المحدثين،و وافق مولده بالشهور الشمسية ليسان،و ما أحسن ما قيل في حقه:

يقول لنا لسان الحال منه و قول الحق يعذب للسّميع

فوجهي و الزمان و شهر وضعي ربيع في ربيع في ربيع

ص: 157

و قال الإمام أحمد بن المبارك في كتابه الإبريز:سألت شيخنا القطب الغوثي سيدي عبد العزيز الدباغ،وقع خلاف بين أهل السّنة في وقت ولادته صلّى اللّه عليه و سلّم.

ففي بعض الروايات:ولد ليلا،و في بعضها ولد نهارا،فعلى أي الروايتين نعتمد؟.

فقال:على كلّ منهما يعتمد،و أنه لا خلف بينهما حقيقة،بل هو لفظي،و ذلك أن ابتداء الوضع كان من أول السدس الأخير،و انتهاؤه كان بعد الفجر،فمن قال:ولد ليلا نظر لابتداء الوضع،و من قال نهارا نظر لانتهائه انتهى.

و نقل الزركشي في شرح البردة عن ابن عباس رضي اللّه عنه لمّا ولد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال في أذنيه رضوان خازن الجنان:أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا و قد أعطيته؛فأنت أكثرهم علما،و أشجعهم قلبا انتهى.

و نزل صلّى اللّه عليه و سلّم على يد الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف،فهي قابلته رافعا بصره إلى السماء،واضعا يديه بالأرض.

و في ذلك من الإشارات ما لا يخفى،مكحولا،نظيفا،مسرورا:أي مقطوع السّر بضم السين:و هو ما تقطعه القابلة من السّرة،مختونا:أي على صورة المختون.

و قيل:ختنه جده سابع ولادته،و جمع بينهما بأنه يجوز أن يكون ولد مختونا ختانا غير تامّ،كما هو الغالب في المولود مختونا،فتمم جده ختانه.

و قيل:ختنه جبريل عليه السّلام يوم شقّ قلبه عند مرضعته حليمة.

و روي أنه تكلم حين خروجه من بطن أمه فقال:جلال ربي الرفيع،و قيل:قال:اللّه أكبر كبيرا،و الحمد للّه كثيرا،و سبحان اللّه بكرة و أصيلا،و يمكن الجمع.

و قال عياض:و ما جرى من العجائب ليلة مولده من ارتجاج إيوان كسرى،و سقوط شرفاته،و غيض بحيرة طبرية،و خمود نار فارس،و كان لها ألف عام لم تخمد.

و أنه كان إذا أكل مع عمه أبي طالب و آله و هو صغير شبعوا و رووا،فإذا غاب فأكلوا في غيبته لم يشبعوا.

و من ذلك حراسة السماء بالشهب و قطع رصد الشياطين و منعهم استراق السمع.

ص: 158

و ما حدث ببلاد الهند أشار إليه ابن كثير في سيرته الفصول(115/2).

النور الحادي عشر

و هو نور الخلقة:

فكان صلّى اللّه عليه و سلّم يظهر بين عينيه النور الذي لا يخفى على أحد حتى إن من العرب من كان يغنيه في إيمانه عن طلب المعجزة و الآية منه.

و مع ذلك أيضا النور في تبسمه،و في جبينه كما حدثت عائشة رضى اللّه عنها.

و في موضوعه كله.و لما كلامه و أفعاله و حركاته كل أكوانه و ما ظهر من خلقه، و ما بطن من مجموعة أنوار هذا في أصل وضعه.

و كيف،و هو أيضا قد قال:«اللهم اجعلني نورا»بعد ما عدد أجزاء بدنه صلّى اللّه عليه و سلّم و هذا كشف له أنه النور بل نور النور الروحاني و الجسماني.

*قلت:قال ابن كنون:جاء أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أقنى الأنف:أي طويلة مع دقة أرنبته، و أحد يداب في وسطه،له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم:أي مرتفع قصبة الأنف مع استواء أعلاها،و إشراق الأرنبة،فلحسن قناه،و النور الذي علاه يخفى على الناظر إليه من غير تأمل احديداب وسطه،و يظن استواء القصبة،و لو أمعن النظر لحكم بخلاف ذلك.

و سمى صلّى اللّه عليه و سلّم نورا لضياء وجهه و تلألؤ بدره،و حسن منظره و إشراقه.

و قد كان عليه السّلام لا ظل له؛لأنه نور كله.

و قد دخل على عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها و قد سقطت لها إبرة في الظلام من يدها في بيتها.فلما دخل المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم أشرق نوره العظيم عليها،و حلّت بركته لديها فرأت إبرتها لضياء نوره،و زاد نور قلبها بمشاهدة تلألؤه.

فهو صلّى اللّه عليه و سلّم صاحب الجبين الأزهر،لزهارته.

و ذكر حسان بن ثابت رضي اللّه عنه ذلك بالليل في قوله:

أضاء في الداج البهيم جبينه يلح مثل مصباح الدجى المتوقد

ص: 159

فمن كان أو من قد يكون كأحمد نظاما لحق أو نكالا لملحد

و ليس ظهور النور في الليل أقوى و أشد،و إنما خص الجبين؛لأن النور أول ما يظهر في الأماكن المرتفعة ثم ينتشر.

و في البخاري:عن كعب بن مالك رضي اللّه عنه قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر و كنا نعرف ذلك منه انتهى.

و لا يفهم من هذا أن استنارة وجهه خاصة بوقت السرور؛لأن أصلها ظاهر في كل وقت؛لأن نورانيته صلّى اللّه عليه و سلّم ذاتية لازمة،و كمالها و تمامها خاص بوقت السرور،و هذا أمر معروف في كل حسن يتجلّى تمام حسنه عند السرور أكثر.

و قد دخل صلّى اللّه عليه و سلّم يوما على عائشة و أساريره تبرق:أي يلمع منها شبه البرق فقالت:يا رسول اللّه أنت أحق بقول أبي كثير الذي قال في ربيبه:

و إذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

و هذا أصل كما قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين في قلب المعنى الحسن،و أخذه من غير حقه و وضعه في حقه.

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعرف غضبه في وجهه لشدة صفاء بشرته و قوة نورانيته.

و قد شبّه بعضهم جبهته المقدسة صلّى اللّه عليه و سلّم في بياضها المشوب بالحمرة،و صفائها و إشراقها و استنارتها بلوح فضة يتموج فيه الذهب،و في هذا التشبيه وصف جبهته الشريفة بتمام الحسن،و كمال الجمال،و تفريج الناظر،و ظفره بأكمل المطالب،و أشرف المآرب.

و قد روى ابن المبارك و ابن الجوزي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما:إنه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوءه ضوء الشمس،و لم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه ضوء السراج،و لهذا لم يظهر له صلّى اللّه عليه و سلّم ظل في شمس و لا قمر،كما قاله ابن سبع،و القاضي عياض و غيرهما.

و قد كانت رضي اللّه عنها تتذكر بديع صفاته،و حسن جماله،و بهاء نوره،كأن

ص: 160

الشمس تجري في وجهه و نصاعة منظره،و إذا تكلم فالنور يخرج من ثنياه،و إذا تبسّم أضاء نوره في الجدرات.

و تذكر محاسن أعضائه،و ظرافة شكله،و حسن شمائله،و حلاوة ألفاظه،و رشاقتها في نطقه.

ثم تذكر ما شاء اللّه من الصفات التي عجز البلغاء عن حصرها،و كلّت ألسن الفصحاء عن عدها.

ثم يقول:كان و اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما قال شاعره حسان رضي اللّه عنه:

متى يدب في الداجي البهيم جبينه يلح مثل مصابح الدجى المتوقد

فمن كان أو من قد يكون كأحمد نظام الحق،أو نكال لملجد

و قال الأشعري:إنه تعالى نور ليس كالأنوار،و الروح النبوية القدسية لمعة من نوره، و الملائكة شرر تلك الأنوار انتهى،نقله في مطالع المسرات.

و الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«اجعلنى نورا»:أي حقّا يظهر في كل شيء و لا أظهر بشيء، و قد يستهلك الحق به،فكل شيء ينسب لوجوده،و يكون هو المرتدي و الحق رداءه، فالمرتدي هو المستهلك فيه،فإذا كان العبد رداء كان هو الظاهر و الحق باطن،و إذا كان الحق رداء فالأمر بالعكس.

و بالنسبة للنور الروحاني:و هو الانعكاس نور الأنبياء،و يسمّى بالانعكاس الثاني،و منه خلقت أرواح الملائكة،فالملائكة خلقت من نور،و هي نورانية،و هذا النور هو النور المحمدي في الانعكاس الثاني،و المرحلة الثالثة من عالم الأمر،فهو فرع الفرع.

و الحقيقة لبشريته صلّى اللّه عليه و سلّم في الكل،و خلقت من نوره صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو أول عين تعين،و منه تفرّعت الأعيان.

و النور الحسّي و الجسماني:هو الانعكاس الثلاثي،فالنور المحمدي الأول كلما ازداد انعكاسه و ابتعد عن أصله ازداد كثافة،إلى أن أصبح ضياء حسيّا كالشمس،ثم انعكاس النور المحمدي على الوجود بأركانه الأربعة و هي الماء و العرش و القلم و اللوح المحفوظ،

ص: 161

أحدث ظلا،و هذا الظل هي الظلمة،و منها خلق كل كثيف من الأشباح و الصور و الأشكال.

و بهذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و ما زال أصل كل وجود،و به تكون أوليته،و نورانيته صلّى اللّه عليه و سلّم.

و اعلم أن النور المعنوي و العقلي و القلبي من جنس النور الروحاني.

النور الثاني عشر

و هو نور التربية:

فما كشف له عن العناية الحافظة له و العصمة الإلهية التي لا يشترط فيها العقل و أسباب التكليف و العلامات مثل:السحابة التي كانت تظله،و ما ظهر في بنيان البيت،و مصارعته لأبي جهل،هذه كلها أنوار كاشفة لأمور خارقة للعادة.

*قلت:هو صاحب العصمة الكاملة التي تفرّعت عنها جميع العصم،فعصمه اللّه من كل ذنب و لو صغيرا أو سهوا،و كذلك الأنبياء،و يتنزّه عن فعل المكروه.

و قد وعده اللّه تعالى العصمة بقوله: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة:67].

و هذه الآية نزلت بالمدينة فيما أخرجه الشيخان عن عائشة قالت:أرق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة فقال:«ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة؛إذ سمعنا صوت السّلاح،قال:

من هذا؟قيل:سعد يا رسول اللّه،جئت أحرسك،فنام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى سمعنا غطيطه (1)».

و ما أخرجه الترمذي عنها أيضا،قالت:كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية:

وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ،فأخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأسه من القبّة فقال لهم:«يا أيّها النّاس انصرفوا فقد عصمني اللّه (2)».

ثم قال الترمذي:حديث غريب،و رواه الحاكم في المستدرك،و قال:صحيح الإسناد،

ص: 162


1- رواه البخاري(41/4)،و مسلم(124/7).
2- رواه الترمذي في السنن(317/4).

و لم يخرجاه.

قلت:لأن في سنده أبا قدامة الحارث بن عبيد الإيادي،و قد قال أحمد:مضطرب الحديث،و قال ابن معين:ضعيف،لكن أخرج له البخاري في المتابعات،و احتجّ به مسلم، و اللّه أعلم.

فهذا الحديث مع الذي قبله يدل على أن ذلك كان بالمدينة؛لأن عائشة أخبرت عن مشاهدة ذلك،و هي لم تكن عنده صلّى اللّه عليه و سلّم بمكة،و يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن جابر:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ،فذهب ليبعث معه،قال:«يا عمّ،إن اللّه قد عصمني،لا حاجة لي إلى من تبعث (1)».

و ما أخرجه الطبراني و غيره عن ابن عباس:كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس،و كان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم حتى نزلت هذه الآية: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ،قال:فأراد عمّه أن يرسل معه من يحرسه،فقال:«يا عمّ،إنّ اللّه قد عصمني من الجنّ و الإنس (2)».

فهذا الحديث و الذي قبله يدلان على أن نزول الآية بمكة في أوائل الأمر،فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايات،و ما في الصحيح أولى،لكنا نلتزم تأخر نزول الآية بالمدينة، و ندعي أن الإنكار كان داخلا و كان في عموم التشريع لمن هو مخاطب به،بشرط استطاعته له صلّى اللّه عليه و سلّم و هي الأمن من مفسدة تحصل له،بدليل عموم قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:159].

فلما نزلت آية العصمة وجب الإنكار مع الاستطاعة و عدمها؛لأن اللّه تعالى تولّى حفظه و عصمته،و لهذا كان أولا يحتاج إلى الحرس،و ثانيا لا يحتاج إليه،و هذا معنى بديع تزول به إشكالات كثيرة،و اللّه أعلم.).

ص: 163


1- ذكره ابن كثير في التفسير(78/2).
2- رواه الطبراني في الكبير(257/11).

و قد ثبتت أحاديث في كراماته و معجزاته و ما ظهر على يديه من خوارق عاداته،فإنها تعطى بمجموعها و جملتها أن بيديه في العالم العلوي و السفلي و جميع المملكة الربانية التصرف و التحكيم و الأمر و النهي و الرد لما شاء أو التسليم من غير منازعة و لا معارضة و لا مناقشة و لا مناقضة و إن الكل تحت خدمته و طاعته لا قدرة له على معصيته أو مخالفته كأحاديث تظليل الغمام و طاعة السحاب له بالتمام و نزول المطر و ارتفاعه بأمره غير مرة و مرتين و انشقاق القمر لما أشار له فرقتين و نزول ملائكة السماوات عليه بالطاعة لما يأمر به أو يشير إليه و إحياء الموتى و نطقهم بكرامته و كلام الصبيان معه و شهادتهم برسالته و إبرائه للمرضي و ذوى العاهات و سجود الشجر و الحجر له و الحيوانات و نطقها له كغيرها من الأحجار و الجمادات و الأشجار و النباتات و طواعيتها لجنابه و مجيئها لحضرته و رحابه و انفعال الأشياء كلها بدعوته و رجوعها لما يطلبه منها في خلوته و جلوته و قوله لأشياء كن فتكون على حسب ما أراده و تتكون في الحال طبق المراد و ذلك كله معلوم مشهور و في كتب السير و المعجزات مذكور.

روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حدثته أنها قالت للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:

«هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟قال:لقد لقيت من قومك ما لقيت،و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة،إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت،فانطلقت و أنا مهموم على وجهي،فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني،فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني،فقال:إن اللّه قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك،و قد بعث اللّه إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فيهم فناداني ملك الجبال،فسلم عليّ ثم قال:يا محمد،فقال:ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا» (1).).

ص: 164


1- رواه البخاري(1180/3).

النور الثالث عشر

و هو نور الانتقال:

فهو النور الذي كان يبصر في عين أبيه و أمه،و ما سمع في ذلك بعد ما حملت به أمه،و كونه صلّى اللّه عليه و سلّم،ورث ذلك منهم بعد ولادته صلّى اللّه عليه و سلّم و انتقاله من الظهر الظاهر إلى الظهر الطاهر.

و حكى أبو الفضل عياض أنه كان كل من تقدم من آبائه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أوقع في الرحم ما أودع اللّه تعالى في ظهره من نطفة المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم يجد الفراغ و الكسل و تختل عليه أحواله كلها حتى جاهه في الناس،هذا بالنظر إلى مكانه الأول،و هذا النور كشف له عن نورانية نطفته صلّى اللّه عليه و سلّم.

*قلت:قال الشيخ أبو محمد عبد الجليل القصري في«شعبه»:فقد أعلمك-يعني عليا رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عقدت له النبوة قبل كل شيء و أنه دعا الخليقة عند خلق الأرواح و بدء الأنوار إلى اللّه تعالى كما دعاهم آخرا في خلقة جسده آخر الزمان.

و من هذا المعنى قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...الآية إلى قوله:

لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81].

إلى آخر المعنى فقد آمن الكل به فهو آدم الأرواح و يعسوبها كما أن آدم أبو الأجساد و سببها،ثم قال و انظر قوله عز و جل تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].

و العالمون هم جميع الخليقة فقد أنذر الخليقة أجمع،و آمن الكل به في الأولية و الآخرية، و انتقال النور في جميع العالم من صلب إلى صلب فافهم انتهى.

قال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني:و لما خلق آدم عليه السّلام باطنا من أصل هذه الطينة المحمدية و لذا كان هو و بنوه مرسومين بقلم القدرة على رسم اسم محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و هو قول ابن الفارض على لسان الحقيقة المحمدية و ذلك في«تائيته الكبرى»:

و إني و إن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتى

ص: 165

فإن هذا كما قاله الشيخ عبد الغني في«شرح الديوان الفارضي»هو الطينة المحمدية و ظاهرا من قبضة قبضها الحق تعالى أي قبضها عزرائيل عليه السّلام بأمره من جميع أجزاء الأرض من جميع أي ما قدر اللّه أن يسكنه بنو آدم منها و خمرت فيها أي في الأرض و ألقيت حتى استعدت لقبول الصورة الإنسانية فحملت إلى الجنة و عجنت بمائها ليطيب عنصره و يحسن خلقه و يطبع على طباع أهلها و صورت جعلت درته عليه السّلام بالدال المهملة و إن شئت قلت جوهرته و ما معها في طينة من الذرات الكريمة التي هي ذوات إخوانه من النبيين و المرسلين و عترته الطاهرين و أقطاب أمته العارفين في موضع الصلب من ذاته الحمئية و كذا جعل فيه بقية الذرات التي كل ذرة فيها مادة صورة من بني آدم لكن من طينة آدم أهل السعادة منهم في ناحية اليمين و أهل الشقاوة في ناحية اليسار و لما تم خلقه و نفخت فيه الروح و ذلك في الجنة و أقام فيها ما شاء اللّه أن يقيم و أهبط إلى الأرض أراد الحق تعالى أن يستخرج ذريته منه ليختبر حالهم و يرى الذي بالدعوة إليه قر و ثبت لهم على ما يفيده أكثر الأحاديث من أن أخذ الميثاق من بني آدم كان بعد خلقه و نفخ الروح فيه،و قيل:

كان قبل النفخ ورد ذلك في بعض الأحاديث كما يأتي فأهبط بقدرته الأرواح كلها من أماكنها على تلك الذرات على وفق علمه و حكمته حتى حييت ثم كلمهم و ذلك بعد أن مسحهم من ظهر آدم بيمينه و نثرهم بين يديه كالذر و ذلك في يوم عرفة بين مكة و الطائف بموضع يقال له نعمان بالفتح،و هو واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات يسمى نعمان الأراك،و قيل:كان أخذ الميثاق بدهناء من أرض الهند في موضع هبوطه، و قيل:كان في السماء قبل هبوطه،و قال المحققون بتعدد المواثيق و العهود،و بذلك تجتمع الأخبار قائلا في خطابه لهم:أ لست بربكم؟فكانت درته أول من قال بلى.إرشادا لهم إلى الإجابة بمثل ذلك على وفق التعليم السابق منه لهم هنالك،فمنهم من أجاب محبة و طوعا،و منهم مخافة و كرها،ثم حل سبحانه عقال الأرواح،فطارت إلى مكامنها في الملكوت إلى وقت اتصالها بالأجنة في الأرحام،وردت الذرات إلى محلها من صلب آدم عليه السّلام فكان صلّى اللّه عليه و سلّم نبيّا و رسولا بالفعل عالما بنبوته و رسالته في عالمي الحقائق و الأرواح كما مر ثم في عالم الأجسام و الذر و اتصلت نبوته بجميع الخلائق من غير انقطاع إلى زمن وجود جسده المكرم فبعث بجسده في عالم الأجساد إلى كل أحمر و أسود و كل عين مخلوقة،

ص: 166

و كان من قبله من الأنبياء و الرسل نوابا عنه ثم بعد انتقاله إلى الدار الآخرة بقيت نبوته كما هي قائمة إلى أبد الأبد من غير انقطاع و لا زوال،و هذا لم يكن لغيره و به تفهم معنى قوله عليه الصلاة و السلام:«كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد».

أخرجه ابن سعد في طبقاته و أحمد و البخاري في تاريخه و أبو نعيم في الحلية و الحاكم و صححه و البغوي و ابن السكن و غيرهم كلهم من حديث ميسرة الفجر،و ابن سعد في طبقاته عن عبد اللّه بن أبي الجدعاء،و الطبراني في الكبير عن ابن عباس و عن أبي هريرة أنهم قالوا:يا رسول اللّه متى وجبت لك النبوة؟قال:و آدم بين الروح و الجسد.رواه الترمذي و قال:حديث حسن (1).

و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما مرفوعا قال:«إن قريشا كانت نورا بين يدي اللّه عزّ و جلّ قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بألفي عام،يسبح ذلك النور فتسبّح الملائكة بتسبيحه،فلما خلق اللّه آدم جعل ذلك النور في صلبه،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:فأهبطه اللّه على الأرض في صلب آدم عليه السّلام،فجعل في صلب نوح في السفينة،و قذف في النار في صلب إبراهيم،و لم يزل ينقلني من أصلاب الكرام إلى الأرحام حتى أخرجني من بين أبواي،لم يلتقيا عل سفاح قط» (2).ه.

ص: 167


1- سبق تخريجه.
2- انظره في إتحاف الخيرة(8485)،و المطالب العالية(4676)،و الحديث بالمتابعات و الشواهد يرتقي إلى درجة الحسن لغيره.

النور الرابع عشر

و هو نور النهاية:

فهو نور اللّه تعالى الذي ختم به النبوة و انتهي الأمر عنده،و صور التكميل بالجملة.

و هذا أظهر له صلّى اللّه عليه و سلّم أنه خير الرسل.

فإنه نسخ ما ظهر أنه صاحب نهاية الأمور الذي يرجع إليه و الكامل الذي لا يمكن أن يزاد فيه و لا ينقص منه.

*قلت:قال الشيخ القونوي:ختم نبوة التشريع و رسالته فلا يوجد بعده نبي مشرع أصلا،و هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و إلى ذلك الإشارة بقوله: وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].

و قال الشيخ عبد الغني النابلسي في كتاب الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين ما نصه:

اعلم أن سيدنا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم جميع الأنبياء و المرسلين،و معنى ذلك أنه ذائق لمشرب كل نبيّ،و كل رسول ممن تقدمه،فهو جامع لجميع مشارب الأنبياء و المرسلين،و لهذا جاء بتصديقهم كلهم،و أفصح عن مقاماتهم و مراتبهم،و كشف له عن أحوالهم كلها، و تنزلت أخبارهم على نفسه بما تلاه علينا من القرآن العظيم،فنبوته أصل لجميع النبوات،و النبوات فرع عن نبوته،و لهذا قال عليه السّلام:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين».

و بقية الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا نبيين حين بعثوا لا قبل ذلك،فأصل مشارب الأنبياء كلها،و هي روحانياتهم الفاضلة،كالمياه المنقسمة مجموعة في مشرب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الجامع الذي هو روحانيته التي بدأ اللّه تعالى بها الوجود،كما ورد أنه أول ما خلق اللّه نور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من نوره تعالى،و الحديث في ذلك طويل،ثم لما خلق اللّه طينة آدم عليه السّلام،و سواه أجرى ماء روحانية آدم من مشرب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الجامع،و كذلك حين خلق طينة نوح و إبراهيم و موسى و عيسى،و بقية المرسلين عليهم السلام على حسب ترتيب خلق طيناتهم في هذا الوجود أجرى اللّه تعالى مياه روحانياتهم التي هي مشاربهم الخاصة من ماء روحانية محمد صلّى اللّه عليه و سلّم التي هي مشربه الجامع،ثم لما خلق اللّه تعالى طينة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أجرى ماء روحانيته،

ص: 168

الجامعة في طينته المخصوصة صلّى اللّه عليه و سلّم،فظهر في هذا الوجود مرتين مرة بطريق التفصيل في أطوار رقائق الأنبياء و المرسلين قبله،و مرة بطريق الإجمال.

و معلوم أن الإجمال بعد التفصيل،و لهذا ختمت به النبوة،فلا نبي بعده لتمام التفصيل بإجماله صلّى اللّه عليه و سلّم،انتهى منه بلفظه.

و قلت:فهو صلّى اللّه عليه و سلّم النسخة الصغرى و هي العبد الكامل الذي كان مظهرا لكل اسم إلهيّ من غير أن يغلب عليه اسم من الأسماء،و يسمّى من وجه بالخليفة و النائب،و هو الرداء على الحق،و قد يستهلك بالحق بحيث لا يظهر له وجود عين أصلا،فيكون حقّا كله و الانفعالات تقع منه من غير أن تنسب إلى شيء من وجوده.

و إليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«و اجعلنى نورا (1)»:أي حقّا يظهر في كل شيء و لا أظهر بشيء،و قد يستهلك الحق به،فكل شيء ينسب لوجوده،و يكون هو المرتدي و الحق رداءه،فالمرتدي هو المستهلك فيه،فإذا كان العبد رداء كان هو الظاهر و الحق باطن،و إذا كان الحق رداء فالأمر بالعكس.

و قد أشار حضرة الشيخ الأكبر إلى هذا في المسائل الترمذية بقوله:أنا البرداء،أنا السر الذي ظهرت في ظلمة الكون؛إذ صيرتها نورا،فهذا الخليفة مع صغر حجمه جمع مظهره و عينه كل مظهر،و عين من العلوي و السفلي،فما من شيء إلا و هو تفصيله و جزء منه، بمعنى أن فيه أنموذج كل شيء كما سيذكر،إلا أن الأشياء أجزاؤه حقيقة كما يتوهم،بل هو مبدأ الآثار في كل شيء.

و تمام هذه النسخة المظهر المحمدي الأتم،و كون غيره من الكمّل متحققا بهذه النسخة، باعتبار أنه مظهر من مظاهره صلّى اللّه عليه و سلّم التي تفرّعت عنها النسخة الكبرى،أعني هذا العالم الكبير الهضل،فإنه بأجمعه تفصيل مظهره صلّى اللّه عليه و سلّم في كل مرتبة.

أما في الأعيان و الصور فلما قدمناه من أنه أول تعين للحق تعالى،مشتمل و منطو على).

ص: 169


1- رواه مسلم(528/1)،و أحمد(284/1).

كل حقيقة إلهية و كونية،فهو كجنس الأجناس لها.

و أما في الأرواح فلأن روحه العقل الأول الذي خلق اللّه به السماوات و الأرض،بل أوجد به كل العالم،و هو مجمل كلي منطو على كل روح و عقل و نفس.

و أما في المثال فكذلك لجمع خياله.

و أما في الطبيعيات فكذلك،فإنه ظهر بصورة الهباء هيولي الكل،و استوى على العرش،و منه تفصلت الأشياء حتى انتهى الحال إلى هذا النوع الإنساني الحسي الجامع لكل ما عداه،و هو هذه النسخة،بل هو الذي كان للحق بمنزلة إنسان العين من العين،فبه يرى جميع ما سواه،فالأمر في كل المراتب جملي ثم يتفصل.

و الجملي هو النسخة الصغرى،و ما تفصل منه و تفرع هو النسخة الكبرى،نظير ذلك نقطة البسملة و القرآن العظيم الجامع.

النور الخامس عشر

و هو نور التضمن:

فهو الذي كشف له به أن الذي كان عليه أسهل و أكمل من الذي سلكه أبوه إبراهيم عليه السّلام،فإن هذا كان في أمره كالمختار المحبوب،و أبوه كالطالب المجتهد.

و قصة انتقال إبراهيم عليه السّلام تعلمك بالحال.

*قلت:قال الشيخ ابن غانم المقدسي رضي اللّه عنه:لما توسل به آدم عليه السّلام سلم من الملام،و لما انتقل إلى صلب إبراهيم الخليل عليه السّلام صارت النار عليه بردا و سلاما،و لما أودعته ذرة وجوده صدفة إسماعيل،فدي بذبح عظيم،فثمرة غصن أصحاب اليمين يحبهم و يحبونه.

و لأن آدم صلّى اللّه عليه و سلّم لما خلق اللّه نور سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في جبينه كانت الملائكة تستقبله، و تسلم على نور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و آدم عليه السّلام لم يره،فقال:يا رب أحب أن أنظر إلى نور ولدي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،فحوله على عضو من أعضائي لأراه،فحوله إلى سبابته في يده اليمنى،فنظر إليه يتلألأ في مسبحته،فرفعها فقال:أشهد أن لا إله إلا اللّه،و أن محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لذلك سميت المسبحة.و اللّه أعلم.

ص: 170

النور السادس عشر

و هو نور التسخير:

فهو كشف له صلّى اللّه عليه و سلّم أنه الغاية في السموات و الأرض،و أن القمر انشق له و الكواكب سخرت لحفظ نظام ملته،و تلك أيضا معجزة ظهرت في مدة ملته صلّى اللّه عليه و سلّم،و هي باقية، و غفل عنها كثير من الناس،و هي الشهب التي ترسل على الشياطين.

و ما ذلك إلا بركة كتابه و لأجل موضوعه،و كذلك الملائكة من تسخيره و خدمته، فإنها تكتب فضائل أمته صلّى اللّه عليه و سلّم،و قاتلت معه صلّى اللّه عليه و سلّم،و إلى الآن أولياء أمته في منادمتهم و مخاطبتهم مشافهة،و كذلك الصور الروحانية كلها.

و هذا نور كشف له أنه المدلل في السموات و الأرض،و في كل العوالم.

*قلت:قال الشيخ الكتاني:و قد ذكر العارف باللّه سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه«العهود المحمدية»و في«كشف الحجاب و الران عن وجه أسأله الجان»و غيرهما من بعض كتبه أنه لا يجمع بين رؤية الملك و سماع خطابه إلا الأنبياء فقط و أما الولي فإن رأى شخصه لا يكون مكلما له و إن كلمه لا يرى شخصه و أصله للشيخ الأكبر في «فتوحاته»و نصه في الباب الثامن و الستين و مائتين:

و أهل اللّه يشاهدون تنزل الأرواح على قلوبهم،و لا يرون الملك النازل إلا أن يكون المنزل عليه نبيا أو رسولا،فالولى يشهد الملائكة،و لكن لا يشهدها ملقية عليه،أو يشهدون الإلقاء و يعلمون أنه من الملك من غير شهود،فلا يجمع بين رؤية الملك و الإلقاء منه إلا لنبي أو رسول،و بهذا يفترق عند القوم و يتميز النبي من الولى،انتهى منه بلفظه.

و قال في الباب الثالث و الخمسين و ثلاثمائة بعد ما ذكر أن الأولياء لهم من اللّه الإلهام لا الوحى و إن الإلهام خبر إلهى و إخبار من اللّه للعبد على يد ملك مغيب عن هذا الملهم،و أنه قد يلهم من الوجه الخاص ما نصه:

فالرسول و النبي يشهد الملك و يراه رؤية بصر عند ما يوحى إليه،و غير الرسول يحس

ص: 171

بأثره و لا يراه رؤية بصر،فيلهمه اللّه به ما شاء أن يلهمه،أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط،و هو أجل الإلقاء و أشرفه،و هو الذي يجتمع فيه الرسول و الولى أيضا، انتهى بلفظه أيضا.

و قال في الباب الرابع و الستين و ثلاثمائة ما نصه:وصل:و أما من قال من أصحابنا و ذهب إليه كالإمام أبي حامد الغزالى و غيره بأن الفرق بين النبي و الولى نزول الملك، فإن الولي ملهم و النبي ينزل عليه الملك مع كونه في أمور يكون ملهما،فإنه جامع بين الولاية و النبوة،فهذا غلط عندنا من القائلين به،و دليل على عدم ذوق القائلين به، و إنما الفرقان إنما هو مما ينزل به الملك لا في نزول الملك،فالذي ينزل به الملك على الرسول و النبي خلاف الذي ينزل به الملك على الولي التابع.

ثم ذكر أن الملك قد ينزل على الولي التابع بالاتباع و بإفهام ما جاء به النبي مما لم يتحقق هذا الولي بالعلم به،و قد ينزل عليه بتعريف صحة ما جاء به النبي،و سقمه مما قد وقع عليه أو توهم أنه صحيح عنه أو ترك لضعف الراوى و هو صحيح في نفس الأمر و قد ينزل عليه بالبشرى من اللّه بأنه من أهل السعادة و الفوز و بالأمان..إلى آخر ما قال.

و لم يذكرها هنا في هذا الملك النازل على الولي بشيء هل يراه الولي رؤية بصر أو لا يراه،و إنما يحس بأثره،و هذا هو الظاهر جمعا بين كلاميه،و إن كان الأول هو المتبادر من إطلاقه.

و أقول:قد ثبت في السّنة الغراء جمع الصحابة و ليسوا بأنبياء و لا برسل بين رؤية الملك المتمثل بصورة البشريين و سماعهم لكلامه،و ذلك بحضرة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كما في حديث سؤال جبريل للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن الإسلام و الإيمان و الإحسان بمحضر الصحابة،و هم يرونه بأبصارهم و يسمعون كلامه إلا أن الخطاب فيه كان للنبي دونهم.

و قد قال الحافظ في«فتح الباري»فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيراه و يتكلم بحضرته و هو يسمع قال:و قد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة انتهى.

و في«الاستيعاب»لأبي عمر بن عبد البر في ترجمة عمران هذا ما نصه:

ص: 172

و كان من فضلاء الصحابة و فقهائهم يقول عنه أهل البصرة أنه كان يرى الحفظة و كانت تكلمه حتى اكتوى انتهى.

فظاهره أنه كان يجمع بين رؤيتهم و سماع كلامهم.

و قد ورد أيضا أنها كانت تسلم عليه فلما اكتوى رفع ذلك،فلما زال أثر الكي عاد إليه.

و ورد أنها كانت تصافحه.

و في«الطبقات»للمناوى في ترجمة القطب سيدي إبراهيم الدسوقي نقلا عنه قال:

و ليت القطبانية فرأيت المشرقين و ما تحت التخوم و صافحت جبريل.انتهى.

ففيه مصافحة الملائكة للصحابة و الأولياء و تسليمها عليهم،و لا بعد في ظهورها لهم عند ذلك بل هو الظاهر،و فيه أيضا لقاء الأولياء لسيدنا جبريل عليه السّلام بعد وفاته صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما اشتهر من أنه لا ينزل إلى الأرض بعد وفاته صلّى اللّه عليه و سلّم،لا أصل له إلا ما ورد في خبر ضعيف جدّا أنه قال للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم قبيل وفاته وطأتى بالأرض.

و من الدليل على بطلانه ما للطبراني في«الكبير»عن ميمونة بنت سعد قالت:يا رسول اللّه هل يرقد الجنب؟قال:ما أحب أن يرقد حتى يتوضأ،فإني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل.

ففيه أنه يحضر كل من مات من هذه الأمة إلا أن يمنع من حضوره مانع.

و لنعيم بن حماد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في وصف الدجال قال:فيمر بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقول:من أنت؟فيقول:أنا ميكائيل بعثني اللّه لأمنعه من حرمه.و يمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم فيقول:من أنت؟فيقول:أنا جبريل بعثني اللّه لأمنعه من حرم رسوله (1).

و أخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها [القدر:4]قال:الروح جبريل.راجع«الإعلام بنزول عيسى عليه السّلام»للحافظ السيوطي،).

ص: 173


1- رواه نعيم بن حماد في الفتن(544/2).

و كذا ما اشتهر من أنه لا ينزل على الأولياء،و أن نزوله خاص بالأنبياء لا أصل له و لا يصح،بل ينزل على الأولياء و يصافحهم كما سبق عن سيدي إبراهيم الدسوقي و يسلم عليهم،و يأتيهم بالأمر و النهي كما في قوله: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:

42]،يعني جبريل وحده كما أخرجه إسحاق بن بشر،و ابن عساكر عن ابن عباس.

قال تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ [آل عمران:42:43]إلى قوله:

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران:45].

