اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ
تصدر عن مركز الدراسات التخصصية
في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف
قسم الشؤون الفكرية
العتبة الحسينية
العدد الخامس
السنة الثانیة(1435ه_.2013م)
ص: 1
ص: 2
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ
الهَیئَة الاستشَارِیَّة
آیة الله السید عادل العلوي***العلامة المحقق السید ریاض الحکیم
آیة الله الشیخ محمد السن__د***العلامةالدکتور الشیخ محمدباقر المقدسي
آیة الله الشیخ مهدي الآصفي***العلامة المحقق السیدمحمد صادق الخرسان
آیة الله السید منیر الخب__از***العلامة الشیخ عبد المهدي الکربلائي
ص: 3
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
تصدر عن مركز الدراسات التخصصية
في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف-قم المقدسة
قسم الشؤون الفكرية
العتبة الحسينية المقدسة
رئيس التحرير ................*
الشيخ قيصر التميمي
مدير التحرير................*
الشيخ صباح عباس الساعدي
هيئة التحرير................*
د. السيد حاتم البخاتي
الشيخ مشتاق الساعدي
الشيخ رافد عساف التميمي
المقابلة وتقويم النص..........*
الشيخ عدنان الطائي
الشيخ عصام السعيد
الشيخ مصطفى الدالي
التصميم....................*
عبد الزهرة الطائي
الإشراف العام: ................*
سماحة الشيخ علي الفتلاوي
إدارة المركز: ...................*
الشيخ باقر الساعدي
معاونية المركز: ................*
الشيخ عباس الحمداوي
الإخراج الفني.................*
السید علي الهاشمي
رقم الإیداع فط دارالکتب و الوثائق ببغداد (1924) لسنة 2013م
الترقیم الدولي ISSN:978-964-984-240-7
ص: 4
مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.
تهتمّ المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.
كما تهتمّ المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.
فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.
ص: 5
١ _ إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.
٢ _ نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.
٣ _ إحياء التراث الديني والحسيني.
٤ _ فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.
٥ _ الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.
٦_ استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.
٧ _ فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.
٨ _ التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.
ص: 6
تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:
أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.
ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.
أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.
أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.
أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداً.
حقوق النشر محفوظة.
الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.
لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.
يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.
إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.
للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.
كل ٢٥٠ كلمة تحسب صفحة واحدة.
المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.
تعتبر الأولويّة في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.
المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن ١٥ صفحة أو يزيد عن ٣٠ صفحة.
ص: 7
* النجف الأشرف:شارع الرسول صلی الله علیه و آله- مکتبة دار الهلال.
*النجف الأشرف : قرب مشروع الماء- مکتبة العراق الجدید.
*النجف الأشرف: سوق الحویش- دار الغدیر.
* كربلاء المقدسة:المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.
* البصرة: العشار- مكتبة الإمام الهادي عَلیه السَلام .
* إيران : قم المقدسة-صفائية- سوق الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف - مكتبة فدك.
* إيران : قم المقدسة-سوق كذرخان- مكتبة الهاشمي.
ص: 8
مقال التحرير
مجلة الإصلاح الحسيني في عامها الثاني
الشيخ قيصر التميمي...13
دراسات في آفاق النهضة الحسينية
توسعة حريم الزيارة زماناً ومكاناً
آية الله الشيخ محمد السند ...23
المباني القرآنية لنهضة عاشوراء
د. محمد علي رضائي الأصفهاني...39
ثورة الإصلاح وظروف المجتمع الإسلامي
د. حكمت الرحمة...57
منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها
القسم الأول (الاستحواذ الأموي على السلطة)
السيد محمد الشوكي...89
النهضة الحسينية والعناصر الحيويّة للإبداع والتأثير في الأمّة
السيد نعمة جابر آل نور...109
ص: 9
دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية
نجوم في سماء الحسين علیه السلام
زهير بن القين.. انعطافة نحو المجد
د.السيد حاتم البخاتي...135
مقتل أبي مخنف الأزدي الكوفي
أشهر المقاتل الحسينية
الشيخ عامر الجابري...157
دراسات في فقه النهضة الحسينية
أفضل البقاع/ القسم الثاني
الشيخ اسكندر الجعفري...193
تعظيم الشعائر الحسينية تعظيم لحرمات الله تعالى
أ. م. مياسة مهدي شبع ...227
مشي النساء إلى كربلاء
قراءة في الأدلة والنصوص الشرعية
الشيخ مشتاق طالب ...249
دراسات دينية
ضرورة التجديد في منهجة علم الأُصول
الشيخ رافد التميمي ...281
المعاد في الرؤية القرآنية
السيد محمد الشجاعي / ترجمة: الشيخ فضيل الجزائري ...305
الجهل المركب.. الداء العضال
الشيخ محمد الكروي القيسي ...335
ص: 10
مَجَلّةُ الإصلَاحِ الحُسَينيّ في عَامِهَا الثَاني
ص: 11
ص: 12
الشيخ قيصر التميمي
تُضيء مجلة الإصلاح الحسيني شمعتها الثانية بعد أن قطعت شوطاً من التميّز والتألق في سنتها الأُولى، وقد خاضت هذه المجلة المباركة تجربة موفقة وناجحة بكل المعايير وفي جميع الأصعدة؛ فمثّلت مسيرة مولود بسنة واحدة يتطاول المجد، ينمو ويكبر متخطّياً أقرانه، وقد اجتمع لدى أُسرة المجلة استطلاع واسع للرأي في الأوساط العلمية والثقافية، يتجلّى منه بوضوح شهادة النجاح والتفوّق والامتياز، وهي شهادة اعتزاز ووسام فخر صاغته أقوال العلماء والأساتذة والمفكرين والباحثين في امتداح المجلة قالباً ومضموناً؛ ما أعطى القائمين عليها دافعاً وزخماً كبيراً وإصراراً على الاستمرار ومواصلة المسير.
وقد ارتكزت أسرار النجاح على أركان وأسس رصينة ومحكمة، كان أهمها انتساب المجلة إلى الإمام الحسين علیه السلام ؛ فاكتسبت من عظمته سرّ نجاحها، وتلقّت المجلة أيضاً دعماً كبيراً من القائمين على الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدّسة، والحقّ يقال: إننا وجدنا الأمين العام (حفظه الله) يحمل آفاقاً واسعة ورؤية مستقبلية وهمّاً كبيراً في مجال بناء وتوسعة وتطوير الجوانب العلمية التخصصية والفكرية بصورة عامة، فكان إلى جانبنا ومعنا دائماً في خُطى التقدّم والإبداع، يشدّ على أيدينا ويشجعنا برعاية أبوية على السير قُدماً، وهذا ما لمسناه أيضاً من المشرف العام على المجلّة رئيس قسم الشؤون الفكرية والثقافية (حفظه الله)، وكذا لا ننسى التعاون المتميّز والدعم
ص: 13
المتواصل معنا من قبل الكوادر الأُخرى في الروضة المقدّسة.
وهكذا اعتمدت المجلّة في نجاحها على كادرها وأعضائها، فتوفّرت _ بتوفيق الله ومنّه _ على ثلّة طيبة ومؤمنة من النُّخب والفضلاء والأساتذة في الحوزة العلمية المباركة، من النجف الأشرف وقم المقدّسة، وكذا من الأوساط الأكاديمية العلمية والمهنيّة، فحملوا على عاتقهم مبادئ المشروع وأهدافه وهمومه وسبل إنجاحه وتطويره، فشدّوا الهمّة والعزم للعمل في هذا السبيل، وكان الإصلاح الحسيني رائد مسيرتهم، فتحركوا بجدّ واجتهاد ومثابرة وعمل دائم ودؤوب؛ فأثمرت جهودهم الكريمة هذا النتاج المبارك الماثل بين يديك عزيزي القارئ.
وهنا ينبغي أن نقف وقفة إجلال واحترام وتكريم للعلماء والأساتذة والباحثين الذين تشكّلت من أبحاثهم ودراساتهم القيّمة هذه المجلة المباركة، وقد شهد بفضل كتاباتهم وبحوثهم التخصّصية الوسط العلمي بكافة مستوياته واختصاصاته الحوزويّة والأكاديميّة والثقافية، ونحن نشعر بقصور كلمات المدح والثناء أمام فضلهم ومساهماتهم الجادّة في بناء المكوّن العلمي والتخصّصي للمجلّة، فلله درّهم وعلى الله أجرهم.
وبما أن النتاجات العلميّة والفكرية التخصصيّة بمعناها الحقيقي والواقعي تجذب وتستهوي العلماء والمحقّقين والباحثين، وتشغل حيّزاً واسعاً في دائرة همومهم واهتماماتهم، وتجعلهم يتابعون ويتطلّعون وبشغف لكل ما هو جديد في هذا المجال، وجدنا الحفاوة الكبيرة والترحاب الواسع _ في تلك الأوساط المختصّة _ بمجلّة الإصلاح الحسيني، وقد أدرجوها في قائمة تطلعاتهم واهتمامهم وشغفهم بالأُمور العلميّة؛ حيث انعكس ذلك علينا من المتابعة المتواصلة والأسئلة الكثيرة الواردة إلينا عن كل عدد حينما يقترب فصل صدوره.
وبهذه الذكرى الكريمة نجد من المناسب أن نستعرض _ وبنحو الإيجاز والاختصار الشديد _ أهم الأدوار والمراحل التي ارتقتها المجلّة في سنتها الماضية:
ص: 14
١_ تكوين وإنشاء كادر علمي متخصّص ومهني، يحمل خبرة واسعة وباعاً طويلاً في مجال الكتابة والتأليف والتحقيق وإصدار النتاجات العلمية التخصصيّة.
٢_ قراءة ومطالعة النظام العالمي للدوريات والمجلات التخصصيّة، ومتابعة الإصدارات المهمّة وذات الحضور الفاعل في هذا المجال، وتكوين فكرة ناضجة لتأسيس المجلّة وبناء صرحها، ورصد سُبل تطويرها والرقي بها إلى أعلى المستويات وأرفعها.
٣_ تنظيم وتنسيق القضايا الرسمية والأُمور الإداريّة المرتبطة بطبيعة العمل في الدوريات والمنشورات العلميّة المتخصصّة.
٤_ التواصل المستمر مع العلماء والفضلاء والكتّاب والباحثين وذوي الأقلام الرائدة؛ للتنسيق معهم واستكتابهم واستقطاب أبحاثهم ودراساتهم القيّمة فيما يرتبط بمجال اختصاص المجلّة، وكانت الخطوات في هذا المجال نوعية وناجحة بكل المقاييس.
٥_ الانفتاح الواسع على الحوزة العلمية في النجف الأشرف بعلمائها وأساتذتها ومفكريها، وكذا الحوزات العلمية الأُخرى داخل العراق وخارجه، وخصوصاً الحوزة العلمية في قم المقدسة، وقد ظهرت نتائج هذا الانفتاح في مستوى ومحتوى البناء العلمي المتميّز للأبحاث والمقالات والدراسات التخصصيّة.
٦_ الانفتاح الواسع على الوسط الجامعي والأكاديمي بصورة عامّة؛ للإفادة من بحوث ودراسات وأفكار الأساتذة الكرام.
٧_ عقد الندوات والملتقيات العلمية لدعم الجانب العلمي والإعلامي للمجلّة.
٨_ التنسيق مع العلماء والأساتذة للعمل على إجراء اللقاءات والحواريات في المواضيع الحسينية المهمّة والمؤثرة في الواقع العلمي والاجتماعي.
٩_ ترجمة التراث غير العربي المرتبط بالنهضة الحسينية المباركة والفكر الديني بصورة عامة.
١٠_ الاهتمام بالجانب الإعلامي للمجلّة.
ص: 15
١١_ توخّي الكفاءة العالية في الأُمور الفنية والتقنيّة من جهة التصميم والإخراج والطباعة والنشر والتوزيع.
١٢_ متابعة النشر في مراكز التوزيع المهمّة والمعروفة بشكل ممنهج ومنظّم ودوري.
قام كادر المجلة بجولة واسعة النطاق لزيارة علمائنا الأعلام ومراجعنا العظام والأساتذة الكرام في النجف الأشرف وقم المقدّسة، تبرّكاً بمحضرهم الشريف، وبغية الاستفادة من إرشاداتهم وأفكارهم وملاحظاتهم القيّمة التي تنهض بالمجلّة إلى أعلى مستويات الرقي والكمال؛ فاستقبل العلماء الأعلام مشروع المجلّة بترحاب كبير وحفاوة منقطعة النظير، وتوسّموا بهذا المشروع وكادره خيراً، وأبدوا إعجابهم بالمجلّة ومواضيعها وحلّتها القشيبة والأنيقة، وأكدوا بعد ملاحظة المجلّة على قدرتها في سدّ فراغ يرون ضرورة تغطيته في الحوزة العلمية بهذه الأعمال التخصصية النوعيّة، وما هذا كلّه إلا من لطفهم وحسن ظنهم ورعايتهم الأبوية للمشروع.
نسعى لإحداث نُقلة نوعية للتجديد والتطوير في عمل المجلة وتوسعة نتاجها العلمي التخصصي في عامها الجديد، ونشير فيما يأتي بنحو الإجمال إلى أهم معالم التطوير:
تعمّدنا أن نجعل السنة الأُولى للمجلّة سنة تجريبية، وكان الهدف من ذلك إثبات الوجود واستشراف النجاح واستقطاب قناعات العلماء والأستاذة بذلك الوجود المبارك والنجاح المتألق للمشروع، ونشكر الله تبارك وتعالى على نجاح مسيرة هذه السنة التجريبية بلطفه ومنّه وكرمه، بعد ذلك تحرّكنا بشكل واسع وسعي حثيث
ص: 16
لاختيار أعضاء الهيئة الاستشارية للمجلة، وحرصنا على أن تأتلف وتتكوّن هذه الهيئة العلمية المباركة من كبار العلماء والأساتذة، وبعد التحرك والتنسيق مع العلماء والأساتذة وطرح الفكرة عليهم أبدوا _ مشكورين _ قبولهم وترحيبهم بذلك، واستعدادهم للتعاون والدعم؛ خدمةً منهم لسيد الشهداء علیه السلام ونهضته المباركة. وأحببنا أن تتزين هذه الصفحات بأسمائهم الشريفة، وهي بالنحو التالي:
آي__ة الله السي__د ع__ادل العلوي***العلامة المحقق السيد رياض الحكيم
آي__ة الله الشيخ محم__د السن__د***العلامة الدكتور الشيخ محمد باقر المقدسي
آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي***العلامة المحقق السيد محمد صادق الخرسان
آية الله السي___د مني__ر الخب__از***العلامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي
نسعى وبشكل جادّ ومتواصل ومدروس للعمل بطريقة وأُسلوب المحاور الموضوعية والعنوان الموحّد لكل عدد من أعداد هذه المجلة المباركة، ولكن الذي استوقفنا وتطلّب منّا تأجيل العمل بهذا الأُسلوب المتعارف إلى حين كتابة هذه السطور، هو طبيعة العمل والبحث والكتابة في محور وموضوع واحد لكل عدد، حيث يتطلّب وضع فهرسة ومحتويات متناسبة ومتناغمة، تعالج موضوعاً مهمّاً وموحّداً، ثم توجيه وتحريك سير العمل وآلياته بهذا الاتجاه، واستقبال الكتابات والبحوث والمقالات في الإطار ذاته؛ ما يستتبع التنسيق المسبق مع العلماء والكتّاب والباحثين للمشاركة في هذا النوع من العمل، واختيار موضوع المحور بحسب الأولوية والأهمية، وكذا تحديد العناوين المختصّة التي تعطي للموضوع استحقاقه العلمي المناسب، وقد وضعنا لهذا العمل آلياته الخاصّة وسبل إنجاحه وتطويره بما يخدم تطلّعات وأهداف المجلّة، وكان من تلك الآليات والسبل هو توسعة الكادر
ص: 17
العلمي والفنّي، والتواصل مع العلماء من أعضاء الهيئة الاستشارية، والعمل على تكوين أُسرة واسعة للمجلّة تضمّ مجموعة من فضلاء الأساتذة وخيرة المفكرين والباحثين، وإقامة المؤتمرات والندوات والملتقيات والحواريّات العلمية التي تُغذّي الجوانب الموضوعية المتنوعة في الأعداد المتوالية للمجلّة.
تعدّ هذ الخطوة من المراحل المهمّة التي تعتزم المجلة اعتمادها في تطوير وتنمية نتاجها الفكري، بما يتناسب مع الواقع ومرحلة المعادلات والظروف المعقّدة التي نعيشها هذه الأيام، والخطوة عبارة عن بناء وتكوين أُسرة علمية متخصّصة، لها الخبرة والتجربة الواسعة في مجال الكتابة والتأليف وتدوين البحوث العلميّة، وقد بدأنا منذ فترة وجيزة بالتحرك في هذا الإطار، وقمنا بتداول الفكرة مع النُّخب من الأساتذة والمفكرين والباحثين، فاستقبلوها بالمباركة والترحيب، وقد استفدنا من مقترحاتهم وملاحظاتهم الشيء الكثير لتهذيبها وترشيدها بما يُسهم في تكامل المجلّة ورقيّها، والشكر لهم متواصل على قبولهم الانضمام لهذه الأُسرة المباركة، وقد تشكّلت من أسمائهم الكريمة باقة عطرة نأمل أن تُساهم في إعطاء مجلّتنا نُقلة نوعيّة في كافّة الأبعاد والمستويات، وسوف تبقى هذه الأُسرة مفتوحة على الأسماء الجديدة والشخصيات المؤثرة والمفيدة في المجالات التخصصيّة للمجلّة.
ونستعرض فيما يلي أهم وأبرز الأدوار والمساهمات العلميّة التي نطمح ونتمنّى أن يُشاركنا أعضاء هذه الأُسرة الكريمة في تفعيلها وإنجازها للأعداد المقبلة للمجلّة:
١_ المشاركة في دراسة واختيار وتحديد المحاور الموضوعية وعناوينها المناسبة لكل عدد من أعداد المجلّة.
٢_ المشاركة بالكتابة وتقديم الدراسات والبحوث في إطار ودائرة المحور لكل عدد في حال احتياج المجلّة لذلك.
٣ _ يتم التنسيق مع الباحث والكاتب في اختيار البحث والدراسة بما يتناسب مع
ص: 18
احتياج المجلّة في إطار محورها الموضوعي المحدّد.
٤_ المشاركة في المؤتمرات الفكرية والندوات والملتقيات العلمية التي تُقام دوريّاً للدعم العلمي للمجلّة.
وهناك مجموعة من الخصائص والاعتبارات التي يتميّز بها أعضاء أُسرة المجلّة عن غيرهم؛ من جهة حفظ حقوقهم المعنويّة والمادّية، أهمّها:
أ) التنسيق مع الجهات المعنية في العتبة الحسينية المقدّسة لغرض جعل أعضاء الأُسرة من ضيوفها الدائمين.
ب) تكون لبحوثهم ومقالاتهم ودراساتهم الأولوية في النشر على سائر المقالات الأُخرى.
ج) تخصيص مكافآت مالية يتميّز بها أعضاء أُسرة المجلّة عن سائر الكتّاب والباحثين.
من المشاريع المهمّة التي نسعى لإنجازها وتفعيلها في الأوساط العلميّة لدعم المحتوى التخصصّي للمجلّة، هو العمل على إقامة المؤتمرات الفكريّة، وعقد الندوات والملتقيات العلمية فيما يرتبط بالنهضة الحسينية المباركة؛ كي نستقي من فيض عطائها المقالات والبحوث والدراسات التخصصيّة؛ وفي هذا الضوء نطمح إلى أن يكون لها الحضور المتميّز في كلّ فصل وعدد من الأعداد، وقد كان من أهم الدواعي والأسباب للتفكير في إنشاء هذا المشروع هو أن طيفاً واسعاً من العلماء والمفكرين لا يمتلك الفرصة لتخصيص جانب من وقته الثمين للكتابة والتأليف في محاور المجلّة وعناوينها؛ فحاولنا أن نفتح بذلك نافذة للإطلال على أفكارهم القيّمة واستشراف إبداعاتهم في مجال اختصاصنا، وسوف نعمل جادّين في إطار كتابة وتدوين تلك الأفكار والإبداعات، ونشرها في سياق المحور والموضوع الذي يناسبها؛ ونكون بذلك قد ساهمنا في نشر الفكر، ورفد المجلّة بالأبحاث الثمينة والقيّمة والمبتكرة.
ص: 19
يُعدّ العمل الإعلامي وبذل الجهد في بناء الروابط والعلاقات العامة من أهم أُسس النجاح والتقدّم في كل مشروع، ويتعزّز ذلك ويتأكّد بشكل أكبر وأوسع في المشاريع الفكريّة والعلمية؛ حيث يرتكز الثراء الفكري والعلمي على مدّ جسور العلاقة والصداقة مع المراكز والدوائر والمؤسسات والجهات العلمية التي تحتضن الكفاءات والنُّخب من الأساتذة والمفكرين والباحثين، وذلك عن طريق تبادل الزيارات والخبرات والنتاجات العلميّة؛ ما يفتح الآفاق الواسعة أمام الحركة الفكرية والنتاج العلمي وبشكل نوعي ومتميّز، وسيراً بهذا الاتجاه _ وبعد الإلحاح والمطالبة المتكررة والحثيثة من متابعي ومحبّي وقرّاء المجلة الكرام _ بدأنا بالعمل على تأسيس شبكة ومنظومة واسعة لتغذية الجانب الإعلامي، وتوسيع العلاقات والروابط العلمية وتفعيل دور التنسيق العام مع كافة المراكز والجهات ذات الصلة، حيث قمنا بمفاتحة مجموعة من الأساتذة والباحثين للانضمام إلى كادر مجلة الإصلاح الحسيني والعمل في إطار التنسيق والعلاقات العامة، وقد أبدوا _ مشكورين _ استعدادهم للقيام بهذه المهمّة والالتحاق بالركب الحسيني المبارك.
ونحن حاولنا قدر المستطاع أن نوسع من رقعة ومساحة هذه الدائرة المهمّة لتشمل أغلب الجامعات والمدارس والمؤسسات والمراكز والمعاهد العلمية؛ تعميماً للفائدة وتكريساً للانفتاح الأوسع على النتاجات العلميّة.
وأخيراً نحمد الله تعالى على فضله وكرمه ولطفه وحسن توفيقه، ونسأله تعالى العون والتسديد والتأييد المتواصل لاستمرار هذا النتاج العلمي، كما نسأله أيضاً أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعل فيه النفع والفائدة لمجتمعاتنا الإنسانيّة والإسلامية بصورة عامّة، وأن يُثبّت به قلوب المؤمنين على طريق الهداية والطاعة والإيمان، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
ص: 20
*توسعة حريم الزيارة زماناً ومكاناً
*المباني القرآنية لنهضة عاشوراء
*ثورة الإصلاح وظروف المجتمع الإسلامي
*منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها
القسم الأول (الاستحواذ الأموي على السلطة)
*النهضة الحسينية
والعناصر الحيويّة للإبداع والتأثير في الأمّة
ص: 21
ص: 22
قد تكرّر إبداء التساؤل عن وجه توسعة زيارة الأربعين قبل يوم الأربعين من أيام صفر، لا سيما منذ بداية اليوم الأوّل منه، مع أنّ الزيارة في ظاهر الروايات والأدلّة واردة في خصوص يوم الأربعين، وكذلك الحال بالنسبة إلى الزيارة الشعبانية؛ فإنّ هناك الجمّ الغفير من المؤمنين يأتون بها قبل النصف من شعبان _ بسبب كثرة الزحام أو الانشغالات _ ولكن بعنوان زيارة النصف من شعبان، فكيف يُوجّه ذلك؟
وكذلك يُطرح تساؤل آخر عن وجه توسعة هذه الزيارات المليونيّة من جهة المكان؛ فإنّ الحجم الكبير والواسع من الزوار يصل في زيارته إلى مشارف وضواحي كربلاء المقدّسة؛ فيؤدّي مراسم الزيارة عند تلك المشارف ويرجع إلى بلده؛ لشدّة الزحام أو لخوف الازدحام، وقد يقترب بعضهم من الأحياء القريبة من الحرم الشريف، فيزور حيث يشاهد القبّة الشريفة ويرجع، ويكتفي البعض الآخر بالزيارة من الشوارع المحيطة بالحرم الشريف ويعود إلى أهله، فهل تتّسع الزيارة مكاناً إلى هذه المسافات الجغرافية، بحيث يصدق على هذا الزائر بأنّه قد زار سيّد الشهداء في الأربعين، أو في النصف من شعبان، أو أنّه لا بُدّ من دخوله الحرم الشريف؟
ولمعرفة حقيقة الحال والحكم في مورد السؤال لا بُدّ من تقديم مقدّمة:
ص: 23
قد ثبت لجملة من المناسبات الشرعية موسم زماني غير مضيّق بخصوص يوم المناسبة الشرعية والميقات الزماني لها، ويُعبّر عن التوسعة في توقيت المناسبة الشرعية بالحريم الزماني، سواء السابق على توقيته الشرعي بقليل _ بحسب الحاجة _ أو المتأخّر عنه، بل قد تقرّر ذلك نصّاً وفتوى في الميقات المكاني والبقاع المكانية الشريفة؛ حيث رُسم لها ما هو أوسع من المحدود المكاني الخاص بها، ولنأخذ في تعداد أمثلة التوسعة الزمانية كحريم للمناسبة الزمانية، ثمّ تقرير الضابطة الكلّية في التوسعة الزمانية الدينيّة كحريم لميقات المناسبة الزمانية.
وإليك جملة من الوجوه التي يمكن أن يُستدلّ بها في المقام:
يندرج تحت هذ الوجه جملة من الأقسام والأمثلة لتوسعة الشريعة للميقات الزماني في المراسيم الشرعية وهي متوزعة على مختلف الأبواب الفقهية، نشير فيما يأتي لأهمها:
تُلاحظ أمثلة هذا القسم في الأبواب الفقهية المختلفة، نقتصر على ذكر بعضها:
وفي هذا الباب أمثلة كثيرة، نذكر أهمّها:
فأنّه قد توسّع الشارع الأقدس في الوقوف بعرفة إلى الوقوف ليلاً لمن لم يدرك نهار عرفة، بل أفتى جملة من الفقهاء بإجزاء الوقوف الظاهري مع العامّة _ مع أنّه قد يكون في الواقع يوم الثامن من ذي الحجّة _ من باب التوسعة الزمانية، ومن ثَمّ اكتفى
ص: 24
جملة من الفقهاء بالوقوف مع العامّة حتى مع القطع بالخلاف.
واستدلّوا على ذلك بوجوه، منها: رواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «الفطر يوم يُفطر الناس، والأضحى يوم يضحّي الناس»(1). وغيرها من الروايات، وقرّبوا الدلالة على ذلك بأنّ العبادة الشعائرية والشعيرية قِوامُها بالعمل الجماعي، كشعائر وشعار وتظاهر معلن؛ فلذا يتّسع حريمها بحسب سعة ذلك الإظهار والإبراز.
حيث إنّ الشارع وسّع الوقوف ليلاً بمزدلفة لمَن اضطرّ إلى ذلك ولم يقدر على الوقوف بين الطلوعين، متقدّماً على الميقات الزماني، كما وسّع الوقوف متأخراً إلى زوال يوم العيد لمن فاته الوقوف بين الطلوعين.
ورد أنّ مَن أراد أن يُدرِك عمرة رجب يمكنه أن يُنشئ الإحرام في أواخر رجب قبل وصوله إلى الميقات، وإن أتى بالأعمال في شعبان(2)، وبذلك يُدرِك فضل عمرة رجب، وفي ذلك توسعة من ناحية الميقات المكاني والميقات الزماني(3).
فقد وسّع الشارع الإتيان بأعمال منى قبل يومها، للضعاف والعجزة من الحجيج
ص: 25
وخوف الضغط، كما وسّع لمن لم يُدركها إلى أيام التشريق الأربعة لاحقاً(1).
فإنّ الشارع الأقدس قد سوّغ المجيء بأعمال مكة قبل يوم التاسع ولو بأيّام، وذلك لذوي الأعذار، كما سوّغ لمن يقدر عليها يوم العيد أن يأتي بها أيام التشريق، بل إلى آخر ذي الحجّة(2).
وفي هذا الباب أيضاً أمثلة كثيرة، نذكر أهمّها:
فإنّه قد سوّغ الشارع الإتيان بصلاة الليل قبل منتصف الليل، وجعل ذلك مجزياً عن المجيء بها في وقتها لذوي الأعذار(3).
حيث سوّغ الشارع الإتيان بنوافل الظهرين قُبيل الزوال، لمَن يعجز عن الإتيان بها في وقتها(4).
ص: 26
فمع أنّ الوقت المقرّر لنافلة الفجر هو بعد الفجر الكاذب، إلّا أنّه وسّع الشارع المجيء بها بعد صلاة الليل(1).
فإنّ خطبتي صلاة الجمعة شرّعتا كبدل عن ركعتين بعد الزوال، إلّا أنّ الشارع سوّغ المجيء بهما قبل الزوال(2).
قد ورد في الروايات عن أهل البيت علیهم السلام أنّ مَن أدرك ركعة من الوقت _ أو من آخر الوقت _ فقد أدرك الوقت، كما ورد إجزاء مَن صلّى قبل الوقت فأدرك الوقت ودخل عليه قبل أن يُسلّم، لمن صلى قبل الوقت غفلة(3).
ولهذا الباب أمثلته الكثيرة، إليك بعضها:
المثال الأوّل: إنّ يوم عاشوراء يوم عظيم؛ لذا جعل أهل البيت علیهم السلام له حريماً زمانياً متقدِّماً عليه بتسعة أيّام، فقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ، أنّ حزنه علیه السلام كان
ص: 27
يبدأ من أوّل يوم من محرَّم، فلا يُرى باسماً قط، فإذا كان يوم العاشر كان يوم مصيبته علیه السلام ، فقد روى الصدوق في أماليه بسنده، عن إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا علیه السلام أنّه قال: «كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين (صلوات الله عليه)»(1).
ورُوي في البحار عن بعض مؤلّفات المتأخّرين، أنّه قال: «حكى دعبل الخزاعي قال: دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا علیه السلام في مثل هذه الأيّام، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مُقبلاً قال لي: مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه. ثمّ إنّه وسّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: يا دعبل، أُحبُّ أن تنشدني شعراً؛ فإنّ هذه الأيّام أيّام حزنٍ كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرورٍ كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُميّة»(2)
وفي هذه الرواية _ وإن كانت مرسلة _ تصريح بأنّ المناسبة وإن كانت يوماً واحداً، إلّا أنّ ما يحتفّ بها من أيّام _ ما قبلها وما بعدها _ تلك الأيّام تنتسب إلى تلك المناسبة وذلك اليوم بحسب الأعراف المختلفة، بل هذه الروايات نصّ بالخصوص على ما نحن فيه صغرويّاً، وأنّ هذه التوسعة في الارتكاز العرفي قبل أن تكون تناسباً شرعياً، وهذا وجهٌ مستقلّ برأسه، وهو استقراء الاستعمال العرفي لعنوان الأيّام المضافة إلى مناسبةٍ ما، وكانوا يعدّون هذه الأيّام أيّام الحزن.
المثال الثاني: في ليلة القدر، فإنّ يومها بمنزلتها(3)، بل ورد أنّ ليلة التاسع عشر والواحد والعشرين حريمٌ زماني متقدّم لليلة الثالث والعشرين(4)، بل ورد أنّ شهر
ص: 28
رمضان _ من أوّله _ حريمٌ لليلة القدر(1)، بل ورد أيضاً أنّ حريم ليلة القدر يبدأ من ليلة النصف من شعبان(2)، كما أنّ ليلة القدر حريمٌ لولاية آل محمد علیهم السلام ، باعتبارها ظرفاً زمانيّاً شريفاً لتنزّل روح القدس عليهم علیهم السلام .
المثال الثالث: في غسل يوم الجمعة، فإنّ الشارع المقدس سوّغ المجيء به في يوم الخميس، ل_مَن يعجز عن الماء يوم الجمعة أو يخاف العوز(3).
المثال الرابع: قد جعل الشارع حريماً لليلة الجمعة _ يمتدّ قبلها _ من بعد زوال ظهر يوم الخميس، كما جعل لأعمال يوم الجمعة حريماً متأخِّراً وهو ليلة السبت، بل يظهر من الشارع أنّ كلّ يوم ذي فضيلة وحرمة تبدأ حرمته قبله؛ فتكون الليلة السابقة حريماً له، كليلة عرفة، وليالي العيدين، وليلة الجمعة، وليلة النصف من شعبان _ كما تقدّم _ وليلة المبعث الشريف مع أنّ المبعث الشريف في فجر يومها، وغيرها من الليالي التي شُرِّفت كحريم سابق لأيّامها الشريفة(4).
المثال الخامس: ورد في فضائل يوم الغدير أنّه مستمرّ إلى ثلاثة أيّام(5)، وكذلك ما ورد في اليوم التاسع من ربيع الأوّل(6).
لقد مرّت بعض الموارد المرتبطة بتوسعة الحريم المكاني كما أشرنا، ونؤشر فيما يأتي جانباً آخر من مواردها:
ص: 29
أوّلاً: إنّ الكعبة _ كأوّل بيتٍ وُضع للناس _ لها عظمة وحرمة وشرافة؛ لذا جُعل المسجد الحرام حريماً لها، وجُعلت مكّة المكرمة حريماً للمسجد الحرام، وجُعل الحرم المكّي حريماً لمكّة المكرّمة، وجُعلت المواقيت حريماً للحرم المكّي، وقد وردت النصوص بكلّ ذلك(1).
ثانياً: في مرقد الرسول صلّى الله عليه و آله ، فقد ذكر السمهودي _ في مقدّمة كتابه خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى _ إجماع أهل الجمهور على أنّ قبره صلّى الله عليه و آله أعظم حرمةً من مكّة المكرّمة(2)، بل نقل عنهم أنّه أعظم من العرش(3)؛ لذا جُعلت الروضة المباركة بين القبر والمنبر حريماً للقبر الشريف، وجُعل المسجد النبوي حريماً للروضة المباركة، وجُعلت المدينة المنوّرة حريماً للمسجد النبوي، وجُعل الحرم المدني بين الجبلين حريماً للمدينة المنوّرة(4). وتُبين بعض الروايات أنّ ما بين الحرم المكّي والحرم المدني ملحقٌ في بعض الآثار بهما، كما في الرواية: «مَن مات بين الحرمين، بعثه الله في الآمنين يوم القيامة»(5). وكذلك في الرواية: «مَن مات بين الحرمين لم يُنشر له ديوان»(6).
ثالثاً: في كلّ مراقد أهل البيت علیهم السلام ، فإنّ قبورهم بيوتٌ أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فلها الحرمة والعظمة بنصّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وقد ذكر كاشف الغطاء قدِّسَ سرُّه في كتابه _ عند قراءة الفاتحة بعد الطعام ورجحان الشعائر الحسينيّة_: «أنّ
ص: 30
مراقدهم علیهم السلام مشاعر شعّرها الله (عزّ وجلّ)، ويتبعها في الحرمة ما حولها من البقاع الشريفة؛ لذا قد ورد أنّ الكوفة حَرُمت لأجل أمير المؤمنين علیه السلام »(1). ومن ثَمَّ ذهب الشيخ الطوسي في النهاية، إلى أنّ حكم التخيير في الصلاة بين القصر والتمام للمسافر في مسجد الكوفة بتبع التخيير في مرقد أمير المؤمنين علیه السلام (2)، ويُؤيّد ذلك ما رواه محمد بن الحسن، عن أبيه، عن أحمد بن داود، عن أحمد بن جعفر المؤدب، عن يعقوب بن يزيد، عن الحسين بن بشار الواسطي، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام : ما لم_َن زار قبر أبيك؟ قال: زره. قلت: فأيُّ شيءٍ فيه من الفضل؟ قال: فيه من الفضل كفضل مَن زار قبر والده _ يعني رسول الله صلّى الله عليه و آله _. فقلت: فإنّي خفت فلم يمكنني أن أدخل داخلاً. قال: سلّم من وراء الحاير»(3). وفيه دلالة على التوسعة المكانية.
رابعاً: ورد في حرم سيّد الشهداء علیه السلام أنّ الحيْر حريمٌ للقبر الشريف، وحرّمت مدينة كربلاء كحريم للقبر الشريف(4)، بل ورد أنّ لمرقد الحسين علیه السلام حريماً بمقدار فرسخ من كلّ جانب من القبر الشريف(5)، وهذا يُطابق ما ورد مستفيضاً من استجابة الدعاء تحت قبّته(6)؛ فإنّ المراد من ذلك ليس القبّة الذهبيّة فوق المرقد الشريف، بل قبّة السماء، فالواقف عند القبر الشريف يكون امتداد القبّة بمقدار امتداد نظره في الأُفق، حيث يتماسّ خطّ السماء بالأرض، وهذا المقدار يساوي الفرسخ تقريباً،
ص: 31
وهو حوالي خمسة كيلومترات ونصف؛ ومن ثَمَّ ذهب جملةٌ من الفقهاء المتقدمين إلى التخيير بين القصر والتمام في تمام مدينة كربلاء(1).
ومن الروايات الواردة في هذا الشأن ما يلي:
١_ مرفوعة منصور بن عباس، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «حرم الحسين علیه السلام خمسُ فراسخ من أربع جوانبه»(2). أي: تكون حوالي شعاع سبعة وعشرين كليو متراً من كلّ جانب من جوانب القبر، ومثلها مرسلة الصدوق في الفقيه(3).
٢_ ما رواه الشيخ الطوسي بسنده، عن محمد بن إسماعيل البصري، عمَّن رواه، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «حرم الحسين علیه السلام فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر»(4).
٣_ ما رواه الشيخ الطوسي بسنده، عن محمد بن أحمد بن داود بن الحسن بن محمد، عن حميد بن زياد، عن بنان بن محمد، عن أبي الطاهر _ يعني الورّاق _ عن الحجّال، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «التربة من قبر الحسين بن علي علیه السلام عشرة أميال»(5).
٤_ ما رواه في كامل الزيارات بسنده، عن محمد بن جعفر، عن محمد بن الحسين، عن رجلٍ، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «طينُ قبر الحسين علیه السلام فيه شفاء، وإن أُخذ على رأس ميل»(6).
٥_ ما رواه في التهذيب بسنده، عن سليمان بن عمر السراج، عن بعض أصحابه،
ص: 32
عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «يُؤخذ طينُ قبر الحسين علیه السلام من عند القبر على سبعين ذراعاً»(1). ورواه ابن قولويه في المزار، إلّا أنّه قال: «على سبعين باعاً في سبعين باعاً»(2).
٦_ ما رواه بسنده، عن أبي القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن عمار، قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إنّ لموضع قبر الحسين علیه السلام حرمة معروفة، مَن عرفها واستجار بها أُجير. قلت: فصف لي موضعها. قال: امسح من موضع قبره اليوم خمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رجليه، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه، وموضع قبره من يوم دفنه روضةٌ من رياض الجنّة، ومنه معراج يُعرج فيه بأعمال زواره إلى السماء، وما من ملكٍ في السماء ولا في الأرض إلّا وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين علیه السلام ، ففوجٌ ينزل وفوج يعرج»(3).
ورواه ابن قولويه والكليني أيضاً(4).
٧_ ما في معتبرة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «سمعته يقول: قبر الحسين علیه السلام عشرون ذراعاً مكسّراً روضةٌ من رياض الجنّة»(5).
وهذا التفاوت في تحديد المكان مضافاً إلى إمكان حمله على تفاوت الفضل، فإنّه يُشير أيضاً إلى التوسيع في حريم وحرمة المكان والميقات المكاني.
ص: 33
خامساً: ورد أنّ الله تعالى يدفع البلاء عن مدينة بغداد، بقبر الإمام موسى بن جعفر علیه السلام (1)، وورد أيضاً حرمة مدينة سامراء بقبر العسكريين علیهماالسلام (2)، وأنّ مدينة طوس حرمٌ لمرقد الرضا علیه السلام (3)، بل ورد أنّ ما بين الجبلين المحيطين بطوس، جُعل حريماً لمرقد الرضا علیه السلام (4).
وذهب السيد المرتضى، وابن الجنيد، وبعض المتقدِّمين إلى التخيير في الصلاة بين القصر والتمام للمسافر في كلّ المراقد المطهرة لأهل البيت علیهم السلام (5).
سادساً: ما ورد من تنزيل زيارة المعصومين علیهم السلام من على سطح المنزل بمنزلة الزيارة عن قرب، ل_مَن عجز عن السفر لمانع(6).
