تفسیر سورة هل أتی

اشارة

تفسیر سورة هل أتی

نويسنده: عاملی، جعفر مرتضی

تعداد جلد: 2

زبان: عربی

ناشر: المرکز الإسلامي للدراسات - بیروت - لبنان

سال نشر: 1424 هجری قمری

سال نشر: 2003 میلادی

کد کنگره: BP 102/933 /ع 2 ت 7

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الاول

تقديم:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على خير خلقه،و أشرف بريته محمد و آله الطيبين الطاهرين.

و بعد..

فهذه خلاصة دروس من تفسير سورة«هل أتى».و هي دروس أسبوعية كانت قبل سنوات قد خصصت لبعض المؤمنين الواعين من شبابنا حفظهم اللّه تعالى،و أيدهم.

و كان الأخ الكريم«وفيق سعد»قد اهتم بتسجيلها،ثم باستخراجها من أشرطة التسجيل،فجزاه اللّه خير جزاء و أوفاه.

و قد ظهرت لدى الأخوة رغبة ملحة في نشرها،رجاء أن ينفع اللّه تعالى بها،فاستجبت لرغبتهم،مقدرا لهم ثقتهم هذه،شاكرا لهم هذا الإخلاص،و مكبرا فيهم هذا الإيمان،و ذلك الاندفاع الصادق لخدمة دينهم.وفقهم اللّه تعالى لكل خير و صلاح،و فتح في وجوههم أبواب النجاح و الفلاح،إنه خير مأمول،و أكرم مسئول.

و سيلاحظ القارئ الكريم:أننا نعتمد طريقة التفسير التجزيئي، بالإضافة إلى سعينا لاستخراج كوامن المعاني بأسلوب الاستدلال الاقتراحي،ثم بذل المحاولة للمقارنة،و تسجيل الملاحظة..

ص: 5

و نعني بالاستدلال الاقتراحي،أننا بعد أن نفترض بدائل للتعبير الوارد في الآية،نقارن بين الخصوصيات في البدائل،و بين خصوصيات المعنى الوارد،لنكتشف من ثم بعض جهات المعنى التي تجعل من اختيار التعبير الوارد في الآية هو المتعين،الذي لا بد منه،و لا غنى عنه..

و إنما لم نعتمد التفسير الموضوعي لأننا قد اعتقدنا أن ذلك سابق لأوانه،إذ إنه يتوقف على حصحصة المعاني،و استخراجها،و جمعها،ثم المقارنة فيما بينها،ليمكن استخراج قواعد عامة و شمولية منها بصورة سليمة و قويمة..

و من الواضح:أن القفز من هذه المرحلة إلى تلك لن يكون سوى مجازفة غير منطقية،و لا يعدو كونه اقتحاما عشوائيا غير مبرر،و سيبقى يعيش الحرمان من الحد الأدنى من الوثوق بأية نتيجة يتوصل إليها،أو يهيأ لها،إلا إذا بقي المفسر يتردد بين المعاني القريبة،التي يتداولها الناس،و التي هي على درجة من الوضوح و البداهة..

و ليقتصر الجهد من ثم على تبديل الأساليب،و إعادة تنظيم و رصف نفس الأفكار المتداولة،دون أي تصرف حقيقي فيها..

و أخيرا..فإن رجائي الأكيد من القارئ الكريم هو أن يغض الطرف عن التقصير،و أن يتحفني بما يرى ضرورة للتنبيه عليه،و أن يلفت نظري إلى ما ينبغى لفت النظر إليه.و ليتقبل مني عذري،و إليه أهدي خالص شكري..و السّلام عليه و على كل المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته..

حرر بتاريخ:شهر رمضان المبارك سنة 1423 ه

عيثا الجبل-لبنان

جعفر مرتضى العاملي

ص: 6

سورة(هل أتى)المباركة:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً* إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً* إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا* قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً* وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً* وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً* وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً* عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً* إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً

ص: 7

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً* فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً* إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً* إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

«صدق اللّه العلي العظيم»

***

ص: 8

تمهيد:

اشارة

إننا قبل أن نشرع باستعراض المعاني التي نزعم أننا بأفهامنا القاصرة قد استفدناها من آيات هذه السورة المباركة..

نود التمهيد لذلك بذكر بعض الأمور التي ترتبط بهذه السورة، فنقول:

تسمية هذه السورة:

إنّ التشرف بقراءة الأحاديث التي رويت لنا عن أهل البيت عليهم السّلام يعرفنا أنهم عليهم السّلام يعبرون عن هذه السورة بسورة«هل أتى».

و بما أن تسميات السور القرآنية ليست مزاجية،و إنما لها دلالات و إيحاءات تتجاوز موضوع التمييز بين سورة و أخرى،فإن تسمية هذه السورة ب«هل أتى»تبقى مثيرة للانتباه،حيث جاءت على شكل استفهام،ينقطع عن متابعة بيان ما وقع في مورد السؤال،كما أظهرته التسمية لسورة أخرى بسورة«براءة»،أو تسمية سورة«الأحزاب»ب «الفاضحة»،حيث يظهر من هذا:أن الهدف هو التركيز على معان و مفاهيم بعينها تستبطنها التسميات،و تشكل حافزا للسامع أو القارئ يدفعه إلى نيل هدف بعينه،و إدراك غاية بخصوصها.و ذلك بطريقة تشير للقارئ بضرورة متابعة الكلام،ليتمكن من فهم معنى تام و مقبول.

و تزيد تسمية هذه السورة ب«هل أتى»على غيرها:أنها جاءت على شكل سؤال يجر وراءه سلسلة من الأسئلة،حيث تبقى كلمة«هل أتى»

ص: 9

تلحّ عليه بمعرفة ذلك الذي يسأل عن إتيانه:ما هو؟!و ما حقيقته؟! و لما ذا يسأل عنه؟!و من المخاطب؟!و هل المخاطب هو نفس المسئول؟!و من المجيب؟!

و في الإنسان فضول،خصوصا في مثل هذه الحالات،حيث يلتقي فضوله فيها مع حب المعرفة و العلم،و مع حب اكتشاف المجهول..

فهي إذن تسمية..أريد لها أن تعطي الحافز للمعرفة،و تدفع كل سامع أو قارئ للمتابعة..فيتحرك لمواصلة التحري،برغبة و جهوزية تامة، الأمر الذي يؤهله لأن يلاحظ خصوصيات و تفاصيل،لم يكن ليلتفت إليها لو ترك على حالة من الاسترخاء و الركود،بل إن السؤال نفسه سوف يحرجه و يثيره،و يجعله أمام مسئولية البحث عن الإجابة.

أما تسمية هذه السورة بسورة«الدهر»و«الإنسان»،فهي قاصرة عن إفادة ذلك كله،إذ إن السامع لن يجد في نفسه الحافز للبحث و التقصي، و لن يشعر أنّه مسئول عن شيء،بل سيكون قادرا على حسم خياره، فيقرر الإحجام أو الإقدام.و يكون إحجامه أو إقدامه مرتبطا بحوافز و دواع أخرى،و منها عدم وجود الداعي للإقدام..

و لأجل هذا..فنحن نرى أن علينا أن نلتزم بخصوص التسمية الواردة عن أهل البيت عليهم الصلاة و السّلام،و لا نتعداها.

أما لما ذا أريد أن يكون لاسم هذه السورة هذا الإيحاء،فقد يكون هو التأكيد على الاهتمام الإلهي بتعريف الناس بحقائق إيمانية أساسية، ربما تكثر الصوارف لهم عن متابعة مسيرة التعرف عليها..لارتباطها بأهل البيت عليهم السّلام الذين سوف تكثر العداوات لهم من قبل أهل الدنيا..

و طلاب اللبانات..

ص: 10

ثواب و آثار قراءة سورة«هل أتى»..

1-في مجمع البيان:قال أبو جعفر[عليه السّلام]:من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس،زوجه اللّه من الحور العين مائة عذراء،و أربعة آلاف ثيب.و كان مع محمد[صلّى اللّه عليه و آله].

و في كتاب ثواب الأعمال،بإسناده عن أبي جعفر[عليه السّلام] مثله،غير أنه قال:ثمان مائة عذراء..

2-أبي بن كعب،عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]قال:و من قرأ سورة«هل أتى»كان جزاؤه على اللّه جنة و حريرا.

3-في أمالي الطوسي،بإسناده إلى علي بن عمر العطار،قال:

دخلت على أبي الحسن العسكري[عليه السّلام]يوم الثلاثاء،فقال:لم أرك أمس!

قال:كرهت الحركة في يوم الاثنين.

قال:يا علي،من أحب أن يقيه اللّه شرّ يوم الاثنين فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ .

ثم قرأ أبو الحسن[عليه السّلام]: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (1).

4-روي عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]أنه قال:من قرأ هذه السورة كان جزاؤه على اللّه جنة و حريرا.و من أدمن قراءتها قويت نفسه الضعيفة.و من كتبها و شرب ماءها نفعت وجع الفؤاد،و صح جسمه، و برئ من مرضه.

********

(1) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 467.

ص: 11

5-قال رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:من قرأها أجزاه اللّه الجنة، و ما تهوى نفسه على كل الأمور.و من كتبها في إناء و شرب ماءها نفعت شرّ وجع الفؤاد،و نفع بها الجسد.

6-قال الصادق[عليه السّلام]:قراءتها تقوّي النفس و تشد،و إن ضعف في قراءتها كتب و محيت و شربها،منعت من النفس(كذا) و يزول ضعفها عنه بإذن اللّه تعالى (1).

7-محمد بن الحسن،بإسناده عن الحسين بن سعيد،عن ابن أبي عمير،عن أبي مسعود الطائي،عن أبي عبد اللّه[عليه السّلام]:أن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]كان يقرأ في آخر صلاة الليل هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (2).

سبب نزول هذه السورة:

و قد حفلت الروايات الكثيرة،بأن سبب نزول سورة«هل أتى»:هو أن الحسنين عليهما السّلام مرضا،فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعض من أصحابه.و جعل علي على نفسه،و كذلك الزهراء،و الحسنان عليهم السّلام،و فضة رحمها اللّه:إذا عافاهما اللّه أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا للّه تعالى.

فألبسهما اللّه سبحانه عافية،فأصبحوا صياما،و ليس عندهم طعام، فحصل علي عليه السّلام على ثلاثة أصوع من شعير،جاء بها للزهراء

********

(1) تفسير البرهان ج 4 ص 409 و 410 و راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 467.

(2) وسائل الشيعة(ط دار إحياء التراث العربي)ج 4 ص 796 و ج 3 ص 40 عن التهذيب للشيخ ج 1 ص 170 و عن عيون أخبار الرضا ص 308.

ص: 12

عليها السّلام مقابل أن تغزل جزة صوف..

فغزلت ثلث الصوف،و طحنت صاعا من الشعير،و خبزت منه خمسة أقراص بعددهم.فصلى علي عليه السّلام مع النبي صلّى اللّه عليه و آله،ثم أتى منزله،و وضع الطعام،فأول لقمة كسرها علي عليه السّلام إذا مسكين قد وقف على الباب،و طلب أن يطعموه،فوضع علي عليه السّلام اللقمة من يده..و دفعوا ما على الخوان إلى المسكين،و أصبحوا صياما لم يذوقوا إلا الماء القراح.

و في اليوم التالي تكرّرت القضية برمتها،حيث جاءهم يتيم هذه المرة،و ذلك بمجرد أن كسر الإمام علي عليه السّلام اللقمة،فأعطوه ما على الخوان،و باتوا جياعا لم يذوقوا إلا الماء القراح.

و هكذا جرى أيضا في اليوم الثالث،حيث جاءهم أسير من أسراء المشركين،و قال:السّلام عليكم يا أهل بيت محمد،تأسروننا،و تشدوننا، و لا تطعموننا.

فوضع علي اللقمة من يده،و أعطوه ما على الخوان.و باتوا جياعا.

و أصبحوا مفطرين،و ليس عندهم شيء.

و أقبل علي عليه السّلام بالحسن و الحسين عليهما السّلام نحو رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،و هما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع.

فقال[صلّى اللّه عليه و آله]:يا أبا الحسن:أشد ما يسوؤني ما أرى بكم،انطلق إلى ابنتي فاطمة.

فانطلقوا،و هي في محرابها،قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، و غارت عيناها..

فلما رآها رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]ضمها إليه،و قال: وا غوثاه،

ص: 13

باللّه أنتم منذ ثلاث فيما أرى؟

فهبط جبرئيل،فقال:يا محمد،خذ ما هيأ اللّه لك في أهل بيتك.

فقال:و ما آخذ يا جبرئيل؟.

قال: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (1).

و ذكرت بعض النصوص:أن هذه السورة قد نزلت في الخامس و العشرين من ذي الحجة (2).

و هناك تفاصيل و خصوصيات مختلفة وردت في الروايات،لا مجال لتقصيها و تتبعها..لأن المقصود هنا مجرد الإشارة..

لما ذا أعطوا جميع الطعام؟!

و قد يتساءل البعض عن سبب إعطاء جميع الطعام للسائل،مع أنه كان يكفيه بعضه،و يكتفي الباقون بما بقي منه..

و ستأتي الإجابة على هذا السؤال،حيث سيظهر أن المقصود لم يكن هو مجرد إشباع ذلك السائل،بل المقصود هو إعطاؤه ما يجد معه الأمن و السكينة لأطول فترة ممكنة،ليجد الفرصة للتحرك باتجاه الخروج من الحالة التي هو فيها إلى ما هو أفضل..

السورة مدنية:

إن من المعلوم:أن هذه السورة مدنية،و لكن بعض الذين في

********

(1) راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 474 و 477 عن الأمالي للشيخ الصدوق و البرهان (تفسير)ج 4 ص 412 و 413.

(2) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 473 عن مناقب آل أبي طالب..

ص: 14

قلوبهم زيغ يحاولون ادّعاء أنها من السور المكية،و لعل منشأ ذلك هو البغض و الحسد لأهل البيت[عليهم السّلام]،الذين نزلت هذه السورة فيهم،لأنّ نزول السورة في مكة،يبطل-بزعمهم-الروايات الكثيرة جدا،و المروية بطرق مختلفة عند السنة و الشيعة،و التي تؤكد نزولها فيهم [عليهم السّلام].

و لكن اللّه تعالى يقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ .. (1).

مستند أهل الزيغ:

لعل أول من ادعى نزول السورة في مكة هو ابن الزبير (2).الذي كان قد حارب عليا[عليه السّلام].و كان معروفا بانحرافه عنه،و بغضه له..

أما ما روي من ذلك عن ابن عباس (3)،فيشك في صحته،إذ إن الرواية قد وردت عنه بخلاف ذلك أيضا..كما سيأتي.

ثم جاءنا أخيرا من حاول أن يستدل لذلك،و يجمع له المؤيدات و الشواهد،فهو يقول:

«في بعض الروايات:أن هذه السورة مدينة..و لكنها مكية،و مكيتها ظاهرة جدا،في موضوعها و في سياقها،و في سماتها كلها.لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها.

بل نحن نلمح من سياقها:أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي..

********

(1) سورة الصف الآية 8.

(2) الدر المنثور ج 6 ص 297 عن ابن مردويه.

(3) المصدر السابق عن النحاس.

ص: 15

تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة،و صور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]إلى الصبر لحكم ربه، و عدم إطاعة آثم منهم أو كفور،مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها في مكة،مع إمهال المشركين،و تثبيت الرسول[صلى اللّه عليه و آله]على الحق الذي نزل عليه،و عدم الميل إلى ما يدهنون به..كما جاء في سورة القلم،و في سورة المزمل،و في سورة المدثر،مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.

و احتمال أن هذه السورة مدنية-في نظرنا-هو احتمال ضعيف جدا،يمكن عدم اعتباره» (1)انته..

و نقول:

أولا:لقد فند السيد الطباطبائي[رحمه اللّه]هذه المزاعم.فقال ما ملخصه:إنّ صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة،و صور العذاب الغليظ لا تختص بالسور المكية،بل هي موجودة في السور المدنية أيضا،-مثل سورتي الرحمن،و الحج-بصورة أكثر مما ورد في سورة هل أتى.

ثانيا:و أما ما ذكره من أمر النبي[صلّى اللّه عليه و آله]بالصبر،و أن لا يطيع آثما أو كفورا،و أن لا يداهنهم،و أن يثبت على ما نزل عليه من الحق.فهو في نهايات هذه السورة.فلتكن نهاياتها مكية-لو صح أن هذا الأمر يوجب مكية الآيات-لأن النزول كان تدريجيا.

و لو سلم أن السورة قد نزلت دفعة واحدة،فإننا نقول:إن الأمر بالصبر لا يختص بالسور المكية،فإنه تعالى يقول في سورة الكهف في

********

(1) في ظلال القرآن ج 6 ص 377 ط دار الشروق سنة 1402 ه

ص: 16

الآية 28: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.. و قد روي أن هذه الآية مدنية.

و هي متحدة المعنى مع قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ (1)،مع شدة التشابه في السياق في الموردين.

و ما كان يلقاه النبي من أذى المنافقين و غيرهم من الجفاة و ضعفاء الإيمان،لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة.

و لا دليل أيضا على انحصار الآثم و الكفور في مشركي مكة.بل إن بعض المسلمين كان يكسب الآثام،كما صرحت به الآيات.(انته كلام العلامة الطباطبائي).. (2).

ثالثا:إن المعيار في مكية السورة و مدنيتها هو النقل و الرواية،لا القياسات و الاستحسانات.فإن كان ثمة من رواية تدّعي أنّ السورة مكية، فلا بد من محاكمتها كرواية،و ملاحظة ما فيها من نقاط ضعف و قوة على هذا الأساس..

و قد أشرنا إلى ذلك فيما سبق..

و على كل حال..فإن ثمة العديد من الأدلة على عدم صحة الرواية التي ذكرت:أن عبد اللّه بن الزبير قد اعتبر هذه السورة مكية،بالإضافة إلى أن ابن الزبير متهم في ما يرويه،خصوصا إذا كان في سياق إنكار فضائل علي[عليه السّلام]و آله الطاهرين.فإنه هو المحارب لأمير

********

(1) سورة القلم الآية 48.

(2) تفسير الميزان ج 20 ص 136/135 و راجع:سورة النور الآية 11 و سورة النساء الآية 112.

ص: 17

المؤمنين و المعلن بالتنقص له،و لأهل بيته الطاهرين،حتى إنه ترك الصلاة على النبي في أربعين صلاة جمعة،بحجة:أن له[صلّى اللّه عليه و آله]أهيل سوء يخاف أن يتلعوا بأعناقهم،أو نحو ذلك.

و كذلك الحال بالنسبة للرواية بذلك عن ابن عباس،الذي كان في زمنه[صلّى اللّه عليه و آله]صغيرا لا عبرة بما يرويه في ذلك السن..

خصوصا و أنها معارضة بمثلها عنه،كما سنرى.

رابعا:لقد روي عن الإمام علي[عليه السّلام]:أن السورة مدنية (1).

و كذلك روي عن ابن عباس،و عكرمة،و الحسن (2)فراجع..

خامسا:قد ذكرت الروايات الكثيرة المروية من طرق أهل البيت [عليهم السّلام]و غيرهم:أن السورة قد نزلت في مناسبة مرض الحسنين [عليهما السّلام]،و صيام علي و الزهراء،و الحسنين[عليهم السّلام]ثلاثة أيام،و صدقتهم بطعامهم في هذه الأيام الثلاثة المتوالية.

و الحسنان[عليهما السّلام]إنما ولدا في المدينة كما هو معلوم.

سادسا:إن آيات السورة ذكرت إطعام الطعام للأسير،و لم يكن في مكة أسرى..

إلا أن يقال:إن الكلام قد جاء في الآية على سبيل الافتراض،لا على سبيل الحقيقة.

********

(1) راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 468 و تفسير الميزان ج 20 ص 133 كلاهما عن مجمع البيان.

(2) راجع الدر المنثور ج 6 ص 297 عن البيهقي،و ابن مردويه،و تفسير الميزان ج 20 ص 131 و 132 عن الدر المنثور،و عن الإتقان أيضا عن البيهقي في الدلائل،و عن ابن الضريس.

ص: 18

و لكنه احتمال ضعيف يخالف سياق آيات السورة..كما أنه يخالف الروايات التي تحدثت عن سبب نزولها.

و أما احتمال أن يكون الأسير أسيرا عند قريش،فهو بعيد أيضا،إذ لم نعرف عن قريش أنها كان لديها أسرى من حروب خاضتها.

سابعا:و حتى لو كانت هذه السورة مكية،فإن ذلك لا يضر في صحة رواية نزول السورة في أهل البيت[عليهم السّلام]،فقد أثبتنا أن السورة كانت تنزل أولا..ثم و بعد مضي مدة من الزمن تحصل الأحداث التي ترتبط آيات تلك السورة بها،فينزل جبرئيل بتلك الآيات مرة ثانية.. (1).

********

(1) فراجع كتابنا:مختصر مفيد ج 4 ص 45-83.

ص: 19

ص: 20

الفصل الأول: الخلق..و الهداية..

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً

ص: 21

ص: 22

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »:

إننا نعتقد وفقا لما ورد في الروايات المباركة الواردة عن أهل بيت العصمة[عليهم السّلام]أن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزء و آية من كل سورة، (1)باستثناء سورة«براءة»..

و قد حاولنا تفسير مفردات هذه الآية المباركة،أعني آية بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في تفسير سورة«الفاتحة»،و قد عرضنا هناك ما لعله يكون مفيدا،و رأيناه سديدا..و لكي لا يلزم التكرار،فإننا نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الكتاب،ملتمسين منه العذر،و العذر عند كرام الناس مقبول إن شاء اللّه تعالى.

و لنشرع في بيان ما فهمناه من سائر آيات سورة«هل أتى»،فنقول:

«هل»للإنكار أو التقرير:

تبدأ آيات هذه السورة المباركة بعد آية: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

********

(1) و قد ذكرنا بحثا وافيا بينا حول هذا الموضوع في كتابنا حقائق هامة حول القرآن ص 382 حتى ص 389.

ص: 23

بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

فبدأ تعالى بكلمة:«هل»فقيل:إن كلمة«هل»هنا بمعنى«قد»،أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..و ذلك قبل أن يخلقه اللّه..أو قبل أن تنفخ فيه الروح..أو حينما كان لا يزال نطفة.

و قيل:هي استفهامية،جوابها الإثبات،أي نعم قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا.

فلا فرق من حيث النتيجة بين هذا القول و بين سابقه.

و نقول:

لعل الصحيح هو ذلك و عكسه معا..أي أنه بالنسبة لهذه النشأة الإنسانية قد أتى عليه زمان لم يكن شيئا مذكورا،كما قال الإمام الحسين عليه السّلام في دعاء يوم عرفة:ابتدأتني بنعمك قبل أن أكون شيئا مذكورا،خلقتني من التراب،ثم أسكنتني الأصلاب الخ..

و هو من جهة أخرى مذكور عند اللّه في جميع نشئاته..أي أن«هل» استفهامية،لكن المقصود من الاستفهام،الانكار على من يزعم أنه قد أتى على الإنسان زمان لم يكن مذكورا فيه..و إظهار أنه قد أخطأ بزعمه هذا..

و يكون نفس الإنكار مؤذنا بالإجابة،فلا يحتاج إلى التصريح بها،أو يقصد به التقرير،و تسجيل الاعتراف ممن يحتمل في حقه الإنكار،أو ممن يكون إقراره حجة على غيره..فيسأل هذا السؤال ليقرّ بالحقيقة، و يقول:لا،لم يأت على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، بل كان مذكورا في كل حين و زمان.

ص: 24

و على كل حال،فإن جواب إنكار الإثبات هو النفي،و جواب إنكار النفي هو الإثبات.

فالأول:كقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 1؟

فالجواب:لا.

و كقوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ ...

فالجواب:لا،لم أفعل ذلك.

و الثاني:كقوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (2)؟!

فجواب هذا التقرير،-الذي دخلت فيه همزة الاستفهام على النفي ب«لم»-هو الإثبات،فيقال:بلى،قد جعلت له عينين.

و لازم التقرير المبدوء بكلمة«لم»هو الإقرار بما دخل عليه حرف النفي،كما ظهر من قوله في الجواب:نعم جعلت له عينين..فالنتيجة جاءت عكس ما دخل عليه الاستفهام،فإن دخل على النفي أجيب بالإثبات،و إن دخل على الإثبات أجيب بالنفي.

و معنى الآية:أن هذا الإنسان،منذ بدء وجوده ما زال مذكورا عند اللّه،في مختلف مراحل وجوده،من خلال استمرار الرعاية و العطاء الإلهي له..فهو تعالى لم يزل يرعاه و يربيه،و ينميه،و يحافظ عليه،و يسيّر أموره.

فالآية لا تتحدث عن الإنسان قبل أن يخلق..حتى يقال:إن كلمة

********

(1) سورة الزمر الآية 9.

(2) سورة البلد الآية 8.

ص: 25

هل:بمعنى قد.أو يقال:إنها استفهام،جوابه الإثبات..فإنه قبل أن يخلق لم يكن شيئا أصلا،فضلا عن أن يكون شيئا مذكورا.

هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يختص بهذا الإنسان،بل جميع المخلوقات كذلك.فإن عدم ذكرها إنما هو لعدم وجودها.

إلا أن يقال:إن المراد التذكير بنعمة الخلق و الذكر معا.

و نقول في جوابه:إنه كلام لا محصل له،إذ لا معنى لقولك،إنك قبل أن تخلق لم تكن شيئا مذكورا.بل اللازم أن يقال:لم تكن شيئا أصلا.و هذا معناه أن تصير القضية سالبة بانتفاء موضوعها..فهو من قبيل قولك:إن لم يكن لك ولد ذكر فلا تختنه،أو فلا تلبسه قميصا.و هي ليست سوى قضية لفظية صورية من دون أي معنى،و ليس لها فائدة،لأن الحديث ليس عن وجود الإنسان التخيلي الافتراضي،بل هو تعالى يريد أن يمتن على هذا الإنسان،و يذكره بنعمه الجليلة،و أياديه الجميلة.و هذا يناسب أن يسأله عن أنه هل مر عليه حين،لم يكن اللّه سبحانه يمده بالنعم،و يتعاهده بالرعاية..فيكون الجواب:لا بل الإنسان دائما محل العناية و الرعاية الإلهية..

هل البسيطة و هل المركبة:

و قد بدأت السورة بصيغة سؤال: هَلْ أَتى .. و السؤال يثير في الإنسان،الرغبة في المتابعة و المراقبة الدقيقة.فإذا كان السؤال موجها إليه مباشرة،فإن ذلك سيزيده تحفزا،و يقظة،و تنبها،و سيجعله أمام مسئولية لا بد من التصدي لها.و يتأكد الاهتمام بالسؤال إذا كان السائل هو اللّه، الخالق،العالم بالسر و ما يخفى،لأنه يعلم أنه ليس استفهاما حقيقيا،بل إما تقريري أو إنكاري،فبأي شيء يطلب منه أن يقر أمام اللّه؟و أي

ص: 26

شيء ينكره اللّه عليه،و يريد ردعه عنه؟

و ما ذا يريد اللّه سبحانه من وراء هذا التقرير،أو ذلك الإنكار؟!..

لما ذا اختار كلمة:«أتى»؟:

و قد يسأل سائل:لما ذا قال تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ و لم يقل:هل مر على الإنسان.

و نجيب:

أولا:إن كلمة: هَلْ أَتى تشير إلى أن السؤال إنما هو عن الإنسان،أو عن الشيء الموجود و الثابت،و أنه هل أتى عليه في الماضي البعيد و المستمر حتى ساعتنا هذه،لحظة أو زمان لم يكن شيئا مذكورا؟!.

فكلمة أَتى تشير إلى هذا التحول المستمر آنا فآنا،من السابق إلى اللاحق،مع وجود الإنسان في جميع هذه الآنات.

و لو أنه قال:هل مر على الإنسان.فإن مفاده أن ما جعل موضوعا للكلام قد مر عليه هذا الأمر،و لكن هل هذا الموضوع-و هو الإنسان- موجود الآن،أو ليس بموجود،بل هو قد زال و انقضى،فهذا ما لا يدل عليه الكلام،فالقدر المتيقن هو مرور هذا الأمر على الشيء الذي جعل موضوعا في الكلام في وقت سابق..

و لكنك إذا بدلت كلمة:«مرّ»،بكلمة«أتى»،فإن الكلام يدل على ثبات و وجود هذا الإنسان في جميع الآنات التي تسأل عنها،فهو نظير قولك فلان أتى عليه مائة سنة،فالحديث عنه إنما هو في حال كونه لا يزال موجودا،و حيا يرزق..

ثانيا:إنك حين تأتي بالاسم الظاهر،و تجعله محورا للكلام،فلا بد أن تأتي بضميره الآتي بعده بصيغة الغائب.فلاحظ قوله: لَمْ يَكُنْ

ص: 27

و نَبْتَلِيهِ و هَدَيْناهُ فهذه الغيبة في مقام الذكر و الخطاب،قد توحي للإنسان الغافل بتوافق الخصوصية اللفظية،و هي الغيبة عن مقام الخطاب و الذكر،مع الخصوصية الخارجية،و هي الغيبة في الواقع.

فاذا جاء التعبير بكلمة«مر»،فقد يتأكد هذا الإيحاء الذي ظهر في الأمرين السابقين أيضا لدى الإنسان الغافل،الذي قد ينساق مع هذا التخيل ليفهم الكلام على أنه حديث عن مخلوق سابق..

أما كلمة أَتى ، فقد أزالت كل شبهة في ذلك،و أفهمت:أن موضوع الحديث هو طبيعي هذا الموجود في كل زمان.و ليس الحديث عن إنسان مضى..

ثالثا:و لنفرض أن المراد الحديث عن فترة ما قبل خلق الإنسان..

فذلك لا يفرض أن يكون المراد ب هَلْ هو الإثبات..أو التقرير الذي جوابه الإثبات..إذ إنه حتى قبل أن يوجد الإنسان،فإنه كان مذكورا عند اللّه مذ كان في علمه تعالى.فكل هذا الوجود،بما فيه،قد خلق من أجله،و ليكون في خدمته..

و قد خلق اللّه روح النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،و أرواح أهل بيته [عليهم السّلام]،و جعلهم بعرشه محدقين،و أشهدهم خلق كل شيء..ثم أرسل الأنبياء من لدن آدم[عليه السّلام]و إلى الخاتم[صلّى اللّه عليه و آله]من أجل هذا الإنسان،و ليكونوا له نموذجا و قادة،و هداة،و أسوة، و قدوة،و أنزل الكتب السماوية،و فرض تعلم العلم،و أوجب تعليمه، ليكون ذلك للبشر منار هداية،و سبيل نجاة..

ثم إنه حين يقترب وقت إفاضة الوجود الفعلي على الإنسان،ليكون حيا،مدركا،فاعلا،مختارا،فإنك تجد أوامر اللّه تلاحقه،و ترشده إلى أن

ص: 28

يختار والدته الصالحة من أفضل الأصول،و أطهرها،و يرشده أيضا إلى كل ما يسهم في إبعاد الأبوين عن كل ما من شأنه أن يلحق أي ضرر في النطفة في ابتداء تكوينه..و يبين له حتى حالات المقاربة الصحيحة،التي تنتهي بزرع نطفته في رحم أمه،حيث يحرص على منع أبويه مما له أدنى تأثير على روحه،و نفسه و جسده،حتى في احتمالاته البعيدة..

فراجع آداب العلاقة بين الزوجين في توجيهات النبي[صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليهم السّلام]،حتى قبل أن تتكون نطفته،و بعد تكوينها،ثم صيرورته علقة،ثم مضغة،إلى آخر مسيرته في عالم الجنينية،ثم ولادته،و تربيته،و رعايته التامة إلى أن يموت..

إنه في هذه المراحل كلها موضع رعاية اللّه سبحانه و عنايته،و هو مذكور عنده،و يفهمه أن بناء الكون،و تسييره و تدبيره،يجري وفق الضوابط التي تهيّئ أفضل المناخات،لإيصاله إلى درجات الفوز و السعادة..

و ذلك يعرفنا بعمق معنى قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

«عَلَى الْإِنْسانِ »:

و التعبير بكلمة: عَلَى يشير إلى أن الزمان شيء عارض على الذات الإنسانية،و أن له ملابسة لهذه الذات،متصرم عنها..

و لكن،هل يريد-فقط-أن يفهمنا مجرد ملابسة الزمن للموجودات المادية،و عروضه لها،و ارتباطها به؟!أم أن هناك حقيقة أهم و أعظم،يريد لفت النظر إليها؟!..

الحق هو هذا الأخير،فإنه جعل محور الكلام هو الإنسان المستمر

ص: 29

في وجوده من الماضي إلى الحاضر،و جعل الإنسان الموضوع لكلامه أيضا و ليس البشر-ربما-ليفيد أنه لا يقصر نظره على وجوده الجسماني المادي.بل هو ينظر إليه،بما له من خصائص إنسانية،من روح و نفس،و بما له من مشاعر،و قوى،و ملكات،و أحاسيس.

إنه يريد أن يفهمنا:أن بقاء هذا الإنسان الباقي و المستمر،الذي يذكره اللّه بالنعم،ليس بسبب وجود طاقة البقاء في داخل ذاته و حقيقته، و ذلك لأنه موجود ملابس للزمان،و الزمان مهيمن عليه،و هو يفرض عليه التصرم و الزوال،فحدوثه المتجدد إنما هو من خلال محدثه و موجده،و هو اللّه سبحانه..

و بذلك يتضح لنا السبب في أنه لم يعبر بكلمة بشر،الذي يمر عبر مراحل:فيكون نطفة،ثم علقة،ثم مضغة،ثم يكسو اللّه العظام لحما.بل عبر بكلمة إنسان!حيث تبدأ مرحلة أخرى أرقى من هذه المراحل كلها، قد عبر اللّه عنها بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. و هي مرحلة نفخ الروح التي تؤهله لأن يجد خصائصه الإنسانية وفقا للسنن الإلهية في ذلك.

و بذلك يتضح أيضا لما ذا أدخل الزمان في الحديث عن حياة الإنسان،فإنه مفيد في بيان هيمنته و تأثيره في واقعه الإنساني.

«الإنسان»:

إن الإنسان بما هو إنسان،موضع عنايته تعالى،و ليس الحديث عن حالات أفراده:كزيد،و بكر،من كبر و صغر،و لا عما يطرأ عليه من موت أو حياة،و نحو ذلك.و هذا معناه:أن الكلام الوارد يصدق على من خلق حين نزول الآيات،و على غيره..

أما الآية الثانية،و هي قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ،

ص: 30

فقد لاحظت الخصوصيات الفردية في الإنسان..فإنه هو الذي يخلق، و يكون نطفة،و تمر بمراحل،و هو الذي يصير له سمع و بصر،و تمييز، و غير ذلك.

و لأجل هذا الاختلاف،كان لا بد من تكرار كلمة الإنسان في الآيتين، فلم يقل«خلقناه»..

سؤال..و جوابه:

و قد يقال:لما ذا لا نقول:إن الحديث القرآني جار وفق مصطلحات العرفاء في معنى الإنسان..

و يجاب:بأن ذلك لا يصح،فقد قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا.. (1)،و قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (2)،أي أنه تعالى يتحدث بلغة البشر بما هم بشر،فرضت حاجاتهم عليهم لغة يتخاطبون بها،لا بمصطلحات وضعها أرباب هذا العلم أو ذاك.و إلا،فإن ذلك السؤال يستتبع سؤالا آخر هو:لما ذا لا يتحدث اللّه تعالى بمصطلحات الفلاسفة، أو المتكلمين،أو الفقهاء،أو أصحاب أي علم آخر؟!..

على أن اللغة إنما يحتاجها الناس من حيث هم بشر..و هي موضوعة في الأصل لمعان حسية،أو قريبة من الحسّ..و هي المعاني التي نعرفها بآثارها،كالكرم و الشجاعة و العدالة،و الحسد..و العقل..

و الغضب و الفرح و ما إلى ذلك..و هناك معان أبعد من هذه،و هي نتاج تفكير عميق،و دقة ملاحظة،فيحتاج للتعبير عنها إلى التوسل ببعض

********

(1) سورة يوسف الآية 2.

(2) سورة الشعراء الآية 192.

ص: 31

التراكيب،أو إلى بعض المجازات،أو الكنايات..

و في كليهما استعمل اللّه تعالى مصطلحات الإنسان بما هو إنسان..

لا الأصولي،و لا النحوي،و لا الفيلسوف..و لأجل ذلك تجد أن المجازات و الأمثال و نحوها موجودة لدى البشر جميعا.و هي شديدة التقارب.لكونها تعبر عن حالاته البشرية و الفطرية.

كما أنك حين تريد أن تخاطب الناس،فلا بد أن تخاطبهم باللغة التي تفرضها فطرتهم و إنسانيتهم،و لا تخاطبهم بلغة فئة خاصة،قد لا يعرف الكثيرون عن مصطلحاتها الشيء الكثير،فلا مجال لمخاطبتهم بلغة أهل العرفان مثلا،أو أية فئة خاصة أخرى..و لأجل ذلك،كانت اللغة المعتمدة هي اللغة العامة التي تعتبر من المشتركات الإنسانية،ما دامت تعتمد الألفاظ المعبرة عن المعاني الفطرية..

و قد أراد الإسلام أن تكون لغته هي ذلك المشترك الإنساني العام، فاختار اللغة العربية،لتكون لغة الصلاة،و التسبيح،و القرآن،و غير ذلك..

لأن الإنساني هو اللغة و ليس هو المصطلح،و لأجل ذلك تشابهت المجازات،و الأمثال،و الاستعارات،حتى كأنك تظن أنها أخذت من لغتك،و الحقيقة هي أنها إنما كانت كذلك،لأنها نتاج حركة الفطرة، و العقل،و المشاعر في الحياة،و هذه الأشياء واحدة لدى البشر جميعا، فجاءت المعاني متشابهة،و إن اختلفت الحروف،و الأصوات التي اختيرت لحمل تلك المعاني..لأن اللغة بمعنى الحروف و الأصوات قد فرضت على الإنسان في مرحلة اللاوعي،أما المعاني فليست كذلك.

و لأجل ذلك تجد أن الكل يصف الشجاع بأنه أسد..و يكنى عن الكثرة بالبحر،و عن السعة بالصحراء..و..و الخ..و إن اختلف الحروف التي عبرت عن الأسد،و عن البحر،من لغة إلى أخرى.

ص: 32

عودة إلى كلمة«الإنسان»:

و نعود لتوضيح ما نرمي إليه هنا،فنقول:

لو أن كلمة اَلْإِنْسانِ في الآية استبدلت بكلمة«البشر»لا نصرف الذهن إلى الإنسان المتجسد في الأفراد،كزيد،و بكر،و لدخل في وهم السامع:أن الحديث هو عن هذا الوجود المادي للإنسان.فهو من حيث جسميته له بشرة بادية..و لا بد أن يتحصص و يتشخص في مكان، و يتقيد بزمان..و لا بد أن له حالات و أطوارا،من قيام و قعود،و صحة و مرض..و كبر و صغر،و لحم،و دم،و عظم،و عضلات،و يشبع،و يجوع..

فيمكن أن يكون الحديث عن بشريته،بمعنى تكوين جسمه،و عن عوارض الأمراض،و عن خريطة عروقه و شرايينه،و عن عظامه،و حالاتها و أمراضها،أو عن كونه حيا،له روح،و نفس،و مشاعر،و أحاسيس.فما هي حقيقة تلك الروح أو النفس،و ما هي حالاتها،و كيف تتأثر و تؤثر..

إلخ،أو عن مدى تأثيره بغيره،أو عن علاقته بربه،و بمجتمعه و محيطه، و نشاطه السياسي،و علاقاته الاجتماعية،أو عن النظم و الأجهزة، و المؤسسات،و السياسات التي يحتاجها..أو عن مكوناته الإنسانية،بما له من ملكات،و مزايا،كالشجاعة،و الكرم،و العدالة،و غير ذلك.

مع أن ذلك كله ليس هو محط النظر الأساس في هذه الآية المباركة، و إن كان غير بعيد عن أجواء الحديث،بل المقصود هو تناول طبيعة الإنسان، و حقيقته،بما له من مزايا إنسانية..من دون أي تركيز على خصوصية بعينها من كل ذلك الذي ذكرناه آنفا،أي أن السؤال هو عن الإنسان مطلقا في أي مرتبة من مراتب وجوده،و في أية حالة كان،و بأية صفة اتصف،و على أي مزية حصل..لا من حيث كونه موجودا ماديا و حسب،بل من حيث كونه حاصلا على مزاياه الإنسانية كلها،أو في طور الحصول عليها كلها،أو بعضها،

ص: 33

في أي مستوى كانت تلك الميزات.و من دون أن يتوقف عند أي من مراتبها أو حالاتها..

فهو بما أنه موجود إنساني،مورد الاهتمام،لا بما هو موجود مادي، فخصائصه الإنسانية محل رعاية اللّه سبحانه..فهو إذن مقصود و مرعي، في أية حالة،و مع كل مزية،في حال فقده لها،و في حال حصوله عليها على حد سواء.

أما الإنسان في الآية التالية،فيقصد به ذلك المعنى الأول،أي من حيث هو بشر،و لذلك أعاد التصريح بكلمة اَلْإِنْسانِ ، و لم يكتف بذكره بواسطة إرجاع ضميره إليه..

اَلْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ :

و قد قال تعالى في آية أخرى: نَذِيراً لِلْبَشَرِ (1)و لم يقل:نذيرا للإنسان،لأنه لا يستحق و سام الاستحقاق الإنساني ما لم يستجب للنذير، و للهداية الإلهية،إذ بدون ذلك يكون كالأنعام،بل أضل سبيلا،إذ إن:

لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها (2) ،أي لا يدركون بها المعاني الواقعية.و لا يتفاعلون معها بالمشاعر القلبية،من خوف و رجاء،و نحو ذلك.

و لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها (3)لأن المطلوب هو النفوذ إلى الأسرار و الحقائق،لا النظرة المادية السطحية.

فهم إذن فاقدون لما يستحقون به وصف الإنسانية الذي أعلن عنه

********

(1) سورة المدثر الآية 36.

(2) سورة الأعراف الآية 179.

(3) سورة الأعراف الآية 179.

ص: 34

في سورة التين،حين قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (1).

و في سورة العصر: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (2).

فالإنسان الذي يجمع صفات الإيمان،و العمل الصالح،و التواصي بالحق،و بالصبر،يبقى على صفة الكمال الإنساني،و لا يخسر شيئا منه، و يبقى في أحسن تقويم،و لا يرد إلى أسفل سافلين.

و في هذه السورة أيضا،أعني سورة هَلْ أَتى : قد جعل اللّه الإنسان سميعا بصيرا،فإذا فقد هذه السميعية و البصيرية،و أصبح له عينان لا يبصر بهما،و أذنان لا يسمع بهما،بسبب كفره،فإنه يحجب عن نفسه نور الهدى،وفقا للسنّة الإلهية القائمة في البشر.

كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (3) .

خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (4) .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (5) .

********

(1) سورة التين الآيتان 6/4.

(2) سورة العصر.

(3) سورة المطففين الآية 14.

(4) سورة البقرة الآية 7.

(5) سورة البقرة الآية 18.

ص: 35

إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (1) .

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (2) .

نعم،إن ذلك كله يعطي أن اللّه سبحانه قد أفاض على الإنسان وجودا إنسانيا كامل الخصائص و المزايا.لكنّ الإنسان هو الذي ينحطّ عن درجات إنسانيته و عن تقويمه الأحسن،و يبدأ بخسران مزاياه، و خصائصه الإنسانية،بسبب أعماله بالتدريج.و قد ينتهي به الأمر إلى أن يخسرها جميعها،فيصبح كالأنعام،بل أضل.

أما المؤمن الصالح،فهو يحفظ ذلك كله بكل وجوده،و لا يفرط فيه،رغم كل ما يواجهه من مصاعب و أخطار..و لو أنّه أخفق في بعض الحالات،فإنّه سيحاول أن يستعيد ما فقده،و يرمّم ما خرّبه،و يسد الثغرة و الخلل العارض بسبب تلك النزوة العارضة.

و لعل هذا هو الذي عناه اللّه بكلمة:«الإنسان»في قوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.... و بيّن أنّه حين يتعرّض للنشوء و للوجود..فإنه سيكون في جميع مراحل وجوده،و في كل مستويات نشأته و حالاتها،مذكورا عند اللّه سبحانه،و محلا لألطافه و عناياته..

«حين من الدّهر»:

و قد يسأل سائل:لم لم يقل:هل أتى على الإنسان حين،أو وقت،لم يكن شيئا مذكورا؟!.فما هو وجه الحاجة لكلمة:«من الدّهر»يا ترى؟!

********

(1) سورة الفرقان الآية 44.

(2) سورة التين الآيتان 6/5.

ص: 36

و يمكن أن يجاب:بأن الحين هو الآن و الجزء الزمني الصغير، و الدهر هو مجموع تلك الأجزاء و اللحظات الزمنية الممتدة و المستمرة في التعاقب و التكثّر و الامتداد.فكلمة الدهر تشمل أجزاء و آنات الزمان السابق و الحاضر،و اللاحق.و قد أريد في الآية الاستفهام عن كل الآنات التي كان للإنسان-بما هو إنسان-حضور فيها،و يلاحظها المجيب في إجابته جزءا بعد جزء،و آنا بعد آن.

و ما ذلك إلا لأن الإنسان إنما يبدأ بالشعور و الإدراك الفعلي منذ ولادته،و ربما قبل ذلك،حيث يطوي مراحل استعداده لهذه الولادة و يستمر هذا الشعور إلى حين موته..حيث تبدأ حياته البرزخية..غاية الأمر:أن شعوره-بعد اكتمال و تبلور خصائصه-بما هو خارج دائرة ما بين الولادة و الوفاة يبقى غير واضح المعالم له،بل هو أقرب إلى التخيل و الافتراض منه إلى الإحساس الحقيقي،و الرؤية الواضحة..مع أن مراتب وجوده و مراحله قد تكون أبعد من ذلك بكثير..

مع استثناء أولئك الصفوة الذين كان ابتداء خلق أرواحهم و حلولها في الأشباح قبل خلق الخلق،بدهور،و هم أهل البيت[عليهم السّلام]..

و قد كانوا مورد العناية الإلهية في كل تلك الدهور.

فالتصريح في الآية المباركة بكلمة مِنَ الدَّهْرِ يراد به التأكيد على رؤية حركة الإنسان في عامود الزمان المستمر في الامتداد و الجريان، لاستغراق آناته كلها..لكي لا يخيل للإنسان:اقتصار الرعاية الإلهية على فترة نشأته المادية الفعلية،بل هي رعاية شاملة لكل عوالمه التي مرّ فيها، و لجميع منازله،و مراتبه الوجودية،حتى حينما كان لا يزال في علم اللّه، ثم ما تلى ذلك من انتقاله من عالم إلى عالم،و من منزلة إلى أخرى، و سيستمر ذلك إلى أن يستقر في الدار الآخرة..

ص: 37

و اللافت:أن الإنسان إنما ينظر إلى إحدى مراتب وجوده،و التي هي الحياة الدنيا،و بها يشعر،و لا يلتفت إلى امتدادات وجوده الإنساني،التي قد تكون أهم،و أثبت،و أسمى،و أرسخ،ف إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و فيها يكشف الغطاء،و يصبح البصر حديدا.

«شيئا»:

و قد كان يمكن أن يقول: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، و لكنه تعالى أراد بهذا الاستفهام التقريري أو الإنكاري،أن يثبت الذكر للإنسان أو ينفيه عنه بما هو شيء.و شيئيته تساوق تشبثه بالوجود الخارجي،في بعض أطواره،و أدواره..

و بذلك يكون الحديث عن شيء واقع..و ليس حديثا عن أمر افتراضي،كالسالبة بانتفاء الموضوع التي لا فائدة منها و لا عائدة،حسبما أسلفناه..و لا هو حديث عن بعض مراتب الوجود التي لا ترتبط بشيئيته و لا بتحققه في الواقع الخارجي العيني..بل تكون نسبتها إليه نسبة عرضية،مجازية،لا حقيقية..كالوجود اللفظي،و الكتبي،و الذهني،فإن ذكر الإنسان على هذا النحو في هذه الأدوار،ليس ذكرا حقيقيا له،و ليس ذلك من الأمور التي يصح امتنان اللّه سبحانه بها عليه،كما هو سياق الآيات الكريمة.

«مذكورا»:

هل المراد:بالذكر هو أن يخبر عنه و يذكره أمام الآخرين؟..

أو المراد:كونه ذا قيمة و له أهمية في نفسه؟..

أو المراد بذكره الاهتمام بشأنه..بشكل دائم و مستمر؟!.بغض النظر عن كونه ذا قيمة في نفسه،أو غير ذي قيمة!

ص: 38

ظاهر الآيات أن المراد هو الاهتمام بشأنه و رعايته،بما يتناسب مع شأنه و حاله،و مقامه،و يتناسب مع شأن الذاكر،من كيفيات الذكر و مفرداته و مستوياته..لأن مجرد ذكر الإنسان في المحافل،ليس مما يصح الامتنان به من رب العالمين،ما لم يكن من الثناء الجميل المظهر لميزاته من حيث هو مؤمن..كما ورد في الدعاء:«و كم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته»..إذ إن أهل السوء و الانحراف ليس فيهم ما يصلح للثناء..

كما أن كون هذا الشيء ذا قيمة ليس مما يمتن به،إلا إذا كان له دور و وظيفة يؤديها،فتتحدد قيمته و أهميته من خلال ذلك،فإن الذهب مثلا،إذا لم يكن له مورد يستفاد فيه منه،فإنه لا ينفع و لا يجدي،و لا يصح الامتنان بوجوده على أحد..

فالامتنان من اللّه إنما يناسب حالة الاهتمام و الاعتناء بشأنه،و رفده بالعطايا و النعم التي يحتاجها.

و مجرد ذكر الشيء في المجالس،لا يلازم الاهتمام،و العناية و الرعاية..لأن الاهتمام قد يتعلق بفرضية لا وجود لها،يراد لها أن تتحقق،فيسعى الإنسان لتحديد حدودها،و الارتقاء بها بيانيا إلى حيث تصبح قابلة للتلمس لمجرد حب المعرفة،و الاكتشاف،و لو لم يكن لها أية قيمة أو شأن يذكر عنده..

و قد يهتم بشيء موجود،لكنه غير واضح المعالم،فيسعى لتحديد معالمه،و مشخصاته،و معرفة مواصفاته،لكي يخرجه من حالة الغموض و لأجل أن يحسن التحرز منه،و التوقي من مخاطره..

و كلا هذين الأمرين لا يصح نسبتهما في هذا المورد بالذات إلى اللّه سبحانه.

ص: 39

فينحصر الأمر بأن يكون المراد بالذكر في الآية هو متابعة رعاية واقع الشيء بكل خصائصه و مزاياه،و كمالاته الوجودية،فذكره ليس بالسعي لتوضيح،معالمه،و وضع حدود وجوده..بل برعايته و بجعله شيئا له أهلية الرقي المستمر و الحضور الدائم..و ذلك إنما يكون بإفاضة كل ما يحتاج إليه من مزايا و كمالات و ألطاف تناسب وجوده..

الامتنان الإلهي..هداية،و رعاية:

و لعلك تقول:لقد نهى اللّه عن المن على الآخرين،فقال: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.. (1)،و قال: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ (2)..

ثم يقول: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ . فيكف ينهاهم سبحانه عن المنّ،ثم يمنّ هو عليهم؟!..

و نقول في الجواب:

بما أن اللّه سبحانه هو الرب الهادي،و هو الخالق و المالك،و المنعم المتفضل،فامتنانه تعالى كمال،و هداية،و رعاية،و ربوبية.

و أما امتنان الناس على غيرهم،فهو نقص،و عجز،و هوان..

و ذلك لأن امتنانه تعالى علينا لم يرد في سياق الادعاء،و لا هو بهدف التحقير و الإذلال.كما أنه ليس ناشئا عن عجب أو رياء،أو غرور، أو أي عيب آخر..كما هو الحال في الامتنان الصادر عن البشر.

و إنما الامتنان منه تعالى قد جاء ليعيد الإنسان إلى حالة التوازن، و يفتح عينيه على واقعه،و هو للتذكير بالنعمة على سبيل إظهار حيثيات

********

(1) سورة المدثر الآية 6.

(2) سورة الحجرات الآية 17.

ص: 40

رفع الحاجة و سد الخلل بها،من مصدر التفضّل و العطاء.فهو جار في سياق تعريف الإنسان بنفسه،و بخالقه،بهدف سوقه نحو الكمال.

فالامتنان إنما هو بداعي اللطف به،و من منطلق الحب،و الرعاية و الهداية،و التربية له،و الإحسان إليه،فهو نعمة أخرى له عليه،لا بدّ للإنسان من شكره عليها.

إنه بهذا الامتنان يذكره بعجزه،و نقيصته،و حاجته..ليضعه على الطريق الصحيح،حيث يشعر بعجزه أمام قدرته تعالى و بضعفه أمام قوته تعالى،و بفقره أمام غناه،و بجهله أمام علمه،و بنقصه أمام كماله.

فيبعده بذلك عن حالة العجب،و الرياء و الغرور،ليكون بذلك أبعد عن الشرك،الذي هو أخفى فيه من دبيب النمل،كما جاء في الروايات الشريفة..لأنّ هذه العاهات:العجب و الرياء و الغرور،تجعله يشعر باستغنائه عن اللّه تعالى،و تدفع به إلى الاعتقاد بأن ما لديه من خصائص و مزايا و كمالات،إنما هو من الأمور الذاتية له،تماما كما قال قارون:

إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (1) .فهو يشعر أنه ليس بحاجة إلى اللّه سبحانه،لأن لديه القدرات التي تمكّنه من التأثير في الأشياء.فلما ذا يخضع للّه،و يجهد نفسه في عبادته،و يؤاخذ نفسه بتنفيذ أوامره و نواهيه؟!

و لا شك في أن هذه حالة من الشرك الكامن في عمق ذاته،و هي من أهم أسباب رده إلى أسفل سافلين،و أن يكون في خسر مستمر..

فالامتنان من اللّه هداية و تفضّل يعيد الإنسان إلى الارتباط بمصدر الفيض الحقيقي..فيصحو بعد غفلة،و يعلمه بضعفه بعد جهل،و يوحّد

********

(1) سورة القصص الآية 78.

ص: 41

اللّه بعد شرك..و يؤمن به بعد كفر.و يتجه نحو شكر اللّه سبحانه بعد كفران،و نحو عبادته بما يستحقه سبحانه،بعد تمرد و عصيان..و يتوسل إليه بأحب الخلق إليه،و للّه الحجة البالغة في كل حين و زمان..و صدق اللّه العلي العظيم حيث يقول: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ..

***

ص: 42

الفصل الثاني: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً

اشارة

ص: 43

ص: 44

قال تعالى:

إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.

في هذه الآية المباركة دلالات هامة،و إشارات دقيقة،لا بد من الوقوف على ما يتيسر الوقوف عليه منها،فنقول:

«إِنّا خَلَقْنَا»:

إن أول ما يواجهنا في هذه الآية المباركة،هو أنه تعالى قد بدأها بالإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع،فقال: إِنّا خَلَقْنَا.. و لم يقل:أنا خلقت،أو لقد خلقت.فهل هناك من خصوصية اقتضت ذلك؟!

و ما الفرق بين الموارد التي يذكر اللّه سبحانه فيها نفسه بصيغة الجمع،و الموارد التي يأتي فيها بصيغة المفرد؟!.

و للإجابة على ذلك نقول:

هناك آيات تكلّم اللّه سبحانه فيها عن نفسه بصيغة المفرد،نذكر منها ما يلي:

إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) .

وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2) .

********

(1) سورة طه الآية 14.

(2) سورة طه الآية 82.

ص: 45

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1) .

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا (2) .

إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (3) .

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (4) .

أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ (5) .

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (6) .

و مما ورد بصيغة الجمع،نذكر منها:

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (7) .

وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (8) .

أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (9) .

********

(1) سورة الذاريات الآية 56.

(2) سورة المؤمنون الآية 111.

(3) سورة البقرة الآية 30.

(4) سورة البقرة الآية 30.

(5) سورة البقرة الآية 31.

(6) سورة البقرة الآية 33.

(7) سورة الحجر الآية 9.

(8) سورة الحجر الآية 22.

(9) سورة عبس الآية 25.

ص: 46

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (1) .

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً (2) .

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا (3) .

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (4) .

لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ (5) .

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما (6) .

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (7) .

وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ (8) .

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى .. (9) .

و الآيات كثيرة..

فنلاحظ:أنه تعالى حين ذكر العبادة،أو تحدث عن إثبات مقام

********

(1) سورة المؤمنون الآية 12.

(2) سورة المؤمنون الآية 18.

(3) سورة المؤمنون الآية 27.

(4) سورة المؤمنون الآية 31.

(5) سورة المؤمنون الآية 49.

(6) سورة المؤمنون الآية 50.

(7) سورة المؤمنون الآية 55.

(8) سورة المؤمنون الآية 77.

(9) سورة طه الآية 55.

ص: 47

الألوهية و نفي التأثير لغيره سبحانه،و عن الوحدانية،و نفي الشرك و الشريك،و الصاحبة،و الولد،نلاحظ:أنه في مثل هذه الموارد قد جاء بصيغة المفرد،لأن المقام مقام تحديد،فهو يقول: لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً (1).

و يقول: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2).

و يقول: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (3).

و يقول: إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (4).

و يقول: وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (5).

و لكنه حين يريد أن يثبت مقام القدرة و الاختيار،و العطاء،و الفيض الإلهي في موارد الرحمة،و النعمة،و الرزق و التدبير،و جميع الموارد التي يريد أن يخاطب الإنسان فيها من موقع الكبرياء،و العظمة..و العزة، و القدرة،و الربوبية و شئونها،التي تتجلى في العناية و الرعاية،و التدبير، فإنه تعالى في جميع تلك الموارد يتكلم عن نفسه بكلتا الصيغتين.

و ذلك لأن الأمور التي تدخل في هذا السياق على قسمين:

أحدهما:ما لا بد من التدخل الإلهي المباشر فيه،و لا مجال لتوسيط أية جهة في إنجازه،و ينحصر التأثير به تعالى،كالمغفرة،و الجزاء الآتي

********

(1) سورة الحج الآية 26.

(2) سورة الذاريات الآية 56.

(3) سورة يس الآية 61.

(4) سورة طه الآية 14.

(5) سورة الأنبياء الآية 92.

ص: 48

على سبيل الكرامة الإلهية (1)،و جعل الخليفة في الأرض،و الاختصاص بعلم الغيب،و نحو ذلك..

فجاءت الآيات في هذا القسم بصيغة المفرد،فقد:

قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2).

و قال: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا (3).

و قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (4).

و قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (5).

و قال: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (6).

و قال: عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ (7).

********

(1) و قد قيدنا بذلك لنشير إلى أنه إذا كان المراد هو إعطاء الجزاء المقرر،من دون الإشارة إلى خصوصية الكرامة الإلهية،أو الإشارة إلى مشاركة الملائكة و غيرهم في إيصال الجزاء إليه،فيدخل ذلك في القسم الآتي،حيث لا مانع من الإتيان بصيغة الجمع،كقوله تعالى: سَنَجْزِي الشّاكِرِينَ .. و قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ..

(2) سورة طه الآية 82.

(3) سورة المؤمنون الآية 111.

(4) سورة البقرة الآية 30.

(5) سورة ص الآيتان 72/71.

(6) سورة البقرة الآية 30.

(7) سورة المؤمنون الآية 92.

ص: 49

الثاني:ما يمكن فيه توسيط وسائط من الملائكة أو غيرهم،ممن أذن اللّه لهم في التصرف،أو عن طريق تسبيب أسباب،و إجزاء سنن إلهية..و قد تحدث اللّه عن نفسه في هذا القسم بصيغة الجمع..كما أنه قد تحدث بصيغة الجمع في مقامات إظهار العزة و الهيبة و الجبروت.

و جاء أيضا بضمير الجمع حين كان الغرض الإشارة إلى مقام العزة و العظمة الإلهية،أو أريد الإشارة إلى مشاركة الملائكة في كتابة الأعمال عن قرب و معاينة،فهو يقول: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (1)..

قال تعالى: أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (2).

و قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3).

و قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (4).

و قال تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً (5).

و قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (6).

و قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (7).

********

(1) سورة ق الآية 16.

(2) سورة الواقعة الآية 64.

(3) سورة الحجر الآية 9.

(4) سورة الحجر الآية 22.

(5) سورة الأنبياء الآية 69.

(6) سورة المؤمنون الآية 12.

(7) سورة المؤمنون الآية 13.

ص: 50

و قال تعالى: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (1).

و عن مريم قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا.. (2).

و قال تعالى: وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا (3).

و يلاحظ في هذه الآية الأخيرة:أنه تعالى قد جمع فيها كلا الأمرين:

حيث لوحظت فيها تارة قدرة اللّه سبحانه على الخلق..

و يلاحظ فيها تارة أخرى تهيئة وسائل إظهار هذه الآية للآخرين، و جعلها وسيلة هداية لهم وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ (4)حيث بينت أن اللّه تعالى قد يحيي الميت،و لكن بتوسط إرادة النبي عيسى[عليه السّلام]أو غيره،بمعنى أن اللّه قد تعهد بالإحياء حين تتعلق إرادة النبي عيسى[عليه السّلام]به،فإرادة النبي عيسى واقعة في سلسلة العلل التي إذا وجدت جاء الفيض الإلهي و حصلت الحياة.

و نظائر هذا التوسيط كثيرة،فإن إنزال الذكر،يكون بوسائط منها جبرائيل[عليه السّلام]،كما أن إنزال الماء،مما يتدخل فيه الملائكة،بعد أن يحمله السحاب أيضا،و يمر بمراحل معروفة.

و الزراعة تتم بواسطة إنزال المطر على التراب،ثم يتفاعل التراب مع البذور،فيحصل النبات،و يكون الحمل بعد مقاربة الرجل زوجته..

و لكن المشيئة الإلهية تبقى هي الحاكمة،و لأجل ذلك قد ينزل

********

(1) سورة مريم الآية 9.

(2) سورة مريم الآية 17.

(3) سورة مريم الآية 21.

(4) سورة مريم الآية 21.

ص: 51

المطر و لا ينبت شيء،و قد تضرم النار،و يمنعها اللّه من الإحراق،و قد يقارب الإنسان زوجته،ثم لا يحصل الحمل،لأن اللّه تعالى لم يأذن في ذلك كله..فناسب التعبير عن الذات الإلهية في مثل هذه الموارد بصيغة الجمع..إظهارا للعزة الإلهية من جهة،و إظهارا لما للأسباب التي جعلها اللّه سبحانه من دور في هذا النظام الكوني العتيد،من جهة أخرى..

و فيما يرتبط بالآية المباركة التي هي موضع البحث نقول:

إنه قد لوحظ فيها طريقة نشوء الإنسان،و أنه من نطفة أمشاج،في إشارة إلى أنه جار وفق سنة طبيعية،و دور إعدادي،و تهيئته بصورة تجعله قابلا للفيوضات الإلهية في مراحل تكونه الإنساني الذي يؤهله للاختبار،الذي ينشأ عنه صيرورته سميعا بصيرا.

«خلقنا»:

و نصل إلى قوله تعالى خَلَقْنَا، فنقول:إن الخلق قد يستعمل و يراد به إبداع الشيء من العدم..و لعل قوله تعالى: وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (1)و كذا قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ (2)قد جاء بهذا المعنى..

و لكن الفرق بين الخلق و الإبداع،الوارد في قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3)..هو أن الإبداع يلحظ فيه مجرد خروج الشيء من العدم،أما الخلق فيلاحظ خروجه من العدم بما له من مادة و هيئة.

********

(1) سورة مريم الآية 9،و راجع نفس السورة الآية 67.

(2) سورة الأعراف الآية 11.

(3) سورة البقرة الآية 117.

ص: 52

فالخصوصية الوجودية ملحوظة في الخلق.

و قد يستعمل الخلق و يراد به التصوير،و إعطاء الهيئات،و الأشكال.

و في هذا السياق هناك آيات كثيرة تحدثت عن مراحل الخلق التكوينية و تطوراته،و التشكلات التي مرت بذلك المخلوق..

و هذه الآية التي هي مورد البحث،من هذا القبيل،حيث ذكرت بداية خلق الإنسان حين يكون نطفة،ثم تتلاقح مع البويضة.و قد تعدّت كلمة:«خلقنا»بواسطة كلمة:«من»التي يقال لها«من»النشوية،أي التي تشير إلى المنشأ و المبدأ فقال: مِنْ نُطْفَةٍ .. و هي من قبيل كلمة«من» في قوله تعالى عن النبي عيسى[عليه السّلام]: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ (1)و هي نفسها الواردة في قوله تعالى: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (2)فالمراد:أن المبدأ و المنشأ،هو السلالة،و النطفة،و الطين..

ففي الآية المباركة التي تحدثت عن خلق الطير،يقول النبي عيسى [عليه السّلام]:إنه يجعل و يخلق لهذا الطين الذي هو موجود،صورة تشبه الطير،ثم ينفخ في هذا المجعول فيصير طيرا..

فالنبي عيسى[عليه السّلام]لم يقل:أجعل لكم من الطين مثل الطير،لأن جعل الهيئة للطير لا تعني وجود الطير نفسه،ليصح أن يقال:

إن هذا الذي عملته هو مثل الطير..

كما أنه[عليه السّلام]لم يقل:أنا أنفخ الطيرية و أوجدها في تلك

********

(1) سورة آل عمران الآية 49.

(2) سورة المؤمنون الآية 12.

ص: 53

الهيئة،بل قال:إنه بعد نفخه فيه توجد حقيقة الطير بإذن اللّه.

فإرادة اللّه سبحانه،هي سبب وجود حقيقة الطير،و نفخة النبي عيسى[عليه السّلام]لها أثر في تحريك السبب لإيجاد المسبب.

فالذي تعلق به الخلق و التصوير هو الهيئة المماثلة لهيئة الطير..

و في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (1).

تحدثت الآيات الشريفة عن انتقال و تطور من حالة إلى حالة،و من كيفية و صورة إلى أخرى أرقى منها و أكمل..أي أنه يبين لنا طريقة الخلق،لا الإبداع و الخروج من العدم،الذي يقابله البقاء في العدم.

و في خلاصة توضيحية نقول:

إنه حينما يأتي بكلمة«خلق»فتارة يريد بها الإبداع للشيء من العدم- و لكن على هيئة خاصة-مثل قوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (2).

و مثله ما جاء لبيان مراحل النشوء و التشكلات في نطاق الإبداع الكيفي و الإبداع من العدم أيضا،كآية: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً (3)و أمثالها..

********

(1) سورة المؤمنون الآيات 16/12.

(2) سورة لقمان الآية 9.

(3) سورة المؤمنون الآية 12.

ص: 54

و تارة يتعلق الخلق بالهيئة فقط،كما في قوله: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.. (1)و كذا الآيات التي أشارت إلى تطورات الخلق في مراحله كقوله تعالى: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (2)و نحوها.حيث تظهر أن الخلق قد أتى بصورة تدريجية،وفقا لما تفرضه الحكمة في التطوير المناسب لحاله،و استعدادته التي تتنامى،فتحتاج إلى الصور التي تناسبها في كل حال من تلك الأحوال..

و قد ألمحت آية أخرى إلى أن التخليق هو إيجاد هذه الأشكال و الهيئات،و ذلك في قوله تعالى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ (3).

ثم اعتبر تعالى نفخ الروح في الإنسان إنشاء لخلق آخر فقال في آية أخرى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (4).

و حين يتعلق الخلق بالهيئات،فإن ذلك لا ينحصر باللّه سبحانه، و لأجل ذلك نسب اللّه الخلق للنبي عيسى[عليه السّلام]في سورة آل عمران،كما أنه تعالى في سورة المؤمنين بعد ذكر مراحل نشوء الإنسان، قال: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (5).في إشارة إلى أن اللّه هو أحسن المصورين،الذين يتصدون لإعطاء الهيئات.

و في هذا إشارة إلى أن الخلق بمعنى التصوير يصح إطلاقه على اللّه

********

(1) سورة آل عمران الآية 49.

(2) سورة السجدة الآية 7.

(3) سورة الحج الآية 5.

(4) سورة المؤمنون الآية 14.

(5) سورة المؤمنون الآية 14.

ص: 55

تعالى و على غيره..

غير أن اللّه تعالى يتصرف في الكيفية من خلال اقتضاء التصرف في المادة له.فخالقية اللّه أعمق من خالقية غيره،لأنه تعالى يتصرف في الذات و الحقيقة بنحو يقتضي التبدل في الكيفيات،و أما غيره فلا قدرة له إلا على التصرف في الهيئات.

«الإنسان»:

و قد اتضح مما تقدم،السبب في أنه تعالى لم يقل:إنا خلقناه ليكون بذلك قد أشار إلى الإنسان الذي تقدم ذكره بضميره العائد إليه،بل عاد فصرح بكلمة:«الإنسان»فإن ذلك إنما هو لاختلاف الجهة التي يريد التركيز عليها في الموردين.

حيث إنه مرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الأولي،الذاتي،أي عن حقيقته و ذاته،فيثبت أن هذا الإنسان ما زال في رعاية اللّه في كل آن و حين،بغض النظر عن خصوصيات أفراده،و عن كيفية النشوء و التدرج في الخلق لهم..

و مرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الشائع،أي بما هو حاك عن أفراده،بما لهم من نشوء و تكوين مادي،و بما هم لحم،و دم،و عظام، و شكل و روح و نفس،و مشاعر،و أحاسيس،و قوى،و ملكات،و هذا المعنى هو الذي أريد الحديث عنه في هذه الآية الثانية..

و لكنه حديث عن خصوص التنشئة الإلهية التي تسبق اختيار الإنسان،و تحلّيه بصفات الشعور الإنساني،و وصوله إلى مرتبة الشاكر و الكفور..

ص: 56

دور الإنسان في صنع خصائصه:

و لتوضيح ما نرمي إليه نقول:

إن من الضروري أن نجيب في البداية على سؤال يراود ذهن الكثيرين،و هو:

ما ذنب ذوي العاهات؟:

ما ذنب ذوي العاهات؟و هل خلقهم مشوهين ينسجم مع عدل اللّه، و رحمته،و رأفته؟!..

و نجيب:

إننا باختصار شديد،نقول:

إن اللّه حين خلق الكون و الحياة،قد أوجده خاضعا لنواميس، و تهيمن عليه نظم و قوانين،لولاها لم يمكن بناء الحياة،و لم يكن لدى الإنسان أي طموح،أو تخطيط،أو سعي لتطوير الحياة،بالاعتماد على ضمانات تجعل ذلك السعي وسيلة إلى تحقيق مفردات ذلك الطموح..

و لا شك في أن للأشياء بالنسبة إلى ما سواها تأثيرا و تأثرا بها.و قد تكون هذه التأثيرات على درجة عالية من الخفاء بالنسبة لنا.و كمثال على ذلك نذكر أنه لو كان هناك اثنان يجلسان في غرفة واحدة،فإن نفس وقوع نظر أحدهما على ألوان و أشكال تختلف-و لو جزئيا-عما يقع عليه نظر الآخر-سيترك آثارا على نفس و روح أحدهما تختلف عن الآثار التي سوف تكون لدى الآخر.كما أن ما يفكر به الإنسان و ما يأكله،و يشربه،و يلبسه،و الكلمات التي يسمعها،و الأصوات التي تمر على سمعه،و كذلك الروائح و الملموسات و غير ذلك،إن لكل ذلك و سواه تأثيراته الإيجابية،أو السلبية،على روح، و عقل،و مشاعر،و انفعالات الناس..

ص: 57

و لأجل ذلك كثر تعرض أهل بيت العصمة[عليهم السّلام]لإرشاد الناس إلى المنافع و المضار.و رسم الشارع المقدس للناس مفردات تعاملهم مع كل ما يحيط بهم بصورة تفصيلية.و كان فيها ما ألزمهم بمراعاته،و فيها ما ندبهم إليه،و ما حرمه عليهم،و ما كرهه لهم..و تلك هي أقوال النبي الأكرم و الأئمة الطاهرين خير شاهد على ذلك،فإنهم لا يقولون شيئا من عند أنفسهم،بل كل ذلك بوحي إلهي،و بيان،و توفيق و تسديد رباني..

و قد خلق اللّه تعالى النبي آدم[عليه السّلام]،و هو أول إنسان على هذه الأرض ليكون النموذج الأكمل و الأتم،الذي استحق أن يعطى خمسة و عشرين حرفا من الاسم الأعظم،كما ورد في الروايات،و أعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها البشر ليوصلوا الكون إلى كماله الأتم.

فكانت الهداية التكوينية،و الإلهامية،و الغريزية،و الفطرية،و الحسية، و العقلية،و الشرعية،فأعطاه أيضا الاختيار و الإرادة،لأن ذلك من موجبات كماله،و لما امتد النسل في ذريته عليه السّلام،بدأت تظهر منهم المخالفات المؤثرة في تشويه خلقه و خلقه،و لو أنه استفاد هدايات اللّه تعالى،و لم يبادر إلى اختيار المخالفة،و التعدي،فإنه سوف لن يوجد مشوه و لا مجرم،بل لم يوجد من الجمادات و الحيوانات و النباتات إلا ما هو تام الخلقة و صحيحها..و لكنه لما اختار التعدي و شرع في الفساد، و الإفساد..بدأت التشوهات الخلقية،و الخلقية تظهر في روحه و مشاعره، و جسده،و أخلاقه،و نفسه،و في الموجودات المحيطة به،من نبات، و حيوان،و جماد.فإنه حتى الأنفاس لها تأثيرها الإيجابي في الحيوان و النبات و كل شيء.و قد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ .. و قتل قابيل هابيل،و بدأت وراثة العاهات

ص: 58

و التشوهات،و لا تزال..

و هذا معناه:أن اللّه تعالى ليس مسئولا عن هذه العاهات،بل المسئول هم الآخرون.

غير أنه سبحانه قد وضع عقوبات صارمة على من خالف.كما أنه لم يحمّل صاحب العاهة مسئوليات المعافى..و عوضه في الدنيا ما يمكن تعويضه..و إن كان من أهل الإيمان،و العمل الصالح،فإنه لا يحرمه في الآخرة من فضله،و لا بد أن تشمله رحماته الغامرة،و التي أهّل نفسه للاستفادة منها،و مكّنه من طلبها و استنزالها..

و إذا أردنا أن نقترب قليلا من مورد الكلام في الآية المباركة،فإننا نقول:

الفطرة..و الإنسان:

إن اللّه سبحانه حين يزود الإنسان بالفطرة،فإنه يعطيه إياها صافية من الشوائب،بريئة من العيوب،فيستقبلها كيانه،الذي قد تكون فيه تشوهات تمنع من استقباله للفطرة بصورة سليمة و قويمة..

و لعل هذه التشوهات نشأت من خلل عارض على آلية تكوين النطفة،كأن تكون قد تكونت من حرام،أو في ظروف نفسية غير مواتية، أو في حالات و بأساليب حذّر الشارع منها..أو من خلال وراثة خصائص غير سليمة،من خلال عدوان الآخرين على نواميس الخلق و الفطرة،وفقا للمروي عنهم[عليهم السّلام]:اختاروا لنطفكم،فإن الخال أحد الضجيعين..

أو لغير ذلك من أسباب..

و على كل حال،فإن الكيان الذي تنشأ فيه الفطرة،إنما هو بمثابة

ص: 59

المرآة التي تستقبل الصورة،فإنها قد لا تكون على درجة مرضية من الصفاء،و قد تعاني من بعض التلوثات،أو الندوب و التعرجات التي تمنع من استقبالها بصورة سليمة..

غير أن هذه الفطرة،تستمر في الكمون..إلى أن يملك الإنسان قراره و اختياره،بعد أن زوده اللّه بالهدايات،و منها:العقل،ليكون مرشدا و هاديا له..ثم يوجه إليه الخطاب الإلهي،و يصبح مكلفا بإصلاح نفسه، و تصفيتها لتتمكن الفطرة من ممارسة دورها،حتى لا تعيقها تلك التشوهات،و لا تعمي عليها طريقها هاتيك التلوثات.فإنه بجلاء هذه المرآة تصبح الفطرة قادرة على التألق،و على التعبير عن نفسها بصورة أتم و أبه..

و حيث يكون اللّه سبحانه قد هيأ لهذا الإنسان القدرة على التصرف في كل اتجاه،و أعطاه الاختيار و الإرادة،فقد يبادر هذا الإنسان باختياره إلى الاعتداء على فطرته و تشويهها،و إلحاق الأضرار الفادحة بها،بل و القضاء على منجزاتها،و إبطال كل جهودها و مصادرة دورها،و منعها من التأثير في صنع خصائصه،و إفساح المجال لتأثير ما عداها بها، و إخضاعها لإرادات الآخرين..و قد ورد عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]:

كل مولود يولد على الفطرة إنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه،أو يمجّسانه (1).

و بذلك يكون قد تسبب في حجب الفيض الإلهي عنه،حيث يوكل إلى نفسه،و تحل به الكارثة..

********

(1) منتهى المطلب ج 2 ص 932،و الحدائق الناضرة ج 1 ص 425،و راجع:المجموع للنووي ج 9 ص 326 و المبسوط للسرخسي ج 10 ص 62 و المغني لابن قدامة ج 10 ص 473.

ص: 60

«من نطفة»:

قد تقدم أن كلمة«من»الواردة هنا هي«من»النشوية،أي لتشير إلى أن نشأة الإنسان و بداية تكوينه تبدأ من نطفة.

و ليس المراد أن الإنسان بعض من النطفة،أو من جنس النطفة، لتكون كلمة«من»تبعيضية،أو جنسية..

«نطفة أمشاج»:

النطفة هي الماء القليل..ثم أطلق على ماء الرجل أو الحيوان الذي يتولد منه مثله.و قد أشارت كلمة أمشاج إلى أن لهذه النطفة اختلاطا و امتزاجا متكررا في عمق ذاتها،و كذلك مع غيرها،كبويضة المرأة،التي تكون لها أيضا أمشاجية،و اختلاط،و امتزاج ذاتي مع نطفة الرجل،و قد يكون ذلك في عرض واحد،و قد يكون في ضمن امتزاجات ممتدة عبر مراحل الخلق:العلقة،ثم المضغة:مخلقة،أو غير مخلقة،ثم العظام،ثم كسوتها لحما،ثم بعث الروح في هذا الموجود،ليصبح خلقا آخر..

و هي امتزاجات لا تقتصر على النواحي المادية،بل هي تمتد لتشمل النواحي و الخصائص المشاعرية،و الإدراكية،و غيرها،ثم تستمر في سيرها في عملية ابتلاء و اختبار،ينقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة أرقى منها،ليصبح بعد ذلك سميعا بصيرا..

إعراب كلمة«أمشاج»:

و اختلفوا في إعراب كلمة أمشاج،فزعم الزمخشري:أنها وصف مفرد لموصوف مفرد،فإن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد و التثنية و الجمع..

لكن غير الزمخشري قال:إن العرب قد تصف المفرد بالجمع مثل:

ص: 61

ثوب أسمال..

و نقول:

أما بالنسبة لوصف المفرد بالجمع،فقد قيل:إن هذا شاذ فلا يقال مثلا:رجل أبطال،أو امرأة أخيار.

أما كلمة أمشاج:فقد تكون اسم جنس له واحد من لفظه،فيكون معناه الجمع،و إن كان لفظه مفردا،و لعل هذا هو السبب في أنهم قالوا:

إن واحده مشيج،و لم يقولوا:مفرده مشيج..فلا مانع إذن من إعرابه وصفا لكلمة نطفة..

كما لا مانع من إعرابه بدلا،كما ذكره البعض..و يكون تفسيره بكلمة أطوار،قد جاء على سبيل استخراج معناه،لا لأجل أنه جمع و له مفرد،بل لأنه مفرد معناه الجمع..

«أمشاج نبتليه»:

الأمشاج واحده مشيج.و هو الخلط.

و قد فسر الأمشاج بأخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة،عن ابن عباس،و غيره.

و قال قتادة:معنى أمشاج أي أطوار:طورا نطفة،و طورا مضغة، و طورا عظما إلى أن صار إنسانا ليختبره بهذه الصفات.

و نقول:

إن كلمة أمشاج قد جاءت وصفا لكلمة نطفة..مما يشير إلى أن الأمشاجية موجودة أولا و بالذات،في ذات النطفة،و لا ينافي ذلك عروض أمشاجية أخرى لها من خلال تلاقح نطفة الرجل ببويضة المرأة، كما ربما يقال..

ص: 62

كما أن الابتلاء قد رتب على الأمشاجية،لتكون هي مقدمة له،فلا بد أن تكون هذه النطفة،بملاحظة أمشاجيتها،لها قابلية الابتلاء و الاختبار المباشر،بحيث يكون هذا الابتلاء ناشئا من واقع تلك النطفة المختلطة، و هو الذي نشأ عنه كون الإنسان سميعا بصيرا،ثم يكون أهلا لأن يهديه اللّه السبيل،إما شاكرا و إما كفورا..

و واضح:أن ذلك لا يتحقق من مجرد اختلاط نطفة الرجل ببويضة المرأة..فإن هذا النوع من التلقيح لا ينحصر بالإنسان..بل هو أمشاجية تفترق عن أمشاجية النطفة الحيوانية،في أن ذات النطفة تحمل في داخلها مزايا،و كمالات،و خصائص،و صفات إنسانية بالقوة.و قد اختلط بعضها ببعض أكثر من مرة سواء كانت الاختلاطات عرضية للعديد من الخصائص الموجودة في النطفة،أم طولية في نطاق تحولاتها إلى علقة حاوية لتلك الخصائص،ثم إلى مضغة إلخ..

فإن هذه الاختلاطات لتلك العناصر الخاصة بالتكوين الإنساني عرضا و طولا تؤثر جميعها في جعل الإنسان صالحا لأن يكون موردا للاختبارات،ثم أن يجعله اللّه مختارا،يستجيب لتلك الاختبارات من موقع اختياره،ثم تكون نتيجة ذلك هي أن يصبح هذا الإنسان شديد السمع،حديد البصر جدا نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً..

لا بد من إجابة:

و تبقى أسئلة في الآية المباركة تحتاج إلى إجابة،مثل السؤال عن السبب في أنه تعالى لم يقل:سامعا مبصرا،بل قال: سَمِيعاً بَصِيراً؟!..

و السؤال عن سبب تقديم السمع على البصر؟!..

و لما ذا فرعهما على الابتلاء؟!..

ص: 63

و لما ذا عبر بالجعل؟

و لما ذا كان هذا الجعل منه تعالى،فلم يقل:فكان سميعا بصيرا؟!..

و لما ذا السمع و البصر دون غيرهما من الحواس؟!..

أو لما ذا لم يقل:جعلناه عاقلا،أو جعلناه ذا شعور و إدراك؟!.مع أن العقل من أعظم نعم اللّه على الإنسان..

كما أنه حين ذكر هدايته السبيل،لم يقل:إما شاكرا،و إما كافرا،بل جاء بصيغة المبالغة،فقال:إما شاكرا،و إما كفورا؟!..

و أشار أيضا إلى الشكر و الكفر،لا إلى الهداية و الضلال؟!..

و كل ذلك سيتضح إن شاء اللّه فيما يأتي من مطالب..

الأمشاجية للمزايا الإنسانية،لا المادية:

ثم إننا نستطيع أن نؤكد ما ذكرناه ببيان آخر،هو كما يلي:

أولا:إنهم يقولون:إن نطفة الرجل تهاجم بويضة المرأة في القرار المكين،و تمتزج بها،ثم تبدأ بالنمو و التطور في مراحل الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ . و في هذه الأطوار قد يبتلى ببعض البلاءات التي تفرض عليه وراثيا،بفعل السنن الإلهية الحاكمة،و تكون النتيجة هي إرث أمراض و عاهات،و إرث مواصفات جسمانية،أو حيوانية،كاللون و الشكل، و الطول..و إرث بعض الحالات النفسانية كقلة الحياء،أو نحو ذلك..و قد لا يعرض له شيء من ذلك،بل يبقى يسير في مراحل النشأة بصورة طبيعية،وفقا للسنن الإلهية الحاكمة،في هذه الأحوال أيضا..

و ليس ذلك كله هو المقصود بقوله في هذه الآية نَبْتَلِيهِ ، لأن احتمال انتقال تلك الحالات و الابتلاءات،مساوق لاحتمال عدم عروضها للإنسان،لأن الآية قد فرضت حصول الابتلاء المصاحب للخلق

ص: 64

و التكوين،على نحو لا بد معه من حصول السميعية و البصيرية التي هي من مظاهر الإدراك و الشعور و الوعي العميق،و الفهم للدقائق..

فهذه الحتمية،و ذلك الترديد في الحصول تعطينا أن هذه الأمشاجية ليست من ذلك النوع الآنف الذكر،بل هي من نوع آخر.

ثانيا:إن هذا النوع من البلاء و الابتلاء،يترتب عليه صيرورة الإنسان سميعا بصيرا،كما دلت عليه فاء التفريع في قوله: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.. و ليس ما ذكر آنفا مما يترتب عليه ذلك،لعدم وجود سنخية بين تلك الابتلاءات و بين هذه النتيجة..

كما أنه ليس المراد أن هذا الابتلاء قد أوجب أن يجعل اللّه له حاسة السمع و البصر،إذ لو كان كذلك لقال:«فجعلناه سامعا مبصرا»..

بل المراد:أنه قد جعل له رهافة السمع و شدته،و قوة البصر وحدته، بعد الفراغ عن أصل وجود تلك الحاسة لديه..و الرهافة إنما هي من أوصاف حاسة السمع و البصر في مجال العمل..و لكن لا لمجرد آليتهما التي تربط بين الإنسان،و بين الأشياء،ثم تغيب عنه،ليتدبر أمره معها،بل من حيث دورهما في عمق إدراكه للحقائق،و شدة حساسيته تجاهها و تجاه كل حالاتها و خصائصها..

فاتضح:أن النشأة للمزايا و الكمالات المادية الحيوانية،الكامنة في النطفة من حيث تكوينها الذاتي التي اكتسبتها النطفة عن طريق الوراثة، و هي مرحلة يشارك فيها الإنسان غيره من الحيوانات-إن هذه النشأة- ليست هي المقصودة في هذه الآية،بل المقصود هو أن تلك النطفة تحمل في داخلها مزايا أخرى،تختص بإنسانية الإنسان،و منها تتكون فطرته الإنسانية،فهذه النطفة،بهذا اللحاظ،هي التي اختلطت،و تفاعلت،

ص: 65

و انتقلت من مرحلة إلى مرحلة،حتى جاء دور النشوء الأكبر،الذي أشار إليه تعالى بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (1).

فانفصل بذلك عن غيره من الحيوان،ليتدرج في الحصول على خصائصه و ميزاته،من حيث هو إنسان،مريد،مختار،عاقل،مفكر إلخ..

و هذا بالذات ما ترتب عليه الابتلاء و الاختبار الذي نشأت عنه السميعية و البصيرية..

آدم أبو البشر:

و قد يسأل سائل:هل كان خلق النبي آدم[عليه السّلام]أيضا من نطفة أمشاج؟!..أم أنه مستثنى من هذه الآية؟!،لأنها تتكلم عن الإنسان المولود من النطفة،و النبي آدم إنما خلق من تراب!!..

و يجاب عن ذلك:بأن الأمشاج تعني الاختلاطات المختلفة،و يراد بالنطفة الماء القليل،أو كل ما هو قليل..

و هذا الأمر يمكن تصوره أيضا بالنسبة للنبي آدم عليه و على نبينا و آله الصلاة و السّلام..فإنه خلق من شيء قليل،و فيه اختلاطات تستبطن مزايا..تؤهل هذا المخلوق للابتلاء،الذي تنتج عنه السميعية و البصيرية.

«الابتلاء»:

و قد قلنا:إن محور الكلام في الآية الكريمة هو الإنسان بما له من صفة إنسانية،لا البشر،و لا خصوصيات الحيوانية في الإنسان،و ذلك لأن الإنسان هو الذي يصح ابتلاؤه و اختباره.

********

(1) سورة المؤمنون الآية 14.

ص: 66

فالأمشاجية في الإنسان أكمل منها في الحيوان،من حيث إن فوق الصفات التي يشترك فيها الإنسان و الحيوان،صفات أخرى تختص بالإنسان،هي التي أهّلته للابتلاء،و هي التي تنشأ عنها السميعية و البصيرية،و الإرادة،و الاختيار،و لأجلها ظهرت حاجته إلى الهدايات على أنواعها،مما يعني أنها أمشاجية لمزايا إنسانية،و حيوانية ترتقي إلى مستوى التأثير في إنسانيته إلى حد إبطالها،أو حفظها و تكاملها.فبعد خلق الإنسان من النطفة الأمشاج الجامعة لتلك المزايا و يصير أمامنا إنسان ماثل للعيان،تبدأ عملية الابتلاء له..

و لعل عملية الابتلاء تبدأ حين يبدأ الإنسان بالسعي لاستجماع خصائصه و مزاياه الإنسانية،و الحصول على كمالاته بإرادته،و اختياره، بما له من فطرة هادية،و عقل راشد و مرشد،فيواجه في داخله غرائزه، و منها حب المال،و الجنس،و الأنا،و نحوها من النوازع التي تدعوه إلى الإغراق و الإفراط إلى حد السير في غير ذلك الاتجاه.

و لحالات الجسد تأثيرها على حالات الروح و النفس،فيكون الاحتكاك و الصراع فيما بين هذين..و يكون للعقل و للفطرة دور الهادي و المرشد..

و ينشأ عن ذلك التصدي تمييز بين الأمور،و إدراك لدقائق القضايا، و حصول على معارف و خبرات جديدة..

و يصبح الإنسان بعد أن تبلورت في شخصيته مزاياها بأبهى و أجلى مظاهرها،و بعد أن صفت و زكت،و طهرت،سميعا بصيرا،ثاقب النظر، عميق الفكر،عارفا بالحسن و القبيح،مميزا للخطإ من الصحيح..واقفا على مواضع الخلل و النقص،و الحاجة و العجز في داخل ذاته،و في قدراته..

ص: 67

و يفترض فيه أن يتعامل مع الأمور من موقع المتطلب لما هو أصوب،و الساعي لما هو أزكى و أطيب،و لما هو أتم و أكمل في الإنسانية،ملبيا لنداء عقله و فطرته،قبل أن يلبي أية دعوة أخرى،غرائزية كانت أو غيرها..

و هذا معناه:أن عليه أن يدرك مزايا الأشياء،و يعرف مدى ما تسهم به في معالجة مواضع النقص،و العجز،و الخلل،التي يواجهها.

و لكنه قد يشذ عن الطريق،و يتخذ سبيل الاستجابة لأهوائه و غرائزه، زاعما أن ما تدعوه إليه هو ما يحقق الكمال له،مستخدما في ذلك يده، و رجله،و عينيه،و سائر ما أعطاه اللّه إياه من قوى ظاهرية و باطنية، ليستخدمه في الوصول إلى الخير و الصلاح و الهدى،فيتوصل به إلى الشرور و الآثام،و يقهرها على الاستجابة له،فتطيعه رغما عنها،و تقوم بما تقوم به،و هي تسبح اللّه و تلعن من قهرها،و تسجل ذلك عليه،لتشهد به في يوم القيامة،فينتهي به الأمر،بسبب الكفر و الطغيان،إلى فقدانه لمزاياه الإنسانية،حتى يصير كالأنعام،بل أضل سبيلا.

فظهر:أن السميعية و البصيرية قد جاءت على شكل نتيجة طبيعية لذلك الابتلاء،فقال تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً...

و ظهر أيضا:أن الابتلاء ليس بمعنى الابتلاء بالمصائب و الرزايا في دائرة الجسد،بل هو ابتلاء في دائرة المسئولية،ينتج عنه كمال،و وعي، و رهافة إحساس،و سميعية،و بصيرية،و بلورة مزايا،و نشوء خصائص عن هذا السبيل.

فاذا كلفك بالصدق مثلا،فإنه يشير بذلك إلى نقاط الضعف التي لو أثيرت،فإنها ستذهب ببعض سعادتك،و تصدك بعض الصدود عن

ص: 68

هدفك..ثم هو يدلك بذلك على ما يتلافى به هذا الضعف،و يتدارك به ذلك الخلل،لتستقيم حياتك،و تطّرد حركتك بقوة و ثبات،نحو تحقيق طموحاتك،و أنت تدرك حجمك و مستواك،و تعرف مواضع الضعف و القوة،و النقص و الكمال في عمق وجودك..

نبتليه!!بما ذا؟!:

و كلمة«نبتليه»جملة في موقع الحال:أي أن هذا الخلق قد صاحبه ابتلاء نتج عنه في نهاية المطاف السميعية و البصيرية مع ملاحظة:

أولا:إن ابتلاء كل مرحلة إنما هو بما يناسبها.

ثانيا:إن الابتلاء قد بدأ من النشأة الطينية،ثم النشأة الحيوانية،ثم النشأة الإنسانية.

و بعبارة أخرى:هناك نظرتان للابتلاء الذي أشارت إليه الآية المباركة..

النظرة الأولى:

إن للابتلاء مراحل مختلفة،و لكل مرحلة مستوى و نوع يناسبها..ثم تكون له نتائج،تختلف و تتفاوت أيضا..

فهناك ابتلاء يؤهل لمقام النبوة،أو لمقام أولي العزم من الأنبياء،أو لمقام أدنى من ذلك بدرجات تكثر و تقل..

و لكن مما لا شك فيه أن ثمة مرحلة من الابتلاء يمر بها البشر جميعا بنسبة واحدة،و هي التي تؤهلهم للخطاب الإلهي و التكليف بالأحكام.

ص: 69

النظرة الثانية:

ثم إن الابتلاء من حيث ترتبه على خلق الإنسان من نطفة أمشاج، قد جاء ليثير كوامن الإنسان،في صراط نموه و تكامله المتمثل في حصوله على خصوصياته و مزاياه الإنسانية،و في ترميم و إصلاح ما وجده مشوها أو منقوصا،و في الحفاظ على حالة السلامة فيه بعد إصلاحه..

و يتجلى هذا الابتلاء تارة في مواجهة الإنسان بالمغريات المحرمة، و بالمصائب و البلايا،فإن هذه المصائب و البلايا إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها،هي من أسباب تكاثر النعم،بل هي بنفسها نعم،من حيث أنها من أسباب تكامل الإنسان،و من موجبات صقل شخصيته.

ثم يتجلى تارة أخرى في مواجهة الإنسان بالنعم نفسها،لتكون هي مادة الابتلاء و الاختبار له:فيعطيه اللّه القوة و الجمال و المال،و الغرائز،ثم يعطيه العقل،و الفطرة الهادية إلى الكمال.بالإضافة إلى الهدايات التشريعية،التي يحتاجها،من حيث إن إعطاء تلك النعم له قد جعله بحاجة إلى هدايات تناسبها،و لينظر،أ يشكر أم يكفر.

و قد روي:أن أول ما ابتلى اللّه به عباده هو نعمة خلقهم،حيث يفرض عليهم أن يحسنوا التصرف بأنفسهم،و أن يشكروا اللّه المتفضل عليهم بهذا الخلق،ثم الاستفادة منه في دائرة تكامل خصائصهم الإنسانية و الروحية،و حتى الجسدية،و حفظها.

و المناسب لسياق الآيات هنا هو إرادة الابتلاء بالنعم،لا الابتلاء بالمصائب و البلايا..فإن الآيات تحدثت عن الشكر للنعمة،و الكفر بها.

فقال تعالى: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

ص: 70

الاختبار و الاختيار:

و يأتي في الدرجة التالية حالة المواجهة و الصراع بين الخصوصيات للأفراد و الجماعات،و هو الأمر الذي تفرضه حاجات الحياة،و حركتها المستمرة..

غير أن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة صريحة و صحيحة هو:هل أن الابتلاء و الاختبار الذي ذكر في هذه الآية المباركة،يأتي في دائرة اختيار الإنسان؟أم أنه يحصل خارج دائرة اختيار الإنسان؟!بمعنى أن الاختبار و الابتلاء أمر تكويني و تصرف إلهي قاهر للإنسان،و مفروض عليه تماما كما يختبر الإنسان المعادن و يجري عليها تجاربه،لكي تأتيه النتائج من خلالها،من دون أن يكون لتلك المعادن أي دور في القبول أو الرد..

و الجواب:

أن الاختبار إنما هو في دائرة اختيار الإنسان،و من خلال رفضه و قبوله و ممارسته،و على أساس ذلك و من خلاله تتكون خصائصه و تتنامى و تتكامل ميزاته..مما يعني أن الاختلاط و الأمشاجية في النطفة، لا يعني الجبرية،و لا يسلب الاختيار (1)،و نقصد بها نطفة الرجل و بويضة

********

(1) فإن ما يزعمون أنه أسباب شر في الإنسان،و هي غرائزه،و ملكاته،و ميوله،ما هي إلا أسباب الخير له و فيه..بل هي نعم كبرى عليه،و من أهم أسباب حفظ وجوده،و بناء حياته..إذا أحسن الاستفادة منها،و لم يستعملها في غير السبيل الصحيح..

فإذا أعطاك طبيبك دواء،و أسأت استعماله،و جلب لك الضرر،فذلك ليس ذنب الدواء، و لا هو ذنب الطبيب،بل الطبيب ناصح متفضّل،و الدواء نافع و لازم.و المذنب هو من أساء استعماله.و لم يدر لنصائح الطبيب باله..

ص: 71

المرأة،التي تحمل بدورها خصائص تتشارك،فيتشاركان في أمشاجية مؤثرة،في صنع خصائص الكيان الإنساني،لأن الأمشاجية هي تصرف يوقظ مقتضيات الغرائز،و تتبلور من خلاله الحالات النفسية و الروحية، و الصفات المختلفة للإنسان..

فالتنشئة تحصل في خضم صراع الخصوصيات.و هي لا توجب سلب الاختيار،و إنما هي توجب تأكيده.و لذا قال تعالى: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و إنما قلنا:لا يصح الاختبار إلا للمختار،لأن الإنسان يتنامى بصورة تدريجية،و في هذه النشأة تستيقظ غرائزه التي أنعم اللّه عليه بها لتقوم بها حياته،كغريزة حب التملك،و حب الذات،و الغريزة الجنسية و غير ذلك، و تنمو قواه الجسدية،و تصير لديه حالات،و صفات مختلفة،كالخوف و الكرم و الشجاعة و الجبن،و ما إلى ذلك..

و تحصل صراعات،و تتصادم خصوصيات الأفراد فيما بينها داخليا، ثم مع خصوصيات الجماعات.و يحتاج إلى الهدايات لتحدد له كيف و متى يتحتم عليه التنازل عن الخصوصية الفردية لصالح القواسم المشتركة فيما بينه و بين الآخرين،ليكون المحور هو اللّه،و ليكون الذي يتحرك في الحياة هو الإنسان الإلهي لا الفرد،المحكوم بالأنا،و بغير ذلك من الغرائز.فيمنّ اللّه عليه بما يحتاجه من هدايات،و يكون له الخيار و الاختيار بين الكفر أو الشكر،و يكون عليه أن يحسن الاختيار لمكونات شخصيته الإنسانية،فيختار أن يكون شجاعا لا بخيلا،و أن يكون ودودا لا حسودا،من خلال الهداية الإلهية في تحديد موارد الإقدام و الإحجام التي تستند إلى نظرة واقعية إلهية عميقة و مؤثرة..

فإذا وقع في المحذور،و استخدم غرائزه بالطريقة الخاطئة،فإنها

ص: 72

ستكون مفسدة لحياته،فغريزة الجنس الضرورية لحياته،ليس له أن يمارسها بالطريقة المحرّمة-كالزنى مثلا-و غريزة حب الذات،ضرورية لاندفاع الإنسان لنيل الكمالات،فإذا تجاوز الأمر ذلك،فأصبحت الذات معبوده و إلهه،كانت الآثار سلبية و مدمرة..

فهي كالدواء الذي يفرط الإنسان في تناول جرعاته،فإنه بدل أن يكون نافعا،سيكون ضارا،بل مهلكا له أحيانا.

هذا كله بالنسبة للخصوصيات التي تحدّث عنها في قوله:نطفة أمشاج.

و أمّا الخصوصيات الموروثة،التي لها ارتباط بالروح و النفس،أو التي يكتسبها بالتربية،أو بالتعامل الاجتماعي،فهي،و إن كانت تجعله أميل إلى هذا الجانب أو ذاك..و لكنها لا تبرر انسياقه مع ميوله،إذ إنه لا يفقد معها عامل الاختيار و الإرادة،و لا تبرؤه من مسئولياته الوجدانية و العقلية،و الشرعية أيضا،و تفرض عليه أن يقوم بمهمة إزالة التلوثات التي لحقت بمرآة نفسه،و إعادة الرونق و الصفاء لها،و ليكون ذلك من أسباب كماله،و من أسباب نيله للمزايا،و رفع درجته،و زيادة كرامته و سؤدده،و ليصبح من ثم من عباده المكرمين،المخلصين.

و سوف يجد أن ما يملكه من مزايا و هبات و ملكات،سيكون له دور في ترميم،و تقوية المزايا الأخرى،ليصل من ثم إلى حالة التوازن و الاعتدال.

و لو أنه أهمل ذلك،فإنه لن يكون معذورا في التعدي على الحرمات،لأن مجرد ميله إليها لا يجعله مجبرا على الارتطام بها..

و لو أنه فعل ذلك،فإنه سيواجه آثار المعاصي في الدنيا و في

ص: 73

الآخرة،بما في ذلك آثارها على النفس و الروح،و القلب،و الفكر،و الحياة كلها،و قد أشارت الروايات إلى أن بعض المعاصي يوجب القسوة في القلب،و بعضها يوجب الزيغ،و بعضها يوجب ذهاب حب أهل البيت [عليهم السّلام]..و غير ذلك.