فأفاد أن الملائكة:أي جبريل منهم نزلت عليها بالأمر و هو قوله: اُقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43]إلى آخر الآية،و الظاهر المتبادر منه أيضا أنها جمعت بين رؤيتهم و سماع خطابهم.

و يؤيده ما في«الدر المنثور»قال:أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران:45]قال:شافهتها الملائكة بذلك،و الصحيح أنها لم تكن نبية، بل نفى النبوة عن جميع النساء.

و في«الإبريز»في الكلام على هذه الآية نقلا عن شيخه قال:و أما ما ذكروه في الفرق بين النبي و الولي من نزول الملك و عدمه فليس بصحيح؛لأن المفتوح عليه سواء كان نبيّا أو وليّا لا بدّ أن يشاهد الملائكة بذواتهم على ما هم عليه،و يخاطبهم و يخاطبونه، و كل من قال أن الولي لا يشاهد الملك و لا يكلمه فذاك دليل على أنه غير مفتوح عليه، انتهى منه بلفظه.

فظاهره الجمع بينهما للولي،و هو ظاهر كلام غير واحد من الفحول.

و في كتاب«الأسرار لأحد مفاتيح الكنوز الأربعة»،و هو العارف باللّه سيدي عبد الرحمن الشامي قضايا جمع له فيها بين رؤية الملائكة و مخاطبتهم فراجعه و اللّه أعلم.

ثم ظاهر كلام الشيخ الأكبر السابق في الفرق بين النبي و الولي:

إن الولي لا ينزل عليه الملك بالأمر و النهي.

ص: 174

و اعترضه مؤلف«الإبريز»و قال:إنه غير ظاهر.

فإن الولي ينزل عليه الملك بالأمر و النهي،و لا يلزم منه أن يكون ذا شريعة كما في قصة مريم،فإن الملك نزل عليها بالأمر و ليست نبية كما سبق انتهى كلامه.

و عليه فالصواب في الفرق بين النبي و الولي،و إن كان كل منهما ينزل عليه جبريل أو غيره من الملائكة،فيراه ببصره،و يسمع خطابه بالأمر أو النهي أو غيرهما على ما تحرر أن النبي ينزل عليه الملك بالنبوة و بما يناسبها،و يتبعها من الأحوال و الأقوال و الشرائع،و الولي لا يأتيه بنبوة و لا بما يناسبها،و إنما ينزل عليه بغير ذلك مما يناسب حال الولاية مما تقدم أو نحوه فاعرفه.

النور السابع عشر

و هو نور العادة:

فإنه أظهر في أيام الدنيا،و أيام العالم،و أيام الدين من العدل و صلاح الأحوال، و سياسة المنزل و التدبير المحمود،فأظهر له أنه الحكيم الأعظم.

*قلت:كان صلّى اللّه عليه و سلّم أوجز الناس كلاما،و بذاك جاءه جبريل عليه السّلام،و كان مع الإيجاز يجمع كل ما أراد،و كان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول و لا تقصير،كأنه يتبع بعضه بعضا،بين كلامه توقّف يحفظه سامعه و يعيه،و كان جهير الصوت،أحسن الناس نغمة.

و كان طويل السكوت،لا يتكلم في غير حاجة،و لا يقول المنكر.

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم أحلم الناس و أرغبهم في العفو مع المقدرة.

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم في حرب فرأوا في المسلمين غرّة،فجاء رجل حتى قام على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالسيف،فقال:«من يمنعك مني؟فقال:اللّه،قال:فسقط السيف من يده،فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم السيف،فقال:من يمنعك مني؟فقال:كن خير آخذ،قال:قل:أشهد أن لا إله إلا اللّه،و أني رسول اللّه.فقال:لا،غير أني لا أقاتلك،و لا أكون مع قوم يقاتلونك،

ص: 175

فخلا سبيله،فجاء أصحابه،فقال:جئتكم من عند خير الناس (1)».

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم أجود الناس و أسخاهم.

و كان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئا،و ما سئل شيئا قط على الإسلام إلا أعطاه.

و إن رجلا أتاه فسأله فأعطاه غنما سدّت ما بين جبلين،فرجع إلى قومه،و قال:

أسلموا؛فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (2).

و ما سئل شيئا قط فقال له:لا،و حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير، ثم قام إليها فقسّمها فما ردّ سائلا حتى فرغ منها.

و لمّا قفل من حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قال:«أعطوني ردائي،لو كان عندي عدد العضاه نعما لقسّمتها بينكم،ثم لا تجدوني بخيلا و لا كذّابا و لا جبانا (3)»،فحاشاه من ذلك صلّى اللّه عليه و سلّم لبيان كرمه، و شجاعته صلّى اللّه عليه و سلّم،و كان صلّى اللّه عليه و سلّم أكرم الناس و أشجعهم.

قال عليّ رضي اللّه عنه:«لقد رأيتني يوم بدر و نحن نلوذ بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو أقربنا إلى العدوّ، و كان من أشدّ النّاس يومئذ بأسا (4)».

و قال أيضا رضي اللّه عنه:«كنّا إذا احمرّ البأس و لقي القوم القوم اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه (5)».

و قيل:«كان صلّى اللّه عليه و سلّم قليل الكلام،قليل الحديث،فإذا أمر النّاس بالقتال تشمّر،و كان).

ص: 176


1- رواه أحمد(390/3)،و ابن حبان في صحيحه(138/7)،و الحاكم في المستدرك(31/3).
2- رواه مسلم(1806/4)،و البيهقي في الكبرى(19/7).
3- رواه البخاري(1038/3)،و أحمد(82/4).
4- رواه أحمد(86/1)،و ابن أبي شيبة(426/6)،و ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(12/9).
5- رواه أحمد(156/1)،و أبو يعلى في المسند(258/1).

من أشدّ الناس بأسا،و كان الشجاع هو الذي يقرب منه في الحرب لقربه من العدو (1)».

و قال عمران بن الحصين رضي اللّه عنه:«ما لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كتيبة إلا و كان أوّل من يضرب (2)».

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم أشدّ الناس تواضعا في علوّ منصبه،فكان يركب الحمار موكفا عليه قطيفة، و كان مع ذلك يستردف،و ركب مرة حمارا عريّا،و أمر أبا هريرة رضي اللّه عنه أن يركب معه، و كان فيه ثقل،فوثب ليركب فلم يقدر،فأمسك به صلّى اللّه عليه و سلّم فوقعا جميعا،ثم ثانيا كذلك،ثم أمره ثالثا فقال:«و الذي بعثك بالحق لأركبنّك ثالثا (3)».

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعود المريض،و يتبع الجنائز،و يجيب دعوة الملوك،و يخصف النعل،و يرقّع الثوب.

و كان يصنع في بيته مع أهله في حاجاتهم.

و كان أصحابه رضي اللّه عنهم أجمعين لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك، و كان يمر على الصبيان فيسلّم عليهم،و أتى برجل فأرعد من هيبته،فقال له:«هوّن عليك،فلست بملك،إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد (4)».

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يجلس بين أصحابه مختلطا بهم كأنه أحدهم،فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل،حتى طلبوا إليه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يجلس مجلسا يعرفه الغريب،فبنوا له دكانا من طين فكان يجلس عليه (5).).

ص: 177


1- رواه ابن أبي شيبة في المصنف(229/4).
2- ذكره المناوي في فيض القدير(172/5).
3- رواه أحمد في المسند(94/2)بنحوه.
4- رواه ابن ماجه(1101/2)،و الطبراني في الأوسط(64/2)،و الحاكم في المستدرك(506/2).
5- رواه أبو داود(225/4)،و النسائي(528/6).

و كان لا يدعوه أحد من أصحابه و غيرهم إلا و قال:لبيك.

و كان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم،و إن تحدثوا في طعام أو شراب تحدّث معهم،و إن تكلموا في الدنيا تحدّث معهم رفقا بهم و تواضعا لهم.

و كان يتناشدون الشعر بين يديه أحيانا،و يذكرون أشياء من أمر الجاهلية،و يضحكون فيبتسم هو إذا ضحكوا،و لا يزجرهم إلا عن حرام.

النور الثامن عشر

و هو نور الأتباع:

فما ظهر لهم من النصر بالسنان فإنهم استفتحوا بلاد الكفر من بعده صلّى اللّه عليه و سلّم و ما فتح اللّه به،و ما ظهر على رجال أمته من الكرامات على العلماء من العلوم على أنحائها.

و بالجملة:ظهر أن الأمر فيه مع الأنبياء و الرسل هو الأمر فيهم مع العلماء و الملل و الدول.

و قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ [البقرة:

143]فهي ذلك الآية.

*قلت:فهو نور الأمم:أي البادي في نفسه المبدي لغيره،و الأمم:جمع أمّة،و هى الطائفة القاصدة لمأمّ:أي مقصد يقصده؛ليهتدي به مما أحست به من ضلال مسلكها، و أن اللّه عزّ و جلّ كما ورد:خلق الخلق في ظلمة (1)،و ظلمة الخلق ذواتهم و إحساسهم بأنفسهم،تلك ظلمتهم التي طمست عنهم الوجد بربّهم،ثم تضاعفت عليهم ظلم ذواتهم دركة دركة إلى أسفل سافلين و إلى أطباق سجين،بحيث صارت أدنى الظلمتين طمسا أهونهما بما يداخل أدنى الظلمتين من نور يظهر ظلمه أشدهما،و كل نور يظهر ذاتا من ذوات الخلق؛فهو بما يظهر نور،و بما هو دون إراءة الحق و إظهار نور اللّه ظلمة.

ص: 178


1- رواه الحكيم الترمذي في النوادر(113/4)،و ذكره المباركفوري في تحفة الأحوذي(166/7).

قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً [يونس:5].

فهو نور بما يظهر من طمس الظلمة،و هو ظلمة بما هو باد من بوادي الخلق،حجاب من دون نور الحق.

قال صلّى اللّه عليه و سلّم لعائشة رضي اللّه عنها و قد نظرت القمر:«استعيذي باللّه من شرّه؛فإنّه الغاسق إذا وقب (1)»،فكلّ باد من الخلق ظلمة بوجه ما إلا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و آله.

فهو نور لكل من أمّه من الأمم بما أبدى اللّه به من نوره و طمس مما سواه،حتى شهد يبطل ما خلا اللّه،و بمحو الكفر الذي تغطيته هي الظلمة التي محاها نوره،فهو نور الأمم الذي لا يبقي لمن آمن به ظلمة من وراء نوره،و ذلك بما هو النور الأول.

كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه خلقني من نور (2)»،فهو صلّى اللّه عليه و سلّم نور لا بقية لظلمة فيه،بما هو فان عن نفسه قائم بربّه،كما يقول هو صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما أنا حملتكم،اللّه حملكم (3)».

و كما قيل في أنه شعاع،نوره من أصحابه و أنصاره: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17].

و كما قال: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17]،فهو صلّى اللّه عليه و سلّم نور ليس في إنارته بقية ظلمة بما نزع اللّه ممن ائتمّ به و اتّبعه،خفيّ الشرك الباقي في خواص أمته،فصاروا أئمة،و لذلك كانوا نور الأمم الذي ينتهي إلى نوره الأنوار و يأتمّ به الأئمة، فهو نور اللّه المستمد بمدد اللّه،فلذلك هو نور لا يطفأ صلّى اللّه عليه و سلّم.

فلما كان صلّى اللّه عليه و سلّم محيطا في خلقه بما كل خلق منه و محيطا في أمره بما كل أمر من أمره كان صلّى اللّه عليه و سلّم مبينا أعلى أمر اللّه لأدنى خلق اللّه،فهو نور اللّه البادي الذي أرسله،و هو نور الأمم).

ص: 179


1- رواه الحاكم في المستدرك(589/2)،و الطيالسي في مسنده(208/1).
2- ذكره القرطبي في تفسيره(286/12).
3- رواه البخاري(2444/6)،و مسلم(1268/3)،و النسائي في الكبرى(126/3)،و أحمد(/4 398)،و ابن ماجه(681/1)،و أبو يعلى في مسنده(229/13)،و البزار في مسنده(51/8)، و البيهقي في الكبرى(51/10).

الهادي الذي أوصلها،فهو نور الأمم بما هو هاديها،و نور اللّه بما هو باديه،الذي لا خفاء له،و لما كان الأول الآخر فكان الخاتم ليس وراء مكانته مكانة و لا وراء إنارة نوره إنارة، لم يكن وراءه ما هو أكمل نوريّة منه فيطفئ نوريّته،كما شأن الأنوار المترتبة في حكمة اللّه أن تطفئ أشدها أضعفها،كما يطفئ نور الكواكب و يطفئ ضوء الشمس بعد القمر، و الإطفاء إذهاب الإنارة،و الإنارة الإراءة للأشياء بما شأنه أن يبدو و يبدي،فالإطفاء ذهاب له أو ذهاب لأثره،كما يذهب السراج و تذهب إثارة القمر بضوء الشمس،فكل نور يطفئه فهو أكمل منه،و نور اللّه الذي هو نور السماوات و الأرض نور لا يطفأ،فلما كان صلّى اللّه عليه و سلّم نور البادي كله خلقا و أمرا لم يكن وراءه نور بما هو نور الإحاطة إلى ما ورائها من إطلاق الحدّ؛فهو لذلك نور اللّه الذي لا يطفأ،بما ليس وراء نوره مرمى.

و الكلام على الآية التي استدل بها الشيخ ابن سبعين،قلت:

قال الرصاع:نقلا عن بعض أهل التحقيق في قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143]،إن اللّه تعالى أيد موسى باسمه الرب فقال: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف:143].

و أيّد عيسى باسمه المحيى و إبراهيم باسمه الباطن فأراه ملكوت السماوات و الأرض.

و أيّد سيد أهل الأكوان الجامع لخصال أهل العرفان بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ [الأنفال:64]،فذكر له اسمه الجامع لذاته و صفاته،فقرنه باسم نبوته،فليس ذلك لغيره.

ثم نقل عن بعضهم أن ذاته الكريمة صلّى اللّه عليه و سلّم جمعت حقائق الموجودات،و نبوته جامعة لسائر النبوات،و نوره جامع لسائر الأنوار،و سره منه تفرّعت الأسرار،و يومه جامع لسائر الأيام،و كتابه جامع للكتب المنزلة على أنبياء اللّه الكرام عليهم الصلاة و السلام، انتهى.

و قال الحرالي:لما كان صلّى اللّه عليه و سلّم شاهدا من ربّه في خلقه فكان شاهدهم بما أشهده اللّه منهم، حتى عرفهم حال كونهم و قبل كونهم،و عرض عليه الكون كله ملكه و ملكوته ظاهره و باطنه،و أشهد اللّه بإشهاده من شاء ممن اصطفاه من أئمة أمته،و البراء من الانتهاء في الافتراق إلى اللعن و المنابذة،و كان صلّى اللّه عليه و سلّم شهيدا على شهداء أمته الذين هم الشهداء على الناس،كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].

ص: 180

و الوسط:ما بين طرفي الشيء المالئ لكليته،و كانوا وسطا بما شهدوا من أمر اللّه مما بين الأزل و الأبد،فكانوا بذلك شهداء على خلق اللّه،و كان هو صلّى اللّه عليه و سلّم شهيدا على هؤلاء الشهداء كما كان نبيّا للأنبياء؛ليكون في الرتبة الثالثة علوّا من كل بداية،فيكون له أحمديّة الحمد الذي هو عليّ على المدح.

قال تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ [البقرة:143].

و من الناس من لم يستخلصه الإيمان بالكلية،و بقي له توقين إلى عاجلة الدنيا حبّ شرفها و حبّ مالها كما هو حال الملوك و أتباعهم و رؤساء القبائل و أتباعهم،الذين حظهم منه التذكرة لأجل ذلك الحب للعاجلة كما قال تعالى: أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:2].

فأمته الحمّادون للّه على كل حال،الذين لا يلعنون شيئا و لا يبرءون من خلق،بما شهدوا من حمد ربهم هم الشهداء كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«اللّعّانون لا يكونوا شهداء و لا شفعاء يوم القيامة (1)».

فالانتهاء في الافتراق إلى اللعن جرحة هذه الشهادة المحمديّة؛لأنهم منه بما قيل له هو صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه لم يبعثك سبّابا و لا لعّانا،و إنما بعثك رحمة و لم يبعثك عذابا (2)».

و لذلك يقول ناطق العلم:إنه لا ينبغي لأهل النقل و الرواية أن يقولوا:لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كذا في نقلهم بعد هذا التقرير،و لكن يكون لفظ النقل أن يقال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

لعن رسول اللّه كذا،ليقع الفرق بين أن يكون في اللعنة ناقلا أو منشئا؛لأن اللّه عزّ و جلّ أسند اللعن في كتابه لما صرح به في قوله:

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] فكالذين انتظم في أنهم يلعنون،هم الذين يشهد عليهم،و هم الناس لا الذين يشهدون).

ص: 181


1- رواه إسحاق بن راهواه في مسنده(264/1).
2- رواه أبو داود في المراسيل(118/1)،و أحمد في المسند(126/3).

الذين ليس شأنهم أن يلعنوا؛فهو صلّى اللّه عليه و سلّم شهيد الشهداء بما شهد من عين المشار إليه في إشارة قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78].

و فى هذا فشهوده عيان،هذا المشار إليه في هذه الإشارة العظيمة هو سرّ شهادته،كما قال تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ [الحج:78]، فالناس مشهود عليهم،و الوسط الشاهدون شهداء على الناس،و اللّه أعلم.

النور التاسع عشر

اشارة

و هو نور اللواحق:

فما بعده من الآيات التي أخبر به،و ما أيضا في العالم من العجائب فهي له حتى فضائل أمته،فإنها هي فضائله.

فإن قلت:لا تحصر كراماتهم و علومهم فقد قلت:لا نهاية لمعجزاته صلّى اللّه عليه و سلّم هو فإنه الأصل في ذلك.و الذي يفيد الكرامة بتبعيته هو الكامل.

حتى أن هذا النوع باتباعه يترجح على المعجزة الحاضرة معه،فإن تلك بإزاء تكذيبه و لضرورة المعاند،و هذه من عند اللّه على جهة الإكرام ثم هي أيضا مركبة بزيادة أمر محمود و هذا أظهر له صلّى اللّه عليه و سلّم أصل كل فضل و سعادة و عناية.

*قلت:قال الشيخ الموصلي الكردي:قال الإمام نجم الدين عمر النسفي في «عقائده»:و كرامات الأولياء حقّ،فتظهر الكرامة على طريق تقفّي العادة للولي من قطع المسافة البعيدة في المدة القليلة،و ظهور الطعام،و اللباس،و الشراب،و المشي على الماء و في الهواء،و كلام الجماد،و العجماء و غير ذلك من الأشياء،و يكون ذلك معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمته؛لأنه يظهر بها أنه وليّ،و لن يكون وليّا إلا و أن يكون محقّا في ديانته،و ديانته الإقرار برسالة رسوله مع الطاعة له في أوامره و نواهيه.

قال الشارح سعد الدين:حتى لو ادّعى هذا الولي الاستقلال بنفسه و عدم المتابعة لم يكن وليّا،و لم يظهر ذلك على يده،و إذا ظهر فلا يكون كرامة بل استدراجا.

و الحاصل أن الأمر الخارق للعادة فهو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله أو من قبل آحاد أمته،و بالنسبة إلى الولي كرامة؛لخلوّه عن دعوى نبوة من ظهر ذلك من قبله.

ص: 182

و قال إمام الحرمين في كتابه«الإرشاد»:ما صار إليه أهل الحق انخراق العادات للأولياء.

ثم قال:و إن الكرامة و المعجزة ليس بينهما فرق إلا وقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة و الكرامة دون ادّعاء النبوة.

و قال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه«المحصّل»:ثم تتميز الكرامة من المعجزة بتحدّي النبوة.

و قال الإمام ناصر الدين البيضاوي في كتابه«المصباح»:الكرامات جائزة خلافا للمعتزلة و الأستاذ،و تتميز عن المعجزة بعدم التحدي.

و قال الإمام عبد اللّه بن أسعد اليافعي في كتابه«نشر المحاسن»:ظهور الكرامات للأولياء جائز عقلا،و واقع نقلا،أمّا جوازه في العقل فلأنه ليس مستحيل في قدرة اللّه تعالى بل هو من قبيل الممكنات كظهور معجزات الأنبياء،هذا مذهب أهل السنّة من المشايخ العارفين،و النّطقاء الأصوليين،و الفقهاء،و المحدثين،و تصانيفهم ناطقة بذلك شرقا و غربا عجما و عربا،و أمّا وقوع ذلك بالنقل فقد جاء في القرآن و الأخبار و الآثار بالإسناد ما يخرج عن الحصر و التعداد،فمن ذلك في القرآن ما أخبر اللّه تعالى عن مريم عليها السلام بقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آل عمران:37]،و كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف،و فاكهة الصيف في الشتاء،هكذا جاء في التفسير، و كذلك ما أخبر اللّه تعالى من إلهام أم موسى عليه السّلام في أمره ما هو معروف،و كذلك ما أخبر اللّه تعالى من العجائب عن الخضر مع موسى عليهما السلام،و كذلك قصة أصحاب الكهف و الأعاجيب التي ظهرت عليهم من كلام الكلب معهم و غير ذلك،و كذلك قصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السّلام في عرش بلقيس في قوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40].

و من ذلك في الأخبار حديث جريح الرّاهب الذي كلّمه الطفل في المهد،و هو حديث صحيح أخرجه البخاري و مسلم.

و حديث الغار الذي انطبقت عليهم الصخرة،ثم انفرجت عنهم،و هو أيضا حديث صحيح أخرجه البخاري و مسلم.

ص: 183

و حديث البقرة التي كلّمت صاحبها،و هو حديث صحيح مشهور،و الحديث المتفق على صحته المذكور في الصحيحين في أبي بكر الصديق مع ضيفه و بركة الطعام حتى صار بعد الأكل أكثر مما كان قبله ثلاث مرات،و كذلك ما اشتهر عن الصدّيق أيضا أنه أخبر أن حمل امرأته أنثى فكان كذلك،و حديث الصحيحين المتفق على صحته في عمر رضي اللّه عنه أنه من المحدّثين بفتح الدال،و كذلك ما صحّ عنه أنه قال:يا سارية الجبل في حال خطبة في يوم الجمعة،فبلغ صوته إلى سارية،فكان لعمر رضي اللّه عنه في ذلك كرامتان:إحداهما:ما كشف له عن حال سارية و أصحابه المسلمين،و حال العدو،و الثانية:بلوغ صوته إلى بلاد بعيدة.

و الحديث المتفق على صحته في سعد و سعيد في إجابة دعوة كل واحد منهما، و الحديث الصحيح في البخاري في«خبيب»في قطف العنب الذي وجد في يده يأكله في غير أوان الثمر.

و الحديث الصحيح حديث البخاري أيضا في:أسيد بن خضير،و عبّاد بن بشر الّذين خرجا من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في ليلة مظلمة و معهما مثل المصباحين بين أيديهما.

و الحديث الصحيح:حديث الرجل الذي سمع صوتا في السحاب يقول:اسقي حديقة فلان،و ما جاء أن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال للأسد الذي منع الناس الطريق:تنحّ، فبصبص بذنبه و ذهب،و ما جاء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعث العلاء بن الحضرمي،فحال بينهم و بين الموضع قطعة من البحر،فدعا بالاسم الأعظم،و مشى على الماء.

و ما جاء أنه كان مع سلمان و أبي الدرداء قصعة فسبّحت حتى سمعا التسبيح،و كذلك ما اشتهر أن عمران بن الحصين كان يسمع تسبيح الملائكة عليه حتى اكتوى،فانحبس عنه ذلك،ثم أعاده اللّه تعالى عليه.

و الحديث الصحيح حديث مسلم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللّه لأبرّه (1)».

قلت:و لو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى دليلا.

و قد ورد عن السلف و الخلف من الصحابة و التابعين و من بعدهم من المشايخ العارفينه.

ص: 184


1- تقدم تخريجه.

و الفقراء الصادقين و سائر الأولياء و الصالحين من الكرامات المستفيضات،الصادرات عن العيان و المشاهدات،ما طبق الآفاق،و ملأ جميع البلاد،و عجزت الدفاتر عن اليسير منه في الحصر و التّعداد،و أمّا كثرة ظهور الكرامات و اشتهارها بعد زمن الصحابة و زيادتها على ما كان في زمانهم فالجواب عن ذلك ما أجاب به الإمام أحمد لما قيل له:يا أبا عبد اللّه،إنّ الصحابة لم يرو عنهم مثلما قد روي عن الأولياء و الصالحين،فكيف هذا؟!فقال:أولئك كان إيمانهم قويّا،فما احتاجوا إلى زيادة شيء يتقوون به،و غيرهم كان إيمانهم ضعيفا لم يبلغوا إيمان أولئك،فقووا بإظهار الكرامات.

و كذلك قال الشيخ شهاب الدين السهروردي:و خرق العادة إنما يكاشف به لموضع ضعف يقين المكاشف رحمة من اللّه تعالى على عباده العبّاد،و ثوابا معجّلا لهم،و فوق هؤلاء قوم ارتفعت الحجب من قلوبهم،و باشر بواطنهم نور اليقين،و صدق المعرفة،فلا حاجة لهم إلى مدد من المخرقات،و رؤية القدر و الآيات،و لهذا ما نقل عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كثير من ذلك إلا القليل،و نقل عن المتأخرين من المشايخ و الصادقين أكثر؛ لأن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لبركة صحبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و مجاورة نزول الوحي و تردّد الملائكة و هبوطها تنوّرت بواطنهم،و عاينوا الآخرة،و زهدوا في الدنيا و تزكّت نفوسهم،و انخلعت عاداتهم،و انصقلت مرايا قلوبهم،فاستغنوا بما أعطوا من رؤية الكرامة،و استماع أنوار القدرة.

قال اليافعي:و أيضا فهذه الكرامات من الكشف و غيره أنوار،و الأنوار إنما يظهر حسن بهائها في الظلمة،فأما الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين فكلّهم أنوار ليس فيهم ظلمة؛لتوهّج ضياء شمس النبوة عليهم،و كمال محاسنهم،ثم أن الشمس إذا غربت تظهر الظلمة عقيب غروبها و لا تظهر إلا الكواكب الكبار،فكلما تغرب عن الأفق تكثر الظلمة،فتظهر سائر الكواكب إلى أن يظهر فجر الوعيد،و أيضا الصحابة كانوا أهل حقّ، و سنّة،و طاعة،و عدل،و معروف،ثم ظهر بعدهم عكس ذلك من الباطل و البدع، و المعاصي،و الظلم،و المنكر،فبثّ اللّه تعالى في سائر البلدان رجالا قلّدهم سيوفا ماضيات تقطع أعناق المنكرين عليهم.

ص: 185

و الحاصل أنه قد علمت أنهم قد اتفقوا على أن الفارق بين الكرامة و المعجزة هو تحدي النبوة فقط،و لم يشترط أحد منهم لكون الكرامة دون المعجزة في جنسها و عظمها،فدلّ ذلك على جواز استوائهما فيما عدا التحدي المذكور،و يشهد لصحة هذا القول قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث الصحيح:«لو أقسم على اللّه لأبرّه (1)».

فإن الأبرار المذكور عامّ في كل مقسم فيه،ثم إن وقوع ذلك من كثير من الأولياء أعني عظام الكرامات خارج عن الحصر،و ها أنا أقتصر في التنبيه على ذلك بذكر عشرة أنواع:

موجز في أنواع الكرامات
النوع الأول:إحياء الموتى:

روى القشيري بإسناده في رسالته:أن أبا عبيد البسري غزا سنة من السنين،فخرج في البرية،فمات المهر الذي كان تحته و هو في البرية،فقال:يا ربّ،أعرناه حتى نرجع إلى بسر:يعني قرينه،فإذا المهر قائم،فلمّا غزا و رجع إلى بشر، قال لابنه:يا بني،خذ السرج من المهر،قال ابنه:فقلت له:إنه عرق فإذا أخذت السرج داخله الريح،فقال:يا بني،إنه عارية،قال:فلما أخذت السرج وقع المهر.

و روى أيضا بإسناده في رسالته:أنه انطلق رجل من اليمن،فلمّا كان في بعض الطريق نقض حماره،فقام فتوضأ،ثم صلّى ركعتين،ثم قال:اللّهمّ إني جئت مجاهدا في سبيلك ابتغاء مرضاتك،و إني أشهد أنك تحيي الموتى،و أنك تبعث من في القبور،و لا تجعل لأحد عليّ منّة اليوم،أطلب منك أن تبعث حماري،فقام الحمار ينفض أذنيه،و قد نقل هذا عن الإمام الشعبي أيضا.

و روى أيضا بإسناده فيها أن محمّد بن سعيد البصري قال:بينما أنا أمشي في طرق البصرة إذ رأيت أعرابيّا يسوق جملا،فالتفتّ فإذا الجمل وقع ميتا،و وقع الرجل و القنب، فمشيت ثم التفتّ فإذا الأعرابي يقول:يا مسبّب كل سبب،و يا مأمول من طلبه ردّ عليّ ما ذهب،و حمل الرجل القنب،فإذا الجمل قائم،و الرجل و القنب فوقه.

و روى أيضا بإسناده فيها إلى الشيخ سهل بن عبد اللّه التستري أنه قال:

ص: 186


1- رواه البخاري(1032/3)،و مسلم(1302/3).

الذّاكر للّه على الحقيقة لو همّ أن يحيي الموتى لفعل بإذن اللّه تعالى،و مسح يده على عليل بين يديه فبرأ و قام.

و كان الشيخ مفرّج الدماميلي عبدا حبشيّا اصطفاه اللّه تعالى،و لما تكاثرت كراماته أحضرت عنده فراخ مشوية،قال لها:طيري،فطارت أحياء بإذن اللّه تعالى.

و من المشهور ما روي سندا في كتاب«مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني»قدّس سرّه من خمسة طرق عن جماعة من الشيوخ الأجلاّء قالوا:

جاءت إليه امرأة بولدها،و قالت له:إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك،و قد خرّجت من حقي فيه للّه سبحانه و تعالى و لك،فقبّله الشيخ،و أمره بالمجاهدة و سلوك الطريق،فدخلت أمه عليه يوما فوجدته نحيلا مصفرّا من آثار الجوع و السهر،و وجدته يأكل قرصا من شعير،فدخلت على الشيخ،فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها،فقالت:يا سيدي،تأكل لحم الدجاج و يأكل ابني خبز الشعير.فوضع يده على تلك العظام،و قال:قومي بإذن اللّه تعالى الذي يحيي العظام و هي رميم،فقامت دجاجة سويّة،و صاحت،فقال الشيخ:إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.

قالوا:و مرّت على مجلسه حدأة طائرة في يوم شديد الريح،فصاحت،فشوشت على الحاضرين،فقال:يا ريح،خذي رأس هذه الحدأة،فوقعت لوقتها في ناحية و رأسها في ناحية،فنزل الشيخ من الكرسي،و أخذها في يديه و أمرّ يده الأخرى عليها،و قال:بسم اللّه الرحمن الرحيم فحييت و طارت و الناس يشاهدون ذلك.

قلت:فإحياء اللّه تعالى الموتى كرامة لهم،فهو و إن كان عظيما فهو جائز كما قدّمنا عن الأئمة أن ما جاز أن يكون معجزة لنبيّ جاز أن يكون كرامة لوليّ بشرط ألا يدّعي النبوة.

النوع الثاني:كلام الموتى:

قال اليافعي:أخبرني بعض الشيوخ الصالحين من أهل اليمين عن الفقيه إسماعيل الحضرمي أنه مرّ يوما على مقبرة و معه ناس كثيرون،فبكى بكاء شديدا ثم ضحك في

ص: 187

الحال،فسئل عن ذلك؟فقال:رأيت أهل هذه المقبرة يعذّبون،فحزنت لذلك،ثم سألت اللّه عزّ و جلّ أن يشفّعني فيهم،فشفّعني،فقالت صاحبة هذا القبر و أشار إلى قبر قريب العهد بالحفر:و أنا معهم يا فقيه إسماعيل،أنا فلانة المغنية.فضحكت،و قلت:أنت معهم،ثم أرسل إلى الحفّار،و قال له هذا قبر من؟فقال:قبر فلانة المغنية.

و روى القشيري أن الشيخ أبا سعيد الخرّاز قال:كنت مجاورا بمكة،فجزت يوما بباب بني شيبة،فرأيت شابّا حسن الوجه ميتا،فنظرت في وجهه،فتبسّم،و قال لي:يا أبا سعيد، ما علمت أن الأحياء أحياء و إن ماتوا،و إنما ينقلون من دار إلى دار.

و من المشهور ما روي مسندا من ثلاثة طرق عن جماعة من الشيوخ الأكابر في كتاب «مناقب الشيخ عبد القادر»،قالوا:

زار شيخنا محيي الدين عبد القادر الكيلاني الشونيزي يوم الأربعاء السابع و العشرين من ذي الحجة سنة تسع و خمسمائة و معه جمع كثير من الفقهاء و الفقراء،و وقف عند قبر الشيخ حمّاد الدبّاس زمنا طويلا حتى اشتدّ الحرّ و الناس واقفون خلفه،ثم انصرف و السرور بيّن في وجهه،فسئل عن سبب طول قيامه؟فقال:كنت خرجت من بغداد في يوم الجمعة منتصف شعبان سنة تسع و تسعين و أربعمائة مع جماعة من أصحاب الشيخ حمّاد لنصلي الجمعة في جامع«الرصافة»و الشيخ معنا،فلمّا كنّا عند قنطرة النهر دفعني،فرمى بي في الماء و كان في شدة البرد في كوانين،فقلت:بسم اللّه غسل الجمعة،و كان عليّ جبة صوف،و في كمي أجزاء،فرفعت يدي لئلا تبتل و تركوني و انصرفوا،و خرجت من الماء، و عصرت الجبة و تبعتهم و قد تأذّيت بالبرد أذى كثيرا،فطمع فيّ أصحابه،فنهرهم و قال:

إنما أوذيه لأمتحنه فأراه جبلا لا يتحرك،و إني رأيته اليوم في قبره و عليه حلة من جوهر، و على رأسه تاج من ياقوت،و في يده أساور من ذهب،و في رجليه نعلان من ذهب،و يده اليمنى لا تطيعه،فقلت:ما هذا؟قال:هذه اليد التي رميتك فهل أنت غافر لي ذلك؟ قلت:نعم،قال:فاسأل اللّه تعالى أن يردّها عليّ.فوقفت أسأل اللّه تعالى في ذلك،و قام خمسة آلاف وليّ من أولياء اللّه تعالى في قبورهم يسألون اللّه عزّ و جلّ أن يقبل مسألتي فيه، و يشفعون عندي في تمام المسألة،فما زلت أسأل اللّه عزّ و جلّ في مقامي ذلك حتى ردّ اللّه تعالى يده،و صافحني بها و قد تمّ سروره.

ص: 188

قالوا:فلمّا اشتهر هذا القول في بغداد اجتمع المشايخ و الصوفية من أهل بغداد من أصحاب الشيخ حمّاد؛ليطالبوا الشيخ عبد القادر بتحقيق ما قاله في الشيخ حمّاد،و تبعهم خلق كثير من الفقراء،و أتوا إلى المدرسة فلم يتكلم منهم أحد إجلالا للشيخ،فبدأهم بمرادهم،و قال لهم:اختاروا رجلين من المشايخ يتبين لكم ما ذكرته على لسانهما،فأجمعوا على الشيخ أبى يعقوب يوسف بن أيوب الهمداني،و كان يومئذ قد ورد إلى بغداد و الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن شعيب الكردي و كان مقيما ببغداد،و كان من ذوي الكشف الخارق و الأحوال الفاخرة،و قالوا له:أمهلناك في بيان ذلك على لسانهما جمعة.فقال لهم:

بل ما تقومون من مقامكم هذا حتى يتحقق لكم الأمر،و أطرق و أطرقوا،فصاح الفقراء من خارج المدرسة،و إذا بالشيخ يوسف قد جاء حافيا يشتد في عدوه حتى دخل المدرسة، و قال:أشهدني اللّه عزّ و جلّ ساعة الشيخ حمّاد لو قال لي يا يوسف أسرع إلى مدرسة الشيخ عبد القادر و قل للمشايخ الذين فيها:صدق الشيخ عبد القادر فيما أخبر به عني فلم يتمّ كلامه الشيخ يوسف حتى جاء الشيخ عبد الرحمن بن شعيب،و قال مثل قول الشيخ يوسف،فقام المشايخ كلهم يستغفرون للشيخ عبد القادر قدّس اللّه تعالى روحه.