سابعاً: ما ورد في غسل الإحرام في مسجد الشجرة، فقد سوّغ الشارع الغسل في المدينة المنورة لمَن يعجز عنه في مسجد الشجرة(7).
ثامناً: ورد أنّه إذا ضاقت عرفة بالحجيج، يسوغ لهم أن يصعدوا إلى الجبل(8)، وكذلك في منى إلى وادي محسر(9).
تاسعاً: ما ورد في باب عدم وجوب استلام الحجر وتقبيله، وعدم تأكّد استحباب المزاحمة عليه، وإجزاء الإشارة والإيماء، وتُشير إلى ذلك روايات:
ص: 34
منها: ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن سيف التمّار، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : أتيت الحجر الأسود فوجدت عليه زحاماً، فلم ألقَ إلّا رجلاً من أصحابنا، فسألته، فقال: لا بُدَّ من استلامه. فقال: إن وجدته خالياً وإلّا فسلِّم (فاستلم) من بعيد»(1).
ومنها: ما في الكافي أيضاً، عنهم، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر، عن محمد بن عبيد (عبد) الله، قال: «سُئل الرضا علیه السلام عن الحجر الأسود، وهل يُقاتل عليه الناس إذا كثروا؟ قال: إذا كان كذلك فأومِ إليه إيماءً بيدك»(2).
ومنها: ما رواه محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «ليس على النساء جهر بالتلبية، ولا استلام الحجر، ولا دخول البيت، ولا سعي بين الصفا والمروة، يعني الهرولة»(3). أي: يكفيهن الإيماء من بُعد للحجر الأسود.
من الأُمور الثابتة والمتقرّرة في السيرة العقلائية هو أنّ هناك حريماً في البقاع المملوكة، فللدار حريم، وللبئر حريم، وللطريق حريم من جانبيه، وللمدينة حريم من ضواحيها. وضابطة مقدار الحريم: أن يكون بحسب الحاجة التابعة له، فليس يتحدّد بقدر _ يقف عليه _ ثابت لا يزيد ولا ينقص، بل هو يتّسع وينقص بمقدار ما تستدعيه الحاجة.
وهذه السيرة العقلائية ليست خاصّة بتوسعة الحريم المكاني، بل هي جاريةٌ أيضاً بتوسعة الحريم الزماني، فنراهم يقولون: (عام الفيل) و(عام الحزن) و(عام الفتح). مع أنّ الحدث لمناسبةٍ حدثت في أيام قلائل، ولم تمتدّ لكلّ العامّ، كما في وفاة أبي طالب وخديجة علیهماالسلام في عام الحزن.
ص: 35
وكذلك يُقال: إنّ النبي صلّى الله عليه و آله وُلد في شهر ربيع الأوّل، أو إنّ أمير المؤمنين وُلِد في شهر رجب، مع أنّ الولادة حدثت في ساعة واحدة، كما روى الصفار بسنده، عن حفص الأبيض التمّار، قال: «دخلت على أبي عبد الله علیه السلام أيام صلب المعلّى بن الخنيس»(1)، والحال أنّ المعلّى صُلب في يومٍ واحد. وروى الحميري، عن جعفر، عن أبيه علیهماالسلام ، «أنّ علياً علیه السلام كان يأمر مناديه بالكوفة أيام عيد الأضحى»(2)، والحال أنّ الأضحى يومٌ واحد.
وفي روايةٍ أُخرى عن علي بن رافع: «... وأنا أحب أن تُعيرنيه أتجمّل به في أيام عيد الأضحى»(3). مع أنّ عيد الأضحى يوم واحد، ولكن عُبّر عنه بأيام، وهذا يدلّ على أنّ الشارع جعل لتلك الأزمنة حريماً زمانيّاً، عبّر عنها بالأيام، كما هو كذلك عند العقلاء.
وهذا ممّا يبرز لنا وجه التوسعة عند العقلاء؛ فهو لأجل طبيعة التوسعة في الظرفية والإسناد الزماني، وكذلك الحال في التوسع في الظرف المكاني، فيُقال: إنّ النبي صلّى الله عليه و آله وُلد في مكّة، وكلّ ذلك نوعٌ من التقريب في التحقيق، والتحقيق في التقريب، من جهة تحقّق الإسناد وتوسّع الظرف، وكأنّ هذا هو المنشأ للارتكاز العقلائي.
وهذه السيرة العقلائية هي سيرة متشرعيّة أيضاً، كما اتّضح من الأمثلة أعلاه.
*الوجه الثالث: قوله تعالى:«وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ » (4)
حيث يمكن أن يُستنبط منها عرفاً _ سواء بحسب الارتكاز العقلائي أو المتشرّعي _ أنّ التذكير الوارد في الآية المباركة، ليس لخصوص اليوم الذي فيه المشهد الإلهي العظيم، بل يشمل الأيام المحتفّة به أيضاً؛ فيكون مفاد الآية الكريمة، الاحتفاء والاحتفال بالميقات الزماني الشعيري، بما يشمل حريم ذلك الميقات الزماني، من قبل الميقات ومن بعده.
ص: 36
تُبيّن هذه القاعدة أنّ طبيعة المستحبّات من حيث الأجزاء و الشرائط والقيود _ والتي منها الزمان والمكان _ طبيعة ذات مراتب وتعدّد في المطلوب، في أساس جعلها وتشريعها؛ ومن ثَمَّ لا يرتكب الفقهاء عمليّة التقييد بين المطلق والمقيّد، ولا عملية التخصيص بين العام والخاصّ، بل يحملون المقيّد والخاص على تعدّد مراتب الفضل، وإنّ الشرائط والقيود هي شرائط وقيود كمال، وليست شرائط وقيود صحّة؛ فمن ثَمَّ يكون مقتضى الظهور الأوّلي في باب المندوبات، هو على تعدّد المطلوب، إلّا أن تقوم قرينة على خلاف ذلك، وهذا يوسّع الزيارة المندوبة زماناً ومكاناً، وإن كان الأقرب فالأقرب زماناً ومكاناً هو الأفضل فالأفضل في مراتب الفضل والكمال.
هذه القاعدة _ أو قاعدة ما لا يُدرك كلّه لا يترك جلّه _ تنطبق على المراتب الزمانية والمكانية للعمل المقيّد بالزمان والمكان؛ فيكون الأقرب فالأقرب هو الميسور المقدّم.
ويتحصّل من مجموع هذه الوجوه: أنّ كلّ موضع زماني أو مكاني _ جُعل في الشريعة ميقاتاً لشعيرة دينيّة _ له حريم يُحيط به، يسبقه ويتأخّر عنه. وأنّ ما عليه المتشرّعة في زماننا من التوسّع زماناً ومكاناً بحسب الحاجة _ في زيارة الأربعين لسيّد الشهداء علیه السلام ، أو زيارة عاشوراء، أو زيارة أمير المؤمنين علیه السلام ، أو زيارة الجوادين علیهماالسلام ، أو زيارة العسكريين علیهماالسلام ، أو غيرها من مواسم الزيارات العظيمة، التي يكون فيها الزحام شديداً _ مطابق لقاعدة فقهية شرعية مُتصيّدة من الأبواب الفقهية، ومعتضدة بوجوه أُخرى مفادها: (أنّ لكلّ ميقات زماني أو مكاني لشعيرة دينية عباديّة حريماً يُحيط به، يتوسّع وبحسب ظرفيّة وقابليّة الحاجة إلى الحدود التي تتّصل بذلك الميقات).
ص: 37
ص: 38
*المَبَاني القُرآنيَّة لِنَهضَةِ عَاشُورَاءد. محمد علي رضائي الأصفهاني(1)
إذا تأملنا حركة الإمام الحسين علیه السلام من المدينة إلى كربلاء، وحلّلنا ما فيها من توجيهات وخطابات ومواقف، يتضح لنا أنَّ نهضته علیه السلام في عاشوراء كانت مبنيّة على تعاليم القرآن الأساسية المتينة، وأنّ معرفة هذه المباني تجعل من هذه النهضة قدوة لكلِّ محبيّ القرآن ومتّبعيه؛ ذلك لأنَّ هذه النهضة تُبيّن الوظيفة القرآنية لكلِّ المسلمين على مدى التاريخ، أي: إنّه كلّما واجه المسلمون ظروفاً مشابهة لظروف زمان الإمام الحسين علیه السلام ، تعيّن عليهم _ بناءً على تلك المباني القرآنية _ أن يسلكوا سبيل الإمام الحسين علیه السلام في حركته الإصلاحية الشاملة.
و بعبارة أُخرى: من خلال استنباط المباني القرآنية لنهضة عاشوراء تتحول حركة الإمام الحسين علیه السلام إلى حركة قرآنية، وتصبح قدوةً لكلِّ المسلمين.
إن المراد من المباني القرآنية هي النظريات المسلّمة المستنبطة من تعاليم القرآن الكريم، والتي شكّلت أرضية قيام الإمام الحسين علیه السلام . وبعبارة أُخرى: هي المستندات القرآنية العامة. والتي منها المستندات والنظريات المستنبطة لنهضة عاشوراء.
ص: 39
هذه المباني تشمل أوامر الله تعالى والتي وجهها بشكل مباشر إلى كلّ المسلمين، على الصعيد الاجتماعي والتربوي والسياسي والثقافي والجهادي؛ كما تشمل أيضاً التعاليم القرآنية غير المباشرة، والتي يمكن استخراجها من كلمات وسيرة الإمام الحسين علیه السلام ، بالاستعانة بقاعدة الجري والتطبيق، وقاعدة بطون القرآن.
إذاً؛ استنباط المباني القرآنية لنهضة عاشوراء، يتم من خلال استخدام القواعد والطرق التفسيرية القرآنية، كقاعدة الجري والتطبيق، وقاعدة حجية ظواهر القرآن، وأُسلوب التفسير الروائي، والتفسير الإشاري (الباطني).
إنَّ المصادر التي يمكن الاعتماد عليها لاستنباط المباني القرآنية لنهضة الإمام الحسين علیه السلام ، هي عبارة عن:
1_ كلمات الإمام الحسين علیه السلام
2_ رسائل الإمام الحسين علیه السلام
3_ سلوك الإمام الحسين علیه السلام
فهذه المصادر نابعة من قلب هذه الثورة، ومستندة إلى قائدها العظيم.
نُقل أنّ الإمام الحسين علیه السلام أثناء مسيره إلى كربلاء، التقى بالفرزدق في منزل صفاح، وتحدّث معه، وبيّن أنَّ هدفه النهائي _ بل الأساسي _ من هذه النهضة المباركة هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإيجاد الآليات والضمانات التي تساعد في الحفاظ عليها، فقال علیه السلام : «وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا»(1).
ص: 40
وعند ملاحظة هذا المبنى الذي جعله الإمام الحسين علیه السلام أحد أهمّ مباني نهضة عاشوراء _ بل هو المنطلق الأساس لها _ نجد كلامه علیه السلام قد نظر واستند به إلى آية قرآنية؛ حيث يقول الله تعالى:«وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا»(1).
إن هذا المبنى وهذا الهدف من أهم الأهداف في الإسلام ومن الأُسس التي تستحق أن يُبذل من أجلها الغالي والنفيس، بل حريّ بالمرء أن يبذل مهجته من أجل ذلك، وهذا الهدف السامي قد صرح به الإمام علیه السلام ، وبيّن أنه مأخوذ بنظر الاعتبار في نهضته المباركة من خلال كلامه الذي مرّ معنا في قوله علیه السلام للفرزدق في منزل صفاح: «وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله».
فإنَّ المنطلقات التي بيّنها الإمام الحسين علیه السلام في كلمته هذه _ والتي تبيّن أحد أهمّ منطلقات ثورة الإصلاح _ مرتكزة إلى آيات قرآنية متعددة؛ بل إنّ روح القرآن الكريم بشكل كلّي، تدعو إلى نصرة دين الله وإعزازه.
قال تعالى: «حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» (2).
وقال تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ » (3).
نعم، لقد نصر الإمام الحسين علیه السلام دين الله سبحانه، كما نصر الله تعالى نهضة الإمام الحسين علیه السلام ، فقد انتصر دم الإمام الحسين علیه السلام على سيف الظالمين، كما تحقق هدفه في عزّة دين الإسلام؛ فقد استمر هذا الدين الحنيف بفضل تلك الدماء الزاكيات، فبعد أربعة عشر قرناً، لا تزال نهضة عاشوراء حيّة، ولا تزال قدوة لكل أهل العالم، وأمّا أعداء الحسين علیه السلام فقد اندحروا واندثروا في غياهب الزمن.
ص: 41
إن مبدأ الجهاد وتشريعه في الديانات السابقة من الأمور المسلّمة؛ فقد نص القرآن الكريم على حدوث معارك بين جبهة الحق والباطل، وذلك في زمن النبي طالوت، وذلك في قوله تعالى:«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (1)وهذا المبدأ والهدف جاء أيضاً في كلام الإمام الحسين علیه السلام ، عندما لاقى الفرزدق في مسيره إلى كربلاء، حيث قال: «يا فرزدق، إنّ هؤلاء القوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين؛ وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا»(2).
ونُقل أيضاً أنّه لمّا دعا مروان الإمام الحسين علیه السلام إلى بيعة يزيد في المدينة، قال الإمام علیه السلام : «وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براع مثل يزيد»(3).
فكلمة الإمام الحسين علیه السلام هنا تشير إلى الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تفشى في المجتمع آنذاك؛ فقد كان أصل الإسلام في تلك الظروف عُرضة للخطر.
ونتيجة لهذا؛ أصبح الجهاد واجباً في سبيل حفظ الإسلام؛ لأنَّ حفظ الإسلام أهمُّ الواجبات الإلهية.
فهذا الخطاب الحسيني يُشير إلى أحد أهمّ مرتكزات نهضة عاشوراء، ألا وهو الجهاد في سبيل الله. ولا يخفى، فإنَّ الجهاد أحد المفاهيم القرآنية المهمّة في الإسلام،
ص: 42
والتي أُشير إليها في آيات متعددة، وللجهاد أهداف وغايات مصيرية لا تتحقق إلّا به.
ويمكن القول: إنَّ الأهداف الأساسية للجهاد الإسلامي هي:
1_ الدفاع عن الدين الإسلامي في مقابل هجوم الأعداء، والحفاظ على المسلمين، سواء أنفسهم، أو أموالهم، أو أعراضهم.
2_ تخليص المستضعفين من قيود الشرك والكفر والظلم، ونشر الإسلام في الأرض بفضائله الحسنة، وأخلاقه القيّمة التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وتتلازم مع العقل السليم.
إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة على الجهاد.
من هنا؛ فإنّ جهاد الإمام الحسين علیه السلام ، كان تحقيقاً لتلك الأهداف الإنسانية والإسلاميّة، والقرآنية، واستُشهد في سبيل ذلك. قال تعالى:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» (1)
وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(2).
رُوي أنّ الإمام الحسين علیه السلام كتب وصية، وأودعها عند أخيه محمد بن الحنيفة في المدينة. وقد ذكر في هذه الوصية أهداف نهضته علیه السلام ، جاء فيها:
«إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؛ أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب»(3).
فقد كان أحد أهداف ثورة الإمام الحسين علیه السلام ، هو إصلاح الأُمّة الإسلامية، في كافّة الأبعاد الفردية والاجتماعية والعقائدية والسياسية والاقتصادية.
ص: 43
ويُعتبر طلب الإصلاح أحد أهمّ أهداف الأنبياء علیهم السلام ، والتي بُيِّنت في القرآن الكريم بشكل واضح، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان النبي شعيب علیه السلام : «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ»(1). وقال تعالى:«لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ »(2)
لقد عدَّ الإمام الحسين علیه السلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أهداف نهضته الأساسية؛ وهو صريح وصيته المشهورة التي جعلها عند أخيه محمد بن الحنفية في المدينة فيقول علیه السلام : «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليبن أبي طالب».
إنَّ الأمر بالمعروف وسيلة لحفظ فضائل المجتمع، والتذكير المستمر بها، وبالوظائف التي على المسلم أن يتحلى بها، ويعمل على وفقها، كما أنّ النهي عن المنكر وسيلة تنقية دائمة للمجتمع، وتصفيته من الرذائل والانحرافات الفكرية والعملية.
ومن هنا؛ يُعدُّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الدين، وقد أكّد القرآن على هذين المبدأين مراراً، وعدّهما واجباً شرعياً، قال الله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3)، بل وصف الذين يقومون بالأمر بالمعروف وينهون عن المنكر بأنهم خير أُمّة؛ فقال عزَّ من قائل:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(4).
ص: 44
نعم، لقد كان الإمام الحسين علیه السلام في صدد إجراء هذا الواجب القرآني، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا الفرع الإسلامي والمبدأ القرآني مراحل ومراتب، كما ذُكرت في الفقه الإسلامي، وهي كما يلي:
1_ الإنكار القلبي: بأن يستنكر المؤمن أيّ أنواع المنكر التي يراها استنكاراً في قلبه؛ بحيث تظهر آثار ذلك الإنكار على وجهه، من الغضب، وعدم الرضا، وما شاكل هذه الأُمور.
2_ الإنكار اللساني: يعني عندما يرى المؤمن أمراً منكراً قد تلبّس به البعض، فعليه أن يؤنِّبهم بلسانه، وهذا الأُسلوب بدوره على مراحل؛ لأنّه لا بدّ أن يبتدئ أوّلاً بالنصيحة والكلام الطيب، وبأُسلوب ليّن، مستدلاً على ما يقول، فإذا لم يؤثر ذلك، استخدم اللهجة الحادّة، والأُسلوب الخشن في الكلام.
3_ الإنكار العملي: وهذه هي المرحلة الثالثة في النهي عن المنكر، وهي المنع العملي عن المنكرات، أي: وضع حدٍّ لأعمال المفسدين، والحيلولة دون وقوع أعمالهم المنكرة في المجتمع، وهذا أيضاً بدوره على مراحل، والتي آخرها اللجوء إلى الحرب والقتال، وهذه المرحلة هي آخر مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تُنفَّذ إلّا عندما تكون المراحل السابقة غير مؤثّرة.
ولا يخفى، فإنّ تنفيذ هذه المرحلة وتطبيقها في المجتمع إنّما هو بيد الإمام علیه السلام ، أو ولي أمر المسلمين(1).
وهذا ما نجده من سيرة الإمام الحسين علیه السلام في تعامله مع طاغية زمانه، الذي ارتكب أبشع أنواع المنكرات والمحرمات، وترك الواجبات، ففي حقيقة الأمر أنّ الإمام الحسين علیه السلام عرض برنامجاً سياسياً وعملياً متكاملاً؛ لمبارزة الطاغوت ضمن إطار النهي عن المنكر، وكما بيّنا في مراحل النهي عن المنكر؛ فإنّ الإمام الحسين علیه السلام
ص: 45
ابتدأ بنصح أصحاب السلطة، ثمّ بيّن انحرافاتهم وظلمهم، وشناعة أعمالهم، ثمّ كانت المواجهة والمبارزة المسلّحة، كلّ ذلك ضمن إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنّ الإمام الحسين علیه السلام في وصيته _ ومجمل أقواله _ كان يدعو الناس إلى سنّة النبي صلّى الله عليه و آله والحفاظ عليها، والعمل بها وإحياء ما غُيّب منها، وتفنيد ما حُرّف فيها، فقد عُدّ ذلك أحد أهمّ أهداف نهضة كربلاء المباركة: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب».
وقوله علیه السلام : «أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت»(1).
إنّ سنّة النبي صلّى الله عليه و آله تُعدُّ _ إلى جانب القرآن الكريم _ وسيلةً مهمة لإرشاد المسلمين؛ فكما أنّ كلّيات الدين تؤخذ من القرآن، فإنّ جزئيات الإسلام تؤخذ من السنّة؛ إذ إنّ أقوال وأفعال النبي صلّى الله عليه و آله تُعدّ التفسير الحقيقي للقرآن الكريم؛ فقد قال الله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(2).
ويجب على جميع المسلمين أن يتبعوا سنّة النبي صلّى الله عليه و آله ، ويدعوا غيرهم إليها، ويدافعوا عنها ويحافظوا عليها من الاندراس والتحريف والتزييف؛ لأنّ الدفاع عن السنّة دفاع عن الدين، وترك العمل بها ترك للدين، فليس للمسلمين الحقُّ في مخالفة أوامر النبي صلّى الله عليه و آله أو ارتكاب نواهيه، والآيات القرآنية بهذا الصدد كثيرة:
منها: قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(3).
ص: 46
ومنها: قوله تعالى:«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»(1).
ومنها: قوله تعالى:«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (2).
وقال عز وجل أيضاً: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...»(3).
نعم، إنَّ الإمام الحسين علیه السلام في نهضة عاشوراء كان في صدد إحياء سنّة النبي صلّى الله عليه و آله ، والدفاع عنها، ونقلها إلى حيز التطبيق في حياة المسلمين؛ لأنّ تعاليم النبي صلّى الله عليه و آله كانت قد أُهملت آنذاك، كما أنّ البدعة قد أُحييت وظهرت.
عزم حاكم المدينة على تنفيذ أوامر يزيد القاضية بقتل الإمام الحسين علیه السلام ؛ فخرج علیه السلام من المدينة ليلاً. ولمّا خطّطوا لقتله علیه السلام في مكة أيضاً، خرج منها أيضاً، وتوجّه إلى العراق. وقال _ في جوابه لرجل سأله: ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك رسول الله صلّى الله عليه و آله ؟_: «إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت»(4).
فيُستفاد من كلامه علیه السلام أنّ المؤمن عندما تتعرض حياته للخطر لا يجوز له الصبر على ظلم الظالم، وأنّ أقلّ ما ينبغي فعله هو الهجرة.
وهذا التحرك من الإمام الحسين علیه السلام ، كان على أساس الآيات القرآنية التي توجب الهجرة على مَن يواجه الصعاب في بلاده، على نحوٍ لا يستطيع معه إقامة واجباته الدينية، أو تصبح نفسه ومَن يرتبط به في خطر، كما حدث للنبي صلّى الله عليه و آله في مكة، قال الله تعالى: «قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا » (5)
ص: 47
وبيّن القرآن الكريم أنّ مَن قُتل في طريق هجرته فإنّ أجرهُ على الله سبحانه، وأنّ المهاجرين في سبيل الله لهم أجر عظيم.
قال الله تعالى:«وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (1).
وقال عز مَن قال:«وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» (2).
وقال عزَّ وجلَّ:«الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ» (3).
تكرر من الإمام الحسين علیه السلام ، ذكر حديث عن النبي صلّى الله عليه و آله في رسالته علیه السلام إلى رؤساء أهل الكوفة، وفي خطابه لأصحابه، وفي خطابه لجيش الحرّ، فكان علیه السلام يستدل بذلك الحديث النبوي كثيراً، ويطبقه على بني أُميّة. وهذا الحديث هو: «مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله علیه السلام ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل، ولا قول كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله»(4).
إنَّ هذا التوجيه النبوي _ والذي نظَّم الإمام الحسين علیه السلام ثورته في كربلاء على أساسه _ مأخوذ من القرآن الكريم، فالقرآن يُقبّح الظلم، ويستنكره في آيات كثيرة، ويعدُّ الظلم سبباً في عذاب بعض الأُمم، بل أوجبت الآيات العقاب على مَن مال إلى الظالمين وركن إليهم.
ص: 48
قال الله تعالى: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ»(1).
ثمّ يجيز الله تعالى الجهاد لكلّ مظلوم، فيقول: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ»(2).
نعم، إنّ دين الله تعالى، وكذا الإمام الحسين علیه السلام ، بل وجميع الأُمّة الإسلامية كانوا تحت ظلم يزيد وبني أُميّة. وقد صوّر الإمام الحسين علیه السلام هذا الظلم والقائمين به بقوله: «يزيد رجل فاسق، معلن بالفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقية آل الرسول»(3)، «قاتل النفس المحترمة... ومثلي لا يبايع مثله» (4)، وقال أيضاً: «يا فرزدق، إنّ هؤلاء القوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين»(5)، «وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، واستأثروا بالفيء»(6).
وفي مثل هذه الشرائط والظروف، فإنّ وظيفة كلّ مسلم _ وطبقاً لما جاء في القرآن الكريم _ أن يهبَّ لمبارزة الفساد والظلم، وهكذا فعل إمامنا الحسين علیه السلام .
كلمة الحرية أحبُّ الكلمات التي ذُكرت في تاريخ البشر، لكن هذه الكلمة لها معانٍ متفاوتة، من جملتها الاستقلال (الحرية الفلسفية)، الاختيار، الحرية على صعيد
ص: 49
التربية، الحرية في الحقوق (على صعيد فلسفة الحقوق)، الحرية في مقابل العبودية (في الحقوق المدينة والعالمية) كما تأتي بمعنى الشرف والكرامة.
وإن بحث الحرية في نهضة عاشوراء هو بمعنى الشرف والكرامة، كما تكون بمعنى إباء الذل، والحفاظ على عزّة النفس، وتكون بمعنى الشهامة أيضاً(1).
وهناك نماذج عديدة تثبت هذا المعنى من خلال كلمات الإمام الحسين علیه السلام ، وتأكيده على القيم النبيلة للنهضة الحسينية:
منها: ما نُقل عن الإمام الحسين علیه السلام ، أنّه قال لأعدائه: «إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون»(2).
يعني أنّ التدين والخوف من الآخرة يوجبان التقوى، فلا يجيزان للإنسان أن يظلم الآخرين، ولكن هناك طريق آخر فطري يمنع من الظلم، ألا وهو كون الإنسان حرّاً؛ إذ كلّ إنسان ولد حرّاً، فهو يحب الحرية والتحرر، واحترام حقوق الناس.
ومنها: إعفاء أتباعه من الوفاء ببيعتهم، وهو إعطاء أصحابه وأنصاره مطلق الحرية في الاختيار بين الاشتراك في الحرب والانصراف إلى بلدانهم، وهذا يدلّ على أنّ إجبار الآخرين على خلاف مرادهم أمر مرفوض في مدرسة أحرار العالم. وهكذا كان في عاشوراء، لمّا أعفى الحسين علیه السلام أصحابه من بيعتهم وفي عدّة مرات، وذلك في طريقه من مكة إلى الكوفة، فقد أعطاهم مطلق الحرية في أن يذهبوا أو يبقوا معه، حتى أنّه أخبر أصحابه بالمصير المحتوم، فقال: «فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم»(3).
نعم، إنّ الإمام الحسين علیه السلام يريد ألّا يبقى معه إلا مَن رافقه عن بصيرةٍ ورضًى،
ص: 50
وإحساس بالوظيفة، وعشق له علیه السلام .
ومنها: روح نهضة الإمام الحسين علیه السلام نفسها؛ فقد كانت لتحرير الناس من ظلم بني أُميّة واستبدادهم، وتخليصهم من أنواع الانحرافات الفكرية والأخلاقية.
وتُعدُّ طريقة الإمام الحسين علیه السلام هذه في الوصول إلى الحرية، وتخليص الناس وتحريرهم نوعاً من اتباع القرآن الكريم وسنّة النبي الأمين صلّى الله عليه و آله ؛ لأنّ تحرير الناس أحد أهداف رسالة النبي صلّى الله عليه و آله التي ذكرها القرآن، فجعل رسالة النبي صلّى الله عليه و آله ترفع القيود والأغلال عن أيدي الناس وأرجلهم، وتخلّصهم من العقائد الباطلة، والأعمال الخرافية والظلم، قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).
كما أنّ القرآن عدَّ رسالة النبي موسى علیه السلام _ عند مقابلته فرعون _ تحريراً للبشر من العبودية والذل، ونجاةً لهم(2).
أحد أهمّ تعاليم ثورة الإمام الحسين علیه السلام السياسية هي عدم الرضوخ للذل، وهذا من الشعارات والرسائل العاشورائية التي كانت مثالاً يحُتذى به، وقدوةً لكلّ الشيعة، بل وكلّ الأحرار على مرّ التاريخ.
فإنّ السائرين على خطى الحسين علیه السلام يرجّحون الموت في عزٍّ على الحياة في ذلٍّ: «موت في عزّ خير من حياة في ذلّ»(3).
ص: 51
وهكذا هم الحسينيون، يرون سعادتهم في الشهادة، والعيش مع الظالم خسارة وذلة: «وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(1).
وقد أصبحت كلمة الإمام الحسين الخالدة: «هيهات منّا الذلة»(2)، عنواناً لكلّ أحرار العالم، يرددونها ويتغنون بها باستمرار واعتزاز وافتخار.
ففي مدرسة الإمام الحسين علیه السلام ليس معيار السعادة المال والحياة والترف، بل كلّ أنواع النعيم المادي ليس بشيء؛ وإنّما المعيار هو العزّة والكرامة، والحياة الشريفة، وهذه رؤية وهبها الدين الخاتم للبشرية، وطبّقها الإمام الحسين علیه السلام بدروس عملية، علّمنا من خلالها كيف يجب أن يكون الإنسان عزيزاً أبيّاً حرّاً، يأبى الذل والهوان، والسكوت على الظلم والانحراف، فقد غيّر علیه السلام نظرة الأحرار إلى الحياة والموت.
فإنّ الموت كيفما كان فهو أمر محتوم لا مفرّ منه، والمهم كيف تكون نظرة الإنسان إلى الموت، فالحسين علیه السلام بيّن تعريفاً جديداً للموت والحياة، وغيَّر نظرة البشر إلى الموت، وأوضح للناس أنّ الموت الحقيقي إنّما هو في العيش مع الظالم، وأنّ الحياة مخبوءة في الشهادة؛ فلمّا رأى الإمام الحسين علیه السلام أنّ نصائحه لم تعد تنفع في حكومة بني أُميّة، وأنّ يزيد رجل فاسق وحكومته حكومة فاسدة لا تجوز مبايعته؛ ورأى أيضاً أنّ الظلم الذي تمارسه السلطة لا يمكن السكوت عليه؛ عند ذلك وقف الحسين علیه السلام في وجه عدوّه وقفة الأبطال، وقاتل حتى آخر نفس، وقال كلمته الخالدة: «لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فرار العبيد»(3).
وهذا السلوك من الإمام الحسين علیه السلام في سبيل العزّة والاستنكاف عن الذل يمثل مراد القرآن، وينسجم مع مبانيه السامية؛ إذ يجعل العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، ما يلزم عنه أنّ الذل والهوان بعيدان عن المؤمنين، قال الله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)» (4).
ص: 52
ما من شك في أنّ الإمام الحسين علیه السلام لو بقي في المدينة أو مكة لكانت عاقبته القتل؛ فإنّ السلطة الحاكمة كانت قاصدة إذلاله من خلال إجباره على البيعة، وبما أنّهم كانوا متيقنين وعالمين بأنّ الإمام علیه السلام لا يبايع يزيد؛ لذلك كان الحل الراجح عندهم هو قتله علیه السلام ، وأمّا لو خرج متوجهاً إلى العراق فالأمر يختلف؛ وذلك لأنّ احتمال الوصول إلى الكوفة، واحتمال النصر كان قائماً.
من هنا؛ فإنّ الإمام علیه السلام في خروجه سوف يحصل على إحدى الحسنين.
ولذا قال علیه السلام : «إنّ بيني وبين القوم موعداً، أكره أن أُخلفهم، فإن يدفع الله عنّا، فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بدّ منه، ففوز وشهادة إن شاء الله»(1).
وحاصل هذا الكلام هو: أنّ الناس إذا دافعوا عن الإمام ونصروه وآزروه، فإنّ الكفة ستكون في صالح الإمام الحسين علیه السلام ؛ وستسقط حكومة يزيد، ويتم الأمر لصالح الإسلام، فتكون حُسنى النصر، وتلك نعمة إلهية، وأمّا إذا لم يدافع الناس عن الإمام الحسين علیه السلام ، فسيُستشهد علیه السلام ، وتلك حُسنى الشهادة، وبتبع ذلك ستُفتضح حكومة يزيد، وسيُحيى الإسلام بدم الحسين علیه السلام .
والنتيجة؛ فإنّ خروج الإمام من مكة إلى الكوفة كان الخيار الأفضل من بين الخيارات الأخرى، بل هو المتعين من بينها؛ لأنّ البقاء إمّا أن يكون مع البيعة، وإمّا مع الموت الصامت الذي لا يؤتي ثماره. وهذا يعني أنّ شهادة الإمام الحسين علیه السلام ظلماً في صحراء كربلاء _ وأمام جيش عظيم _ أوجبت اندلاع حملة إعلامية عظيمة لصالح الإسلام، تفضح ظلم بني أُميّة، وتضمن حياة الإسلام على طول التاريخ.
هذه الطريقة المنطقية والعقلانية التي اتبعها الإمام الحسين علیه السلام ، مطابقة للآيات القرآنية؛ إذ إنّه لمّا أساء بعض الناس السير في حربهم مع النبي صلّى الله عليه و آله ، وقالوا ما لا يليق ولا ينبغي، أجابهم القرآن: «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا
ص: 53
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ*قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ»(1). ومعنى ذلك: أنه على أية حالٍ _ وعلى كلّ تقدير _ فإنّ طريق الحقّ عاقبته خير، سواءً أكانت الخاتمة هي الشهادة أم كانت النصر.
وبخلاف تلك العاقبة عاقبة المخالفين؛ فإنّها مهما كانت، فهي لا بدّ وأن تُفضي وتنتهي إلى الهلاك والخسران، فهي إمّا الهزيمة والذلة في الحياة الدنيا، وإمّا القتل والمصير إلى النار، قال تعالى: «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (2).
إذاً؛ فالعقل والمنطق يحكمان أن نُكمل طريقنا، وهذا ما فعله الإمام الحسين علیه السلام .
تعدّدت الرسائل من أهل الكوفة، وتتابعت رسلهم إلى الإمام الحسين علیه السلام : أَن لا أمير علينا، وأنّنا نريد أن نبايعك. ولأجل ذلك؛ أرسل الإمام الحسين علیه السلام مسلم بن عقيل ممثلاً شخصياً عنه؛ ليمتحنهم ويُنبئه عن أوضاعهم. ولمّا بايع أهل الكوفة مسلم بن عقيل، تمت الحجة، وكان لا بدّ من الخروج إليهم، والتوجه إلى العراق.
ومن هنا؛ قال علیه السلام : «هذه كتُب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليَّ إجابتهم، وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه»(3).
ولذلك؛ نجد أنّ الإمام عندما عدد أسباب مجيئه إلى الكوفة عدَّ منها تلك الرسائل والدعوات التي أوجبت حضوره، فقد بيّن أوّلاً خصوصيات الحاكم الذي يستحق الحكومة، وأنّ يزيد لا يصلح لذلك، فقال: «ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ
ص: 54
بالقسط، والدائن بالحقِّ، والحابس نفسه على ذات الله»(1).
ثمّ بيَّن أن أحد أهمّ الأسباب التي دعت إلى قدومه واختياره الكوفة هو الطلب الجماهيري من أهلها، فقال علیه السلام : «ومقالة جلِّكم إنّه ليس علينا إمام فأقبل»(2)؛ ولأجل ذلك قَبِل دعوتهم ليتمَّ الحجة عليهم بقدومه، كما تمت الحجة عليه بدعوتهم، ويُعتبر هذا من المبادئ القرآنية التي كرر التأكيد عليها في آيات عديدة(3). حتى أنّ القرآن الكريم جعل سبب إرسال الرسل الإلهية، إتمام الحجة على الناس.
قال الله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)» (4).
وبذلك يتبيّن أنّ مبادئ وقيم ومفاصل حركة ونهضة عاشوراء جميعها كانت من صُلب الدين، ومنصوصاً عليها في القرآن الكريم، وفي آيات متعددة، فنهضة عاشوراء هي أعظم تطبيق حي لمفاهيم وتعاليم ومبادئ القرآن الكريم، فإذا ما كانت تعاليم القرآن ومبادئه تعاليم إنسانية، نابعة عن الفطرة البشرية، عرف بذلك أنّ ثورة الإمام الحسين علیه السلام هي ثورة لكلّ البشر، ولكلّ مَن يريد العيش بكرامة وعدالة وعزّة.
ص: 55
ص: 56
*ثورَةُ الإصَلاحِ وَظُرُوفُ المُجتمَعِ الَإسلاميّد. حكمت الرحمة(1)
لم تكن عاشوراء الحسين علیه السلام بمعزل عن الظروف والملابسات التي عاشها المجتمع الإسلامي آنذاك، بل كانت نتيجة حتمية لما آلت إليه الأُمور من انحدارٍ صوب هاوية التمزّق والتفكك، والابتعاد عن التعاليم النبويّة، والسير باتجاه معاكس لرسالة القيم والمُثل السماوية، فشعار الإصلاح المطلق الذي رفعه الحسين علیه السلام ، يُنبئك بالفساد الذي حلّ بكلّ مفاصل الأُمّة الإسلاميّة، فكانت الثورة هي السلاح الوحيد الذي يتمكّن من إعادة كرامة الأُمّة وعزّتها، بعد أن مرّت بأدوار عديدة، وحكومات جائرة، أسفرت عن فقدان هذه الأُمّة إرادتها وروحها الإسلاميّة، وباتت أُمّةً مفككة مجزأة، تتلاعب بها الأهواء كيفما تشاء، وراجت فيها الروح القبلية من جديد، وأمسى الرجال فيها كالسلع في السوق تُباع وتُشترى من قِبل الحكّام، أولئك الحكّام الذين اتبعوا سياسة الإرهاب والتجويع من جهة، وبثّوا القصص والأساطير في مدحهم والثناء عليهم من جهة أُخرى؛ ليضفوا على أنفسهم صبغة إسلاميّة تحول دون قيام أيِّ ثورة ضدهم، ثُمّ راحوا يخترعون الأحاديث المزيّفة القائلة بحرمة الخروج على الحاكم الظالم، كما اخترعوا مذاهب عَقَدية جديدة تُضفي على تصرفاتهم شرعيّة كاملة، كالقول بالجبر والإرجاء.
ص: 57
وهكذا فقد مرّ المجتمع الإسلامي بظروف عصيبة غُيّبت فيه مبادئ الإسلام، وحوّلته إلى مجتمع خانع بائس لدرجة أنّه يقبل بخلافة يزيد بن معاوية، هذا الرجل المتحلل عن جميع القيم، والبعيد كلّ البعد عن خط الرسالة المحمّديّة؛ فوصل الأمر إلى مفترق طرق، إمّا القبول بيزيد وضياع الإسلام واندثاره، وإمّا الرفض والثورة، ونتيجتها الشهادة والسبي وبزوغ شمس الإسلام من جديد، ولم يكن للحسين علیه السلام غير الخيار الثاني، فلا أثر للكلمة، ولا فائدة في النُّصح، وكان لا بدّ من دماء تُوقِظ الضمير، وتُعِيد الصحوة، وتعدِّل مسير الانحراف؛ فكانت عاشوراء...
ونحاول في هذه الصفحات أن ننقل للقارئ صوراً مختصرةً عن الواقع السيّئ الذي كان يعيشه المسلمون في تلك الحقبة الزمنيّة، وصولاً إلى الثورة الحسينيّة المباركة.
ليس خفيَّاً على أحد أنّ بذرة التحوّل الأُولى في مسار الأُمّة الإسلاميّة، كانت بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله ؛ إذ انقسمت الأُمّة على فريقين، يرى أحدهما أنّ النصّ هو السبيل المتّبع في تحديد الخلافة الإسلاميّة. ويرى الآخر أنّ الخلافة شورى بين المسلمين؛ فكانت السقيفة، وكان ما كان من تنصيب للخليفة أبي بكر، وإقصاء للبيت العلويّ.
غير أنّه لو أردنا أن نغض الطرف عن هذا الخلاف، ونسلّط الضوء على ما حصل من انحراف في واقع الأُمّة وفي تطبيقاتها لأحكام الشريعة، فإنّ السقيفة ستكون أحد الأسباب الرئيسة المؤدّية إلى ذلك.
ولعلّ من الصعوبة أن يكون بمقدورنا تحديد الفترة الزمنيّة التي أحسّ فيها المجتمع بآثار انحرافه بوضوح؛ إذ إنّ التغيير الذي حصل هو تغيير تدريجي غير ملموس النتائج، ولكن نستطيع القول _ وطبقاً لما ذكره أهل السير والتاريخ _: إنّ بداية النصف الثاني من عهد الخليفة عثمان، قد شهد فيه المجتمع الانحراف العلني عن مبادئ الإسلام، ولا شكّ في أنّ هذا التغيير كانت له عوامل معيّنة أدّت إليه،
ص: 58
ولعلّ من أبرز هذه العوامل التي ساعدت على هذا التبدل في المجتمع هي السقيفة المشار إليها، ثُمّ ما أحدثه الخليفة عمر من تفضيل في توزيع الأموال، ثُمّ الطريقة الغريبة التي تولّى بها عثمان زمام الأُمور.