و التكليف الإلهي أيضا هداية و نعمة،و لكنه في نفس الوقت ابتلاء له أثره في تكامل الإنسان..و في ترشيد و توجيه طموحه،و هو حركة، و غنى،و نماء،و صفاء،إذ ليس الإنسان بمثابة لوحة فنية معلقة على جدار..بل هو مخلوق له..قلب،و حياة،و إرادة و اختيار،و هي معه تعمل و تؤثر حتى آخر لحظة من حياته..و كم رأينا من إنسان ينحرف بعد عشرات السنين من الاستقامة،أو يستقيم و يهتدي بعد عشرات السنين من الانحراف،و كلاهما بقرار و اختيار.

«فجعلناه»:

إن هناك فرقا بين كلمة:«جعل»،و كلمة:«خلق»،إذ إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية،فسنرى:أن كلمة«خلق»مثلا ترد أحيانا على نفس الشيء مباشرة،فيقال:خلق السماء،و خلق الأرض مثلا..ثم إنه و بعد ورود الخلق عليه يصبح محورا لأمور أخرى،تضاف إليه،أو تنشأ منه، أو تحل فيه و تطرأ عليه،و ترد أحيانا أخرى لبيان عروض الهيئات و الحالات على الأمر الموجود..

أما كلمة«جعل»فتتعلق أولا بالأمر الطارئ على أمر آخر،كالسميعية و البصيرية الطارئة على الإنسان،بعد أن تفرضه كمحور ثابت و مرتكز.

فكلمة«جعل»تضيف إلى هذا المرتكز أمرا آخر،أو تحوله من حالة إلى حالة أخرى،أو توجد فيه حالة ما،أو نحو ذلك..

ص: 74

و نجد لهذا و ذاك،شواهد في الآيات المباركة..

فأما بالنسبة لكلمة«جعل»،فلاحظ الآيات التالية:

1- جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ (1).

2- جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).

3- هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً (3).

4- وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً (4).

5- أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (5).

6- ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (6).

7- وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (7).

و غير ذلك كثير..

و أما بالنسبة لكلمة«خلق»فلاحظ الآيات التالية:

1- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً (8).

********

(1) سورة الانعام الآية 96.

(2) سورة النحل الآية 78.

(3) سورة الرعد الآية 30.

(4) سورة الجاثية الآية 23.

(5) سورة البلد الآيتان 9/8.

(6) سورة المائدة الآية 48.

(7) سورة المائدة الآية 48.

(8) سورة فاطر الآية 11.

ص: 75

2- أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (1).

3- هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً (2).

4- إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.

كما أن الجعل قد أطلق على التوليد لشيء من شيء،كقوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ .

و أطلق على التحويل من شيء إلى شيء كقوله: جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ..

و أطلق على تشكيل الشيء نفسه،و إعطائه صورته،كقوله تعالى:

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً.. و قوله: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ ..

و أطلق على إضافة خصوصية لشيء ما،كقوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً.. (3).

و قد جاء التعبير بجعلناه بصيغة جمع المتكلمين في إشارة إلى مقام العزة و العظمة الإلهية من جهة،و ليعرفنا:أن تضافر الأسباب و تكاملها وفقا للسنن الإلهية الجارية،لا يعني أن يصبح الإنسان سميعا بصيرا استنادا إلى تلك الأسباب و حسب،بل دور تلك الأسباب هو أن تؤهله ليصبح محلا و قابلا للفيض الإلهي.فاللّه هو الذي يجعله كذلك،بعد اكتمال أسبابه،مع قدرته على حجب الفيض عنه،حتى مع اكتمال تلك الأسباب..

********

(1) سورة المرسلات الآية 21.

(2) سورة الفرقان الآية 54.

(3) سورة مريم الآيتان 31/30.

ص: 76

فالابتلاء المصاحب للتكليف و المسئولية يجعل الإنسان مستعدا لإفاضة المزيد من الإدراك،و الفهم،و الوعي،و السميعية و البصيرية عليه.

و لذا قال: فَجَعَلْناهُ و لم يقل:فيصير سميعا بصيرا.

تقديم كلمة سميع على بصير:

و بالمراجعة إلى الآيات القرآنية يتضح:أن ديدن القرآن قد جرى على تقديم السمع و السميعية على البصر و البصيرية..

فلعل من أسباب ذلك:

أن درجات الإحساس بالأشياء تختلف و تتفاوت،باختلاف صاحب الحاسة،و باختلاف الحاسة نفسها،و باختلاف المحسوس أيضا،نوعا، و كما،و كيفا.

و لتوضيح ذلك نقول:

إن الإبصار يتم بارتسام صورة لشيء ما،ثم يتم إرسال هذه الصورة إلى القوة المدركة،لتمييز ألوانها،و أشكالها،و أحجامها،و نحو ذلك..

أما السمع،فهو يحصل بصورة أكثر تعقيدا،و ذلك لأن احتكاك المسموعات يحدث ارتجاجات،يصل مداها إلى قوى الإدراك التي تقوم بالتمييز بين حالات و مستويات و ميزات ذلك الصوت،الذي نشأ عن ذلك الاحتكاك من خلال ملاحظة حالات و خصوصيات تلك الارتجاجات..

فإذا كان البصر يعكس صورة،ثم تتلقفها قوة الإدراك،و تضعها على المشرحة،و تميز بين حالاتها،و ألوانها،و أشكالها..

فإن السمع ليس كذلك،بل إن الصوت يصل أولا إلى مناطق الإحساس،و يتفاعل معها،و تتفاعل معه..و يثيرها،و يؤثر فيها..ثم تتلقفها

ص: 77

قوى الإدراك و التمييز عن هذا الطريق.و تتولى هذه القوة بيان الحدود و الحالات و الخصوصيات التي تميز ذلك الصوت،عما عداه،و يدرك كثيرا من الأمور المرتبطة بذلك الصوت فيدرك آثاره،و يدرك أيضا أن ما يسمعه هو صوت طفل،أو صوت رجل،أو امرأة،و أن صاحب هذا الصوت خائف،أو مستبشر،و أنه قريب أو بعيد،و أنه في هوة بعيدة،أو على رأس جبل..و أن مصدره هو هذه الجهة أو تلك..

كما أن بعض الأصوات حتى حينما تكون على درجة من الخفوت، قد لا يستطيع الإنسان أن يتحملها،و يشعر:أن قلبه يتقطع بسببها،بل قد تصل حاله-لو استمرت-إلى درجة الانهيار..كما أن بعض الأصوات تستفزه بصورة لا شعورية،أو تؤثر على مشاعره،فيتمايل طربا لها،و قد يقوم بحركات لا شعورية،انسياقا مع أنغامها المثيرة للطرب،و المحركة لأحاسيسه.و قد توجب تلك الأصوات كآبته،أو خوفه،أو الانبساط و التراخي،و الاستسلام،إلى آخر ما هناك..

و الصوت الذي تسمعه إذا كان آتيا من بعيد،فإنه يتلاشى بصورة حقيقية.لكن ما تبصره في المبصرات لا يتلاشى..حتى و إن رأيته صغير الحجم كالطائرة التي تراها و هي في علوها الشاهق..

و البصر قد يقرّب لك البعيد،و يبعّد لك القريب،و يريك الكبير صغيرا،و الصغير كبيرا..كما أن هذا البصر قد يخطئ في المبصرات، بخلاف السمع،فإنه أكثر دقة في إدراكه للمسموعات..شاهدنا على ذلك:

أنك لو وضعت عصا نصفها في الماء،و نصفها في خارجه،فسترى أنها عوجاء،كالمكسورة.كما أنك قد تجد أنها مرتفعة عن المستوى الذي يفترض أن تكون فيه..

ص: 78

و إذا نظرت إلى حيوانات البحر،كالسمك مثلا،فإنك ترى السمكة في مكان،مع أنها في واقع الأمر ليست فيه..فهي تبدو قريبة إلى سطح الماء مع أنها بعيدة عنه..

و في حر الشمس ترى السراب الذي يبدو لك،و كأنه مستنقع ماء، حتى إنك لترى ظلال الأشجار و غيرها من الأجسام في ذلك السراب..

و أما فيما يرتبط باختلاف درجات الإحساس من شخص لآخر..

فنوضحه بالمثالين التاليين:

الأول:لو دخل رجلان،أحدهما مرهف الحسّ،يرسم بريشته أبدع الصور و أجملها،و الآخر إنسان عادي،إلى حديقة غناء،من أجمل ما خلق اللّه..فستجد اختلافا كبيرا في تلذذهما بتلك الحديقة،تبعا لما يدركانه من جمالياتها،فإن الفنان سيكون أعرف بجمالياتها،و أشد ابتهاجا بها،لأنه يدرك بصورة أعمق حالات التناسق،و دقائق الصنع، و بدائع التراكيب ذات الإيحاء التي تلامس شغاف القلب،و تغمر النفس و الروح بالرضى و البهجة،و سيدرك الكثير من ميزات تلك الصورة العامة التي تتماوج جمالا بارعا،و أخّاذا،و رائعا..

و لنفترض:أن طفلا تردى من شاهق أمام عيني أمه،و عمه،و رجل غريب،و رجل جلاد يتولى تعذيب الأبرياء من السجناء في حكومة أهل الطغيان..

فإن الصورة الذهنية لما يعانيه هذا الطفل واحدة عند كل هؤلاء.

و لكن مما لا ريب فيه:أن انفعالهم،و تحسسهم لما يعانيه ذلك الطفل من آلام،لن يكون في مستوى واحد..بل سيكون إحساس الأم بالألم أعظم من إحساس العم،و إحساس العم به سيكون أشد من إحساس الرجل

ص: 79

الغريب..و سيكون أقلهم إحساسا بآلامه ذلك الجلاد القاسي.

و ببيان آخر نقول:

إن المحسوس قد يكون هو نفسه في داخل ذاتك،كالألم،و الجوع، و الفرح،و الخوف،و الحزن،و العطش و غير ذلك..

و قد يكون في غيرك،كمريض تراه،و تسمع أنينه و شكواه..فلا شك في أن علمك و إحساسك بالألم الموجود في داخلك أعمق و أقوى من علمك و إحساسك بألم غيرك،و أنت تراه يتألم..

و إحساسك بألم من هو أمامك قد يكون أعمق،و أقوى من إحساسك بألم رجل غائب عنك،و ينقل لك خبره،كما أن علمنا بالآخرة الغائبة عنا فعلا،يكون أضعف من علم الأنبياء و الأوصياء بها..حتى إن أمير المؤمنين[عليه السّلام]يقول:لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا.

و قد أشار اللّه إلى أننا لا نعلم حقيقة الآخرة فقال: وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .. (1)

و حين تتساقط الحجب المانعة من الإدراك،و يصبح النظر حديدا.

كما قال تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (2)..يصبح الإدراك أشد و التفاعل مع المدركات أعمق..

و المعاصي أيضا تحجب الإنسان عن فهم معاني القرآن الكريم، و التكبر و الغرور يقللان من مستوى إدراك الواقع،و الإحساس به.

********

(1) سورة العنكبوت الآية 64.

(2) سورة ق الآية 22.

ص: 80

«سَمِيعاً بَصِيراً»، بصيغة المبالغة:

و سبب التعبير ب سَمِيعاً بَصِيراً هو:

1-إن الهدايات الإلهية تحتاج إلى السميعية،و البصيرية العميقتين، و لا يكفي فيها مجرد السمع و البصر..

و على ذلك جاء قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (1).

و قال سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها (2).

و قال: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (3).

و سبب ذلك أن هناك آيات و معجزات و كرامات تحتاج إلى إدراك عميق،و إلى ضمير حي،و وجدان طاهر،يستطيع أن يحوّل تلك الإدراكات إلى محفزات و بواعث،توقظ الفطرة،و تجعلها تتفاعل و تنشدّ إليها،و تلتذ و تسعد بها.

و لأجل ذلك نلاحظ أن الخطاب الإلهي المرتبط بالأمور العقائدية، كالتوحيد مثلا،يحول الأمر العقائدي إلى أمر واقعي،و حياتي تنشد إليه الفطرة،و تستعيده كقوة محركة في داخل وجودها..

و بما أن الهدايات كلها،و منها العقلية و التشريعية،لا بد أن تنتهي إلى

********

(1) سورة الملك الآية 10.

(2) سورة الأعراف الآية 179.

(3) سورة البقرة الآية 7.

ص: 81

الهداية الفطرية،فإنه تعالى لم يتحدث للإنسان عن التوحيد مثلا،و عن صفات اللّه،و عن الآخرة،و عن..و عن..بالطريقة الفلسفية أو النظرية المجردة،فلم يستدل له بالدور أو التسلسل،أو بغير ذلك من مصطلحات.

بل اتخذ في حديثه عن الآخرة أسلوب: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ * أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (1).

و قال تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (2).

و من الواضح:أن الليل و النهار،و الماء،و الزرع،و النار،و نحو ذلك هي من صميم حياة الإنسان-و لها ارتباط مباشر ترتبط بحركته، و نشاطه،و عمله،و نومه،و راحته،و أكله و شربه،و نحو ذلك..

و حتى حين قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (3)فإنه

********

(1) سورة الواقعة الآيات 72/63.

(2) سورة القصص الآيتان 72/71.

(3) سورة الأنبياء الآية 22.

ص: 82

إنما أثار أمام الإنسان موضوع الفساد الذي يخشاه«الإنسان».

و قال تعالى أيضا،فيما يرتبط بالتوحيد: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ * وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

و قال: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (2).

و قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً (3).

فهو تعالى يقدم لنا التوحيد على أساس أن نومنا و أكلنا و شربنا و كل مفردات حياتنا و سعادتنا،مرتبط به.

و هذا هو الأسلوب الذي يفهمه البشر كلهم،و يريد اللّه من خلاله أن يستدرجهم إلى الهدى جميعا.

أما الأسلوب الفلسفي،أو أي أسلوب آخر،فهو خاص بفئة من الناس،لا يصلح لأن يخاطب به جميع الناس.

تماما كما هو الحال في قضية«عاشوراء»،فإنها مفهومة للبشر جميعا،لكن صلح الإمام الحسن[عليه السّلام]إنما يفهمه فريق من

********

(1) سورة الروم الآيات 24/21.

(2) سورة الغاشية الآية 17.

(3) سورة يونس الآية 67.

ص: 83

الناس،و ذلك بسبب تدني مستوى الوعي و المعرفة من جهة،و لأن كثيرا من الحقائق قد طمست،أو أثيرت حولها الشبهات من قبل الطغاة، و الظالمين،و أهل الأهواء،من جهة أخرى..

و إذا كانت المعرفة متمازجة مع فطرة الإنسان،و متجذرة في عمق ضميره و وجدانه،و ليست مجرد معادلة عقلية،أو تصورات ذهنية، فسيكون لها التأثير العميق في كيان الإنسان،تماما كتلك المعرفة باللّه، التي تشعر بها الأم بعد استجابة دعائها بشفاء ولدها،و نجاته من موت محتم،فإن هذه المعرفة تغنيها عن كل دليل فلسفي أو غيره،بل إن الفيلسوف قد لا يشعر بعظمة اللّه مثلما تشعر بها تلك المرأة،و إنما يكون إيمان الفيلسوف مجرد استسلام للدليل القاهر لعقله،من دون أن يكون أي تفاعل مع وجدانه و فطرته.

فدليله بمثابة الآيات المعجزة التي تقهر العقل،أما انسجامه مع اللّه و فناؤه فيه،فله سبل و وسائل أخرى.

2-لعل من أسباب اختيار صيغة المبالغة،و هي سميع و بصير أيضا، أن البصر إنما يوصل إلى الإنسان الأشكال و الألوان و الأحجام؛و يمكّنه أيضا من إدراك جزئي لبعض المسافات..و لكنه يحتاج لكي يكون بصيرا إلى قوة و حدّة في البصر،تمكنه من إدراك دقائق و خفايا قد يعجز عنها البصر العادي.فما يدركه من خلال حدّة البصر،هو أمور أخرى تضاف إلى ما كان قد أدركه أولا..

أما السمع..فإن أصل حصول السمع يحتاج إلى حاسة السمع،ثم ينعدم المسموع بمجرد حصوله..ثم ينتقل منه إلى حصة وجودية أخرى،فيدركها السمع أيضا،ثم تتلاشى لتأتي حصة أخرى بعدها، و هكذا..

ص: 84

فإذا دق الصوت و خفت،فقد يدركه السمع الرهيف القوي،و قد يعجز عن إدراكه فيتلاشى لتأتي حصة أخرى مماثلة يكون لها نفس الحالة..

فالسمع و المسموع متحدان في الوجود،و في التلاشي.و الاختلاف بينهما إنما هو في طرف النسبة،و ليس الأمر كذلك في المبصرات دقت أو جلت،فإن المبصرات تبقى موجودة،سواء نالتها الأبصار،أم عجزت عن نيلها..

و السميعية تبقى هي الأهم،و الأولى بالملاحقة،لأن فوات السمع مساوق لفوات المسموع،لأن الصوت يتلاشى بصورة تدريجية كما قلنا..

3-و من جهة أخرى:فإن المسموع إذا علمنا بوجوده عن غير طريق السمع،فإنما نعلم به-إذا لم يكن هناك إخبار غيبي-بعد انقضائه و تلاشيه..أما المبصرات،فيمكن أن نعلم بوجودها مع بقائها.فيكون وجودها سابقا على علمنا،و مصاحبا و مرافقا له،و باقيا بعده..

حاسة السمع هي الأسبق:

و عن حاسة السمع نفسها نقول:إن ثمة حديثا بين أهل الاختصاص عن أن حاسة السمع هي الأسبق ظهورا و نشاطا عند الجنين،و هي آخر الحواس موتا في الإنسان.

و هناك من يسعى إلى تأكيد ذلك،بما ثبت عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،من أنه قد خاطب قتلى بدر،و هم في البئر.كما أن الإمام عليا [عليه السّلام]قد خاطب بعض القتلى في حرب الجمل،و قد أخبرا صلوات اللّه و سلامه عليهما و على آلهما:أن أولئك المخاطبين قد سمعوا و وعوا ذلك الخطاب،و لكنهم لا يقدرون على الجواب.

ص: 85

و ورد في الشرع استحباب تلقين الميت معتقداته بعد موته،و أن الملائكة الذين يأتون لسؤال الميت عن ذلك يعودون من حيث أتوا، حيث يرون أن الميت قد لقن حجته،و أصبح قادرا على الإجابة الصحيحة.

و لكن قد يقال:إن هذا إما جار على سبيل الإعجاز،كما فيما جرى للنبي[صلّى اللّه عليه و آله]و للإمام علي[عليه السّلام]،أو هو نشأة خاصة بالنشأة الأخرى،أو أن الكلام إنما هو مع الروح،و ليس لحاسة السمع لدى الميت دور في ذلك،كما في المثالين الأخيرين.

سامع أم سميع؟:

و لأنه لا يكفي في الهداية بواسطة الأنبياء مجرد وجود سمع و بصر،بل تحتاج إلى سميعية و بصيرية،فقد أراد أن يبين مدى و حدود فعالية حاستي السمع و البصر،من حيث إن الابتلاء قد أنتج شدة رهافة في السمع،وحدة في البصر،بسبب حالة من الاحتكاك و الصراع بين متطلبات الجسد، و متطلبات الفطرة الإنسانية،التي تنشد الحصول على كمالاتها،و قد نشأ ذلك عن تلك الأمشاجية،بما فيها من مزايا روحية و نفسية،و ملكات،هي مبادئ للإدراك،ثم الاختيار و الإرادة،التي هي مبدأ صدور الأفعال من الإنسان..

و حتى في الاستعمالات العرفية،فإنه فرق بين قولك:بصرت الشيء أو بصرت به،بمعنى وقع نظرك عليه،و بين قولك:أنا بصير بالشيء،أي خبير به،أي عارف بخفاياه و أسراره،سواء أ كانت خبرتك أتت عن طريق البصر،أم السمع،أم القراءة،أم اللمس،أم الوحي،أم غير ذلك.

فكلمة بصير عندهم كناية عن عمق الخبرة بالشيء.و لأجل ذلك لم يكف قوله:«سامعا مبصرا»،عن قوله:«سميعا بصيرا»..

ص: 86

نظرة إجمالية لمسار الخطاب في الآيات:

قد يغفل الإنسان عن أمور لا ينبغي له أن يغفل عنها،فتذكيره بها يكون إحسانا إليه و مساعدة له..

و قد يجهل الإنسان بأمور يكون علمه بها ضروريا،فيحتاج إلى أن يتعلمها..

و قد يكون عالما بالأمور،لكنه يتعامل معها معاملة الجاهل أو الغافل،لأسباب يرى أنها تبرر له ذلك،فيحتاج إلى من يناقشه في تلك الأسباب،و يوقفه على عدم قدرتها على تبرير موقفه هذا..

و يكون من يتصدى لذلك قد أسدى إليه خدمة جليلة،لأنه يكون قد ثبته على ما في ثباته عليه مصلحة له،أو جنّبه الآثار و الأوضاع السلبية،التي يجب أن يتخلص منها،سواء في ذلك منها ما له أثر سلبي على روحه،أم على فكره،أم على أي شأن من شئون حياته..

و من الواضح:أن الأحوال النفسية،و الروحية،و الحياة الاجتماعية، و القدرات و الإمكانات في مختلف المواقع و المواضع،لا تطلب لنفسها، و إنما تطلب لأجل دورها،و آثارها في الأعمال و المواقف.

و المواقف و الأعمال أيضا لا تطلب لذاتها،بل تطلب لغاياتها الشريفة و الفاضلة،و هي الوصول إلى اللّه سبحانه،و الحصول على مواقع القرب و الزلفى لديه.و تحقيق ما يرضيه،و تجنب ما يسخطه..

و العلم باللّه سبحانه له قيمة حقيقية كافية فيه و في نفس حصوله، لكن العلم بغير اللّه،فإن قيمته ليست في بداياته،و في نفس حصوله لدى العالم،و إنما هي في نهاياته،و غاياته..

و إذا نظرنا إلى قضية الإيمان و الكفر،فسنجد أنهما تعبير آخر عن

ص: 87

العلم بالمعنى المشار إليه..فالكفر يمثل حالة الجهل المركب،المعتضد بالاستكبار و العناد..و أخرى يكون غفلة و احتجابا حقيقيا،و ابتعادا و غربة عن الحق..

أو أن الكفر هو حالة من التمرد و التعدي على مقام العزة الإلهية، و أخذ موقعه،و استبدال الحق الصادر عنه بباطل يفسد الحياة،ثم السعي لوأد ذلك الحق،أو لا أقل إلى إبعاده عن ساحة العمل و التداول،و عدم الاعتراف به،حتى مع رؤيته له..كما قال اللّه تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1)..

فإن من الواضح:أن هذا الاحتجاب هو العمق الواقعي لكلمة الكفر.

فالزارع كافر،لأنه يحجب البذر بالتراب،و يغطيه به.و الليل كافر،لأنه يحجب الأشياء عن أن ينالها النظر..

أما الإيمان،فهو يمثل حالة الوعي و اليقظة،و التزام الحق،و السكون إليه..

و حين يتحدث اللّه سبحانه عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج،فإنما يريد أن يعالج حالة الغفلة التي تعيشها هذه النفس الإنسانية،المؤمنة و الكافرة على حد سواء..

فأما الكافرة التي احتجبت عمدا أو غفلة و جهلا عن الحق،أو حجبت الحق عن الحضور في مواقع الحركة في الحياة،فيحاول دفعها إلى إزالة ذلك الحجاب،للخروج عن حالة التحدي للسنن الإلهية، و التمرد على إرادة اللّه،و السعي لإفساد الحياة،و العبث بنواميسها..

********

(1) سورة النمل الآية 14.

ص: 88

و أما النفس المؤمنة المطمئنة التي تعيش السّلام بكل معانيه،فيريد أن يزيدها يقظة،و حصانة،و اندفاعا،و توثبا نحو العمل الجاد للرقي في مدارج الكمال،و نيل المعارف،و الحصول على التوفيقات،و الهدايات، و الألطاف الإلهية،في كل موقع تكون فيه،للتحرك منه إلى مواقع تطمح لأن تصل إليها..

فهذا الخطاب الإلهي للمؤمن و للكافر،هو خطاب تربوي تدبيري، تعليمي،يهدف إلى فتح قلب الكافر ليستقبل إشراقة النور،ثم إلى تثبيت المؤمن،و تقويته،ليزداد إيمانا،و يقينا،و إبعاده عن مواقع الخطر، و تحصينه في مواجهة كل التحديات الشيطانية.

على أن من الواضح:أن العلم وحده لن يكون كافيا لتحقيق الهداية، بل هو قد يكون سببا في الضلال،و الإضلال..كذلك الذي أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ (1).. اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (2)..

و ذلك لأن الشيطان يأتيه عن طريق هذا العلم بالذات،فيضخم له نفسه،و يخرجه من حالة التوازن،و يدعوه إلى العجب،و الزهو،و العلو، و يدفعه لأن يدعي ما ليس فيه،و ما ليس له،و يتجاوز حدوده..

و إنما تمكن الشيطان منه،لأنه إنما أشغله ببدايات العلم،فبهرته أحجامه،و أقسامه،و طمس و عمّى عليه غاياته الكبرى و السامية و النبيلة..

كالذي يريد تفسير القرآن،فيشغل نفسه بعدّ حروفه،و كلماته..

و خصوصيات النغم الصوتي حين أداء الكلمات،و يغفل عن المعاني،

********

(1) سورة الجاثية الآية 23.

(2) سورة الأعراف الآية 175.

ص: 89

و عن الأوامر و الزواجر،و عن القيم و المثل و المآثر التي يدعوه إليها القرآن..و عن الغايات التي يدفعه إليها..

و قد جاءت هذه الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج الخ..،لإعادة هذا الإنسان إلى دائرة التوازن،و إلى حجمه الطبيعي،لكي يتأمل و يفكر،بعيدا عن أي خيلاء أو عجب مهلك،و استكبار مقيت..

و قد نصبت له الغايات و النهايات أمام عينيه،و جعلت الخيار و الاختيار إليه..و قالت له:هذه بدايتك،و هذه نشأتك،فلم تستكبر (1)؟! و لم تزهو؟و لم تطلب ما ليس لك بحق؟!و هل يجوز لك أن تستكبر و تتمرد على من أعطاك القوة،و خلقك،و رباك،و نشأك؟!أ ليس ذلك يعد خروجا عن مقتضيات فطرتك؟!..

ثم وجه إليه التهديد بعيدا عن حالة التحدي،و المواجهة،و إنما بصورة ترتيب النتائج على مقدماتها،بعد كشف الواقع أمامه،و إعادته إلى التوازن،و إرجاعه إلى حجمه الطبيعي،و تنفيس الانتفاخات الكاذبة التي كان يرى نفسه فيها،من خلال إدخاله في حسابات دقيقة،و تفاصيل لا بد له من وعيها،مع تعريفه بأن هذه المراحل ليس له هو أي تدخل فيها،و لم يبذل فيها أي جهد.

و لأجل ذلك،فإنه يصبح بإمكانه أن يفهم بعمق معنى قوله له:إنه إن أساء الاختيار،فله السلاسل،و الأغلال،و السعير..و بشّره،إن أحسن الاختيار،بما يبشر به المؤمنون الأخيار،و المتقون الأبرار..

و في سياق هذه الآيات المباركة،نلاحظ:أن اللّه سبحانه قد أغرى

********

(1) الاستكبار هو أن يطلب أن يكون كبيرا،مع أنه فاقد لذلك في الواقع.

ص: 90

هذا الإنسان بالرجوع إلى ربه،و إنشاء العلاقة معه،حيث عرّفه بأنه لم يزل يرعاه،و يهتم به في كل لحظة و آن..و أنه هو الذي يربيه و ينميه، و ينشؤه..و يتفضل عليه بالنعم،من دون أن يقهره على شيء،بل هو يعطيه كل القدرات و كل الإمكانات،ثم يعطيه حق الاختيار،و يمكّنه من أن يتصرف في كل شيء،و أن يحدد موقفه و موقعه..حتى لو كان ما يختاره يتعارض مع ما يريده اللّه منه،و ما يدعوه إليه..

و تلمس في هذه الآيات المباركة كيف أنه تعالى لا يبادر إلى التهديد و الوعيد،في أسلوب قمعي،قاس،و صاعق..بل هو يمهد إلى إخراج الإنسان من جهله و غفلته،و استكباره،و عجبه،و كفره،و ضلاله، و انحرافه،بأسلوب رضي عطوف،يهيئه لتلمس واقعه بنفسه،ممسكا بيده برأفة،و بلطف،و عطف،مذكرا إياه بمحبة اللّه و رعايته له،مثيرا كوامن وجدانه،و بريء مشاعره و أحاسيسه،و صافي فطرته،بصورة السؤال،لا بصورة الخبر المفروض: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..

و آيات السؤال عن الخلق و كيفياته كثيرة:

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟!

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (1) ؟!

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (2) ؟!

أ لم..أ لم..

********

(1) سورة القيامة الآية 37.

(2) سورة البلد الآيتان 9/8.

ص: 91

فلما ذا الصدود منه إذن؟و لما ذا الاستكبار؟!..و لما ذا الكفر؟!..

و لما ذا؟!..و لما ذا؟!..

ثم هو يترك الخيار له في أن يجعل نفسه مع أي فريق شاء..فهو الذي يختار-بعد هذا البيان-الاستكبار و العناد،فيكون كافرا..فيواجه مصير الكافرين..أو يختار الإيمان،فيكون من و مع المؤمنين..

ثم يعرض عن الخطاب مع هؤلاء لكي تستمر الآيات في بيان أحوال أهل الإيمان،لأنهم هم الذي يجسدون الإنسانية الحقيقية..مقدما لهم المثل و النموذج الأعلى للإنسانية،و هم أهل البيت[عليهم السّلام]، ليكونوا لهم الأسوة و القدوة و المثال..

فيرغب الإنسان العاقل بالتأسي بهم.و السير على نهجهم..

و هذا ما سيتضح في تفسير الآيات التالية..

***

ص: 92

الفصل الثالث: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً

اشارة

ص: 93

ص: 94

قال تعالى:

إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً.

«إنّا»:

و يرد هنا سؤال،و هو:

لما ذا قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ و لم يقل:«فهديناه».أو«ثم هديناه»..

و قد يقال في الجواب:

إن سبب ذلك هو أن السميعية و البصيرية تعبير عن درجة عالية من الإدراك،يستطيع الإنسان من خلالها أن يبصر المعجزات،و يتفاعل معها، و يبصر و يسمع كل ما من شأنه أن يفتح باب هداية،سواء كان ذلك بالتعليم له،أم بالتدبر و التفكر في خلق اللّه،و ربط المقدمات بالنتائج، و الوسائل بالغايات و الأهداف.

و ذلك معناه:أن الهداية المذكورة هنا هي نتيجة تلك السميعية و البصيرية،التي نشأت عن الابتلاء،المستند إلى الأمشاجية في النطفة.

فالمراد هنا كل ما يوجب الهداية،من شرع و عقل،و تفكر،و تدبر و ما إلى ذلك،و لا ينحصر الأمر بالهداية التشريعية..

لكن قد يقال:إن ثمة فهما آخر للآيات،و هو أنه تعالى قد ابتدأ كلامه بصورة الاستئناف في قوله: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ موازيا لقوله تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ .. فلعله لكي يشير إلى

ص: 95

أن الهداية للإنسان قد بدأت مذ خلقه اللّه نطفة،حيث صاحب هذا الخلق له إعطاءه الحالات و الميزات التي بدأ من خلالها مسيرته التكاملية،فهو خلق لوحظ فيه مضمون المخلوق،و حالاته،و أشكاله، و تفاصيله..و روعيت أيضا في كيفية خلقه،و أوضاعه،و كونه أمشاجا،أن يكون أهلا للابتلاء،ثم انتقل إلى الابتلاء الذي من شأنه أن ينقله إلى مراتب أعلى..فأوصله ذلك إلى درجة السميعية و البصيرية..

فالهدايات إذن قد بدأت منذ نشأة الإنسان،فكانت له الهداية التكوينية،ثم الإلهامية،ثم الحسية،ثم الفطرية،ثم الغريزية،ثم العقلية،ثم التشريعية،و هذا معناه أنه لو قال:فهديناه السبيل،لكان المراد بالهداية هنا هي الهداية التشريعية،لكنه لما قال: إِنّا هَدَيْناهُ .. عرف أن المراد:

أن هدايته قد صاحبته منذ بداية خلقه..

غير أن التأمل الدقيق في هذين الفهمين لمسار الكلام في الآيات يعطي:أن كلا من هذين السياقين متمم للآخر،و ليس مختلفا معه.فإن وجود الهدايات للإنسان منذ بدء تكوينه،لا يأبى عن كونه لا يزال محتاجا إليها أيضا حتى بعد حصوله على السميعية و البصيرية،و ذلك ظاهر لا يخفى..

«هديناه»:

و الهدايات التي أشرنا إليها آنفا،هي التالية:

1-الهداية التكوينية،و نشوء الإنسان وفق السنن،و لا يتعلق غرضنا بالحديث عنها..

2-الهداية الإلهامية،و مصدرها اللّه سبحانه..من قبيل هداية الجنين إلى مص إصبعه،و هو في الرحم،ثم اندفاعه بعد ولادته لالتقام ثدي أمه.

ص: 96

3-الهداية الفطرية-و تدخل فيها الغرائزية..و هي تنبع من داخل الإنسان،من قبيل ميل الإنسان إلى العدل،و الكمال،و العلم،و الفقه، و حب الذات و غير ذلك من ميول طبيعية جبلّية،نابعة من صميم الذات الإنسانية،بلا حوافز من خارج ذاته..

4-هداية الحواس الظاهرة،فالسمع يهدي إلى الأصوات الرخيمة، و المنكرة.و البصر يهدي إلى الأشكال،و الأجسام،و الألوان.و الذائقة تهدي إلى أصناف الطعوم،كالحلاوة،و المرارة،و الملوحة،و نحو ذلك.

و الشامّة تهدي إلى الروائح الكريهة و الطيبة.و اللامسة تهدي إلى الخشونة و النعومة،و الصلابة،و الليونة،و الحرارة و البرودة إلخ..

5-هداية الحواس الباطنة،لمعان قائمة بالنفس،كالإحساس الوجداني بالخوف،و الحزن،و الفرح،و الأمن،و ما إلى ذلك.

أو هداية الحواس الباطنة لمعان قائمة في الذات-الجسد-كإدراك الجوع،و العطش،و الألم،و التعب،و النشاط،و الإحساس بثقل الأجسام و خفتها،و ما إلى ذلك.

6-الهداية العقلية:و هي تتمثل في قوة يمن اللّه بها على هذا الإنسان،تدرك له الكثير من المعاني التي لا تنال بالحس الظاهري و لا الباطني،و ربما كانت هذه المعاني نتيجة للمدركات الحسية أحيانا،أو تكون المدركات الحسية طريقا إليها..و قد تخرج عن هذا و ذاك كما سيتضح.

هذه المعاني يحتاج إليها الإنسان في مسيرته الحياتية،و في بنائها على أسس صحيحة و سليمة.

و هي معان تفيد في تأسيس قواعد و منطلقات،و في وضع ضوابط

ص: 97

و رسم حدود لا مجال لتجاوزها..و هذه الصور العقلية هي الأرقى و الأتم في سلسلة الصور الوجودية التي يتعامل معها الإنسان..

بيان ذلك:أن الصور العينية الخارجية لها حظ من الوجود،ثم تأتي الحواس لتأخذ عنها صورا حسية..

ثم يترقى مستوى الإدراك إلى حد إدراك أحوال المحسوسات، و ربما يتصرف في الصور أيضا،فيدرك أن هذا أكبر من ذاك،أو أطول، أو يؤلف من خلالها صورا تشتمل على عناصر مؤتلفة،فيتخيل المدينة الفلانية التي لم يرها،من خلال صور ما رآه بالفعل.

ثم هذا القسم و الذي سبقه هو عبارة عن صور حسية و خيالية للأعيان الخارجية،لكن صورها تكون في الذهن،سواء أ كانت الصورة لنفس الشيء،أم لحالة من حالاته..

و هناك قسم ثالث:أرقى من القسمين السابقين،و هو إدراك معان جزئية،ليس لها منطبق خارجي محسوس بالحواس الخمس..لكنه موجود حقيقي يدرك بآثاره،و ذلك كإدراك حب أبويه له،و خوف الخائف،و حزن الحزين..

و هناك معان كلية ليس لها موطن إلا الذهن،و ليست صورا للأعيان الخارجية،و لا هي من قبيل التصرف في صور المحسوسات،و لا هي معان جزئية.و هي على قسمين:

أحدهما:معان كلية ذهنية،محضة،مثل مفهوم الكلي و الجزئي، و الجنس،و الفصل.

الثاني:معان كلية موطنها الذهن،و ظرف وجودها الخارج،مثل:

الصغير و الكبير،و الحسن و القبح..و الوحدة و الكثرة،و الوجود و العدم.

ص: 98

و العدل و الظلم.فكأن لها قدما في الذهن،و قدما في الخارج..

و كل تلك الدلالات إنما تنطلق من داخل الإنسان..

7-الهداية الشرعية،و هي لا تأتي الإنسان من داخله-كما هو الحال في الهدايات السابقة-بل تأتيه من خارج،لتأخذ بيده إلى حيث لا يجد العقل،و لا غيره من وسائل الهداية الداخلية سبيلا للوصول إليه، أو التعرف عليه..و لتصوب له ما اشتبه الأمر فيه،بسبب حيلولة الغرائز و الشهوات،حتى ظن الحق باطلا و الباطل حقا،و ظن السراب ماء،فلما جاءه لم يجده شيئا..

و بعد هذا التوضيح نقول:

إن كل ما يوصل إلى الغرض،فهو هداية إليه،سواء أ كان بالقول أم بالعمل،شرط أن يكون للواصل درجة من المشاركة في ذلك.و بذلك تكون الهدايات التكوينية،و الإلهامية،و الحسية،و العقلية،و ما شابه؛داخلة في ذلك..

و إذا كانت هذه الهدايات قد صاحبت الإنسان مذ كان نطفة،فإنه منذئذ يصبح موردا لقوله تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ .. و تستمر معه الهدايات،و هو يمر في مراحل الابتلاء،إلى أن يصبح سميعا بصيرا،ثم يحتاج إلى هدايات جديدة تضاف إلى ما سبق،فتأتيه الهداية العقلية،ثم يحتاج إلى الهداية الشرعية..فاللّه سبحانه قد هداه السبيل لحظة فلحظة، و آنا بعد آن..و تمت عليه الحجة.و عليه هو أن يقرر،و يختار،فيكون إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

فالهداية للسبيل إذن لم تبدأ بعد السميعية و البصيرية..و إلا،لكان المناسب أن يقول:ثم هديناه السبيل،أو فهديناه،بل بدأت منذ بداية خلقه،و استمرت معه..

ص: 99

ظاهرة الجحود و الإيمان:

و نريد أن نشير هنا إلى أن الهداية التشريعية قد جاءت في سياق الهدايات الأخرى،لتؤكدها،و لتركز مضامينها،و تستجيب لمقتضياتها، فدورها ليس سوى الإرشاد و الدلالة إلى ذلك،و لا شيء أكثر من هذا..

فمن لم تستيقظ فطرته،و تتعرف على مقتضياتها التي تسانخها،بل بقيت منفصلة عنها،بإملاءات الغرائز،و الأهواء.و الشوائب،و الأغشية العازلة التي صنعتها المعاصي و غيرها،فإن سبيله الذي سيتخذه هو الجحود..و سيجنّد العقل و كل ما يملكه في خدمة تلك الغرائز،فيمتثل أوامرها،و يلبي حاجاتها..و يكون وسيلة دفاع عن كل انحرافاتها..

فإذا ما كسرت شرته،بالمعجزة القاهرة،فإنه سيندحر و يأرز في حجره..و لكنه يبقى بانتظار الأوامر التي تصدرها له تلك الغرائز و الأهواء،لأنه قد فقد السميعية و البصيرية،و أصيبت فطرته بالضعف و الضمور،و ألمت بها عاهات ذهبت بقوتها،و أبطلت حركتها،أو ألمت بها تشوهات جعلت حركتها باتجاهات خاطئة،و منحرفة.

و هذا ما يفسر لنا استجابة الإمام علي[عليه السّلام]،و خديجة،و أبي طالب،و جعفر،و حمزة للهدايات الإلهية،من دون حاجة إلى رؤية المعجزة،بل بتلمس فطرتهم للحق و الدين،و إدراكهم الوجداني لمزاياه، و إحساسهم العميق بانسجامه مع واقع الخلق و التكوين،و حقائق الوجود، و مع الفطرة الصحيحة..مما يجعل من كل هذه المخلوقات منظومة واحدة،تسير باتجاه واحد،وفقا للهداية الإلهية للخلق و للوجود بكل ما و من فيه..

كما أن هذا يفسر لنا النهج القرآني،و البيان البرهاني،لأمور العقيدة

ص: 100

فيه،ثم هو يظهر صدقية و انسجام البيان النبوي و الإمامي لشئون الدين، و حقائق الإيمان من حيث إنها تخاطب الفطرة،و الوجدان،و الضمير، و العقل،و تفرض النظرة التأملية لحالات الواقع و مزاياه،للانسجام معه في كل حركة تعنيه،و في كل اتجاه.

أما أبو جهل،و أبو سفيان،و كذلك فراعنة قريش الذين قتلهم بغيهم في بدر،و أحد،و الأحزاب،و غيرها..فقد كانوا يرون المعجزات و الكرامات في أتم تجلياتها..و لكنهم اتخذوا سبيل الجحود و العناد،و لم يسلم من أسلم منهم،و لكنه استسلم للأمر الواقع،و بقي يسبح في مستنقع آسن من الكيد و التآمر على الحق،و أهل الحق..

«السّبيل»..و ليس الطريق!:

و أما لما ذا قال تعالى:هديناه«السّبيل»،و لم يقل:«الطريق».

فلعل سببه هو أن كلمة الطريق،إنما تدل على مجرد وجود موضع ممتد يسلكه الناس،و هو قد يكون واضحا،و قد يكون خفيا،و قد يكون واسعا،و قد يكون ضيقا،أما السبيل فهو الطريق و ما وضح منه (1).

فخصوصية الوضوح إذن مأخوذة في السبيل،و لا تفهم من كلمة «الطريق».

و الهدايات الإلهية هي الأوضح و الأظهر و الأصوب،و ليس هداية الفطرة، و الإلهام،و الحس،و المشاعر و الوجدان،و العقل،و الشرع،إلا ضمانات يعضد بعضها بعضا،و يشد بعضها أزر بعض..فكلما عجزت وسيلة جاءت الأخرى الأقوى منها لتحل محلها..و تنجز ما عجزت عنه،فإن عجزت هداية الإلهام،

********

(1) لسان العرب ج 6 ص 162 ط دار إحياء التراث.

ص: 101

جاء دور الحس،فإن عجز الحس جاء العقل.فإن عجز العقل جاء الشرع، فهداية اللّه تامة،و حجته بالغة،تحفظ الإنسان في جميع حالاته،و تصونه من الخطل و الزلل في مختلف تقلباته..

هديناه السبيل..أو إلى السبيل؟:

و ليست الدلالة على السبيل من قبيل الإشارة إليه من بعيد،مع عدم وضوح معالمه،و من دون معرفة خصوصياته سعة و ضيقا،حزونة و سهولة..و ما إلى ذلك..

بل الهدايات الإلهية يقينية و واقعية،تجعل السبيل واضحا لا لبس فيه،سوف يلمس المهتدي بها هذا السبيل،و يجده حاضرا عنده،و كأنه قد حلّ هو فيه..

و بذلك يكون تعالى قد سدّ على هذا الإنسان منافذ الاعتذار و التعلل،و للّه الحجة البالغة في كل وقت و حين..

(أل)عهدية أم جنسية؟:

و قد يسأل سائل:هل المراد بالسبيل،السبيل المعهود؟فتكون«أل» عهدية..أم المراد به جنس السبيل؟!.

و يجاب عن ذلك:بأنه قد يدعى أنها عهدية،و ذلك لأن اللّه حين خلق الكون و الحياة قد رسم لهما غاية،و لا بد من سلوك طريق موصل إليها،و من تعريف و هداية لذلك الطريق.

و قد بين اللّه تعالى البداية،و السبيل و الغاية،بأوضح بيان،و هدى إليه أتم هداية.

و واضح:أن أي اعوجاج و انحناء في ذلك السبيل سوف يفقده صلاحية الإيصال.و في الانحراف و العودة هدر للوقت و تضييع للجهد،

ص: 102

و عبثية غير مقبولة.قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (1)..

و هذا معناه:أن الهداية الإلهية إنما تكون إلى سبيل واحد،و هو الصراط المستقيم المتصل بالهدف،دون سواه..و الذي إذا اتضح و عرف، فإن الطرق الموجبة للضلال عن الهدف تصبح واضحة أيضا..

و يصح التعبير عنها بكلمة«سبيل»لأن ذلك هو ما يقتضيه انحصار الطريق الموصل إلى الهدف بواحد..

و ذلك كله يشير إلى أن كلمة«أل»عهدية..

و ذلك غير دقيق،و الصحيح هو أن كلمة«أل»جنسية،و ذلك لما يلي:

إنه تعالى لم يقل:«إنا هديناه السبيل،إما مهتديا أو ضالا»،مع أن قوله تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ قد يغري الأوهام القاصرة.بتوقع أن يقول:إما ضالا،أو مهتديا،لأن جعل الإنسان يتلمس السبيل بهذا المستوى من الوضوح،و التعيّن و التبيّن،لا يبقي مجالا للضلالة عنه،أو تضييعه،أو ادعاء الغفلة عن خصوصياته و حالاته،فهو مهتد إليه بصورة حتمية،فإذا حاد عنه،فإنما هو عناد،و كفر،و استكبار،و جحود.

فنسبة الوضوح في سبيل الهداية،هو في مستوى نسبة الوضوح في سبيل الضلالة.قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (2).فإذا كان قد هداه النجدين،فكيف يمكن تصور ضلاله،إلا على سبيل العناد و الجحود؟

********

(1) سورة الأنعام الآية 153.

(2) سورة البلد الآية 10.

ص: 103

و قد قال تعالى: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1).

و قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (2).

و بذلك يتضح:أن«أل»في كلمة«السّبيل»جنسية،أي أنه تعالى قد بيّن سبيل الغي و الضلال،الذي لا يوصل،بواسطة بيانه للسبيل المستقيم الموصل،فأصبحت السبل واضحة،و عليه هو أن يختار.

لما ذا بدون فاء التفريع؟:

و يبقى سؤال:لما ذا لم يقل اللّه تعالى: «إِمّا شاكِراً» .مع فاء التفريع، بل قال: إِمّا شاكِراً؟!..

و نقول:لعل السبب في ذلك:أنه تعالى يريد أن يبرز عنصر القصد و الاختيار و الإرادة،فكأنه قال:قد دللتك،و لك الخيار،في أن تفعل،و أن لا تفعل،فأنت الذي تقرر و تختار،و تبادر.

و لو أنه جاء بفاء التفريع فلربما يتخيل أن الشكر و الكفر يأتي كنتيجة طبيعية و حتمية الحصول،سواء أ كان ذلك بسبب الغفلة عن الأمر،فينساق بعفوية إليه و بدون التفات،أم بسبب النسيان بعد الالتفات،أم بسبب العمد إلى الشكر و الكفر،ثم يتكرر منه فعل الكفر،حتى يصير كفورا..

السميعية و البصيرية لا تغني عن الهداية:

و قد يقال:إذا كان اللّه قد جعل الإنسان سميعا بصيرا،فإنه لا يحتاج بعد إلى الهداية،و ذلك لأن سميعيته الفائقة،و كذا بصيريته سوف تجعلانه يلتفت لكل شيء،و يدرك كل ما حوله..فلما ذا عاد فقال: إِنّا

********

(1) سورة الأنعام الآية 149.

(2) سورة النمل الآية 14.

ص: 104

هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً؟!

و يجاب عن ذلك:

إن سميعية و بصيرية الإنسان لا تعني إحاطته بالأمور،و معرفته بأسرار الخلق،و لا وقوفه على الغيوب،و لا على واقع تأثيرات الأشياء بعضها ببعض،و لا على المصالح و المفاسد الواقعية..

فيحتاج إلى الهداية التشريعية الإلهية،ليضمن عدم الوقوع في الخطأ الكبير و المهلك..لأن غاية ما يحصل عليه الإنسان هو هداية التكوين، و الفطرة،و العقل.و هداية التكوين محكومة بعللها و أسبابها..و هداية الفطرة محدودة في نطاق الدعوة إلى عناوين و مبادئ،و أهداف عامة و عالية، تكتنفها دواع غريزية،تحتاج إلى ما يضبط حركتها في مسارها إلى تلك الأهداف و المبادئ،حتى لا تتجاوز الخط أو الهدف الذي حددته الفطرة لها.

و هداية العقل تبقى أيضا مفتقرة إلى توفير المخزون الذي يستطيع العقل من خلاله أن يعطي حكمه الإرشادي من خلال التصرف فيه..

و يبقى الإنسان بعد هذا و ذاك في موقع المحتاج إلى الدلالة و الهداية الإلهية..فبعث اللّه له الأنبياء مبشرين و منذرين..و عرّفوه السبيل: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و يكون هذا المستوى من السميعية و البصيرية بمثابة التأهيل لتلقي الهداية الإلهية..ثم التفاعل معها من موقع المختار المريد..لا من موقع الجبر التكويني،و التحريك القسري،كما هو الحال بالنسبة لبعض الكائنات،كالنباتات،و لا من موقع التحرك التكويني،و الفطري، و الغريزي،و حسب،كما هو الحال بالنسبة للحيوانات..

ص: 105

وَ إِمّا كَفُوراً:

و لا بد أن يلتفت قارئ هذه الآية إلى أن اللّه سبحانه بالنسبة للشكر قد عبّر بصيغة اسم الفاعل..لكنّه بالنسبة لغير الشاكر جاء بصيغة المبالغة فقال: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً.. أي كثير الكفر و شديده..

و هذا التعبير هو الصحيح و الأولى،لأن الإنسان شديد الكفر،من حيث إن الحقائق التي يحاول طمسها و تجاهلها،هي من الظهور و الوضوح إلى الحد الذي تحتاج إلى جهد كبير و شدّة،ليتمكن من طمسها و حجبها.و هو أيضا كثير الكفر،و ذلك لكثرة الحقائق التي يعمل على إبعادها،و إسدال الحجاب عليها.سواء أ كانت هذه الحقائق مما تدعوه إليها فطرته،أم مما يرشده إليها عقله،أم مما أوضحها له التشريع و البيان الإلهي..

قوة الوضوح في البيان القرآني:

و إن أعظم ما يواجه الإنسان في قضايا الإيمان و الكفر هو الشأن العقيدي،لأنه يرتبط بأمور الغيب،و يحتاج إلى إدراك عقلي،و رؤية قلبية،و تلمس وجداني،يصل إلى حد صيرورة ذلك واضحا و بديهيا..

و هذا ما أشير إليه في قوله تعالى: أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1)..و عنهم[عليه السّلام]:«عميت عين لا تراك»..

و قد قلنا:إن القرآن في بياناته لأمور العقيدة،يدفع بها لتصبح شأنا حياتيا،و واقعا عمليا،يتلمسه الإنسان في كل موقع و كل اتجاه..و لا يتحدث له عنها بطريقة تجريدية،فلسفية،فراجع الآيات التي تتحدث

********

(1) سورة إبراهيم الآية 10.

ص: 106

عن وجود اللّه،و عن توحيده،و عن صفاته،و عن النبوة و عن الإمامة، و عن اليوم الآخر..كقوله تعالى مثلا: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (1)،فإنه تعالى قد تحدث عن فساد الكون و الحياة؛بالشرك،و أن الإنسان سوف يفقد القدرة على العيش،و على إعمار الكون،و سيفتقد السعادة،و يعجز عن الوصول إلى كمالاته التي ينشدها..

و لم يقل:إن تعدد الآلهة يستتبع الالتزام بفقدان أحدها،في المكان الذي يوجد فيه الآخر،و لم يشر إلى أن ذلك يستلزم حاجة الآلهة إلى المحل،أو لزوم تقدم المكان على المكين،و لا إلى لزوم وجود ما يميز هذا عن ذاك،و لا إلى غير ذلك من أمور تبقى في دائرة التأمل الفكري..

بل ترك البيانات الفكرية،التي تحصن هي الأخرى الإنسان من شبهات أهل الضلال،ترك بيانها للأئمة الطاهرين،و لذلك نجد الإمام عليا[عليه السّلام]يتصدى لها،فيقول:أيّن الأين فلا يقال له أين،و كيّف الكيف فلا يقال له كيف (2)..

و قال[عليه السّلام]أيضا:مع كل شيء لا بمقارنة،و غير كل شيء لا بمباينة (3)..و غير ذلك.

و قد بيّن[عليه السّلام]ذلك،بعد أن بيّن لنا أيضا أنه تعالى لا يمكن دخوله في تصوراتنا و أوهامنا،فقال:«كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق

********

(1) سورة الأنبياء الآية 22.

(2) بحار الأنوار ج 36 ص 283.

(3) نهج البلاغة ج 1 ص 16،و اثنا عشرة رسالة للداماد ج 2 ص 43 و بحار الأنوار ج 4 ص 247 و ج 54 ص 177 و ج 74 ص 300 و تفسير نور الثقلين ج 5 ص 260.

ص: 107

معانيه،مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» (1).

فاللّه إذن يريد لنا أولا أن نشعر به بقلوبنا،و نحس بآثاره في حياتنا، ليصبح واقعا حياتيا فاعلا و قويا.و هكذا فعل في سائر الأمور العقائدية، كالقيامة و النبوة و غيرهما،و كذا المفاهيم الإيمانية،و الدينية،بصورة عامة..

و لذلك تجد الإنسان يعيش الشعور باللّه سبحانه و بقدرته،و محبته، و سائر المعاني الإيمانية في حالات الخوف و الرجاء،و في حالات الصحة و المرض،فيتوجه إليه بالدعاء،و يشعر بالفرح و بالامتنان حين يستجيب له.

فالمطلوب إذن هو الإحساس باللّه سبحانه،و ليس المطلوب هو تصوره سبحانه،لأن ذلك مستحيل.كما أن المطلوب هو امتلاك القدرة على دفع شبهات المضلين،و التحصن من ضلالاتهم.

هذا:و قد جاءت هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها،في نفس هذا السياق،كما يظهر من ملاحظة المعاني التي أشارت إليها،في مفرداتها،و في سياقها العام.

لما ذا قال:شاكرا؟!

و السؤال هو:لما ذا قال:«شاكرا»،مع أن الحديث هو عن الهداية و الضلال؟!..و لما ذا أيضا جاء بها بصيغة اسم الفاعل؟!..

و الجواب:

1-إن اختيار الشكر في هذا المورد،إنما هو لأنه من قبيل إطلاق الدعوى مع دليلها،لأن التعبير بالشكر يوجب أن يكون هناك ما يفرض الشكر،و هو النعم.فإذا أثبتت الشاكرية،فإن ثبوتها يوجب ثبوت قبح

********

(1) بحار الأنوار ج 66 ص 293.

ص: 108

الكفر بصورة أوضح و أتم،لأن وجود النعم أوجب حتمية الشاكرية..

و حتمية الشاكرية و قيمتها يجعل الكفر من أقبح الأشياء،فإن الكفر للنعمة،و انجرار ذلك إلى الكفر بالمنعم و صفاته،و كل ما يصدر عنه، يصبح جريمة كبرى..فكيف إذا كان الإنسان كفورا،أي شديد الكفر و كثيره؟فإن الأمر يصير أعظم قبحا،و أسوأ صنعا..

و في هذا الأسلوب من التنفير من الكفر،و الحث على الطاعة ما يغني عن أي بيان.

2-إن أرقى حالات العبادة و الطاعة هي تلك التي تكون نابعة من صميم الذات الإنسانية.فالالتزام بالسبيل الواضح،هو ما يدعو إليه الخلق الإنساني،و تقتضيه الفطرة الصافية،حيث لا بد أن يختار طريقة الشكر باقتضاء من داخل ذاته،و من دون حاجة إلى إلزام بأمر من الخارج.فإذا جاء الأمر التّكريمي من قبل اللّه سبحانه،فإن اندفاعه إلى امتثاله سيكون أيضا من مقتضيات طبعه،و خلقه الإنساني الرفيع..لا طمعا بنوال،و لا خوفا من عقوبة، و لا لأجل الخروج من حالة الإحراج و الإلزام حيث لا مناص.

و قد روي عن أمير المؤمنين[عليه السّلام]أنه قال:«إن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار،و إن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار» (1).

فحالة الشاكرية حالة إرادية اختيارية،أخلاقية،و إنسانية.و هي تعبير

********

(1) راجع:نهج البلاغة ج 3 قسم الحكم،الحكمة رقم 237 و البحار ج 41 ص 14 عنه و ج 75 ص 69 عن المناقب لابن الجوزي و عن تحف العقول.و راجع ج 67 ص 18 و 197 و 255 و ج 8 ص 200 عن الكافي،و عن عقائد الصدوق و عن علل الشرائع ج 1 ص 12.

ص: 109

فطري صادق،ينبع من داخل الذات،بما لها من أصالة،و ما للمزايا و الكمالات الإنسانية و الأخلاقية من تجذر و عمق.

أما لما ذا عبر باسم الفاعل،فقال:«شاكرا»و لم يقل شكورا،ليتجانس مع كلمة«كفورا»..فلعله ليفيد أمرين:

أحدهما:أن الإنسان لا يمكن أن يكون شكورا،أي كثير الشكر، على نحو الحقيقة،بل هو لا يستطيع إنجاز شكر واحد للّه تعالى..لأن كل شكر يحتاج إلى وسائل لإنجازه،و هذه الوسائل هي نعم جديدة، يحتاج أيضا إلى أداء شكر كل واحدة منها،و ما أكثرها.

ثانيهما:أن اسم الفاعل«شاكرا»يشبه الفعل المضارع«يشكر»في إفادة فعلية التلبس بالشكر..

كما أنه لكونه اسما مجردا عن إفادة التجدد،فهو يدل على الثبات و الدوام،لهذا الشكر،و ليس فيه دلالة على التصرّم و الانقضاء.

كما أنه لم يقل:إما أن يشكر أو يكفر،لأن ذلك يدل على مجرد صدور الفعل منه،و لو مرة واحدة،و لا يفيد أية خصوصية أخرى مع أن المقصود هو بيان ذلك بلحاظ خصوصيته الأخلاقية،و غيرها مما ألمحنا إليه..

لما ذا: «وَ إِمّا كَفُوراً»؟!

و أما السبب في أنه تعالى قد جاء بصيغة المبالغة في قوله: وَ إِمّا كَفُوراً فلعله:

أولا:فيما يرتبط بالنعم،فإن كثرة النعم تتطلب من الكفور كثرة المحاولات لإخفائها،و كل نعمة لها سترها الخاص بها..

و فيما يرتبط بالحقائق و الاعتقادات،و سواها،فإنه أيضا يحتاج إلى كثرة الستر للحقائق..و تعدد الإنكار للأمور العقائدية و غيرها..

ص: 110

فكلمة كفور تشمل كفر النعمة،و كفر المنعم،و الكفر بالنبي الذي يخبر عنه،و بالأئمة الذين يسعون إلى إقامة دينه،ثم الكفر بيوم الجزاء، ليتخلص و يتملص من المسئولية..

فالقول بأن المقابلة بين الشاكر و الكفور تجعل المعنى الأول،و هو كفر النعمة،أنسب بالمعنى..

قول غير دقيق..بل التعميم هو الأنسب،خصوصا و أن شكر النعمة هو الآخر يستبطن الاعتراف بكل الاعتقادات الآنفة الذكر،و منها صفات اللّه تعالى،لأن النعم تثبت تلك الصفات،لأنها من مظاهرها و تجلياتها، غير أن الشكر لا يتعرض لتلك النعم،و إن كان يستلزم الاعتراف بها من قبل الشاكر،كما أن جحود صفات اللّه لا يمكن أن يتحقق معه الشكر..

و بذلك يتضح:لما ذا لم يقل:مؤمنا أو كافرا،إذ إن ذلك يوجب اختصاص الكفر بالكفر العقائدي.فهذه الآية تستبطن تحويل الشأن العقيدي إلى أمر حياتي.

فجاء بصيغة المبالغة،لأجل بيان هذه الكثرة الحقيقية لكفره..

ثانيا:إن كثرة صدور الطمس و الإخفاء للنعم يكشف عن خلل حقيقي في أخلاقيات ذلك الشخص و في إنسانيته،و يدل على خبث باطنه،و شدة طغيانه،و حرصه على طمس نعم اللّه سبحانه،و التنكر لها، مع أن اللّه تعالى يقول لنبيه[صلّى اللّه عليه و آله]: وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1)،لأن إظهارها يزيد في معرفة الناس باللّه،و في توجههم إليه بحوائجهم.و لأجل ذلك قلنا:إن التعبير بالشاكر و الكفور،هو الأصح من

********

(1) سورة الضحى الآية 11.

ص: 111

التعبير بقوله:إما ضال أو مهتد..

و أخيرا..فإننا بالنسبة لقوله: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً نلاحظ:أنه تعالى لم ينظر إلى جهة صدور الفعل،و حركته الخارجية،و خصوصياته، بل نظر إلى طبيعة الشكر،و الكفران،من حيث كونهما صفتين أخلاقيتين داخلتين في تكوينه النفسي الداخلي..

فالشكرية حالة إنسانية أخلاقية،و الكفورية حالة لا أخلاقية و لا إنسانية.

الأخلاق أساس الدين:

و نحن نعلم:أن الأخلاق هي أساس الدين،لأن الهدايات كلها:و منها الفطرية،و الإلهامية،و العقلية،و التشريعية قد تتوفر للإنسان،و لكنه-مع ذلك-لا يهتدي بهداها،و ذلك بسبب خلل أخلاقي،و نقص في المزايا الإنسانية في داخل نفسه..ففرعون مثلا،و كذلك إبليس،قد توفرت لهما جميع أنواع الهدايات،لكن الخلل الأخلاقي المتمثل باستكبارهما و علوهما قد أوصلهما إلى الإبليسية،و إلى ادعاء الربوبية و الفرعونية،رغم أنهما يملكان أقوى الأدلة المثبتة للقضايا العقائدية.و منها رؤية المعجزات القاهرة،و معاينة الكرامات الباهرة،و البراهين العقلية،و الفطرية كلها،و لكن ذلك كله لم يؤثر في هدايته،و اختار الجحود الذي تحدث اللّه عنه حين قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ .

و ذلك كله يعطينا:أن الكفر حالة عناد و استكبار،و خلل أخلاقي بالدرجة الأولى..

فرق آخر بين الكفر و الشكر:

و هناك فرق آخر بين الكفر و الشكر،و هو أن من لا يعترف

ص: 112

بالشهادتين،فهو ينكر جميع الحقائق المترتبة على التوحيد.بنفس إنكاره للتوحيد،و ينكر ما يترتب على النبوة بنفس إنكارها أيضا..

و أما إذا أقر بالتوحيد،فهو يحتاج إلى ممارسة كل مفردات الشكر، ليكون شاكرا بالفعل..إذ إن اعترافه بالتوحيد إنما يكفي عن التوحيد دون سواه.أما العبادات مثلا،كالصلاة،و الزكاة،و الصدق..و..و..فلا يغني عنها شيء،حتى التوحيد..

فظهر أن كفره بالتوحيد يسقط كل ما عداه عن الصلاحية،و هو بمثابة تعدد صدور الكفر منه بالنسبة لكل واحدة،واحدة..لكن إيمانه به لا يغني عن شيء مما عداه،فلا بد من الإتيان به على حدّه الذي قرره اللّه عزّ و جل..

المجبرة،و آية الهداية:

و أخيرا..نشير إلى أن المجبرة قد ادّعوا:أن اللّه سبحانه لم يهد الكافر..لكن هذه الآية قد جاءت صريحة في تكذيب هذه الدعوى، حيث قررت أن الهداية الإلهية تشمل الكافر و المؤمن بلا فرق..

***

ص: 113

ص: 114

الفصل الرابع: إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً

اشارة

ص: 115

ص: 116

قال تعالى:

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً.

في هذه الآية المباركة حديث عما يواجه الكافر من عقاب،فكيف، بالكفور،و نحن نجمل الحديث فيها على النحو التالي:

«إنّا»:

قد تكرر استعمال كلمة«إنّ»التي هي حرف تأكيد،مع إدخالها على «نا»التي هي ضمير جمع المتكلمين،لا على ضمير المفرد،و قد قال هنا:

«إنّا»،و لم يقل:«إني».

كما أنه اختار التأكيد ب«إن»و لم يقل:«قد»أو«لقد أعددنا».

فأما بالنسبة للملاحظة الأولى،فقد ذكرنا،أكثر من مرة:أن المناسب في مثل هذا المقام الذي يراد به الردع و الزجر،أن يكون في الخطاب إظهار للعزة و العظمة الإلهية..

و أما بالنسبة للملاحظة الثانية،فإن التعبير بكلمة قد،و لقد،و إن كان يفيد التأكيد،إلاّ أنه يفقد الإشارة إلى مقام العزة الإلهية..

و قد قلنا:إن التأكيد عليه،و تركيزه في ذهن السامع،بتكرار الحديث عنه،بهذه الطريقة التعظيمية مطلوب في تحقيق الردع و الزجر..

«أعتدنا»:

و أما لما ذا قال:«أعتدنا»،و لم يقل:«أعددنا»..

ص: 117

فلعله لأجل أن كلمة أعددنا تتحدث عن مجرد الإعداد،من دون تعرّض لما يكون موردا و محلا له..أما كلمة«أعتدنا»،فإنها تحمل معنى الإعداد،و تشير أيضا إلى العتاد الذي يتم تهيئته،و أنه أمر حسي موجود فعلا،و ليس مجرد تهديد و وعيد بأمر قد يكون مفترض الوجود..

الإعداد لا ينافي القدرة:

و قد يقال:إن اللّه تعالى هو القادر و القاهر فوق عباده،فلا يحتاج إلى إعداد عدة،و لا إلى تهيئة مقدمات لشيء..فإن العاجز هو الذي يحتاج إلى إعداد و تهيئة الأمور التي قد يفقدها حين العمل..فكيف قال تعالى:

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ و..الخ؟!

و جواب ذلك هو:أن المقصود من الإعداد هنا،ليس هو رفع النقص عن المعدّ،بل المقصود هو تحقيق الردع للعاصي،و التأثير عليه لتصحيح مساره،و ذلك هو الأسلوب التربوي الصحيح الذي يقتضيه موقع الربوبية، و سوق الإنسان نحو كماله،و إبعاده عن مواقع الخطر بالحكمة الهادية، و بالأسلوب الصحيح.

الوعيد بغير المحسوس،يلغي الفرق:

و قد يقال:بما أن السلاسل،و الأغلال،و السعير،ليست حاضرة أمام الإنسان،بل هو سوف يواجهها يوم القيامة،فالحاضر الآن ليس إلا التهديد بها،و التهديد بالشيء لا يفرق فيه بين أن يقول:«أعددنا» و«أعتدنا»..و ذلك لأن وقت التنفيذ غير حاصل بالفعل.

و يجاب:بأن الوعيد على نحوين،أحدهما أضعف تأثيرا من الآخر.

فالوعيد المجرد عن الإعداد،يبقى مجرد محاولة لإيجاد تصور للعقاب، و لكيفياته،و حالاته،و مستواه،تدفعه للعزم على المضي فيه.فقد يتصوره

ص: 118

في مستوى أقل مما هو عليه،مع احتمالات حصول عفو أو بداء،أو أي شيء يصرف عن المضي في ذلك العزم.

و أما الوعيد الذي يصاحبه إعداد و تهيئة وسائل..فإن هذا الإعداد، يستبطن إفهام العاصي بأن الأمور غير قابلة لأي احتمال،فقد حددت مستويات العقاب،و حالاته،و كيفياته.و جسّده بدرجة ما،من خلال ما تهيأ من وسائل..مع تضاؤل احتمالات الانصراف عن العقوبة،لوجود الوسائل المذكّرة بها،و المحرّضة عليها بدرجة من التحريض ماثلة للعيان.

كما أن إحضار الوسائل يعطي للعاصي بصيرة في درجة التصميم و الإصرار و الجدية في هذا الوعيد،حيث يرى:أن مراحل تنفيذه قد بدأت،و أن الخطوات الأولى قد أنجزت.

فإذا كان واقع الأمر يفرض هذا الفرق بين الحالتين،فالإخبار بهما أو بإحداهما،لا بد أن تختلف تأثيراته على النفس الإنسانية تبعا لذلك..

الإعداد و العفو:

و يبقى سؤال يقول:هل هذا الإعداد يمنع من العفو؟!

و يجاب:بأنه لا مانع من حصول العفو،لكن المهم هو أن هذا الأسلوب التربوي من شأنه أن يجعل الناس أكثر جدية في التزام أوامر اللّه تعالى..لأن عنفوان الكفر يتضاءل،و تضعف شوكته،و ضعفها هذا، و حرص الإنسان على أن لا يعرض نفسه لغضب اللّه،يجعله أهلا للعفو فيما لو اجتمعت شرائطه و موجباته.

«أعتدنا»صيغة الماضي!

و أما لما ذا عبّر بصيغة الماضي،لا بصيغة المضارع،فقال:«أعتدنا»..

فلعله لأجل أن يفهم العصاة:أنه تعالى قد أعد العدة،و انته الأمر،فهو

ص: 119

يخبر عن أمر قد حصل في الماضي،و لا يريد أن يسجل تهديدا مجردا، إذ لو قال:سوف نعد للكافرين كذا و كذا،لا نفتح باب الأمل على مصراعيه بتغير الأمور،و لذهب العصاة باتجاه الاستخفاف و الاستهتار بالأمر و بالآمر..

فقوله تعالى:«أعتدنا»أصلح في التربية،و أوكد في الزجر،و أشد في الردع.

«للكافرين»:

و قد كان الحديث في بداية الأمر عن الكفور..و لكنه حين أراد أن يتحدث عن العقوبة الرادعة عبر بلفظ الكافرين..

و هو يختلف عن الكفور من جهتين.

الأولى:أن الكفور من صيغ المبالغة،الدالة على الشدة و على الكثرة..

الثانية:أن الكفور صفة للمفرد.أما الكافرون فهي صفة للجمع..

و ربما يكون الداعي للعدول إلى هذا النحو من البيان هو إظهار:أنه إذا كان هذا هو عقاب الكافر،فكيف يا ترى سيكون عقاب الكفور الذي هو أشد كفرا،و الذي كثر صدور الكفر منه،إلى أن صار كفورا..فكشف ذلك عن شدة طغيانه،لا بالقول و إظهار الجحود و حسب،و إنما بالفعل و الممارسة أيضا؟!..

و يؤكد ذلك قوله تعالى: وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (1)..حيث دل على أن عقاب الكفور مفروغ عنه،و لا مجال للعفو أو للتخفيف عنه،في

********

(1) سورة سبأ الآية 17.

ص: 120

أي من الظروف و الأحوال..و لا يريد أن يقول إن الجزاء منحصر بها، و أن الكافر لا يجازى..

أضف إلى ذلك:أن هذه العقوبة ليست حالة استثنائية،و لا تختص بهذا الفرد على سبيل التجني عليه،و إنما هي قانون عام و شامل،يؤخذ به الجميع.

و صفته القانونية هذه تأبى احتمالات التبدل في القرار،و تجعل ذلك العاصي أكثر اقتناعا بحتمية هذا المصير،حيث لا استثناء لأحد من القوانين و السنن العامة من دون مبرر ظاهر و حاسم..مع أن المبرر لعدم الاستثناء موجود،و هو شدة و كثرة كفره،فهو كفور،و ليس مجرد كافر..

و هذا يعطي أن قوله: إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ .. قد أريد به نفس الطبيعة التي قد تختلف منطبقاتها شدة و ضعفا،أو قلة و كثرة..

فيكون قوله أو كفورا بمثابة البيان للمراد من كلمة:«الكافرين»..

الترتيب و الاختيار:

و يلاحظ أنه تعالى قد اختار من وسائل العقاب ثلاث فقط،هي:

1-السلاسل.

2-الأغلال.

3-السعير.

فلنا هنا أسئلة ثلاثة،هي:

1-لما ذا اختار خصوص هذه الثلاث يا ترى؟!

2-ما الفرق بين السلاسل،و الأغلال؟!

3-لما ذا قدم السلاسل و الأغلال،على السعير؟!

ص: 121

و يمكن أن يجاب على ذلك بما يلي:

سبب اختيار أنواع العذاب:

أولا:هناك نوعان من العقاب،هما:

1-العذاب الروحي.

2-العذاب الجسدي.

و السلاسل و الأغلال ليستا وسيلة عقاب فاعلة و مؤثرة في الجسد، و إن كانت توجب بعض الألم،و الحرج على صعيد الحركة..

أما السعير،فهي عذاب جسدي بالدرجة الأولى،و الأذى الروحي فيها ليس نابعا من ذاتها،بل هو بسبب بعض العناوين الأخرى التي تصاحب العذاب الجسدي فيها..

و الأذى الروحي للمستكبر العاتي هو المطلوب الأول و الأهم.أما الأغلال،فهي وسيلة لأسر الحرية،و هي من وسائل الإذلال،و التحقير و المهانة..

و اختياره هذه العقوبة بالذات إنما هو لأن الاستكبار لذّة روحية له، و هي لذّة محرمة..فيصح مقابلتها بعقوبة روحية عادلة،هي الإذلال و المهانة و التحقير،فتتقابل اللذة الروحية بالمهانة الروحية.

ثم إنه إضافة إلى هذا الإذلال يلقى في السعير،لينال الجسد ما نالته الروح،فتذكو تلك النار،و تسعّرها الأدران و الخبائث التي نمت في كل كيانه،بسبب استسلامه للغرائز و الشهوات،و النزوات و الأهواء،التي أوصلته إلى العناد و الاستكبار..

و كما أن للمعاصي لذات جسدية،فقد ناسب أن يكون لها عقوبة بالسعير التي تنتج له أذى جسديا أيضا..

ص: 122

الفرق بين السلاسل و الأغلال:

و عن الفرق بين السلاسل و الأغلال نقول:

إنه لا شك في أن تلك السلاسل و الأغلال سيكون عذابها الجسدي عظيما و هائلا،كما دلت عليه الآيات أيضا،لكن الجانب المعنوي هو الأبرز في هذه الناحية،فإن إذلال الكافرين هدف هام و مقصود بذاته.

و على كل حال نقول:إن الأغلال جمع غل.و هو في الأصل طوق يوضع في العنق.و السلاسل جمع سلسلة،و هي عبارة عن حلقات منتظمة تأسر حركة و حرية المأسور،ضمن دائرة معينة،يحددها طول و قصر السلسلة،و طريقة التفافها على أجزاء جسده،ثم هو يسحب و يجر بواسطتها.قال تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ (1).

و قال سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ (2).

و قال عزّ من قائل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (3).

سبب تقديم السلاسل على الأغلال:

ثم إن تقديم السلاسل على الأغلال..قد جاء على سبيل التدرج و الترقي في مواجهة الكافر بالعذاب،فإن الذل الذي يواجهه الإنسان حين يوضع الغل

********

(1) سورة غافر الآيتان 72/71.

(2) سورة الرعد الآية 5.

(3) سورة الحاقة الآيات 32/30.

ص: 123

في عنقه أعظم من الذل الذي يشعر به حين يربط بالسلاسل..

«وَ سَعِيراً»:

و قد عبر بكلمة«سعيرا»،و لم يقل نارا مثلا،ربما بهدف الإلماح إلى زيادة استعار تلك النار،ليدل على التجدد المستمر من جهة،و على الشدة و التأجج من جهة أخرى.

و في ذلك تأكيد ظاهر على الردع الحازم،من خلال القرار الجازم..

و الملاحظ هنا:أن التصعيد كان باتجاه الآلام الحسية،لأنها هي التي يدركها الإنسان بصورة أعمق،و أشد و أوضح..

الأبرار و الفجار..إطناب و اقتضاب:

و قبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية المباركة نشير إلى ملاحظة هامة هي:أنه تعالى قد أجمل و اختصر في حديثه عن عقاب الكافرين..

و لكنه فصّل و بيّن أمورا كثيرة في حديثه عن جزاء الشاكرين الأبرار، و أشار إلى كثير من خصوصياتهم،و صفاتهم و مزاياهم،و كمالاتهم الإنسانية،و النعم التي تنتظرهم..

و لعل سبب ذلك هو:بالإضافة إلى ما في إهمال أمر الكفار من التحقير،و الخزي و المهانة لهم،في مقابل ما للأبرار من التعظيم،و المجد و الكرامة،و في ذلك أيضا إيلام روحي للكافرين..

و بالإضافة إلى ما في إيكال الأمر إلى خيال الإنسان العاصي،ليذهب كل مذهب في الحيرة و الضياع،و الرهبة و الخوف.

نعم بالإضافة إلى ذلك نقول:

أولا:إننا إذا رجعنا إلى ما ذكرناه في تفسير آيات هذه السورة

ص: 124

المباركة،فسنجد أن النقطة الحساسة و المركزية،التي تتمحور حولها الآيات الشريفة في هذه السورة،هي النشأة الطبيعية للإنسان في مسيرته التكاملية نحو اللّه سبحانه،و هي المسيرة المنسجمة مع هذا الخلق كله، بما أودع اللّه فيه من استعدادات و طاقات،محاطة بالرعاية الإلهية من البداية إلى النهاية: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟!..

فقد خلقه اللّه تعالى من نطفة أمشاج اقتضت ابتلاء،ينتج رهافة في السمع،و حدّة و قوّة في البصر،ليكون إنسانا مدركا و واعيا،بل في منتهى الإدراك و الوعي «سَمِيعاً،بَصِيراً»..

و قد أحاطه تعالى بأنواع من الهدايات،ليس فقط على سبيل الإشارة و الدلالة،بل أعطاه أيضا:الهداية التكوينية،و الإلهامية،و الفطرية، و الحسية،و الوجدانية،و العقلية و الشرعية،لكي لا يضل عن الصراط المستقيم.و تفضي به إلى السبيل الواضح إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، فلا أصح و لا أصوب،و لا أقرب إلى الهدف منه،و بذلك أصبحت الحوافز كلها متوفرة لديه،و تفرض عليه أن يلتزم بهذه الهدايات العظيمة.

فالآية الشريفة قد ركزت على هذا السير الطبيعي للإنسان،و أكدت على بيان حالاته،و خصوصياته،و أجوائه،التي لا بدّ أن تغري بالاهتمام بذلك الهدف الاسمى و السعي إليه.

أما إذا اختار التنكر لما تفرضه عليه تلك الهدايات كلها..و أصر على الخروج على مقتضيات الفطرة،و التمرد على الوجدان،و على العقل، و الدين،و على اللّه،فهذا هو النشاز و الاستثناء،الذي لا يستحق الالتفات إليه إلا بهذا المقدار من اللفتة العابرة،ليكون دائما في موقع الخزي، و المهانة،و السقوط،و ليكون عبرة لأولي الألباب،الذين يطمحون إلى

ص: 125

الكمال،و ينالون تلك النعم الباهرة..

و هذا بالذات هو ما يبرر الاختصار هناك،و التفصيل هنا..

ثانيا:هناك أمر آخر يحسن الالتفات إليه،و هو:أن الحديث عن الأبرار قد تضمّن أمورا تتناسب مع أنواع أفعالهم التي أنتجتها الهدايات الآنفة الذكر،فاقرأ في السورة ما يشير إلى أفعالهم الجارية على مقتضيات الهداية الحسية،أو التي ترضي الوجدان،و التي يفرضها التشريع عليهم،كالوفاء بالنذر،بالإضافة إلى الهداية العقلية،و الوجدانية، كما في إطعام الطعام على حبه،و كلزوم الأمن و الطمأنينة،و ما إلى ذلك..

فإنك تجد في مقابلها نعيما يجانسها،مثل النعيم الحسي،كقوله:

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، و نعيم الأمن،كما في قوله تعالى: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً..

و من يقرأ سائر آيات السورة يجد صحة ما قلناه..

لما ذا تحدث عن العقوبة أولا:

لما ذا قدم الكلام عن عقاب الكافرين،مع أن التقسيم الذي سبقه قدّم فيه الشاكر بالذكر على الكفور؟!

فقد كان النظم يقتضي أن يتحدث أولا عن الأبرار،ثم عن الكافرين، ليتوافق مع التقسيم الوارد في البداية..

الجواب:

و في مقام الإجابة على هذه الأسئلة،نقول:

إن السورة مسوقة لبيان النشأة الإنسانية،المحفوفة بالهدايات، و الألطاف الإلهية،التي رسمها اللّه تعالى لهذا الوجود كله لكي يصل إلى غاياته القصوى،و إلى كماله الأتم،و ذلك من خلال تجليات أنوار النبي

ص: 126

[صلّى اللّه عليه و آله]و أهل بيته الأطهرين فيه،الذين هم العلة الغائية لهذا الوجود،وفقا لما أشار إليه الحديث القدسي:«لولاك لما خلقت الأفلاك» (1).

ثم هو تعالى يريد أن يهدينا بهم صلوات اللّه و سلامه عليهم ببيان ما أعده اللّه سبحانه لهم من كرامة،و نعيم،ليثير فينا الشوق للتأسي، و الارتباط القلبي بهم.

و كما يريد اللّه سبحانه أن يجعل معرفتهم[عليهم السّلام]بعذاب الكافرين،و اطلاعهم على حالهم من وسائل النعيم لهم،فإنه يريد أن يكون ذلك من وسائل خزي الكافرين.مع التأكيد على أن شفاء صدور المؤمنين لم يكن لأمور شخصية بل هو في سياق التشفي ممن يتمرد على اللّه و يستكبر عليه سبحانه..

ثم هو يريد أن يكون من وسائل الترهيب الموجب للانضباط لدى الذين قد يضعفون أمام شهواتهم و ميولهم،و إغراءات الحياة الدنيا،و كما أنه تعالى يريد أن يجعل الحديث عما أعده للأبرار،و هم أهل البيت عليهم السّلام،من أسباب إثارة الرغبة بالتأسي و الارتباط بهم،فإنه أيضا يريد أن يكون ذلك من أسباب إكرامهم و رفعة شأنهم.

و لأجل ذلك كان الحديث أولا عن مصير أولئك الكافرين و الجاحدين، ثم عقبه ببيان أنواع الكرامات لهم،و النعم عليهم[عليهم السّلام].

***

********

(1) بحار الأنوار ج 16 ص 406،و مستدرك سفينة البحار ج 2 ص 166.

ص: 127

ص: 128

الفصل الخامس: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً

اشارة

ص: 129

ص: 130

قوله تعالى:

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.

«إِنَّ الْأَبْرارَ»:

و بعد أن بين سبحانه ما أعده للكافرين من سلاسل،و أغلال،و سعير..

و استبدل الحديث عن الشاكرين،بالحديث عن الأبرار.و هنا سؤالان:

الأول:ما المقصود بالأبرار؟!

الثاني:لم استبدل الشاكرين بالأبرار؟!..

الجواب:

إننا بالنسبة لهذين السؤالين نقول:

إن كلمة الأبرار جمع«برّ»و«بار».و هي تستعمل في المعاني التالية:

الصادق،المطيع،المحسن،الواسع،الصالح،القاهر.

و ليس بالضرورة إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد،فإن وضع العرب اللفظ الواحد للمعاني المتضادة،أمر شائع،مثل كلمة:«جون»التي تقال:للأسود و الأبيض،و كلمة:«قرء»التي تقال:للطهر و للحيض في المرأة و غير ذلك.

و في جميع الأحوال نقول:

إنه لكي يصدق على البار أنه بارّ،لا بد أن يصدر عنه فعل البر بقصد و اختيار،بأي معنى استعملت كلمة البر..

ص: 131

و بهذا القيد الأخير يعرف الفرق بين البر،و بين الخير.فإن الإنسان قد يفعل الخير،و لكن من دون قصد إليه،بل يتخيل أنه شر،أو أنه ليس متصفا بالخيرية،و لأجل ذلك تجده تعالى يقول: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ (1).

و إذ قد اتضح لنا المراد بالبر،فإنه يتضح لنا الجواب على السؤال عن سبب استبدال كلمة الشاكرين،بكلمة الأبرار.

فإن كلمة شاكر خاصة بمعنى من ظهر منه العرفان بالجميل،كردة فعل طبيعية تجاه المنعم،فيبادر إلى فعل ما يظهر حالة الشكر هذه..

لكن كلمة الأبرار تستبطن كل هاتيك المعاني الواسعة في دلالتها، و في إيحاءاتها..

و بذلك يتضح أيضا:لما ذا لم يعبر بكلمة«المؤمنين»بدلا من كلمة «الأبرار»،إذ قد لا يفهم من هذه الكلمة سوى حالة واحدة،هي الإشارة إلى الحصول على حالة الأمن في ظل اعتقاد بعينه،و هو معنى قد حشر في زاوية صغيرة و محدودة..و بذلك ينحسر المعنى عن الآفاق الرحبة التي تتولى كلمة الأبرار الكشف عنها،و الدفع إليها..

انسجام المعاني..مع الآيات:

فاتضح:أن كلمة الأبرار تستبطن معان واسعة لها أهميتها البالغة،و لها ارتباط وثيق بمعان و صفات و مزايا تريد الآيات التالية أن تؤكد عليها.

و هي كما قلنا ستة معان،مشروطة أيضا بالقصد و الاختيار،فهي تشير إلى معنى القاهرية،الذي يلمح إلى قهر الإنسان للشيطان،و لجم

********

(1) سورة البقرة الآية 216.

ص: 132

نفسه الأمارة بالسوء،و السيطرة عليها،و كبح جماح الشهوات،و الغرائز و الرغبات،و ذلك معناه:أن هذا الإنسان يملك قوة،و عزيمة،و إرادة، و حرية اختيار،و مبادرة عملية.

و صفة الصالح التي تذكر في جملة معاني البر،تشير هي الأخرى هنا إلى صلاح الفاعل،و أنه متوازن في نفسه،منسجم مع ما يؤمن به من معان و قيم،و لا يدخل مداخل السوء،بل هو يصلح الخلل في كل مورد يدخل فيه،تربويا كان أو اجتماعيا،أو سياسيا،أو غير ذلك،لأن دخوله هذا يكون في موقعه..

و اللافت هنا:أن من الأمور التي تظهرها الآيات القرآنية،هو:أن الصلاح هو المرتكز و الأساس الثاني بعد مرتكز الإيمان..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أن اللّه سبحانه يقرن بين الإيمان و بين العمل الصالح في مختلف الموارد.و العمل الصالح هو ذلك الذي يأتي في محله و في موقعه المناسب،بحيث يوجب فقدانه منه خللا فيه..

أما صفة الواسع،التي هي معنى آخر لكلمة«البر»،فهي تعني هنا رحابة الأفق،و الوعي الشامل،و سعة الصدر،و فتح القلب للغير،و القدرة على استيعاب الآخرين،و على التعامل معهم،فلا انغلاق و لا انطواء، و ليس ثمة من قيود أو حدود لميزاته و صفاته:في روحه،و في عقله، و في أخلاقه،و في كل خصائصه الإنسانية.

و المطيع أيضا يحمل هنا معنى العبودية للّه سبحانه،و الطاعة له، و الانسجام معه،على أساس ما يملكه من معرفة عميقة بكماله المطلق سبحانه،و بالحاجة الحقيقية إليه تعالى..

أما الشاكرية فهي تعني الشعور الحقيقي بالنعم،و الألطاف،و العنايات

ص: 133

الربانية.و هذا يحتاج إلى التحمل،و الصبر و المكابدة،ثم هو تعبير صادق عن الإيمان الحقيقي،و الوفاء،و الرجاء،و الخوف من يوم كان شره مستطيرا..

و الإطعام الذي ظهر منهم هو من مظاهر الشكر من جهة،و من مظاهر البر بجميع معانيه من جهة ثانية،و بذلك يكون تعالى قد أشار إلى جميع المعاني و الجهات المفترضة و المطلوبة..

و المحسن،و كذلك سائر الصفات التي ذكرت لكلمة«البر»تحمل في طياتها معاني السماحة و الكرم،و الإيثار و الشعور بآلام الآخرين،و الزهد.

و أخيرا،فإنه قد ذكر في جملة تلك المعاني كلمة الصادق،و هو معنى هام جدا،و له دلالاته المختلفة في تأكيد صحة ما سيخبر به الأبرار في قصة إطعامهم للطعام..

و تلك المعاني كلها تجدها،أو تجد ما يعبر عنها،أو ينطلق منها،أو ينتهي إليها في آيات السور المباركة التي تتحدث عن الأبرار،و ما قاموا به،و ما أعده اللّه سبحانه و تعالى لهم..

فكلمة الأبرار تعني القاهرية.و الأبرار من خلال قاهريتهم،و من موقع اختيارهم و إرادتهم يفجرون عيون الخير تفجيرا،و هم أيضا يفعلون ذلك من خلال عبوديتهم له تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ لا لأجل دنيا،و لا لأجل الانقياد لغريزة أو غيرها..

ثم إن كلمة الأبرار تستبطن السيطرة على النفس،إلى درجة عدم الاستجابة لرغبتها الشخصية،و تقديم مصلحة الغير على مصلحتها،لأنهم:

يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

كما إن من معاني البر«المحسن»،فالآية إذن تستبطن الإيثار،و الكرم، و الإحسان،لأنهم يطعمونه،لا طمعا بمكافأة،بل انقيادا للّه،و طاعة له..

ص: 134

و هم يفعلون ذلك بوعي،و عن قصد و اختيار،كما تفيده كلمة الأبرار-كما أسلفنا..

و هم يخافون يوما عبوسا قمطريرا،أو كان شره مستطيرا..

و هم مسيطرون على شهواتهم،و قاهرون لأنفسهم،و للشيطان..في ميلها و حبها للطعام،بسبب حاجتها له،و هو أيضا من وسائل قربهم إلى اللّه تعالى،فهم لا يأكلون استجابة لشهواتهم،بل لحفظ أنفسهم،و هو واجب عليهم،و للتقوّي على الطاعات،و هو محبوب للّه أيضا..

و هم يوفون بالنذر،و هذا ما تستبطنه كلمة الأبرار،لأنهم صادقون..

إذن فكلمة البر تستبطن جهات عديدة:

منها ما هو إنساني..

و منها ما هو اجتماعي في مجالات التكافل،و الشعور مع الآخرين.

و منها ما هو إيماني..كالخوف من اليوم الآخر..

و منها ما هو داخل في التكوين النفسي،و قوة الشخصية و سيطرة الإنسان على نفسه و على شهواته..

و منها ما يتعرض للحالة الأخلاقية..

و كل ما ذكرناه يدلنا على أنه لا مجال لاستبدال كلمة الأبرار بأية كلمة أخرى أبدا،و ذلك لما تحمله من إشارات،و دلالات،و إيحاءات،لا توجد في أي كلمة سواها..

استعمال المشترك في أكثر من معنى:

و لعلك تقول:إن هذا الكلام في بيان سبب اختيار كلمة«الأبرار» يبتني على إمكانية استعمال المشترك في أكثر من معنى،و قد نفى ذلك

ص: 135

صاحب كتاب كفاية الأصول،و غيره،على اعتبار أن الاستعمال هو لحاظ اللفظ فانيا في المعنى،و بعد أن فني في المعنى الأول،فيستحيل لحاظه فانيا في غيره في آن واحد،و في استعمال واحد.

و نقول في الجواب..

أولا:إن تفسير الاستعمال بذلك غير ثابت،بل ربما يكون خلافه هو الأصح،أو أنه-على الأقل-هو الأرجح..

ثانيا:إن الوقوع أدل دليل على الإمكان،و نحن نرى:أن العرب يستعملون التورية في محاوراتهم.و التورية هي القصد إلى معنى،مع إرادة إفهام السامع معنى آخر منه،و قد يكون المراد إفهام كل فريق معنى،يختلف عما يراد إفهامه لفريق آخر.

فمن الثاني:ما ذكروه من أن بعضهم أجاب على سؤال:من كان الخليفة بعد الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]،بقوله:من كانت ابنته تحته (1)..

فالسني فهم أن الخليفة هو أبو بكر،لأن ابنته كانت تحت رسول اللّه [صلّى اللّه عليه و آله].و الشيعي فهم أنه الإمام علي[عليه السّلام]لأن ابنة الرسول[عليها السلام]كانت زوجة للإمام علي[عليه السلام].

و من الأول:ما روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]،حين سئل عن الهلال،فقال[عليه السّلام]:ذاك إلى الإمام،إن صام صمنا،و إن أفطر أفطرنا..

و حين طلب معاوية من عقيل أو من غيره:أن يلعن عليا على المنبر،قال:ألا إن معاوية قد أمرني بلعن علي بن أبي طالب،ألا فالعنوه.

و أمثال ذلك كثير..

********

(1) بحار الأنوار ج 104 ص 17،و شجرة طوبى ج 1 ص 267.

ص: 136

ثالثا:إن دلالة كلمة الأبرار على معانيها،لا يجب أن تكون بنحو استعمال المشترك في المعاني المتباينة،بل قد تكون الدلالة من خلال وجود حالات و خصوصيات للفظ تمكنه من تحمل المعاني المختلفة..

كما أن من الممكن إرجاع العديد من المعاني إلى معنى أوسع،يصلح للانطباق عليها جميعا،كل في موقعه،و هو ما يعبر عنه بالقدر المشترك،الذي تتعاقب عليه،أو حتى تلتقي فيه الخصوصيات المختلفة،بل المتباينة..

«يشربون»:

و اللافت هنا:أن اللّه سبحانه حين ذكر جزاء الأبرار بدأ بالشراب،لا بالقصور،و لا بالأشجار و الأنهار،و لا بغير ذلك من أنواع الفاكهة، و المطعومات،و لا غير ذلك من النعم المختلفة.

و لعل سبب ذلك هو ما ثبت من طرق السنة و الشيعة،من أن أول علامات النجاة في يوم القيامة،هي الشرب من حوض الكوثر،من يد إمام الأبرار،و قسيم الجنة و النار،الإمام علي أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام،و ذلك هو المنقذ في يوم العطش الأكبر (1)..

و بالمناسبة،فإن البشارة التي بشّر بها علي الأكبر أباه،حين استشهاده هي قوله:«هذا جدي رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها» (2)،أو بقوله:«إن لك كأسا مذخورة» (3).

********

(1) راجع كتاب المزار ص 335.

(2) بحار الأنوار ج 45 ص 44،و العوالم ص 287.

(3) راجع:مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 و العوالم(مقتل الحسين عليه السّلام)ص 95 و مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص 324.

ص: 137

و من جهة أخرى:فإن بعض الروايات تذكر:أن آخر ما يحاول فيه إبليس أن يضل به الإنسان هو:أنه حين يحضره الأجل يعطش عطشا شديدا،فيعرض عليه إبليس قدحا من ماء،و يقول له:

«إن سجدت لي أسقيك منها،فإذا سجد له،لم يسقه أيضا منها، و يموت كافرا»..

«من كاس»:

ثم إنه قد جاء التعبير في الآية بكلمة«كأس»دون كلمة قدح،أو كوب.ثم إنه قال: مِنْ كَأْسٍ ، و لم يقل بكأس..فلما ذا يا ترى كان ذلك؟

و للإجابة على ذلك نقول:

يقول أهل اللغة:إن القدح قد يكون مملوءا،و قد يكون فارغا.

و كذلك الكوب.أما الكأس،فلا تكون إلا مملوءة،فلا يقال:أعطني كأسا فارغة مثلا..

و ذلك يوضح لنا:أن اختيار كلمة«كأس»إنما هو لأجل بيان حالة الوجدان المستمر و الدائم لما يشربونه،فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا..

و بذلك يكون تعالى قد جعل الأبرار يعيشون:

1-لذة الشرب..

2-لذة الطمأنينة إلى وجدان مشروبهم..

3-لذة استمرار وجدانهم له.

فما دامت الكأس موجودة،فلن يواجههم عطش بعد الآن،فتتوافق اللذة القلبية الشعورية مع لذة الحس بالمشروب،و موافقته للمطلوب..

و بهذا يتضح أيضا سبب التعدية ب«من»لا ب«الباء»..

ص: 138

فأولا:إن الباء في مثل هذه المواضع يفهم منها أن في مدخولها معنى الآلة و الوسيلة لإيصال الشارب إلى مشروبه،و ذلك معناه:أن الوسيلة و الآلة شيء،و ما يراد التوسل بها إليه ليس موجودا فيها بالفعل، بل هي فاقدة له،مع أن كلمة«كأس»تشير إلى حصول الامتلاء لها، و أن ما يريده الشارب موجود فيها فعلا.فالإتيان بالباء لا يصلح هنا،إذ قد يتوهم من الباء،ما يتنافى مع إرادة التطمين بوجود المقصود كما أشرنا..

و ثانيا:إن كلمة«من»تفيد التبعيض،ففيها إيحاء،بأن المشروب لن ينفد من ذلك الكأس،بسبب الشرب منه،مهما تعدد هذا الشرب،أو تواصل..فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا..و دائمة الاحتواء على ما يشرب،ما دام أن ما يشرب هو بعض ما فيها،حسبما أفادته كلمة«من» التبعيضية..

«كان مزاجها»:

أما لما ذا جاء بكلمة«كان»في قوله كَأْساً كانَ مِزاجُها، مع أنه كان يمكن أن يقول:«كأسا مزاجها».

فقد يقال:إن السبب فيه هو أن تصير كلمة«كافورا»منصوبة،مراعاة للناحية الجمالية،الناشئة عن التناسق الظاهر من رعاية القافية في الآيات السابقة و اللاحقة..

غير أننا نقول:

إننا لا نمانع في أن تكون الناحية الجمالية مقصودة أيضا،لما لذلك من تأثير في الراحة النفسية للقارئ و السامع،و لغير ذلك..

و لكن ليس ذلك هو كل السبب،إذ لعل السبب الأولى و الأهم هو

ص: 139

أن كلمة«كان»تدل على الكينونة و التحقق.و لا شك أن إفهام هذه الكينونة للأبرار،و من يريد اللّه تعالى أن يهديهم سبيل الأبرار مطلوب و محبوب،أي أنه يريد أن يقول لهم:إن هذا المزاج ليس أمرا عارضا، يمكن أن يزول و يتخلف،بل هو أمر داخل في كينونة تلك العين،و في عمق حقيقة ما يحويه ذلك الكأس..

و لأجل ذلك جاءت كلمة«عينا»..لتؤكد على أن هذه الكأس لا تقبل النضوب،بل هي عين تتفجر،و المزاج الكافوري داخل في حقيقة تلك العين،و تلك الكأس،و في كينونتها و وجودها..

و كلمة«كان»هنا..هي نظير كلمة«كان»الواردة في قوله تعالى:

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً، حيث تفيد ثبوت ذلك و تحققه بصورة لا تقبل التغير و التبدل.

«مزاجها كافورا»:

و يبقى سؤال:لما ذا قال:«مزاجها كافورا»،و لم يقل:«مزجت بكافور»؟.

و يمكن أن يكون الجواب:هو إرادة بيان هذه الكينونة،و الأصالة، و الثبات للمادتين الممتزجتين،و أن المزاجية أيضا قد جاءت في أصل التكوين و النشأة..

و لو أنه قال:مزجت،لكان المزج عارضا على أمرين كانا منفصلين بالأصالة،و ليس للتمازج أصالة في نفسه.مع أن المقصود هو بيان أن التمازج أصيل في نشأة هذه الحقيقة القائمة فيما يشربونه من هذا الكأس.

و الخلاصة:أن المراد هو إفهامنا:أن الأصالة للمزاج و للممزوج، و ليست للممزوج وحده..

ص: 140

و أما السؤال عن السبب في أنه يريد بيان هذه الأصالة لكلا الأمرين؟!.

فتتضح الإجابة عنه من خلال وضوح السبب في اختيار الكافور هنا، و الزنجبيل فيما يأتي..

«كافورا»:

و يلاحظ أنه تعالى قد ذكر الكافور هنا،دون الزنجبيل الذي ذكره في آية ستأتي..

و لعل سبب ذلك هو:أن للكافور خصوصية تناسب حياة الأبرار في هذه الدنيا،و للزنجبيل خصوصية تتناسب مع اعتباره جزاء للأبرار في الآخرة..

إذ إن للطيب المسمى بالكافور خصوصيات،و يرمز لأمور يحسن للأبرار اختيارها،و التحلي بها،لأنها تناسب حالة البر فيهم.

فالكافور طيب طيّب الرائحة،يبعث في النفس نشوة و ارتياحا..

و من خصوصياته:أن فيه صفة البياض و النقاء..

و هو يرمز إلى الطهارة و الصفاء.

و من خصوصياته:أنه يطغى على كل ما عداه،و يهيمن عليه،فلا مجال لما هو كريه،و مؤذ،بل لا بد له من أن يتلاشى و يختفي..

و منها:أنه كافور،أي قادر على أن يغطي،و يطمس،و يخفي كل ما لا يكون مناسبا،و كل ما هو مكروه و منفر..

و هو يهيمن حتى على بعض الغرائز،و يقهرها،و يضعف من طغيانها،حيث يقال:إن له بعض الأثر في الغريزة الجنسية..

و فيه أيضا صفة البرودة،التي قد يقال:إنها ترمز إلى حالة الهدوء

ص: 141

و التأمل و التعقل..

و كل ذلك يرمز إلى حالات نفسية،و صفات و مزايا يرغب بها الأبرار،و يسعون إليها،بحسب المعاني المتكثرة التي تختزنها كلمة:

«الأبرار»حسبما ألمحنا إليه فيما سبق.

و لكن ذلك كله في الحدود التي رسمها اللّه لعباده،من دون ابتداع في الدين لما لم يكتبه اللّه على الناس..

و الأبرار هنا هم الذين يشربون،أي يختارون الشرب من كأس مزاجها كافورا،كما يختارون سواه،مثل أنهم يوفون بالنذر،و يطعمون الطعام،و يخافون،و..الخ.

فكلمة«يشربون»كأنها تشير إلى معنى كنائي عن دخول الإيمان و الإخلاص و التقوى،و العمل في عمق وجودهم،فهو كما يقال:شرب كأس الموت،و شرب كأس العلم،و ما إلى ذلك..

فهي عين لا تنضب،بل تستغرق كل وجودهم،و تفجر فيهم الطاقات الإنسانية،تفجيرا،كما سيأتي.