قال الإمام عبد اللّه بن أسعد اليافعي في كتابه«نشر المحاسن»:أخبرني بعض الأخيار عن بعض الصالحين أنه يأتي قبر والده في بعض الأوقات و يتحدث معه.

و من المشهور أن الشيخ الكبير أحمد بن موسى بن عجيل سمعه بعض الفقهاء الصلحاء من قرابته يقرأ في سورة النور في قبره.

قال:و روينا أن الشيخ نجم الدين الأصبهاني طلع مع جنازة بعض الصالحين،فلمّا جلس بعض الناس من أهل العلم يلقّن الميت ضحك الشيخ نجم الدين و لم يكن الضحك عادته،فسئل عن ذلك؟فقال:سمعت صاحب القبر يقول:أ ما تعجبون من ميت يلقّن حيّا و غير ذلك مما يطول ذكره من كلام الموتى للأولياء.

النوع الثالث:انغلاق البحر و جفافه:

من ذلك ما روي أنه مات بعض الفقراء في سفينة،قال الراوي:فأردنا إلقاءه في البحر،فرأيت البحر قد انشقّ نصفين،و نزلت السفينة إلى الأرض،فخرجنا و حفرنا له قبرا و دفناه فيه،فلمّا فرغنا استوى الماء،و ارتفعت السفينة و سرنا.

ص: 189

روى القشيري رحمه اللّه تعالى في رسالته عن بعضهم قال:كنّا في مركب فمات رجل عليل كان معنا،فأخذنا في جهازه،و أردنا أن نلقيه في البحر،و سار البحر جافّا،و نزلت السفينة فخرجنا،و حفرنا له قبرا،و دفنّاه،فلمّا استوى الماء و ارتفع المركب سرنا.

النوع الرابع:انقلاب الأعيان:

اعلم أن هذا النوع مما كثر وقوعه لهم و اشتهر عنهم، كانقلاب الحصى جواهر و ذهبا لكثير منهم،و انقلاب ماء البحر عذبا،و لبعضهم سمنا، و لبعضهم مع الرمل سويقا و سكرا،و لبعضهم الحطب ذهبا،و غير ذلك مما يتعذّر حصره، و هذه الأشياء مشهورة مذكورة في الكتب المشتملة على بعض كرامات الأولياء كالرسالة و غيرها،و أعجب من ذلك انقلاب الخمر سمنا،كما روي عن الشيخ عيسى المعروف بالهتّار اليمني:أنه مرّ على امرأة بغيّ،فقال لها:بعد العشاء آتيك،ففرحت بذلك، و تزيّنت،فلمّا كان بعد العشاء دخل عليها البيت فصلّى ركعتين ثم خرج.

فقالت:أراك خرجت.فقال:المقصود حصل،فورد عليها واردا أزعجها عمّا كانت عليه،و خرجت بعد الشيخ و تابت على يديه،فزوّجها من بعض الفقراء.

و قال:اعملوا الوليمة عصيدة،و لا تشتروا لها أداما،ففعلوا ذلك،و أحضروه،و حضر الفقراء و الشيخ معهم كالمنتظر لشيء يؤتى به،فوصل الخبر إلى أمير تلك البلدة،فأخرج قارورتين مملوءتين خمرا،و أرسل بهما إلى الشيخ،و أراد أن يستهزئ بالفقراء و يفضحهم، و قال للرسول:قل للشيخ:قد سرّني ما سمعت،و بلغني أنه ما عندكم أدام فخذوا هذا فادموا به،فلمّا أقبل الرسول قال له الشيخ:أبطأت،ثم تناول إحداهما فخاضها،ثم صبّها، ثم كذلك الأخرى،ثم قال للرسول:اجلس فكل،فأكل فطعم سمنا لم ير مثله طعما، و ريحا،و لونا،و رجع و أخبر الأمير بذلك،فجاء الأمير فأكل،و تحيّر مما رأى،فتاب أيضا على يد الشيخ،و الحمد للّه الذي جعل هؤلاء السادة سببا للسعادة.

و أعظم من ذلك ما رواه اليافعي في نشر المحاسن عن جماعة من الصالحين.

روي عن بعض الأولياء أنه طلب بعض الناس يدعو له إلى اللّه تعالى أن يرزقه ولدا ذكرا،فقال له:إن أحببت ذلك فسلّم للفقراء مائة دينار .فسلّم إليه ذلك،ثم جاءه بعد ذلك بمدة،و قال له:يا سيدي،وعدتني بولد ذكر و ما وضعت امرأتي إلا أنثى.

ص: 190

فقال له الشيخ:الدنانير التي سلمتها ناقصة.قال:يا سيدي،ما هي ناقصة إلا شيئا يسيرا.فقال له الشيخ:و نحن أيضا ما نقصناك إلا شيئا يسيرا،فإن أحببت أن نوفّي لك فأوفي لنا.قال:نعم يا سيدي،ثم ذهب و عاد إليه بتوفية ذلك النقصان.

فقال له الشيخ:اذهب فقد أوفينا لك كما أوفيت،فرجع إلى منزله،فوجد الولد غلاما بقدرة اللّه تعالى و إكرامه للأولياء.

و من ذلك ما روي مسندا في كتاب«مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني»أنه خرج يوما لصلاة الجمعة،فمرّ به في الطريق ثلاثة أحمال خمرا للسلطان قد فاحت رائحتها و اشتدت،و معها صاحب الشرطة و أعوان الديوان،فقال لهم الشيخ:قفوا.فلم يفعلوا، و أسرعوا في سوق الدواب.

فقال الشيخ للدواب:قفي.فوقفت مكانها كأنها جمادات،فضربوها ضربا عنيفا فلم تتحرك من مواضعها،و أخذهم كلهم القولنج،و جعلوا يتقلّبون على الأرض يمينا و شمالا من شدة المهمّ،و ضجّوا بالشيخ،و أعلنوا بالتوبة و الاستغفار،فزال عنهم المهم،و انقلبت رائحة الخمر برائحة الخل،ففتحوا الأواني فإذا هي خلّ و مشت،فعلت أصوات الناس بالضجيج،و ذهب الشيخ إلى الجامع،و انتهى الخبر إلى السلطان،فبكى رعبا،و ارتدع من فعل كثير من المحرّمات،و جاء إلى الشيخ زائرا،و كان بعد ذلك يجلس بين يديه متواضعا متصاغرا.

و عن بعضهم قال:بينما أنا أسير في فلاة من الأرض إذ برجل يدور حول شجرة شوك،و يأكل منها رطبا،فسلّمت عليه،فقال:و عليك السلام تقدّم و كل.

فتقدّمت للشجرة،فكلّما أخذت منها رطبا عاد شوكا فتبسّم الرجل،و قال:هيهات لو أطعته في الخلوات أطعمك الرطب في الفلوات.

النوع الخامس:علمهم ببعض الحوادث قبل وجودها،و الاطّلاع على ضمائر
اشارة

الخلق:

و أما قول ربنا سبحانه و تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً

ص: 191

إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26،27]،فقد قال الإمام ناصر الدين البيضاوي،و استدلّ به على إبطال الكرامات،و جوابه تخصيص الرسول بالملك و الإظهار بما يكون بغير وسط، و كرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقّيا عن الملائكة كاطّلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء عليهم السلام:يعني أن اللّه سبحانه و تعالى يظهر الغيب على الملك،و الملك على الأنبياء و على الأولياء.

قال الإمام مظهر الدين:و قد تستفيد الأولياء من أرواح الأنبياء،و أما أصحاب الأنبياء من ألسنتهم فظاهر انتهى.

و سئل الإمام اليافعي هل يكفر من قال:المؤمن يعلم الغيب أم لا؟فقال:أقول و باللّه التوفيق لا يستعجل بتكفير من قال المؤمن يعلم الغيب حتى يسأل ما ذا أراد بالمؤمن و بالعلم و بالغيب؟فإن أراد بالمؤمن المؤمن الخاص و هو الولي دون المؤمن العام و هو كل مؤمن و بالعلم بأنه يعلم بإعلام اللّه تعالى له لا يعلمه بنفسه استقلالا و بالغيب بعض الغيوب لا جميعها فإنه لا يكفر بذلك؛لأنه جائز في كرامات الأولياء بل واقع.

الأدلة على علم المؤمن بالغيب و قد دلّ على جوازه العقل،و شهد بوقوعه النقل.
أمّا العقل:

فلأن ذلك ليس بمستحيل في قدرة اللّه تعالى؛بل هو من قبيل الممكنات و لا قادح في معجزات الأنبياء،و قدّمنا أنه لا فرق بين الكرامات و المعجزات إلا دعوة النبوة.

و أمّا النقل:

فهو خارج عن الحصر؛إذ لا يمكن تعداد ما نقل عن الأولياء من الكشف في كل عصر و مهر،و لو أمكن جمع ما وقع لهم من المكاشفات في جميع الأشياء في كل زمان و مكان لاحتيج في ذلك إلى كتب يطول عدّها،و يتعذّر حصرها،فكيف يحصر المكتوب فيها؟فليس يمكن جميع ذلك،و لا يقدر أحد يحصيه إلا اللّه تعالى.

و يكفي من ذلك ما أخبر اللّه عزّ و جلّ عن الخضر عليه السّلام مع موسى عليه السّلام مع كون الخضر وليّا لا نبيّا عند جمهور العلماء،و عند جميع العارفين باللّه تعالى،و كذلك ما قدّمناه عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه فيما كشف له من حال الحمل في بطن امرأته،و ما كشف لعمر رضي اللّه عنه من حال سارية و من معه من المسلمين،و حال العدو و ما أخبر عنه صلّى اللّه عليه و سلّم من كونه من المحدّثين.

ص: 192

و ما ورد عن السلف و الخلف مما رواه خلائق في كتب الحقائق و الرقائق،و صحّت به الروايات،و أخبر به الأولياء و العلماء و الثقات،فمن ذلك:

ما رواه القشيري عن الشيخ أبي يعقوب السوسيّ؟قال:جاءني مريد مكة،فقال:يا أستاذنا،غدا أموت وقت الظهر،فخذ هذا الديا نار فاحفر لي بنصفه،و كفنّي بالنصف الآخر.

ثم لما كان الغد وقت الظهر جاء،و طاف،ثم تباعد،و مات فغسلته،و وضعته في اللحد،ففتح عينيه،فقلت أ حياة بعد موت،فقال:أنا حيّ و كل محبّ للّه حيّ.

و قال أبو سعيد الخرّاز:دخلت المسجد الحرام،فرأيت فقيرا عليه خرقتان يسأل شيئا فقلت في نفسي:مثل هذا كلّ على الناس،فنظر إليّ و قال:و اعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه،قال:فاستغفرت اللّه تعالى في نفسي،فناداني و هو الذي يقبل التوبة عن عباده.

و قال خير النّساج:كنت جالسا في بيتي فوقع لي أن الجنيد بالباب فنفيت عن قلبي، فوقع ثانيا و ثالثا،فخرجت فإذا أنا بالجنيد،فقال:لم لم تخرج مع الخاطر الأول؟.

و قال أبو العباس بن مسروق:دخلت على شيخ من أصحابنا أعوده فوجدته على حالة رثّة،فقلت في نفسي:من أين يرتفق هذا؟فقال:يا أبا العباس دع عنك هذه الخواطر الدنيّة؛فإن للّه ألطافا خفيّة.

و عن الشيخ أبي عبد اللّه القرشي قال:هجم أهل الشرك ببلاد الأندلس على قرية من قراها فدخلوها في غرة،فشقّ على أهلها،و أخذوا في طريقهم أسارى عديدة فانزعج أهل الأندلس لذلك،و بلغ الخبر أن الأسارى يرمى لهم الحشيش مع الخيل و هم مكتوفون فيأكلون بأفواههم كما ترعى البهائم.

قال:فبت في بعض تلك الليالي عند الشيخ أبي إسحاق بن ظريف،فوضع الطعام بيننا ثم تنفس بعد أن قال:بسم اللّه،ثم قال:يا محمد،أ ما بلغك ما طرأ على المسلمين.فقلت:

نعم.فجعل يقصّ الخبر،و يبكي حتى علا بكاؤه،ثم قال:و اللّه لا أكلت طعاما و لا شربت

ص: 193

شرابا حتى يفرّج اللّه تعالى عن المسلمين،ثم اعتزل عن الطعام،ثم جلس ساعة فسمعته يقول:الحمد للّه،ثم دنا إلى الطعام،و قال:كل.فأكلت معه و عجبت منه كيف تركه ثم عاد إليه بعد قسمه في ساعة!ثم أن الخبر وصل إلينا بعد ذلك أن الوقت الذي تكلم فيه الشيخ صادف أن النصارى سمعوا رجفة عظيمة اعتقدوا أن معسكر المسلمين دهمهم، فركبوا خيولهم،و نجوا بأنفسهم،و تركوا الغنيمة و الأسارى،فخلّص اللّه المسلمين.

و قال الشيخ أبو زيد القرطبي:سمعت في بعض الآثار أن من قال:لا إله إلا اللّه سبعين مرة كانت فداؤه من النار،فعملت ذلك لبركة الوعد،و علّمت منها لأهلي،و عملت منها أعمالا ادخرتها لنفسي،و كان إذ ذاك يبيت معنا شابّ يقال أنه يكاشف في بعض الأوقات بالجنّة و النّار،و كانت الجماعة ترى له فضلا على صغر سنه،و كان في قلبي منه شيء، فاتفق أنه استدعانا بعض الأخوان إلى منزله فنحن نتناول الطعام و الشاب معنا؛إذ صاح صيحة منكرة،و اجتمع في نفسه و هو يقول:يا عمّ،هذه أمي في النار و هو يصيح بصياح عظيم لا يشكّ من سمعه أنه عن أمر،فلمّا رأيت ما به من الانزعاج قلت في نفسي:اليوم أجري صدقه،فقلت في نفسي:إن كان الأثر حقّا.

و الذين رووه لنا صادقون أن السبعين ألفا فداء هذه الامرأة أمّ هذا الشاب فما استتممت الخاطر في نفسي إلى أن قال:يا عمّ،ها هي أخرجت الحمد للّه الحمد للّه.

فحصلت لي فائدتين:إيماني بصدق الأثر،و سلامتي من الشاب،و علمي بصدقه.

و ذكر الشيخ شهاب الدين في كتابه«العوارف»:

إن الشيخ عبد القادر الكيلاني بعث إلى شخص،و قال لفلان:عندك طعام و ذهب، ائتني من الذهب بكذا،و من الطعام بكذا.فقال الرجل:كيف أتصرف فى وديعة عندي و لو أستفتيك ما أفتيتني في التصرف.فألزمه الشيخ بذلك،فأحسن الظن بالشيخ،و جاء إليه بالذي طلب،فلمّا وقع التصرف منه جاءه مكتوب من صاحب الوديعة و هو غائب في بعض نواحي العراق أن حمل إلى الشيخ عبد القادر كذا و كذا القدر الذي عيّنه الشيخ عبد القادر،فعاتبه الشيخ بعد ذاك على توقّفه،و قال:ظننت بالفقراء أن إشارتهم تكون على غير صحة و علم.

ص: 194

و روى سندا من ثلاث عن جماعة من الشيوخ في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر:أنه أرسل إليه بعض الشيوخ جماعة من أصحابه،و قال لهم:اذهبوا إلى بغداد،و قولوا للشيخ عبد القادر:يسلّم عليك عبد الرحمن،و يقول لك:إن له أربعين سنة في دركات باب القدرة فما رآك تمرّ لا داخلا و لا خارجا.

فقال الشيخ عبد القادر في ذلك الوقت لجماعة من أصحابه:اذهبوا إلى الشيخ عبد الرحمن،و ستجدون في طريقكم جماعة من أصحابه بعثهم إليّ بكذا و كذا،فإذا لقيتموهم فردّوهم معكم،فإذا أتيتموه فقولوا:يسلّم عليك عبد القادر،و يقول لك:أنت في الدركات،و من هو في الدركات لا يرى من في الحضرة،و من هو في الحضرة لا يرى من في المخدع،و أنا في المخدع أدخل و أخرج من باب الشر من حيث لا تراني بأمارة أن أخرجت لك الخلعة الفلانية في الوقت الفلاني على يدي و هي خلعة الرضا،و بأمارة خروج التشريف الفلاني لك على يدي و هو تشريف الفتح،و بأمارة أن خلع عليك في الدركات بمحض اثنا عشر ألف وليّ للّه خلعة الولاية و هي فرجيّة خضراء طرازها سورة الإخلاص على يدي خرجت لك.فانتهوا إلى نصف الطريق،فوجدوا أصحاب الشيخ عبد الرحمن فردوهم،و أتوا إليه،و بلّغوا رسالة الشيخ عبد القادر،فقال:صدق الشيخ عبد القادر سلطان الوقت و صاحب التصريف فيه.

و في كتاب«نشر المحاسن»عن الشيخ أبي الغيث اليافعي اليمني:

أنه قال له الفقراء ذات يوم:تشتهي اللحم.

فقال لهم:اصبروا إلى اليوم الفلاني،و كان يوم سوق تأتيه القوافل فلمّا جاء ذلك اليوم جاء الخبر أن قطّاع الطريق أخذوا القافلة،ثم جاء بعض القطّاع الحرامية بحبّ،و جاء آخر منهم بثور.

فقال الشيخ للفقراء:تصرّفوا فيه و خلّوا رأس الثور على حاله.فتصرّفوا،و أحضروا العيش،فدعاهم الفقراء إلى الأكل،فامتنعوا.

فقال الشيخ للفقراء:كلوا،الفقهاء ما يأكلون الحرام.

ص: 195

فلمّا فرغوا من الأكل جاء إنسان إلى الشيخ،و قال:يا سيدي،نذرت للفقراء كذا و كذا من الحبّ فأخذه الحرامية.و جاء آخر أيضا،و قال:نذرت للفقراء ثورا فنهب.فقال لهم الشيخ:قد وصل إلى الفقراء متاعهم.

و قال لصاحب الثور:تعرف ثورك إذا رأيت رأسه،قال:نعم.

فأمر الفقراء بإحضاره،فلما رآه قال هذا رأس ثوري بعينه،فبقي الفقهاء يضربون يدا على يد ندما على ترك مرافقة الفقراء.

و من اطلاع اللّه تعالى لهم على ما يشاء في الحوادث قبل وقوعها:

ما روي سندا في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر:قال بعض أصحابه:

كنت أشتغل على سيدي الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني،و كنت أسهر أكثر الليل أترقّب حاجته،فخرج من داره ليلة،فناولته إبريقا فلم يأخذه،و قصد باب المدرسة، فانفتح له الباب،فخرج و خرجت خلفه،و مشى إلى أن قرب من باب بغداد،فانفتح له الباب،فخرج و خرجت معه ثم عاد الباب مغلقا،و مشى غير بعيد،فإذا نحن في بلد لا أعرفه،فدخل فيه مكانا شبيها بالرباط،و إذا فيه ستة نفر فبادروا إلى السّلام عليه، و التجأت إلى سارية هناك،و سمعت من جانب ذلك المكان أنينا فلم نلبث إلا يسيرا حتى سكت الأنين.

و دخل رجل و ذهب إلى الجهة التي سمعت منها الأنين،ثم خرج يحمل شخصا على عاتقه،و دخل آخر مكشوف الرأس طويل شعر الشارب،و جلس بين يدي الشيخ فأخذ عليه الشهادتين،و قصّ شعر رأسه و شاربه و ألبسه طاقية،و سمّاه محمدا،و قال لأولئك النفر:قد أمرت أن يكون هذا بدلا عن الميت.

فقالوا:سمعا و طاعة.ثم خرج الشيخ و تركهم و خرجت خلفه،و مشينا غير بعيد،و إذا نحن عند باب بغداد،فانفتح كأوّل مرة،ثم أتى إلى المدرسة،فانفتح بابها أيضا،و دخل داره،فلمّا كان الغد جلست بين يديه أقرأ على عادتي فلم أستطع من هيبته،فقال لي:أي بنيّ اقرأ و لا عليك.

ص: 196

فأقسمت له أن يبيّن لي ما رأيت،فقال:أما البلد«فنهاوند».

و أما الستة فهم الأبدال،و صاحب الأنين سابعهم كان مريضا فلمّا حضرت وفاته جئت أحضره،و أما الرجل الذي خرج يحمل شخصا فأبو العباس الخضر ذهب به ليتولى أمره،و أما الرجل الذي أخذت عليه الشهادتين فرجل من أهل القسطنطينية كان نصرانيّا، و أمرت أن يكون بدلا عن المتوفى،فأتى به،فأسلم على يدي و هو الآن منهم،و أخذ عليّ ألا أحدّث بذلك أحدا و هو حيّ.

و قد أخبر خلائق منهم بموتهم و موت كثير من الناس في أزمنة و أمكنة معيّنات و بأشياء تقع بعد موتهم،فوقع جميع ذلك على وفق ما أخبروا.

فمن ذلك ما روي أن الشيخ أبا الغيث اليمني وقفت بين يديه مغنية،فغشي عليها، و وقعت،فلمّا أفاقت طلبت التوبة و صحبة الفقراء،و كانت من المترفات و أهل الرعونات، فقال لها الشيخ:إنّا نذبحك أ تصبرين على الذبح؟فقالت:نعم.فأمرها أن تسقي الماء للفقراء،فمكثت ستة أشهر تحمل الماء على ظهرها قد تبذّلت و تبدّلت عن حالها الأول،ثم قالت للشيخ:إني قد اشتقّت لربي.فقال الشيخ:يوم الخميس تلقين ربك.فماتت يوم الخميس.

و عن الشيخ إسماعيل الحضرمي أنه قال:أنا أموت في الضحى(بفتح الضاد المعجمة و الحاء المهملة)،موضع في اليمن،فمات و تقدّمت الحكاية عن الفقير الذي قال:أنا غدا أموت وقت الظهر.

و قال بعضهم:صحبت خير النسّاج،فقال لي قبل موته بثمانية أيام:أنا أموت يوم الخميس وقت المغرب،و أدفن يوم الجمعة قبل الصلاة،و ستنسى هذا.

قال:فنسيته إلى يوم الجمعة،فلقيني من أخبرني بموته،فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الجنازة قد أخرجت قبل الصلاة كما ذكر.

و عن الشيخ سهل بن عبد اللّه التستري قال:مات شاه بن شجاع الكرماني في وقت توقيت موته.

و غير ذلك مما هو خارج عن الحصر.

ص: 197

و قد قيل في تفسير قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]:

أي المتفرّسين.

و في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«اتّقوا فراسة المؤمن؛فإنّه ينظر بنور اللّه (1)».

و عن القشيري:أن الجنيد وقف عليه غلام نصرانيّ متنكرا و هو يتكلم على الناس في الجامع،فقال:أيها الشيخ،ما معنى قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«اتّقوا فراسة المؤمن؛فإنّه ينظر بنور اللّه»؟فأطرق الجنيد،ثم رفع رأسه،ثم قال:أسلم؛فقد حان وقت إسلامك.فأسلم الغلام (2).

و سئل بعضهم عن الفراسة؟فقال:أرواح تتقلب في الملكوت،فتشرف على معاني الغيوب،فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة و عيان لا نطق ظنّ و حسبان.

و قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشي:العالم من نطق عن سرّك،و اطّلع على عواقب أمرك.

و قال أيضا:الولي يرى الأشياء من وراء حجاب الشرع.

و جميع هذه الأقوال مما رويناهم عنهم مشهورة مرويّة عند أهل العلم في تصانيف مشهورة كالرسالة و غيرها،و ليس القصد حصر ما قاله الشيوخ في ذلك و لا ما وقع له منه،فإن ذلك مما لا سبيل إلى نزف بحره التيّار العميق الزخار،و إنما القصد التنبيه على ذلك مع أنه لا حاجة أيضا إلى التنبيه عليه؛فقد قام البرهان القطعي على جواز كرامات الأولياء من حيث الجملة،و هذا من جملتها،و قد تقدّم الدليل على جواز بلوغ الكرامة مبلغ المعجزة في جنسها و عظمها.).

ص: 198


1- رواه الترمذي(298/5)،و الطبراني في الكبير(102/8)،و في الأوسط(23/8).
2- انظر:البداية و النهاية لابن كثير(114/12)،و طبقات الأولياء لابن الملقن(ص 128)،و وفيات الأعيان لابن خلكان(373/1)،و الوافي بالوفيات للصفدي(ص 1556)،و روض الرياحين لليافعي (ص 113)،و روضة الحبور لابن الأطعاني(ص 110)،و كتابنا الإمام الجنيد(ص 179)،و تاريخ بغداد (242/7)،و شذرات الذهب لابن العماد(228/2).
النوع السادس:طي الأرض لهم من غير حركة منهم:

من ذلك ما روي أن بعضهم كان في جامع«طرسوس»فاشتاق إلى زيارة الحرم، فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه و هو في الحرم.

و كذلك اجتمع جماعة في بعض البلدان البعيدة في يوم عرفة،فاغتسلوا،و صلّوا، و أحرموا،ثم سجدوا،و مكثوا فيها ما شاء اللّه تعالى،ثم رفعوا رءوسهم و إذا هم ينظرون الجمال سائرة من منى إلى عرفات.

و عن الشيخ سهل بن عبد اللّه التستري قال:

توضأت في يوم الجمعة،فمضيت إلى الجامع في أيام البداية،فوجدته قد امتلأ بالناس و همّ الخطيب أنا يرقى المنبر،فأسأت الأدب،و لم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول،فجلست و إذا عن يميني شابّ حسن المظهر طيب الرائحة عليه أطمار الصوف،فلمّا نظر إليّ قال:كيف تجدك يا سهل؟فقلت:بخير أصلحك اللّه،و بقيت متفكّرا في معرفته،و أنا لم أعرفه،فبينما أنا كذلك إذ أخذني حذقان بول فأكربني،فبقيت على وجل خوفا أن أتخطى رقاب الناس،و إن جلست لم يكن لي صلاة،فالتفت إليّ و قال:يا سهل أخذك حذقان بول.فقلت:أجل.فنزع إحرامه من منكبه،فغشاني به، ثم قال:اقض حاجتك و أسرع تلحق الصلاة.

قال:فأغمي عليّ،و فتحت عيني فإذا بباب مفتوح،فسمعت قائلا يقول:

لج الباب يرحمك اللّه.فولجت،و إذا أنا بقصر مشيّد عالي البنيان،و إذا بنخلة قائمة، و إذا بجنبها مطهرة مملوءة ماء أحلى من الشهد،و منزل لإراقة الماء،و منشفة معلقة و سواك،فحللت لباسي،و أرقت الماء ثم اغتسلت،و تنشفت بالمنشفة،فسمعته يناديني، و يقول:إن كنت قضيت إربك فقل:نعم.فقلت:نعم.فنزع الإحرام عني،و إذا أنا جالس بمكاني،و لم يشعر بي أحد،فبقيت متفكّرا في نفسي و أنا أكذّب نفسي فيما جرى، فقامت الصلاة فصلّى الناس و صليت معهم و لم يكن لي شغل إلا الفتى لا أعرفه.

فلمّا فرغ تبعت أثره فإذا به قد دخل إلى درب،فالتفت إليّ،و قال:يا سهل،كأنّك ما أيقنت بما رأيت.

ص: 199

قلت:بلى.قال:لج الباب يرحمك اللّه.فنظرت الباب بعينه،فولجت القصر،فنظرت النخلة،و المطهرة،و الحال بعينه،و المنشفة مبلولة،فقلت:آمنت باللّه.

فقال:يا سهل،من أطاع اللّه أطاعه كل شيء،يا سهل،اطلبه بحمده.فتغرغرت عيناي بالدموع،فمسحتهما و فتحتهما فلم أر الفتى و لا القصر،فبقيت متحسرا على ما فاتني منه،ثم أخذت في العبادة.

و هذه الحكاية عجيبة لا يكاد يؤمن بها كثير من الناس،و لها احتمالات:

منها:أنه يحتمل أنه نقل من مكانه لما أغمي عليه إلى حيثما شاء اللّه تعالى من غير شعور منه،ثم أعيد كذلك إلى مكانه لطفا من اللّه تعالى و كرامة لأوليائه،و اللّه على كل شيء قدير.

و عن الشيخ مفرّج الدماميلي:أنه رآه بعض أصحابه بعرفة،و رآه آخر من أصحابه في مكانه لم يفارقه في جميع ذلك اليوم،فذكر كل واحد منهما ذلك لصاحبه ثم تنازعا، و حلف كل واحد منهما بالطلاق من زوجته أنه كما ذكر،فاختصما إلى الشيخ،و ذكر كل واحد منهما يمينه،فأقرّهما الشيخ على حالهما،و أبقى كل واحد منهما على الزوجية.

قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور:فسألت الشيخ مفرّجا عن حكمه في هذه القضية بعدم حنث الاثنين مع كون صدق أحدهما يوجب حنث الآخر،و كان معنا في وقت سؤالي جماعة فيهم رجال معتبرون لهم معرفة بالعلم.

فقال لنا الشيخ:قولوا:يعني تكلموا في هذه المسألة،و كان ذلك إذنا منه بأن نتحدث في سر هذا الحكم،فتحدث كل منهم بوجه غير كاف،و كانت المسألة قد اتضحت لي، فأشار إليّ الشيخ بإيضاحها،فقلت:الوليّ إذا تحقق في ولايته و مكّن من التصور في روحانيته يعطى من القدرة في التصور في صورة عديدة في وقت واحد فى جهات متعددة على حكم إرادته،فالصورة التي ظهرت لمن رآها بعرفة حقّ،و الصورة التي رآها الآخر في مكانه في ذلك الوقت حقّ،و كل واحد منهما صادق في يمينه.فقال الشيخ مفرّج:هذا هو الصحيح،فإن قيل كيف يتصور تعداد الصور من شخص واحد؟قلت:إن ذلك قد وقع،و شوهد و لا يمكن جحوده،و إن تحيّر فيه العقل.

ص: 200

و من ذلك:ما اشتهر عن كثير من الفقهاء و غيرهم:أن الكعبة المعظّمة شوهدت تطوف بجماعة من الأولياء في أوقات في أمكنة غير مكانها،و معلوم أنها في مكانها لم تفارقه في تلك الأوقات،فعلم من هذا أن وراء طور العقل طورا آخر.

و من ذلك:الشيخ قضيب البان حين شوهد و قد صلّى أربع ركعات في أربع صور، فلمّا أسلم الإمام ضحك في وجه الفقيه الذي بجنبه،و قال له:أي الأربعة الذي صلّى معكم هذه الصلاة.

و قيل:إنما سمّي الأبدال أبدالا؛لأنهم إذا غابوا يبدل في مكانهم صور روحانية تخلفهم، و هذا أحد القولين في سبب تسميتهم أبدالا.

و نؤيد ما ذكرناه عن الشيخ سهل عن الولي الذي ستره بإحرامه و عن الشيخ مفرّج و عن الشيخ قضيب البان ما روي بالإسناد الصحيح المتعدد برواية جماعة من الشيوخ:

إن الشيخ عبد القادر الكيلاني حضر في مجلسه أبو المعالي محمد بن أحمد البغدادي التاجر،فأخذته حقنة شديدة منعته من الحركة،و بلغت منه الجهد،فنظر إلى الشيخ عبد القادر نظر المستغيث،فنزل الشيخ مرقاة من الكرسي الذي يتكلم عليه،فظهر على تلك المرقاة رأس كرأس الآدمي،ثم نزل أخرى،فظهر كتفان و صدر،و ما زال ينزل مرقاة مرقاة حتى تكمّلت على الكرسي صورة كصورته تتكلم على الناس بصوت مثل صوته، و كلام مثل كلامه،و لا يرى ذلك إلا هو و من شاء اللّه من الحاضرين،و جاء يشقّ الناس حتى وقف عليه،و غطّى رأسه بكمه.

و في رواية:بمنديله،فإذا هو في صحراء متسعة فيها نهر عنده شجرة،فعلّق فيها مفاتيح كانت في كمّه،و أزال حقنته،و توضأ من ذلك النهر،و صلّى ركعتين،فلمّا سلّم منها رفع الشيخ الغطاء عنه،فإذا هو في المجلس و أعضاؤه مبتلة بالماء و لا حقنة به،و الشيخ على الكرسي يتكلم كأنه لم ينزل منه،و تفقّد مفاتيحه فلم يجدها معه،ثم بعد مدة جهّز قافلة إلى بلاد العجم،و ساروا من بغداد أربعة عشر يوما،فنزلوا منزلا في برية فيها صحراء،فذهب فيها ليزيل حقنة به،فقال:ما أشبه هذه الصحراء بتلك الصحراء.

ص: 201

و ذكر شأنه في ذلك اليوم فإذا هو بذلك النهر و تلك الشجرة و مفاتيحه معلقة عليها، فلمّا رجعوا أتى إلى الشيخ ليخبره بذلك فأمسك بأذنه قبل أن يخبره،و قال له:يا أبا المعالي،لا تذكره لأحد و أنا حيّ.فلازم خدمته إلى أن مات.

و روي مسندا في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر عن الشيخ محمد بن الأزهر قال:

مكثت مدة أسأل اللّه تعالى يريني أحدا من رجال الغيب،فرأيت ليلة في المنام أني أزور قبر الإمام أحمد بن حنبل و عند قبره رجل،فوقع في نفسي أنه من رجال الغيب،فاستيقظت فرجوت أن أراه في اليقظة،فأتيت قبر الإمام أحمد في وقتي،فوجدت الرجل الذي رأيته في المنام بعينه،فخرج قدّامي،و تعجّلت في الزيارة،و تبعته إلى أن وصل إلى دجلة،فالتقى له طرفاها حتى صارت قدر خطوة الرجل،فعبرها إلى الجانب الآخر،فأقسمت عليه أن يقف ليكلّمني،فوقف،فقلت:ما مذهبك؟فقال:حنيفا مسلما و ما أنا من المشركين.

فوقع عندي أنه حنفيّ المذهب،و انصرفت،فقلت في نفسي:آتي الشيخ عبد القادر، و أذكر له ما رأيت،فأتيت مدرسته،و قمت على بابه،فناداني من داخل داره،و قال:يا محمد،ما في الأرض من المشرق إلى المغرب في هذا الوقت وليّ للّه سبحانه و تعالى حنفيّ سواه.

و حكاياتهم في هذا كثيرة،و فيما ذكرناه كفاية.

النوع السابع:انفجار الماء لهم:

من ذلك ما روى القشيري في رسالته بإسناده فيها:أن أبا تراب النخشبي قال له بعض أصحابه في طريق مكة:أنا عطشان،فضرب برجله الأرض فإذا عين ماء زلال،فقال الفتى:أحب أن أشربه في قدح،فضرب بيده الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت،فشرب،و سقانا و ما زال القدح معنا إلى مكة.

و عن الشيخ أبي عبد اللّه القرشي:أنه جاء إلى بئر من آبار مني بركوتة يطلب ماء و هو عطشان،فضربه بعض من كان على البئر،و رمى بركوته بعيدا.

قال:فمضيت إليها لآخذها و أنا منكسر القلب،فوجدتها في بركة ماء حلو،

ص: 202

فاستقيت،و شربت،و جئت بها إلى أصحابي فشربوا،و أعلمتهم بالقصة فمضوا إلى المكان؛ ليستقوا منه،فلم يجدوا ماء و لا أثرا لماء،قلت:إنها آية.