فأمّا ما يتعلّق بالسقيفة، فقد شاعت فيها الروح القبلية والحزبيّة وباتت هي المحرّك نحو الحكم والسلطان، وبالأخصّ عند فريق من القرشيين؛ إذ بعد ما اجتمع الأنصار بمعزل عن بقيّة المسلمين، وأخذوا يتداولون الرأي، وينادون بالخلافة، ظهر تكتّل من قريش، يرون أنّهم أحقّ الناس وأولاهم بالخلافة بعد الرسول صلّى الله عليه و آله ، وتنازعوا فيما بينهم، وكثُر الكلام واللغط، وانشقّ الأنصار فيما بينهم، وانتهت السقيفة بتولية أبي بكر لكونه قرشياً، وأُقصي الممثل الشرعيّ لخلافة السماء أمير المؤمنين عليّ علیه السلام ، والذي لم يكن له حضور في السقيفة؛ لانشغاله مع الهاشميين وبعض الصحابة بتجهيز جثمان النبيّ صلّى الله عليه و آله الذي لم يوارَ التراب بعدُ.
وهكذا تناسى المجتمعون عهود النبي صلّى الله عليه و آله جميعها، وتوصياته في عليّ علیه السلام والتي لا يسعُ المجال لذكرها في هذا المقال؛ فنتج عن ذلك تبديل النظريّة الإسلاميّة حول الخلافة، فبعد أنْ أراد لها الإسلام أن تكون مفهوماً إسلاميّاً، هدفه انتشال الأُمّة من الضياع، والسير بها وفق تعليمات وتوجيهات الرسول صلّى الله عليه و آله ، صارت حكومة قبلية، وأنّ قريشاً أحقّ بها؛ لأنّ محمّداً صلّى الله عليه و آله منها! وكان لهذه المسألة تأثيرها البالغ في اختلاف كلمة المسلمين وإلى يومنا هذا.
انتهت السقيفة بتولّي الخليفة أبي بكر مهام السلّطة، لكنّ الطابع الإسلامي العامّ في أغلب الأُمور لم يتغيّر بعد، خصوصاً فيما يتعلّق بتوزيع الأموال، فالروح المحمّديّة ما زالت طريّة بينهم.
غَمضَت عينا أبي بكر وقد أعاد للأذهان مبدأ النصّ في الخلافة، فنصّ على عمر من بعده؛ إذ لم تكن الشورى نافعة في كلّ الأوقات، بعد أن حقّقت غرضها في إبعاد أهل البيت علیهم السلام عن سدّة الخلافة، لكنّ هذا النصّ لم يكن مشابهاً للنصّ الذي نادى به
ص: 59
أبناء البيت العلويّ، فذلك كان النصّ المعصوم من الخطأ والزلل، وهو نصّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله ، بينما النصّ الآخر هو نصّ أبي بكر على خلافة عمر من بعده!
تربّع الخليفة عمر على سدّة الخلافة، وبدأت الأُمّة تزداد ابتعاداً عن توجيهات الإسلام الأصيل، ففي سنة (٢٠ﻫ) بدأ بتطبيق مبدأ التفاضل في العطاء؛ «ففضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار كافّة، وفضّل العرب على العجم، وفضّل الصريح على المولى، وقد كان أشار على أبي بكر أيّام خلافته بذلك، فلم يقبل...»(1)، كما فضّل مضر على ربيعة؛ ففرض لمضر في ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين(2)، كما أنّه فاضل بين الأنصار بتقديم الأوس على الخزرج، فبدأ برهط سعد بن معاذ الأشهلي من الأوس، ثُمّ الأقرب فالأقرب لسعد(3).
وكان لهذا التفضيل تبعات سلبيّة من تكوين طبقيّة في المجتمع، ومساهمة في إذكاء الصراع القَبَليّ بين مضر وربيعة، وكذا بين الأوس والخزرج، والصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم؛ نتيجة تفضيل العرب على العجم، والصريح على المولى.
كما أنّ عمر لم يكن على معرفة بأحكام وتطبيقات الإسلام الكثيرة، ولولا وجود عليّ علیه السلام لأخذت الأحكام تنحى منحىً آخر، وقد نُقل عنه في ذلك أنّه كان يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن(4).
ثُمّ إنّ عمر_ وقبل وفاته _ اقترح مشروعاً جديداً للخلافة، فقد جعل الخلافة من بعده شورى تتألّف من ستة نفر_ كلّهم من قريش _ يختارون من بينهم شخصاً للخلافة، وهؤلاء الستة هم: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف، ثُمّ ضيَّق
ص: 60
الدائرة؛ فجعل الميزان في الثلاثة الذين ينضمُّ إليهم عبد الرحمن بن عوف(1).
وكان لهذه الشورى إسهام كبير في تشتيت كلمة المسلمين، وتفريق أمرهم؛ إذ جَعلت من الناس طوائف وفِرَقاً مختلفة، فبعد أنْ اختلف أهل الشورى في تحديد الخليفة، انسحب عبد الرحمن منها؛ ليتظاهر بمظهر المحايد على أنْ يقوم هو بتحديد الخليفة، يقول الشعبيّ: «فخرج عبد الرحمن، فمكث ثلاثة أيّام يشاور الناس، ثُمّ رجع واجتمع الناس، وكثروا على الباب لا يشكّون أنّه يبايع عليّ بن أبي طالب، وكان هوى قريش كافّة _ ما عدا بني هاشم _ في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع عليّ، وهوى طائفة أُخرى مع عثمان، وهي أقلُّ الطائفتين، وطائفة لا يبالون: أيهما بويع»(2).
ووصل الأمر إلى أنّ قريشاً تعدُّ الخلافة إحدى مؤسساتها، وترفض أن يتقدّم أيّ من المسلمين للخلافة برأي يتنافى ورغباتها، فحينما نادى المقداد بضرورة تقديم عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، أجابه عبد الله بن أبي ربيعة بن مغيره المخزوميّ قائلاً: «يا بن الحليف العسيف، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش»(3).
وحينما قال عمّار: «فأنّى تَصرِفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم» أجابه رجل من بني مخزوم قائلاً: «لقد عدوت طورك يا بن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟!»(4).
وقد انتهت هذه الشورى بفوز عثمان اتباعاً لهوى قريش؛ وخلّفت بعدها آثاراً سيئة للغاية، وساهمت في تشتيت شمل المسلمين.
فهذا معاوية بن أبي سفيان يعترف بالنتائج التي سبّبتها شورى عمر في حديث له مع ابن الحصين؛ حيث قال: «يا بن حصين، قد بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً، فأخبرني عن شيء أسألك عنه! قال: سلني عمّا بدا لك.
أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين، وفرّق أهواءهم، وخالف بينهم؟.
ص: 61
قال: نعم، قتل الناس عثمان. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إيّاك. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم. قال: ما صنعت شيئاً. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنّه لم يُشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلّا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر... فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه...»(1).
انتهت الشورى باستيلاء الأُمويين على زمام الحكم، وذلك بشخص عثمان، وأخذ المجتمع يتذوق مرارة بُعده عن صاحب النصّ الشرعيّ، وبدأت ظواهر الانحراف تطفو على السطح، فكان أنْ انتهت تلك الخلافة بثورة عارمة قُتل على أثرها عثمان، ودُفن سرّاً في حشّ كوكب(2)، وهي مقبرة لليهود(3)!
حينما ولي عثمان الخلافة انتهج سياسة في الإدارة والمال لم يعهدها المسلمون من قبل، فقام بتوليته بني أُميّة على رقاب الناس واستأثر وإيّاهم بالأموال؛ وأصبح بيت المال بمثابة الملك الشخصي لعثمان وولاته؛ يصنعون به ما يشاؤون، فكان ممّا عابوا على عثمان: «أن عزل سعد بن أبي وقّاص، وولّى الوليد بن عقبة، وأقطع آل الحكم دُوراً بناها لهم، واشترى لهم أموالاً، وأعطى مروان بن الحكم خمس إفريقية، وخصّ ناساً من أهله ومن بني أُميّة»(4).
كما أنّه أخذ من بيت المال حُليّاً وجواهر ليحلّي بها بعض أهله، ولمّا طعن عليه الناس في ذلك خطب فيهم، فقال: «لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيء، وإن رُغمت به
ص: 62
أنوف أقوام!»(1).
وولّى على الكوفة أخاه من أُمّه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، المعروف بشربه الخمر، وصلاته بالناس وهو سكران(2)، فلمّا دخل الكوفة قال له سعد بن أبي وقّاص: «يا أبا وهب، أأمير أم زائر؟ قال: لا، بل أمير. فقال سعد: ما أدري، أحمقتُ بعدك؟! قال: ما حمقتَ بعدي ولا كست بعدك، ولكنّ القوم ملكوا فاستأثروا، فقال سعد: ما أراك إلّا صادقاً»(3).
وولّى بعده سعيد بن العاص فاستبدّ بالأموال، وكان يقول: «إنّ السواد [أي سواد العراق] بستان لقريش وبني أُميّة»(4).
كما أنّه ولّى مصر _ أخاه من الرضاعة _ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فمكث عليهم سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه(5).
وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن، فضمّ إليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة؛ وبذلك مهّد له الخلافة، وأنشأ له مملكة مترامية الأطراف.
يقول الدكتور طه حسين: «وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما أُتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان، وتثبيتها في بني أُميّة؛ فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية؛ فضمّ إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شاميّة بعيدة الأرجاء...»(6).
وكان هؤلاء الولاة من المتهمين في دينهم، وكان من بينهم مَن فِسْقُهُ مشهور، يقول سعيد بن المسيّب: «فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمّد صلّى الله عليه و آله ، وكان
ص: 63
يُستعتب فيهم فلا يعزلهم»(1).
وقد نتج عن تلك السياسة تجمّع ثروات ضخمة عند بعضٍ، ونشوء طبقيّة ظاهرة في المجتمع، وقد ذكر المسعوديّ بعض الأمثلة على هذه الثروات الضخمة في ذلك الوقت، فقد بلغت ثروة الزبير خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد وأمة، وضياعاً وخططاً في البصرة ومصر والكوفة والإسكندريّة، وكانت غَلَّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينار_ وقيل: أكثر_ وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً، وحين مات زيد بن ثابت خَلَّف من الذهب والفضة ما كان يُكسّر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار، ومات يعلى بن منية وخَلَّف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس، وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.
وأمّا الخليفة عثمان نفسه، فكان له عند خازنه يوم قُتل خمسون ومئة ألف دينار وألف ألف درهم [أي مليون درهم] وقيمة ضياعه بوادي القرى وحُنين وغيرهما مئة الف دينار وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً.
ثم قال المسعودي _ بعد ذكر هذه الطائفة _: «وهذا باب يتّسع ذكره ويكثر وصفه فيمَن تملّك من الأموال في أيّامه»(2).
كما كان لموقف عثمان أمام كبار الصحابة الذين عارضوا سياسته كبير الأثر في ازدياد النقمة عليه من المسلمين عامّة.
فقد عارض سياسته في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذليّ، وكان خازناً لبيت المال، فاعترضه عثمان بقوله: «إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال، فطرح ابن مسعود المفاتيح، وقال: كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين، فأمّا إذ كنت
ص: 64
خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك...»(1)، ولمّا قَدِم المدينة، ورآه عثمان _ وكان يخطب _ قال: «قَدِمت عليكم دويبة سوء، مَن تمشِ على طعامه يقيء ويسلح»، ثُمّ أمر عثمان بإخراجه من المسجد إخراجاً عنيفاً، حتّى تكسّرت بعض أضلاعه(2)
وعارضه أبو ذر الغفاريّ، فنفاه إلى الشام، فلم يكُف عن المعارضة، وأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة، ويُوقظ الناس، ويعمل على تعرية الباطل، وكان الناس يسمعون قوله، فخاف معاوية من دعوة أبي ذر إلى الحقّ، فكتب إلى عثمان يخبره بخطره على الشام، «فكتب عثمان إلى معاوية: أمّا بعدُ، فاحمل جُندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره، فوجّه معاوية مَن سار به الليل والنهار»(3).
وانتهى الأمر بأنْ نفاه عثمانُ إلى الربذة، ولبث فيها حتّى مات غريباً سنة ٣٢ﻫ.
وعارضه عمّار بن ياسر _ حليف بني مخزوم _ فشتمه عثمان، وضربه، فأصابه الفتق، وانكسر أحد أضلاعه وغُشي عليه(4).
ولقد كان المسلمون ينتظرون من عثمان استجابةً لهذه الدعوات التي كانت تنطلق من صميم الواقع المعاش، إلّا أنّهم أُصيبوا بخيبة أمل كبيرة، وهم يَرَون أنّ الإرهاب والتنكيل والتشريد هو جزاء كلّ معارض؛ ممّا أثار سخط المسلمين عامّة.
وفي المقابل، فإنّ أصحاب الثروات بدأوا باستغلال الأوضاع، وراح كلّ واحد منهم يجمع الناس من حوله في محاولة لاستلام الخلافة من بعد عثمان، فقد جاء في تاريخ الطبري: «كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروجَ في البلدان إلّا بإذن وأجل... فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر؛ فانساحوا في البلاد، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع مَن لم يكن له طول ولا
ص: 65
مزيّة في الإسلام، فكان مغموماً في الناس، وصاروا أوزاعاً(1) إليهم وأمّلوهم، وتقدموا في ذلك، فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم. فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلّا ذلك»(2).
وقال في موضع آخر: «لم تمضِ سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالاً في الأمصار؛ وانقطع إليهم الناس، وثبتوا سبع سنين كلّ قوم يحبون أن يلي صاحبهم»(3).
وحينئذٍ؛ تكون حلقات الثورة قد اكتملت على عثمان من كلّ الجوانب، فقد نتجت من السقيفة طبقة ترى أنّ الحكم لها لا غير، وأخذت هذه الطبقة تتمتع بثروات هائلة؛ بسبب مبدأ عمر في التفضيل، وسياسة عثمان المشار إليها، مضافاً إلى ما كوّنه مبدأ الشورى من طموح في نفوس أفرادها _ بل في غيرهم أيضاً _ في الحصول على الحكم، ممّا دفعها للاستفادة من كلّ الظروف للوصول إلى الحكم.
وفي قِبال هذه الطبقة طبقة فقيرة ممنوعة من الامتيازات كافّة، فتكون الظروف والدواعيّ للثورة موجودة عند الجميع، خصوصاً عند ملاحظة ما قام به عثمان من التنكيل بأصحاب الرسول صلّى الله عليه و آله .
فانفجرت الأُمّة بأسرها بثورة على خليفة المسلمين، يتقدّمهم وجوه الصحابة وقرّاء القرآن وخيار التابعين.
قال ابن الأثير _ في أحداث سنة (٣٤ ﻫ)_: «في هذه السنة تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله وغيرهم _ بعضهم إلى بعض _ أن أقدموا؛ فإنّ الجهاد عندنا، وعَظُمَ الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نِيل من أحد، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذبّ إلّا نفر، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعديّ، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس، فكلّموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان، فقال له: الناس ورائي،
ص: 66
وقد كلّموني فيك...»(1).
والمُلاحظ أنّ عثمان لم يواجه هذه الحركة الجماهيريّة بالحكمة والعدالة، فبدلاً من أن يستجيب لمطالب الثوّار، ويردع عمّاله وولاته من التصرفات المشينة، قام بردّ الثوّار بعنف، واستهان بهم! فجمع ولاته واستشارهم في الأمر، وسألهم عن الفعل الذي يفعله مع الجماهير المطالبة بعزل عمّاله، فقال له عبد الله بن عامر: «رأيي لك _ يا أمير المؤمنين _ أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك، فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه...
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على مَن قبلهم، وأمرهم بتجمير(2) الناس في البعوث، وعزم على تحريم أُعطياتهم؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه»(3).
وقد ازدادت الأُمور سوءاً؛ وانتهت الأحداث بثورة أودت بحياة الخليفة بصورة مأساوية.
وقد صوّر أمير المؤمنين علیه السلام تلك الأحداث بصورة رائعة، فقال: «استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع»(4).
وبعد سنين طويلة من وفاة الرسول _ وما حلّ بالمجتمع الإسلاميّ من تفكّك وطبقيّة وانتشار للفساد _ اتّجهت الناس بعد وفاة عثمان صوب عليّ علیه السلام طالبين منه تولّي الخلافة؛ فتسلّم الإمام زمام الأُمور والمجتمع غارق في الفساد، فكان لا بدّ له من نهضة على الأصعدة كافّة، فقد أصرّ علیه السلام على عزل ولاة عثمان الذين عُرفوا بالفساد في
ص: 67
الأرض، رغم المطالبات بإبقائهم بدعوى الصلاح في ذلك، فولّى على البصرة عثمان بن حُنيف، وعلى الشام سهل بن حُنيف، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب(1)، وقيل: إنّه ثبّت على الكوفة أبا موسى الأشعريّ بإشارة من الأشتر(2)، ثُمّ عزله فيما بعد(3). وهذه هي الأمصار الكبيرة في دولة الخلافة آنذاك.
ومن الواضح أنّ قيساً وعثمانَ وسهلاً كلّهم من الأنصار الذين تعرضوا للإقصاء في تلك الفترة.
فقد أراد الإمام علیه السلام أن يُعيد الصبغة الإسلاميّة الصحيحة للمجتمع، وأن يُلغي الفوارق التي اصطنعها الحكّام، فإنّ المسلمين سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام، فلا فرق بين قرشيّ وغيره، فذاك مبدأ أقرّته الجاهليّة وألغاه الإسلام.
ولذا لخّص سياسته في الحقوق بقوله: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه»(4).
كما أنّ الإمام علیه السلام وجّه ضربة قاسية للفئة المتسلّطة آنذاك والتي استأثرت بالأموال، فقرّر إعادة النظر في المسألة، وأمر بإعادة جميع الإقطاعات التي اقتطعها عثمان، وجميع الأموال التي وهبها إلى الطبقة الموالية إلى بيت المال، فقال علیه السلام : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفُرّق في البلدان، لرددته إلى حاله؛ فإنّ في العدل سعة، ومَن ضاق عنه الحقّ فالجور عليه أضيق»(5).
كما أعلن أنّه سيوزّع المال بين المسلمين بالتساوي، فقال: «ألا لا يقولنَّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا
ص: 68
الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتُهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار _ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله _ يرى أنّ الفضل له على مَن سواه لصحبته، فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيّما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقسم بينكم بالسويّة، لا فضل فيه لأحدٍ على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غداً _ إن شاء الله _ فاغدوا علينا، فإنّ عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحدٌ منكم _ عربيّ ولا أعجميّ، كان من أهل العطاء أو لم يكن _ إلّا حضر إذا كان مسلماً حراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... فلمّا كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، قال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادِهم، وأعطِ كلَّ رجل _ ممّن حضر _ ثلاثة دنانير، ثُمّ ثنِّ بالأنصار، فافعل معهم مثل ذلك، ومَن يحضر من الناس كلّهم _ الأحمر والأسود _ فاصنع به مثل ذلك. فقال سهل بن حُنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم. فقال: نُعطيه كما نُعطيك. فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضّل أحداً على أحد، وتخلّف عن هذا القسم _ يومئذٍ _ طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها»(1).
وطبيعي أنّ هذه السياسة العادلة لم ترق للطبقة المترفة إبّان حكم عثمان، لكنّها أنعشت القلوب الفقيرة التي عانت الأمرَّين؛ فبدأت ملامح خلاف جديد، وأخذت الأفكار تُحاك من وراء الستار، وهكذا أوصلت السياسات غير الحكيمة للخلفاء السابقين المجتمع إلى هوّة سحيقة، وبدأت إفرازاتها تظهر على الساحة بصورة جليّة؛ ولذا نرى أنَّ
ص: 69
الأمير علیه السلام عندما استدعى زعماء هذه الطبقة ليحاججهم على خلافهم إيّاه، أجابوه بأنّ سبب ذلك هو سيره على خلاف تقسيم عمر للأموال، وأنّه ساواهم بغيرهم(1).
وهكذا بدأت بوادر معركة يقودها الفريق المتضرّر من عدالة عليّ علیه السلام ، فكان دم عثمان هو الستار الذي خبّأت فيه مطامعها، فحصلت حركة التمرّد في البصرة تحت ذلك الستار، وكانت معركة الجمل التي انتهت بهزيمة المتمردين، وسقوط طلحة والزبير قتيلين مع آلاف القتلى من الطرفين.
وفي الوقت الذي انشغل الإمام علیه السلام فيه بتصفية الناكثين، فإنّ الشام لم تستجب لخلافة عليّ علیه السلام ، ولم تستقبل واليها الجديد، بل إنّ معاوية والي الشام سابقاً _ أحد زعماء الطبقة المنتفعة_ أخذ يعدُّ العُدَّة للقضاء على حكومة الإمام علیه السلام ، وتمكّن من إعداد جيش كبير متلاحم في صفوفه على الباطل، وباتت الشام تُؤوي كلّ متمرّد على حكم الإمام عليّ علیه السلام ، وكلّ رافض للعدالة الإلهيّة؛ فقد انضمّت إليها العناصر المنتفعة بعهد عثمان، والتي رأت في الحكم الجديد خطراً عليها، فلاحت في الأفق بوادر معركة جديدة، بعد أن فشلت جميع المراسلات بين الفريقين، ولم يعد هناك ما يجمع الكلمة سوى السيف.
وهكذا، فإنّ الحروب الداخلية زادت من تشتيت المجتمع وتفكيكه وتخاذله، بل وميوله إلى الباطل، لدرجة أنّ عليّاً علیه السلام كان على أبواب النصر في معركة صفّين، لكنّ الجهل والتخاذل في جيش الإمام علیه السلام أدّى لتمرير خدعة المصاحف التي رفعها معاوية؛ ومن ثَمَّ اضطرّوا الإمام علیه السلام إلى القبول بمهزلة التحكيم التي خلّفت وراءها انقساماً كبيراً في جيش الإمام علیه السلام ، فبين مُطالبٍ بالعودة إلى القتال، وبين مُطالبٍ بالدِّعة والركون إلى السلم، وبين داعٍ لمواصلة الحرب، ولكن بشرط أن يُعلن الإمام علیه السلام توبته على رؤوس الأشهاد، بعد أن حكّم الرجال في دين الله _ وهو كفر على حدِّ زعم هذه الطائفة ولا بدّ فيه من التوبة _ فانقسم جيش الإمام علیه السلام إلى ثلاث فئات؛ إذ من الصعب
ص: 70
أن تجمع الناس على الحقّ بعد أن فرّقهم الباطل ومزّقتهم الأهواء.
وبدأ الانقسام وظهر التقاعس وانفصل التكفيريون عن جيش الإمام علیه السلام ، وتجمّعوا في منطقة حروراء، وخيمت أجواء الحرب من جديد، بعدما فشلت جميع محاولات الإمام علیه السلام في إعادتهم إلى طاعته، وقتال معاوية تارة أُخرى... وبذلك انفتحت على الإمام علیه السلام جبهة أُخرى، أسفرت عن حرب ثالثة انتهت بمقتل جميع الخوارج الذين رفضوا العودة إلى طاعة الإمام، باستثناء تسعة أو عشرة، كما يذكر المؤرخون.
هكذا هي الثروة، وها هي نتائج ولاة عثمان، ثلاثة حروب في غضون فترة وجيزة، أنهكت قوى الإمام علیه السلام ، وشغلته عن القيام بثورته الإصلاحيّة الكبرى، وفتت جيشه الذي صار ميّالاً إلى الدِّعة والراحة والسكون، ورافضاً للحرب والقتال إلّا ثُلّة قليلة.. وكان الإمام علیه السلام يحاول جمعهم لقتال جيش الشام المتمرّد على حكومة الإمام علیه السلام ، لكن دون جدوى.
ولذا؛ نجد الحرقة واللوعة في خطابات الإمام علیه السلام لجيشه، فقال ذات مرة: «أُفٍ لكم! لقد سئمتُ عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذّل من العزّ خَلَفاً؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنّكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة...، وما أنتم إلّا كإبل ضلّ رعاتها، فلمّا جُمعت من جانب انتشرت من آخر...، وايم الله، إنّي لأظنُّ بكم أن لو حَمس الوغى، واستحرّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس..»(1).
ويبدو أنَّ هذه الخطبة كانت بعد حرب الخوارج _ وقعة النهروان _ حيث أراد أن يستنهض بها أصحابه من أهل الكوفة على أهل الشام، لكن دون جدوى، فقد نقل ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الخطبة، خبراً جاء فيه: أنّه: «لمّا كره القوم المسير إلى الشام _ عَقيب واقعة النهروان _ أقبل بهم أمير المؤمنين علیه السلام ، فأنزلهم النُّخيلة، وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم، ويوطِّنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يُقلّوا زيارة النساء وأبنائهم
ص: 71
حتى يَسير بهم إلى عدوهم، وكان ذلك هو الرأي _ لو فعلوه _ لكنّهم لم يفعلوا، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، فتركوه علیه السلام وما معه من الناس إلّا رجال من وجوههم قليل، وبقي المعسكر خاليّاً، فلا مَن دخل الكوفة خرج إليه، ولا مَن أقام معه صَبَر، فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة...»(1).
وقال علیه السلام في خُطبة أُخرى: «لله أنتم، أَمَا دين يجمعكم؟! ولا حميّةٌ تشحذكم؟! أوليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم _ وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة الناس _ إلى المعونة وطائفة من العطاء فَتَفرَقون عنِّي، وتختلفون عليَّ؟! إنّه لا يخرج إليكم من أمري رضىً فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه، وإنَّ أحبّ ما أنا لاقٍ إليّ الموت، قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم، وسوّغتكم ما مججتم _ لو كان الأعمى يَلْحَظُ أو النائم يستيقظ _ وأَقْرِبْ بقومٍ من الجهل بالله قائدهم معاوية، ومؤدبهم ابن النابغة!»(2).
وفي الوقت الذي يحاول الإمام علیه السلام إعادة تأهيل جيشه والعودة لقتال الشام، وإذا بيد الغدر الأثيمة تطاله وهو في محراب صلاته، ليفوز بحياة أبديّة، وتنتهي مسيرته في الدنيا المثقلة بالأعباء والمحن والبلايا.
وهكذا تتولد لنا صورة ذلك المجتمع الذي مال إلى الاستكانة والدِّعة، ورفض الحرب والقتال، مجتمع لا دِين يجمعهم ولا حميّة تشحذهم، خرقٌ باليةٌ متهتكة يتمنى أمير المؤمنين علیه السلام الموت على العيش معهم، وهذا ما يُلقي أكبر الضوء على أسباب اتخاذ الإمام الحسن علیه السلام موقف الصلح مع طاغية الشام.
أراد الإمام الحسن علیه السلام _ بعد أن تولّى الخلافة بعد أبيه _ أن يسير على نفس سياسة أبيه في مناجزة حكومة الشام والقضاء على يد الفتنة والتفرقة، وفي أوّل لحظات البيعة نراه
ص: 72
يشترط على الناس أن يكونوا مطيعين، يسالمون مَن سالم، ويحاربون مَن حارب، لكنّ المجتمع بدأ تخاذله أوّل وهلة، فارتابوا من هذا الشرط وقالوا: «ما هذا لكم بصاحب»(1).
كما أنّه علیه السلام وفي خُطوة أراد منها ترغيب النفوس وحثّهم على القتال قام بزيادة المقاتلة مائة مائة(2).
ولمّا عَلم معاوية ببيعة الناس للحسن علیه السلام ، دسّ رجلاً من حِمْيَر إلى الكوفة، ورجلاً من القين إلى البصرة، ليكتبا إليه الأَخبار، ويفسدا على الحسن علیه السلام الأُمور، فعرف ذلك الحسن علیه السلام ، فأمر باستخراج الحِمْيَريّ من عند حجّام بالكوفة فأُخرج، فأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة فاستخرج الإمام علیه السلام القينيّ من بني سليم، وضُربت عنقه(3)، ثُمّ كتب الإمام علیه السلام إلى معاوية: «أمّا بعدُ؛ فإنّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنّك تحب اللقاء، لا أشكّ في ذلك، فتوقعه _ إن شاء الله _ وبلغني أنّك شمتّ بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى***تج_هّ_ز لأُخ_رى م_ث_ل_ه_ا ف_ك_أنّ قد
فإنّا ومَ_ن ق__د م_ات م_نّا ل_كالذي ***يروح فيمسي ف_ي الم_بيت ليغتدي»(4).
وهذا إنذار وتهديد صريح من الإمام علیه السلام لمعاوية بالحرب، وقطعاً لآماله بالاستيلاء على الكوفة بسلام.
ومن جهته أخذ معاوية بالاستعداد لمعركة جديدة، وكتب لعمّاله بموافاته لغزو العراق، وذكر _ في بعض كتبه _ أنّ بعض أشراف الكوفة وقادتهم كتبوا إليه يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم(5).
وهذا النقل _ إن صحّ ولم يكن خدعة من معاوية _ إنّما يُفصح عن أنَّ الخذلان كان من اللحظات الأُولى.
ص: 73
وأخذ معاوية بالتحرك، ولمّا بلغ الإمام الحسن علیه السلام خبر مسير معاوية، وأنّه قد بلغ جسر منبج، بدأ بتجهيز جيشه، لكنَّ الاستجابة كانت بطيئة ومتثاقلة؛ فقد صعد الإمام علیه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال:
«أمّا بعدُ، فإنَّ الله كتب الجهاد على خلقه، وسمّاه كُرهاً، ثُمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، فلستم _ أيّها الناس _ نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنَّ معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا على المسير إليه، فتحرّك لذلك، فاخرجوا _ رحمكم الله _ إلى معسكركم بالنُّخيلة... فسكتوا، فما تكلّم منهم أحد، ولا أجابه بحرف»(1).
وهذا السكوت يكشف عن تخاذل واضح في جيش الإمام علیه السلام ، فلمّا رأى ذلك عديّ بن حاتم، قام وتكلّم مع الناس، وحثّهم على نصرة إمامهم، ثُمّ قام بعده قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، ومعقل بن قيس الرياحيّ، وزياد بن صعصعة التيميّ، فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم، وكلّموا الإمام الحسن علیه السلام بمثل كلام عديّ في الإجابة والقبول، فنشط الناس للخروج(2).
وهكذا تجهَّز جيش الإمام للقتال، لكنّه جيش كَتب على نفسه الهزيمة قبل أن يصل إلى ساحة المعركة؛ فهو يتألف من خليط غير متجانس، قال المفيد: «ثُمّ خفَّ معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكّمة _ خوارج _ يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلةٍ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شُكَّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم، لا يرجعون إلى دين»(3).
كما أنّ مجموعة من رؤساء القبائل كتبوا إلى معاوية بالطاعة له في السر، وحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن علیه السلام ، أو الفتك به، وقد بلغ الحسن علیه السلام ذلك(4).
ص: 74
ومما زاد الأُمور سوءاً أنّ قائد جيش الإمام الحسن علیه السلام _ عبيد الله بن عباس _ قد تسلّل تحت جُنح الظلام إلى جيش معاوية، بعد أن وصلته رسالة من معاوية يقول فيها: «إنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع. ولك _ إن أجبتني الآن _ أن أُعطيك ألف ألف درهم، أُعَجِّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسلّ عبيد الله إليه ليلاً، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلّي بهم، فلم يخرج حتى أصبحوا، فطلبوه فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد بن عبادة»(1).
وإذا ضممنا إلى ذلك ما قام به معاوية من شراء الضمائر بالأموال والدسائس، كما هو الحال بالنسبة إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجّار بن أبجر، وشبث بن ربعي وغيرهم(2)، وقيامه ببثّ الشائعات، والتي منها أنّ قيس بن سعد _ وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس _ قد صالح معاوية وصار معه، كما وجّه إلى عسكر قيس في مسكن مَن يتحدّث أنَّ الحسن علیه السلام قد صالح معاوية وأجابه(3)، ونشر في المدائن إشاعة خبيثة، وهي أنّ قيس بن سعد قد قُتل فانفروا. فنفروا إلى سرادق الحسن علیه السلام ، فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطاً كان تحته(4).
إذا ضممنا كلّ هذه الأُمور وغيرها من الأحداث _ التي لا يسع المجال لذكرها_ وعرفنا أنّ معاوية هو الذي طلب الصلح، وأنفذ إلى الحسن علیه السلام كُتُب أصحابه الذين ضمنوا فيها الفتك بالحسن علیه السلام ، أو تسلميه إلى معاوية، يتضح جليّاً سبب رُكون الإمام علیه السلام إلى الصلح الذي اقترحه معاوية؛ فإنّ المجتمع أمسى عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال، وانتزاع النصر، وإنَّ الحرب ستُكلّف الإمام علیه السلام استئصاله،
ص: 75
واستئصال المخلصين من أتباعه، وسوف يتمتع معاوية بنصرٍ حاسم يؤهله للقضاء على شجرة الإسلام.
لقد كان الصلح هو الطريق الوحيد الذي يمكن للإمام الحسن سلوكه باعتباره قائداً رسالياً إصلاحياً، فهو بين أُمور ثلاثة: الحرب، أو تسليم السلطة إلى معاوية وترك الأمر، أو الدخول في صلح يوجّه الأحداث من خلاله لصالحه وصالح أهدافه.
فما كان للحسن علیه السلام أن يتخذ الموقف الأوّل؛ لأنّه لو حارب معاوية في تلك الظروف المأساوية وبقواه العسكرية المفككة المتخاذلة، فإنَّ النتيجة واضحة، وهي أن يُقتل مع شيعته المخلصة _ بمَن فيهم أخوه الحسين علیه السلام _ ومن دون الحصول على أيّ نصر، ولو على المدى البعيد؛ فإنّ لمعاوية إمكانيّة تبرير ذلك، والمحافظة على مكانته من دون أن تؤثر عليه حتى حربه مع عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فإنّ ذلك لم يكن إلّا مطالبة بدم عثمان _ على حدّ زعمه _ كما أنّه كان من صحابة النبيّ صلّى الله عليه و آله ، وموضع ثقة الخليفتين عمر وعثمان، وها هو اليوم يريد الصلح بين الطائفتين، ويحاول دفع الفتنة، ويؤكد حُسنَ نيته أمام الملأ، فقد أمضى للحسن علیه السلام على بياض في أن يشترط قِبال الصلح ما يشاء، ولمعاوية طرائقه الخاصّة وأساليبه المعيّنة في إقناع ذلك المجتمع الخانع بمبرّراته.
وحينئذٍ؛ فلو أنَّ الحسن علیه السلام رفض الصلح وقاتل، لقُتل مع أصحابه، وضاع دمهم هدراً، من دون تحقيق الهدف المنشود، ومن دون أن ينكشف الواقع، ويصحو الضمير.
وأمّا اختيار الشّق الثالث _ وهو التخلّي والتنحّي من دون إبرام صلح _ فلا يتناسب مع المنصب الرسالي الذي يتولاه الإمام علیه السلام ، ولا يعود للمسلمين بأيِّ صلاح، ويمكّن معاوية من الاستيلاء على أُمور المسلمين دون قيود أو شروط.
إذن؛ لم يبقَ للحسن علیه السلام غير خيار الصلح، فوافق عليه، وأملى شروطه على معاوية التي منها: أن لا يَعهد معاوية لأحد من بعده، وأن يكون الأمر للحسن علیه السلام ، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين علیه السلام ، وأن يترك سبّ أمير المؤمنين علیه السلام ، والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكره علیه السلام إلّا بخير، وأنَّ الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله،
ص: 76
وغير ذلك(1) ممّا يترتب على تطبيقها مصالح إسلامية كبيرة.
فقد أراد الإمام من خلال هذا الصلح أنْ يطّلع الناس على الحقيقة بأنفسهم، ولكي يروا ثمار تقاعسهم عن القتال؛ فغرضه الأساس هو إعداد مجتمع يمكنه النهوض تجاه الظلم والانحراف، ولا شكّ في أنّ ردّة فعل كبيرة سوف تحصل عندما تَطَّلِع الناس على حقيقة سياسة معاوية، ويرون الأماني التي كان يمنّيهم بها معاوية تذهب أدراج الرياح، وكيف أنّ معاوية لا يفي بشروطه ولا بعهوده.
ولقد كانت أُولى الصدمات، حين دخل معاوية الكوفة بعدما اتسقت له الأُمور، فقد قام خطيباً في الناس، وقال: «إنّي _ والله _ ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون، أَلَا وإنّي منّيتُ الحسن، وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي، لا أفي بشيء منها له»(2).
ثُمّ قام بعد ذلك بعدّة إجراءات صدمت العراقيين في ذلك العصر، فقد أنقص من أُعطياتهم ليزيد في أُعطيات أهل الشام، وحملهم على أن يحاربوا الخوارج، فلم يُتح لهم أن يخلدوا إلى الراحة ويتمتعوا بالسلم الذي كانوا يحنّون إليه، كما طبّق منهاجه من الإرهاب والتجويع والمطاردة، والذي سيأتي الكلام عنه فيما بعد.
وقد بدأت ثمار الصلح تتجلّى، وأخذت الرجال تعرف حقيقة ما حدث بصنع أياديها «وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيّام عليّ، فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، ويندمون كذلك على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل الشام، وجعلوا كلّما لَقي بعضهم بعضاً تلاوموا فيما كان وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن علیه السلام ، والقول له، والاستماع منه»(3).
ص: 77
بل إنّ بعضهم طلب منه الثورة، لكنّ الإمام علیه السلام كان يُحيل الأمر إلى المستقبل، ويبيِّن أنَّ هذه الفترة هي فترة إعداد وانتظار، لا تخاذل وانسحاب، فقد قال لحجر: «إنِّي رأيتُ هوى أعظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحتُ بُقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، فرأيتُ دفع هذه الحروب إلى يومٍ ما، فإنَّ الله كلّ يومٍ هو في شأن»(1).
فالإمام علیه السلام كان يُهيئ الأُمّة الإسلاميّة للانقضاض على الحكم الأُمويّ، والإطاحة به، عن طريق إطلاعهم على حقيقة الحكم الأُمويّ البعيد عن المنهج الإسلاميّ الأصيل، فأراهم _ بأُمّ أعينهم _ سياسة التجويع والإرهاب والقتل التي يتبعها أولئك الساسة، وكان الإمام الحسن علیه السلام نفسه أحد ضحايا ذلك اللؤم الأُمويّ بعد أن دسّت له زوجته _ جُعدة بنت الأشعث _ سُماً قاتلاً بإغراء من معاوية بالمال تبعاً لسياسة الغدر التي انتهجها(2).
لا شكّ في أنّ بقاء مبادئ الإمام عليّ علیه السلام الداعية إلى العدالة والإصلاح وعدم التفريق بين لون وآخر من البشر ستُشكّل تحدياً مستمراً لمعاوية وبطانته، وستؤدي إلى زواله وزوال حكمه؛ لذا فإنّ معاوية عمل على محاربتها، وحاول أن يُطبّع الناس على الطابع الذي يؤمّن له سيطرته على البلاد، من دون رقابة ولا احتجاج، فانتهج سياسة سلب الحريّة من الإنسان المسلم، وتحويله عن أهدافه التي يصبو إليها، فكان القتل والتجويع نصيب كلّ من لا يتفق معه في الهوى السياسيّ، فها هو سفيان بن عوف الغامدي يقول: «دعاني معاوية، فقال: إنِّي باعثُك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمرّ بهيت فتقطعها، فإنّ وجدت بها جنداً فأغِرْ عليهم، وإلّا، فامض حتى تَغِيرَ على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى تُوغِل في المدائن، ثُمَّ أقبل
ص: 78
إليّ، واتقِ أن تَقرَبَ الكوفة. واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة؛ إنَّ هذه الغارات _ يا سفيان _ على أهل العراق تُرعِب قلوبهم، وتُفرِح كلّ مَن له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كلّ مَن خاف الدوائر، فاقتل مَن لقيته ممّن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررتَ به من القرى، وأحرب الأموال، فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب!!»(1).
كما دعا بالضحاك بن قيس الفهريّ، وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة، وقال له: «سر حتى تمرّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت، فمَن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ علیه السلام فأغِرْ عليه... فأقبَل الضحاك، فنهب الأموال، وقتل مَن لقي من الأعراب، حتى مرّ بالثعلبيّة فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثُمّ أقبلَ فلقي عمرو بن عُمَيس بن مسعود الهذلي _ وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود (صاحب رسول الله) _ فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة، وقتل معه ناساً من الصحابة»(2).