حذف متعلق الشرب:

و ربما يمكن تأييد أن الحديث إنما هو عن فعل الأبرار في هذه الدنيا، بأن المتعلق للشرب لم يذكر في الآية.فلم يقل:يشربون أي شيء!!فهل يشربون ماء ممزوجا بالكافور؟أم يشربون لبنا،أم عسلا،أم ما ذا؟!

و ربما يكون ذلك لإفساح المجال لفهم ذلك المعنى الكنائي المستوعب،لكل ما تقتضيه صفة الأبرارية،التي تتسع للعديد من المعاني،و تكون معاني الأبرارية فيهم هي التي جعلتهم يفجرون تلك العين تفجيرا عظيما..

ص: 142

المزاج متأصل في عمق الذات:

و إذا تابعنا المعنى في سياقه الكنائي هذا،و تجاوزناه إلى كونه قادرا على الإلماح إلى المعاني التي يراد الإيحاء بها إلينا على سبيل التعلم و الإرشاد لكونها ممكنة في حقنا،و إن كانت غير متصورة في حق الأبرار،و هم الأئمة الأطهار عليهم السّلام،فإذا تابعنا المعنى في هذا السياق فإنه يصبح بإمكاننا تصوره حقيقة كامنة في داخل وجود البشر و ذواتهم..فنتصور النفس الأمارة،التي تسعى في العادة لإثارة روائح كريهة،قد أصبحت أسيرة النفس اللوامة،و يهيمن عليها العقل،و الشرع، و الفطرة الهادية،و غير ذلك من وسائل الهداية،التي أصبحت بمثابة الكافور الذي يهيمن على وجودهم كله بروائحه الطيبة و الذكية،و القاهرة و القوية،و يبعث في النفس طمأنينة و سكونا،و بردا،و هدوءا،يحجزها عن التوثب لما هو حرام،و تحتفظ-من ثم-بحالة النقاء و الصفاء، و الطهارة،التي تتجلى للناس طيبا كافوريا،رائعا و قويا..

و تصبح النفس الأمارة مع الكافورية في عناق،و في انسجام،و تمازج حقيقي،و تصير أمارة بالصلاح و بالخير و بالتقوى،بعد أن كان من المفروض أن تكون على ضد ذلك،و تتحول بذلك هي و النفس اللوامة إلى بركان يفجر و يثير كل كوامن الخير و الصلاح في تلك العين الغزيرة، و يفجرها تفجيرا قويا بوسائل قادرة على هذا التفجير..

و هذه الأصالة الحقيقية،و التمازج الراسخ،و النابع من عمق الذات،يجعل كل قوى النفس:من غريزة،و طموح،و ميزات و صفات-يجعلها-طافحة بالخير،و تمثل طاقة و عنفوانا له،و ثورة فيه،و تصبح كل هاتيك الغرائز و الطموحات يهيمن عليها كافور النفس اللوامة،مغمورة به،يتعاونان على إنتاج المزيد من النقاء،و الطهر،و الخلوص،و الصفاء..

ص: 143

الأبرار..و عباد اللّه:

ثم إنه تعالى قد عبر أولا بالأبرار،ثم ساق الحديث باتجاه عباد اللّه، فقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ ..

و ربما يكون ذلك-وحده-مبررا للاعتقاد بأن المراد بالأبرار في الآية،موجودات عالية جدا،تجلت بهم صفات البر بصورة حقيقية و تامة،فاستحقوا هذا المقام المحمود..و هم خصوص أهل البيت[عليهم السّلام]الذين لا بد أن يكونوا الأسوة و القدوة للناس جميعا.

و الحقيقة هي:أن أبرارية أولئك الأطهار صلوات اللّه و سلامه عليهم، كانت هي الطريق الذي أوصلهم إلى درجة العبودية الحقيقية،التي هي أسمى مقام،و أشرف و سام..كما أشرنا إليه أكثر من مرة..

فالعبودية بالمعنى الأتم،قد تجلت في النبي الأكرم[صلّى اللّه عليه و آله]،في أهل بيته الأبرار الأطهار عليهم الصلاة و السّلام..

و هذا يعطينا:أن الآية لا تريد فقط أن تحدد الأسوة و القدوة للناس..

و إنما تريد أن تقول أيضا:إن الأبرارية قد أوصلت الأبرار إلى مقام العبودية..

و أخيرا نقول:

إنه تعالى قد تحدث عن فعل الأبرار بصيغ تناسب الحياة الأخروية.

فقال سبحانه: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.. و ذلك لكي يجسد لنا مدى فاعلية و تأثير تلك الصفات،و مدى أهميتها،و حسنها،و خلوصها..ليدفعنا إلى سلوك طريقهم،و الالتزام بنهجهم،و الاهتداء بهديهم،و الاقتداء بهم..

ص: 144

اختلاف سياق الآيات:

و الذي يقرأ آيات هذه السورة يجد أن السياق قد اختلف في بيان النعم الإلهية للأبرار..

فهو حين ذكر صفات أفعال الأبرار،لم يذكر أي نعمة،إلا نعمة الشرب من عين كان مزاجها كافورا..كما أنه قد اعتبر أن هذا الشرب هو فعل للأبرار،يمارسونه باختيارهم و بإرادتهم..و أنهم هم الذين يثيرون العين التي يشربون منها،و يفجرون ماءها تفجيرا..

و هذا السياق منسجم تماما مع السياق الذي بيّن به صفات أفعالهم في الدنيا..

و كأنه يريد أن يقول لنا:إن هذا الشرب،و إن كان أخرويا،لكنه لم يأت على سبيل الجزاء،و إنما جاء تجسيدا لفعلهم في الدنيا،فهو شبيه بفعل المطاوعة الذي هو نتيجة الفعل من الفاعل،كما في قولك:كسرته فانكسر،أو لويته فالتوى،و نحو ذلك..

و لأجل ذلك،نسب الشرب إليهم،و أنه..بفعلهم و اختيارهم،ثم ذكر أن ما يشربونه يكون مزاجه من جنس الكافور.أما الذي سوف يعطى لهم على سبيل الجزاء،فهو من جنس آخر،و هو الزنجبيل،و سيأتي إن شاء اللّه الحديث عن الفرق بينهما،و عن سبب اختيار«الزنجبيل»بالذات..

للتوضيح و البيان:

و لكي تتضح الخصوصية التي أراد اللّه سبحانه أن يفهمنا إياها من خلال التبديل السياقي للآيات،نقول:إنه تعالى حين أراد أن يصف حالهم و أعمالهم قال: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.

ص: 145

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.

وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً...

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.

و حين جاء دور الجزاء الإلهي لهم،نجد السياق يتغير،فهو تعالى يقول:

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .

وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً.

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

و يقول أيضا:

لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً.

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها.

وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً...

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ...

و يقول سبحانه:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.

فلم يقل:يشربون.بل قال: يُسْقَوْنَ ، فنسب الفعل لغيرهم.

و لم يقل:بكأس.و لم يقل:كافورا.كما أنه،و إن كان قد وصفها بأنها عين،و لكنه لم يذكر تفجيرها من قبل الأبرار..

ص: 146

ثم إنه تعالى يتابع بيان ما يجزيهم به..إلى أن يقول: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.

و ذلك كله يفيد:أن ثمة معان،و خصوصيات معينة،يريد اللّه سبحانه لنا أن نتوجه إليها،لأنها ذات قيمة و أهمية تفرض علينا أن نثقف أنفسنا بها.

كل ما في القرآن مهم لنا:

و ملاحظة أخرى نسجلها هنا هي:أن نفس اختيار اللّه سبحانه من الأواني ما هو من الفضة،و من الأكواب ما هو قوارير،و من العين ما يسمى بالسلسبيل..يؤكد لنا على حقيقة:أن ثمة معان دقيقة يريد لنا أن نتلمسها،و مقاصد هامة يريد لنا أن ننالها،و غوامض يريد لنا سبر غورها، و أن ثمة أسرارا لا بد من الوصول إليها.

و حيث إن الحديث قد بلغ بنا إلى هنا،فإنني أحب لفت النظر إلى أمر هام،هو:

أن البعض قد يدّعي:أن أمثال هذه الأمور التي نتوقف عندها ليست بذات أهمية..ثم هو يحاول التشنيع علينا بالقول:إن الغربيين قد وصلوا إلى القمر،و فقهاؤنا و علماؤنا لا يزالون يبحثون في أحكام الحيض و الاستحاضة..

فلما ذا ندقق في المراد من الأرائك،و لما ذا نبحث عن السلسبيل، و عن القطوف الدانية،و عن الأكواب من فضة،و عن عرش بلقيس،و عن الطوفان،و عن صنع السفينة،و عن قصة الهدهد،و عن آية تحريم ما حرمه النبي[صلّى اللّه عليه و آله]على نفسه يبتغي مرضاة أزواجه،و عن الحيض،و عن شكوك الصلاة،و عن الاستئذان قبل صلاة الفجر،و عن آية

ص: 147

الدين التي هي أطول آية في القرآن..إنه يقول:إن البحث عن ذلك و عن نظائره:لا يجدي،و لا يفيد شيئا.

و أن اللازم هو البحث عن الإسلام السياسي،و عن النظرية الاقتصادية الإسلامية،و عن دور المرأة في السياسة،و عن ديمقراطية الإسلام،و عن العولمة،و عن حركة الأرض،أو حركة الشمس،و عن..و عن..

و نقول:

إن هذا كلام باطل جزما،و لا يحق لأحد أن يطلق مثل هذه الدعاوى،التي تستبطن الاعتراض على اللّه سبحانه..فإنه إذا كان اللّه سبحانه يريد أن يفهمنا هذه الأمور،و إذا كان الرسول هو الذي ذكر لنا ذلك كله،و غيره حتى أحكام الحيض و غيرها،فإن اللّه و رسوله أعلم بما يصلحنا،و إن البشر أذل و أحقر من أن يعترضوا على مقام العزة، و الجلال،و العظمة الإلهية،و على ساحة قدس الرسول الأعظم[صلّى اللّه عليه و آله]..

على أن من البديهي:أن أحدا ممن يسعى لكشف الحقائق القرآنية و غيرها،لم ينكر لزوم ممارسة جميع العلوم النافعة الأخرى أيضا..و لكن بشرط واحد،و هو حفظ التوازن و معرفة الناس لأحجامهم،و لحدودهم، فلا ينصبون أنفسهم آلهة،و يحكمون بدون روية،و من دون علم،في أمور يقول خالق الكون و الحياة،و الحكيم العليم،و البصير الخبير،إنها ضرورية،و هامة،و حساسة،و لا بد منها،و لا غنى عنها..

علما أنه حتى الثقافة الدينية أيضا،لا بد أن تكون متوازنة و شاملة للأخلاق،و العبادات،و التفسير،و الحديث،و الأحكام،الخ..فإنه لا يغني شيء عن شيء،فكل شيء لا بد منه في موقعه،إذ إن الإخلال به،فيه

ص: 148

إدخال للنقص على موقع يفترض أن يكون على غير تلك الصفة،و لربما يكون الإخلال به إخلالا بالمسيرة الحياتية،و بسعادة الإنسان،فإنه لا يمكن أن يسد الصعود إلى القمر،الفراغ الذي يحدثه الجهل بأحكام الحيض،أو بأحكام الشكوك في الصلاة،أو بأحكام البيع،أو ما إلى ذلك.و لا تسدّ أحكام الحج الفراغ في أحكام الصوم،و في النواحي الأخلاقية،أو في فهم معاني القرآن و مراميه..الخ..

كما أن ما هو ضروري في الحياة لا ينحصر في الأمور المادية،و لا في اختراع الآلات المتطورة.فقد يستغني الإنسان عن هذه الاختراعات، و يستغني عن الصعود إلى القمر،و لكنه لا يستغني عن الصلاة،و لا عن أحكام الحيض و الجنابة مثلا..

و قد عاشت البشرية المئات و الآلاف من السنين،بدون كل تلك الاختراعات،و لكنها لم تستغن عن الصدق،و عن الوفاء بالوعد،و عن..و عن..

إن كل ما يريد اللّه أن يعلمنا إياه مهم جدا لنا أما الذي لا يهتم اللّه تعالى و رسوله[صلّى اللّه عليه و آله]به،فإن بإمكاننا تأجيله،أو حتى الاستغناء عنه..

إن اللّه سبحانه يريد أن يبني الشخصية الإنسانية(على المستوى الشخصي،و الاجتماعي،و السياسي،و غير ذلك)بناء متوازنا..لأن أي خلل يحدث في أي جهة من جهات وجود الإنسان،و حياته،فإنه سيؤثر سلبا على الجهات الأخرى،حتى في حياته الاقتصادية و الاجتماعية،و غير ذلك.

كما أنه حين يستجمع الإيمان بالغيب كل عناصره،فسيكون أثره الإيجابي في حياة الإنسان أكثر بروزا مما لو كان في بعض جوانب هذا الإيمان خلل أو نقص،فإن ذلك سيؤثر على درجة الالتزام،و على

ص: 149

التفاعل مع العبادة،و على الطاعة،و على درجة الإخلاص في العمل، و الخلوص في النوايا..

بل نحن بحاجة إلى جميع ما حكاه اللّه عن الماضين،و عن أحوال الدنيا..كقصة الطوفان،و عرش بلقيس،و ما جرى للهدهد.و تهديدات سليمان له..ثم اكتشافه عرش بلقيس..و حمله إليها رسالة النبي سليمان [عليه السّلام].و إلى المعرفة بصناعة النبي نوح[عليه السّلام]للفلك،و ما إلى ذلك،لأن القرآن قد حكى ذلك كله لنا،ليثقفنا به،و ليبني به شخصيتنا و مفاهيمنا،و مشاعرنا و الخ..و ما ذلك إلا لأن الإسلام كل متكامل،يريد أن يبني عقل الإنسان،و فكره،و عقيدته،و ثقافته،و عاطفته، و مشاعره،و مفاهيمه،و مزاياه،و خصائصه الأخلاقية،و غرائزه،و حتى بنيته الجسدية أيضا..

و يريد أن يبني المجتمع الإنساني وفق ضوابط و قواعد،و قيم.و إن أي خلل يحدث في أي موقع و أية جهة،فسوف يؤثر سلبا على الجهات الأخرى،و ليس بالضرورة أن نكتشف نحن ذلك الفساد و كيفياته، و حالاته،و تأثيراته..

فليس لأحد أن يصنف قضايا الدين و الإيمان،و معارف القرآن، فيقول:هذا مهم،و هذا ليس بمهم.فإن إثارة شعور من هذا القبيل فينا سيؤثر على طاعتنا للّه،و على معرفتنا به،و قربنا منه،و على حميمية مشاعرنا تجاهه.

فإذا كان هناك ما ليس بمهم،فاللّه تعالى هو الذي يحدده،و يشير إليه.و أما ما اهتم اللّه و رسوله به،فسجله اللّه في كتابه الكريم،و كلّف جبرئيل بتنزيله،و أوكل إلى النبي[صلّى اللّه عليه و آله]تبليغه،و كتاب الوحي بتدوينه،و الألسن بتلاوته،و الملائكة بتسجيل الثواب عليه؟!..

ص: 150

فلا بد أن يكون مهما لنا،تجدر بنا معرفته،و الاستفادة منه،و الاهتمام به..

و أ لا تعتبر هذه النظرة إلى ما جاء به الرسول الأكرم[صلّى اللّه عليه و آله]عن اللّه سبحانه،نوعا من الاستهتار و الاستخفاف باللّه و برسوله،.

و أ لا تدل على خلل في البنية الإيمانية،و نقص في الثقافة القرآنية؟!..

إن عدم إدراكنا لأهمية بعض الأمور،و عدم إحساسنا المباشر بفائدتها،لا يعني أنها عديمة الفائدة،أو قليلة الأهمية-أ ليس نعلم أن اللّه يقبل الصلاة بقراءة سورة الكوثر،و لا يقبلها بقراءة سورة البقرة،إذا نقصت منها آية واحدة؟!.

إن هذه التصنيفات المرتجلة،و التي تفوح منها روائح كريهة لنزعات الهوى،و تأثيرات إبليسية،و وسوسات شيطانية،لم تستند إلى أي دليل شرعي أو عقلي قطعي،و هي تحدث قطعا أضرارا بالغة في مختلف الحالات،و على جميع المستويات.

إن القرآن هدى للمتقين بكل كلماته و حروفه،و إشاراته و دلالاته، و في مختلف قضاياه،و قصصه و إخباراته،و في كل المجالات التي تحتاج إلى الهداية:و منها الأخلاق،و العقائد،و الأحكام..و..

إن مشكلتنا هي نقص الثقافة القرآنية و الحديثية عن الرسول الأكرم [صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة الطاهرين[عليه السّلام]ثم في التخمة القاتلة بالأفكار المسمومة التي تلقاها هؤلاء الناس عن أهل الضلال و الانحراف،و الانبهار غير الواعي بما يلقونه إليهم من زخرف القول غرورا،مع أنهم لو رجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أنه ليس في كلام اللّه تعالى و رسوله[صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليه السّلام]لغو و لا هذر،بل كله يأتي وفق الحكمة،و المصلحة،غير أن هؤلاء يقولون:نؤمن

ص: 151

ببعض الكتاب،و نكفر ببعض.

إن الإسلام يريد لنا ثقافة واحدة،منسجمة،و متوازنة،و عميقة، و صحيحة،و واقعية،لها طابع واحد،هو الواقعية التي لا يمكن إدراكها بدون الهداية الإلهية..و بدون ذلك فسيكون الخلل العظيم،و الخطر الجسيم في الوعي،و في الالتزام،و في التفكير،و في المشاعر،و في الصفات و المزايا،و في الصفاء الروحي،و في العلاقات،و في المواقف،و في السلوك،و في كل شيء..لأن للثقافة التأثير القوي و العميق في ذلك كله..

و آخر كلمة نقولها هي:

إن الجهل بالعقيدة ينعكس جهلا باللّه،و بالدين،و بالأحكام، و بالعبادات،و بالمعاملات،التي يكون لها بدورها انعكاساتها و آثارها السلبية على الفرد،و على المجتمع..

و الخلل في البنية الإيمانية ينعكس خللا في الأخلاق و السلوك و التعامل مع الآخرين،التي بدورها لها انعكاساتها و آثارها السلبية على العلاقات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.

و الخلل في البنية الثقافية القرآنية يحدث تفاوتا في الفهم،و تباينا و انقساما في الآراء و المواقف،و يخلق حالة من عدم الانسجام،و عدم التوازن في المجتمع،لا يعود ينفع معها الحديث عن أولويات اقتصادية، أو سياسية،أو اجتماعية،أو غيرها..

و اللّه تعالى يريد أن يبني الإنسان بما هو إنسان من الداخل،كما يريد أن يبنيه من الخارج في وقت واحد،و يريد أن يبنيه في كل شئونه الروحية،و النفسية،و العقلية،و الفكرية،و المفاهيمية،و الثقافية،و العقائدية، و الأخلاقية،و المشاعرية،و العاطفية،الخ..

ص: 152

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟

و مهما يكن من أمر،فإن اللّه تعالى حين يخبرنا في كتابه الكريم عن الأمور الغيبية،التي لا ينالها العقل و الحس،فإنه يصوغ الفكرة بقوالب لفظية،كنائية،أو مجازية،أو غيرها،لتتمكن عقولنا من أن تنالها،ثم يحول هذا المعقول إلى شأن حسي،مشاعري،حياتي،و حيوي للإنسان..

فالقوالب اللفظية تقرب الغيب إلى العقل،ثم يحولها إلى الحس، لتنساب في المشاعر،و لتصبح جزءا من الكيان و الذات.

و هكذا الحال في مختلف شئون الدين،و الإيمان،و التشريع،و غيرها مما حملته لنا الآيات الشريفة،و الروايات الكريمة.

و قد جاءت بيانات هذه السورة المباركة وفق هذه القاعدة،فلنتابع البحث عن معاني آياتها،من خلال وعي مفرداتها..

***

ص: 153

ص: 154

الفصل السادس: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً

اشارة

ص: 155

ص: 156

قال تعالى:

عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.

و لنبدأ بالحديث عن مفرداتها فنقول:

«عينا»:

1-هل هذه الكلمة«عينا»بدل من كلمة«كأس»؟!..أم هي بدل من كلمة«كافور»؟!أم هي منصوبة على المدح،أم بنزع الخافض؟!..

بحث لا نريد الخوض فيه،و إن كنا نرى أن بدليتها من كلمة كأس أكثر انسجاما مع المعنى الذي يراد التركيز عليه،كما سيتضح..

2-على أننا قد أشرنا فيما سبق:إلى أنه تعالى يريد أن لا يتوهم أحد:

أن الكأس إذا شرب منه أو أريق بعض شرابه،سوف ينقص،أو سوف ينضب،الأمر الذي يجعل الطالب محتاجا إلى البحث عن بديل لما فقده..

فلذلك أخبر:أن هذه الكأس هي عين تفجر تفجيرا-لكي يفيدنا أربعة أمور،هي من الصفات الملازمة للعين..و هذه الأمور هي التالية:

الأول:أن العين نابعة،دائمة العطاء..

الثاني:أنها لا تنقص أبدا..لأنها دائمة التفجر..

الثالث:أن المدد لها لا يأتي من الخارج،بل هو ذاتي فيها..فلا خوف من الانقطاع،و لا من عدم الوصول..

الرابع:إفادة حالة التجدد و الاستمرار.

ص: 157

«يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ »:

ثم إنه تعالى،بعد أن أخبر عن فعل يصدر من الأبرار،جاء بهذه الآية لتفيد من خلال كيفية تركيبها،و من خلال التعبير بالفعل المضارع «يشرب»الدال على التجدد،و التوالي:أن هذا الشرب متيسر للأبرار باستمرار،فهو ليس أمرا عارضا،بل هو طريقة حياة،و قاعدة مطردة..فلا خوف من الحرمان،و الانقطاع،و لن يكون ثمة أي إحساس بالفقدان، و لذلك فلن يكون ثمة تشوق منهم لأمر غير حاضر و لا حاصل..

و قد أكد ذلك قوله«عينا»،حسبما تقدم،فانسجم الظهور السياقي، مع سائر الظهورات،و مع إيحاء الكلمات..

العبادية..و الشرب من العين:

ثم قدم سبحانه الدليل و التعليل،فذكر أن الأبرار إنما يشربون بتلك العين لكونهم عبادا للّه تعالى..فعباديتهم تقتضي أن يكون شربهم من عين لها تلك الميزات و الصفات..

«بها»:

و قد قال سبحانه: يَشْرَبُ بِها، و لم يقل:«يشرب منها»..مع العلم بأن اختلاف حروف التعدية يشير إلى اختلاف الخصوصية،فشربه، و شرب منه،و شرب به،و شرب فيه،كلها تشير إلى خصوصيات تختلف و تتفاوت،باختلاف حروف التعدية المستخدمة في المورد..

فلا مجال إذن لقبول قول بعضهم:إن شرب بها،و شرب منها،و شربها بمعنى واحد..

إذ إن شربها يفيد:أنه يشرب ما فيها كله،أو بعضه..

و يشرب منها،معناه:أنه يشرب من مائها..

ص: 158

و يكون المقصود من هاتين الجملتين هو بيان حالة العين و الكأس المشروبة..

أما لو قال يشرب بها..فالمقصود بيان حالة الشرب نفسه،على سبيل إشراب اللفظ لمعنى آخر غير معناه،ثم يتعدى هذا اللفظ بواسطة حرف جر يناسب هذا المعنى الجديد..

بيان ذلك:

إنك إذا أشربت كلمة«شرب»معنى الارتواء مثلا،فيصح تعدية كلمة «شرب»بالباء،فيقال:شرب بها،لتصبح دالة على أنه قد وصل إلى حد الارتواء بها..و أن هذا الارتواء إنما كان بواسطة الشرب،لا بشيء آخر..

إذ إن:الشرب قد يتحقق،و لكن لا يحصل الارتواء،كما أن الارتواء قد يحصل بغير الشرب.

و يكون المعنى في الآية:عينا يرتوي بها عباد اللّه.

و يكون المقصود بالباء معنى السببية،أي يرتوي عباد اللّه بسبب العين-ارتواء ناشئا عن الشرب منها..

فتضمين و إشراب كلمة«شرب»معنى الارتواء هو الذي أعطانا هذه الخصوصيات.

و لو أنه قال:يرتوي بها..فقد يتخيل:أن الارتواء قد حصل بغير الشرب.

فقولك:يشرب بها-قد مكنك من الاحتفاظ بالمعنيين،و الاستفادة منهما معا،و هما معنى الشرب و معنى الارتواء،في آن واحد..

و قد اتضح بما ذكرناه:أنه لا يصح أن يقول:يشرب منها،لأنه لو قال ذلك لدلت كلمة«من»على التبعيض،مع أن المقصود هو السببية.

ص: 159

و لمعنى التبعيض إيحاء مرغوب عنه في هذا المقام بالذات،و هو الإيحاء بدخول النقص على الشراب الذي في الكأس،بواسطة الشرب، مع أن الآية بصدد إبعاد هذا الوهم كما قلنا..

عباد اللّه،أم عبيد اللّه:

و جاء التعبير بكلمة«عباد»لا بكلمة«عبيد»،لأن العبيد إنما يرتبطون بأسيادهم من موقع مالكية الأسياد لهم،و سلطتهم،و سيطرتهم، و حكومتهم عليهم،و قد تكون هذه الحكومة غير مرضية من قبل المحكوم،حيث يشعر بالقهر،و يرغب من التخلص من ربقة هذه العبودية،ربما لأنه لا ينسجم مع سيده أو لأنه لا يحبه،و لا يرضاه في باطنه،و إن كان ربما يتظاهر بذلك لسبب أو لآخر..

أما العباد،فالرابطة بينهم و بين سيدهم هي الطاعة،و الانقياد، و الرغبة،و المحبة،و الأنس و الوله و الانسجام،و الاندفاع إلى التقرب من السيد..عن اختيار و رغبة من العبد..

فلا فرق بين العباد و العبيد،من حيث لزوم الالتزام بالطاعة للسيد، و الانقياد له،و لا في الإقرار بمالكيته و سلطانه.

لكن الفرق هو في جهات أخرى،تدخل في نطاق دواعي و دوافع هذه الطاعة،و في طبيعة العلاقة التي بين العبد و سيده.

و لأجل ذلك نلاحظ:جاء القرآن بكلمة«العبيد»في خمس آيات فقط، و ذلك في سياق كلامه عن الجزاء الذي لا بد أن يأتي من موقع السلطة، و القاهرية،و المالكية..

و أن ذلك الجزاء إنما هو بما قدمت أيديهم،فهو يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (1).

ص: 160

و أن ذلك الجزاء إنما هو بما قدمت أيديهم،فهو يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (1).

و يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (2).

و قال: وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (3).

و قال سبحانه: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (4).

و لكنه قد عبّر بكلمة«عباد»فيما يقرب من مائة مورد..حيث إنه تعالى يريد أن يظهر ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة العلاقة بين الربّ و عباده..و أنها علاقة كرامة،و محبة و طاعة،و تقرب له من قبل العبد، فلاحظ: فَبَشِّرْ عِبادِ.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (5) .

يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ (6) .

و غير ذلك من الموارد التي تعد بالعشرات..

بل إنه سبحانه حتى حينما قال: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (7).

إنما نفى صفة الشكورية عن عباده،و لم ينف،و لا ينفي عنهم صفة الطاعة و الانقياد،و الرغبة في التقرب منه تعالى،و الأنس به..

********

(1) سورة آل عمران الآية 182.

(2) سورة الحج الآية 10.

(3) سورة فصلت الآية 46.

(4) سورة ق الآية 29.

(5) سورة الحجر الآية 42.

(6) سورة الزمر الآية 53.

(7) سورة سبأ الآية 13.

ص: 161

الأبرار..و عباد اللّه:

و قد أشرنا في ما سبق إلى ما ربما يكون سببا في التحول عن التعبير بكلمة«أبرار»إلى كلمة«عباد»..و قد قلنا:

إن البر يطلق على عدة معان،مثل:المحسن،و المطيع،و القاهر، و الواسع إلخ..و لكنها معان تبقى مطلقة و عامة..و قد أراد سبحانه أن يحددها، و يوجهها،و يربطها به تعالى،و يبين أن هذه الصفات للأبرار قد نشأت من كونهم عبادا للّه،يمارسون هذا البر كعبادة لهم،مختارين لها،و بدوافع الحصول على القرب و الزلفى..و مع مزيد من الحب للّه تعالى،و الأنس به.

«اللّه»:

و قد صرحت الآية بلفظ الجلالة،و أظهرته،حيث قالت: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ ، مع أن السياق يتجه بنا إلى توقع الإتيان بضمير المتكلم بصيغة الجمع،فيقول:«عينا يشرب بها عبادنا»..ليتوافق مع الآيات السابقة: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ .

نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ .

إِنّا أَعْتَدْنا.

فهذا الإظهار في موقع الإضمار،و تحول الكلام من كونه كلاما عن الحاضر المتكلم بصيغة الجمع إلى التصريح بالاسم،الذي يعني تحول مسار الكلام إلى الغائب،لعله يرجع إلى جهتين:

[التصريح بالاسم،الذي يعني تحول مسار الكلام إلى الغائب،لعله يرجع إلى جهتين:]

الجهة الأولى:

إن إظهار الاسم بدل إضماره،قد يكون:

1-لأجل التبرك به،مثل اللهم صل على محمد و آل محمد،فإن

ص: 162

العدول عن ضمير الغائب إلى التصريح مرة أخرى بكلمة«محمد»هو لأجل ذلك..

2-و قد يكون لأجل الاستئناس و التلذذ بذكره،و لعل المثال المذكور آنفا،آت هنا أيضا..و لعل منه قوله[صلّى اللّه عليه و آله]:

«حسين مني و أنا من حسين»،بدل أن يقول:«و أنا منه».فإن ذكر الحبيب باستمرار أمر لذيذ و محبب للنفس.

3-و قد يكون من أجل إظهار أهميته و قيمته العالية،و عظيم شأنه..

4-و قد يكون لمجموع ذلك كله،بالإضافة إلى الإيحاء بخصوصيات معان يحتاج الطرف الآخر إلى استحضارها.قد ذكرنا طرفا منها في عرضنا هذا..

فالتصريح بلفظ الجلالة في هذه الآية المباركة يحدث في ذهن المخاطب تداعيات لمعان كثيرة و متنوعة..فهو يحضر إلى الذهن معنى الألوهية،التي تستجمع صفات الذات و صفات الفعل،أو فقل:صفات الكمال:الجلالية،و الجمالية،بأسمى و أعمق معانيها..

و الإله هو العزيز،و هو الجبار،و هو الخالق،و الرازق،و الشافي، و العالم،و القادر،و الكريم،و الرءوف،و الرحيم،و الحي،و القيوم،و هو مصدر الحياة،و مصدر المعارف الحقة،و غير ذلك مما هو معلوم.

فهو إذن المستحق للعبادة،الذي يرغب الأبرار في تعظيمه و تكريمه لنفس مقام ألوهيته و حبا لذاته المقدسة،فإن هذه هي عبادة الأحرار، الذين وجدوا اللّه أهلا للعبادة فعبدوه و لم يعبدوه لمقام ربوبيته و حسب..

أما لو ذكره بصيغة الضمير،فقد لا يلتفت السامع إلى أي من المعاني و الخصوصيات التي ذكرناها.كما أنه استبدل كلمة«إله»،بكلمة«ربّ»،فإن

ص: 163

الإيحاء سيقتصر على خصوصية الربوبية،التي هي الخصوصية الأبرز،و هي تعني الرعاية من موقع الحكمة،و الفضل،و الحب.

و هذا نظير اسم حاتم الذي أصبح عند بعض الناس،يوحي بالكرم و السخاء،و اسم عنتر،الذي يذكّر بعض الذين يجهلون التاريخ، بالشجاعة-مع تحفظنا على صحة نسبة ذلك لعنترة و لحاتم،لأكثر من سبب ليس هنا مكان بيانه-فالتصريح بهذين الاسمين يحمل تداعيات الشجاعة و الكرم،إلى ذهن هؤلاء الناس بصورة عفوية..لكن لو تحدثت عنه بواسطة الضمير العائد إليه،فسوف تغيب هذه التداعيات عن ذهنك.

الجهة الثانية:

قد يقال:لو أنه جاء بالضمير فقال:«عبادنا»،فقد لا يلتفت إلى أنهم هم الذين اختاروا ذلك و فعلوه..بل قد يتخيل أن هذا الأمر قد عرض لهم بسبب الإلف،أو العادة،أو المحيط،أو الغفلة،فانساقوا إلى العبادية عن غير شعور،و اختيار،أو من دون تأمل و تفكير منهم..

و لكن إذا صرح بلفظ الجلالة،و قال:«عباد اللّه»،فإن ذلك يذكّر بالألوهية و بصفاتها،و بالجلال و الكبرياء،و يشعرنا بأن ألوهيته تعالى هذه هي التي جعلتهم يعبدونه،و يسعون للحصول على رضاه،و يتقربون إليه..

فشربهم من العين هو شرب استحقاق و جزاء على عبادتهم الاختيارية..و ليس لأجل أن معبودهم قد وضعهم في مواقع معينة،أو فرض عليهم وضعا أو سلوكا بعينه،ثم أعطاهم هذه العين في مقابل ذلك إرضاء لهم،و إن لم يفعلوا ما يوجب استحقاقهم لذلك..

و بتعبير آخر:لو قال«عبادنا»،لأمكن توهم أن عباديتهم قد لا تكون باختيارهم..أما مع التصريح بلفظ الجلالة،فلا يبقى مجال لاحتمال

ص: 164

كهذا..لأن العبادية منطلقة من معرفتهم بأنهم أمام مقام الألوهية الحقيقية.

فمن الطبيعي أن لا يختاروا سواها،و أن يندفعوا إليها،و أن يؤدوا مراسم العبودية لها..باختيارهم.

فتكون عباديتهم للّه من موقع الوعي،و المعرفة،و الاختيار،و الاندفاع.

«يفجّرونها»:

و لا شك في أن القرآن كتاب هدى و بيان..و علينا أن نستخرج دقائق المعاني من كل كلمة،و كل حرف فيه.

و قد ذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة:أن عباد اللّه هم الذين يفجرون تلك العين،باختيار منهم..

و قد ألمحنا إلى أن التعبير بالعين أيضا يشير إلى الغزارة و إلى الاستمرار في العطاء،و عدم الانقطاع..

و قد يستظهر من الآية أيضا:أن عباديتهم للّه تعالى هي التي منحتهم القدرة على تفجيرها..إذ إن الذي جعل موضوعا للحكم في الكلام التام له حالتان:

الأولى:أن لا يكون له خصوصية سوى الإشارة إلى من ثبت الحكم له..مثل:أكرم هذا الجالس.فليس لصفة الجلوس أثر في وجوب الإكرام..

الثانية:أن يكون للموضوع مدخلية في الحكم،و سببية فيه،مثل:

أقتل القاتل،أو اقطع يد السارق،و مثل المسكر حرام،و أكرم العالم..

و نحو ذلك..

فالإسكار له مدخلية في الحرمة،و كذلك موضوعات باقي الأمثلة..

و الأمر في الآية التي نتحدث عنها من هذا القبيل،فإن سر التفجير

ص: 165

للعين يكمن في كونهم عبادا للّه سبحانه،إذ إن من لا يكون مطيعا لهواه، و لا عبدا للشيطان،و لا يفقد توازنه عند ما يرى المال،و الجاه،و المنصب، و سائر المغريات..و يكون عابدا و عبدا للّه سبحانه فقط..فإنه سوف يتمكن من الوصول إلى اللّه،و من الشرب من عين الخيرات،شربا هانئا رويا،يعطيه القدرة على تفجير تلك العين بصورة مؤكدة و قوية،و يحقق الرضا و الاكتفاء و الوصول إلى درجة السّلام،و الأمن،و الغنى الذاتي،و كل ذلك يحصل بإرادة و اختيار منهم..

و تفجيرهم لهذه العين تفجيرا،معناه:أنها تملك مخزونا عظيما و هائلا،لا ينتهي.و نفس كونها عينا،معناه:أنها غزيرة،و أن فيها قوة و اندفاعا،و هو اندفاع دائم و مستمر،كما دل عليه المفعول المطلق،و هو قوله«تفجيرا»الذي جيء به لتأكيد عامله..

و كونها عينا،يشير أيضا إلى الغنى بها،فلا يحتاجون إلى غيرهم، و أصبح مستقبلهم بيدهم،بل هم الذين ينتجون ما يسعدهم،و لا يخشون من حرمان الآخرين لهم.

و هذه الأمور كلها حين يشعر بها الإنسان،فإنه يعيش حالة الأمن و السّلام،و الرضا،و الاطمئنان للمستقبل.

و قد قلنا:إن الآية تتحدث عن الأمور بواسطة الكنايات و الاستعارات، التي هي أبلغ من التصريح،لأنها تتضمن الدعوى مع مبرراتها الموضوعية، و أدلتها الحسية..

و خلاصة ما ذكر في هذه الآيات عن الأبرار:أن عباديتهم للّه تعالى، تؤهلهم للشرب من عين الخيرات،حتى إنهم يفجرونها تفجيرا،و يحصلون على الاكتفاء الذاتي بسبب ارتباطهم باللّه سبحانه،الذي هو مصدر

ص: 166

الفيوضات،و القدرات كلها،و مصدر المعرفة،و العطاء،و القوة،و الخلق، و الرزق،و كل نعمة.و هم يملكون مستقبلهم،و لا يحتاجون إلى أحد سوى اللّه..و هم يوفون بالنذر،و يخافون.و يطعمون إلخ..

و ذلك كله يجعلهم يستحقون الجزاء و العطاء،و الكرم،و اللطف، و الفوز بالتالي بمقامات القرب و الرضا منه تعالى.

***

ص: 167

ص: 168

الفصل السابع: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً

اشارة

ص: 169

ص: 170

قال تعالى:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»:

و تستمر الآيات في بيان أسباب نيل الأبرار الفيوضات خاصة،و النعم في الدنيا..

و هي توجب بدورها نيلهم لفيوضات و خيرات تكون جزاءهم في الآخرة.

و بعد أن ذكر اللّه سبحانه أن من صفة الأبرار،أنهم: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، و أشار أيضا إلى أن هذه الكأس هي عين تحقق الري،و الاكتفاء،و الغنى..و هم يختارون تفجيرها..لارتباطهم بمصدر العطاء و الفيض،و هو اللّه سبحانه.

إنه تعالى بعد أن ذكر ذلك و سواه مما تقدمت الإشارة إليه،قال:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.

و المقصود في هذه الآيات،جماعة بعينها،هم محور الحديث في هذه السورة..و السؤال هو:

إنه حين بدأ بذكر صفات الأبرار،قدم صفة الوفاء بالنذر على سائر الصفات،التي منها كونهم: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ .. إلى آخر الآيات؟.

ص: 171

فلما ذا قدم هذه الصفة بالذات يا ترى؟!

و لعل الجواب على هذا السؤال هو:

أن النذر هو تعهد،و التزام أمام اللّه سبحانه بالعمل بأمر ما..

و الذي نعرفه عن البشر أنهم في تعهداتهم لبعضهم أو فى منهم في تعهداتهم أمام اللّه سبحانه..

و ذلك لغفلتهم،أو لضعف معرفتهم به تعالى،أو لغير ذلك من أمور، يمكن أن يكون الجامع فيما بينها:

أن إيمانهم باللّه سبحانه لم يتجاوز حدود الخضوع للحكم العقلي، و التعهد بالالتزام بهذا الحكم،و الوقوف عنده.و هذا هو الحد الأدنى الذي يخرجهم عن دائرة الكفر،و ليحملوا صفة الإيمان و الإسلام،و تترتب عليهم أحكامه..

و انتهاؤهم إلى هذا الحد يعطي:أنهم لم يصل الأمر بهم إلى حد حضور اللّه في قلوبهم،و انسيابه في أعماق وجودهم،و هيمنته على مشاعرهم و أحاسيسهم..بل بقي أمرا غيبيا بالنسبة إليهم.كما أن إيمانهم بالنبوة،و النبي،و صفاته،و بالآخرة،و حسابها،و ثوابها،و عقابها،و نعيمها، و جحيمها،لا يبتعد عن هذا الحال..

فلم تتحول العقيدة باللّه،و بالآخرة،و بالأنبياء،و الأوصياء إلى حالة وجدانية،و ضميرية.و لم تمازج الفطرة،و المشاعر،لتصبح حركة عفوية، و طريقة حياة،و ليكون ذلك المعتقد إنسانا إلهيا يعيش الإسلام و القرآن، واقعا حيا يتلمسه في كل ما يواجهه أو يحيط به..

و لأجل هذا الضعف الظاهر،في مستوى الوعي و الإيمان،نجد أنهم عند الممارسة تتناقض أفعالهم مع أقوالهم،و مع اعتقاداتهم.

ص: 172

و هذا بالذات هو السبب في سعي الإسلام إلى تحويل الشأن العقيدي، و قضايا الإيمان إلى شأن حياتي،حيث يحدثنا عن اللّه،و عن صفاته،و عن الآخرة،و غير ذلك..بأسلوب التجسيد لها في الواقع الخارجي.و كأن الإنسان يراها و يتلمسها و يحس بها عن قرب..

و ما أكثر التعبير في القرآن الكريم،فضلا عن كلمات النبي[صلى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليهم السّلام]بكلمة:أ فرأيتم..و أ أنتم..

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (1) .

أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ (2) .

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (3) .

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (4) .

أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (5) .

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (6) .

أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (7) .

********

(1) سورة الملك الآية 30.

(2) سورة الواقعة الآية 71.

(3) سورة الواقعة الآية 72.

(4) سورة الواقعة الآية 58.

(5) سورة الواقعة الآية 59.

(6) سورة الواقعة الآية 63.

(7) سورة الواقعة الآية 64.

ص: 173

أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (1) .

أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (2) .

و غير ذلك..

و الخلاصة:أن الاعتقاد ليس مجرد خضوع و استسلام عقلي،بل هو عقد قلبي مستقر في النفس:حاضر في عمق الذات،متمازج مع الفطرة، و مع المشاعر،ليصبح هو العين التي يبصر بها،و الأذن التي يسمع بها، و اليد التي يبطش بها..

كما أن الإسلام ليس مجرد نظام اقتصادي،أو سياسي،أو تربوي،أو عبادي أو غير ذلك.بل هو دين يريد أن يصنع الإنسان كله،وفق الإرادة الإلهية،ليمكّنه من تحقيق الأهداف العليا التي خلق من أجلها.

و لأجل هذا..كان النبي آدم[عليه السّلام]-الإنسان الأول-هو النموذج،الذي يحمل مواصفات الإنسان الكامل،الذي يسعى إلى نيل رضا اللّه،و الوصول إلى مقامات القرب و الزلفى..

فكأنه تعالى يقول لنا:هكذا أريد لبني البشر،أن يكونوا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى،خالصين و مخلصين للّه سبحانه.كالنبي آدم[عليه السّلام]..

و حين يقول سبحانه عن هؤلاء الأبرار العباد:إنهم يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، فإنما يريد أن يفهمنا أن ذلك دليل وصولهم في إيمانهم،و وعيهم، و خلوصهم إلى أن أصبحوا أناسا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى،

********

(1) سورة الواقعة الآية 68.

(2) سورة الواقعة الآية 69.

ص: 174

و أن اللّه حاضر في قلوبهم،و في وعيهم،و في كل وجودهم حضورا حقيقيا و تاما،فلا يمكن أن يخلفوا أو أن يتوانوا في الوفاء بتعهداتهم أمامه جلّ و علا..

قيمة الوفاء بالنذر:

و قد يزعم زاعم أنه ليس في الوفاء بالنذر ما يميزه عن غيره،فإن الصلاة مثلا،عمود الدين،فهي أهم منه،و هي أولى بالذكر من الوفاء بالنذر،و كذلك الحال بالنسبة للجهاد في سبيل اللّه،و الحج إلى بيت اللّه..

و غير ذلك..

فلما ذا جاء التنصيص على خصوص الوفاء بالنذر،دون سواه..

و نقول في الجواب:

إن ما تقدم من إشارة إلى أهمية و قيمة الوفاء بعهود اللّه سبحانه قد يكون كافيا في بيان لزوم البدء بهذا الأمر هنا،من حيث إن الوفاء بعهود اللّه هو العنوان الأوسع و الأتم،و الأكمل،لسائر عناوين الطاعة و الانقياد،و منها فريضة الصلاة،و الحج،و الزكاة،و ما إلى ذلك،غير أننا نود أن نزيد هنا:أن اللّه سبحانه لا يريد أن يعطي هنا صورة عن حجم العمل و صعوبته،و إنما يريد أن يقدم لنا كواشف وجدانية و واقعية عن الحد الذي وصل إليه ذلك البرّ العابد في بناء إنسانيته،و في تأثير ميزاته الإيمانية و الإنسانية،في ممارسته العملية،و في بناء وجدانه.حتى إن نذرهم في مورد نزول السورة،كان هو خصوص الصوم.المقرب إليه تعالى،بما للصوم من رمزية للكثير من المعاني،و لم ينذروا بذل مال،أو نحوه..

و قد تكون هذه الأمور التي نتخيل أنها غير ذات أهمية،أعظم و أقوى في كشف هذه الحقيقة.

ص: 175

فإن الأعمال الكبرى،قد تكون الحوافز التي تدعو إليها قوية..و قد يكون للحوافز الخارجة عن ذات،و شخصية،و وجدان الإنسان،تأثير كبير في ذلك أيضا.و لأجل ذلك فقد يكون كشفها عن واقع تلك المزايا أضعف من كاشفية تلك الأمور التي تخلو من ذلك كله..

و لأجل ذلك..فإن اللّه حين جعل أعظم و أخطر مقام لأمير المؤمنين [عليه السّلام]و هو مقام الولاية العظمى،لم يشر إلى جهاد الإمام علي [عليه السّلام]،و لا ربطه بقلعه لباب خيبر،أو قتل عمرو بن عبد ود،و لا ربطه بعلم علي،و تضحياته الجسام،أو غير ذلك من فضائله،بل هو قد جعل له ذلك في سياق التذكير بصدقة كانت منه على فقير أثناء الصلاة، قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (1).

فكان هذا العمل الإنساني،و الإيماني من علي[عليه السّلام]دليلا واقعيا و عمليا على كماله في الإيمان،و العلم،و التقوى،و الوعي،ثم هو دليل على صحة و شمولية مفاهيمه،و سلامة مشاعره،و تفوقه في كل مزاياه الإنسانية،فاستحق بذلك أن يكون وليا و إماما..

هذا،و قد ذكر القرآن الإمام عليا[عليه السّلام]أكثر من مرة بما يشبه هذه المناسبة أيضا،و ذلك كآية النجوى،و آية الصدقة سرا و جهرا، و ليلا و نهارا.و آيات سورة هل أتى بدءا من هذه الآية.ثم الآيات التي تليها،و منها آيات إطعام الطعام للمسكين،و اليتيم،و الأسير..

و خلاصة القول:أن الوفاء بالنذر يكشف بصورة واقعية عن كمال

********

(1) سورة المائدة الآية 55.

ص: 176

حضور اللّه سبحانه في قلب هؤلاء الأبرار،و في كل وجودهم.و عن أنهم قد بلغوا درجة الكمال في مزاياهم..حتى أصبح الوفاء بتعهداتهم هو السمة المميزة لهم،و لكن لا خوفا من عقاب،و لا طمعا في ثواب،بل لأن هذا هو خلقهم الأصيل.

و لعل ذلك يوضح السبب في أنه تعالى قدم قوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ على ما عداه،حيث قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ . و لم يقل:يخافون من ربهم يوما عبوسا قمطريرا،و يوفون بالنذر.

فإن هذا هو السياق الطبيعي لحياة هؤلاء الأبرار،و لعباديتهم له تعالى.و لارتباطهم به سبحانه،و مستوى هذا الارتباط..

لا يوجد عاطف:

و قد رأينا:أنه تعالى لم يأت بعاطف،فلم يقل:يشربون و يوفون بالنذر،بل رتب الوفاء على نفس الشرب من الكأس التي هي عين.

و اعتبر هذه الجملة هي المورد الأول الذي يسوقه ليشرح لنا من خلاله، كيف أن شرب الأبرار من تلك العين،و تفجيرهم لها يتحول إلى وفاء بالنذر،و إلى خوف من يوم الجزاء،و إلى إطعام الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا إلخ..

حيث إن أبراريتهم بكل المعاني التي تتضمنها،قد اقتضت ذلك كله..

فهذا التفصيل لذلك الإجمال،و ارتكاز الوفاء على الشرب،لا يتلاءم مع ذكر الواو الدالة على أن الموردين في عرض واحد..

«يوفون»:

و قد قال:«يوفون»،و لم يقل«يفون»،لأن كلمة«يفون»مأخوذة من وفى، و مضارعها يفي،و كلمة«يوفون»مأخوذة من أوفى،و مضارعها هو يوفي.

ص: 177

و همزة أوفى يقال لها:همزة التعدية،فهي مثل علم و أعلم،و كرم و أكرم.

و المراد بالإيفاء هنا الإتمام بحيث يظهر قصد الفاعل إلى ذلك، و تعمده حصوله..

أما كلمة يفون،فتدل على مجرد حصول الوفاء كيفما اتفق..

فكلمة الإيفاء:تشير إلى الفاعل،و إلى اختياره و قصده من جهة..

و تشير من جهة أخرى،إلى صفة و حالة ما وقع عليه هذا الفعل،و قد قال يوسف لإخوته: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ (1).فوجه نظرهم إلى حالة الامتلاء التي يكون عليها الكيل الذي وقع عليه فعل الإيفاء.و ذلك ترغيبا لهم في الاستجابة إلى ما طلبه منهم..

و نظير ذلك كلمة: تُخْسِرُوا، في قوله تعالى: وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (2).المأخوذة من أخسر،لا من خسر..

و هذا يعطينا:أن ثمة قصدا إلى بيان معنى الوفاء و التمامية الحقيقية الفعلية بأجلى و أقصى مراتبها.

و النذر كما هو معلوم هو أن يجعل الإنسان على عهدته أمرا لشخص آخر أو لجهة أخرى،بحيث يصبح هذا الشيء ملكا لذلك الآخر،لا بد من إيصاله إليه في الموقع المحدد..

و قد يكون سبب الإقدام على هذا التعهد هو دعوة الطرف الآخر إلى إنجاز أمر ما،بحيث يكون هذا المنذور في مقابل إنجاز ذلك الأمر.

********

(1) سورة يوسف الآية 59.

(2) سورة الرحمن الآية 9.

ص: 178

و هذا بالذات هو ما جرى في مناسبة نزول سورة«هل أتى»..

إذ إن الحسنين[عليهما السّلام]مرضا،فنذروا:لئن شافاهما اللّه تعالى،أن يصوموا للّه ثلاثة أيام،فلما شافاهما اللّه.صامت السيدة الزهراء [عليها السّلام]،و صام معها علي،و الحسنان[عليهم السّلام].

فلما حان وقت الإفطار،و وضعوا الطعام أتاهم مسكين،فتصدقوا عليه به.و باتوا بلا طعام.

و حصل لهم في اليوم الثاني مع اليتيم مثل ذلك..

و هكذا جرى لهم في اليوم الثالث مع الأسير أيضا..

فصاموا ثلاثة أيام بلياليها،لا يجدون طعاما سوى الماء..

فشفاء الحسنين[عليهما السّلام]قد جاء استجابة لنذرهم[عليهم السّلام]فأصبح في عهدتهم له تعالى صوم ثلاثة أيام،و لا بد لهم من الوفاء بالنذر.

و لأجل هذه المعادلة الواقعية التي نشأت بين الشفاء،و بين الصوم..

و لا يصح إحداث أي خلل في هذه المعادلة..بعد أن أصبح هذا في مقابل ذاك،و تعادلا ككفتي ميزان في عالم الواقعيات و الحقائق..

و هذه المعادلة الواقعية تحتم الإيفاء لا الوفاء.لأن المهم هو إعطاء ما لزم في الذمة،إلى حد،يفي بذلك الشفاء الذي حصل،حبة في مقابل حبة و من دون أية نقيصة،و بخس في الميزان،لأنهم أخذوا شيئا و تعهدوا بإعطاء مقابله،فلا بد أن يأتي هذا الصوم الذي هو المقابل وافيا و تاما،في أعلى درجات الخلوص و الإخلاص و السلامة،و التوجه القربي في كل آناته و جميع حالاته،و ذلك ليوازي في آثاره و في أهميته شفاء مثل الحسنين[عليهما السّلام].

ص: 179

و هذا لا يتأتى إلا من أبرار قد بلغوا أعلى الدرجات،في الارتباط باللّه،و المعرفة به سبحانه..

فقوله تعالى عنهم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي يأتون به وافيا،وفق المطلوب،يعتبر غاية في مدح هؤلاء الصفوة،و الثناء عليهم.و بدون هذا الوفاء التام..فإن ثمة خللا سيحدث في المعادلة..و لا يعرف كيفيات و حجم هذا الخلل،إلا اللّه..فلعله خلل و نقص في البركات،أو في الألطاف،أو في التوفيقات للتقوى،أو في المشاعر،أو في الإيمان،أو في العلاقات الاجتماعية،أو في الحالة الاقتصادية،أو في الزرع،أو في الماشية،أو غير ذلك.إن ذلك كله لا نعرفه نحن،و لا يمكن تحديده، و لا التكهن به.

النذر أيضا سنة إلهية:

و لا بد لنا هنا من تسجيل حقيقة هي:أن الدعاء،و العهد،و النذر، و التوسل بالأنبياء و الأولياء،و غير ذلك..-إن كل ذلك-هو من السنن الإلهية التي تؤثر حتى في النواميس الطبيعية،و في الماديات..فمثلا قد تقتضي السنن الطبيعية أن لا يولد للشخص الفلاني ولد،أو أن لا يكون له مال..أو أن يمرض،أو يموت،و لعل ذلك كان هو الأصلح له،و لمن يحيط به.و الأصلح لنسله..

و لكنه إذا سعى،و بذل جهده،و طلب من اللّه سبحانه،أن يتدخل و يبطل تأثير ذلك القانون الطبيعي،فإن اللّه يغير في الأمور بحيث يصير الأصلح هو عكس هذا الواقع القائم بالفعل..

و قد تكون وسيلته التي يقدمها هي نذر بديل أو عديل،أو توسل بنبي أو وصي..أو التجاء إلى الانقطاع إلى اللّه بالدعاء،أو نحو ذلك-

ص: 180

فإن هذا أيضا من السنن الإلهية-فيستجيب اللّه له.و يغيّر في السنن الطبيعية لصالحه،فيشفي المريض،أو يجعل المرأة العاقر تحمل..

و هذا التدخل و التغيير في السنن الطبيعية،لا بد أن يحدث ما يحتاج إلى ترميم و جبر،و تلاف و تعويض..لكي لا يترك أثرا سلبيا على الواقع العام،أو على من تسبب به،و لم يف بتعهداته..

و لا بد أن يأتي هذا العوض وافيا،و كافيا..

و قد اتضح بذلك:أن قوله[عليه السّلام]:الصدقة تدفع القضاء و قد أبرم إبراما..قد جاء منسجما مع الناحية الواقعية في تسبيب الأسباب، و التصرف في السنن..

الوفاء بالنذر..و الوفاء بالوعد:

و لم يعد خافيا بعد هذا،الفرق بين الوفاء بالنذر،و الوفاء بالوعد.فإن الوفاء بالوعد يأتي منسجما مع مقتضيات السنن الحاكمة..أما النذر فيراد منه الدعوة للتصرف في تلك السنن بسنن أقوى منها،أو بدونها،حيث يكون نفس التصرف الإلهي استجابة للنذر أو الدعاء،سنة أيضا..ثم يأتي الوفاء به من قبل الناذر ليرمم و يعالج آثار ذلك التصرف،فيما يشبه التقايض و التبادل حسبما أشرنا إليه..

أما العهد و اليمين،فهما ينسجمان مع تلك السنن،و لا يعارضانها، بل يستجيبان لها،لأنهما عبارة عن إلزام للنفس بشيء،بحيث يجعل ضامنه و كافله،و السائل عنه،و المطالب به،هو اللّه سبحانه..و ليس فيه أي تعرض للسنن،أو تصرف فيها.

لما ذا جاء بالباء«بالنذر»؟!:

و قد يسأل هنا:لما ذا قال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، و لم يقل:«يوفون

ص: 181

النذر»؟!..

و يجاب:أن هذه الباء قد جاءت لبيان هذه المعادلة،و هو أن يكون ما يأتي به من عمل قد نذره،معادلا لما طلبه في مقابله،و وافيا به.فهي باء التعويض،و تشبه إلى حد ما الباء في قولك:كافأته بألف درهم،أو قولك:بعت الفرس بألف.

«يوفون»بصيغة المضارع:

و عن السبب في أنه تعالى قال:«يوفون»بصيغة الفعل المضارع،لا بصيغة الماضي،فلم يقل:وفوا بنذرهم..

نقول:

ربما يكون ذلك لبيان ما يلي:

أولا:إن هذه هي طبيعتهم و سجيتهم،فإن وفاءهم لم يكن لأمر عارض فرض عليهم ذلك.

ثانيا:إن هذا الوفاء ليس مجرد حدث قد مضى و انقضى،بل هو متجدد و مستمر،فهم يقومون بوفاء بعد وفاء،بل هم لا يزالون يشعرون بالحاجة إلى رضا اللّه سبحانه،و أنهم مدينون له،و أن شفاء الحسنين [عليهما السّلام]لا يقابله مجرد صوم الثلاثة أيام،و لو في مثل تلك الظروف الصعبة.فإن هذا الشفاء منة عظيمة تبقى للّه في أعناقهم،و لا بد أن يبقى شعورهم بها..و بالحاجة إلى شكرها،و إلى تقديم العوض المناسب عنها،و لا يرون أي شيء في الوجود يفي بشكر هذه النعمة، و يوفي هذه المنة..

ثالثا:إن المضي و الانقطاع اللذين يشار إليهما بكلمة:«وفوا بالنذر»قد يفسح المجال لتوهم..تجدد الحاجة إلى الوفاء،و أنه ربما تكون قد استجدت

ص: 182

أمور جعلتهم في موقع المدين له تعالى بنذر جديد..و ليس هناك إشارة إلى وفائهم فعلا،فضلا عن أن يكون مشيرا إلى ذلك في المستقبل..

رابعا:إن التعبير بيوفون،يوحي بأن وفاءهم[عليهم السّلام]في المستقبل أيضا مضمون.من حيث إنه أخبر عن أن طريقتهم و سجيتهم الدائمة و الملازمة هي الوفاء..و هو ملكة لهم،و بذلك يكون دالا على وفائهم في المستقبل أيضا،و هذا إخبار من عالم الغيب و الشهادة، و شهادة تكريم كبرى لهم.

الوفاء بالنذر صفة أخلاقية:

إن الدافع إلى العمل بمقتضى النذر هو التعهد الذي أنشأه الناذر على نفسه،حيث تدعوه أخلاقه و التزامه إلى الوفاء بذاك التعهد.

و هذا التعهد إنما نشأ عن معرفة بأن اللّه سبحانه قوي عزيز،مالك عليم حكيم،بيده الخير و هو على كل شيء قدير.و عن شعور بالفقر و بالحاجة إليه،و عن التجاء له،و توكل عليه،و ثقة به،تدفع إلى أن يطلب منه المعونة،و التسديد،و العطاء.

فلزوم الوفاء بالنذر إذن،أمر يدركه الإنسان بفطرته،و بعقله، و بوجدانه،و بكل وجوده..فليس هذا الوفاء كسائر الواجبات المفروضة عليه،و التي قد لا يدرك مراميها،و لا يجد الدافع في كثير من الأحيان، إلى الالتزام بها..إلا الخوف من العقاب،أو الطمع في الثواب.

و الفطرة،و العقل،و الشرع،و الوجدان،و خصوصا الأخلاق،هي العناصر الأهم في الإيمان،و في الالتزام بأحكامه،و العمل بشرائطه..

و الخلل الأخلاقي و الاستكبار هو الذي جعل إبليس شيطانا،و أوصل فرعون إلى ادعاء الربوبية،و ممارسة ذلك الظلم العظيم على بني

ص: 183

إسرائيل،و غير ذلك.

إن الخلل الأخلاقي مهما بدا في ظاهر الحال بسيطا،فإنه قد يهلك الإنسان..و يقضي على كل نبضات الحياة فيه،و استكبار فرعون خير شاهد على ذلك،كما أن للحسد و الشح،و غير ذلك من صفات؛التأثير الكبير في إفساد حياة الناس،بل و في إهلاكهم أيضا..

«يخافون»:

و قد أشار اللّه سبحانه،في آيات هذه السورة،إلى نواح إنسانية في شخصية الأبرار،و أخرى إيمانية..و الحديث عن الناحية الثانية،هو في هذه الفقرات و قد قلنا فيما سبق:إن الخوف من الآخرة له أثره في سعي الإنسان لضبط حركته،و الهيمنة على نفسه الأمارة بالسوء..

و ذكرنا:أن المشركين كانوا لا يأبون عن الاعتراف بكثير مما يدعوهم النبي[صلّى اللّه عليه و آله]إليه،لكنهم كانوا يكذبون بيوم الدين،لأنهم يريدون أن يأخذوا حريتهم في الفجور،و اقتراف الآثام،و لا يريدون أن يصبح قرارهم بيد من يحاسبهم..

و هو ما أشارت إليه الآيات الكريمة في سورة القيامة.. أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (1).

إذ إن المشركين يرون:أن مشكلتهم الكبرى لم تكن هي ترك الأصنام،التي قالوا:إنهم يعبدونها لتقربهم إلى اللّه زلفى..و لم يكن لديهم مشكلة كبيرة في إعطاء الامتيازات لرسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،

********

(1) سورة القيامة الآيات 5/3.

ص: 184

حتى لقد عرضوا عليه أن يملّكوه عليهم..

فكان جوابه:لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه،أو أهلك فيه ما تركته (1).

و لكن ما يرون أنه مشكلتهم الحقيقية هي أنهم يريدون أن يكون لهم القرار في أي تصرف،و لا يريدون أن يكونوا مسئولين عن شيء و لا مطالبين بشيء..فيوم القيامة هو الذي يخيفهم،و يرعبهم،فكان أن أنكروه بشدة،و عناد،و استكبار.لأن الاعتقاد بيوم القيامة يقيد حرياتهم..

و يفرض عليهم التعامل مع الآخرين بالإنصاف و العدل.و يتطلب منهم الانقياد لنظام عملي،و تقديم حسابات،و يشعرهم بالرقابة..و أن قرارهم لا يرجع إليهم.

و هذا لا ينسجم مع طموحاتهم،لأن جعل العقاب في الآخرة..يركز في الإنسان الإحساس بأنه لا خلاص له منه،و لا مناص له عنه،إلا بالتوبة،أو بالشفاعة،إن كان ممن يستحقها..خصوصا مع كون هذا الحساب و ذلك الجزاء بالثواب أو بالعقاب،من المالك القادر القاهر، و العالم بكل شيء..

و هذا لا يناسب أهل الأهواء،و لكنه يناسب المؤمنين،و يهيئ لهم حياة مطمئنة،لها قانون،و لها نظام،و تخضع لضوابط..

إيمان أم خوف؟!

و يلاحظ:أنه تعالى قد ذكر الخوف من يوم كان شره مستطيرا،و لم

********

(1) الغدير ج 7 ص 359 و تاريخ الطبري ج 2 ص 67 و البداية و النهاية ج 3 ص 63 و السيرة النبوية لابن هشام الحميري ج 1 ص 172،و السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 474.

ص: 185

يشر إلى الاعتقاد،أو العلم،أو الإيمان بيوم هذه صفته..

و لعل سبب ذلك هو:أن العلم بالشيء ليس بالضرورة أن يكون دائما فعليا.فقد يكون ارتكازيا،لا يتنافى مع حالات الغفلة،أو الانشغال بأمور أخرى،و لكنه قادر على استحضار صورة ذلك الشيء مباشرة، بمجرد حاجته إليه..

كما أن العلم قد لا يكون له أثر في حياة الإنسان،و لا بإيمانه،فإن علمك بأن الأربعة زوج،و بأن الكل أعظم من الجزء،علم بقضية عقلية، ثابتة على مر العصور و الدهور،و لكن لا أثر لهذا العلم لا في الإيمان،و لا في المشاعر،و لا في أي جهة من جهات وجود الإنسان،و تكوينه الداخلي،و لا في شيء مما يواجهه..

و أما الإيمان،فهو العلم بالشيء مع تبنيه و الالتزام به..فقد يصاحب ذلك سكون و طمأنينة نفسية: أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (1)..و قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (2).و قد يترقى الأمر إلى أن يصبح لهذا الإيمان و هذا السكون تأثير في المشاعر،ضعيف تارة،و قوي أخرى،و قد لا يحصل شيء من ذلك..

أما حالة الخوف،فإنما تعني وجود إحساس داخلي،و انفعال نفساني، يدعو الإنسان للتحرز،و طلب الأمن.و هذا ملازم لليقظة و الالتفات،ما دام ذلك الخوف موجودا،فهو يدعوه إلى إعمال المراقبة المستمرة،و الرصد الدائم لكل حركة يخشى أن تكون تعنيه،أو أن يكون لها أي تأثير عليه..

********

(1) سورة الرعد الآية 28.

(2) سورة البقرة الآية 260.

ص: 186

ثم إنه يدعوه إلى إعداد العدة،و تهيئة كل ما من شأنه أن يحميه و يدفع عنه.

و هذا الإعداد يختلف و يتفاوت،كاختلاف و تفاوت محيط و أدوات الرصد و المراقبة،بحسب خطورة و حجم الموارد التي يتهددها الخطر، فقد يكون الخوف على النفس،أو على المال،أو على الولد،أو على العشيرة،أو على البلد،أو على الدين،أو..أو..أو على ذلك كله.

و هذا بالذات هو الذي يبين ضرورة اقتران قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ (1)بقوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (2)..لأن القناعة العقلية بيوم القيامة لا تكفي للالتزام بخط الطاعة،بل هو بحاجة إلى دخول هذه القناعة إلى وجدانه،و إلى مشاعره،و كل كيانه،لأن هذا هو الذي يوجد داخل الإنسان رقابة و رصدا من قبل النفس اللوامة على النفس الأمارة بالسوء،و يقيم الموانع القوية أمامها،لكي لا تتسبب بإيقاعه في المحذور.

و لو أن نفسه الأمارة غلبته أحيانا،فإنه سوف يندفع للتلافي و التصحيح..

فمجرد سكون النفس لا يكفي،لأنه قد ينشأ عن غفلة،و قد ينشأ عن جرأة،و قد ينشأ عن جهل..بل المطلوب هو السكينة و الطمأنينة بالمعاني ذاتها من خلال العمل بمقتضاها و الانصهار بها..بحيث تكون هي المنشأ و هي المرتكز..و هذا هو المراد بالنفس المطمئنة،و هو يعني أن القناعة بالقضايا الإيمانية لا بد أن تدخل إلى عمق الكيان الإنساني، و تتحكم بالمشاعر و الأحاسيس،و أن توجد الأمل و الرجاء،و الحب

********

(1) سورة القيامة الآية 2.

(2) سورة القيامة الآية 1.

ص: 187

و البغض،و توجد الخوف أيضا،فإن الخوف ينتج التحرز،و الرقابة و التصحيح،كما أن لأعمال الخير أيضا،دورا كبيرا في ترسيخ هذا الإيمان و تعميقه في داخل النفس الإنسانية..

و بذلك نعرف السبب في أنه تعالى،قد بدأ بالحديث عن الخوف، الذي هو انفعال في المشاعر و الأحاسيس،التي تتصل بالقلب،المحتضن للقناعة،التي هيأتها له الهدايات الأخرى،مثل الفطرة،و العقل،من خلال الدليل..

فالذين يخافون يوما كان شره مستطيرا،قد تجاوزوا و قطعوا كل تلك المراحل بنجاح.

و بذلك يتضح:أن الدليل العقلي،و الفطري،و كذلك الشرعي في بعض المراحل،يثبت الأمور الغيبية التي هي الركائز الأساسية،مثل:

وجود اللّه و صفاته،و النبوة،و العصمة،و صفات النبي،و الحساب، و العقاب،ثم يثبت الإمامة و غير ذلك من شئون العقيدة..و يتلقى ذلك القلب بالقبول و الرضا،و يحصل له السكون و الرضا،ثم تتكون المشاعر و الأحاسيس،و تتربى و تنشأ،وفقا لما رفدها به القلب،حتى تترسخ في عمق وجود الإنسان،و تصبح هي حركاته العفوية،و عينه التي يبصر بها، و أذنه التي يسمع بها.و يكون الخوف من منتجاتها،و تكون الرقابة و الرصد،و التحرز و التمنع..و التصحيح..و الإعداد و الاستعداد لكل طارئ..

و هذا الخوف يكشف عن أن كل تلك المراحل قد كانت سليمة، خالية من أي ضعف،قادرة على التأثير.و قد أثرت بالفعل.

بل إن ثبوت وصف الخوف،لهؤلاء الصفوة الأبرار،خصوصا إذا كان شاملا لكل موارد احتمال التكليف و المسئولية..يجعله في عداد ما

ص: 188

يمكن الاستدلال به على عصمتهم الشاملة،خصوصا إذا انضم إلى سائر الأوصاف المذكورة قبله و بعده،كقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.. و قوله:

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ .. لأن ذلك كله يدل على أنهم قد بلغوا في إنسانيتهم أسمى الغايات،و في إيمانهم أعلى الدرجات..بل هم قد تجاوزوا حدود العصمة كما سيتضح في شرح قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.. إن شاء اللّه تعالى..

«يَخافُونَ يَوْماً»:

و قد قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً و لم يقل:من يوم..فلما ذا؟و ما هو الفرق؟!

و الجواب هو:أنك إذا قلت:يخافون من يوم،فيحتمل أن يكون خوفهم من أعمالهم،لأجل أن العدل يجري عليهم في ذلك اليوم..

و يحتمل أيضا:أن يكون نفس اليوم مخيف،من حيث هو زمان، و أن العذاب و المصائب،تكمن في عمق ذاته،و حقيقة وجوده..تماما كما يخاف الإنسان من الأسد المفترس،فإن الشر كامن في ذات الأسد.

و لا يفرق الأسد بين أحد من الناس،مع أن المخيف في ذلك اليوم هو تلك الأمور الهائلة،التي جعلها اللّه فيه،مثل نار جهنم و زفراتها،و أهوال يوم القيامة..

و هذا كقولك:أخاف من السلطة،فإنه قد يكون لأجل أن في السلطة جبارية،و ظلم و تعد،و قد يكون لأجل أنها تجري العدالة،و تأخذ الناس بذنوبهم..

أما نفس اليوم،و نفس المكان،من حيث هو زمان،و مكان،فليس هو الذي يخيف،و إنما الذي يخيف هو ما يوجد فيه،و سيئات أعمالنا،

ص: 189

و آثار تلك الأعمال تقرب تلك المهالك إلينا،و تمكنها من النيل منا، حيث تكون سببا في سقوط الدفاعات،و الموانع عنا،و تدمير الحواجز فيما بيننا و بينها..

فالتعبير ب«يخافون»يوما،يبقى هو الأنسب و الأقرب،من حيث إن فيه إشارة إلى أنه ليس في حقيقة ذات نفس اليوم ما يخيف..

الخوف من اللّه!أم من اليوم؟!:

ثم إنه قد جعل الخوف متعلقا باليوم،فقال: يَخافُونَ يَوْماً، و لم يقل:يخافون من اللّه..

فلعل سبب ذلك هو أن اللّه سبحانه رحيم بعباده،و لا خوف من الرحيم..و هو نفسه عزّ و جل،قد جعل الكلمة التي يطلب الابتداء بها في كل شيء هي: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ..

و اللّه تعالى لا يظلم أحدا،فلا معنى للخوف منه،بل الناس إنما يخافون من سيئات أعمالهم التي ستظهر و تتجسد لهم في ذلك اليوم، على شكل عذاب،و حرمان من مقامات القرب و الرضا..

أما قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ (1)،فلا ينافي رحيميته، و رءوفيته..فإنه إنما جاء لبيان سوء عملهم من حيث إن فيه إظهارا للاستخفاف بمقام العزة الإلهية،فذكرهم اللّه سبحانه بنفسه،و أنه لا يعجزه باغ و لا طاغ،و أن بغيهم إنما هو على أنفسهم..

فليس التخويف بذاته سبحانه،من حيث إنه-و العياذ باللّه-يبطش بالضعفاء بلا مبرر..بل من حيث إنه قادر على مجازاة الباغين و الطاغين بأعمالهم.

********

(1) سورة آل عمران الآية 28.

ص: 190

لما ذا«يوما»..بتنوين التنكير؟!:

و قد قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً، و لم يقل:يخافون اليوم الذي كان شره مستطيرا،و كذلك لم يقل:يخافون يوم القيامة.

فلعل السبب في ذلك هو أنه أراد التصريح بتنوين التنكير في قوله «يوما»لكي يعطي المزيد من الرهبة،و التهويل،و التعظيم..من حيث إن عدم التحديد لأهوال ذلك اليوم،يجعل الذهن يستنفر كل طاقاته، و يذهب كل مذهب في تخيل أوصاف ذلك اليوم،و حالاته،و أهواله، و شدائده..و هو مناسب جدا لقوله:«كان شره مستطيرا».

مناشئ الخوف:

و إن للخوف بمعنى الانفعال النفساني مناشئ و محركات مختلفة..

فقد يكون مبعث الخوف هو النفس الأمارة بالسوء،كالذي يخشى فوات فرصة التلذذ بالجنس،فيقدم على الزنى،و قد يكون مبعثه التحرز من التعرض للأذى بعد ارتكاب جريمة ما.كالسارق الذي يخاف من انكشاف أمره،و ملاحقته بالعقوبة..

و قد يكون الباعث على الخوف هو النفس اللوامة..كمن يخاف من غلبة دواعي الهوى عليه..مع سعيه للتخلص منها..

و قد يكون الباعث له هو النفس المطمئنة التي تبحث عن الخير، و تخاف من فواته منها،كمن يخشى فوات فرصة الحج،أو نحو ذلك..

فالحالة الشعورية التي هي انفعال و خشية نفسانية موجودة في هذه الموارد على نحو واحد..

و لذلك جاء التحديد لمنشإ الخوف لدى الأبرار في الآية الشريفة، حيث قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

ص: 191

الذين عبدوا اللّه خوفا:

و الخوف من عقاب الآخرة،و الامتناع عن المآثم،و المبادرة لفعل الواجبات مطلوب و محبوب للّه تعالى..

و لكن قد يتخيل:أن أمير المؤمنين[عليه السّلام]لم يلتزم بذلك، حيث ورد عنه أنه قد ذم العبادة التي تأتي بداعي الخوف و الرهبة،حيث ذكر أن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد (1)..و قال[عليه السّلام]:

إلهي ما عبدتك خوفا من نارك،و لا طمعا في جنتك،و لكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (2).

و لكن الحقيقة هي:أن الخوف الذي نفاه الإمام علي[عليه السّلام] عن نفسه،دون أن يسجل ذما صريحا له،هو الخوف من العقوبة و مواجهة الآلام،بحيث يكون ذلك منشأ و أساسا،و باعثا على العبادة..

أما الخوف الذي يدعو إلى التحرز،و إلى الهيمنة على النفس، و رصد حركاتها،فإنه قد يكون أيضا داعيا إلى العبادة..و قد يكون الداعي لها هو أنه قد وجد اللّه سبحانه للعبادة أهلا..

فعبادة اللّه لأنه أهل لها:شيء،و التحرز من تسويلات و تزيينات النفس الأمارة،و الاحتياط لها،شيء آخر،فهما أمران يجتمعان و لا يتنافران،كما هو واضح لا يخفى.

********

(1) نهج البلاغة ج 4 ص 53،الكافي ج 2 ص 84،و علل الشرائع ج 1 ص 12،و الخصال ص 188،وسائل الشيعة ج 1 ص 63 ط مؤسسة آل البيت.

(2) بحار الأنوار ج 41 ص 14 و ج 67 ص 186.

ص: 192

«كان»لما ذا؟!

قال تعالى: كانَ شَرُّهُ فلما ذا جاء بلفظ«كان»؟

و لما ذا أيضا جاء فعل الكون بصيغة الماضي،لا المضارع..

و قد يكون الجواب على السؤال الأول هو:أن الإتيان بلفظ كان، يهدف إلى التأكيد على تحقق هذا الأمر،و حصوله..فلا محل للبداء في هذا القرار الإلهي.

ثم أن يفهمنا أيضا:أن ما يحصل في ذلك اليوم ثابت و مستمر، فليس هو من الأمور التي تتجدد،و تحتاج في تجددها إلى تجدد إرادة، و إلى صدور قرار جديد،و إلى تسبيب أسباب غير تلك التي كانت.

و بالنسبة للسؤال الثاني نقول:إن الإجابة السالفة الذكر قد تكون كافية فيه،إذ إن من المفيد جدا إفهام الناس أن هؤلاء الأبرار يرون ذلك الأمر بهذا المستوى من الوضوح و اليقين،و كأنه حاضر لديهم،أو كأنهم كانوا قد مروا فيه،و أن ذلك اليوم،و إن كان شره سيأتي في المستقبل..

لكن لا بدّية إتيانه هي من الثبوت لهم،بحيث يرون أنه قد تحقق و انته، كما أن ذلك يعطي انطباعا عن مدى اهتمامهم به،و عمق شعورهم بالمسئولية تجاهه.حتى أصبح بإمكانهم الإخبار عنه..

هذا كله إذا كان الكلام مسوقا لبيان شعورهم بذلك اليوم،و كيفية و مستوى تعاطيهم معه..و أما إذا كان إخبارا إلهيا ابتدائيا،لم يلحظ فيه حال أحد،فإننا نقول أيضا:

إنه لا معنى للزمان في علم اللّه سبحانه،فإن علمه بالمستقبل و حضوره لديه،هو على حد علمه تعالى بما مضى.

و هذا ما ربما يوضح لنا قوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (1)جاء بها بصيغة الإثبات،و لم يلحظ فيها واقع الزمان،و أنه في المستقبل،حيث لم يقل سبحانه:إنها ستحيط..و كذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً (2)،و غير ذلك..

ص: 193

و هذا ما ربما يوضح لنا قوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (1)جاء بها بصيغة الإثبات،و لم يلحظ فيها واقع الزمان،و أنه في المستقبل،حيث لم يقل سبحانه:إنها ستحيط..و كذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً (2)،و غير ذلك..

«شرّه»:

و قد قال تعالى: كانَ شَرُّهُ .. فعبّر بالشر،و لم يقل:عذابه مثلا،أو مصائبه،أو نحو ذلك.

و لعل سبب ذلك هو أنه قد يفهم من كلمة«عذاب»خصوص الأذى الذي يتعرض له الجسد..و قد يفهم من كلمة«مصائب»ما ينال الآخرين ممن لهم تعلق بصاحب المصيبة،أي أن المصيبة تقع في غيره، و يتألم هو لأجلهم..و لا أقل من أن ذلك محتمل في مثل هذه الموارد و هذه الاحتمالات لا ترد في كلمة«شر»،فهي تجمع بين جميع أنواع المساءات،الجسدية منها و المعنوية،و الروحية سواء أ كانت تقع على الإنسان نفسه،أم تلحقه بسبب غيره.و لذلك كان اختيار هذه الكلمة متعينا في هذا المورد..

«وَ يَخافُونَ يَوْماً.. ..فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »:

و قد يلاحظ هنا:أنه تعالى قد ذكر أنهم يخافون من اليوم ذي الشر، و لكنه عاد فعبر في الآيات التالية بقوله: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .

فالخوف من اليوم الذي فيه الشر،لكن الوقاية تعلقت بالشر مباشرة، فلما ذا هذا التنوع في التعبير يا ترى؟!

********

(1) سورة التوبة الآية 49.

(2) سورة المعارج الآيتان 7/6.

ص: 194

و نقول:

لعل سبب هذا التنوع التعبيري هو:أن الذي لا بد أن يواجهه الأبرار هو نفس ذلك اليوم..و لكن ليس بالضرورة أن ينالهم شره،إذ إنهم قد يتمكنون من التحرز من شروره بالأعمال الصالحة،أو بوقاية منه تعالى لهم،قد استحقوها.

فهم يخافون يوما قادما عليهم،و يعرفون أن فيه شرورا و محاذير.

و لكن ليس بالضرورة أن يلحقهم من تلك الشرور شيء بسبب وقاية اللّه تعالى لهم منها.فلا محذور في التعبير هنا بقوله: يَخافُونَ يَوْماً.. ثم يقول تعالى: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ..

«مستطيرا»:

ثم إنه تعالى يصف ذلك الشر بقوله:«مستطيرا»أي يتطلّب أن يطير، و أن ينتقل من مكان إلى مكان..و هذا التعبير يشير إلى سرعة في الانتقال من جهة..

و إلى تطلّب هذا الانتقال،و السعي إليه،من جهة أخرى..

و لعل هذا التطلّب للانتقال السريع،إلى حد الطيران،و الذي جاء من دون تحديد للمكان الذي ينتقل إليه،يدل على:

أن الانتقال سيكون في كل اتجاه..

و أنه لا معنى للتنبؤ به..

و أنه ليس مما يخضع للسيطرة من خلال ذاته..

و أنه لا يمكن التنبؤ بالمواقع التي يطير إليها..

و أنه يصل إليها بسرعة فائقة..

ص: 195

و هذا بلا شك يثير الخوف الحقيقي من يوم يكون هذا حال الشر فيه،فإن الشر غير محدد النوع،كما أنه لا مجال للشعور بالأمن في ظروف كهذه..لأن توقعه صعب،فلا يعرف متى يصل و من أي جهة يأتي،و لا أين يحل..

و الخوف من أمر كهذا.يتطلب درجة عالية من الحذر،كما أنه يحتاج إلى إعداد قوي،و متنوع الاتجاهات،بحيث يستطيع أن يواجه جميع الاحتمالات..

كما أنه يجب أن لا يقتصر على أنواع معينة من القدرات،في ماهيتها،و في كيفياتها،و في تأثيراتها،فإن جميع الأنواع يجب أن تكون حاضرة،و قادرة،و مؤثرة،و فاعلة..

فليس الخوف هنا مجرد خشية قلبية،بل هو يحمل معه:الحذر العملي،و الرصد،و الممارسة،و التحصن،و الاستعداد.

و في المقابل فإن استطارة هذا الشر،و قدرته على الانتشار،و عدم التحكم به و السيطرة عليه،إنما يستند إلى أسبابه و علله.فإن كونه كذلك لم يكن على سبيل العبث،و الصدفة.بل له مكوناته،و يعتمد على مؤثرات أوجبت ذلك فيه..لأن الشر ليس من خصوصيات ذات ذلك اليوم من حيث هو زمان.بل هناك مثيرات له،و محركات،و مؤثرات فيه، هي التي أوجدته،و حركته،و أعطته خصائصه تلك التي أشرنا إليها.

و من هذه المؤثرات و المثيرات نفس أفعال الإنسان في هذه الدنيا.

كما أنه سبحانه حتى حينما أوجد جهنم ليعاقب بها العصاة،فإنه قد أعطى للبشر وسائل الوقاية منها..

فالبشر كلهم سوف يمرون من فوق جهنم،و لكن هناك من تهيّئ له

ص: 196

أعماله مناعة منها،و حصانة تجاهها،و هناك من يبقى بدون دفاع،و ليس له من دونها قناع،بل تجعله أعماله أكثر قابلية للتفاعل مع تلك النار، و بحساسية بالغة أيضا..

و لأجل ذلك عبر تعالى بكلمة: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .. أي أوجد ما يحجز عنهم ذلك الشر،و يمنعه من الوصول إليهم.و لم يقل تعالى:إنه قد أزال الشر،و أبطل وجوده..كما أنه لم يقل:وقاهم من شر، لأن هذا التعبير إنما يعني أن الشر آت إليهم،و هو قد منعه من الوصول إليهم،و حال بينهم و بينه..

و ذلك يستبطن أمرا باطلا،و هو:أن ثمة معاص لدى الأبرار،اقتضت وصول الشر إليهم،لكن التفضل و العفو الإلهي قد حال دون ذلك..

مع أن اللّه تعالى لا يريد ذلك جزما..

و لذلك قال: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ، دون أن يأتي بكلمة (من)إذ إن أعمالهم لم تتسبب في إثارة الشر.و لم توجد أسباب استطارته،بل إن ورعهم و تقواهم قد منع من توجهه إليهم من الأساس.

فهو لا يصل إلى مكان وجودهم،و لا يطير إليها.فهم محفوظون منه بأعمالهم،بل إن أعمالهم هي التي تخمده و تزيله،و تطفئ ثائرته.

***

ص: 197

ص: 198

الفصل الثامن: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً

اشارة

ص: 199

ص: 200

قال تعالى:

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.

و قد أجملت الآية السابقة حال الأبرار،و أنهم يوفون بالنذر،ثم جاءت هذه الآية لتذكر شاهدا تفصيليا،و لتكون شاهدا حيا على ذلك الوفاء،و على تأصل حالة البر و الأبرارية فيهم.و هذا الشاهد هو قضية إطعام المسكين،و اليتيم،و الأسير..

حادثة الإطعام:

و قد ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أن هذه الآية بالذات قد ذكرت الحادثة التي كانت سبب نزول السورة بأكملها.و هي باختصار شديد:

أن الحسنين[عليهما السّلام]مرضا،فنذروا صيام ثلاثة أيام إذا شافاهما اللّه سبحانه..و بعد شفائهما أرادوا الوفاء بالنذر،فصام الجميع حتى الحسنان[عليهما السّلام]..و لم يكن عندهم طعام سوى أقراص شعير هيأتها الزهراء[عليها السّلام]للإفطار،فلما أرادوا الشروع جاءهم مسكين فأعطوه ما هيئوه،و أفطروا على ماء،و باتوا بدون طعام،و أصبحوا صياما.

فلما حضر إفطار اليوم الثاني،جاءهم يتيم فأعطوه أيضا ما هيئوه، و طووا ليلتهم كسابقتها،و أصبحوا صياما.

و في اليوم الثالث جاءهم أسير،فأعطوه طعامهم،و باتوا بدون طعام..

ص: 201

غدوا على رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،و شاهد[صلّى اللّه عليه و آله]حالهم،فنزلت السورة في حقهم صلوات اللّه و سلامه عليهم..

شرح مفردات الآية:

و قبل أن نتحدث عن الأجواء العامة لهذا الحدث الهام،لا بد أن نستنطق مفردات الآية،و نقف على بعض ما يمكن أن يستفاد منها..

فنقول:

الإجمال ثم التفصيل:

بداية نشير إلى أن من يلاحظ آيات السورة المباركة،سيجد قضية الصيام و الإطعام قد ذكرت في السورة مرتين:

أولاهما:على سبيل الإجمال،و ذلك حين أشار إليها تعالى بقوله:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، و هذه القضية هي التي كانت وفاء بالنذر،فهي من مصاديق تلك الآية..

الثانية:حين ذكرها تعالى تفصيلا هنا بقوله: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

و في هذا تكريم لهم،و تأكيد على هذه المزية العظيمة فيهم صلوات اللّه و سلامه عليهم.

«وَ يُطْعِمُونَ »:

لقد بدأت الآية المباركة بكلمة:يطعمون.و قد يكون من المفيد تفصيل الكلام حول هذه الكلمة ضمن المطالب التالية:

ألف:لم يقل:يعطون الطعام:

قد يقال:إنه يظهر من الروايات،أن ما حصل،إنما هو إعطاء الطعام

ص: 202

للسائلين،و ليس هو الإطعام..و لكن التعبير القرآني قال:«يطعمون»،فما هو السبب في ذلك؟!..

و الجواب:أن إعطاء الطعام لا ينافي أن يكون الآخذ قد أكل ذلك الطعام أمام أعينهم،فالذي حصل فعلا و إن كان هو الإعطاء،و المناولة..

لكنه انته بالإطعام.

فالتعبير ب«يطعمون»يتناول الإعطاء و المناولة..و الإطعام عن قصد و إرادة،و نحن في مقام توضيح ذلك،نقول:

إن الإنسان إذا تخلى عن طعامه،لأي شخص،و أعطاه إياه،فإن فعله يكون حسنا و ممدوحا..فيأخذه ذلك الشخص،و يتصرف فيه كيف يشاء،و لكنه إذا تخلى عنه ليطعمه إياه،فإن قيمة هذا العمل تكون أعلى من مجرد صرف نظره عنه..

فإذا أطعمه إياه أمام عينيه،فإن قيمته تصبح أعلى و أغلى..

فإذا كان المعطي صائما،و آثر به على نفسه،فإن الدرجة ستكون أكثر علوا.

خصوصا إذا كان إعطاؤه للطعام في وقت الإفطار،لا في وقت الصيام..

و خصوصا إذا كان الصائم قد وضعه أمامه لكي يفطر عليه..

و خصوصا إذا لم يكن عنده سواه..

و خصوصا إذا كان سيحرم منه ولده الصغير..

و خصوصا إذا كان في ولده مواصفات و ميزات الحسن و الحسين [عليهما السّلام]..

و خصوصا إذا كان الآخذ سيأكل الطعام أمام أعينهم،كما هو المحتمل جدا في الآية..

ص: 203

و هذا يعطي أن الذي أطعم الطعام،يمتلك نفسا،و قلبا،و إنسانية،لا نظير لها.و لا يمكن تحديد قيمتها.

ب:الإطعام وقت الإفطار:

و قد أشرنا قبل قليل إلى أن أولئك الصائمين،قد أعطوا طعامهم الذي كان أمامهم وقت الإفطار..و نحب أن نشير إلى أمر مفيد هنا،هو:

أن المال حين يكون نقودا،فإن التخلي عنه يكون أسهل مما لو تحول إلى سلعة،مثل:قميص،ساعة،قلم،بيت،خاتم،سبحة..إذ إن تجسّد المال على هذا النحو يعمق العلاقة به.فالصدقة بثمن الخاتم أسهل من الصدقة بالخاتم نفسه.

و ذلك لأن للمال مغريات توجب المزيد من التعلق به،فللشكل جاذبيته،و للألفة تأثيرها،و للأنس به،و للأحداث التي ترتبط به،التي تتحول إلى ذكريات لذيذة،دورها..ثم لارتباطه بأمور عزيزة كالآباء و الأجداد،و الأبناء..و للقدم و الغموض،دوره..و الأثر الكبير في الارتباط و التعلق به..

فإذا انضم إلى ذلك أو إلى بعضه الحاجة الغريزية الجسدية لهذه السلعة،كما لو كان طعاما يحتاجه الإنسان لسدّ جوعه.و تدعوه إليه حاجته الطبيعية..

و إذا انضم إلى ذلك أن له روائح،و أن له شكلا أو طعما،يشد الإنسان إليه،و يداعب خياله،فإن التعلق به سيزداد،وفقا لتوافر المعاني، و الخصوصيات الكامنة فيه،و الاعتبارات التي يوحي بها ذلك المال المتجسد..و لا بد أن نتصور مدى تعلق الباذلين بالطعام الحاضر، خصوصا بعد أن مر عليهم ثلاثة أيام بلا طعام.

ص: 204

أما النقود..فإن مغرياتها تبقى محدودة في حدود قيمتها الكامنة فيها،و في مستوى القدرة الشرائية لها،لا أزيد..

و هذا الذي ذكرناه:يبين كيف أن إعطائهم الجامع لهذه الخصوصيات، و في هذا الوقت،و لخصوص الطعام..يجعلنا نتلمس حقيقة هؤلاء الصفوة من الخلق صلوات اللّه عليهم..

ج:«يطعمون»..بصيغة المضارع:

صحيح:أن كلمة«يطعمون»تفيد أن الجميع-حتى الحسنين عليهما السّلام،رغم صغر سنهما-قد مارس هذا الإطعام بكل شئونه و حالاته، و لكن التعبير بصيغة المضارع،حيث قال:«يطعمون»،لا بصيغة الماضي، فلم يقل:«أطعموا»..إنما جاء ليفهمنا:أن هذا الإطعام يستمر،و يتجدد بإرادة،و التفات،و اختيار،و مبادرة منهم..

و هذا الاستمرار الذي شهدت له الحادثة المشار إليها نفسها أيضا يعطي:أن هذا الإطعام،هو سجية لهم،و طبيعة فيهم،و ليست القضية مجرد حدث عابر قد انته و انقضى،و قد يكون مجرد أريحية اهتزت، أو مؤثرات توفرت،فأنتجت هذا الحدث،بهذه الميزات،و بتلك المواصفات،حيث صادف كونهم صائمين،و صادف أيضا أنه حصل ثلاث ليال متوالية،و بهذه الطريقة..

إن هذا الاستعداد،و هذه السجية المؤثرة.و هذا الاستمرار في العطاء، في كل وقت و كل حين،و تجدد العطاء بإرادات مؤثرة و فعلية،و إمكانية المشاهدة له-إن كل ذلك-هو من خصوصياتهم الفريدة،و خصالهم الحميدة.

ص: 205

لام العهد!أم لام الجنس؟:

و عن كلمة«أل»في كلمة«الطعام»نقول:إنه قد يكون المقصود بها العهد..أي أنهم يطعمون طعامهم المعهود،الذي ارتضوه لأنفسهم، و واسوا به الفقراء..

و قد يكون المقصود به الجنس،أي أن كل طعام يكون لهم،فإنهم يطعمونه للمسكين،و اليتيم،و الأسير..

ما المراد ب«الطعام»:

و لعل بعضهم يريد أن يقول:إن المقصود بكلمة:«الطّعام»هو القمح و الشعير،و أن هذا هو معناها في أصل اللغة،ثم توسع الناس في إطلاقها، على غيرهما،فيكون على عكس كلمة دابة التي هي اسم لكل ما يدب على الأرض،لكنها حين الاستعمال يراد منها الفرس،لأنها هي التي كانت محل الحاجة،و ألف الناس إطلاق هذا اللفظ عليها..

و لكن لا مجال لتأكيد هذا الأمر،و لا يصح المصير إليه،فإنه مجرد اجتهاد في اللغة،فالظاهر:ما جرى لكلمة طعام،هو نفس ما جرى لكلمة «دابة»و أن المقصود بكلمة«الطعام»هو كل ما يطعم..فيكون القمح و الشعير،و سواهما من مصاديقه..

و مما يؤكد ذلك،قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ (1).فأطلق الطعام على ما يستخرج من البحر للطعام..و لا يستخرج منه قمح و لا شعير..

********

(1) سورة المائدة الآية 96.

ص: 206

«على»:

و تواجهنا كلمة«على»،حيث دلت على أن إطعامهم هذا الطعام قد كان برغم وجود المانع و الرادع عنه.و هو الحب لذلك الطعام..و هذا يزيد في أهمية ما فعلوه،لأن القضية لم تقتصر على العطاء بصورة طبيعية و مجردة،بل تجاوزتها إلى التغلب على الموانع و الروادع.التي أضيفت إليها..و هي هذا الحب الجديد للطعام..الذي أضيف إلى الاشتهاء الطبيعي،و إلى سائر الخصوصيات الآتية في الفقرة التالية.

«على حبّه»جملة اعتراضية:

و من يتأمل الآية يجد:أن عبارة«على حبّه»جملة اعتراضية،قد جاءت لبيان المزيد من الصعوبة التي يواجهها الباذلون في بذلهم ذاك..

أي أنهم يطعمون الطعام،على الرغم من حبه.

و هذه الجملة الاعتراضية لا بد منها لإفادة معنى الإيثار،الذي يمارسه أناس هم بأمس الحاجة إلى هذا الطعام،و هم يطوون ثلاثة أيام بدونه.

و هناك فرق بين من يطعم الطعام،و هو في غنى عنه،بل هو يملك الخزائن الملأى،و بين أناس لو فقدوا طعامهم،فسوف لا يجدون سواه، و سوف يتسبب ذلك بمشكلة و إحراج شديد لهم.

كما أنه ليس كل من يعطي الطعام يكون دافعه هو الشعور و الإحساس الإنساني بحاجة الآخرين،فإن لبذل الطعام دوافع مختلفة غير ذلك أيضا،و لا حاجة إلى البيان..

حب الطعام المذموم:

و قد يقال:إن ثمة إشكالا،لا بد من الإجابة عليه و هو:أن الباذلين كان لديهم ميل للطعام،بهدف سد الجوع..ثم يزول الاشتهاء بتناوله،

ص: 207

و حصول الشبع بذلك..

و لكن الأمر لم يقتصر على الاشتهاء،بل تحدثت الآية عن حب الطعام..و هذا الحب يحتاج إلى مكونات أخرى تزيد على ما يتطلّبه الاشتهاء.

و المعروف أن حب الطعام مذموم،و قد كانت فدك في يد السيدة الزهراء[عليها السّلام]،و لم تدخر طعاما منها،تواجه به هذه الحالة و أمثالها،بل كانت تتصدق بغلاتها على أهل الحاجة..

و الإمام علي[عليه السّلام]قد أعلن أكثر من مرة:أنه لا يفكر بهذه الطريقة..

فقد أرسل إلى واليه على البصرة،عثمان بن حنيف،يقول:«بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة،فأسرعت إليها،تستطاب لك الألوان،و تنقل إليك الجفان..».

إلى أن قال:

«ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه،و من طعمه بقرصيه»..

إلى أن قال:

«لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل،و لباب هذا القمح،و نسائج هذا القز،و لكن هيهات أن يغلبني هواي،و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة،و لعل بالحجاز أو اليمامة،من لا طمع له بالقرص،و لا عهد له بالشبع..أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى؟! و أكباد حرى؟!».

إلى أن قال:

«فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات،كالبهيمة المربوطة همها علفها،

ص: 208

أو المرسلة شغلها تقممها،تكترش من أعلافها،و تلهو عما يراد بها».

و الإمام علي[عليه السّلام]و السيدة فاطمة[عليه السّلام]هما على رأس الذين نزلت فيهم آية: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ .. و ذلك يدل على أن حبهم لهذا الطعام ليس مذموما..لأن لهذا الطعام خصوصية جعلتهم يحبونه-لا أنهم يشتهونه-.

فما هو هذا الحب للطعام،الذي ليس بمذموم يا ترى؟!

و للجواب عن ذلك نقول:

إن حب الشيء تارة يكون لأجل ذاته..و تارة يكون لأجل أنه موصل إلى أمر محبوب.فالمذموم هو الأول،أما الثاني فهو ممدوح.

و الذي أريد بهذه الآية الشريفة هو الثاني..

فهم[عليهم السّلام]لا يحبون الطعام لأنه شهي و لذيذ.أو لأية خصوصية تزيد الرغبة فيه،كاللون،و الرائحة،أو الشكل،فإن طعامهم إنما كان أقراصا من شعير..و هو لم يكن شهيا،و لا مثيرا.بل هو أحد مفردات الطعام العادية،التي يتبلّغ بها الفقراء،ليحفظوا بها خط حياتهم، الذي فرض اللّه عليهم أن يحفظوه.و كان هذا هو طعام أهل البيت [عليهم السّلام]المفضل..

فحبهم للطعام،إنما هو بهذا المعنى،فليس هو حب التلذذ و الاشتهاء،ليكون مذموما..

بل هو طعام محبوب لهم،لأنه يحفظ لهم القدرة على إنجاز الواجب و التكليف الإلهي..و يعطيهم القوة على نيل رضا اللّه سبحانه..

و لو كان الحب هو لنفس الطعام من حيث هو لذيذ،أو نحو ذلك، فقد كان بإمكانهم الاستفادة من فدك و غيرها للحصول على لذائذ

ص: 209

الأطعمة،و فاخر الألبسة،و فخيم المساكن..

و لأجل ذلك قال تعالى: عَلى حُبِّهِ ، و لم يقل:على اشتهائه،أو على حاجته.أو نحو ذلك..

و هذا بالذات السبب في أنه تعالى:قد أورد ذلك مورد المدح، مقرونا بقوله:يوفون بالنذر،و يخافون يوما كان شره مستطيرا..

ثم أعلن بمكافأتهم عليه كأعظم ما تكون المكافأة.

الضمير في كلمة:«حبّه»:

و قد ظهر مما تقدم:أن الضمير في كلمة:«حبّه»راجع إلى الطعام، و يبعد رجوعه إلى لفظ الجلالة،إذ لم يتقدم للفظ الجلالة ذكر في الكلام،مع لزوم نوع من التكرار في قوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ..

إلا أن يقال:إن حب اللّه شيء،و وجه اللّه شيء آخر،فالأول يرتبط بالدافع الطبيعي،و الثاني يرتبط بالغاية و الهدف الذي يكون الإطعام من أجله..

و لكننا نقول:حتى لو قبلنا بذلك،فإنه لا معنى للتعدية بكلمة:

«على»،و ذلك ظاهر.

كما أن البعض قد قال:إن مرجع الضمير في كلمة«حبه»هو المصدر المفهوم من قوله:«يطعمون»،و هو«الإطعام»،تماما كما هو الحال في قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1)فإن كلمة«هو» ترجع إلى العدل المستفاد من كلمة اعدلوا..

و لكن لا مجال لقبول هذا الكلام إن كان منشأ حب الإطعام هو

********

(1) سورة المائدة الآية 8.

ص: 210

ذات الإطعام..لأن كلمة«على»إن كانت بمعنى مع،أي مع وجود حب الإطعام،فان هذا و إن كان يستبطن بعض المدح،من حيث إن هذه الحاجة الشديدة لم تؤثر على حبهم للإطعام..و لكنه يستبطن أيضا شيئا من الانتقاص من حقهم،لأنهم إنما يطعمون،انسجاما مع دواعي حب ذات الإطعام..فليس في ذلك فضيلة متميزة لهم،و لا يوجد جهد في هذا البذل..

كما أنه إذا كان الإطعام مصاحبا لحبه،فليس فيه خلوص،و إخلاص يستحق هذا الثناء،فلا يصح الحصر بكلمة«إنما»في قوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لأن الإطعام ليس لوجه اللّه فقط،بل هو لأجل وجود دوافع أخرى لديهم،تدعوهم إليه.

و إن كانت كلمة«على»داخلة على محذوف،ليصير المعنى:على رغم الحب الموجود للإطعام..

فضعفه أوضح و أبين،إذ لا معنى لقولك:أنا أطعم رغم أني أحب أن أطعم..بل المناسب القول:أنا أطعم رغم أني لا أحب أن أطعم.