و حكي عن بعض الأخيار:أنه عطش في طريق الحج،فدار في الركب من أوله إلى آخره في طلب الماء،فلم يحصل له شيء،و إذا بفقير قد ركّز عكازه في ساقية بركة،و الماء ينبع من تحت العكاز،و يجري إلى البركة،فملأ قربته،و أعلم الحاجّ،فاستقوا منها، و تركوها و هي تطفح،و حكاياتهم من هذا النوع لا يمكن حصرها،و قصدنا التنبيه عليها و الإشارة إليها.

النوع الثامن:كلام الجمادات و الحيوانات لهم:

من ذلك الحكاية المشهورة في مخاطبة شجرة الرمان لإبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس،و قولها:يا أبا إسحاق، اكرمنا بأن تأكل منّا شيئا،قالت ذلك ثلاث مرات،و كانت شجرة قصيرة،و رمانها حامض،و تحمل في السنة مرة،فلما أكل منها صارت طويلة،و رمانها حلوا،و تحمل في السّنة مرتين،فسمّوها رمانة العابدين،و يأوي إلى ظلّها العابدون.

قال الشبلي:اعتقدت وقتا ألا آكل إلا من الحلال،فكنت أدور في البراري،فرأيت شجرة تين،فمددت يدي إليها لآكل منها،فنادتني الشجرة:احفظ عليك عقدك و لا تأكل منّي؛فإني ليهوديّ.

و قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشي:بينما أنا أسير على بعض السواحل إذ خاطبتني حشيشة:أنا شفاء هذا المرض الذي بك.فلم أتناول منها و لم أستعملها.

و عن بعضهم:أنه قال:كلّمني جمل في طريق مكة لما رأيت الجمال و المحامل عليها و قد مدت أعناقها في الليل،فقلت:سبحان من تحمّل عنها ما هي فيه،فالتفت إليّ جمل،و قال لي:قل:جلّ اللّه،فقلت:جلّ اللّه.

و عن بعضهم:أنه كان يضرب رأس حمار كان تحته،فرفع الحمار رأسه،و قال:

اضرب أو لا تضرب؛فإنما تضرب على رأسك.

و لا يستنكر هذا؛فقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث الصحيح بكلام البقرة التي كلّمت

ص: 203

صاحبها،و قالت:«إنّما خلقت للحرث....الحديث (1)».

و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيما أخرج:«آمنت بهذا أنا و أبو بكر و عمر (2)»،فشهد لهما بالإيمان بذلك و هما غائبان حينئذ لما قال الناس:سبحان اللّه بقرة تتكلم،و ناهيك بهذا شرفا لهما.

و كذلك ما روي عن الشيخ أبي الربيع المالقي قال:قيّض اللّه لي طيرا في بعض الأسفار يبيت يسامرني،فكنت أسمعه الليل كله ينطق:يا قدوس يا قدوس،فإذا أصبح صفّق بجناحيه،و قال:سبحان الرزّاق،و طار.

و كذلك ما روي أن بعضهم كان يأتيه طير بمكة،و يحادثه،فلمّا كان ذات يوم أتاه و قال له:موعدي و موعدك الشام.فاجتمع به بعد ذلك في الشام،و كذلك الحكاية المشهودة المشهورة في الطير الذي يبشّر أبا مسلم بسلامة السريّة،و قدومها في وقت عيّنه له في بعض الغزوات،فقال له:من أنت يرحمك اللّه؟فقال له الطير:أنا مذهب الأحزان عن قلوب المؤمنين.فقدمت السرية كما ذكر و غير ذلك مما يخرج عن الحصر مما قد علم و اشتهر.

النوع التاسع:إبراء العلل ببركتهم:

من ذلك ما روي أنه ظهر بيعقوب بن الليث علة أعيت الأطباء،فقيل له:في ولايتك رجل صالح يقال له:سهل بن عبد اللّه،فلو استحضرته لعلّه يدعو لك.فأحضره،و سأله الدعاء،فقال:كيف يستجاب دعائي لك و في سجنك محبوسون؟فأطلق كل من كان في السجن،فقال سهل:اللّهمّ كما أريته ذلّ المعصية فأره عزّ الطاعة،و فرّج عنه.فعوفي،فعرض مالا على سهل فأبى أن يقبل،فقيل له:

لو قبلته و فرّقته على المساكين؟فنظر إلى الحصى في الصحراء فإذا هي جواهر،فقال:من أعطي مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟!

و عن السري السّقطي قال:كنت أطلب رجلا صدّيقا مدة من الأوقات،فمررت في

ص: 204


1- رواه البخاري(1339/3)،و مسلم(1857/4)،و الترمذي(615/5)،و أحمد في الفضائل(/1 179).
2- رواه البخاري(1280/3)،و أحمد(245/2)،و ابن حبان في الصحيح(329/15).

بعض الجبال فإذا أنا بجماعة زمنى،و عميانا،و مرضى،فسألت عن حالهم،فقالوا:هاهنا رجل يخرج في السّنة مرة فيدعوهم،فيجدون الشفاء،فقفوت أثره،و تعلقت به،و قلت:

بي علة باطنية فما دوائها؟فقال:يا سريّ،خلّ عني؛فإنه غيور لا يراك تساكن غيره، فتسقط من عينه.

و كذلك الحكاية المشهورة عن البنت الزمنة التي قالت:يا ربّ أسألك بحرمة ضيفنا أن تعافيني.فقامت تمشي في الليل،فلمّا رأى ذلك أهلها طلبوا الضيف و كان صبيّا حمّالا في السوق،بات عندهم فلم يجدوه و الأبواب على حالها مغلقة.

و روي مسندا في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني:أنه جاءه فضل اللّه بن إسماعيل البغدادي التاجر فقال له:يا سيدي قال جدك صلّى اللّه عليه و سلّم:من دعي فليجب،و قد دعوتك إلى منزلي،فقال:إن أذن لي جئت،ثم أطرق مليّا،ثم قال:نعم،فركب بغلته، و كان عنده شيخان من الشيوخ الكبار فأخذ أحدهما بركابه الأيمن و الآخر بركابه الأيسر حتى أتوا إلى داره فإذا فيها مشايخ بغداد و علماؤها و أعيانها و مدّ سماط فيه من كل حلو و حامض،و أتي بسلة كبيرة مختومة يحملها اثنان،و وضعت في آخر السماط،و قال فضل اللّه:بسم اللّه،و الشيخ مطرق فما أكل أحد و لا أذن في الأكل لأحد و أهل المجلس كأن على رءوسهم الطير من هيبته،فأشار إلى الشيخين الّذين جاءا معه:أن قدّما لي تلك السلة.فقاما و حملاها حتى وضعاها بين يديه،و أمرهما ففتحاها فإذا فيها ولد للذي دعاهم أكمه مقعد مجذوم و مفلوج.

فقال له الشيخ:قم بإذن اللّه تعالى معافى.فإذا الصبي يعدو و هو بصير و لا عاهة به، فضجّ الحاضرون و خرج الشيخ في غلبات الناس و لم يأكل شيئا.

قال الراوي:و هو أحد الشيخين المذكورين،فأتاه بعد ذلك جمع من الرافدة بقفّتين مخيطتين،و قالوا له:قل لنا ما فى هاتين القفتين،فنزل من الكرسي الذي يتكلم عليه و وضع يده على إحداهما،و قال:في هذه صبيّ مقعد و أمر بفتحها فإذا فيها صبيّ،فأمسك بيده،و قال له:قم بإذن اللّه تعالى.

فقام يعدو،و وضع يده على الأخرى،و قال:فى هذه صبيّ لا عاهة به،و أمر بفتحها،

ص: 205

و إذا فيها صبيّ فقام يمشي،فأمسك بناصيته،و قال له:اقعد.فأقعد،فتابوا عن الرفض على يديه،و مات في المجلس يومئذ من الحاضرين ثلاثة.

و روي أنه مات في مجلسه في بعض الأيام سبعة.

و روي أن الشيخ أحمد بن موسى بن عجيل اليمني جاءه بعض الناس و في يده سلعة، فقال له:ادع اللّه لي أن يزول عني هذه السلعة و إلا ما بقيت أحسن ظنّي بأحد من الصالحين.فقال له:لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم،و مسح على يده و ربط عليها بخرقة،و قال:لا تفتحها حتى تصل إلى منزلك.فخرج من عنده،فلمّا كان في بعض الطريق أراد أن يتغذّى ففتح يده ليأكل فلم ير لها أثرا.

و لعل الشيخ أراد أن يستر هذه الكرامة بستر اليد بالخرقة؛لئلا تظهر في الحال،و ربما كان عنده في ذلك الوقت ناس فرأى ظهورها بعد تراخي الوقت أهون و أقل شهرة.

و الكلام في هذا النوع واسع جلّه و لسنا إلى تتبّعه نتعدى.

النوع العاشر:طاعة الأشياء لهم:

من المشهور أن كثيرا منهم كانت السباع تحرمهم، و قد ركب كثير منهم على ظهورها،و بعضهم حمل عليها زاده،و بعضهم حطبا،منهم الشيخ أبو الغيث اليمني حمل حطبا على ظهر أسد افترس حماره،فقال له:و عزة المعبود ما أحمل حطبي إلا على ظهرك،فخضع له،فحمل الحطب على ظهره،و ساقه إلى باب البلد ثم حطّ عنه،و خلاّه.

و عن المرأة الصالحة شعوانة:أنها رزقت ولدا فربّته أحسن تربية،فلما كبر و نشأ قال لها:سألتك باللّه يا أماه إلا ما و هبتيني للّه تعالى.

فقالت له:يا بني،إنه لا يصلح أن يهدي للملوك إلا أهل الأدب و التقى،و أنت يا ولدي غرّ ما تعرف ما يراد بك و لم يأن لك ذلك.فأمسك عنها و لم يقل لها شيئا،فلما كان ذات يوم خرج إلى الجبل ليحتطب و معه دابة،فنزل عنها ليجمع حطبا،فلما جمع و رجع وجد السبع قد افترسها،فجعل يده في رقبة السبع.

و قال له:يا كلب اللّه و حقّ سيدي لأحملنّك الحطب كما تعديت على دابتي،فحمل

ص: 206

على ظهره الحطب و هو طائع لأمره حتى وصل إلى دار أمه،فقرع عليها الباب،ففتحت له،و قالت له لما رأت ذلك:يا بني أما الآن فقد صلحت لخدمة الملوك،اذهب فقد وهبتك للّه تعالى.فودّعها،و ذهب.

و روي أن الشيخ الكبير شاه بن شجاع الكرماني خرج للصيد و هو ملك كرمان، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا هو بشابّ راكب على سبع و حوله سباع،فلما رأته ابتدرت نحوه،فزجرها الشاب عنه،و خرجت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب و دفع باقيه إلى شاه،فشرب و قال:ما شربت شيئا ألذّ منه و لا أعذب،ثم غابت العجوز،فقال الشاب:هذه الدنيا و كلّها اللّه تعالى إلى خدمتي،فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إليّ حين يخطر ببالي،أ ما بلغك أن اللّه تعالى لما خلق الدنيا قال لها:يا دنيا من خدمني فاخدميه،و من خدمك فاستخدميه،و وعظه وعظا حسنا فكان ذلك سبب توبته و خروجه من الملك و دخوله في طريق القوم حتى كان من أمره ما كان.

و روي أن جماعة من أهل العلم قصدوا زيارة بعض الشيوخ فلما أتوه وجدوه يلحن في قرآنه في الصلاة فتغيّر اعتقادهم فيه،فلما ناموا تلك الليلة أجنبوا كلهم فخرجوا ليغتسلوا في بركة ماء،فوضعوا ثيابهم و دخلوا في الماء،فجاء الأسد و جلس على ثيابهم، فلم يقدروا يخرجون،فلاقوا شدة من شدة البرد،فجاء الشيخ و زجر الأسد،و قال له:لا تتعرض لضيفاتنا،فبصبص و ذهب.ثم قال لهم الشيخ:أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر، فخفتم الأسد،و نحن اشتغلنا بإصلاح الباطن فخافنا الأسد.

و من المشهور أن السباع كانت تأتي إلى سهل بن عبد اللّه،فكان يدخلها بيتا و يضيفها و يطعمها اللحم،ثم يخليها،فكان الناس يسمون ذلك البيت بيت السباع.

قال الشيخ أبو ناصر السراج:و رأيت أهل تستّر كلهم متفقون على هذا لا ينكرونه.

و كذلك الحكاية المشهورة عن الشيخ إبراهيم الخواص مع الأسد الذي جاء يعرج فوضع يده في حجره فرآها وارمة،فنعسها بعود،و أخرج منها قيحا،فذهب الأسد و جاءه بعد ساعة و معه شبلان فبصبصا له و حملا إليه رغيفين،و ذلك في البرية،و هذه الكرامة اشتملت على كرامات كثيرة:

ص: 207

منها قصد الأسد إليه،و استئناسه به،و مدّه يده إليه،و وضعها في حجره،و التماسه منه لقشها،و إخراج القيح منها،و عوده إليه،و إتيانه بوالديه كالمتودّد إليه و الشاكر له على جميله،و حمله إليه الرغيفين كالمجازي له،و إحضار الخبز في موضع لا يوجد فيه مع كون محضره ليس من أهل الخبز،و كذلك المخدة التي شوهدت تروّح على الشيخ إبراهيم بن أدهم بالنرجس و هو نائم في البستان،و الظبية التي كانت تأتي بعضهم فيشرب لبنها في بعض البراري،و الطيور التي كانت تؤانسهم في الجبال و القفار،و تحمل إليهم أنواع الثمار، و غير ذلك مما امتلأت باليسير منه كتب الحقيقة،و إنما نبّهت على قطرة من بحار عميقة، و على الجملة فالدنيا كلها تتصور لهم في صورة عجوزة تخدمهم،و أعظم من ذلك طواف الكعبة المعظّمة بكثير منهم،و كل ذلك مشهور مذكور بالأسانيد الصحيحة.

قال اليافعي في كتابه«نشر المحاسن»:و من جملة ما اشتهر في بلاد اليمن و ربما تواتر عن الشيخ الفقيه إسماعيل الحضرمي:أنه قال يوما لخادمه و هو في سفر يقول للشمس تقف له حتى يصل إلى منزله،و كان في مكان بعيد،و قد قرب غروبها،فقال لها الخادم:قال لك الفقيه إسماعيل قفي له،فوقفت له حتى بلغ مكانه،ثم قال للخادم:ما تطلق ذلك المحبوس.فأمرها الخادم بالغروب،فغربت،و أظلم الليل في الحال.

قال:و المرجوع في هذا كله إلى أصل يجب الإيمان به،و هو أن اللّه على كل شيء قدير،و ليس الخارق للعوائد بمستحيل في العقل كما تقدّم،و لا ملتبس بالمعجزات و السحر للفرق بين ذلك.

و من طاعة الجان له ما روي مسندا في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني:أنه جاءه بعض أهل بغداد،و ذكر له أن ابنة له اختطفت من سطح داره و هي بكر عمرها ستة عشرة سنة،فقال له الشيخ:اذهب هذه الليلة إلى خراب الكوخ و اجلس عند التل الخامس و خطّ عليك دائرة في الأرض،و قل و أنت تخطّها:

بسم اللّه على نية عبد القادر فإذا كانت فحمة العشاء مرت بك طوائف من الجن على صور شتى فلا يروعنّك منظرهم،فإذا كان السحر مرّ بك ملكهم في جحفل منهم، فيسألك عن حاجتك،فقل له:قد بعثني عبد القادر إليك،و اذكر له شأن ابنتك.

ص: 208

قال:فذهبت،و فعلت ما أمرني به فمرّ بي منهم صور مزعجة المنظر،و لا يقدر أحد منهم أن يدنو من الدائرة التي أنا فيها و ما زالوا يمرون زمرا زمرا إلى أن جاء ملكهم راكبا فرسا و بيّن يديه،فوقف بإزاء الدائرة.

و قال:يا أنس،ما حاجتك؟قلت:قد بعثني الشيخ عبد القادر إليك،فنزل عن فرسه،و قبّل الأرض،و جلس خارج الدائرة،و جلس من معه و قال:ما شأنك؟فذكرت قصة ابنتي،فقال لمن معه:من فعل هذا؟فلم يعلموا من فعله،فأتي بمارد و هي معه،و قيل له:هذا من مردة الصين.فقال له:ما حملك على أن اختطفت من تحت ركاب القطب.

قال:إنها وقعت في نفسي.فأمر به،فضرب عنقه،و أعطاني ابنتي،فقلت له:ما رأين كالليلة في امتثالك أمر الشيخ عبد القادر.قال:نعم،إنه لينظر من داره إلى الزمرة منّا و هم بأقصى الأرض فيفرون من هيبته إلى مساكنهم،و إن اللّه تعالى إذا أقام قطبا مكنّه من الجن و الإنس.

قال الإمام اليافعي في كتابه«نشر المحاسن»:لا شكّ أن الكرامات قد ظهرت في زمن الصحابة و كثرت،و لكن ظهورها فيما بعد أكثر،ثم أن كثيرا من المنكرين لكرامات الأولياء و الصالحين لو رأوهم يطيرون في الهواء لقالوا:هذا سحر،و قالوا:هؤلاء شياطين، و لا شكّ أن من حرم التوفيق فكذّب بالحقّ غيبا و حدسا كذّب به عيانا و حسّا،كما قال اللّه تعالى و هو أصدق القائلين مخاطبا لنبيه سيد المرسلين: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]الآية.

فإن قيل:إن هذه الكرامات تشبه السحر؛فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء و سماع النداء من بطنه وطي الأرض له و قلب الأعيان و نحو ذلك غير معهود في الحس أنه صحيح، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء و النار نجيّات.

فالجواب:ما أجاب به المشايخ العارفون و العلماء المحققون في الفرق بين الكرامة و السحر أن السحر يظهر على يد الفسّاق و الزنادقة و الكفّار الذين هم على غير شريعة و متابعة،و أما الأولياء فإنما وصلوا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم و اتباعهم السنّة حتى بلغوا فيها الدرجة العليا فافترقا،و ليس العجب ممن ينكر الكرامات من المعتزلة؛فليس ذلك

ص: 209

بمستنكر و لا مستكثر منهم؛فقد خالفوا أهل السنة و الجماعة بما هو أنكر و أكثر،و إنما العجب من قوم ينكرونها ينتمون إلى أهل السنة،و هم أقسام:

فقسم منهم ينكرون على مشايخ الصوفية و من ينتمي إليهم،و يسيئون الظن بهم، و يطعنون فيهم،و ينكرون كراماتهم،و العجب كل العجب منهم في إنكارهم على سادات ما بين أوتاد و أبدال و صدّيقين عارفين باللّه محققين،قد ملأوا الوجود كرامات و أنوار و معارف و حكما و أسرارا يعدون إقبال الناس عليهم ليلا و إدبارهم عنهم نهارا قد صفّوا بواطنهم من شوائب الكدر و استوى عندهم الذهب و المدرة و المدح و الذم و الشدائد و النعم،بل يعدون نعمة الدنيا منعا و بلاء،و الشدة عطاء و رخاء،أعرضوا في بدايتهم عمّا سوى اللّه فخصّوا في نهايتهم من فضل اللّه ما لا يعلمه إلا اللّه،فما ظنّهم بقوم ضبطوا أنفاسهم مع اللّه،فشغلهم طول دهرهم بمراقبته.

يقول الصغير منهم:وقفت على باب قلبي عشرين سنة ما جاز به شيء لغير اللّه إلا رددته،أ ما علموا أن أعلام العلماء الصالحين الحلماء لم يزالوا قديما و حديثا يعتقدون طائفة الصوفية و يزورونهم و يتبرّكون بمجالستهم و دعائهم و آثارهم و يحترمونهم.

و قد روي أن الإمام تقي الدين بن دقيق العيد المشهور كان يزور بعض الفقراء و يطلب منه الدعاء،و يخضع و يتذلل بين يديه حتى أنه قال في وقت:لهو عندي خير من مائة فقيه،أو قال:ألف فقيه.

و كذلك الإمام النووي كان يجتمع و ينتفع بالشيخ ياسين المزين و يستمع كلامه، و يقبل إشارته حتى أنه أمره بالسفر و ردّ ما كان عنده من الكتب المستعارة قبل موته بقليل فامتثل أمره،و قبل إشارته،و سافر راجعا إلى بلدته،فمرض،و توفّي بين أهله و إخوته.

و كذلك الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام كان يعتقد المشايخ و يقول بفضلهم حتى أنه سئل عن الخضر عليه السّلام أ حيّ هو؟فقال:ما تقولون لو أخبركم ابن دقيق العيد أنه رآه بعينه أ كنتم تصدقونه؟قالوا:أي و اللّه نصدقه.قال:فو اللّه لقد أخبر عنه سبعون صدّيقا أنهم رأوه كل واحد منهم خير من ابن دقيق العيد.

ص: 210

قال اليافعي:و قوله هذا يرد قول ابن الجوزي في زعمه أن الخضر ليس بحيّ.

قلت:و أظنه قد رجع عن هذا القول؛فإنه قد روى بإسناده المتصل أربع روايات:

الأولى:إن الخضر عليه السّلام حيّ،أخذ إياها عن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه رآه متعلقا بأستار الكعبة،و هو يدعو بهذا الدعاء:(اللّهمّ يا من لا يشغله سمع عن سمع...) الدعاء المشهور،و خاطبه الإمام و عرفه.

و الثانية:عن الإمام عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما،قال الراوي:لا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«يلتقي الخضر و إلياس عليهما السلام في كل عامّ في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه و يفترقا عن هؤلاء الكلمات:بسم اللّه ما شاء اللّه لا يسوق الخير إلا اللّه،ما شاء اللّه لا يصرف السوء إلا اللّه،ما شاء اللّه ما كان من نعمة فمن اللّه،ما شاء اللّه لا حول و لا قوة إلا باللّه (1)».

و الثالثة:عن الإمام عليّ رضي اللّه عنه أيضا:أنه يجتمع يوم عرفة بعرفات جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و الخضر عليهم السلام،و ذكر أنهم يتجاوبون بنحو هذا الذكر المذكور.

و الرابعة:إن عيسى و إدريس في السماء و إلياس و الخضر في الأرض.

روى هذه الروايات الأربع بإسناده المتصل.

قال ابن عباس رضي اللّه عنه في الكلمات التي يقولهن الخضر و إلياس:من قالهن حين يصبح و حين يمسي ثلاث مرات أمّنه اللّه تعالى من الغرق و الحرق و السرق.

قال الراوي:و أحسبه قال:و من الشيطان و السلطان و الحيّة و العقرب (2).

و القسم الثاني من أقسام المنكرين:قوم يكذّبون بكرامات أولياء أزمانهم،و يصدّقون بكرامات الذين ليسوا في زمانهم.ة.

ص: 211


1- رواه الديلمي في الفردوس(504/5)،و ابن عدي في الكامل(328/2).
2- انظر الأخبار التي وردت في أن الخضر عليه السلام كان في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ثم بعده إلى الآن،الزهر النضر في حال الخضر،(ص 131،208)و لا عبرة بقول المخالف لما عليه أهل الحقائق من المتصوفة.

فهؤلاء كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي:و اللّه ما هي إلا إسرائيلية صدّقوا بموسى و كذّبوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنهم أدركوا زمنه.

القسم الثالث:قوم يصدّقون بأن للّه تعالى أولياء لهم كرامات،و لكن لا يصدّقون بواحد معين من أهل زمانهم،فهؤلاء محرومون أيضا؛لأن من لم يسلّم لواحد معين لم ينتفع بأحد،و من أنكر على الصالحين حرم بركتهم.

قال الشيوخ:و ذلك أقل عقوبته،و يخشى عليه سوء الخاتمة العياذ باللّه تعالى انتهى.

قال الشيخ عبد الغني الشامي:و ربما طعن بعض المنكرين في الفقراء بأنهم مسرفون على أنفسهم،فتراهم يطلبون فقراء في طريق اللّه تعالى معصومين من الزلل و المعصية،و هذا لا يكون أبدا بل من غلب خيره على شره فهو الكامل،بل في الحديث الشريف النبوي ما هو أبلغ من ذلك،و هو الاكتفاء بالعشر من الخير فضلا عن غلبته على الشر و كونه نصفا أو ربعا،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك،ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا (1)».

رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه،و ذكره السيوطي في«الجامع الصغير».

فقد حكم نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم بالنجاة لمن عمل بالعشر،و هي بشارة عظيمة لكل من سلم من الكفر و الشرك إلى يوم القيامة،فالحمد للّه الذي جعلنا من أمة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.).

ص: 212


1- رواه الترمذي(530/4)،و البخاري في التاريخ الكبير(415/7)،و الديلمي في مسند الفردوس (393/1)،و الطبراني في الصغير(42/2).

النور العشرون

و هو نور الجاه:

فهو كشف له أنه واحد اللّه في التخصيص،و الشفاعة تدل على ذلك و أشباهها.

*قلت:فهو صلّى اللّه عليه و سلّم الشفيع،و شفيع المذنبين،صاحب الشفاعة الكبرى.

و صاحب الشيء مستحقّه المختصّ به دون من سواه،و لما كان صلّى اللّه عليه و سلّم المختصّ بدعوة الشفاعة كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«لكلّ نبيّ دعوة،فمنهم من يجعلها في دنياه،و منهم من جعلها دعاء على قومه،و إنّي اختبأت دعوتي؛شفاعة لأمّتي يوم القيامة (1)».

فهو صلّى اللّه عليه و سلّم المخصوص بمطلق الشفاعة من حيث جرت و على أيّ شفيع أجريت،ثم هو صلّى اللّه عليه و سلّم ظاهر الاختصاص بأجلّها و أعلاها و أكبرها،فكبر الشفاعة التي يظهر للخاصّ و العامّ اختصاصه بها من حيث الكبر ما ظهرت للعيان أتته،و اشترك جميع الناظرين في رؤيته،و له الكبرياء في السماوات و الأرض،فمن حيث ظهر موجود السماء و الأرض كان له فيه تعالى الكبرياء،و من حيث بطن موجود الملكوت كان فيه العلوّ،فأظهر شفاعاته للخلائق شفاعته يوم الجمع في استفتاح الحكم و إنقاذ الخلائق من أسرار الوقوف و خطر الانتظار؛ ليفصل سبيل الخلق إلى سبيل المعاد بإنقاذ الجزاء و بما يتبع كبراها الظاهرة من شفاعات الشفعاء دونها يتّضح وجه الكبر في الشفاعة الجامعة.

ورد أن موطنا من مواطن يوم الجمع يظهر الحق تعالى لمحة من سطوته فيراع لها قلوب الأولين و الآخرين إلا من شاء اللّه،فيقول آدم عليه السّلام:«لا أسألك اليوم شيث ابني،لا أسألك إلا نفسي (2)».

و يقول نوح عليه السّلام:«لا أسألك اليوم سام ابني،لا أسألك إلا نفسي (3)».

ص: 213


1- رواه مسلم(189/1).
2- حديث كشفي صحيح.
3- كسابقه.

و يقول إبراهيم عليه السّلام:«لا أسألك اليوم إسماعيل ابني،لا أسألك إلا نفسي (1)».

و يقول موسى:«لا أسألك اليوم هارون أخي،لا أسألك إلا نفسي (2)».

و يقول عيسى عليه السّلام:«لا أسألك اليوم مريم أمّي،لا أسألك إلا نفسي (3)».

و يقول محمد صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا أسألك اليوم نفسي و لا فاطمة ابنتي و لا عليّا أخي و لا الحسن و الحسين ابنيّ،لا أسألك اليوم إلا أمّتي (4)».

و يستمر هذا الموقف حتى تفكّه شفاعته الكبرى البادئة الظهور لمجمع العالمين من أهل السماوات و أهل الأرض.قاله الحرالي.

النور الحادي و العشرون

و هو نور الخطابة:

فكونه كيف له أنه الذي أوتي جوامع الكلم.

قال الشيخ الكتاني:و في«الفتوحات»أيضا في الباب الرابع و الثمانين و ثلاثمائة بعد ما ذكر فيه أن الحق تعالى لا يكلم عباده و لا يخاطبهم إلا من وراء حجاب صورة يتجلى لهم فيها تكون له تلك الصورة حجابا عنه و دليلا عليه ما نصه:

و تسمّى هذه الحضرة التي منها يكون الخطاب الإلهي لمن شاء من عباده حضرة اللسن و منها كلم اللّه موسى عليه السّلام أ لا تراه تجلى له في صورة حاجته.

و منها أعطي صلّى اللّه عليه و سلّم جوامع الكلم،فجمع له في هذه الحضرة صور العالم كلها فكان علم أسماء هذه الصور علم آدم عليه السّلام و أعيانها لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم مع أسمائها التي أعطيت آدم عليه السّلام فإن

ص: 214


1- كسابقه.
2- كسابقه.
3- كسابقه.
4- كسابقه.

آدم من الأولين الذين أعطى اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم علمهم حين قال عن نفسه أنه أعطاه اللّه علم الأولين و الآخرين.

و منها أتى اللّه داود الحكمة و فصل الخطاب،و جميع الصحف و الكتب المنزلة من هذه الحضرة صدرت.

و منها أملى الحق على القلم الأعلى ما سطره في اللوح المحفوظ،و كلام العالم كله غيبه و شهادته من هذه الحضرة،و الكل كلام اللّه،فإنها الحضرة الأولى انتهى منه بلفظه أيضا.

و فيها أيضا في الباب الرابع و التسعين و ثلاثمائة ما نصه:

و الممكن الكامل المخلوق على الصورة الإلهية المخصوص بالصورة الإمامية لا بدّ و أن يكون جامعا لجميع الخير كله،و لهذا استحقّ الإمامة و النيابة العامة في العالم،و لهذا قال في آدم عليه السّلام: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة:31]،و ما ثم إلا اسم و مسمّى و قد حصل علم الأسماء محمد صلّى اللّه عليه و سلّم حين قال:«علمت علم الأولين و الآخرين»،فعلمنا أنه قد حصل عنده علم الأسماء فإنه من العلم الأول لأن آدم له الأولية فهو من الأولين في الوجود الحسي.

و قال عن نفسه فيما خص به على غيره أنه أوتي جوامع الكلم.

و الكلم:جمع كلمة و الكلم أعيان المسميات،قال تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء:171]،و ليست غير عيسى فأعيان الموجودات كلها أعيان كلمات الحق،و هي لا تنفد،فقد حصل له الأسماء و المسميات،فقد جمع الخير كله فاستحق السيادة على جميع الناس،و هو قوله:«أنا سيد الناس يوم القيامة (1)».

و هناك تظهر سيادته لكون الآخرة محل تجلى الحق العام،فلا يتمكن لتجليه دعوى من أحد فيما ينبغي أن يكون للّه أو يكون من اللّه لمن شاء من عباده انتهى منه بلفظه أيضا.

و قد فسّر الكلم بأعيان المسميات:أي مسميات أسماء آدم التي هي أعني المسميات الموجودات.).

ص: 215


1- رواه البخاري(3162)،و مسلم(194)،و الترمذي(2434).

و فسّر الشيخ عبد الرحمن الجامي في«شرحه لفصوص الحكم»جوامع الكلم بأمهات الحقائق الإلهية،و الكونية الجامعة بجزئياتها،قال كما هي يعني الحقائق مسميات آدم،و عليه فمسميات أسماء آدم هي الحقائق الإلهية،و الحقائق الكونية الظاهرة في التعين الثاني،و المرتبة الثانية التي هي أعني الحقائق المذكورة ظلال و صور للشئون الذاتية التي هي اعتبارات الوحدة المندرجة فيها في التعين الأول و المرتبة الأولى،و أسماء آدم هي أسماء تلك الحقائق، و هي من الباري تعالى أسماء الصفات التي لها تعلق و ارتباط بالكون،و من المكونات أسماء كل مخلوق من العرش إلى ما تحت الأرض،و ليس المراد بها خصوص الأسماء النازلة و هي التي تشعر بالمسمى في الجملة كما عليه المفسرون؛لأنه لا يظهر بذلك كبير خصوصية لآدم عليه السّلام،و إنما المراد بها الأسماء العالية كما ذكره الشيخ الأكبر و نقله«في الإبريز»،و في «جواهر المعاني»،كل منها عن شيخه،و هي التي تشعر بأصل المسمى،و من أي شيء هو،و بفائدته،و لأي شيء يصلح،و بكيفية ترتيبه و وضع شكله،و ما يطرأ عليه من ابتدائه إلى انتهائه؛لأنه ما من مخلوق في الكون إلا و له اسم على قدره في العظم،و به قوامه إذا سمعه العارف يفهم منه المسمي بجميع أحواله،و سائر ما يتعلق به.

فكان سيدنا آدم عليه السّلام يعلم من كل مخلوق من المخلوقات الناطقة و الجامدة بمجرد سماع اسمه العالي،أو خطوره في ذهنه كل ما يتعلق به من هذه الأمور المذكورة،و هي علوم آدم عليه السّلام التي أشار إليها ابن مشيش في قوله:

و تنزلت علوم آدم،و هي أيضا علوم أولاده من الأنبياء و الأولياء الكمّل كما ذكره في«الإبريز»،نقلا عن شيخه،و أراد بالأولياء الكمّل الأفراد الجامعين،و هم الأقطاب الخلفاء،قال:و إنما خص آدم بالذكر؛لأنه أول من علم هذه العلوم،و من علمها من أولاده فإنما علمها بعده انتهى.

و على هذا فالكلية في قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة:31].

هي إحاطته بجميع متعلقات الكون حتى لا يشذ عليه منها شيء و إن شئت قلت:هي إحاطته بجميع الأسماء الكونية،و كذا الإلهية التي بها نظام الكون،و مما يشهد له قوله تعالى:

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ؛لأن المعروض عليهم إنما هو صور الكائنات و مسمياتها

ص: 216

فدلّ على أن المراد بالأسماء الأسماء الكونية و التي يطلبها الكون من أسمائه تعالى.

و في«الفتوحات»في الباب الثامن و الأربعين المراد من قوله كل الأسماء الإلهية التي تطلب الآثار في العالم و ما يمتد به من أسماء التنزيه و التقديس انتهى.

و قال قبله بقليل:خص آدم بعلم الأسماء كلها التي لها توجه إلى العالم،و لم يكن ذلك العلم أعطاه اللّه للملائكة،و هم العالم الأعلى الأشرف.

قال اللّه تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ،و لم يقل بعضها،و قال:(عرضهم)و لم يقل:(عرضها)،فدلّ على أنه عرض المسميات لا الأسماء انتهى.

قال في الباب التاسع عشر و ثلاثمائة ما نصه:

و لما أوجد اللّه العالم أوجده إنسانا كبيرا،و جعل آدم و بنيه مختصر هذا العالم،و لهذا أعطاه الأسماء كلها:أي كل الأسماء المتوجهة على إيجاد العالم،و هي الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بذاته إذ كان وجوده عنها انتهى.

و قال في«جواهر المعاني»و كذا في«الجامع»نقلا عن شيخهما أبي العباس التيجاني و أما الأسماء الخارجة عن الكون فلا تمكن الإحاطة بها،و لا نهاية لها.

قال سبحانه و تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110].

قال:فإن العارفين و الأقطاب و النبيين و المرسلين من فتحهم في المعرفة ينكشف لهم في كل مقدار طرفة عين من أسماء اللّه الباطنة أمر لا حد له ثم يبقون على هذا الحال أبدا سرمدا في طول عمر الدنيا و في طول عمر البرزخ و في طول عمر يوم القيامة و في طول عمر الأبد في الجنة بلا نهاية في كل مقدار طرفة عين ينكشف لهم من أسماء اللّه الباطنة ما لا حد له و لا غاية له في طول هذه المدة،و لا نهاية لانكشاف الأسماء على طول أبد الأبد، فكيف يقال:أحاط بها كلها،و إنما الكلية في الأسماء التي يطلبها الكون فقط انتهى منه بلفظه.

و قد ذكره صاحب«الجواهر»في الفصل الأول من الباب الخامس.