هذه هي السياسة التي سار عليها معاوية بعد مسألة التحكيم؛ القتل والتشريد والترويع، وقد استمر على هذه السياسة فيما بعدُ أيضاً، فقد كتب نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة _ أي عام الصلح _: «أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كلّ كورة، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً _ حينئذٍ _ أهل الكوفة، لكثرة مَن بها من شيعة عليّ علیه السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة، وضمَّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنّه كان منهم أيّام عليّ علیه السلام ، فقتلهم تحت كلِّ حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسَمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم»(3).
كما أنّه اتّبع سياسة التجويع وقطع أرزاق الناس وعانى من ذلك المسلمون
ص: 79
الأمرّين _ طبعاً باستثناء أنصاره من أهل الشام _ ونكتفي هنا بذكر كتاب واحد من معاوية إلى عمّاله في جميع البلدان، قال فيه: «اُنظُروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يَحُب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أُخرى: مَن اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيَّما الكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة عليّ علیه السلام ليأتيه مَن يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتُمنَّ عليه»(1).
والعمل الآخر الذي قام به معاوية، هو إثارته العصبيّة العنصريّة عند المسلمين العرب عموماً على غيرهم، فكان يقول عن أهل مصر: «إنّي وجدت أهل مصر على ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث أشبه الناس بالناس، وثلث لا ناس. فقال معاوية بن حديج لمعاوية بن أبي سفيان: فسِّر لنا يا أمير المؤمنين هذا. قال: أمّا الثلث الذين هم الناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس الموالي...»(2).
فلقد كان النظر إلى الموالي نَظَرَ سخرية واستهزاء وامتهان، بعيداً عمّا أراده الله الذي فضّل الناس بالتقوى والعمل الصالح. وقد دارت مشاجرة ذات مرّة بين عربيّ ومولى بين يدي عبد الله بن عامر، فقال المولى للعربيّ: «لا كَثَّر الله فينا مثلك. فقال له العربي: بل كَثَّر الله فينا مثلك. فَقِيل له: أيدعو عليك وتَدعو له؟! قال: نعم، يَكسَحون طُرَقنا، ويَخرِزون خِفافنا، ويَحُوكون ثِيابنا»(3).
ومن أخطر السياسات التي قام بها معاوية في سبيل تثبيت حكمه وسلطانه والإطاحة بخصومه، هي قيامه بوضع الأحاديث، واختراع الفِرَق العَقَدِية، ونشر القصّاصين الذي قاموا يروون فضائل الخلفاء ومعاوية، وذم أمير المؤمنين علیه السلام والعترة الطاهرة علیهم السلام ، قال أبو جعفر الإسكافيّ _ على ما نقله ابن أبي الحديد في شرح
ص: 80
النهج _: «إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في عليّ علیه السلام ؛ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يُرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين: عروة بن الزبير...»(1).
فقد استغل معاوية هؤلاء الأشخاص في سبيل بثِّ أحاديث منسوبة إلى النبيّ كذباً وزوراً؛ لتوجد في النفوس رادعاً دينيّاً يمنع الجماهير من القيام ضدّه، فكان قسم من الأحاديث في الانتقاص من عليّ علیه السلام وأهل بيته علیهم السلام ، من قَبِيل ما حدّث به عروة بن الزبير، قال: «حدّثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعليّ، فقال: يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملتي. أو قال: ديني!»
وحديثه الآخر المنقول عن عائشة أيضاً أنّها قالت: «كنت عند النبيّ إذ أقبل العباس وعليّ، فقال: يا عائشة، إن سَرَّك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار، فانظري إلى هذين قد طلعا. فنظرتُ، فإذا العباس وعليّ بن أبي طالب!».
وما رواه عمرو بن العاص من أنّه سمع رسول الله يقول: «إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليّ الله وصالح المؤمنين»! (2).
وغير ذلك من الروايات الموضوعة من قبل هؤلاء الوضاعين، والتي لا شكَّ ولاريب في بطلانها وكذبها.
وفي مقابل ذلك وضع مجموعة من الروايات في تمجيد بني أُميّة، وذكر فضائلهم، فقد كتب إلى عمّاله: «أنْ اُنظُروا مَن قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه؛ لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلِّ
ص: 81
مِصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً، ثُمّ كتب إلى عمّاله أنَّ الحديث في عثمان قد كثُر وفَشا في كلِّ مِصر، وفي كلِّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقضٍ له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرِئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله»(1).
ووضعوا قسماً آخر من الأحاديث يُحذّر المسلمين من القيام بأيِّ ثورة، ومن هذه الأحاديث أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله ، قال: «إنّكم سترون بعدي أثرة، وأُموراً تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم»(2). و«إنّه ستكون هنات وهنات، فمَن أراد أن يُفرّق أمر هذه الأُمّة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً مَن كان»(3).
ومضافاً إلى ذلك، فقد اخترع الأُمويون فِرَقاً دينيّة سياسيّة تُقدّم تفسيرات للدين تخدم السلّطة، ومن ذلك اختراعهم فِرقة المُرجئة التي تفسّر الإيمان بالاعتقاد القلبي فقط، ويَرَون أنّه لا تضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهذه العقيدة تدعو إلى انتشار الفساد في المجتمع من جهة، وإلى إضفاء شرعيّة على انحراف الخليفة وعمله بكلّ أنواع الموبقات من جهة أُخرى.
ص: 82
وشبيه بتلك الفِرقة من حيث النتائج، هي الفِرقة الجبريّة التي ترى أنّ الإنسان مجبور على عمله، ولا دخل لإرادته في ذلك.
قال أبو عبد الله المعتزليّ (شيخ ابن أبي الحديد)، بأنّ: «أوّل مَن قال بالإرجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص، كانا يزعمان أنّه لا يضرُّ مع الإيمان معصية»(1).
وذكر القاضي عبد الجبار بأنّ معاوية أوّل مَن قال بالجبر وأظهره؛ «ليجعله عذراً في ما يأتيه ويوهم أنّه مُصيب فيه، وأنّ الله جعله إماماً وولّاه الأمر، وفشا ذلك في ملوك بني أُميّة»(2).
وقال النشّار: «كان معاوية يُعلن الجبر بالشام»(3).
فمعاوية وسائر حكام بني أُميّة: «كانوا يَكرهون القول بحريّة الإرادة لا دينيّاً فقط، ولكن سياسيّاً كذلك؛ لأنّ الجبر يخدم سياستهم، فالنتيجة للجبر أنّ الله الذي يُسيّر الأُمور قد فرض على الناس بني أُميّة كما فرض كلّ شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره؛ فيجب الخضوع للقضاء والقدر»(4).
يمكن القول: إنّ الظروف العصيبة التي مُني بها المجتمع الإسلاميّ من سياسة البطش والتجويع والإرهاب والتمزّق القبليّ والعنصريّ أنتجت فريقين أساسيين من الناس، الأوّل: هو ذلك الفريق المضلّل بالغطاء الدينيّ، أو الذي اتّخذ من الغطاء الدينيّ شعاراً يستتر تحت ظلّه، فرغم الذّل والهوان الحاصل نتيجة القمع والاضطهاد، ورغم الانحراف الواضح عن قِيَم الإسلام ومبادئه، إلّا أنّ وخز الضمير والشعور بالإثم وإن كان موجوداً، لكنّه كُبح بلسان الدين المتمثل بضرورة الرضا والانصياع
ص: 83
والانقياد للحكم، عن طريق عقيدة الجبر والإرجاء وحُرمة الخروج على الحاكم الجائر، فالسكوت _ إذن _ يُمثّل امتثالاً للشريعة الإسلاميّة! فلا أمل من هذا الفريق بالتحرك، أو القيام بثورة ما دام السكوت يُمثّل الرضا الإلهيّ عنده.
وأمّا الفريق الآخر الذي لم تنطلِِ عليه حِيَل الأُمويين، ولم يؤمن بعقائدهم المصطنعة، فلم يكن وضعه بأفضل من سابقه؛ فكانت الإزدواجيّة هي المظهر المبيّن لشخصيّته، فمن جهة هو يَعرف الانحراف الذي حاق بالأُمّة. ومن جهة أُخرى، فإنّ سياسة التجويع والترهيب والنزعة القبلية المقتضية لطاعة أسياده وأوليائه من دون تردّد، تمنعه من النطق بكلمة الحق، وحوّلته إلى إنسان خاضع ذليل طامع، ولو بشيء يسير من دنيا معاوية.
وقد صوّر الفرزدق هذا اللون من الناس للإمام الحسين علیه السلام حينما سأله عن القوم، فأجاب: «قلوبهم معك، وسيوفهم عليك»(1).
فالمجتمع _ إذن _ تحوّل إلى مجتمع خانع يرضى بالذّل والهوان والخضوع، وتحوّل فيه الإنسان إلى فرد يعيش نطاقه القبليّ الضيّق، بعيداً عن كلّ مبادئ وقِيَم السماء، لا يملك فكراً ولا عقيدة ولا إرادة، لقد تحوّل من إنسان عَقَدي يحمل روح الثورة على الاستبداد والتسلّط، إلى إنسان تستبد به النزوات والمنافع، وتجعله تارة هنا وتارة هناك، لقد تحوّل من إنسان يحارب الظلم والفساد _ أيّاً كان مصدره _ إلى إنسان يكاد أن يكون ظالماً، ما لم يكن بالقهر مظلوماً.
هكذا تحوّل الإنسان المسلم إلى سلعة رخيصة يبتاعها الأُمويون في الأسواق، وهكذا أصبحت الضمائر رخيصة تتلاعب بها الأهواء.
وفي أمثال هكذا حكّام وهكذا مجتمع، نجد أهل البيت علیهم السلام يمثّلون صوت الحق، يمثّلون النداء المحمّديّ الأصيل: «مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يَعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعلٍ
ص: 84
ولا قولٍ، كان حقاً على الله أن يُدخله مُدخله»(1).
فراحوا يعدّون المجتمع، ويهيّئون الأرضيّة، ويدافعون عن الإسلام بكلّ ما أُوتوا من قوة، ابتداءً من أمير المؤمنين علیه السلام ، الذي ناجز القاسطين والناكثين والمارقين، ثُمّ قضى نَحبه على يدي أشقى الأولين والآخرين، فَخَلفه في الصراع ابنه الحسن علیه السلام ، الذي حالت ظروفه دون الخروج من المعركة شهيداً مضمخاً بدمه، لكنّه بقيَ في قِمَّة المعارضين والمنادين بتطبيق العدالة الإسلاميّة، حتى خرج من هذه الدنيا بمكرٍ خبيث من طاغية الشام، الذي اشترى تلك المرأة بأمواله العفنة؛ لتَدُسّ إلى كبده الشريف سُمّاً قاتلاً؛ فخرج من الدنيا وهو لم يألُ جهداً في إعداد المجتمع، وتهيئة الساحة الإسلاميّة لثورة عظيمة تهدّ عروش الظالمين، فلقد كان صلحه المبارك البذرة الأُولى في طريق ثورة الحسين علیه السلام ؛ إذ كان عدوه بمستوى من الدهاء والمكر، وكان جيشه مفككاً إلى أبعد الحدود، خصوصاً أنّ جيشه أصبح الصباح عليه وهو بلا قائد، فكان لا بدَّ من الصلح الذي يُعطي للإمام علیه السلام فرصة تهيئة العقول، والذي يسمح للذهنيّة السطحيّة أن تصطدم بالواقع السخيف لبني أُميّة اللئام؛ ولذا وجدنا الحسين علیه السلام قد سار على النهج نفسه، فلم يخرج للثورة في أيّام معاوية، وكان يدعو أصحابه إلى السكوت؛ فقد كتب إليه أهل العراق يسألونه أن يجيبهم إلى الثورة، وذلك بعد وفاة الإمام الحسن علیه السلام ، فكتب اليهم: «أمّا أخي، فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً، فإن يحدث الله به حدثاً _ وأنا حيّ _ كتبت إليكم برأيي، والسلام»(2).
وما كان هذا السكوت إلّا استمراراً لسياسة كشف الواقع الأُمويّ، وتهيئة الأُمّة؛ لأنَّ الظروف هي الظروف، وأنّ ردود الفعل السريعة من بعضٍ لا تؤهل للقيام بالثورة، وأنّ العدو الماكر الذي يُضفي على نفسه صبغة إسلاميّة ما زال موجوداً. كما
ص: 85
أنّ الصلح ألقى بظلاله على المرحلة، وأنّ أيَّ تحرك _ حينئذٍ _ سوف يؤدي إلى نتائج سلبيّه تعود بمضارّها على الإسلام، فمُبررات النهضة في ذاتها كانت موجودة، لكنّ الظرف لم يكن صالحاً للقيام بها.
وحينما هلك معاوية، وآلت النوبة إلى يزيد، لم يعد هناك ما يمنع من النهضة؛ فإنّ الحسين علیه السلام ليس له مع يزيد عقد ولا عهد، وأنّ يزيد لا يمتلك ما كان عند أبيه من الدهاء والمكر، وكان لا يهمّ بشيء إلّا ركبه، وكان معلناً بالفسق والفجور، كما أنّ المجتمع الإسلاميّ بدأ _ ومنذ صلح الإمام الحسن علیه السلام _ يعي حقيقة ما يجري في الساحة؛ فقد انكشف الزيف الأُمويّ، وخصوصاً بتولّي يزيد بن معاوية، هذا الرجل الذي لا يمتُّ إلى الإسلام بصلة، ولكن _ ومع ذلك _ فهو مجتمع مزدوج الشخصيّة، ما زالت مخلّفات السياسة الأُمويّة تنخر في جسده، فهو لا يستطيع _ لحد الآن _ أن ينطق بكلمة الحق.
لقد عاصر الحسين علیه السلام جميع تلك الظروف، وها هو اليوم يرى كيف يُراد للإسلام الاندراس والضياع، ويَرى كيف آلت الخلافة إلى يزيد الخليع الماجن، ولا يَرى ما يمنعه من القيام بنهضته الإصلاحيّة الكبرى، فإنَّ الوقت حان لتؤتي فيه الشجرة أُكُلها، وإنَّ الوقت حان ليسقي تلك الشجرة بدمائه الطاهرة؛ وكان لا بدّ من موقف واضح وصريح أمام هذا التجبّر الأُمويّ، فكانت شرارة الثورة برفض الحسين بيعة هذا الرجل، خدن الفهود والقردة، بقوله: «يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(1)، ومضى قُدُماً في موقفه هذا، يُقارع قوى الشرّ والنفاق، ويقف أمام هذا الذلّ والخنوع، ويوقظ الضمير الإنساني
ص: 86
ويقول: «وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد...»(1)، وحينما أراد الخروج كتب وصيّة لأخيه ابن الحنفية أوضح فيها هدفه من الخروج، فكتب: «أنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلّى الله عليه و آله ، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»(2).
واستمرت صرخات الحسين علیه السلام المدوّية؛ لاستنهاض المجتمع الإسلامي للقيام بوظيفته أمام دينه وعقيدته، حتى إذا ما رأى أنَّ ذلك الإصلاح لا يتحقق إلّا بدمائه الطاهرة، راح يُعلن صرخته المدوّية: «لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما»(3)، فما قيمة الحياة أمام هذا الذلّ والخنوع؟! وما قيمة الحياة أمام هذا التجبُّر الأُمويّ؟!
وهكذا استمرّ مسير الحسين علیه السلام واستمرّت صيحاته المدوّية الرافضة للظلم والاستبداد، حتى كان يوم عاشوراء، ذلك اليوم الذي سطّر فيه الحسين علیه السلام وأصحابه أروع القِيَم والمُثُل الإنسانيّة، حيث قدّموا أرواحهم قرابين لتنعم الأُمّة بعدهم بأريج الحريّة؛ فكانت تلك الملحمة البطوليّة، ملحمة الدم والفداء والتضحية، وكان ما كان... رؤوس مقطّعة، ونُحور مخضّبة بالدماء، أجساد مطرّحة على الأرض، نساء مسبيّة، دماء نازلة من السماء، لتؤذن ببداية عهد جديد، ولتوقِظ الضمير، وتُعيد الصحوة إلى النفوس، فقد انكسر حزام الخوف، وعادت الثقة بالنفس؛ لتنطلق من بعد ذلك الثورات الإسلاميّة على الغيّ والفساد، معلنة انتصار الثورة الحسينيّة، وبزوغ شمس الحريّة من جديد، وعودة شجرة الإسلام غَضَّة طريّة، فالإسلام محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء.
ص: 87
ص: 88
السيد محمد الشوكي(1)
ما من شك في أنّ الثورة الحسينية المباركة شكّلت حدثاً تاريخياً كبيراً في حياة الأُمّة الإسلاميّة، بل في مسار الإنسانيّة بصورةٍ عامةٍ. ولم تكن هذه الثورة محض حدثٍ تأريخي عابرٍ طواه الزمان فيما طوى من أحداث كثيرة، وإنّما مَثَّلت عنصراً حاضراً في فكر ووجدان وحركة الناس إلى يومنا هذا.
وحدث بهذا الحجم لا بدّ أن يُدرس دراسةً علميةً شاملةً، تغطي جميع أبعاده وآثاره.
ومن الواضح أنّ فَهم أيّ حدثٍ ما _ فهماً حقيقاً كاملاً _ يتوقف على فهم خلفيّاته ومنطلقاته؛ لأنَّ معرفة الخلفيّات تُلقي لنا أضواءً كاشفةً على طبيعة الحدث وأُسسه ومنطلقاته، وبدون التعرّف على خلفيّات أيّ حدثٍ أو موقفٍ ما ودراسته مقتطعاً عن سياقه التاريخي سوف ينتج نتائج مغلوطة _ وفي أحسن التقادير _ ناقصة وغير مكتملةٍ، خصوصاً تلك الأحداث الكبرى التي هي ليست ثمرة صدفةٍ عابرةٍ، أو موقفٍ ارتجالي مفاجئ، أو قرارٍ متسرّع.
ص: 89
وما من شك في أنّ الثورة الحسينيّة المباركة بحجمها الكبير، وبنتائجها الخطيرة، لم تكن أمراً ارتجالياً ناتجاً عن انفعال آني غير مدروس، وإنّما كانت نتيجة مواقف مسبقةٍ، وتراكمات عديدةٍ، وقرار مدروسٍ؛ كانت نتيجته تلك الثورة العظيمة، ومن دون ملاحظة تلك الظروف والمواقف السابقة، وقراءة الأحداث التي سبقت الثورة، يبقى تقييمها _ أو إعطاء حكم موضوعي بشأنها، بل حتى فهمها فهماً كاملاً _ أمراً غير ميسور.
وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض الدارسين لثورة الإمام الحسين علیه السلام ؛ حيث حاولوا أن يدرسوها مجتزأة عن سياقاتها الدينيّة والسياسيّة، والاجتماعيّة والتاريخيّة، وحدّقوا فقط فيما جرى في كربلاء، وفي أحسن الأحوال حاولوا دراسة الثورة، من حين بدء سلطان يزيد بن معاوية وخروج الإمام الحسين علیه السلام من المدينة، وحتى استشهاده في كربلاء، ممّا جعلهم يصدرون أحكاماً خاطئةً تجافي الحقيقة، وتبتعد عن الواقع بمسافات طويلة.
من هنا؛ نجد من الضروري ونحن نحاول أن ندرس ثورة كربلاء أن نمرَّ على خلفيّاتها والأحداث السابقة عليها؛ لنتعرف على سياقاتها التي قامت فيها. ولا يخفى على المتتبع لمسرح الأحداث، أنّ الإحاطة بالظروف السابقة على الثورة وملاحقتها من جذورها الأُولى، يستدعي وقفةً طويلةً، وإسهاباً كثيراً هو خارج عن إطار هذا البحث، ولكننا سنقوم بقراءة سريعة نحاول من خلالها إعطاء صورة مقتضبة لتلك الظروف والخلفيّات.
هناك سؤال يبرز بقوة أمام الدارس لأحداث التاريخ الإسلامي، وخصوصاً في تلك الحقبة التي انطلقت فيها الثورة الحسينيّة، وهو سؤال جوهري لا بدّ من البحث عن إجابة له، والسؤال هو: إنّ الفترة التي عايشها الإمام الحسين علیه السلام شهدت حكومة الطلقاء والأدعياء، وتَحَكُّمَهم بمصير الأُمّة، فما الذي حصل حتى يتمكّن الطلقاء
ص: 90
والأدعياء من الاستيلاء على السلطة في الأُمّة والتحكم بمصيرها؟ وكيف وصلوا إلى ذلك؟ ليست قضيةً بسيطة أن يستولي الطلقاء _ الذين حاربوا الرسول صلّى الله عليه و آله والرسالة، وحاربوا الأُمّة طويلاً، ولم يَدخلوا في الإسلام إلا كُرهاً_ على زمام الأُمور فيها.
ثُمّ أيّ داهيةٍ دهت الأُمّة؟! وأيّ عوامل أدت بها إلى أن تصل إلى هذا المنحدر الخطير؟! بحيث تقتل ابن بنت نبيها وسبطه، وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، وتسبي عياله كسبي الترك والديلم، هذا ليس سؤالاً بسيطاً فما الذي حدث؟!
لا نريد أن نرجع بك _ أخي القارئ _ بعيداً وإلى ما جرى بعد النبي صلّى الله عليه و آله من نزاع على السلطة بكل جدلياتها وإشكالياتها، وإن كان النزاع على السلطة _ وما أفرزه من نتائج _ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفهم مسار الأُمور، وكيف وصل الأمر إلى الطلقاء؟! إذ من الواضح لو أنّ مسيرة الإسلام جرت كما قد خطط لها النبيُّ صلّى الله عليه و آله من قبل، واستمرت التجربة الإسلاميّة بقيادة الإمام علي علیه السلام _ تلك القيادة الإلهيّة المعصومة_ لما وصل الأمر إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء. فتَسلُّط الطلقاء وتغَلغُلهم في الجسد الإسلامي جاء نتيجة الأحداث التي أعقبت وفاة النبي صلّى الله عليه و آله ، والقيادات التي حكمت بعده تتحمل المسؤوليّة عن وصول الطلقاء إلى حكم المسلمين، ولكننا لا نريد الخوض في ذلك فعلاً؛ لأنّه يحتاج إلى بحث، بل بحوث مستقلةٍ هي أوسع مما نحن بصدده، وإنّما كلّ ما نحاول أن نركّز عليه، هو بدايات المشروع الأُمويّ، الذي استطاع أن يستولي على مقاليد الحكم في الدولة الإسلاميّة بفترة قياسيّة.
الشخصيّة الأُمويّة شخصيّة نفعيّة مصلحيّة، بعيدة عن الالتزام بالمبادئ والثبات عليها، ولعلّ ذلك يرجع _ بحسب نظر بعض الباحثين _ إلى طبيعة عملهم في الأسواق والصفقات التجاريّة، التي جعلت من شخصيّاتهم شخصيّات نفعيّة لا تؤمن إلّا بمبدأ الربح والخسارة، ووهبتهم صبغة براغماتية في التعامل مع الأشخاص والأحداث.
ص: 91
وعندما بزغ نور الرسالة في مكّة المكرّمة، شعر الأُمويون بأنّ ذلك يشكّل تهديداً كبيراً لمصالحهم في مكة المكرّمة، خصوصاً وأنّه ظهر من خصومهم ومنافسيهم التقليديين بني هاشم؛ فتصدوا لقيادة جبهة العداء للقضاء على الرسول صلّى الله عليه و آله والرسالة، وجيشوا الجيوش وقادوا المعارك في سبيل اجتثاث شجرة الرسالة الباسقة، واستئصال شأفتها، وإطفاء نورها الوقّاد. ولكنّ الله تعالى نصر نبيَّه وأفشل كلَّ محاولاتهم للنيل من رسوله، حتى أتى أمر الله وهم كارهون؛ فدخلوا في الدين الجديد تحت طائلة السيف، ولم يدخلوه بقناعة منهم أبداً، وعلى حدِّ تعبير أمير المؤمنين علیه السلام : «ما أسلموا ولكن استسلموا»(1). ويقول علیه السلام في كتاب لمعاوية: «وأمّا قولك: إنا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، ولكن ليس أُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمُدغِل، ولبئس الخَلف خلف يَتبَع سلفاً هوى في نار جهنّم، وفي أيدينا بعدُ فضلُ النبوَّة التي أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذَّليل، ولمَّا أدخل الله العرب في دينه أفواجاً، وأسلمت له هذه الأمَّة طوعاً أو كرهاً، كنتم ممّن دخل في الدين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم»(2). وقال أيضاً متحدثاً عن معاوية: «لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين»(3).
لقد رأوا أنّ الدين الجديد أصبح واقعاً لا مفرّ منه، ولا بدَّ من التعامل معه بأُسلوب جديد؛ لأنّ الوقوف بوجهه لن يجدي نفعاً، وقد علّمتهم السنوات الماضية ذلك جيداً. والشخصيّة البراغماتية تُحسِن التعامل مع متغيرات الواقع وتوظيفها لصالحها، فمن الغباء أن تواجه هكذا موجة بحر عاتية تكسر أضلاعها، في حال أنّ بإمكانها أن ترتقيها لتوصلها إلى الشاطئ، إذا كانت من ركاب الأمواج الجيدين.
لقد رأى الأُمويون أن لا فائدة في مواجهة المدّ الإسلامي، فلماذا الإصرار على
ص: 92
مواجهته وهو قد يُتيح لهم فرصة استثنائية لم تكن تتوفر لهم في أيام الجاهلية إن أحسنوا استغلالها؟! فهذا الدين الجديد اكتسح الجزيرة العربية، وأسّس له سلطاناً مكيناً في ربوعها، ومن الممكن أن تتسع رُقعته إلى ما لم يتصوره أحد منهم، فلماذا لا ينزعون جلدهم ويلبسون جلداً ثانياً يتغلغلون من خلاله إلى الاستيلاء عليه؟!
إنّ بني أُميّة كانوا يعلمون جيداً أنّ فرصتهم قليلة جداً في حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله ، ولكن عليهم أن ينظروا نظرةً بعيدةً، وأن يُخططوا للمستقبل الآتي، وهكذا كان!
وقد كان النبيّ صلّى الله عليه و آله يُدرك ذلك جيداً، وأنّ القوم سيحاولون التسلُّق إلى قمة المجتمع الإسلامي، وقد رأى في منامه _ الذي لا يأتيه الباطل _ كأنّ قردةً ينزون على منبره، وقد عَلِم أنّهم بنو أُميّة، وهم الشجرة الملعونة؛ ولهذا حذّر المسلمين من ذلك كثيراً، بل قالها بصراحة تامة: «الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»(1).
كان أبو سفيان يَعرف جيداً أنّه لا فرصة لديه لتبوّء منصب مهمّ في حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله ، وكذلك سوف لن تكون حظوظه كثيرةً في سلب سلطان محمّد صلّى الله عليه و آله ، الذي كان يحلم به بعدَ وفاته مباشرةً، فهو عدو المسلمين بالأمس، وليس له في الأمر قَدم ولا قِدَم، ولكن بإمكانه أن يتسلل تحت عباءة اللاعبين الرئيسين في المسرح.
لقد حاول أن يُجرِّب حظّه في البداية مع أمير المؤمنين علي علیه السلام ، مستغلاً حنق الإمام علي علیه السلام ممّا جرى في السقيفة من جهة، وقلّة ناصريه من جهة أُخرى. فجاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام وحاول أن يستثيره، وأن يتلاعب بمشاعره تجاه اختطاف بني تيم وعديّ لخلافة رسول الله صلّى الله عليه و آله ، وهم غير لائقين بها في جاهليّة أو إسلام _ كما كان يرى _ وكذلك حاول أن يجعله يثور عليهم ويناجزهم القتال، واعداً إيّاه بأنّه سيملؤها عليهم خيلاً ورجالاً إن شاء.
وهنا تبرز قمّة البراغماتية السياسيّة في موقفه هذا، فهو لا يمانع أن يتحالف مع
ص: 93
علي علیه السلام خصم الأمس، ما دام أنّه يوفّر له مصالحه، فالقاعدة البراغماتية تقول: ليس لنا أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن لنا مصالح دائمة.
وبطبيعة الحال، لم يذكر التأريخ أنّه اشترط على الإمام علي علیه السلام شرطاً في مقابل ذلك، ولكنّه كان في مرحلة جسّ النبض، واكتشاف المواقف، ولو أجابه أمير المؤمنين علیه السلام لمِا أراد _ وتلهّف إلى التحالف معه _ لوضع حينها قائمةً بالشروط التي ستؤمّن له أو لأولاده مكاناً في الدولة الإسلاميّة. ولكن موقف أمير المؤمنين علیه السلام كان حازماً وحاسماً، فرفض هذا العرض رفضاً قاطعاً، وطرد أبا سفيان؛ لأنّه كان يُدرك أنّ الرجل لا يفكّر في مصلحة الإسلام، ولا في مصلحة علي علیه السلام ، وإنّما كان يفكّر في مصلحته الشخصيّة ومصلحة عشيرته فقط.
وهنا تظهر المبدئيّة العلويّة في أروع صورها، في مقابل النفعيّة الأُمويّة المخادعة.
بعد أن يئس أبو سفيان من الإمام علي علیه السلام مثلما يئس من ابن عمّه المصطفى صلّى الله عليه و آله ، وأنّه لن يُداهن في أمر دينه، كان لا بدّ من البحث _ إذاً _ عن منفذ آخر يُؤمّن تغلغل بني أُميّة في الجسد الإسلامي؛ وذلك من خلال التقرّب إلى السلطة الحاكمة نفسها، فبإمكانه أن يكون حليفاً قوياً لها، ويكون داعماً كبيراً لسياساتها، وسائراً تحت مظلّتها، متسلّقاً شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى قمّتها. وهذا ما يظهر من وصيّته لولده معاوية بعد أن ولّاه عمر بن الخطاب الشام: «يا بني، إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا، فَرَفَعهم سَبقِهم وقِدَمِهم عند الله وعند رسوله، وقصّر بنا تأخيرنا؛ فصاروا قادةً وسادةً، وصرنا أتباعاً، وقد ولَّوك جسيماً من أُمورهم، فلا تخالفهم؛ فإنّك تجري إلى أمدٍ فنافس، فإن بلغته أورثته عَقِبَك»(1).
وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى غاية أبي سفيان ومبتغاه، من أنّ الإمرة تليق بهم لا بهؤلاء، ولكن ما العمل مع وجود أمر واقع لا بدّ من مسايرته، وهو سَبق هؤلاء في الدخول إلى الإسلام؛ وبذلك استطاعوا أن يتبوّأوا هذه المناصب القياديّة، فلا
ص: 94
سبيل إلّا بمتابعتهم ومسايرتهم. فمعنى كلامه المتقدّم بعبارة أُخرى: هو أنّ هؤلاء سبقونا في الدخول إلى الإسلام، فأخذوا المناصب، ونحن مضطرّون لأن نكون تبعاً لهم، ولا نستطيع أن نَخطِف منهم الإمرة بسرعة؛ لأنّنا لا نَملك المقبوليّة الكاملة في المجتمع الإسلامي؛ فعلينا أن نَسير بخطىً وئيدةٍ، وأن نُساير القوم ونُبدِي لهم كمال الطاعة والانقياد إلى أجل مسمّى، وعليك أن تنافس في الوصول إلى الغاية، والغاية هي: الحكم الذي ستورثه في عَقِبك فتنشأ عندها الإمبراطورية الأُمويّة.
ويكشف لنا هذا النص مسألة خطيرة جداً، وهي أنّ توريث الخلافة الإسلاميّة _ وجعلها ملكاً عضوضاً _ مسألة قد خُطِّط لها من قبلُ، وحتى قَبلَ أن يصل بنو أُميّة إلى السلطة، وهو الأمر الذي جَرّ الويلات على الأُمّة الإسلاميّة.
أدرك أبو سفيان وبطانته أنّ الأمر انتُزع من بني عبد مناف، وصار لبني تيم وعديّ، وهو وإن كان رافضاً لذلك من منطلق قَبَليّ؛ لأنّه يرى أنّ بني تيم لا يملكون من الشرف والسؤدد بين العرب ما يؤهلهم أن يكونوا ملوك الناس وأسيادهم، إلّا أنّه أدرك أنّ هذه المعادلة أصبحت أمراً واقعاً يصعب تغييرها، فلا بدّ إذاً من التعامل معها والانضمام إليها تماماً كما فعل مع واقع الإسلام الذي انتصر على جبهة الكفر.
لم تمانع السلطة الحاكمة آنذاك أن تغازل أبا سفيان وأن تخطب ودّه؛ لمكانته في قريش من جهة، ولتأثيره الكبير على مُسلِمة الفتح، الذين يشكّلون الغالبيّة السكانيّة في المجتمع الإسلامي آنذاك من جهة أُخرى، فهو يُشكل خطراً كبيراً على السلطة الحاكمة آنذاك، أو لا أقل أنّ باستطاعته أن يُسبب لها بعض المشاكل والصداع، فلا بدّ من احتوائه إذاً. وبما أنّهم يعرفون أنّ أبا سفيان يُحب المال والسلطة، فقد لبّوا له الأمرين معاً؛ ولذا لمّا جاء أبو سفيان _ وكان قد بعثه النبيّ صلّى الله عليه و آله جابياً للصدقات _ وعَرف أنّ أبا بكر قد بُويع بالخلافة، وقال: أرى عجاجة لا يُطفِئُها إلّا الدم... جاء عمر لأبي بكر وقال له: «إنّ هذا قد قَدِم، وهو فاعل شراً، وقد كان النبيّ يستألفه على
ص: 95
الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل؛ فرضي أبو سفيان وبايعه»(1).
فكانت بيعته في مقابل استحواذه على ما بيده من أموال الصدقة، أو قل: إنّ الخليفة الجديد اشترى بيعة أبي سفيان بالأموال.
لكنّ أبا سفيان لم يقنع بهذه الكعكة الصغيرة ثمناً لسكوته ومبايعته؛ فهو يطمح لمناصب في الدولة، فأرضته السلطة بذلك أيضاً. روى الطبريّ عن حمّاد بن سلمة عن ثابت، قال:«لمّا استُخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل؟! إنّما هي بنو عبد مناف. قال: فقيل له: إنّه قد ولّى ابنك. قال: وصلته رحم»(2).
فحزب الطلقاء بقيادة بني أُميّة لم يجدوا أيَّ ممانعة عند دخولهم في السلطة الجديدة، بل على العكس، فقد فُتحت لهم الأبواب ليتبوّأوا مناصب عُليا في الدولة الإسلاميّة. وكان دخولهم في جسد السلطة السياسيّة دخولاً تدريجياً تصاعدياً، بدأ ضيقاً في زمن أبي بكر، واتسع في زمن عمر، وتمكّن في زمن عثمان. وهذا التدرّج أمر طبعي، بل ضروري، فليس بإمكان السلطة في بداية أمرها أن تفسح مجالاً واسعاً للطلقاء، ليشكّلوا حضوراً لافتاً في أجهزتها؛ لأنّ ذلك سيُثير حفيظة المسلمين، ويُثير الشكوك والمخاوف في نفوسهم. فلا بدّ من تأهيل حزب الطلقاء تدريجياً ليصبحوا مقبولين في المجتمع الإسلاميّ.
ومن هنا؛ نرى أنّه أُعطيت مجموعة من المناصب لحزب الطلقاء في بداية حياة السلطة الجديدة، وخصوصاً بني أُميّة، وقد بعث الخليفةُ الأول يزيدَ بن أبي سفيان وأخاه معاوية بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص، وعمرُ بن العاص على رأس جيش الشام، ليتولاها بعد ذلك في زمان الخليفة الثاني يزيد بن أبي سفيان، ومن بعده أخوه معاوية.
والمُلاحظ أنّ الخليفة الأول والثاني _ فضلاً عن الثالث _ استعملوا على الأمصار الإسلاميّة مجموعةً كبيرةً من الطلقاء، ومُسلِمة الفتح، ولم يستخدموا أحداً من بني
ص: 96
هاشم، أو مَن يدور في فَلَكِهم من أنصار ومهاجرين، فقد قيل لعمر بن الخطاب: «إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص ومعاوية وفلاناً وفلاناً من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركتَ أن تستعمل علياً والعباس والزبير! فقال: أمّا عليّ، فأنبه من ذلك، و أمّا هؤلاء النفر من قريش، فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد، فيكثروا فيها الفساد»(1).
وعلى أيّة حال، فإنّ بني أُميّة استطاعوا أن ينضمّوا إلى السلطة، وأن يبحثوا لهم عن موطئ قَدم فيها، وراحوا يعملون بدبلوماسيّة ناعمة، حتى تمكنوا من ذلك فعليّاً في زمن الخليفة الثاني، ووجدوا لهم موطئ قَدم في بلد يُعدّ من أهمّ البلاد الإسلاميّة، حيث استخلف عمرُ بن الخطاب يزيدَ بن أبي سفيان على الشام، ثمّ بعد أن مات استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان، ووسّع من رقعة ولايته، فجمع له الشامات كلَّها، وأعطاه صلاحيّات واسعة، لم يعطها لواحد من ولاته على الأمصار؛ تحت ذريعة تقوية الخاصرة الشماليّة للدولة الإسلاميّة.
لم يكن عمر بن الخطاب _ كما يروي المؤرخون _ يحاسب معاوية كما يحاسب بقيّة عمّاله، فقد عُرف عنه أنّه كان شديداً مع العمّال، فقد تعتع بخالد بن الوليد عامله على قنسرين، لمّا بلغه أنّه أعطى الأشعث عشرة آلاف؛ فأمر بلال الحبشيّ، فعقله بعمامته وأوقفه بين يديه على رِجل واحدةٍ مكشوف الرأس بين الملأ، ثمّ بعد ذلك عزله، ولم يُولّه حتى مات. وأوجع أبا هريرة ضرباً بالدُرّة لمّا كان عامله على البحرين، وقصصه كثيرة في ذلك. لكنّه لم يكن يحاسب معاوية على شيء من ذلك، وإذا بلغه عنه شيء دافع عنه، فقد روى ابن كثير في البداية والنهاية عن الزهريّ، قال:«ذُكر معاوية عند عمر بن الخطاب فقال: دعوا فتى قريش وابن سيّدها، إنّه لمن يضحك في الغضب، ولا ينال منه إلّا على الرضا، ومَن لا يؤخذ من فوق رأسه إلّا من تحت قدميه» (2).
ص: 97
وروى الذهبيّ في سير أعلام النبلاء قائلاً:«لمّا قَدِم عمر الشام تلقّاه معاوية في موكب عظيم وهيئة، فلمّا دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: نعم. قال: ولم تفعل ذلك؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم، فإن نهيتني انتهيت. فقال: يا معاوية، ما أسألك عن شيء إلّا تركتني مثل رواجب الضرس لئن ما قلت حقاً إنّه لرأي أريب، وإن كان باطلاً فإنّه لخدعة أديب. قال: فمرني. قال: لا آمرك ولا أنهاك»(1).
نعم، إنّه لا يأمره ولا ينهاه، فقد أعطاه الحريّة الكاملة في التصرف. وكان إذا رآه قال: «هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب»(2).
يقول الشيخ محمود أبو ريّة: «ممّا يدعو إلى المُلاحظة هنا، أنّنا لم نجد عمر رضي الله عنه قد اتبع هذه السنّة في معاوية بن أبي سفيان، فقد أبقاه عاملاً على دمشق سنين طويلة، ولم يزعجه بالعزل كغيره، وكان ذلك ممّا أعان معاوية على طُغيانه، وأن يحكم حكماً قيصريّاً طوال أيامه»(3).
نعم، استغل معاوية هذه الصلاحيّات، واستفاد من عدم مؤاخذة الخليفة له، فراح يبني له سلطاناً قويّاً في تلك البقعة المهمّة من الدولة الإسلاميّة، لا تنافسه في قوته واستحكامه إلّا عاصمة الدولة في زمان عمر بن الخطاب.
وكان اختيار الشام من قبل بني أُميّة من الأساس اختياراً دقيقاً وماكراً؛ لأنّهم علموا أنّ مشروعهم الكسرويّ لا يمكن أن ينمو في مدينة النبي صلّى الله عليه و آله ، فتركيبتها الجغرافيّة والديموغرافيّة والاجتماعيّة والدينيّة لا تشكل بيئة مناسبة للمشروع الأُمويّ، بخلاف الشام التي كانت تغايرها في كلّ ذلك، ولا مجال للتفصيل في بيان هذه المسألة الهامة.
ص: 98
لقد حاول حزب السلطة القرشيّ تسويق الأُمويين في الساحة الإسلاميّة، وراح يعدُّ الأرضية لهم ليتولوا قيادة الحزب؛ لأنّهم الأجدر في الحفاظ على مكتسبات بطون قريش، والأقدر على إقصاء بني هاشم من الساحة. وفعلاً تمّ ذلك من خلال الشورى السداسيّة التي أفضت إلى انتخاب عثمان بن عفّان لمنصب الخلافة.