هذا كله إذا كان المقصود أن الحب ذات الإطعام هو الداعي،و أما إن كان حب الإطعام لا لذاته،و إنما لأجل تحصيل رضا اللّه به،أي أنه رغم جوعه،فإنه يحب إطعام هذا الطعام لليتيم،لأنه يرى أن ذلك يرضي اللّه تعالى،فهذا يكون غاية في المدح لهم،و الثناء عليهم..و لكن بشرط أن تكون كلمة«على»بمعنى مع الدالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى..

هل يحب أهل البيت عليهم السّلام الطعام؟!

و على تقدير رجوع الضمير إلى الطعام،لا إلى الإطعام،قد يقول قائل:إنه لا معنى لنسبة حب الطعام إلى أهل البيت[عليهم السّلام]،فإن

ص: 211

نسبة ذلك إليهم لا تنسجم مع ما يقال من زهدهم..و تعلقهم باللّه وحده..

و لكنه كلام غير دقيق،فإن المقصود بالحب هنا ليس هو حب الطعام الذي يعني التعلق بزينة الدنيا،و ملذاتها..بل هو حب فرضه الجهد في العبادة و النشاط في طلب رضا اللّه في النهار،على قلة في الطعام،و جشوبة في العيش،و هو حب لا ينشأ من الرغبة بالتلذذ بل منشؤه الحاجة إليه لحفظ الحياة،الذي هو تكليف إلهي شرعي،لا بد لهم من امتثاله.فحبهم للطعام لا لذات الطعام،و إنما لغيره..على طريقة:

و ما حب الديار شغفن قلبي و لكن حب من سكن الديارا

حبب إلي من دنياكم ثلاث:

و بذلك يعلم المراد من الرواية عن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:

«حبب إلي من دنياكم الثلاث:النساء،و الطيب،و جعلت قرة عيني في الصلاة» (1).

فإنه[صلّى اللّه عليه و آله]لم يكن ليحب النساء،و الطيب،لو لا أن اللّه سبحانه قد حبب ذلك إليه..مما يعني أن ثمة تصرفا إلهيا في الشخصية النبوية،و هو تصرّف تكويني-ربما من خلال اقتضاء الغريزة و الفطرة-لا بد أن وراءه مصلحة كبرى،لبناء حياة البشر،وفق ما يحبه اللّه تعالى و يريد..

فهذا التحبيب إذن،لا يعني أن له[صلّى اللّه عليه و آله]تعلقا بتلك الأمور،من حيث زينتها،أو من أجل أنها تحقق له لذة دنيوية،بل هي

********

(1) الحدائق الناضرة ج 1 ص 264 و 265،و راجع:المهذب البارع ج 3 ص 173،و رسائل المحقق الكركي ج 3 ص 225.

ص: 212

بمعنى لزوم تلبية الحاجة التكوينية التي فرضتها طبيعة الحياة.و امتثالا للتكليف الإلهي،و استجابة لما يوجبه حفظ الحياة و استمرارها.

و لعل من مصلحة ذلك أيضا:أن لا يفهم بعض الناس من عزوف الأنبياء عن النساء معنى الرهبانية،الذي لا ينسجم مع ما يريد اللّه سبحانه أن تكون عليه حياة الناس في بناء الأسرة و تكافلها،و اطراد الحياة الإنسانية،مفعمة بالعاطفة،تنعم بالدفء،و بالحيوية،و السّلام،و السلامة النفسية و الأخلاقية..

كما أن من ثمرات هذا التصرف الإلهي التمهيد لولادة الزهراء الكبرى،سيدة نساء العالمين صلوات اللّه و سلامه عليها و على أبنائها الأئمة الميامين الطاهرين..

و إذا كان هذا التصرف الإلهي لن يخرج في مجال فعليته عن حدود الشرع،و هو لا يعدو كونه أمرا يرتبط بالشخص..و لا يؤثر على حياته العامة،و لا على موقعه كقائد،و مرب،و معلم،و مرشد،و هاد،و لا يؤثر على مقامه،و لا على سلوكه الإنساني،و الإيماني،و الشرعي،بل هو يبقى في القمة في ذلك كله..

إذا كان كذلك..فإن هذا في حد نفسه يكون مثلا يحتذى،و قدوة تتبع،و أسوة لبني البشر جميعا..و هو قاطع للعذر،و ملزم بالحجة،لكل من يريد أن يتعدى حدود اللّه،و ينتهك حرمة شرائعه..بحجة أنه واقع تحت تأثير الغريزة و الشهوة،أو ما إلى ذلك..

و يبقى قوله[صلّى اللّه عليه و آله]:و جعلت قرة عيني الصلاة، تجسيدا لطموحه[صلّى اللّه عليه و آله]الأعظم و الأهم،الذي يجد فيه غنى الروح،و طمأنينة القلب،و رضا و راحة الوجدان..

ص: 213

«مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً»:

و في هذه الكلمات مباحث،و خصوصيات عديدة،نأمل أن نتمكن من أن نبين بعضا منها،بحسب ما تصل إليه أفهامنا،و تتسع له صدور و وقت الإخوة الأكارم.

فنقول:

1-تنوين التنكير لما ذا؟!:

إن أول ما يواجهنا هنا:أنه تعالى..قد أورد هذه الكلمات: مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً، منونة بتنوين التنكير،و لم يوردها محلاة بالألف و اللام..

و ربما يكون السبب في ذلك هو أنه إذا قال:«المسكين،و اليتيم، و الأسير»فقد يوهم ذلك:إرادة خصوص المعهودين لديهم،و المعروفين عندهم،فيكون إطعامهم لهم ناشئا عن عدة دواع متمازجة،و متعاضدة في التأثير،و في الاندفاع إلى الإطعام..لأن المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه،و كذا لو كان ذا قرابة مثلا،أو من قومه،أو من بلده،أو مرتبطا بذي قرابة،أو بصديق،أو جارا،أو ما إلى ذلك..

أما تنوين التنكير فهو صريح في أنهم يطعمون أي مسكين،و أي يتيم،و أي أسير كان،ممن لا لون له،و لا طعم،و لا رائحة.

و ذلك يدل على أن اليتم و المسكنة و الأسيرية هي المحرك الإنساني، و على أن الغاية هي وجه اللّه.و ليس ثمة أية شائبة في هذا الخلوص، و ذلك الإخلاص..فليس في نفوسهم أية آثار لمؤثرات دنيوية أرضية غير إلهية،أو غير إنسانية.

فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر،و الهدف إلهي،و قد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي،فكان هذا الإيثار العظيم..

ص: 214

2-توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:

و قد حدثتنا الروايات:عن أن الواقعة التاريخية،قد حدثت وفق الترتيب الذي أورده القرآن،فقد جاء المسكين أولا،ثم اليتيم،ثم الأسير..

و ذلك هو التوفيق و التسديد الإلهي الظاهر..لكي لا يبقى أي مجال للتفكير في أن ما هو افتراضي،قد لا يكون منسجما مع حركة الواقع الخارجي،خصوصا حينما تتوافر الدواعي في الاتجاه المعاكس كما سنبينه..

كما لا يبقى أيضا مجال للقول:بأن الحديث هنا جار في ما هو مثالي..و قد لا يتوافق المثالي مع مقتضيات الواقع و شروطه.

بل نقول:

إنه حتى لو لم يكن الترتيب في الآية مطابقا لما حصل بالفعل،فإن نفس أن يأتي سياقها القرآني على هذا النحو،ستكون له أهدافه و أغراضه التكريمية،أو البيانية لمعان يريد اللّه لنا أن نتلمسها و نعرفها فيهم[عليهم السّلام]..و قد تكون هذه المعاني الغيبية التي يكشفها اللّه لنا،رحمة بنا،و امتنانا منه تعالى علينا..

و حيث يأتي البيان على سبيل الإخبار عن طبيعة و سجية و ديدن هؤلاء الصفوة،فإنه لا بد أن يزيد ارتباطنا بهم،و تعريفنا بحقيقتهم، ليكونوا لنا الأسوة و القدوة و المثل الأعلى..فكيف،و قد تطابق الواقع الخارجي،مع السجية و الطبيعة،فجاء المسكين،ثم اليتيم،ثم الأسير..

ليكون ذلك أدعى في الإقناع،و أوثق في الدلالة..

3-حالتان تصاعديتان تتعاكسان:

و حين نريد أن نبحث الموضوع بعمق،فسنجد أن هناك حالة

ص: 215

تصاعدية في جهة السائلين،تقابلها حالة تصاعدية في ناحية الباذلين..

بمعنى أن الانتقال كان في ناحية السائلين من الأعلى إلى الوسط،ثم إلى الأدنى.

و لكن الانتقال في ناحية الباذلين كان من الأدنى..و انته بالأعلى..

و هذا هو سر عظمة هذا الحدث،و هو أقوى تعبير عن حقيقة هؤلاء الصفوة الأطهار،حيث إنه يؤسس بصورة حية لفهم سرّ كل هذه الكرامة التي اختصهم اللّه بها،و هذا التشريف العظيم الذي حباهم سبحانه به..

و توضيح ذلك يكون على النحو التالي:

4-المسكين..و الباذلون في اليوم الأول:

إننا إذا أردنا أن نوضح ذلك،برسم صورة تطبيقية،فسنجد:

أن الذي أتى للصائمين في وقت إفطارهم،في اليوم الأول،هو «مسكين»،فمن هو هذا المسكين،و ما هي حالته؟!

إن المسكين هو إنسان بلغ به الفقر أقصى مداه.إلى درجة أنه أسكنه،و جعله عاجزا.

و قد روى أبو بصير رحمه اللّه عن الإمام الصادق[عليه السّلام]أنه قال:

«الفقير الذي لا يسأل،و المسكين أجهد منه،و البائس أجهد منهما» (1).

و صيغة«مسكين»،تفيد التكثير..أي يكثر سكونه،لأنه كلما أراد أن يتحرك للحصول على شيء أحسن بعجزه،فيسكن..

و معنى ذلك:أنه قد جرب حظه في الحياة أكثر من مرة،و بذل أكثر

********

(1) بحار الأنوار ج 93 ص 57 و تفسير نور الثقلين ج 3 ص 491.

ص: 216

من محاولة للخروج من المأزق،فلم يفلح.

و واضح:أن الإنسان إذا بلغ هذا الحد،فإن أمله يتضاءل و يذوي..

كما أنه يفقد شيئا من عنفوانه،و من قوة شخصيته.

إذن،فحالة هذا الشخص تثير العطف الشديد،و توجد اندفاعا قويا لمساعدته،ممن يرى ذله،و عجزه،و حاجته،و انكساره..

و في المقابل كان الباذلون للطعام،الذي تتحدث عنه الآية الشريفة، قد صاموا يوما كاملا،و احتاجوا إلى الطعام بصورة حقيقية و فعلية، و ضعفت أجسادهم،و لا سيما أجساد الأطفال الذين في جملتهم،و كانوا صائمين أيضا..

و هؤلاء الأطفال لا كسائر الأطفال،بل هم خيرة اللّه سبحانه من خلقه،و صفوته من عباده..

و قد كان من الطبيعي أن يتنازع أولئك الباذلين عاملان..أحدهما يدفعهم للبذل،و هو حالة المسكين الصعبة للغاية..و حالة حاجتهم الذاتية للطعام..و ثانيهما الحاجة العاطفية للاحتفاظ به لأجل طفلين هما الغاية في الكمال،و النبل،و الفضل،و الصفاء..و لا شك في أن أحدا على وجه الأرض،لا يملك مواصفاتهما،و ميزاتهما.

فإمكانية الاستجابة للعامل الأول تبقى موجودة،و فيها شيء من القوة..فإذا استجابوا له،فإنهم-و لا شك-يكونون قد قاموا بعمل عظيم،و لكنه ليس مستحيلا،بسبب قوة التحريك للعطاء،من خلال الانسجام العاطفي و الإنساني،مع حالة المسكين.

و من جهة أخرى،فقد كان بالإمكان أن يعطوا المسكين بعضا من طعامهم على سبيل المشاركة،و التسوية بالنفس..و لكنهم لم يفعلوا ذلك،

ص: 217

بل اندفعوا بالإيثار إلى أقصى مداه،فأعطوه جميع ما أعدوه لإفطارهم.

لأنهم أرادوا له أن يجد الفرصة لمراجعة حساباته،و استئناف تحركاته في سبيل عمل يخرجه مما هو فيه..

أضف إلى ذلك،أن هذا العطاء كان بالنسبة للباذلين،في ساعة حرجة جدا.و بالذات في ساعة الإفطار،حيث تلح النفس بالمطالبة بالطعام،و تدعو للاحتفاظ به،إذ لو طلب منهم بذل الطعام،قبل حلول ساعة الإفطار،فإن التخلي عن الطعام يكون أيسر،لعدم وجود هذا الإلحاح على الاحتفاظ به،بفعل قوة الحاجز،مع الإفساح في الأمل بإمكانية الحصول على البديل فيما تبقى من الوقت..

و لكن الطلب قد جاء في الساعة الحرجة و الصعبة،و حيث يشتد تعلق النفس بالطعام،فكيف إذا مازج ذلك عامل الحضور و المشاهدة و العيش بالأجواء،حتى لتكاد الأيدي تمتد إليه،فإن التعلق به سيكون- بلا شك-أقوى،و التخلي عنه أصعب..

و لكن حالة المسكين و ضعفه،و شدة حاجته،فيها أيضا شيء من قوة الدعوة للبذل،و درجة من التأثير المعاكس في أحوال كهذه..

5-اليتيم و الباذلون في اليوم الثاني:

و في اليوم الثاني..حيث لم يذق الصائمون طعاما طيلة يومين كاملين.بل اكتفوا بشرب الماء في الليلة السابقة.قد أصبح واضحا:أن الحاجة إلى الطعام قد اشتدت،و دواعي الاحتفاظ به قد ازدادت، و الحرص عليه قد تنامى و عظم،لا سيما مع وجود صبيين معهم،هما الحسنان بالذات..و هما سيدا شباب أهل الجنة،و ريحانتا رسول اللّه [صلّى اللّه عليه و آله].

ص: 218

و كان وقت الإفطار قد حضر أيضا،و طبيعي أن يزداد التطلع للطعام، و البحث عنه،و بعد حضوره يزيد التعلق بما حضر منه..فكيف إذا وضع أمامهم،و تكاد الأيدي تتحرك باتجاهه،و تمتد إليه.

و إذا بسائل جديد،هو في هذه المرة«يتيم»،و ليتمه تأثيره على النفوس.و لكن الاندفاع إلى مساعدته يكون في العادة أضعف من الاندفاع لمساعدة المسكين،لأن احتمالات الحاجة فيه أقل و أضعف.إذ إن يتمه لا يدل على حاجته المادية..

فإن نفس الحالة الظاهرة للمسكين هي حالة حاجة و فقر،و عجز عن إيجاد ما يتبلّغ به،و هي فورية،و حادة،و هي بنفس ظهورها فيه تمثل دعوة لمساعدته بلسان الحال،و هي شاهد صدقه في ما يدعيه،بلسان المقال..

أما اليتيم،فإن هناك شفقة عليه،لأجل يتمه،و حاجته للعاطفة و الطمأنينة،لا لأجل حاجة ظاهرة له،تستبطن دعوة بلسان الحال لمساعدته..إذ لعله كاذب في دعواه الفقر..

و حتى لو كان صادقا،فإن الفقر الذي يخبر عنه لا يصل في حدته إلى درجة ظهور ذلك في حالته.كما كان الحال بالنسبة إلى المسكين..

بل هو لا يزال في مقتبل العمر،و الفرص أمامه،و لم يمارس بعد إمكاناته،و قدراته،بل هو لم يكتشفها بعد.و لعل مشكلته ناشئة من فقد التوجه الصحيح له،بعد أن فقد كافله..ففرص النجاح أمامه متوفرة، و أمله كبير،و طموحه عارم.

و تحرك العاطفة لأجل فقر اليتيم،ليس بدرجة تحركها لأجل ذل و مسكنة المسكين..و يتمه،لا يحرك الإنسان ليتخلى له عن طعامه،حتى

ص: 219

في الحالات العادية.فكيف بعد طي يومين من الصيام المتواصل، و اشتداد الحاجة للطعام؟!..

و حتى لو أراد أن يتخلى ذلك الصائم له عن شيء،فإنه سيقنع نفسه بأنه لا حاجة لأن يتخلى له عن جميع ما هيأه..فضلا عن أن يعطيه إياه ساعة الإفطار،و بعد أن وضع أمامه،و بعد مضي يومين على الصيام.

و إذا أعطاه شيئا،فإنما يعطيه طعام نفسه،و لا يعطيه طعام غيره كزوجته،و ولده..فكيف إذا كانت السيدة الزهراء[عليها السّلام]هي الزوجة،و كان الولدان الوحيدان له طفلين صغيرين،ثم كانا هما الحسنان بالذات،في ميزاتهما،و في موقعهما من الدين،و من الإسلام كله،و ليس لهما على وجه الأرض مثيل،لا من الأيتام،و لا من غيرهم.و هما اللذان تتجلى فيهما ميزات الإمامة و خصائصها،بأجلى و أبه مظاهرها..

و أبواهما كانا أعرف من كل أحد بهما،و بقيمة مزاياهما،و بكرامتهما على اللّه سبحانه،فهل يمكن أن يخاطرا بحياتهما،لمجرد احتمال حاجة يدّعيها يتيم،ليس هو مثل الحسنين قطعا،و هي حاجة-حتى لو كانت واقعية-فليس ثمة ما يدل على أنها تبلغ درجة الإحراج و العسر..

إذن..فقد ازدادت المثبطات،و توافرت الموانع عن الإعطاء،سواء فيما يرتبط بالاعتبارات التي تزداد قوة و تنوعا،في ناحية الباذلين،أم فيما يرتبط بضعف المشجعات في جانب السائلين،حيث تضاءلت و انحسرت و ضعفت تلك الخصوصيات التي تثير و تحرك.

و لكن و برغم ذلك كله،فإن العطاء و البذل،قد بلغ أيضا أقصى مداه، حيث أعطوا[عليهم السّلام]في اليوم الثاني أيضا جميع ما يملكون، و آثروا اليتيم به على أنفسهم مع شدة الحاجة و الخصاصة.و بذلك فقد

ص: 220

أصبح هذا الإطعام أعظم قيمة،و أشد أهمية،إذا لوحظت جميع الخصوصيات التي أشرنا إليها..

6-الأسير..و الباذلون:في اليوم الثالث:

و يطوي الصائمون ليلتهم،و لا يقدرون على شيء إلا على شرب الماء،و يصومون يوما ثالثا هو الأشد،و الأقسى،و الأمض،و قد أصبحت الأخطار الجسام تتهدد صفوة الخلق،و صبية هم خيرة اللّه،و حججه على عباده،بصورة أعظم و أقوى..

و يحين وقت الإفطار،و هو ما يجعل النفوس أيضا تهفوا و تتطلع إلى الطعام،فكيف إذا كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الطوى.ثم يوضع الطعام أمامهم،و لا يحول بينهم و بينه شيء..

و قد بلغت خطورة الموقف حدا قاسيا،يدعوهم ليس فقط إلى عدم بذل الطعام،و إنما إلى بذل كل الجهد و التضحية في سبيل الاحتفاظ به..

و إذا بسائل جديد يطرق الباب..غير أن حالة هذا السائل كانت أخف الحالات و أهونها،فإنها ليس فقط لا تثير شعورا قويا بالرغبة في مساعدته،بل ربما تكون المثبطات و الموانع عن إعطاء هذا السائل،أكبر و أظهر..

و لا نريد أن نتحدث عن الحالات،و لا عن الخصوصيات التي كانت في جانب الباذلين،فقد ظهر جانب منها في البيانات السابقة،بل نريد فقط أن نلمح إلى ما كان منها في ناحية السائل..فنقول:

إنه عدا عن جميع ما لاحظناه من خصوصيات في جانب اليتيم و المسكين..فإن الأسير رجل مكتمل قوي البنية،قادر على مواجهة الآخرين،حتى بالقتال،و له قدرة على تحمل الصعاب،و مكابدة المشاق..

ص: 221

و الزهراء[عليها السّلام]في هذا الجانب امرأة،و الحسنان[عليهما السّلام]أيضا لم يكونا قد بلغا سن الأقوياء،فيما يعرفه الناس من ذلك..

و مشكلة الأسير تبقى محصورة في مدة أسره،المانع له من بعض ضروب السعي..و هي مشكلة لها أمد،و لها مخرج.و سينتهي الأمر به إلى الخروج من هذه الحالة،و العودة إلى أهله،و أملاكه،و إلى الذين لديهم أكثر من دافع لمد يد العون له..بخلاف المسكين الذي ليس لديه ما ينعش به،و بخلاف اليتيم الذي لن يجد مثل كفيله الذي فقده كفيلا، و حاميا،و راعيا،و حبيبا..

ثم إنه ليس في الأسير أية جهة أخرى-سوى ما يدّعيه من الحاجة- تدعو إلى العطف عليه،كما كان الحال بالنسبة ليتم اليتيم..

بل هناك ما يدعو إلى النفور منه،و إلى حرمانه،فإنه مجرد أسير، و الأسير في واقع الأمر محارب للإسلام و للمسلمين..و ربما لا يكون قد تخلى عن عدائه لهم،و لا ذهب حقده عليهم..بل ربما لا يكون قد تخلى عن كفره،أو شركه،أو انحرافه.

و إذا كان قد أسر في ساحة الحرب،فلعله قد قتل بعض الأحبة، و الأصفياء،أو شارك في قتلهم..

و لعل اليتيم الذي جاءهم بالأمس قد فقد كافله،و حاميه في الحرب التي شارك فيها هذا الأسير نفسه،أو شارك هو في قتله،أو في الأجواء التي تمكن القتلة من القيام بجريمتهم..

أضف إلى جميع ذلك،أن نهاية هذا الأسير ستكون هي الرجوع إلى قومه،و لعله يعود معهم إلى حرب الإسلام و المسلمين من جديد..

و كل هذا الذي ذكرناه،قد يكون معذرا مقبولا أمام الوجدان،

ص: 222

و تبريرا معقولا لرد طلبه عند العرف و العقلاء..

ثم إنه لم يظهر من حال هذا الأسير ما يشي بصدقه فيما يدّعيه من الحاجة..و حتى لو كان صادقا،فإن حاجته ليست بمستوى حاجة من طوى ثلاثة أيام بدون طعام،فكيف إذا كان هذا الطاوي هو طفلان صغيران.ثم كانا هما الحسن و الحسين،و معهما الزهراء،و علي أمير المؤمنين عليهم السّلام.

ثم إنه قد كان يمكنهم[عليهم السّلام]أن يعطوه بعضا من ذلك الطعام،و يحتفظوا لأنفسهم بالباقي،أو يحتفظوا بطعام الحسنين عليهما السّلام على الأقل..

فكل هذه العوامل التي ذكرناها تدعو إلى الاحتفاظ بالطعام..تضاف إليها العوامل المضادة و المانعة من العطاء،و من بينها ما هو قوي، و متناغم مع العواطف و المشاعر الإنسانية،و مع كثير من النقاط التي سجلناها من ابتداء الحديث إلى هنا..

و بعد هذا كله..فقد جاءت المفاجأة و أعطى هؤلاء الصفوة ذلك الأسير كل ما لديهم،و عرّضوا أنفسهم للأخطار الجسام.مع أنه قد كان يكفيه بعض ما أعطوه،غير أنهم أرادوا له أن يجد لنفسه قوتا في أطول زمن يمكنهم أن يمدوه بالقوت فيه..

و البذل في مثل هذه الحالات،و بملاحظة كل تلكم الخصوصيات،هو منتهى الكمال الإنساني،و الإيماني،و الروحي،و هو الحد الذي لا يصل إليه بشر.

إلا إذا كان ذلك البشر هو الرسول الأعظم[صلّى اللّه عليه و آله]رغم أن عطاءهم في ظاهر الأمر،كان بضعة أقراص من شعير..لكن الحقيقة هي أن في هذه الأقراص،كل حياتهم،و كل وجودهم،و كل الطهر،و الإيمان و الإخلاص..

ص: 223

7-السائلون..هل هم مسلمون؟!:

و قد يحاول البعض أن يدعي:أن المسكين،و اليتيم،و الأسير،كانوا من المسلمين.

و نقول:

إنه لا مبرر لهذا التخصيص،و لا دليل يثبته،بل إن الأمور التي ركزت الآيات عليها ترجع إلى شعور إنساني فياض،و نبيل،لا يفرق بين مسلم و غيره،فإن لكل كبد حرّى أجر،و من خلال هذا الشعور الإنساني يتحرك الإنسان في الاتجاه الصحيح،يرفده بالدفقات الروحية و بالمشاعر الإنسانية حتى يبلغ به إلى الهدف الأقصى،و هو أن يصبح عمله كله للّه سبحانه..

هذا كله فضلا عن أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن الأسير الذي سأل هؤلاء الصفوة فأعطوه..قد أسره المسلمون أنفسهم،و لم نجد في تاريخ الإسلام أن أحد المسلمين قد أسره الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]مع المشركين حتى احتاج إلى زيارة بيوت الناس للاستجداء..

8-الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى:

و بعد..فإن هذه الآية قد ذكرت المسكين أولا،ثم اليتيم،ثم الأسير..

و لكننا نجد أنه تعالى حين يعدد أصناف المستحقين للزكاة و الخمس..

رتبهم بطريقة مختلفة،فهو يقدم الفقراء،أو اليتامى مثلا على المساكين..

فما هو السبب يا ترى؟!

و قد يمكن الجواب عن هذا:بأن النظر في تلك الآيات المباركة يحتاج إلى إثبات أن هذا الصنف مستحق لهذا القسط من الخمس..أو الزكاة،أو الصدقات.و ليس ثمة أي اختلاف في ناحية المقدار فيما بين جميع الأصناف.و قد جيء بالعناوين لمجرد أن تكون مشيرة إلى

ص: 224

موضوعاتها،ليتعلق الحكم بها.

و لكن الأمر هنا ليس كذلك،إذ إن لنفس هذه العناوين دورا في إفهام الخصوصيات المطلوبة في المعنى الذي هو بصدد بيانه و التأكيد عليه،و هو ذلك المعنى الإنساني الإلهي العظيم،الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه..

9-الإكرام أم الإطعام؟:

و قد ركزت هذه الآيات على إطعام اليتيم،و لكنه تعالى في آيات أخرى قد تحدث عن إكرامه..

ثم إنه تعالى حين تحدث عن إطعامه أخّره بالذكر عن المسكين.

و لكنه حين تحدث عن إكرامه قدمه بالذكر على المسكين،فقال: كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (1).

و قال تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (2).

فالدعّ هو الدفع..و عدم التقبّل..و هذا يعتبر عدوانا على من يفترض في الإنسان المتوازن أن يبادر إلى الترحيب به و إكرامه..

و عدم الحض على طعام المسكين يأتي في المرتبة التالية..لأن الحالة الظاهرة في المسكين هي حاجته لما يزيل حالة السكون الناشئة عن شدة حاجته..

أما اليتيم فإنه بحاجة إلى المعالجة الروحية،و إلى أن يخرج من

********

(1) سورة الفجر الآية 18.

(2) سورة الماعون الآية 2.

ص: 225

دائرة الصدمة،و الخوف من المستقبل،و أن يشعر بأنه ليس وحده في هذه الحياة،بل الجميع معه،و إلى جانبه..

فلا بد من ذكره أولا،لأن سلامة الحالة النفسية،هي الأهم..و بها يكون قوام و سلامة شخصيته..فكيف إذا كان هناك دعّ له،و ممارسة درجة من العدوان عليه.

أما حين تكون القضية مجرد قضية الحاجة إلى المال..فإن الأولوية إنما تكون لمن تشتد حاجته للمال..و المسكين هو الحالة الأصعب بالنسبة لليتيم،و الأسير..

10-قصة الإطعام..و هدف السورة:

هذه السورة تتحدث عن النشأة الإنسانية،و مسيرتها إلى غاياتها في ظل الهداية الإلهية،لتتجلى من ثم أنوار أشرف المخلوقات،من سماء الكرامة و المجد،لتضيء هذه الحياة بأنواع الهدايات إلى صراط اللّه العزيز الحميد..

و قد ذكر اللّه سبحانه ذلك،تارة بطريقة البيان لمنازل كرامتهم،و تارة أخرى بأسلوب التجسيد الحي،الذي تتجلى فيه كمالاتهم،و إنسانيتهم، موقفا و سلوكا،و طريقة حياة..

فجاءت قصة إطعامهم اليتيم و المسكين و الأسير،لتجسد أمام عين الإنسان تلك المضامين.لكي يحس بها،و يتلمسها،و يتمازج لديه المحسوس بالمعقول،ليكون ذلك أوقع في النفس،و أشد في الإقناع، و أرسخ في اليقين..

تبدل السياق:

ثم تبدل السياق،من الحديث بصيغة الغائب:يوفون،يخافون،

ص: 226

يطعمون..إلى صيغة المخاطب: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ .

و لكن طريقة التغيير في السياق،قد جاءت فريدة و متميزة،إذ إنه لم يذكر هنا أي نحو من الأنحاء التي يتم بها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب!!

فهل يريد أن يقول:إن لسان حالهم هو هذا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ؟!.

أم أنه يريد أن يقول:إنهم كانوا يقولون للسائلين هذه الكلمات؟!..

فإن كان سبحانه و تعالى،قد قال ذلك على سبيل أن هذا هو لسان حالهم،فنقول:إن ذلك يحتاج إلى أن يقترن بشاهد يبينه،فإذا قال الراوي،مثلا:إن لسان حال الإمام الحسين[عليه السّلام]هو:

إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني

فشاهد ذلك هو تضحيته عليه السّلام،بأخوته و بولده،حتى الطفل الرضيع،و صبره على آلام الجراح..

و في واقعة إطعام الطعام-تجد أن هناك ما يشهد للسان الحال هذا، فإن حياتهم[عليهم السّلام]كلها للّه سبحانه،و في سبيله..كما أن نفس المفردات و الخصوصيات التي قررناها في شرحنا لحال الباذلين،و لحال السائلين تشهد بذلك أيضا.

و إن كان المراد بالآيات هو أنهم[عليهم السّلام]كانوا يقولون- فعلا-للسائلين هذه الكلمات: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ، فقد يكون الوجه في ذلك هو أنهم[عليهم السّلام]كانوا يريدون للسائلين أن يطمئنوا إلى أنهم سيعاملونهم بما يحفظ لهم ماء وجههم و كرامتهم،إذ إنهم لا يريدون منهم جزاء،بل هم لا يريدون منهم حتى الشكر،و لو

ص: 227

بأدنى حالاته،و أقل مستوياته..

و لكن..أن يصدر هذا القول منهم،لكل سائل أتاهم،فذلك قد يكون غير مألوف.

و الذي نراه هو:أن من الممكن أن يكونوا قد قالوا لهم ذلك،حين رأوا علامات الدهشة و الخجل ترتسم على وجوههم،و هم يرون هذا الإيثار العظيم من هؤلاء الصفوة،فتأتي هذه الكلمات لكي تطمئنهم إلى أنهم غير مطالبين برد هذا الجميل،لأنهم إنما يطعمونهم لوجه اللّه تعالى..

إن الإحسان حسن في حد ذاته،و لكن شرط أن لا يشعر السائل بالمن و الأذى..لأن السائل شديد الحساسية تجاه من يعطيه،حتى إنه قد يفسر احترامه له على أنه حركات تهدف إلى تذكيره بما أعطاه.

فإعلامه بأنه لا منة لأحد عليه،إحسان آخر إليه،فكيف إذا بلغ ذلك حدا جعله يشعر بأنه هو المتفضل على من أعطوه،لأنه كان سببا في نيلهم الثواب و الفضل عند اللّه تعالى،فإن ذلك سوف يؤنسه،و يدخل السرور و البهجة على قلبه..

و لأجل ذلك كان يهتم الأئمة[عليهم السّلام]بالتزام سرّية العطاء، حتى إن الإمام السجاد[عليه السّلام]كان يعول مائة أهل بيت،يحمل لهم ليلا أجربة الدقيق على ظهره،و لم يعرفوه حتى مات (1).

********

(1) راجع:سفينة البحار ج 6 ص 245 عن مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص 293،و الكافي ج 1 ص 468،و العلل ج 1 ص 232 و الخصال ص 517 و الوسائل ج 9 ص 397 و 402 و غيرها من المصادر.

ص: 228

فالأئمة[عليهم السّلام]يريدون بذلك أن يصونوا السائل عن أن يفكر بطريقة خاطئة.

أسئلة تحتاج إلى جواب:

هناك عدة أسئلة وجهها أخ كريم،نذكرها،ثم نجيب عليها،و الأسئلة هي التالية:

السؤال الأول:

إن مجتمع المسلمين آنئذ كان لا يزال صغيرا و محدودا،و كان النبي صلى اللّه عليه و آله قد آخى بين المسلمين على الحق،و المواساة..

و من الواضح:أن من أجلى مظاهر ذلك هو المواساة بالمال،حيث يبادر كل منهم لمعونة أخيه،بمجرد رؤيته لعجزه،أو لضعفه،أو حاجته..

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحث الناس باستمرار على التكافل و التعاون،و قضاء حاجات بعضهم البعض،و لم يكن صلّى اللّه عليه و آله، ليرضى أن يكون في حضرته محتاج.أو ليسمح بنشوء حالة من هذا القبيل..

لا سيما و أنه مظهر يوجب الشك و الترديد في واقعية و صدقية التوجيهات الإسلامية،مثل ما ورد عنهم عليهم السلام:لو مثل لي الفقر رجلا لقتلته.. (1).

و قوله:«ما آمن باللّه و اليوم الآخر،من بات شبعانا و جاره جائع..» (2).

********

(1) شرح إحقاق الحق ج 32 هامش ص 213 عن كتاب علي إمام المتقين ج 2 ص 23 النظام السياسي في الإسلام ص 247.

(2) بحار الأنوار ج 74 ص 191،وسائل الشيعة(الإسلامية)ج 12 ص 153.

ص: 229

السؤال الثاني:

لو أن المسلمين لم يقوموا بواجبهم،تجاه إخوانهم..فإن المفروض:

أن يتكفلهم النظام الإسلامي المتمثل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فينفق عليهم من أموال الدولة..تماما،كما نقل عن الإمام علي عليه السّلام،حين رأى رجلا من أهل الكتاب يسأل الناس،فقال:«أ لم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي هذا و أمثاله؟!»..

السؤال الثالث:

و سؤال يطرح نفسه أيضا:و هو أنه كيف يكون الذي جاءهم في المرة الثالثة أسيرا،و يكون طليقا يدور على البيوت،حتى بعد دخول الليل؟!أ لا يحتمل أن يبادر إلى الفتك ببعض المسلمين؟!أو إلى الغدر بهم،في بعض مجالات حياتهم ثم الهرب؟!..

و قد سجل لنا التاريخ:أن العباس كان موثقا بعد أسره؟!و لم ينم النبي صلّى اللّه عليه و آله،لأنه كان يسمع أنين العباس في وثاقه.فلما أرخوا من وثاقه،و سكن أنينه،نام صلّى اللّه عليه و آله..

السؤال الرابع:

أنه إذا كان أسيرا،فلما ذا يكون هو المسئول عن تحصيل لقمة عيشه؟!أ ليس من المفترض أن يكون المسئول عنه هو النظام الذي أسره؟!..فيتولى هو إطعامه،و الإنفاق عليه،و تأمين مختلف حاجاته، و منها الملبس،و المسكن،و غير ذلك؟!..

السؤال الخامس:

لما ذا أتاهم واحد من هؤلاء في كل ليلة؟!ثم لم يرجع إليهم أحد منهم في الليلة التالية،و التي بعدها؟!..

ص: 230

جواب السؤال الأول:

نجيب بما يلي:

أولا:إن المسلمين في تلك الفترة كانوا قلة قليلة،و لم يكن لديهم مصادر للتوسع في العيش،ثم العود بالفضل على إخوانهم،و ليس فيهم أغنياء بالمستوى الذي يسمح باستئصال جذور الفقر و الحاجة في مجتمعهم..

و كانت مسئولياتهم أكبر من قدراتهم،و قد أضافت الحروب أعباء أخرى أثقلت كواهلهم،بما كانت تحتاج إليه من نفقات،مع ما توجبه من توقف عن العمل..ثم ما تحمله لهم من مشكلات اجتماعية، و اختلال علاقات،بالإضافة إلى فقد بعض العوائل للكافل و المعين، و ابتلاء بعض المقاتلين بإعاقات بدنية،أو نقص بعض الأعضاء،و ما إلى ذلك..

ثانيا:إن التاريخ يحدثنا عن فترات من القحط الشديد،كان الناس يبتلون بها آنئذ،و كان ذلك يضر بالحالة العامة،و يزيد من صعوبة حصول الناس على ما يتبلغون به،بل يذكرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه كان يشد الحجر على بطنه من شدة الجوع.. (1)و لعل قضية هؤلاء قد حصلت في هذه الفترة..

جواب السؤال الثاني:

نجيب بما يلي:

بأن تكفل النظام الإسلامي للمحتاجين،و الاستشهاد بقول أمير

********

(1) بحار الأنوار ج 12 ص 28 و ج 16 ص 227 مناقب أمير المؤمنين ج 1 ص 58.

ص: 231

المؤمنين عليه السّلام،يدل على ما نقول،إذ إن فعل أمير المؤمنين عليه السّلام قد أظهر:أن بيت مال المسلمين،كان هو الذي يتكفل بمعالجة مثل هذه الحالات..

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله،هو سيد المسلمين،و هو أولى الناس بالعمل بهذا المفهوم الإسلامي الرصين،فلما رأيناه لم يفعل ذلك علمنا:أن بيت مال المسلمين كان في تلك الفترة عاجزا حتى عن معالجة مثل هذه الحالة،بسبب عدم وجود المال فيه..حسبما أشرنا إليه..

جواب السؤال الثالث:

نجيب بما يلي:

أن الأسير إذا كان قادرا على العمل،و على السعي بنفسه،فما الذي يمنع من أن يفسح له آسره المجال لطلب لقمة عيشه بنفسه،فيخفف من درجة أسره من أجل ذلك..

فإذا أعطاه قسطا من الحرية،فإن ذلك يفرض عليه أن يعطي في مقابل ما حصل عليه من حرية محدودة،امتيازا للطرف الآخر على شكل مال يقدمه له،أو عمل يقوم به،أو أي شيء آخر..

و يكون إيكال أمر معيشته إليه في هذه الحالة هو أدنى ما يمكن أن يقوم به لنفسه،و لكن لا يصح أن يعد ذلك في جملة ما يتوجب عليه تقديمه،مقابل ذلك القسط من الحرية.و إلا فقد كان يمكن لآسره أن يحتفظ به في غياهب السجون،و ليس لأحد أن يلومه في ذلك..

جواب السؤال الرابع:

نجيب بما يلي:

إنه ليس من العدل أن يقاتل الأسير أهل الحق،و يعتدي على

ص: 232

كرامتهم،و أرواحهم،و يسعى في إبطال دين اللّه،و إلى أن يسلبهم الحق الذي جعله اللّه تعالى لهم،في العيش بكرامة،في ظل رعاية اللّه،و رفض حكم الطاغوت،و التحرر من هيمنة الباطل و أهله..

نعم..ليس من العدل أن يفعل هو ذلك،ثم يكلّف هؤلاء المظلومون،المعتدى عليهم،بالإنفاق عليه،و بذل أموالهم في سبيله، لمجرد أنهم استطاعوا أن يبطلوا كيده،و أن يمنعوه من مواصلة العدوان..

خصوصا،إذا كان لا يوجد ما يضمن عدم معاودته الكرة عليهم،بمجرد امتلاكه عناصر القدرة على ذلك،و ارتفاع الموانع..

و مع غض النظر عن هذا و ذاك،نقول:إن الواجب هو الإنفاق على الأسير،حيث تتوفر القدرة على ذلك..أما مع العجز،فإن إعطاء بعض الحرية،ليتولى هو بنفسه شئون نفسه،لا بد أن يعتبر من أعظم الإحسان إليه،و من مظاهر التفضل عليه..

إن الحديث عن مسئولية النظام الذي أسره عنه،غير دقيق،و ذلك لما يلي:

أ:إنه لم يكن هناك أي مبرر لنشوء بيت مال للمسلمين،في تلك الظروف الصعبة التي ألمحنا إليها..

ب:إن الإسلام يرى:أن للآسر حقا في الأسير،و في فدائه،ما دام أنه هو الذي تمكن من أسره..خصوصا في ذلك الزمان الذي كان قتل الأعداء و أسرهم مستندا إلى فعل الأشخاص مباشرة،و هو نتيجة جهدهم،و تضحياتهم،و بطولاتهم..

و حتى في هذه الأيام،فإن المفروض هو إيجاد صيغة تسمح لكل من شارك في الحروب المشروعة بأن يستفيد من غنائمها،على أن

ص: 233

تتناسب تلك الصيغة مع المستجدات في سياسات الحروب..و لهذا البحث مجال آخر..

جواب السؤال الخامس:

و أما بالنسبة للسؤال الخامس،فإننا نقول:

قد يكون السبب في عدم عودتهم لطلب المعونة من أهل البيت الظاهر في اليوم التالي،هو اكتفاؤهم بما أعطوهم إياه لأكثر من يوم..أو يكون السبب هو وقوفهم على الواقع الصعب الذي كان يعيشه أولئك الصفوة..و قد يكون السبب غير ذلك..

***

ص: 234

الفصل التاسع: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً

اشارة

ص: 235

ص: 236

قال تعالى:

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.

«إنّما»:

ثم إنه تعالى قد بين أن الغاية التي كان يتوخاها أولئك الأبرار من إطعام الطعام محصورة في أنها وجه اللّه سبحانه..و ذلك من خلال كلمة «إنّما»الدالة على الحصر.

«نطعمكم»:

و قد جاء التعبير ب«نطعمكم»،و لم يقل:«نعطيكم»،لأن اللذة الحقيقية للباذلين و أنسهم،إنما يكون في أن يأكل السائلون هذا الطعام دونهم..

و ليست لذتهم في مجرد البذل و الأخذ،لأنهم أرادوا أن يكون أكل السائل لذلك الطعام بديلا عن أكلهم هم له.

«لِوَجْهِ اللّهِ »:

و قد قال تعالى: «لِوَجْهِ اللّهِ »، و لم يقل: «نطعمكم لله » لأنه يريد أن يفهمنا:أن المقصود هو جعل الشيء باتجاه اللّه،بمعنى إحداث صلة له به تعالى،ليكون مقربا إليه.و بإحداث هذه الصلة..يصبح ذلك الفعل متصلا بالمطلق و اللامتناهي.و بالباقي غير الزائل،فيكتسب منه صفة الإطلاق و البقاء.و لعل هذا هو المقصود من قوله تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ .

ص: 237

و لو قال: «نطعمكم لله »، فإن هذا المعنى الدقيق،سوف يضيع،إذ ليس المراد أننا نطعمكم لأجله سبحانه،و إكراما له،و محبة به..

بل المراد:أن نجعل الطعام متصلا به،مكتسبا منه صفة البقاء و اللاانتهاء،و اللامحدودية..

و ثمة فهم آخر لقوله تعالى: لِوَجْهِ اللّهِ ، و هو أن يكون المراد:أن الإطعام قد كان لأجل الحصول على إقبال اللّه تعالى عليهم بوجهه الكريم الرحيم،و بكل أسمائه و صفاته.

بمعنى أن اللّه سبحانه يقبل بوجهه،أي بألطافه و رحماته،و نعمه، و خيراته،و رعايته،و عنايته على المطعم،و العامل..و لذلك قال سبحانه:

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ .. أي ستجدونه تعالى مقبلا عليكم بألطافه التي تعرفكم إياه،بنحو من أنحاء التعريف،فإن وجه الشيء،هو ما يعرف الشيء به،و يستدل به عليه،قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ .. لأن عمل الخير متصل به تعالى..باق ببقائه..لأن الهالك هو ما ليس فيه جهة إلهية تمنحه البقاء.

لما ذا الحصر ب«إنّما»؟!:

و قد سأل سائل عن سبب اختيار كلمة«إنّما»لإفادة الحصر،دون الحصر بما و إلا..فلم يقل:ما نطعمكم إلا لوجه اللّه تعالى..

و نقول في الجواب:

هناك إجابتان على هذا السؤال،هما:

الأولى:أن الحصر ب«إنّما»هو الراجح،بل المتعين هنا،و قد يمكن تقريب رجحانه،بالقول:إن كلمة«إنّما»صريحة في إثبات حصر الإطعام بوجه اللّه،من بداية الكلام إلى نهايته.

ص: 238

و أما الحصر بما و إلا،فهو يبدأ بالنفي للإطعام.ثم يعود إلى حصره، و إثباته في دائرة وجه اللّه سبحانه..

و من الواضح:أن السائل متلهف لسماع كلمة الإيجاب،فلا يحسن استقباله بالنفي لأحب شيء إلى قلبه،و هو الإطعام.فإن ذلك سوف يثير رعشة خوف في القلب و لو للحظة..و لا يريدون[عليهم السّلام]لهذه الرعشة أن تكون.لمزيد من الرأفة منهم،و الرحمة بالسائل..

و الحفاظ على مشاعر السائلين،و لو بهذا المقدار،يعتبر إحسانا آخر بالقول إليهم،يضاف إلى الإحسان بالفعل..و سيزيد ذلك في سرورهم، خصوصا إذا كان هذا قد قيل للسائلين فعلا،و ليس هو مجرد لسان حال يحكيه اللّه سبحانه لنا عنهم.

الثانية:إن الحصر بواسطة«إنّما»يأتي نصا في المطلوب..أما الحصر بواسطة ما و إلا،فإنه لا يحسم الاحتمالات التي تثير مخاوف السائل حتى بعد إكمال عناصر الحصر..

فإنك إذا قلت له:لا أطعمك إلا في هذه الحالة..فقد يفهم السامع من ذلك:أنه سيحرم من الطعام،و يمنع منه في سائر الحالات..

و لكن إذا قلت:سوف أطعمك على كل حال،لكن نيتي و هدفي هو كذا و كذا،فالهدف من الإطعام هو مورد الحصر..و ليس نفس الإطعام.

القيد التوضيحي:

و هنا سؤال هو:هل إن قولهم: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً قيد توضيحي أو احترازي؟!،قد يقال:إنه توضيحي لأنه إذا كان الإطعام سينتج للمعطين اتصالا بمصدر النعم و الألطاف،و سيوجب لهم نيل أعظم المكافآت،و هي مكافئات باقية،نامية،زاكية،لأنها متصلة بالمنعم الباقي،

ص: 239

و بالمطلق،و اللامتناهي،و إذا كان ما ينفقه الناس من خير يوف إليهم،فلا يبقى مورد للجزاء من قبل السائل الآخذ،لأن الجزاء قد حصل،و هو جزاء واف«يوف إليكم»،فالمطالبة بجزاء آخر،تكون مطالبة جزافية،بل و ظالمة أيضا.

و كأنك قلت:«إنما نطعمكم لا نريد الجزاء»،ثم قدمت الدليل القاطع على ذلك،و هذا الدليل هو أن معرفتك باللّه راسخة و عميقة،و قد أصبحت أعمالك خالصة له..و من كان كذلك،فلا يعقل أن يريد جزاء أو شكورا من غيره تعالى..

و هذا المستوى من إزالة الشوائب،و دفع الأوهام،يجعل العمل أكثر صفاء،و يجعل العطاء طيبا..

بل إن الأمر بالنسبة إلى الشكور أبين و أظهر،إلى حد أنه قد يقال:

إن الذي ينبغي أن يقدم الشكر هو المعطي،لأن السائل قد هيأ له فرصة لنيل أعظم الكرامات،و أسنى العطايا الإلهية،و أفضلها..فينبغي عليه أن يكافئه،و أن يشكره..

و قد ظهر بذلك:أنه ليس هناك موضوع للشكر و لا للجزاء،لتتعلق به الإرادة.إلا على سبيل الطموح و الطلب لأمر لا مبرر للطموح إليه،و لا معنى لطلبه و السعي إليه،لانتفاء الاستحقاق للجزاء،و عدم وجود مورد للشكر..

و من جهة أخرى،فإنه قد يدخل في و هم الناس:أن الناس في إطلاقهم للتعميمات لا يلتزمون جانب الدقة،و لا يراعون الحدود،بل يكتفون بالصدق العرفي،و لا يلتفتون إلى الأفراد القليلة التي تخرج عن طريقة الأعم الأغلب،بل يلحقونها بالعدم،و يعتبرون أنها غير موجودة.

ص: 240

فيأتي هذا القيد هنا ليؤكد على:أن عملهم قد كان لوجه اللّه في كل مراتبه و حالاته،و أن ذلك متحقق في جميع أفراده مائة بالمائة،و لم يشذ عنه و لو مفردة واحدة..

لما ذا قال:«لا نريد»؟:

ثم إنه تعالى قد نفى هنا إرادة الجزاء،و إرادة الشكر..و لم ينف نفس الجزاء،و الشكر،فلم يقل:إنما نطعمكم لوجه اللّه،لا للجزاء،و لا للشكر..بل قال: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً..

و لعل سبب ذلك أنه لو قال:نطعمكم لا للجزاء و لا للشكر..قد يفهم منه:وجود استحقاق للجزاء و مبرر للشكر،لكنهم صرفوا النظر عنه.

و من شأن هذا أن يحمّل السائل منّة جديدة لهم عليه،و أن يزيد في إحراجه..

و لكنه حين قال:لا نريد،فإن ذلك قد يفهم منه:أنه بصدد الاستدلال لهم على انتفاء تلك الإرادة،إذ إن كون العمل لوجه اللّه،قد أسقط استحقاقهم للجزاء و للشكر من أساسه.فنفي الإرادة إنما هو بسبب انتفاء متعلقها،و هو الاستحقاق.

و لو قال:إننا نفعل ذلك،لكن ليس لأجل الجزاء،فإن ذلك معناه أن الجزاء ثابت لنا،و نحن نستحقه،لكننا لا نقصده حين الإعطاء،مع أن الهدف هو أن لا يلوّح للسائلين حتى بهذا الأمر..حسبما أوضحناه.

«لا نريد»مرة أخرى:

و ثمة إشارة أخرى هنا،و هي أنهم يقولون:«لا نريد»و لا يقولون:«لا نطلب منكم جزاء».

و لعل سببه هو أنك إذا قلت:لا أطلب منك جزاء و لا شكورا.

ص: 241

فذلك يختزن احتمالين:

أحدهما:أنك تستحق الجزاء و الشكر،و لكنك لا تطلبهما منه.و لعله لو أعطاك الجزاء من عند نفسه،فلا تكون منزعجا،بل قد تكون مسرورا.

الثاني:أنك لا تريد ذلك،بسبب عدم الاستحقاق،فهو من قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها.و حيث إن هذا النوع من القضايا مما لا ضرورة لإجراء الكلام على وفقه،فينحصر الأمر في الاحتمال الأول..

«لا نريد»مرة ثالثة:

و هنا أيضا سؤال آخر في الآية،و هو أنه لما ذا قال تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً..

و لم يقل:لا تجازوني و لا تشكروني،أ لا يكون ذلك أوقع و أشد في رفض الجزاء و الشكر،و في تطمين السائلين إلى سلامة النوايا؟!..

و يمكن أن يجاب:بأن هذا التعبير«لا تجازوني،و لا تشكروني» يستبطن تعليما سيئا،و خطأ جسيما..لأن المفروض بالإنسان هو أن يعيش المعاني الإنسانية في داخل ذاته،و أن يشعر مع الآخرين، و يشاركهم في قضاياهم..

و قولك له:أريد منك أن تكون غير شكور و غير شاعر بالامتنان تجاه من يحسن إليك،يماثل قولك له:أريد أن لا تكون إنسانا،يشعر بقيمة الإحسان.

فكأنك تقول له:انقض أحكام عقلك،و فطرتك،و أخلاقك،و لا تصغ لقوله تعالى:

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ !!

فهل يعقل هذا؟!..

ص: 242

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ »:

و الناس حين يسخون و يبذلون أموالهم للمسكين،أو اليتيم،أو الأسير،قد يفكرون،أو يفكر بعضهم:أن يكون هذا المسكين،أو ذلك اليتيم،و حتى الأسير عونا و سندا،و عضدا لهم في يوم ما،و لو بأن يؤيدهم في موقف،أو يرد عنهم،و لو بكلمة..أو يحسّن صورتهم أمام الآخرين..و قد يصبح الأسير أقل تحمسا للعودة إلى مناجزتهم الحرب في مستقبل الأيام.لا لأجل القناعة الفكرية بما هم عليه،بل لأجل هذا الإحساس بالمديونية للباذلين..

و لكن هذه الآيات الشريفة،قد أظهرت أن هؤلاء الباذلين لا يريدون ممن يبذلون له،ما هم أحوج إليه منه،جزاء،و لو بهذا المقدار،بل حتى و لو في حد الشكر..و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى..

بل إن الأهم في هذا البيان القرآني،و الهدي الإلهي،هو أنه تعالى يريد أن يبين لنا كيف يريد الإسلام أن يصنع قلب الإنسان،فهو يريده رءوفا،رحيما،عطوفا،ودودا ،فياضا بالحب،زاخرا بالمشاعر الإنسانية، عامرا بالإيمان باللّه،مؤثرا له على كل شيء في هذا الوجود.

إن الإسلام يريد أن يغرس ذلك في كيان الإنسان،و في عمق وجوده،ليصير هو العنصر الفاعل و الحي في تكوينه الداخلي.إذ إن إنسانية الإنسان لا تفرض عليه قسرا،كما أنها لا تأتيه مجانا..و بلا طلب و سعي و جهد..بل هي تحتاج في الحصول على كثير من ميزاتها و خصائصها إلى المبادرة و الاختيار منه،و إلى جهد،و عمل،و كد،و تعب، و بذل..و عطاء..

كما أن ما يكون كامنا في فطرة الإنسان،و ما يفيضه اللّه عليه ابتداء،

ص: 243

يحتاج أيضا إلى حراسة و حفظ،و تهيئة الظروف الموضوعية لبقائه،قويا و سالما،و فاعلا و متناميا.

فإذا قصر في ذلك كله،فقد لا يحصل على شيء جديد..و قد يخسر أيضا أو يشوّه ما أعطاه اللّه إياه ابتداء،أو باقتضاء الفطرة،و ربما نجده يحاول أن يسقطها،أو أن يبعدها عن دائرة التأثير في أكثر من موقع،وفقا لما روي عن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه،أو ينصرانه،أو يمجسانه.

أما الحيوان فلا دور له في الحصول على خصائصه الحيوانية،و لا في تنشئتها و ترشيدها،و لا في حفظها،و حراستها،أو خسرانها، و تشويهها.

لا رياء و لا سمعة:

و على كل حال،فإنه حين لا يسعى الإنسان للجزاء و لا للشكر،فإن الرياء لن يجد طريقه إليه،و سيكون عمله للّه،و للّه فقط،و لا مجال بعد لأن يتخذ من عطائه و بذله ذريعة لإظهار شخصيته،و اكتساب السمعة عن هذا الطريق.لأن هذا يدخل تحت عنوان الجزاء.كما أنه لا يسعى لأن يعترف المبذول له بالفضل،و أن يلهج بالحمد و الثناء عليه،لأن ذلك يدخل في الشكر،الذي لا يريده ذلك الباذل..

و قد قلنا:إن قوله تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً قيد توضيحي لقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ .. لأن إرادة الجزاء و الشكور تمنع من أن يكون الإطعام خالصا لوجه اللّه تعالى.

«منكم»:

و أما لما ذا قال تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً؟!، و قد كان يمكن أن

ص: 244

يقول:لا نريد جزاء.

فجوابه:أنهم[عليهم السّلام]يريدون الجزاء،و لكن لا من السّائلين،بل من اللّه سبحانه.و قد صرحوا بذلك حين قالوا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ..

فإرادة الجزاء و الشكر من الناس غير محبذة،بل هي نقص أحيانا، و لكن طلبها من اللّه سبحانه عين الكمال،لأنه إنما يطلب-في واقع الأمر-رضا اللّه سبحانه،و يسعى للفوز بكرامته،و ألطافه،و حبه،و رعايته، و رفعة شأنه لديه.

«جزاء»لما ذا؟!

و نلاحظ هنا:أن كلمة«جزاء»تختزن الإشارة إلى عدة أمور،هي:

1-تنوين التنكير:

إن كلمة«جزاء»قد جاءت مع تنوين التنكير لتفيد:التعميم لكل أفراد أو أنواع الجزاء،على سبيل البدل،فجميع أفراد و مقادير و أنواع الجزاء غير مرادة،فلا نطلب منه قليلا و لا كثيرا،و لا عظيما،و لا حقيرا، و لا نوعا دون نوع،و لا فردا منه دون آخر..

2-الجزاء هو مقتضى العدل و الحق..

و الجزاء أمر يحكم به العقل،و تقضي به الفطرة،كما ألمح إليه قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ، فطرح الآية لهذا السؤال،كأن فيه إرجاعا إلى الوجدان و إلى الفطرة الإنسانية،مما يعني أن هذا السؤال لو طرح على ملحد لأجاب بنفس ما يجيب به المؤمن الموحد..

3-تقديم الجزاء لما ذا؟!

و أما لما ذا قدم ذكر الجزاء على الشكر،فلعله لأجل أن الجزاء هو

ص: 245

الإتيان بما يعادل الفعل الذي في مقابله..فإذا أعطاك مائة،فالجزاء لا بد أن يكون مائة.

و هذا هو أول ما يطلبه الباذل،و يطالب به،و يسعى إليه،و لذا كان المناسب أن يبدأ به قبل أن يذكر الشكر.

أيهما أصعب!!

و قد يقال:لعل تقديم الجزاء،لأجل أن إعطاء البديل و الجزاء،قد يكون أصعب من تقديم الشكر،الذي هو خفيف المئونة..

و لكننا نقول:

إن ذلك غير دقيق..فإن الشكر ليس مجرد تحريك اللسان بكلمات الثناء و العرفان بالجميل،بل هو أمر قد يكون أصعب على بعض النفوس،من إعطاء المقابل مهما كان عظيما..لأن الشكر يمثل أحيانا اعترافا بالأخذ،و يدعو إلى إظهار الشعور بالامتنان،لمن قد لا يحب المبذول له أن يقوم به تجاه بعض الباذلين..

و ربما يبلغ الأمر حدا يجعل إعطاء الجزاء و الخروج من حالة الشعور بالمديونية،أيسر على النفس من إبقاء هذا الشعور.

الجزاء مرتبط بالشكر و عكسه:

و الجزاء له صفة مادية،و هو أمر يتطلبه العدل و الحق.أما الشكر فطابعه معنوي أخلاقي،تفرضه إنسانية الإنسان،و يدعوه إليه خلقه، و مشاعره،و حالته النفسية..

فإذا أعطى الجزاء و المقابل،فذلك لا يعفيه من شكره،من الناحية الأخلاقية،و لا يزيل حالة الشعور بالامتنان..

ص: 246

و معنى ذلك:أن نفي الجزاء بقوله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً.. لا يعني أنه لا يطلب الشكر،و لذا احتاج إلى التصريح بأنهم كما لا يريدون الجزاء،كذلك هم لا يريدون الشكر أيضا.

و لكن لو طلب الباذل الشكر،فذلك معناه أنه لا يريد الجزاء و المقابل..

و لذلك نجد العقلاء لا يستسيغون من الباذل الذي يطلب الشكر،أن يطلب الجزاء بعد ذلك..بل هم يقبحون طلبه هذا..و لكنهم لا يقبحون طلب الشكر بعد الحصول على الجزاء.

الشكور:

قلنا:إن الجزاء هو مقتضى الحق و العدل..و العدل مرحلة لا بد من إنجازها،ليتوصل من خلالها إلى ما هو أرقى،و أسمى منها..

غير أن العدل يمثل الخط الذي لا بد من الالتزام به،ليتمكن الإنسان من الخروج من دائرة الخطر و الهلاك.

لكن درجات الصعود على السلم للوصول إلى الغايات السامية، تحتاج إلى جهد،و عمل آخر يتمكن الإنسان من خلاله من الصعود عليها،درجة إثر درجة،و لهذا صح تشريع الجهاد،و صح طلب الإيثار على النفس،الذي مدحه اللّه سبحانه بقوله: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ..

و ذلك لأن إعطاء الإنسان ماله لغيره،يحتاج إلى دافع قوي،حتى لو كان المعطي غير محتاج إلى ذلك المال..

أ ما كان هو محتاجا له..فإن إعطاءه للغير يحتاج إلى دافع أقوى و أشد،ليقدم حاجة غيره،على حاجة نفسه.و هذا هو الإيثار الذي

ص: 247

أشارت إليه الآية المباركة..

فاذا كانت حاجته إليه ماسة جدا،فإن بذله للغير يصبح في غاية الصعوبة.

فإذا طلب منه أن يبذله لغيره،حتى في هذه الحال،فذلك يعطينا:أن الهدف ليس هو العدل،بل ما هو أسمى من العدل.ألا و هو بناء إنسانية الإنسان،و صياغة مشاعره لتكون مشاعر نبيلة و طاهرة.ثم السمو بفكره و بطموحاته،و فتح الآفاق الرحبة أمامه،بالإضافة إلى تربية وجدانه،و رفع مستوى إحساسه النبيل،و شحنه بالعاطفة الفياضة،بالخير و العطاء.

لما ذا«شكورا»؟!:

و لعلك تسأل لما ذا قال: «وَ لا شُكُوراً». و لم يقل:«و لا شكرا»..

و قد يجاب عن ذلك،بأن الشكر مصدر يدل على أصل طبيعة الشكر،التي قد تتجسد بأي فرد كان.أما الشكور فهو مصدر أيضا، كالدخول و الخروج،فلا فرق بينه و بين الشكر في المعنى.

فنفيه بأي منهما إنما يكون نفيا للطبيعة.و نفي الطبيعة إنما يتحقق بانتفاء جميع أصنافها و أفرادها.

و لعل اختيار هذه الصيغة دون تلك،من أجل تحقيق التناسب اللفظي بين الآيات..

و نقول:

إن هذا،إنما يفرض في صورة ما،إذا قبلنا ما قاله المفسرون،من أن كلمة شكور مصدر.و قد جاء على غير قياس،مثل:قعود.

و أما إذا قلنا:إنها جمع شكر،مثل:برد،و برود،فهي جمع للمصدر، الذي هو الشكر.فالمعنى:أننا لا نريد منكم أي نوع من أنواع الشكر،

ص: 248

فيصير نفي إرادة الشكور من الباذلين،أشد من نفي إرادة الشكر،لأن النفي يكون متوجها لجميع أنواع الشكر..

و هذا أدل على المراد،و أوفق بالمقصود..

و هو المناسب لمقام الامتنان عليهم من موقع الفيض و العطاء، و الربوبية لهم،و الألوهية المستغنية بذاتها و بصفاتها..

و بذلك يعلم أنه لا مجال لتخيل:أن نفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد، و أن قوله: «لا نريد شكورا».. يجامع قوله:«نريد شكرا واحدا،أو شكرين»..

و بتوضيح آخر نقول:إنه يمكن التعدد في أصناف الشكر كمّا و كيفا، فهناك شكر قلبي،و عرفان بالجميل،و شعور بالامتنان،و هناك شكر لساني،و هناك أيضا شكر عملي..

أما الجزاء فهو نوع واحد،يؤخذ فيه المكافأة بالمثل،و بنفس المقدار..

و اختلاف أشكال و كيفيات المقابلة بالمثل،إنما هو بتراض من الطرفين.أما الزائد من الجزاء،فهو تفضل و تكرم.و الناقص بخس للحق.

و الجزاء تارة يلاحظ فيه الأخذ بالمقابل.ففي مثله يلاحظ مقدار ما يعطى،و مقدار ما يؤخذ.و أخرى يلاحظ فيه الجزاء المقرر،ففي مثله قد يقرر جاعل الجزاء أن يكون الجزاء أكثر من المماثل و المساوي،فيجعل الحسنة بعشرة،أو بسبع مائة،بل يضاعف ذلك لمن يشاء..

ففي مثل هذا المورد،يكون التفضل في أصل الجعل،و بعد الجعل يصبح حقا و جزاء لمن جعل له،يطالب به،و يسأل و يسأل عنه.قال تعالى: إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .

ص: 249

و لكنه حق نشأ عن التفضل،لا عن العدل.أما بعد الجعل فيصير موضوعا للعدل أيضا.

و قد يكون السبب في جعل الزائد هو الإغراء بعمل الخير،و صرف الهمم إليه،أو غير ذلك..

و الحاصل:أنه إذا كان هناك عطاء تفضلي،فمرة تطلب المجازاة عليه،بأن يعطي لفاعله ما يماثله،و مرة يطلب الشكر عليه.

و الشكر قد يختلف و يتفاوت،كما،و كيفا في مراتبه و حالاته..

فإذا أريد نفيه،فلا بد من نفيه بجميع مراتبه و حالاته تلك،سواء في ذلك الأفراد الظاهرة،أم الأفراد الخفية التي قد لا تخطر على بال،فقد تنفي الشكر اللساني،لكن لا تنفي الشكر القلبي،الذي يراه الناس غير قابل للنفي،إما لخفائه،و عدم الالتفات إليه،أو لأنهم يرونه غير قابل للنفي من حيث إنه من مقتضيات خلق و طبع الإنسان،أو لأنه لا يجوز رفضه و رده.

فإذا قال:لا أريد أن تشكرني على الإحسان،فإنما يرون أنه يقصد الشكر اللساني عادة،أو الشكر بواسطة الفعل،و لا يقصد نفي الشعور بالامتنان و التفضل.لأنه غير قابل للإزالة..

أو لأنه ليس من حقه رفضه و ردّه،إذ لا بد أن يكون الإنسان شكورا،لأن ذلك من مكونات شخصيته الإنسانية،التي لا بد من تأكيد وجودها في شخصيته المتوازنة في مزاياها،فلا يصح أن تطلب من الإنسان أن لا يكون شكورا،لأن ذلك يستبطن الطلب منه أن لا تكون لديه مشاعر إنسانية نبيلة،و هو نهي عن التحلي بالفضائل الأخلاقية.

و النهي عن مثل هذا و إزالته من نفس الطرف الآخر معناه إحداث

ص: 250

خلل إنساني و أخلاقي لديه..

فاتضح:أنه إنما يصح أن يقال:لا نريد بعض أصناف أو أفراد الشكور،أي لا نريد الأصناف و الأفراد القابلة للنفي،و التي لا يستلزم نفيها إساءة للأخلاق و للإنسانية.

و لا يصح نفي إرادة طبيعة الشكر فيه،من حيث هي إرادة للطبيعة، لأن نفيها يستلزم نفي بعض الأفراد و الأصناف التي يكون التعرض لها بالنفي مباشرة أو بالواسطة يمثل اساءة للأخلاق و للإنسانية،لأنها تختزن في داخلها قيمة لا بد من حفظها.

***

ص: 251

ص: 252

الفصل العاشر: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً

اشارة

ص: 253

ص: 254

قال تعالى:

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.

«إِنّا نَخافُ»:

و تأتي كلمة«إنّا»لتوكيد وجود الخوف لدى هؤلاء الصفوة من يوم بعينه.و قد زادوا في تأكيد ذلك حين ذكروا مبررات هذا الخوف،و هو أنه يوم عبوس قمطرير،كما سيأتي..

و قد يقال:إنه لا مبرر للخوف من ذلك اليوم..فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (1)..

و يمكن أن يجاب:

أولا:بأن خوفهم هذا في الدنيا هو الذي جعلهم يأمنون في الآخرة.

ثانيا:إن المراد بالخوف،الاحتياط و الحذر،و إعداد العدة لمواجهة أخطار ذلك اليوم بما يناسبها.

و من مفردات وسائل الوقاية:إطعام اليتيم،و الأسير،و المسكين..إذ فرق بين خوف إنسان من الغرق حين يلقى في البحر،و هو لا يعرف السباحة،و لا يملك ما يعينه على التخلص..و بين خوف إنسان يعرف السباحة،و قد أعد العدة لمواجهة أي احتمال.فيقال:إنه قد أعد العدة،

********

(1) سورة يونس الآية 62.

ص: 255

لأنه يخاف من البحر..

«نخاف يوما..و..نخاف من ربنا»:

و يلاحظ هنا:أنه قد قال في سياق الآيات السابقة: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

لكنه قال في هذه الآية: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً..

فكان الخوف هناك من نفس اليوم..و الخوف هنا من الرب،فما الفرق؟!

و لما ذا قال: مِنْ رَبِّنا. و لم يقل:من«إلهنا».أو من«اللّه»؟.

و لما ذا قال: نَخافُ مِنْ رَبِّنا. و لم يقل:«نخاف ربنا»؟.

و يمكن أن يقال في الجواب عن هذه الأسئلة:

ألف:بالنسبة إلى قوله: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

نقول:إن اللّه سبحانه حين كان يتحدث عن الأبرار،قال:«يخافون»، أما هنا فإنهم هم الذين يخبرون عن أنفسهم،و يقولون: نَخافُ مِنْ رَبِّنا. فهم يشيرون إلى ربوبيته تعالى لهم،تعبيرا عن وعيهم للحقائق، و عميق معرفتهم بها.و عن المحبة له تعالى،و صدق الإيمان به،و طلب رعايته و ألطافه،ليتكاملوا بها..

كما أن جهرهم بذلك سوف يعرف الناس بدرجة اليقين التي وصلوا إليها،حتى كأنهم يرون ذلك اليوم و كأن العبوس فيه ظاهر لهم،يرونه كما يرى الإنسان وجه جليسه..كما قال الإمام علي[عليه السّلام]:«لو

ص: 256

كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (1).

لقد كان لا بد لهم أن يلهجوا بذكر اللّه،و أن يدلّوا عليه،و على رعايته،و حبه،و حكمته،و تدبيره،و عنايته،و إشرافه،و مراقبته،و توجيهه، و تسديده لهم على صراط تكاملهم في إنسانيتهم و أخلاقهم.

إن اللّه ليس هو منشأ خوفهم من حيث هو ربّ،بل منشأ الخوف هو نفس اليوم المرتبط باللّه سبحانه،من جهة أنه سبحانه هو الجاعل لذلك اليوم،و المعد له.و المقرر و الحاكم بالعذاب و الثواب فيه..

و إنما جعل اللّه سبحانه ذلك اليوم،بهذه المواصفات من حيث هو ربّ،حافظ،و مدبر،و عطوف،و رؤف،و رحيم،و حكيم،و عادل،وفق ما تقتضيه حكمة الخلق،و التكليف،و الأمر،و النهي..فحكمة اللّه و رحمته، و عدله،و علمه،و تدبيره،قد اقتضت وجود هذا اليوم،و ذلك رحمة بالبشر،و حفظا للحياة،و ضبطا لحركتها،و إذكاء للطموح فيها..

ب:و نجيب على السؤال الثاني،فنقول:

قد اتضح أن هذا اليوم هو من قبل ربنا،لكن لا من حيث إنه يريد الانتقام منا،و إنما هو من موقع ربوبيته لنا،و حبه،و تدبيره،و اهتمامه بحفظنا، و لأنه يريد لنا أن ننمو و نتكامل،و أن ننال الخيرات كلها،و نصل إلى منازل الكرامة،و أن يبعد عنا الشرور و الأسواء،و يمنع من فساد الحياة.و ذلك كله يوضح لنا السبب في أنه اختار كلمة«ربّنا»دون كلمة:«إلهنا».

********

(1) منتهى المطلب للعلامة الحلي(الطبعة الجديدة،مجمع البحوث الإسلامية-ايران- مشهد)ج 3 ص 44 و مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 317 و مستدرك سفينة البحار ج 5 ص 163.

ص: 257

فالربّ إذن قد جعل نظام الحياة بحيث ينشأ عن الأعمال في الدنيا عقوبة و مثوبة،يجدهما الإنسان في مستقبل حياته،و لا يمكنه أن يتجاوز تلك العقوبة،أو أن يتخلص منها إلا بتصحيح مساره بالتوبة،و بالعمل الصالح.

لأن المحاسب و المراقب هو علام الغيوب،و أقرب إليه من حبل الوريد.

و هذا من أهم أسباب ضبط حركة الإنسان،و سوقه نحو تصحيح سلوكه..

ج:و نجيب على السؤال الثالث:أنه تعالى قال: نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً.. و لم يقتصر على قوله: نَخافُ مِنْ رَبِّنا، ليشير إلى أن هذا النظام الذي جعله اللّه لنا لنتكامل به و معه،و لينقلنا من حسن إلى أحسن، و ليحمينا من الانحراف-إن هذا النظام هو الذي يختزن في داخله هذا اليوم العبوس،لأن ذلك هو الذي يجعل النظام فاعلا و مؤثرا،و مربيا فعلا.

و الخلاصة:

إنه لم يقل:«من إلهنا»،لأنه يريد أن يشير إلى الربوبية،فهم لا يخافون من اللّه من حيث كونه إلها،فردا،صمدا..إلخ..و إنما يخافون الألوهية من جهة ما تقتضيه من أفعال ربوبية،فيها تدبير و حكمة،و جعل نظام،فيه مثوبة و عقوبة.

فاليوم الآتي من جهة الربوبية-بحسب ما تقتضيه من تدبير لأمرهم و إصلاح لشأنهم-هو الذي يخافونه..

«إِنّا نَخافُ..» هل هي تعليل؟! قد يقال:إن قوله تعالى: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً تعليل لقوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ، كأنه قال:لما ذا جعلتم غاية الإطعام هي وجه اللّه؟!فجاء الجواب: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ إِنّا نَخافُ..

إلخ..

ص: 258

و قد يقال:هي تعليل لقوله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.. أي أن السبب في أننا لا نريد جزاء،هو أنا نخاف ذلك اليوم العبوس.

و قد يقال:إنها جملة مستقلة،ليس فيها تعليل،لا لهذه الفقرة،و لا لتلك.بل هي تقول:هناك أمران:

أحدهما:الداعي،و المحرك..

و الآخر:الهدف.

و نوضح ذلك بأن نقول:إن لدينا شعورا إنسانيا..هو الإحساس بحاجة اليتيم..و قد دفعنا هذا الشعور إلى الإطعام،و قد جعلنا له هدفا هو الحصول على رضا اللّه سبحانه..لأن الصفات الإنسانية،كالكرم و الشجاعة و غيرها..إنما تكون فضيلة بملاحظة هذين الأمرين..و هما الداعي و الهدف..فإذا فقدتهما،فإن وجد ضدهما،أصبحت رذيلة..و إن لم يوجد ذلك الضد،فإنها لا تكون فضيلة و لا رذيلة..

فإذا كان الداعي و المحرك لإعطاء المال مثلا،هو الشعور بحاجة الآخرين،و التألم لهم..ثم يجعل هدفه و همه و جهده،هو رضا اللّه،و الوصول إليه سبحانه،و تكون وسيلته إليه هو هذا الإطعام مثلا-فإن ذلك يكون فضيلة بلا ريب،حيث قد اجتمع فيه نبل الداعي مع جلال الغاية..

و أما إن كان المحرك للإعطاء هو الحقد و الاستدراج،و كان الهدف مثلا هو إذلال الآخرين أو استعبادهم،أو إيقاعهم في فخ منصوب لهم.

فالفعل يكون رذيلة،و أي رذيلة..

و ثمة صورة أخرى،هي أن يعطي الإنسان طعامه،لأنه قد صرف النظر عنه لعدم حاجته إليه..أو يكون هدفه هو التخلص من ثقله،أو من نفقة حمله.أو يبدله لمجرد الحصول على ثمنه،فلا يكون الإطعام في

ص: 259

مثل هذا الحال،فضيلة و لا رذيلة.

و أما إن كان المحرك للإعطاء،هو الحس الإنساني،كالشعور بآلام الآخرين،من دون أن يربط ذلك باللّه سبحانه،فإنه يستحق المدح الدنيوي،بمعنى مدح كماله في صفاته البشرية،و يكون عمله استجابة لهذا الكمال،و لكنه لا يستحق ثوابا في الآخرة،لأنه قد بقي بلا هدف، و بدون امتداد،فلا يوجد في ذلك العمل أية خصوصية من شأنها أن تصله بالباقي،و الدائم تبارك و تعالى..

و في جميع الأحوال نقول:

إن الإسلام قد اهتم بتوجيه الإنسان نحو الاسمى،و الأنمى،و الأبقى، و الأزكى،في مسيرة التكافل الإنساني.و لكنه جعل لصلة الرحم وجهة عبادية و إلهية،و منطلقا إنسانيا،و اعتمدها كوسيلة بناء،بدلا من أن تكون منطلقة من العصبية العمياء،و جعل للعطاء و الإطعام،و جهة عبادية، و وجهة إصلاحية،و دوافع إنسانية،تجعله أكثر ملاءمة،و تأثيرا إيجابيا في المسيرة السليمة لحياة الإنسان،بدلا من أن يكون البذل بهدف التسلط، و الإذلال،و الإفساد.

و هذا الخوف من اللّه،إشفاقا من ذلك اليوم،و حذرا منه،هو بمثابة صمام أمان،يجعل الإنسان مهتما بضبط حركته،و مراقبتها،للاطمئنان إلى أنها في الصراط المستقيم،فهو يراقب اللّه،من موقع إدراكه لربوبيته التي هي تعني الإدراك لحكمته،و محبته،و رعايته،و علمه،و رحمته،و لطفه.

و الأبرار إنما يريدون أن يتكاملوا في ظل هذه الرعاية الإلهية، و التربية الربانية.

كما أن قول الأبرار:«لوجه اللّه»قد جاء ليضبط حركة الإطعام،

ص: 260

و يجعلها تتمحض بالدواعي و الحوافر الإنسانية،التي لا تتقاذفها الغايات الدنيوية المنحطة،بل يضبطها هدف و غاية واحدة،لا بد من توجيه السلوك و العمل إليها،و هي وجه اللّه تعالى..

و كل هذا الذي ذكرناه يوضح كيف أن هذه الآية لا تريد تعليل الإطعام لوجه اللّه بالخوف،بل الإطعام لوجه اللّه يسير جنبا إلى جنب مع الخوف المنتج للحذر و الانضباط..لأن علة الإطعام لوجه اللّه هي أن اللّه سبحانه أهل لأن يعبد و يتقرب إليه بالصالحات.

و بذلك يصبح لدينا قاعدتان شاملتان،أصيلتان في معناهما..و هذا هو ما يناسب مقام الأبرار،و يسانخ واقعهم و تفكيرهم.

«يوما عبوسا قمطريرا»:

و يأتي التساؤل الحائر:عن السبب في ذكر تفاصيل صفات هذا اليوم.و قد كان بالإمكان أن يقول:«إنا نخاف من عقاب ربنا».

و قد يمكن الإجابة عن ذلك،بأن ذكر هذه التفاصيل مطلوب..لأن أصل العقوبة للمتمرد أمر تحكم به العقول،و يقرّه الوجدان.

و ليس الأمر هنا من موارد العقوبة،فلا يصح أن يقال:إنا نخاف من عقاب ربنا،لأن عدم إطعام السائلين ليس فيه تمرد على المولى،و لا هتك لحرمته،بل الآية تتعرض لأمر سام و جليل،يفوق في أهميته موضوع الطاعة و الانقياد للأوامر و الزواجر.فإن هذا الإنفاق إنما يطلب ليكون وسيلة لنيل المقامات و المراتب السامية عند اللّه..و دوافعه مشاعر إنسانية،و غاياته الاتصال باللّه سبحانه..

«عبوسا»:

و كلمة«عبوسا»هي صيغة مبالغة،أي شديد العبوس،أو كثيره..

ص: 261

فالشدة تشير إلى شدة التكرّه له،و عمق النفرة،و عظيم الخوف منه، كما أنها تشير إلى وجود أمر عظيم يدفع إلى التشدد في العبوس فيه.

أو تكون بمعنى كثير العبوس،و في ذلك إشارة إلى تعدد المناشئ الموجبة لظهور هذا الأثر المكروه في وجه ذلك اليوم..

«يَوْماً عَبُوساً»:

و اليوم من حيث هو زمان و لحظات لا يوصف بالعبوس و لا بالبشاشة..و إنما نسب إليه العبوس،و وصف بهذا الوصف على سبيل الكناية و المجاز،فهو كوصف السماء بالكآبة و التجهم،في قول الشاعر:

قال السماء كئيبة و تجهّما قلت ابتسم،يكفي التجهم في السما..

فإذا كان الإنسان يرى في هذا اليوم أمورا يكرهها،و مصائب و آلام ينفر منها،فإنه ينسب ذلك إلى اليوم الذي احتواها،و كان ظرفا لها.

فكأنه ينظر إلى صفحة هذا الزمان،فيشبهها بالوجه،فيرى فيها تلك الشدائد،فيشبهها بالتجاعيد المستكرهة.التي يعبر عنها بالعبوس،الذي يشير إلى وجود خلفيات و نوايا مستكرهة لدى العابس،فيخاف منه.

و بذلك يظهر عدم صحة قولهم:

إن المراد:هو أنهم يخافون يوما يكون الإنسان فيه عابسا بسبب الشدائد..

رؤية واضحة:

و هذه الآية تشير إلى شدة وضوح أمر يوم القيامة للأبرار،حتى كأنه حاضر لهم،يرون وجهه رأي العين،و يميزون بين قسماته،و يدركون حالاته.تماما كما قال أمير المؤمنين[عليه السّلام]:لو كشف لي الغطاء

ص: 262

ما ازددت يقينا.

مع أن يوم القيامة هو من الأمور الغيبية،التي لا يسهل اليقين بها، فضلا عن أن يصبح كأنه يراها رأي العين،إذ إن ما لا يكون من الأمور الحسية،و لا الفطرية،و لا من الأحكام العقلية،بل هو من الأمور السمعية، يكون اليقين به صعبا،فضلا عن أن يصبح كأنه مشاهد بالعيان،فإذا بلغ اليقين إلى هذا الحد..فذلك أقصى درجات الإيمان و المعرفة،و هو يعبر عن الأدوار الصعبة،التي قطعها أولئك الأبرار،حتى بلغوا هذه المراتب، فإن للمعرفة دورها في صفاء الإيمان،و في رهافة الشعور،و في دقة الإدراك،و صحة اليقين..

الحديث عن الشدائد لما ذا؟!:

و يلاحظ:أن الحديث هنا قد جاء عن الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير،لا عن المثوبات العظيمة للمطعمين،فلم يقل:

نطعمكم رغبة في الجنة،أو في الثواب الجزيل،و الأجر الجميل مثلا.

و ربما يكون السبب في ذلك:

أنهم لا يريدون جعل عملهم تجاه اليتيم،و الأسير،و المسكين، ذريعة للمثوبة،بحيث تكون المثوبة جزاء له،لأن إيكال المثوبة إلى فضل اللّه سبحانه هو الأمثل و الأولى..

و ذلك لأن المهم عندهم هو الحصول على رضا اللّه سبحانه..لا الحصول على المكافآت و النعم لأنفسهم.فإن ذلك قد يشير إلى شيء من الاهتمام منهم بالذات،و حب اكتساب المنافع لأنفسهم كأشخاص.

مع أن رضا اللّه أعظم النعم..فقد قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).

ص: 263

مع أن رضا اللّه أعظم النعم..فقد قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).

و أول خطوة على طريق الوصول و الحصول على هذا الرضا هو الابتعاد عن مواقع سخطه سبحانه.

«قمطريرا»:

القمطرير هو الأمر الشديد..فكلمة عبوس أشارت إلى الشكل، و كلمة قمطرير أشارت إلى المضمون..

و قد فسر بعضهم«قمطريرا»بشديد العبوس..

و لكن ذلك غير دقيق،فإن كلمة«عبوس»صيغة مبالغة تفيد كثرة أو شدة العبوس،فما معنى تكرار نفس هذا المعنى بكلمة«قمطريرا»؟!

فالأولى حملها على معنى تأسيسي،تكون قادرة على تأديته،إذ لا معنى للتكرار و الإعادة من دون إفادة.

و فسر القمطرير بالملتف أيضا..

و لعله من جهة أن الالتفاف يستبطن شدة و تقوّيا للأشياء بعضها بالبعض الآخر..

و هذا المعنى ينسجم مع ما قلناه،من أن المراد بها الشدة في مضمون و حقيقة ذلك اليوم،سواء أ كان منشأ الشدة هو تعقيد الأمور و تشابكها،أم كان منشؤها شيئا آخر.

الإيمان بالغيب:

و واضح أن الإيمان بالغيب شيء،و الإيمان بالمجهول،و الغامض،

********

(1) سورة التوبة الآية 72.

ص: 264

و المبهم،و الغائم،شيء آخر..

فإن الغيب واقع يقيني،يفرض نفسه على الواقع الحياتي..و الإيمان بالحقائق الغيبية واجب و مطلوب في الإسلام.قال تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (1).

فنلاحظ:أن ثمة ارتكازا في البيان القرآني إلى الغيب لينطلق منه إلى الواقع الحياتي،مبتدأ من ممارسة الإنسان للعبادة الصلاتية التي تصل العبد باللّه،و بصفاته،و علمه،و حكمته،و تدبيره،و بملائكته و رسله من جهة،ثم بالآخرة و بكل تداعياتها،و كل ما يرتبط بها من جهة أخرى..

ثم انطلق ليبني الحياة في علاقاتها،و في مرافقها و حاجاتها،على أساس الاستفادة الصحيحة مما مكنه اللّه منه،و هيأه له..حين قال: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ .

فليس الغيب مجرد حالة خوف من مجهول مبهم،و غامض، و مخيف..بل هو غيب ظاهر و مكشوف لنا إلى حد أن الإمام عليا[عليه السّلام]يقول:«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا».

و عن أولياء اللّه المتقين يقول الإمام علي[عليه السّلام]:«و هم و النار كمن قد رآها،فهم فيها معذبون..» (2).

إنه غيب لا خوف معه،بل يشعر الإنسان معه بالأمن و السّلام، و السكينة،و الراحة،و السعادة..

غيب ليس فيه قهر و خضوع عشوائي ظالم،بل هو استسلام على

********

(1) سورة البقرة الآية 3.

(2) نهج البلاغة ج 2 ص 161 خطبة رقم 193 ط دار المعرفة،و البحار ج 64 ص 315.

ص: 265

أساس الوضوح و الرؤية،و الإحساس..في العقل،و في الفطرة، و الوجدان..

إنه غيب مجسد في الكعبة المشرفة،و بالحجر الأسود،الذي أودعه اللّه ميثاق الخلائق.و قد جسده اللّه جنات و أنهارا،و فواكه،و أشجارا..

و كأسا دهاقا،و حوضا،و صراطا،و ميزانا..و ما إلى ذلك.

و جسده أيضا زقوما و ضريعا،و زمهريرا و نارا،و يوما عبوسا قمطريرا.

أخبرك اللّه به،و وصفه لك نبيه الناطق عنه.

و هو مرحلة قد تجاوزت ما تحكم به الفطرة،و تهدي إليه العقول، و يقرره الوجدان.

إنه غيب لا بد لك من احتضانه في قلبك،و في عمق حناياك،ثم الحنو عليه.و التفاعل معه،و الاستفادة منه..و ليس هو من المجهول،لأن المجهول لا يمكن احتضانه،و لا الفناء فيه،و لا الانسجام و لا التفاعل معه..أو عقد القلب عليه.

إن علينا أن لا نخطئ في فهم معنى الإيمان،فليس الإيمان هو الشعور بالخوف من مجهول،ثم الاستسلام لهذا الخوف..بل الإيمان سلام،و أمن،و سكينة و رضا..

و بعد ما تقدم نقول:

إنه لا حاجة إلى التذكير بأن الخضوع و الاستسلام للدليل،ثم تبنيه و الالتزام به،و عقد القلب عليه،يسمى إيمانا..لما في ذلك من سكون قهري،و استسلام لما تقضي به الفطرة،و ما يحكم به العقل..ثم يبدأ بالتنامي و الرقي إلى أن يبلغ مراحل،هي الأصفى و الأنقى،و الأجلى و الاسمى،و ذلك حين يصبح سكينة و طمأنينة للنفس و الروح،و يترك

ص: 266

آثاره في المشاعر و الأحاسيس.و تتولد من خلال ذلك في النفس حالات الخوف و الرجاء،و يوجد حالة رقابة ذاتية،و تنشأ عنه المواقف و الممارسات،و الإقدام و الإحجام،على أساس مبدأ التكامل،و كل ذلك يتم في ظل الرعاية الربوبية بما تمثله من تدبير يرتكز إلى العلم، و الحكمة،و القدرة،و..و..

و هذا هو الإيمان الحقيقي الذي عبرت عنه الآية الكريمة: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1).

و هو الإيمان الذي أمر اللّه به المؤمنين حين قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا (2).

***

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

(2) سورة النساء الآية 136.

ص: 267

ص: 268

الفصل الحادي عشر: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً

اشارة

ص: 269

ص: 270

قال تعالى:

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً.

«فَوَقاهُمُ اللّهُ »:

هناك عدة نقاط لا بد من الإشارة إليها،و هي التالية:

ألف-إن الوقاية هي جعل ما يمنع من وصول ما يكره وصوله إلى شيء ما..

و قد اختير التعبير بالوقاية هنا،ربما ليشير تعالى به إلى أن شر ذلك اليوم سوف لا يتعرض له أحد بما يوجب بطلانه و إزالته،بل هو يبقى قائما مستمرا،و فاعلا و مؤثرا..و إنما يكون التعامل معه بطريقة إيجاد المانع من تأثيره..و ليس بالاستهداف المباشر له،للقضاء عليه،أو إسقاطه عن التأثير..

و هذا معناه:أن وجود ذلك الشر مستند إلى مقتضيات،و أن موجبات وجوده قائمة،فلا يصح التعرض له مع بقاء تلك الموجبات..

ب-إن التصرف الإلهي ليس في ذات أولئك الأبرار،حيث لم يبعدهم تعالى عن الشر بصورة قاهرة،و إنما جعل لهم ما يقيهم و يحفظهم منه..و معنى هذا أن تواجدهم في مواقعهم على حالة الحفظ و الوقاية هو الآخر مطلوب و محبوب..

و لعل من أسباب مطلوبيته إظهار فضلهم و كرامتهم،و سرور المؤمنين

ص: 271

بهم و طمأنينتهم لوجودهم،و عذاب الحسرة لغيرهم،و هم يرون ذلك.

ج-إن هذه الوقاية هي فعل اللّه سبحانه بهم،من موقع ألوهيته،أي أنه يقي من النار،أو يعاقب بها بما هو مالك،و قادر،و عالم،و حكيم، و عادل،الخ..

أما جهة الربوبية،فإنها تمثل التدبير،و التفضل،و الرحمة،و الكرم، و الهداية،و المحبة و الحكمة.و هي قد أسهمت في تربيتهم،و رعايتهم في دور تكاملهم،و ترشيد قدراتهم،و إعدادهم بصورة أهلتهم للأعمال الصالحة التي استحقوا بسببها و من خلالها هذا التكريم و التشريف الإلهي..

د-لقد جاء تعالى بصيغة الماضي،فقال: وَقاهُمْ و لم يقل:

سيقيهم اللّه،ربما للإشارة إلى أن هذا الأمر هو من الأمور المقضية التي لا شك في حصولها،إلى حد أنه يمكن الإخبار عن حصولها و تحققها بالفعل.

يضاف إلى ذلك:أن الزمان لا معنى له بالنسبة لما يختص بالذات الإلهية،فإن كل شيء حاضر لديه تعالى خارج دائرة الزمان..و إن لم نستطع نحن أن نتعقل ذلك،فإن عجز عقولنا عن إدراك الذات الإلهية، و صفاتها،و غير ذلك مما يرتبط بها،إنما هو بسبب قصور عقولنا،لا لأجل أن تلك الأمور ليس لها عينية و ثبوت في الواقع..

ه--قد جاء التعبير بالفاء،و بصيغة الإخبار عن أمر حاصل فَوَقاهُمُ .. ربما لكي لا يكون التعبير بصيغة يفهم منها السامع:أنها وعد بأمر مستقبلي،لأن البشر قد يتخوفون من تبدل مقتضيات الوفاء بالوعود، أو من حصول موانع من ذلك..

ص: 272

فجاءت الفاء لتربط الحدث الذي هو إخبار عن حصول،بالحالة التي يعيشها الأبرار،و بالعمل الذي أنجزوه بصورة مباشرة،حتى لا يبقى الإنسان في حالة انتظار و توقع،فإن سياق إنشاء الكلام-بسبب الفرق بين ثم و الفاء، أو بين الفاء و بين أي تعبير آخر-يشير إلى الفصل و التراخي..

و-و يرد هنا سؤال هو:أن الآية قد ذكرت:أن اللّه هو الذي يقي الأبرار من شر ذلك اليوم..مع أن الآية السابقة قالت:إن اليوم الذي يخافون منه،إنما هو من قبل اللّه تعالى..فكيف يكون اليوم من جهته، ثم يكون هو الواقي منه؟!أ ليس الأولى هو:أن يلغي ذلك اليوم من أساسه،بدلا من أن يوجده ثم يقي منه؟..

و الجواب:أن وجود هذا اليوم ليس لأجل أن يخاف منه الأبرار،فإن غير الأبرار أيضا لهم دور في وجود ذلك اليوم،و سوف ينالهم منه ما يناسب أعمالهم،و لن يقيهم اللّه سبحانه شره..فلا ضير،و لا محذور،في أن يكون ذلك اليوم من قبل اللّه..و هو الذي يقي منه الأبرار.

ز-إن أعمال الأبرار هي التي جعلتهم أهلا للكرامة الإلهية،و بها تكون لهم الوقاية و الرعاية.و لو لا أعمالهم فلا وقاية لهم.فالوقاية سنة إلهية،و اللّه يجري الأمور بأسبابها،لكن سببية هذه الأسباب مجعولة من قبله سبحانه،و إثارة هذه الأسباب و تحريكها إنما يكون بفعلنا نحن،و قد جعلت النار و خلقت لمعالجة الذنوب،و خلقت الجنة للثواب على الطاعات..و قد روي عنهم[عليهم السّلام]:اتقوا النار و لو بشق تمرة..

الوقاية و التفضل:

و لكن اعتبار الوقاية نتيجة للعمل.و جزاء عليه..لا يعني عدم وجود أي تفضل إلهي..بل التفضل قد يكون في نفس مقدار الجزاء،و ذلك

ص: 273

حين يقرر أن الحسنة بسبع مائة،و أن اللّه يضاعف لمن يشاء..و أن ذلك يصير حقا لهم بعد تحقق الجعل..

كما أنه قد يكون هناك تفضل زائد على أصل الجزاء،بعد تقريره، و جعله..و هو ما أشار إليه تعالى بقوله: وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (1)..

التقوى..حذر و استعداد:

و بمناسبة حديثنا عن الوقاية،نشير إلى أن البعض قد يتخيل:أن التقوى معناها الخوف و الفزع من اللّه تعالى،فمعناها قريب من معنى الخشية..

و لكن الظاهر هو أن التقوى مأخوذة من طلب الوقاية،فهي أقرب إلى معنى الحذر الذي يدعو إلى التماس الحرز و الواقي..

بين صيغتين:

هذا..و قد قال تعالى هنا: فَوَقاهُمُ جَزاهُمْ ، بصيغة الماضي..

و قال قبل ذلك: يشربون ، يطعمون ، نطعمكم ، يخافون ، بصيغة المضارع.و ما ذلك..إلا لأنه سبحانه حين استعمل صيغة المضارع،أراد أن يبين:أن هذه سجية فيهم،و أنه أمر مستمر و متجدد، لكنه حين استعمل صيغة الماضي،فهو إنما كان يتحدث عن الجزاء، فجاء بما يفيد التحقق و الحصول و الثبوت،لأن من آثار و نتائج الأفعال، دوامها و بقاؤها و ثباتها.

«فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »:

قال في مجمع البيان:«أصل الشر الظهور،فهو ظهور الضرر،و منه

********

(1) سورة البقرة الآية 261.

ص: 274

شررت الثوب إذا أظهرته للشمس،أو الريح..إلى أن قال:و منه شرر النار لظهوره بتطايره».أي و انفصاله..

و قد يذكر للشر تفاسير أخرى،هي إما تطبيقات و مصاديق،أو إشارات إلى لوازم هذا المعنى..ككونه الاسم الجامع للرذائل،و الخطايا، و السوء،و الفساد،و الظلم،و الشر،و أيضا:إبليس،و الفقر،و الحمى..

و إذا أردنا أن نسوق الكلام هنا وفق ما قاله الشيخ الطبرسي..فنقول:

إن الفطرة،و العقل،و الهداية الشرعية،و سائر الهدايات الإلهية،و رعاية اللّه سبحانه،و تدبيره و ألطافه الربوبية،نعم-إن ذلك كله يفرض على هذا الإنسان أن يسير باتجاه معين،و في ضمن نطاق النظام التكويني، و الفطري،و التشريعي،و العقلي.و يفرض حالة من التناسق في الخلق، و الوجود،و في الحياة،ليصل الإنسان إلى كماله،و ليتمكن من تحقيق ذاته،فأي خروج عن هذا،سوف يكون نشازا،له بروزه و ظهوره المميز..

و يمكن تقريب هذا الأمر بمثال هو:أنك لو جسدت إنسانا في تمثال،فإذا أنقصت منه بعض أعضائه الظاهرة،مثل يده،أو أنفه،أو شفته،أو عينه،فإن ذلك سيكون هو النقطة الأظهر فيه،و ستنصب الأنظار عليها بشكل لافت و غير عادي.و سوف يستتبع ذلك أذى للنفس، و انفعالات خاصة لدى الناظر،و شعورا مختلفا،و لعله يؤذي مشاعره،و قد لا يلتفت إلى أية ناحية جمالية مميزة أخرى موجودة في ذلك التمثال.

لأن هذا النقص نشاز،لا بد أن يظهر،و أن ينشر آثار النقص الظاهرة فيه في كل اتجاه،بخلاف ما لو كان التمثال تاما،فإنك قد لا تلتفت،لا إلى أذنه،و لا إلى عينه،و لا..و لا..إلخ..

فلو كان هناك إنسان عابد،زاهد،عالم،تقي إلخ..و لكنه حسود فإنك ستجد أن هذا النقص هو الذي يلفت نظر الناس،و ستكون له

ص: 275

تأثيرات سلبية على علاقتهم به،و نظرتهم إليه،تفوق تأثيرات صفات الإيجاب فيه،و لسوف ينقص ذلك من تلذذهم بصفات الإيجاب.بل ربما يكون وجود صفات الكمال فيه هو الموجب لزيادة ألمهم و تأذّيهم بصفات النقص..

و بما أن شرور ذلك اليوم،قد أنتجتها أعمال الناس..و اختلالات في سلوكهم،و نقائص و تشوهات في شخصيتهم الإنسانية و الإيمانية.

فإن ظهور النقص الذي في شخصية الإنسان على حركاته،و أفعاله، كان هو الذي كان هو السبب في تسرب الشر إلى حياته في الآخرة، و هو الذي أوجد هذا الشر..

أما الأبرار فليس فيهم أي خلل أو نقص،و لا يوجد في حياتهم أية ثغرة يمكن للشر أن يتسرب منها إليهم،فهم في وقاية حقيقية منه..

فالشر إذن لا يمنع و لا يكفّ عنهم..بل هم في حصن حصين منه، و ليس فيهم منفذ يستطيع الشر أن ينفذ منه إليهم.

«وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً »:

و قد فسروا كلمة«لقّاهم»بلاقاهم..مع أن كلمة«لقّاهم»إنما تعني:

أنه جعلهم يتلقون النضرة بصورة متتابعة و تدريجية،و مرة بعد أخرى، و التلقي هو التقبل و الأخذ،باختيار و سابق إرادة..

فالنضرة لم تعرض عليهم عروضا عابرا..بل بقيت فيهم و استمرت..

أما كلمة«لاقاه»،فإنما تعني حصول مواجهة بين هذا و ذاك،و لو صدفة، و لا تعني التدرج،و لا التوالي و التعاقب..و كذا الحال بالنسبة لتلقاه فإنها قاصرة عن إفادة المراد،لأن معناها:تلقاهم بالنضرة و بالسرور،مع أن المراد:أنهم هم الذين يتلقون النضرة و السرور،ليحل بهم،و يكون فيهم.

ص: 276

كما أن«لقّاه»..معناها جعله يتلقى شيئا آخر،أما«لاقاه»،فمعناها أنه هو نفسه قد التقى معه.

أضف إلى ما تقدم:أن«لاقاه»تحتاج في تعديها إلى النضرة،إلى توسيط حرف الجر،فتقول:لاقاهم بالنضرة،أما كلمة«لقّاه»فتتعدى بنفسها فتقول:لقاهم نضرة..

بقي أن نشير إلى أن كلمة«لقّاهم»بمعنى جعل فيهم أهلية التلقي، مع فعلية إفاضة النضرة و السرور عليهم،و ليس المراد بها مجرد جعل الأهلية،و لذلك لم يقل:و أهّلتهم للنضرة و السرور،كما لم يقل:

و أعطيتهم نضرة و سرورا،أو سررتهم و نضرتهم.

و قد قلنا:إن نفس عملهم في الدنيا هو الذي أوجب لهم هذا الجزاء،و هذا اللطف الإلهي في الآخرة،و تسبب باللطف و الكرامة لهم، و العناية بهم،بصورة تدريجية و مستمرة،مما يدل على وجود إرادة إلهية مستمرة الفيض عليهم.

و إن إحساسهم ببقاء هذا الرضا،و بقاء اللطف،هو نعيم آخر لهم.إذ هناك فرق بين أن يعمل الإنسان عملا،و يأخذ أجرته،و تنتهي العلاقة به، و بين أن يوجب ذلك العمل علاقة مستمرة.و ما نحن فيه من هذا القبيل، ففيه لذة الشعور المستمر بهذه العلاقة،فاللّه سبحانه لا يريد أن يدخلنا الجنة لكي نتنعم بها،ثم ينفذ ذلك النعيم،و ينقطع عنا،إذ إن لذة إحساسنا بدوامه هي الأتم،و هي الأهم.

«نضرة»:

و النضرة تحتاج-بحسب طبيعتها-إلى بقاء و استمرار،لأن النضرة هي:الحسن،و الرونق،و اللطف،و الإشراق.و الناضر هو الناعم الذي له

ص: 277

بريق في صفائه..