ص: 217

و نحوه قوله في«الإبريز»نقلا عن شيخه بعد تخصيصه لأسماء آدم بالتي يطيقها آدم و يحتاج إليها البشر أو لهم بها تعلق ما نصه:

و إنما خصصناها بما يحتاج إليه و ذريته و بما يطيقونه لئلا يلزم من عدم التخصيص الإحاطة بمعلومات اللّه تعالى انتهى.

فإن قلت:يلزم مما ذكرته علم آدم عليه السّلام بالأسماء و المسميات معا،كما وقع ذلك لنبينا صلّى اللّه عليه و سلّم،فما وجه الخصوصية لنبينا؟

قلت:آدم عليه السّلام أوتي الأسماء التي هى كالقشر،و الغلاف الصائن للشيء بطريق الأصالة،فكان مظهرها،و حطت له المسميات بطريق التبع،و نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم أوتي المسميات التي هي اللب و المقصود بطريق الأصالة،و الأسماء تابعة لها،و كان مظهرا للكل،و أيضا فالرسوخ التام و التنزل الحقيقي إنما هو له صلّى اللّه عليه و سلّم،و فيه دون غيره،فإنه لم يحصل له من الرسوخ و التمكن فيها مثل،و لا مقارب ما حصل له صلّى اللّه عليه و سلّم،و لذا عجز الخلائق كلهم آدم و غيره فافهم.

و أمهات الحقائق هي أصولها و أئمتها التي ترجع إليها،و الحقائق الإلهية هي مسميات الأسماء الإلهية:أي مفهوماتها بخصوصياتها الامتيازية،و المراد بها هنا خصوص التي يفتقر العالم إليها،و أمهاتها سبعة:الحياة،و العلم،و الإرادة،و القدرة،و الكلام،و الجود، و الأقساط،و الحقائق الكونية هي مسميات أسماء الموجودات كلها،و هي مع ما ذكر الحقائق الإلهية كلمات اللّه التي لا نفاد لها المشار إليها بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف:109].

و قوله: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان:27].

فإن المراد بها هنا على ما ذكره المحققون أمران:

أحدهما:الحقائق الإلهية الأسمائية و الصفاتية و إن كانت الحقائق الإلهية قد تطلق أيضا على ما هو منه صلّى اللّه عليه و سلّم و بسببه من أسرار الحق التي فرقها في خلقه،و هي ثلاثمائة و ستة و ستون

ص: 218

سرّا،ظهرت في الحيوانات و الجمادات و سائر المخلوقات على ما أراده الحق تعالى،و هي ما جعله فيهم من المنافع و العلوم و الأسرار و أوصاف الكمال من الصدق و التحمل و غير ذلك.

ثانيهما:الحقائق المظهرية الكونية،و هي الموجودات كلها محسوسة كانت أو معقولة أو موهومة،أو تقول:روحانية كانت أو مثالية أو جثمانية،سمّيت هذه بكلمات اللّه؛ لصدورها عن اللّه تعالى ب(كن)لكل شيء منها فيكون،و(كن)كلمة اللّه فسمي ما صدر عنها باسمها تسمية للمسبب باسم السبب.

و في«الفتوحات المكية»في الباب الثالث و السبعين و ثلاثمائة ما نصه:

فادم و من دونه إنما هو وارث محمد صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنه كان نبيّا و آدم بين الماء و الطين لم يكن بعد موجودا،فالنبوة لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و لا آدم،و الصورة الطبيعية لآدم و لا صورة لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و على آدم و جميع النبيين فادم أبو الأجسام الإنسانية،و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أبو الورثة من آدم إلى خاتم الأمر من الورثة،فكل شرع ظهر،و كل علم إنما هو ميراث محمدي في كل زمان و رسول و نبي من آدم إلى يوم القيامة،و لهذا أوتي جوامع الكلم.

و منها علم اللّه آدم الأسماء كلها فظهر حكم الكل في الصورة الآدمية و الصورة المحمدية،فهي في آدم أسماء،و في محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كلمات،و كلمات اللّه سبحانه لا تنفد، و موجوداته من حيث جوهرها لا تنفد،و إن ذهبت صورها و تبدلت أحكامها فالعين لا تذهب و لا تتبدل انتهى منه بلفظه.

و فيها أيضا في الفصل الثاني من الباب الثاني ما نصه:

نكتة و إشارة:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أوتيت جوامع الكلم».

و قال تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء:171].

و قال: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ [التحريم:12].

و يقال:قطع الأمير يد السارق،و ضرب الأمير اللص،فمن ألقي عن أمره شيء فهو ألقاه،فكان الملقي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،ألقى عن اللّه كلمات العلم بأسره من غير استثناء شيء منه

ص: 219

البتة،فمنه ما ألقاه بنفسه كأرواح الملائكة و أكثر العالم العلوي،و منه أيضا ما ألقاه عن أمره،فيحدث الشيء عن وسائط كبرة الزراعة ما تصل إلى أن تجري في أعضائك روحا مسبحا و ممجدا إلا بعد أدوار كثيرة،و انتقالات في عالم،و تنقلب في كل عالم من جنسه على شكل أشخاصه،فرجع الكل في ذلك إلى من أوتي جوامع الكلم انتهى المراد منه بلفظه أيضا و راجعه.

و فيها أيضا في الباب السابع و الثلاثين و ثلاثمائة ما نصه:

و أما منزلته صلّى اللّه عليه و سلّم في العلوم خاصة،فأحاطه بعلم كل عالم باللّه من العلماء به تعالى متقدميهم و متأخريهم،ثم ذكر أن من كماله صلّى اللّه عليه و سلّم أنه خصّ بست لم تكن لنبيّ قبله.

ثم قال:و الخصلة الثانية:أوتي صلّى اللّه عليه و سلّم جوامع الكلم،و الكلم:جمع كلمة،و كلمات اللّه لا تنفد،فأعطي علم ما لا يتناهى،فعلم بما لا يتناهى ما حصره الوجود،و علم ما لم يدخل في الوجود،و هو غير متناه،فأحاط علما بحقائق المعلومات،و هي صفة إلهية لم تكن لغيره انتهى المراد منه بلفظه أيضا.

و قال الأمير عبد القادر الجزائري في«مواقفه»في الموقف السادس و الثمانين و مائتين أثناء كلام له ما نصه:

و كما أن الحق تعالى علم كل شيء من علمه بنفسه؛لأن جميع الأشياء كذلك هو صلّى اللّه عليه و سلّم علم جميع الأشياء إجمالا و تفصيلا من علمه بذاته و حقيقته التي هي حقيقة الحقائق، و مصدر كل كائن و مبدأ الكل و خزانة العلوم الإلهية و الكونية منه تخرج و على يديه تقسم فالقلم الأعلى و هو العقل الأول و النفس الكلية و هي اللوح المحفوظ و سائر الأرواح العلوية و السفلية من ذواته تكتب و بعينه تبصر و من مشكاته تنظر فهو بكل شيء عليم بيده مفاتيح الخزائن الإلهية و كل ما ظهر في العالم مطلقا فلا يظهره الاسم الإلهي إلا عن إذن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.

فإن قيل:ما الفرق بين علمه صلّى اللّه عليه و سلّم و بين علم الحق تعالى في مقام الفرق؟

قلنا:هو أنه تعالى علم الأشياء و هي في العدم لا عين لها في الوجود بوجه من الوجوه و هو صلّى اللّه عليه و سلّم إنما علم الأشياء بعد أن صار لها ضرب من الوجود و هو الوجود العلمي فإنه ما

ص: 220

علمها إلا و هي موجودة في علم الحق تعالى.

ثم قال:أما علمه صلّى اللّه عليه و سلّم بربه فإنه علم علم الأولين قبله:أي قبل اتصال روحه بجسمه الشريفين صلّى اللّه عليه و سلّم،و الآخرين بعده من كل ما خلق اللّه تعالى،كما أخبر بذلك عن نفسه في حديث الضربة،و أما علمه صلّى اللّه عليه و سلّم بالعالم،و هو كل ما سوى الحق تعالى،فالعالم على ضربين:

ضرب وجدت أجناسه و أنواعه و بعض أشخاصه و أفراده و لأفراده نهاية،كالنوع الإنساني مثلا،فهذا الضرب يعلمه صلّى اللّه عليه و سلّم تفصيلا؛لأنه صلّى اللّه عليه و سلّم علم جميع الأسماء المتوجهة على إيجاد العالم كلياتها و جزئياتها،و ما من حقيقة كونية إلا و هي مرتبطة بحقيقة جزئية الإلهية،و مستندة إليها،لا بدّ من ذلك،و قد علم صلّى اللّه عليه و سلّم الأسماء فأحرى آثارها،فإن آدم عليه السّلام الذي هو قطرة من بحره،و جزء من كله،علمه اللّه الأسماء كلها،فكيف به صلّى اللّه عليه و سلّم،و الضرب الآخر من العالم،وجدت أجناسه و أنواعه و بعض أشخاصه،و لا نهاية لأفراده و أشخاصه،فهذا الضرب الذي لا تتناهى أفراده أبد الآبدين و دهر الداهرين،يعلمه صلّى اللّه عليه و سلّم غير متناه،فإنه أخبر أنه أوتي جوامع الكلم،و كلمات اللّه لا تنفد،بمعنى مقدوراته و مراداته،فقد أعطي صلّى اللّه عليه و سلّم ما لا يتناهى إجمالا،كما أعطى علم ما يتناهى تفصيلا خصوصية له صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنه ما أعطي مخلوق علم جميع العالم أجناسه و أنواعه و أشخاصه ما يتناهى منه و ما لا يتناهى غيره صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال:فأحاط صلّى اللّه عليه و سلّم علما بحقائق المعلومات المتناهية و غير المتناهية،و علم أجناسها و أنواعها على التفصيل و بعض شخصياتها و جزئياتها كذلك،و علم ما لا يتناهى من الأفراد و الجزئيات على الإجمال،و هذه صفة إلهية لم تكن لغيره صلّى اللّه عليه و سلّم.

النور الثاني و العشرون

و هو النور الذي سميته نور المقايسة:

فهو كشف له أنه إذا جمع في الذهن جميع الأنبياء و الرسل في تقديره لفضلهم و دليله أنه أعلم الخلق باللّه،و الدرجة التي هناك لا تقاس بما بعدها،و إن تعددت فإن المجموع لا يقوم منه ما يساوي،فإن الذوات لا تتحد-فاعلم.

و أيضا إذا قلنا أنه أفضل من إبراهيم فالمرتبة أو الدرجة التي يفضله بها أي شيء يقاس بها لا بدّ لها من تنظير تنظر معها.

ص: 221

ثم سلمنا أنه أرفع الأنبياء منزلة في الجنة،و الكل دونه فلا ينفع ما عظم و اجتمع فإنه مع ما هم فيه ينظر إليهم من تحت.

فاعلم ذلك و لا تقس الأمر فيه بالمحسوس فتقول:هو صاحب ألف درهم في التمثيل و هم من مجموع الكل منهم و إن كان لكل واحد منهم مائة جملة قيل لك:ما الأمر الذي نحن فيه،هذا يشابهه،فإنك هناك تقيس الأمر بقدره و هي درجة عند اللّه.

فاعلم.

*قلت:قال الشيخ الكتاني:و مقام الوسيلة قيل:إنه مقام حسي و أنه علم على أعلى منزلة و درجة في الجنة و هي منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و داره في الجنة و هي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش و قيل:إنه معنوي و هو أنه يكون في الجنة في قربه من اللّه القرب المعنوي بمنزلة الوزير من الملك من غير تشبيه و لا تمثيل يتوسل و يشفع في قضاء الحاجات و رفع الدرجات و نيل المطالب و حصول جميع الرغبات و لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته و على يديه و المعنيان معا صحيحان في حقه صلّى اللّه عليه و سلّم و حينئذ فهما وسيلتان إحداهما حسية و الأخرى معنوية و كل منهما مختص به صلّى اللّه عليه و سلّم.

و في«شفاء السقام»لتقي الدين السبكي في الباب العاشر في الشفاعة أثناء كلام له ما نصه:لكن الشيخ عبد الجليل القصري في كتاب«شعب الإيمان»له ذكر في تفسير الوسيلة التي اختص بها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنها التوسل و أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يكون في الجنة بمنزلة الوزير من الملك من غير تمثيل لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى.

و قال العارف باللّه أبو يزيد الفاسي قدس اللّه سره في حواشيه على«دلائل الخيرات» و هي المسماة:بالأنوار اللامعات في الكلام على دلائل الخيرات ما نصه:الوسيلة قال السيوطي في خصائصه:هي أعلى درجة في الجنة.

و قال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان:الوسيلة التي اختص بها هي التوسل و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يكون في الجنة بمنزلة الوزير للملك بغير تمثيل لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته انتهى.

ص: 222

و نصه في«الشعب»و أما المقام الثالث من شفاعته صلّى اللّه عليه و سلّم فإنها في الجنة و هي دائمة و هي مقام الوسيلة التي لا تنبغي إلا لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم روى أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه كما في الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن و صلوا عليّ فإن من صلى عليّ صلاة صلى اللّه عليه بها عشرا،ثم سلوا اللّه لي الوسيلة؛فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه،و أرجو أن أكون أنا هو،فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة».

و هي مشتقة من التوسل الذي هو الطلب و الدعاء و التشفع فالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الجنة في قربه من اللّه بمنزلة الوزير من الملك في درجة الوسيلة يتوسل و يشفع في قضاء الحاجات و رفع الدرجات،و يستأذن في الزيارة العلية،و النظر إلى الوجه الكريم،و فتح أبواب حضائر القدس و غير ذلك،و هو أول من يتقدم للزيارة،و أول من ينظر إلى اللّه تعالى،و أول في كل شيء،فيتوسل لنفسه و لغيره،فلا يرد على الخلق في الجنان خير إلا على يديه صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنه أول من يرتقي في الدرجات،فيرتقي بارتقائه،و يزيد بزيادته كل من في الجنة،فافهم فهمنا اللّه و إياك،انتهى منه بلفظه.

قلت-الكتاني في الجلاء-:و حديث:«إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن» أورده هكذا في الجامع الصغير من غير زيادة و عزاه لأحمد و مالك و الستة من حديث أبي سعيد،ثم أورده بلفظ:«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول،ثم صلّوا عليّ...الحديث» كما تقدم و عزاه لأحمد و مسلم و الثلاثة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

و حينئذ فهما حديثان دخل له أحدهما في الآخر،و اللّه أعلم.

و من كتاب«نقد النصوص»للعارف باللّه المنلي الجامي قدس سره ما نصه:

و في كتاب«الفكوك»يعني للشيخ الكبير صدر الدين أبي المعالي محمد بن إسحاق القونوي:الإنسان الكامل الحقيقي هو البرزخ بين الوجوب و الإمكان،و المرآة الجامعة بين صفات القدم و إحكامه،و بين صفات الحدثان،و هو الواسطة بين الحق و الخلق،و به و من مرتبته يصل فيض الحق و المدد الذي هو سبب بقاء ما سوى الحق إلى العالم كله،علوّا و سفلا،و لولاه من حيث برزخيته التي لا تغاير الطرفين لم يقبل شيء من العالم المدد الإلهي

ص: 223

الوجداني؛لعدم المناسبة و الارتباط،و لم يصل إليه،فكان يفنى و أنه عمد السماوات و الأرض،و لهذا السر برحلته من مركز الأرض التي هي صورة حضرة الجمع و أحديته، و منزلة الخلافة الإلهية إلى الكرسي الكريم،و العرش المجيد،المحيطين بالسماوات و الأرض، ينخرم نظامها،فبدل الأرض غير الأرض و السماوات.

إلى أن قال:فإذا انتقل انشقت السماء،و كوّرت الشمس،و انكدرت النجوم و انتثرت،و سيّرت الجبال،و زلزلت الأرض،و جاءت القيامة،و لو لا ثبوته من حيث مظهريته في الجنة التي محلها الكرسي و العرش المجيد لكان الحال فيهما كالحال في الأرض و السماوات،و إنما قيدت ثبوته بقولي:(من حيث مظهريته)من أجل ما أطلعنا اللّه عليه من أن الجنة لا تسع إنسانا كاملا،و إنما يكون منه في الجنة ما يناسب الجنة،و في كل عالم ما يناسب ذلك العالم،و ما يستدعيه ذلك العالم من الحق من حيث ما في ذلك العالم من الإنسان.

بل أقول:و لو خلت جهنم منه لم تبق و به امتلأت،و إليه الإشارة بقدم الجبار المذكور في الحديث انتهى المراد منه بلفظه راجعه في الكلام على الفص الآدمي.

و في عبارة لبعضهم قال:لو لا ثبوت الإنسان الكامل في الجنة و عدم زواله منها لكان الحال فيها كالحال في الأرض و السماوات من زوالهما عند زواله منهما و كذا لو خلت منه جهنم لزالت،بل إذا زال عن دار أي دار كانت فإنها تزول بزواله،و إذا ثبت فيها فإنها تثبت بثبوته،و كذا جميع الأمكنة،و منه تعلم أن العوالم كلها لا تخلو منه؛لأنها لو خلت منه لتلاشت و اضمحلت؛لكونها ليس لها قيام و لا قوام إلا به،و لجمعيته للأسماء الإلهية و الإمكانية،و مظهريته للطرفين،و كونه برزخا جامعا بين قوسي الوجوب و الإمكان،لم تسعه الجنة و لا عالم من العوالم،و إنما يكون منه في الجنة ما يناسب الجنة،و في كل عالم ما يناسب ذلك العالم،و في جهنم ما يناسب جهنم؛إذ لو خلت جهنم منه لم تبق و به امتلأت،أعني بما يناسبها منه،و إليه الإشارة بقدم الجبار المذكور في الحديث الشريف فلتفهم و اللّه أعلم انتهى.

و قال الشيخ شرف الدين القيصري في«شرح الفصوص»لدى ما ذكره الشيخ من أن

ص: 224

الأمر إذا انتقل إلى الآخرة يكون الإنسان الكامل ختما على خزانتها ختما أبديّا ما نصه:

و كون الكامل ختما على خزانة الآخرة دليل على أن التجليات الإلهية لأهل الآخرة إنما هي بواسطة الكامل،كما في الدنيا،و المعاني المفصلة لأهلها مفرغة من مرتبته،و مقام جمعه أبدا،كما تفرع منه أزلا،و ما للكامل من الكمالات في الآخرة،لا يقاس على ما له من الكمالات في الدنيا؛إذ لا قياس لنعم الآخرة على نعم الدنيا،و اللّه أعلم.

النور الثالث و العشرون

و هو نور التفضيل:

فهو يكشف له صلّى اللّه عليه و سلّم على قدره بالنظر إلى الرسل عليهم السلام و مقر له بأنه سيد ولد آدم عليه السلام.

و قول اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فنحن في الأمم مثله هو في الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قلت:و الجملة فيه أن أفضل الخلائق سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و بعده أفضل الخلائق غيره من الأنبياء و المرسلين،و بعد الأنبياء و المرسلين صلوات اللّه تعالى عليهم أجمعين أفضل بني آدم أمة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.

و أدلة تفضيله صلّى اللّه عليه و سلّم على غيره من جميع الخلق،و الكلام على ذلك طويل منتشر جدّا، و قد قال الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن يوسف السنوسي:

ثبوت شرفه صلّى اللّه عليه و سلّم و أفضليته على جميع المخلوقات يكاد أن يكون معلوما من الدين بالضرورة بحيث لا يحتاج إلى سرد دليل.

و قال المحققون:هو أفضل من كل واحد من الأنبياء و الملائكة و جميع الخلق على حدته، و أفضل من مجموعهم،و أفضل من جميعهم،و الموجودات و إن تفاوتت في الدرجات فهو في الدرجة التي لا درجة فوقها،و الآيات و الأخبار و أقاويل العلماء و الآثار الدالة على ذلك كثيرة.

ص: 225

و للّه در البوصيرى إذ يقول:

فمبلغ العلم فيه أنه بشر و أنه خير خلق اللّه كلهم

النور الرابع و العشرون

و هو نور الإحاطة:

فهو يكشف له أنه عين المعنى المجموع الذي إليه تصل العناية العلمية و العملية،و مع كل محمود محترم يشار إليه،فهو الذي أحاط بها،و جميع ما تفرق في الأنبياء اجتمع به و له و لأمته و في ملته صلّى اللّه عليه و سلّم.

قلت:قال سيدنا الكتاني:اعلم هداك اللّه،و لكل رشد و فلاح أهلّك و أرشدك أنه لا خلاف بين أهل العلم كلهم في أنه عليه السّلام كان معلما من قبل اللّه تعالى بالمغيبات الكثيرة، التي لا تنحصر كثرة و عددا،و لا ينقضي ظهورها مدى الدهور أبدا،و في أنه أوتي من علوم الكوائن الماضية و الحاضرة و المستقبلة ما تعجز عنه عقول البشر،و لم يؤته نبي و لا رسول قبله،و وقع نزاع عظيم و خبط شديد و هيم بين المتأخرين من المشارقة و المغاربة في أن علمه عليه السّلام كان محيطا بالأشياء كلها حتى الخمس و الروح،و ما هو في معناهما،أو غير محيط بها،و الإحاطة بالأشياء جميعها إنما هي للّه تعالى وحده،أو محيطا بها و لكن لا كإحاطة علم اللّه،بل إحاطة ما لا تخلو عن شيء مخصوص منها،استأثر اللّه به،أو متوقف فيه فلا يقال فيه:إنه محيط و لا غير محيط؛لتعارض الأدلة،و عدم وجود قاطع،أقوال أربعة:

القول الأول:في بيان إحاطة الذات المحمدية بالعلوم الجديدة الكونية،فممن أفتى بالأول-و هو القول بالإحاطة-من المغاربة قاضي سجلماسة و أعلمها في وقته الفقيه العلاّمة المشارك المحقق أبو مروان عبد الملك بن محمد السجلماسي التاجموعتي المتوفى في صفر سنة ثمان عشرة و مائة و ألف،لما سأله عن هذه المسألة جدنا للأم المحب في الجانب النبوي المداح له العلامة المؤلف الناظم الناثر الصوفي الولي الصالح أبو العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي الشافعي نزيل فاس و دفينها.

ص: 226

و قال في جوابه له:إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يفارق الدنيا حتى علم كل شيء.

و لما بلغ جوابه هذا لعلماء فاس و ما هو في حكمها أنكروه،و بالغوا في التشنيع عليه حتى إن بعضهم نسب معتقده هذا إلى الكفر،فلما بلغه هذا الإنكار رد عليهم أبلغ رد في جواب له كتبه في هذه المسألة،و قال فيه:و إني لأفضي العجب من المنكرين لذلك مع ورود الأحاديث الصحيحة به.

ففي«كبير»الطبراني عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس (1)».و عن عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه مثله.

و قد تقرّر أن الاستثناء معيار العموم،و عليه فعلمه صلّى اللّه عليه و سلّم محيط بكل شيء سوى الخمس، و الخمس قد علمها صلّى اللّه عليه و سلّم بعد على ما عليه المحققون؛إذ هو صلّى اللّه عليه و سلّم من لدن بعثه اللّه إلى أن قبضه في الترقيات و التجليات فبحسبها ورد:«ما المسئول عنها بأعلم من السائل».

«لا تفضلوا بين الأنبياء».

ثم ورد بعد أنه علم الخمس،و أنه سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر،و ما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائه.

و قال الحافظ السيوطى:أوتي صلّى اللّه عليه و سلّم علم كل شيء إلا الخمس.

و قيل:إنه أوتيها أيضا و أمر بكتمها،و الخلاف جار في الروح.

و إذا تقرر هذا علم أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أحاط بكل شيء علما فضلا من اللّه تعالى فما يقال لفضل اللّه ذا فكم؟و قال البوصيري:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم و احكم بما شئت مدحا فيه و احتكم (2)ى.

ص: 227


1- رواه الطبراني(360/12)(13344)،و قال الهيثمي في مجمع الزوائد(263/8):رجاله رجال الصحيح.
2- البيت للبوصيري في البردة(ص 112)طبع دار المصطفى.

و في«الصحيح»:أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«سلوني عما شئتم (1)».

و لا شك أنه كالنص في التحدي بهذه الخصوصية،فتلحق بالمعجزات،و ما في الكتاب العزيز من الآي الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا اللّه محمول على العلم بغير واسطة.

و أما الاطلاع على ذلك بإعلام اللّه فأمر متحقق؛لقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]

و في«الطبراني»عن ابن عمر مرفوعا:«إن اللّه قد رفع لي الدنيا،فأنا أنظر إليها و إلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة،كأنما أنظر إلى كفي هذه (2)».

و القول الفصل:إنه صلّى اللّه عليه و سلّم أوتي علم كل شيء قبل أن يفارق الدنيا،و قد اتضح أن المنكر إما جاهل فيعلم،أو ملحد فيؤثم،ثم ليت شعري ما وجه الإنكار؟فإن مسألة لم تخرج عن دائرة الإمكان،و كل ما كان سبيله ذلك،و أخبر الصادق المصدوق بوقوعه وجب المصير إليه اعتقادا و اعتمادا،و اللّه يقول الحق و هو يهدي السبيل،و حسبنا اللّه و نعم الوكيل، انتهى باختصار.

و قد كتب بعده موافقا عليه الفقيه الأوحد سيدي مسعود جموع مستدلا على الموافقة بحديث أحمد و الترمذي عن معاذ في وضع الرب تعالى كفه بين كتفيه في المنام فتجلى له بها كل شيء،ثم إن التاجموعتي ألّف في المسألة رسالة سماها:«ملاك الطلب و جواب أستاذ حلب»،و في«نشر المثاني في أهل القرن الحادي و الثاني»في ترجمته كلاما آخر له في هذه المسألة في بعض رسائله،يصحح فيه القول بما رآه فيها و يرد القول بخلافه،راجعه.

و ممن أفتى به من المشارقة الفقيه الأريب المشارك الأديب:أبو عبد اللّه محمد بن أحمد المنوفي المصري الشافعي نزيل مكة المشرفة،المتوفى سنة أربع و أربعين و ألف،ذكر ذلك المحبي في«خلاصة الأثر في أعيان أهل القرن الحادي عشر»في ترجمته،و نصه:).

ص: 228


1- رواه البخاري(47/1)،و مسلم(1834/4).
2- رواه نعيم بن حماد في الفتن(27/1)،(2).

و مما اتفق له أنه سئل:هل كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم السحر و يعرفه على التعميم؟

فأجاب عنه:إنه كان يعلم كل شيء منه و من غيره من غير شكّ انتهى.

و انظر هل أرادوا بهذه الإحاطة،و هذا العلم علوم الكائنات خاصة كما هو الظاهر المتبادر،أو ما يشمل علوم الذات العلية،كما فهمه من رد كلامهم و اعتمد ملامهم،فإن كان الأول فلا ملام على ما نفصله،و إن كان الثاني فهو بعيد من المقام،و اللّه أعلم.

القول الثاني في بيان إحاطة الذات المحمدية بالعلوم الجديدة الكونية:

و ممن أفتى بالثاني،و هو القول بعدم الإحاطة،من المغاربة العلامة الأشهر و المحرر الأكبر أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي،و الكثير من علماء المغرب،و خصوصا أهل فاس، و قالوا:إن الإحاطة بالأشياء كلها إنما هي للّه،و القائل بالإحاطة لغيره إن كان يعتقد و يرى مساواة علم غيره تعالى لعلمه فهو كافر،و بعض المعاصرين للتاجموعتي من علماء فاس ألف في رد كلامه مؤلفا سماه:«المنهج القويم في قصر الإحاطة على العلم القديم».

و استدل بآيات و أحاديث و نصوص،كقول الشيخ علي الأجهوري في شرحه لمختصر خليل في باب مصرف الزكاة:إن القائل بأن الأنبياء يعلمون ما كان و ما يكون مبتدع يكفر ببدعته اتفاقا انتهى.

قلت:و عبارة الشيخ إبراهيم بن مرعي الشبرخيتي في شرحه:و لا يعطي منها-يعني الزكاة-إجماعا من يكفر ببدعته اتفاقا،كالقائل بنبوة علي رضي اللّه عنه و أن جبريل غلط،و القائل بأن في الأمة رسولين:ناطق،و صامت،فالناطق:محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و الصامت:علي،و القائل بأن الأنبياء و الأئمة يعلمون ما كان و ما يكون و شبههم،انتهى منه بلفظه.

و مثله للشيخ عبد الباقي الزرقاني،و أشار محشيه البناني إلى أنه وقع في كلامهم خلل و تحريف،فكتب على كلام الزرقاني ما نصه:

عبارة ابن رشد في رسم العتق من سماع عيسى:و من يقول أن الأئمة أنبياء يعلمون ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة انتهى.

أي فهذا هو الذي يكفر ببدعته،كما في النص دون ما ذكره هؤلاء،و كيف يقال

ص: 229

بتكفير من يقول أن الأنبياء و الأولياء يعلمون ما كان أو يكون من قبل اللّه تعالى،و هؤلاء جماعة من الصحابة يقولون:إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أعلمهم بما كان و يكون إلى يوم القيامة.

و هذا علي رضي اللّه عنه يقول كما تقدم:سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدّثتكم به،و هو واضع علم الجفر المحتوي على علم ما كان و يكون.

و هذا ابنه الحسن يقول فيه حين قتل:لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه الأولون بعلم و لا أدركه الآخرون.أخرجه أحمد (1).

و هؤلاء جماعة من الأولياء الكبار أخبروا عن أنفسهم بأنهم يعلمون ما كان و يكون بإعلام اللّه،أ فيقدر أحد على أن يسمهم بشيء فضلا عن أن يكفرهم،إلا إن كان و العياذ باللّه تعالى ممكورا به ممن سبقت له من اللّه الشقاوة الكبرى و الخزي الدائم،فالاستدلال بكلام علي الأجهوري هذا و بكلام أتباعه فيه ساقط.

ورد كلامه أيضا-أعني كلام التاجموعتي-الشيخ أبو علي اليوسي المذكور و كان معاصرا له-برسالة لطيفة،قال فيها:

ينبغي أن نعتقد تعظيم نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم و نعتقد أنه أعطي العلم و النور و سائر مراتب الكمالات اللائقة به ما لم يعط أحد من العالمين؛لأنه خير الخلق أجمعين.

ثم نكتفي بهذا و ما أشبهه،و لا نطالب بالبحث من إحصاء ما علم،فإنه أمر لا تبلغه عقولنا،و ليس مطلوبا منا،فالاشتغال به فضول من ثلاثة أوجه،ثم بيّنها،و محصلها أن هذا أمر غير مطلوب منا،و إنا لا نبلغ إلى إحصائه و لو اجتهدنا،و أن الباحث فيه إما أن يقع في استنزال صفوة اللّه من خلقه عن مرتبته الرفيعة،أو في سوء الأدب مع اللّه تعالى في تشبيه خلقه به،ثم ذكر أن القائل بالتعميم في حقه عليه السّلام إن أراد الحقيقي بحيث يكون علمه على حد علم اللّه تعالى،فلا فرق بينهما،فقد وقع في الورطة العظمى و الشرك مع اللّه مخسرة،و ما يوجد من حديث أو أثر من علمه عليه السّلام كل شيء على الإجمال لا يفيد شيئا؛ لأن العمومات تقع حقيقية و إضافية بحسب صنف الوقوع.).

ص: 230


1- رواه أحمد في المسند(199/1).

و قد قال اللّه في حق سيدنا موسى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145].

ثم قال له مع ذلك:عبد لنا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

و لما لقي الخضر قال له:يا موسى إني على علم من علم اللّه لا تعلمه أنت.و قال له:

ما نقص علمي و علمك من علم اللّه إلا ما نقص هذا العصفور من البحر.

و قال تعالى في القرآن: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].

و قال:تبيانا ما لكل شيء.

ثم قال له: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

و إن أراد الإطلاق فعليه بيانه ليستفاد الحكم على الكلية بحسبه،و إلا فهو كلام محمول لا تحصل منه فائدة.

ثم ذكر إن شئنا عبرنا في حقه عليه السّلام بالكلية،و لكن مع إرادة التقييد بجنس أو نوع أو صنف كأن نقول:يعلم جميع ما ينبغي لمثله أو كل ما تبلغه عقول البشر،أو كل ما لم يستأثر اللّه بعلمه أو نحو هذا مما نجزم بصحته و نعتقد أن كل علم قرأته نقص غير لائق به في حاله فهو حاصل له؛لأنه في عين الكمال إلى غير هذا من كلامه،فليراجع في رسالته المذكورة،و هي في نحو من ثلاثة أوراق،و له في هذه المسألة رسالة أخرى كبيرة لم أقف الآن عليها.

و قد أشار إليها في«نشر المثاني»في ترجمته فقال:و له كلام في كراريس مع قاضي سجلماسة الشيخ أبي محمد عبد المالك التاجموعتي في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«أوتيت علم كل شيء» انتهى.

و ممن أفتي به من المشارقة الشيخ نجم الدين محمد بن محمد بن محمد الغزي الدمشقي الشافعي محدث الشام و مسندها و شيخ الإسلام بها،و الأستاذ الكبير العالم الصوفي الشهير صاحب التحريرات و الرسائل التي لا حصر لها الشيخ أيوب بن أحمد بن أيوب الحنفي الخلوتي الصالحي المتوفى في صفر الخير سنة إحدى و سبعين و ألف،و ذلك أن المنوفي السابق

ص: 231

لما قال مقالته السابقة،و هي أنه عليه السّلام كان يعلم كل شيء من السحر و غيره من غير شكّ.

نقل جوابه هذا إلى الشيخ نجم الدين الغزي السابق فغضب غاية الغضب و قال:إنه افتراها.

قال في«خلاصة الأثر»:و أخذ النجم يقيم عليه الحدود في درسه كل ليلة و يقول:

إنه إن أصر على ذلك كفر،و نطلب من أقرانه عمل رسالة على وفق مراده فامتنعوا من ذلك و قالوا:إنه أخطأ حيث قالها للعوام.

و منهم من أحجم و لم يتكلم،و قال:قد وقع فيها خلاف و ما رجحوا منها قولا ينقل، و طال التنقيب على هذه المسألة.

قال في«الخلاصة»:حتى ألف الشيخ أيوب الخلوتي المقدم ذكره في ذلك رسالة سماها «الصك الموفي على رقبة المنوفي»،و هي رسالة جامعة لكل منثور و منظوم،فكف بعد المنوفي عن الدرس انتهى.راجعها في ترجمة المنوفي المذكور.

قلت:و لا أدري إنكارهم عليه هل هو من جهة نسبته إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم العلم بعلم السحر، أو من جهة ما تضمنه كلامه من أنه كان يعلم كل شيء،أو من جهتهما معا،فإن كان الأول فإنما يتوجه إنكارهم لو أراد أنه كان يعلمه بالتعلم من السحرة و نحوهم؛إذ هذه رذيلة لا تليق باحاد المسلمين فضلا عن جنابه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ليس في كلامه ما يفيد هذا أو يشعر به،أما لو كان أراد أن اللّه تعالى أعلمه به و بكيفيته من جملة العلوم التي أعلمه إياها و أمده بها معجزة له-كما هو المتبادر من المقام-فلا إنكار.

و قد ذكر في«الفتوحات»في الباب الثالث و السبعين و مائتين أنه اطلع في جملة ما أطلعه اللّه عليه في بعض الحضرات على خزائن العلوم المهلكة،و رأى فيها علوما ما انشغل بها أحد إلا هلك من علوم العقل المخصوصة بأرباب الأفكار من الحكماء و المتكلمين، و رأى منها ما يؤدي صاحبه إلى الهلاك الدائم،و ما يؤدي صاحبه إلى هلاك ثم ينجو غير أنه ليس لنور الشرع فيه أثر البتة من علوم البراهمة كثيرا،و من علوم السحر و غير ذلك، قال:فحصلت جميع ما فيها من العلوم لتجنبها،و هي أسرار لا يمكن إظهارها،و تسمى علوم السر.انتهى راجعه.