تكللت جهود الأُمويين بالنجاح من خلال اختيار ابن عمّهم عثمان بن عفّان خليفة للمسلمين، فها هم يتولون زمام الأُمّة التي حاربوها طويلاً، ونالوا بالسلم والمراوغة ما لم ينالوه بالحرب، وها هي الخلافة كُرَةٌ يتلاقفها صبيانهم بأمر من زعيمهم صخر بن حرب (أبي سفيان).
روى ابن أبي الحديد المعتزليّ عن الشعبيّ: «بعد أن صَفَق عبد الرحمن بن عوف على يد عثمان معلناً اختياره خليفة للمسلمين، اجتمع بنو أُميّة كلّهم في دار عثمان حتى امتلأت بهم الدار، ثُمّ أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا. قال: يا بني أُميّة، تلقَّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب، ولا حساب، ولا جنّة، ولا نار، ولا بعث، ولا قيامة!»(1).
وفي سقيفة الجوهريّ أنّ أبا سفيان، قال: «كان هذا الأمر في تيم، وأنى لتيم هذا الأمر، ثُمّ صار إلى عديّ فأبعد وأبعد، ثُمّ رجعت إلى منازلها واستقر الأمر قراره، فتلقّفوها تلقّف الكرة»(2).
وفي الاستيعاب أنّه قال لعثمان بعد أن انتُخب خليفة:«صارت إليك بعد تيم وعديّ، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أُميّة؛ فإنّما هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار»(3).
وقد نَفَّذ عثمان وصيّة أبي سفيان، وجعل أوتادها بني أُميّة وحلفاءهم، فقد جعل
ص: 99
على الشام معاوية، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى الكوفة الوليد بن عقبة، وعلى البصرة صهرهم عبد الله بن عامر بن كريز، وهذه هي أكبر وأهمّ الأمصار الإسلاميّة. وأمّا مروان فقد جعله وزيره الأعظم، فراحوا يستعبدون العباد، وينهبون خيرات البلاد، ويخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع على حدِّ تعبير أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة.
لقد كان إطلاق الخليفة الثالث يد أبناء عمومته في البلاد الإسلاميّة أحد أهمّ الأسباب التي أدت لنقمة المسلمين عليه؛ حتى ثاروا عليه وقتلوه. ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك؛ فإنّه خارج عن محلّ البحث.
والمُلاحظة المهمّة في حادثة مقتل عثمان: هي أنّ معاوية لم يحزن كثيراً، إن لم نقل: إنّه كان فرحاً بذلك؛ لأنّه سوف يستغل دم عثمان ذريعة للوصول إلى السلطة. بل إنّ معاوية بن أبي سفيان كان هو المستفيد الأول من مقتل عثمان بن عفّان، إن لم يكن من المساهمين في مقتله؛ لأنّه كان بإمكانه أن يتدارك الأمر، وأن يستجيب لطلب عثمان المتكرر بإرسال قوة عسكريّة رادعة من الشام تحمي الخليفة من تمرّد الجماهير، ولكن معاوية بن أبي سفيان تباطأ كثيراً في ذلك، وأراد للأمر أن ينتهي بهذه الطريقة؛ ليجد المبرّر في الدعوة لنفسه، ومنازعة الأمر أهله، تحت ذريعة كونه ولي الدم، المطالب بثأر عثمان بن عفّان.
قال ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرحه على النهج:«روى البلاذري، قال: لمّا أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسريّ جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق، وقال له: إذا اتيت ذا خشب (موضع قريب من المدينة) فأقم بها، ولا تتجاوزها، ولا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فإنّني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتى قُتل عثمان، فاستقدمه حينئذٍ معاوية، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنّما صنع ذلك معاوية ليُقتل عثمان فيدعو إلى نفسه»(1). وفي رواية أُخرى
ص: 100
أن عثمان قال لمعاوية بعد أن خذله: «لا والله، ولكنك أردت أن أُقتل فتقول: أنا ولي الثأر، ارجع فجئني بالناس. فرجع ولم يعد إليه حتى قُتل»(1).
بعد مقتل الخليفة الثالث اتجهت الأنظار صوب أمير المؤمنين علیه السلام ، ولم تُدرِك الأُمة _ ولسنين طويلة _ خطورة المسار الذي اختارته، والنتيجة التي وصلت إليها، إلى أن أحسّت بذلك بعد غَرقِها في الوحل الأُمويّ الذي لم تدرِ كيف تتخلص منه، ولم تدرِ كيف وصلت إليه، فصحت واستيقظت، ولكن صحوتها كانت متأخرةً جداً، بعد أن بلغ السيل الزُّبى.
لقد أدركت الأُمّة النتيجة الخطيرة لمسارها، والعواقب الوخيمة التي تحملتها عندما وضعت الحق في غير نصابه، وجعلت الأمر في غير أهله، حيث لم تجنِ إلّا وضعاً متردياً على جميع الأصعدة والمستويات، سواء في ذلك الدينيّة منها أو السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الأخلاقيّة، وعَلِمت أنّها لا مخرج لها من ذلك إلّا بالرجوع إلى مَن أخّرته جهلاً وعدواناً، فليس هناك في الأُمّة مَن يستطيع أن يُغيّر هذا الواقع المتأزم المريض غير علي بن أبي طالب علیه السلام .
وهكذا كان؛ فقد قصدوه بعد مقتل عثمان بن عفّان، وتداكّوا على بابه تداكّ الإبل العطاش على مورد الماء، حتى وطِئ الحسنان، وشُق عِطفاه، مجتمعين حوله كربيضة الغنم، يطلبون منه أن يتولى أمرهم ويقود أُمتهم.
لكن أمير المؤمنين علیه السلام لم يُسارع في الاستجابة لهم، لا لأنّه لا يرى لنفسه حقاً فيها كما يزعم بعض مَن يقرأ ظواهر الأحداث، ولا لأنّه نَكل عن القيام بمهمّة الإصلاح الكبرى والخطيرة بعدما أتعبته السنين العجاف السابقة؛ بل لأنّه يريد أن يوحي لهم أولاً: أنّه لا مأربة له بالسلطان وبامتيازاته الدنيويّة، ولا يخطف بصره بريق المنصب كأولئك الذين يتقاتلون عليه طمعاً في ارتقاء أعواد لا قيمة لها عند علي علیه السلام . ويريد أن
ص: 101
يُفهمهم ثانياً: أنّ الواقع أصبح معقّداً جداً وإصلاحه ليس بالمهمّة السهلة اليسيرة، وإنّما يتطلّب الخوض في مخاضات عسيرة للخروج من هذا النفق المظلم؛ ممّا يستدعي أن يضعوا ذلك في حساباتهم، وأنّه إذا تولّى أمرهم، ركب بهم جادّة الحق حتى وإن كانت وعِرَة المسلك، قال علیه السلام _ كما في نهج البلاغة _: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكّرت، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل، وعَتَب العاتب»(1).
فأجابهم علیه السلام بعد إصرارهم، ولولا ما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم؛ ممّا يجعل مسؤولية الإصلاح ثقيلة على كاهله، ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر حيث ينقطع العذر؛ لألقى حبلها على غاربها، ولسقى أخرها بكأس أولها، فليس الدنيا عنده بكل بريقها إلّا كعفطة عنز، كما قال في خطبته الشقشقية(2).
وكانت بيعة المسلمين للإمام علي علیه السلام ثقيلة جداً على معاوية، خصوصاً وأنّها بيعة إجماعيّة، هرع إليها الكبير، ودرج إليها الصغير، وستجعل الإمام علي علیه السلام يندفع لقتاله بقوة، والمسلمون جميعاً يداً واحدة معه، وحينئذٍ لا طاقة لمعاوية على مواجهته ودفعه؛ فلابدّ إذن من إضعافه في البدء وشق جبهته، ومن ثَمَّ التمرد عليه. وفعلاً راح يُغري بعض المسلمين بالخروج على إمام الحق، ليشُقَّ بذلك صف المسلمين ويشغل الجبهة العلويّة عن مجابهته، ويستنزف طاقاتها وإمكاناتها، وهكذا تمّ ما أراده وسعى له في حرب الجمل.
غير أنّ حرب الجمل لم تؤتِ أُكلها كاملة بالنسبة إلى معاوية، وإن تركت آثاراً سلبيةً على الواقع الإسلامي بصورةٍ عامّةٍ، وعلى جبهة أمير المؤمنين علیه السلام بصورةٍ خاصّةٍ، فقد استطاع أمير المؤمنين علیه السلام أن يحسم الموقف، وأن ينتصر في الحرب، وأن يوحّد صفوف الأُمّة لمواجهة الخطر الأُمويّ القابع في الشام.
ص: 102
وبعد أن وصل علیه السلام إلى الكوفة بعث بالكتب وبالرسائل والوفود إلى معاوية يدعوه فيها للرضوخ للحق، والدخول فيما دخل فيه المسلمون؛ ليحسم المسألة معه سلمياًً، بعيداً عن استحقاقات الحروب ونزف الدماء، ولكن معاوية لا يمكن أن يتنازل عن الحلم الأُمويّ الذي خطّط له هو وأبوه بهذه السهولة؛ وعليه كان الخيار العسكري هو الحاسم بالنسبة لأمير المؤمنين علیه السلام .
وفعلاً أعدّ له جيشاً من المهاجرين والأنصار، وأتباعهم من أهل الإيمان، وأصحاب البصائر، وفرسان الأمصار، وخاض معه حرباً طاحنة في صفّين، كانت فيها الغلبة لأمير المؤمنين علیه السلام ، حتى ضاق الخناق على معاوية، وذاق طعم الهزيمة، وكان بينه وبين انهيار المشروع الأُمويّ خُطوات قليلة، لولا أنّه تدارك الموقف بمكيدة من عمرو بن العاص، برفع المصاحف ودعا إلى التحكيم، وخدع بعض البسطاء في جبهة أمير المؤمنين علیه السلام ، واستطاع أن ينجو بنفسه من حبل المشنقة.
وعلى الرغم من أنّ حرب صفّين لم تستطع أن تحسم الموقف مع معاوية؛ لما حصل من انشقاق في صفوف جبهة أمير المؤمنين علیه السلام ، أدى بالنتيجة إلى ما عُرف بحادثة التحكيم، إلّا أنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان مُصِرَّاً على تطهير الجسد الإسلامي من الجراثيم الأُمويّة، ويظهر ذلك من كلمته المعروفة التي قالها علیه السلام في أُخريات حياته في الكوفة: «والله، لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أُطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد»(1). ويقصد بالشخص المعكوس معاوية بن أبي سفيان.
وكان يقول علیه السلام : «فأمّا الناكثون، فقد قاتلت. وأمّا القاسطون، فقد جاهدت. وأمّا المارقة، فقد دوخت... وبقيت بقيّة من أهل البغي، ولئن أذن الله في الكرّة عليهم لأُديلنّ منهم إلّا ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّراً»(2).
ص: 103
فكان علیه السلام مُصِرّاً على اجتثاث المشروع الأُمويّ؛ وذلك لأنّه يُدرك مدياته وأبعاده وخطورته على مستقبل الإسلام، فكان يرى أنّ أخطر شيء يمكن أن يهدد الإسلام هم بنو أُميّة، وأنّ فتنتهم هي أشدّ الفتن. قال علیه السلام : «ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أُميّة؛ فإنّها فتنة عمياء مظلمة، عمّت خطتها، وخصّت بليتها، وأصاب البلاء مَن أبصر فيها، وأخطأ البلاء مَن عمي عنها، وايم الله، لتجدن بني أُميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلّا نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه، والصاحب من مستصحبه. ترد عليكم فتنة شوهاء مخشيّة، وقطعاً جاهليّة، ليس فيها منار هدى، ولا علم يُرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة»(1).
ولهذا عزم علیه السلام أن يُعيد الكرّة على معاوية، ويجتث بني أُميّة بصورة حاسمة هذه المرّة، وندب قومه للتجهّز للهجوم، فانتدب له _ على رغم التخاذل الذي أصابهم ممّا سيلم به بعد ذلك _ أربعون ألفاً، سمّوا بشرطة الخميس، بايعوه على الموت، وشرطوا له إمّا النصر وإمّا الشهادة. وكان أمير المؤمنين علیه السلام ينتظر انسلاخ شهر رمضان؛ لكي يبدأ حملته الكاسحة، ولكن القدر لم يُمهِلهُ لينجز ذلك؛ فامتدت له يد الغدر عِبر مؤامرة لا نريد الخوض في تفاصيلها، فضربه عبد الرحمن بن مُلجم في صبيحة التاسع عشر من رمضان، فوقع في محرابه مخضّباً بدمائه، وبذلك يكون معاوية قد تخلّص من التهديد الأساسي لكيانه وسلطانه.
قرّت عين ابن أبي سفيان بمقتل الإمام علي علیه السلام ، وأخذ نَفَسَاً عميقاً بعد أن سلب النوم من عينيه، ولم يبقَ أمامه الكثير لإنجاز مشروعه، فهو يعلم أنّ فُرص الإمام الحسن علیه السلام بعد أبيه قليلة جداً.
ص: 104
وهذه هي حقيقة الواقع آنذاك، فقد ورث الإمام الحسن علیه السلام جيشاً متعباً منهكاً من الحروب، قد خاض ثلاثة حروب دامية في أربع سنين، بينما لم يخض الجيش الأُمويّ سوى حرب واحدة، هي حرب صفّين. كما أنّه ورث جبهة ممزقة متشرذمة، لا يجمعها جامع، بينما كان لدى معاوية جبهة منسجمة متماسكة إلى أبعد الحدود. وكذلك صفة التمرد والتخاذل التي بدأت تبرز بصورة واضحة في الجيش الكوفي حتى اضطر أمير المؤمنين علیه السلام أن يخطب بهم تلك الخطبة الناريّة التي أنّبهم فيها، ووبّخهم توبيخاً شديداً. كذلك فقدان جبهة الإمام الحسن علیه السلام أبرز قادتها سواء الذين أكلتهم صفّين، أم الذين اغتالهم معاوية كمالك الأشتر، الذي قال فيه أحدهم عندما سُئل عنه: «ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق!»(1). علاوة على ذلك، الصدمة المعنويّة الكبيرة التي مُنيت بها جبهة الحق، عندما فقدت رمزها وقائدها علي بن أبي طالب علیه السلام .
وقد لخّص الإمام الحسن علیه السلام سبب قبوله لوثيقة الصلح بالقول: «ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنّما كنّا نُقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفّين دينكم أمام دنياكم، فأصبحتم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم»(2).
فهو يوضّح لقاعدته الشعبيّة أسباب الصلح، وأنّ ذلك لم يكن تغيّراً في قناعة أهل البيت علیهم السلام تجاه بني أُميّة، وطواغيت الشام، أو شك أو ندم في حقانيّة جهادهم ومناجزتهم، وإنّما الخلل هو في هذه القاعدة الشعبيّة التي عادت أهل البيت علیهم السلام وجزعت من الحرب والقتال، وقلبت أولوياتها، فجعلت دنياها أمام دينها، بعد أن كانت تضحي بدنياها في سبيل دينها. فأهل البيت علیهم السلام ما يزالون كما كانوا، في بصيرتهم بالعدو، وعزمهم على جهاده، ولكن أتباعهم ليسوا كما كانوا!
ونحن لا نريد هنا أن نخوض في واقع صلح الإمام الحسن علیه السلام وظروفه وملابساته؛ فإنّ الأمر يستدعي وقفةً طويلةً لا يسعها هذا البحث. ولكن هذه الأُمور
ص: 105
وغيرها اضطرت الإمام الحسن علیه السلام إلى مهادنة معاوية، وكان الصلح بالنسبة له أسوأ الخيارات، ولكنّه اضطر إلى القبول به، بشروط اشترطها على معاوية من أهمِّها: أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، وأن يكف عن سبّ وشتم أمير المؤمنين علیه السلام ، وتشويه صورته في أعين الناس، وأن لا يلاحق شيعة أمير المؤمنين علیه السلام وأصحابه، وأن يُعيد الأمر من بعده لأهل البيت علیهم السلام ، للحسن فإن مات فللحسين علیهماالسلام .
إنّ الشرط الأخير يُعدّ الأهمّ في تلك الشروط؛ فإنّ الصلح لم يكن تنازلاً مطلقاً عن السلطة لبني أُميّة، وإنّما هو هدنة مؤقتة فرضتها موازين القوى، تُسلَّم فيها إدارة الدولة إلى معاوية، ثُمّ بعده يرجع الحق إلى أهله.
ولكن معاوية _ وكما هو متوقع _ لم يلتزم بأيّ من تلك الشروط، وبعد دخوله للكوفة أعلن نقضه لتلك الشروط، وقال مخاطباً أهلها: يا أهل الكوفة، أظننتم أنّي قاتلتكم لكي تُصلوا، أو لكي تصوموا؟! وإنّما قاتلتكم لكي أتأمّر عليكم، فآتاني الله ذلك، وأنتم كارهون، وكلّ ما شرطته للحسن بن علي، فهو تحت قدميّ هاتين(1). وبنو أُميّة عموماً ليس لديهم مبادئ ولا عهود ولا مواثيق.
لقد تنصل معاوية من كلّ شروطه، أمّا العمل بالكتاب والسنّة، فقد جهد في مخالفتهما، وحاول جاهداً طمس معالم سنّة رسول صلّى الله عليه و آله ، وقد أخبر صلّى الله عليه و آله بذلك، كما روى أبو ذر رحمة الله ، حيث قال، وهو في الشام وقد جرت بينه وبين معاوية مصادمات كثيرة: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: أول مَن يغيّر سنتي رجل من بني أُميّة»(2). وقد روى الإمام الحسن علیه السلام عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه و آله : «ولو لم يبقَ من أُميّة إلّا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً»(3). ويكفيك كشاهد على ذلك تبنّيه لزياد، وإلحاقه بنسبه، والنبيّ صلّى الله عليه و آله
ص: 106
يقول: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1). أو رأيه في الربا المضاد لسنّة رسول صلّى الله عليه و آله ، فقد روى مالك في الموطأ وغيره: «أنّ معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله ينهى عن مثل هذا، إلّا مثلاً بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: مَن يعذرني من معاوية؟ أنا أُخبره عن رسول الله صلّى الله عليه و آله ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها»(2). وهذا أمر واضح، فبنوا أُميّة أرادوا أن يبنوا لهم إسلاماً كما يريدون (الإسلام الأُمويّ في مقابل الإسلام النبويّ).
وأمّا بالنسبة إلى النيل من أمير المؤمنين علیه السلام فقد جعل سبّه سنّة، يشبّ عليها الصغير، ويشيب عليها الكبير، وقد روى مسلم في صحيحه عتاب معاوية لسعد في سبب عدم سبّه لأمير المؤمنين علیه السلام (3). وأصدر مرسوماً إلى جميع الأقطار أنّه برئت الذمّة ممّن روى في أبي تراب شيئاً، ومَن روى في أبي تراب شيئاً فاقطعوا رزقه، واهدموا داره، وامحوه من الديوان. ووضع الأحاديث في الانتقاص من أمير المؤمنين علیه السلام ، وكلّ ذلك مسطور مشهور في كتب الحديث والتأريخ.
وأمّا بالنسبة إلى ملاحقة أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد حاول جاهداً تصفية العناصر القياديّة الواعية في الأُمّة؛ لأنّه يعلم أنّ وجود هؤلاء سوف يشكل مانعاً دون تنفيذ المُخطط الأُمويّ؛ لأنّ وجود كلّ أُمّة إنّما هو بقياداتها وعناصرها الواعية، والأُمّة التي لا تملك شخصيّات قياديّة واعية وبصيرة تُعدُّ أُمّة ميتة _ ولهذا ترى الظالمين يحاولون دائماً تصفية عناصر الوعي في الأُمّة، وأنت تعرف أن شخصاً واحداً حكيماً بصيراً شجاعاً يساوي آلافاً من عرض الناس بل ملايين _ فقام معاوية بتصفية خواصّ شيعة أمير المؤمنين علیه السلام : كعمرو بن الحمق الخزاعي، وحجر بن
ص: 107
عديّ الكندي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، ومسلم بن زيمر، وعبد الله بن نجي الحضرميين، وابن حسان العنزي، وجويرية بن مسهّر العبدي، ومحرز بن شهاب السعدي، وجميل بن كعب الثعلبي وغيرهم كثير.
طبعاً غير الذين قتلهم في صفّين؛ فقد قتل خمساً وعشرين ألفاً من خيرة الأُمّة، وفيهم مئة صحابي وخمسة وعشرون بدرياً. وغير الأُلوف التي قتلها زياد بن أبيه وسمرة بن جندب، وفيهم العلماء والقرّاء.
وأمّا فيما يرتبط بالبند الرابع، وهو أن يرجع الأمر للحسن أو الحسين علیهماالسلام ، فقد خالفه أيضاً وراح يدعو لبيعة ولده يزيد بن معاوية، وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل في القسم الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى.
وبذلك تتضح لك عزيزي القارئ صورة إجمالية عن الأوضاع التي تلت رحيل الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله ، والظروف التي سبقت واقعة عاشوراء، والتي كان لها الدور الفاعل والمؤثر في حدوث تلك الواقعة الأليمة في وقائعها، والعظيمة في نتائجها.
ص: 108
*النَّهضَةُ الحُسَينيَّة وَالعَنَاصِرُ الحَيَويَّةُ لِلإبداعِ وَالتَأثِيرِ في الأُمَّةِ السيد نعمة جابر آل نور(1)
لكلّ دين من الأديان _ التي نزلت من قِبل السماء، والتي أخبرنا بنزولها القرآن الكريم، أو أخبرنا بها التاريخ على مرّ العصور من خلال كتاباته، أو من خلال معتنقي هذه الأديان، الذين لا زالوا يمارسون طقوس تلك الديانات _ ميزات اختصّ بها عن الأديان الأُخرى، كاختصاص بعضها برقعة جغرافية محدودة، أو نزولها إلى مجموعة من البشر محدودة العدد «إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ»(2)، أو متّحدة الثقافة والتوجّه، كما في قوم لوط. وغيرها من الميزات التي اختصّت بها بعض هذه الديانات.
وأهمّ ما يميّز الدين الإسلامي عن غيره من القوانين هي شموليته لواقع الحياة على كلّ المستويات، فهو لا يعالج المشكلة القائمة على فسحة الواقع من زاوية واحدة، أو ينظر إليها بعين حولاء لا ترى ما يواجهها، إلّا من الزاوية التي تستطيع الإبصار فيها، وهذا اللون من النظر تتفرّد به الرؤى الوضعية (النظريات الوضعية)، التي تتفجّر من بحبوحة الأرض بين الحين والآخر، ثمّ يظهر العجز عليها؛ لعدم
ص: 109
استنادها إلى ما يؤيّدها من قيم عناصر الارتباط بالسماء، وهذا الأمر له أدلّته الكثيرة التي ذُكرت في محلّها، والتي لم نُشر إليها رعايةً للاختصار.
إنّ هذه الشمولية لهذا الدين واستيعابه للواقع بكلّ أصعدته؛ ينتج عنها الخلود لهذا الدين وصلاحية منهجه لكلّ زمانٍ ومكان، ولكن بعد أن يتوفّر الشرط الأساس له، وهو توفّر المساحة التطبيقية، والنموذج الصالح، الذي سيمارس عملية التطبيق في الخارج (على أرض الواقع)، وبهذا الشرط المذكور يمكن لهذه الشريعة أن تُفرغ نظرياتها المتعدّدة على مساحة التطبيق، والارتقاء بالمجتمع إلى أقصى غاياته التكاملية.
وهذا الشرط نفسه متوقف في تحققه على عدم توفّر النقيض الذي يقف أمام وقوعه في الخارج؛ لأنّ النقيض سيكون المانع من استمرار التطبيق المذكور، ومقيّداً لأيدي النموذج الصالح، ومعرقلاً ثقيلاً في وجه الحركة التكاملية المطلوبة، والتي بها يتمّ اختصار الزمان وتوفير الملائمة للمكان.
والنقيض المذكور هو ابتلاء الشريعة بالنموذج الكَلّ على عاتقها، بممارساته الاستبدادية والنفعية، التي تؤول بها أوضاع الأمّة إلى التصحّر والجمود والتشويه، والذي يزيد من حجم التخريب في مساحاتها؛ ممّا يشوّه صورتها في نظر القاصي فضلاً عن الداني الذي دبّ اليأس في بقعة نفسه، وأوجد للشريعة فيها صورة ناقصة الملامح مشوّهة المعالم، يجعلها في مصافّ الأديان والأُطروحات الوضعية السائدة في العالم.
من هنا؛ برزت الحاجة إلى تأسيس منهجية فكرية صحيحة، لتحصين الواقع الفكري للأُمّة والذود عنه بكل ما أُوتينا من قوّة، ولا بدّ من دراسة التاريخ دراسة موضوعية؛ لإبراز الصورة اللامعة له، والأهمّ من ذلك كله هو إيجاد نماذج نقيّة تُبرز للعالم صورة الدين الحيّة القابلة إلى تصدير رؤاه الفكرية، والقابلة للثبات والصمود في وجه الثقافات والنُّظم التي تعتمد في واقعها على سياسة (ثقافة) الإلغاء والتهميش، وإرساء المرموزات الدينية العظيمة للأجيال القادمة؛ لأنّها تشكّل مصدراً من مصادر القوة والانتماء في حاضر الأُمّة ومستقبلها.
ص: 110
إنّ ازدياد رقعة التخريب في مساحة الأُمّة جعل من يطلب الإصلاح في ذلك يواجه أمراً في غاية الصعوبة؛ بحيث يتطلّب اهتزازات قويّة جداً في تلك المساحات المخرَّبة في واقع الأُمّة؛ لتعيد للشريعة حيويتها وتصحّح مسار التطبيق في مكوناتها، كما يتطلّب أيضاً إحداث نوع من عمليات العصف اللازمة في الأذهان؛ تجعلها قادرة على العطاء من أجل الأُمّة؛ وبالتالي تساهم في إكمال مسيرة التكامل الذي لا يحصل إلّا بتطبيق قيم السماء كمنهجية صالحة للامتداد، ولكن بواسطة المناخات الملائمة التي يجب أن تتوفّر لكي يتحقّق الإبداع المنشود، ويكتمل الوعي لدى الأُمّة.
فكانت النهضة الحسينية _ بما اشتملت عليه من عناصر حيوية، أكسبتها القدرة على الإبداع والتأثير_ هي القوّة الصالحة والمؤثرة لإيجاد الاهتزازات، وعمليات العصف اللازمة لإعادة الأُمّة إلى وعيها، وبثّ الثقة في نفوس أبنائها، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أمر الأُمّة؛ لتكون النواة التي تعتمد عليها عملية الإصلاح المستقبلية، طبقاً لثوابت الشريعة ذات القيم المستمدة من السماء، ومن هذه العناصر:
كنّا قد أشرنا إلى صلاحية الدين الإسلامي للامتداد والشمول، وهنا نحاول الربط بين الاستمرارية المذكورة وبين النموذج النقي من زاوية نسأل من خلالها: هل يشترط أن يتكون لدينا مجتمع يحتوي على نموذج نقي مستمر؛ لكي يتلاءم مع استمرارية المنهج وشموليته، أم تكفي صلاحية المنهج للاستمرار فقط دون نموذجه؟
فلو قلنا بعدم الملازمة؛ فهذا القول يستلزم عدم التوازن في الكفّة؛ إذ كيف يتلاءم المنهج القابل للاستمرار في استمراريته بدون النموذج النقي.
إذاً؛ فلا بدّ من القول بالملازمة وعدم الانفكاك بين الطرفين؛ لكي نضمن الاستمرارية بكلّ أبعادها؛ ولكي نتقصّى من حالة الشكّ في استمرارية المنهج، ورفع النقض الوارد في المقام.
وبناءً على هذا؛ فلا بدّ من امتدادية النموذج النقي، وهو هنا _ وعلى نظرية المذهب
ص: 111
الإمامي _ ممتدّ بوجود المعصوم الذي نصبه الله عز وجل لهداية البشر وحفظ شريعته بعد النبي صلّى الله عليه و آله ، وكما قال الإمام الحسين علیه السلام : «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نُصبح وتُصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»(1).
هذا المقطع من كلام الإمام الحسين علیه السلام يوضّح تفاصيل الامتداد للنموذج النقي، المعتمد في عملية الإصلاح في المساحة المخرَّبة من أرضية الأُمّة، على عمق الجذور المرتبطة بالسماء والمؤيّدة بها.
وقد أحسّ يزيد بهذا النموذج وأحسّ بخطره، كما أحسّت بطانته المنتفعة من قربها من أميرها الوهمي، وإنّ هذا النموذج يشكّل مصدراً للثورة، ويُهدّد المصالح المادّية لهم، ويعلّق مشروعهم التشويهي المعتمد على سياسة التزييف في بناء الأُمّة العَقَدي والتاريخي، وهذه الامتدادية تسعى إلى قلب الموازين التي تعتمد عليها آليات الاستعباد والاستبداد، وآليات مصادرة الحقوق والحرّيات، والتلاعب بمصائر الأُمّة.
وقد ساهمت في هذا الامتداد عوامل مختلفة على قمّة هرمها الوراثة، ذلك العامل المهم في سلّم الكمال، كما لمسناه في تركيبة الإمام الحسين علیه السلام الكمالية «إنّا أهل بيت النبوة» كمختصة لم يشاركه أحد فيها من الأغيار، كما أنّها في الوقت نفسه جلبت له هذا الكمّ الهائل من مشاعر الحقد والكراهية لدى ذوي النزعات المادية، المُختلّي التركيب وراثياً (التركيب النفسي).
وهذا الامتداد للنموذج مستمدّ من شعار إسلامي غاية في الخطورة على الآخرين (من هم بالاتجاه المعاكس)؛ لأنّه مهدِّد لهم بكل مفردة من مفرداته، ألا وهو شعار «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر»(2).
ص: 112
هذا الشعار هو اللائحة السياسية للمنهج الممتدّ، حمله وحكم به مفردات الحياة والدولة، وألزم الأُمّة المشاركة في صنع وتطبيق هذه اللائحة، التي ترفض مفهوم الاستبداد والعبثيّة بجميع صورها، وأيّاً كان مصدرها.
ولم يكن الإمام بغافل عمّا تمارسه السلطة الأُموية، بقيادة العبثي يزيد وهو يلاحق الرساليين، ويُحصي عليهم الأنفاس؛ استمراراً منه لمنهجية الطلقاء.
وكان الإمام يرى مقدار الخسف الحاصل في أرضية الأُمّة الإسلامية العقائدية والمبدئية، والتي إن استمرّ الوضع بها كذلك سوف لا يبقى لهذا المنهج الرسالي شيءٌ يُذكر، وسيسقط الإسلام ولن تقوم له قائمة.
فكان تشخيصاً دقيقاً وحاذقاً استدعى من الإمام الحسين علیه السلام أن يخطّط للثورة؛ لكي تستعيد الأُمّة عافيتها، ولكي يضع الأُمور في نصابها الصحيح، كما جسّدها النبي الأكرم صلّى الله عليه و آله ؛ ولذا نرى أنّ الإمام علیه السلام اعتمد سلوكيات يعلم مُسبقاً أنّها ستكلّفه المزيد من التضحيات، فتارة نراه يقول: «ومثلي لا يبايع مثله». وأُخرى يقول: «وأنا أحقّ مَن غيَّر»(1). ووفقاً لهذه السلوكيات وما سواها يُعلن أنّه النموذج المتّحد والأمثل لتطبيق النهج الرسالي.
وأحقّية الخلافة ليست حكراً وملكاً مادّياً كما يراه الاتجاه اليزيدي، حتّى يأتي دور الصراعات الشخصية هنا، بين مَن هو ملك وآخر يرى الأحقّية له بالخلافة، بل المسألة تتعلّق بروح المنهج السماوي المتكامل، حيث قطع سبل المنازعة في الموضوع، ونصَّ عليها في مواطن عدّة، وحْيَاً وحديثاً، ويعنينا مسألة عليها مئة وعشرون ألف شاهد، وقعت في بقعة اسمها خم، حدّدت بموجبها مواصفات الخليفة، ونصّ عليه، وقيل فيها: بخٍ بخٍ...
ومن التطبيق أنّ هذه المواصفات والعقلية المذكورة لا تنسجم مع روح المبدأ المادّي للتيارات المعاكسة؛ لأنّها ستُترجم إلى سلوكيات ونهج سياسة تبقى تحرّك الأجيال على مرّ العصور والأزمان، ملازمةً لاستمرارية المنهج وامتداده.
ص: 113
وهكذا تحرّك الإمام علیه السلام في الأُمّة المقهورة الضعيفة ليُعيدها إلى جادّة الصواب، بعد أن أوشكت على تقبّل الفكرة اليزيدية التي أخذت بالتجذّر والالتصاق، وفعلاً تحرّك الإمام علیه السلام .
عندما فشل الوليد في انتزاع البيعة من الإمام الحسين علیه السلام ، صار لزاماً على الإمام علیه السلام _ من حين خروجه من مجلس الوليد والي المدينة _ أن يستعدّ للخروج من المدينة في جوف الليل، فخرج وهو يتلو قوله تعالى: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ »(1). وسلك الطريق المعتاد حتّى طُلب منه أن يغيّر المسلك، فأبى قائلاً: «والله، لا أفارقه [الطريق الأعظم] حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ»(2).
وقد كان السؤال هنا عن تغيير المسلك في سير الجادّة، إلا أن الجواب جاء بالنفي عن مفارقة الطريق الأعظم، على لسان البطل الثائر ذي الامتدادية، والأمثل في أحقّية الخلافة الشرعية لخصوصياته المتعدّدة المرتبطة بوحي السماء من جانب، ومن جانب آخر السلوك الأخلاقي العظيم الذي تهواه نفس العدو قبل الصديق.
إنّ الجواب يدلّ على حتميّة التحرك في الثورة، والتعبير المتقدم في جواب الإمام علیه السلام من ثوابت التحرّك والأسس التي لا يخالطها الشكّ في عملية الإصلاح، هذا الثابت نابع عن معرفية تامّة لأُمور الأُمّة آنذاك، كيف وهو الخبير ابن الوصي الذي يدرك ويعلم أنّ صلاح الأُمّة لا يتمّ إلّا بالثورة، ولكن أي ثورة، الثورة المدروسة الخُطى، ذات الثوابت العميقة، التي تمثّل المرتكز الذي يُعتمد عليه في عملية النهضة الحتمية الوقوع.
دخل مكّة ٣ شعبان سنة٦٠ للهجرة، فأقام فيها أربعة أشهر وأياماً، وهي أقدس مكان تهوى إليه القلوب من كلّ فجٍ عميق، فالتفّ حوله المسلمون وكعادة أهل العلم _ لا يرون زكاته إلّا بتعليمه الناس _ علّمهم من فيض علمه؛ لأنّه ابن الوصي
ص: 114
كما وصف نفسه «ومهبط الوحي»، ولم يُتمّ حجّه في تلك السنة؛ الأمر الذي يبعث على كثرة التساؤلات وفي جوانب متعدّدة.
ويُجاب عنها _ بمختصر الكلام _: أنّ شخصاً مثل الإمام الحسين علیه السلام يعي تماماً مسؤوليته في التحرّك الرافض، لا سيما وأنّ في خروجه من المدينة ودخوله مكّة ومكوثه فيها أربعة أشهر وأياماً، كلّه يصبّ في التخطيط السياسي الواعي الذي يعتمد على الأُمّة في التحريك، ويهيئ له الظروف الملائمة للانطلاق؛ فحلّ إحرامه ولم يكمل حجّه، وصرّح بعملية التحرك تاركاً المرحلة السرّية فيه، ومختصراً عنصر الزمن؛ لأنّ هذه المرحلة من حياة الأُمّة لا تتحمّل الانتظار؛ فلا بدّ من هزّة عنيفة تعبّر عن مكنون الأُمّة، فأعلن النداء: «ألا ومَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه؛ فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(1). وهي صرخة في واقع الأُمّة غاية في الصراحة والشفافية، خالية من نظرية المؤامرة، التي غالباً ما تُحاك خلف الكواليس، ودعوة طوعية لكلّ مَن يجد في نفسه توافر الشروط في البذل والتوطّن والاستعداد للرحيل بهذه الصورة المثالية، التي لم يشهد لها التاريخ من قبل، إنّها في غاية الصراحة والوضوح، خالية من كلّ الممارسات القسرية، وهذا نوع من المنهجية في التحرّك الواعي الذي يضمن للأُمّة كرامتها المهدورة، ويُعيد إليها حالة الوعي في الحركة.
إنّ روح الإمام الحسين علیه السلام روحٌ تجري العقيدة في عروقها، ولا يتحرّك إلّا حسب ما يُمليه عليه الواجب الشرعي في الحفاظ على عقيدة الأُمّة، التي تعرّضت للاهتزاز والانهيار لولا خروجه الذي صحّح المسار، مع علمه بأنّ خاتمة المطاف في التحرّك قتلٌ وسبي، لكنّ هذا لم يثنه عن عزمه في الحركة؛ ولذا نراه يخطّط للثورة؛ ابتداءً من رفض البيعة والخروج من المدينة، مروراً بالإقامة المؤقّتة في مكّة، وانتهاءً بحفر الخندق وتفقّد ساحة المعركة المقبلة، وهي عملية في غاية الدقّة، لا تدلّ إلّا على فكر القائد وشمولية النظرة القيادية عنده، وتدلّ على أنّ الهدف الذي يسعى إليه الإمام
ص: 115
الحسين علیه السلام _ روحي له الفداء _ أسمى من كلّ الموازين المادّية؛ لأنّه نابعٌ من علم الإمام ابن الوصي الذي به فتح الله وبه يختم، ومثله لا يبايع مثل يزيد.
لقد شهدت الأُمّة الكثير من الثورات ذات الطابع الإصلاحي، ووقف خلفها الكثيرون، وروّجوا لها كحالات إصلاحية تهدف إلى تصحيح مسار الأُمّة المنحرف، ولكن سرعان ما خبا وهج تلك الثورات، وتعرّضت للتآكل، وبقيت مجرّد أحداث مرّ عليها الزمن، وجزءاً من تراث الأُمّة، وبقيت آثارها (السلبية الطابع) تنعكس على واقع الأُمّة؛ نتيجةً لردود الأفعال التي أحدثتها في الساحة (ساحة الأُمّة)، والمتقصّي لأسباب الانحسار عن مسرح الأحداث يجد أنّ مثل هذه الثورات تطلق شعارات إصلاحية الطابع، لكنّها تُخفي خلفها الأغراض الحقيقية لنفوس مدّعيها؛ الأمر الذي يدعو إلى ضبابية أهدافها، فتخلو تلك الأهداف من الاستناد التامّ إلى الدعامة التي تمنحها عنصر القوة والاستمرار، والمستمدّ من الاتّكاء على العقيدة التي تؤمّن الثبات والامتداد والمقبولية.
ولذا؛ نرى الإمام الحسين علیه السلام أعلن عن سموّ الهدف الذي من أجله خرج، وهو أمرٌ لم تألفه الأُمّة من قبل، فالإعلان عن الهدف قد يتيح للمتربّص أن ينقضّ على المشروع في مهده، والإعلان عن الهدف _ ولاسيما من شخصٍ ورث الامتداد من بيت الوصي _ أسمى ما في الثورة؛ حيث لم يترك للأُمّة خيار (إمّا أو)، ولا ثالث لهما: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت أطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمد صلّى الله عليه و آله ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(1).
وهو شعار لا يختلط به غيره، مع علمه بما سيؤول إليه الأمر من قتلٍ وأسرٍ وسبي، لكنّه يدلّ على أعلائيّة الهدف وسموّه؛ ولذا صمّم على السير إلى كربلاء، وكلمة السير إلى كربلاء تستوقفنا للتأمّل، فالسفير أُرسل إلى الكوفة، العاصمة الحاضرة، وتقصّي
ص: 116
السير إلى كربلاء، حيث (إلى) الغائية هنا يرجع بنا إلى خارطة الأحداث التي رسمها لنا النموذج المتصل بالسماء؛ حيث قال: «سيُقتل ولدي الحسين بأرضٍ يُقال لها: كربلاء»(1).