و هذه نعمة حباهم و كرمهم اللّه تعالى بها..و هي تكون تامة،نامية، زاكية،إذا استمرت..

و قد جاءت كلمة«نضرة»منكّرة،ليثير أكثر من سؤال حول حقيقة هذه النضرة،و أفق و مدى ذلك السرور..فهي نضرة تحير العقول في أوصافها،و سرور لا يمكن وصفه أيضا.و في هذا لذة الطمأنينة و هي لذة لا حدود لها،بل هي تصل إلى درجة الرضا و الإشباع.

لما ذا بدأ بالنضرة؟:

و يبقى سؤال هو:لما ذا قدم ذكر النضرة،التي قدمنا تفسيرها على السرور؟..

و يمكن أن نجيب:بأن النضرة تعبر عن تغير حقيقي في الذات،إلى حالات لها درجة من الثبات،فهي ليست كالسرور الذي هو مجرد انفعال نفسي،ليس من طبيعته البقاء و الثبات،بل هو قد يزول و ينتهي.

كما أن النضرة هي من أسباب و مبادئ حدوث الطمأنينة و الرضا، و هي علامة من علامات النشاط،و ظهور الحيوية،و تبلور الإحساس بكمونها في واقع الذات..

و ذلك بطبيعة الحال سبب من أسباب السرور،لأنه يعطي الإيحاء و الإشارة إلى أن وجود هذه الحالة،إنما هو من خلال اللطف،و من مظاهر و تجليات الرضا الإلهي و الكرامة الربانية،و ذلك مثار اعتزاز، و سبب لتباهي أهل الجنة،و هم ينافسون أهل النار،و يجعلون منه سبيلا لإثبات الحق،و إبطال الباطل،و زيادة حسرة و عذاب أهل النار،الذين كانوا يستضعفون،و يذلون و يحتقرون المؤمنين في الدنيا،فها هم يرون

ص: 278

الآن نعيمهم و عزّهم،فيؤذيهم ذلك و يكون خزيهم،و عذابهم الشديد نعيما و شافيا لصدور أهل الإيمان في الجنة،لأنهم يحبون أن يروا عواقب هتك حرمات اللّه،و التمرد عليه سبحانه..

و قد حدثنا القرآن عن حوارات هامة فيما بين أهل الجنة و أهل النار، لربما نوفق إلى الإلماح إليها في مقام آخر،يلاحظ فيها أن الكفار يكذبون في الآخرة في بعض الأحيان،و يحاولون التملص و التخلص مما هم فيه بلطائف الحيل.

مما يعني:أن حرية القول و حرية التصرف تبقى للناس،حتى و هم يعذبون أو ينعّمون.

و خلاصة القول:إن النضرة و سام ظاهر في أهل الإيمان،يزيد من بهجتهم..و يزيد من حسرة أهل النار،و من عذابهم و ألمهم.و هي تحمل معها موجبات السرور بلطف اللّه بالأبرار،و بكرامته لهم،و عطفه عليهم.

ما خافوا منه..و ما لقّاهم إياه:

و قد يمكن القول بوجود سنخية من نوع ما بين ما خاف الأبرار منه:

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أي شديد العبوس الظاهر في الوجه،و بين ما لقّاهم اللّه تعالى إياه،و هو النضرة،التي هي الرواء، و الرونق،و البهاء الثابت و المستمر،و الحيوية الدائمة المتجددة..

كما أن الشدة و الصعوبة في المضمون المعبر عنه بالقمطرير.يقابله سرور و ابتهاج نابع من الداخل،و من أعماق النفس،طافح على الجوارح، ظاهر في التصرفات و الحركات.

«و سرورا»:

و قد قيل:إن السرور هو اعتقاد وصول المنافع في المستقبل..

ص: 279

و نقول:إن السرور ليس مجرد اعتقاد،بل هو حالة انفعالية،و ارتياح و انبساط،و تلذذ قلبي و روحي،يطفح حتى تظهر آثاره على الجوارح، حركة و سلوكا.و تقابلها حالة الكبت،و الانكماش،و الأسى..

و حالة السرور هذه تحتاج دائما إلى متعلق،حيث يسر الإنسان بولده، أو بماله،أو بشفاء مريض،أو بكرامة اللّه له..و هذا يعني أن هذا السرور باق ببقاء متعلقه،الذي يختزن المنشأ و المقتضي له،و هو سبب حدوثه..

فإكرامك إنسانا و خدمتك له ساعة،سيكونان سببا في سروره طيلة هذه الساعة،فإذا أكرمته يوما،فسروره يبقى يوما أيضا..و هكذا..لأن السرور دائر مدار الوجود الفعلي لمتعلقه،و منشئه،و بواعثه.

و لذلك نلاحظ:أن التعبير في الآية الشريفة هنا قد جاء بالتلقي، الظاهر في إرادة التجدد المستمر،و الحدوث مرة بعد أخرى.

و بذلك يتضح:أن تفسير السرور باعتقاد وصول المنافع في المستقبل غير دقيق من جهتين:

الأولى:أن السرور ليس مجرد اعتقاد،بل هو انفعال حقيقي،و ابتهاج فعلي،و لذة قلبية حاضرة.

الثانية:أنه ليس سرورا بأمر سيحصل،بل هو سرور بأمر حاضر،قد حصل بالفعل،فالسرور يدور مداره وجودا و عدما،لأنه باق ببقائه..

و إرادة بقاء هذا السرور تستلزم بقاء ما يوجبه..

و الذي يوجبه في مورد الآية هو أن من سجية الأبرار إطعام الطعام على حبه مسكينا،و يتيما،و أسيرا،لوجه اللّه..و من سجيتهم الوفاء بالنذر،و من سجيتهم الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير..و..الخ..

فإذا كان هذا هو حالهم المستمر،فإن نتيجته نضرة مستمرة و متجددة،

ص: 280

و سرور مستمر و متجدد أيضا.خصوصا..إذا كان مصدر هذا العطاء و هذه الكرامة هو اللّه سبحانه،الذي لا حدود لكرمه،و لا نهاية لعطائه: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1).

و قد قلنا:إن تنوين التنكير في كلمتي«نضرة»و«و سرورا»إنما هو لإفهام الإنسان أنه لا حدود لعطاء اللّه سبحانه..فإذا كان يتخيل الأمور محدودة،و يتطلب ما هو محدود،فإن اللّه سبحانه حين يريد أن يكرم الإنسان،فإنما يكرمه بما يناسب ذاته المقدسة،و إن لم يستطع الإنسان نفسه إدراك حجم،و نوع،و حالات،و خصائص،و مزايا ذلك الإكرام الذي يختاره اللّه له،و يخصه به.

***

********

(1) سورة هود الآية 108.

ص: 281

ص: 282

المحتويات

تقديم:5

سورة هَلْ أَتى المباركة:7

تمهيد:9

تسمية هذه السورة:9

ثواب و آثار قراءة سورة«هل أتى»11

سبب نزول هذه السورة:12

لما ذا أعطوا جميع الطعام؟!14

السورة مدنية:14

مستند أهل الزيغ:15

الفصل الأول:الخلق..و الهداية..

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »: 23

«هل»للإنكار أو التقرير:23

هل البسيطة و هل المركبة:26

ص: 283

لما ذا اختار كلمة:«أتى»؟:27

«عَلَى الْإِنْسانِ »: 29

«الإنسان»:30

سؤال..و جوابه:31

عودة إلى كلمة«الإنسان»:33

الإنسان في أحسن تقويم:34

«حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ»: 36

«شيئا»:38

«مذكورا»:38

الامتنان الإلهي..هداية،و رعاية:40

الفصل الثاني

إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً

«إِنّا خَلَقْنَا»: 45

«خلقنا»:52

«الإنسان»:56

دور الإنسان في صنع خصائصه:57

الفطرة..و الإنسان:59

«مِنْ نُطْفَةٍ »: 61

«نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ»: 61

إعراب كلمة«أمشاج»:61

ص: 284

«أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ »: 62

لا بد من إجابة:63

الأمشاجية للمزايا الإنسانية،لا المادية:64

آدم أبو البشر:66

«الابتلاء»:66

نبتليه!!بما ذا؟!:69

النظرة الأولى:69

النظرة الثانية:70

الاختبار و الاختيار:71

«فجعلناه»:74

تقديم كلمة سميع على بصير:77

«سَمِيعاً بَصِيراً»، بصيغة المبالغة:81

حاسة السمع هي الأسبق:85

سامع أم سميع؟:86

نظرة إجمالية لمسار الخطاب في الآيات:87

الفصل الثالث

إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً

«إنّا»:95

«هديناه»:96

ظاهرة الجحود و الإيمان:100

ص: 285

«السّبيل»..و ليس الطريق!:101

هديناه السبيل..أو إلى السبيل؟:102

(أل)عهدية أم جنسية؟:102

لما ذا بدون فاء التفريع؟:104

السميعية و البصيرية لا تغني عن الهداية:104

و إمّا كفورا:106

قوة الوضوح في البيان القرآني:106

لما ذا قال:شاكرا؟!108

لما ذا:«و إمّا كفورا»؟!110

الأخلاق أساس الدين:112

فرق آخر بين الكفر و الشكر:112

المجبرة،و آية الهداية:113

الفصل الرابع

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً

«إنّا»:117

«أعتدنا»:117

الإعداد لا ينافي القدرة:118

الوعيد بغير المحسوس،يلغي الفرق:118

الإعداد و العفو:119

«أعتدنا»صيغة الماضي!119

ص: 286

«للكافرين»:120

الترتيب و الاختيار:121

سبب اختيار أنواع العذاب:122

الفرق بين السلاسل و الأغلال:123

سبب تقديم السلاسل على الأغلال:123

«وَ سَعِيراً»: 124

الأبرار و الفجار..إطناب و اقتضاب:124

لما ذا تحدث عن العقوبة أولا:126

الفصل الخامس

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً

«إِنَّ الْأَبْرارَ»: 131

انسجام المعاني..مع الآيات:132

استعمال المشترك في أكثر من معنى:135

«يشربون»:137

«مِنْ كَأْسٍ »: 138

«كانَ مِزاجُها»: 139

«مِزاجُها كافُوراً»: 140

«كافُوراً»: 141

حذف متعلق الشرب:142

المزاج متأصل في عمق الذات:143

ص: 287

الأبرار..و عباد اللّه:144

اختلاف سياق الآيات:145

للتوضيح و البيان:145

كل ما في القرآن مهم لنا:147

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟153

الفصل السادس

عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً

«عينا»:157

«يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ »: 158

العبادية..و الشرب من العين:158

«بها»:158

عباد اللّه،أم عبيد اللّه:160

الأبرار..و عباد اللّه:162

«اللّه»:162

الجهة الأولى:162

الجهة الثانية:164

«يفجّرونها»:165

الفصل السابع

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»: 171

ص: 288

قيمة الوفاء بالنذر:175

لا يوجد عاطف:177

«يوفون»:177

النذر أيضا سنة إلهية:180

الوفاء بالنذر..و الوفاء بالوعد:181

لما ذا جاء بالباء«بالنذر»؟!:181

«يوفون»بصيغة المضارع:182

الوفاء بالنذر صفة أخلاقية:183

«يخافون»:184

إيمان أم خوف؟!185

«يَخافُونَ يَوْماً»: 189

الخوف من اللّه!أم من اليوم؟!:190

لما ذا«يوما»..بتنوين التنكير؟!:191

مناشئ الخوف:191

الذين عبدوا اللّه خوفا:192

«كان»لما ذا؟!193

«شرّه»:194

«وَ يَخافُونَ يَوْماً.. ..فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »: 194

«مستطيرا»:195

ص: 289

الفصل الثامن

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً

حادثة الإطعام:201

شرح مفردات الآية:202

الإجمال ثم التفصيل:202

«وَ يُطْعِمُونَ »: 202

ألف:لم يقل:يعطون الطعام:202

ب:الإطعام وقت الإفطار:204

ج:«يطعمون»..بصيغة المضارع:205

لام العهد!أم لام الجنس؟:206

ما المراد ب«الطّعام»:206

«على»:207

«عَلى حُبِّهِ » جملة اعتراضية:207

حب الطعام المذموم:207

الضمير في كلمة:«حبّه»:210

هل يحب أهل البيت عليهم السّلام الطعام؟!211

حبب إلي من دنياكم ثلاث:212

«مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً»: 214

1-تنوين التنكير لما ذا؟!:214

2-توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:215

ص: 290

3-حالتان تصاعديتان تتعاكسان:215

4-المسكين..و الباذلون في اليوم الأول:216

5-اليتيم و الباذلون في اليوم الثاني:218

6-الأسير..و الباذلون:في اليوم الثالث:221

7-السائلون..هل هم مسلمون؟!:224

8-الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى:224

9-الإكرام أم الإطعام؟:225

10-قصة الإطعام..و هدف السورة:226

تبدل السياق:226

أسئلة تحتاج إلى جواب:229

السؤال الأول:229

السؤال الثاني:230

السؤال الثالث:230

السؤال الرابع:230

السؤال الخامس:230

جواب السؤال الأول:231

جواب السؤال الثاني:231

جواب السؤال الثالث:232

جواب السؤال الرابع:232

جواب السؤال الخامس:234

ص: 291

الفصل التاسع

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً

«إنّما»:237

«نطعمكم»:237

«لِوَجْهِ اللّهِ »: 237

لما ذا الحصر ب«إنّما»؟!:238

القيد التوضيحي:239

لما ذا قال: «لا نُرِيدُ»؟: 241

«لا نُرِيدُ» مرة أخرى:241

«لا نُرِيدُ» مرة ثالثة:242

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ »: 243

لا رياء و لا سمعة:244

«منكم»:244

«جزاء»لما ذا؟!245

1-تنوين التنكير:245

2-الجزاء هو مقتضى العدل و الحق 245

3-تقديم الجزاء،لما ذا؟!245

أيهما أصعب!!246

الجزاء مرتبط بالشكر و عكسه:246

الشكور:247

ص: 292

لما ذا«شكورا»؟!:248

الفصل العاشر

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً

«إِنّا نَخافُ»: 255

«نخاف يوما.. نَخافُ مِنْ رَبِّنا»: 256

«إِنّا نَخافُ..» هل هي تعليل؟!258

«يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً»: 261

«عبوسا»:261

«يَوْماً عَبُوساً»: 262

رؤية واضحة:262

الحديث عن الشدائد لما ذا؟!:263

«قمطريرا»:264

الإيمان بالغيب:264

الفصل الحادي عشر

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً

«فَوَقاهُمُ اللّهُ »: 271

الوقاية و التفضل:273

التقوى..حذر و استعداد:274

بين صيغتين:274

«فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »: 274

ص: 293

«وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً »: 276

«نضرة»:277

لما ذا بدأ بالنضرة؟:278

ما خافوا منه..و ما لقّاهم إياه:279

«وَ سُرُوراً»: 279

المحتويات:283

ص: 294

المجلد 2

اشارة

تفسیر سورة هل أتی

نويسنده: عاملی، جعفر مرتضی

تعداد جلد: 2

زبان: عربی

ناشر: المرکز الإسلامي للدراسات - بیروت - لبنان

سال نشر: 1424 هجری قمری

سال نشر: 2003 میلادی

کد کنگره: BP 102/933 /ع 2 ت 7

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الثاني

الفصل الثاني عشر: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً

اشارة

ص: 5

ص: 6

قال تعالى:

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

اشارة

حيث أظهرت هذه الآية حقيقة هامة،هي أن وقاية اللّه سبحانه و تعالى للأبرار من شر ذلك اليوم،ثم ما فعله بهم من أنه قد لقّاهم نضرة و سرورا لم يكن هو الجزاء لأولئك الأبرار.بل هذه كرامات و ألطاف إلهية،حباهم اللّه تعالى بها،إمعانا في تشريفهم،و مزيدا في الرعاية لهم.

و ذلك حين منّ عليهم بهذا الجزاء العظيم،في مثل هذا الحال الشديد،الذي يواجهه الإنسان بانتقاله إلى عالم الآخرة،الجديد عليه، و هو يوم الفزع الأكبر..

فكانت مراسم الاستقبال لهم هي هذا التشريف الإلهي،الذي تجلى أولا بالحصانة و بالوقاية التي حباهم بها،فحقق لهم الأمن الحقيقي، و الاطمئنان النفسي،ثم حباهم بالنضرة و السرور الذي كان هو الإشارة الحسية الملموسة،التي تزيد من ثقتهم بأن ما حصلوا عليه ليس أمرا عارضا،قد يزول و يتغير..فيما لو فتحت السجلات..بل هو أمر يدخل في دائرة التكريم و التشريف الإلهي الدائم و المستمر،و أن عليهم أن ينتظروا مكافئات أعظم،و ألطافا و عنايات أتم،و أهم،و أعم..

ثم جاء الجزاء الإلهي الذي نتج عن فعلهم،و له أسباب و علل وفق ما اقتضته السنن الإلهية،و فرضه النظام الرباني..الذي لأجله قال تعالى:

«جزاهم»،و لم يقل:أعطاهم،أو تفضل عليهم.

ص: 7

«و جزاهم»..أم جازاهم؟:

و لا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن التعبير بكلمة جزاهم،التي هي فعل ماض،إنما هو للإشارة إلى أن هذا الأمر كأنه قد حصل و انته حتى ليصح الإخبار عن حصوله.و ذلك لعدة خصوصيات قد أشير إليها أكثر من مرة..

و يبقى سؤال هو:أن التعبير هنا قد جاء بكلمة جزاهم-لا بكلمة جازاهم،فما هو الفرق بين التعبيرين يا ترى؟!

و نقول:

قد يمكن الإجابة عن ذلك بأن كلمة«جازى»تستعمل في مورد العقاب غالبا.بل قد يستفاد من قوله تعالى: وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ، أن كلمة جازى متمحضة في الجزاء بالسوء.

أما كلمة جزى فتستعمل في العقوبة و المثوبة على حد سواء،قال تعالى: وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (1).

و قال في مورد المثوبة: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

و قد يقال أيضا:إن كلمة جازى تفيد التدقيق و المقابلة بصرامة،أو فقل:معناها الجزاء وفق ميزان العدل.

أما كلمة جزى فتفيد مطلق المكافأة،حتى و لو بالزيادة على ما يقتضيه ميزان العدل..و لذلك،فإن اللّه تعالى،و إن كان في مورد العقوبة، لا يزيد عن مقدار ما يجازي عليه،و لكنه في مورد المثوبة يزيد في

********

(1) سورة سبأ الآية 33.

ص: 8

المثوبة إلى سبع مائة ضعف،ثم يضاعف لمن يشاء،و هذا أزيد مما يقتضيه العدل.و في المورد الذي نحن فيه،مذ جاء الجزاء وفق مقتضيات التفضل،الذي لا حدود للعطاء فيه،و لأجل ذلك نكّرت كلمة جنة،و كلمة حرير..لإفادة أن ما يعطيهم اللّه إياه يفوق حدود التصور، كما ألمحنا إليه آنفا في قوله تعالى: وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً..

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية:

ثم إن من الواضح:أن كلمة جزى،تعني إعطاء البدل و المكافأة من طرف واحد،و لا يلحظ فيها إلا ما يفعله من يريد إعطاء الجزاء.

أما كلمة جازى،فهي على وزان فاعل،التي تستعمل عادة للدلالة على وجود فعل من الطرفين،بصورة متكافئة و متوازنة،فهي مثل قاتل، و لاعب..

فالجزاء الإلهي إذا كان على سبيل المثوبة،فإنه لا يلحظ فيه الفعل إلا في طرف واحد،و هو اللّه سبحانه..و لا يلحظ فيه التعادل و التوازن بين ما يعطيه اللّه سبحانه،و ما يقدمه العبد من عمل،إذ لا مجال للموازنة بين العطاء الإلهي،و بين الطاعات الصادرة عن العبد..و إن كان فعل العبد له دور التسبيب للفيض و للعطاء الإلهي.لكن لا يلحظ فيه أزيد من ذلك..فيعطي اللّه مقابل الحسنة عشر أمثالها،إلى سبعمائة ضعف،ثم إن اللّه يضاعف لمن يشاء..

و إنما قلنا:إنه لا مجال للمقابلة،بسبب الطاعات أيضا،لأنه إنما يقدر العبد عليها،و يأتي بها بواسطة قدرات أخرى أنعم اللّه بها عليه، و هي لا يمكن إحصاؤها،و لا شكرها.

أما إذا كان على سبيل العقوبة..فإن اللّه سبحانه..و إن كان قد أوعد

ص: 9

العاصين بالجزاء بالمثل،لكن يبقى موضوع العفو،أو التخفيف،مراعاة لكثير من الأمور واردا في كثير من الموارد..بل إن المقابلة بالمثل على نحو الدقة المتناهية قد لا تكون واردة إلا في مورد واحد،و هو ظهور كثرة الكفر و شدته،كما أشارت إليه الآية الكريمة التي تتحدث عن سبأ، الذين أرسل اللّه عليهم سيل العرم،حيث قال سبحانه: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (1).

و يلاحظ:

أن هذه الآية هي الوحيدة التي وردت في القرآن بصيغة«فاعل»، للدلالة على المقابلة بين العمل الصادر منهم،و بين الجزاء الصادر من اللّه سبحانه لهم.و للدلالة على وجود هتك و تعدّ على اللّه تعالى من قبلهم، فناسب ذلك أن يكون في مقابله هتك لحرمتهم و مواجهه لهم بما يسوءهم و في هذا نوع من التوسع في الإطلاق،كما هو ظاهر..

الثواب بالتفضل،أم بالاستحقاق؟:

ثم إنه لا شك في:أن التمرد على المولى يوجب العقوبة،كما أنه بما يمثله من عدوان على نظام الحياة يوجب خللا في هذا النظام، يستوجب العقوبة أيضا،لأن ما يفعله الإنسان لا يقاس بحجمه المادي و حسب..بل تلاحظ فيه الحيثيات الأخرى أيضا..فمن كسر زجاج شباك الغير خطأ فعليه أن يعوض ما كسره،و ينتهي الأمر،لكن من يضرب مولاه عمدا،فإن القضية ليست مجرد ضربة بضربة.إذ يبقى موضوع هتك حرمته من حيث هو مولاه،بدون تعويض،كما أن الأمر بالنسبة

********

(1) سورة سبأ الآية 17.

ص: 10

لجانب الطاعة كذلك،فإن البلخي قد ادعى:أن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل لا بالاستحقاق..

و استدل على ذلك:بأن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة،فلا يستحق فاعلها مثوبة عليها،فما يعطيه اللّه للعبد عليها إنما هو تفضل منه.

و نقول:

إن هذا الكلام باطل،إذ يقبح عند العقلاء أن ينعم أحد على غيره بنعمة،ثم يكلفه،و يوجب عليه شكرها،من دون إيصال ثواب إليه على هذا التكليف،و هم يعدون ذلك نقصا،و ينسبون من يفعل ذلك إلى حب الجاه و الرئاسة و نحو ذلك من المعاني التي لا تصح من الحكيم.

و هذا يعني:أنه إذا كلفه،فإن عليه أن يثيبه على امتثاله لهذا التكليف..و أن المثوبة بالاستحقاق،لا بالتفضل.

و بعبارة أخرى:

إن الطاعة مشقة ألزم اللّه العبد بها،فإن لم تكن لغرض كانت ظلما و عبثا،و هو قبيح لا يصدر من الحكيم.

و إن كانت لغرض..فإن كان يعود إلى اللّه فهو باطل،لأنه تعالى غني عن العالمين.و إن كان الغرض عائدا للمكلف..فإن كان هو الإضرار به كان ظلما قبيحا.

و إن كان هو النفع له،فإن كان مما يصح أن يبتدئ اللّه به العبد، فلما ذا يكلفه به..و إن كان مما لا يصح الابتداء به،بل يحتاج إلى تكليف،فإن العبد يستحق أن يعوضه اللّه عن تلك المشقة التي كلفه بها بمثوبة و أجر..

و هذا معناه:أن مثوبة العبد إنما هي بالاستحقاق،و هو المطلوب..

ص: 11

استحقاق ناشئ عن التفضل:

و الحقيقة هي:أن هذا الاستحقاق ناشئ عن التفضل،و ذلك ببيان:أن مالكية اللّه للعبد و لكل شيء،و كون طاعة العبد إنما تتحقق بالاستفادة من نعمه و تفضلاته و فيوضاته تعالى..-إن ذلك-يجعل تقرير أصل الثواب للعبد المملوك على أفعاله داخلا في دائرة التفضل،فكيف إذا جعل له جزاء مضاعفا أضعافا كثيرة؟!.

و لكنه بعد أن قرر اللّه تعالى ذلك لعباده و مملوكيه بعنوان الجزاء، و تفضّل عليهم بزيادة مقاديره..و أصبح هذا قانونا إلهيا مجعولا،فإن ذلك يدخله في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

و لأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يحرم اللّه سبحانه المطيع من هذا الثواب.و لو أنه كان تفضلا،لجاز ذلك..فكيف لو أراد أن يحرم المطيع،و يعطي العاصي؟!فإن الأمر سيكون أشد قبحا،و أعظم شناعة، كما هو ظاهر لا يخفى.

و هذا من قبيل ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة إذا نجح في الامتحان،فإذا نجح ذلك الولد،فسيرى أن له حقا بمطالبة والده بتلك الجائزة.حتى إذا حرمه منها،فسيجد نفسه مظلوما مهانا،فكيف إذا حرمه منها،و أعطاها لأخيه الراسب؟!

و بتعبير أوضح:إن إعمار الأرض،و تحقيق الأهداف الإلهية في إيصال الإنسان إلى كماله،يقتضي تزويده بالأدوات التي تمكنه من ذلك، فكان أن أعطاه اللّه المشاعر،و العقل،و الإرادة،و وفر له جميع أنواع الهدايات:الإلهامية،و الحسية،و الفطرية،و الغرائزية،و العقلية،ثم اعتبره أهلا للخطاب الإلهي..فجعل له قانونا،و أكرمه،و كلفه به..و جعل له كيانا

ص: 12

و شخصية..رغم أنه هو المالك له،فإن مقتضى الأخذ بهذه السياسة هو الالتزام بلوازمها،و الاستجابة لموجباتها،و ترتيب آثارها..فالذي جعلت له كيانا،و كرامة،و رسمت له هدفا،و كلفته بالعمل للوصول إليه باختياره، و قررت له حقوقا،فإنه إذا أنجز ما طلب منه،سيطالب بهذه الحقوق المجعولة له،و لا يرضى بأن تعطى لغيره،حتى لو كان ذلك الغير هو ولده،أو أبوه،أو أخوه،و سيرى نفسه مظلوما إن حصل ذلك فعلا.

«بِما صَبَرُوا» :

ثم إنه مرة يكون الدافع للعطاء هو مراعاة خصوصية في المبذول له، ككونه عالما،أو لأجل حسن سلوكه،أو إلخ..فيعطيه،و لو لم يصدر من ذلك الشخص أي فعل يستحق أن يقابل بشيء آخر..

و مرة يراد بالعطاء أن يكون مقابل جهد يراد أن يكون جزاء له، فتحتاج إلى تحقيق توازن بين المجازى به،و المجازى عليه،من حيث إن هذا أقل،و ذاك أكثر،أو العكس..

و قد يكون هذا العطاء أرجح من حيث الصفة التي يراد مراعاتها فيه، و قد لا يكون كذلك..

و بعد ما تقدم نقول:

هل يريد اللّه تعالى بقوله: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أن يجعل العطاء و الجزاء،على نفس وجود طبيعة و خصوصية الصبر فيهم؟!..أو أنه يريد أن يجازيهم على فعل صدر منهم،و قد كان هذا الفعل تجسيدا لمفهوم الصبر في الواقع الخارجي؟!

إن الظاهر أن المراد هنا،هو هذا الشق الثاني..

و ذلك لأن كلمة «بِما صَبَرُوا» تستبطن،أو فقل:تصرح،بأن هذا العطاء

ص: 13

قد كان بسبب وجود مبرر،بل لأجل استحقاق واقعي لما تعطيه إياه.

و هذا معناه:أنه لا بد أن يكون مقدار و ميزات الفعل الصادر من الأبرار ملحوظا في مقام العطاء،ليصح أن يقال إن هذا في مقابل ذاك.

فالباء في قوله «بِما صَبَرُوا» إذن تفيد مقابلة هذا بهذا،و التعويض به عنه،و تفيد الآلية و التسبيب،و أن الوسيلة إلى هذا الجزاء،هي ذلك الصبر.

و هذا يقتضي:أن لا تكون هناك أية منة عليهم بهذا الجزاء،لأنه أعطى في مقابل عمل..و أن هذا العمل ليس عاديا بل هو يحتاج إلى صبر،و تحمل،و جهد..

و بذلك يتضح السبب في:أن اللّه سبحانه قد استخدم نفس هذه الباء أيضا،في قوله: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (1).و في قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ (2).

الجزاء مقابل الصبر،أم مقابل العمل؟:

و قد تحسن الإشارة إلى أنه تعالى قد جعل الجزاء هنا،مقابل الصبر نفسه،لا مقابل العمل الذي صبروا عليه،ليشير بذلك إلى شدة معاناتهم، و أنها قد بلغت حدا أصبح نفس فعلهم صبرا،و أصبح الجزاء على نفس هذا الصبر..

و قد جاء بكلمة صَبَرُوا بصيغة الماضي،لعله ليشير إلى أن هذا الصبر هو فعل اختياري لهم،و ليس أمرا مفروضا عليهم..فليس حالهم

********

(1) سورة البقرة الآية 45.

(2) سورة الرعد الآية 24.

ص: 14

كحال ذلك السجين الذي يجبر على بعض الأعمال الشاقة..بل هو صبر و حصانة قد اختاروها أنفسهم و اختاروا هم الفعل الذي ينتجها..

و يلاحظ هنا:أنه لم يذكر للصبر أي متعلق،ربما ليفيد أن صبرهم هذا كان شاملا،فهو صبر على الطاعات،فلا يملون منها،و صبر عن المعاصي،فلا يقربونها،و صبر على المصائب و البلايا.و صبر على الأذى في جنب اللّه،و ما إلى ذلك..

و كل صبر لهم في هذه الموارد لم يأت على أساس العجز عن اختيار الطرف الآخر،أو الاضطرار إلى التحمل،بل كما يضطر المحتاج لبيع ما غلا،بثمن بخس،من أجل سد حاجته،بل هو صبر الاحتساب، و هو الصبر الواعي،الذي تنتجه إرادتهم،و يدفعهم حبهم للّه لاختياره.

إنه صبر أنتجه لهم إطعامهم الطعام للمسكين،و اليتيم،و الأسير،على النحو الذي وصف اللّه و رسوله..و ينتجه لهم الوفاء بالنذر،و ينتجه أيضا خوفهم من يوم كان شره مستطيرا..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى قال: بِما صَبَرُوا، و لم يقل:

جزاهم بصبرهم،فإن التعبير بالمصدر قد يوحي بأن هناك أمرا أو شدة قد فرضت عليهم،و أنهم قد تحملوها.و هذا ما ليس بمراد قطعا..

كما أن ما ذكرناه في معنى الباء،إذا أضيف إلى سائر ما أشرنا إليه، يجعلنا نعرف السبب في أنه لم يقل:«على صبرهم».

لذة الاستحقاق:

و لا بد لنا هنا من بيان:أن الجزاء على عمل فيه معاناة،و صبر، و إحساس بالاستحقاق له لذة أخرى تضاف إلى لذة نفس العطاء،من حيث هو عطاء..

ص: 15

فإن الجهد نفسه يجعل للعطاء لذته،و للشعور بالاستحقاق لذة أخرى تضاف إلى ذلك.

و ربما يمكن تأييد ذلك بما نشاهده من تعلق الإنسان،و حرصه الشديد على كل شيء يناله بعد تعب و جهد.بخلاف ما يحصل عليه بسهولة و يسر،فإنه لا يكون له ذلك التعلق به،بل يسهل عليه التخلي عنه،تماما.قال الشاعر:

و من أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد

و لعل سبب اللذة بما يبذل الإنسان في سبيله جهدا،هو أن بذل الجهد يكون سببا في الشعور باستحقاق الجزاء..و هذا يعطي الإنسان شعورا بالعزة،و الكرامة،و بالانتصار،و بالاستقلال في شخصيته و كيانه، و يمنحه ثقة بنفسه.

فعطاء الجزاء إذن له قيمته،و له لذته المميزة.و ربما لا يكون لعطاء التفضل هذا النوع من المزايا،و إن كانت له مزايا من نوع آخر..

و هناك شعور آخر قد يتمازج مع لذة الاستحقاق،و ما ينشأ عنها،ألا و هو شعوره بأن ما يعطى له إنما هو نتيجة ما بذله من جهد و تعب،فهو بذلك قد أسهم في رفع نقصه،و تحويله إلى كمال،و بدّل عجزه بالقوة، و حاجته بالغنى..

و هذه مزايا أخرى يحبها،و يعتز بها،و ترضى روحه بها.

كما أن علاقته بنتاج فعله و جهده الذي كان به كماله،و غناه و قوته، ستكون علاقة لها مغزاها العميق،و أثرها الظاهر في روحه و وجدانه، و إحساسه بالرضا و الغنى،و بالكمال و القوة.

و خلاصة الأمر:أن للنعمة التي أعطيت له لذة،و بهجة،و رونق..

ص: 16

و للشعور بأنها عن استحقاق بسبب تعب و جهد؛لذة أخرى..ثم إن هناك أيضا لذة الكمال و الشعور به..

استطراد..للتوضيح:

و نستطيع أن نستشهد على هذا الذي قلناه بما يلي:

ما ورد عنهم صلوات اللّه و سلامه عليهم:«تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن» (1).

إذ إن الذي يقدم الهدية،هو الذي يحب من أخذ الهدية،و لعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده و عرقه،أو ببذل ماء وجهه،أي:

أن جزءا من كيانه،و وجوده قد تجسد بهذا النتاج.و الإنسان يحب نفسه، و كل متعلقاتها،و يتعامل مع كل ما يعود إليها،أو يرتبط بها،بصورة أكثر حميمية،و انجذابا،من تعامله مع الأغيار.

و هذا يشير إلى أنه حين أمرنا اللّه تعالى بالبذل للآخرين،فإنما أراد منا أن ننظر إليهم،و أن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا و من وجودنا،و ما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغير الكثير الكثير من طبيعة حياتنا،و علاقاتنا و مواقفنا من بعضنا البعض.

أما من يأخذ الهدية،فقد يكون في حرج و ضيق،حين يفكر بأن المعطي قد يمنّ عليه بما أعطاه،و يذكّره به حتى بالسلام،و في البسمة و اللفتة،و النظرة،و قد تذهب به أفكاره و خيالاته كل مذهب،ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه،و يتخلص منه،و لو بالأسلوب السيئ

********

(1) بحار الأنوار ج 72 ص 44 و ج 74 ص 166.

ص: 17

و المهين.و قد شاع ذلك القول المأثور:«اتق شر من أحسنت إليه» (1).

و شاهد آخر على ذلك،هو أن اللّه سبحانه يقول: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).

فإن اللّه سبحانه حين شرع أحكام الزواج،لم يذكر واجبات و أحكاما إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد،سوى عدد يسير،ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة..و اكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة،الشاملة لكل مسلم..

مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين،يفوق ما يكون في أية حالة أخرى..و الأجواء في داخل البيت الزوجي مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر..

و ذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند اللّه تعالى..

و هو من مظاهر الإعجاز التشريعي،الدال على أن واضعه هو اللّه العالم بالسرائر..حيث إنه قد تبين من خلال هذا التشريع أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي،أو تجاري،أو سياسي،أو على أساس الخضوع و الانقياد لظروف اجتماعية،أو غيرها..لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة،أو انتهاء ذلك الظرف السياسي،أو الاجتماعي،أو غيره..أو إذا وجد أي من الشريكين موردا آخر أكثر ربحا،و أعظم فائدة و نفعا.

********

(1) تفسير الميزان ج 2 ص 352.

(2) سورة الروم الآية 21.

ص: 18

كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة و الحب الشهواني،فإنه تأثير سيتضاءل أيضا إلى حد التلاشي التام؛حينما تفقد الغريزة فاعليتها و نشاطها،أو حينما تخبو جذوة الشهوة،لأي سبب كان..

بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله،يستطيع أن يكون هو الحاكم،و المؤثر،في مختلف الظروف و الأحوال،ألا و هو الحب الإنساني،و النظرة الإيمانية..

فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية،في كلا الطرفين،تجاه الطرف الآخر،و هيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر،لتنتج من ثم حبا إنسانيا صافيا و خالصا،يحمل في داخله معنى القيمة،و معنى الإخلاص، و يتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان،فيهبه حياة،و يقظة دائمة،و يتأصل،و يتجذر،و يتعمق بالإيمان،و التقوى..و يصان و يحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية و الوجدانية.

و من هنا نجد:أن التشريع الإلهي لم يقم نظام الحياة الزوجية على أساس الحق و العدل.و قهر الطرف الآخر به،و فرضه عليه..إذ أنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما،و ذلك الذي شرعه و فرضه فعلا،لن يحقق لهما الراحة،و السعادة،و الهناء،إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان و التظالم فيما بينهما،حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء،حيث يكمن الخطر،و تتعمق الهاوية السحيقة.

و لسوف يدركان من خلال التجربة العملية:أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة،بل إن نيلها وسائل و طرق أخرى لا بد من البحث عنها..

و لن يطول بهما المقام،إذ سيدركان:أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد اللّه لهما أن يعودا إليه،ألا و هو التوادّ،و التراحم،حسبما أشارت

ص: 19

إليه،الآية الكريمة: وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً (1)أن الملاذ و المنقذ هو الحب الإنساني،لا الحب الغريزي و الشهواني،الذي ليس هو في الحقيقة إلا تعبيرا آخر عن الأنا الطاغي،و المتمرد،الذي يريد أن يستأثر باللذة،و أن يسعد بها،بأية قيمة و بأي ثمن.

و الحب الإنساني و الإيماني:لا يرضى بديلا عن أن يصبح كل من الزوجين جزءا من شخصية الطرف الآخر،و متمما لكيانه،و وجوده: مِنْ أَنْفُسِكُمْ .

و لكن:اللّه سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية، و بجبرية قاهرة..و إنما يريد لهما أن يقوما معا بتهيئة أسباب وجوده، و موجبات نشوئه.و أن ينتجاه بصورة طبيعية،و أن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءا من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.

و قد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة،و التي تكون عن إرادة و اختيار،و من منطلق المعرفة،و الوعي،و الإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية،في مختلف المجالات..

فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر،و بحاجته للمساعدة و الرعاية،فستتحرك مشاعر الرحمة فيه،و سيدعوه ذلك لمد يد العون له.حتى إذا تكرر هذا العون و التعاهد له مرة بعد أخرى،فإن ذلك سيجعله يتعلق به،لأن جزءا من جهده،و من عرقه،قد تجسد فيه،و سيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعا لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له..

و لعل هذا يفسر لنا سرّ شدة تعلق الأم بطفلها،فإن سببه هو مدى ما

********

(1) سورة الروم الآية 21.

ص: 20

تبذله من جهد في مساعدته،و هي ترى ضعفه و حاجته،فتسهر عليه، و تتحمل الكثير من المشاق في سبيله.

أما الأب فإن ما يبذله من جهد و تضحيات مباشرة في سبيل الطفل؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه فلذا كان من الطبيعي أن العاطفي بالولد عن درجة التعلق العاطفي به لدى أبيه.

و بذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى: جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً فإن المودة-كما قالوا (1)-هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل..

غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته،التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج،مما له صفة غرائزية،أو ذوقية،نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة،فيكون ضعف تلك الموجبات سببا في بعض الخفوت، و ضعف التأثير في الحركة العملية،و السلوكية،الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني،و هو الرحمة،التي هي انفعال نفساني،قوامه رقي في الإدراك الإنساني،و شفافية،و صفاء،و تألق،في روح الإنسان و نفسه..

نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة،و الحميمة،و الصادقة،محتفظة بقوتها،و بحيويتها..

و المثال الثالث الذي نذكره هنا ما رواه الكليني رحمه اللّه من أن الإمام الرضا [عليه السّلام]رأى مع غلمانه شخصا أسود،يعمل معهم بالطين،فسألهم عنه،فقالوا:إنه يعاونهم و يعطونه شيئا،فغضب[عليه السّلام]من ذلك.

********

(1) عن كنز الفوائد للكراجكي.

ص: 21

فسأله سليمان بن جعفر الجعفري عن ذلك..

فقال:«إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة،أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.

و اعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا بغير مقاطعة،ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أجرته،إلا ظن أنك قد نقصته أجرته.و إذا قاطعته،ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء،فإن زدته حبة عرف ذلك لك،و رأى أنك قد زدته» (1).

نعم..إن جهد الإنسان عزيز عليه،لأنه يبذله من أغلى و أعز شيء في الوجود عليه،و هو كيانه و عرقه،و شخصيته،و سوف لن يكون دقيقا في تقديره لقيمته،بل هو سوف يذهب في ذلك إلى أقصى المذاهب، إنه سوف لا ينظر الى العمل،بل سوف ينظر إلى من عمل،فهو إنما يطلب قيمة تفرض عليه أن يتخلى عن العلاقة القائمة بينه و بين بعض منه،و جزء من ذاته..

و معنى هذا:أن التخلي لن يكون سهلا،إذا قيس بالتخلي عن أمر ليست له به هذه الصلة،بل هو لغيره،و دوره فيه،هو دور الحفظ و الأمانة..فإنه سيلحظ في هذا الحال قيمة نفس ذلك الشيء المؤتمن عليه..و سوف تنقطع علاقته به بمجرد حصوله على هذه القيمة..

مقارنة بين الجزاء..و بين العمل:

و مراجعة الآيات الشريفة تعطينا:أنه سبحانه قد ذكر أمورا يقوم بها الأبرار،ثم قابلها تعالى بجزاء متعدد المناحي،و الكيفيات،و الحالات..

********

(1) الكافي ج 5 ص 288 و بحار الأنوار ج 49 ص 106.

ص: 22

فذكر أن الأبرار: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

و أنهم يقولون لمن يطعمونهم: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ و أنهم«لا يريدون جزاء»،و أنهم«لا يريدون شكورا»..و أنهم«يشربون من كأس كان مزاجها كافورا»،و أنهم«يفرجون العين التي يشربون بها تفجيرا»..

و بعد أن ذكر هذه الأحوال للأبرار قابل ذلك بجزاء بيّن كثيرا من حالاته،و مفرداته فكان هذا الجزاء«جنة،و حريرا»، «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ » ..حيث قطوف الجنة دانية عليهم،و مذللة لهم تذليلا.. «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ » ،و بأكواب إلخ..

لما ذا لم يذكر الحور العين؟:

و ربما يرى البعض:أن اللّه سبحانه لم يذكر الحور العين في جملة مفردات نعيم الأبرار هنا إكراما للزهراء[عليها الصلاة و السّلام]..لأن السورة نزلت في علي،و فاطمة،و الحسنين[عليهم السّلام]..

و نقول:

إنه ليس لدينا ما يمنع من أن يكون هذا التكريم مقصودا،و لكن لا بد أن نضيف إلى ذلك:

أولا:لأن لهذه السورة الشريفة خصوصية تنفرد بها فيما يرتبط ببيان طبيعة الجزاء الذي أعده اللّه سبحانه للأبرار،فإن عمدة ما أشارت إليه من مفردات هذا النعيم،هو حالات من النعيم المعنوي،و اللذات التي يدركها الإنسان بمشاعره،و فكره،و عقله،و روحه،من حيث إنها تعبير عن مقام سام،و عن تكريم و إجلال و تقدير..

بل إنه حتى حينما تحدث تعالى عن أمور حسّيّة،فإنما ساقها

ص: 23

بطريقة توحي بحالات و معان،تثير لذات معنوية،روحية،و شاعرية،أكثر مما هي مؤثرة في النعيم الحسي،و اللذة الجسدية..

فمثلا:جعل جزاءهم نفس الجنة،لا مجرد دخول الجنة و السكنى فيها،و ذلك يشير إلى أن المطلوب هو إثارة الشعور بالمالكية،و القدرة، و التصرف من موقع المالك،لا من موقع الساكن و النزيل،فإن من يشعر بملكية الشيء يكون تصرفه فيه أقوى و أعمق،و تراوده مشاعر طمأنينة، و ثبات و سكينة أقوى.

كما أنه تعالى قد ذكر في هذه السورة لذة الاستحقاق،و لذة الجزاء..

بعد معاناة الجهد،و الضعف،و الحاجة،من قبل أولئك الأبرار،و ذكر أيضا لذة رفع الجهد،و زوال الضعف،و دفع الحاجة،و لذة الكمال،و لذة العطاء بعد المعاناة..

و بيّن في هذه السورة المباركة أيضا حالات التصرف و آفاقه،فلاحظ قوله: مُتَّكِئِينَ ، فإنها تلمح إلى لذة القدرة على التصرف،و إلى التصرف الفعلي الذي يحسّ الإنسان بلذته فعلا أيضا..و ستأتي بقية التفاصيل..

فإذا قارنت هذه اللذات المعنوية التكريمية بأنواع تلك الأعمال التي تصدى الأبرار لها،فإنك ستجد تناسبا عجيبا فيما بين طبيعة الأعمال و طبيعة الجزاء عليها..

فإن الوفاء بالنذر،و الخوف من ذلك اليوم،و إطعام الطعام في تلك الأحوال التي وصفناها،و بهذه الروحية التي بيّنها القرآن،و كون الهدف هو رضا اللّه،و ليس الحصول على النعيم و الجنان..ثم تفجيرهم للعين تفجيرا بالعمل الصالح..و..و-إن كل هذا-يناسب تماما مفردات هذا

ص: 24

النعيم المعنوي التي وردت في هذه السورة على أنها جزاء على صبرهم..و هذا الجزاء هو الذي يحقق طموحاتهم،و ما يفكرون فيه..

ثانيا:هناك أمور كثيرة ذكرها اللّه سبحانه في سائر السور القرآنية، على أنها من مفردات النعيم و لم تذكر هنا،فهو لم يذكر مثلا أنهار العسل،و أنهار اللبن،و النخل،و الرمان،و غير ذلك،فعدم ذكر الحور العين هنا لعله لأن المورد ليس من موارد الجزاء بها..

«جنّة»:
و حول كلمة«جنّة»نشير إلى ما يلي:

1-قد أشرنا آنفا إلى أن اللّه تعالى قد جعل جزاء الأبرار نفس الجنة،و ليس جزاؤهم مجرد السكنى فيها..و قد قلنا:إن تصرف المالك في الدار مثلا أقوى و ألذّ،و أرضى له من تصرفه فيه كنزيل..

2-لقد قال تعالى: جَنَّةً بتنوين التنكير،ليظهر أنها فوق حدود التصور،فلا مجال لمعرفة حقيقتها،و وعي أوصافها و خصوصياتها.

فالتنوين إنما هو لأجل تفخيمها،و تعظيمها بما لا مزيد عليه.

3-إن نفس إبهام هذه الجنة يهيئ لخاطر هؤلاء الأبرار لذة أخرى، و هي لذة محاولة استحضار ذلك النعيم.لا ليكون خيالا لذيذا،بل ليكون تصورات لها تطبيقاتها الواقعية..

فلهم إذن لذتان:

إحداهما:تأتي من خلال التفكير في هذه الجنة و عظمتها و فخامتها.

و الأخرى:هي الاستفادة من الجنة مباشرة..

و حتى حين يكون الأبرار في الجنة،فإن لذتهم ستتضاعف،إذا شعروا أن هناك درجات،و حالات من النعيم،أعدها اللّه لهم،لو طلبوا

ص: 25

شهودها لوجدوها،و لكن هذا الشهود و الكشف،لا بد أن يأتي بصورة تدريجية،لأن تصوراتهم قد تكون قاصرة عن نيل آفاقها،و عن إدراك حالاتها الجمالية،و غير ذلك مما هو فيها،في آن واحد.

«جنّة و حريرا»،لما ذا؟:

و يرد سؤال:إنه إذا كان سبحانه قد جعل الجنة جزاءهم،فإن الحرير سيكون أحد مفردات النعيم فيها،فلما ذا قال: جَنَّةً وَ حَرِيراً؟!

و قد يقال في الجواب:إن هذا من باب التفصيل بعد الإجمال،فإن اللّه سبحانه قد جازاهم بالجنة فقط،ثم فصل لهم حالاتها و حالاتهم فيها، فلا يوجد هناك سوى جزاء واحد..قد بيّنه اللّه على هذا النحو.

و نقول:قد يناقش في هذه الإجابة بأن هذا الكلام قد يكون صحيحا بالنسبة لما ورد بعد قوله:«و حريرا»..و لكنه قد لا يكون ظاهرا،و لا مقبولا،بالنسبة لهذه الكلمة بالذات التي عطفت على الجنة بالواو، و العطف يقتضي المغايرة.

غير أننا ندفع هذه المناقشة:بأنه يكفي في التغاير أن يكون بالعموم و الخصوص،فيذكر الأمر الجامع أولا،ثم تخصّص بعض مفرداته بالذكر لغرض ما،و هذا كما تقول لمن تريد أن ترغّبه في زيارتك:ائت إلينا، و سنقدم لك قصرا مجهزا بكل ما تحب،و فيه مقاعد وثيرة،و لوحات زيتية رائعة و..و..الخ..

و يبقى سؤال،و هو:لما ذا اختار اللّه سبحانه و تعالى هذا النوع من التعبير؟

و لما ذا اختص ذلك بالحرير دون سواه من مفردات نعيم الجنة؟!.

و الجواب:أن المراد هنا هو الإشارة إلى أن هذا الجزاء على نحوين:

ص: 26

أحدهما:ثابت و مستمر.و هو وجود الجنة،و وجود الحرير..

و الآخر:هو حالات و تصرفات تتصرّم و تنقضي،لأنها مرهونة بإرادة أولئك الأبرار أنفسهم،و يتجلى ذلك في قوله: «مُتَّكِئِينَ » ، «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها» ، «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ » ،«و يسقون»،الخ..

فهو يذكر تصرفات و أحداثا لها بداية و نهاية،و هي تابعة لإرادة الأبرار..أما الجنة و الحرير فليسا من هذا القبيل..بل هما من الأمور العينية،و لذتهما قائمة في نفس ذاتهما.و ليست اللذة بالفعل و بالحدث المتصرّم.

الجنة و الحرير أولا:

و قد بدأ بالحديث عن الجنة و الحرير باعتبار أن إدراك الإنسان للذة الحسية أسرع من إدراكه للذة المعنوية و الروحية التي تحتاج إلى وسائط.

فلبس الحرير يلذ للإنسان،لكن تذليل القطوف،و دنو الظلال..يحتاج إلى وسائط لوعي مفهوم التكريم فيه.و هو مفهوم لا يكفي أن يتصوره الإنسان،بل لا بد لكي تنشرح نفسه له من أن يدرك أنه هو المقصود به، و أن يدرك أنه لم يأت على سبيل الصدفة،بل هو عمل مقصود لفاعله المختار.

و حين يطاف عليهم بآنية،فعليه أن يدرك أولا وجود مخلوق يحمل آنية،و يطوف عليه بها،و أن يدرك أن هناك إرادة وراء ذلك التطواف بالآنية،ثم أن يدرك أن لهذا الفعل هدفا،و أن هذا الهدف هو تكريمه..

فهذه وسائط عديدة لا بد له أن يمر بها قبل أن تنشرح نفسه لهذا التطواف بالآنية.

و الاتكاء على الأرائك أيضا يحتاج إلى وسائط لإدراك لذته..و من

ص: 27

هذه الوسائط إدراك المتكئ أنه قد حصل على ما يرغب في الحصول عليه،و التفاته إلى فراغ باله منه..ثم إرادة المتكى للاتكاء نفسه،و كذلك إرادة أن يكون ذلك على الأرائك،ثم إرادة أن يكون هذا الاتكاء تعبيرا عن ذلك الحصول،و تجسيدا لفراغ البال بهذه الكيفية،و أن يشعر بأنه يمارس حريته الفردية في الاستفادة من هذا الفراغ الحاصل..

الجنة أولا:

و من جهة أخرى،فقد قدّم ذكر الجنة في الآية على ذكر الحرير..

لأن إعطاء الجنة معناه:إعطاء مختلف اللذائذ الحسية،فضلا عن غيرها.

و هي الأوضح،و الأصرح،في النعيم،و في التكريم.

و تبدأ اللذة فيها بنفس اسمها حيث يشعر من يكون فيها:أنه محاط، و مغمور بالنعيم و بالنعم،و أن كل شيء فيها حسن جميل،ثم هو لذيذ و محبوب و مطلوب..

ثم ثنّى بذكر الحرير الذي تكون لذته أيضا حسيّة،لا يحتاج نيلها إلى أكثر من ممارستها.و لكن الحرير إنما يعبر عن نفسه،و لا يعبر عن سائر النعم التي في الجنة..

ثم يذكر بصورة متعاقبة تلك النعم التي يحتاج إدراكها إلى توسيط وسائط،و يحتاج نيلها إلى حركة نحوها،و التي هي في الحقيقة تصرفات و ممارسات مختارة في تلك الجنة..

أضف إلى ذلك:أن التنعم بالجنة إنما هو بنفس الكون فيها،أما التنعم بالحرير،فيحتاج إلى الالتفات،و الترجيح له،و اختياره،و إرادة لبسه،ثم لبسه فعلا،و إلى التقلب فيه.

***

ص: 28

الفصل الثالث عشر: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً

اشارة

ص: 29

ص: 30

قال تعالى:

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ .

«متّكئين»:

ثم شرع سبحانه بذكر تفاصيل مفردات النعيم الإدراكي و المعنوي، الروحي،و الشعوري،فبدأ أولا بذكر صفة الاتكاء في الجنة للأبرار،دون ما سواها من الصفات،و لعل سبب ذلك:أن الاتكاء هو نتيجة الشعور بالكمال و بالغنى.و هو أول مراتب النعيم،و هو مفتاح كل لذة في الجنة كما سنرى.

و التنعم بالاتكاء يحتاج إلى التفات،و ترجيح لفعل على سواه،ثم إلى اختيار و إرادة،و حركة و فعل،و أريكة،و جلوس عليها.و هو-كما قلنا-يشير إلى العديد من الخصوصيات،من قبيل:الشعور بالسكينة، و فراغ البال،و سكون الخاطر،و الرضا الناشئ عن وصول الإنسان إلى كماله،و إلى القوة بعد الضعف،و إلى الغنى بعد الحاجة،و إلى الواجدية بعد الفاقدية.

إنها جلسة الآمن المطمئن،الذي لا يحذر شيئا،إذ لم يعد هناك مجهول..و ليس هناك ما يخاف منه،و لم تعد هناك أية حالة ترقب،فقد أصبح الآن في منازل الكرامة الإلهية،و حقق الاتصال بمصدر القوة، و محل الفيوضات.

هذا كله بالإضافة إلى أن في ذلك تعبيرا عن الاعتزاز و الغنى،

ص: 31

و إعلانا بهذا الإكرام الإلهي..إنها جلسة تعبر عن الحقيقة،فلا تصنّع فيها، و لا يرى نفسه بحاجة إلى أي تظاهر بغير الواقع،و ليست هي جلسة استكبار و جبروت،كما هو حال الفراعنة و الجبارين..

إنها الحالة الطبيعية،و العفوية و فيها يتجلى انسجام هؤلاء الأبرار مع كمالاتهم،و مع كرامة اللّه لهم،فهم إذن لا يحتاجون إلى ذلك التصنع، و لا إلى الاستكبار،فإنهم الذين يملكون اللذة و لا تملكهم.و هم يدركون أن لذة الاستكبار،ممزوجة بالخوف من السقوط،و من سوء العواقب.أما لذتهم هم فهي العاقبة لهم،و هي المصير.

«فيها»:

و تأتي كلمة«فيها»بعد كلمة متكئين مباشرة،حيث قال: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ و لم يقل:«متكئين على الأرائك فيها»..فيرد سؤال عن سبب هذا التقديم لكلمة:«فيها»؟!..

و قد يكون الجواب هو:أنه إنما قدم كلمة«فيها»لكي لا يحصل أي شعور بانفصال عن الجنة،و لو بمثل حد السيف،حتى في مجال التخيل، و التصور و الوهم،أو الإحساس العابر.و بذلك تتم لهم اللذة التصورية الفكرية الروحية،و لا تهتز تلك الطمأنينة التي تتمثل بالحديث عن الاتكاء.

«الأرائك»:

و السؤال هنا هو:أنه تعالى قال: عَلَى الْأَرائِكِ ، و لم يقل على الكراسي،أو المقاعد،كما أنه لم يقل:«على العروش»،فإذا كانت كلمة مقاعد و كراسي لا توحي بشيء سوى التجافي عن الأرض،فإن كلمة العرش تفيد معنى السلطنة،و الهيبة،و العظمة،و القدرة..

ص: 32

و الجواب:

لعل سبب اختيار كلمة اَلْأَرائِكِ على ما عداها هو أن الأريكة هي الفراش الوثير،الذي يكون على الأسرّة في حجلة العروس.

فلعله يريد أن يفهمنا:أن لذة الجنة هي للجنة من حيث هي جنة، و هي لذة حقيقية و طبيعية،و ليست لذة تخيلية،أو فقل تصورية،و لا هي لذة الشعور بحالة العنفوان الداخلي،و الاستكبار،أو الشعور بالعظمة الذي يكون لدى المتسلطين،فإن هذه لذائذ تخيلية تصورية،و ليست واقعية..

أما الاتكاء على الأرائك في حجلة العروس.فيعطي الإنسان لذة واقعية ينساق إليها الإنسان بفطرته،و بأحاسيسه.فهو يلتذ بالمحيط من حوله،و بالفراش الوثير،و بوجوده في جو السرور؛لذة حقيقية.و ليست لذة ناشئة عن تضخيم الأمور بالأوهام و التخيلات،و بالعناوين الكبيرة و الفضفاضة..

و قد جاءت كلمة فِيها لتؤكد على هذا النعيم الحقيقي،من حيث إن اللذة ناشئة من نعيم في الجنة نفسها.

و من أن الجلوس على الأريكة كان جلوسا طبيعيا في هذه الجنة بالذات.فلا مكان للتخيل و لا للخيال.

هل هي لذة الفراغ؟

:

و قد يحلو للبعض أن يثير سؤالا هنا فيقول:ليس للفراغ و الكسل و الخمول لذة..و الحديث عن الأرائك يوحي لنا بهذا الفراغ و الخمول؛ فكيف يمكن قبول ذلك؟!.

و نقول:

إن لذة عمل الصالحات،ليست ناشئة من مجرد الحركة الجسدية،

ص: 33

أو من نفس حركة الفكر،و إلا لكان يكفي في حصولها مجرد العبث.

و لكان أكثر الناس عملا،و جهدا جسديا و فكريا،هم أعظم الناس لذة، مع أن الأمر ليس كذلك..

فإن الحقيقة هي أن اللذة إنما تنشأ من الشعور بأن بذل الجهد رافع للنقص،محقق للكمال،و للتناسق و الانسجام في قضايا حساسة تهم الإنسان،و يسعد بحصولها،أو بكونها على حالة معينة..

نعيم الأبرار:

و لتقريب هذا الأمر نقول:

لو أن أشخاصا دخلوا روضة غناء،رائعة في مباهجها و في مزاياها.

و كان أحدهم رساما،و الآخر عالما،و الثالث تاجرا مثلا،و هكذا..ثم كان أحدهم ذكيا،و الآخر غبيا،و الثالث حساسا،و الرابع بليد الإحساس..

فإنك ستجدهم يختلفون في إدراك جماليات تلك الروضة،و في الابتهاج لها،و التلذذ بها..

كما أن موجبات اللذة لأحدهم قد تختلف عن موجباتها لغيره.فهذا يلتذ بالألوان،و ذاك يلتذ بحالات التناسق،و ثالث يلتذ بالأحجام الكبيرة، و آخر يلتذ بدقائق الصنع،و لطائفه..و ما إلى ذلك..

و في نفس السياق، نقول:قد تكون لذة هذا بالأطعمة،و آخر بالمبصرات،و ثالث بالمقامات،و رابع بالرضا الإلهي..و خامس بالحالات و الكيفيات،بل قد تكون اللذة لدى بعض الناس،بالخضوع للآخر، و الانقياد له،و العيش في كنفه،و في ظله..

أضف إلى هذا و ذاك: أن اللذة في الجنة إنما يصنعها لك عملك، و جهدك،و نواياك،كما أن من خلال عملك هذا،تتكون لك قابليات

ص: 34

و تحصل استعدادات لتلقي هذا النوع من النعم،أو ذاك..

فأنت تلتذ بالشجرة التي غرسها لك تسبيحك،و الآخر يلتذ بالقصر الذي حصل عليه بحجّه إلى البيت الحرام،أو بغير ذلك من أعماله، و آخر يلتذ بالحورية التي أوصله إليها بره بوالديه..

و في مثال آخر نقول:

لو أن النجار دخل بيتا قد صنع هو أبوابه،و خزائنه،و مقاعده، و غيرها،فسيلتذ بما يراه من جمال الصنع فيها،و سيشعر بالفخر و الاعتزاز،من خلال إحساسه بأنه هو الذي استطاع أن يرفع نقصا، و يحقق كمالا و لو بنسبة معينة،بالرغم من أنه قد أخذ أجره،و انته من عمله قبل سنوات..

و إذا رأى فيها خللا أو نقصا،فسيحزنه ذلك،و سيأسف له.و لو أنه عرف أن هناك من عبث بتلك الأشياء و شوّهها عن عمد،فسوف يكون مستاء منه،لائما له،ناقما عليه..

كما أن ذلك الشخص العابث نفسه،لو دخل على ذلك البيت، فسيشعر بالإحراج و الخجل و الضيق أمام ذلك النجار،رغم أنه قد يكون فعل ذلك امتثالا لأمر سيده الذي حسب أن في هذا التخريب كمالا له، أو دفع ضرر،أو نقص عنه.

و بنفس هذه النظرة نعالج الإشكال المتقدم: فإن بذل الجهد،و التعب، و تحمل المسئولية في الجنة ليس هو منشأ اللذة،كما أن الفراغ ليس منشأ للملال،و الخمول،و الكسل.لأن الذي يجعل العمل لذيذا هو كونه مسبوقا بالتعب،و بألم الحرمان و النقص.و لا نقص،و لا فقدان،و لا حرمان،و لا آلام،و لا تعب في الجنة ليكون العمل لذيذا من حيث كونه

ص: 35

رافعا له.بل ذلك من خصوصيات عالم الدنيا،التي هي عالم النقص و الفقدان.

بل اللذة في الجنة إنما هي بالشعور بالغنى باللّه،و بالكمال، و بالواجدية الحقيقية،و بحالات الجمال الواقعية،الناشئة عن رؤية الانسجام و التناسق الواقعي بين الأشياء،و بذلك يتحقق الرضا الواقعي.

و ليس للجهد الجسدي أي دور في هذا الشعور.

إن الفراغ ليس مملولا لأهل الجنة..بل هو لذيذ لهم..تماما كما هو الحال في الفراغ الذي يعيشه من يذهب للنزهة أو للاصطياف،فإنه يبقى ساعات و أياما؛يتلذذ بالمناظر الجميلة الخلابة.و بما يراه من تناسق، و كمال،و جمال.و لا يشعر بوجود نقص يدفعه للعمل على رفعه و إزالته.

«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً»:

و الملاحظ:أنه تعالى قدّم كلمة «فيها» على قوله: «شمسا»، كما قدمها في قوله: فِيها عَلَى الْأَرائِكِ .

و قد عرفنا بعض ما ربما يمكن استفادته من هذا التقديم.فلا حاجة إلى الإعادة..

غير أننا نشير هنا إلى أنه قد يقال: لقد كان يمكن الاستغناء هنا عن كلمة فيها.فلما ذا آثر الإتيان بها..

و يمكن أن يجاب: بأن حذف كلمة «فيها» يتضمن تغييبا و سكوتا عن ذكر الجنة،و لو بضميرها.و لربما يغفل الإنسان و لو للحظة،فيتوهم أن فقد الشمس-التي هي مصدر النور،و الدفء،و..و..-سيؤثر على راحته و سعادته،و سينقص منها،و سيواجه الإحساس بالحاجة إليها، فإذا جاء التصريح،بصورة متتابعة ليذكره دائما بأنه موجود في الجنة،

ص: 36

فإنه سيبقى مطمئنا إلى أن ما سيفقده لا بد أن يكون أمرا لا يناسب محيط الجنة؛بل يكون وجوده هو المضر..و قد استبعد لأجل ذلك.

و الخلاصة: أن الشمس حسب ما اعتادوه منها قد تؤذي في حرها، أو في بعض إشعاعاتها،و حتى في نورها في بعض الحالات..فتمس الحاجة إلى الحماية منها.أما في الجنة فإنهم يجدون النور و الدفء، و كل ما يحتاجونه مع أنهم لا يرون فيها شمسا لكي يحتاجوا إلى ما يحميهم منها.

و هذا غاية الغنى. .فإنه إذا كان حصول الإنسان على ما يريد بواسطة شيء بعينه،فإن ذلك يجعله بحاجة إلى ذلك الشيء،و أما إذا حصل على ما يريد من دون واسطة فسيشعر بالغنى،و بالرضا،و بالاعتزاز.

فكيف إذا كان وجود تلك الواسطة،و ذلك الشيء،سيؤكد الحاجة إلى وسائل أخرى تحمي من بعض آثاره أيضا؟!.

«وَ لا زَمْهَرِيراً»:

ثم قررت الآية: أنهم في نفس الوقت الذي لا يجدون فيه الشمس، فإنهم سوف لا يعانون من أية سلبية تترتب على فقدانها..فلا مبرر لأية مخاوف من أن يكون فقدانها معناه فقدان دفئها أيضا،مما سيؤدي إلى مواجهة حالة من البرد الشديد إلى حد الزمهرير،و هذا سوف تنشأ عنه متاعب لا بد من التخلص منها.

فجاء التطمين الإلهي لهم ليقول: إن عدم رؤية الشمس لا يعني الابتلاء بسلبيات فقدانها.بل الأمر على عكس ذلك تماما.

و من جهة أخرى،فإنهم يقولون: إن الزمهرير في لغة طي هو القمر..

فلعل المقصود بيان أن النور في الجنة لا يحتاج في تحققه إلى شمس،

ص: 37

و لا إلى قمر.

غير أن ذلك يحتاج الى إثبات أن يكون القرآن قد استفاد من لغة «طي»في خصوص هذا المورد،و هو ما يحتاج إلى دليل،و إلى مبرر، و كلاهما مفقود.

تعلق النفي بذات،و بصفة!!:

و ملاحظة أخرى هي:أنه تعالى قد نفى الحر و البرد،و نفى أيضا الليل،و الحاجة إلى الشمس،بتعبير واحد،و ذلك حين قال: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً.

و قد تعلق النفي للشمس و للزمهرير،بأسلوب الرؤية لذات الشمس، و نفي رؤية البرد،و نفي درجته و مستواه و هو صفة الزمهريرية.لأنها هي التي تسبب الأذى للإنسان..أما البرد نفسه فإنه لم يرد أن ينفيه،لأنه قد يكون لذيذا في بعض الحالات،كما لو جاء في قسوة الحر،ثم هو يعطي الجو لطافة و لو بدون وجود حرّ،و لذا توجه النفي في الآية إلى خصوص الحالة المؤذية من البرد،و هي الزمهريرية..و لم ينف البرد اللطيف الناعم في أيام الربيع مثلا.

«لا يَرَوْنَ »:

و قد نفى اللّه تعالى رؤية «الزمهرير» في الجنة،مع أن الزمهرير لا يدرك بالباصرة،و لا تقع عليه الرؤية،بل هو مما يدرك بالحسّ..لأن المراد هو نفي وجود الشمس و الزمهرير،بواسطة نفي رؤيتها،و ذلك يلازم نفي آثارهما..لأن الزمهرير و إن كان لا يرى بالبصر،لكن إحساس الإنسان بالحر و البرد جسديا قد يكون كاذبا أيضا..فأراد تعالى بقوله:

لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً، أن يؤكد على حقيقة:أن الإحساس

ص: 38

بالزمهرير،يكون قويا،حتى كأنه يتجسد له،و كأنه يراه بعينيه،ثم هو قد جسده له بالفعل،و جعله حقيقة ماثلة له،يراها رأي العين،ثم أورد عليها النفي بكلمة«لا».

«شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً»:

أما بالنسبة لتنكير لفظي الشمس و الزمهرير،فإنما هو لإفادة عموم النفي،حتى لا يدخل في الوهم أن لكل عالم من العوالم شمسه التي تناسبه،و حره و برده الناشئ عن أسبابه الخاصة به..فجاء النفي لجميع ما يمكن أن يتوهمه الإنسان في هذا الاتجاه..ليعيش الإنسان الطمأنينة الحقيقية،التي هي من موجبات سعادته التامة و الحقيقية،و النعيم المقيم..

اللف و النشر المرتب:

و قد ذكرت الآية السابقة الجنة أولا..و في الآية الثانية ذكر الاتكاء أولا،لأن الاتكاء يناسب الكون و الحضور في الجنة..

و في الآية الأولى ذكر الحرير ثانيا..و في الآية الثانية ذكر عدم رؤيتهم للشمس و لا للزمهرير ثانيا..و هذا يناسب لبس الحرير،الذي هو الأفضل في المواقع التي ليس فيها شمس و لا زمهرير،و لا حر و لا برد، فتكتمل لهم بذلك اللذة الجسدية.

ففي الآيتين لفّ و نشر مرتب لأجل الإشعار بهذه اللطائف،كما هو ظاهر.

***

ص: 39

ص: 40

الفصل الرابع عشر: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً

اشارة

ص: 41

ص: 42

قوله تعالى:

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً.

«وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها»:

ثم إنه برغم أن الشمس غير موجودة فعلا،فإن الظلال موجودة بالفعل،لكي تعطي المنظر العام حالة جمالية رائعة،و تناسقا بديعا،إذ إن اللذة لا تكون دائما في الظل من حيث إنه من موجبات التوقي من حرارة الشمس أو من نورها،بل هناك لذة الإحساس بالتناسق العام، حيث تكمل به الملامح الجمالية للطبيعة.

فالعين التي فيها بياض،إنما تصبح جميلة،بالسواد المتحرك فيها، و الخال الأسود على الخد يعطي ذلك الخد المخالف له في اللون المزيد من الروعة الأخاذة،و الجمال البديع..إذ إن مجرد أن تتشارك الأشكال و الألوان،و الظلال في إعطاء الانطباع،لهو مما يزيد الطبيعة جمالا، و روعة،و رونقا..

و من الأمور الطريفة ما يذكرونه:أن رساما هنديا أهدى لملكه صورة لعصفور يقف على سنبلة.و كانت رائعة الجمال..فأعجب بها الملك و وضعها للناس،و جعل جائزة لمن يظهر فيها عيبا..

فعجز الناس عن ذلك،إلى أن جاء رجل عجوز،و قال:إن في الصورة عيبا مهما،فسأله الملك عنه،فقال:إنه حين يقف العصفور على السنبلة فلا بد أن تنحني شيئا قليلا،بسبب ثقله،و ضعفها،و الرسام لم

ص: 43

يظهر هذا الانحناء..

فربح ذلك العجوز جائزة الملك بهذه الملاحظة.رغم أنه لا توجد أية مشكلة في رسم ملامح العصفور،و لا في رسم السنبلة ذاتها.

و الخلاصة:أن للظلال دورا هاما في تجسيد الكمال،و إبراز معالم الجمال..فالانحناءة البسيطة التي فقدتها تلك الصورة،قد أفقدتها جانبا من الروعة كان منوطا بها،و بالتالي،فإن الإحساس باللذة سوف يتضاءل تبعا لذلك..

و علينا أن لا ننسى أن عدم إدراك فريق من الناس لفقد تلك الخصوصية لا يدفع حقيقة وجود هذا النقص فيها،و لا يقاس إدراك أهل الدنيا للأمور بمستوى و حقيقة إدراك الأبرار لها في الجنة،لأن إدراك أهل الدنيا يحتاج إلى وسائط،و إلى أهلية و استعداد مع وجود حجب و موانع كثيرة،تحول بينهم و بين ذلك..أما الأبرار فلا يعانون من أي شيء من ذلك،بل هم فوق مستوى البشر من هذه الناحية.حيث يشعرون بحقائق الأمور بصورة أعمق،و أصبحت لهم علاقة مباشرة مع واقع تلك الحقائق..لأن أعمالهم الحسنة في الدنيا هي التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الإدراك و الوعي في الآخرة،بعد كشف الغطاء عنهم، حيث لم تعد هناك حجب دنيوية،و تساقطت وسائل الإدراك التي قد لا تستطيع إعطاء الصورة ما يكفيها من النقاء و الصفاء..

أما الأبرار الحقيقيون،و هم أهل البيت عليهم السّلام،فإن الغطاء كان مكشوفا عنهم،منذ أن أشهدهم اللّه خلق كل شيء..

و على كل حال،فإن للظلال لذّات عظيمة لا يريد اللّه أن يحرم الأبرار منها.

ص: 44

و ما أجمل الظلال الدانية،دون أن يكون هناك ما يحتاج الإنسان إلى أن يتظلل منه.

و قد جعل اللّه سبحانه الأبرار هم المحور لهذه الظلال،فجاء بكلمة «عليهم»مقدما لها على الظلال.فقال: عَلَيْهِمْ ظِلالُها.. تماما كما صنع بالنسبة لكلمة فيها..حينما كانت الجنة هي المحور،حسبما تقدم..

أضف إلى ما تقدم:أن وجود الظلال يساعد على إدراك حقيقة النور و قيمته،و يعطي الفرصة لتنويع الاستفادة من كل الحالات و الأوضاع،فلا يشعر الإنسان أن شيئا ما قد فرض عليه،و لم يعد بإمكانه الاستغناء عنه.

هذا بالنسبة لغير المعصومين.أما المعصوم فلا يحتاج إلى مساعدته على إدراك أي حقيقة..

ثم إن فقد الشمس لا يعني أن لا تبقى حاجة إلى بعض آثارها،لكن الشعور بالغنى عن الشمس مع الحصول على آثارها،و ما يراد منها،هو الغاية في النعيم التي ما بعدها غاية..

بل قد يكون وجود شمس لا حاجة إليها في التأثير مسيئا للناحية الجمالية،و مفسدا للتناسق العام.

العطف بالواو:

ثم إننا إذا راجعنا الآيات الكريمة في هذه السورة فسنجد:أنه تعالى يعطف بالواو جملة،ثم يأتي بما هو منصوب على الحال،ثم يعطف عليه حالا أخرى بالواو..ثم يعود لعطف جملة أخرى على الجملة،التي سبقت الحالين معا..

فهو يقول: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ .. إلى أن يقول: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..

ص: 45

فهو يقول: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ .. إلى أن يقول: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..

فهو في هذه الآيات يستعمل الفعل الماضى المبني للمجهول «ذلّلت»،و المبني للمعلوم«وقاهم»،«لقّاهم»،و اسم الفاعل«متّكئين»، «دانية»،و المضارع المبني للمعلوم«يطوف»،و المبني للمجهول«يطاف»، و مع الواو«و دانية»،و بدونها«متّكئين».

و لكل حالة من هذه الحالات خصوصية مستقلة،أو تابعة يراد إبرازها،و الاستفادة منها..

و مثال ذلك:

أنك تارة تورد الحالة أو المعنى المستقل،فتقول:هذا فلان..

و مرة يراد بيان أحوال و أوصاف متضادة لذلك الموصوف،كقولك:

فلان شجاع و عالم و نجار..

و تارة ثالثة تورد الكلام لتثبت للموصوف صفة،ثم تتبع تلك الصفة ببيان تفاصيلها و حالاتها،كقولك:فلان عالم؛دقيق النظر،متبحر،محقق..

فالأوصاف الأخيرة إنما هي لبيان حالات العالم.و كذا لو قلت فلان شجاع؛يقاتل ساعات طويلة،يهاجم الألوف،و لا يلبس درعا،و لا يهاب الموت..أو قلت:هو نجار ماهر،يصنع الأبواب،و الخزائن،و الكراسي، و المناضد،و كل ما يطلب منه..

و قد جاء قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً وفقا للنحو الثاني،و قوله: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها

ص: 46

وفقا لهذا النحو الأخير،لأن فيه بيان حالهم،من حيث إنهم: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً..

«و دانية»:

ثم إنه يلاحظ هنا:

ألف-إنه تعالى قدم الحديث عن دنو الظلال على الحديث عن تذليل القطوف.و هذا أمر طبيعي،فإن لذة الاستقرار و السكينة تطلب قبل لذة الطعام.

ب-إنه بدأ بكلمة«و دانية»،و لم يبدأ بكلمة«ظلالها»،ربما ليبقى المحور و المرتكز هو الأبرار أنفسهم،حيث يراد أن يظهر لهم و لغيرهم:أنهم هم مورد العناية،و أن كل شيء في الجنة إنما هو لأجلهم.

و لو أنه بدأ بالحديث عن الظلال لحدث-و لو على مستوى التخيل و الشعور-إحساس بأن الظلال دانية هناك بطبيعتها،و ليس بالضرورة أن يكون ذلك لأجلهم،فهي دانية بذاتها،ثم يستفيد منها من يرغب بذلك، مع أن المقصود هو أن دنو الظلال قد كان فعلا إلهيا تكريميا هم المقصودون به بأعيانهم و بأشخاصهم.

ج-و أما اختيار التعبير بكلمة«دانية»حيث لم يقل:و هم تحت ظلالها،أو نحو ذلك،فلعله ليشير إلى أن الظلال قريبة منهم،و عليهم، و لكنها ليست بحيث تفرض وجودها عليهم،أو أنهم مستغرقون فيها إلى حد يجعلها جزءا من واقع حياتهم،بل إن دنوها منهم و عليهم لا يضر باستقلاليتهم،و لا في إمكانية الابتعاد عن هذه الظلال متى شاءوا.

د-إن كلمة«دانية»اسم فاعل،يفيد الثبوت و الدوام،و فعلية الاتصاف به.

ص: 47

«عليهم»:

ثم إنه سبحانه قال: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها، و لم يقل:«دانية إليهم»..

فلعله لأجل أن يشير إلى أن ظلال الجنة ليست مثل ظلال الدنيا..فظلال الجنة تحتضن الأبرار،و هي رفيقة بهم،حانية عليهم.

و لو أنه قال:«دانية إليهم»،لم يفهم منه معنى احتضانها لهم،بل يفهم منه مجرد قرب الظل منهم..كما هو الحال في ظلال الدنيا؛التي تنشأ من الحيلولة بين الشاخص،أو الشيء،و بين مصدر النور،أو الوهج،فيستأثر ذلك الشاخص الحائل بدفقات النور و الوهج،و يمنعها من الوصول،فلا تصل إلى ما يقع الظل عليه.

و هذا معناه:أن ثمة مؤثرات تتحكم في مدى قدرة هذا الظل على الانتشار و الانحسار،مما يعني أنه قد يستفيد منه فريق،و يحرم منه آخرون،لمعنى كامن في الظل نفسه يؤكد قصوره هنا،أو يفرض انتشاره و حضوره هناك.

أما في الآخرة و في الجنة بالذات فإن الظل لا يعاني من أي شيء من هذا القبيل،و ليس فيه أي قصور،بل يكون هو الداني عليهم، و القاصد إليهم،و المحتضن لهم.ففعل الدنو و الاحتضان صادر منه هو، و ليس نتيجة حركة و اقتراب أو حضور و غياب،يفكرون فيه،ثم يختارونه،و يقصدون إليه.

مفردات نعيم الجنة:

و واضح:أن مفردات نعيم الجنة لا تشبه مفردات نعيم الدنيا،و إن تشابهت الأسماء.فالفضة في الآخرة هي كالزجاج و القوارير في صفائها، و ليست كذلك فضة الدنيا،و إن كان لا بد من وجود شبه يصحح إطلاق

ص: 48

الاسم..و كذلك الأنهار التي هي من لبن أو من عسل مصفى.

و هكذا يكون الحال بالنسبة لخمر الآخرة،فإنها ليس فيها غول(أي أثر سلبي)،و هي أيضا لذة للشاربين،مهما شربوا،و لكن خمر الدنيا لا يمكن الالتذاذ بها حين ذهاب العقل.

و قبل ذهاب العقل لا تكون اللذة بخمريتها،بل بشيء آخر، كالحلاوة أو الحموضة أو نحو ذلك مما لا يكون هو المقصود للشارب، إذ المقصود هو غيبوبة العقل،و حين حصول المطلوب لا توجد لذة لأن العقل إذا فقد؛فقد الإحساس باللذة.

و كذلك الحال في طرف العقوبة،فإن الروايات قد دلت على أن نار الآخرة لا تشبه نار الدنيا،إلا في الاسم..

و على كل حال،فإن اللّه سبحانه قد ذكر في القرآن الكريم مفردات كثيرة و متنوعة للنعيم،و في هذه السورة المباركة شطر منها..و لا شك أن في بيانها فائدة عظيمة،من حيث تأثيرها في عمق الإيمان،و في إيجاد الحوافز للسعي لنيل رضا اللّه سبحانه.و في شفاء صدور قوم مؤمنين، و غيظ أعدائهم،و ما إلى ذلك..

تقديم كلمة«عليهم»:

و قد يتساءل البعض عن سبب تقديم كلمة«عليهم»على كلمة «ظلالها»،حيث لم يقل:و دانية ظلالها عليهم..

و ربما يكون الجواب قد علم مما تقدم،فإنه تعالى لا يريد أن يدخل في خيال أحد الأبرار-و لو للحظة واحدة يفرضها التدرج في التعبير و البيان-أن ثمة فصلا بين الأبرار و بين النعيم،أو أن يتوهم أحد:

أن دنو الظلال في الجنة،إنما هو الحالة الطبيعية،فأراد أن يعرفنا:أنه دنوّ

ص: 49

لهم،و لأجل إعزازهم،و تكريمهم.و ليس هو حالة ثابتة للجنة،و لا ترتبط بالأبرار..

الضمير في«ظلالها»:

و الضمير في قوله تعالى:«ظلالها»يعود للجنة،لا للشمس،فشجر الجنة له ظلال دانية عليهم،رغم عدم وجود شمس تكون في هذه الجهة،أو في تلك،و يتحكم في بعدها و دنوها نظام بعينه،بل الظلال الموجودة إنما تتحكم بها إرادة و رغبات أهل الجنة،فالظلال خاضعة لإرادتهم،تابعة لرغباتهم،لأنهم هم المقصودون بالكرامة،و الإعزاز،و يراد لهم أن يصلوا إلى ما تشتهيه أنفسهم.

فالظلال لا بد أن تكون بحيث ترضيهم،و تكون سببا في حصولهم على اللذة و النعيم،لا أن تضايقهم،و تصبح عبئا عليهم..

إن تمام النعمة عليهم هي أن يتحكموا بالظلال،لا أن تتحكم بهم الظلال.

و هذا يعطيهم نعيما آخر من خلال إحساسهم بامتلاكهم لقدرات جديدة،حيث يرون في أنفسهم القدرة على التصرف في الأمور التكوينية،بالإضافة إلى لذة الطمأنينة إلى وجدان طموحاتهم،و الشعور بالاستقلالية،و ما إلى ذلك.

«وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً»:

و من مفردات نعيم الجنة التي يدركها الأبرار ببعض الوسائط،تذليل قطوفها لهم في حين هم يرون شموخها،و تحديها،و تمنّعها..الأمر الذي يجعلهم يتلمسون هذا الإكرام الإلهي لهم بصورة حسية و عملية،حيث إن هذا التذليل ليس عملا للأبرار،كما كان الحال في الاتكاء..و ليس هو

ص: 50

مجرد أمر مفقود يدركون فقده،و يتلمسون آثاره كما هو الحال في عدم وجود الشمس و الزمهرير..بل هذا التذليل فعل يكرم اللّه به الأبرار، و يشعرون من خلال حدوثه،و تجدد حصوله لهم،مرة بعد أخرى، باستمرار النظر و الرعاية الإلهية لهم،و هذا يعطيهم المزيد من البهجة و السرور،و السعادة،من خلال الإحساس برضا اللّه،و محبته،و رعايته، و لطفه،فإن هذا غاية النعيم لهم.

يضاف إلى ذلك:أن رؤية الأبرار لهذا التذليل يعطيهم إحساسا بأن الأشياء مسخرة لهم،و هي طوع إرادتهم،و رهن إشارتهم..خصوصا و أن ما يرونه مذللا لهم،قد كان مستعصيا عليهم،و يبذلون تعبا و جهدا من أجل الوصول إليه.و كل ذلك يفتح أمام أعينهم،آفاقا أرحب للشعور بمحبة اللّه سبحانه،و الإحساس بهذا التكريم و التعظيم..

إن الإنسان حين يعمل عملا،و يأخذ مقابله،فإنه لا يحس بالكرامة بمستوى شعور من يرى أن اللّه يعطيه ليكرمه،و ليظهر له المزيد من حدبه عليه،و حقيقة رعايته له..

لأن أخذ الأجر مقابل العمل لا يعبر عن وجود مزايا إنسانية سامية تستحق التقدير،و لا عن وجود خلق رضي،أو نبل و شمم،بل قد يكون العمل نابعا من حبه لنفسه،و من سعيه للحفاظ عليها..و تلك هي عبادة التجار حسب ما ورد عن أمير المؤمنين[عليه السّلام].

«قطوفها»:

القطوف جمع قطف-بالكسر،و قطف بالضم غلط-و هو الثمر الذي اجتني و أخذ.و لكن المراد هنا هو الثمر الباقي على الشجر، و المؤهل للاقتطاف و التذليل،مقابل الاستعصاء و التمنع.

ص: 51

فالقطوف تتمنع بحسب طبعها،و للتغلب على هذا التمنع لذة و نشوة.و لذلك تجد أنه لو جيء لك بقطف لتأكله،فإنك لا تهتم له،و لا تلتذ به بمقدار ما لو قطفته أنت عن الشجرة.

و بذلك يكون اللّه سبحانه قد بيّن لنا:أن في الجنة لذة التذليل، و رؤية حالة الانقياد بعد الاستعصاء و التمنع.

«تذليلا»:

و فائدة الإتيان بالمفعول المطلق هنا هو التأكيد على معنى التذليل، و هي لذة السيطرة و التمكن من الطبيعة.الأمر الذي كان يعجز الإنسان عنه في الدنيا..

إن النعيم في الآخرة،ليس بأكل تلك القطوف،بل هو بالتغلب على امتناعها..و هو ما كان يطمح له في الدنيا،و يسعى للحصول عليه،فكان يخترع له الآلات،و يهيئ الأموال ليستخدمها في ذلك التذليل (1)أما في جنة الآخرة،فقد أصبح كل شيء مذللا،فلا يحتاج إلى جهد،و قد سقط نظام الوسائل بكلمة واحدة هي: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً، لأن نظام الجنة يختلف عن نظام الدنيا.

***

********

(1) إن الأعمال في الدنيا منصبة بصورة عامة على هذا الأمر بالذات،فالإنسان يطلب الولد،و يستفيد من الوسائل الموصلة إليه،و يطلب المال فيتوسل له بالبيع و الشراء، مثلا،و يطلب الحب و الثمر فيتوسل له بالزراعة،و يطلب الشفاء،فيستخدم العلم و المال للحصول عليه،و يطلب الانتقال،فيستخدم وسائله من سيارة و دابة و غيرهما. و يخترع مكبرات الصوت و الطائرة،و يطلب الجنة فيتوسل لها بالأعمال الصالحة.

ص: 52

الفصل الخامس عشر: وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا

اشارة

ص: 53

ص: 54

قوله تعالى:

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا

«وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ »:

لقد وردت كلمة«يطاف»هنا بصيغة المبني للمفعول..و لعله بهدف التوطئة إلى أن يتمحض الحديث عن المطاف به،و هو الأكواب، و صفاتها،و خصوصياتها..

و لكنه فيما يأتي استعمل نفس مادة«ط.و.ف.»،و لكن بصيغة البناء للفاعل..لأن الغرض هناك تعلق ببيان حال الطائفين..

و كلمة«يطاف عليهم»تشير إلى أن هناك كرامة لهؤلاء،و أن ثمة احتراما،و اهتماما بهم..لأن خدمتهم و الطواف عليهم بالأكواب،إما لأجل عجزهم عن الوصول إلى حاجاتهم بأنفسهم،أو لأجل إكرامهم،و إظهار الحب و التقدير لهم.و لا شك بأن الأول غير متصور لأنه لا ينسجم مع ما أريد لهم من النعيم،و راحة البال في الجنة.فيتعين هذا الثاني..

و من الواضح:أن إحساسهم بهذه الرعاية الإلهية يعطيهم أعظم الإحساس باللذة و النعيم..

الكماليات،أم الضروريات؟:

و إذا قرأنا آيات هذه السورة المباركة،فسنجد أن فيها حديثا عن الأمور التي لا بد منها للإنسان في حياته،كالمسكن،و الطعام و الشراب،

ص: 55

و نحو ذلك،و حديثا عن أمور لا تدخل في هذا السياق،بل هي من الكماليات،إن جاز التعبير.

و قد ذكر النوع الأول بما له من مواصفات تثير الشوق و الحنين إليه، و الرغبة به،فذكر سبحانه طهورية الشراب،و لباس الحرير في الجنة، و الاتكاء على الأرائك في مواضع السكنى و الاستقرار،و الوقاية من البرد و الحر،بالإعلان حتى عن عدم رؤية شمس و لا زمهرير..

مما يعني أن المطلوب الأساسي،و هو الطعام و الشراب،و الظل، و الدفء،و السكن،و اللباس،-و هي أمور ضرورية في الحياة-قد بيّنت بمواصفات راقية جدا،و مثيرة للانتباه،و محركة للهمم للوصول إليها و نيلها من خلال العمل لها في عالم الدنيا..

و لا بد أن يحصل للأبرار-في نيل هذه الأمور الأساسية-لذتان؛ لذة تلبية الحاجة،و السكون و الطمأنينة،و الشعور بالوجدان لحاجات رئيسية.و لذة الحصول على تلك الميزات و المواصفات الإضافية،و هي كون السكن هو الجنة،و الملبس هو الحرير،و ما إلى ذلك..

و من المعلوم:أن كل مطيع للّه يدخل الجنة،و ينال من نعيمها الخالد،لكن هناك مستويات و حالات لهذا النعيم لا ينالها جميع من في الجنة،بل ينالها أولئك المقربون،و يفوزون بالتنعم بها،رغم أنها لا تدخل في دائرة ما هو ضروري لهم،بل هي من مظاهر النعمة،و من تجليات التكريم الإلهي.فإن حياة الإنسان لا تتقوم بوجود من يخدمه، و يلبي طلباته،و يقرب له ما يحتاج إليه..إذ يمكنه أن يمارس ذلك بنفسه،و ربما يكون لهذه الممارسة لذتها أيضا..كما أنه يمكنه أن يشرب الماء و اللبن،اللذين لا توصف لذتهما..دون أن يطاف عليه بأكواب كانت قوارير من فضة قدروها تقديرا.

ص: 56

و جهد الإنسان في هذه الدنيا هو الذي يحدد مستويات و مواصفات النعيم في الآخرة.فالإنسان العامل هو الذي يتحكم بمفردات النعيم التي يهيئها اللّه له،و يصنع مواصفاتها،و مقاديرها و أحجامها،و أنواعها،وفقا لقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً.. حيث أعاد الضمير لهم،أي للأبرار المتنعمين كما يظهر.

التنوع في النعيم:

و اللافت:أنه تعالى قد أعطاهم هذا النعيم العظيم،و حباهم بهذا التكريم لترتاح له،و تلتذ به الروح و القلب،و المشاعر،و الأحاسيس الباطنية،تماما كما أعطى للجسد ما يناسبه من أنواع النعيم المادية.

و النعيم الذي يهتم بإبراز معالمه هنا،هو نعيم روحي معنوي بالدرجة الأولى،يرتبط بالإدراك العقلي،و بالإحساس الروحي للمعاني السامية و الشريفة لمعنى الكرامة،و الرضا و القرب من اللّه..

و ليس هو مما تناله الجوارح بصورة مباشرة..

و ما ذلك إلا لأن اللّه سبحانه يريد للإنسان أن يسمو في إدراكه و في عقله،و في إنسانيته،و أخلاقه،و مشاعره،و لا يرضى له أن يبقى يعيش في دائرة المحسوسات،فلا يطيع اللّه إلا حين يرى العصا،و لا يحس بالمعاني الإنسانية و الروحية إلا حين تنالها جوارحه الظاهرية..تماما كما يريد للمرأة أن تلبس الحجاب،و لكن إذا لبسته عن اقتناع بلزوم طاعة اللّه،و إحساس بعظمته و بحضوره،فإن ذلك يوجب لها أسمى مقام عنده، لأن الحجاب خوفا من العصا،هو أدنى مراتب الطاعة..حيث يكون الهدف هو حماية جسدها من الآلام،لا لأنها تريد أن تتلذذ بطاعة اللّه سبحانه..و أن تحمي الجسد من خلال الإحساس بلذة الطاعة.

ص: 57

و الخلاصة:أنه تعالى يريد للإنسان أن يكون أنبل من أن يخضع للأمر المعنوي من موقع حماية الجسد..

التسلسل الطبيعي:

و قد ذكر اللّه تعالى الطواف على الأبرار بالأكواب ليؤكد على هذا الرقي في إدراك الأبرار،لتكون لذتهم الكبرى هي بالكرامة الإلهية لهم،لا بالملذات المادية،و الجسدية،و إن كان الجسد غير محروم من ذلك أيضا.

و لذلك فإنه حين أشار سبحانه إلى ذلك،إنما عالجه من الناحية الإدراكية لحالات الجمال،و التي تعطي قيمة اعتبارية معنوية بالدرجة الأولى..فبدأ بالحديث عن الطواف عليهم في إشارة منه إلى هذا التكريم و التعزيز لهم.

ثم ذكر أن الطواف ليس بالشراب،و إنما هو بالآنية..

ثم قال:إن الآنية من فضة..

ثم أشار إلى الأكواب..

ثم ذكر أنها قوارير..

و انته إلى الحديث عن التقدير في الصنع،و الدقة فيه..

شرح الكلمات أولا:

و لا بد لنا،أولا:من شرح هذه الكلمات،ثم نتابع الكلام حول ما يرتبط من مطالب،فنقول:

الآنية:هي الوعاء.و الظاهر:أن المراد هنا هو ما توضع عليه الأكواب..

الكوب:هو القدح،الذي لا عروة له و لا خرطوم،و يأخذه طالبه و يشرب منه من أي جهة أراد.

ص: 58

القوارير:هي الزجاج،أو البلور الصافي،و لعل سبب تسميتها بالقوارير هو أن الشراب يستقر فيها..

كلمة«من»نشوية،أم بيانية؟:

و بعد..فهل إن كلمة«من»في قوله: مِنْ فِضَّةٍ ، هي النشوية؟!ليكون المعنى:أن الآنية التي كان أصلها فضة،و كانت من تراب الجنة؛هي التي يطاف بها عليهم..و هذا كما يقال:الإنسان من تراب.أي أنه نشأ من تراب، من دون إشارة إلى حقيقته الفعلية التي هي:لحم و دم و عظم و..و..

أم أن كلمة«من»هي الجنسية،أي هي آنية من جنس الفضة،كما يقال:

خاتم من حديد،أو من ذهب.أو كما يقال:الإنسان من لحم و دم و عظم..

فتكون«من»لبيان ما هو عليه الآن،و لا تشير إلى ما كان عليه في السابق..

ثم إن التصريح بكلمة:«من»ليس ضروريا،حين تكون الإضافة بيانية،فيقال خاتم حديد،أو خاتم فضة..

و أما لما ذا يصرحون بكلمة«من»أحيانا،فلعله:

أولا:لأجل أن لهذا التصريح فوائد،منها التنصيص على المعنى؛ لإزالة أيّ لبس أو شبهة،و منها التأكيد على أنه مقصود و مراد،و أن الالتفات إليه حاصل بالفعل.

و في هذا تقريب للمعنى المقصود إلى الحس،فإن ما ينال بالحس المباشر أوقع في النفس،و يكون التعلق به أشد،و الوضوح له أكثر من ذلك الذي يعلم عن طريق الإشارة إليه،لأن الإشارة تحتاج إلى جهد عقلي و فكري لربط بعض الأمور ببعضها الآخر..ليتحقق الانتقال من معنى إلى معنى..و من المعلوم إلى المجهول..

و ثانيا:إن المقصود هنا هو إثارة المشاعر و الأحاسيس،و إيجاد

ص: 59

البواعث و الحوافز لدى الإنسان لنيل تلك النعم الجليلة،و الوصول إلى مقامات الكرامة في الجنة،ليتعلق بها و يشتاق إليها طالبها،و تتوجه إليها أفكاره و عواطفه فعلا..

و هذا يحتاج إلى التصريح،و إلى الوضوح..أما الإشارة غير المباشرة فإنها تحمل معها احتمالات الغفلة عن التفاعل معها،الأمر الذي يعني الغفلة عن المراد،فلا بد من تحاشيها في مقام كهذا..

ثالثا:إن الإيصال السريع إلى المراد-لأكثر من سبب-لا يتلاءم مع الإشارة و الإيماء حيث يحتاج ذلك إلى إعطاء فرصة للعقل لربط الأمور ببعضها البعض..في الوقت التي يحتاج فيه إلى الانتقال المباشر..

و هذا يدلنا على:أن كلمة«من»مهمة جدا و ضرورية في هذا المقام..الذي يحتاج إلى التأكيد و التنصيص،و إزالة أية شبهة.ليمكن إثارة الأحاسيس و المشاعر بصورة مباشرة،و كذلك من أجل تحقيق المزيد من التعلق بالمطلوب،و ليكون وقعه في النفس أشد..

كلمة«كانت»:

و حول كلمة«كانت»في قوله تعالى: كانَتْ قَوارِيرَا.. نقول:هي كان التامة،لا الناقصة،و المعنى:«أنها وجدت قوارير»،فليس ثمة تحول من حالة إلى حالة،لكي لا يتوهم أحد أنه تحول غير خالص و لكي لا يثير احتمالات في واقع أصالتها التامة و الحقيقية..

«من فضّة»:

و أما لما ذا ذكر الفضة بالخصوص،و لم يذكر الذهب مثلا،مع أنه الأغلى و الأهم بنظر الناس.فلعله لما ذكرناه من أن تراب الجنة من فضة، و للفضة خصوصيات،لا توجد في الذهب،و قد قصد هنا أن يستفيد من

ص: 60

هذه الخصوصيات معان تناسب الحال.

إنه تعالى يريد أن يحقق الانسجام بين المعاني التي تتشكل منها ملامح الصورة بجميع عناصرها،و ذلك حين يحقق الانسجام بين الآنية و الأكواب التي يقدم بها الشراب..ليدرك الإنسان من خلال ذلك مستوى من الكرامة و الإعزاز الإلهي للأبرار.

و لأجل ذلك:لم يتحدث اللّه سبحانه عن طعم الشراب هنا،بل تحدث عن النواحي الجمالية التي يريد لها أن تفرض مستوى أعلى من اللذة التي يعطيها طعم الشراب.

و خلاصة القول:إنه تعالى يتعاطى مع هذا الأمر على قاعدة إيجاد الحوافز،و انشداد الأرواح إلى نيل هذا الشرف العظيم..و لأجل ذلك،فإنه قدم صورة جمالية في مستوى الإعجاز،حيث أراد أن يرتفع بالإنسان إلى مستويات من الإحساس الأشد رهافة،و الإدراك الأعمق،و الأكثر تجذرا و أصالة..و هو يهيئ له صورة لا بد له من التعاطي معها بإيجابية و انجذاب حقيقي،و هو يدرك الجمال الساكن في تلك الصورة،و الظاهر بمستوى إعجازي في التناسق و التكامل..فتلذّ روحه من خلال تذوقه و إدراكه لذلك بعمق..

***

ص: 61

ص: 62

الفصل السادس عشر: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً

اشارة

ص: 63

ص: 64

قوله تعالى:

قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً.

«قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ »:

و قد ظهر:أن ثمة حالة إعجازية،تظهر من خلال الصورة التي رسمتها الآيات لآنية من فضة و لأكواب من فضة،و هي في نفس الوقت قوارير..

و ذلك لأن الفضة التي نعرفها لا ينفذ البصر منها إلى الجهة الأخرى، بل هو يرتد عنها عاجزا عن اختراقها.فكيف تكون-و الحالة هذه- قوارير؟!ما دام أن القوارير ينفذ البصر منها بسبب شفافيتها!!..

إن هذه صورة جمالية إعجازية رائعة..أن تتمازج صفات القوارير مع صفات الفضة،من حيث الصفاء،و الشفافية،فقد روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]:أن البصر ينفذ من فضة الجنة،بسبب شفافيتها..

و من حيث التماسك،في مواجهة الصدمات،إذ إنها لا تتحطم كما تتحطم القوارير،بل هي تحتفظ بتماسكها،كالفضة..

و كذلك من حيث اللمعان و البريق..

ثم من حيث تركيبة العنصر الذي يكون للفضة..

و أيضا من حيث اللون الخاص بها..

ثم من حيث ليونة ملمسها..

ص: 65

و كرامة معدنها،و ما له من قيمة اعتبارية..

إن لكل مفردة من هذه المفردات،و لجميع هذه الصفات و الميزات لذة تناسبه:حسية تارة،و روحية أخرى،و ذوقية بجمالياتها المختلفة ثالثة..

ثم هناك لذة رؤية الشراب في داخلها،و الإحساس بالواجدية له باستمرار..

ثم تأتي اللذة الناشئة عن دقة الصنع،التي أشير إليها بقوله تعالى:

قَدَّرُوها تَقْدِيراً.. و ما إلى ذلك..

و علينا أن لا ننسى أخيرا..أن هناك لذائذ تنشأ عن ملاحظة كل عنصر بذاته،فلكل عنصر نعيم يناسبه..فإن هناك لذة و نعيم بملاحظة المجموع أيضا من حيث هو مجموع مركب متناسق،يراد له أن يشير بشكله المجموعي إلى أمر ما..

فإن بعض الأمور إنما تعطي حالة جمالية و إيحائية في خصوص حالة اجتماعها و تركيبها على صفة خاصة،فإذا انفرد بعضها عن بعض، فإنها تفقد أي جمال و إيحاء،بل ربما تصير إلى حالة متناهية في السذاجة،و في القبح.