و إن كان الثاني،فلا إنكار أيضا إلا إن كان يريد العموم الحقيقي اللازم منه مساواة

ص: 232

علمه صلّى اللّه عليه و سلّم لعلم اللّه تعالى،و ليس في كلامه ما يعين هذه الإرادة.

و إن كان الثالث فجوابه يعلم من جواب هذين فليتأمل،و اللّه أعلم.

و مما يؤيد فتواهم-أعني فتوى أصحاب هذا القول الثاني-كلام عياض في«الشفاء» في القسم الثالث في الباب الأول منه في فصل حكم عقود الأنبياء في غير التوحيد و الإيمان، و نصه:

و أما ما تعلق بعقده يعني بجرم قلبه من ملكوت السموات و الأرض و خلق اللّه تعالى و تعيين أسمائه الحسنى و آياته الكبرى،و أمور الآخرة،و أشراط الساعة،و أحوال السعداء و الأشقياء،و علم ما كان و ما يكون مما لم يعلمه إلا بوحي،فعلى ما تقدم من أنه معصوم فيه لا يأخذه فيما أعلم به منه شك و لا ريب،بل هو فيه على غاية اليقين،لكنه لا يشترط له العلم بجميع تفاصيل ذلك،و إن كان عنده من علم ذلك ما ليس عند جميع البشر؛لقوله عليه السّلام:«إني لا أعلم إلا ما علمني ربى (1)».

و لقوله حكاية عن ربه:«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر،بل ما اطلعتم عليه و اقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] (2)».

و قول موسى للخضر عليهما السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

و قوله عليه السّلام:«أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها و ما لم أعلم (3)».

و قوله:«أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك».

و قد قال تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].).

ص: 233


1- رواه أبو الشيخ في العظمة(1468/4).
2- رواه البخاري(3072)،و مسلم(2824).
3- رواه أحمد في المسند(391/1).

قال زيد بن أسلم و غيره:حتى ينتهي العلم إلى اللّه تعالى.

و هذا مما لا خفاء به؛إذ معلوماته لا يحاط بها و لا منتهى لها،انتهى منه بلفظه.

و قد ترى أنه يلزم مما قاله التاجموعتي و من وافقه إن قلنا:إنهم أرادوا بالإحاطة الإحاطة الكاملة-و هي الحقيقية-مساواة العلم الحادث للعلم القدين في العموم،و الإحاطة و المساواة فيهما تستلزم المماثلة في الحقيقة و الذات،و هي مستلزمة لحدوث العلم القديم، بل و لسائر لوازم العلم الحادث من العرضية و الافتقار و غيرهما،و اعتقاد ذلك و القول به كفر،و ممن أشار إلى هذا الشيخ الأستاذ شهاب الدين أحمد الملوي المصري في شرحه الكبير لسلم الإمام الأخضري في علم المنطق (1)لدى قوله:

صلّى عليه اللّه ما دام الحجا يخوض في بحر المعاني لججا

نصه فيه:قال المصنف يعني الأخضري و في هذا:أي في قوله:(يخوض في بحر المعاني لججا)شبه على أنه لا يحتوي على جميع المعاني إلا اللّه تعالى،كما قال: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما [البقرة:255].

و قال تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].

و قال تعالى: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

قلت-أي:قال العلامة الملوي-و هو صريح في الرد على من ادعى أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علمه مساو لعلم اللّه تعالى،محيط بكل شيء من كل وجه إحاطة كإحاطة علم اللّه تعالى فإنه ما توفي حتى أعلمه اللّه بكل شيء.

و قد ألّف شيخ شيوخنا العلاّمة اليوسي تأليفا في الردّ على من زعم ذلك و تكفيره، و استدلّ على ذلك بأدلة عقلية و نقلية،كيف و هو مصادم أيضا؛لقوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ [الأنعام:59].

و قوله تعالى: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].).

ص: 234


1- انظر فيه:(ص 86).

و قوله تعالى: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]الآية.

و قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ [لقمان:34]الآية.

و على القول بأن اللّه تعالى أعلمه صلّى اللّه عليه و سلّم مفاتيح الغيب فليس علم إحاطة كعلمه تعالى، و هو مصادم أيضا للإجماع على أن سر القدر لم يعلمه و لا يعلمه نبي مرسل و لا ملك و لا غيرهما من هو من مواقف العقول،و يلزم أن يكون علمه صلّى اللّه عليه و سلّم مساويا لعلم اللّه تعالى، و مماثلا له في الإحاطة و الحقيقة،فلزم حدوث علمه تعالى للمماثلة؛لأنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر،بل و يلزم سائر لوازم العلم الحادث من العرضية و الافتقار و غيرهما،و لا يجاب بالاختلاف بالقدم و الحدوث؛لأن القدم و الحدوث خارجان عن حقيقة العلم، و الحقيقة لا تختلف بالعوارض،و أما الأحاديث الموهمة خلاف تلك القواطع فمؤولة،أما عدم ادعاء المساواة لعلم اللّه كأن يقال:إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علم علم الأولين و الآخرين فلا يمتنع؛ لأن ذلك ليس مستلزما لمساواته لعلم اللّه تعالى و الإحاطة من كل وجه.

و من أقوى ما يرد به على هذا القائل أيضا ما ورد في الحديث من أنه صلّى اللّه عليه و سلّم يلهم في الآخرة محامد يحمد بها اللّه عزّ و جلّ لم يكن ألهمها قبل،لكن شيخ شيخنا بالغ في القول بتكفيره،و الذي يظهر عدم التكفير؛لأن هذه اللوازم بعيدة لا يقول بها هذا القائل مع أن لازم المذهب ليس بمذهب،خصوصا إذا كان اللازم بعيدا.انتهى منه بلفظه.

و قد نقل تلميذه العلاّمة الصبان أوله و آخره و حذف وسطه من قوله:كيف و هو مصادم أيضا إلى قوله:لكن شيخ شيخنا و ذلك في حاشيته على الشرح الصغير للملوي على السلم المذكور و أقره.

و القدر:قال الشيخ الكتاني:و فيه بحثان:أحدهما:في قوله:و هو مصادم أيضا للإجماع على أن سر القدر لم يعلمه و لا يعلمه نبي مرسل و لا ملك و لا غيرهما،فإنه مخالف كما في نصوص الناس من أن الذي لم يعلمه و لا يعلمه أحد القدر لا سره.

ص: 235

قال النووي في«شرح مسلم»في كتاب القدر ما نصه (1):

القدر سرّ من أسرار اللّه التي ضربت من دونها الأستار،اختص اللّه به و حجبه عن عقول الخلق و معارفهم لما علمه من الحكمة،و واجبنا أن نقف حيث حدّ لنا و لا نتجاوزه، و قد طوى اللّه تعالى علم القدر عن العالم،فلم يعلمه نبي مرسل و لا ملك مقرب،و قيل:

إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة،و لا ينكشف قبل دخولها،و اللّه أعلم انتهى منه.

و في«فصوص الشيخ الأكبر»في فص الحكمة الشيثية وقوف بعض أصناف أهل اللّه أي:اطلاعه على سر القدر.

و في كلام الشيخ أبي حامد في«إحيائه»أن سر القدر من الخفيات التي يعلمها الأنبياء و الصديقون إلا أنهم منعوا من إفشائها.

و في الفصل الثاني من كتاب«قواعد العقائد»عند ما تعرض فيه لذكر الأسرار التي تختص المقربون بدركها،و لا يشاركهم الأكثرون في علمها،و يمنعون من إفشائها إليهم، و قسمها إلى خمسة أقسام ما نصه:

القسم الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء و الصديقون عن ذكرها،ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه،و لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين و لا يضر بالأنبياء و الصديقين، و سر القدر منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم انتهى المراد منه بلفظه (2).

و قال أيضا في كتاب الرجاء و الخوف عند تعرضه للسؤال عن السبب الموجب لإكرام هذا و تخصيصه بسليط إزادة الطاعات عليه،و إماتة الآخر،و إبعاده بتسليط دوام المعصية عليه،و أنه كيف يحال ذلك على الضد و الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية و لا وسيلة ما نصه:و وراء هذا المعنى سر القدر الذي لا يجوز إفشاؤه انتهى.).

ص: 236


1- انظر:شرح النووي على مسلم(196/16).
2- انظر:لطائف الأعلام للقاشاني(ص 247).

قال شارحها:و قد جاء في الخبر:القدر سر اللّه فلا تفشوه.

فهذا خطاب لمن كوشف به.

و في لفظ آخر:«ستر اللّه».و هذا خطاب لمن لم يكاشف به،و قد نهي عن السؤال عنه انتهى.

قلت في الجامع:«القدر سر اللّه»،و لم يذكر له مخرجا و لا راويا على خلاف عادته.

و قد خرّجه أئمة مشاهير منهم أبو نعيم في«حليته»،و ابن عدي في كامله،عن ابن عمر،و له تتمة عند مخرجه و هى:فلا تفشوا سره.

و يخالفه أيضا ما ذكره الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه«الجواهر و الدرر»و نصه:

سألت شيخنا-يعني الشيخ سيدي عليّا الخواص-عن سر القدر المتحكم في الخلائق،هل اطلع عليه أحد من الأولياء المحمديين؟فقال رضي اللّه عنه:نعم،لكن بحكم الإرث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا بحكم الأصالة،و لم يعط علمه لأحد من الأنبياء غير نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى المراد منه،و راجعه.

و ما ذكره السيد الجرجاني في«تعريفاته (1)»و نصه:

المستريح من العباد من أطلعه اللّه على سر القدر؛لأنه يرى أن كل مقدور يجب وقوعه في وقته المعلوم،و كل ما ليس بمقدور يمتنع وقوعه،فاستراح من الطلب و الانتظار لما لم يقع،انتهى منه بلفظه.

و ما ذكره القاشاني في لطائفه في ترجمة سر القدر و نصه (2):

فسر القدر من أجل العلوم و ما يفهمه اللّه إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة،فالعلم به).

ص: 237


1- انظره فيه:(653).
2- انظر:لطائف الأعلام(ص 247).

يعطي الراحة الكلية للعالم به،و يعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا إلا لمن أشهده اللّه عينه الثابتة؛لأنه من أكابر السعداء،فهذا الشخص يسميه شيخنا صفاء خلاصة خاصة الخاصة، كما ذكر ذلك في الفصل الشيثي من كتاب«فصوص الحكم»انتهى.

ثم وجدت الشيخ الأكبر في«فتوحاته»في الباب الثالث و السبعين في الكلام على السؤال الثالث و الثلاثين من أسئلة الحكيم الترمذي،و ما سبب طي علم القدر الذي طوي عن الرسل فمن دونهم ذكر أنه ليس ثمّ من يعلم علم القدر،و أن من علم اللّه علم القدر، و من جهل اللّه جهل القدر،و اللّه سبحانه مجهول،فالقدر مجهول.

قال:و لكن قد يعلم سره و تحكمه على هذا القيل المماثلة في الحقيقة و الذات،و ذلك أن إحاطة علمه عليه السّلام على تقدير القول بها عارضة و طارئة مستفادة و مكتسبة منه تعالى فضلا منه عليه و منّا،فهي حادثة و هي من حيث ذاتها و نفس حدوثها قابلة لطروء النسيان و العدم،و نحوهما من جميع التغيرات،و إحاطة علمه تعالى متأصلة ذاتية،غير مكتسبة و لا مستفادة في شيء،فهي قديمة و لا تقبل التغير بحال لقدمها و الاختلاف بينهما بهذه الأوصاف يدل على الاختلاف بينهما بالحقيقة و الذات،كما هو الواقع؛لأن الاختلاف في اللوازم يدل على الاختلاف في الملزومات،و إن عجزنا نحن عن بيان وجه الاختلاف فيها لجهلنا بالحقيقة،و عدم علمنا بها،و لا نقول أن الاختلاف بينهما إنما هو بالقدم و الحدوث خاصة حتى يقال إنهما خارجان عن حقيقة العلم و الحقيقة لا تختلف بالعوارض بل نقول بشيء آخر لا نعلمه نحن و لا نفهمه،و لا يدخل تحت عقولنا،و القدم و الحدوث و إن اختلافهما بذلك يدل على اختلافهما في الحقيقة لا أن الاختلاف في الحقيقة وقع بهما كما فهم الملوي فافهم.

و مما يؤيد هذا و يرشحه ما في العهود المحمدية في عهد لا يدعي العلم إلا لغرض شرعيّ أثناء كلام له و نصه:

و معلوم اللّه هو العلم الذي يبثه في قلوب عباده،و هو غير علمه الأزلي الخاص به؛لأن علم الخلق و إن كان من جملة علم اللّه،ففيه رائحة الحدوث من حيث إضافته إلى الخلق.

فافهم و إياك و الغلط.انتهى منها بلفظها فتأمله.

ص: 238

و يؤيده أيضا ما في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي و نصه:

إن علم الأنبياء و الأولياء إنما هو بإعلام من اللّه لهم،و علمنا بذلك إنما هو بإعلامهم لنا،و هذا غير علم اللّه تعالى الذي تفرد به،و هو صفة من صفاته القديمة الأزلية الدائمة الأبدية المنزهة عن التغير،و سمات الحدث و النقص و المشاركة و الانقسام،بل هو علم واحد علم به جميع المعلومات كلياتها و جزئياتها،ما كان منها و ما يكون أو يجوز أن يكون ليس بضروري و لا كسبي و لا حادث بخلاف علم سائر الخلق.انتهى منها بلفظها أيضا.

و عليه فما ألزموه على القول بالإحاطة الحقيقية في علمه صلّى اللّه عليه و سلّم من حدوث علمه تعالى و غير ذلك لا يلزم.

و قد نقل غير واحد عن الأستاذ الكبير،و العارف الشهير الغوث الرباني،و الهيكل الصمداني شيخ الإسلام على الإطلاق،و علامة الزمان بالاتفاق شمس الدين أبي المكارم أبيض الوجه،محمد بن الأستاذ الأعظم،المجتهد المطلق،الولي المفسر،تاج العارفين،أبي الحسن محمد بن جلال الدين أبي البقاء محمد بن عبد الرحمن البكري الصديقي الشافعي المصري قطب دائرة السادات البكريين،و صاحب الصلوات النبوية التي منها صلاة الفاتح لما أغلق ذات الفضائل الجمة و الحاوية لاسم اللّه الأعظم المولد ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة ختام سنة ثلاثين و تسعمائة أنه ذكر أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلم جميع علم اللّه تعالى.

قلت:و الأستاذ المذكور كان نظير الشيخ عبد القادر الجيلاني في عصره من حيث الناطقين في الخلائق،و قد أعلمنا به فعلمناه بحمد اللّه،انتهى المراد منه.

فتبين أن الذي لم يعلمه و لا يعلمه نبي مرسل و لا ملك و لا غيرهما هو القدر لا سره، و الفرق بينهما أن القدر صفة نفسية للذات بها يتخصص المعلوم بما يكون عليه من الاستعدادات،فهو مما لا يمكن أن يعرف،و لا أن يطلع عليه أحد بوجه قط؛لأنه لو عرف لعرف كنه الذات،و ذلك محال،و سره ما هو عليه المعلوم في نفسه من الاستعدادات الثابتة في العلم،فهو مانع للقدر،و تحكمه هو حكمه في الأشياء و عليها بها:أي بما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها،فهو مانع لعين الشيء الذي يحكم فيه،و عليه بما تقتضيه ذاته،و بذلك كانت للّه تعالى على خلقه الحجة البالغة؛إذ ما أعطاهم إلا ما طلبوه منه

ص: 239

بالسر استعداداتهم،فكان إيجاده للأشياء كلها،و إفاضته لصورها و لوازمها بحسب القوابل و الاستعدادات لا غير،فإن قلت:الأعيان الثابتة و استعداداتها فائضة من الحق،فهو جعلها كذلك.

قلت:الأعيان نسب مجعولة مجعل الجاعل،و إنما هي صور علمية للأسماء و الصفات الإلهية،فهي بظاهرها و أسماؤه تعالى و صفاته،غير ذاته عند العلماء باللّه،و ليست بشيء زائد على الذات،إلا بالاعتبار و التعقل و الذات أزلية أبدية،لا تتغير و لا تتبدل،و أحكامها قديمة لا تعلل،راجع«الفصوص»و شروحها في فص الكلمة العزيزية.

و الثانى:في قوله:إنه يلزم إذا قلنا:إن علمه عليه السّلام مساو لعلم اللّه أن يكون مماثلا له في الإحاطة و الحقيقة،فإنه قد يقال:لا يلزم من المساواة في الإحاطة و العموم الذي هو المدعى.

عن المرتبة،و هو الذي تكلم على نقطة البسملة في الجامع الأزهر في ألفي مجلس،و في ألف التي في افتتاح الاسم الجامع من آية الكرسي أكثر من ذلك،و له مناقب مشهورة و كرامات عجيبة مأثورة.

و قد ذكروا عنه أنه بلغ درجة القطبانية العظمى و هو القائل:قدمي هذه على رقبة كل ولي للّه تعالى مشرقا كان أو مغربا،و هو لسان حال القطب الأعظم،و القائل:

تألت مرآة العز أن لا يرى فيها سوانا و جاءتنا عليها مواثق

و ما فخرنا بأشياء بقين و إنما بها و بهم دارت علينا المناطق

و القائل:

و لم يبق ما بين الأثير إلى الثرى مقام و لم يزهو لنا فيه موكب

و لو رام قوم قربهم لإلههم و لم يخدموا أعتابنا لم يقربوا

و القائل:

لئن كان فخر الأقدمين صحائفا فإنا لآيات الكتاب فواتح

ص: 240

ليعتز من يهوي هوانا فإننا لنا العز ما غنت بأيك صوائح

عقم الزمان مقدما و مؤخرا و القائل:عن أن تحيط بمثلي الآفاق

و القائل:

و قام يرفض ناسوت الوجود بنا كشفا فنظهر و اللاهوت يخفينا

و القائل:

فإن شئت أن تلقى المحبين كلهم فحسبك من كل الورى أن ترانيا

و القائل:

و ها أنت طفت شرق الوجود فلا تلق لي مثلا و لا تلق لي شكلا

و القائل:

و اجمع صحابي و المحبين كلهم فلن يروا مثلي من الناس حاميا

فجاهي جاه لم يخطر بحضرة و في كل وقت يعظم اللّه جاهيا

و القائل:

فانهض إلى قبلة العرفان حافيا و مرغ الخد في أعتابنا حينا

و نادنا للذي ترجوه و نزهنا من ريب الزمان فلا رد لراجينا

انظر:«الكوكب الدري في مناقب الأستاذ محمد البكري»لأبي السرور البكري، و«عمدة التحقيق في بشائر آل الصديق»للشيخ إبراهيم بن عامر بن علي العبيدي المالكي، فأشكل عليه في هذه المقدمة جماعة من المنكرين عليه في عصره و بعده،و قالوا:إنها تشمل بظاهرها جميع الواجبات و المستحيلات و الجائزات،الموجودات و المعدومات،الحاضرات و الماضيات،و الثابتات جملة و تفصيلا،كما في علمه تعالى،فيلزم منه مساواة علم غيره تعالى لعلمه،و هو خلاف العقل و النقل،أما العقل فلأنه لا يتصور شرعا اشتراك المخلوق مع الخالق في نعت من النعوت بحسب الوصف الحقيقي أبدا؛لما يلزم عليه من حدوث ذلك الوصف المستلزم لحدوث الذات العلية،تعالى سبحانه عن ذلك علوّا كبيرا.

ص: 241

و أما النقل فلقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]يعني ذاتا و صفاتا و أفعالا.

و قوله: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً [الإخلاص:1]يعني مثلا: أَحَدٌ :أي لا في ذات و لا في صفة و لا في فعل،بل ادعاء المساواة في العلم و نحوه عدّه جماعة من المكفرات لمن اعتقده،بل ذكر علي القاري في«موضوعاته الكبرى»أنه كفر إجماعا.

و في بعض العبارات المنسوبة لبعض الأئمة المتأخرين قال:قد جاهر بالكفر بعض من يدعي العلم في زماننا،و هو متشبع بما لم يعط،فزعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلم الخمس و غيرها،و كل ما يعلمه اللّه تعالى و هؤلاء الغلاة عندهم علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منطبق على علم اللّه تعالى سواء بسواء،فكل ما يعلمه اللّه تعالى يعلمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و من اعتقد تسوية علم اللّه تعالى و علم رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم يكفر إجماعا كما لا يخفى انتهى.

و أجاب بعضهم عنه بأنه لا يدعي مشاركته صلّى اللّه عليه و سلّم لربه تعالى في علمه الحقيقي الذاتي حاشا و كلا،و لا مساواة علمه لعلمه في الحقيقة و الذات،و لا يلزم من علمه جميع علمه على ما قاله الشيخ أو غيره،ذلك لأن علمه تعالى واجب،و هو صفة من صفاته الأزلية الأبدية القائمة بذاته العلية،المنزهة عن التغير و النقص و الزيادة و المشاركة و الانقسام و المحو و الإثبات،و غيرها من سمات الحدوث،ليس بضروري و لا كسبي و لا دفعي و لا تدريجي،و لا مستمد من شيء،بل من ذاته العلية،بخلاف علمه صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنه جائز و ليس بواجب،حادث لم يكن ثم كان،و يجوز عليه بالنظر لذاته طروء العدم و نحوه،و يوصف بالضرورة و بالكسب و بكونه دفعيّا أو تدريجيّا،و هو مستمدّ من اللّه تعالى لا من ذاته؛لأنه بإعلامه تعالى و اطلاعه،و قد قال: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]و هذا رسول،بل أعظم الرسل و أفضلهم،فلا بعد في أن يطلعه اللّه تعالى على جميع معلوماته،و لا محذور في ذلك عقلا،فإن الاختلاف المذكور قاطع بأن الحقيقة غير الحقيقة،و بأنه لا مشاركة بينهما في الذات أصلا،بل بأن بينهما غاية التباين.

و بنحو من هذا الجواب أجاب عن العارف المذكور الفقيه الكبير،مفتي حلب المحدث الواعظ أبو حفص عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم الحلبي الشافعي القاضي،المتوفى سنة أربع و عشرين و ألف حين سئل،و هو في مجلس درسه عن مقالة الأستاذ المذكور حسبما ذكره في«خلاصة الأثر»و نصها:

ص: 242

و من تعليقاته جوابه عن مقالة الأستاذ محمد البكري أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلم جميع علم اللّه تعالى،و قد سئل عنها في مجلس درس فأجاب بأن مقالة الشيخ هذه صحيحة،و لا إنكار عليه فيها؛إذ يجوز أن اللّه تعالى يفهمه علمه و يطلعه عليه،و لا يلزم من ذلك أن يدرك سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مقام الربوبية؛إذ العلم المذكور ثابت للّه تعالى،و اصطفى بتعليم اللّه تعالى إياه،و إلى مثل ذلك أشار البوصيري بقوله (1):

فإن من جودك الدنيا و ضرتها و من علومك علم اللوح و القلم

و في الحديث:«قال لي ربي ليلة الإسراء:فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟قلت:لا أدري فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في ثديي،فعلمت علم الأولين و الآخرين، ثم قال:فيم يختصم الملأ الأعلى؟فقلت:في الوضوء على المكاره... (2)»إلى آخر الحديث،انتهى منها بلفظها.

و في شرح صلاة أبي الفتيان سيدي أحمد البدوي للعارف باللّه تعالى سيدي عبد الرحمن العيدروس لدى قوله فيها:و خزائن العلوم الاصطفائية بعد كلام له ما نصه:لطيفة:

وقفت بعد كتابتي هذه التعليقة في كلام أبيض الوجه البكري تحت قوله صلّى اللّه عليه و سلّم،فتجلّى لي كل شيء و عرفته ما حاصله أنه يمكن أن يكون ذلك التجلي ما هو الآن واقع بل وقع، ثم ألقى اللّه سبحانه عليه أستار العزة الإلهية،و أذهب بقاء ذلك منتقشا بصورته في لوح القوة الذاكرة النبوية أمامه لنواميس الربوبية،و إرجاعا إلى منازل العبودية،فيكون الكشف الأول لتكرمته صلّى اللّه عليه و سلّم،و الحجب بعد ذلك لما قررناه الآن،على أنما أشرنا لعدم بقائه في الذاكرة فقط انتهى الغرض منه.

و قد ذاكرني بعض الأصحاب في أنه يلزم أن يساوي علمه صلّى اللّه عليه و سلّم علم اللّه تعالى إذا قلنا:

إنه يعلم كل شيء.فأجبته بأنه لا يلزم شيء من ذلك؛لأن ذلك للّه تعالى بالأصالة،و له صلّى اللّه عليه و سلّم بالتبعية،و كذا من علم شيئا و أحاط به،فإنه بإعلام اللّه تعالى و تحويطه،فأعجبه هذا الجواب انتهى منه بلفظه.).

ص: 243


1- انظره في(ص 139)،الفصل العاشر في المناجاة.
2- رواه الترمذي(366/5).

و في كلام جامع ديوان الشيخ العالم العارف المحقق شرف الدين أبي حفص عمر بن علي السعدي المعروف بابن الفارض المصري نقلا عن الشيخ الإمام برهان الدين إبراهيم ابن عمرو الجعبري،و هو من تلامذة ابن الفارض المذكور،و كان معه بمصر وقت احتضاره و انتقاله إلى اللّه تعالى قال:كنت سألت جماعة من الأولياء عن مسألة فلم يجبني أحد منهم عنها،فسألته-يعني ابن الفارض-فقلت له:يا سيدي هل أحاط أحد باللّه علما؟قال:فنظر إلى نظر تعظيم لي و قال:نعم إذا حيطهم يحيطون يا إبراهيم و أنت منهم، انتهى.

و ظاهر هذا حصول العلم بذاته تعالى بوصف من أوصافه على وجه الإحاطة حتى لغيره صلّى اللّه عليه و سلّم من أعاظم الأولياء و الصديقين،و هو مشكل مع قوله سبحانه: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]،و قد اختلفوا في فهمه،فمنهم من قال:إنه محمول على الإحاطة الفرضية التقديرية على ما يأتي نقله عن العارف باللّه سيدي عبد الوهاب الشعراني،بناء على أن وقوع هذا ممكن لا الوقوعية؛لأنه لم يسمع وقوع ذلك لأحد بوجه من الوجوه، و لا في حال من الأحوال.

و لكن النصوص الشرعية قاضية بالمنع من وقوع هذا و إمكانه مع ما يأتي عن الشيخ الأكبر في«فتوحاته»أنه لم يكن في الإمكان أن يخلق اللّه تعالى فيما خلق قوة في موجود يحيط ذلك الموجود باللّه علما من حيث قيامها به.

و عليه فالأحسن حمله على الإحاطة النسبية المجازية،و هي المعرفة الكاملة كمالا يليق بحال المخلوق لا الحقيقية،تعالى اللّه عنها علوّا كبيرا،فإن الإجماع ممن يعتد به من المتكلمين و الفقهاء،و معهم جميع العارفين و الأولياء،على أنها لم تقع و لا تقع لأحد مطلقا، و لو لأشرف الخلق صلّى اللّه عليه و سلّم،لا في الدنيا و لا في الآخرة،كما يأتي بسطه إن شاء اللّه تعالى.

و قال بعض الإخوان في مذاكرة وقعت له معنا في هذا:إنه يمكن حمل الإحاطة في كلامه هذا على حصول الشبيه؛إذ هي التي يقصدها الصوفية كثيرا في كلامهم دون حضرة التنزيه؛لأنه لا علم لأحد بها فضلا عن الإحاطة،و هو كلام حسن.

و قال النابلسي في شرح هذا الديوان المسمّى ب«كشف السر الغامض في شرح ديوان

ص: 244

ابن الفارض»جواب آخر نصه:نعم إذا حيّطهم بالتشديد جعلهم محيطين به علما سبحانه و تعالى بأن أبهاهم في ظهور وجوده الحق بحيث لا يبقي منهم عندهم بقية،و تضمحل رسومهم في حقيقته النورية بالكلية،فعند ذلك يحيطون به علما،و إنما المحيط به مولاهم، و أما أنهم يبقون موجودين،فالوهم عند نفوسهم،و مع ذلك يحيطون به علما،فذلك من أعظم المحال،و ليس لأحد أصلا في ذلك مجال،و لا يتصور عنه جواب و لا سؤال؛لأن الموجود عند نفسه قائم بالوهم المجرد،فلا يعرف نفسه،و إذا لم يعرف نفسه فلا يعرف ربه،و إذا لم يعرف ربه فليس بوليّ للّه،و هذا السؤال سؤال الأولياء لبعضهم بعض،لا سؤال الغافلين للغافلين.انتهى المراد منه بلفظه.

قلت:في شرحه اللامية نقل كلام ابن الفارض هذا ثم قال:و لا يمنع من قولهم:إذا حيطهم يحيطون قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]،و قوله سبحانه: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ [البقرة:255]،يعني ما لم يحيطهم فيحيطون، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .

و أيضا فإن المفهوم من قوله:إذا حيطهم بتشديد التحتية أنه إذا خلق لهم الإحاطة اللائقة بهم المخلوقة له اتصفوا بها فأحاطوا به،لا كإحاطته تعالى بنفسه؛لأن إحاطته بنفسه قديمة،و إحاطتهم حادثة،و القديم منزّه عن مشابهة الحوادث.

و إذا علم هذا كله فالأظهر هو تأويل كلام الأستاذ البكري أيضا إما بمثل ما ذكره مولانا عبد الغني في جوابه أو لا عن التحييط بأن يقال:إن الحق تعالى تجلّى عليه بذاته و أفناه عنه و عن فنائه و جميع صفاته،حتى اضمحلت رسومه،و ذهبت آثاره و علومه، و غرق في أنوار ذات الحق،فصار عند ذلك مظهرا له تعالى،عالما بمعلوماته،و إنما العالم بذلك هو سبحانه لا غيره،و هذا التجلّي كما سبق في كلام الأستاذ أبيض الوجه يمكن أن يكون ما هو واقع الآن،بل وقع تكرمة له صلّى اللّه عليه و سلّم،ثم ألقيت عليه أستار العزة الإلهية إقامة لنواميس الربوبية،و إرجاعا إلى منازل العبودية،و إما بأن يقال:إنه أراد به أنه عليه السّلام كان يعلم جميع علم اللّه تعالى في خلقه،أو نقول في مكوناته،لا أنه أراد جميع علمه مطلقا حتى يشمل علوم الذات العلية بأسرها؛ليكون كلامه هذا موافقا لكلام غيره من الأولياء.

ص: 245

إن اللّه تعالى أطلعه على جميع علمه في مكوناته لا مطلقا كما يأتي عنهم،و ليسلم من الاعتراض السابق عليه بلزوم التساوي بينه و بين علم اللّه تعالى،و إن أجيب عنه كما مرّ، فإن الحق الذي عليه المعول أنه لا مساواة في شيء و بين الحادث و بين القديم الأول.

و أما قوله في الحديث:فتجلّى لي كل شيء و عرفته.فيمكن تخصيصه أيضا بالمكونات، و إذا عمم فيه فيحتمل في الذات العلية و أوصافها على ما مرّ،أو على ما يليق أن يعلمه أفضل مخلوق،و أكمله من الخالق،و اللّه أعلم.

و أما التكفير في هذه المسألة-أعني مسألة ادعاء الإحاطة في علمه صلّى اللّه عليه و سلّم-فيبعد،و لا سيما في حق من أجمل في الكلام و لم يصرح بما يفيد العموم الحقيقي و المساواة؛لعلم اللّه تعالى و على فرض التصريح،فإنما يظهر لو ادعى أن ذلك حاصل له صلّى اللّه عليه و سلّم من ذاته و بطريق الاستقلال،أو ادعى قدم علمه صلّى اللّه عليه و سلّم،أو حدوث علم اللّه تعالى،أو تماثلهما في الحقيقة و الذات،و هذا لا يدعيه أحد ممن ذكر،و لا يتفوّه به،بل ينكره أشد الإنكار،و يكفر القائل به إذا عرض عليه،فإن قيل:بعض هذا لازم من قولهم.

قلنا:لا نسلم اللزوم كما سبق بيانه،و على تسليمه فهو بعيد لمن قال و لازم القول لا يعد قولا إلا إذا كان اللزوم بيّنا،و هو هنا غير بين،و حينئذ فلا يكفر في هذه المسألة بالنسبة لما ذكر أصلا،فاعرف ذلك و تبيّنه،و أعرض عما سواه،و ربنا سبحانه و تعالى يمن علينا و عليك برضاه،آمين.

و أفتى بالثالث-و هو أن علمه صلّى اللّه عليه و سلّم محيط بالأشياء و لكن لا كإحاطة علم اللّه تعالى- جماعة ممن نحا نحو التوسط و الجمع بين النصوص و الأدلة،و قالوا:إن هذا هو التحقيق و ما سواه خلافه.

و مما يدل له ما ذكره الشيخ الأكبر في فتوحاته في الباب الخامس و الستين و ثلاثمائة و نصه:

و ما ذكر عن أحد من نبي و لا حكيم أنه أحاط علما بما يحوي عليه حاله في كل نفس إلى حين موته،بل يعلم بعضا و لا يعلم بعضا إلى أن قال:فلا يعلم الأمور على التفصيل

ص: 246

إلا اللّه وحده: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ [البقرة:255]انتهى منه بلفظه.

و ما ذكره في الباب التاسع و الستين و ثلاثمائة و نصه:

لا يعلم الشيء من جميع وجوهه إلا اللّه،المحيط علمه بكل شيء سواء كان الشيء فانيا أو موجودا،متناهيا أو غير متناه انتهى.

و ما ذكره في الباب الرابع و التسعين و ثلاثمائة و نصه:

ثم إنك إذا أخذت تفصل بالحدود أعيان الموجودات وجدتها بالتفصيل نسبيّا، و بالمجموع أمرا وجوديّا لا يمكن لمخلوق أن يعلم صورة الأمر فيهما،فلا علم لمخلوق مما سوى اللّه،و لا للعقل الأول أن يعقل كيفية اجتماع نسب يكون عن اجتماعها عين وجودية مستقلة في الظهور،غير مستقلة في الغني،مفتقرة بالإمكان المحكوم عليها به، و هذا علم لا يعلمه إلا اللّه تعالى،و ليس في الإمكان أن يعلمه غير اللّه تعالى،و لا يقبل التعليم-أعني أن يعلمه اللّه مرسلا من عباده-فأشبه العلم به العلم بذات الحق،و العلم بذات الحق محال حصوله لغير اللّه تعالى،فمن المحال حصول العلم بالعالم أو بالإنسان نفسه،أو بنفس كل شيء لنفسه بغير اللّه تعالى فتفهّم هذه المسألة،فإني ما سمعت و لا علمت أن أحدا نبه عليها،و إن كان فهمها مما يستصعبه التصور،مع أن فحول العلماء يقولون بها و لا يعلمون له سر كبلقيس تقول: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42]و هو هو.انتهى منه بلفظه.

و ما ذكره في الباب الثامن و السبعين و مائة في الفصل الحادي عشر في الاسم الإلهي عند تعرضه لآية: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]و نصه:

و السبب الموجب للمشورة كون الحق له وجه خاص في كل موجود لا يكون لغير ذلك الموجود،فقد يلقي إليه الحق سبحانه في أمرها ما لا يلقيه لمن هو أعلى منه طبقة، كعلم الأسماء لآدم مع كون الملأ الأعلى عند اللّه أشرف منه،و مع هذا فكان عند آدم ما لم يكن عندهم.

ص: 247

إلى أن قال:و سبب ذلك قومية الألوهية ما تستحقه لما علم أن للّه تعالى في كل موجود وجها خاصّا،يلقي إليه منه ما يشاء مما لا يكون لغيره من الوجود،و من ذلك الوجه يفتقر كل موجود إليه و إن كان عن سبب انتهى.

و ما ذكره العارف باللّه سيدي عبد الوهاب الشعراني في«المنن الكبرى»آخر الجزء الأول في منة كثرة تصديقه للأولياء فيما يدعونه من الاطلاع على المغيبات في آخرها و نصه:

و بالجملة فلله تعالى في كل علم و عمل و غيرهما من سائر المخلوقات علم خاص لا سبيل لأحد من المخلوقين إلى الوصول إليه؛لأنه من صفات الألوهية انتهى.