إنّ الأُمم السابقة (عدا النخبة الرسالية) اعتادت أن تنصب العداوة لمصلحيها؛ لأنّهم يشكّلون الخطر الذي سيطيح بتأسيساتهم المادّية ويحيلها إلى رماد؛ وإن النموذج النقي عالم بأنّ الأُمّة سيؤول أمرها إلى الخراب، بعد الهنات التي تعرّضت لها، وامتناع الأُمّة عن الإتيان بالدواة والكتف؛ ممّا عطّل عملية الكتابة التي لو حصلت في حينها لتمّ التطبيق للمنهج الرسالي، وهو أن تكون الأُمور بيد النموذج الأمثل القادر على إدارة عجلة الحياة بكافّة أصعدتها؛ نظراً لما يتمتّع به من خصوصيات أهّلته لهذا المنصب.
ولو تمّت الملازمة بين قابلية المنهج للاستمرار وبين صلاحية النموذج النقي للامتداد، تتمّ قواعد العملية الإصلاحية على أفضل صورة رسمتها السماء؛ لأنّ هناك فرقاً واضحاً بين وجود منهج رسالي مستمر وبين الواقع التطبيقي لهذا المنهج الرسالي، ولعلّ من أبرز الإشكاليات التي واجهت المنهج هي عدم إتاحة الفرصة المناسبة له بالنزول إلى حيّز التطبيق.
قال الإمام الحسين علیه السلام : «مَن رأى منكم سلطانا جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر بفعل ولا قول؛ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»(2).
والإمام علیه السلام يعلن بهذا الخطاب المقدس دعوة صريحة لتشخيص هوية الأُمّة السياسية والقائمين عليها في إشراك الشريحة التي تسكت عن إبداء الرأي الآخر في الممارسات التي لا تنسجم مع روح المنهج، ووعدهم بالمؤاخذة والإدخال في نفس المدخل، وهو مبدأ اعتمده الإمام علیه السلام كخطّة لتخليص الساحة من الشوائب كشروط لجعلها نقيّة، وأغلقت الأبواب على مَن لم يخرج؛ ولذا نرى أن الذين صمدوا في
ص: 117
الميدان هم الذين لم يختاروا على الخلود أمراً غيره؛ فاشتروا رضا الله بأغلى الأثمان: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ »(1).
ومن المؤكّد أنّ النخبة الصالحة هي التي تأخذ على عاتقها مهمّة تقنين جوانب حياة الأُمّة باعتبارها صاحبة الوعي الرسالي والذهنية المتفتقة، والتي تستطيع من خلالها أن تمتلك القابلية اللازمة في الإدارة.
ومعلوم لذي كلِّ لُبّ، أنّ النخبة لم تصل إلى مرحلة النخبوية إلّا بعد أن مرّت بعمليات استجلاء وغربلة للنوايا، اجتازوا جميع مراحلها؛ فوصلوا إلى مرحلة توطين النفس على الموت، فكانت النتيجة: «والله، لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل بمحالب أُمّه»(2).
وهذه الخطّة في استجلاء نوايا القوم أثبتت مقدار إخلاصهم في الفداء والتضحية في سبيل العقيدة وكرامة الإنسان، وتبقى ثورة الإمام الحسين علیه السلام نبراساً لكلّ من يسعى للبحث عن عزّة النفس ومعنى الشرف والإنسانية.
إنّ الإعلان عن هدفية الثورة عند الإمام علیه السلام لم يكن منفصلاً عن التحرّك منذ البداية، مع العلم المسبق بما ستؤول إليه الأحداث فيما بعد التحرّك، وبما أنّ الإمام علیه السلام خاطب الأُمّة واستنهضها؛ لأجل إزالة التشويه الحاصل في ساحة العقيدة، لكنّه في الوقت نفسه مارس الدور القيادي الكامل في إدارة التحرّك؛ فمنذ أن وصلت إليه الكتب المتوالية من الأُمّة شكّلت عنده الخطاب الشرعي اللازم للتحرك نحو الثورة، فباشر التحرّك المدروس.
فعندما لقي عبد الله بن مطيع الإمام علیه السلام في طريق مكة، قال له: «جُعلت فداك، أين تريد؟ قال [الإمام علیه السلام ]: أمّا الآن فمكة»(3).
ص: 118
ثمّ حذّره من الكوفة لشؤمها وخذلان أهلها لهم، ثمّ أشار عليه بملازمة الحرم المكي؛ ظنّاً منه أنّ السلطة آنذاك تأخذ حرمة الحرم بعين الاعتبار، وهو ظنٌّ يختلف عن ظنّ القيادة الحكيمة ومنهجيتها الرائدة في الإصلاح التي اتّبعها الإمام علیه السلام ، ومع هذا؛ فإنّ المُستشفّ من قول ابن مطيع بعد طلبه المكوث في مكّة أن تُتّخذ مكّة كقاعدة للإمام بدليل قوله: «ويتداعى إليك الناس من كلّ جانب...»(1). مع أنّ الواقع الحياتي الذي أُسندت قيادته إلى الإمام علیه السلام يتطلّب تنقية الأهداف الإصلاحية؛ لتتناسب مع إشكاليات الأُمّة المعرّضة للتشويه والاهتزاز في العقيدة.
ولو نظرنا إلى مكوّنات الساحة السياسيّة التي شكّلت عناصر التحرك للثورة، ابتداءً من التحرّك نحو الطف، وإرسال السفير الفدائي العظيم المخلص، صاحب الُمثل والمساحة الأخلاقية الرفيعة المستوى، وانتهاءً بكربلاء الدم والسيف والشهادة، وبهذا الشكل يتّضح مدى عمق العبقرية التي يمتلكها الإمام الحسين علیه السلام في الثورة، فنجح في استدامة روح الثورة عبر المواقف التي تعرّض لها في كلّ مراحل التحرّك، فمثلاً: الطرماح بن عدي الطائي يقترح عليه أن يحتمي بطيء، وأنّه يكفل له عشرين ألف طائي حتّى يتبيّن الأمر. فرفض الإمام علیه السلام هذا العرض الذي يبدو مغرياً لأوّل وهلة؛ فإنّ عملية الاحتماء لو أراد أن يمارسها الإمام علیه السلام يتمكّن منها قبل أن يتحرّك، أو قبل أن يصل إلى مشارف طيء، وعلماً منه أنّ هذه العملية ستلغي مشروع الثورة الحتمية الوقوع، سواءً احتمى أم لم يحتمِ.
كما أنّ المسألة ليست ذات طابع قَبَلي، حتّى يلجأ إلى الاستجارة بالقبائل الأُخرى لدفع القتل عن المستجير، بل هي ذات أبعاد أكبر من هذه التصورات، مسألة تعود إلى أنّ الإمام الحسين علیه السلام يمثّل الضمير الواعي للأُمّة، وثقافة لا يمكن مجاراتها؛ نظراً لامتداداتها المتشعّبة في المجتمع، وقرب نسبها وعهدها بالوحي السماوي؛ الذي أمدّها بكلّ قيم السماء، وكلّ هذه العناصر شكّلت الصلاحية المتكاملة للعنصر النقي، الذي يُمثّل تطلعات الأُمّة من خلال ممارسة عملية الوعي التام، وهذا _ بمجموعه _
ص: 119
شكّل بؤرة الخطر القادم على دنيا ذوي الاتجاهات المادّية؛ فهبّوا للانقضاض عليها، ولم يرضوا إلّا بانتزاع العلقة التي في الصدور، فالمسألة ليست محتملة لرؤيا تحليلية محدودة النظرة؛ ولذا قام الإمام الحسين علیه السلام في التحرّك بعملية يعلم أنّها معيدة للأُمّة رُشدها، وتنمّي الوعي لدى أبنائها؛ لكي تستمر عملية الثورة التي جاءت نتيجة الوعي الراقي، وفق المنهج الإسلامي(السماوي)، على أيدي نخبة مارست عملية إيقاظ الأُمة من خلال الإيمان بالمنهج، لا من خلال التكوين الطبوغرافي للمجتمع.
فهذا النوع من الوعي أفرز عنصراً مهمّاً في واقع الأُمّة النخبوي، وهو عنصر الثبات والاستماتة في سبيل المبدأ الذي انتهج من خلال العقيدة، التي ترسخت إلى حدٍّ يدفع المعتنق بذل أغلى ما يملك _ وهي الحياة _ في سبيل العقيدة، وهو الطريق الذي لا ثالث له (إمّا، أو)، إمّا النصر الذي هو إحدى الحسنين، أو الشهادة ومعناها الخلود الأُخروي الذي وعدت به السماء بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(1)
لا شكّ في أنّ الدور القيادي الذي مثّله الإمام الحسين علیه السلام ولّد جانباً معنوياً، استمدّ منه الثوّار ضمانة نجاح أهداف الثورة الحسينية؛ لأنّ الإيمان الراسخ بسلامة التحرّك وخلوّه من الرؤى الدنيوية _ التي غالباً ما تعمل على تحجّر الثورات وجمودها _ هو الذي جعل النخبة واثقة الخطى قوية العزيمة، وهذا الإيمان أنتج بهم أسباب الإبداع الشخصي، الذي شكل بدوره العنصر الإبداعي المتكامل للثورة وقائدها وأصحابه؛ لأنّهم وجدوا الأُسوة المتكاملة، والشخصيّة الممتدة في العمق الرسالي، وهذه الأُسوة شكّلت الدافع المعنوي العالي الدقّة للنخبة الثائرة، وأعطتهم الزخومات اللازمة للاستمرار باتجاه الكمال.
ص: 120
فالأُسوة هي قيادة عميقة المسؤولية، ذات حكمة عالية وشجاعة فذّة، وتُثبِّت الوعي لدى الأُمّة سياسياً وتجعل النخبة تُؤثر الحتف على العيش المتّصف بالذلّة والخنوع.
ولذا نرى الأُسوة القائد (الإمام روحي له الفداء) يقول: «أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين»(1).
إذاً؛ مصدر القوّة هو الارتباط بالسماء من جهة، وأداء التكاليف المناطة بالمخلوقين من جهة أُخرى، وفي البين إلهاب وتوهّج للوعي؛ يجعله قابلاً لإعلان الرفض لكلّ أنواع الاستبداد أو الاستلاب الممارس في واقع الأُمّة سياسياً وفكريّاً.
وبهذه الدقّة التي امتازت بها الأُسوة المخططة للثورة والقائدة لها تستطيع الأُمّة التمييز بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشر.
وهذا الارتباط السماوي الذي أشرنا إليه، والذي جُعل امتداداً لمنهج السماء في الأرض، يتمثّل في حقيقة النبوة وخليفتها الإمامة، التي نصّت السماء على اقتفاء أثرها؛ للخروج من الظلمات إلى النور، من خلال تقويم حركة التاريخ والواقع، وهذا النوع من الامتداد لا يعتريه أدنى ريب؛ وهو مساهم مساهمةً فعّالةً في رفع معنويات النخبة الواعية، وجعلها تستميت في سبيل المبادئ السامية، مع العلم القطعي بتلك النتيجة النهائية، التي وضعها لهم القائد الذي أخذ على عاتقه تهيئة كلّ مستلزمات الحرب؛ انطلاقاً من قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2)، وانتهاءً بحفر الخندق خلف معسكر القيادة؛ وذلك لاستخدامه وفقاً لاستخدامات الحرب الوشيكة _ بل الحتمية _ الوقوع؛ ممّا جعل النخبة الرسالية تقطع بعدم التقصير في مسألة التابع للمتبوع؛ لذا نراهم
ص: 121
يوم الواقعة كانوا على استعداد منقطع النظير، رابطي الجأش شديدي المراس، ممّا حقّق المراد في الآية الكريمة بإيجاد الرهبة في قلوب الأعداء بصنفيهم، أعداء الله وأعدائهم، أوجدوا الرهبة في قلوب الأعداء باعتمادهم الأسباب الطبيعية في المواجهة، بعد الاعتماد على عنصر الغيب الذي ضمن للجميع التكامل من الحقوق: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(1)، وزوّدهم بعناصر الاستماتة، وأعطاهم الآيات المناسبة لخوض غمار المعركة الرابحة في الميدان الكربلائي، الذي حوى الكون بأجمعه يوم التقى فيه صنفان من القوّة، مميّزان بخصائص ميّزت أحدهما عن الآخر، صنفٌ مثّل كلّ قِوى الخير في الكون، وآخر مثّل كلّ قوى الشرّ، المتمثّلة بالأنانيات القاتلة، التي أخلّت بمسيرة الإصلاح التي تبنّتها قوى الخير، المتمثّلة بأبطالها الشرعيين ذوي التأييد السماوي، الذين خاضوا المعركة بأخلاقية لا نظير لها في التاريخ، وابتعدوا فيها عن كلّ الممارسات الإلجائية إلى الطاعة، والانخراط في المعركة؛ إذ يقول القائد الذي أخذ على عاتقه تنفيذ أمر السماء: «شاء الله أن يراني قتيلاً»(2). ويقول: «لا أُكرهكم؛ مَن أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كرائه، وأحسنّا صحبته، ومَن أحبَّ أن يفارقنا من مكانه هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض»(3).
أراد أن يعلّم التاريخ _ بجميع أجياله _ المنهجية الصالحة للتعامل مع الجماهير الثائرة، للوصول بها إلى أفضل النتائج المرجوّة في عمليّة التغيير والإصلاح في مساحات الأُمّة المخرّبة، دون اللجوء إلى أساليب من شأنها أن تحقّق عمليات انتصار طوباوية، لا تلبث أن تفارق التاريخ وتتلاشى مع أوّل استيقاظات الأُمم، صرخات الحسين علیه السلام التي هتفت بها حناجر الموحّدين يوم المنازلة؛ فكان النصر حليفاً له ولأتباعه، بعد أن وقف منادياً أصحابه: «ألا وإنّي قد أذنت لكم؛ فانطلِقوا جميعاً في
ص: 122
حلّ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم، فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري»(1).
هذه الروحية الخاصّة في الخطاب تناسب _ تماماً _ الإعداد العسكري الذي اتّبعه القائد في تخطيطه لقيادة النُّخبة الرسالية المؤمنة، التي اختارت الفناء معه على البقاء في ظلّ أجواء حرّة لم تعهدها الصراعات التي ذكرها لنا التاريخ، بعيدةً عن كلّ أجواء العنف والاستبداد والتفرّد المقيت، وهذه الأجواء جعلت الرسالي يدافع عن العقيدة بإبداع خلّده ورمّزه في ذاكرة الأجيال؛ لأنّ قائده كان معه بمنتهى الصدق والصراحة والنقاء، حتّى مع مَن هو في معسكر الندّ، كما في جوابه للوليد حاكم المدينة: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(2).
فهذه المنهجية الصريحة الصادقة نراها تُمارس مع الجميع بلا استثناء: «من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف؛ ليس عليه منّا ذمام»(3). وفعلاً كان الباقي هو النخبة التي حملت أعباء المرحلة الخطيرة في تاريخ الرسالة، التي بها أعادوا للدين رونقه وفعاليته التي أخمدتها الأهواء والأطماع والممالك الواهية ذات العُقد الدنيئة.
أخلاقية خاصّة مُورست مع الجميع، شملت حتّى القريب ممَّن كان معه قد شدّ الرحال نحو الحياة الأزلية؛ لذا نراه يخاطب النخبة لاستجلاء النوايا؛ ولكي يرتفع الغدر فيما بعد القول الصادق: «أخاف ألّا تعلموا ذلك، أو تعلموا ولا تنصرفوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخديعة عندنا أهل البيت»(4).
فكانت الواقعة، وقد وصف القائد فيها أصحابه: «لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً
ص: 123
من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً»(1).
وقد تمخّض عن قوله أروع النتائج في الدفاع عن العقيدة والمبدأ في أروع صور الاستقبال القتالي، متمثلاً بقول الأسدي للأنصار: «فإذا صار الصباح فأوّل مَن يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للقتال، ولا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب؛ لئلّا يقول الناس: قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم؟! فهزّوا سيوفهم، وقالوا: نحن على ما أنت عليه!!»(2).
وقد نقل لنا التاريخ أجمل المشاهد الإبداعية في الاستماتة والامتثال، تدلّ على نضوج الوعي لدى النخبة الواعية، شيخ كبير طاعن في السنّ، وامرأة عجوز، طفل رضيع، شباب بعمر الورود، الجميع أعطوا المبرّرات اللازمة لخلود الثورة وقائدها وأصحابه الأوفياء في سبيل إعلاء كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله، وجعلها منهجاً صالحاً مستمراً قابلاً للشمول والامتداد.
مع أنّ عاشوراء الحسين علیه السلام تتضمّن المأساة والتحدّي، فقد أحدثت في المجتمع الذي رضي بالذلّ والهوان هزات عنيفة، أعادت له بعض وعيه المفقود وإرادته المسلوبة، وهذا اللون من الوعي لم يفهمه المشفق والمعارض حينما نصحه بالتأجيل أو بتغيير المسار، فقد ردّ عليهم بقوله المستمدّ من وحي النبوّة المرتبطة بالسماء: «والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمة» (3).
ولأنّه يعلم أنّ السنن التاريخية التي تحكم الحياة لا بدّ من تحريكها بواسطة إحداث هزّة في وجدان الأمة، وعصف في ضميرها، وإنتاج حالة الوعي لديها.
ص: 124
والغرض من عملية تحريك السنن لأجل إصلاح القيم وبناء ما هو صالح للحياة، مع أنّ البعض قد منّى الإمام بالأمان والمواصلة، وفتح صفحة جديدة تقوم على حسن المعاشرة والجوار، فأجابه الإمام بأن هذا لا يكون أبداً.
كما أنّ المشفق قد عرض على الإمام المشورة والنصح غير المستند إلى الجذر العلمي بمجريات الأُمور الحتميّة، فقال: «يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله تعالى لا يغلب على أمره»(1).
ومع هذا، فالإمام قاطع بحتمية الخروج؛ لأجل تصحيح المسارات الخاطئة في الشريعة والحياة، ولم يعر أهمية لما قد أُبدي له من المشفق والمعارض، فسار بوعيه السماوي ليحطّم أجهزة الحكم ومؤسساته الخاطئة، بطريقة حسينية معتمدة على الوعي والفهم الدقيق، وهو عصارة الفهم الحسيني لمجريات الأُمور؛ فحصلت عملية التغيير المتوخّاة في الخروج الحسيني، وتغيّرت بُنى الإنسان الداخلية، وخلقت الوعي لديه من خلال كشف وتحطيم الزيف، وكشف الممارسات الجاهلية التي لا تمتّ إلى الدين بصلة، وكذلك بثّت تلك النهضة في النفوس عقدة جلد الذات، وضرورة إماتة النفس التي لم تُشارك ولم تنصر في تلك النهضة.
كما فتحت الآفاق أمام أعين الناس، ممّا جعلها تميّز بين الغث والسمين، وإن كانت مغلوبة على أمرها ظاهراً.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى نرى أنّ تلك النهضة مهّدت للعديد من الثورات، التي استمدّت روحها من واقعة كربلاء الشهادة، ومنها على سبيل المثال: ثورة المدينة، وثورة التوابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة ٨١ﻫ، وثورة زيد بن علي بن الحسين علیه السلام ١٢١ﻫ.
وهكذا بقيت ثورة الإمام الحسين علیه السلام المصباح الذي يستضيء به كلّ ثائر يروم الثورة في كلّ أنحاء العالم؛ ليعيد للإنسان الاعتبار المفقود، ولكي يكون مؤثّراً في إحداث هزّات مناسبة في سنن الكون؛ لأجل الإصلاح والتغيير.
ص: 125
لا يخفى على اللبيب أنّ العنصر الفاعل في الحياة هو الإنسان، صاحب الدور الريادي في مسيرة رسم حركة التاريخ، وتحقيق الهدف المنشود من خلقته: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(1)، وغالباً ما يتعرّض هذا العنصر الفعال إلى عملية هدم تشمل جميع بُناه الثقافية والفكرية، بل على جميع الأصعدة.
وهو كفرد مساهم ضمن جماعة يُطلق عليها المجتمع، كلاهما يتعرّض إلى عمليات الاستلاب والغزو المسبّبين عن عملية يُطلق عليها الركون إلى الغير (الظالم)، تلك العملية نصّ عليها الكتاب الكريم بقوله تعالى:«وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(2).
وتلك العملية (الركون) تؤثّر في هدم البناء الديني لكلا الطرفين(فرد، مجتمع) وتسبّب لهما الإعاقة وتعطيل المسارات الإصلاحية عندهما؛ لأنّها تحدث فيهما الشلل التامّ، أو شبه التامّ؛ ممّا يجعلهما غير شاعرين بما ينويان له، أو على الأقلّ يجعلانهما يغضّان الطرف، فيؤثران الصمت على الكلام، والاستكانة على العمل.
وما جرى في كربلاء _ وما سبقها من أحداث يندى له جبين الإنسانية جمعاء _ هو عبارة عن صراع بين ثقافتين، إحداهما مستندة في جذرها إلى السماء، ومؤيّدة بها ومتغلغلة في أعماق الفطرة الإنسانية، والأُخرى سطحية خالية من القيم، وتفتقر في النشأة والتكوّن إلى ما يؤيّدها، لكنّها تستخدم الآليات المحرّمة ممّا لا تستخدمه الأُولى، فلغة الثقافة الأُولى نزاهتها وشعورها الدائم بضرورة المحافظة على القيم، والسعي الحثيث لعدم هدمها، بل هي القيم بذاتها، وأمّا لغة الثقافة الثانية، فهي تقدّم نفسها على أنّها الأمثل، ولو سمح لها بالتمدد لأتت على كلّ شيء؛ ولذا كان الإمام الحسين علیه السلام مصيباً على الدوام بقوله: «على الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»(3).
ص: 126
فالصراع لم يكن مجرّد خروج على حكم جائر، بل هو ثورة على القيم الفاسدة، التي طغت على المجتمع وأدّت إلى تلك الخرابية الواسعة، التي شملت وشلّت نظام القيم الصحيحة في الحياة، وإلّا لو كان الأمر كما يصوّره البعض لأمكن تسوية الأُمور، وإعطاء البيعة والعيش بوفور تقتضيه مفرداتها، فالإمام عند رفضه البيعة ليزيد ووصفه له: «شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلنٌ بالفسق»(1)، لم يكن رفضه مجرّداً عن الأسباب الداعية له، بل من أشدّه مواجهةً للانحراف الحاصل في ثوابت الشريعة ومبادئها؛ مما يجعل الإمام علیه السلام رافضاً أبداً لهكذا نوع من البيعة، واستمرّ الصراع حتّى حصلت المواجهة الكبرى (کربلاء)، فبان الصبح لذي عينين، وهو ليس صراعاً جديداً، بل له من سابقاته من النظائر، ممّا لا تختلف عنه بكثير، فمنذ بدء الدعوة الإسلامية أُعلنت ثقافة الضدّ، قريش وحلفاؤها _ عرباً ويهوداً _ أُعلنت الحرب منكرةً وحي السماء تارةً، ومشكّكةً به أُخرى.
ولا يخفى أنّ النصر دائماً وأبداً هو حليف الثقافة الأعمق جذراً، والممتدة والمعتمدة في جذرها إلى السماء؛ فانتصر الإسلام، وأصبحت كلمة لا إله إلا الله تصدح فوق المنابر والمآذن.
وكانت تلك أُولى بدايات الصراع بين ثقافتين على أرض واحدة، مع كامل الانقطاع عن الممالك المجاورة لهما، ومع قلّة مواردهما في العدّة والعدد.
والنظير الثاني ما آل إليه الأمر في صفّين والجمل، وكلا النظيرين جاء ليصحّح المسارات الخاطئة، وفضح الزمر المشوّهة للمفاهيم والقيم الصحيحة؛ ولذا عندما نقول: إنّ حقيقة الصراع هو بين ثقافتين أُولاهما إصلاحية، والثانية إفسادية. لا نكون مجحفين لو وصفنا الثانية بأنّها انتهازية مستهترة، غير مقيّدة بضوابط الدين والأخلاق.
وهكذا كان واقع الحياة، بل المستفاد من سيرة الأنبياء والمرسلين أنّهم عملوا على نشر القيم بدءاً بآدم علیه السلام ، وختماً بنبوة الخاتم للرسل والرسالات محمد صلّى الله عليه و آله ، مضافاً إلى ما ورد في التاريخ من العِبَر الخالدة، الدالّة على أولويّة تقدّم القيم على المفاسد.
ص: 127
ولذا؛ ورد التأكيد على أهمية حسن الخلق في المجتمعات، بقوله صلّى الله عليه و آله : «أفاضلكم أحاسنكم أخلاقاً، الموطّئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وتوطأ رحالهم»(1).
ثمّ إنّ تأكيد المنهج السماوي على أهميّة القيم في الحياة، من خلال الجهاد والمجاهدة في سبيل الله: «إنّ الجهاد هو العروة، والأمر بالمعروف هو الوفاء، والنهي عن المنكر هو الحجة»(2).
وقد أبرزت الثقافة الأُولى (ثقافة الحسين علیه السلام ) هذه الرؤية في الإصلاح في إطار الأخلاق داخل المجتمعات؛ لما لها من الأهمّية في إدارة الواقع الحياتي للمجتمعات؛ لذا نراه علیه السلام يقول: «وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا»(3).
ولا زال الصراع مستمراً إلى يومنا هذا، ولكلٍّ مسلكه الخاص به، وممارساته التي يتّبعها.
فهذا معاوية يخاطب أتباعه صراحةً: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم؟!»(4).
وهنا تكشف هذه الثقافة عن أخطر أوراقها، والأُمّة لا زالت تغطّ في السبات لا تحرّك ساكناً ولم تغيّر شيئاً و« إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(5)، وفي المقابل نرى الثقافة الرافضة تضع في المعادلة ما يرجّحها: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»(6).
فكانت نتيجة الصراع هي الامتداد للمسار الذي رسمه الإمام علیه السلام على مرّ
ص: 128
التاريخ، وهو ما يؤيّده الخطاب الإلهي: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا»(1).
وأيّ فتح ذلك المعبّر عنه، عندما خرج من مكّة: «من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّى لم يبلغ الفتح، والسلام»(2).
وأيّ رسالة إلى بني هاشم سادة الأُمم وقادة الأخيار وأُمناء الرحمن، ليس فيها احتمال بالربح والخسارة في الدنيا، بل فيها قطع بالربح والفوز في الآخرة، وهو المراد والمبتغى.
وهذا المراد ناتج عن الخطاب الإلهي:«وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ »(3).
وبما أنّنا أثبتنا أنّ حقيقة الصراع هو بين ثقافتين، وأشرنا إلى بعض الخصوصيات التي تكتنفهما كليهما، والآن نودّ الإشارة إلى أنّ كلاً منهما لديه الآليات المناسبة لكي يوصل صوته إلى المجتمع، فالثقافة الأُولى تبتغي نشر القيم في الحياة، ولا بدّ أن تكون آلياتها تناسب ما تذهب إليه، وإلا لانخرم وعدها للمجتمعات، بأنّها ستكون ناشرة لقيم الحياة فيها، وبما أنّها الممدوحة على لسان ربها؛ حيث قال تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»(4)، فلا بدّ من أنّها ستقوم بنشر أجمل القول في الحياة.
ثمّ قال:«إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا»(5)، ولا شكّ في أنّ السبيل الموصل إلى الربّ هو سبيل القيم الصالحة لا الفاسدة.
ولو أنّنا نظرنا إلى ما ألقاه صاحب هذه الثقافة _ في مختلف مراحل حركته نحو كربلاء _ نجده يحرص كلّ الحرص على القيم مع الآخرين، فقد قال: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتى أُعذر إليكم، فإن أعطيتموني النَّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النَّصف من أنفسكم، فأجمعوا
ص: 129
رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»(1).
وما أجمله من إعلان وإعلام للناس! فإنّه خطاب بضرورة الاستماع وعدم العجلة والتأنّي حتّى تصدر النصيحة الحقّ، ثمّ يكون العذر له منهم، وما أجمل الدعوة إلى النَّصف للأنفس التي هي أحبّ شيء إلى الإنسان! فلا بدّ من إعطائها النَّصف، وعدم الإساءة إليها، وإقحامها فيما يسبّب لها المساءلة غداً (في الآخرة) أمام الله تعالى.
وما أجمله من صوت حقٍّ وصدقٍ وصراحة ملتزم بضوابط القيم والأخلاق، كما أنّ تلك الثقافة قد استعانت بآليات أُخرى؛ لأجل إيصال صوتها إلى الحياة، ولترفع الإبهام عن ذهن كلّ مستفهم بعدها عن كلّ ما يدور في خلده من عدم أحقّية الخروج؛ لأجل إعادة الأُمور إلى نصابها الصحيح، ومن أبرز تلك الآليات هم الأصحاب الذين رافقوه إلى آخر المحطات في العملية التغييرية، فهذا برير ينادي: «يا معشر الناس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً... أفجزاء محمد هذا؟! يا قوم، إنّ ثقل محمد قد أصبح بين أظهُركم، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تفعلوه بهم»(2).
وقال الحرّ ابن يزيد الرياحي: «يا أهل الكوفة، لأُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به»(3).
وهكذا استمرّت تلك الثقافة بعرض ما عندها؛ لأجل إلقاء الحجّة على مَن لا يعلم، فكان الصوت المستمر لها يدوي ويصكّ الأسماع عن طريق سليل النبوة وعِقدها المنضود، الإمام علي بن الحسين علیه السلام في أكثر من موقف؛ ليوضح بجلاء أحقّية أهل البيت علیهم السلام ، روّاد هذه الثقافة الأصيلة في إحداث عملية التغيير الإصلاحي للقيم في الكون والحياة.
ص: 130
وهذه أخته ممثّلة المرأة في العالم الحرّ، ورائدة الديمقراطية، والمدافعة عمّا تعتقد به من قيم ورثتها عن جدّها النبي الأعظم صلّى الله عليه و آله وأبيها الوصيّ علیه السلام .
فقد روى المؤرخون أنّها أومأت إلى الناس فسكتوا، وراح صوتها الهادر يخترق الأسماع ويصكّها، فقالت: «الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلكم كمَثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصلف النطف، والصدر الشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة أو كفضةٍ على ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟! ألا ساء ما تزرون»(1).
فاندهش الجميع من هول ما سمعوا؛ فانتبهت القلوب والضمائر لما عرفت من عظيم الشأن والجناية.
تقول الدكتورة بنت الشاطئ: «لقد أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد وبني أُمية لذّة النصر، وسكبت قطرات السم الزعاف في كؤوس الظافرين» (2)، إلى أن وصلت في آخر خطابها: «فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فو الله، لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله ربِّ العالمين، الذي ختم لنا ولأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود،
ص: 131
وحسبنا الله ونعم الوكيل» (1).
فأخذت هذه الآلية من الخطاب مأخذها من الناس؛ ممّا حدا بالثقافة الأُخرى إلى إخراج هذا الصوت الهادر الفاضح النهضوي، الموجب لنشر الوعي الإصلاحي، والفهم الصحيح للقيم الصحيحة، ونبذ القيم الفاسدة، لكن لا فائدة فقد اتّسع الخرق على الراقع.
وأمّا الثقافة الثانية، فهي تمتلك من الآليات غير النزيهة، والتي غالباً ما تتّصل بالواقع الجاهلي ذي النظرة الجاهلية والعصبية القبلية، ومن جملة آلياتها أنّها راحت تردّد ما يشمئز السمع عن قبوله، ويترفّع الذوق عن ذكره؛ لعدم صلاحيته؛ ولأنّه يعيد الوعي إلى ما قبل عملية الإصلاح الأُولى، التي جرت على أرض الواقع الإنساني، أي زمن الدعوة إلى الله الأُولى، زمن شروق شمس الإسلام على ربوع الأرض، ومن جملة قادة هذه الثقافة هو:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ***جزع الخزرج من وقع الأسل
وهو أمر غاية في الخطورة إذ أنّه يصوّر المنازلة على أنّها عملية ثأرية بين طائفتين لا غير، كما أنّ الخطر الأكبر الذي خفي على الكثير هو أنّ الثقافة الأُخرى تنحو منحى الغالب والمغلوب، ولا دخل للدين والعقيدة عندها في شيء، سوى الاستفادة من الإطار الخارجي، الذي به يمكنها أن تسيطر على الناس، وتغيّر المسارات في الوعي العام لديهم.
ويقيناً إنّها ليست مؤمنة بالإسلام بالمرّة، وبذا يكون حالها حال أيّ ثقافة معتادة أُخرى، كاليهودية والنصرانية والرومية وغيرها.
ولكنّ المؤسف له أنّ المجتمع قد انطلت عليه حيل هذه الثقافة؛ فسار في ركبها طائعاً أو مُرغماً دون أن يدقّق فيها، ولا فيما سيؤول إليه الأمر عند اتّباعها.
ص: 132
ص: 133
*نجوم في سماء الحسين علیه السلام
زهير بن القين.. انعطافة نحو المجد
*مقتل أبي مخنف الأزدي الكوفي
أشهر المقاتل الحسينية
ص: 134
*نُجُومٌ في سَمَاءِ الحُسَين علیه السلام زُهَيرُ بنُ القَين.. انعِطَافَةٌ نَحوَ المَجدِ د. السید حاتم البخاتي(1)
كانت ولا زالت نهضة الإمام الحسين علیه السلام وثورته المعطاء معيناً لا ينضب لكلّ قيم الخير والنبل والفضيلة، ولا زال بإمكاننا أن نكتشف كنوزها، ونُثير دفائنها إن أحسنّا استخدام الآلات الصحيحة للكشف والتنقيب، وليس مجازفة أن ندّعي أنّ هذا الحدث التاريخي الموغل في القدم باستطاعتنا أن نبصر به الحاضر ونستشرف منه المستقبل، فنسير بخطى واثقة صوب الغاية المنشودة، ولكن يتطلّب ذلك منّا بصائر نافذة وقلوباً واعية؛ فإنّك لو وضعت يدك على أي جزء من أجزاء هذه اللوحة التي أبدعتها يد السماء بريشة المعصوم، فستقع على منجم غني بأنفس العبر وأبلغ العظات والدلائل، وكأنّ الله سبحانه أراد أن يُعطي البشرية عبر مواقف وأحداث النهضة الحسينيّة جرعة مركّزة من الفضائل والمناقب وأرقى درجات القيم الروحيّة والمعنويّة؛ لتكون إحدى حجج الله البالغة على خلقه: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(2) و«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ»(3). ولكن لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنّنا لا نقدر أن نغترف من
ص: 135
هذا البحر الزخّار إلّا بقدر أوعيتنا المحدودة وجهودنا القاصرة: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا »(1). ولا يعني ذلك ألّا نفرغ الوسع ونبذل الجهد، فإنّ لكلّ مجتهد نصيباً: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(2).
ونحن في هذا المقال الموجز نروم الاقتراب من عَلَم شامخ من أعلام الشهادة؛ لنستنشق من روض سيرته المعطار عبير الولاء والوفاء والتضحية في سبيل الحقّ والهداية، ألا وهو الشهيد السعيد زهير بن القين البجلي رضوان الله تعالى عليه.
من الأُمور الغريبة التي تستوقف الباحث هي خلو الموسوعات الكبيرة المخصصة لسِيَر وتراجم الأعلام عن ذكر سِيَر وتراجم كثير من أصحاب الإمام الحسين علیه السلام ، على الرغم من وجود دلائل تاريخيّة تشير إلى أنّهم على درجة عالية من الأهمّية والشهرة في محيطهم الاجتماعي والسياسي، في حين تجد أن هذه المصادر لم تُهمل ذكر أشخاص لا يدانون هؤلاء الشهداء شرفاً ومنزلة بين عشائرهم وأقوامهم؛ وبسبب ذلك يواجه الباحث والكاتب في تاريخ هؤلاء وسيرتهم شحّة في المعلومات المتعلِّقة بنشأتهم وتحرّكاتهم. ولعل هذا الغياب أو التغييب له ما يُبرره في ظل الأجواء والظروف المرافقة لتأليف وتصنيف تلك الكتب التي رأت أكثرها النور في زمن الحكومات المناوئة لأهل البيت علیهم السلام وأصحابهم، إن لم يكن كثير من هؤلاء المصنِّفين من المرتبطين بجهاز السلطات الحاكمة. وزهير بن القين البجلي بين هؤلاء الذين أُغمط حقُّهم، ولم ينالوا حقَّهم من الذكر والتنويه، على الرغم من أنّه من الأشخاص المبرّزين والأعيان ورؤساء القبائل وأصحاب المآثر والبطولات، وليس من الأغفال المجاهيل خاملي الذكر.
ص: 136
وزهير هو ابن القين بن قيس الأنماري البجلي، وفي الأنساب زهير بن القين بن الحرث البجلي(1)، ولعل الحرث هو أحد أجداده، والبجلي نسبةً إلى قبيلة بجيلة، وذكر ابن عبد البرّ أنّه اختُلف في خثعم وبجيلة، وذهب أكثر أهل النسب إلى أنّهما ابنا أنمار بن نزار بن معد بن عدنان، وقيل: إنّ بجيلة امرأة، وهي ابنة صعب بن سعد العشيرة، ولدت لأنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث، فنُسبوا إليها وعُرفوا بها، وقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: إنّ خثعم وبجيلة هما ابنا أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ(2)؛ فيكونون من القبائل القحطانية. ولهم بطون عدّة سكنت اليمن والحجاز، ثمّ افترقوا أيام الفتح على الآفاق، كالعراق والشام، ولم يبقَ في مواطنهم الأصلية منهم إلّا القليل(3).
ويبدو من بعض الأخبار هنا وهناك أنّ زهير بن القين كان رجلاً شجاعاً شريفاً في قومه، وله صيت وجاه عند سائر القبائل، ولم تتوافر معلومات كافية عن حياته ونشأته في المصادر التاريخية قبل واقعة عاشوراء سوى ما يُذكر من مشاركته في إحدى الفتوحات الإسلامية، وهو فتح مدينة (بَلَنْجَر)، وهي مدينة ببلاد الخزر بأرمينية(4)، فتحها المسلمون في خلافة عثمان بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي سنة ثمان وعشرين، أو تسع وعشرين(5)، وكان في مقدّمة الفاتحين زهير بن القين، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها _ وأسفرت الأُمور عن انتصار المسلمين _ ينقل زهير خبراً عن هذه المعركة ظل عالقاً في ذهنه حتى سنة إحدى وستين للهجرة، وذلك حين
ص: 137
التقى بالحسين علیه السلام ودعاه إلى نصرته وقرّر الالتحاق به، فلمّا عاد إلى أهله وأصحابه ليخبرهم بقراره المصيري حدَّثهم بهذا الخبر، فقال: «إنا غزونا البحر، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي(1) رضي الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد [وفي رواية: سيد شباب أهل محمد](2)، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم»(3).
ويرشح من هذه الحادثة التي ينقلها لنا زهير بن القين عدّة أُمور، أهمّها أنّ زهيراً كان وهو في مقتبل عمره يسارع إلى المشاركة في الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام في البلاد البعيدة؛ ما يتطلّب ذلك أيضاً شجاعة وإقداماً وفروسية. كما يبدو أنّ له شخصية مميّزة جلبت انتباه شخص حكيم وخبير كسلمان الفارسي المحمدي؛ لينقل له ولبعض أصحابه مثل هذه المعلومة الغيبيّة، وليس ذلك إلّا لما يتوسّم به من أمارات الإيمان والتقوى والتضحيّة في سبيل المبادئ الحقّة. وكذلك يتراءى للمتأمّل في هذا الخبر أنّ زهير بن القين رجل على منزلة جيدة من العلم والمعرفة والإدراك لعظائم الأُمور ومهمّاتها؛ فقد وعى هذا الحديث وأدرك مغزاه وظلّ محتفظاً به كلّ تلك الفترة، ولعل مواقفه وتصرفاته، والتي سنشير إلى بعضها تدعم ذلك بصورة جلية.
وهكذا لم يجُد لنا التاريخ المكتوب بشيء ذي بال عن حياة الشهيد زهير بعد تلك الواقعة غير أنّه كان من سكنة الكوفة قُبيل أحداث عاشوراء، وكان وجهاً من
ص: 138
وجوه عشيرته وقومه، وله مكانته المرموقة بين القبائل، وأنّه قد أدرك عاشوراء وهو شيخ كبير، إذا التفتنا إلى أنّه قد أدرك خلافة عثمان وهو رجل قادر على حمل السلاح والمشاركة في فتوح البلدان النائية، فيبدو أنّه كان شابّاً في العقد الثاني من عمره.