و لكن الأمر هنا ليس كذلك،إذ إن للعناصر المتمايزة جمالها الأخّاذ، و لها بالانضمام إلى بعضها البعض جمال آخر رائع،يضاف إلى ما عداه.

تماما كما لو أردت أن تتناول طعامك في داخل غرفتك،بما هي عليه من حالة الفوضى.أو أردت أن تتناوله في حديقة غناء،فسوف تجد أنك في الحديقة تحصل على لذة أخرى تضاف إلى لذة الطعام نفسه..

ص: 66

توضيح و اختصار:

إن قيمة الذهب في الدنيا لا يجب أن تكون هي نفس قيمته في الآخرة.و مع افتراض كونها كذلك،فإن لكل معدن قيمته،تفرضها ميزاته، و أهميته الخاصة به.التي يفرضها حجم تأثيرها و تأثيره في الهدف الذي يراد الوصول إليه،و قيمة ذلك الهدف و حساسيته الفعلية،و من الواضح:

أن ذلك يختلف و يتفاوت..فقد لا يصلح هذا للموضع الذي يصلح فيه ذاك،و لا يؤدي وظيفته،كما أنه قد يكون للمكان و الزمان،و الحالات التي يراد الاستفادة منه فيها دخالة ظاهرة في إعطاء القيمة و الأهمية و الامتياز لأحدهما على الآخر..

و فيما نحن فيه نقول:إن الذي يناسب الصورة الجمالية التي يراد رسمها،و تكوينها،و إظهار التناسق الفريد بين عناصرها هو خصوص أن تكون الأكواب و الأواني من فضة،إذ لا يراد التأكيد على الآنية و الأكواب،من حيث هي ظروف يوضع فيها شيء ما،كالشراب أو غيره، كما لا يراد التأكيد على الشراب من حيث طعمه أو نكهته،أو نحوهما..

بل يراد-كما قلنا-رسم صورة جمالية،واقعية،من خلال إبراز تناسب، و تناسق،و تكامل بين عناصرها،الأمر الذي لا بد أن يترك أكبر الأثر على الذوق،و الإدراك،و الروح،و الشعور..

فلا مجال للسؤال بعد هذا عن السبب في عدم الاستفادة من عنصر الذهب،إذ لا مكان لهذا العنصر أساسا في عناصر هذه الصورة التي يتم الحديث عنها،و التي يراد بها تحريك العقل،و الفكر،و المشاعر؛لتتعلق بالجنة،و لتندفع للعمل من أجلها..

ص: 67

«قدّروها»:

و إن دقة الصنع و حسن هندسة الشيء،و مطابقة المراد و المطلوب للضوابط،لهو أمر ترتاح له النفوس،و تلتذ به الأرواح،سواء أ كان ذلك الضبط و الدقة في ناحية المضمون،-و تركيبة العناصر،و التقدير للنواحي الهندسية-،أم كان تقديرا لما يوضع فيها،من حيث اشتماله على المقادير المطلوبة في الطعم،و اللون،و الرائحة،و الاشتداد،و الانسياب،و اللزوجة، و غيرها من صفات..

و أما لما ذا لم يقل:قدّرت تقديرا،بل قال:«قدّروها»فلعله لأجل إظهار الاهتمام بالدلالة على فاعل هذا التقدير..

ثم أكد الفعل بالمصدر،فقال:«تقديرا»ربما للتدليل على أن هذا التقدير قد جاء عن قصد،و عناية،و استجابة لمقتضيات واقعية،تدخلت في صنعها إرادات للأبرار،و هي التي فرضت هذه الأشكال،و الأحجام، و المسافات،و الحالات على ما هي عليه..

و لو أنه قال:قدّرت،فلعله يفهم من ذلك:أن الجنة قد خلقت وفق هندسة معينة،بغص النظر عن إرادات و أفعال العباد،و أن اللّه يريد أن يسكن فيها من أطاعه،لكي يستفيدوا منها،على ما هي عليه،من دون أن يكون لهم أي دور أو اختيار في هندستها،و صنعها،و طبيعة تكوين الأشياء فيها..

الضمير في«قدّروها»:

و قد قال:قدروها،و الظاهر أن الضمير عائد إما إلى الملائكة،أو إلى الأبرار،و لعل هذا هو الأنسب،إذ لا حديث عن غيرهم،و لا يصح إرجاع الضمير إلى لفظ الجلالة،لأنه ضمير جمع..و لا إلى الولدان المخلدين،

ص: 68

لأنهم إنما خلقوا ليسعد الأبرار بوجودهم،و ليس لهم دور في صنع الجنة..

فالأبرار هم الذين لهم دور في هذا التقدير،و ذلك لأن عملهم للصالحات في الدنيا ينتج لهم حالات من النعيم تناسب ذلك العمل، و تحمل مواصفاته،و صفاءه،و خلوصه،و جهاته،و ميزاته..

و لذلك اختلفت عليها المثوبات من حيث الكم،و النوع، و المواصفات،حيث تجد في النصوص أن لكل عمل جزاءه المناسب له.

فهذا ثوابه قصر،و ذاك ثوابه حور عين،و ذلك ثوابه تكون حدائق و أعنابا،و هكذا..و هذا العمل يوصل إلى مقام كذا..لكن عملا آخر يوصل إلى مقام آخر.

و إذا كانت جارحة بعينها هي التي أنجزت عملا ما،-كالعين حين تغض عن محارم اللّه-فإن الثواب سيكون متناسبا مع ما يتطلبه عمل تلك الجارحة،و مع مستوى ما بذلته من جهد،و غير ذلك من حالات..

التقدير:

و بديهي:أنه لا بد في تقدير الأمور من الاستناد إلى معيار يفرض هذا المقدار أو ذاك،و لا يكون الأمر عشوائيا..فمن أراد بناء غرفة،فإن سعتها سوف يفرضها غرض ما.و هذه السعة تفرض مستوى ارتفاع تلك الغرفة،و نظام التهوئة الذي يعتمد فيها،و كميات النور التي تحتاج إليها، ثم مراعاة ذلك في فتحاتها،وسعة الباب و ارتفاعه،و ما إلى ذلك..

و حين يزرع الفلاح الحب،فإن اللّه هو الذي ينبته،لكن وفق نظام يراعي فيه الزارع كمية البذر،و كمية المياه في الري،و طبيعة التربة، و موقعها في الأماكن الحارة أو الباردة،في المرتفعات أو المنخفضات،

ص: 69

و ما إلى ذلك..

فالعمل الصالح،و حالاته و مستوياته،و نوعه،و ميزاته،و ما إلى ذلك..

قد أوجد هذا النعيم الذي يحصل عليه،و أثّر في مقاديره،و أحجامه، و أشكاله،و أنواعه،و مستوياته،و ميزاته،و أوجد لشراب الأبرار مثلا هذا الطعم،و هذا اللون،و هذه الرائحة،و ذلك المقدار،و تلك اللزوجة..

لكن شخصا آخر قد تكون لشرابه ميزات و خصائص أخرى،و يلتذ به بصورة أقل،أو أعمق،لأن هذا هو ما أنتجه له فعله،و فرضه له عمله في دار الدنيا..

و التقدير نفسه من أسباب اللذة أيضا،مع أنه لا ينفصل عن وجود ما تجسد به..إذ إنه ليس شكلا يدخل في صورة الهيكلية العامة،ثم يفقد معناه.بل هو باق في شعور الإنسان بهذه المقايسة بين عمله،و بين ما أنتجه له ذلك العمل..

تنوع الملذات:

و قد ظهر:أن هناك لذات فكرية تنشأ من إدراك المعادلات،و هناك لذة ذوقية منشؤها إدراك الانسجام و التناسق في الأشكال الهندسية، و هناك لذة روحية من خلال الشعور بالكرامة الإلهية،و الرضا،و هناك لذات حسية،من خلال الشعور بطعم الشراب،في قوله تعالى:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. و كذا الحال في نعومة الحرير،هذا بالإضافة إلى لذات للمشاعر،و غير ذلك..

***

ص: 70

الفصل السابع عشر: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً

اشارة

ص: 71

ص: 72

قوله تعالى:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.

«و يسقون»:لما ذا الواو؟!

و قد قال تعالى:«و يسقون»بالواو،ربما لأجل الإلماح إلى استقلالية هذا النوع من النعيم،لأن نفس هذه الاستقلالية لها لذتها أيضا..و قد جعل نفس سقيهم هو محور الحديث،لا نفس الشراب الذي يسقى،لأنه لا يريد أن يجعل الشراب نفسه هو المحور في ذلك،بحيث تكون الأمور الأخرى من حالاته،و شئونه التي تزيد في لذته.

و يؤكد هذه الاستقلالية،إضافة كلمة«فيها»بعد كلمة«يسقون»كما سنرى.إذ إن نفس هذا السقي في الجنة هو الآخر نعيم يضاف إلى ما سواه..

و لو أنه لم يرد إفادة هذا المعنى،لأمكن الاكتفاء بكلمة:«يسقون».

«يُسْقَوْنَ »:

و يلاحظ:أنه تعالى قال:«يسقون»و لم يقل:«يشربون»..

و ما ذلك إلا لأن المراد هو تكريمهم،ليتنعموا بهذا الشعور بالعزة و بالكرامة الإلهية،و يؤكد هذا الشعور:أنهم في الجنة..و أن هذا مما هيأه اللّه لهم.

فهذه المعاملة تشير إلى أنهم موضع عناية،و اهتمام و رعاية،فهم لا يكلفون بالسعي إلى حاجاتهم،بل هي تقدّم لهم،للدلالة على قيمتهم

ص: 73

و موقعهم،و فضلهم،و استحقاقهم..

«فيها»:

أما كلمة«فيها»فقد أشرنا إلى أنه تعالى يريد من خلالها،تحسيس الأبرار بأنهم في الجنة ليزيد ذلك في بهجتهم و سرورهم..

«كاسا»:

و التنوين في قوله:«كأسا»هو تنوين التنكير،و هو يشير إلى الإفراد و الوحدة،و لعله لأجل إفهام الأبرار أن ريّهم الدائم يتحقق بشربهم لهذا الكأس،بحيث لا يحتاجون إلى غيرها.خصوصا و أنها تبقى كأسا مملوءة دائما،لا ينالها النضوب،و لا تصير قدحا فارغا حسبما تقدم.

و في هذا التنوين أيضا،إبهام لحالات تلك الكأس،لعل الهدف منه إطلاق عنان الخيال الذي سيذهب كل مذهب في رسم صورة هذه الكأس،شكلا،و لونا،و حجما،و نوعا.الأمر الذي يوجب درجات غير متناهية من التلذذ بجمالها..

و بما أن إطلاق كلمة الكأس إنما يصح في صورة كونها مملوءة،فإن الخيال لا بد أن يسعى أيضا لتلمس حقيقة ما فيها من شراب،و ما يوجبه من لذة غير متناهية أيضا،و كذلك الحال بالنسبة للتلذذ بذلك المزيج..

و يؤكد إرادة هذه المعاني،و تعمد الإبهام و الإجمال،أنه تعالى لم يذكر حقيقة أو نوع الشراب الذي يكون في ذلك الكأس،بل ذكر لهم مزاجه فقط..

لما ذا التعدية المباشرة:

إنه تعالى قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً.. فجاءت التعدية مباشرة،و من

ص: 74

دون توسط حرف الجر،فلم يقل:يسقون من كأس،أو بكأس،أو نحو ذلك..

مع أن الشرب إنما يكون لما في الكأس لا للكأس نفسه،فما هو السبب في ذلك؟!

الجواب:

أنه تعالى يريد أن يشير إلى أن كل ما في هذه الكأس مطلوب، و مرغوب فيه،و ليس فيها ما يرغب عنه،فليس فيها ما هو من قبيل الثمالة المتبقية في قعر الكأس،و التي يعافها الشارب،لكونها مظنة تجمّع الترسبات،التي قد تختلف مع سائر ما كان في الكأس،إما في حقيقتها، أو في طبيعة تشكلها،أو نحو ذلك..

فإذا كان جميع ما في الكأس له حالة واحدة،فإن هذا يعطي الإنسان المزيد من الطمأنينة و اللذة بما يشربه،حيث يشعر بصفائه و بخلوصه من كل ما يمكن أن تعافه النفس..

فلا فرق بين الثمالة و بين سواها،لا في الشكل و لا في المضمون.

فلا حاجة إلى«من»التبعيضية.بل لا معنى لإدراجها في الكلام،لأن ذلك قد يخل في المعنى المقصود..

و استعمال كلمة«من»و إن لم يكن فيه تصريح بوجود ثمالة في الكأس،و لكنه لا يلغي احتمالها..أما التعبير بشرب الكأس،فهو يلغي حتى هذا الاحتمال..حيث يدل على أن جميع ما في الكأس لا شائبة فيه،و سيشربه أولئك الأبرار..

بين«يسقون»،و«يشربون»:

إنه تعالى قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها.. و لم يقل يشربون..و ذلك لتحاشي

ص: 75

الإيحاء بأن الأبرار هم الذين يتولون خدمة أنفسهم في هذا الأمر..

و للتأكيد على أن هناك من يتولى خدمتهم،و تكريمهم بتقديم الشراب لهم.

«كان»:

و تأتي كلمة«كان»في قوله تعالى: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. لتشير إلى أن هذا المزاج له أصالة،و كينونة و ثبات من بدء التكوين.و له رسوخ،و بقاء،و استدامة على هذه الحالة؛في الحال،و في المستقبل.

فليس هذا المزاج حادثا و عارضا على شيئين كانا على حالة الانفصال..و لا مجال لإطلاق أوهام الإنسان و مخاوفه حول درجة هذا الانضمام و الامتزاج،و عمقه و مداه..

«مزاجها»:

و يلاحظ أولا:أنه تعالى قد عبر أيضا بكلمة«مزاجها»،فلم يقل:

«ممزوجة»،و لا«مزجت»،حتى لا يكون في ذلك أية إشارة إلى فاعل بعينه؛قد تولى هذا المزج.لكي لا يثور شعور بأن هذا المزج مرهون بإرادة مازجه،و لعل هذه الإرادة تغيب لسبب أو لآخر..

كما أن التعبير بالفعل الماضي،كأن يقول:مزجت،غير صحيح،لأنه يفيد حدوث هذا الأمر،بعد أن لم يكن..أما كلمة كانَ مِزاجُها.. فهي تفيد أن هذا المزاج ثابت و مستمر منذ نشأة ذلك الشراب.فلا مجال لتوهم عروض المزج على ذينك الشيئين..

و يلاحظ ثانيا:أنه تعالى لم يقل:«كانت ممزوجة بالزنجبيل».

و ربما كان سبب ذلك هو أنه تعالى لا يريد أن يجعل لأي من العناصر أية درجة من الأصالة،أو المحورية..فإن ذلك قد يؤثر على

ص: 76

النظرة إلى سائر العناصر،فإذا قيل:الشيء الفلاني ممزوج بالزنجبيل، فسوف يفهم أن لذلك الشيء أصالة و محورية،و الزنجبيل طارئ عليه..

حتى و لو كان المزاج في أصل التكوين.

و قيام هذا التوهم معناه:أن يفهم أن لذلك العنصر دور الأصالة، و الأرجحية،و يكون العنصر الآخر أقل اعتبارا،و أضعف تأثيرا..

و يلاحظ ثالثا:أن الضمير في قوله:«مزاجها»يرجع للكأس،و كأنه يريد الإلماح إلى أن الظاهر من الكأس هو الشراب،و ليس للفضة و القواريرية وجود ظاهر و متميز تناله الباصرة،فكأنه يشرب الكأس،لأن الكأس يحس بها،باللامسة،و لكنه يشرب محسوسه بالباصرة،و هو الشراب في داخلها،و يذوق الكأس بالذائقة،فالكأس المحسوسة بالباصرة و المذوقة بالذائقة كان الزنجبيل مزاجها،أما الكأس الملموسة، فإنه تجاهلها إلى درجة أنه لم يبق منها إلا الاسم.

«زنجبيلا»:

هذا..و قد ذكر الزنجبيل بتنوين التنكير،-ربما-ليشير إلى أنه زنجبيل لا نظير له،و لا يخطر حسن لونه و طيب و ذكاء رائحته على بال، و لا يمر في خيال،و لو أنه عرّفه ب«أل»فقال:«الزنجبيل»،فلربما يتوهم أنه كهذا الزنجبيل الذي عرفناه،و ألفناه في دار الدنيا،مع أن زنجبيل الدنيا لا يقاس بزنجبيل الآخرة،و لعلهما لا يتشاركان بصورة حقيقية بغير الاسم..

مواصفات الزنجبيل:

هذا و للزنجبيل في هذه الدنيا خصوصيات،قد يكون في الآخرة ما يشبهها،و لكن لا شك في أنه بدرجات و مواصفات عالية جدا تزول معها

ص: 77

كل السلبيات التي قد تكون في زنجبيل الدنيا،بل ربما تصل إلى حد المباينة لمواصفاته..

خصوصيات في الزنجبيل:

ففي الزنجبيل:

1 و 2-حرارة،و لذع..و لهما حين يمازج الطعام أو الشراب،دور في إثارة الشهية إليه،و إقبال النفس عليه.لما يثيره في النفس من حالات لا توصف من البهجة و الالتذاذ.

3-طيب رائحته،و طبيعة نكهته..

4-ثم هناك لونه الذي يوجب استقرار النظر عليه،و التلذذ به..

و ثمة خصوصيات أخرى في الزنجبيل،من حيث إنه يثير حالة من الانبساط،و يضاعف مستوى رهافة المشاعر،و يزيدها حيوية و نشاطا.

لكي تستفيد-من موقع الطهر-من مختلف أنواع النعيم الذي هيأه اللّه تعالى للأبرار في الجنة..

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة:

و بعد..فقد أظهرت الآية الكريمة نفسها،أنه ليس فقط لا توجد أية سلبيات في الزنجبيل،بل هو في أعلى درجات الملائمة.فقد ظهر:أن لذع و حرارة الزنجبيل لا يمثل عائقا عن التلذذ به،و لا من إساغة الشارب له بيسر و سهولة.

مع العلم بأن لنفس السهولة لذتها أيضا..فإن اللّه سبحانه قد بيّن أن ذلك الشراب الممازج لهذا الزنجبيل عبارة عن عين في الجنة تسمى سلسبيلا،و ذلك ليبعد عن مخيلة الإنسان أي احتمال يوجب شيئا من التردد في الإقدام على ذلك الشراب،أو أي تخيل لأية صعوبة في شربه،

ص: 78

بل هو سيكون أدعى للتشوق إليه،و للإحساس بالهناء و الطمأنينة له.

و التذاذهم به و بغيره من نعيم الجنة الذي يوعدون به..

فإذا كان ذلك الشراب من عين في الجنة،فالجنة أعدت للنعيم، و التلذذ.

و إذا كان ذلك الشراب سلسبيلا،فالسلسبيل صفة يراد بها المبالغة في وصف السهولة،و السلاسة،و الإساغة،بيسر و راحة..

كما أن مجرد كونه كذلك،يجعله أمرا مميزا،و خارجا عن المألوف و المعروف،و هو خرق العادة،حيث جمع بين ما يمنع من الاستساغة و السهولة،-و هو الحرارة و اللذع-و بين كونه في منتهى السهولة و الاستساغة..و هذه الفرادة من شأنها أن ترفع درجة الرغبة به،و الالتذاذ بالحصول عليه أيضا..

أسئلة تحتاج إلى أجوبة:

و تبقى هنا أسئلة كثيرة،تحتاج إلى إجابات،و منها السؤال:

-عن السبب في اختيار الزنجبيل هنا،و الكافور هناك؟!

-و عن السبب في وصف الكأس،بأنها عين؟!

-و عن إعراب كلمة عينا،فهل هي بدل من قوله:«زنجبيلا»،أو بدل من كلمة:«كأسا»؟!

-و لما ذا لم يقل:كان مزاجها زنجبيلا،كالسلسبيل؟!

-و لما ذا جاء بكلمة:«فيها»من جديد؟!

و فيما يلي بعض ما يفيد في الإجابة على هذه الأسئلة و سواها..

ص: 79

زنجبيل الدنيا..و الآخرة:

علينا أن نعترف بأن من الممكن أن نعجز عن معرفة السبب الحقيقي في اختيار الزنجبيل هنا،ليكون هو المزيج للشراب،دون سواه كالعسل،أو اللبن مثلا..

و لكن لا شك في أن للزنجبيل خصوصية بارزة فيه أكثر من سائر الخصوصيات،و ينتقل الذهن إليها بمجرد سماع هذه الكلمة..كما أن في العسل خصوصية أخرى تكون هي الأبرز،و يتوجه إليها الذهن بمجرد سماع كلمة عسل..

و هكذا الحال بالنسبة للبن،و غيره.

كما أن الحال في أنواع الفاكهة هو ذلك،و كذا سائر ما يذكر من مفردات النعيم،و حالات التكريم في الجنة.

و الخلاصة:أن ذكر الزنجبيل هنا،و الكافور في ما سبق،يشير إلى أن تلك الخصوصية التي يريد اللّه سبحانه أن يفهمنا أنها قد روعيت،في هذا النوع من النعيم،و أنه يمكن الاستعانة في إدراكها-و لو بصورة مجملة-بما يتشارك معه في الاسم في هذه الدنيا..و ليذهب بعد خيالنا إلى أبعد مدى يستطيعه في تصور حقيقة الفرق بين ما هو في الدنيا،و ما هو في الآخرة،فيما يرتبط بهذه الأمور،و حالاتها.

و قد تقدمت الإشارة إلى خصوصيات الكافور و أشرنا آنفا إلى بعض خصوصيات الزنجبيل في الدنيا،و التي ربما يراد الإشارة إليها في زنجبيل الآخرة،فلا نعيد..

بين«الكافور»و«الزنجبيل»:

و يبقى أمامنا سؤال عن السبب في اختيار الكافور في قوله تعالى:

ص: 80

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً..

و اختيار الزنجبيل هنا،حيث قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً..

و سؤال آخر و هو:أنه لما ذا قال هناك:«يشربون».أما هنا فقال:

«يسقون»؟!..

و سؤال ثالث:و هو أنه قال هناك:«يشربون من كأس»..أما هنا فقال:

«يسقون فيها كأسا»..فلما ذا يا ترى؟!

و للإجابة على هذه الأسئلة نقول:

بالنسبة للسؤال الأول:نشير إلى ما قدمناه في شرح تلك الآية المباركة من أن سياقها يعطي أن الحديث فيها عن أن جهد الأبرار في الحياة الدنيا،يفجر لهم عيون الخير و الفلاح في الآخرة،و يثمر لهم المزيد من البركات،و الألطاف و العنايات الإلهية.

و ذلك يفرض وجود اختلاف بيّن في خصوصيات الكأس التي يشرب منها الأبرار في الدنيا،و تلك التي يشربونها في الآخرة،فإن هناك حاجات و نقائص و سلبيات لا بد من تلافيها في الحياة الدنيا،و حالات غير مرغوب فيها يطلب السيطرة عليها،أو التخلص منها،بوسيلة تناسب حالها..كالكافور الذي يطرد الرائحة الكريهة،و يدفع ببرودته الحر الذي يسعى الإنسان للتخلص منه،ثم هو يعطي أيضا بصفائه و نقائه صورة مشرقة،تشيع البهجة في النفس،و غير ذلك..

أما في الجنة،فلا يوجد شيء من ذلك كله ليحتاج إلى معالجة، فليس فيها عطش،و لا حر،و لا برد،و لا تعب،و لا حاجة،و لا..الخ..بل

ص: 81

يراد فقط العيش في ظل الكرامة الإلهية،و التقلب في نعيم الجنة، و الحصول على السعادة،و اللذة فيها..و بذلك تنتفي الحاجة إلى الخصوصيات الموجودة في الكافور..

و بهذا تتضح الإجابة على السؤال الثالث عن السبب في أن الأبرار في الآية الأولى يشربون من كأس،أما في هذه الآية فهم يسقون..

فإن الأبرار هم الذين يفعلون،و يبذلون الجهد في الحياة الدنيا،أما في الآخرة فإنهم يكرمون و يعظمون،و تأتيهم الألطاف الإلهية،من دون حاجة إلى بذل جهد..

كما أن بذلك يظهر الجواب عن السؤال الثاني،فإن الأبرار هم الذين يصنعون الخير،و يكسبونه بجهدهم،فما قدروا عليه إنما هو بعض من عين الخير التي لا نفاد لما فيها..

أما في الآخرة،فإنما يشربون من كأس ملئوها هم بجهدهم و عملهم،فما عملوه من خير يوفى إليهم،و لا يظلمون فتيلا..

و إذ قد اتضح:أن الزنجبيل في الآخرة هو من مفردات زيادة النعيم، فإنه يتضح أيضا:

أن لا مجال لقبول التفسير القائل بأن الزنجبيل يحتاج إليه في الآخرة لإطفاء عطش يوم القيامة،حيث ينال المؤمن البرد اللذيذ بعد التعب و طول الوقوف في عرصات ذلك اليوم.

و كذا لا يصح قولهم:إن للزنجبيل بعض الأثر في إثارة الرغبة و الميل إلى ثمار الجنة..

***

ص: 82

الفصل الثامن عشر: عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً

اشارة

ص: 83

ص: 84

قوله تعالى:

عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.

اشارة

و في بيان المراد من هذه الآية،نقول:

«عَيْناً»:

1-قد اختلفوا في إعراب قوله:«عينا»..فهل هي:

بدل من قوله:«زنجبيلا».

أو بدل من قوله:«كأسا».

أو منصوبة بفعل محذوف،مثل ترون،أو تنظرون عينا،أو نحو ذلك..

أو منصوبة بنزع الخافض بتقدير:يسقون عينا،أي من عين على طريقة التجوز في الإسناد..

و قد ذهب إلى كل وجه من هذه الوجوه الاعرابية فريق..

و لكل إعراب خصوصية في المعنى،يرتكز عليها،و لا حاجة إلى تفصيل ذلك،غير أنه سيظهر من مسار الكلام:أننا نرجح الوجه الثاني..

2-لعل السبب في عدم الاكتفاء بذكر الكأس،بل أضاف قوله:

عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.. هو إرادة التحرز عن أي شعور بأن الكأس قد تفرغ من محتواها،بعد شرب ما فيها،حيث يستبعد الناس بقاءها على صفة الامتلاء بملاحظة صغر حجمها،و محدوديتها من حيث السعة، مما قد يثير شعورا بالفقدان لهذه النعمة،و تخوفا من عدم وجدانها بعد

ص: 85

ذلك..و ذلك يقلل من درجة الالتذاذ بها..و يزيل أو يقلل من مستوى الثقة و الطمأنينة لديه..

3-و العين هي البئر النابعة،التي لا تنضب،و عطاؤها ذاتي فيها،فهي لا تحتاج إلى استقدام شيء من خارجها.

و هذا يعطي شعورا بالغنى عن الأغيار..و يزيد من مستوى الطمأنينة و السكينة..فإن الكأس لا تنضب بل هي بمثابة عين،بل هي عين بالفعل يبقى تفجرها،و عطاؤها مستمر،و هو ذاتي فيها.

و كونها عينا فيه إشارة أيضا إلى الغزارة،و إلى الكثرة،فضلا عن الاستمرار،و هذا مما يزيد في الطمأنينة و الراحة أيضا..

ثم إن نفس كونها عينا،يشير إلى أنه لا مشقة في الحصول على المراد، من حيث إنها تتفجر،و يطفح،و يفيض،و يجري محتواها إلى ما حولها..

«فيها»:

ثم أشار بكلمة«فيها»إلى أن هذه العين؛في الجنة،ليثير ذلك المزيد من البهجة،و السرور.فبالإضافة إلى خلوه من جميع أنواع الكدورات و المنغّصات،التي لا يخلو منها شراب الدنيا،نعم إنه بالإضافة إلى ذلك،هو نظير من يشرب شرابه على ضفة نهر،أو على قمة جبل مشرف على منظر خلاب،فإن لذته بطعامه و شرابه تتضاعف بالقياس إلى لذته لو شربه في داخل غرفة عادية،مبعثرة الأثاث،سيئة المظهر و المنظر..مع أن نفس تناول الطعام،و إحساس الذائقة به لا يختلف في الحالتين..

«تُسَمّى سَلْسَبِيلاً»:

1-و يلاحظ:أنه تعالى لم يقل:عينا سلسبيلا،بل قال: «تُسَمّى سَلْسَبِيلاً»، و لم يذكر من الذي يسميها بهذا الاسم..

ص: 86

فكلمة«تسمى»قد أشارت:إلى أن هذا هو أحد أسماء تلك العين، التي عرضت لها بسبب ملاحظة خصوصياتها،الداخلة في حقيقة وجودها،حتى لقد أطلقت عليها هذه التسمية بصورة عفوية و واقعية،فلا حاجة،بل لا مجال،لتعيين من الذي سماها..

و ذلك يشير إلى أن صفة السلسبيل ليست عارضة على تلك العين، و لا يوجد أي ادعاء أو مبالغة غير واقعية فيها،فمعرفة الفاعل للتسمية لا تزيد في الثقة،و لكن مجهوليته هي التي تزيدها..

2-أما كلمة«سلسبيل»:فقد ادعي أنها لم توجد في كلام العرب، و أن القرآن هو الذي استعمل هذه الكلمة فقط..

و يبقى هذا مجرد ادعاء،فإن القرآن لم يكن ليأتي بكلام غير مفهوم، و لا معلوم لدى الناس،و هو القائل عن نفسه: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (1)..

و السلسبيل أصلها سلسل،ثم زيدت الباء و الياء فيها للإشارة إلى أن هذه الصفة ثابتة فيها بعمق و قوة،و بدرجة عالية،و ربما يكون سبب الزيادة غير ذلك.

كما أن من الجائز أن تكون نفس هذه الكلمة قد وضعت لإفادة هذا المعنى من دون أن يزاد فيها شيء.

و السلسبيل هي البالغة اللطافة،و السلاسة،و الليونة،و السهولة..

و إذا لاحظنا صفة الحرارة و اللذع في الزنجبيل،فكون هذه العين بهذه الدرجة من اللطافة و السهولة يعطينا أنه زنجبيل يختلف عما عرفناه في الدنيا،بل هو يكاد يكون مضادا له في صفته هذه..

********

(1) سورة الشعراء الآية 195.

ص: 87

لما ذا هذه التفاصيل و الدقائق؟:

و نحن إذا نظرنا إلى هذه الآيات القليلة،من بداية السورة،و إلى هنا،نجد أنها قد تناولت الإنسان موضوعا،و تحدثت عنه و عن نشأته و حياته،بشمولية و دقة،لا حدود لهما،و بينت إلى أي مدى تصل حساسية هذا الموضوع،و أن أهميته هي بحجم الإنسان نفسه،الذي انطوى فيه العالم الأكبر..

فبدأت السورة بالحديث عن التكوين المادي،و المعنوي،و العقلي، و المشاعري،و غير ذلك.في بضع آيات استهلها اللّه تعالى بإثارة السؤال الكبير: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..

و هو استفهام يراد به الإنكار،ليتوصل من خلاله إلى التأكيد على أن الإنسان لم يزل موضع الاهتمام و الرعاية الإلهية..مستدلا على ذلك،بما ظهر من بديع خلقة الإنسان،الذي أودعت فيه قوى ينشأ عن احتكاكها بالواقع من حولها ابتلاء،ثم بلورة و نمو ظاهر في أسباب العلم و وسائله، حيث أصبح بسبب ذلك شديد السمع،حديد البصر،و هذه الوسائل هي التي تمكنه من إدراك الحقائق،ليصبح السبيل-الذي يفترض فيه أن يسلكه لنيل الأهداف الكبيرة-ظاهرا و واضحا له..

و هذه الوسائل هي تلك الهدايات الإلهامية،و الفطرية،و الحسية،الظاهرية منها،و الباطنية،و العقلية،و التشريعية التي أشرنا إليها أكثر من مرة..

ثم هو قد أعطاه الاختيار..حتى إذا اختار طريق الخير،فكان من أهله،فإنه يستطيع أن يشرب ما أمكنه من كأس؛مزاجها الكافور الذي يفيد في إصلاح و إبعاد الشوائب،التي قد تعلق بعمل الخير ذاك،و يسهم في تنقيته و تصفيته،و إعداده بالصورة الصالحة..

و تلك الكأس هي مصدر للخير لا ينضب،و هو كفيل بصناعة

ص: 88

الشخصية الإيمانية للأبرار،و صياغتها بالصورة التي يريدها اللّه سبحانه، و لها،حيث تتكون قناعاتهم،و مفاهيمهم،و مشاعرهم،و تنطبع ممارساتهم بطابعها الإلهي،ليكون لهم التفرد و التميز الظاهر،و ليكونوا أهلا لنيل نعيم الجنة الذي وصفه اللّه تعالى لهم..

وصف نعيم الجنة:

و من الواضح:أنه لا شك في أن الأبرار هم في مستوى يؤهلهم للاستفادة من هذا النوع من النعيم،فإنه تعالى قد أسهب في وصف مفرداته بصورة لافتة،حتى ليظهر من هذه السورة المباركة على صغرها:

أن وصف مفردات دقائق و تفاصيل هذا النعيم،هو المحور الأساس، و الأهم،و كأنها قد أنزلها اللّه تعالى لهذا الغرض بالذات،ربما لأن لذلك الأثر الكبير من الناحية التربوية،و في إيجاد الحوافز لدى الناس للسعي لنيل ذلك،كلّ بحسب ما يقدمه من عمل،و ما يبذله من جهد..

كما أن ذلك يسهم في رفع مستوى وعي الناس و إدراكهم و تطوير مفاهيمهم البسيطة،إلى مفاهيم أرقى تؤثر إيجابا على حالتهم الإيمانية و العقائدية.

فضلا عن تأثيره في التكوين النفسي و الحالة الشعورية فيهم..

و إن التأمل في آيات هذه السورة كفيل بإظهار صعوبة جمع،و ضبط ما يدركه عقلنا القاصر فيها من إشارات،و رصد ما تختزنه من دلالات، و نظمها في قالب بياني واضح.و ذلك لكثرتها،و اختلاف تشعباتها..

فكيف لو وقفنا على حجم و آفاق معانيها الواقعية،التي لا ينالها إلا الراسخون في العلم من المعصومين،و الأئمة الطاهرين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين؟!..

ص: 89

خصوصية البيان القرآني:

و إن وصف و رسم و تصوير القرآن لهذه الدقائق و الحقائق التي تتميز بها مفردات نعيم الجنة،الذي استحقه أولئك الأبرار،يظهر لنا حقيقة، و خصوصية يمتاز بها البيان القرآني..

و هي أن القرآن لم يعتمد في بيان الحقائق العقائدية،و القضايا الإيمانية،على مصطلحات تختص بعلم بعينه،من بين سائر العلوم، كمصطلحات علم الكلام،أو علم الفلسفة،الذي لا شك في ارتباطه الوثيق في الشأن العقائدي،إلى حد أن من يمارس المسائل العقائدية لن تفاجئه تلك المصطلحات،و هي تتناثر عليه من كل حدب و صوب..بل المفاجأة هي أن لا يجد ذلك..

نعم،إن القرآن حين يعالج قضايا العقيدة،و يتصدى للتربية الفكرية و الروحية في مجالاتها،لا يهتم لتلك المصطلحات،و لا لغيرها من مصطلحات سائر العلوم التي يهتم بها فريق من الناس،بل هو حين يعالجها يتكلم:

أولا:باللغة العامة،المشتركة بين البشر جميعا.

ثانيا:إنه حين يعرض قضايا العقيدة،و غيرها من القضايا التجريدية، فإنه يخرجها عن حالتها تلك،و يحولها أولا إلى شأن حياتي،و يجسدها كواقع عملي،يهم الإنسان بما هو إنسان،و يعنيه بصورة مباشرة،ثم يقدمها إليه ليتلمّس فيها الخصوصية التي تعنيه..

فتدخل إلى قلوبهم،و إلى عقولهم،و إلى نفوسهم بصورة طبيعية و عفوية،و من الأبواب التي تناسب القلب،و العقل،و النفس،من دون أن يكون هناك أي حرج،أو صعوبة،بل هو يذلل كل الصعوبات،و يزيل

ص: 90

جميع الموانع..

فمثلا،حين يريد أن يتحدث عن التوحيد،و رفض الشرك،فإنه يثيره بطريقة تستبطن الدليل الفلسفي،و لكن دون أن يستخدم مصطلحات علم الفلسفة،فيشير إلى موضوع تضادّ الإرادات،أو بطلان تأثير ما عدا الإله الواحد،و بطلان تعدد الآلهة،و لكن من خلال التأكيد على أنه يوجب فساد الحياة،و فساد السماوات و الأرض،و يتناقض مع هدف الإله الحكيم من الخلق،لأنه إنما يريد الصلاح..

و واضح:أن الفساد لا يمكن للإنسان أن يرضى به،لأنه يهدد حياته، و ترفضه فطرته،و عقله،لأنه يخلّ بسعادته و راحته،و بخططه، و بمستقبله..

و الحاصل:أن القرآن ليس كتابا فلسفيا،و لا تاريخيا،و لا فقهيا،و لا غير ذلك،و إنما هو كتاب اللّه تعالى،يظهر للمعاني الدينية،و للأحكام الشرعية،و قضايا التاريخ،وجهها العملي،حين يحولها إلى شأن حياتي، ليستفيد الناس منه،و ليتفاعلوا معه بصورة عفوية،و لا يتحدث للناس بمصطلحات تختص بفريق دون فريق،و لا بعلوم لا يعرفها إلا قلة من الناس،في كل زمان و مكان..

و حتى حين ذكر بعض الأمور الكونية،فإنه ذكرها أيضا بلغة عامة، و لم يستعمل مصطلحات أهل الفلك،أو غيرهم..

و حين يتحدث عن نعيم الجنة،فإنه لا يبالغ فيه بهدف إغراء الناس بأمور خيالية..لأن الإنسان غير قادر على استيعاب الحقيقة مجردة، فكيف إذا أريد الزيادة عليها بأسلوب المبالغة.

إن القرآن يقرر الحقائق على ما هي عليه،و بصورة عملية تفصيلية،

ص: 91

تجعل الإنسان يعيش ذلك النعيم بكل وجوده،و تجعل جميع جوارحه تتشارك فيه.

لكن ذلك لا يعني أن علم الفلسفة مثلا ساقط عن الاعتبار..إذ لا ريب في أننا نحتاج إلى علم الفلسفة لمواجهة الشبهات التي يلقيها المتحذلقون من شياطين الإنس.

و لا شك في أن هذا العلم بضوابطه الصحيحة،و قواعده السليمة، يسهم في صيانة العقيدة،و يفيد في إثراء الفكر و في بلورته..

و لكننا نقول:إن الفلسفة هي لغة فريق من الناس،و ليست لغة جميعهم..و القرآن هو كتاب اللّه أنزله للبشر جميعا،فلا بد أن يخاطبهم سبحانه باللغة البشرية،لتثبيت قضايا الدين و شرائعه في وجدانهم، و عقلهم،و فكرهم.

و لكن ذلك لا يعني:أن لا يشير بطريقته الخاصة أيضا،إلى حقائق علمية..

و على كل حال،فإن الأدلة العقلية و غيرها مما يساق لإثبات الحقائق الاعتقادية،إنما تأتي لتأكيد مقتضيات الفطرة،و تقويتها،و صيانتها عن أن تتعرض لأي تشويه،أو تلوث..

فنحن نقول:إن القرآن قد جاء بنهج استدلالي جديد و فريد،حبذا لو اهتم علماؤنا بالاستفادة منه في تأسيس فلسفة جديدة،سيكون لها أثرها العظيم في بلورة الحقائق و توضيحها بصورة أتم للبشرية جمعاء، لأنها هي اللغة الجامعة و المفهومة لدى الجميع..

ص: 92

فمثلا قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (1)..دليل عقلي يفهمه البشر جميعا،و يتضمن الإعجاز الذي يؤكد وجود اللّه سبحانه للناس كلهم..فإن الخصوصية التي يريد اللّه أن يفهمها للناس، ثابتة في كل عصر و زمان،حتى لو لم يعد للإبل دور يذكر في حياة البشر-و هي خصوصية باقية يعرفها البشر جميعا،أو يمكنهم الاطلاع عليها على مر الزمان،و ليست مرهونة بالحاجة إلى الإبل و عدمها..

كما أنه حين بيّن في هذه السورة أن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكينا،و يتيما،و أسيرا..قد بدأ ببيان تفاصيل الجزاء لهم،و الذي جاء نتيجة ممارسة،و جهد،و حركة،و عمل حياتي،و عطاء منهم..

و الممارسة و الجهد مرتكز إلى حوافز عقيدية،و منطلق من نظرة معينة للحياة،و من قناعات و مشاعر،و من تكوين نفسي،و فكري،له خصوصيته و فرادته..و ليس ناشئا عن حالة عفوية،و لا مرتكزا إلى أمور خارجة عن حياة الإنسان..بل هو تضحية متعمّدة،يحمل معه قرارا بالتنازل عن علاقة في مقابل علاقة أخرى..

و هذا بالذات يفسر لنا سبب بدء السورة بإعطاء تصور عن واقع و نشأة الإنسان،و عن سيره التكاملي،و عن إعطائه الاختيار في أن يفعل، و أن لا يفعل،و عن أن اختياره،و جهده هو الذي يوصله إلى هذه النتائج في الآخرة..

***

********

(1) سورة الغاشية الآية 17.

ص: 93

ص: 94

الفصل التاسع عشر: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً

اشارة

ص: 95

ص: 96

قال تعالى:

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً.

«وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ »:

إنّ هذه الآية قد تحدثت عن وجود فريق في الجنة،يهتم بشئون هؤلاء الأبرار،و يقوم بخدمتهم،و هذا من شأنه أن يعطيهم سكينة نفسية، و فراغ بال،فلا مبرر للتخوف من مواجهة مشقة الخدمة،و تكليفهم بالوصول إلى حاجاتهم،و الحصول عليها بأنفسهم.

كما أن ذلك يشعرهم بكرامتهم عند اللّه،و برعايته لهم،و برضاه عنهم،و ذلك مما يسعدهم،بل هو غاية أمنياتهم و منتهى آمالهم..

و لعل السبب في اختيار التعبير بالتطواف..فقال: «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ».

و لم يقل:«يخدمهم ولدان»الخ..هو أن مهمة هؤلاء الولدان لا تنحصر بقضاء حاجات الأبرار،بل إنّ نفس وجودهم يعطي الأبرار أنسا.و بهجة و سرورا،بالإضافة إلى ما فيه من إعزاز و تكريم.

و لو كان الموضوع ينحصر بالتكريم،و بقضاء حاجات الأبرار، و تقريب البعيد لهم،لكان من الممكن أن تحضر حاجاتهم إليهم بوسائل غيبية و إعجازية..يهيئ اللّه لهم مبادئ تحريكها،و لو بمجرد خطورها في بالهم..

على أن خدمة الولدان لا تنحصر بما يدخل في سياق السعي

ص: 97

للحصول على الكمالات الناشئة عن الإحساس بالنقص و الحاجة،بسبب القصور في الوصول لمراداتهم و حاجتهم إلى تقريب البعيد لهم.حين يشعرون بضرورة ذلك..لأن الجنة لا يصح أن يشعر المتنعمون فيها بالنقص،أو الحاجة إلى تقريب البعيد،لأن حاجاتهم تحضر لهم قبل أن يتكون لديهم ذلك الشعور الذي قد ينقص من درجة نعيمهم..

أضف إلى ذلك:أن هناك خدمات تهدف إلى رفع مستوى النعيم لأهل الجنة،بفعل اقتراحي يبتدئهم اللّه سبحانه به..

لما ذا لم يقل:يخدمهم؟:

و أما لما ذا لم يشر إلى موضوع الخدمة؟..فلعله قد ظهر ذلك من البيان السابق،حيث قلنا إن الأمر لا يقتصر على الحاجات.بل لا توجد حاجات لهم في الجنة أساسا،فإن النعيم فيها إنما هو في نيلهم درجات تبدأ من مرحلة ما بعد قضاء الحاجات لهم،و رفع النقائص عنهم.

و اللافت هنا:أن اللّه سبحانه لم يشر أبدا في القرآن الكريم إلى هذه الكلمة،أعني كلمة:الخدمة،و لا إلى أي شيء من اشتقاقاتها،و ربما يكون ذلك لأجل تحاشي ما لها من إيحاء مكروه،و غير مناسب و لا منسجم مع الفطرة الصافية،و لا تألفه و لا تستسيغه الطبيعة البشرية،لبعده عن معنى الكرامة،و العزة،و خصوصا في الجنة،حيث يصبح استبعاد هذه المفردات أكثر إلحاحا.

فإنه تعالى لا يمكن أن يختار التعبير الذي يؤذي الروح،و لو بهذا المستوى من الإيحاء،لأنه يريد للجنة أن تكون نقية من الشوائب صافية صفاء أرواحهم،و قلوبهم،و وجدانهم،من كل الكدورات.

ص: 98

«ولدان»لا غلمان:

و كلمة ولدان تختزن في داخلها معان رائعة و خلابة،تحرك المشاعر النبيلة بصورة عفوية،و هي و إن كانت مبهمة،و لكنها تتحرك لتتجسد بصورة عملية و واقعية،و تتبلور،و يصير لها حجم،و أثر و دور أصيل، و قوي و فاعل.

و قد ذكر سبحانه أنّ الطائفين على الأبرار هم«ولدان»و لم يقل غلمان..ربما ليستبعد إيحاءات كلمة غلام،التي تستعمل في الخادم و تطلق أيضا على الشاب في بدايات شبابه،كما تطلق على الشيخ الكبير أحيانا..فهي من الأضداد..أو أنها موضوعة لمعنى لا يأبى عن الانطباق على الشاب و على الشيخ على حد سواء.

«ولدان»أو أشخاص؟:

و كذا لم يقل سبحانه:«يطوف عليهم أشخاص»،أو نحو ذلك،ربما من أجل أن يؤنس الأبرار حين يشير لهم بكلمة«ولدان»إلى أن الذين يطوفون عليهم،فيهم نشاط و حيوية،و فتوة،و هم في مقتبل العمر.

ثم هو يشير أيضا إلى الطراوة،و النضرة،و إلى البراءة..و هي معان يأنس بها الأبرار،و يرتاحون لالتماعاتها الهادئة.

«ولدان»جمع وليد:
اشارة

و في التعبير بكلمة«ولدان»إشارة إلى أمر آخر مهم و جليل أيضا،و هو:

أن هذه الكلمة هي جمع«وليد»و هو الصبي حين يولد،و هذا يعني:

أولا:إن ثمة ولادة لهؤلاء الذين يكرم اللّه تعالى الأبرار بهم،و أنهم لم يرد الخلق عليهم بصورة إبداعية و ابتدائية،فليس خلقهم مثل خلق آدم و حواء،و خلق الأرض و الجبال،و ما إلى ذلك،بل خلقهم هو بطريقة

ص: 99

الحمل و الولادة،كسائر أبناء آدم[عليه السّلام]..

ثانيا:إن تطوافهم على الأبرار لا تعني عبوديتهم و ذلهم،بل ذلك من موجبات نعيم و رضا و أنس أولئك الولدان..كما أنه إكرام و نعيم لآبائهم و لذلك لم يقل:يخدمون.

و من الواضح:أن رضا آبائهم يزيد أيضا في بهجتهم و لذتهم.

خصوصا إذا كانوا على هذه الحالة الرائعة،من حيث إنهم ولدان يتمتعون بإشراق،و بنشاط و حيوية،و نضرة الشباب.

أما تطوافهم على الأبرار فهي ليست فقط لا تغيظ آباءهم،بل هي تفرحهم و تسرّهم،لأنهم يرضون لرضا اللّه سبحانه،و يختارون ما يختاره..و لم تعد علاقتهم بأبنائهم علاقة أرضية محدودة،بل هي علاقة سامية إلهية،حتى إن من يكون ولده ضالا.كنوح مثلا،يكون نعيمه و لذته بانتقام اللّه سبحانه من ولده الكافر،و بتعذيبه بسبب ما جناه من هتك لحرمة المولى سبحانه.

ثالثا:إن درجات النعيم تختلف و تتفاوت،بحسب تأثير الأعمال في إعطاء القدرة على الاستفادة من نعيم الجنة،فقد يكون الإنسان في محضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عليين،و لكن درجة إحساسه بالنعيم تختلف عن درجة إحساس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله به.

و هكذا الحال بالنسبة للولدان،و الأبرار،فإن لذة الأبرار هي في الاتكاء على الأرائك،و في دنوّ القطوف لهم،و أن يروا الرسول و..و..أما لذة الولدان فهي كونهم في خدمة أولئك الأبرار..

و كذلك تجد بعض الحسنات توجب إعطاء قصر في الجنة، و بعضها يوجب غرس شجرة،و بعضها تكون مثوبته الحور العين،أو

ص: 100

بستان،أو ما إلى ذلك..

رابعا:بما أن الولادة و التناسل إنما تكون في الدنيا..فذلك يقرّب لنا صحة الرواية التي رواها الكراجكي رحمه اللّه في تفسير هذه الآية،قال رحمه اللّه:

«قوله تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، عن أمير المؤمنين عليه السّلام،أنه قال:الولدان هم أولاد أهل الدنيا،لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها،و لا سيئات فيعاقبون عليها،فأنزلوا هذه المنزلة» (1).

و لكن هل مراده عليه السّلام هو أطفال المشركين؟أو المراد أطفال المؤمنين؟أو هما معا؟!هناك عدة طوائف من الروايات.

و سنرى أنّ الراجح هو أنهم أطفال و أسقاط المؤمنين،حيث تربيهم السيدة الزهراء[عليها السّلام]،و النبي إبراهيم[عليه السّلام]و زوجته، ليكونوا في خدمة الأبرار،و تكون هذه الخدمة من مظاهر إكرام آبائهم، و من أسباب نعيمهم و أنسهم،و تقر بذلك أعينهم..

و على كل حال،فإن هذه الروايات على طوائف،هي التالية:

الطائفة الأولى:

ما صرح من تلك الروايات بأن أطفال المشركين في الجنة:

فقد روي عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]:أنه سئل عن أطفال المشركين،فقال:خدم أهل الجنة على صورة الولدان،خلقوا لخدمة أهل الجنة (2).

********

(1) البحار ج 5 ص 291 عن كنز الفوائد للكراجكي.

(2) البحار ج 5 ص 291 عن كنز الفوائد للكراجكي.

ص: 101

الطائفة الثانية:

الروايات التي دلت على أن أطفال المؤمنين في الجنة،و لم تشر إلى

أطفال المشركين،

مثل:

1-ما روي عن الإمام الكاظم[عليه السّلام]،عن آبائه[عليهم السّلام]،قال:قال رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:

«لا تزوجوا الحسناء الجميلة العاقرة،فإني أباهي فيكم الأمم يوم القيامة،أو ما علمت أن الولدان تحت عرش الرحمن يستغفرون لآبائهم، يحضنهم إبراهيم،و تربيهم سارة،في جبل من مسك،و عنبر، و زعفران؟!» (1).

2-و قال الصدوق رحمه اللّه:في الصحيح،عن الحسن بن محبوب،عن علي بن رئاب،عن الحلبي،عن أبي عبد اللّه[عليه السّلام]قال:

«إن اللّه تبارك و تعالى يدفع إلى إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين، يغذوانهم بشجرة في الجنة،لها أخلاف كأخلاف البقر،في قصر من الدر،فإذا كان يوم القيامة ألبسوا،و طيّبوا،و أهدوا إلى آبائهم،فهم ملوك في الجنة مع آبائهم،و هو قول اللّه تبارك و تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ..» (2).

3-و روى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المختصر من بصائر الدرجات،لسعد بن عبد اللّه،عن كتاب المعراج للشيخ الصالح أبي محمد الحسن:بإسناده عن الصدوق،عن أبيه،عن محمد بن أبي

********

(1) البحار ج 5 ص 293 عن نوادر الراوندي.

(2) البحار ج 5 ص 293 و 294 عن من لا يحضره الفقيه ص 239.

ص: 102

القاسم،عن محمد بن علي الكوفي،عن محمد بن علي بن مهران،عن صالح بن عقبة،عن يزيد بن عبد الملك،عن الباقر عليه السّلام قال:لما صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى السماء،و انته إلى السماء السابعة،و لقي الأنبياء عليهم السّلام.

«قال:أين إبراهيم عليه السّلام؟

قالوا له:هو مع أطفال شيعة علي.

فدخل الجنة،فإذا هو تحت شجرة لها ضروع كضروع البقر،فإذا انفلت الضرع من فم الصبي قام إبراهيم فردّ عليه..الخ» (1).

4-عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن سليمان الديلمي،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:

«إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة[عليها السّلام]،قوله:

أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) ،قال:يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (3).

5-و قال الصدوق أيضا:في الصحيح،روى أبو زكريا،عن أبي بصير،قال:قال أبو عبد اللّه[عليه السّلام]:

«إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى منادي في ملكوت السماوات و الأرض:ألا إنّ فلان بن فلان قد مات،فإن كان مات والداه، أو أحدهما،أو بعض أهل بيته من المؤمنين،دفع إليه يغذوه،و إلا دفع إلى فاطمة[عليها السّلام]تغذوه حتى يقدم أبواه،أو أحدهما،أو بعض

********

(1) البحار ج 5 ص 294.

(2) سورة الطور الآية 21.

(3) البحار ج 5 ص 289 عن تفسير القمي.

ص: 103

أهل بيته،فتدفعه إليه» (1).

قال المجلسي:«يمكن الجمع بين الخبرين،بأن بعضهم تربّيه فاطمة [عليها السّلام]،و بعضهم إبراهيم و سارة[عليهما السّلام]على اختلاف مراتب آبائهم،أو تدفعه فاطمة إليهما» (2).

6-و قال الطبرسي:روى زاذان عن علي عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إن المؤمنين و أولادهم في الجنة،ثم قرأ هذه الآية» (3).

7-و روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]قال:

«أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (4).

8-و روى الكليني عن العدة،عن سهل،عن علي بن الحكم،عن سيف بن عميرة،عن ابن بكير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (5)قال:فقال:«قصرت الأبناء عن عمل الآباء،فالحقوا الأبناء بالآباء،لتقر بذلك أعينهم».

و روى الصدوق عن أبي بكر الحضرمي مثله (6).

********

(1) البحار ج 5 ص 293،عن من لا يحضره الفقيه ص 439.

(2) البحار ج 5 ص 294.

(3) البحار ج 5 ص 289 عن مجمع البيان.

(4) البحار ج 5 ص 289 عن مجمع البيان.

(5) سورة الطور الآية 21.

(6) البحار ج 5 ص 292 عن الكافي ج 1 ص 68،و عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 104

الطائفة الثالثة:

الروايات التي صرحت بأن أطفال المشركين مع آبائهم في النار،

فقد:

1-قال المجلسي:في حديث آخر:

«أما أطفال المؤمنين،فإنهم يلحقون بآبائهم،و أولاد المشركين يلحقون بآبائهم،و هو قول اللّه عزّ و جل: بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » (1).

2-قال الصدوق:روى وهب بن وهب،عن جعفر بن محمد،عن محمد،عن أبيه عليهما السّلام،قال:قال علي عليه السّلام:

«أولاد المشركين مع آبائهم في النار،و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة» (2).

3-و قال الصدوق أيضا:في الصحيح،روى جعفر بن بشير،عن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أولاد المشركين،يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟.

«قال:كفار،و اللّه أعلم بما كانوا عاملين،يدخلون مداخل آبائهم» (3).

الطائفة الرابعة:

الروايات التي دلت على أنهم تؤجّج لهم نار،و يؤمرون بدخولها،فمن

دخلها كان في الجنة،و من أبى كان مصيره إلى النار،

و من هذه الروايات:

********

(1) البحار ج 5 ص 292 عن الكافي ج 1 ص 68.

(2) البحار ج 5 ص 294 عن من لا يحضره الفقيه.

(3) البحار ج 5 ص 295 عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 105

1-ما رواه الصدوق عن علي عليه السّلام قال:

«يؤجج لهم نارا،فيقال لهم:ادخلوها.فإن دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما،و إن أبوا قال لهم اللّه عزّ و جل:هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني.فيأمر اللّه عزّ و جل بهم إلى النار» (1).

2-و روى الصدوق أيضا،عن الحسين بن يحيى بن الضريس،عن أبيه،عن محمد بن عمارة السكري،عن إبراهيم بن عاصم،عن عبد اللّه بن هارون الكرخي،عن أحمد بن عبد اللّه بن يزيد،عن أبيه يزيد بن سلام،عن أبيه سلام بن عبيد اللّه،عن أخيه عبد اللّه بن سلام مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،أنه قال:

«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت:أخبرني أ يعذب اللّه عزّ و جل خلقا بلا حجة؟قال:معاذ اللّه.

فقلت:فأولاد المشركين في الجنة،أم في النار؟!

فقال:اللّه تبارك و تعالى أولى بهم.إنه إذا كان يوم القيامة-و ساق الحديث إلى أن قال-:فيأمر اللّه عزّ و جل نارا يقال له:الفلق،أشد شيء في نار جهنم عذابا..

(ثم ذكر في الحديث صفة تلك النار،و أنه تعالى يأمرها فتنفخ في وجه الخلائق،و ما يصيب الخلائق من هذه النفخة،ثم يقول):

فيأمر اللّه تعالى أطفال المشركين أن يلقوا بأنفسهم في تلك النار، فمن سبق له في علم اللّه عزّ و جل أن يكون سعيدا ألقى نفسه فيها، فكانت عليه بردا و سلاما،كما كانت على إبراهيم عليه السّلام،و من سبق

********

(1) البحار ج 5 ص 295 عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 106

له في علم اللّه تعالى أن يكون شقيا امتنع فلم يلق نفسه في النار،فيأمر اللّه تعالى النار فتلتقطه؛لتركه أمر اللّه،و امتناعه من الدخول فيها،فيكون تبعا لآبائه في جهنم» (1).

الطائفة الخامسة:

و هناك روايات تحدثت عن مصير مطلق الأطفال،

و عن الأصم و الأبكم و الأبله،و لم تحدد كونهم أطفال مسلمين أو غير مسلمين.

و ذكرت أن هؤلاء تؤجّج لهم نار و يؤمرون بالدخول فيها..

و نذكر من هذه الروايات ما يلي:

1-الصدوق:عن أبيه،عن محمد العطار،عن الأشعري،عن علي بن إسماعيل عن حماد،عن حريز،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:

«إذا كان يوم القيامة احتج اللّه عزّ و جل على خمسة:على الطفل، و الذي مات بين النبيّين،و الذي أدرك النبي و هو لا يعقل،و الأبله، و المجنون الذي لا يعقل و الأصم و الأبكم.

فكل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ و جل،قال:فيبعث إليهم رسولا، فيؤجج لهم نارا،فيقول لهم:ربكم يأمركم أن تثبوا فيها.

فمن وثب فيها،كانت عليه بردا و سلاما،و من عصى سيق إلى النار» (2).

و روى ما يقرب منه في معاني الأخبار،عن أبيه،عن سعد،عن

********

(1) البحار ج 5 ص 291 عن كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه اللّه.

(2) البحار ج 5 ص 289 و 290 عن كتاب الخصال ص 136.

ص: 107

أحمد بن محمد،عن حماد،عن حريز،عن زرارة.

و في الكافي:عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن حماد.

2-و روى الكليني في العدة،عن سهل،عن غير واحد،رفعه:أنه سئل عن الأطفال،فقال:

«إذا كان يوم القيامة جمعهم،و أجج نارا،و أمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها..إلى أن قال:فيقولون(أي الذين يؤمر بهم إلى النار):يا ربنا تأمر بنا إلى النار،و لم يجر علينا القلم؟

فيقول الجبار.قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني،فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم» (1).

3-و روى الكليني،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن ابن أبي عمير،عن هشام،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:أنه سئل عمّن مات في الفترة،و عمن لم يدرك الحنث و المعتوه،فقال:

«يحتج اللّه عليهم،يرفع لهم نارا،فيقول لهم:ادخلوها،فمن دخلها كانت عليه بردا و سلاما،و من أبى قال:ها أنا قد أمرتكم فعصيتموني» (2).

و بهذا الإسناد قال:

«ثلاثة يحتج عليهم:الأبكم،و الطفل،و من مات في الفترة،فيرفع لهم نارا..إلخ..» (3).

********

(1) البحار ج 5 ص 292/291 عن الكافي ج 1 ص 68.

(2) البحار ج 5 ص 293 عن الكافي ج 1 ص 68.

(3) المصدر السابق عنه.

ص: 108

التكليف في دار الجزاء:

بقي الكلام في أنه هل يكون في دار الجزاء تكليف أم لا؟..

فقد قال المجلسي:

«قال الصدوق رضي اللّه عنه:إن قوما من أصحاب الكلام ينكرون ذلك،و يقولون:إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء،تكليف.و دار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة.و دار الجزاء للكافرين إنما هي النار.

و إنما يكون هذا التكليف من اللّه عزّ و جل في غير الجنة و النار،فلا يكون كلفهم في دار الجزاء،ثم يصيّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم،فلا وجه لإنكار ذلك» (1).

فيلاحظ:

أن الصدوق رحمه اللّه قد جمع بين الأخبار التي تقول تارة:إن أطفال المشركين،مع آبائهم في النار،و أخرى بأنهم يؤمرون بدخول نار تضرم لهم.بأن المراد بكونهم مع آبائهم في النار،هو نار البرزخ،و لكنها لا تصيبهم من حرها،لتكون الحجة عليهم أوكد،فإذا جاء يوم القيامة.

فإن النار التي يؤمرون بدخولها تؤجج لهم..فتكون نار البرزخ حجة عليهم،و دليلا لهم (2).

غير أننا نقول:

إن من الواضح:أن طريق الجمع ليس منحصرا فيما ذكره الشيخ الصدوق رحمه اللّه.

********

(1) البحار ج 5 ص 290.

(2) البحار ج 5 ص 295.

ص: 109

فإن من الممكن أن يكون ذلك جاريا وفق علم اللّه سبحانه بما يكون منهم..بأن يكون تعالى قد علم أن جميع أولاد الكفار سوف يرفضون دخول النار التي تؤجّج لهم،و بذلك يستحقون دخول جهنم.

فأخبرت طائفة من الروايات عن علم اللّه تعالى بما سيكون عليه حالهم.

و قد ذكر المجلسي رحمه اللّه جمعا آخر غير ما ذكرناه و ذكره الصدوق رحمه اللّه.و هو أنه عليه السّلام حين أجاب بأنهم كفار،أو نحو ذلك، فإنما قصد أنهم محكومون بالكفر في الدنيا تبعا لآبائهم،و لذلك يحكم بنجاستهم،و عدم التغسيل و التكفين،و الصلاة،و التوارث و غير ذلك.

و أما دخولهم في النار مع آبائهم،فإنما يكون بعد رفضهم الدخول في النار التي تضرم لهم.

ثم ذكر أيضا:أن الظاهر هو أن هذه الروايات قد وردت مورد التقية فراجع (1).

و نحن،لا نوافق على هذا القول الأخير،إذ إن الروايات و الآراء في هذه المسألة عند أهل السنة مختلفة أيضا.فلا معنى لحمل الأخبار على التقية في أمر مختلف فيه عندهم،في الرأي أم في الرواية معا.

و قد ذكر المجلسي نفسه اختلافاتهم في ذلك؛في نفس الموضع من الجزء و الصفحة المشار إليها آنفا..فراجع.

إلا أن يقال:إن الاختلاف بين أهل السنة قد تأخر عن زمان صدور الرواية،فلا بد من إثبات ذلك..كما أنه لا بد من إثبات:أن أهل السنة و من يخشى منه فيهم،لا بد أن يكون لديهم تعصب و حساسية،تجاه كل

********

(1) راجع:البحار ج 5 ص 295 و 296.

ص: 110

من خالفهم في خصوص هذا الرأي،إذ كل مورد خالفهم فيه يكون لديهم اندفاع نحو البطش به،ليكون مضطرا إلى التقية..

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟!:

«هذا..و قد ذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار،فهم إما يدخلون الجنة،أو يسكنون الأعراف.

و ذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه الأخبار الصحيحة،من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم» (1).

و استدل المتكلمون منا على ما ذهبوا إليه؛بقبح تعذيب غير المكلف (2).

و نقول:

أولا:إن المشكلة التي وقف عندها المتكلمون يمكن أن تحلّ..فإن الأخبار قد دلّت على أنهم يكلفون بدخول نار تضرم لهم..فإذا امتنعوا و عوقبوا فلا يكون ذلك تعذيبا لغير المكلف،بل هو تعذيب لمكلف قد عصى..و ليس تعذيب العاصي قبيحا.

و في جميع الأحوال،فإن أخبار تكليفهم تدل على أن إدراكهم في تلك النشأة يختلف عنه في الحياة الدنيا..و ربما يكون اللّه تعالى قد زادهم من عنده ما يؤهلهم للخطاب و التكليف رحمة منه بهم..

ثانيا:و أمّا قول المتكلمين:إنّه لا تكليف في يوم القيامة،فهو مردود:

ألف-بأن هذه الروايات قد دلت على وجود تكليف في الآخرة أيضا..و الأمر في ذلك بيد اللّه سبحانه،و طريق معرفته هو السمع..و هذه

********

(1) البحار ج 5 ص 296و 297.

(2) راجع:البحار ج 5 ص 297.

ص: 111

الروايات هي ذلك السمع المثبت لذلك..

و أمّا ما دل على عدم وجود تكليف في الآخرة،فيحمل على أن المقصود به خصوص من كلّفوا في دار الدنيا،دون من عداهم.

ب-لو سلمنا أنه لا تكليف في الآخرة مطلقا،فإننا نقول:

إننا إذا راجعنا الآيات القرآنية الشريفة،و كذلك الروايات،فسنجد فيها الكثير مما يشير إلى التصرف الإلهي في المكان و الزمان على حد سواء..

فلعل اللّه سبحانه يتصرف في الآخرة في الزمان و المكان،فيجعل لحظة من لحظات الآخرة،التي لا تعد من عمر الآخرة-يجعلها-مليارات من الأحقاب،و يتصرف أيضا في ذرة لا تدخل في عداد الأمكنة،فيجعل منها سماوات،و أرضين،و أفلاكا،يعيش فيها هؤلاء،و يكون لهم التبشير و الإنذار، و يكون منهم الهدى و الضلال،و الخير و الشر.

ثم يبعثون،فيدخل المطيع الجنة،و يدخل العاصي منهم النار،قبل أن يحصل في المحشر أي جديد..

و التصرف الإلهي في الزمان و المكان،قد دلت عليه النصوص أيضا.

و نذكر فيما يلي طائفة من الآيات و الروايات التي دلت على ذلك..

[التصرف في المكان]

فنقول:

التصرف في المكان:

إن مما أشار إلى التصرف في المكان قوله تعالى:

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ * وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ * وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (1) .

********

(1) سورة الانشقاق،الآيات 3/1.

ص: 112

و قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ (1).

و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها (2).

و قال تعالى: وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ (3).و لعل المراد رجوعها إلى خزائن الغيب.

و قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (4).

و قال سبحانه: وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (5).

و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ (6).

و قال تعالى: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ (7).

و قال عزّ و جل: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (8).

و قال تعالى: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (9).

********

(1) سورة إبراهيم الآية 48.

(2) سورة الرعد الآية 41،و نظيرها في سورة الأنبياء الآية 44.

(3) سورة الزمر الآية 67.

(4) سورة الأنبياء الآية 104.

(5) سورة الأعراف الآية 171.

(6) سورة الرعد الآية 32.

(7) سورة الكهف الآية 47.

(8) سورة النبأ الآية 20.

(9) سورة القارعة الآية 5.

ص: 113

و نذكر من الروايات،ما يلي:

1-عن أبي الحسن الأول في تفسير آية وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ (1).قال عليه السّلام:

«و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال،و تقطع به البلدان،و يحيى به الموتى» (2).

2-روى الكليني بسنده عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«إن اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا،و إنما كان عند آصف منها حرف واحد،فتكلم به،فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس، حتى تناول السرير بيده،ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين» (3).

و بهذا المعنى روي أيضا عن أبي الحسن الهادي عليه السّلام فراجع.و فيه:فانخرقت له الأرض (4).

و في نص آخر:عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام:

«فانخسفت الأرض ما بينه و بين السرير،و التقت القطعتان،و جعل من هذه على هذه» (5).

********

(1) سورة الرعد الآية 31.

(2) تفسير الميزان ج 11 ص 370 عن الكافي.

(3) تفسير البرهان ج 3 ص 203 عن الكليني،و عن بصائر الدرجات،و نور الثقلين ج 4 ص 88 و 89 و 90.

(4) تفسير البرهان ج 3 ص 203 و 204،و نور الثقلين ج 4 ص 90.

(5) تفسير البرهان ج 3 ص 204 عن بصائر الدرجات،و نور الثقلين ج 4 ص 88.

ص: 114

و قريب منه ما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و فيه:

«ثم تناول السرير بيده» (1).

و راجع:ما رواه السيد الرضي في الخصائص من أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال:ما يقرب من ذلك أيضا (2).

3-و جاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السّلام:دعا آصف، فغار العرش من مكانه بمأرب،ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة اللّه (3).

4-و عن علي بن إبراهيم:

«دعا اللّه عزّ و جل باسمه الأعظم،فخرج السرير من تحت كرسي سليمان» (4).

5-و عن علي بن مهزيار،عن أحمد بن محمد،عن حماد بن عثمان،عن زرارة قال:سمعت أبا عبد اللّه يقول:

ما زاد صاحب سليمان..[إلى أن قال:]بإصبعه هكذا،فإذا هو قد جاء بعرش صاحبة سبأ.

فقال له حمران:كيف هذا أصلحك اللّه؟!

فقال:إن أبي كان يقول:إن الأرض طويت له.إذا أراد طواها».

********

(1) البرهان ج 3 ص 204 و نور الثقلين ج 4 ص 88.

(2) تفسير البرهان ج 3 ص 305.

(3) تفسير نور الثقلين ج 4 ص 87.

(4) تفسير البرهان ج 3 ص 206 و راجع تفسير نور الثقلين ج 4 ص 91 عن تفسير مجمع البيان.

ص: 115

6-حديث دفن الإمام السجاد لأبيه في كربلاء،حيث إنه عليه السّلام كان في الكوفة،فطويت له الأرض في مجيئه إلى كربلاء،فدفن أجساد الشهداء،و عاونه بنو أسد،ثم عاد إلى سجنه في الكوفة بطي الأرض أيضا.

7-حديث مجيء الإمام علي عليه السّلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى المدائن قرب بغداد،حيث غسل و كفن و صلى على سلمان المحمدي(الفارسي)و دفنه،ثم رجع إلى المدينة و إنما قطع تلك المسافات ذهابا و إيابا بطي الأرض أيضا.

8-حديث مجيء الإمام الجواد عليه السّلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى خراسان ليغسل،و يكفّن،و يصلي على أبيه الإمام الرضا عليه السّلام و يدفنه..ثم رجع،و كان ذلك بطي الأرض كما هو معلوم.

9-و هناك الحديث الذي يقول:إن الإمام الكاظم عليه السّلام خرج من سجنه ببغداد إلى المدينة المنورة ليعهد إلى ولده الإمام الرضا عليه السّلام؛و قد جاء فيه:

«ثم قال:إني أدعو اللّه عزّ و جل باسمه العظيم،الذي دعا به آصف حتى جاء بعرش بلقيس،و وضعه بين يدي سليمان عليه السّلام،قبل ارتداد طرفه إليه،حتى يجمع بيني و بين ابني علي بالمدينة.

قال المسيب فسمعته يدعو،ففقدته عن مصلاه،فلم أزل قائما على قدميّ حتى رأيته قد عاد إلى مكانه،و أعاد الحديد إلى رجله إلخ..» (1).

10-و حول طي الأرض للأئمة عليهم السّلام عقد في بصائر

********

(1) راجع:تفسير نور الثقلين ج 4 ص 89 عن عيون الأخبار.

ص: 116

الدرجات بابا فيه خمسة عشر حديثا..

و حول طي الأرض لمن شاء من أصحابه عقد بابا فيه أحاديث كثيرة،بالإضافة إلى أبواب أخرى ذكر فيها أحاديث كثيرة،تفيد أن اللّه قد أعطاهم عليه السّلام قدرات عظيمة في هذا المجال و في غيره فراجع (1).

التصرف في الزمان:

و بعد ما قدمناه عن التصرف في المكان،نجد أننا في غنى عن السعي لجمع الشواهد الدالة على وقوع التصرف في الزمان أيضا..بل يكفينا اعتقادنا المستند إلى الدليل بإطلاق قدرة اللّه سبحانه.

و مع ذلك،نقول:قد روى أبو سعيد الخدري في تفسير قوله تعالى:

تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (2) قال:

قيل:يا رسول اللّه،ما أطول هذا اليوم!!

فقال:و الذي نفس محمد بيده،إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا (3).

و عن الإمام الرضا عليه السّلام في حديث:الأئمة اثنا عشر،جاء قوله:

«و ليس بعزيز أن يجمع هذه الأمة يوما أو نصف يوم،و إن يوما عند

********

(1) راجع:بصائر الدرجات ص 397-410 و الكافي.

(2) سورة المعارج الآية 4.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 120 و تفسير البرهان ج 4 تفسير سورة المعارج.

ص: 117

ربك كألف سنة مما تعدون».. (1).

بل قد يستفاد التصرف بالزمان من نفس قضية دفن الإمام السجاد عليه السّلام للأجساد الطاهرة في كربلاء،و من الإتيان بعرش بلقيس حسبما تقدم..

خلاصة لأجل التوطئة:

و بناء على ذلك نقول:قد تقدم أن الرواية ذكرت:أن الولدان المخلدين هم أطفال المؤمنين،يهدون لآبائهم ليسرّهم اللّه بهم.و أن فاطمة عليها السّلام هي التي تربيهم،أو تدفعهم إلى سارة و إبراهيم عليهما السّلام..

و ورد أيضا:أن السقط من المؤمنين يقف محبنطئا على باب الجنة، و يقول:لا أدخل حتى يدخل أبواي،أو نحو ذلك (2).

و أما أطفال المشركين و الكفار،فتضرم لهم نار،و يؤمرون بالدخول فيها،فمن أطاع دخل الجنة،و من عصى دخل النار..

و ذكرنا أيضا:أنه لو كان لا بد من الإصرار على عدم وجود تكليف في الآخرة حتى لهؤلاء الأطفال و الأسقاط،فإنه لا شيء يمنع من حصول تصرف إلهي في الزمان و المكان،على النحو الذي ذكرناه،ليصبح من الممكن تكليفهم بالطاعة و بالمعصية.فإنكار ذلك يصبح غير ظاهر الوجه..

********

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 51.

(2) الكافي ج 5 ص 334 و من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 383 و التوحيد للصدوق ص 395.

ص: 118

سؤال تقف وراءه أسئلة:

و هنا سؤال،تقف وراءه أسئلة..هو التالي:

إنه إذا كان هذا هو حال الطفل،و الأبله،و المجنون،و الأصم، و الأبكم،و أمثال هؤلاء..فكيف تكون حال المكلفين الجاهلين؟

و يتبع هذا السؤال أسئلة كثيرة،نذكر منها على سبيل المثال:

السؤال عن حكم:

1-الجاهل القاصر،أو الغافل من المشركين و الملحدين،الذي لو علم لعمل.

2-الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الكتاب الذي يحب أن ينال رضا اللّه تعالى،و يحب أن يصل إليه،و لا عناد لديه.

3-الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الخلاف،الذي يعتقد أن ما هو عليه يوصله إلى اللّه،و لو علم أن غير ذلك هو الذي يوصله،لأخذه، و عمل به.

4-الجاهل المقصر من الصنف الأول..

5-ثم من الصنف الثاني..

6-ثم من الصنف الثالث..

7-و إذا كان هذا الجاهل القاصر،أو المقصر من أهل الخلاف، و استشهد في سبيل الدفاع عن الدين بحسب اعتقاده،فهل يدخل الجنة؟!

8-و كيف يدخل الجنة،مع وجود أحاديث تدل على أن من لا يوالي عليا عليه السّلام فليس له في الجنة من نصيب،حتى لو صام

ص: 119

نهاره،و قام ليله،و حج دهره..

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تدخل في هذا السياق..

و نجيب على هذه الأسئلة باختصار شديد،بما يلي:

الناس أصناف مختلفة،فمنهم:

ألف-كتابي،أو مخالف،أو مشرك،و لكنه عالم مطلع،و ملتفت، و مصر على ما هو عليه،كعلماء أهل الأديان الباطلة،و علماء الفرق المختلفة..أو كالذين رأوا الآيات الباهرة بأم أعينهم كأبي جهل،و عتبة، و شيبة،و أضرابهم..

ب-و هناك كتابي أو مخالف،أو مشرك،راض بما هو عليه،لا يقبل بأن يفكر،و أن يناقش،بحجة أنه لا يريد أن يشغل باله بمثل هذه الأمور،التي لا يرى لها ذات أهمية،فهو يقدم راحة باله،و تفرغه لشئونه على أي شيء آخر..

ج-و هناك مشرك،أو كتابي،أو مخالف يريد أن ينجو بنفسه من كل خطر،و هو مستعد لقبول الحق،و الالتزام به،و العمل بمقتضاه.

و لكنه غافل عن وجود شيء سوى ما هو عليه..

كما لو كان يعيش في صحراء،أو في غابة،و لا يعرف ما وراءها..

د-و هناك من هو مستعد لقبول الحق،و عارف بوجود اختلافات بين الناس فيه،و لكنه عاجز عن الوصول إلى هذا الحق.إما لموانع قسرية انتهت بحجز حريته ضمن نطاق بعينه،أو لعدم قدرته الفكرية- في نفسه-على التمييز بين الحق و الباطل،أو لوجود شبهات أو خدع أثّرت على فهمه للأمور،و لو أنه اكتشف الزيف لرفضه،و التزم بالحق.

ص: 120

و بعد ما تقدم نقول:

إن من يكون عارفا بالحق،لكنه يتعامى عنه،و يجحده،و يصر على الباطل،و هو القسم الأول،فلا ريب في أنه غير معذور،بل هو من الهالكين..و هذا هو ما يحكم به العقل،و يقتضيه الحق و العدل.

و لو فرض أنه قد فعل ذرة من خير،فلا بد أن يكافئه اللّه عليها في الدنيا،و ما له في الآخرة من خلاق.

و إن كان جاهلا بالحق،و قد رضي بجهله،و لا يرضى بالنظر في الأمور رغم الطلب إليه،و الإصرار عليه،كما هو الحال في الصنف الثاني، فإن كان هذا الشخص في دائرة الكفر و الشرك،فلا مجال للبحث في أمر نجاته..و أما إن كان في دائرة الإسلام،و لكنه لا يعتقد بولاية الإمام علي عليه السّلام من دون أن يصل إلى درجة الجحود،فلا بد أن ينظر في عمل هذا الشخص،فإن كان فاسدا،لا يرضى اللّه تعالى به،و لا يقره عليه الشرع،بل هو عبارة عن جرائم و موبقات،فهو كسابقه..

و إن كان ذنب سابقه أعظم بسبب جحوده و طغيانه..

و أما إن كان عمله موافقا للشرع الذي يدين اللّه به،فيمكن أن يتداركه اللّه سبحانه برحمته،لأجل شفاعة ولد صحيح الإيمان،أو لأي سبب آخر.بحيث تفيده هذه الشفاعة في إفساح المجال له لتصحيح تلك الأعمال بعرض ولاية الإمام علي عليه السّلام كما سيأتي في القسم التالي..

و أما من يكون غافلا،أو عاجزا عن الوصول إلى الحق،أو مخدوعا، واقعا تحت تأثير شبهة فيه،غير أن كل همه و سعيه هو الحصول على رضا اللّه و الوصول إليه..فإن حكم هذا القسم يعلم بملاحظة القاعدة التي

ص: 121

تضمنتها الآية المباركة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (1)..

و قوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (2)..

ثم بملاحظة ما هو ثابت من أنه لا يدخل الجنة إلا من أقر بالولاية لأمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام.

أي أن عدل اللّه تعالى و لطفه يقتضيان أمرين قد يبدوان متخالفين:

أحدهما:أن لا يضيع عمل هذا الشخص.

و الآخر:أن لا يدخل الجنة بدون إقرار منه بولاية الإمام علي و أهل بيته عليهم السّلام.

و لكن الحقيقة هي أن هذا التخالف و الاختلاف صوري،و ليس بحقيقي،و ذلك بملاحظة وجود أحاديث ذكرت أن ولاية الإمام علي عليه السّلام سوف تعرض على نوع من الناس يوم القيامة.فمن قبلها، أصبحت أعماله السابقة التي هي خير و صلاح،صالحة و قادرة على التأثير في إدخال صاحبها إلى الجنة،فولاية الإمام علي عليه السّلام تكون بمثابة الروح التي تدب في الجسد فتعطيه الحياة و القوة و الحركة..

و لعل إلى هذا يشير قوله تعالى عن تبليغ ولاية الإمام علي عليه السّلام: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (3)..فإن الرسالة في حقائقها، و أحكامها،و كل مضامينها بدون ولاية الإمام علي عليه السّلام،تكون كالجسد بلا روح،فإذا جاءت الولاية تحركت اليد و صارت تبطش،

********

(1) سورة الزلزلة الآية 7.

(2) سورة آل عمران الآية 195.

(3) سورة المائدة الآية 67.

ص: 122

و تدفع،و تقرب و تبعد،و صارت العين ترى،و الأذن تسمع،و اللسان يتكلم،الخ..

و نقرب الفكرة أيضا،بالتمثيل بالإجازة في العقد الفضولي..فإن الإيجاب و القبول،و جميع عناصر العقد متوفرة،فإذا أجاز المالك البيع لاحقا،فإن تلك العناصر تؤثر أثرها،و يحصل النقل و الانتقال،و تتحقق الملكية للثمن و للمثمن..

و على هذا الأساس نقول:إن الذين يقتلون في ساحات الجهاد، و كان حالهم في القصور و الغفلة،حال هؤلاء،فإنهم إذا كانوا يقاتلون في سبيل اللّه،لا لأجل الدنيا،و ليس لإرضاء شخص،أو فئة،و لا تأييدا لخط انحرافي،أو طاعة لقوى الشر و الضلال..فإن عملهم يكون جاهزا يوم القيامة،و لا يحتاج إلا إلى ولاية الإمام علي عليه السّلام،لتكون هي الروح التي تدب فيه،و تحمل صاحبه إلى الجنة،و ينال بذلك السعادة، فلا غرو أن يلطف اللّه سبحانه و تعالى به،و يتيح له هذه الفرصة،بعرض ولاية الإمام علي عليه السّلام،فإن قبلها نال الجنان،و إن رفضها،فقد تمت عليه الحجة،و لا بد أن ينال جزاء جحوده لأمر اللّه سبحانه..

للغة تأثيرها القوي:

و بعد،فقد أشرنا غير مرة إلى أن اللغة العربية تختزن في داخلها طاقة تعبيرية كبيرة،و كما كبيرا من الإشارات و الإيحاءات،و هذا من شأنه أن يترك آثارا متنوعة على نفسيات،و مشاعر،و انفعالات،و وجدان الناس،و على مفاهيمهم،و تربية ذهنياتهم،و إحداث ارتكازات لا شعورية لهم،و ترويض و تدجين السمع و القلب على أمور ذات طابع معين..

هذا بالإضافة إلى دورها الإيجابي في رفع مستوى الإنسان،و الترقي

ص: 123

بفكره،و بمفاهيمه،و بمشاعره إلى مستويات عالية و مرموقة،و نبيلة،ثم شحن روحه و وجدانه بقيم و مثل عليا،ما أشد حاجته إليها في حياته و في مواقفه..

فلا محل للتعجب إذا فهمنا من كلمة«ولدان»ذلك المعنى الذي ساقنا إلى مثل هذه القضايا..

«مخلّدون»:

و حين نصل إلى قوله تعالى:«مخلّدون»..فإننا:

1-سنشعر بأن هؤلاء الولدان سيكونون مع الأبرار دائما..فليس وجودهم معهم عارضا،و لن يكون هذا الاهتمام بشأن الأبرار محدودا بالأيام الأولى لدخولهم تلك الجنة..

2-و سنشعر أيضا أن وصف الولدان بالمخلدين..يشعرنا ببقاء صفة الفتوة و النّضرة فيهم..فلا خوف إذن من أن يصبحوا بتقادم الزمن شيوخا،و لا سبيل لظهور سمات الهرم فيهم..

3-إن إعلام الأبرار بأن ثمة خلودا في الجنة،و أن الوعد بالخلود، لا بد أن يتحقق إذ هو مما تثبت الوقائع نظائر له،و تؤكد أنه حقيقة واقعة..إن هذا لمما يزيد في طمأنينة الأبرار إلى هذا الوعد،على قاعدة:

قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1) .

و مما يزيد في سعادة الأبرار بهذا الخلود:أنه خلود لا يؤثر في المحيط من حولهم،تغيرا،و ذبولا،أو تشوها،أو حاجة،أو نقصا،أو ما إلى ذلك.بل يبقى كل هذا النعيم في غاية التمام و الكمال..فلا يجدون

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

ص: 124

إلا الصحة،و القوة،و الشباب،و الفتوة،و الري،و الشبع،و الواجدية لكل ما تشتهي الأنفس،و تلذ الأعين.فهو إذن خلود لذيذ،و محبوب،لأنه خال من المتاعب،و ليست فيه أية شوائب..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ »:

1-و قد أشرنا أكثر من مرة إلى أن كلمة«إذا»إنما تستعمل في مقام الجزم و اليقين،و قد جاءت هنا لتأكيد الحقيقة التي يراد للأبرار أن يعوها، و أن يلتذوا بتصورها..

بالإضافة إلى أن هذا الجزم يستبطن الإغراء للآخرين بالعمل بهذا الاتجاه،ما دام أن الإقدام عليه لم يعتمد على مجرد احتمالات،أو ظنون.

بل النتائج فيه يقينية،و اليقين فيها مطابق للواقع جزما،لأنه مستند إلى الإخبار الإلهي..

2-و هناك إشارة أخرى،ربما يقال:إنها تستفاد من كلمة«إذا»، و هي:أن هذه الكلمة تشير إلى أن ثمة يقينا بحتمية الوصول إلى هذه النتائج إذا سار الإنسان بحسب ما تقتضيه فطرته،و يفرضه عليه التوازن الذي يعيشه في داخل شخصيته و في كل حياته.

أي أن الإنسان إذا كان طبيعيا،و منسجما مع نفسه،و لا يعاني من أي خلل في شخصيته الإنسانية،فإنه لا بد أن يسير بحسب مقتضيات فطرته،و يخضع لأحكام عقله،و هي بدورها لا بد أن توصله إلى هذه النتيجة،و إلى هذا المقام،فكلمة«إذا»تشير إلى هذه اللابدية و الحتمية، فإن من لا يصل إلى هذا المقام،يكون قد أخل بالمسار الطبيعي و لم يستجب لنداء فطرته و عقله.بل تأثر بعوامل الهوى،و غيرها مما أضعفه، و أخل بالمسار الطبيعي لشخصيته الإنسانية..

ص: 125

فعدم الوصول إلى مقام الأبرار هو الاستثناء،و هو دليل خلل و ضعف،و انحراف عن المسار العام،و الوصول إليه هو الأمر المتوقع و الطبيعي..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ »:

و قد اختار هنا الحديث عن الحالة،و الشكل،و المنظر الظاهري للولدان..

و لكنه حديث قد جاء بطريقة تختزن في داخلها وعي المضمون الذي يحتضنه ذلك الشكل العام..و سنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى..

و لكن قوله:«حسبتهم»يشير إلى وجود خطأ في إدراك أهل الجنة لحالات و حقيقة ما يحيط بهم..فكيف يمكن تصور ذلك؟!

و الجواب:

أولا:إنه تعالى لم ينسب الحسبان لأهل الجنة،بل هو يقول:إن من يشرف عليهم و يراهم،هو الذي يقع في هذا الخطأ،خصوصا إذا كان الخطاب في هذه الآية الكريمة لأهل الدنيا،الذين لا يملكون القدرات التي تمكنهم من إدراك الواقع الأخروي الذي هو أرقى بكثير مما عرفوه و ألفوه،و وسائل الإدراك التي تمتلكونها تبقى قاصرة عنه.

ثانيا:لو سلمنا أن الخطاب هو للمؤمن الذي هو من أهل الجنة، و الذي تكون لديه وسائل إدراك تتناسب مع الواقع الذي يتعاطى معه، فإننا نقول:

إن الخطأ على نحوين:

أحدهما:ما يكون بحيث ينشأ عنه فقدان أو فقل:تفويت حالة الكمال،أو الإضرار بها.و فقد الوصول إلى الخير و النفع،الذي يفيد في

ص: 126

الترميم،و في التقليم و التطعيم.و ليس هذا هو المقصود هنا..و لا تحصل هذه الحالة في الجنة أبدا..

ثانيهما:الخطأ الذي ينتج عنه كمال في المعرفة،و صحة فيها،و زيادة في إدراك الحقائق،و يوجب تكامل الفهم و الوعي..

و هذا هو المقصود هنا،فإن خطأ الباصرة هنا: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لا يوجب نقصا في المعرفة،و لا تفويت شيء من المعاني، و الحالات التي يجب الاحتفاظ بها.

و لا هو إدراك لنقص موجود في الولدان،بل هو خطأ يوجب المزيد من إدراك درجات و تلمس حالات الحسن في الولدان،و مراتب الصفاء في ألوانهم،و إشراق،و نضرة وجوههم..

و هذا معناه:أن هذا النوع من الحسبان قد جاء في صراط التكامل، و هو خطأ تنتج عنه صوابية في الإدراك،و دقة فيه،و هو من طرق التعبير عن الحقائق بوضوح،و من وسائل الإيصال إليها..فهو نظير الطريقة الحسابية،المعروفة بحساب الخطأين،الذي لا يوصل إلى النتيجة الصحيحة إلا بعد ذكر فرضيتين خاطئتين،و قد ذكر هذه الطريقة المرحوم الشيخ البهائي قدس سره،في كتابه:خلاصة الحساب.

«لؤلؤا»:

و أما اختيار تشبيه الولدان المخلدين باللؤلؤ المنثور فلعله من أجل الإلماح إلى عدة أمور تكون فيه،هي:

1-صفاء اللؤلؤ..

2-إشراقه و رونقه..

3-شفافيته..

ص: 127

4-تلألؤ و تشعشع غير عادي..

5-البريق،و انعكاس النور..

6-الجمال..

7-الظهور..

8-الانتشار..

9-التوهج الذي يعني أن يكون في الولدان حيوية،و شباب، و فتوة،و طراوة،و توهج..

«منثورا»:

و بعد ما تقدم نقول:إن قوله«منثورا»يفرض علينا الالتفات إلى الأمور التالية:

أولا:إذا تعددت حبات اللؤلؤ المجتمعة،في مجال واحد، و تحركت في اتجاهات مختلفة،فإن تشعشعها،و لمعانها،و انعكاسات نورها،سوف تزداد ظهورا،و تتداخل بصورة رائعة..و هذا هو حال الولدان المخلدين في الجنة،الذين يكونون في حركة دائمة،و هم يطوفون على الأبرار..

ثانيا:إن اللؤلؤ قد يكون منثورا،و قد يكون منظوما في خيط يجمع بعضه إلى بعض..و لا يمكن نظم اللؤلؤ إلا بعد ثقبه.و المنظوم من اللؤلؤ أقل صفاء،و إشراقا،و لمعانا،و تلألؤا من غير المنظوم..

بالإضافة إلى أنه حين ينظم،فسوف يوجب ذلك حصر جانب من أشعته،و توجيه تلألؤه في جهات معينة و محدودة باتجاهات معينة، بحسب ما يوجبه اتجاه الخيط الذي نظمت فيه..

ص: 128

بخلاف اللؤلؤ المنثور،فإنه يمكن أن يتحرك في كل اتجاه،كما أنه لم يعرض عليه ما يوجب التقليل من إشراقه،و تلألؤه،و لمعانه،و صفائه..

على أن انتشار اللؤلؤ نفسه،يزيد من درجة تشعشعه،لا سيما حين تكون الحركة في مختلف الاتجاهات،لأن النور إذا جاء من زوايا مختلفة،و وقع بعضه على بعض،فإن انعكاساته سوف تختلف بحسب اختلاف تلك الزوايا..

اللؤلؤ المكنون..أم المنثور؟!

و علينا أن لا ننسى:أن اللّه سبحانه حين وصف الحور العين باللؤلؤ، قال: وَ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (1)..و لكنه هنا قد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور..

و لعل السبب في ذلك:أن المطلوب في الحور العين هو الستر، و الخدر،و الاختصاص،و الحرص،و الكمون،و الحفظ..

أما بالنسبة للولدان،فالمطلوب هو الحضور،و الظهور،و الانتشار، و الحركة،و الانتقال،و الكثرة،و التفرق..

***

********

(1) سورة الواقعة الآية 23.

ص: 129

ص: 130

الفصل العشرون: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً

اشارة

ص: 131

ص: 132

قال تعالى:

وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً.

«وَ إِذا رَأَيْتَ »:

و قد قال تعالى:«إذا رأيت»..و لم يقل:لو رأيت،أو إن رأيت..لأن كلمة«لو»تفيد الامتناع،و عدم الحصول،و كلمة«إن»تستعمل في مورد الشك في الحصول..مع أن المطلوب هو التأكيد على الحصول،و إظهار اليقين به،و هذا هو مورد كلمة«إذا»و هو المناسب هنا،لأن الهدف هو الترغيب و التشويق،و الحث على التزام سبيل الأبرار،و اتباع نهجهم.

«رأيت»،من جديد:
اشارة

ثم إنه سبحانه قد عبر بكلمة«رأيت»و لم يقل:سمعت،أو علمت، أو عرفت ما أعد اللّه للأبرار من الملك و النعيم.

كما أنه سبحانه قد اختار الخطاب المباشر،فلم يقل لو يعلم الناس ما ذا أعد اللّه للأبرار،الخ..

و اختار أيضا الخطاب للفرد،لا للجماعة،فقال:«رأيت»،و لم يقل:

«رأيتم».

كما أنه لا بد من تحديد المفعول لكلمة رأيت الأولى..و أن يسأل أيضا عن المفعول الثاني لكلمة«رأيت»الثانية..

فما هو السبب في ذلك كله،يا ترى؟!..

ص: 133

و نقول:

إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة،نلفت النظر إلى:أن الدقة في معاني المفردات مطلوبة،ليحصل الأمن من أي خلل أو تشويه أو نقص، أو غموض في التصور العام الذي تسهم تلك المفردات في إنشائه..

و أما جواب الأسئلة فهو كالتالي:

1-الخطاب للمفرد:

إن قوله:«و إذا رأيت»،لا يعني أنه يخاطب فردا بعينه،بل هو يخاطب فردا على سبيل البدل،أي أنه يخاطب كل من يصلح للخطاب، و يمكنه أن يدرك فحواه،فهو من قبيل: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)؟!و من قبيل: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (2)؟!..

و هذا معناه:أن الخطاب يشمل الكافر و المؤمن،لأن الجميع سيرون هذا النعيم للأبرار،فيكون به سرور أهل الإيمان،و حسرة أهل الكفر و الطغيان..

و من فوائد جعل الخطاب للمفرد على سبيل البدل،هو أن كل واحد من الناس يشعر أنه معني به،فيكون أشد انتباها لمعناه،و ترصدا لإشاراته،و إدراكا لمراميه..ثم هو يشعر بالمسئولية تجاهه،و يجد نفسه مطالبا بالتزام الاستجابة له..

2-الرؤية و المعاينة:

و حول لزوم التعبير بالرؤية دون سواها،مما يدخل في نطاق التعبير

********

(1) سورة الفيل الآية 1.

(2) سورة الماعون الآية 1.

ص: 134

عن المعرفة،نقول:

إن الرؤية تعني الحضور في المكان المناسب،و الزمان المناسب لصحة الرؤية..كما أنه لا بد أن يكون حضورا مع وعي و التفات..

و الرؤية البصرية تعني المشاهدة المباشرة،و هي أقوى و أشد إقناعا، و أوضح و أيسر إدراكا مما لو استندت المعرفة بالأمر إلى سماع الخبرية مثلا..

فإن الإدراك إنما هو لصورة اخترعتها المخيلة،من خلال مفاهيم الألفاظ التي ألقيت إليها.و ليس بالضرورة أن تكون دقيقة الانطباق على الواقع الذي يراد له أن يتصوره..

و قد تضمن هذا الخطاب-باختيار كلمة«رأيت»-دلالة واضحة على مدى الثقة بالمضمون،و أن القضية ليست مجرد وعد بأمر قد يتبدل الرأي بالوفاء به..

كما أن الحديث ليس عن أمر مستقبلي،قد يطرأ خلل في مقتضيات وجوده،أو يبرز مانع عن ذلك الوجود،بل هو حديث عن أمر فعلي ناجز و ظاهر للعيان،يمكن تلمسه بحاسة البصر..

و سيأتي:أن الرؤية قد تعلقت بالنعيم،مع أنه ليس بمحسوس.و هذا أسلوب آخر لإظهار شدة الحضور أيضا..

3-إطلاق الرؤية:«رأيت ثمّ»:

و يبقى أن نذكر هنا:أن كلمة«رأيت»الأولى لم يذكر فيها ما تقع عليه الرؤية بالتحديد،بل اكتفى تعالى بالرؤية مجردة عن أي تقييد هناك،ربما للإشارة إلى أن المقصود هو ذكر من يملك القدرة على الرؤية،و القابلية لها،فكأنه قال:يكفي أن يكون عندك إمكانية أن ترى

ص: 135

و لو في الحد الأدنى،و لأي شيء كان..لكي ترى النعيم و الملك الكبير بيسر و سهولة،من دون حاجة إلى أي عنصر مساعد،أو رافع للموانع،إذ إن الرؤيا ستكون ميسورة و سهلة لك،كما أنه لا يوجد أي شيء يمنع و يصد..

فلا حاجة إلى قوة بصر..

كما لا حاجة إلى تقريب الأشياء..

و لا إلى إيجاد مناخات تساعد على الرؤية..

و لا إلى جهد لإزالة الموانع..

«ثمّ»:

ثم هو قد عبر بظرف المكان بدلا عن المفعول،فقال:«رأيت ثمّ»، أي إذا حصلت لك قابلية الرؤية و لو بأدنى مراتبها،هناك..

فسوف ترى نعيما و ملكا كبيرا..

فهو لم يذكر سوى كلمة«ثمّ»ليفيد عموم الرؤية لكل النواحي،في تلك الجنة..

و التعبير بكلمة«ثمّ»التي هي للبعيد،يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المكان البعيد عن التصور و التخيل،و البعيد أيضا من حيث المكان..

يحتاج إلى بذل جهد،و سعي للحصول و للوصول في كلا الناحيتين..

لما ذا«رأيت»من جديد؟!:

و قد كان بالإمكان التعبير بأن يقول:«فستجد»،و لكنه أعاد كلمة «رأيت»ليفيد التأكيد على شدة ظهور ذلك الأمر و حضوره،إلى حد أنه قابل للرؤية البصرية..

ص: 136

«نعيما»:

و النعيم ليس من الأمور المحسوسة،بل هو حالة من النشوة و الرضا، و اللذة،تنشأ من ممارسة أمور محسوسة،غير أو محسوسة.

و قد تعلقت الرؤية البصرية بهذا النعيم بالذات،ليشير إلى شدة حضوره،و ليؤكد ظهوره إلى درجة أنه أصبح قابلا للمشاهدة،فهو تعالى يحوّل لك المعقول إلى محسوس،و قد علق الرؤية به مباشرة،لا بآثاره، أو دلائله،أو مناشئه،فلم يتحدث عن الأنهار،و الأشجار،و القصور، و الجنان،و الحور..و ذلك مبالغة في التأكيد على واقعية هذا النعيم،و أنه قد تجاوز مرحلته إلى مرحلة التجسد و الحضور الحسي..

«نعيما و ملكا»:

و قد اختار ذكر أمرين هنا:النعيم،و الملك..مقدما النعيم على الملك.

و السؤال هنا هو:

أ ليس الملك من مفردات النعيم؟!

فهل هذا من قبيل عطف الخاص على العام،لإظهار مزيد من الاهتمام بالخاص؟!

و نقول في بيان وجه ذلك:

إن مفردات النعيم جميعها،ترجع إلى أمرين:

أحدهما:ما هو حسي،كلذة الإنسان بالطعام و الشراب،و لذته بأمور العلاقة بالجنس الآخر،و لبسه للإستبرق،و بشرب الزنجبيل،و ما إلى ذلك..

الثاني:لذة إدراكية،شعورية،روحية،معنوية،يدركها الإنسان بحسه الباطني و هي أنواع كثيرة،ترجع كلها إلى لذة الإحساس بالواجدية،لما

ص: 137

يوجد تارة،و يفقد أخرى..

و من أمثلة ذلك،شعور الإنسان بالرضا و اللذة من خلال شعوره بواجديته لكمالاته الحقيقية،أو لما يراه كمالا له،مثل كونه غنيا،أو ذا مقام و موقع،أو ذا سلطة و حاكمية.أو عالما،أو معافى غير سقيم،و ما إلى ذلك..

فخصوصية الجمال مثلا،تعطي من يتصف بها لذة معنوية شعورية هي لذة الشعور بالرضا و الواجدية على سبيل الملك،و هي تعطيه تأكيدا و ثباتا لشخصيته المالكة لمزاياها..

و هو بالنسبة إلى الغير إدراك لحالة التناسق القائم بين العناصر،بعد انضمام بعضها إلى بعض،وفق نظام معين.الأمر الذي ينشأ عنه حالة من الارتياح،بل و الانشراح..

و قد أشار اللّه سبحانه في سورة«هل أتى»إلى كلا هذين النوعين، فذكر الملك الكبير،و الاتكاء على الأرائك،و طواف الولدان،و الجنة،و ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اللذة الإدراكية الشعورية،و في دائرة الملك،و الإحساس بالكرامة،و الحاكمية،و الواجدية،و أشار إلى اللذة الحسية عرضا في نفس تلك الآيات السابقة،حيث أشار إلى الزنجبيل، و الحرير..ثم تحدث هنا عن ثياب السندس،و الحرير،و الإستبرق، و التحلية بالأساور،و غير ذلك مما يدخل في دائرة النعيم الحسي..