و ما ذكره أيضا في«العهود المحمدية»في عهد أن نميط الأذى عن طريق المسلمين بعد ما ذكر أنه لا بدّ من السلوك على يد شيخ عارف باللّه إلى أعلى معرفة منه؛لإزالة الشبهة العارضة لسالك طريق الآخرة في عقائده و نصه:

و قد وضعت في ذلك ميزانا نحو كراسة أزلت به غالب الإشكالات التي في مذاهب الفرق الإسلامية كالجبرية و المعتزلة،و وضعت ميزانا أخرى تزيل الشبه التي تعرض للعبد في طريق المعرفة باللّه تعالى،حاصلها أن اللّه تعالى لم يكلف عبدا بأن يعرف اللّه تعالى كما يعرف اللّه نفسه أبدا،و إن للّه تعالى بنفسه علما اختص به لا يعلمه ملك مقرب و لا نبي مرسل؛لأنهم لو علموه لساووه في العلم،و لا قائل بذلك من جميع الملل فضلا عن دين الإسلام،و ذلك أن اللّه تعالى لا يتحد مع عبده في حدّ و لا حقيقة و لا فصل و لا جنس.

فرد يا أخي جميع ما ورد في الآيات و الأخبار من التنزيه إلى مرتبة علمه تعالى بنفسه،ورد جميع ما ورد في الآيات و الأخبار من الصفات التي ظاهرها التشبيه إلى مرتبة علم خلقه تعالى به،فما أحوج الناس إلى التأويل إلا ظنهم بأن اللّه تعالى كلفهم بتعقل مرتبة التنزيه التي لا يتعقلونها،و إلا فلو علموا أنها خاصة به تعالى ما أولو شيئا،و كان يكفيهم الإيمان بأنه ليس كمثله شيء انتهى منه بلفظه.

و أفتى بالرابع-و هو التوقف-جماعة من المتورعين ممن تعارضت عندهم الأدلة في

ص: 248

هذه المسألة،و لم يقفوا فيها على نصّ غير محتمل يقطع النزاع و يرفع الخلاف.

و قالوا:إن القطع فيها بأمر يخاف أن يوقع في أحد شيئين:إما في استنزال سيد الكائنات صلّى اللّه عليه و سلّم عن قدره الرفيع،و جنابه العلي المنيع،و إما في سوء الأدب مع اللّه تعالى بتسوية بعض مخلوقاته به،و ذلك أيضا يسوء المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم و يؤذيه،و لذا حذر من مثله في قوله:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم،إنما أنا عبد،فقولوا:عبد اللّه و رسوله» (1).

و حينئذ فالتوقف و تفويض الأمر إلى اللّه تعالى فيها أولى و أسلم في عاقبة المرء،ورد الأمر إلى اللّه تعالى في مواطن الاشتباه من العلم،و من الرأي السديد في الدين.

هذا مع اعتقاد أنه عليه السّلام نال من ربه المكانة التي لا مكانة فوقها،و الرتبة التي لا يمكن أن ينالها بشر و مخلوق سواه،و أنه سيد الكائنات،و مفخر أهل الأرض و السموات،و نقطة الكون،و عروس المملكة،و أصل الوجود،و مادة كل موجود صلّى اللّه عليه و سلّم،و ممن نحا إلى هذا صاحب«نشر المثاني في أهل القرن الحادي و الثاني»،و هو الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن الطيب القادري الحسيني الفاسي،و ذلك في ترجمة التاجموعتي بعد ما ذكر كلاما له في هذه المسألة يصحح فيه رأيه فيها و يرد القول بخلافه و نصه:

و لا خلاف بينه و بين من حاجه من أهل فاس في أنه صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم كثيرا من الغيب مما يتعلق بالدنيا و الآخرة،و يعلم جميع ما دلّت على علمه هذه الأحاديث-:أي المذكورة في كلامه-و أكثر من ذلك؛لأنها لا تدل على الإحاطة بالمعلومات،ثم قال:و إنما نزاع من نازع في القدر الزائد على ذلك،و اللّه أعلم.

ثم الإمساك عن الخوض في هذا الزائد أحسن؛لأنه لم ينقل لنا كلام عن أسلافنا فيه، و اللّه أعلم،مع اعتقاد أنه صلّى اللّه عليه و سلّم بأعلى درجات الكمال في الدرجة التي لا درجة فوقها،و أنه صلّى اللّه عليه و سلّم سيد الأولين و الآخرين،و لا يعلم قدره إلا خالقه رب العالمين،قال في«محصل المقاصد»:).

ص: 249


1- رواه البخاري(3261).

نبينا أفضل بالإطباق من كل مخلوق على الإطلاق

فهذه أقوال أربعة،و هي وقفنا عليها لساداتنا العلماء رضوان اللّه عليهم في هذه المسألة،و الأخير منها و هو الوقف أحوط و أورع و أسلم،و الثالث بالتوسط أحسن و أبين و أقوم،و الثاني بعدم الإحاطة لأحد إلا للّه تعالى أجرى على ظواهر أكثر النصوص الشرعية و أوفق،بقاعدة سد الذرائع المرعية،و الرابع بالإحاطة محتمل لوجوه:

أحدها:أن يريد قائله الإحاطة الحقيقية الكلية في كل شيء حتى في الذات العلية، و هذا هو محط التهويل و الإنكار،و محل اختلاف الأذهان و الأفكار.

الثانى:أن يريد به الإحاطة المجازية الإجمالية دون الحقيقة التفصيلية،و هذا يرجع للقول الثالث.

الثالث:أن يريد به الإحاطة الإضافية باعتبار نوع أو جنس من الأجناس الكونية،إلا أنه لم يقع منه له بيان اتكالا على الأذهان،و لا بدّ حينئذ من معرفته؛ليقع الحكم بحسبه على كليته،و إلا فهو كلام مجهول،لا يرجع منه إلى شيء محصول،و لكل أناس مشربهم، و كل و ما اختار بحسب ما أودعه اللّه في قلبه من الأنوار.

قال تعالى: كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20].

و قد بقي في المسألة قول آخر خامس لم يذكره أهل الظاهر،و ذكره جماعة من الأفراد الأكابر،و هو أن علمه صلّى اللّه عليه و سلّم يحيط بجميع المكنونات،و سائر ما أوجده اللّه من الذوات، فالذوات من الأزل إلى الأبد عرشا و فرشا و ما فوقهما و ما تحتهما و ما بينهما لا يشذ عن علمه شيء من ذلك،و لا ما يعرض له من ابتدائه إلى انتهائه،و أما الذات العلية و أوصافها و أسماؤها فما حصل له صلّى اللّه عليه و سلّم من العلم بها لم يحصل لبشر و لا مخلوق سواه،و لم يشم أكابر الأنبياء و الرسل و المقربون من الملائكة رائحته،فضلا عمن دونهم.

و أما معرفة كنهها أو الإحاطة بها أو بشيء مما لها فليست لأحد أصلا،و لا مطمع لمخلوق فيها بوجه من الوجوه،و لا باعتبار من الاعتبارات،لا في الدنيا و لا في الآخرة،

ص: 250

و مستندهم في هذا الكشف و البصيرة،و ما أمدّهم اللّه به من الفراسة و صدق السريرة،مع ما يؤيد ذلك من الأحاديث و الأخبار،و يؤكده من الإشارات الجليلة المقدار.

و قد خرج أنها أقاويل خمسة،و أن الثلاثة المتوسطة منها مقبولة عند العلماء،و الأول مردود عند أكثر العارفين و الفقهاء،و الأخير هو المعول عليه عند كثير من أهل اللّه،كما يأتي بسطه بحول اللّه.

و إذا تقرّر هذا و علم،و تأمل و فهم،فلنشر بعده لما عثرنا عليه في المسألة من الآيات و الأخبار و الآثار،و ما يتعلق بها من كلام الأئمة النظار،حتى تتبين أدلتها و تتضح لكل ذي بصر محجتها،و تزداد الأقاويل بها بيانا و القوة فيها قوة و برهانا،و نختم بكلام أهل البصائر من الأولياء و الصلحاء الأكابر؛لأن كلامهم في هذا الباب هو الذي عليه المدار، و هو أولى بالاعتماد عليه و التعويل و الاعتبار؛لصدق فراستهم و نورانية بصيرتهم.

النور الخامس و العشرون

و هو نور الحصر:

فهو النور الذي يكشف له عن الخواص عن المراتب و عن المنامات حتى عن أقصر ما يمكن،فإذا قدرنا أنه نالها لا يجد أحد بعده ما يطلب،مثل ما تقول يتيمة الدهر عند الملك لا يملكها أحد معه-كذلك القول فيه،فله الوسيلة و الدرجة الرفيعة،فهذا هو الحصر،فإنه الذي ملك الأوفى من الكل.

*قلت:فهو الإنسان الكامل،و ليس لأكمليته نظير صلّى اللّه عليه و سلّم.و فيما تقدم ما يشير إلى توضيح ذلك.

ص: 251

النور السادس و العشرون

و هو نور العلامة و الدلالة:

فهو الذي كشف له صلّى اللّه عليه و سلّم صورة منتظرة و معتبرة،فإن الكتب نطقت به،و كذلك الصنائع العلمية كلها حتى الكهانة.

و من علاماته أيضا صلّى اللّه عليه و سلّم ما ظهر عليه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما كان قط لأحد؛ثم علامات صدقه المتأخرة.

و هذا يكشف له أنه كذلك وحده.

و مما ينبغي أن يقال لأهل الكتاب:هذا نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم قد أخبرنا عن أمور قد ظهرت بعده،حتى إن من بعض أتباعه لو تحدّى بها لم يعلم حدود رسوله وجد الصواب في قطع الخصم،و أنتم ما الذي أخبركم به،هذه أنواره.

*قلت:قال ابن طولون:خصّ صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه أول النبيين في الخلق و تقدم نبوته،فكان نبيّا و آدم منجدل في طينته،و بتقدم أخذ الميثاق عليه،و أنه أول من قال:(بلى)يوم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]،و خلق آدم و جميع المخلوقات لأجله،و كتابة اسمه الشريف على العرش و كل سماء و الجنان و ما فيها و سائر ما في الملكوت،و ذكر الملائكة له في كل ساعة،و ذكر اسمه في الأذان في عهد آدم و في الملكوت الأعلى،و أخذ الميثاق على النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به و ينصروه،و التبشير به في الكتب السابقة،و نعته فيها،و نعت أصحابه و خلفائه و أمته،و حجب إبليس عن السموات لمولده،و شق صدره في أحد القولين و هو الأصح،و جعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان،و سائر الأنبياء كان الخاتم في يمينهم،و بأن له ألف اسم،و باشتقاق اسمه من اسم اللّه،و بأنه سمي من أسماء اللّه بنحو سبعين اسما،و بأنه سمي بأحمد،و لم يسمّ به أحد قبله،و قد عدت هذه من الخصائص في حديث مسلم،و بإظلال الملائكة له في سفره،و بأنه أرجح الناس عقلا، و بأنه أوتي كل الحسن و لم يؤت يوسف إلا شطره،و بغطه ثلاثا عند ابتداء الوحي،و برؤية جبريل في صورته التي خلق عليها،عدّ هذه البيهقي.

ص: 252

و بانقطاع الكهانة بمبعثه،و حراسة السماء من استراق السمع و الرمي بالشهب،عد هذه ابن سبع،و بإحياء أبويه حتى آمنا به،و بوعده بالعصمة من الناس و بالإسراء،و ما تضمنه من اختراق السموات السبع،و العلو إلى قاب قوسين،و وطئه مكانا ما وطئه نبيّ مرسل و لا ملك مقرب،و إحياء الأنبياء له و صلاته إماما بهم و بالملائكة،و اطلاعه على الجنة و النار،عد هذه البيهقي،و رؤيته من آيات ربه الكبرى،و حفظه حتى ما زاغ البصر و ما طغى،و رؤيته للباري تعالى مرتين،و بركوب البراق في أحد القولين،و قتال الملائكة معه و سيرهم معه حيث سار و يمشون خلف ظهره،و بإتيانه الكتاب و هو أمّيّ لا يقرأ و لا يكتب،و بأن كتابه معجز و محفوظ من التبديل و التحريف على ممر الدهور،و مشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب و زيادة،و جامع لكل شيء،و مستغن عن غيره،و ميسر للحفظ،و نزل منجما،و على سبعة أحرف،و من سبع أبواب،و بكل لغة،عد هذه ابن النقيب.

و قال صحاب التحرير:فضّل القرآن على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره.

و قال الحليمي في المنهاج:و من عظم قدر القرآن أن اللّه خصه بأنه دعوة و حجة،و لم يكن مثل هذا لنبيّ قط،إنما كان يكون لكل واحد منهم دعوة ثم يكون له حجة غيرها، و قد جمعها اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في القرآن فهو دعوة بمعانيه،حجة بألفاظه،و كفى الدعوة شرفا ألا تنفصل الدعوة عنها انتهى.

و أعطي من كنز العرش،و لم يعط منه أحد،و خصّ بالبسملة و الفاتحة و آية الكرسي و خواتيم سورة البقرة و السبع الطول و المفصل،و بأن معجزته مستمرة إلى يوم القيامة و هي القرآن،و معجزات الأنبياء انقرضت لوقتها،و بأنه أكثر الأنبياء معجزات،فقد قيل بأنها تبلغ ألفا،و قيل ثلاثة آلاف،سوى القرآن؛فإن فيه ستين ألف معجزة،قال الحليمي:

و فيها مع كثرتها معنى آخر هو:أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو اختراع الأجسام،و إنما ذلك في معجزات نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم خاصة،و بأنه جمع له كل ما أوتيه الأنبياء من

ص: 253

معجزات و فضائل،و لم يجمع ذلك لغيره،بل اختص كل بنوع،و أوتي انشقاق القمر (1)و تسليم الحجر (2)و حنين الجذع (3)و نبع الماء من بين أصابعه (4)،و لم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك،ذكره ابن عبد السلام.

و قال بعضهم:خص تعالى بعضا بالمعجزات في الأفعال كموسى،و بعضا بالصفات كعيسى،و نبينا بالمجموع ليميزه،و بأنه آخرهم بعثا فلا نبي بعده،و شرعه مؤبد إلى يوم القيامة لا ينسخ،و ناسخ لجميع الشرائع قبله،و لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه،و في كتابه و شرعه الناسخ و المنسوخ،و بعموم الدعوة للناس كافة،و أنه أكثر الأنبياء تابعا (5).

و قال الحرالي:فهو خاتم ما مضى،و خاتم ما هو كائن،و خاتم ما يكون أمدا و أبدا، و كما هو خاتم اللّه في ذاته و خاتم كل رتبة كذلك ما اشتمل عليه إحاطة ذاته خاتم ذلك المعنى،؛فقلبه خاتم القلوب،و نفسه خاتم الأنفس،و جسمه الطاهر خاتم الأبدان،و لذلك بدأ ظهور الختم بين كتفيه إشعارا بما أودعه اللّه في كلية إحاطة أمره في حكمته و علمه و كتابه و معرفته و مناجاته و رؤيته و شهوده و وجوده إلى سرّه الذي لا يقال،فهو و ما نسب إليه و رجع إليه بوجه ما خاتم،حتى أن ذلك شائع في الآية،و مراكبه حتى فرسه المختصّ به هو خاتم موجود صنف الخيل،و كذلك بغلته و سيفه و قوسه و قضيبه و هراوته و كل شيء من أدواته،و لذلك كان صلّى اللّه عليه و سلّم لا يستعمل شيئا إلا سمّاه،فأظهر بذلك سموّه على ما سواه، يسمي كل شيء حتى قدحه و فراشه و لحاف منامه إظهارا لسموّه على ما سواه من جنسه، فكل ما له و منه خاتم لما دونه بجميع غيبه و شهادته،و هو ذو بداية كونه.).

ص: 254


1- رواه مسلم(132/8).
2- رواه مسلم(58/7).
3- رواه البخاري(237/4).
4- رواه البخاري(233/4)،و مسلم(59/7).
5- رواه مسلم(130/1).

و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا خاتم الأنبياء،و مسجدي خاتم المساجد (1)»،فكذلك يجري هذا المعنى في كل ما هو له و أضيف إليه،كما أن أمته خاتم الأمم،و له الختم نبوة في بداية يومه،و هداية في خاتمه يومه،كما قال عليّ عليه السّلام لما أنبأ بانتقال النور في الظهور الذي كان يظهر في وجوه آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من لدن آدم إليه:«إنه لما توفي النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم انتقل ظهور النور إلى آله و ذريته،فقال:ثم انتقل النور إلى غرائزنا و لمع مع أئمتنا،فنحن أنوار السماء، و أنوار الأرض،فبنا النجاة،و فينا مكنون العلم،و بمهدينا تنقطع الحجج (2)»،خاتم الأئمة و منقذ الأمة،فهو صلّى اللّه عليه و سلّم و ما له و ما منه كل خاتم لما هو أصله و ما يرجع إليه مما سواه،و بما أن الخاتم زينة و حلية فهو صلّى اللّه عليه و سلّم زينة الكون و حليته،الذي به علن أمر اللّه،و أضاء نور اللّه، و أنقذ اللّه به خواتم أمره و بداياته،فلذلك ما جعل اللّه له لإنقاذ أوامره خاتمه الذي اتخذه فكان يلبسه في يده اليمنى تارة و فى يده اليسرى تارة؛إشعارا باستواء أمره ميمنة و ميسرة، كما أن كلتا يدي ربّه يمين مباركة،فلذلك كلتا يديه صلّى اللّه عليه و سلّم يمين مباركة،و كان ذلك أيضا باد في آله.

قال عليّ رضي اللّه عنه في أمر الوضوء:«لا نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا إذا أسبغنا الوضوء (3)»،و ذلك بما أن الخاتم مظهر استواء طرفي حلقته بما كمل من صورته باتصال غيبه من طرفيه سواء شهادته،و لما لآله من تحققهم بختمه أمر عليّا عليه السّلام أن ينقش على فصّ خاتمه:«نحن باللّه و له (4)»؛أداء للمعنى الختميّ،و دخولا للاسم المحمديّ في مسمى هذا الإضمار الجامع كلمة(نحن)؛ليكون اسمه الخاتم منقوشا على خواتم آله إضمارا كما هو منقوش على خاتمه هو إظهارا،أو لما كان هو صلّى اللّه عليه و سلّم الخاتم و صورته صورة هجاء محمد كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه خلق آدم على صورة هجاء اسمي(محمد)،فالرأس و الوجه بمنزلة الميم،و اليدان إذا مددتهما بمنزلة الحاء،و البطن بمنزلة الميم،و الرجلان بمنزلة الدال،ه.

ص: 255


1- رواه الديلمي في الفردوس(45/1).
2- لم أقف عليه.
3- لم أقف عليه.
4- تقدم تخريجه.

فهو محمد و لا فخر (1)»،كذلك نقش صلّى اللّه عليه و سلّم على خاتمه صورته أمرا فكان عليه:(محمد رسول اللّه)،و بما أن الخاتم حافظ لما هو عليه لم يظهر الاختلاف في أمر الخلافة حتى سقط خاتمه صلّى اللّه عليه و سلّم من يد عثمان رضي اللّه عنه في بئر أريس (2)،و لذلك ذكره صلّى اللّه عليه و سلّم حفيظة،و وجود آليته حفيظة كما قال تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33].

كذلك ذكره صلّى اللّه عليه و سلّم أمان من كل مخافة كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا الذي من أجلي نجّى اللّه نوحا و من معه لما كتب حول السفينة:(لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه)،فنطقت السفينة فقالت:

ألا و كل من دخل فيّ فهو في ضمان اللّه حتى يخرج،و لا فخر (3)»،كل ذلك لهيبة ظهور خاتم الملك على ما ظهر عليه بما هو خالص له لا لسواه،و مسلّم ممن سواه له،مسلّم ذاته لمن هو له كما قيل له: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20].

فهو من اللّه بمنزلة الخاتم الذي لا حراك له و لا سكون إلا بيد من الخاتم له،فلذلك انتهى إسلامه إلى أولية الإسلام حتى لقّنه اللّه أن يقول: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:

162،163]،و لذلك ما ظهر منه فهو منسوب إلى اللّه دونه،كما قيل له: وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17].

و قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ [النساء:80].

و قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] فأجرى تعالى عليه اسمه العظيم في غير موضع من كتابه،و ذلك بما هو خاتم،و الخاتم متّصل الأول بالآخر فيما هو كذلك كان وجوده له بما هو وجوده لربّه في:«كان اللّه و لا شيءح.

ص: 256


1- حديث كشفي صحيح.
2- رواه البخاري في الصحيح(1343/3)،و في الكنى(53/1)،و مسلم(1656/3)،و أبو داود(4 88/)،و النسائي في الكبرى(457/5)،و ابن سعد في الطبقات(473/1)،و أبو عوانة في مسنده(/5 262).
3- حديث كشفي صحيح.

معه (1)»،و صحبة ذلك في كل رتبة،فكان خاتما لكل رتبة فأعلن منها بأنه خاتم النبيين، و ألاح إفهامها كمال الختم،فهو الخاتم الذي ليس وراء ختمه خاتم.

انتهى و اللّه أعلم.

النور السابع و العشرون

و هو نور الخصوصية:

فهو الذي يكشف له أنه لا مقام أمامه،و لأمر ما بعده،و السعادة الإلهية،فإنه نال ما منعه الغير في السعادة.

قلت:فهو صلّى اللّه عليه و سلّم السعيد لما ورد:«أنا سبيل اللّه،الداعي إليه،من صلّى عليّ نجا و فاز، السعيد في الدنيا و الآخرة،فلا سعيد مثله (2)».

و قيل:السعيد المفرد بالسعادة السابقة،و قيل:السعيد لتوليه أسباب السعادة.

النور الثامن و العشرون

و هو نور الخير المحض:

فهو الذي يكشف له عن كمال ما ظهر منه و ما بطن له،فإنه في نومه معصوم الخيال،و في ذلك العلوم،و في قيامه و يقظته لا ينطق عن الهوى،و في عقله فلم تغلب قط شهوته عقله:فإن علم الكتاب و الفضائل على ما ينبغي،و علم إذا أفرط في ذلك حتى قال اللّه: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ قيل:من السّنّة.

*قلت:قال الشيخ العطار:أحواله صلّى اللّه عليه و سلّم لا يقاس عليها حال؛فإنه مرسل بالمقامين، مقام الظاهر و مقام الباطن،و المخاطب بالأول عموم الخلق،و بالثاني خواص الخواص، و يكفيهم الإشارة بخلاف الأول،فرجع ذلك إلى ما قلنا من أن أحواله لا يقاس عليها غيرها.

ص: 257


1- تقدم تخريجه.
2- ذكره الأبشيهي في المحاسن(ص 222)بتحقيقنا.

و اعلم أنه صلّى اللّه عليه و سلّم من حين نشأته الروحية أزلا إلى تنزله إلى الحس،و منه إلى البرزخ، و منه إلى الدار الآخرة،لم يحجبه عن مشاهدة ربه حجاب و غفلة أصلا،بل هو كل آن ملتفت إلى ربه،قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين (1)».

فأعلمه تعالى بنبوته،و استصحب ذلك بالالتفات إليه تعالى إلى حين خلق جسمه ببلد لم يكن فيها موحد غيره،ثم صار يتحنث بغار حراء إلى أن أرسله اللّه تعالى إلى كافة خلقه،و قد قال مشيرا إلى استصحاب هذه المشاهدة:«تنام عيناي و لا ينام قلبي (2)».

فهو نائم حسّا ليس نائما معنى كما أن موته كذلك،و هذا مقام ما ناله بشر سواه، مع أنه ببشريته قد وقع له تخلل بهذا المقام دون روحانيته.

و اعلم أن الكامل إذا تخلق بالأسماء الإلهية و تحقق بها يصير ملحوظا من جانب الأزل محفوظا بالكلية عن أن يلم به الخطأ أو يعرض له الزلل لكونه تخلق في جميع حركاته و سكناته بأسماء الحق،و تحقق في ذاته و صفاته بطهارته عن أحكام ما سوى الحق بحيث لم يبق له فعل سوى فعل حق بحق لحق.

قال تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17].

و قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ [الفتح:10].

و قال: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم:3]؛لتحققه بجميع ذراته و سائر حالاته بالحق تعالى،و من وصل لهذه المرتبة لا تكون له إرادة ممتازة عن إرادته تعالى،بل هو مرآة إرادة ربه و غيرها من الصفات،و حينئذ لا تخرج أحكامه عن أحكامه،و لا تصرفاته الباطنية عن تصرفه،و يقع ما يريده من غير احتياج إلى قول و لا دعاء لموافقة إرادته لإرادة ربه و هو تعالى فعال لما يريد.

و قال العارف باللّه سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه:«كشف الغمة»في الباب).

ص: 258


1- ذكره المناوي في فيض القدير(54/5)،و العجلوني في كشف الخفا(169/2).
2- رواه أبو داود(52/1)،و الترمذي(518/4)،و أحمد في المسند(220/1).

الأول من أبواب النكاح في بيان جملة من خصائصه صلّى اللّه عليه و سلّم مما ذكره في آخره أنه نقله عن خط شيخه السيوطي في القسم الثامن مما اختص به من الكرامات و الفضائل ما نصه:

و كان له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، و كما رخص في النياحة لخولة بنت حكيم،و في الإحداد:أي في تركه لأسماء بنت عميس،و أسلم رجل على أنه لا يصلّي إلا صلاتين،فقبل منه ذلك،و خص نساء المهاجرين بأن يرثن دور أزواجهن؛لكونهن غرائب لا مأوى لهن،كما تقدّم في كتاب الفرائض بيانه،و كان أنس يصوم من طلوع الشمس لا من طلوع الفجر،فالظاهر أنها خصوصية له،و أصام أطفال بيته و هم رضع،انتهى منه بلفظه.

النور التاسع و العشرون

فهو نور اللواء:

و هو النور الذي يكشف له أنه ينشر مجده في القيامة.

*قلت:اللواء:علم أجلّ من يتقدّم بالجيوش من نبيّ في زمان النبوة،أو خليفة في حضرة الخلافة،أو أمير في موقع الإمارة،أو ملك في زمن الملك،و هو ما يرجع إليه الاتّباع من علم مشهود بجمعهم إلى واحد من أعلام متفرقة،فهو علم الأعلام الذي تجتمع إليه الأعلام الجامعة،فهو صلّى اللّه عليه و سلّم في ذاته لواء حمد ربّه،و اسمه أحمد و محمد لواء الأسماء،و هو صاحب اللواء يوم القيامة كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا صاحب لواء الحمد يوم القيامة،و لوائي يبلغ المشرق و المغرب،و الأنبياء و المرسلين كلّهم تحت لوائي،و لا فخر (1)».

و إنما اختصّ صلّى اللّه عليه و سلّم بلواء الحمد بما أشهده اللّه من كلية أمر اللّه و خلقه جمعا،لا مذمّة فيه، و لا عيب يلحقه،و لا نقص يتطرق إليه من حيث إنه ينظر إليه من هو قائم بقيوميّة اللّه حمد في جمعه و بفضله و رتقه و فتقه و وصله و فصله،و إنما يفقد الحمد من ينظر إلى التفضيل

ص: 259


1- رواه الترمذي(308/5)،و أحمد(381/1)،و الحاكم في المستدرك(83/1)،و البيهقي في الشعب(181/2)،و أبو يعلى في مسنده(215/4)،و ذكره العجلوني في كشف الخفا(16/1)، و المناوي في فيض القدير(364/6).

و التفريق غير ناشئ عن وحدة جمع،و لا مفروج عن جمع إحاطة،و أصل منفرد واحد، فيتفضّل له الكون في مدح و ذمّ من حيث ينحجب عن مجرى القيومية فيه و سوائها في تكوينه،فلا يكون ذا حمد و لا يزال صاحب مدح أو ذمّ مفترق و لا منفرج.

و اعلم أن نباء المعاد نباء بواسطة ملكوتي بين بادية كائن يوم الملوك و غاية مما وراء عالم الملك و الملكوت جمعا،فهو صلّى اللّه عليه و سلّم صاحب الحمد في الدنيا،و صاحب لواء الحمد في يوم المعاد،و مشهد الحمد لأهل الحمد،الذي إليه الانتهاء شهادة اللواء للجمع في عقبى نهاية العود إلى اللّه،الذي إليه المنتهى و ليس وراءه مرمى،فذلك كمال الحمد الآلي في يوم الملك،و لمن شاء اللّه أن يلحق بهم فيما وراء ذلك إلى أن يرضى صلّى اللّه عليه و سلّم الرّضا الموعود الذي قيل له فيه: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى:5].

و روى أحمد في المسند،و الترمذي و قال:حسن صحيح.

عن أبي سعيد الخدرى مرفوعا:«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر،و بيدى لواء الحمد و لا فخر،ما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى،و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر،و أنا أول شافع و مشفع و لا فخر (1)».

و ذكر الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية في الباب الثالث و السبعين في الجواب عن السؤال السادس و السبعين من أسئلة الحكيم الترمذي و هو:ما لواء الحمد بعد أن ذكر أنه حمد الحمد و هو أتم المحامد و أسناها و أعلاها مرتبة و إنه سمى لواء لأنه يلتوى على جميع المحامد فلا يخرج عنه حمد،و إنه لا يكون إلا بالأسماء،و آدم عليه السّلام عالم بجميعها كلها في المقام الثاني من مقامه صلّى اللّه عليه و سلّم ما نصه:

فكان قد تقدم لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم علمه بجوامع الكلم،و الأسماء كلها من الكلم،و لم تكن في الظاهر لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم عينا،فيظهر بالأسماء؛لأنه صاحبها،فظهر ذلك في أول موجود من البشر،و هو آدم عليه السّلام،فكان هو صاحب اللواء في الملائكة بحكم النيابة عن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم؛ لأنه تقدم عليه بوجوده الطيني فمتى ظهر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كان أحق بولايته و لوائه،فيأخذ اللواء).

ص: 260


1- رواه أحمد في المسند(2/3)،و الترمذي(587/5).

من آدم يوم القيامة بحكم الأصالة،فيكون آدم فمن دونه تحت لوائه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد كانت الملائكة تحت ذلك اللواء في زمن آدم فهم في الآخرة تحته،فتظهر في هذه المرتبة خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الجميع انتهى.

النور الثلاثون

و هو نور الانفراد:

فهو الذي يكشف أنه صلّى اللّه عليه و سلّم خبر متبوع قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ فمتبوعها خير متبوع.

*قلت:و هو كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«شرف أمّتي بي؛فبي يتشرّفون،و هم خير أمّة أخرجت للنّاس (1)»؛فهو أشرف الخلائق الإنسانية بدليل الكتاب و السنّة،و مجمع الحقائق الإيمانية التي لا تلبّس فيها.و أمته أشرف الأمم.

و في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه:«صار حتّى بيت المقدس،فنزل،و ربط فرسه إلى صخرة،فصلّى مع الملائكة،فلما قضيت الصلاة قالوا:يا جبريل،من هذا الذي معك؟ قال:هذا محمّد رسول اللّه،خاتم النبيين.قالوا:أو قد أرسل إليه؟!قال:نعم.قالوا:أحياه اللّه تعالى من أخ و خليفة،فنعم الأخ!و نعم الخليفة!ثم لقوا أرواح الأنبياء عليهم السلام، فأثنوا على ربّهم،و ذكر كلام واحد منهم،و هم إبراهيم عليه السّلام،و موسى،و عيسى،و داود، و سليمان عليهم السلام،ثم ذكر كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:و إن محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم أثنى على ربّه عز و جلّ، فقال:كلكم أثنى على ربّه،و أنا أثنى عليّ ربّي،الحمد للّه الذي أرسلني رحمة للعالمين كافّة،و للناس بشيرا و نذيرا،و أنزل عليّ الفرقان فيه تبيان لكل شيء،و جعل أمّتي خير أمة،فجعل أمّتي أمّة وسطا،و جعل أمّتي هم الأولون،و هم الآخرون،و شرح لي صدري، و وضع عنّي وزري،و رفع لي ذكري،و جعلني فاتحا و خاتما.فقال إبراهيم:بهذا فضلكم محمّد،و إنه واسطة عقد النبيين و رفيعهم (2)».

ص: 261


1- ذكره الأبشيهي في المحاسن(ص 329)بتحقيقنا.
2- رواه الطبري في تفسيره(8/15)،و ذكره الهيثمي(68/1)و ابن كثير(19/3).

و قال بعضهم:قد يحصل للورثة من هذه الأمة من العلوم التي اقتبسوها من مشكاة نبوته عليه الصلاة و السلام بالمتابعة له و الاقتداء ما لم يحصل للأنبياء الماضين عليهم السلام بسبب عدم كونهم من هذه الأمة و الورثة من هذه الأمة ما نالوها من جهة أنفسهم و إنما نالوها من نبوة نبيهم و لا يلزم من ذلك تفضيلهم على الأنبياء الماضين؛لأن حصول العلم من الغير السابق إليه لا تلزم الفضيلة به و إنما الفضيلة لمتبوعهم في حصوله و هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم لأن الحاصل له عليه السّلام من نبوته الكاملة.

قال الشيخ سيدي عبد الغني النابلسي في«شرح الفصوص»في الكلام على الفص اليوسفى:

و من هنا:أي من هذا المذكور و هو أن الورثة من هذه الأمة قد يحصل لهم من العلوم ما لم يحصل للأنبياء الماضين،قول-المصنف-يعني الشيخ الأكبر قدس سره،خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله.

النور الواحد و الثلاثون

و هو نور العبودية:

فهو يكشف له عن الإضافة الخاصة التي هي نفس المنعم فقط.

قال اللّه تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى .

*قلت:قال الشيخ الحرالي في شرح اسمه صلّى اللّه عليه و سلّم(عبد اللّه):العبد:المتخلّي عن ذاته لسيده،فبحسب التخلّي تتحقق العبودية،و بما هو متخلّ هو متنزّل إلى أدنى رتب التصرفات،بما أن العبد هو المعدّ للمهنة،و السيّد هو المحاط للعلوّ و الرفعة،و لما كان تجلّي الحقّ تعالى بالتعالي و الجلال كان التقرب إليه بتحقق ما يقابل علوّه من الدنوّ و عزّته من الذلّة و رفعته من المهانة،فكان أقرب القرب إلى اللّه العليّ أبعد البعد في الدنوّ و التذلل و الضّعة.

ص: 262

قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أقرب ما يكون العبد من ربّه و هو ساجد (1)»،فبحسب ظهور التذلل في التصرفات و الأوصاف و الأحوال تتحقق العبودية،فيتحقّق القرب و الدنوّ لمقابلة من العلوّ، من حيث إن أقرب قريب لا طرف منظر فيما يقابله من الطرف الآخر؛ليظهر معنى من الختم لالتقاء الطرفين.

قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يزال اللّه من العبد و العبد من اللّه ما لم يخدم،فإذا أخدم وقع عليه الحساب (2)»،و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يخدم في مهنة أهله،و يقم البيت،و يرقّع القميص،و يخصف النعل،و يتولّى علف فرسه بيده،و يناول السائل بيده،و يضع يده مع الخادم في الطحين،و يجلس للأكل جلوس العبد كجلوسه في الصلاة؛لتكون هيئته في تعبّده في صلاته و في أكله هيئة واحدة،فيكون دائم العبودية غير منصرف عنها،و لما قيل له في ذلك قال:«إنما أنا عبد،آكل كما يأكل العبد (3)».

و قيل له مرة:أ تأكل كما يأكل العبد؟!فقال:«و أيّ عبد أعبد منّي (4)».