من العلامات الفارقة في مسيرة حياة الشهيد زهير بن القين اتهامه بأنّه عثماني الهوى، وهو مصطلح سياسي يعني في بعض تفسيراته ميل الشخص إلى عثمان والانحراف عن أهل البيت علیهم السلام ، والاعتقاد بأنّه قُتل مظلوماً ويفضله على أمير المؤمنين علیه السلام ، وربما يحمّل الإمام تبعات قتله، أو الاشتراك ضده علیه السلام في حروبه التي خاضها(1). ووصفُ الشخصِ بأنّه عثماني الهوى، يعنى على وجه الدقّة والتحديد هو أنّه أُموي الهوى، في قبال مَن يكون علوي الهوى والانتماء والعقيدة؛ لأنّ وصفه بهذه الصفة أقرب للقبول عند العامّة من الناس؛ لكونه خليفةً وصحابياً قُتل مظلوماً كما رُوّج لذلك، وإلّا فلا يوجد وجه صحيح في جعل هذه المقابلة بين أمير المؤمنين وعثمان؛ في الوقت الذي لم يكن أمير المؤمنين من المؤلِّبين على قتله، أو الخاذلين له كما فعل غيره من الصحابة، كطلحة وعائشة ومعاوية نفسه الذي خذله في وقت كان عثمان أحوج إلى نصرته، ولم ينصره، وظل متربّصاً حتى يُقتل؛ ليجعل من مقتله ذريعةً للوصول إلى مآربه وغاياته، في حين نجد أنّ أمير المؤمنين علیه السلام بذل الوسع في تسوية الأُمور بين عثمان وبين الساخطين على تصرّفاته، ولم يُجدِ نفعاً حتى وصلت الأُمور إلى ما وصلت إليه.
هذا، وقد وردت تهمة عثمانية زهيرٍ _ أو عدم ميله نحو أهل البيت علیهم السلام _ في أُمّهات المصادر التاريخيّة، ومن بينها الطبري الذي أشار إلى عثمانية زهير، ففيما رواه أبو مخنف في حديث طويل جاء فيه: أنّه عندما نادى عمر بن سعد بالزحف على معسكر الإمام الحسين علیه السلام عصر يوم التاسع من المحرَّم، بعث الحسين أخاه العباس ليسألهم عمّا
ص: 139
يبغون؛ فأتاهم العباس علیه السلام فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس علیه السلام : ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم. فطلب العباس أن يُمهلوه كي يخبر الحسين بذلك، فقفل مسرعاً ليُعلِمَ الإمام، «وبقي أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القوم إن شئت، وإن شئت كلّمتهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم. فقال حبيب بن مظاهر: أما والله، لبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه (عليه السلام) وعترته وأهل بيته (صلّى الله عليه و سلم)، وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكي نفسك ما استطعت. فقال له زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتقِ الله يا عزرة؛ فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك الله _ يا عزرة _ أن تكون ممّن يعين الضُّلّال على قتل النفوس الزكية. قال: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانياً. قال: أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟! أما والله، ما كتبت إليه كتاباً قط، ولا أرسلت إليه رسولاً قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمعني بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله (صلّى الله عليه و سلم) ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه؛ حفظاً لما ضيعتم من حقّ الله وحقّ رسوله (عليه السلام)»(1).
ونقل الطبري أيضاً في موضع آخر، عن أبي مخنف، عن السدي، عن رجل من بنى فزارة، قال: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نُساير الحسين، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نُسايره في منزل. ومن كراهته للقاء الإمام والاجتماع به تُستشف أيضاً عثمانيته وعدم ميله إلى أهل البيت علیهم السلام ، ثمّ يتابع الفزاري، فيقول: فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُداً من أن نُنازله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذا أقبل رسول الحسين حتى سلَّم، ثمّ دخل فقال:
ص: 140
يا زهير بن القين، إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه. قال: فطرح كلّ إنسان ما في يده، حتى كأنّنا على رؤوسنا الطير.
وهنا تنبري دلهم بنت عمرو زوج زهير بن القين(1)، لتقول له: أيبعث إليك ابن رسول الله ثمَّ لا تأتيه؟! سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه، ثمَّ انصرفت، فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقُدم وحُمل إلى الحسين، ثمَّ قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك؛ فإنّي لا أحبّ أن يُصيبك من سببي إلّا خير. ثمَّ قال لأصحابه: مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد(2). وأورد القصّة أيضاً الشيخ المفيد في الإرشاد(3).
ومن الذين صرّحوا بعثمانيّةِ زهير، البلاذري المتوفَّى سنة ٢٧٩ﻫ في أنساب الأشراف، قال: «قالوا: وكان زهير بن القين البجلي بمكَّة _ وكان عثمانيّاً _ فانصرف من مكَّة متعجّلاً، فضمّه الطريق وحسيناً، فكان يُسايره ولا يُنازله...»(4).
ونقل أيضاً قول عزرة بن قيس لزهير: «كنت عندنا عثمانيّاً فما لك؟!» فأجابه زهير: «والله، ما كتبت إلى الحسين ولا أرسلت إليه رسولاً، ولكن الطريق جمعني وإياه، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله (صلّى الله عليه و سلم) وعرفت ما تقدَّم إليه من غدركم ونكثكم وميلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره وأكون في حزبه حفظاً؛ لما ضيعتم من حقِّ رسول الله»(5).
ص: 141
وقد ذكر الدينوري المتوفّى سنة ٢٨٢ﻫ كراهة زهير الاجتماعَ بالحسين فقط، الكاشف ربما عن عثمانيّته، فذكر أنّ الحسين علیه السلام لمّا وصل إلى زرود نظر إلى فسطاطٍ مضروب، فسأل عنه، فقيل له: هو لزهير بن القين _ وكان حاجّاً أقبل من مكّة يريد الكوفة _ فأرسل إليه الحسين: أن القني أكلّمك، فأبى أن يلقاه، وكانت مع زهير زوجه، فقالت له: سبحان الله! يبعث إليك ابن رسول الله صلّى الله عليه و آله فلا تجيبه؟! فقام يمشي إلى الحسين علیه السلام . ونقل قصّة شبيهة بما أوردها الطبري آنفاً(1).
وممَّن تابعهم على هذا القول الفتّال النيسابوري المتوفَّى سنة ٥٠٨ﻫ(2)، وابن الأثير المتوفَّى سنة ٦٣٠ﻫ في الكامل(3)، وابن نما الحلي المتوفَّى سنة ٦٤٥ﻫ في مثير الأحزان(4).
وإذا ما أردنا التوقّف عند اتّهام زهير بالعثمانيّة، فنحن إزاء حالتين لا ثالت لهما: الحالة الأُولى هي نفي هذه التّهمة بحقِّ الشهيد زهير من الأساس، والحالة الثانية أن نتعاطى مع الشهيد زهير على فرض وجود مثل هذا الادّعاء، وما يمكن أن يقال في هذا الشأن:
ربما يرى بعض الفضلاء والباحثين أنّ إلصاق هذه التّهمة بالشهيد زهير وراءها نيّات مبيّتة؛ هدفها الحطّ من قدر هؤلاء الأعاظم والشهداء الأماثل في أعين أتباع أهل البيت ومحبّيهم، وقد حاول صاحب موسوعة الركب الحسيني أن يعالج هذه الدعوى بالمناقشة فيما ورد من نصوص وأخبار، من جهة السند تارةً، ومن جهة المتن أُخرى؛ ففي مجال السند قد ضعف إحدى روايتي الطبري _ وهي رواية منازل الطريق _ بمجهولية الفزاري في سندها، وكذلك طرح رواية البلاذري لخلوها من
ص: 142
الإسناد، ولكونها مصدّرة بكلمة: قالوا فقط(1).
ولكن هذا اللون من التعامل مع المادّة التاريخيّة ومصادرها ليس صحيحاً من جهتين:
الأُولى: إنّ إسقاط المنهج الحديثي _ منهج التصحيح والتضعيف والوثاقة _ على المادّة التاريخية سوف يفضي إلى نسفها من الأساس، ولا يبقى لدينا ما يمكن التعويل عليه، لا سيما في أحداث النهضة الحسينيّة المعتمدة على أخبار ونقولات يفتقر كثير منها إلى الأسانيد، فضلاً عن صحّتها واعتبارها وفق المنهج الحديثي وعلم الرجال.
الثانية: إنّ الوصول إلى الحقيقة التاريخيّة لا ينحصر بوجود الأسانيد الصحيحة أو المعتبرة؛ فإنّ منهج المؤرِّخين يعتمد على قدرة المؤرِّخ على اقتناص الأدلّة والشواهد ومقارنتها وتحليلها، واعتماد المادّة الأكثر اعتباراً، من قبيل نقلها وتداولها في المصادر المتقدِّمة ومن قِبَل مؤرِّخين معتمَدين وملاءمتها للمعطيات التاريخية الأُخرى، وعدم مخالفتها لمسلّمات العقل والنقل، وغير ذلك من القرائن.
وأمّا في المجال الدلالي، فلاحظ المستشكل على نصّين من نصوص هذه المسألة: النصّ الأول هو رواية منازل الطريق التي رواها الطبري عن رجل من بني فزارة، فأشكل بأنّ متنها لا يستقيم مع الحقيقة التاريخيّة والجغرافية؛ لأنّ زهير بن القين كان عائداً من مكّة إلى الكوفة بعد الانتهاء من أداء الحجّ، فلو فرضنا أنّه قد خرج من مكّة بعد انتهاء مراسم الحجّ مباشرة؛ فإنّه يكون قد خرج منها يوم الثالث عشر من ذي الحجّة على أفضل التقادير؛ وبهذا يكون الفرق الزمني بين يوم خروجه ويوم خروج الإمام علیه السلام منها خمسة أيام على الأقل، وإذا كان هذا فكيف يصحّ ما في متن الرواية: «كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نُساير الحسين؟!»(2).
ويبدو أنّ صاحب الملاحظة قد فهم من كلام الراوي هكذا: أنّنا كنّا
ص: 143
مع زهير وكنّا نُساير الحسين من مكّة، وهذا لا يستقيم مع الفارق الزمني بين خروج الإمام الحسين علیه السلام من مكّة يوم الثامن، وخروج زهير وأصحابه يوم الثالث عشر على أقلّ تقدير.
ولكن الظاهر من العبارة: أنّنا حينما أقبلنا من مكّة بعد إتمام الحجّ كنّا نُساير الحسين. وليس بالضرورة أنّه كان يقصد مسايرته من مكّة، بل يصحّ كلامه فيما لو قصد أنّهم كانوا يسايرونه ولو في بعض الطريق، ومن الممكن أن يلحقوا بركب الإمام لوجود النساء والأطفال الذي يستوجب أن يبطئوا في السير.
ثمَّ إنّ الإمام علیه السلام كان يتحيّن الفرص لدعوة الناس ومَن يقابلهم في الطريق لنصرته والالتحاق به؛ ما يقتضي التأني في المسير.
هذا مع أنّ سائر المصادر الأُخرى التي نقلت الخبر ليس فيها هذا الإيهام والالتباس.
والنصّ الثاني الذي نوقش في دلالته على عثمانيّة زهير بن القين هو ما رواه الطبري من المحاورة الحاصلة بين عزرة بن قيس وزهير، بدعوى أنّها كشفت لنا أنّ زهير بن القين لم يكن عثمانيّاً في يوم من الأيام؛ لأنّ زهيراً أجاب عزرة الذي اتّهمه بالعثمانيّة فيما مضى قائلاً: «أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟!» أي: من أهل هذا البيت علیهم السلام رأياً وميلاً وانتماءً.
ولم يقل له _ مثلاً _: نعم، كنت عثمانيّاً _ كما تقول _ ثمّ هداني الله؛ فصرت من أتباع أهل هذا البيت وأنصارهم. أو ما شابه ذلك. بل كان في قوله المتقدِّم نفي ضمني لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر. ثمَّ إنّ سكوت عُزرة بعد ذلك عن الردّ كاشف عن تراجعه عن تهمة العثمانية(1).
إنّ ما ذُكر من معنى قد تحتمله العبارة، ولكنّه لا يبدو أنّه هو المعنى الأقرب، بل غاية ما يظهر من كلام زهير أنّ في وجوده الآن مع الإمام الحسين علیه السلام ، دلالة واضحة على أنّه من أهل البيت علیهم السلام ومن شيعتهم، وأمّا أنّه قد نفى أنّه لم يكن عثمانيّاً في يوم
ص: 144
من الأيام، وأن عزرة بسكوته قد تراجع عن هذه التّهمة، فهو تحميل للكلام أكثر ممّا يحتمل، مع أنّه قد توجد هناك قرائن حالية أو مقالية مفقودة في البين تدلّ على خلاف ما فهمه المستشكل.
هذا بالإضافة إلى أنّ زهيراً نفسه في ذيل كلامه ينفي أنّ التحاقه بالإمام علیه السلام كان مخطَطاً له من قِبَله، وإنّما قد جمعه معه الطريق؛ فذكر به رسول الله صلّى الله عليه و آله ومنزلته منه؛ فأراد أن ينصره، وأنّ زهيراً أقسم في كلامه أيضاً أنّه لم يكتب له كتاباً قط، ولا أرسل إليه كتاباً قط، ولا أوعده بنصرٍ قط. فلو كان حال زهير سابقاً كحاله حين التحق بالحسين علیه السلام وما أبداه من مواقف فذّة في عاشوراء _ ولم يكن عثمانيّاً في يوم من الأيام _ لكان من المبادرين لدعوة الإمام، ومن المكاتبين له، خصوصاً وأنّه من أهل الكوفة ومن أشرافها المعروفين، ولالتحق به وهو في مكّة وجاء معه، علماً أنّ أحداث الكوفة وثورة أهلها كانت قد بدأت منذ مدّة طويلة، وعدم بيعة الإمام علیه السلام ليزيد وخروجه إلى مكّة واتصالات أهل الكوفة ومكاتباتهم أمر معروف ومشهور بين الناس.
وممّا تُمسّك به لنفي عثمانيّة الشهيد زهير هو: أنّ التاريخ لم يحدِّثنا في إطار سيرته عن أي واقعة أو حدث، أو محاورة أو تصريح من زهير نفسه، تتجلى فيه هذه العثمانيّة التي أُلصقت فيه، مع أنّ الآخرين ممَّن عُرفوا بعثمانيتهم كانوا قد عُرفوا بها من خلال آرائهم ومواقفهم واشتراكهم في حرب أو أكثر ضد أمير المؤمنين علیه السلام (1).
وهذا الوجه يمكن أن يلاحظ عليه: بأنّنا أشرنا فيما سبق إلى أنّ التاريخ المكتوب الواصل إلينا قد ظلم الشهيد زهيراً ولم يُعطه ما يستحقّ من الذكر، فالتاريخ لم يحدِّثنا عن زهير شيئاً لا خيراً ولا شرّاً؛ حتى نستدلّ بعدم ذلك على أنّه لم يكن عثمانيّاً. وكذلك فإنّ مصطلح (العثماني) لم يكن محرراً وواضحاً، فليس كلّ عثماني الهوى لا بدّ أن تظهر منه مواقف عدوانية تجاه أهل البيت علیهم السلام ، أو يشترك في حرب ضدهم؛ فإنّنا نجد بعض الشخصيات توصف بهذا الوصف وليس لها تلك المواقف، ومن ذلك ما
ص: 145
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: «عن عطاء بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن شيبان بن مخرم وكان عثمانيّاً، قال: إنّي لمع علي رضي الله عنه إذ أتى كربلاء، فقال: يُقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلّا شهداء بدر. فقلت: بعض كذباته. وثَمَّ رِجْل حمار ميت، فقلت لغلامي: خذ رِجْل هذا الحمار فأوتدها في مقعده وغيبها، فضرب الدهر ضربة، فلمّا قُتل الحسين بن علي رضي الله عنهما انطلقت ومعي أصحاب لي فإذا جثّة الحسين بن علي رضي الله عنه على رجل ذاك الحمار، وإذا أصحابه ربضة حوله»(1). فهذا الشخص وُصِف بأنّه عثمانيّ بينما هو في جيش أمير المؤمنين علیه السلام .
وقالوا عن أبي بردة بن عوف الأزدي أنّه كان عثمانيّاً تخلّف عن أمير المؤمنين في واقعة الجمل وحضر معه صفين على ضعف نية في نصرته(2).
وفي الاستيعاب عن أبي عمر، قال: «كان عثمان يحبّ زيد بن ثابت، وكان زيد عثمانيّاً، ولم يكن فيمَن شهد شيئاً من مشاهد عليّ مع الأنصار، وكان مع ذلك يفضّل علياً ويظهر حبّه»(3).
وغير ذلك من الشواهد على أنّ مصطلح (عثماني) غير واضح الأبعاد.
ويستعين صاحب موسوعة الركب الحسيني (4) أيضاً في نفي التهمة عن زهير: بأنّ ابن أعثم المعاصر للطبري والدينوري والبلاذري يروي قصّة هذا اللقاء بدون أي ذكر للعثمانيّة أو للامتناع، قائلاً: «ثمَّ مضى الحسين علیه السلام فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين علیه السلام إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه فسطاطه، وطلّق امرأته...»(5).
وهذا الاستدلال لا ينهض لإثبات المدّعى؛ فإنّ المؤرِّخين عادة ما يعمدون في بعض الأحيان إلى الإجمال والاختصار في نقل الخبر، وقد يفصّلون في أحيان أُخرى،
ص: 146
حسب طبيعة الخبر الذي يصلهم.
واللطيف في الأمر، أنّ البلاذري نفسه الذي ذكر أنّ زهيراً كان عثمانيّاً، أورد في الأنساب في موضع آخر خبر لقاء زهير بالحسين علیه السلام من دون الإشارة إلى العثمانيّة أو إبائه عن اللقاء، فقال: «وذكروا أنّ زهير بن القين.. لقي الحسين وكان حاجّاً، فأقبل معه»(1). وكذلك الطبري، قال: «وذُكر أنّ زهير بن القين البجلي لقى الحسين وكان حاجّاً، فأقبل معه»(2).
وممّا استشهد به على نفي التهمة كذلك مواقف زهير وزوجه وأقوالهم بعد أن عاد من لقائه مع الحسين علیه السلام ؛ فإنّها أقوال ومواقف تنمّ عن أنّهما كانا عارفين بحقّ أهل البيت علیهم السلام وتعمر قلبيهما مودّتُهم، كقوله لزوجته: «وقد عزمت على صحبة الحسين علیه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي»(3)، وقولها له: «كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسالك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين علیه السلام »(4)، وقوله لها: «فإنّي قد وطّنت نفسي على الموت مع الحسين علیه السلام »(5)، وقول زهير لأصحابه: «مَن أحبّ منكم الشهادة فليقم»(6). وإخباره إياهم بحديث سلمان الفارسي: «إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم»(7) (8).
ولكن لا يخفى على المتأمِّل أنّ هذه الأقوال كما تنسجم مع رؤية مَن يدّعي نفي التهمة عن زهير، وأنّها تكشف عن علوية زهير وزوجه وموالاتهما لأهل البيت علیهم السلام
ص: 147
من أول الأمر، كذلك تنسجم تمام الانسجام مع حصول التحوّل والانقلاب الحاصل في رؤيتهما ومعتقدهما؛ فإنّهما بعد أن زالت عن قلبيهما الغشاوة وأبصرا الحقَّ جلياً لا يستغرب أن تبدر منهما هذه الأقوال والمواقف، على أنّه لا ملازمة بين عثمانيّة زهير _ حسب الفرض _ وبين عثمانيّة زوجته؛ فقد تكون دلهم بنت عمرو امرأة زهير علويةً مواليةً وزوجها لم يكن كذلك، وهذا كثير الحصول في المجتمع، بل ربما يُستدلّ على كونها من الموالين لأهل البيت علیهم السلام من قولها لزوجها حين دعاه رسول الحسين علیه السلام فأحجم عن إجابته، فقالت له: «أيبعث إليك ابن رسول الله ثمَّ لا تأتيه؟! سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه»(1).
كما أنّ هناك تشكيكات واستبعادات أُخر أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة، وليس غرضنا أن نجتهد في إثبات عثمانيّة زهير بقدر ما نريد أن نقول: إنّ ما كان عليه من توجه _ لو صحّ _ لا يعني بأي حال التقليلَ من شأن زهير بن القين الذي تسنّم ذرى المجد وفاز فوزاً عظيماً في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع النبيين الشهداء والصدِّيقين، ولكن بعض أتباع أهل البيت قد يتصوّر أنّ هذا فيه نوع من الخدشة بمكانة هذا الشهيد؛ فيحاول بشتّى الطرق نفي هذه التهمة، بل يمكن أن ندّعي بأنّ هذه الانعطافة التاريخيّة نحو المجد والعلى هي إحدى دروس وعبر النهضة الحسينيّة التي على الأجيال أن تقف عندها وتتمعّن فيها، وفيها أكبر دليل على بصيرة زهير الثاقبة وسريرته النقيّة التي أينعت بالإيمان، فأنتجت مواقف بطولية أذهلت التاريخ، فخشعت صفحاته إجلالاً لها، فبزّ بذلك أقرانه وفاق أترابه، حتى ممّن كانوا محسوبين في ولائهم وحبّهم لأهل البيت علیهم السلام .
إذا لم تستطع المحاولات السابقة المذكورة وغيرها أن تبني في نفوسنا جداراً بينها وبين الاعتقاد بعثمانيّة زهير، وظلّ ما نقله لنا التاريخ هو السائد؛ فيمكننا _ فيما لو
ص: 148
أردنا أن نحلل هذه القضية _ القول: إنّ هذا التوجّه الفكري والعقدي لزهير بن القين لا يخرج عن فرضين:
الفرض الأول: هو إنّ انحراف زهير عن أهل البيت علیهم السلام كان متجذرّاً في وجدانه، ووليد تراكمات فكرية أو بيئية أو مجتمعية، وعلى مدى زمن طويل، ولم يكن حالة طارئة، فعلى هذا الفرض للمرء أن يتساءل عن سرّ هذا التحوّل الكبير في المسار الفكري للشهيد: هل كان بتأثير شخصية الإمام الحسين علیه السلام ؟ وهل أطلعه على أُمورٍ غيّرت مجرى تفكيره؟
ولاستجلاء بعض جوانب هذه المسألة نسلِّط الضوء على شاهد قرآني شبيه _ إلى حدّ بعيد _ بقصّة زهير بن القين في هذا الفرض، وهو ما يرتبط بسحرة فرعون الذين حشدهم للانتصار على نبي الله موسى علیه السلام ومعجزته العصا، وبدأت المبارزة، فنادى السحرة «قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ*قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ»(1)، «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى »(2)، فجاء النداء الإلهي: «قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى *وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى»(3)، وتحققت الإرادة الإلهية «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ»(4)، وعندما تبيّن لهم الحقّ، وأنّ هذا ليس من صُنْع البشر «لم يجدوا بُداً دون أن يخرّوا على الأرض سُجَّداً، كأنّهم لا إرادة لهم في ذلك»(5)،«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى »(6)؛ فأُصيب الناس بالدهشة وخيّم عليهم الذهول وهم يرون أمامهم شخصاً واحداً ينتصر على عظماء
ص: 149
السحرة، بل يُؤمنون به وبدينه؛ فيجنّ فرعون ممَّا يرى وتثور ثائرته، «قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى»(1). ما الذي حصل؟ ما السبب في هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم، ومن الظلمة إلى النور؟ قد جعل الجميع في دهشة، وربما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتى من قِبَل فرعون نفسه؟ أي عاملٍ كان السبب في هذا التحول العميق السريع؟ وأي عاملٍ أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج؟ إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلَّ وجودهم في خدمة هذا العمل، بل وضعوه فعلاً على ما نقل التاريخ؛ لأنّ فرعون قد نفَّذ تهديده، وقتل هؤلاء بطريقة وحشية، فقال بعض: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة، وآخر النهار شهداء بررة (2).
فهل نجد هنا عاملاً _ في هذا التغيير الجذري _ غير العلم والوعي؟ «قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا »(3)، إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره، وأيقنوا _ بوضوح تامّ _ أنّ عمل موسى لم يكن سحراً، بل هو معجزة إلهية، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم(4). وردّوا على تهديد فرعون لهم بالتعذيب والقتل بكلِّ ثقة واطمئنان«فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(5). قال العلاّمة الطباطبائي: «هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحقُّ وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه، فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة _ من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها _ سراباً خيالياً وزينة غارّة باطلة، وأنّهم إذا خُيِّروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خُيِّروا بين الحقِّ
ص: 150
والباطل، والحقيقة والسراب»(1).
فلأجل تحقيق التغيير وإيجاد تحوّل في مسيرة الأفراد والمجتمعات المنحرفة لا بدّ أولاً وقبل كلِّ شيء من إيجاد الوعي الصحيح في وجدان أفراد الأُمّة ووضع مؤشر تفكيرهم في الاتّجاه الصحيح. وهذا ما حصل لزهير بن القين حين التقى بالإمام الحسين علیه السلام ، فيمكن أن يكون الإمام قد شخّص له مواطن خطئه واشتباهه، وبيّن له ما ينتظره من النعيم المقيم فيما إذا التحق بأهل البيت علیهم السلام ونصرهم؛ فانقشعت بنور كلمات الإمام علیه السلام ظلمات وجدان زهير بن القين وأشرقت روحه بحبّ آل رسول الله صلّى الله عليه و آله ؛ فحدث في نفسه هذا التحوّل الذي طلّق معه الدنيا بكلِّ ما فيها؛ وآثر الاستشهاد مع ابن بنت رسول الله غير آبهٍ بما يُصيبه من أذى في سبيل ذلك، «ولكن مع الالتفات إلى أنّ مثل هذا الانقلاب والتحوّل والاستقامة، ليس ممكناً إلّا في ظل الإمدادات الإلهية، ومن المسلَّم أنّ كلَّ مَن اختار سلوك طريق الحقّ، شملته هذه العنايات الربّانية، والإمدادات الإلهية»(2).
وأمّا الفرض الثاني في عثمانيّة زهير، فقد تكون ناشئة من شبهة عارضة وقناعات مبنيّة على أُمور وهمية، ولم تكن اعتقاداً متأصّلاً في قرارة نفسه، فمن الممكن أن يكون زهير من الموالين والمحبّين لأهل البيت علیه السلام ، وقد يشهد لذلك أنّ سلمان الفارسي كان يتفرّس فيه محبّة أهل البيت علیهم السلام وموالاتهم، فحثّه على نصرة الإمام الحسين علیه السلام يوم عاشوراء، وطلب منه ومن رفقائه أن يكونوا أشدّ فرحاً بنصرة الإمام من فرحهم بالغنائم، إلّا أنّه قد عرض له عارض غيَّر فيه بعض القناعات؛ فاعتقد _ مثلاً _ أنّ الخليفة عثمان قُتل مظلوماً، وكان يفترض بالإمام علیه السلام أن يقتص من قتلته، وما شابه ذلك، ولكن من دون أن يكون مبغضاً لأهل البيت علیهم السلام أو محارباً لهم.
وهذه العوارض الفكرية والعقدية طالما تحصل لبعض الموالين؛ فتتشوّش لديه الرؤية، ومن ذلك ما ينقله الشيخ المفيد، عن المسعودي، عن هاشم بن الوليد، عن
ص: 151
ابن سعيد التميمي، عن أبي ثابت مولى أبي ذرّ، قال: «شهدت مع أمير المؤمنين علیه السلام الجمل، فلما رأيت عائشة واقفة بين الصفّين ومعها طلحة والزبير، قلت: أمّ المؤمنين وزوجة الرسول وحواري الرسول وصاحبيه بأُحد. فدخلني ما يدخل الناس من الشكّ، حتى كان عند صلاة الظهر كشف الله ذلك عن قلبي، وقلت: عليٌّ أمير المؤمنين وأخو سيد المرسلين وأولهم إسلاماً، لم يكن بالذي يقدم على شبهة. فقاتلت معه قتالاً شديداً. وعندما عاد إلى المدينة استأذن بالدخول على أُمّ سلمة، وقصّ عليها خبره، فقالت له: أحسنت! إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: إنَّ علياً مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقا حتى يردا الحوض»(1).
فيمكن أن تكون حالة زهير من هذا النوع، ولكن حين جمعه الطريق بالحسين علیه السلام أزال الإمام ما قد علق في روحه من خبث ودرن، فعادت نقية صافية مبصرة للحقّ؛ فحدث عنده هذا التغيير ليعلن ولاءه ونصرته للإمام علیه السلام .
إننا سواء قلنا: إنّ الشهيد زهير بن القين البجلي كان علوي الهوى ومن أتباع أهل البيت علیهم السلام ومواليهم، وإنه اجتمع بالحسين في الطريق وانضمّ إليه، أم اعتقدنا أنّه كان عثمانيّاً يحمل في قلبه شيئاً تجاه أهل البيت علیهم السلام ، ولكن لقاءه التاريخي بالإمام الحسين علیه السلام قلب كيانه رأساً على عقب.
وعلى كلا التقديرين؛ فإنّ التحاقه بركب الحسين علیه السلام يعدّ انعطافة تاريخية في حياة الشهيد زهير نحو المجد والخلود والفوز برضوان الله تعالى.
ويظهر من بعض الدلائل والنصوص التاريخية أنّ وجود الشهيد زهير في الركب الحسيني كان وجوداً مميّزاً، فرضته شخصية الشهيد المتّزنة وعقله الراجح، وهذا ما نلمسه حين أشار على الإمام الحسين علیه السلام بمناجزة جيش الحرّ حين حاصرهم ومنعهم من النزول في الغاضرية أو نينوى، فقال زهير: يا بن رسول الله، ذرنا حتى نقاتل
ص: 152
هؤلاء القوم، فإنّ قتالنا الساعة نحن وإياهم أيسر علينا وأهون من قتال مَن يأتينا من بعدهم. وقد أيّده الإمام وصوّب رأيه، فقال له: صدقت يا زهير. ولكن الإمام كره أن يبدأهم بقتال حتى يبدؤوا(1)، وهو الأمر الذي تمليه مبادئ النهضة الحسينيّة السامية، وأخلاق أهل البيت علیهم السلام في الحرب والقتال.
وفي حديث يرويه الطبري في دلائل الإمامة: أنّه عندما صحب زهيرٌ الإمامَ الحسين علیه السلام ووصلوا إلى كربلاء، قال له الإمام: «يا زهير، اعلم أنّ ها هنا مشهدي، ويحمل هذا من جسدي _ يعني رأسه _ زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً»(2). وهذا يكشف بطبيعة الحال عن المكانة التي يتبوؤها زهير عند الإمام الحسين علیه السلام ، والدرجة العالية التي وصلها زهير؛ حتى استحقّ أن يخصَّه الإمام علیه السلام بهذا الحديث المهم.
أفصحت مواقف زهير بن القين قُبيل عاشوراء وأثناءها عن أنّ لديه يقيناً ثابتاً وإيماناً راسخاً يضارع الجبال في ثباتها وشموخها؛ فحينما رأى الحسين علیه السلام تكالُب الأعداء وتواتر الجيوش المدجّجة بالسلاح والعتاد، قال لأصحابه: «اللهم إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد تَرَون، وأنتم في حلٍّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وتفرَّقوا في سواده؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذُهلوا عن طلب غيري»(3)، فأجابه الأصحاب بإجابات متعددة رافضين فيها التخلّي عنه، وموطِّنين أنفسَهم على الموت معه والتضحية دونه،
ص: 153
ولكن كانت لكلمات الشهيد زهير وقعٌ مختلف ورنين خاصّ جعل المؤرِّخين يقفون عندها ويتناقلونها، قال: «والله، لوددت أنّي قُتلت ثمَّ نُشرت ثمَّ قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك»(1). فهو يجد الموت بحدِّ السيوف آلاف المرّات دفاعاً عن الحسين وأهل بيته أقلّ ما يمكن أن يقدِّمَه في هذا السبيل.
وفي كلام له قاله نيابةً عن أصحابه عَقِبَ كلامٍ للإمام علیه السلام (بذي حسم) حين قال علیه السلام : «نزل من الأمر ما قد تَرَون، وإنّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها واستمرّت جداً، فلم يبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا تَرَون أنّ الحقَّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»، فإجاب زهير بعد أن استأذن أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «سمعنا _ هداك الله يا بن رسول الله _ مقالتك، والله، لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلَّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها» قال: فدعا له الحسين، ثمَّ قال له خيراً(2).
إنَّ هذا الإيمان الذي طفحت به نفس زهير بن القين، كان من الطبيعي أن يفيض حبّاً وشفقة حتى على أعدائه ومناوئيه، فبعد أن بان أمامه طريق الحقِّ واضحاً أبلج، راح يقدِّم النُصح الإرشاد لقومه، ويبالغ في استمالتهم نحو طريق الهداية والاستقامة، ومن جملة ما قال: «يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب الله نذارِ! إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة.
إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (صلّى الله عليه و سلم) لينظر ما نحن وأنتم
ص: 154
عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد» فما كان منهم إلّا أن سبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد!! وكثر الجدال والكلام بينه وبينهم، فناداه رجل فقال له: إنّ أبا عبد الله يقول لك: أقبل فلعمري، لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحتَ لهؤلاء وأبلغتَ لو نفع النُّصح والإبلاغ(1). ولعمري، هكذا تكون النفوس حين تسمو وتتسامى فتستوعب حتى أعدائها. وهذا بعض ما تعلَّمه زهير من أبي الأحرار الإمام الحسين علیه السلام .
وعندما بدأت نُذُر الحرب في كربلاء تلوح في الأُفق وتلبّدت سماؤها بغيوم المواجهة الحتميّة، فلا مكان حينذاك إلّا لمعادن الرجال الأصيلة والنفوس التي ألفتها الشجاعة؛ فلذا كنّا نسمع اسم زهير بن القين كان يتردد في أكثر من مناسبة، ونجده في أكثر من مهمّة، فنراه في كتيبة العباس علیه السلام التي انتدبها الإمام لاستطلاع أمر الجموع الزاحفة عليهم في عصر يوم التاسع من المحرّم(2).
ويقع عليه اختيار الإمام علیه السلام في ظهر يوم عاشوراء، وهو ينظّم أصحابه ويعدّهم ليكون قائداً بارزاً على رأس ميمنة جيش الإمام علیه السلام (3)؛ لشجاعته ودرايته في أُمور الحرب والقتال التي خبرها منذ كان شابّاً في الفتوحات الإسلامية.
وأبلى الشهيد زهير بن القين بلاءً حسناً، وهو يقارع الشجعان ويناجز الفرسان، مدافعاً عن حرائر النبوة وعقائل الرسالة، فلمّا يهجم شمر اللعين بمرتزقته على خيم النساء والأطفال ويُدخل الرعبَ في قلوبهم، يحمل عليهم زهير في عشرة من أصحابه؛ فيكشفهم عن البيوت، فيقتل بعضاً، ويولّي البعض الآخر هارباً(4).
ص: 155
وهكذا في موقف رسالي بطولي يقدِّمه لنا زهير، فحين تحضر الصلاة يأمره الإمام الحسين علیه السلام هو وسعيد بن عبد الله الحنفي ليتقدّما أمامه فيقيانه من السهام والنبال؛ حتى يصلي بمَن تبقّى من أصحابه صلاة الخوف(1).
وآن لهذه المسيرة المفعمة بكلِّ ألوان المكارم والفضائل أن تنال الشهادة وتنعم بالسعادة الأبدية، إذ ينقل المؤرِّخون أنّ زهيراً كان يقاتل قتالاً شديداً بين يدي أبي عبد الله علیه السلام وهو يرتجز:
أن_ا زهير وأن_ا اب_ن الق_ين*** أذودهم بالسيف عن حسين
ويقول للحسين علیه السلام :
أقدم هُديت هادياً مهديا ***ف_اليوم تلقى ج_دّك النبي__ا
وح_سناً والمرتضى ع_ليا*** وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيّا
فشدّ عليه مهاجر بن أوس التميمي وكثير بن عبد الله الشعبي فقتلاه(2)، لتلتحقّ روحه الطاهرة بقافلة الشهداء، وتسكن مع السعداء، فهنيئاً له هذا الوسام الإلهي والشارة الربّانية.
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون
ص: 156
(000-157ه_)
الشيخ عامر الجابري(1)
كان أبو مخنف في زمانه شيخ المؤرِّخين في الكوفة، وكان من أشدّ المؤرِّخين اهتماماً بجمع وتدوين أخبار كربلاء، وقد حاول أن يُحيط بأدقِّ التفاصيل المرتبطة بهذه الواقعة، فشملت أخباره أحداث ووقائع يوم عاشوراء، وما سبقه من إرهاصات وتمهيدات، وما تلاه من أحداث ووقائع السبي.
وقد روى محمد باقر القائني في كتابه الكبريت الأحمر: «أنّه أعطى قباءه _ وهو برد يماني نفيس _ ثمناً لكتابة أبيات من الشعر منسوبة لسيد الشهداء علیه السلام »(2).
وهذه الرواية _ إن صحّت _ تكشف عن حرصه الشديد وتطلّعه إلى التقاط كلِّ شاردة وواردة حول هذه الواقعة.
وكما حاول أبو مخنف أن يُحيط بأدقِّ تفاصيل أحداث ووقائع كربلاء، فقد حاول _ أيضاً _ أن يستند في عمله إلى المنابع الأُولى المتمثّلة في الرواة الأوائل الذين عايشوا
ص: 157
الأحداث وباشروها، كعقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الحسين علیه السلام (1)، ودلهم بنت عمرو زوجة زهير بن القين(2)، وجعفر بن حذيفة الطائي(3)، وعقبة بن أبي العيزار(4)، ويحيى بن هانئ بن عروة المرادي(5)، وغيرهم.
وإذا تعذر الاتّصال بالراوي المباشر لعدم معاصرته _ أو للبعد المكاني _ كان أبو مخنف يتّصل بمَن اتّصل بالرواة المباشرين (بلا واسطة)، كما اتّصل بسليمان بن أبي راشد الأزدي للوصول إلى أخبار حميد بن مسلم الأزدي(6)، أو (بواسطة) كما أخذ أخبار عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين(7)، عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي عنهما(8).
ص: 158
من هنا؛ فقد جاءت روايات مقتل أبي مخنف غنية في تفاصيلها وإحاطتها بالجزئيات، مسندةً متّصلةً موثوقةً في مآخذها ومنابعها؛ ولذا أصبح مقتله من أشهر المقاتل الحسينيّة، وأكثرها اعتماداً لدى المؤرِّخين على مرِّ العصور.
وسنعود سريعاً للحديث عن مقتل أبي مخنف بشيءٍ من التفصيل، ولكن بعد أن نكون قد ترجمنا لأبي مِخْنَف، وحملنا فكرة كافية عن شخصيته.
هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون) بن سليم(1) (بضم السين وفتح اللام وسكون الياء) أو سالم(2) أو سليمان(3)، الأزدي الغامدي (أبو مِخْنَف).
وهو مشتهر بكُنيته (أبو مخنف)، ويخطئ بعض الخطباء في تلفُّظ كلمة (مخنف)، والصحيح ما أثبتناه: (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون) على وزن (منبر)، كما
ص: 159
ضبطه أئمة اللغة، وجهابذة علم الأنساب، وفحول فنّ المؤتلف والمختلف.
قال ابن دريد: «مخنف: مِفعل من قولهم: خنَفَ الرجلُ بأنفه، إذا أمالَه من كِبْر. والفرس خانف وخَنُوف، إذا أمالَ رأسَه في جريه أو تقريبه. والخِنَاف: ضربٌ من سير الإبل. والخَنيف: ثوب من كَتّان خشن. والجمع خُنُف، شبيهٌ بالخَيْش. ويقال: خَنفْتُ الأُتْرُجَّة، إذا قطعتها، والواحد مَن قَطْعها خَنِيفٌ أيضاً»(1).
والأزدي: بفتح الألف وسكون الزاي وكسر الدال، نسبة إلى أزد شنوءة، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ(2).
قال الجوهري: «والشَّنُوْءَةُ _ على فَعُوْلَةٍ _: التقَزّز وهو التباعد من الأدناس، تقول: رجل فيه شَنُوْءَةٌ، ومنه أزْدُ شَنُوءَةَ وهم حي من اليمن؛ يُنسب إليهم شَنَئيٌّ، قال ابن السِّكيت: ربما قالوا: أزدُ شَنُوَّةَ _ بالتشديد غير مَهْمُوزةٍ _ ويُنسب إليها شَنَوِيٌّ»(3).
والغامدي: بفتح الغين وكسر الميم والدال، هذه النسبة إلى غامد بطن من الأزد، واسم غامد _ كما في أُسد الغابة _: عمرو بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وهو معدود في أهل الحجاز، سكن الطائف(4).
وقد عدّه الشيخ في رجاله في طبقة أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام (1)، بل عدّه ابن داود من خواصّ أصحابه(2).