و بعد ما تقدم نقول:

صحيح أن النعيم عام و خاص،و لكن الظاهر هو أن المقصود بالنعيم في قوله تعالى«نعيما»:النعيم الحسي..و المقصود بالملك:النعيم الإدراكي..

ص: 138

أو أنه أراد بالنعيم أولا المعنى العام،ثم ذكر النعيم الإدراكي،بقوله:

وَ مُلْكاً كَبِيراً ثم عاد فذكر النعيم الحسي في قوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ كما سنرى..

«كبيرا»:

ثم إنه تعالى قد وصف ملك الأبرار بأنه كبير،و لم يصفه بالعظيم، و لا بالواسع،أو نحوه..

و لعل ذلك يعود إلى أن كلمة«كبيرا»تختزن معنى العظمة،و معنى السعة أيضا،و لا يريد اللّه سبحانه بالملك خصوص معنى السلطة و الحاكمية،بل هو يقصد الواجدية لكل ما لو فقده الأبرار لأحسّوا بالحاجة إليه،أو لظهر لديهم حنين إليه،إنه يتحدث عن الواجدية بمختلف معانيها،و مفرداتها التي تناسب حال الأبرار،و منها ملك المال، و المقام،و السلطة،و غير ذلك من مزايا..

و معنى ذلك:أن كلمة عظيم،لا تفيد معنى السعة و الشمول.

و كلمة واسع قد تنصرف،إلى مساحة رقعة السلطان.فلا تشمل حتى معنى العظمة أيضا،فكان التعبير الأدق و الأصح،و المناسب و الجامع لسائر المعاني التي يراد التعبير عنها،هو قوله: وَ مُلْكاً كَبِيراً..

تنوين التنكير:

و قد جاء قوله:«نعيما»و«و ملكا كبيرا»منونا بتنوين التنكير،ليفيد التعظيم،و التكثير،و الاستمرار إلى أبعد مدى ممكن،مفسحا بذلك المجال أمام وهم و خيال الإنسان ليذهب في كل اتجاه،و إلى أبعد مدى..

و ليفهمنا أن ما ذكرته الآيات،لا يعدو كونه مجرد إعطاء مبدأ للتصور، و لا يراد به بيان الحقيقة بكل تفاصيلها..و يكون الإتيان بتنوين التنكير

ص: 139

بمثابة الإعلان عن هذه الحقيقة،من خلال إطلاق خيال الإنسان عن كل قيد،حيث سيبقى برغم ذلك غير قادر على إدراك الحقيقة،كل الحقيقة دفعة واحدة..

و يبقى لنا كلام حول أنحاء الاعتبار و أنه على نحوين،سوف يأتي في أوائل الفصل التالي..

***

ص: 140

الفصل الحادي و العشرون: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً

اشارة

ص: 141

ص: 142

قوله تعالى:

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.

«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ »:

و بعد أن أشارت الآية السابقة إلى حقائق اللذة و أنواعها،مما لا يرتبط بالممارسة الفعلية و التفصيلية..و أشير في آيات أخرى سبقت أيضا،إلى لذائذ معنوية إدراكية،ترتبط بأنواع الكرامة و التكريم،و ما للأبرار من مقام كريم،و ظهر أن إكرامهم هذا إنما هو بأسلوب التعامل معهم،حسبما ألمحنا إليه حين تحدثنا عن السبب في اختيار التعبير ب دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها، و ذُلِّلَتْ قُطُوفُها، و يُسْقَوْنَ ، و يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ ، و يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الخ..حيث قلنا:إنه تعالى لم يذكر تلذذهم بالشراب،بل تحدث عن أنهم يسقون،و ذكر تذليل القطوف،و لم يذكر الأكل من تلك القطوف..

ثم أشار سبحانه هنا إلى النعيم الحسي من خلال الممارسة الفعلية و التفصيلية،فقال:

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ الخ..فهذه العبارة تصف حالة الأبرار،في وقت نعيمهم،و حين يكون لهم الملك الكبير،فقالت:إنك أيها الناظر، ترى لهم نعيما و ملكا كبيرا في نفس الوقت الذي تكون ثياب السندس تعلوهم..

ص: 143

و نحن من أجل بيان أوفى و أتم لما تضمنته هذه الآية،نشير إلى أمر له ارتباط أكيد في المعنى المقصود هنا،فنقول:

القيمة الواقعية،و القيمة الاعتبارية:

إن هناك أشياء لها قيمة حقيقية،كالذهب،و الفضة،و الطعام،و نحو ذلك..و إن اختلفت مناشئ هذه القيمة،و مكوناتها..فالذهب مثلا إذا كان مجرد سبائك تكون له قيمة،و الذهب المصاغ،له قيمة أعلى،و كلاهما قيمة حقيقية،لكن الأولى تكون بإزاء نفس معدن الذهب،و في الثانية يكون ارتفاع القيمة بإزاء صياغتها،من حيث إنها تختزن حالة جمالية واقعية،استنفدت طاقة،و استغرقت وقتا و جهدا،و هذه الحالة الجمالية الجديدة،هي التي مكنت من الاستفادة منها في مجالات لم تكن لتفيد فيها لولاها..

و كذلك الحال في كثير من الأشياء التي لها قيمة في نفسها،و تضاف إليها قيمة الجهد المبذول في إعدادها..

و تكون الحاجة إلى ذلك الذهب الخالص،و الغرض الداعي للحصول عليه و كذلك الحاجة إلى المصاغ منه لأجل الزينة مثلا،هي الداعي،و المرغب ببذل هذه القيمة و تلك.و هذا معناه:أن الداعي للبذل موجود في ذات السلعة..

و قيمة الثوب أيضا قد نشأت من كونه يقي من الحر و البرد،و يسد الحاجة للستر،و يلبي رغبة في التجمل..

و قيمة الطعام من جهة أنه يفيد في استمرار الحياة و النشاط،و كونه من وسائل التلذذ.

و قيمة القلم و الورق،و..و..الخ..إنما تكون في واقع الحاجة التي

ص: 144

تقتضيها..

و قد كانوا و لا يزالون-أحيانا-يتبادلون السلع،فيأخذون عنبا أو تينا مثلا،مقابل العدس،أو القمح،و ذلك لما ذكرناه من أن القيمة موجودة في ذات هذا و ذاك،بسبب خصوصية واقعية يطلب الحصول عليها،من هذا الطرف أو ذاك..

و الضابط في القيم هو تلك الخصوصية و قدرتها على تلبية حاجة عامة أو خاصة يراد تلبيتها..

و هناك قيمة اعتبارية ليس لها منشأ سوى اعتبار عقلاء البشر،الذين يقبل و يصح منهم الاعتبار،كقيمة الأوراق النقدية،فيما تعارف عليه الناس في هذه الأيام..فإن قيمتها مرهونة ببقاء اعتبار العقلاء لها..فإذا زال الاعتبار كما في موارد تغيير النقد،فقدت قيمتها،و أصبحت كسائر الورق المهمل..

فالرغبة بأخذ الورقة المجعولة نقدا لم تنشأ من حاجة في داخل ذاتها،أو من حاجة لحالة تلبست بها نتجت عن جهد إضافي،بل نشأت الرغبة من اعتبار العقلاء لها بقيمة معينة من قبلهم..

الاعتبار على نحوين:

و إذا نظرنا إلى الأمور الاعتبارية،فسنجد أنها على نحوين:

أحدهما:ما يكون له خصوصية و منشأ،و مبرر كامن في نفس مورده..ثم يأتي الاعتبار ليؤكد تلك الخصوصية،و ليستفيد منها في مقام العمل..و ذلك مثل اعتبار الملكية،و الزوجية،و الحرية..و ما إلى ذلك، فإن هناك خصوصية في نفس المملوك دعت إلى اعتبار الملكية فيما بينه و بين مالكه،فصار هذا مالكا،و ذاك مملوكا،و كذلك الحال بالنسبة

ص: 145

للزوجية و غيرها..مع العلم:أن الملكية أو الزوجية لا تزيد في حجم ذلك الشيء و لا في وزنه،و لا في لونه،و لا في طراوته،و لا في شفافيته، و لا..و لا..و كذلك الحرية و الرقّية،و ما إلى ذلك.

و كذلك الحال في صورة ما لو رفع ذلك الاعتبار،بأن خرج عن عنوان الملكية،أو الزوجية،أو الحرية،أو..الخ..فإنه لا يتغير شيء،لا بالزيادة و لا بالنقيصة فيه،و لا في غير ذلك من حالاته..

فلو جلسنا مع مالك،أو زوج،أو حر،أو ملك،أو وزير،ثم فقد هذه الصفات..وعدنا إلى الجلوس معه..فإنه سوف لا يتغير فيه شيء في الحالتين..

فوجود هذه الصفات،و الاستفادة منها،و ترتيب الآثار عليها، و التصرف فيها،يستند إلى نفس الجعل و الاعتبار..

كما أن التلذذ بها أيضا كذلك،فلذة الملك،و الحرية،و الوزارة،و..

الخ..أيضا تكون بنفس قيام هذا العنوان الاعتباري،و زوال اللذة يكون بزواله..

و يمكن نقل الاعتبار بنواقل معينة،كالهبة،و البيع،و يمكن إزالته أيضا،كالطلاق المزيل للزوجية..و ما إلى ذلك.

ثانيهما:هناك أمور يتم جعلها،و اعتبارها بصورة اقتراحية،و من دون أن يكون في موردها خصوصية تدعو إلى ذلك،بل الخصوصية تكون في غيرها..و ذلك كما في اعتبار الأوراق النقدية ذات قيمة معينة، و أوراق أخرى ذات قيمة أخرى،مع أن الاختلاف إنما يكون بنقش الرقم أو الرسم عليها فقط،كما سنلمح إليه..

و لكن العناوين التي وردت في هذه الآية،كعنوان الملك الكبير،

ص: 146

و عنوان الزوجية في قوله: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (1)..و نحو ذلك،إنما تعبر عن خصوصيات اقتضتها أعمال العباد في الدنيا،فهي بعد جعل التسبيب لها من قبل اللّه سبحانه،و صيرورتها شبيهة بالأعمال التوليدية الواقعية،يصبح حالها حال العناوين الواقعية الانتزاعية،كعنوان الفوقية، الذي هو عنوان واقعي،على الإنسان أن يدركه،من خلال ملاحظة منشأ انتزاعه في الواقع الخارجي..

و لا توجد في الجنة قيمة ناشئة من اعتبار العقلاء،بحيث تزول بمجرد زوال الاعتبار المذكور..و لكن القيمة فيها ناشئة من خصوصية في ذات الأشياء،لا من جهة مستوى الإحساس بالحاجة إليها،بحيث تكون هي سبب الرغبة في الحصول عليها،و بذل ما يوازيها..

بل قيمتها تنشأ من مستوى ما تحققه من لذة و نعيم لأهل الجنة.فإن العمل و الجهد،و التضحيات في الدنيا التي دفع إليها إدراك وجود خصوصية في الأمور الأخروية،هو الذي أهّل ذلك العامل لذلك النعيم، و للتفضل عليه بمنازل الكرامة و الزلفى..

فالقيمة واقعية و حقيقية تكمن في تلك الخصوصية المشار إليها..

و ليست ناشئة من اعتبار العقلاء..

و لكن ثمة نقطة لا بد من لفت النظر إليها..و هي أن الطاعة و العبادة و البذل،و جهاد النفس،و مخالفة الهوى في الدنيا ليس معناه أنك تعطيه للّه،و يأخذه اللّه منك لحاجة به إليه..بل أنت تبذله لتكون أهلا للاستفادة من الخصوصية الكامنة في مفردات نعيم الجنة،و لتوجد أنت تلك

********

(1) سورة الطور الآية 20.

ص: 147

الخصوصية بنفس عملك هذا..

و قد ورد في الحديث الشريف قوله عليه السّلام:«إنما هي أعمالكم ترد إليكم» (1).

و قال تعالى على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (2)..

فإطاعتك للّه سبحانه،تشبه إطاعتك للطبيب،فإن الطبيب لا يحتاج إلى طاعتك،و لا ينتفع بها،و إنما تطيعه لكي تنتفع أنت،فلا توجد لدى الطبيب رغبة في خصوصية عندك،و ليس لديك أنت رغبة في خصوصية عند الطبيب،ثم تتبادلان تينك الخصوصيتين،كما لا يوجد عند اللّه حاجة يسدها له عملك و جهدك،فيعوضك عنه بثواب أو بأجر..بل إن نفس الأجر الذي يسألك إياه،هو الذي يكون لك.أي أن الخصوصية الواقعية اقتضاها نفس عملك،و لا يراد المعاوضة عليها مع طرف آخر،بحيث يستفيد هو من خصوصية،و يتخلى لك عن خصوصية في مقابلها..

و بعد ما تقدم نقول:

لقد تحدث اللّه تعالى في هذه الآيات عن الفضة،و عن الإستبرق، و عن السندس،و عن..و عن..و هي أمور لا تتحدد في الآخرة من خلال الرغبة فيها بملاحظة مقدار الحاجة إليها،بل تتحدد بمقدار ما تؤهل الأعمال في الدنيا للاستفادة منها..ثم يأتي التفضل الإلهي ليضاعف ذلك

********

(1) التوحيد للمفضل بن عمران الجعفي ص 50 و الحكايات للمفيد ص 85 و البحار ج 3 ص 90 و ج 10 ص 454.

(2) سورة سبأ الآية 47.

ص: 148

أضعافا كثيرة،بجعل الحسنة بعشرة أمثالها،بل بسبعمائة،و اللّه يضاعف لمن يشاء..

فلا يصح قياس القيم في الدنيا التي تخضع لبعض الاعتبارات الخاصة،كندرة المعدن،أو نحو ذلك،بالقيم التي في الآخرة،فلا يقال:

الذهب أغلى من الفضة أو العكس من أجل ذلك،فقوله: حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ .. معناه أن القيمة الواقعية-فيما يرتبط بما يناسب عمل الأبرار،و موقع الكرامة لهم-إنما هي للفضة،و لعل الذهب يأتي في مراتب أدنى،لا تليق بمقام أولئك الصفوة الأطهار،كما ألمحنا إليه في مورد سابق..

و ذلك لأن الأعمال حينما تؤهلك للتنعم بالفضة،فإن الفضة تصبح هي الخصوصية التي تحتاجها،و لا يصح الاستعاضة عنها بالذهب..بل تكون الاستعاضة حينئذ،مجرد غلط فاضح،و جهل واضح.

و يحسن تشبيه ما نحن فيه بإنسان في صحراء قاحلة،يواجه الموت عطشا،فلا شك في أنه سوف يشتري شربة الماء بكل ذهب و بكل فضة يقدر عليها في الدنيا..و يصبح الذهب عنده غير ذي قيمة،لأن خصوصيته لا تفيد في رفع عطشه،و لا في دفع الموت عنه..

أضف إلى ذلك:أن الفضة،أو الزجاج،أو غير ذلك،قد يعطي-حتى في الدنيا-جمالا في موقع لا يستطيع الذهب أو الألماس أو غيرهما،أن يعطيه،بل يكون وضعه في ذلك الموقع مسيئا للحالة الجمالية،و يمجه ذوق الإنسان،و قد يؤذي روحه..

و هذا معناه:أنه ليس للذهب قيمة في ذاته،بل هو تابع لاقتضاء الأعمال له..و ليس الذهب أغلى من الفضة،و لا الفضة أغلى من

ص: 149

الزنجبيل،و النخل،و الرمان،و الفاكهة،لأن القضية ليست قضية الحصول على الخصوصية المطلوبة،حسبما أوضحناه..

لما ذا قال:«عاليهم»؟!:

و قد بقيت هنا أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة،نذكرها مع ما يفيد في الإجابة عنها فيما يلي:

1-و قد قال تعالى هنا: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ.. و لكنه قال في مورد آخر: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.. فما هو السبب في اختلاف التعبير في الموردين؟!

و يمكن أن يجاب بأنه تعالى يريد بقوله: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ..

الإعلام بحقيقة لباسهم،و بيان نوعه..

أما هنا فالمقصود بقوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ.. بيان خصوصية الزينة،و لذلك ذكر ثياب السندس و لونها،فقال: سُندُسٍ خُضْرٌ.. ثم ذكر الأسورة،و جنسها..و ذلك بعد أن تحدث عن كيفيات تكريمهم،و عن النعيم المعنوي،و الحسي لهم..

2-و قد يسأل عن السبب في أنه تعالى قال:«عاليهم»،و لم يقل:

تعلوهم؟!.

و يقال في الجواب:

إن كلمة«عاليهم»اسم فاعل.و اسم الفاعل يناسب الفعل المضارع في معناه،من حيث دلالته على الثبوت فعلا..لكن الفرق،هو أنه في المضارع إشارة إلى أن الحدث لم يكن ثم كان،و يدل على الاستمرار في الحال،و لكنه ساكت عن أمر الاستقبال،فلو قال:«تعلوهم»لأفاد:أن هذا الأمر سيحدث لهم،و قد يستمر أو لا يستمر في بعض آنات

ص: 150

المستقبل،ففيه دلالة على التصرم و على التجدد..

فكلمة«عاليهم»تفيد الثبوت-و لا تفيد الحدوث-و تفيد أيضا الدوام..و ليس فيها إشارة إلى حالة فقدان أصلا،قد يرتجف لها القلب، و لو في مستوى التوهم،بسبب التعبير بصيغة المضارع..

3-و أما السبب في أنه تعالى لم يقل:يلبسون،أو لابسون ثياب سندس،بل اختار كلمة«عاليهم»،فلعله ليفيد ظهور هذا الأمر فيهم.

و هذه الكلمة هي أنسب التعابير عن ذلك،لأن العالي ظاهر للقريب و البعيد..إذ مجرد أن يلبس الإنسان شيئا لا يكفي لظهور الملبوس للغير..

فقد يلبسه تحت الثياب الظاهرة،و يقال:إن سفيان الثوري رأى على الإمام الصادق عليه السّلام في المسجد الحرام،ثيابا كثيرة حسانا،فقال:

و اللّه لآتينّه و لأوبخنّه!..

فدنا منه،فقال:يا ابن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]ما لبس رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]مثل هذا اللباس،و لا علي،و لا أحد من آبائك!

فقال عليه السّلام:كان النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،في زمن قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره،و إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها،فأحق أهلها بها أبرارها،ثم تلا: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (1)..فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه اللّه،غير أني يا ثوري!ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس،ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه،ثم رفع الثوب الأعلى،و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظ..

فقال:هذا لبسته لنفسي غليظا.و ما رأيته للناس.

********

(1) سورة الأعراف الآية 32.

ص: 151

ثم جذب ثوبا على سفيان،أعلاه غليظ خشن،و داخل ذلك ثوب ليّن!

فقال:لبست هذا الأعلى للناس،و لبست هذا لنفسك تسترها (1)..

4-و في الإجابة على سؤال عن السبب في إرادة إظهار الزينة نقول:

لعل سبب ذلك هو أن تظهر للناس جميعا كرامة اللّه تعالى للأبرار، و عنايته بهم،ففي ذلك إعزاز أهل الإيمان،و سرورهم،و كبت،و حسرة أهل الطغيان و عذابهم الأليم.

و ليس الهدف من هذا اللباس هو التبجح به،و الافتخار على المؤمنين،و إذلالهم به،من خلال إشعارهم بالحرمان و الفقدان..

و ليس المقصود أيضا هو الانتفاخ الفارغ،من أي هدف إيماني و إنساني..و ما ذلك إلا لأن الأبرار في الجنة قد صفت نفوسهم من مثل هذه الأدران..

أضف إلى ذلك:أن هذا الفعل الإلهي بهم إنما هو تجلّة منه لهم، و إظهار لنعمته عليهم..

و إذا كان هذا الإظهار التربوي الذي يستبطن تلك المعاني كلها مطلوبا في الدنيا،وفقا لقوله تعالى: وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (2)..

فكيف بالدار الآخرة.

فالمطلوب هو التحديث بنعمة اللّه،حثا للناس على طلب هذه النعمة، من مالكها الحقيقي،لا من العاجزين و أن يطلبوها على أساس أنها عطاء إلهي في مورد الاستحقاق على الجهد المبذول.و أنها عطاء من رب يريد

********

(1) قاموس الرجال ج 5 ص 143 و 144 و الكافي ج 6 ص 442.

(2) سورة الضحى الآية 11.

ص: 152

الخير لمربوبيه،و هو يرعاهم،و يهتم بهم،و لم يزل يفيض عليهم البركات، و الألطاف،و النعم..إنها عطاء ممن يملك خزائن كل شيء..

إن المطلوب هو التحدث بالنعم لا على سبيل الافتخار،بل لأجل الترغيب بها،و الاعتراف بالفضل الإلهي،و الكون في مواقع الشكر و الحمد..

و بذلك يعرف الفرق بين هذه النظرة،و بين النظرة القارونية،فقد أهلك قارون ماله،و لم يصغ إلى نصيحة قومه في أن يبتغي بما آتاه اللّه الدار الآخرة،و أن يحسن كما أحسن اللّه إليه،و أن لا يبغي الفساد في الأرض.و لا يفرح..

فأجابهم بقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (1)..

و كانت عاقبته أن خسف اللّه به و بداره الأرض..

5-و قد بين تعالى خصوصية هامة هنا،حين أتبع ذلك بقوله في الآية التالية: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. حيث بيّن أنهم قد حصلوا على هذه الزينة الظاهرة من موقع الاستحقاق،و هي أيضا من جملة النعم التي اختصهم اللّه بها،ثم هي عطاء كرامة و إعزاز، و ليس عطاء عشوائيا و بلا ضابطة.

كما أنه لا يراد بها إشعار الآخرين بالفاقدية و الحرمان.و لكنها لا بد أن تكون حسرة على أعداء اللّه،تزيد في مكروههم،و تضاعف في آلامهم التي كسبتها لهم أيديهم..

********

(1) سورة القصص الآيتان 79/78.

ص: 153

6-إن النعيم هنا،و إن كان يتجلى بلباس السندس،الذي هو أمر حسي،و لكن ذلك ليس هو المقصود الأساس هنا،بل النعيم المعنوي بهذا اللباس الذي هو زينة،هو الأهم..لأن إظهار كرامتهم يمثل لذة روحية معنوية إدراكية لهم،و ليس مجرد لذة جسدية..

كما أن نفس الإحساس بإدراك الآخرين لكرامة اللّه سبحانه للأبرار، هو من أسباب نعيمهم و أنسهم،و من موجبات اعتزازهم..

هذا عدا عن أن شعورهم ببهجة الآخرين و سرورهم بما يرونه من سندس خضر و إستبرق و غير ذلك،يعطيهم المزيد من الرضا و الراحة و السرور..

فظهر أن قوله:«عاليهم»لا يراد به مجرد إظهار الزينة للآخرين،بل المراد به أن يكون سببا في سرورهم،و كبت أعدائهم أيضا كما تقدم..

«ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ »:

و غير خفي أن اللّه سبحانه يريد أن يفهمنا معنى الكرامة للأبرار بالأسلوب،و بالمفردات التي نعرفها و نألفها،و نتفاعل معها..

و مع أنه تعالى قد عبر بكلمة«ثياب»و بكلمة«سندس»،و لكنه حذف هذه الكلمة مع كلمة«الإستبرق»،و جاء بها مرفوعة لتكون عطفا على كلمة«ثياب»السابقة،مما يعني أنه تعالى يريد أن يقول:إن الإستبرق هو العالي على الأبرار،فهو زينتهم الظاهرة..و لم يحصر زينتهم به بخصوص جعله لباسا لهم،فلعلهم يتزينون به بحيث يكون فوق فرشهم،و ستائرهم،و في كل المواضع الظاهرة للآخرين،و التي هي من مفردات نعيم الأبرار،بما تعطيه من بهجة للناظر،و أنس للمستفيد الحاضر..

ص: 154

فلوحظ في السندس خصوصية كونه ثوبا يعلو الأبرار،ظاهرا لكل أحد،لكن لوحظ في الإستبرق خصوصية كونه من أدوات الزينة في جميع مظاهرها..و ذلك معناه أن الأنسب في السندس هو كونه ثوبا، و الأنسب في الإستبرق أن يكون في غير اللباس..

و ذلك لأن السندس،هو ما رقّ نسجه من ثياب الحرير،و الرقة تناسب اللباس الذي يطلب فيه الخفة و نعومة الملمس..

أما الإستبرق،فهو ما غلظ نسجه من ثياب الحرير،ففيه الثقل و فيه درجة من خشونة الملمس،فيناسب أن يستعمل في ما سوى اللباس من الزينة الظاهرة..

النعيم الجسدي..من خلال الرضا الإلهي:

و واضح:أن الإنسان قد يلبس الحرير،و أساور الفضة و غيرها،و ذلك كما يكون في ساعات الهناء،كذلك قد يكون في ساعات المصائب و البلايا،فلبسه للحرير و للأساور،و غيرها،لا يوجب له لذة،و لا يخفف عنه ألما..

كما أن من يمارس لذة جسدية محرمة،و هو ملتفت إلى العقاب الذي سيواجهه من جراء ذلك،فإنه لا يلتذ بها بنفس مستوى لذة من يمارسها هي بعينها،و هو يشعر أنها حلال له،فكيف إذا صاحب ذلك شعوره بأنها من مظاهر التكريم و الرضا الإلهي،و المحبة،و اللطف الرباني؟!..

«خضر»:

بالرفع،وصفا لكلمة ثياب،لا لكلمة«سندس»..

و المعروف،الذي دلت عليه أحاديث أهل البيت[عليهم السّلام]:أن النظر في الخضرة من أسباب بعث البهجة و الارتياح في النفوس،و قد

ص: 155

جعل اللّه الثياب التي تعلو أولئك الأبرار خضرا،لأنه يريد أن يبعث البهجة في نفوس الناظرين إلى الأبرار،و يسرهم بذلك..كما أن الخضرة هي لون الربيع في شبابه،فهي تشير إلى الرواء،و إلى الانتعاش،و إلى الطراوة،و إلى تدفق الحيوية..

و لكنه لم يصف الإستبرق بالخضرة،لأن المطلوب هو تنويع الألوان و اختلافها في المحيط الذي يكون فيه الأبرار،لكي تتنوع تأثيراتها على المشاعر،و تتنوع الانفعالات،الأمر الذي يثير جوا من الحيوية و النشاط، و الأنس بجديد ما يقع عليه النظر في كل آن..

«وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ »:

1-و يأتي بعد ذلك كله الحديث عن التزين بالأساور،فقال:

«و حلّوا»..بصيغة الفعل الماضي،ليفيد تأكد الحصول و الوقوع،إلى درجة أنه أصبح يصح الإخبار عن حصوله خارجا..

كما أن نفس التعبير بصيغة الفعل،فيه إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن ثم كان،من خلال نشوء إرادة إكرامهم به،و لو أنه كان موجودا، فإن ذلك لا يشير إلى إرادة الإكرام هذه..

2-و قد يسأل سائل عن السبب في اختيار التعبير ب«حلّوا».حيث لم يقل:ألبسوا،أو زيّنوا؟!

و الجواب:

أن الحديث إنما هو عن النواحي الجمالية التي تحتاج إلى فعل يظهرها.و لو من خلال الهيئة التركيبية لعناصر ليس لها في ذاتها أية حالة جمالية،و لكنها إذا جمعت بطريقة معينة،فإنها تعطي الإيحاء بالمعاني، أو تصنع من خلال ذلك مزايا تثير الرغبة في تلمسها..

ص: 156

فليس الحديث إذن عن خصوص ما يكون بذاته-و من دون أي تدخل من خارج-مختزنا للحالة الجمالية الواقعية،إذ قد تختزن نفس العينين،أو الفم،أو غيرها حالة جمالية رائعة..

و كما أن حالة الضم و الجمع،قد تعطي إيحاء بالجمال،كذلك هي قد تعطي الإيحاء بالقبح،و تنشئ حالة ينفر منها الطبع..حتى لو كانت نفس المفردات المنضمة من أجمل ما خلق اللّه..

فإنه قد يقع نظرك على عين بمفردها،فترى أنها غاية في الجمال، و العين الأخرى أيضا إذا نظرت إليها بمفردها تجد أنها كذلك،و لكنك حين تضمهما إلى بعضهما البعض تنشأ حالة أو معنى غير محبب،كما إذا ظهرت حالة الحول و عدم التناسق في حركة سواديهما.أو كما لو كانت إحداهما أصغر من الأخرى،أو كانت هناك درجة غير مستساغة من التباعد أو الاقتراب.

فللعين إذن جمال ذاتي،واقعي..و لها أيضا تأثير و مشاركة في إنشاء حالة جمالية،أو قباحة في الهيكل العام للوجه،و ربما يؤثر ذلك على الناحية الإيحائية تجاه الجسد كله..

و في جسد الإنسان مواقع ليس لها خصوصية جمالية لافتة،إلا من حيث انسجامها مع مواقع و أحجام سائر الأجزاء الداخلة في التكوين العام للجسد..فليس لليد مثلا جمال خاص بها-كما هو الحال بالنسبة للفم،أو العين على سبيل المثال..و لكن لو تغير موقعها قليلا أو كثيرا،أو لو أنها صغرت،أو كبرت،فإن ذلك يعطي الإيحاء الخاص المتناسب مع هذه التحولات.

ص: 157

و بعد أن اتضح ذلك نقول:

بما أن الإنسان ليس له حالة جمالية تلفت الأنظار،فقد كان من إعطائها صورة جمالية أرقى تعطيها درجة من التميز تتبلور من خلال ذلك لذة تدفع إلى الطلب و السعي،للحصول على هذا.و كان لا بد لليد من كسب ذلك من خارج ذاتها.بأن تكون جزءا من هيئة لها صفة جمالية رائعة،أو أن تكون الأساور هي التي تعطيها هذا الأمر..تماما كما هو حال القرطين في الأذنين،و أحمر الشفاه،و صباغ الأظافر،و الخلخال، و ما إلى ذلك.

فالأساور هي التي تحلي،و تعطي الرونق،و تزيد في الانجذاب إلى تلك المواضع لإدراك خصوصيات الجمال فيها..و لذلك قال:«حلّوا»و لم يقل:ألبسوا الأساور،فإن ذلك يبين أن اللبس للأساور قد حصل،و أن حصوله كان بفعل الآخرين لأجل تكريمهم..ثم هو يبين الداعي لهذا الإلباس،و هو زيادة الرونق،و إيجاد حالة جمالية جديدة..

«من فضّة»:

و قد وقع الاختيار هنا أيضا على الفضة لتكون الأساور منها..

و قد ألمحنا في السابق إلى أن منشأ القيمة في الآخرة،و في الجنة بالذات ليس هو الاعتبار،لأن الاعتبارات تزول في الآخرة،بزوال مناشئها..

و تصبح قيمة الأشياء هناك بما تؤديه من خدمة و دور في إسعاد الأبرار،و أهل الإيمان..و الفضة هي المطلوبة في هذا المورد،خصوصا إذا لاحظنا ما يلي:

1-إنها على درجة عالية من الشفافية بحيث يرى ما خلفها..

ص: 158

2-إنها مع ذلك تحتفظ بلمعانها الأخّاذ..

3-إنها تفضّ النظر الذي ينصب عليها،و تفرقه و تجزؤه (1)و تنشره..

و ينعكس عنها،و يتسع ليقع على غيرها..

فإن اللون الأبيض،يعكس النور و يرده،و يفرق البصر و ينشره..أما اللون الأسود فهو يجمع البصر إليه،و لا يتفرق عنه،و لا ينتشر..

و لكن الفضة هنا تفترق عن اللون الأبيض في أنها لا ترد النور،بل هي تستوعبه في نفس حال نشرها له،كما أنها في حين هي تفرق البصر و تنشره،فإن البصر يخترقها و يتجاوزها إلى ما بعدها..

و هكذا يتضح كيف أن النظر إلى فضة الجنة يؤدي أكثر من مهمة معجزة،و خارقة للعادة..

4-ثم إن ثمة حالة فريدة،و رائعة،و هامة،تصل إلى حد الإعجاز، فإن من ينظر في المرآة لا يرى المرآة نفسها،بل يرى الصورة فيها، و الذي يرى ما بعد الزجاج الشفاف فإنه لا يرى الزجاج نفسه،و لكن الأمر في الجنة ليس كذلك؛إذ إنه في حين هو يرى الفضة،فهو يرى ما بعدها أيضا.و يرى أيضا أمورا أخرى حولها..فهل يكون هذا إلا الإعجاز بعينه..

و هذا يعطي قدرا زائدا من البهجة،و السرور،و يلامس الأحاسيس و المشاعر،و يثير فيها المعاني و الخواطر اللذيذة المختلفة..

و لأجل ذلك،كانت للفضة هذه القيمة العالية جدا،التي تظهر ما

********

(1) فقوله:انفضوا،معناه تفرقوا من حوله.و قوله:لا فض فوك.دعاء بعدم فقده لأسنانه و عدم تفرقها بالقلع..

ص: 159

تؤديه من دور في تحقيق درجات عالية من النعيم لخصوص هؤلاء الأبرار،حتى لقد جعل اللّه تراب الجنة منها..

لما ذا خصوص الأساور؟!:

و أظن أن ما ذكرناه فيما سبق يكفي للإجابة على سؤال:لما ذا تحدث اللّه سبحانه عن تحلية الأبرار بالأساور دون سواها،من مفردات تدخل في هذا السياق؟..

فإن الأيدي قد تكون من أكثر أعضاء الجسد الإنساني حركة ظاهرة و مرئية للآخرين،فهو يحركها،و هو يمشي،و حين يتكلم،و يستفيد منها في الوصول إلى أكثر حاجاته،و في أكثر حالاته و تصرفاته..و البصر يتابع الحركة،و ينشدّ إليها،و للأساور دورها المميز في متابعة البصر،و انشداده.

فهي تزين اليدين بما للونها من خصوصيات،و بما لمادتها من ميزات ذكرناها سابقا،و هي تختطف النظر إليها بما تكون لها من حركة،مع اليد أولا،و بالحركة التي تكون ناشئة عن إطلاقها،و عدم تقييدها،فهي من جهة حركة إرادية،في تبعيتها لحركة اليد،و من جهة أخرى غير إرادية في نفسها بسبب إطلاق الأساور في طبيعة وضعها العام..

و هي تشد البصر أيضا من حيث إن لحركتها صوت و رنين يثير الانتباه،و تتداعى بسببه معان و مشاعر مختلفة و متنوعة..

أضف إلى ذلك كله..أن حركة اليد تكون في مختلف الاتجاهات..

هل الزينة خاصة بالنساء؟:

و لا مكان للوهم الذي يقول:إن الزينة إنما تناسب النساء.فما معنى جعل الأساور للرجال؟..

إذ إن الزينة أمر مطلوب و محبوب في كل مواقع الرضا و الصلاح..

ص: 160

و قد قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كونوا لنا زينا» (1)..

و قد زين اللّه السماء الدنيا بزينة الكواكب..

و الأرض تتزين أيضا بإخراج زخرفها..

و قال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2)..

من الذي يحلّيهم بالأساور؟:

و قد جاء التعبير بصيغة الماضي المبني للمجهول..ربما لأنه يريد بيان النواحي الجمالية،التي يكرم اللّه تعالى بها الأبرار،و لا يقصد بيان من هو واهب هذه النعم،أو منشأ هذه الكرامات..

و على كل حال،فإن تحليتهم بالأساور،من شأنها أن تثير جوا من البهجة و السرور للأبرار أنفسهم،ببعضهم بعضا.و سرور غيرهم من أهل الإيمان بهم..كما ألمحت إليه أيضا كلمة:«خضر»،فإن الخضرة تكون مصدر أنس لمن يراهم من أهل الإيمان،و سببا في الحسرة و الألم لأهل الطغيان..

«وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ »:

ثم انتقل سبحانه إلى إظهار أمر يلتذ به الأبرار أنفسهم،دون سواهم، فذكر اللّه سبحانه أنه هو الذي يسقي الأبرار،حيث لم يقل:«يسقون»، فإنه تعالى،و إن كان قد قال في آية سابقة: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. و ليس ثمة ما يمنع من أن يكون الذي يسقيهم هو

********

(1) شرح الأخبار ج 3 ص 585 و 590 و الاعتقادات للمفيد ص 109 و الأمالي للطوسي ص 440 و البحار ج 65 ص 151 و ج 68 ص 276 و 310.

(2) سورة الأعراف الآية 31.

ص: 161

ربهم أيضا..و لكن لم يكن المقام هناك مقام بيان من هو الساقي،بل كان في مقام بيان إكرامهم،بطريقة حصولهم على الشراب،و أنهم لا يحتاجون إلى المبادرة بأنفسهم إليه،بل سوف يكون ذلك من غيرهم..

أما هاهنا ،فقد أراد اللّه سبحانه أن يقرر لهم لذة الشرف بالساقي أيضا،و هو ربهم تبارك و تعالى..لأنه تعالى يريد أن يعلن بأن لهم عنده أعلى درجات التكريم،و أسمى حالات العناية بهم و الرعاية لهم،حتى أنه سبحانه هو الذي يشرفهم فيسقيهم هو الشارب الطهور..

ثم إنه تعالى لم يقل:«أنا أسقيهم»،بل قال:«سقاهم ربّهم»و لم يقل:

سقاهم اللّه،أو سقاهم إلههم،أو الرب.ربما ليلمح إلى أن هذه النعم، إنما تعطى إليهم بأعيانهم من موقع الربوبية التي تعني العمل من أجل المربوب،و إظهارا للاهتمام به،و دفعا له في صراط التكامل و التنامي،من موقع الحكمة و المحبة له،و بهدف ترشيده،و نقله من حسن إلى أحسن، و من كمال إلى كمال أتم.

كما أن هناك عناية بإظهار أن هذه الربوبية ليست مقاما إلهيا منفصلا عنهم،و لا هي عنوان عام لا ربط له بهم،بل هي ربوبية لهم بصورة مباشرة،تتجلى لهم في جميع الحالات و بصور مختلفة و حالات متعددة، و هي تعنيهم فردا فردا..

و هذا الشعور لذيذ للأبرار،محبب لهم،و هو منشأ لمشاعر مختلفة في اتجاهاتها،و لكنها مجتمعة في ما تهيئوه من أنس و رضا..

الشراب الطهور:

و«الطهور»من صيغ المبالغة،و التكثير في الطاهر،و المعنى:أنه طاهر بنفسه،مطهر لغيره.

ص: 162

و هو شراب يتناولونه لمرة واحدة،و لا يحتاج إلى تكرار..و لعله لأجل ذلك جاء بصيغة الفعل الماضي:«سقاهم»،و لم يقل:«يسقيهم».

فما يسقيهم ربهم إياه هو شراب يطهرهم من كل عناء الدنيا،و من جميع شوائبها،فكما أن الماء الطهور يطهر الثوب،كذلك الشراب الطهور الذي يسقيهم اللّه إياه مطهر لنفوسهم و أرواحهم من كل ما نالها من تعب و عناء،و ما تعرضت له من أذى في الدنيا و بلاء..و مذهب لكل ما ينغص عليهم عيشهم،و يكدر نعيمهم و ملكهم..

و بهذا السقي الربوبي،الذي تطهر به نفوسهم و أرواحهم،تتهيأ و تستعد لاستقبال أنواع النعيم،بصافي الفطرة،و بكامل القدرة..

و من المعلوم أن المبالغة تارة تكون لتأكيد الكثرة أو القلة في الأفراد،و أخرى تكون لتأكيد حالة الشدة أو الضعف،أو الصغر أو الكبر..

فالمبالغة في كلمة صبور ناظرة إلى بيان شدة الصبر.و المبالغة في ملول،ناظرة إلى كثرة الملل الذي يحصل منه في مرات كثيرة..

و كذلك حين نقول:صدوق أو كذوب.فإنها ناظرة إلى كثرة أفراد الصدق و الكذب التي تصدر منه..

و فيما نحن فيه نقول:إن الطهورية مبالغة في الطاهر،من جهة إنه طاهر في نفسه،و لا ينجسه غيره.كماء البحر،و قد تكون من حيث أنه طاهر بنفسه مطهر لغيره،مهما تكثرت أفراد ذلك الغير،فإن البحر يبقى مطهرا له.و تبقى طهوريته في نفسه،مهما كثر عروض النجاسات عليه، فإنها لا تؤثر فيه..

***

ص: 163

ص: 164

الفصل الثاني و العشرون: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً

اشارة

ص: 165

ص: 166

قال تعالى:

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.

«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً»:
اشارة

إن الإنسان قد يبذل جهدا و تعبا في سبيل الوصول إلى أمر ما،فإذا نال ذلك الأمر فإنه سيلتذ به،بصورة أعظم و أتم مما لو حصل عليه بدون تعب و جهد..

و ستتكون فيما بينه و بين ذلك الشيء الذي تعب من أجله علاقة تختلف عن علاقته بالأشياء التي لم يبذل في سبيلها جهدا،فإن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

و يصبح التخلي عن هذا الأمر،أيسر عليه من تخليه عن ذاك،بسبب ضعف تعلقه به.و لأجل ذلك فإن من يتعب بتحصيل المال لا يكون عادة مبذرا له،و لا مفرطا فيه.بخلاف من أخذه بلا تعب.

و إن كن هذا لا ينطبق على الأبرار،و لكن المقصود هو التأكيد على أن العمل في سبيل الحصول على الشيء،يعطي الإنسان شعورا بالكرامة، و العزة و الشمم..و هو شعور محبب و لذيذ في حد ذاته..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى يقول هنا للأبرار،بعد أن ذكر ما أعد لهم من نعيم: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً..

و يلاحظ هنا:أن هذه الآية:

ص: 167

1-قد أوردت الكلام مؤكدا بكلمة«إنّ»..

2-إنها قد زادت الكلام تأكيدا بالاستفادة من كلمة«كان»الدالة على كينونة الشيء،و تحققه،و جاءت بصيغة الفعل الماضي لتفيد اليقين بهذا التحقق إلى حد أنه قد أصبح بمثابة الحاصل،أو أنه حاصل بالفعل، حتى صح أن يخبر عن كينونته..

3-و مما يزيد الأمر تأكيدا؛الإشارة إليه إشارة حسية..و هي إشارة إلى الحاضر القريب،حيث قال تعالى:«إنّ هذا»..

«لكم جزاء»:

يضاف إلى ما تقدم:أنه تعالى قد صرح بملكيتهم لذلك المشار إليه بكلمة«هذا»،و أنه لهم،قبل أن يصرح بوصفه ب«الجزاء»،فقدم كلمة «لكم»على كلمة«جزاء»..

لأنه لو عكس ذلك،بأن قدّم كلمة«جزاء»،فإن ذلك قد يوحي،و لو لغيرهم،للحظة عابرة بوجود جزاء قد يكون حسنا،و قد لا يكون..

و لا يريد اللّه سبحانه أن يمر في وهم الإنسان،و لو للحظة واحدة شيء من ذلك،بل هو يريد لهم أن يلتذوا بالمبادرة إلى التصريح بأن الجزاء في غاية الحسن،ليعيشوا الطمأنينة و السكينة في جميع الآنات، حتى في طريقة الأداء اللفظي و البياني..

كما أنه يريد أن يطمئنهم إلى أنهم مالكون لهذا الجزاء،و لا يريد أن يفصلهم عن هذا النعيم،و لو على مستوى التخيل العابر،بأن يمر و لو في و هم الآخرين أن هذا الجزاء قد يكون لهم،و قد يكون لغيرهم..

و هذا يشير إلى مزيد الرضا،و إلى درجة الاهتمام الإلهي بهم،و هو يعطيهم بالتالي لذة جديدة من خلال هذا الشعور بالحب،و الرعاية،

ص: 168

و الرضا،و الكرامة الربانية لهم.

الخطاب للأبرار:

و قد جرى الكلام هاهنا بصورة الخطاب مع الأبرار،فيقول: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. بعد أن كان يتحدث عنهم بصيغة الغائب،حيث كان يقول: يُطافُ عَلَيْهِمْ .. .. وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ .. الخ..

«جزاء»:

و قد اعتبر اللّه تعالى عطاءه هذا للأبرار جزاء لهم،و لعله بهدف توجيه الناس و تحريضهم على أن يعملوا بعمل الأبرار لينالوا ما نالوه.

و هذا يشير إلى أن هذا العطاء،الذي هو على سبيل الجزاء،قد لوحظ فيه حجم العمل و مزاياه و غاياته،و ليس عطاء تفضليا محضا..فإن كان ثمة تفضل،فإنما هو في تقدير الجزاء قبل تقريره..

كما أن عدّ ذلك من قبيل الجزاء يثير لدى الأبرار شعورا بالكرامة و الاعتزاز،من حيث قبول اللّه سبحانه لأعمالهم،و يعطي عملهم قيمة واقعية و حقيقية،لأن اللّه هو المصدر الحقيقي لكل قيمة،و جعل الجزاء بإزائه يستبطن ذلك..

ثم إن للنعيم المصاحب للشعور بالاستحقاق،لذته أيضا و أهميته..

فإن من يحصل على محبة الآخرين مثلا،من دون استحقاق،سوف ينتابه شعور بالضعف،و الضعة،و الذلة،و الاستكانة..بخلاف ما لو نال ذلك الحب عن جدارة،فإن ذلك سيثير فيه عزة،و قوة،و ثبات شخصية، و بهجة بهذه العزة،و بذلك الثبات..

كما أن الاستحقاق يعطي للحب أصالة،و عمقا،و بقاء،و شعورا بالثبات،بخلاف ما لو جاء على سبيل التحنن و التكرم،فإنه لا يكون ثمة

ص: 169

أي أساس أو مستند،أو مبرر للشعور ببقائه،و أصالته،و استمراره..

فيصبح هذا الحب مشوبا بالشعور بإمكانية فقده لأي طارئ،أو صارف عنه..و قد يضعف الحافز الذاتي له،و لا يجد منشأ آخر يمكن أن يعتمد عليه فيه..

«وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً»:

و رغم أن الإنسان مملوك للّه سبحانه،فإن اللّه تعالى قد تفضل عليه بأن جعل لسعيه قيمة..

ثم اعتبره ملكا للإنسان نفسه..على قاعدة: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (1)..

غير أن اللافت هنا:أنه سبحانه حتى حين تفضل على الإنسان بهذا و ذاك،فإنه قد اعتبر الإنسان العامل أهلا لأن يشكر على عمله هذا،رغم أن فائدة العمل و عائدته إنما تعود عليه دون سواه..

و قد أخبر تعالى عن حصول هذا الشكر،و عن بقائه،و عن كينونته بقوله: وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. فلم يقل:و سنشكر لكم ذلك..بل قال:

«كان»،ليشير إلى أن الشكورية الثابتة و الدائمة و الباقية لسعيكم؛قد تحققت و انته الأمر.

«سعيكم»:

ثم إن اللّه تعالى قد ذكر هنا مجرد السعي،و لم يذكر نوعه،و مستواه، و نتائجه،و آثاره و حجمها،و هذا معناه:أن مجرد السعي يجعل الأبرار مستحقين لهذا الجزاء و لذلك الشكر..

********

(1) سورة سبأ الآية 47.

ص: 170

«مشكورا»:

و قد ألمحنا آنفا إلى أن اللّه سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه و حجمها-اعتبره-ذا قيمة على كل حال..بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى،و بلغ الأمر حدا بحيث انفصلت عوائد و فوائد ذلك العمل عن العامل،و لحقت به تبارك و تعالى،فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره،و هذا الغير هو اللّه سبحانه،الغني، و الخالق،و المالك..

و هذا غاية التكريم من اللّه سبحانه لعبده المؤمن،فإنه-و هو المالك،و المعطي له كل القدرات،و كل الهدايات-قد ملكه عمله، و جعل نفعه يعود عليه،ثم أعطاه عليه جزاء،ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه،و وعده عليه بالشكر،بل و شكره عليه بالفعل،بل كان له منه الشكر الدائم و المستمر..

و إثبات المشكورية لسعي الأبرار،يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق،لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم-اعتباره-لغيرهم،و أنهم قد استحقوا الشكر عليه،لتخلّيهم عنه لصالح ذلك الغير،حسبما بيّناه..

و لكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير،الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية،و ليس على نحو الحقيقة..و لكن الجزاء و الكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها،هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها..

و لا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني،و أن تكون من أسباب نعيمهم و بهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر،و هذا الفضل العميم..

ص: 171

و لذلك قال هنا: يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً. أي يتركونه غير مكترثين به،و لا مهتمين له،و لم يكونوا قد أمسكوا به،أو حصلوا عليه.

رغم أنه ثقيل،و مهم جدا..

***

ص: 172

الفصل الثالث و العشرون: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً

اشارة

ص: 173

ص: 174

قوله تعالى:

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً.

وسائل الهداية الإلهية:

و بعد بيان هذا الجزاء العظيم للأبرار،بما يمثله من إثارة الطموح و التطلع لدى الناس إلى تلك المقامات السامية،و التشوق لبلوغها،أو لسلوك الطريق إليها:فإن الحاجة تصبح ماسة إلى بيان وسائل الهداية إلى ذلك كله،فجاء البيان لهذه الهداية من قبل مصدر العطاء،و الحكمة، و الهيمنة،و الخالقية،و العلم،و..و..

و قد أورد اللّه تعالى ذلك مصحوبا بالتأكيدات المختلفة للمضمون الذي يريد لفت الأنظار إليه،و هو أن القرآن نازل من عند اللّه سبحانه، فأكد ذلك بكلمة«إنّ»و بكلمة«نا»المعبرة عن مقام العزة الإلهية،و بكلمة «نحن»المؤكدة للضمير المتصل،مع أنّه قد كان يمكن الاكتفاء بالقول:

«أنا نزلت عليك القرآن»..

و أكّد ذلك أيضا بالجملة الاسمية،و بكلمة تنزيلا،التي هي مفعول مطلق.

فهذه التأكيدات كلها،لعلها لإزالة آثار تشكيكات أهل الزيغ، و الشرك،الذين كانوا يقولون عن القرآن:إنه قول شاعر،أو كاهن،أو هو من أساطير الأولين،أو ما أشبه ذلك.

فبعد أن بيّن سبحانه الهدف من الخلقة،و بيّن سبيل الأشرار،

ص: 175

و الأبرار،و بيّن أيضا جزاء هؤلاء و أولئك..بعد ذلك كله أراد سبحانه أن يبيّن أن القرآن هو سبيل النجاة،و أنّه نازل من عنده تعالى،لتكون النتيجة من ثم هي:

أن الوصول إلى الهدف الذي رسمه اللّه لخلق الإنسان منحصر بما بيّنه اللّه سبحانه.و كل ما عداه،فإنّه لن يوصل إلى شيء سوى الدمار و البوار.

«إنّا نحن»:

و قد بدأت هذه الآية المباركة بكلمة«إنّا»المفيدة للتأكيد القولي،يضاف إلى تأكيد آخر،يقرره لهم مشاهدتهم صحة ما يخبرهم به سبحانه.

ثم أشار إلى نفسه تبارك و تعالى بكلمة:«نا»و بكلمة:«نحن»،و هما تعبران عن المتكلم،و معه غيره،ليشير بذلك-من جهة-إلى مقام عظمته،و جلاله،و كبريائه،و قدرته،و عزته..و ليفيد-من جهة أخرى- أنّ تنزّل القرآن من مقام إلى مقام،قد أوكله سبحانه إلى الملائكة،ثم إلى جبرئيل..و ذلك ليعرفنا:أنه يدبر الكون بوسائل معينة،و وفق نظام، و عبر وسائط تدبير فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (1)..

و مما يؤكد ذلك:

أنه تعالى ينزل القرآن من مقام إلى مقام،بواسطة الملائكة،كما قلنا..

أنه يوحي إلى النبي أحيانا بواسطة جبرئيل..

و أنه يميت الأحياء من البشر بواسطة الملائكة..

و أنه يجعل التناسل البشري عبر صلة الذكر بالأنثى.و ما إلى ذلك.

********

(1) سورة النازعات الآية 5.

ص: 176

و إن معرفة الإنسان بأنّ كل المخلوقات مسخرة للّه تعالى،و تعمل بإرادته سبحانه،يزيد في معرفة الإنسان باللّه،و يؤكد خضوعه و استسلامه له.و هو يثبّت الإنسان في مواقع الاهتزاز،فاللّه مهيمن على كل شيء حتى حين يكون الملك هو الذي يباشر التصرف..

و لكنه عاد في الآية التالية ليتكلم عن نفسه تبارك و تعالى بصيغة المتكلم بضمير المفرد،فقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ .. كما سيأتي.

و الخلاصة:أنّه في مثل هذا المقام لا بد أن يأتي التعبير بصيغة:

«إنّا»،«نحن»،ليزيد ذلك من طمأنينة الإنسان،من خلال زيادة يقينه بأنّ اللّه هو الممسك بكل شيء،و المهيمن على كل شيء،حتى حينما يبدو أنّ ثمة من يتصرف في الأمور و يدبرها..

«عليك»:

و كلمة«عليك»في قوله: نَزَّلْنا عَلَيْكَ تريد أن تجعل الإنسان يتلمس الوحي الإلهي من حيث هو يصل الرسول باللّه مباشرة،و في هذا أيضا من الفوائد و العوائد المرتبطة بالإيمان بالكتاب،و بالرسول..ما لا يحتاج إلى مزيد بيان..

«نزّلنا»:

و قال سبحانه: نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ .. و لم يقل:«أنزلنا»..

و قد قالوا في الفرق بينهما:إن التنزيل يكون نجوما،و متفرقا،على سبيل التدريج،أمّا الإنزال فيكون دفعة واحدة..

و قد ناقشنا هذا القول في كتابنا الصحيح من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله ج 2 و ذلك حين الحديث عن البعثة..غير أننا نجمل الكلام حول ذلك هنا على النحو التالي:

ص: 177

قد يقال:إن هناك ما يدل على عدم الفرق بين الإنزال و التنزيل،فقد قال تعالى: أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ (1).

و قال تعالى: نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (2).

و قال: نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً (3).

و قال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً (4).

و الجواب:أن اختلاف التعبير،لا بدّ أن يوجب اختلاف الخصوصية الملحوظة،و لعلّ الخصوصية هي لحاظ التدرّج في نزول الماء،أو الآيات تارة،و لحاظ مجموع الآيات النازلة،أو مجموع الماء النازل أخرى.كما أن تنزّل الكتاب على سبيل الإجلال و الإكرام له،قد كان كذلك أيضا،فنزل إلى اللوح المحفوظ،ثم إلى السماء الرابعة،حيث البيت المعمور،ثم إلى السماء الدنيا،ثم صار ينزل سورة سورة،ثم صارت تنزل آياته نجوما.

فحين يلاحظ هذا النزول التدريجي التكريمي،يكون التعبير بنزّل.

و حين يلاحظ نزوله بلحاظ وصوله تاما بمجموعه إلى أهله أخرى..من دون لحاظ ذلك التدرج التكريمي،فيكون التعبير بأنزل.

و قد يقال:إن قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً (5).

يشير إلى عدم الفرق بين الإنزال و التنزيل،حيث استعمل التنزيل في

********

(1) سورة العنكبوت الآية 51.

(2) سورة البقرة الآية 176.

(3) سورة البقرة الآية 63.

(4) سورة البقرة الآية 22.

(5) سورة الفرقان الآية 32.

ص: 178

مورد النزول جملة واحدة..

و يمكن أن يجاب عن هذا أيضا:بأن التنزيل هنا قد لوحظ فيه إنزال مجموع القرآن،من سماء إلى سماء،و من مقام إلى مقام،حتى يصل إلى البشر..فهو على حدّ قوله: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ (1)..

فإذا تأكّد وجود فرق بين نزّل و أنزل،فلا بدّ من الإجابة على سؤال:

أنه تعالى يقول: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (2).

ثم هو سبحانه،يقول: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (3).

فهذه الآيات تدل على نزول القرآن نجوما،و مفرّقا..

و قال: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (4).

و قال أيضا: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (5).

و قال أيضا: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (6).

فهذه الآيات تدلّ بالتصريح،أو بالتلميح،على النزول الدفعي..

********

(1) سورة الإسراء الآية 93.

(2) سورة الإسراء الآية 106.

(3) سورة الفرقان الآية 32.

(4) سورة الزمر الآية 2.

(5) سورة القدر الآية 1.

(6) سورة البقرة الآية 185.

ص: 179

فكيف يوفق بين هاتين الطائفتين من الآيات؟!..

سؤال آخر هنا أيضا و هو:أنه إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان فكيف تكون البعثة النبوية في شهر رجب؟

و يمكن أن يجاب عن هذا و ذاك بما يلي:

أولا:إنه قد سبق أن هناك ما يدل على نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ..ثم هناك ما يدل على نزوله إلى السماء الدنيا،ثم سورة سورة،ثم صارت تنزل الآيات تدريجا..

و قد ذكرنا ذلك في بحث لنا حول السبب في تقديم آية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1)على آية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2)فراجع (3)..

و على هذا فيمكن القول بأن النزول الدفعي للقرآن قد كان في شهر رمضان،و في ليلة مباركة،هي ليلة القدر.ثم بدأ في السابع و العشرين من شهر رجب ينزل سورة سورة،و تدريجا..

ثانيا:بالنسبة إلى البعثة في شهر رجب نقول:

إنه لا يجب أن تكون البعثة مقترنة بنزول القرآن،فيمكن أن يبعثه اللّه في شهر رجب،ثم يبدأ نزول القرآن بعد شهر،أو شهور،أو أكثر،أو أقل،لأن البعثة هي مجرّد أن يخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه بأنه نبيّ،و قد يخبره بذلك منذ صغره،كما كان الحال بالنسبة

********

(1) سورة المائدة الآية 3.

(2) سورة المائدة الآية 67.

(3) راجع كتاب«مختصر مفيد»ج 4.

ص: 180

للنبي عيسى عليه السّلام،حيث قال فور ولادته: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (1)..و كل فضيلة ثبتت لنبي من الأنبياء،فهي ثابتة لنبينا صلّى اللّه عليه و آله،كما دلت عليه الروايات..

و قد يكون المراد من البعثة،هو بعثته كرسول و هي تتحقق بإخباره و لو في آخر حياته..بأنه مبعوث إلى قومه،أو إلى البشرية كلها..و لا يحتاج ذلك إلى نزول قرآن..و في هذه الحال قد يكون القرآن قد نزل عليه قبل ذلك بسنوات..

كما أن من الممكن أن ينزل القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله مذ كان نبيا أي منذ صغره،أو بعد ذلك بسنة أو بسنوات كما سيأتي..

و ثالثا:إن الأوضح و الأقرب في موضوع النزول الدفعي و التدريجي للقرآن هو:

أن القرآن قد نزل دفعة واحدة على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و لكنّه لم يؤمر بتبليغه،ثم صارت السورة،ثم الآيات تنزل تدريجا بحسب المناسبات..

و ربّما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد مثل ما ورد في رواية المفضّل،عن الإمام الصادق عليه السّلام،قال:«أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان،و كان لا يبلّغه إلا في وقت استحقاق الخطاب،و لا يؤدّيه إلا في وقت أمر و نهي الخ..» (2).

رابعا:إن النبيّ كان نبيا منذ صغره،أو قبل ذلك،فقد روي عنه أنه

********

(1) سورة مريم الآية 30.

(2) البحار ج 89 ص 38.

ص: 181

قال:«كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد» (1).

فلا مانع من أن يكون القرآن قد نزل عليه منذ بدء نبوّته،ثم صار ينزل عليه صلّى اللّه عليه و آله نجوما بعد أن بلغ الأربعين،لكي يبلّغه للناس..

و لا بأس بمراجعة ما كتبناه حول هذا الموضوع،في بحثنا حول السبب في تقديم آية: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2)على آية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (3)، (4)..

لم يقل:أنزلنا:

و جوابا عن السؤال عن السبب في أنه قال هنا:«نزّلنا».و لم يقل:

أنزلنا..ثم قال:«تنزيلا»،و لم يقل:إنزالا..

نقول:

لعلّ اختيار كلمة«نزلناه تنزيلا»هنا بالذات قد جاء لسببين..

السبب الأول:أن للقرآن جهة و مرتبة إلهية،تجعله خارج دائرة قدرات البشر.فكان أن احتاج إلى التنزيل ليصبح في حدود البشرية..

فإن مقام الرسول مهما كان عاليا،و ساميا و عظيما عند اللّه،و مهما أعطاه اللّه تعالى من قدرات و ألطاف،فإنه يبقى في مقام و درجة المخلوقين و المألوهين..و يبقى للّه سبحانه مقام الخالقية و الإلهية..و ما أعظمها من

********

(1) كتاب التاج ج 3 ص 229.

(2) سورة المائدة الآية 3.

(3) سورة المائدة الآية 67.

(4) راجع:الجزء الرابع من كتاب«مختصر مفيد».

ص: 182

درجة و أسماه من مقام!!فلا بدّ من تنزيل ما هو إلهي ليصبح في حدود البشرية..فكان النزول أولا إلى اللوح،و أمّ الكتاب،ليمكن لنفس الرسول أن تناله..ثم لكي يناله البشر الآخرون،و كانت له تنزّلات أخرى إلى البيت المعمور في السماء الرابعة،ثم إلى السماء الدنيا.ثم نزول جبرئيل به سورة سورة،ثم نزول الآيات نجوما..

و كان نزول القرآن بواسطة جبرئيل إيذانا بعظمة القرآن،و بكرامة و منزلة جبرئيل أيضا،ثم هو تشريف و تكريم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..الذي استحق ذلك من خلال عمله و جهده و جهاده في سبيل رضا اللّه،و نيل مراتب القرب،و مقامات الزلفى منه تعالى..حتى لقد استحقّ أن يكون نبيّا و آدم بين الروح و الجسد،و أن يكون نورا محدقا بعرش العظمة و الجبروت،و القدرة الإلهية..

و كان من مفردات تكريم اللّه تعالى له،أن جعل جبرئيل و هو أعظم الملائكة قدرا،هو المبلّغ عنه إليه.

أمّا النبي موسى عليه السّلام،فرغم ما له من عظيم المنزلة،و جليل المقام،قد خلق اللّه له الكلام في شجرة،في البداية..

و يشبه ما ذكرناه هنا في بعض جهاته،ما ذكرناه حول سبب وقوع المتشابه في القرآن،فإنّ معاني القرآن كبيرة و سامية،لا تستطيع ألفاظ وضعها العرب لأمور حسية أو قريبة من الحس أن تستوعبها،فكان لا بدّ من إخضاعها لدرجات من التنزيل و التلطيف.ليمكن وضعها في قوالب لفظية هذا حالها..فمست الحاجة إلى الاستفادة من المجاز و الكناية، و سائر أنواع الدلالات،لتكون هي المفاتيح التي تفتح للراسخين في العلم الأبواب التي يشرفون منها على عالم من المعاني الكبيرة و السامية، و يعلّمون منها الناس كل على حسب قدره و قدرته..

ص: 183

السبب الثاني:أنّ هذا التنزيل قد جاء وفق المعطيات التي أوجدتها البيانات التي وردت في السورة،من أوّلها إلى هذا الموضع،حيث إنها تحدثت عن نشأة الإنسان في الحياة،و عن المستوى العظيم للرعاية و الهداية الإلهية له في مسيرته في الحياة الدنيا،و المصير الذي سينتهي إليه الأبرار و الفجّار،مع تقديم وصف دقيق لحالات الأبرار في الجنة..

و إذا كان تصور الحقائق و الدقائق التي وردت في هذه السورة، يحتاج إلى أرقى درجات الإدراك و المعرفة و اليقين،فإن حاجة الإنسان إلى تحصيل هذا اليقين و ترسيخه،و تعميقه إنما تنبثق من حاجته إلى نيل تلك الأهداف الكبرى التي يريد اللّه أن ينيله إياها،و التي يعجز عقله عن تصورها،و يقصر خياله و وهمه عن اقتحام آفاقها..الأمر الذي يجعل منه يقينا له تأثيره المباشر على مستوى السعي،و الجهد و الإخلاص، و الخلوص في العمل في سبيل الوصول إلى تلك الغايات،و الحصول على هاتيك المرادات،و تحقيق تلكم الأمنيات.

و ذلك معناه:أن مجرد القبول و الرضا،و إظهار القناعة بما أخبرت به هذه السورة المباركة،و بصدق الوعد الإلهي لا يفي بالمطلوب،بل الحاجة تبقى ماسّة إلى ما هو أسمى من ذلك و أبعد..

و لعلّ ظهور المعجزات و حدوث الخوارق للعادات،يأتي في سلسلة الأسباب و العلل لإيجاد مستويات أعلى من اليقين و الاقتناع لدى الناس.

و سيكون لهذه المعجزات و الخوارق أثر إيجابي في الربط على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و مضاعفة صبره،و زيادة قدراته على المواجهة،و مكابدة المشاق،و تحمل الأذايا في المجالات المختلفة،و هو الذي يقول:

ص: 184

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت» (1)..

أو«ما أوذي أحد ما أوذيت» (2)..

و ذلك لأن هذا النبي العظيم سيواجه كل جبابرة العالم،و طغاة الأمم، و حتى طغيان النفوس الأمّارة بالسوء..و التي إن أمكن قهرها اليوم،فإنها ستعاود الوثبة غدا..

و ما ذلك إلا لأن مهمة الأنبياء ليست مجرد تبليغ رسالة،أو تعليم و تربية جيل من الناس،أو إقامة دولة،و فرض قانون و نظام سياسي،أو اجتماعي،أو ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اهتمام السياسيين،أو المصلحين الاجتماعيين..

بل إن مهمة الأنبياء،هي صناعة إنسانية الإنسان،و صياغة شخصيته، و مفاهيمه و تنشئة مشاعره و عواطفه،و الإمساك و التحكم بأحاسيسه..

كما أن مهماتهم لا تنحصر بالإنسان الذي يعيش في عصرهم،بل هم مسئولون عن هداية و رعاية كل مسيرة الحياة الإنسانية،ما دام هناك بشر على وجه الأرض.

و لأجل ذلك:تعرض أعمال الأمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

********

(1) راجع:مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 42 و البحار ج 39 ص 56 و مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 102 و كشف الغمة ج 3 ص 346 و الجامع الصغير ج 2 ص 488 و شرح منهاج الكرامة ص 265 و راجع جواهر المطالب ج 2 ص 320.

(2) راجع:الجامع الصغير ج 2 ص 488 و كنز العمال ط حلب ج 3 ص 120 و فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 5 ص 55 و كشف الخفاء ج 2 ص 180 و تهذيب الكمال ج 25 ص 314.

ص: 185

و آله حتى في النشأة الأخرى،كما أن الإمام عليه السّلام يرى أعمال الخلائق،و يلاحقها،و يتعاطى معها،من موقع البصير الخبير،و العارف بالداء و الدواء.

و قد كان تنزيل القرآن سورة سورة،ثم نزوله على سبيل التدريج حين تحقّق ما تنطبق عليه الآيات،يؤكّد للناس أن هذا القرآن هو من عند عالم الغيب و الشهادة،فيكون ذلك قاهرا لعقولهم،و موجبا لخضوعهم،و بخوعهم و استسلامهم له.

و ذلك من أسباب تقوية الرسول،و معونته و إحكام أمره،و زيادة درجة الصبر و التحمّل لديه صلّى اللّه عليه و آله..على طريقة: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1)..فإن تجسّد هذا الغيب على صفحة الواقع حركة و سلوكا،و مفردات حيّة ناطقة،تلزم بالحجة،و تقطع العذر،و تؤكّد يقين الناس،و تقوّي موقف الرسول،إن هذا من شأنه أن يثلج صدره صلّى اللّه عليه و آله..و يفرح قلبه،و يزيد من تصميمه،و يشدّ من عزيمته.

و لعلّ هذا يفسّر لنا قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (2)..

نعم إن هذا القرآن الذي حدّث الناس في هذه السورة المباركة، -سورة:«هل أتى»-عن هذه الحقائق و الدقائق،قد أنزله اللّه تعالى بصورة تدريجية،لكي يظهر بما لا يقبل الشك أنه من عند عالم الغيب

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

(2) سورة الفرقان الآية 32.

ص: 186

و الشهادة،و لذلك كانت تنزل الآيات في السورة قبل حدوث أي شيء، و يقرؤها النبي على الناس،ثم تأتي الأحداث،و يرى الناس كيف أن الآيات السابقة تنطبق على هذا الحدث اللاحق.

فكيف يجوز لمن يرى ذلك أن يتردد في اختيار الإيمان؟أو كيف لا يكون صبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،في هذه الحالة أعظم و أجلّ من أن تدركه العقول،و تناله الأفهام؟!.

خصوصا مع إدراكنا:أن صبره صلّى اللّه عليه و آله نابع-بالدرجة الأولى-من أعماق ذاته،و من حقيقة طهره،و كونه إنسانا إلهيا كاملا، متصلا باللّه،و متكل عليه في كل أموره.

و كيف لا يتضاعف هذا الصبر يوما بعد يوم،و حتى لحظة بلحظة؟!.

و بعد هذا فإننا نستطيع أن نعرف بعض السر في عطف الكلام عن مجراه السابق،إلى الكلام عن تنزيل القرآن.

«نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً»:

و من أهم فوائد هذا البيان الإلهي لكيفية نزول القرآن،و مطابقة الآيات لما يحدث في المستقبل:أنه يهيئ للقناعة الوجدانية،و طمأنينة القلب،و السّلام و الرضا في النفس من خلال إعطاء الدليل الملموس على صدق و حقّانية البيان الذي قدّمه..و القضايا إذا استندت إلى الدليل، فإنها تصبح أشد رسوخا،و أعظم أثرا في نشوء و ترسيخ حالة الصبر و التحمل للمصاعب و المتاعب.

و قد قلنا:إنه تعالى قد أشار إلى هذا الربط بين النزول التدريجي للقرآن، و بين أثر ذلك في تحقيق الصبر النبوي صلّى اللّه عليه و آله،حين فرّع الأمر بالصبر؛بالفاء،فقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً..

ص: 187

ص: 188

الفصل الرابع و العشرون: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً

اشارة

ص: 189

ص: 190

قوله تعالى:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ »:

و السؤال الذي يحتاج إلى إجابة،هو:ان اللّه تعالى قد أمر رسوله بالصبر لحكم الرب،لا على حكمه،فما هو السبب في ذلك،و الجواب:

أنه إذا قيل:اصبر على الأمر الفلاني،فالمعنى أن عليك أن تتحمل مشقته،و متاعبه،و مسئوليته،و قسوته،و شدائده.و لا يصح أن يكون هذا هو المراد في الآية هنا؛إذ لا يمكن أن يكون في حكم اللّه سبحانه قسوة،أو أن يوقع في مشكلات.

فالصحيح أن يقال:اصبر لحكم ربّك..أي:لأجل و لمصلحة هذا الحكم الربّاني..لأن الصبر مفيد في إنجازه،و تحقيقه،و إقامة شرائعه، و الالتزام بها،و إنفاذها.

أما المتاعب فلم تنشأ من حكم اللّه،بل هي من صنع المعتدين، و الآثمين،أو من نتاج الهوى و العصبيات،و حبّ الدنيا،و الميل إلى السلامة و الراحة.مع أن الخير كل الخير،و السعادة و الصلاح هو في الالتزام بأحكام اللّه،و في إجرائها،لا في التخلّي عنها،لأجل دواعي الهوى،أو ما شاكل.

هذا إذا كان المراد بحكم الرب هو الالتزام بشرائعه و أحكامه.

ص: 191

و لكن الظاهر هو أن المراد ب«حكم ربّك»هو تكليفه لك أيّها الرسول بمهمات كبيرة و صعبة،اقتضاها تبليغك لأحكام اللّه..حيث إنك ستواجه المتاعب و النوائب،و أعظم الأذى و المصائب،في سبيل إبلاغ الدعوة و نشرها..و قد فرض اللّه عليك القيام بهذا الواجب،و عليك أن تصبر،لأن هذه الدعوة تحمل معها مواجهات صعبة في كلّ اتّجاه،إذ لا بدّ من مواجهة الطواغيت،و مواجهة أهواء الناس و طموحاتهم الباطلة، و الوقوف في وجه انحرافاتهم،و مواجهة النفس الأمّارة،و..و..

و هذا العناء العظيم،و ذلك الجهد الهائل،و تلك المصاعب و المصائب،تحتاج إلى التثبيت الإلهي،و إلى أن يشعر هذا العامل بلطف اللّه،و رعايته،و محبته،و حنانه،و لأجل ذلك جاء التعبير بكلمة:

«ربّك»:

فإن هذا الحكم عليك قد جاء من مقام الربوبية،ما وافق الحكمة، و من موقع التدبير،و المحبة لك،و اللطف بك،و الرضا عنك،و الحنو عليك،و التي تريد لك التكامل في مقامات الرضا،و الانتقال من مقام إلى مقام بنفس هذا الجهد الذي تبذله،و تلك الصعوبات التي تواجهها..

و لذلك كلّمه تعالى بكاف الخطاب للمفرد،من أجل المزيد من التحديد لشخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله،و بما له من حدود و ميّزات فردية،ليعرفه بعنايته المباشرة به.

و هذا الخطاب لا شك أنه لذيذ و محبوب لنفس الرسول،و هو يعطيها رضا،و بهجة،و سكونا،و طمأنينة،و ثباتا،و قوة،لشعوره بأن عين اللّه الرءوف به،و العطوف عليه ترعاه،و تلاحق كل حركاته،و ترصد جميع حالاته.

ص: 192

«وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً»:

و حين يكون هذا العامل في سبيل اللّه يواجه أشدّ حالات الحرج، و يبذل أعظم الجهد لتحقيق ما يتوخّاه،و يمتثل أمر مولاه..فإنه يواجه حالات أشد أذى لروحه،و إيلاما لقلبه،و حرجا على نفسه،و هي نصائح أولئك الأعداء له بالتخلّي عن مسئولياته الإلهية و الإنسانية،و السعي إلى بعث اليأس في قلبه،و إضعاف عزيمته،و إصابته بالفشل و بالإحباط من جرّاء ذلك،و إقناعه بأنه لن يجني سوى المشاكل،و المصائب،و البلايا..

و ربّما يواجه أساليب متنوعة في هذا الاتجاه،فيها الترغيب و الإغراء تارة،و الترهيب و الوعيد أخرى.

فلذلك جاء الأمر الحازم و الحاسم،ليقول له: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.

و قد يلاحظ:أن لحن الخطاب الإلهي مع أنبيائه و أوليائه يمتاز بالقوّة و بالحسم أحيانا،بل هو قد يوحي أو يوهم أنه يتهدّدهم بصورة قوية و قاسية:حتى ليقول اللّه تعالى لنبيّه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1)..

و يقول: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (2).

و يقول: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (3)..

كما أنه يخاطبهم في أحيان كثيرة بمنتهى اللطف و الرأفة..

********

(1) سورة الزمر الآية 65.

(2) سورة الحاقة الآيات 46/44.

(3) سورة الإسراء الآية 86.

ص: 193

و لكنه حين يخاطب عباده الخطّائين فإنه يتألّفهم،و يداريهم،و يهوّن عليهم الأمور،و يخاطبهم بلين و لطف،فيقول: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ (1)..

ثم هو يرغبهم بالتوبة،و يعدهم المغفرة وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2)..

تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (3) ..و غير ذلك..

و ما ذلك إلا لأنه تعالى يخاطب أنبياءه و أولياءه من موقع الألوهية، لأنهم في معرفتهم باللّه،و في حصانتهم ضد نزعات الهوى،قد وصلوا إلى مراتب سامية من الصفاء،و النقاء،و الوعي،تؤهلهم لنيل الحقائق، و التفاعل معها..و هذا ما جعل الخطاب معهم خطابا بالحقائق ذاتها على ما هي عليه،لأنهم أصبحوا فوق مستوى البشر العاديين الذين يحتاجون إلى الخطاب بلغة تستعير مفرداتها من مألوفاتهم في هذه الدنيا، و مفرداتها،و حالاتها..لأنهم منغمسون فيها،فيحتاجون إلى مزيد من الرعاية لهم،و تولي تدبير أمورهم،و الإشفاق عليهم،بسبب شدة بعدهم عن الحقائق،و عدم قدرتهم على إدراكها..

على أنه تعالى لا يريد أن يشير إلى أي احتمال لصدور ذلك منهم، بل هو مبالغة في زجر غيرهم،فهو تعالى يريد أن يطلق القاعدة،و يعلن شمولها و سريانها الذي لا يقبل التخصيص،و صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها،فهو على حد قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ

********

(1) سورة الزمر الآية 53.

(2) سورة طه الآية 82.

(3) سورة التحريم الآية 8.

ص: 194

فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (1) ..فإنه يستحيل أن يكون للّه ولد،و لكن المقصود هو التأكيد الشديد جدا على صحة الشرطية..

و كذلك الحال في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2)..

فإنه لا يمكن أن يصدر الشرك منه صلّى اللّه عليه و آله،و لكن المقصود هو التأكيد على القاعدة و الضابطة،و سريانها،و عمومها بأوضح بيان، و أجلى برهان..

ثم قال تعالى:

«وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً»:

فالآثم هو ذلك الذي يمارس الإثم،و ينغمس فيه مباشرة.و ربما تكون دواعيه و دوافعه له شهوانية،أو بسبب فهم خاطئ قد قصر في مناشئه و مكوناته.أو لخدعة وقع فيها،أو قلة مبالاة بالرقابة الإلهية..أو لأجل كفوريته،و تنكّره لمقام الألوهية،و طغيانه على اللّه،و غير ذلك..

ثم لا يقتصر على ذلك بل هو يدعو غيره ليشاركه في مآثمه..و ربما بهدف تخفيف الملامة عن نفسه،أو لأجل أن يجد العضد و المعين،أو لأجل الإمعان في الطغيان على اللّه،أو لغير ذلك من أسباب.

غير أن مما لا شك فيه:أن المآثم حينما تصبح واقعا متجسدا،فإن داعويتها للآخرين إلى ممارستها تصبح آكد و أشد،من حيث إن درجة من التخوف و الرهبة تزول عنهم،و لأن ما يتخيلونه من لذائذ لهم فيها، قد أصبح ماثلا أمامهم بالفعل،يثير شهيتهم،و يسيل له لعابهم..فتصير

********

(1) سورة الزخرف الآية 81.

(2) سورة الزمر الآية 65.

ص: 195

الدعوة إلى ارتكاب تلك المآثم،و التشجيع عليها أكثر فعالية،و أعظم أثرا.

و قد نهى تعالى عن إطاعة الكفور،و هو المكثر من الكفر،أو الشديد فيه،من حيث إنه يبذل جهدا قويا لتجاهل و طمس معالم نعم اللّه الظاهرة عليه،كما أنه يقاوم بشدة دواعي الهداية الفطرية،و العقلية، و الشرعية من أن تؤثر في ضبط حركته،و التخفيف من غلوائه و طغيانه.

فهو كفور بلحاظ درجات المقاومة و مراتبها،فكأنّ هذه المراتب تتضاعف:حتى ليصحّ أن يقال لفاعلها:إنه كفور.

كما أنه يكثر من هذا الكفران،بسبب كثرة تلك النعم،و كثرة تلك الدواعي التي هيأها اللّه له،رحمة به،و حدبا عليه.فهو كفور من حيث كثرة صدور مظاهر التجاهل لألطاف و نعم اللّه منه،و ظهورها على جوارحه.

و لكنه..يسعى دائما للتمرد على ربّه،و الخروج عن زيّ العبودية، و يبذل جهدا،و يكرر المحاولة في هذا السبيل.

فإذا اقترنت هذه الشدّة،و تلك الكثرة،بصيرورة هذا الكفور داعية إلى التمرد و إلى الطغيان،و إلى ستر و تجاهل نعم اللّه،و التنكر لألطافه، و رفض كل هداياته..فإنه يصبح أشدّ كفورية،و يكون عمله هذا أعظم درجة في القبح و السوء،لأنّه يجعل نفسه في موقع المواجهة مع فطرته، و عقله،و وجدانه..الذي لا يرضى منه إلا أن يكون شاكرا للمنعم عليه، مؤديا فروض العبودية لسيده،و خالقه،و مالك رقّه.

و مهما يكن من أمر،فإن قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.. يدل على أن حامل همّ الدعوة إلى اللّه،الذي يعيش حالة الانضباط التام،و الانسجام مع الفطرة،و مع نواميس الحياة،و يلتزم بهدى

ص: 196

العقل و الشرع..يواجه دعوات قوية إلى أن يتخلى عن ذلك كله، و ليستبدل الممارسة السليمة،بارتكاب الآثام.و لينقض بذلك ضوابط الفطرة،و الشرع،و العقل،و الوجدان،و الفكر.

و من الواضح:

أن هذا الخطاب الإلهي للنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله،لا يعني:أن ثمة أية إمكانية لأن يطيع هذا النبيّ الكريم،الآثم أو الكفور..

و ذلك لأن الخطابات القرآنية للأنبياء تأتي قوية و حاسمة،لأنها من موقع ألوهيته تعالى،و بما هو خالق بارئ مصور،عزيز،جبار،متكبر،الخ..

فلا غرو أن نجده سبحانه يدفع بالأمور مع أنبيائه إلى أقصى الحالات،و من دون أيّ هوادة أو تخفيف..

كما أن اللّه سبحانه يريد أن يعرّفنا حقيقة المعاناة و الآلام التي يتعرض لها هؤلاء الدعاة إليه تعالى،و لعل أشدها عليهم محاولات الآثم و الكفور،جرّ أتباعهم،و لا سيما المستضعفين منهم،إلى الإثم و إلى الكفر..

ثم إن في هذا الخطاب الإلهي إشارة عملية إلى أن المعاملة الإلهية للبشر،لا تمييز فيها،فهو لا يغضّ الطرف عن رسله و أنبيائه،لمجرد أنّ لهم منزلة عنده،فإنّ منزلتهم إنّما نالوها عن جدارة و استحقاق،تجلّيا في التزامهم بأوامره و نواهيه التي قد تزيد صعوبتها بالنسبة إليهم عنها بالنسبة لغيرهم..

و هذا يخالف تماما ما عليه البشر في تعاملهم مع القريبين منهم،فإنه يختلف عن تعاملهم مع غيرهم.

يضاف إلى ذلك كله:أن اللّه سبحانه إنّما يخاطب الرسول بما أنه قادر على فعل الشيء،لا بما أنه معصوم.

ص: 197

و هذا نظير قوله تعالى: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1)،فإنه يستحيل صدور الظلم من اللّه سبحانه؛لمنافاته مقام ألوهيته..و لكن ذلك لا يعني محدودية قدرته سبحانه،و صيرورته عاجزا على الحقيقة.بل إن اللّه سبحانه قادر على كل شيء في جميع الأحوال..

و هذا نظير قولنا:إن الأم يستحيل أن تقتل ولدها تشهّيا منها،ما دامت تملك العقل،و التوازن،و عاطفة الأمومة،كما أن الإنسان لا يقدم على شرب السم،و المؤمن الواعي لا يقدم على أكل الميتة،و لحم الخنزير.و لكن ذلك لا يعني العجز التكويني لهؤلاء عن ذلك كلّه..

و هذا بالذات هو حال الأنبياء أيضا،فإنهم لا يعصون اللّه،و لا يطيعون الآثم و الكفور،لوجود المنافرة الحقيقية،و البغض الحقيقي في نفوسهم لمثل هذه الأمور..دون أن يكون ثمّة عجز تكويني عن ذلك.

فقول اللّه سبحانه لنبيّه: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، قد جاء خطابا إلهيا متوافقا مع مقتضيات الأحكام الظاهرية للبشر،لأنهم مخاطبون بما يخاطب اللّه به غيرهم..

و مكلفون به ما دام أنه يقع في دائرة ما تقتضيه قدراتهم البشرية،بغض النظر عن عصمتهم،و مع ملاحظة أن عصمتهم إنما هي اختيارية لهم.

و الخلاصة:أن الأنبياء مكلفون-كغيرهم-بالاجتناب عن جميع المعاصي،و امتثال جميع الأوامر،و لكن ذلك لا يعني:أن يكون الأنبياء- بملاحظة ملكة العصمة فيهم-مظنة صدور ذلك منهم..بل هو يعني:أن هذه الأمور تقع في دائرة اختيارهم،في نطاق قدراتهم البشريّة.

********

(1) سورة الكهف الآية 49.

ص: 198

صبر الرسول..و نعيم الأبرار في الجنة:

و لعلّك تقول:ما المناسبة بين حالات الأبرار في الجنة،و بين تنزيل القرآن تدريجا،لتحقيق التثبيت لفؤاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله؟..مع أننا قد نتوهم أن الأنسب هو ربط ذلك بيقين الناس،ليكون ذلك مدخلا لطلب المزيد من الصبر منهم،و الثبات و السعي لنيل درجات الأبرار في الجنة.

و نقول في الجواب:إن القرآن أراد أن يفهمنا أن المسئولية التي يتحملها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تهيئة النفوس،و صناعة الشخصية الإنسانية،وفق المواصفات،و بالمستوى الذي يفيد في نيل تلك المراتب السامية-إن هذه المسئولية-هي الأصعب،و الأشد خطورة،و الأعظم أهمية..

و توجيه الخطاب الإلهي للنبيّ لا يعني أنه خاص به،بل هو يتوجّه للناس أيضا،على طريقة:إيّاك أعني،و اسمعي يا جارة.

كلمة:«منهم»لما ذا؟!:

و أما لما ذا قال سبحانه: لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً، و قد كان يكفي أن يقول:«لا تطع آثما»..

فربما يكون ذلك لأجل أن مسار الكلام قد جاء على سبيل التعميم للناس كلهم،من أجل الإلماح إلى أن النبي صلّى اللّه عليه و آله،لا يمكن أن يتوهم في حقه أن يلبي المطالب إذا كانت تدخل في دائرة الباطل،و يكون فيها الإثم، و العدوان،و الفساد،من أي جهة جاءته هذه المطالب،و في أي ظرف..

و لكن بما أن من الناس من يطلب منه أمورا تدخل في دائرة الصلاح و الخير،و ليست من الباطل في شيء،فإن كونها كذلك،لا يوجب المبادرة أيضا إلى تلبيتها،إذا كان المطالبون بها من أهل الإثم،

ص: 199

و من المتشددين في كفرانهم،و المكثرين منه،إذ لا شك في أنهم يريدون الحصول عليها ليؤكدوا بها كفرانهم،و في نطاق مساعيهم لارتكاب الآثام..

فإن كان لا بد من القيام بتلك الأعمال،فلا بد من مراعاة أوامر اللّه سبحانه فيها،لا طاعة أولئك الأرجاس..

و مع غض النظر عن هذا و ذاك،فإنه قد يقال:إن ما يطلبه الآثم، و الكفور،لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق،و العدل،و الصلاح،لأن ما يكون له صفة الحق،و العدل،و الصلاح،فلا بدّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله، من أن يبادر إليه،و لا ينتظرهم حتى يطلبوا ذلك منه..و ما لم يكن له هذه الصفة،فإنهم سوف يطلبونه منه،و لا يصح أن يطيعهم فيه..

فيكون هذا إعلانا إلهيا بحقيقة هؤلاء الناس،و تأكيدا لهذه الحقيقة في وعي أهل الإيمان،و من يملك ذرة من ضمير،أو وجدان..

هل هذا استطراد؟:

و قد يروق للبعض:أن يعتبر هذه الآية بمثابة استطراد في الكلام، و انتقال من سياق المدح و الثناء على الأبرار و ما أعده اللّه لهم..إلى ذم فئة بخصوصها..

غير أننا نقول:إن الكلام من أول السورة إلى هنا،إنما هو لرد دعوة هؤلاء المنكرين لهذه الحقائق الدامغة-لشدة كفرانهم،و لإمعانهم في الإثم-و الذين يسعون لإنكار أن يكون هذا الإنسان موردا للرعاية و العناية الربانية،و ذلك من أجل حرفه عن مساره الصحيح،إلى حد أنهم يتجرءون على مقام النبوة الأعظم،و يقدّمون له العروض،و يطلبون منه ما يتلاءم مع انحرافهم،و إثمهم،و كفرانهم لنعم اللّه و تفضلاته..

ص: 200

الفصل الخامس و العشرون: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً

اشارة

ص: 201

ص: 202

قوله تعالى:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً.

«وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ »:

قلنا فيما تقدم:إن اللّه تعالى قدّم ما يفيد في إعطاء الوضوح، و اليقين،و الثبات،الذي هيّأ له التذكير بأن هذا القرآن الذي يتنزّل تدريجا،يحمل معه ما يدلّ على صدقه،و ظهور حقائقه في الوقائع المتتالية،بسبب انطباق الآيات عليها،مع أنها قد نزلت قبلها بزمان.

و قد جعل سبحانه هذا دليلا على لزوم الصبر لحكمه تعالى،و ها هو الآن بعد هذا و ذاك،قد عقب ذلك بالطلب من نبيّه الكريم:أن يذكر اسم ربّه بكرة و أصيلا..

و لتوضيح أجواء هذا الأمر الإلهي نقول:

قد تحدّثت هذه السورة المباركة عن الإنسان حتى قبل نشوئه،ثم تابعته في مسيره إلى مصيره،و بينت حاجته إلى الهداية،و الرعاية الإلهية، فأصبح واضحا:أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يتحمّل مسئولية هدايته و رعايته و إعداده،و إزالة الموانع من طريقه في كلّ هذا المسير الطويل،و لذلك خلق اللّه سبحانه نبيه الكريم صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الخلق،لكي يرافق هذا الخلق بروحه الطاهرة،ثمّ في نشأته البشرية إلى أن قبض اللّه روحه،و لكنه أيضا لم ينقطع بالموت عن مواصلة رعاية البشرية،بل هو لا يزال مرافقا لها،و سيبقى معها،حتى حينما

ص: 203

تنتهي إلى مصيرها النهائي في الآخرة..

إن مهمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا تنتهي بموته في الدنيا..بل هو الشاهد على هذه الأمّة،و المراقب لأعمالها،و الراعي لها حتى في النشأة الأخرى،و هو الذي يتّخذه المؤمنون وسيلة لهم إلى اللّه تعالى،ليقضي حاجاتهم في الدنيا،و ليشفع لهم في الآخرة،و هو الذي ينجدهم في الشدائد،بل و يحضرهم عند الموت،و هو صاحب الحوض في الآخرة، يسقيهم وصيّه منه،أو يمنعهم عنه.

فإذا كانت للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هذه المهمة الخطيرة، فهو يحتاج إلى التثبيت،و إلى الصبر الذي لا ينتهي عند حدّ،-إذ إن القضيّة ليست مجرّد حدث صعب يمرّ في تاريخ حياته و ينتهي..بل هو حدث مستمر،دائم التحدّي،لحظة فلحظة،و إلى أن تقوم الساعة-لأنه يتصدى للطواغيت،و للأهواء،و للغرائز.و العدوّ الذي يقاومه و يريد تحصين نفسه منه،دائم الحضور معهم،بالغ التأثير عليهم،و هو عدو لا يكلّ و لا يملّ،له حالات و محاولات،و قوّة و ضعف،مما يعني أنه سيبقى دائما في موقع التمرّد،و الطغيان،و الإغراء.

فلا بدّ من التدرّع بالصبر،و لبس لبوسه،دون كلل أو ملل..و لا بدّ من وسيلة تنتج هذا الصبر،و تحافظ على قوته،و تضاعفها باستمرار.

و إذا كانت مهمة الرسول و مسئوليته لا تنحصر بزمان،فكيف يمكن إنتاج هذا الصبر الدائم و المستمر،ليمكن القيام بأعباء هذه المسئولية، و مواجهة المغريات و التحديات؟!..

إن هذا هو ما تكفلت هذه الآية المباركة ببيانه..فهي تقول:إن على هذا الرسول-كما هو على كل البشر-واجبات لا بدّ لهم من القيام بها.

ص: 204

و إن صبره صلّى اللّه عليه و آله،و صبرهم إنما هو باللّه سبحانه.و قوته صلّى اللّه عليه و آله،و قوتهم إنما هي به و منه تعالى.و لذلك قال عزّ و جل سبحانه لنبيّه هنا:

«وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ »:

إن الملاحظ هو أنه سبحانه قال: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ .

و لم يقل:«اذكر ربّك»،ربما لأن كلمة«اذكر»قد يراد بها التذكّر في مقابل النسيان،كما قال سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (1)،فيكون المطلوب هو إعادة التوجّه إليه بعد الغفلة عنه..و هذا المعنى غير مراد هنا،فإن الغفلة عن اللّه تعالى مما لا يتوهّم في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..إلا إذا كان اللّه سبحانه يريد بخطابه هذا،تعليم الآخرين، و تنبيههم من غفلتهم..

و أما القول بأنه تعالى:يريد بذلك مواجهة نبيه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بالوقائع بطريقة حاسمة،و من موقع ألوهيته تعالى،تماما كقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2)و قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (3).

فهو غير مقبول،لأن المراد هنا-كما يشير إليه سياق الآيات-هو إظهار التحنّن على الرسول،و اللطف و الرفق به..و طمأنته إلى المعونة الإلهية و الرعاية الربانية..

********

(1) سورة الكهف الآية 24.

(2) سورة الزمر الآية 65.

(3) سورة الحاقة الآيات 46/44.

ص: 205

لما ذا اسم اللّه؟!:

و أما السبب في أنه تعالى،قد أجرى الكلام عن ذكر اسم اللّه،فهو أن المقام مقام الذكر المستبطن لمعنى المعرفة،و من البديهي:أنه لا يمكن معرفة كنه اللّه،و حقيقة ذاته تعالى.بل هو جلّ و علا يعرف بأسمائه و تجلياتها،و منها صفات فعله التي هي بالنسبة لنا أدلّ شيء عليه،إذ إننا نشعر بالحاجة إلى الرزق فيرزقنا اللّه،فنسمّيه بالرزّاق، و نحتاج إلى الشفاء،فيشفينا،فنسمّيه بالشافي،و نحتاج إلى الرحمة فيرحمنا فنسمّيه بالرحمن،و بالرحيم..و كذا الحال بالنسبة للخالق، و الودود،و المعزّ،و المذلّ،و المنتقم،و الكريم،و غير ذلك..

إذن،فنحن نستحضر مفهوم هذه الصفة أو تلك له تعالى في أذهاننا لتكون هي المشيرة إليه،و الدالة عليه سبحانه.

و لكن معرفة الأنبياء و الأوصياء له تعالى،أعمق و أدق من معرفتنا هذه،فإنهم يعرفونه سبحانه باسمه الألوهي،و بما يريهم إيّاه من أسرار خلقه،و ملكه،و ملكوته،و عجائب صنعه،و آياته.فإن اللّه سبحانه قد أرى نبينا الأعظم صلى اللّه عليه و آله من آياته حين الإسراء و المعراج،إلى البيت المعمور حيث المسجد الأقصى،و أراه من آياته الكبرى في معراج آخر إلى سدرة المنتهى،كما في سورة النجم..و أرى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض.

و قد يعرف اللّه سبحانه باسمه العظيم،و باسمه الأعظم..و لعلّ هذا هو ما تريد الآية أن تلمح إليه،حيث قالت: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ . و لم تقل:أسماء ربّك..لكي لا يقال:إن المراد هو الأسماء الحسنى..كما أنها لم تقل اذكر اللّه..

ص: 206

و على كل حال،فإن ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لاسم ربّه،ليس لأنه يغفل عنه،بل لأنه يريد تعميق معرفته في أعماق وجوده.

«ربّك»:

و لا حاجة بنا إلى معاودة التذكير بأن التعبير بكلمة«رب»دون كلمة الإله،أو اللّه،قد جاء ليشير إلى التربية و الرعاية الإلهية،من موقع الحكمة،و المحبة،و أنه يبقى موضع العناية و الاهتمام الربوبي.

و قد أضاف كلمة«الربّ»إلى كاف الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله، ليشير إلى أنه صلّى اللّه عليه و آله،هو نفسه-و بما هو شخص له خصوصياته التي تميّزه عن الآخرين-مورد العناية،و محل اللطف الربوبي، و ليس اللطف عامّا،و يكون هو من الأفراد الذين يشملهم ذلك العام.

«بُكْرَةً وَ أَصِيلاً»:
اشارة

ثم إن ثمة أكثر من نقطة ترتبط بالبكرة و الأصيل،اللذين ذكرا في الآية المباركة،و فيما يلي تذكير بما تيسر منها:

1-الوقت ليس مجرّد وعاء:

قد دلّت الآيات الشريفة،و التشريعات المختلفة،على أن للوقت و للمكان قيمة واقعية،و نصيبا حقيقيا،في تحقيق الغايات من التشريع، فللصلاة أوقاتها،كما للحج،و للصوم،و غير ذلك،بحيث لو أن الصائم أفطر قبل الغروب بدقيقة واحدة بطل صومه،و كذا لو صلّى قبل الظهر بدقيقة واحدة،بل لا بدّ من إعادة هذه و ذاك.مع أن الأفعال المشترطة بالوقت لا تتفاوت فيما بينها.

فدعوى أن الوقت كالمكان مجرّد ظرف لوقوع الفعل،و ليس له أي تأثير في الأمر العبادي،غير صحيحة..

ص: 207

و كما أن للمكان و الزمان تأثيرهما في الغايات من التشريع،فإن لهما قد استهما أيضا،فالكعبة مقدّسة و مباركة،و الحجر الأسود مقدّس و مبارك،و للمسجد حرمته.

و قد جعل للصلاة في المسجد قيمة،و للصلاة في المسجد الحرام، عند الكعبة قيمة،و حدد للطواف مكانا لا يصحّ في غيره،و حدد أيضا للسعي و الرجم،و الوقوف أماكن خاصة بهم،بل هو قد تدخّل في عدد الحصيّات التي ترمى بها الجمار،و طلب أيضا..أن تؤخذ من مكان بعينه.

2-ما المراد بالبكرة و الأصيل؟:

قد يقال:إن الهدف من ذكر البكرة و الأصيل في هذه الآية المباركة هو الحثّ على الصلاة في الأوقات الخمس،لوقوعها جميعا في وقتي:

البكرة و الأصيل..

و نقول:

أولا:إنهم يقولون:إن المقصود بالأصيل العصر،أو ما بعد العصر، و بالبكور الصباح..

و هذا معناه:أن أوقات الصلوات الخمس لا يصحّ إرادتها هنا،لأن الظهر ليس من الصباح،و لا من العصر،كما أن العشاء الآخرة ليست منهما،بل و كذلك صلاة المغرب،لأن الأصيل هو حيث تميل الشمس ميلا ظاهرا إلى جهة الغرب،فلا بدّ فيه من وجود الشمس ظاهرة في الأفق،و صلاة المغرب إنما تكون بعد غيابها.

إلا أن يقال:إن المغرب و العشاء قد أشير إليهما في الآية التالية، و هي قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ .

فلو سلمنا ذلك،و لم نقل:إن المراد هو صلاة الليل،فإننا نقول:يبقى

ص: 208

الإشكال في صلاة الظهر،فإنها ليست بكرة،و ليست أصيلا،كما هو ظاهر..

ثانيا:إن الآية لم تذكر الصلاة أصلا..فلما ذا الإصرار على إضافة هذه الخصوصيّة إلى مضمونها؟!

3-التّنصيص على البكرة و الأصيل:

و يبقى سؤال هو:لما ذا اختار اللّه سبحانه التّنصيص على هذين الوقتين:البكرة و الأصيل،دون سواهما؟

و يمكن أن يجاب:

أولا:إن لكلّ وقت إغراءاته،و صوارفه،و شياطينه الخاصة به،التي تزيّن للناس المعاصي المناسبة لتلك الأوقات،ففي النهار مثلا يواجه الإنسان الناس،و يتعامل معهم،و يبيع و يشتري،و..و..فيأتي الشيطان، و يقول للإنسان:انظر للأجنبية بشهوة،اكذب على الناس،تعامل مع الناس بالرّبا،غشّ الناس،استهزئ بهم،أخسر المكيال و الميزان،الخ..

و في الليل أيضا هناك شياطين تغري بالمعاصي التي تناسب الليل، فتقول للإنسان:تجسس،و اسرق،انظر إلى داخل البيوت،اذهب إلى سهرات الغيبة،ازن..الخ..

فجاء الأمر بذكر اللّه في هذين الوقتين،لإبعاد جميع أنواع الوسوسات الشيطانية عن الذاكر لربه..ليستقبل يومه و ليله بروح صافية، و بعزيمة قوية،و راسخة،و قادرة على مقاومة كل الإغراءات.

و في هذا من التعليم و الإرشاد للناس،ما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثانيا:هناك أوقات يرغب الإنسان بأن يبعد فيها عن نفسه همومه و أفكاره،و يخلد للراحة،إمّا بالنوم،أو بالانشغال بما يروّح به عن نفسه، أي أنه يطلب الاستغراق في الغفلة عن واقعه،أو الخروج منه.

ص: 209

و من هذه الأوقات وقت صلاة الصبح،و وقت العودة من العمل المرهق طيلة النهار.

فذكر اللّه سبحانه في خصوص هذين الوقتين يخرج الإنسان عن حالة الغفلة التامّة،و يحصرها في خصوص الغفلة عن أمر الدنيا،و يجعله واعيا متيقّظا لأمر الآخرة.

ثالثا:إن هذين الوقتين،و إن كانا من أوقات الغفلة عادة،و لكنهما في الحقيقة هما الوقتان اللذان تكون النفس فيهما في أشد حالات الاسترخاء،و الصّفاء و الاستعداد لتقبّل أيّ وافد جديد عليها.

فإن الإنسان بدءا من وقت الأصيل يتهيّأ للاختلاء بنفسه،و للعودة بأفكاره الشوارد إلى دائرته و محيطه الحقيقي.و يكون مستعدّا للتأمّل، و اللقاء مع اللّه سبحانه،و الاتّصال به مباشرة بصورة أعمق،و بسهولة و يسر،و وضوح و صراحة،لا تقاس بالصراحة و الوضوح فيما لو حاول اللقاء باللّه،و هو في متجره،أو في دائرته،أو نحو ذلك.فثمّة صوارف و معوقات في مواضع العمل،و قد زالت الآن،و لأجل هذه الميزات بالذات كانت صلاة الليل من أهم الأعمال العبادية.