فكان صلّى اللّه عليه و سلّم يتخلّى عن وجوه الترفعات كلها في ملبسه و مطعمه و مشربه و مبيته و مسكنه؛إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان منه صدقا عمّا في باطنه من تحقّق العبودية لربّه بما هو بمعنى الذي جاء بالصدق و صدق به،و كان يظهر ذلك في أحوال ما يغلب عليه وصف العزة تحقيقا للعبودية و تخليا للعليّ الحقّ.

دخل صلّى اللّه عليه و سلّم مكة عام الفتح حين أحلّ اللّه له ما لم يحل لأحد قبله و لا يحله لأحد بعده بما).

ص: 263


1- رواه مسلم(350/1)،و أبو داود(231/1)،و النسائي في الكبرى(242/1)،و أحمد(421/2 )،و أبو نعيم في الحلية(71/6)،و ابن أبي عاصم في الزهد(196/1).
2- رواه الديلمي في الفردوس(92/3)،و البيهقي في الشعب(380/7)،و أبو نعيم في الحلية(/1 215)،و معمر بن راشد في مسنده(97/11).
3- رواه البيهقي في الكبرى(283/7)،و هناد في الزهد(411/2)،و الديلمي في الفردوس(341/1 )،و ابن سعد في الطبقات(371/1).
4- رواه الطبراني في الكبير(200/8)،و ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(21/9).

حلّ له من حرمة حرمه،فدخل و على رأسه المغفر حربا،و هو صلّى اللّه عليه و سلّم قد وضع ذقنه الكريمة على مقدمة رحله؛تواضعا للّه عزّ و جلّ (1)،فتخلّى عن أسوأ الجلسة؛إظهارا لهيئة التواضع لصورة العبودية،و لما خيّر بين أن يكون نبيّا عبدا أو يكون نبيّا ملكا اختار أن يكون نبيّا عبدا،بما أن العبودية للخلق حق متحقق دائم خاصّ،لم يتصف به الحقّ تعالى،فكل اسم تسمّى به الحقّ فحقّ العبوديّة التخلّي عنه؛لأن ما تحلى به السيد فحق على العبد التخلّي عنه،فالملك اسم تعال لا يتحقّق للعبد،فاختار ما هو دائم ثابت عمّا هو زائل ذاهب، حتى أن وصف الملك إنما يبدو أمره و كثره ساعة من نهار.

كما قال الصادقون:إن ربّنا غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله،و لن يغضب بعده مثله (2)،فلم يكن في الأسماء ما يتحقّق للعبد دواما و ثباتا إلا العبد،و ما سواه اسم لظهور أمر في وقت من أيام اللّه،كما أن الاسم العظيم(اللّه)الاسم الدائم القائم الذي لا يختصّ بمثل من الخلق،و سائر أسمائه أسماء تظهر أمد الوقت.

كما قيل:رحمان الدنيا و رحيم الآخرة ملك يوم الدين.

فلما كان اسم(اللّه)العظيم هو الدائم تعين لإضافة ما هو به من أسماء الخلق،و هو اسم العبد فكان اسم العبد راتبا له دائما عليه،و كل اسم سواه خاصّ بحال أو وقت، فكانت العبودية للعبد مورد متقابلاته،فكان الماحي لاسمائه الثابت له دواما،كما كان اسم اللّه المحيط بأسمائه الدائم له كمالا،فالبادي عبد كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«وكلنا لك عبد (3)».

و هو صلّى اللّه عليه و سلّم قلب ذلك العبد الذي منه مدده ظاهر جسمانيته و باطن روحانيته،بما هو النور الأول الذي خلق من نوره كل كائن،و لسانه المعبر عنه،و إمامه المتقدم به،و شفيعه الموصل إليه،و جميع أسمائه متشعبة من أصل عبدانيته التي اختص بها اختصاص ربّه بالإلهيّة).

ص: 264


1- رواه البخاري(655/2)،و أبو داود(60/3)،و الترمذي(202/4)،و النسائي في الكبرى(/5 171)،و أحمد(185/3).
2- رواه البخاري(1215/3)،و مسلم(185/1)،و الترمذي(622/4).
3- رواه الدارمي في السنن(412/2)،و أبو يعلى في مسنده(142/1).

و اللاهوتيّة،فلم يكن أثبت له في الأسماء من هذا الاسم و لا أتم إحاطة،فالعبد باللّه قائم، كما كان يقول صلّى اللّه عليه و سلّم:«أ إنا بك! (1)».

و كما قال لعليّ رضي اللّه عنه في نقش خاتمه:«نحن باللّه (2)».

فإذا نطق الناطق بهذا الاسم:(عبد اللّه)أحاط إحاطة كمال بالبادي العبدانيّ،فدخل كل تفصيل في ضمن نطقه و معناه و حقيقته،كما انتظم اسم العظيم(اللّه)جميع أسمائه مما لا يناله الإحصاء،كذلك اسمه(العبد)ينتظم من أسمائه صلّى اللّه عليه و سلّم مما لا يناله الإحصاء.

كذلك كان يقول صلّى اللّه عليه و سلّم:«قولوا:عبد اللّه (3)»؛و لأن سائر الأسماء التي هي من أوصاف تجلّيات اللّه عن اسمه مما يسلمها العبد إلى ربّه؛لأنها مشقوقة من أسماء اللّه و أوصافه،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا الذي شقّ اللّه اسمي من اسمه،فاللّه محمود و أنا محمد و لا فخر (4)»،و سائر أسمائه تفاضيل من معنى ما يجمعه له(محمد)إلا اسم(العبد)؛فإنه ليس له بمشوق من اسم من أسماء اللّه تعالى،فكان أصل كل اسم له،فأسلم اللّه ما سواه أداء لأمانته،فكذلك كان يقول صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تضرّوني كما أضرّت النصارى عيسى،و لكن قولوا:عبد اللّه (5)»،فاستثبت ما هو ثابت،و أسلم للّه ما هو له لا لسواه،و ليس للعبد إلا اسم العبد و للّه كل شيء،فعبد اللّه اسم ملء و إحاطة لا يدع شيئا،و لذلك أحبّ الأسماء إلى اللّه(عبد اللّه)،و(عبد اللّه)لا يتطرق إليه تعبد لشيء سواه بما حجب الخلق و أبق بهم عن استخلاص العبودية للّه،حتى لم يصحّ كمالا إلا لعبد اللّه محمد رسول اللّه؛لأن من رغب في شيء فقد عبده و صار عبده، و المرء رقّ ما استولى عليه أمر من أمر الدنيا أو أمر من أمر الآخرة أو أمر مما سوى اللّه، فهو عبد ذلك الشيء لا عبد اللّه،حتى يكون كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«تعس عبد الديا نار و عبد الدّرهم و عبد الخميصة (6)».).

ص: 265


1- رواه أبو يعلى في مسنده(433/1).
2- تقدم تخريجه.
3- تقدم تخريجه.
4- تقدم تخريجه.
5- تقدم تخريجه.
6- رواه البخاري(1057/3)،و ابن ماجه(1386/2)،و البيهقي في الشعب(41/4).

و كذلك يصير المرء عبد أمله و عبد سلطانه و عبد ماله و عبد ولده،فما تحقق بالعبودية للّه إلا من استخلص قلبه له،فكان قلب المؤمن الذي وسعه،كما قال تعالى:«و وسعني قلب عبدي المؤمن (1)»،فذلك عبد اللّه الذي منه كل شيء،و هو من لي كل شيء،و وليّ كل شيء،و اللّه وليه و مولاه،و هو العبد الذي يذهبه اللّه عنه فيجري عليه أمره كما فعل لعبد اللّه حبيبه حيث أجرى عليه اسمه العظيم في كتابه المبين فيما لا يكاد يحصى و لا يهتدى إليه إلا بعناية إفهام من اللّه إلا ما هو باد نحو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ [الفتح:10]،حتى يجري ذلك على حواسه،كما قال في قوله:«فأكون سمعه و بصره (2)»الحديث.

فذلك عبد اللّه إذا ذكرت اسمه لم يبق من ورائه ذكر،فكان مضمنا لكل حمد،هو لعبد اللّه بما هو للّه بما العبد من طينة سيده،و اللّه الوليّ الحميد.

و قال الشيخ العطار في شرح الصلاة للشيخ الأكبر:(الجامع بين العبودية و الربوبية):

فمظهره صلّى اللّه عليه و سلّم وسع الحق بجميع أسمائه و صفاته،و كل من هو كذلك كان مظهره جامعا لكل مظهر من مظاهر الحق تعالى،حيث أن كل واحد منها مظهر اسم من الأسماء،و كل الأسماء كانت بمظهره صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان جامعا بين العبودية،أعني من حيث أن مظهره جمع كل مظهر؛إذ المظهر خاضع لمن ظهر به عبد له.

و الربوبية من حيث أن اسمه الظاهر به جمع كل الأسماء،و هو الاسم(اللّه)رب الأرباب،فعبوديته أحاطت بكل عبودية،و ربوبيته أحاطت بكل ربّ.

فقد جمع صلّى اللّه عليه و سلّم بحقيقته الظاهرة بين العبودية و الربوبية،كما جمع ذلك بباطنه و قد تقدّم ذلك،و لم تكن هذه الجمعية لغيره أبدا؛لعدم الحيطة التامة في غيره.

فهو العبد حقيقة،من أجل هذا ذكر في القرآن بلفظ العبد كقوله تعالى:).

ص: 266


1- تقدم تخريجه.
2- رواه الحكيم الترمذي في النوادر(265/1)،و ذكره ابن حجر في فتح الباري(344/11)،و في لسان الميزان(83/4).

أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا [الأنفال:41].

و قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا عبد اللّه و رسوله (1)».

و إذا جمع بين العبودية و الربوبية جمع الجميع؛إذ الحال دائر بين عبد و رب و لا ثالث لهما،و في هذه الجملة من الاصطلاحات المظهر و العبودية و الربوبية،و قد مضى شرح ذلك إلا العبودية،و هي انتساب العبد إلى مظهره،مثل أن تقول:قاموا بين يدي ربهم،و العبودة هي نسبة العبد إليه تعالى لا إلى أحد سواه.

و قد قال حضرة الشيخ في الفتوحات المكية:إن عباد اللّه منسوبون إلى العبودة لا إلى العبودية؛لأنهم لو نسبوا إليها لانتسبوا إلى الصفة لا إليه.

النور الثاني و الثلاثون

و هو نور التزكية:

فهو يكشف له كونه صلّى اللّه عليه و سلّم حجة اللّه على العالمين.

*قلت:قال الحرالي:هو حجة اللّه على الخلائق،و الحجّة عليه أعلى الرتبتين في حكمة اللّه لأدناهما قولا و جدلا،و لما كان صلّى اللّه عليه و سلّم أعلى في كل رتبة من رتب الحكمة كما هو أعظم في بادئ كل كلمة كان علوّه على أعلى الحكمة حجة على ما دونه،و كل شيء من الخلائق منه فهو حجة على ما كان منه،كما أن الأصل حجة على فرعه لا الفرع ثمرة أصله،و لما كان صلّى اللّه عليه و سلّم متنزلا مع كل رتبة خلقا و أمرا كان حجة في كل رتبة دنيا أو عليا على الرتبة التي دونها بما له في تلك الرتبة العليا على الدنيا من الأحمدية فيها،و لأنه رسول اللّه للخلق من أنفسهم؛فهو حجة على كل نفس من حيث مسرى أحمديته إليها،من حيث ما أوتيت و اتّسعت.

قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها [الطلاق:7].

ص: 267


1- رواه البخاري(1575/4)،و مسلم(735/2).

و قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها [البقرة:286].

فمن تفضيل ذلك أنه في أمور الطبع حجة على ذي طبع:غدر أو كذب كان عليه حجة بما هو حكم بشر في حكم البشرية،و آدميّ في حكم الآدمية،و يشارك الخلق في ذات طباعهم مع علوّه في رتبة أحمدية ذلك الطبع،فلذلك ألزم كافة الخلائق برسالته من حيث إنه في الطباع رسول بكرم طبعه،كما هو في الديانة رسول بعلوّ ديانته،كذلك هو في رتب المعقولات و النظر في الدلالات و التفكّر في الآيات؛فهو حجّة اللّه على كل ذي عقل في عقله،و على كل ذي دين في دينه،و على كل ذي طبع في طبعه،كما هو كامل جامع،له في كل ما في الفطرة و الجبلة علوّ الأحمدية لذلك،بوجد سنته صلّى اللّه عليه و سلّم و حلمه و أفعاله و أحواله في جميع تصرفاته الطبيعيّة و العقليّة و الدينيّة و جميع ما يشاركه فيه خلق منبئة و مظهرة لأعلى رتبة فيما فيه بادئها بين ذلة النفس إلى العزّة باللّه فما بينهما من الأحوال و التصرفات،فهو من حيث علوّ المشاركة في كل رتبة حجّة على أهل تلك الرتبة بتنزله إلى كل رتبة و تحققه في أحمديّة تلك الرتبة،فهو بما له من شكر العبادة حجّة اللّه على كل عابد،و بما له من مزيد العلم و إحاطته حجّة اللّه على كل عالم،و بما له من علوّ الإيمان حجّة اللّه على كل مؤمن،و بما له من كمال الإسلام حجّة اللّه على كل مسلم،و بما له من تمام الإحسان حجّة اللّه على كل محسن،و بما له من صفاء الإيقان حجّة اللّه على كل موقن،كذلك في جميع رتب الديانة،و لذلك هو صلّى اللّه عليه و سلّم في جميع الأحوال النفسية،فهو بخلقه العظيم حجّة اللّه على كل ذي خلق و تخلّق،كذلك في تفاضيل أحوال الأخلاق كلها من الصبر و الشكر و الرضا و الطمأنينة و جميع الأحوال و الأخلاق النفسانيّة،كذلك هو في الأمور الطبيعيّة في اقتناعه صلّى اللّه عليه و سلّم لنفسه و لآله بغير الوقت في مطعم أو مشرب أو ملبس أو مأوى،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«اللّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا (1)»،«اللّهمّ اجعل رزق آل محمد كفافا (2)».

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك حجّة على جميع رتب الخلائق في بادئ خلقهم و باطن أمرهم.).

ص: 268


1- رواه البخاري(2372/5)،و مسلم(730/2)،و الترمذي(580/4)،و أحمد(446/2)،و ابن ماجه(1387/2)،و ابن أبي شيبة في المصنف(84/7)،و الخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع و التفريق(351/2)،و البيهقي في الشعب(168/2)،و في الكبرى(46/7)،و ذكره المناوي في فيض القدير(479/5).
2- رواه ابن حبان في الصحيح(254/14)،و ذكره العجلوني في كشف الخفا(471/1).

قلت:و هو أيضا:(لسان الحجّة)في جميع الكتب المنزّلة؛فهو حجة اللّه تبارك و تعالى على سائر المخلوقات،اندرج كل شيء في فضله،خلقه القرآن العظيم،حجّة المتكلّمين في مدار الأزمنة،و لسان حجّة المقام العلوي و السفلي.

و قد كرّر بعض العلماء أن الحجّة من حيثية الدين قوة تمكين العبد فيما أقامه فيه، و تعريفها:ذكر الشيء المنعوت به،المتّصف على ما قرّر.

قال بعض العلماء:الحجّة المعرفة القائمة بكيفية العلوم الإلهية:من وهبيّ،و كسبيّ، و هذا أحسن ما قال أهل التفسير.

و قال التيفاشي:الحجّة القاطعة لجميع المخلوقات ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم؛فهو قائم بسائر ما قامت به العباد و الزهّاد و الملائكة و غيرهم:من سائر الوظائف؛اطّلاعا من اللّه تبارك و تعالى.

و قال الإمام المنذري:جميع أعمال العباد اندرجات في عمله،فما هيأ اللّه تبارك و تعالى لعبد سببا من أسباب السعادة إلا و هو منه مأخوذ،و له فيه أجر،فهو لسان الحجّة صلّى اللّه عليه و سلّم.

قاله الشيخ الأبشيهي.

و بالجملة:فهو صلّى اللّه عليه و سلّم ثابت الحجة،و صاحب الحجة البالغة القاطعة،و الحجة على سائر العباد،و حجة اللّه على أعدائه صلّى اللّه عليه و سلّم.

ص: 269

النور الثالث و الثلاثون:

و هو نور المكانة الكبرى:

فهو الذي يكشف له عن جلاله صلّى اللّه عليه و سلّم في التكميل و في التحديد و في التتميم و عوالم غير هذه و معنى غير هذا كله.

و أيضا كون بعض أمته يتجلى اللّه خاصة و للناس عامة،و هذه مرتبة أعلى مما ذكر؛ و بهذا يكشف له صلّى اللّه عليه و سلّم عن أمر ما عند العقول منه ما تفرض مقدمة،و لا تضع قضية،و لا تنقل مخاطبة صناعية،و هنا يجب الإمساك عليه فاعلم ذلك كله.

و كيف كشف له حتى إن أمورا قلّ وجودها في الملائكة،فكيف في غيرهم!و هذا كشف لنا أنه في عوالم غير هذه،و بقى في ذلك قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107].

فاعلم و لا تقل يا من هو من أهله إلا أنه هو النور المحض،و له ما لا عين رأت و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر.

كملت و الحمد للّه رب العالمين

*قلت:قال الغوث سيدي محمد وفا قدس اللّه سره:اعلم وفّقك اللّه أن العوالم (1)الثلاث:و هو عالم العقل و بما فيه من أسرار ذاتية،لاهوتية و صفات قدوسية واجبية، و معان نورانية،هي أقوية التفرد و التحكمات.

و موضع إبداء الأسرار و الصفات بالتجليات.

ص: 270


1- قال سيدي ابن ناصر الكيلاني:العالم مأخوذ من العلامة،و هو عبارة عن كل ما سوى اللّه، و العوالم كثيرة جدّا،و أمهاتها هي الحضرات الوجوديّة،و أول العوالم المتعيّنة من العماء عالم المثال المطلق،ثم عالم الرسم،ثم عالم القلم و اللوح،ثم عالم الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام تحقيقي الهيولي،و الجسم الكل،ثم العرش،ثم هكذا على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا،ثم عالم البرزخ،ثم عالم الحشر،ثم عالم جهنم،ثم عالم الجنان،ثم عالم الكثيب،ثم حضرة أحديّة الجمع و الوجود الذي هو ينبوع جميع العوالم كلها،هكذا كاشفه صاحب الكشف الأتم،فافهم و اللّه الهادي و المفهم.و انظر:مجمع البحرين شرح الفصين(بتحقيقنا).

كان هذا عالم الجبروت،مفارقا لما سواه بذاته و صفاته و إياه،و بما تنزّه عن الزمان و المكان،و الأين و المثل و الكيف،و الإطعام و الأذواق،و الألوان،و كانت النفس الناطقة و هي العالم القريب بالتجريد من صفاته المحققة بالتوحيد،هي عرشه و فرشه،و حضرته و قدسه،و هي عالم الملائكة العظام،و الحجب المقدسة الكرام،ثم إن عالم الكون و الفساد و الطباع الأربعة الأكوان،و بما انحصروا في القوة الحيوان،و لذلك كان النتاج من حيث هذه الروح الحيوانية عن الكل بالجزء،تبرز نوادرا من القوة للفعل،ثم تتطور و تنتقل من الاستعداد المعدني،ثم استعداد النبات،ثم استعداد الحيوان،ثم تتنزل الروح من العالم المشترك البرزخي،الذي هو الفصل بين العالمين،و الوصل بين المتباعدين، عالم الروح الأمين بالاستعدادات الإنسانية إلى الكمّل من الأشخاص الحيوانية،و بما نزفت الممكنات الكونيات بتنزل الواجبيات الآمريات،حكمة كحكمة،و سنة كسنة.

و اعلم أنه ما خلف حجاب هذه الأكوان الحيوان غير عالم الجان،و نهايتها الإنسان، كما أن غاية الإنسان الرحمن،و ما بين الإنسان و الرحمن إلا الملائكة المقرّبون،و الأرواح القدسيون المكرمون،و ما نزفت من الأرواح الحيوانية تكون بالملائكية،و إن عكست انتقلت إلى الشيطانية،و مهما نزفت من الإنسانية إلى الملائكية فإلى النبوية،فإن أحجمت وقفت مع الملائكية،و إن نفدت فإلى الحضرات الرحمانية.

هذا فيما يعطى الترقي و التلقي مع الجاذب الملكي،و الدليل النبوي.

و أما فيما تعطى التنزلات الربّانية بالبطانات السريانية،فتخصيص لا يعقل سره و لا يدرك كنهه.

و اعلم أن الاسم الذات المتّصف بجميع الصفات بالذات يتجلّى على أسماء الصفات الذات الوجودية،فيستغرقها في الذات،فإذا صارت ذوات و كلمات تامات تجلّت على ما يليها من أسماء الأفعال،فرقتها إلى مقاماتها التي عنها انتقلت،فإذا كانت الأفعال صفات للذات نقلت المفعولات بالتجليات إلى مقام الأفعال،ثم يبرز الحيوان من أفلاكه الأربعة الطباع لإحكام الترتيب للأوضاع،و الأمر كذلك و لا نهاية لذلك،أسرار تتنزل بالإلهية إلى الحيوانية،و تترقّى بالروحانية إلى الرحمانية،و ما بين هذا التنزل و الترقّي

ص: 271

فقعرات سجينيات أرضيات،و درجات رضوانيات سماويات،و حضرات و غير حضرات، و عوالم مفترقات،فسبحان من لا يدرك كنهه،و لا يبلغ شأوه،و لا ينفد أمره انتهى.

و قال الشيخ الكتاني:و قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ .

و قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]فإن العالمين هم جميع الخلق من إنس و جن و ملك و حيوان و معدن و نبات و عرش و ما فوقه و ما تحته إلى ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى فيكون رحمة للكل و مأمورا بإنذار الكل و الكل مأمور باتباعه و طاعته و الإيمان به و الانقياد إليه و الخضوع و الذل بين يديه و ما ذاك إلا لأنه خليفة اللّه عليهم الممد جميعهم و المصرف بأمر اللّه فيهم،فإن من شأن خليفة الملك المستخلف على كل مملكته أن يتصرف فيها كلها بأمره و ينقاد له من فيها بأسره و يخضعوا له كما يخضعون للملك و تنفذ فيهم أوامره كما تنفذ أوامر الملك.

و مثل الآية الأولى حديث:«إن اللّه بعثني رحمة للعالمين و هدى للمتقين (1)».

أخرجه أبو نعيم في دلائله عن أبي أمامة.

و حديث:«إن اللّه بعثني رحمة للعالمين كافة».

أخرجه الديلمي عن المسور بن مخرمة.

و أخرج أبو نعيم في«الدلائل»عن أبي أمامة مرفوعا:«إن اللّه بعثني رحمة للعالمين و هدى للمتقين».

و أخرج ابن منده في«الصحابة»عن أنس مرفوعا:«بعثني اللّه هدى و رحمة للعالمين».

و أخرج أحمد،و أبو داود،و الطبراني،عن سلمان مرفوعا:«أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبى،أو لعنته لعنة إنما أنا رجل من ولد آدم،أغضب كما يغضبون،و إنما بعثتني رحمة للعالمين»فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة (2).).

ص: 272


1- ذكره ابن حزم في المحلى(59/9).
2- أخرجه أبو داود(215/4)،و أحمد في المسند(437/5)،و الطبراني في الكبير(259/6).

و من أسمائه أيضا عين الرحمة و رحمة العالمين قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107]:أي رحمة شاملة لكلهم عامة في جميعهم مفاضة على سائرهم من جن و إنس،و ملك و غيرهم،إيجادا و إمدادا،و امتنانا و إسعادا.

و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي اللّه عنه:جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة و نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم هو عين الرحمة.

قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107].

و إذا كان عين الرحمة فهو أصل الرحمات و ينبوعها،و ليس شيء منها خارجا عنه بل كل مرحوم مسهوم منه و آخذ لحصته من جنابه.

و قال الشيخ عبد الجليل القصري في«شعب الإيمان»له في الشعبة الموفية خمسين و هي شعبة حب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ذكره لهذه الآية ما نصه:

فهو صلّى اللّه عليه و سلّم المرحوم به العالمون بنص هذه الآية،ثم قال بعد كلام في بيان ذلك فإذا فهمت هذا كله علمت أنه رحمة للعالمين و بركة شاعت و ظهرت في الوجود أو تظهر من أول الإيجاد إلى آخره إنما ذلك بسببه صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى.

أخرج أبو عبد اللّه محمد الترمذي الحكيم في«نوادر الأصول»جعل اللّه تعالى للجنة بابا زائدا،و هو باب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو باب الرحمة و باب التوبة،فهو منذ خلقه اللّه مفتوح لا يغلق،فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق،فلم يفتح إلى يوم القيامة و سائر أبواب الأعمال مقسومة على أعمال البر.

ثم قال:فأما باب التوبة من الجنة الزائد على الأبواب،فليس هو باب عمل إنما هو باب الرحمة العظمى،إليه تدخل توبة العباد إلى اللّه تعالى،و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنا نبيّ التوبة و أنا رحمة مهداه».

فنفس محمد صلّى اللّه عليه و سلّم رحمة للعالمين و سائر الأنبياء مبعثهم رحمة،فلذلك سعد من أجاب ما بعثوا به من الهدى و عوجل بالعذاب،من أعرض عنهم و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مولده و نفسه رحمة و أمان،و كذا مدفنه إلى نفخ الصور،فحرمة تلك الرحمة و أمانه قائم انتهى.

ص: 273

و قيل في قوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]إنها سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و إنه الرحمة التي وسعت العالمين كلهم مؤمنهم و كافرهم و منافقهم،حيوانهم و نباتهم و جمادهم،أرضهم و سماءهم،عرشهم و فرشهم،دنياهم و أخراهم.

و قيل في قوله: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]:إن الرحمة هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و الفضل من اللّه،إبرازه للعالمين و الهداية و التوفيق للإيمان به و المجيء إليه،و الزيادة له،و الاستغفار عنده انتهى.

و أما ما يتعلق بكونه صلّى اللّه عليه و سلّم النور المحض:

ففي«جواهر المعاني»نقلا عن شيخه أبي العباس التيجاني في«شرحه لجوهرة الكمال»لدى قوله فيها عين الرحمة قال ما نصه:

اعلم أن الحق سبحانه و تعالى اقتطع قطعة من النور الإلهي في غاية الصفاء و التجوهر، ثم أبطن في تلك القطعة ما شاء أن يقسمه لخلقه من العلم بصفات اللّه تعالى و أسمائه و كمالات ألوهيته،و بأحوال الكون و أسراره و منافعه و مضاره،و بالأحكام الإلهية أمرا و نهيا،و جعل تلك القطعة من النور مقر الانصباب،كل ما قسم لخلقه في سابق علمه من الرحمة الإلهية،ثم صار يفيض على خلقه،ما أقره في الحقيقة المحمدية من العلم و الرحمة، فكان بهذه المثابة هو عين الرحمة صلّى اللّه عليه و سلّم،و كان ذلك النور هو الحقيقة المحمدية،و تلك الرحمة المفاضة في ذاته هي التي يفيضها على الوجود من ذاته الكريمة،فلا يصل شيء من الرحمة إلى الوجود إلا من ذاته صلّى اللّه عليه و سلّم،فذاته الكريمة بمنزلة المقر للمياه الذي تجتمع فيه و تتفرق من ذلك المقر سواقي للسقى و الانتفاع،و لذلك قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنما أنا قاسم و اللّه معطى (1)».

أي ينظر إلى ما سبق في العلم الأزلي من الاقتطاع،ثم يفرق صلّى اللّه عليه و سلّم تلك الرحمة على حسب ذلك الاقتطاع،فلهذا سمي عين الرحمة صلّى اللّه عليه و سلّم،ثم ذكر لتسميته بعين الرحمة نسبة أخرى و وجه آخر،و هو أنه الأنموذج الجامع في إفاضة الوجود على جميع الوجود،فإنه لو لا وجوده صلّى اللّه عليه و سلّم ما كان لموجود أصلا من غير الحق سبحانه و تعالى.).

ص: 274


1- أخرجه البخاري(71).

و أطال في بيان هذا ثم قال:فبان لك أن الفيض من ذاته ينقسم إلى رحمتين:

الرحمة الأولى:إفاضة الوجود على جميع الأكوان حتى خرجت من العدم إلى الوجود.

و الرحمة الثانية:إفاضة فيض الرحمات الإلهية على جميعها من جملة الأرزاق و المنافع و المواهب و المنح،فإنه بذلك يدوم تمتعها بالوجود،قال:فإذا علمت هذا علمت أنه صلّى اللّه عليه و سلّم عين الرحمة الربانية؛لأنه رحم جميع الوجود بوجوده صلّى اللّه عليه و سلّم،و من فيض جوده أيضا رحم جميع الوجود،فلذا قيل فيه:إنه عين الرحمة الربانية صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى المراد منه.

و في جواهر المعاني ما نصه:أول موجود أوجده اللّه من حضرة الغيب هو روح سيدنا صلّى اللّه عليه و سلّم،ثم نسل اللّه أرواح العالم من روحه صلّى اللّه عليه و سلّم،و الروح هنا هي الكيفية التي بها مادة الحياة في الأجسام و خلق من روحه صلّى اللّه عليه و سلّم الأجسام النورانية كالملائكة و من ضاهاهم.

و أما الأجساد الكثيفة الظلمانية،فإنما خلقت من النسبة الثانية من نسبتي روحه صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن لروحه صلّى اللّه عليه و سلّم نسبتين أفاضهما على الوجود كله،فالنسبة الأولى نسبة النور المحض،و منه خلقت الأرواح كلها و الأجسام النورانية التي لا ظلام فيها.

النسبة الثانية نسبة الظلام،و منها خلق اللّه الأجسام الظلمانية كالشياطين و الجحيم و سائر دركاتها،فهذه نسبة العالم كله إلى صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الظل موجود بلا ريب في الحسّ تابع في الوجود للشخص، لكن لا يظهر إلا إذا كان ثمة من يظهر فيه،و كذا محل ظهور هذا الظل لا يظهر إلا به، و ذلك لأن النور المحض لا يدرك ما لم يمتزج بظلمة ما،و كذا الظلمة الصرفة لا بدّ لها في الإدراك من النور.

و الأرواح المودعة في ذوات الموجودات،هي لطائف اختص كل موجود منها بلطيفة، و هي السر الذي بين الحق و العبد لا يطّلع عليه ملك مقرب،و لا نبيّ مرسل؛لأنه من أمر اللّه،و أمر اللّه مجهول.

و قد قال اللّه تعالى أمرا إلى رسوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].

و على التقدير لا يرى و لا يشهد ذوقا و وجدانا لطائف الأرواح أحد من أهل العقول

ص: 275

إلا الرجل الذي تصفّى:أي صار صافيا من كدورات الأشباح الكثيفة؛لأنه لا يرى النور إلا بالنور،و لا اللطيف إلا باللطيف؛إذا الكثيف ظلمة،و الظلمة عدم،و العدم غير مدرك، و مع هذا لا يرى النور المحض ما لم يمتزج بظلمة ما،كما أن الظلمة لا تدرك إلا بالنور فافهم.

فبتأمل هذا كله و نظره بعين الاعتبار و الاستبصار فيه بشيء ما من الاستبصار تفهم من فحواه أنه عليه السّلام النقطة التي عليها المدار،و الفائز من ربه تعالى بما لا عين رأت،و لا أذن سمعت،و لا خطر على سرّ من الأسرار،و تعلم أنه المحبوب من الأزل،و المخصوص بالخلافة العظمى فيما لم يزل،فضلا منه تعالى عليه،و منّة سابقة من جنابه لديه.

بل قلت:إنه صلّى اللّه عليه و سلّم مقامه أعلى من مقام ما لا عين رأت،و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر.

حيث هو كما أخبر عن نفسه الشريفة المقدسة:«لا يعرف قدري غير ربي»،و الجنة ما خلقت إلا من نوره،فهو النور المحض صلّى اللّه عليه و سلّم.

خاتمة الشرح:

تم الشرح بفضل اللّه و عونه،على يد الفقير إلى ربه:أبو الحسن أحمد فريد المزيدي الشافعي الأكبري القادري المصطفوي،بداره الحقيقة المحمدية لتراث السادة الصوفية.

ص: 276

فهرس الموضوعات

مقدمة التحقيق 5

ترجمة المصنف 7

كتبه و رسائله 14

دفع الاعتراض على الشيخ 15

الرد على من رمى أهل الحق بالزندقة و الكفر 16

بطلان دعوى وحدة الوجود 21

بيان مسألة وحدة الوجود 22

مراد أهل اللّه بوحدة الوجود و الوحدة المطلقة 28

مراتب الإيمان و التصديق 31

مسألة الحلول و الاتحاد 35

نصوص القوم في نفيهم للحلول و الاتحاد المتوهم في حقهم 37

بحث في رد شبه المنكرين على السادة المتحققين 41

رسالة في أنوار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم 69

القول على أنواع أنوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم 73

شرح أنوار الأنوار المحمدية 82

النور الأول:نور العزة 82

النور الثاني نور الغاية الإنسانية 85

النور الثالث نور الإدراك 102

فائدة في رؤية الشيء و سماعه قبل وجوده للأنبياء و الأولياء 111

النور الرابع و هو نور النبوة 135

النور الخامس و هو نور النشأة 140

النور السادس و هو نور السابقة 142

النور السابع و هو نور التشريف 149

النور الثامن و هو نور التدلل 153

النور التاسع و هو نور التركيب 155

ص: 277

النور العاشر و هو نور المولد 157

النور الحادي عشر هو نور الخلقة 159

النور الثاني عشر هو نور التربية 162

النور الثالث عشر هو نور الانتقال 165

النور الرابع عشر هو نور النهاية 168

النور الخامس عشر هو نور التضمن 170

النور السادس عشر هو نور التسخير 171

النور السابع عشر هو نور العادة 175

النور الثامن عشر هو نور الأتباع 178

النور التاسع عشر هو نور اللواحق 182

النور العشرون نور الجاه 213

النور الحادي و العشرون نور الخطابة 214

النور الثاني و العشرون نور المقايسة 221

النور الثالث و العشرون نور التفضيل 225

النور الرابع و العشرون نور الإحاطة 226

النور الخامس و العشرون نور الحصر 251

النور السادس و العشرون نور العلامة و الدلالة 252

النور السابع و العشرون نور الخصوصية 257

النور الثامن و العشرون نور الخير المحض 257

النور التاسع و العشرون نور اللواء 259

النور الثلاثون نور الانفراد 261

النور الواحد و الثلاثون نور العبودية 262

النور الثاني و الثلاثون نور التزكية 267

النور الثالث و الثلاثون نور المكانة الكبرى 270

ص: 278

خاتمة نص الشيخ ابن سبعين في الأنوار 270

خاتمة الشرح للمزيدي 276

فهرس الموضوعات 278

ص: 279

هذا الكتاب

بين يدي القارئ الكريم كتاب«أنواع أنوار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم»لواحد ممن كان لكلامه و عقيدته الأثر الواضح في عقيدة المسلمين قديما و حديثا.

و حق للمسلمين أن يفتخروا بمؤلفاته التي لم يصنف غيره مثلها.

فقد ذكر أنواع الأنوار المحمدية؛لأن للنبي أنوارا تختلف باختلاف متعلقاتها و مضافاتها.

و عدة أنواره التي يعددها ابن سبعين:ثلاثة و ثلاثون نورا.

فبيّن أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كثير الأنوار؛لأن الأنبياء من نوره،و الأولياء من نوره،و كل نور أتى من عمل صالح من نوره؛فأنواره لا تحصى.

و قام الشيخ أحمد فريد المزيدي بشرح هذه الأنوار من كلام السادة العارفين،و العلماء المحققين.

فجاء مشتملا على أسرار من النور المحمدي،لو أدركت حقيقته لخرّت العقول،فضلا عن القلوب و الأرواح ساجدة بين يدي هذا الكمال المحمدي.

فهذا الكتاب لم تر المكتبة الإسلامية مثله من قبل،حيث أنه من أفضل ما صنّف في نوعه.

الناشر

ص: 280

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.