إن اللّه يريد أن يكون الوقت الذي تطلع فيه الشمس بين قرني شيطان،و الوقت الذي تغرب فيه بين قرني شيطان،وقت خلوة باللّه، و انقطاع إليه،و تهجّد و عبادة له،ليرغم بذلك كل مردة الشياطين من الجن و الإنس أجمعين..

و الخلاصة:أن الاتصال مع اللّه ليس جوارحيا بل هو قلبي جوانحي، و في العمل الجوانحي تطلب الأوقات التي تناسب هذا الاتصال،و تزيد من القدرة على تحقيق غاياته.و ذلك إنما هو حيث لا يكون القلب

ص: 210

منشغلا بأعباء الجوارح،و منهمكا في ترتيب،و برمجة،و مراقبة نشاطاتها..

و إنّ الليل بل و ابتداء من الأصيل و إلى حين البكور،يكون هو الوقت المناسب للقاء القلوب باللّه سبحانه،و التفاعل معه،و الانجذاب إليه.حيث تكون الجوارح قد سكنت أو كادت،و لقاء القلوب مع اللّه سبحانه لقاء واقعي،و هو لقاء رضي و حميم.

استغراق الوقت في العبادة:

و لا حاجة إلى التذكير بأنّ اللّه سبحانه لا يريد لهذا الإنسان أن يعيش الغفلة عن اللّه سبحانه،بل يريد له أن يكون معه في كل لحظات حياته،حتى في أكله و شربه،و عمله،و فراغه،و نومه و يقظته،و لذلك جعل له النوم في شهر رمضان عبادة،و الأنفاس فيه تسبيح،فالنوم إذا كان في طاعة اللّه،فإن اللّه لا يعده من موارد الغفلة.

و قد نام علي عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة الهجرة،و كان ينام في أيام الحصار في شعب أبي طالب في فراش الرسول،حتى إذا كان هناك تدبير يستهدف حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله من قبل المشركين،فإنه سوف يصيب الإمام عليا عليه السّلام، و يسلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..

فنوم علي عليه السّلام هذا..ليس نوم الغافلين،بل هو ذكر،و عبادة، و فداء،و جهاد،و حضور حقيقيّ بين يدي اللّه جل و علا.

فاللّه سبحانه من خلال هذا التوجيه الذي وجهه لرسوله يريد منا و من كل مؤمن أن لا تكون في حياته غفلة و لو للحظة واحدة..

و بذلك يكون ما ورد في هذه الآية و التي بعدها كناية عن لزوم ذكر اسم اللّه مستغرقا لجميع الأوقات في النهار،ثم يكون السجود و التسبيح

ص: 211

مستغرقا أيضا لليل الإنسان كله،و بذلك يكون دائم الحضور بين يدي اللّه،في ساعات العمل،و في ساعات الفراغ،و حين ينام،و حين يستيقظ، و في كل حالاته و شئونه..

فلا معنى للتعبير الدارج بين الناس:«ساعة لك،و ساعة لربّك».و التي تعني أنّ الإنسان في الساعة التي له،يمكنه أن يلهو،و أن يفعل ما يشاء..

نعم لا معنى لهذا التعبير،بل على الإنسان أن يجعل كلّ حياته للّه سبحانه،ذاكرا له،و حاضرا بين يديه..

و أما التأكيد على الناس الوارد عن الأئمة عليهم السلام بأن يذكروا اللّه تعالى،في ثلاثة أوقات،هي:الوقت ما بين طلوع الفجر و طلوع الشمس،و ساعة ما قبل الغروب،و الثلث الأخير من الليل..فإن المراد هو التنصيص على خصوص هذه الأوقات،لأنها من ساعات الغفلة عند الناس عادة..فكأنه يقول:اذكروا اللّه في جميع أوقاتكم و خصوصا في هذه الأوقات الثلاثة..أما الأبرار فلهم شأن و حديث آخر،إذ إنهم دائما في حالة ذكر للّه،و حضور مستمر بين يديه تبارك و تعالى..

و لعلّ مما يؤيّد:أنّ المراد هو استغراق الوقت كله في ذكر اسم اللّه تعالى..أنه تعالى قد وصل ذلك بقوله: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً..

***

ص: 212

الفصل السادس و العشرون: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً

اشارة

ص: 213

ص: 214

قوله تعالى:

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً.

«وَ مِنَ اللَّيْلِ »:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى قد استهل كلامه بكلمة«من»المفيدة للتبعيض،أي:خذ وقتا أو قطعة من الليل،و خصصها للسجود للّه تعالى..

ثم ذكر أن التسبيح يجب أن يكون في الليل كله،مهما كان طويلا،فقال:

وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً.

و بذلك تكون حصّة التسبيح هي التي تأخذ الوقت الأطول..

ثم يلاحظ هنا أيضا،هذا التّدرج و الانتقال.حيث بدأ بذكر اسم اللّه في الحصة النهارية،ثم انتقل إلى السجود في بعض آنات الليل.ثم انتقل إلى التسبيح في الليل بطوله..و لهذا التدرج معناه،و مغزاه،كما ربما تأتي الإشارة إليه.

و ثمة ملاحظة ثالثة هنا،هي:أن ذكر اسم اللّه تعالى قد ورد في النهار فقط،و لم ترد إشارة إليه في الليل،كما أنه لم يضف إليه شيء آخر من تسبيح و غيره.

و لكنه بالنسبة لليل ذكر أمرين،أحدهما السجود للّه،و الآخر التسبيح.

فلما ذا التخصيص في النهار بما ذكر،و لما ذا التنويع في الليل على النحو الذي أشرنا إليه،فإننا لا نشك في أن هذا التنويع مقصود و متعمد.

ص: 215

و يدل على هذا التعمد:أن هناك أحكاما تختص بعبادات الليل،و لا تشمل عبادات النهار،كالجهر بالقراءة،فإنه واجب في الصلاة الليلية، لكن الإخفات هو الواجب في النهارية.

و ربما يحاول البعض:تعليل ذلك بأن ظهور الإنسان للآخرين،إنما يكون في النهار غالبا،فيصبح أكثر تعرّضا لخطر الرياء في الصلاة من خلال تحسين الصوت في القراءة،و التأني فيها،و مراعاة قواعد التجويد، و ما إلى ذلك..

و كذلك الحال بالنسبة لإظهار حالات الخشوع،و الخضوع،و إجراء الدموع..

غير أننا نقول:

إن هذا قد يكون من فوائد الأمر بالإخفات نهارا،و الجهر ليلا..لكنه لا يكفي ليكون هو العلّة التامّة لهذا التشريع.

غير أن مما لا شك فيه:أن للوقت و للمكان خصوصية في التشريع..

و لذلك حدد الشارع للكثير من التشريعات أوقاتا تناسبها.

كما أن هناك خصوصية أخرى،و هي كثرة المستحبات في الإسلام بحيث لا يمكن لأحد أن يأتي بها جميعا،فمثلا قراءة القرآن مستحبة دائما،و الصلاة و التسبيح كذلك.فكيف يمكن الجمع بينها؟

ثم إن للكثير من المستحبات درجات عظيمة من الثواب،و لعل بعضها أكثر ثوابا من بعض الواجبات..و لعل سبب ذلك:أن الرقيّ، و السموّ الروحيّ،و التكامل في الشخصية الإيمانيّة،إنما يكون للمستحبات الدور الأهم فيه.

و لربما لا يقدر البعض-بحكم طبيعة عمله،أو بحكم ما يملكه من

ص: 216

طاقة جسدية-على الاستفادة من بعض أنواعها..فصاحب الدكّان لا يمكنه أن يشغل نفسه بالصلاة مثلا..و لكنه يقدر على الصيام،أو على التسبيح..

و ربما يكون المستوى الثقافي،و المعرفي قد لا يسمح له بالاستفادة المطلوبة،أو يحجزه عن المبادرة إليها و اختيارها ضعف قدراته الاستيعابية.أو لعلّ نفسه تقبل الآن على هذا النوع من العبادة،ثم تقبل غدا على نوع آخر،فلا يحرمه اللّه تعالى من ذلك في كلتا الحالتين،فإن للنفس إقبالا و إدبارا.

بل إن من الناس من لا يعرف القراءة،أو ليست لديه ثقافة تمكنه من إدراك المعارف القرآنية،و لكنه يميل إلى خدمة الناس،و قضاء حوائجهم،أو يميل إلى الصيام المستحب،أو زيارة المشاهد المشرفة..

ثم إن لبعض المستحبات ارتباطا بعاطفة الإنسان،أو بخلقه الإنساني، مثل مجالس العزاء،و الاهتمام بالأيتام..

فكل هذا التنويع يعطينا:أنه سبحانه يريد أن يفتح للإنسان جميع أبواب الوصول إليه جلّ و علا من خلال تشريعه للوسائل المختلفة، فيختار كل إنسان منها ما يناسب واقعه،و حاله،و ظروفه،فيفتح قلبه، و يعمّق إيمانه بواسطة هذه الطرق إلى اللّه تعالى،و يدخل الهدى و الإيمان إلى قلبه،فإن الأبواب إلى القلب مختلفة فتارة تكون ذات سمة عاطفية، و أخرى فكرية تأملية،و ثالثة تكون ذات قيمة أخلاقية،أو وجدانية،أو حالة مشاعرية.

كما أن للحياة الاقتصادية،و للمواقع الاجتماعية مجالات متنوعة، يمكن أن تكون هي الأخرى أبواب هداية و سبل نجاة..و قد قرر الشارع

ص: 217

الكثير من العبادات المالية المختلفة و المتنوعة..و أشار أيضا إلى استخدام الجاه و الموقع لقضاء حاجات المؤمنين،أو الدفع عنهم،و ما إلى ذلك..

فكلّ خصوصية في التشريع قد حسب لها حسابها في تيسير الهداية للناس،حتى الركعتان اللتان هما تحية للمسجد،و تشريع كراهة الصلاة في معاطن الإبل،أو في الحمام،أو ما إلى ذلك..

و بذلك يتضح:أن اللّه سبحانه حين يشرّع ذكره-فقط-لأوقات الغفلة بكرة و أصيلا..ثم يشرع السجود في بعض الليل،و التسبيح في الليل الطويل،فإنه يلاحظ أمورا مهمة تأخذ بنظر الاعتبار حالات النفس، و ظروف الحياة،و غير ذلك من أمور.

«فَاسْجُدْ لَهُ »:

و قد انتقل سبحانه من ذكره في النهار،بكرة و أصيلا..ليترقّى إلى مرحلة أبعد منها،و هي التي تأتي بعد استحضار اللّه في القلب بواسطة اسمه،حيث لا بدّ من الخضوع له سبحانه حينها؛خضوعا عباديا،نابعا من واقع و درجة المعرفة التي حصل عليها بواسطة ذلك الاسم المشير إلى مقام العزة و العظمة الإلهية.

فطلب منه أن يسجد للّه..و لم يطلب منه الركوع،و لا القنوت،بل هو لم يطلب حتى الصلاة..

و لعلّ السبب في ذلك هو أنّ السجود يمثل أقصى درجات الخضوع..فإذا كان هناك قنوت،و قراءة،و ركوع،و لم يصل الأمر إلى السجود الذي هو غاية الخضوع العبادي و التسليم له تعالى،فإن هذه العبادات تبقى غير لائقة به تعالى..

إنّ السجود للشيء تعبير حقيقي عن التسليم و الانقياد العبادي

ص: 218

المطلق،و لا يحتاج في عباديّته إلى جعل إلهي.كما هو الحال في غيره، فإن الحج مثلا،لا يعد عبادة إلا إذا قرّر الشارع اعتباره كذلك.

و قلنا:«السجود العباديّ للشيء»،لكي لا يشتبه مرادنا بكلمة السجود إلى الشيء،بمعنى جعله قبلة،حيث يكون المعبود و المسجود له شيئا آخر،و تكون تلك القبلة مشيرة إليه،و رمزا دالا عليه.

فالسجود العباديّ يكون بنفسه و بدون جعل جاعل محبوبا غاية الحب،إذا كان سجودا و عبادة للّه تعالى،و يكون بنفسه مبغوضا غاية البغض،إذا كان سجودا عباديا لغيره سبحانه.

«وَ سَبِّحْهُ »:

و يلاحظ:أنه تعالى بعد أن طلب السجود،و العبادة،و الخضوع المطلق من الذاكر،عاد فطلب منه تسبيحه تعالى..و لم يطلب منه حمدا، و لا دعاء،و لا صلاة.

و التسبيح معناه:أنّ جميع صفات الفعل،و صفات الذات التي دلّت عليها الأسماء لا بد أن تنتهي إلى تنزيه اللّه سبحانه عن كل نقص، فإثبات صفة الكريم،تعني تنزّهه عن الصفة المناقضة لها،و إثبات صفة العزة تنزّهه عن الذل،و صفة القوي تنفي الضعف،و صفة القادر تنفي العجز،و صفة العدل تنفي عنه الظلم..و هكذا الحال في سائر الصفات و الأسماء.

فإثبات الصفات له سبحانه ملازم لمعرفته تعالى معرفة أتم، و بمستوى يليق به جل جلاله..و ذلك لأن التنزيه التام من شأنه أن يصون المعرفة الناشئة عن ذكر اسمه،و يصون عبادته،و الخضوع و التسليم التّام له..

ص: 219

«لَيْلاً طَوِيلاً»:

و مما تقدم يتضح لنا بعض السبب في أنه تعالى،قد قرّر أن يكون هذا التسبيح مستغرقا لجميع آنات الليل بما هو ممتد و طويل: لَيْلاً طَوِيلاً، ليصبح كل آن منه مفعما بتنزيهه تعالى..إذ بالليل يشعر الإنسان بضعفه،و يشعر بحاجته إلى النوم،و افتقاره إلى الحافظ و الحامي،و هو اللّه الذي: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ (1).

و ليس بالضرورة أن يكون هذا التسبيح عملا جوارحيا،بل هو بالدرجة الأولى عمل جوانحيّ،يتّصل بالمعرفة له تعالى معرفة صحيحة، و صافية،و خالية من أيّة شائبة..

و هذا الصفاء لا بدّ له من ظروف و أجواء مناسبة له،يعيش فيها الإنسان حالة التفكّر العميق،و التأمّل الواعي..و الإدراك و الشعور المتنامي به تعالى،و هو شعور لا بد أن يبقى و يستمر محتفظا بقوته و بحيويّته..

حيث يكون الوقت المناسب لذلك هو الليل،من حيث إنه هو الذي يهيّئ لاستقرار هذا التنزيه في النفس،و يطول مكثه في الضمير،و في القلب،و في المشاعر.

و هذه المعرفة هي الأساس لكل نعمة و تفضّل إلهي،لأنها هي التي تنتج التقوى،و التقوى تنتج السلوك و الطاعة و الالتزام.و هي التي تصنع الأحاسيس و المشاعر.

***

********

(1) سورة البقرة الآية 255.

ص: 220

الفصل السابع و العشرون: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً

اشارة

ص: 221

ص: 222

قوله تعالى:

إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.

«إِنَّ هؤُلاءِ»:

و يثور أمامنا سؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر الآثم و الكفور بصيغة المفرد..و لكنه قد تحدث هنا عنهما بصيغة الجمع،فقال:(إن هؤلاء يحبون ، يذرون ، خلقناهم )إلخ..

و يمكن أن يقال:إن الآثم و الكفور،و إن كان مفردا،لكنه أريد منه الاستغراق للأفراد على سبيل البدل،ليكون النهي شاملا لكل فرد منهم، فلا يتوهم متوهم:أن النهي إنما هو عن إطاعتهم فيما اجتمعت كلمتهم عليه،و ليس نهيا عن إطاعة بعض الأفراد في بعض الأمور،فهو إذن مفرد في قوة الجمع،فصح وصفه بصيغة الجمع على النحو الذي ذكرناه..

و يمكن أن يتضح ذلك:إذا لاحظنا أنه حين يريد الآثمون و الكافرون أن يطلبوا من النبي أمورا لا مبرر لها،فإن هذا الطلب إنما يكون بواسطة أفرادهم،فردا فردا،حين يتخذون لأنفسهم صفة الناصح،و الغيور،و المحذّر، و نحو ذلك..و هم أفراد كثيرون يصح الإخبار عنهم بصيغة الفرد تارة، و بصيغة الجمع تارة أخرى..

فاذا أريد الإلماح إلى كثرة أفرادهم جيء بصيغة الجمع فقيل:هؤلاء يحبون الخ..و إذا أريد الإلماح إلى نوع صفتهم الظاهرة و التعامل معهم كأفراد،جيء بصفة الفرد،فقيل:آثما أو كفورا،ليكون النهي عن الإطاعة

ص: 223

مستغرقا لجميع الأفراد،قطعا لمادة فسادهم،و إفسادهم..

أو يقال:إن من الممكن أن يكون تكرر نفس طلب الآثم و الكفور من قبل أفراد آخرين،قد صحح أن يخبر عن جماعتهم بصيغ الجمع هنا،و أن يقول لنبيه هناك:لا تطع هذا الذي يعرضه عليك الآثم و الكفور..

أو يقال:إنه يريد أن يشير إلى أن هؤلاء الأفراد إنما يطلبون منك ذلك،لا من عند أنفسهم بل هم متواطئون مع غيرهم على مواجهتك بمثل هذه المطالب.

«هؤلاء»:

و لعلك تسأل:لما ذا أتى بكلمة هؤلاء التي تستعمل للإشارة،و لم يقل:إنهم يحبون..

و قد يجاب عن ذلك:بأن المقام مقام التحقير،و الاستهانة بهؤلاء المنحرفين،و قد أريد أن يؤتى بكلمة تتوافق مع هذا الأمر،و تتناغم معه..

و كلمة هؤلاء إذا وردت في مقام المهانة و الاستهانة فإنها تستبطن تحقير المشار إليهم،و الاستخفاف بهم،و تصغير شأنهم.لأن القريب،يهمل أمره، و يحتقر،حيث إنه لا يعتنى به لابتذاله،و دنو مرتبته،و سفالة درجته،أما من يكون له قدر عال،فيحتاج الوصول إليه إلى وسائط أكثر،و إلى معاناة أشد، و منه قوله تعالى: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .. (1)(قبّح اللّه من قال هذا من المشركين و غيرهم).

و الأمر هاهنا أيضا كذلك،فإن وصفهم أيضا،بأنهم يحبون العاجلة، و يذرون وراءهم يوما ثقيلا،يشير إلى أنهم في موقع المهانة و الحقارة،

********

(1) سورة الأنبياء الآية 36.

ص: 224

لأن فعلهم هذا يتناقض مع ما تحكم به عقولهم،و ما تقتضيه فطرتهم.

فهم ينطلقون في موقفهم هذا من دواعي الشهوة،و الغريزة،و الهوى.لا من منطلق الفكر و التعقل،و حساب العواقب،كما أوضحه قوله تعالى:

«يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ »:

أي ما هو حاضر لهم من أمور تلائم الهوى و الغريزة و الشهوة، و يتركون اليوم الثقيل الذي يأتي من ورائهم..و هذا خلاف ما تقضي به عقول البشر..

و ذلك دليل واضح على عدم إمكان الأخذ بأقوالهم،أو الاستجابة إلى طلباتهم،فيكون هذا بمثابة التعليل لقوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.. فإنّ نفس كونه آثما أو كفورا يستبطن عدم جواز طاعته، بحكم العقل،و الشرع،و الوجدان،و يدخل قوله: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً في دائرة الأوامر الإرشادية،و القضايا التي تكون قياساتها معها.

و يمكن لكل الناس أن يتخذوا منها عبرة و توجيها،و نهجا.

لما ذا لم يأت بلام التعليل؟:

و بعد ما تقدم نقول:إنه لا حاجة إلى الإتيان بلام التعليل بأن يقال:

«لا تطع هؤلاء؛لأنهم يحبون العاجلة»إلخ..

و ذلك لأن الإتيان بها قد يوهم أنه تعليل للنهي عن الإطاعة،مع أن المقصود هو بيان حقيقتهم مطلقا.و جعل المورد مصداقا لذلك البيان المطلق..

و ذلك يفيد:أن هذا هو حالهم في كل أمورهم.و أنهم يتعاملون في مختلف الموارد بمنطق الهوى،و الشهوات،و لا يزنون الأمور بميزان صحيح.و لا يختص ذلك بمورد النهي في الآية،و لو أنه جاء بلام التعليل

ص: 225

فلربما توهم البعض هذا الاختصاص.

الاقتصار على العاجلة:

و قد يسأل سائل:عن السبب في الاقتصار على ذكر حبهم للعاجلة، حيث لم يصف العاجلة بأي وصف آخر،و لا جعلها وصفا لشيء محدد، فلم يقل:يحبون الفائدة،أو المصلحة أو المنفعة العاجلة،أو نحو ذلك.

و الجواب:أنه تعالى لا يريد أن يسجل أي اعتراف بوجود أي نفع، أو أي حسن،أو صلاحية في تلك الأمور التي يحبونها،فكان أن اقتصر على صفة العاجلة..التي قد تفيد أيضا:تسرّعهم،و عدم التفكير بالعواقب..و ذلك يحمل في طياته أخطارا حقيقية لهم،فلعل ما أحبوه من العاجلة كان سما قاتلا لهم.لما فيه من المفسدة العظيمة،فإن الربا مثلا فيه-بنظر هؤلاء-منفعة عاجلة،و استفادة أموال..و لكنه يسحت البركة،و الدين،و كل شيء،كما أن الشراب المحرم أيضا قد ينتهي بالإنسان إلى أوخم العواقب..

و ذلك كله يفيد:أنه تعالى حين اكتفى بكلمة العاجلة،فإنما أراد أن لا يفسح المجال لأي توهم لأية درجة من الصوابية في اختيارهم هذا..

بل هو تخطئة تامة و شاملة.

و بذلك يسد باب الترجيح،و لو من خلال التعبير الذي تميل إليه النفوس،بدوافع شهوية،أو غرائزية..و بذلك يكون قد تم التحاشي حتى عن الإيحاء بما يوافق الهوى..

كما أنه يستبطن درجة من التنفير عن هذا الحال المتناهي في السوء.و ذلك لما يتضمنه من الإيحاء بالخطورة الناشئة عن الاندفاع الغرائزي أو الشهوي،أو نحو ذلك،بسبب ما تحمله العاقبة من مفاجئات

ص: 226

صعبة،و ربما تكون كارثية..و هذه العاقبة ناشئة عن عدم التدبر و التأمل في العواقب،و عدم معرفة الصالح من غيره..

و الذي دلنا على ذلك بصورة أوضح و أصرح هو قوله تعالى:

«وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً»:

حيث لم يذكر اللّه سبحانه هنا:إلا حب هؤلاء للعاجلة،و لم يشر إلى حصولهم عليها،و وصولهم إليها و عدمه،و لعله من أجل أن لا يمر في و هم أحد أن ثمة لذة من وراء ذلك الحصول،تدعو إلى ترجيح اختيار العاجلة..بل المطلوب هو إفهام الناس أن هذه اللذة مشكوك فيها أيضا، بل يكون فيها البوار و الهلاك لنفس الطالب و الراغب،إذ أية لذة لهم في أن يترك هذا النبي-مثلا-دعوته إلى طاعة اللّه،و التزام أوامره تعالى و نواهيه؟!.إلا الضرر و البلاء،و البوار للناس جميعا،و منهم نفس هؤلاء الدعاة إلى ذلك..

و لعل ثمة وهما يراود مخيلتهم بوجود لذة مستقبلية فاندفعوا من أجله إلى هذا التصرف و لكنهم بعد أن ظهر لهم:عكس ما توهموه.فما معنى إصرارهم على ممارسة كل هذه الضغوط على هذا النبي الكريم و العظيم ليتخلى عن دعوته؟!.أ لا يعد تصرفهم هذا من أقبح الأمور؟! فكيف إذا استمروا مصرّين على ذلك،إلى حدّ إشعال الحروب،و إزهاق الأرواح.و ربما يكونون هم أول ضحاياها،و أول من يحترق بنارها، و يكونون أسوأ وقود لها.

فهل حب العاجلة المستند إلى مجرد خيالات و توهمات،يدعو إلى مثل هذه التصرفات غير المعقولة؟،حتى قبل أن يتحققوا من صدق هذا النبي،و صحة ما جاءهم به،و ما وعدهم أو توعدهم به.

ص: 227

و هل هناك سقوط و خذلان و إسفاف أعظم من هذا؟!..

و لأجل ذلك جاء التعبير باسم الإشارة الذي قد يفيد التحقير في مثل هذه الموارد..

«و يذرون»:

و يزيد وضوح هذا الأمر من خلال التعبير بكلمتي«يذرون»و «وراءهم»..دون كلمة«يتركون»،لأن كلمة ترك إنما يؤتى بها في مورد يكون للشيء خصوصية و أهمية،ثم يصرف النظر عنه،لسبب اقتضى ذلك،فيقال:ترك.

و أما إذا لم يكن للشيء أية أهمية أو دور-بنظر هؤلاء-فالتعبير الأنسب عنه هو أن يقال:يذره.و لأجل ذلك قال تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (1).أي لا تشغل بالك بهم،و لا تهتم لهم،لأنهم لا يستحقون الاهتمام.

و لذلك قال هنا:يذرون من ورائهم،أي يتركونه غير مكترثين به و لا مهتمين له،بل إنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه،أو حصلوا عليه..رغم أنه ثقيل،و مهم جدا،و هذا غاية في تصوير إسفاف هؤلاء الناس،و سقوط آرائهم،و خزيهم،بسبب إيثارهم شهواتهم على كل شيء..

«وراءهم»:

ثم تأتي كلمة«وراءهم»لتظهر المزيد من قباحة فعلهم هذا و شناعته،و لو لا أنه سبحانه قد أراد الإلماح إلى هذا السقوط لكان بالإمكان أن يقول:و يذرون يوما ثقيلا..و انته الأمر..

********

(1) سورة المدثر الآية 11.

ص: 228

أضف إلى ذلك:أن كلمة«وراءهم»تفيد:أنهم ليس فقط يذرون ذلك اليوم الثقيل،و إنما هم يجعلونه وراءهم أيضا،و الشيء الذي يكون وراء الإنسان لا يمكنه أن يراه ما دام كذلك.

و لعل هذا يشير إلى جهلهم به أيضا،إذ إنه إذا كان هذا اليوم ثقيلا، فكيف لا يلتفتون إليه،ليزيلوا ثقله عن أنفسهم،فهل يمكن أن يكونوا لا يشعرون بثقله هذا؟!..أ ليس ذلك دليلا آخر على درجة انحطاطهم، و مهانتهم،و أن تفكيرهم قد أصبح معطلا تماما،بل هو يسير باتجاه معاكس للاتجاه السليم؟!..

«وراءهم»لما ذا؟!

و لا ريب في أن اليوم الذي تركوه آت إليهم،و هو يستقبلهم و يواجههم، و لكنهم لا يشعرون به،رغم أنه يلقي بثقله عليهم كأفراد،فقد بطل إحساسهم بثقله أيضا،كما بطلت رؤيتهم له..و ليس ثمة من وسيلة إدراك أقوى من الإحساس و المشاهدة،فإذا تعطلتا،حتى أصبح الشيء أو الأمر الحاضر الذي يفترض فيهم أن يروه لأنه أمامهم-اصح-مستحيل الرؤية،فإن الإنسان يكون قد بلغ الغاية التي ما بعدها غاية في السوء و السقوط..

«يوما»:

ثم إنه تعالى أشار إلى زمان ثقيل،و لم يتحدث عن أحداث،أو عن مسئوليات..مما يعني أن مستوى ثقل تلك الأحوال،و الأحداث، و المسئوليات قد تناهى و سرى إلى نفس الزمان الذي تقع فيه،و أوجب ثقله أيضا..

و الزمان هو البوابة التي لا بد لهم من عبورها،و لا مناص لهم منها..

إن الإنسان قد يتمكن من الابتعاد عن موقع أو مكان،و أن ينأى بنفسه

ص: 229

عن حدث يعرض له..و لكنه لا يستطيع أن لا يمر في عمود الزمان..فالعمى المطبق عن هذا الأمر،يدلنا على عظيم البلاء الذي هم فيه..

«ثقيلا»:

و قد أشرنا إلى بعض الحديث عن كلمة«ثقيلا»و ظهر أنها تعبير عن عمق الإحساس بهذا الأمر،و أنه داخل في عمق وجود الإنسان..فهو ليس من قبيل ما يلمس،أو يذاق أو يشم،بل هو ثقل،و الثقل يشعر الإنسان به بكل وجوده،و بواقع كيانه،كما لا يخفى..

***

ص: 230

الفصل الثامن و العشرون: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً

اشارة

ص: 231

ص: 232

قوله تعالى:

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً.

«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ »:

و بعد أن أشار اللّه سبحانه إلى أن الآثم و الكفور يحاولان تعطيل مسيرة الهداية الإلهية،و تحدث عن بعض حالاتهما،و عن شخصيتهما غير المتوازنة،و عن دواعيهما الشهوية و الغريزية،التي تؤثر عليهما في مختلف جهات السلوك.أعطى البرهان الصريح و الصحيح على صحة ما ذكره سبحانه عن هذين الصنفين..فقال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

فخلق اللّه تعالى لهم دليل على معرفته بهم،و بحقيقة ذواتهم، و بدخائلهم،و بكل شيء يرتبط بهم،لأنه في موقع الهيمنة،و المالكية، و الخالقية،و الإشراف،و الإمساك بكل ذرات وجودهم.

فهو إذن لا يخبرنا عن ظنون و حدسيات استفادها من تقييم و دراسة حركاتهم الظاهرية،و مقارنتها مع بعضها البعض.كما نفعل نحن البشر، حين نحكم على إنسان بالشجاعة،أو بالكرم،أو بالعدالة و التقوى، استنادا إلى مجموعة تصرفات و حركات..جعلتنا نحدس بوجود تلك الصفات فيه،مع أنه لا شيء ينفي لنا احتمال أن يكون في الأمر خدعة أو رياء،و قد يتهم الولد أباه بالقسوة و الغلظة عليه،و البغض له،بسبب معاملة له تهدف إلى تربيته تربية صالحة..و لا يعرف أن قلبه يفيض

ص: 233

حنانا و حبا له،حتى و هو ينهال عليه بالضرب الموجع..

و الخلاصة:أن من بنى شخصيتك،و مارس تكوينك،و ركّبك و صوّرك،لهو الأعمق معرفة بك،و لذلك تحدث اللّه سبحانه هنا عن الخلق،لا عن الهيمنة،و لا عن المعرفة و العلم..

و قد عبر بكلمة«نحن»ليظهر مقام عزته،و كبريائه من جهة.

و ليفهمنا أيضا تسخير كل شيء و انقياده و خضوعه له..فإذا ما كان لغيره تعالى نصيب من التكوين،فإنما هو باللّه،و من اللّه،و بإذن منه تبارك و تعالى..

«وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ »:

و لم يكتف بالإخبار عن مجرد الخلق على سبيل الإجمال..بل هو تعالى قد أتبع ذلك بالإشارة إلى التدخل في رسم كل تفاصيل وجودهم من الداخل،و بين لنا مستوى ربط كل شيء بالآخر.و حدد مدى تماسك و انشداد كل إلى كل..فقال: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ : و المراد بالأسر:الربط بقيد،و قد يكون هذا الربط ضعيفا،و ربما يكون شديدا..

و قد بين اللّه تعالى لنا:أنه قد ربط كل جهات وجودهم بأمور تضبطها،و تخولها السير بالاتجاه الصحيح،لو أراد لها الإنسان أن تواصل سيرها في ذلك الاتجاه..

و من الواضح:أن ضابطة و رابطة كل شيء بحسبه،و بحسب ما يحتاج إليه،فمنها التكويني،و الروحي،و الأخلاقي،و الفكري، و المفاهيمي،و الاعتقادي..بل و منها ما هو اجتماعي،و عاطفي،و ما إلى ذلك،مما يكون له تأثير في جعل مسيرة الإنسان في الحياة بالاتجاه الصحيح..

ص: 234

فاللّه إذن..قد قوّى و أحكم تكوين هذا الإنسان،و رسم وجوده بصورة قويمة،و ربط كل جهات وجوده بضوابط و روابط صحيحة قادرة على إنشاء علاقات سليمة له بكل ما يحيط به،و ما يعنيه،و ما يطمح إليه..

و لم يقتصر تعالى على ذكر هذا الربط و الأسر و حسب،بل هو قد تجاوز ذلك ليؤكد على قوته و إحكامه،و في هذا دلالة ظاهرة على أن ثمة تعمدا للتوجيه نحو المعرفة الدقيقة،بكل تفاصيل وجود هذا الإنسان،و تعريفه بدرجة الهيمنة عليه،بهدف إقناعه بأن عليه أن لا يتنكّر لهذه العلاقة العميقة له مع اللّه سبحانه،و أن يستفيد من التوجيه الإلهي، الذي لا بد أن يكون أصدق توجيه؟!..

كما أن عليه أن يبقى في دائرة تلك الضوابط التي جعلها اللّه تعالى له،لكي تحفظه من السقوط،و تصونه من الزلل و الخطل..

إن التخلي عن تلك الضوابط،التي هي ضوابط وجوده كجسد،و روح، و شهوة،و غريزة،و عاطفة،و مجتمع..و..و..إن ذلك تدمير لمواقع القوة في داخل وجوده،و تمزيق لحقيقته،و تشويه لفطرته،و قطع للعلاقة مع تلك الضوابط..سيؤدي بلا ريب،إلى الوهن و الضعف،ثم إلى التمزق و التلاشي، بعد أن كان في غاية الإحكام و القوة،و الانشداد و الضبط..

إن سعي الإنسان للقفز فوق هذه الضوابط و النواميس-بدلا من الاعتراف بها،و الانقياد لها-لهو جريمة كبرى،ما بعدها جريمة،يرتكبها في حق نفسه..

«وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً»:

ثم أشار اللّه تعالى إلى استمرار و ثبات،هذا التفضل الإلهي على البشر جميعا،أفرادا و جماعات بالخلق،و بشد الأسر،حتى إذا أراد

ص: 235

الإنسان أن يتمرد،و أن يسعى في إتلاف هذه الطاقات و القدرات،أو إحداث الوهن و الضعف في ذلك الأسر المشدود،من خلال قطع علاقته بتلك الروابط ليصبح في مهب الريح..-إذا أراد الإنسان ذلك- فإنه سوف لن يغير شيئا في واقع السياسة الإلهية في الخلق،و لن يؤدي إلى الحرمان من شد الأسر.بل سوف يبقى ذلك رهنا بمشيئته سبحانه..

أضف إلى ذلك:أن شد الأسر معناه:أن مجرد إفاضة الخلق على العباد،ليس هو آخر صلة للّه بعباده..بل الصلة تبقى و تستمر من أجل شد الأسر الذي أشار اللّه تعالى إليه بقوله: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

ثم تمتد هذه العلاقة و تزداد تجذرا،و عمقا بامتداد الزمن،و بمقدار ما يتعرض له الإنسان من نجاحات و انتكاسات،فيما يرتبط بشد الأسر، أو بإضعافه..

و بذلك يكون سبحانه قد أفهم الكفور و الآثم،أنه بكفره و طغيانه لا يقدر على قطع علاقته باللّه،و لا يستطيع أن يضعف هيمنة اللّه عليه،و أن يبطل مالكيته له.فهو دائما في قبضته،و هو مقهور لإرادته.

و خروج العبد عن زي العبودية لا يعني أن ثمة تفوقا و غلبة لإرادة العبد على اللّه،بل هو يعني:أن اللّه سبحانه يعامله بما أخذه على نفسه، فيما يرتبط بمعاملة المسرفين و الجاحدين..

الأسر الإلهي:

و غني عن البيان:أن أسر اللّه للإنسان يختلف عن أسر الناس لبعضهم بعضا،فإن أسر الناس لبعضهم معناه أن الآسر يقهر إرادة المأسور فقط،بهدف منعه عن ممارسة حريته،و سلب اختياره..و لكن أسر اللّه للناس داخل في أصل تكوينهم،و في واقع خلقهم و خلقتهم،ثم

ص: 236

هو في نفس الوقت يعطيهم الخيار و الاختيار..

فمعصية الإنسان للّه لا تعني تحرره من السيطرة الإلهية،و لا إلغاء الهيمنة المرتكزة إلى مقتضيات الخالقية و التكوين.بل هو خروج من طرف واحد و هو العاصي نفسه،دون أن يسقط إرادته تعالى عن التأثير.

و إن عاملك اللّه باللطف و الرأفة..

أما عصيان الناس لبعضهم بعضا،و رفضهم للأسر،فهو يستبطن الخروج عن إرادة الآسر بكل المعاني المفروضة و المقترحة،و هذا هو الفرق بين عصيان المخلوق لخالقه،و عصيان الإنسان للحاكم و المتسلط عليه..

«و إذا»:

و كلمة«و إذا»الشرطية تستعمل في مقام الجزم و الحتم بحصول الشرط،و قد استخدمت هنا،للإلماح إلى أن هذا التبديل جزمي و حتمي، بمجرد حصول الإرادة التكوينية الإلهية..

«بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ »:

و قد دل على ذلك تأكيده بالمفعول المطلق،و هو قوله تعالى:

«تبديلا»..بالإضافة إلى أن نفس خالقيته تعالى لهم،و شده لأسرهم،تدل دلالة صريحة على قدرته على هذا التبديل،و على أنه يفعله حتما،إذا تعلقت مشيئته سبحانه به،خصوصا مع بيان أن التدخل الإلهي لا يقتصر على مجرد الخلق،بل هو تدخل مستمر في جميع التفاصيل و المكونات لحقيقة المخلوق و كنهه،كما دل عليه قوله تعالى: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

«بدّلنا»:

و أما لما ذا اختار تعالى خصوص تبديل أمثالهم،و لم يشر إلى مواجهتهم بالعقوبات،بسبب طغيانهم فلم يقل:نعاقبهم،نهلكهم،ننتقم

ص: 237

منهم،نقهرهم،نجبرهم؟فلعل السبب في ذلك:هو أن هذه السورة تريد أن تؤكد على أن اللّه تعالى قد رعى مسيرة هذا الإنسان في هذه الحياة، و لم يرض منه بالعبث في هذا الكون،بل أراد منه أن يعمره،و أن يصل به إلى الأهداف الإلهية السامية بالطرق الطبيعية و الصحيحة..

ثم أشار تعالى إلى أنه لن يتساهل مع أولئك الذين يريدون عرقلة هذه المسيرة،عن طريق الإثم و الإصرار على الكفران المتكرر،مهددا إياهم بأنه قادر على تبديلهم بأمثالهم،و ذلك لكي يفهمهم:

1-عموم قدرته تعالى،من حيث إنه قادر على التصرف بهم،كما أنه قادر على التصرف بمن هم أمثالهم:

2-إن التبديل العام يأتي من موقع البصيرة،و الحكمة،و الهيمنة..

و هذا يعطي:أن ثمة قدرة على الإهلاك،و الانتقام؛إذا اقتضت الحكمة و الرحمة ذلك..

3-إن ذلك يستبطن إعلامهم بأن مشروعهم التخريبي لن ينجح..

4-إن عدم نجاح مشروعهم يرجع إلى عجزهم،و إلى امتداد قدرة اللّه سبحانه..

5-إن هذا معناه الخيبة لآمالهم،و سقوط طموحاتهم،و بث اليأس في نفوسهم،الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يتحمسوا لطمس معالم هذا الدين،و عدم ممارسة الضغوط على الدعاة إلى اللّه سبحانه،و العاملين في سبيل بث الهدى في الناس..

6-و هو أيضا من موجبات عذابهم،و بعث الألم في نفوسهم، و مواجهتهم بعذاب الحرمان من اللطف و الهداية،و السّلام،و السكينة، و عذاب الخيبة و الفشل..و العيش في ظل شقاء الضلالة،و الكفران،

ص: 238

و الإثم،و عذاب الخزي في الدنيا و الآخرة..

ثم إن مجرد أن يحيق بهم ما كانوا به يستهزءون،و خسرانهم لأنفسهم،سيزيد في آلامهم،و سيضاعف من عذابهم أيضا..

و حين يرون نعم اللّه تعالى تظهر على من كانوا يحتقرونهم، و يذلونهم،و ينأون بأنفسهم عنهم،فإن ذلك سيشكل مرتبة أخرى من مراتب عذاب الحسرة و الندامة،و الحسد،و ما إلى ذلك..تماما كما وعد اللّه سبحانه: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (1).

«أمثالهم»:

و يبقى السؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر تبديل الأمثال،و لم يذكر تبديلهم هم أنفسهم..

و لعل بالإمكان الإجابة عن ذلك بالقول:إنه تعالى أراد أن يعطي قاعدة تشمل الناس جميعا،من خلال كلامه عن تبديل الأمثال،فإن التبديل إذا كان ممكنا في النظير و المثيل،فإنه سوف يكون ممكنا في نظيره و مثيله الآخر..

و قد قرن هذا البيان بالدليل الحسي،و هو أن الخالق لهم من العدم، لا يمكن أن يعجز عن تبديل ما خلق،كما أن الذي أحكم و شد أسرهم، لا بد أنه عالم و متصرف في تفاصيل حقيقتهم،و واقف على كنه وجودهم.و من كان كذلك،فإنه قادر على تبديل أمثالهم..

و لو أنه تعالى اقتصر على ذكر تبديل خصوص الآثم و الكفور، فلربما يتخيل متخيل:أن ثمة ضعفا في هؤلاء الناس أقدره على هذا

********

(1) سورة محمد الآية 38.

ص: 239

التصرف فيهم،و ذلك لا يعني عموم قدرته إلى من عداهم..

فجاء هذا التعميم المستند إلى ذلك الاستدلال،ليشير إلى سهولة مثل هذا التبديل العام،فضلا عن سهولة تبديل الآثم و الكفور الذي قطع روابطه مع الضوابط و المعايير الشرعية،و التكوينية،و الفطرية..الخ..فأصبح على درجة من التراخي و الضعف،تجعل تبديله أيسر من تبديل من عداه..

«تبديلا»:

و قد جاء التأكيد بكلمة«تبديلا»التي هي مفعول مطلق،ليدل على أن هذا الكلام لا يجري على سبيل المبالغة،أو المجاز،أو الكناية عما هو أدنى من ذلك،بل هو مقصود بكل تفاصيله،و هو جار على سبيل الحقيقة.

فلا معنى لتوهم أن يكون المراد تبديل الأوضاع و الأحوال المعيشية مثلا،كتبديل الغنى بالفقر،و الصحة بالمرض،و تبديل العادات،أو السياسات..بل المراد التبديل الحقيقي،الذي يطال أصل الخلقة و الكيان الإنساني كله..

و هذا يستبطن التهديد لهؤلاء الناس:حتى لا يتمادوا في غيهم،و لا يستسهل الآخرون طريقتهم..

***

ص: 240

الفصل التاسع و العشرون: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً

اشارة

ص: 241

ص: 242

قوله تعالى:

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً.

«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ »:

إننا نبين ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية:

1-إن التأكيد هنا على أن هذه تذكرة،لا يخلو عن لحن تهديد للآثم و الكفور..و لا سيما بملاحظة قوله تعالى آنفا: وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.. و كذلك قوله تعالى الآتي: وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً..

2-إنه تعالى إنما يريد أن يذكّرهم بذلك اليوم الثقيل،لكي لا ينساقوا وراء حبهم للعاجلة..

3-و كلمة«تذكرة»مثل:كلمة:«تمرة»،«ضربة».جاء بها مع تاء الوحدة،ليفيد أنها هي التذكرة الوحيدة المتبقية التي يمكن أن تكون نافعة لهم،فإن لم تؤثر فيهم،فلا مطمع بعدها بهدايتهم،و ما إلى ذلك.

فكأنه قال:إنه الإنذار الأخير،و الفرصة الأخيرة،فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا،و إلا فإن عليه أن يواجه عواقب ضياع هذه الفرصة..

أو أنه يريد أن يقول:إنها مجرد تذكرة خالصة،و ليس لها أية أهداف أخرى،سوى ما للتذكرة من أهداف.

و قد يستظهر أن الهدف هو إفادة هذا من المعنيين معا..

ص: 243

4-و قد أنث الضمير في كلمة«هذه»فيحتمل أن يكون بملاحظة كلمة تذكرة..

و يحتمل أن يكون هناك تقدير لكلمة يناسبها ضمير التأنيث،مثل كلمة«الحقائق»،أو كلمة«القضايا»..أو نحو ذلك.أي أن هذه الحقائق التي بيّناها إنما هي تذكرة..

التذكير،بما ذا؟!:

و هنا سؤال يقول:إن كلمة تذكرة،مأخوذة من الذكرى التي تعني أن ثمة أمرا قد مر على الذهن،فما هي الأمور التي يريد اللّه أن يذكرهم بها هنا؟!

و الجواب:

أن المناسب للاعتبار هنا هو أن يكون المراد:التذكير بالمعاني و الهدايات المركوزة في العقول،و في داخل الوجدان،و الفطرة،و نحو ذلك مما يمكن القول بأنه قد سبقت له به معرفة..

و السؤال هو:كيف أصبحت الحقائق المذكورة في هذه السورة،من معارف البشر،جميعا،بمن فيهم الآثم و الكفور؟!..

و يمكن أن يجاب:بأن ما تحدثت عنه الآيات إنما هو أمور يعرفها الإنسان و يدركها بعقله،أو تقضي بها فطرته،أو لمسها و مارسها في حياته..

و مراجعة الآيات من أول السورة إلى نهايتها،خير شاهد على ما نقول:

فإنها بدأت بالحديث عن خلق الإنسان،و عن رعايته،و استثارة فطرته،و عقله،ليلتفت إلى وجود اللّه،و إلى صفاته الألوهية،و خالقيته، و إلى دقة صنعه،و حكمته..

و ذلك يقتضي وجود هدف،فإن الحكيم لا يمارس العبث..

ص: 244

و الهدف يحتاج إلى هداية إليه،ثم إلى إلزام و تكليف بالوصول إليه.

كما قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و ذلك يحتاج إلى أنبياء و رسل و أدلاء..

ثم يأتي دور اختيار الاستجابة،أو اختيار التمرد،الذي يستتبع حسابا،و ثوابا،و عقابا،و يفرض بعثا،و نشورا..إلى كثير من الأمور التي يدركها العقل،أو تقتضيها الفطرة،و الوجدان،و التدبير،و غير ذلك.

و من الواضح:أن أحكام العقل و الفطرة و الوجدان لا تحتاج إلى أكثر من التذكير بها و التوجيه نحوها.

و هذا ما حصل فعلا هنا..فإنه تعالى لم يورد ذلك كله كجزاء لا يعرف الإنسان عن حقيقته شيئا،و يجد نفسه في فسحة من أمر التصديق و الالتزام به..بل أورد له حقائق و نبهه إلى أمور يجدها حاضرة لديه، يحكم بها عقله،و قائمة في عمق وجدانه و فطرته..

و حين يكون هناك شيء يراد حفظه،و غاية يراد الوصول إليها،فإن الحكيم يتوسل بما يحفظ له تلك الغاية من الضياع،فتأتي التذكرة هنا لحفظ الهدف الإلهي من الضياع،بالدلالة على مناشئه،و حالاته، و المؤثرات فيه،و المؤشرات له،و الهدايات إليه بواسطة الأنبياء،و غير ذلك من أسباب حفظ الهدف الكبير و الأهم و الأعظم،الذي أشار إليه قوله تعالى هنا:

«فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً»:

فقد دل هذا التعبير على أن المقصود من كل هذه البيانات-من أول السورة إلى هنا-هو أن يتخذ الإنسان السبيل إلى اللّه سبحانه..

و لتوضيح بعض ما ألمحت إليه هذه الآية الشريفة،نقول:

ص: 245

«فمن»:

1-إنه أتى بفاء التفريع هنا ليفيد:أنه بعد أن أيقظ في الإنسان فطرته، و واجهه بما يحكم عقله،و ذكّره بما هو مركوز في ضميره،و مستقر في عمق نفسه،فإنه يكون بذلك قد جعله أمام مسئولياته،ليختار مصيره،و مسيره بنفسه،بوعي تام،و مع التفات و استحضار لعناصر القرار..

و هذا التفريع بالفاء إنما هو على التذكرة بما تقتضيه الفطرة،و العقل، و الوجدان،و يشاهد بالعيان،و ليس تفريعا على الإخبارات التي ذكرت في الآية.

2-إنه تعالى لم يذكر هنا سوى خيار واحد،و هو اتخاذ السبيل إلى اللّه سبحانه..و هو خيار من يريد أن ينسجم مع فطرته و عقله،و كل الواقع الذي عاشه،و لمس الحقائق فيه..

ذلك من جهة أن أي سبيل آخر،سوف لا يوصل إلى هدف مقبول، و معقول و مرضي لأي إنسان عاقل و حكيم،بل هو سوف ينتهي إلى ضد المراد،حيث يؤدي حتما إلى الدمار و البوار..

3-إنه بعد أن ذكّر الإنسان بما تقدمت الإشارة إليه أطلق له المشيئة لاتخاذ السبيل باختياره،فقال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً، إذ لا موضع للإكراه،لأنه يوجب تضييع الهدف و عدم الوصول..

و مشيئة اتخاذ السبيل هنا تتحقق بالانقياد لأحكام العقل،و الخضوع لمقتضى الفطرة،و التسليم لأحكام الشرع..

و في مقابل ذلك يكون الإخلاد إلى الأرض،و عدم الانقياد..

و مما يشير إلى أن اتخاذ السبيل إنما هو بالاختيار قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ .. و يشير إليه أيضا نهيه تعالى عن إطاعة الآثم،و الكفور،

ص: 246

و غير ذلك مما أشار إلى الضلال و الهدى،و الوصول إلى اللّه.

و قد أشار إلى الاختيار في مرتبتين:إحداهما مرتبة المشيئة، و الأخرى مرتبة المباشرة و إنجاز الفعل،و ذلك يدل على الاختيار بصورة أصرح و أوضح..

و كما أن اتخاذ السبيل،يشير إلى الاختيار،كذلك هو يشير إلى حصول المبادرة من نفس الإنسان،و يشير أيضا إلى أنها بالإرادة،و العمد، و التكلف للفعل.

4-إنه تعالى،لم يذكر هنا الهداية إلى السبيل،بل ذكر اتخاذ السبيل،و ذلك لأن الهداية متحققة،و لا يحتاج إلى أكثر من التذكرة بها، و لو لمرة واحدة،فإن ذلك يكفي لأن تحضر الحقيقة كلها أمامه،كأشد ما يكون الحضور..

5-إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من المبادرة إلى السبيل،و الاتخاذ له.

و هذا يشير إلى حتمية الالتزام و البناء القلبي،الذي يعطي العمل رونقا، و يكون التعرض لإنجاز الفعل بدافع من المحبة،لتتناغم الحركة الجوارحية مع المتابعة الجوانحية الحنونة،فيعيشه في داخل روحه،و في صميم مشاعره و أحاسيسه..

فلا يكون العمل روتينيا،خاويا،و جافا فارغا،بل هو حركة مترافقة مع السبحات الروحية،و النبضات الإيمانية اللذيذة و الحية..ليصبح جزءا من الكيان الإنساني و ليسهم في صنع إنسانية الإنسان،فيكون ضميره، و وجدانه،و مشاعره،و عقله،و روحه،و سلوكه،بكل ما لهذه الكلمات من دلالات..و هذا يتناسب مع كون المقام مقام حث على الوصول إلى اللّه، و الاتصال به،حيث لا يكفي في ذلك مجرد الحركة الجوارحية،بل هو

ص: 247

يحتاج إلى حركة القلب و المشاعر أيضا..

و لأجل ذلك لم يقل:من شاء سلك سبيلا لأن المهم ليس هو مجرد السلوك..

6-و قد قال تعالى:«إلى ربّه»و لم يقل:«إلى اللّه»ربما ليثير في الإنسان شعورا بأنه يسير في ذلك السبيل،ليلتقي جهده و سعيه، بتوفيقات،و تسديدات،و رعاية مدبره الذي يعرف أنه القيوم،القادر، الرحيم،و العليم،الحكيم و..و..و أن هذه الصفات الربوبية لا بد أن تسهم في إيصاله إلى كماله،و إلى أهدافه السامية،من موقع المحبة و التدبير الحكيم،من القادر،العليم،الرحيم..لأن المقام مقام طلب و سعي و إعداد للنفس و تأهيلها لمواجهة كرامة اللّه،و لتصبح موضعا لرحمته،و ألطافه و عناياته،الأمر الذي يفرض إعادة بناء كل هذا الكيان الإنساني و صياغته وفق المواصفات المطلوبة لمن يريد تلك المقامات..

و من الواضح:أن الذي لا بد أن يتولى ذلك،فيعطينا كمالاتنا،و يرفع عجزنا،و يقوي ضعفنا،و يزيل نقصنا،هو القوي،الخالق،الحميد، المجيد،العليم،الحكيم،المدبر،الغني،الحليم،الكريم،الرحيم،المتصف بسائر صفات الربوبية..

و لا بد أن يتبلور الإحساس بمقام الربوبية،الذي له هذه الصفات، في مواقع التحدي و الذي نواجهه من داخل أنفسنا،بما تجنده ضد هذا المسار،من دوافع شهوية،و غرائزية،يشد من أزرها المغريات القوية التي تحيط بنا من كل جانب و مكان..

إن شعورنا بأننا نعيش في كنف مزايا الربوبية تلك،يشعرنا بالأمن، و يعطينا المزيد من القوة و الصمود في مواجهة التحديات..

ص: 248

فلو أنه قال:«يتخذ إلى اللّه سبيلا»..فإن لفظ الجلالة«اللّه»سوف لا يكون ظاهر الإيحاء بهذه المزايا..بل إن المعاني الظاهرة لهم فيه،-و هي جليلة و جميلة أيضا-تحتاج لكي توصلهم إلى مزايا الربوبية،إلى مزيد من التأمل و الوعي و التدقيق،الذي قد لا يتوفر لدى كثير من الناس..

فاقتضى اللطف و العطف الإلهي مخاطبة الناس على قدر عقولهم، و اختيرت كلمة الرب هنا من أجل تيسير وصولهم إليه تعالى،و وعي مقام ربوبيته من خلال نعمه،و ألطافه..

7-و يلاحظ:أن الحديث هنا عن السبيل قد جاء منونا بتنوين التنكير،الأمر الذي يفهم منه:أن هناك سبلا عديدة إلى اللّه تعالى..مع أن السبيل إلى اللّه تعالى واحد،فقد قال في موضع آخر: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ (1).

قال سبحانه: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (2).

غير أن التأمل في مجموع الآيات الشريفة يزيل هذه الشبهة،إذ إن اللّه سبحانه قد قال أيضا: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (3).

و ذلك معناه:أن اختلاف الإضافة قد أوجب اختلاف التعبير،أي أنه تارة يراد إظهار النسبة إلى السبيل المتصل باللّه،و الموصل إليه،و حصر النجاة بما كان متصلا به تعالى،فالمناسب هو الإتيان بصيغة المفرد

********

(1) سورة يوسف الآية 108.

(2) سورة الأنعام الآية 153.

(3) سورة العنكبوت الآية 69.

ص: 249

باعتبار أن الطريق الموجب للنجاة هو فقط ما ينته إلى اللّه،و يوصل إليه دون سواه،فيقول:«هذه سبيلي»..و يقول: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (1)..

و أخرى يراد الحديث عما يوصل إلى غير اللّه،فهو متكثر بتكثر الغايات و الأهداف..فيذكر ذلك بصيغة الجمع،فيقال:«سبل»..

و تارة ثالثة ينظر إلى نفس ما يوصل إلى اللّه سبحانه مما قررته الشريعة، فتلاحظ كل واحدة واحدة منها،مثل الصلاة،و الزكاة،و الصدقات،و تلاوة القرآن،و..و..فيعبر عن هذه المفردات بصيغة الجمع،فيقال:«سبلنا»، و«سبل السّلام»..

و لعله قد لوحظ في ذلك ما ألمحنا إليه فيما سبق،من أن تنوع المستحبات إنما هو من أجل تمكين كل إنسان من أن يختار ما يناسب حاله منها حيث بها يكون سمو روحه،و تصفية،و تزكية نفسه،فلذلك صح التعبير بصيغة الجمع،فإن الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق..

8-و أما لما ذا لم يقل:«يتخذ إلى الجنة سبيلا»،بل قال تعالى:«إلى ربّه»؟!،لأن تحديد الغاية باللّه سبحانه،من شأنه أن يحدد السبيل الذي يريد الساعي إلى اللّه أن يتخذه،حيث يجد نفسه ملزما بإبقاء هذا السبيل في الدائرة التي يرضاها اللّه سبحانه..الأمر الذي يحتم الرجوع إليه تعالى،لتحديد السبيل الذي يرضيه..

9-ثم إن في الآية انتقالا من ضمير المتكلم الحاضر،و ضمير

********

(1) سورة الأنعام الآية 153.

ص: 250

الجمع..إلى ضمير المفرد الغائب..

فقد قال تعالى أولا:«شئنا».«بدّلنا».«شددنا».ثم قال هنا:«إلى ربّه»..

و لم يقل:«إلينا»..

و لعل سر ذلك هو أنه حين كان يتكلم عن التصرف الإلهي،فإن المناسب هو الإشارة إلى مقام العزة و العظمة،و إلى التدبير من موقع الربوبية و وسائله و أدواته على قاعدة: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (1)،التي هي بيده،و طوع إرادته..

و أما حين أراد أن يتكلم عن العبد في مسيره إلى ربه،فقد كان لا بدّ من الإتيان بصيغة المفرد،ليكون التوجه إليه هو تعالى دون سواه..و لأن هذا المسير إنما يعني نفس العبد،و ذاته كشخص،و يريد له أن يستفيد من هذا المسير في صناعة خصائصه و شخصيته،و تأهيله لكرامة اللّه، و الحصول على السعادة في الدنيا،و النجاة في الآخرة..و هذا لا يناسب أن يتحدث عنه ضمن مجموعة أخرى..

و لأجل ذلك خاطبه كفرد و قال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ .. و لم يقل:«فمن شاءوا اتخذوا إلى ربهم »..

أضف إلى ذلك:أن الفرد حين ينال ميزاته كإنسان،لا تبقى للميزات الفردية تلك القيمة الكبيرة،بل تتساقط الميزات و الحدود،و يتضاءل تأثيرها، و يضعف ظهورها..و يصبح الفرد بذلك أكثر اندماجا في الآخرين،و لهذا البحث مجال آخر..

10-و هناك نقطة أخرى تحسن الإشارة إليها،و هي أنه تعالى قد

********

(1) سورة النازعات الآية 5.

ص: 251

ذكر هنا الجزاء،و حذف الشرط،فإن التقدير: «مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» «اتخذه»،فحذف الجزاء هنا إنما هو لمعلوميته من جهة..

و ربما-من جهة ثانية-:لأنه يراد الإيحاء بلزوم التسريع، و المبادرة،حيث لا يراد الفصل بين المبادرتين،و بين الطلب حتى بمقدار أداء كلمة..بسبب أهمية هذا الأمر،فهو قد بادر إلى ذكر الجزاء،و اعتبر المبادرة إلى فعل الشرط،أمرا مفروغا عنه،لشدة ظهور ضروريته..

من جهة ثالثة،و هي الأهم،أنه تعالى:لا يريد لخيار الرفض أن يمر في وهم هذا الإنسان،الميال لجهة شهواته،و ملذاته..

***

ص: 252

الفصل الثلاثون: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً

اشارة

ص: 253

ص: 254

قوله تعالى:

وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.

«وَ ما تَشاؤُنَ »:

لقد ظهر أن التعابير في الآيات الأخيرة قد جاءت بطريقة متفاوتة، تتناسب مع طبيعة الخصوصيات التي يراد الإلماح إليها في كل مقام،فقد كان التعبير عن مقام العزة الإلهية،بضمير المتكلم،و بصيغة الجمع:

«أردنا»،«بدّلنا»،«شئنا».ثم جاء التعبير عنه بصيغة المفرد،و بعنوان الربوبية،فقال:«إلى ربّه»..ثم عاد هنا ليتحدث بصيغة ثالثة،و هي صفة الألوهية،فقال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ..

و كان الحديث أيضا عن الناس بضمير الغائب:«خلقناهم»،«أسرهم»، «أمثالهم»ثم تحول للحديث عن المفرد:«من شاء»،«اتّخذ»،«ربّه»..

ثم عاد أخيرا ليتحدث عنهم بضمير الجمع مرة أخرى..و لكنه اعتبرهم حاضرين،و وجه إليهم الخطاب مباشرة،فقال: وَ ما تَشاؤُنَ ..

و قد عرفنا:بعض السبب في إجراء الحديث بصيغة الغائب المفرد هناك،و السبب في عودته هنا للخطاب لهم بضمير الجمع،مشيرا إلى نفسه تعالى بواسطة لفظ الجلالة.

و لعل السبب في الإتيان بلفظ الجلالة هنا،هو أن تأثير مشيئة اللّه سبحانه في مشيئة العبد،إنما هو من موقع الخالقية التي تعني القدرة.

و ذلك يتناسب مع مقام الألوهية بصورة أتم و أوضح..

ص: 255

جبرية المشيئة:

و ربما يثار سؤال هنا عن:أن الآية قد دلت على توقف مشيئتنا على مشيئة اللّه سبحانه،فهل معنى ذلك أن اللّه هو الذي يخلق فينا المشيئة بصورة جبرية،و لا يبقى لنا اختيار؟!أم أنه يخلق فينا المشيئة،و يبقي لنا الاختيار؟!

و إذا كان ذلك لا يضر بالاختيار،فهل الاختيار سابق على المشيئة، أم لا حق لها؟!

أي أن الجزء الأخير من العلة،هل هو الإرادة،أم الاختيار؟!

و بعبارة أخرى:

قد يقال:إن مشيئة اللّه هي التي توجد اقتضاء التأثير في مشيئة البشر،فليس في إرادة العبد قوة و نشاط و قابلية أبدا إلا بإرادة اللّه سبحانه،فتكون كالحديد إلى جنب النار،فإن الحديد ليس فيه قابلية الاشتعال أبدا..

و قد يقال:إن مشيئة اللّه شرط لحصول ذلك التأثير،مع توفر الاقتضاء الذاتي في المشيئة البشرية..و قد تتصور على نحو عدم المانع، أي أن تأثير إرادة البشر متوقف على عدم وجود مانع يمنعها،و المانع إنما هو مشيئة اللّه.

و الظاهر هو الأول،أي أن المشيئة الإلهية هي التي تعطي الاقتضاء لمشيئة الإنسان،و توجد الطاقة لدى العبد،و تنتج القابلية و توجدها في مشيئته،و تصبح هذه المشيئة و الإرادة مشحونة بالقوة،قابلة للتأثير في إنتاج الفعل الخارجي،و لكن بشرط أن يختار العبد أن تتعلق مشيئته،أو إرادته هو بذلك الفعل.ليكون هذا التعلق بمثابة إشارة البدء،و المباشرة، و الحركة المؤثرة..

ص: 256

فإرادة اللّه سبحانه لم تتعلق بالفعل،بل تعلقت بشحنك بالقوة المؤثرة في تحريك يديك،و حصول البصر لعينيك،و السمع لأذنيك،و..و..فلما حصلت على هذه القوة اخترت أنت تحريك يدك باتجاه اليسار مثلا..

فاللّه يفيض عليك،و أن تتصرف،كما يحلو لك.فاللّه أوجد المشيئة..و أنت اخترت تعليقها بهذا،أو ذاك.فلما علقتها بهذا أفاض اللّه عليه الوجود لأجل تعلقها به،و لو علقتها بسواه لكان قد وجد أيضا بالقوة المفاضة من قبل اللّه أيضا،و التي هي تابعة لمشيئتك أنت.

فكما يصح نسبة هذا الفعل إليك،لأنك أنت الذي اخترته..كذلك يصح نسبته إلى اللّه سبحانه،لأنه هو الذي أفاض عليه الوجود بعد أن اجتمعت مقتضياته و شرائطه التي منها اختيارك و إرادتك،التي أفاض اللّه عليها الوجود،فاخترت تعليقها بفعل ما،فوجد،و كان..

و هذا هو معنى الأمر بين الأمرين،الذي يقول به الإمامية تبعا لأئمتهم عليهم السّلام..

و يشبه ما نحن فيه سيارة لها محرك يعمل باستمرار،فيوجد قوة اندفاع.

فقوة الاندفاع في السيارة موجودة،بسبب وجود الطاقة التي أنتجها المحرك.و لكن السائق هو الذي يوجه هذا الاندفاع بهذا الاتجاه أو ذاك..

فالسائق لو لا المحرك لا يستطيع أن يفعل شيئا،و المحرك لو لا السائق،لا يوجه السيارة بهذا الاتجاه،الذي أوصلها إلى هذا البلد بعينه مثلا..

و كذا الحال في الطاقة الكهربائية التي نوظفها فيما نشاء من موارد،مع أن المشرف على المولد يتحكم بنا من حيث إنه يقطع التيار عنا في أي ساعة شاء،كما أننا نحن الذين نختار صرف الطاقة في هذا الاتجاه أو في ذاك..

ص: 257

و لو أن إرادة اللّه تعالى تعلقت بالفعل مباشرة،من دون توسيط اختيار الإنسان،لكان ذلك هو الجبر الباطل بعينه..

و أما لو كنت أنت الذي تشاء و تريد،و تختار،مستقلا في الإرادة و المشيئة،و في الاختيار،و إيجاد الفعل..فيكون هذا هو التفويض الباطل بعينه.

و بذلك يتضح:أن هذه الآية الشريفة هي من موارد القاعدة المشهورة التي قررها أئمتنا صلوات اللّه و سلامه عليهم،و التي تقول:لا جبر و لا تفويض،و لكن أمر بين أمرين.

و لأجل ذلك لم يأت التعبير في الآية المباركة: «ما تَفْعَلُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ »، فإنه لو قال ذلك،لكانت الآية دالة على الجبر،لأن تعليق إرادة اللّه بفعلنا مباشرة معناه:أنه تعالى يوجد تلك الأفعال بمحض مشيئته..

و ليس للعباد أي دخل في ذلك.

و لكنه لما قال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ .. فإن مشيئته تعالى قد تعلقت بالمشيئة و الإرادة للناس التي هي محرك و طاقة و قوة فإذا وجدت هذه الطاقة و القوة و الإرادة،و المشيئة لدى الإنسان،فإنه هو الذي يختار أن يعلقها بهذا الأمر أو بغيره.كما قلنا.

و بصورة أكثر إيجازا نقول:

قد يقال:إن المراد بالآية هو:أن للهداية أصولها و نواميسها،و السير في طريقها إنما هو بقرار من الإنسان نفسه..و هذا القرار لا يأتي قسرا عن اللّه سبحانه،بل يبقى له تعالى درجة من التأثير في فعل الإنسان و في مشيئته،من حيث إنه قادر على شل حركته،و منعه من الاختيار،و من الفعل على حد سواء.تماما كما هو الحال بالنسبة للنهر الجاري باتجاه

ص: 258

معين،فإن الإنسان يقدر على سد مجراه،و منعه من مواصلة طريقه، و يقدر أيضا على تحويل مساره باتجاه آخر..

فكأن الآية تقول:إن مشيئتكم تجري على طبيعتها،إلا أن يشاء اللّه منعها،و تحويلها،أو مصادرتها..

و ربما يناقش في هذه الإجابة بأنها تنافي ظاهر قوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ .. الدال على أن مشيئة اللّه دخيلة في أصل إنتاج مشيئتكم،و أن مشيئتكم لا استقلال لها عن إرادة اللّه تعالى،بل هي مرتبطة و مرهونة بها،و واقعة تحت تأثيرها،في نشوئها على الأقل،إن لم نقل:نشوءا و استمرارا.

فالأولى أن يجاب بأن اللّه سبحانه يفيض الوجود على الإنسان،بكل ما فيه من قدرات،و طاقات،و ملكات و غير ذلك،آنا،فآنا،و لحظة، فلحظة..فيفيض الوجود،و القدرة و الحياة،و غير ذلك من مبادئ الفعل التي تجعل الإنسان قادرا على أن يحرك يده و رجله،و ينطق بلسانه، و يفكر،و..و..الخ..فيختار هو أن يستفيد من هذه الطاقة التي تقع تحت اختياره،أو لا يستفيد..

و هذا نظير ما لو كان هناك مصدر يمدك بالكهرباء،و لك أنت أن تختار الاستفادة منها في التدفئة،أو في الإنارة،أو في تحريك آلة، تمكنك من قتل إنسان،أو غير ذلك،فالمصدر الذي يمدك بالطاقة الكهربائية قادر على قطع المدد عنك في أية لحظة،فيصح أن يقال:لولاه لم يكن عندك نور،و لعجزت عن قتل ذلك الإنسان..و..و..الخ..

كما أنه يصح أن يقال:لو لا مشيئتك و مبادرتك أنت،لم تحصل الإنارة،و لا القتل،و لا غير ذلك..

ص: 259

و لكن من الواضح:أن تصرفك أنت ليس له أي تأثير على من أعطاك الكهرباء،فإنه محسن في جميع الأحوال،و لا يتوجه إليه أي لوم، حتى لو أسأت أنت الاستفادة من الطاقة التي يرسلها إليك..

و هو نظير ما لو أعطاك إنسان مالا،لتستفيد منه في إصلاح شأنك، أو في معالجة مرض ألمّ بك..فإنك قد تصرفه في ما أمرك بصرفه فيه، و قد تعصي أمره فتصرفه في ارتكاب جريمة،أو تحرقه،أو تضيعه..

و في جميع الأحوال،فإن الذي أعطاك؛محسن إليك و ممدوح..و أما أنت فالعقاب و الثواب متوجه إليك تبعا لما تختاره..

و مجرد علم المولى بما سوف يختاره العبد لا يحتم عليه التدخل لمنعه،و لو بقطع المدد عنه..فقد يكون للتدخل سلبياته الكبيرة و الخطيرة،من حيث إن المصلحة العليا تفرض أن يعطيه كامل الحرية في التصرف بألطافه الواصلة إليه..لأن الغاية الكبرى لا تتحقق إلا بذلك.

إن لم نقل:إن هذا التدخل يعد ظلما ينافي مقام الألوهية..

خلق الخير و الشر:

و إذا كان اللّه هو الذي يفيض الوجود على إرادة الفاعل،ثم يكون الفاعل هو الذي يختار أن يعلقها بهذه الحركة أو بتلك،و الفعل هو نتيجة هذه الحركة،فإرادة اللّه لم تتعلق بالفعل مباشرة،سواء أ كان الفعل خيرا، أم شرا،فلا معنى لادعاء أن اللّه يخلق فعل الخير،و لا يخلق الشر..بل الإنسان هو الذي يفعلهما باختياره،و لكن اللّه سبحانه يفيض عليه القوة و القدرة لحظة فلحظة،و هو يوظف هذه القوة و القدرة لإنتاج حركة هنا أو هناك،يطلق عليها:«الفعل».ثم يسمون هذا الفعل بأسماء تناسب حالاته،و ملازماته،مثل:شرب،أكل،تسبيح،صلاة،الخ..

ص: 260

و الخير هو الفعل الذي ينتج كمالات،يحتاج أو يسعى إليها الإنسان،أما الشر فهو الفعل الذي يهدم ما بناه الخير و يتلفه.و ذلك ظاهر لا يخفى.

«إنّ اللّه كان عليما حكيما»:

و يرد هنا سؤال،و هو:أنه تعالى قد عدل عن ضمير الغائب إلى التصريح بلفظ الجلالة،فقال: إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.. مع أن الإتيان بلفظ الجلالة يجعلنا نتوقع أن يأتي بضمير الغائب للإشارة إلى ذاته المقدسة..

و ربما يمكن الإجابة عن ذلك:بأنه أعاد لفظ الجلالة ليفيد أنه تعالى قد بدأ كلاما جديدا،يتضمن قاعدة عامة،يكون هذا المورد أحد منطبقاتها.أي أنه تعالى يريد أن يثبت العليمية و الحكيمية لذاته المقدسة على سبيل الإطلاق،و لا يريد أن يقيدها بمورد و فعل خاص،و هو مورد تأثير المشيئة الإلهية في مشيئة البشر..

فهو يريد أن يقول:إن هذا التأثير مستند إلى صفة العليمية و الحكيمية من حيث هي،و لا يريد أن يقول:إن سبب التأثير هو وجود سنخية خاصة بين هذا المورد و بين هذه الصفات،و ليس ثمة ما يثبت وجود هذه السنخية في سائر الموارد..

فإعادة لفظ الجلالة قد ألغى هذا الاحتمال الأخير،و لفت النظر إلى وجود اقتضاء عام في هذه الصفات،يجعلها قابلة للتأثير في مختلف الموارد.

و لو أنه أتى بالضمير،فقال:«إنه كان عليما حكيما»،فقد يوهم ذلك أن العليمية و الحكيمية معا قد اقتضتهما ربوبيته تعالى..مع أن الحقيقة هي أن العليمية من صفات ذاته،و من شئون ألوهيته تعالى..

أما الحكيمية فهي من شئون ربوبيته سبحانه..

ص: 261

و بذلك يكون قد أكد على التوافق و الانسجام في كلا هذين الأمرين،في مقام التأثير الفعلي في الأشياء،فلا بد من التوجه إليه تعالى على هذا الأساس..

«كان»:

و كلمة«كان»قد جاءت لتبين لنا أن صفتي العليمية،و الحكيمية، ليستا عارضتين على الذات،و قد اقتضاهما فعل بخصوصه.بل هما من الصفات التي لها ثبوت حقيقي للذات،و هي غير مرتبطة في نشوئها و ثبوتها بفعل بعينه،أو بأمر عارض..بل هي ثابتة له تعالى على الحقيقة، قبل ذلك و بعده،لأن ذلك من تجليات صفات ألوهيته تعالى.

و هذا كقوله تعالى: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1)..فإن اللّه سبحانه نور على الإطلاق،قبل السماوات و الأرض،و بعدها..لا أن نوريته قد اقتضتها حاجة لها كامنة في السماوات و الأرض.

«عَلِيماً حَكِيماً»:

و قد جاءت كلمة«عليما»بصيغة المبالغة..و هي مبالغة من جهتين:

إحداهما:جهة الشمول،من حيث كثرة مفردات العلم الحاضرة لديه تعالى،و كثرة موارده.

و الثانية:من حيث إن علمه تعالى دقيق،و عميق،و هو علم حضوري،تكون الحقائق حاضرة لديه تعالى،حضورا حقيقيا فعليا..فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض..

و هذه الدقة و الإحاطة الحقيقية تقتضي التدبير الموافق للحكمة في

********

(1) سورة النور الآية 35.

ص: 262

كل شيء..لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه،و هذا يحتاج- بالإضافة إلى القدرة،و سواها-إلى العلم الدقيق،و العميق،و الشامل، و إلى الحضور التام،بحيث لا يكون أي وجه من وجوه الشيء غائبا عن الواضع و المتصرف.

فتحقّق صفة الحكيمية بتمام معناها،و هي من صفات الفعل،متوقف على صفة العليمية،التي هي من صفات الذات،فاقتضى ذلك تقديم هذه على تلك في هذه الآية الشريفة.حيث لم توجد خصوصية أخرى تقتضي تأخير صفة العليمية،

و في جميع الأحوال نقول:إن المناسبة هنا تقتضي هذا التقديم..فإن الحديث إنما هو عن اتخاذ السبيل إلى اللّه سبحانه،و عن خلق الإنسان، و عما تقتضيه خلقته و مسيرته في الحياة كلها.و عن حقيقة الوجود المتكامل في كل حناياه و خفاياه..و في بدايته و منتهاه.

يضاف إلى ذلك:أن المشيئة الإلهية،إنما تنبثق أولا من موقع الإحاطة،و العليمية،ليكون تأثيرها موافقا للحكيمية..و قد جاءت العليمية و الحكيمية هنا متوافقة مع مقتضيات هذه المشيئة،بصورة واقعية..

فاتضح من جميع ذلك،ضرورة تقدم كلمة عليم،على كلمة حكيم..

و اتضح أيضا:أن هاتين الصفتين هما اللتان يجب التنصيص عليهما، و التذكير بهما..

و أنه لا بد من إطلاقهما،لكي تشملا جميع أحوال النشأة الإنسانية، و مسيرة الخلق و الخليقة كلها.

***

ص: 263

ص: 264

الفصل الحادي و الثلاثون: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً

اشارة

ص: 265

قوله تعالى:

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.

«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ»:

و الآن،حان الوقت لإعطاء النتيجة النهائية الحاسمة لكل هذه المسيرة الإنسانية،من بدء الخلق إلى منتهاه.ألا و هي:دخول المحسن في رحمة اللّه،و دخول المسيء في نقمته سبحانه.

«من يشاء»:

و يرد هنا سؤال،يقول:إنه برغم أن اللّه قد وعد من يتخذ السبيل إلى ربه؛بالجنة و بالنعيم،فإنه تعالى قد علق نيله لهذا النعيم على مشيئته تبارك و تعالى..فكيف ذلك؟و لما ذا؟!..

و نجيب:بأن جميع المخلوقات ملك للّه تعالى،و لا يستحقون مثوبة من مالكهم على طاعاتهم له،و لكن اللّه عزّ و جل قد تفضل عليهم في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه..

مع أن له أن يلغي ذلك متى شاء،و يعاملهم بمقتضى مالكيته لهم،و إن كان لا يفعل ذلك،فإنما لا يفعله لأنه لا يخلف وعده،و لوجود مبررات استمراره و شرائطه،لا لأجل أنه لا يحق له ذلك.و إن كان لا يلغي قدرته عليه،و لا حقّه فيه،لعدم لزوم أي محذور من استعمال هذا الحق،و عدم وجود أي قبح في ذلك الإلغاء،و لا في ذلك الاستعمال للحق..

ص: 266

ص: 267

و لكنه ما دام هذا القرار قائما،فإن العبد يكون مستحقا لتلك المثوبة، تماما كما لو أن أبا وعد ولديه بجائزة للناجح منهما،فالناجح سيرى نفسه مستحقا للجائزة،فإذا حرم منها،فإنه سيرى نفسه مظلوما،فكيف لو أعطيت الجائزة لأخيه الراسب؟!

و لعل هذا هو السبب في أنه تعالى هنا قد علق إدخالهم في رحمته على مشيئته..فإن إعطاء المثوبة إنما هو في ظرف بقاء ذلك القرار الإلهي قائما،فمن اتخذ السبيل إلى ربه،فليس له أن يمن عليه سبحانه، بل اللّه هو المتفضل عليه،و له عليه المنة..

كما أن ذلك يشير:إلى استمرار فتح باب الرحمة لمن أراد الدخول فيه،فلا مجال لليأس من روح اللّه،فإن الطاعة وحدها لا تكفي لإدخال المطيع الجنة لو لا الرحمة الإلهية،و التفضل بجعل ذلك القرار،كما أن المعصية لا تمنع من الرحمة،إذا تاب الإنسان و أناب،فإن القرار يبقى إليه،قال في دعاء أبي حمزة:

«لا الذي أحسن استغنى عن عفوك و رحمتك،و لا الذي أساء و اجترأ عليك،و لم يرضك خرج عن قدرتك»..

و قد يجاب أيضا:بأن المقصود بقوله:«من يشاء»..هو الناس،أي أنهم إذا شاءوا الدخول في الرحمة،فإن اللّه لا يحرمهم من ذلك..

و لكن هذا و إن كان محتملا في نفسه،و لكنه خلاف الظاهر،فإن ضمير الفاعل في قوله تعالى: «أَعَدَّ لَهُمْ » يرجع إليه سبحانه،و هو نفسه ضمير الفاعل الذي استندت إليه كلمة«يشاء»،و لو كان الضمير يرجع للناس،لكان الأنسب أن يقول:«أعدّ»بضم الهمزة،و كسر العين،على صيغة المبني للمفعول..

ص: 268

«فِي رَحْمَتِهِ »:

1-و قد نسب اللّه إدخالهم في رحمته إلى نفسه،ليبين أن عملهم مهما بلغ،فإنه لا يجعل لهم استحقاقا واقعيا أصيلا،بسبب مملوكيتهم التي أشرنا إليها..فإذا تفضل اللّه عليهم،بجعل المثوبة لهم،فإنهم يكتسبون هذا الاستحقاق بذلك التفضل،فالاستحقاق مرتكز إلى ذلك الجعل،و القرار الناشئ عن الحكمة و التفضل الإلهي،و معتمد عليه..

2-و لم تذكر الآية الدخول إلى الجنة،بل ذكرت أنه تعالى يدخلهم في رحمته.

و لعل ذلك لإفهامنا:أن جميع ما ذكر في هذه السورة من خلق، و رزق،و تشريعات،و ذكر،و رعاية،و هدايات،و إفاضات متوالية،ما هو إلا تفضلات و نعم منه تعالى.و أن جعل الجزاء،و إن كان يستتبع استحقاقا بدرجة ما،و لكن تبقى مقادير هذا الجزاء،في دائرة التفضلات الإلهية أيضا،إذ لو أردنا أن نقيس عملنا إلى كل تلك النعم و الفيوضات، فإنه مهما بلغ من الصفاء و الصلاح لا يفي و لو بنفس واحد نتنفسه،فضلا عن أن يتوهم أحد أننا نستحق عليه أي جزاء،فكيف بجنات عدن،التي وعد اللّه بها المتقين.

و ذلك معناه:أن أي عطاء منه لنا إنما هو برحمة منه سبحانه،لا باستحقاق منا له،رغم أنه قد جعل الحسنة بعشر أمثالها،بل جعلها:

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (1) ..

********

(1) سورة البقرة الآية 261.

ص: 269

الدخول في الرحمة الإلهية:

و لسنا بحاجة إلى التذكير:بأن الجنة رحمة إلهية للبشر،لأن الرغبة فيها،و الطلب لها،يدعو الناس إلى فعل الخيرات،و عمل الصالحات، و في ذلك سعادتهم و صلاحهم..

كما أن وجود جهنم أيضا،و الخوف منها يدعو الناس إلى التزام خط الطاعة و الانقياد.و هو سلامة و سعادة لهم أيضا..

و قد قلنا آنفا:إن الإنسان لا يستحق بعمله-من حيث هو-أي شيء،و لا تفي جميع أعماله مهما عظمت بجزء يسير من تفضلات و نعم اللّه و فيوضاته عليه..

بل إنما يستحق ذلك بالجعل الإلهي التفضلي،و لكن أمر هذا الجعل يبقى بيد اللّه تعالى،فيمكن له رفعه،كما أمكن له وضعه..و ذلك حين يوجب استمراره نقضا للغرض،و لا يكون إخلافا للوعد،بل يكون متوافقا مع مقتضيات الرحمة و الإحسان..

و بما أن اللّه هو العليم،و الواقف على حقيقة،و مدى،و عمق ضعف، و نقص،و عجز،و حاجة هذا الإنسان،فإنه بمقتضى رحيميته يبادره برفع نقائصه،و بسد حاجاته،و تقوية ضعفه،و يزيده من فضله،فيعطيه الجنة، فيقصر عن نيل نعيمها،فيزيده من فضله كمالا،و أهلية،و استعدادا لنيل ذلك النعيم..و كل ذلك على أساس الرحمة الغامرة،التي كانت سببا في الفيض،و الحكمة الظاهرة التي هيمنت على المشيئة..

و بما أن الحاجة إلى استمرار هذه المعونة قائمة،فإن الجنة تصبح بمثابة الرحمة له،و هي مستمرة و دائمة..فيدخلها،و يبقى فيها،تفضلا من اللّه تعالى عليه و كرما..

ص: 270

«و الظّالمين»:

قلنا:إن أصل جعل قانون المثوبة و العقوبة،رحمة بالبشر،و إحسان لهم..

و اللافت هنا:أنه تعالى حين أشار إلى العقوبة،أظهر أنه لا مجال لغض النظر عنها،و لا للتساهل فيها..لأنها عقوبة نشأت عن الظلم، و التمرد،و الطغيان،و التعدي على مقام الألوهية..

و السؤال هو:لما ذا جعل اللّه الطرف المقابل لمن يدخلهم في رحمته،هم الظالمون،و لم يجعلهم الكافرين؟!..

الجواب:لعل السبب هو:أن اللّه سبحانه بعد التذكرة لهم لم يترك أمرا،يمكن الاعتذار عن مخالفته و التعدي عليه بالجهل،أو الشبهة،إلا و كشفه،و بيّنه،من خلال الهدايات التي زودهم بها،و بذلك تصبح تعدياتهم ظاهرة في أنها تعديات على حدود الفطرة،و انتهاك لأحكام العقل،و اعتداء على حرمات اللّه،و فعل يسيء إلى مستقبلهم،و إلى أنفسهم،و يؤدي بها إلى المزالق و المهالك..

و بذلك..يكونون ظالمين أقبح الظلم،و أسوأ الطغيان..

و قد يحاول الإنسان أن يتجاهل مقتضيات فطرته،و أحكام عقله، و كل وسائل الهداية،و يحصرها في زاوية،ثم يسدل عليها ستار التناسي..

و لكن بعد إعادة إظهارها،و إزالة العوائق عن مشاهدتها..فإنه لا يعود الوقوع فيها كفرا و سترا،بل هو محض التعدي و الظلم،و البغي..

و التصريح بالظلم و الظالمية إنما هو لأجل التنفير من هذا الأمر، الذي تدرك قبحه كل العقول،و يرفضه كل البشر بفطرتهم،بسبب ما له من سلبيات واقعية..

أما الكفر فقد يرضاه الإنسان لنفسه،تحت ستار من الأقنعة التي

ص: 271

تنسجها له تأويلات و تسويلات شيطانية،تجعله لا يشعر بالقبح و الجريمة،بصورة قوية و ظاهرة..

و لكنه حين يدرك أن كفره و شركه إنما ينطلق من ظلمه،بل هو نفسه أعظم ظلم و أقبحه،فإن النفيرة منه سوف تتأكد لديه،و لدى كل من عداه..

«أَعَدَّ لَهُمْ »:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى بالنسبة للمؤمنين،قال:«يدخل».أما بالنسبة للظالمين،فقال: «أَعَدَّ لَهُمْ » ..

فما هو السبب في هذا التنويع في البيان؟!..

و يمكن أن يجاب بأنه:لعل من فوائد هذا التنويع في البيان أنه أراد أن يطلع من يريد أن يتخذ سبيل الغي و الظلم،على هول ما يقدم عليه، من حيث إنه يستحث خياله لتصور ما أعده سبحانه له من عذاب، فيرتجف له فؤاده،و يخشع قلبه،فإذا أعاد النظر في كلمة«أعد»،فسيجد فيها ما يشير إلى عدم تنجز الأمر،و إلى وجود فسحة يستطيع من خلالها أن يبحث عن المهرب،و المخرج..

تقديم الظالمين لما ذا؟!:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى قدم كلمة:«الظّالمين»في الذكر،حيث قال:

«وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ » و لم يقل:«أعد للظالمين»..

و لعل من فوائد هذا التقديم:أنه يكون بذلك قد نص على أن ظلمهم هو المؤدي بهم إلى هذا العذاب الذين لهم هذا العذاب مرتين، مرة بكلمة الظالمين،و مرة أخرى بالضمير العائد،و هو كلمة«هم»..

بالإضافة إلى أن هذا التقديم فيه إظهار للحرص على مواجهتهم

ص: 272

بذلك العذاب الأليم..و إفهامهم:أن هذا ليس كلاما عابرا،بل هناك مزيد التفات،و قصد أكيد،و اهتمام ظاهر بمواجهتهم به..

و حتى بالنسبة لكلمة«أعد»فإنها تشير إلى أن ثمة مزيد عناية في كيفيات،و وسائل ذلك العذاب،و ليس هو عذاب عشوائي يأتيهم كيفما اتفق..

بل هو عن إعداد،و تهيئة،و قد لوحظ فيه سد جميع الثغرات التي ربما تؤدي إلى بعض التخفيف في بعض الفترات،أو في بعض التقلبات..

«عَذاباً أَلِيماً»:

ثم إنه تعالى لم يقل:«أعد لهم جهنم»مثلا،فإن كلمة«عذاب»زائدا على الأمور الثلاثة التي قدمناها آنفا،تشتمل على إلماحة رابعة إليهم، و تستبطن الإشارة إلى أعيانهم،من حيث إشعارهم بالألم هم أنفسهم..

و كذلك كلمة«الأليم»،التي هي أيضا من صيغ المبالغة التي تفيد شدة ذلك الألم،و كثرة توارده على ذلك المعذب..

و لو أنه تعالى قال:«أعد لهم جهنم»مثلا،أو نارا،فقد لا يلتفت إلى ذلك العذاب و لا إلى شدة ذلك الألم،إلا بعد توسيط وسائط، و استحضار ملازمات ذهنية،قد لا تعطي الإيحاء،و لا تثير الإحساس المباشر و السريع لدى السامع،بأنه هو المستهدف بذلك العذاب،كما هو الحال في كلمتي «عَذاباً أَلِيماً» ..

كما أنه ليس فيها إلماحة رابعة إليه،و لا تشتمل على أي تنصيص جديد عليه.

و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على عباده الذين اصطفى محمد و آله الطاهرين..

***

ص: 273

ص: 274

كلمة أخيرة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين..

و بعد..

فقد كانت تلك نبذة من الكلام حول ظواهر آيات سورة«هل أتى» المباركة..و التي هي سورة«أهل البيت»عليهم الصلاة و السّلام.

و لا بد لنا قبل أن نودع القارئ الكريم من الإعلان الصريح له بأنها محاولة لا تليق بأن تسمى تفسيرا،أو حتى مدخلا لتفسير هذه الآيات الشريفة..كيف!و القرآن بحر عميق لا تفنى عجائبه،و لا تنفذ غرائبه،و لا يشبع منه علماؤه.و ما علماؤه إلا أهل بيت العصمة،الذين اختصهم اللّه تعالى بمعرفة كوامنه و أسراره،و حباهم بالتقلب بسواطع أنواره..

و كل من عداهم لا يعدو أن يكون متطفلا،لا يدرك غاية،إلا بمقدار ما يدركه طفل ساذج،يقف على شاطئ البحر المحيط،ليلقي بنظرة بلهاء كليلة،على طرف ضئيل من مياهه العذبة..

فإنه مهما حاول ذلك الطفل العاجز أن يجهد نفسه،و يثير كوامن فكره،فلن يكون قادرا على إدراك ما لذلك البحر المحيط من مقدار،و لا على استكناه ما يحتضنه من خفايا و أسرار،أو على ما فيه من حقائق، و دقائق،و ما تشتمل عليه أعماقه من غرائب و عجائب..

ص: 275

غير أن الذي جرأني على هذا الأمر هو ثقتي برحمة اللّه سبحانه، و بلطفه و كرمه،و طمعي في أن لا يحرمني من بركات القرآن،فأفوز منه و لو بنسمة واحدة،يزجيها إليّ فواح أريجه،و أسعد بنظرة ساذجة ألقيها على رائع من روائع بهيج نسيجه.و أن ألمح و لو من البعيد البعيد، سبحات نوره الباهر..و أنال من بركات فيضه الغامر فعسى و لعل،أن يكون ذلك سببا في أن تشملني شفاعة أهل القرآن الأطيبين الأطهرين، و هم الزهراء و أبوها،و بعلها و بنوها..

فإنه ليس لي عمل صالح أتكل عليه،سوى حبي لهم،و رجاء شفاعتهم،صلوات اللّه و سلامه عليهم،و رحمة منه و بركات..

و بعد،فليس لي إلا أن أقول لسادتي و موالي-و هم خزان علم اللّه- كما قال إخوة يوسف: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ..

و أما ما آمله من إخواني الأكارم،فهو أن يغضوا طرفهم عما يرونه في هذه الإطالة من خطأ،و سهو،و نسيان،و أن يتحفوني بملاحظاتهم، و أن يصلحوا بآرائهم السديدة،و نظرتهم الرشيدة،ما أفسدته يد القصور أو التقصير..

و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين..

عيثا الجبل(عيثا الزط سابقا)

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

ص: 276

المحتويات

الفصل الثاني عشر

و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا

«و جزاهم »..أم جازاهم؟:8

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية:9

الثواب بالتفضل،أم بالاستحقاق؟:10

استحقاق ناشئ عن التفضل:12

«بما صبروا»:13

الجزاء مقابل الصبر،أم مقابل العمل؟:14

لذة الاستحقاق:15

استطراد..للتوضيح:17

مقارنة بين الجزاء..و بين العمل:22

لما ذا لم يذكر الحور العين؟:23

«جنة »:25

«جنة و حريرا»،لما ذا؟:26

الجنة و الحرير أولا:27

ص: 277

الجنة أولا:28

الفصل الثالث عشر متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا

«متكئين »:31

«فيها»:32

«الأرائك »:32

هل هي لذة الفراغ؟:33

نعيم الأبرار:34

«لا يرون فيها شمسا»:36

«و لا زمهريرا»:37

تعلق النفي بذات،و بصفة!!:38

«لا يرون »:38

«شمسا و لا زمهريرا»:39

اللف و النشر المرتب:39

الفصل الرابع عشر و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا

«و دانية عليهم ظلالها»:43

العطف بالواو:45

«و دانية »:47

«عليهم »:48

ص: 278

مفردات نعيم الجنة:48

تقديم كلمة«عليهم »:49

الضمير في«ظلالها»:50

«و ذللت قطوفها تذليلا»:50

«قطوفها»:51

«تذليلا»:52

الفصل الخامس عشر و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب كانت قواريرا

«و يطاف عليهم »:55

الكماليات،أم الضروريات؟:55

التنوع في النعيم:57

التسلسل الطبيعي:58

شرح الكلمات أولا:58

كلمة«من »نشوية،أم بيانية؟:59

كلمة«كانت »:60

«من فضة »:60

الفصل السادس عشر قواريرا من فضة قدروها تقديرا

«قواريرا من فضة »:65

توضيح و اختصار:67

ص: 279

«قدروها»:68

الضمير في«قدروها»:68

التقدير:69

تنوع الملذات:70

الفصل السابع عشر و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا

«و يسقون »:لما ذا الواو؟!73

«يسقون »:73

«فيها»:74

«كأسا»:74

لما ذا التعدية المباشرة:74

بين«يسقون »،و«يشربون »:75

«كان »:76

«مزاجها»:76

«زنجبيلا»:77

مواصفات الزنجبيل:77

خصوصيات في الزنجبيل:78

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة:78

أسئلة تحتاج إلى أجوبة:79

زنجبيل الدنيا..و الآخرة:80

ص: 280

بين«الكافور»و«الزنجبيل »:80

الفصل الثامن عشر عينا فيها تسمى سلسبيلا

«عينا»:85

«فيها»:86

«تسمى سلسبيلا»:86

لما ذا هذه التفاصيل و الدقائق؟:88

وصف نعيم الجنة:89

خصوصية البيان القرآني:90

الفصل التاسع عشر و يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا

«و يطوف عليهم »:97

«ولدان »لا غلمان:99

«ولدان »أو أشخاص؟:99

«ولدان »جمع وليد:99

الطائفة الأولى:101

الطائفة الثانية:102

الطائفة الثالثة:105

الطائفة الرابعة:105

الطائفة الخامسة:107

ص: 281

التكليف في دار الجزاء:109

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟!:111

التصرف في المكان:112

التصرف في الزمان:117

خلاصة لأجل التوطئة:118

سؤال تقف وراءه أسئلة:119

السؤال عن حكم:119

للغة تأثيرها القوي:123

«مخلدون »:124

«إذا رأيتهم »:125

«إذا رأيتهم حسبتهم »:126

«لؤلؤا»:127

«منثورا»:128

اللؤلؤ المكنون..أم المنثور؟!129

الفصل العشرون و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا

«و إذا رأيت »:133

«رأيت »،من جديد:133

1-الخطاب للمفرد:134

2-الرؤية و المعاينة:134

ص: 282

3-إطلاق الرؤية:«رأيت ثم »:135

«ثم »:136

لما ذا«رأيت »من جديد؟!:136

«نعيما»:137

«نعيما و ملكا»:137

«كبيرا»:139

تنوين التنكير:139

الفصل الحادي و العشرون عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق و حلوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا

«عاليهم ثياب سندس »:143

القيمة الواقعية،و القيمة الاعتبارية:144

الاعتبار على نحوين:145

لما ذا قال:«عاليهم »؟!:150

«ثياب سندس خضر و إستبرق »:154

النعيم الجسدي..من خلال الرضا الإلهي:155

«خضر»:155

«و حلوا أساور من فضة »:156

«من فضة »:158

لما ذا خصوص الأساور؟!:160

ص: 283

هل الزينة خاصة بالنساء؟:160

من الذي يحلّيهم بالأساور؟:161

«و سقاهم ربهم »:161

الشراب الطهور:162

الفصل الثاني و العشرون إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا «إن هذا كان لكم جزاء»:167

«لكم جزاء»:168

الخطاب للأبرار:169

«جزاء»:169

«و كان سعيكم مشكورا»:170

«سعيكم »:170

«مشكورا»:171

الفصل الثالث و العشرون إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا

وسائل الهداية الإلهية:175

«إنا نحن »:176

«عليك »:177

«نزلنا»:177

لم يقل:أنزلنا:182

ص: 284

«نزلنا عليك القرآن تنزيلا»:187

الفصل الرابع و العشرون فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما أو كفورا

«فاصبر لحكم ربك »:191

«ربك »:192

«و لا تطع منهم آثما أو كفورا»:193

«و لا تطع منهم آثما أو كفورا»:195

صبر الرسول..و نعيم الأبرار في الجنة:199

كلمة:«منهم »لما ذا؟!:199

هل هذا استطراد؟:200

الفصل الخامس و العشرون

و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا201

«و اذكر اسم ربك »:203

«و اذكر اسم ربك »:205

لما ذا اسم اللّه؟!:206

«ربك »:207

«بكرة و أصيلا»:207

1-الوقت ليس مجرّد وعاء:207

2-ما المراد بالبكرة و الأصيل؟:208

3-التّنصيص على البكرة و الأصيل:209

ص: 285

استغراق الوقت في العبادة:211

الفصل السادس و العشرون و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا

«و من الليل »:215

«فاسجد له »:218

«و سبحه »:219

«ليلا طويلا»:220

الفصل السابع و العشرون إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا

«إن هؤلاء»:223

«هؤلاء»:224

«يحبون العاجلة »:225

لما ذا لم يأت بلام التعليل؟:225

الاقتصار على العاجلة:226

«و يذرون وراءهم يوما ثقيلا»:227

«و يذرون »:228

«وراءهم »:228

«وراءهم »لما ذا؟!229

«يوما»:229

«ثقيلا»:230

ص: 286

الفصل الثامن و العشرون نحن خلقناهم و شددنا أسرهم و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا

«نحن خلقناهم »:233

«و شددنا أسرهم »:234

«و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا»:235

الأسر الإلهي:236

«و إذا»:237

«بدلنا أمثالهم »:237

«بدلنا»:237

«أمثالهم »:239

«تبديلا»:240

الفصل التاسع و العشرون إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا

«إن هذه تذكرة »:243

التذكير،بما ذا؟!:244

«فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا»:245

«فمن »:246

الفصل الثلاثون و ما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما

«و ما تشاءون »:255

ص: 287

جبرية المشيئة:256

خلق الخير و الشر:260

«إن الله كان عليما حكيما»:261

«كان »:262

«عليما حكيما»:262

الفصل الحادي و الثلاثون يدخل من يشاء في رحمته و الظالمين أعد لهم عذابا أليما

«يدخل من يشاء»:267

«من يشاء»:267

«في رحمته »:269

الدخول في الرحمة الإلهية:270

«و الظالمين »:271

«أعد لهم »:272

تقديم الظالمين لما ذا؟!:272

«عذابا أليما»:273

كلمة أخيرة:275

المحتويات 277

ص: 288

كتب مطبوعة للمؤلف

1-الآداب الطبية في الإسلام

2-ابن عباس و أموال البصرة

3-ابن عربي سني متعصب

4-إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم

5-الإسلام و مبدأ المقابلة بالمثل

6-أكذوبتان حول الشريف الرضي

7-أ فلا تذكرون«حوارات في الدين و العقيدة»

8-أهل البيت عليهم السّلام في آية التطهير(الطبعة الثانية مزيدة و منقحة)

9-براءة آدم عليه السّلام حقيقة قرآنية

10-بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله أم ربائبه

11-بيان الأئمة و خطبة البيان في الميزان

12-تفسير سورة الفاتحة

13-تفسير سورة الكوثر

14-تفسير سورة الماعون

15-تفسير سورة الناس

ص: 289

16-تفسير سورة«هل أتى»2/1

17-حديث الإفك

18-حقائق هامة حول القرآن الكريم

19-الحياة السياسية للإمام الجواد عليه السّلام

20-الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السّلام

21-الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السّلام

22-خلفيات كتاب مأساة الزهراء عليها السّلام 6/1

23-دراسات و بحوث في التاريخ و الإسلام 4/1

24-دراسة في علامات الظهور و الجزيرة الخضراء

25-دراسة في علامات الظهور

26-زواج المتعة(تحقيق و دراسة)3/1

27-الزواج المؤقت في الإسلام(المتعة)

28-سلمان الفارسي في مواجهة التحدي

29-سنابل المجد(قصيدة إلى روح الإمام الخميني رحمه اللّه)

30-السوق في ظل الدولة الإسلامية

31-الشهادة الثالثة في الأذان و الإقامة

32-الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله 12/1

33-صراع الحرية في عصر الشيخ المفيد رحمه اللّه

34-ظاهرة القارونية من أين و إلى أين؟

35-ظلامة أم كلثوم

ص: 290

36-علي عليه السّلام و الخوارج 2/1

37-الغدير و المعارضون

38-القول الصائب في إثبات الربائب

39-كربلاء فوق الشبهات

40-لست بفوق أن أخطئ من كلام علي عليه السّلام

41-لما ذا كتاب مأساة الزهراء عليها السّلام

42-مأساة الزهراء عليها السّلام شبهات و ردود 2/1

43-ما ذا عن الجزيرة الخضراء و مثلث برمودا؟!

44-مختصر مفيد..6/1

45-مراسم عاشوراء«شبهات و ردود»

46-المدخل لدراسة السيرة النبوية المباركة

47-المسجد الأقصى أين؟

48-مقالات و دراسات

49-منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية

50-المواسم و المراسم

51-موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الإسلام

52-موقف علي عليه السّلام في الحديبية

53-نقش الخواتيم لدى الأئمة عليهم السّلام

54-الولاية التشريعية

ص: 291

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.