وكان حامل راية الأزد من أهل الكوفة في وقعة الجمل، وقيل: إنّه قُتل يومئذٍ(3)، ولم يثبت؛ فإنّ الأخبار الدالّة على حياته بعد وقعة الجمل من الكثرة بحيث يسقط معها هذا القول عن الاعتبار التاريخي، ومنها على سبيل المثال:
١_ روى نصر بن مزاحم المنقري: أنّ علياً علیه السلام استعمله على أصفهان وهَمَدان بعد الجمل(4).
٢_ وذكر المنقري أيضاً: أنّه لمّا أراد علي علیه السلام المسير إلى أهل الشام، كتب إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم كتاباً، يذكِّره فيه بفريضة الجهاد، ويخبره بنيّته في المسير إلى أهل الشام، ويصف له فيه ظلم بني أُمية وانحرافهم عن النهج الإسلامي العادل، وفي آخر الكتاب: «فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك، وأقبل إلينا لعلّك تلقى هذا العدو المُحِلّ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجامع الحقّ وتباين الباطل، فإنّه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم»(5).
ثمَّ أردف المنقري قائلاً: «فاستعمل مخنفَ على أصبهان الحارثُ بن أبي الحارث بن الربيع، واستعمل على هَمَدان سعيد بن وهب _ وكلاهما من قومه _ وأقبل حتى شهد مع عليّ صفين»(6).
٣_ وذكر الطبري في أحداث سنة ٣٩ﻫ أنّ معاوية قد بعث النعمان بن بشير في
ص: 161
ألفي رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب مسلحة لعلي علیه السلام في ألف رجل، فأذن لهم، فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان، ولم يبقَ معه إلّا مائة رجل، فكتب مالك إلى أمير المؤمنين علیه السلام يخبره بما جرى، فخطب علي علیه السلام الناس، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، فأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جُدُر القرية في ظهورهم، واقتتلوا.
وكتب إلى مخنف بن سليم يسأله أن يمدّه، وهو قريب منه، فوجه إليه ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك وأصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم، واستقتلوا، فلمّا رآهم أهل الشام وذلك عند المساء، ظنّوا أنّ لهم مدداً فانهزموا(1).
قال محمد هادي اليوسفي الغروي _ بعد أن نقل ما نقلناه وما لم ننقله من الأحاديث الدالّة على بقاء مخنف بن سليم حياً بعد الجمل _: «فهذه الأحاديث كلّها تصرّح بحياة جدّه مخنف بن سليم بعد الجمل، بل حتّى بعد صفين، فإنّ غارات معاوية إنّما كانت سنة (٣٩ ﻫ) بعد وقعة صفّين (٣٧ ﻫ)، بينما تنفرد تلك الرواية بأنّه قُتل يوم الجمل كما سلف آنفاً، ولم يفطن الطبري لذلك، فلم يعلّق عليه بشيء مع تصريحه في (ذيل المذيّل) بحياته إلى سنة ٨٠ ﻫ»(2).
ونحن نؤيده فيما ذهب إليه من بقاء مخنف بن سليم بعد الجمل، بل حتى بعد صفين كما قال، غير أنّنا لا نوافقه على عدم التفات الطبري إلى ذلك؛ فإنّ منهج الطبري في تاريخه هو نقل جميع الروايات المختلفة ووجهات النظر المتباينة حول الحادث، بغض النظر عن موافقتها للعقل والفكر أو عدم موافقتها، وبصرف النظر عن انسجامها مع الثوابت التاريخية أو عدم انسجامها، فعدم تعليق الطبري على ما شذّ من النقول التاريخية هو الموافق للنهج الذي ألزم نفسه السير عليه في مقدمة الكتاب حيث يقول: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه
ص: 162
سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنّما أتى من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أديّنا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»(1).
أمّا في منتخب ذيل المذيّل، فلم يظهر منه أنّه يسير على المنهج نفسه، بل الظاهر خلافه، وأنّ الآراء الموجودة فيه تمثِّل مختارات الطبري ممّا قيل في وفيات الصحابة والتابعين.
وعليه؛ فلا منافاة بين تصريح الطبري في منتخب ذيل المذيّل بحياته إلى سنة ٨٠ﻫ، وبين نقله لخبر مقتله في يوم الجمل في تاريخه، ما دام لكلٍّ من الكتابين منهجه الخاصّ وأُسلوبه المتميِّز.
وقد انفرد ابن حجر (ت ٨٥٢ﻫ) فذكر أنّ مخنف بن سليم كان ممَّن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقُتل بها سنة ٦٤ﻫ (2)، ونحن نستبعد هذا الخبر ونشكك به لسببين:
١_ إنّ ابن حجر لم يعيّن لنا المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، وقد تتبّعنا كتب قدامى الأخباريين والمؤرِّخين، فلم نعثر له على قائل قبل ابن حجر.
٢_ إنّ مخنف بن سليم لم يكن شخصاً عادياً من عامّة المجتمع، وإنّما كان زعيم الأزديين في الكوفة، وأحد رجالات الشيعة البارزين، ولو كان حاضراً في معركة عين الوردة، وقُتل بها _ كما زعم ابن حجر _ لذَكَر ذلك المؤرِّخون الذين رووا أحداث ووقائع هذه المعركة.
وكان لمخنف بن سليم _ على ما ذكره الطبري _ إخوة ثلاثة يُقال لأحدهم: عبد شمس، قُتل يوم النخيلة، والصقعب وعبد الله، قُتلا يوم الجمل(3).
ومن أبرز أولاد مخنف بن سليم عبد الرحمن بن مخنف زعيم الأزديين في الكوفة،
ص: 163
وأبرز قيادات الكوفة في زمانه، وكان إلى جانب أبيه مع أمير المؤمنين علیه السلام في حربه ضد أهل الشام(1)، إلّا أنّه تحوَّل بعد ذلك إلى الخطّ المعادي للعلويين، فعندما خرج المختار وقف عبد الرحمن ضده مع عبد الله بن مطيع، وكان في ليلة خروج المختار متمركزاً مع اتباعه في جبّانة (مقبرة) مراد(2).
وحينما سار إبراهيم بن مالك الأشتر يريد الموصل، وتواطأ أهل الكوفة على حرب المختار، كان عبد الرحمن ممَّن خرج ضدّه(3).
وقبيل حدوث وقعة المذار _ التي وقعت بين أنصار المختار بقيادة أحمر بن شميط وأنصار مصعب بن الزبير بقيادة المهلّب بن أبي صفرة _ دعا مصعب بن الزبير عبد الرحمن بن مخنف، فقال له: ائت الكوفة مستخفياً حتى تُخرج إلي مَن استطعت إخراجه، وخذِّل الناس عن المختار. فمضى حتى نزل منزله سرّاً فلم يظهر(4).
وفي زمان عبد الملك بن مروان، في سنة٧٥ﻫ ناهض عبد الرحمن بن مخنف والمهلب بن أبي صفرة الأزارقة برامهرمز، بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان، فأجْلَوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، وخرج القوم كأنّهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرضٍ منها يُقال لها: كازرون. وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أنّ المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تُخندق عليك فافعل. وإنّ أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنّما خندقنا سيوفنا. وإنّ الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلاً ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أُناس من أصحابه فقُتل، وقُتل أصحابه حوله (5).
ص: 164
وأمّا سعيد بن مخنف الجدّ المباشر للوط، فلم أعثر له على ذكر عدا وروده في سلسلة نسب أبي مخنف، على أنّ بعض المصادر قد أسقطته من سلسلة نسب أبي مخنف وذكرت نسبه هكذا: (لوط بن يحيى بن مخنف)(1)، فجعلت مخنف الجدّ المباشر للوط.
وأما يحيى والد لوط، فلم أجد له ترجمة خاصّة، ولم أعرف عنه شيئاً سوى عد الطوسي له في طبقة أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام (2)، وقول ابن شهر آشوب في معالم العلماء: إنّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين علیهم السلام (3).
وهذا يعني أنّ ولادته كانت قبل عام٤٠ﻫ، بفترة تؤهِّله لتلقّي الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام المستشهَد في هذا العامّ، وأنّه كان حياً بعد سنة ٥٠ﻫ، وهي السنة التي استُشهِد فيها الإمام الحسن علیه السلام .
وممّا ينبغي أن يشار إليه: أنّ جلّ مَن ترجم لمخنف بن سليم أشار إلى أنّ من ولده (أبو مخنف) لوط بن بن يحيى صاحب الترجمة، ممّا يدلل على أنّه أشهر شخصيّة في هذا البيت.
لُقِّب أبو مخنف ب_(الكوفي) في عدّة مصادر(4)، وما ذلك إلّا لكونه كوفي المولد،
ص: 165
ولا نقاش في ذلك، كما لا نقاش في كونه نشأ وتعلّم في الكوفة أيضاً، كما يشهد بذلك التأمّل في كثرة مشايخه وأساتذته من أهل الكوفة، وإنّما ينحصر الكلام في زمان ولادته؛ إذ لا يوجد نصّ يُعتمد عليه في تحديدها، وإنّما يتوفر في أيدينا معطيان تاريخيان نستطيع أن نستنتج في ضوئهما أنّ ولادته كانت في بداية خمسينيّات القرن الهجري الأول، وهما:
المعطى الأول: قد مر علينا أنّ والده يحيى كان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام _ بحسب الطوسي وابن شهر آشوب _ وقد قال الطوسي عن أبي مخنف: إنّه «لم يلقَ أمير المؤمنين علیه السلام »(1)، فقد نفى اللقاء الذي هو أعمّ من تلقّي الحديث، وهذا يعني أنّ أبا مخنف لم يكن قد ولد في حياة أمير المؤمنين علیه السلام ، وإنّ ولادته كانت بعد عام ٤٠ﻫ الذي هو عام مقتله علیه السلام .
المعطى الثاني: عرفنا الآن أنّ أبا مخنف قد ولد بعد عام ٤٠ﻫ، فنقول: إنّه قد ولد قبل عام ٥٠ﻫ؛ فهذا هو المنسجم مع ذكره في طبقة أصحاب الحسن علیه السلام (2) المتوفّى في هذا العامّ، فإذا عرفنا أنّ عدَّ الشخص من أصحاب الإمام علیه السلام معناه أنّه قد سمع حديثه ووعاه؛ فلا بدّ لنا أن نفترض أنّ ولادة أبي مخنف كانت في بداية الخمسينيات ٤١ أو ٤٢ أو٤٣ﻫ _ مثلاً _ لكي يكون صبياً مميزاً على أقل تقدير في نهايات حياة الإمام الحسن علیه السلام .
ويمكن أن ندعم هذا الرأي ونؤكده بأمرين:
الأمر الأول: إنّ هذا الرأي ينسجم مع إدراك أبي مخنف لعددٍ من رواة الطف المباشرين، ونقله عنهم بلا واسطة، كعقبة بن سمعان، ودلهم بنت عمرو زوجة زهير بن القين وغيرهما.
الأمر الثاني: إنّ هذا الرأي ينسجم مع كون المشهور في وفاة أبي مخنف هو عام ١٥٧ﻫ _ كما سيأتي في آخر الترجمة _ فإنّ عمره سيكون حين وفاته ١٢٠سنة أو أقل بقليل، وليس في هذا شذوذ أو مخالفة للمألوف من معدل الأعمار في تلك الأزمان.
ص: 166
يُعدّ أبو مخنف من كبار الأخباريين والمؤرِّخين الأوائل الذين سارعوا إلى كتابة التاريخ الإسلامي، وقد تركّز نشاطه على تاريخ العراق بصورة خاصّة، كما انصبّت جهوده على الأحداث التي وقعت بعد رحيل النبي صلّى الله عليه و آله إلى أواخر العهد الأُموي.
قال ابن النديم: «قرأت بخطّ أحمد بن الحارث الخزاز، قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام»(1).
وأخبار العراق وفتوحها هو تعبير آخر عن تاريخ التشيّع؛ إذ ارتبط التشيّع منذ بدايات وجوده _ كقوّة اجتماعية _ بالعراق؛ ومن هنا قال فلهاوزن: «وأبو مخنف هو أَثْبَتُ حجّة... في تاريخ الشيعة، طالما اتّصل بالكوفة، والطبري يكاد لا يعتمد على غيره في ذكر أخبارهم وما أطولها»(2).
وقد تركّزت جهود أبي مخنف على جمع وتدوين أخبار الكوفة بنحو خاصّ، حتى وصفه النجاشي بكونه «شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم»(3)، والكوفة كانت آنذاك مركز التشيّع وجمجمة العراق، وحينما يكون أبو مخنف شيخ مؤرِّخيها فهذا يعني أنّه شيخ مؤرِّخي أهل العراق بشكل عامّ، أو يكون من كبار مؤرِّخي العراق على أقل تقدير.
إلّا أنّه ممّا ينبغي أن يُشار إليه: أنّ علاقة أبي مخنف بالتشيّع ربما تكون علاقة علمية، وليست روحية، وإذا ما قيل: إنّه (من مؤرِّخي الشيعة) فقد يكون المقصود أنّه من المهتمّين بتاريخ الشيعة وجمع أخبارهم، وليس بالضرورة أن يكون المقصود من هكذا عبارة أنّه كان شيعيّاً بالمعنى الخاصّ للتشيّع.
ص: 167
أمّا طبقة أبي مخنف، فلا يمكن ضبطها من خلال ملاحظة أساتذته وشيوخه؛ إذ اختُلف في ذلك اختلافاً كبيراً، فقد عدّه الكشي في طبقة أصحاب الإمام علي علیه السلام ، ونفى الطوسي ذلك(1)، وأثبت صحبته للحسنين علیهماالسلام (2)، ونفى النجاشي أن تكون له صحبة مع الإمام الباقر علیه السلام ، فضلاً عمَّن سبقه من أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وعدَّه من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام (3).
وعليه؛ فلا يمكن أن نضبط طبقة أبي مخنف من خلال أساتذته وشيوخه مع الاختلاف المشار إليه، والقدر المتيقّن أنّه من طبقة أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ، مع احتمال أن يكون من طبقةٍ أقدم، وإنّما يمكن تحديد طبقته من خلال ملاحظة الآخذين عنه والمتتلمذين على يديه، ومنهم:
١_ أبو المنذر، هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت ٢٠٤أو ٢٠٦ﻫ)، النسّابة المشهور(4)، وهو الراوي لمقتله كما سنبيِّن.
٢_ أبو الفضل، نصر بن مزاحم بن سيار المنقري (ت ٢١٢ﻫ)(5)، صاحب كتاب وقعة صفين، وقد أخطأ ابن النديم في عدِّ نصر بن مزاحم من طبقة أبي مخنف(6).
٣_ أبو الحسن، علي بن محمد المدائني (ت ٢٢٥ﻫ)، المؤرِّخ المعروف(7).
فهؤلاء الثلاثة هم من كبار الأخباريين والمؤرِّخين الذين برزوا في نهايات المائة الثانية وبدايات المائة الثالثة، وهم من تلاميذ أبي مخنف؛ فيكون أبو مخنف في الطبقة التي فوقهم، مع أنّه لا مانع من أن يندرج في طبقات أعلى أيضاً لو احتملنا طول
ص: 168
عمره وأنّه قد ولد في خمسينيّات القرن الهجري الأول، كما احتملنا ذلك عند الحديث عن ولادته ونشأته.
وقد صنف أبو مخنف كُتُباً كثيرة يطول تعدادها، وقد ذكرها النجاشي في رجاله(1)، وابن النديم في فهرسته(2)، والحموي في معجمه(3)، والصفدي في وافيه(4)، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردّة، كتاب فتوح الإسلام، كتاب فتوح العراق، كتاب فتوح خراسان، كتاب الشورى، كتاب قتل عثمان، كتاب الجمل، كتاب صفّين، كتاب النهر، كتاب الحكمين، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين علیه السلام ، كتاب قتل الحسن علیه السلام ، كتاب قتل الحسين علیه السلام ، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب أخبار زياد، كتاب أخبار المختار، كتاب أخبار الحجاج، كتاب أخبار مطرف بن المغيرة بن شعبة، كتاب أخبار آل مخنف بن سليم، كتاب أخبار الحريث بن أسد الناجي وخروجه.
إلا أن كُتُب أبي مخنف ومصنفاته قد أُبيدت عن بكرة أبيها، ولم يتبقَّ منها سوى ما نقلته الموسوعات التاريخيّة المتأخِّرة عن عصر أبي مخنف، كموسوعة تاريخ الرسل والملوك للطبري (ت ٣١٠ﻫ) التي نقلت عن أبي مخنف ما ينيف على (٥٠٠) رواية في موضوعات مختلفة، حيث تحتلّ الروايات التي تتحدَّث عن عهد خلافة الإمام علي علیه السلام المرتبة الأُولى، فقد بلغت (١٢٦) رواية، تعقبها (١١٨) رواية حول حادثة كربلاء، و(١٢٤) رواية تناولت ثورة المختار(5).
وقد حاول العديد من الباحثين والمحققين إحياء تراث أبي مخنف؛ من خلال استخراج مروياته من بطون المدوَّنات التاريخيّة: كمحاولة حسن الغفاري، ومحمد
ص: 169
هادي اليوسفي الغروي في إحيائهما كتاب مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف، حيث كتب الأول مقتل الحسين علیه السلام وكتب الآخر وقعة الطفّ، وكلاهما متّخذان من تاريخ الطبري، ومحاولة جليل تاري في كتابه (حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف) الذي حاول فيها إحياء كتاب السقيفة على ما يبدو، ومحاولة الباحث السعودي يحيى اليحيى في دراسته المسماة ب_(عصر الخلافة الراشدة) والتي حاول أن يدرس فيها _ دراسة نقدية _ مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، والمختصّة بهذه الحقبة.
إنّ التأمّل في مرويات أبي مخنف، وما نقله من فضائل ومحاسن أهل البيت علیه السلام ، ومثالب وقبائح أعدائهم، وتركيزه البالغ على تاريخ التشيّع هو الذي قاد بعض الباحثين والمحققين إلى القول بإماميته.
كما أنّ التأمّل في مرويات أُخرى لأبي مخنف تتقاطع مع الإيمان بعصمة الأئمّة علیهم السلام هو الذي أرغم بعض الباحثين والمحققين على التوقّف عن القول بإماميته(1).
والذي يبدو لي _ بعد الوقوف طويلاً على هذا الموضوع _ أنّ أبا مخنف لم يكن إمامياً، وإنّما كان شيعياً بالمعنى العام للتشيّع، والمساوي للميل والمودّة الشديدة لأهل البيت علیهم السلام ، وهذا ما صرّح به ابن أبي الحديد المعتزلي (ت ٦٥٥ﻫ) بقوله: «وأبو مخنف من المحدِّثين، وممَّن يرى صحّة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها»(2).
وهذا الكلام ذكره ابن أبي الحديد بعد أن نقل عن أبي مخنف أشعاراً وأراجيز تضمنت أنّ علياً علیه السلام وصي رسول الله صلّى الله عليه و آله ، ومن المعلوم أنّ الوصية لديهم لا تساوي الاستخلاف.
ص: 170
قال ابن أبي الحديد: «أمّا الوصية، فلا ريب عندنا أنّ علياً علیه السلام كان وصي رسول الله صلّى الله عليه و آله وإن خالف في ذلك مَن هو منسوب عندنا إلى العناد، ولسنا نعني بالوصية النصّ والخلافة، ولكن أُموراً أُخرى لعلّها _ إذا لمُحت _ أشرف وأجل»(1).
ومن هنا؛ فإنّ تعجّب المامقاني من نفي ابن أبي الحديد لإمامية أبي مخنف في غير محلّه حينما قال: «والعجب العجاب أنّ ابن أبي الحديد نطق بما سمعت، بعد أن روى أشعاراً في أنّ علياً علیه السلام وصيّ رسول الله صلّى الله عليه و آله »(2)؛ إذ لا منافاة بين القول بالوصية وبين القول بأنّ صحّة الإمامة بالاختيار، بحسب تفسير القوم لمفهوم الوصية.
والقول بعامّية أبي مخنف هو ما يظهر من الشيخ المفيد (ت ٤١٣ﻫ) أيضاً في كتابه الجَمَل؛ فبعد أن نقل أخبار الجَمَل عن أبي مخنف وغيره من المؤرِّخين، قال: «فهذه جملة من أخبار البصرة _ وسبب فتنتها ومقالات أصحاب الآراء في حُكم الفتنة بها _ قد أوردناها على سبيل الاختصار، وأثبَتنا ما أثبَتنا من الأخبار عن رجال العامّة دون الخاصّة، ولم نثبت في ذلك ما روته كتب الشيعة»(3).
ومن المعلوم أن الشيخ المفيد من متقدِّمي علمائنا، وهو أخبر بحال أبي مخنف، ومن المرجّح أنّه استند في الحكم بعامّيته على شواهد حسّية، وليست حدْسية.
ويمكن تأكيد هذا الرأي ودعمه بعدّة قرائن _ وإن كانت جميعاً قابلةً للنقاش _:
القرينة الأُولى: قد يُستدلّ على عدم تشيّع أبي مخنف بالمصطلح الخاصّ للتشيّع بندرة روايته عن الأئمّة علیه السلام ، مع معاصرته لأربعة منهم هم: السجّاد، والباقر، والصادق، والكاظم علیهم السلام ؛ «وهذا ممّا قد يدلّنا على أنّه لم يكن شيعيّاً، ومن صحابة الأئمّة علیهم السلام بالمعنى المصطلح الشيعي الإمامي، الذي يعبّر عنه العامّة ب_ (الرافضي)، وإنّما كان شيعيّاً في الرأي والهوى كأكثر الكوفيّين، غير رافض لمذهب عامّة المسلمين آنذاك»(4).
ص: 171
ولكن هذه القرينة قابلة للنقاش، فإنّ ندرة الرواية عن الأئمّة علیهم السلام ليست بالضرورة مباينة للتشيّع بالمصطلح الخاصّ له، كما أنّ كثرة الرواية عنهم علیهم السلام ، ليست مساوية له أيضاً، وإنّما الصحيح أنّ النسبة بين ندرة الرواية وعدم التشيّع هي (العموم والخصوص من وجه)؛ فقد يكون الراوي مقلّاً وهو من الشيعة بالمصطلح الخاصّ، وقد يكون الراوي مكثراً وهو ليس منهم، والنماذج على ذلك كثيرة يمكن استخراجها بسهولة من كُتب الرجال.
القرينة الثانية: قال اليوسفي الغروي: «وقد يكون ممّا يؤيد هذا [يعني كونه غير إمامي]: أنّ أحداً من العامّة لم يرمِه بالرفض، كما هو المعروف من مصطلحهم: أنّهم لا يقصدون بالتشيّع سوى الميل إلى أهل البيت علیهم السلام ، وأمّا مَن علموا من اتّباع أهل البيت علیهم السلام في مذهبه فإنّهم يرمونه بالرفض لا التشيّع فحسب، وهذا هو الفارق في مصطلحهم بين الموردين»(1).
ويمكن أن يناقش في ذلك من جهتين:
الجهة الأُولى: إنّ قوله: «إنّ أحداً من العامّة لم يرمِه بالرفض». غير تامّ؛ فقد وصفه الذهبي بذلك في كتابه تاريخ الإسلام، فقال: «أبو مخنف الكوفي الرافضي الأخباري صاحب هاتيك التصانيف»(2).
الجهة الثانية: إنّ تفسيره للتشيّع _ عند العامّة _ بالميل إلى أهل البيت علیهم السلام غير دقيق، والصحيح أنّ التشيّع في اصطلاحهم: تارة يُستخدم بمعنى الميل إلى أهل البيت علیهم السلام ، وهذا لا يؤدّي إلى ردّ الرواية لديهم، وأُخرى يستخدم بما يساوي الإيمان بالإمامة، وهذا ما يُطلق عليه أيضاً الرفض، وهو ما يؤدّي إلى ردّ الرواية عندهم.
ويمكن القول: إنّ إطلاق لفظة (الشيعي) على أبي مخنف هي بالمعنى الثاني دون الأول، وذلك لعدّة شواهد:
ص: 172
الشاهد الأول: إنّ ابن عدي قبل أن يصف أبا مخنف بكونه (شيعيّاً) قدَّم هذه العبارة: «حدَّث بأخبار مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم». ثمَّ قال _ بلا فصل _: «وهو شيعي محترق»(1)، فإنّ الدليل لديهم على تشيّعه هو تناوله لسلفهم ونقله لمخازيهم ومثالبهم، فهذا شاهد على أنّ تشيّعه بمعنى الرفض لا الميل.
الشاهد الثاني: لو كان تشيّعه بمعنى الميل لما أدّى ذلك إلى ردّ روايته، مع أنّهم أجمعوا على ردّها، فيشهد هذا على أنّ تشيّعه بمعنى الرفض.
الشاهد الثالث: ما نقلناه من وصف الذهبي له ب_(الرافضي)، فإنّه قرينة على أنّ مراد أسلافه من تشيّع أبي مخنف هو التشيّع بمعنى الرفض لا مجرّد الميل.
القرينة الثالثة: قال التستري: «ولم يذكره [أي: لم يذكر أبا مخنف] ابنُ قتيبة وابن النديم في الشيعة، مع عقد باب في كتاب كلٍّ منهما للشيعة، ولو كان إمامياً لأشار إليه أحدهم، بل ظاهر سكوتهم عامّيته»(2).
وهذه القرينة لا تصمد أمام النقاش أيضاً ل_مَن خبر منهجي ابن قتيبة وابن النديم في كتابيهما المعارف والفهرست، فإنّهما لم يقسّما أبحاث كتابيهما تقسيماً منطقياً يمنع من تداخل الأقسام، فليس هناك أساس واحد قُسِّمت على ضوئه المباحث، كما أنّهما لم يقصدا الاستيعاب في كلِّ قسم.
فلو أتينا إلى كتاب المعارف لابن قتيبة لوجدنا أبا مخنف مذكوراً في باب (النسّابون وأصحاب الأخبار)(3)، ثمَّ بعد ذلك دخل في تعداد الفِرَق، وذُكر من ضمن الفِرَق (الشيعة)، وذكر (٤٢) رجلاً ممَّن يُحسَبون على التشيّع(4)، وأهمل العديد من الشخصيات المعاصرة لهؤلاء المذكورين، فهل يُعدُّ إهمالهم قرينة على عدم تشيّعهم؟!
وحينما نأتي إلى كتاب الفهرست لابن النديم نجده قد قسَّم كتابه على عشر
ص: 173
مقالات، وجعل المقالة الثالثة (في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث والآيات)، وقسّمها على ثلاثة فنون، فجعل الفنّ الأول (في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب السِّيَر والأحداث وأسماء كتبهم)، بغضّ النظر عن اتّجاهاتهم وميولهم العقدية والمذهبية، ثمّ ذكر (أبا مخنف) كأحد أعمدة هذا الفنّ(1).
ولم يخصص ابن النديم بعد ذلك باباً خاصّاً بعلماء الشيعة بمختلف تخصصاتهم في العلوم، لكي يكون إهمال أبي مخنف وعدم ذكره في هذا الباب قرينة على عدم تشيّعه كما زعم التستري، وإنّما خصص الفنّ الثاني من المقالة الخامسة (في أخبار متكلمي الشيعة والإمامية والزيدية)، ثمَّ خصص الفنّ الخامس من المقالة السادسة (في أخبار فقهاء الشيعة وأسماء كتبهم)(2).
ومن المعلوم أنّ أبا مخنف ليس من حملة هذين الفنين لكي يكون إهماله مؤشراً على عدم تشيّعه.
وهناك قرائن أُخر يمكن أن يُستفاد منها عدم إمامية أبي مخنف صرفنا النظر عنها خوفاً من الإطالة.
وخلاصة القول في مذهب أبي مخنف ومعتقده: إنّه كان شيعيّاً بالمعنى العام للتشيّع، وأمّا إماميته فلم يقم عندنا دليل قاطع عليها، ولم يصرِّح بها أحد من علمائنا المتقدِّمين.
بالرغم من الخلاف الذي أشرنا إليه حول مذهب أبي مخنف ومعتقده، غير أنّ الطائفة تكاد تتّفق كلمة رجالييها على قبول مروياته الفقهية، فضلاً عن التاريخية.
ولعل الأصل في ذلك هو قول شيخ الرجاليين النجاشي فيه: «أبو مخنف شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسكن إلى ما يرويه»(3).
ص: 174
وهذا الذي قاله النجاشي يوافقه عليه أغلب الرجاليين: كالعلّامة الحلي(ت٧٢٦ﻫ) في خلاصة الأقوال(1)، والتفرشي في نقد الرجال(2)، والسيد البروجردي (ت١٣١٣ﻫ) في طرائف المقال(3)، والمحقق السيد الخوئي في معجم رجال الحديث(4)، والشبستري في كتابه (الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق علیه السلام )(5).
فجميع هؤلاء وغيرهم قد نعتوه بما نعته به النجاشي في قوله: «وكان يُسكن إلى ما يرويه»، مع أنّ شيخ الطائفة قد أهمل أبا مخنف، ولم يحكم عليه بجرح ولا تعديل، غير أنّ ذلك لم يمنع أغلب الرجاليين من متابعة رأي النجاشي فيه، وذلك لسببين:
السبب الأول: إنّ الطوسي وإن لم يوثق أبا مخنف، إلّا أنّه لم يطعن عليه أيضاً، ولم يقل: إنّه مجهول الحال، والمهمَل غير المجهول، الذي صرح علماء الرجال بجهالة حاله، فالمهمَل لا توصف روايته بضعف أو صحّة أو توثيق أو حسن، ما لم تتبيّن حاله من جهة تتبّع القرائن والمؤشرات، وقد كان ابن داود يعمل بخبر المهمَل كما يعمل بخبر الممدوح(6).
السبب الثاني: لو تنزّلنا وقلنا: بأنّ سكوت الطوسي يُعدّ جرحاً بأبي مخنف، فإنّنا في هذه الحالة سنقدِّم رأي النجاشي على رأي الشيخ أيضاً؛ وذلك لاتّفاقهم على تقديمه عند المعارضة، «بل الظاهر منهم تقديم قوله ولو كان ظاهراً على قول غيره من أئمّة الرجال في مقام المعارضة في الجرح والتعديل، ولو كان نصّاً»(7).
ص: 175
قال الشهيد الثاني: «وظاهر حال النجاشي أنّه أضبط الجماعة، وأعرفهم بحال الرجال»(1).
وقال حفيده الشيخ محمد بن الشيخ حسن بن الشهيد الثاني _ بعد ذكر كلامي النجاشي والشيخ في سماعة _: «... والنجاشي يُقدَّم على الشيخ في هذه المقامات، كما يعلم بالممارسة»(2).
وقال الميرزا محمد الإسترابادي _ في ترجمة سليمان بن صالح الجصاص _: «ولا يخفى تخالف ما بين طريقي الشيخ والنجاشي، ولعل النجاشي أثبت»(3).
بقيت نكتة مهمّة ينبغي أن يشار إليها: وهي أنّ عبارة «وكان يُسكن إلى ما يرويه» تُعدّ من ألفاظ المدح من المرتبة الثانية عند الدرائيين(4)، والمعروف عند الرجاليين والدرائيين _ منا _ أنّ الراوي الممدوح تُعتبر مروياته من قسم الحسن إن كان إمامياً، ومن قسم الموثَّق إن كان على غير نهج الإمامية، وفي ضوء الخلاف المتقدِّم حول عقيدة أبي مخنف؛ فإنّ أحاديثه تكون إما من قسم الحسن ل_مَن يرى إماميته، وإما من قسم الموثّق لمن يرى عامّيته، وممّا يهوِّن الخطب أنّ كليهما ممّا يُحتجّ به.
هذا كلّه في رجالنا، وأمّا أهل السنّة فقد أجمع أئمّة الرجال منهم على تضعيفه وترك روايته.
قال يحيى بن معين: «ليس بثقة»، وقال مرّة: «ليس بشيء»، وقال أبو حاتم الرازي: «متروك الحديث»، وقال الدارقطني: «ضعيف»(5).
وقال ابن عدي _ بعد أن نقل رأي يحيى بن معين في أبي مخنف _: «وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمّة؛ فإنّ لوط بن يحيى معروف بكُنيته وباسمه. حدَّث بأخبار
ص: 176
مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم...»(1).
وبهذا يتّضح السبب الذي تركوا حديث أبي مخنف من أجله؛ وهو ميله ومودّته لأهل البيت علیهم السلام من جانب، ونقله لمثالب ومخازي أعدائهم من جانب آخر.
ومع هذا الإعراض عن مرويات أبي مخنف فيما يخصّ الفقه والعقيدة، غير أنّهم قد اعتمدوا عليه اعتماداً منقطع النظير في مروياته التاريخية، لا سيما الطبري الذي شحن موسوعته التاريخية الكبرى بمرويات أبي مخنف.
قال عنه ابن كثير: «وهو أحد أئمّة هذا الشأن»(2)، وقال عنه أيضاً: «وقد كان شيعياً، وهو ضعيف الحديث عند الأئمّة، ولكنّه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنِّفين في هذا الشأن ممّن بعده»(3).
الدمشقي (ت١٣٩٦ﻫ)(1)، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة (ت ١٤٠٨ﻫ)(2)، وغير ذلك من مصادر ومراجع.
ولعل الجميع قد نهلوا هذا القول من مصدر واحد هو تاريخ مولد العلماء ووفياتهم للربعي (ت ٢٧٩ﻫ)؛ نظراً لكونه أقدم مَن صرّح بهذا القول بحسب تتبّعنا للمصادر والمراجع التي تعرَّضت لوفاة أبي مخنف.
وفي قبال هذا القول يوجد قولان ضعيفان، وغير مشهورين:
القول الأول: إنّه توفّي قبل سنة (١٧٠ﻫ)، وهو قول الذهبي في ميزان الاعتدال(3)، ويلاحظ عليه:
١_ إنّه لم يذكر الحادثة التي بسببها استنتج كون وفاته قبل سنة (١٧٠ﻫ)، وهذا الإشكال لا يرد على أصحاب القول الأول؛ لأنّهم قد استندوا إلى قول الربعي المتوفّى عام ٢٧٩ﻫ، وهو يحكم عن حسٍّ لا عن حدْس، فإنّه لا يفصله عن أبي مخنف سوى طبقة واحدة، فهو من طبقة تلاميذ تلاميذ أبي مخنف، أو قل: هو من أقران أحفاده، بخلاف الذهبي (ت٧٤٨ﻫ)، الذي يفصله عن أبي مخنف قرابة خمسة قرون.
٢_ إنّه مخالف لما اشتُهر من كون وفاته سنة (١٥٧ﻫ)، بل هو مخالف لما ذهب إليه الذهبي نفسه في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام كما مرّ.
القول الثاني: إنّه توفّي سنة (١٧٥ﻫ)، ذكر ذلك إسماعيل باشا البغدادي (ت١٣٣٩ﻫ)، ولم يُشر إلى مستنده في هذا القول، ولولا أنّه قد أكد على ذلك ثلاث مرّات، مرّتين في إيضاح المكنون(4)، ومرّة واحدة في هدية العارفين(5)، ولولا أنّه قد ذكر ذلك (رقماً وكتابةً) في المواضع الثلاثة، لولا ذلك لقلنا: بحصول تصحيف
ص: 178
للتشابه الكبير بين الرقم (١٧٥) والرقم (١٥٧).
الحديث حول مقتل أبي مخنف حديث ذو شجون، والإحاطة به من جميع الجهات يحتاج إلى بحث مستقلّ ودراسة مفردة؛ ولذا سنحاول أن نتحدَّث بإيجاز عن عدّة أُمور أساسية ورئيسية حول هذا المقتل:
الأمر الأول: إنّه لا ريب ولا شبهة في أنّ أبا مخنف قد كتب كتاباً حول واقعة الطف أسماه مقتل أو قتل الحسين علیه السلام .
فقد ذكره ابن النديم (ت ٤٣٨ﻫ) في قائمة كتبه، وذكر أنّ اسمه مقتل الحسين علیه السلام (1)، ولعل ابن النديم هو أقدم مَن نصّ على وجود كتاب لأبي مخنف في مقتل الحسين علیه السلام .
وذكره النجاشي (ت ٤٥٠ﻫ) كذلك في قائمة مصنفاته، وذكر أنّ اسمه قتل الحسين علیه السلام ، ثمَّ ذكر طريقه إلى هذا الكتاب وسائر كتب أبي مخنف، فقال: «أخبرنا أحمد بن علي بن نوح، قال: حدَّثنا عبد الجبار بن شيران الساكن بنهر جطا (خطى)، قال: حدَّثنا محمد بن زكريا بن دينار الغلابي، قال: حدَّثنا عبد الله بن الضحاك المرادي، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي مخنف»(2).
وقد ذكره الطوسي(ت٤٦٠ﻫ) أيضاً في الفهرست، وذكر أنّ اسمه مقتل الحسين علیه السلام ، ثمَّ ذكر طريقه إلى مصنفات أبي مخنف بما فيها كتاب المقتل، فقال: «أخبرنا بها أحمد بن عبدون، والحسين بن عبيد الله جميعاً، عن أبي بكر الدوري، عن القاضي أبي بكر أحمد بن كامل، عن محمد بن موسى بن حماد، عن ابن أبي السري محمد، قال أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عنه...»(3).
ثمَّ جاء بعدهما ابن شهر آشوب(ت ٥٨٨ﻫ) فأكَّد لنا وجود هذا الكتاب في قائمة
ص: 179
كتب أبي مخنف، فقال _ بعد التعريف بأبي مخنف _: «له كُتُب كثيرة في السير، كمقتل الحسين علیه السلام »(1).
وممّن ذكره أيضاً الحموي (ت ٦٢٦ﻫ) في معجم الأدباء، وهو يذكر ذلك عن محمد بن إسحاق(2).
فهذه أهمّ النصوص الأصيلة الموجودة في هذا المجال، وقد اخترناها من أشهر المصادر في عالم الفهارس ومعاجم المؤلفات، وجميعها صرحت بوجود كتاب لأبي مخنف في مقتل الحسين علیه السلام ، وهناك نصوص أُخرى صرحت بوجود هذا الكتاب في قائمة أبي مخنف، ولكنّها بأجمعها تنهل من المصادر التي ذكرناها.
الأمر الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى القول: بأنّ مقتل أبي مخنف هو أقدم المقاتل الحسينيّة وأسبقها.
قال محمد مهدي شمس الدين: «فكُتُب المقتل تصلح أن تكون موضوعاً لدراسة علمية واسعة وعميقة تشتمل على تاريخ نشوء هذا النوع من كتابة التاريخ وتطوره، ومنهجه ومحتوياته، ونوعيات المؤلفين، والأُسلوب الذي كتب به، وتطور هذا الأُسلوب خلال العصور، وعلاقة هذا الأُسلوب بلغة الكتابة في المجالات الأُخرى، واللغات التي كتبت بها (العربية، والفارسية، والتركية، والأردو، وغيرها) والمحتوى الشعري لهذه الكتب التي بدأت _ فيما نحسب _ بأبي مخنف ولم تنته بعد...»(3).
وقال اليوسفي الغروي: «وكذلك بقيت هذه الحادثة الأليمة في سنة ٦١ﻫ، أحاديث شجون تتناقلها الألسن نقلاً عن الذين كانوا قد شهدوا المعركة، أو الحوادث السّابقة عليها أو التالية لها، كسائر أحاديث المغازي والحروب في الإسلام... حتّى انبرى لها في أوائل المئة الثانية للهجرة أبو مِخْنف، لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنف بن سليم الأزدي الغامدي الكوفي (ت ١٥٨ﻫ)، فجمعها من أفواه الرواة وأودعها كتاباً أسماه: (کتاب
ص: 180
مقتل الحسين علیه السلام ) كما في قائمة كُتبه. فكان أوّل كتاب في تاريخ هذه الحادثة العظمى على الإطلاق»(1).
ونحن لا نوافق ما ذهب إليه هذان المحققان وغيرهما، فقد أثبتنا _ في بحوثنا السابقة _ أنّ أول مَن كتب في المقتل الحسيني هو الأصبغ بن نباتة، ثمَّ جاء بعده جابر بن يزيد الجعفي، ثمَّ جاء بعدهما عمّار الدهني، فلا يكون أبو مخنف هو أول مَن كتب في المقتل الحسيني، وإن جرى ذكر ذلك على بعض الألسن.
الأمر الثالث: إنّ مقتل أبي مخنف مفقود، ولم يصل إلينا منه إلا ما انتقل إلينا عِبر مطاوي الكتب، وفي ضوئه؛ فإنّ المقتل المتداول بين الناس والمنسوب لأبي مخنف، ليس له بإجماع المحققين.
يقول السيد عبد الحسين شرف الدين: «ولا يخفى أنّ الكتاب المتداول في مقتله علیه السلام ، المنسوب إلى أبي مِخْنف قد اشتمل على كثير من الأحاديث التي لا علم لأبي مِخْنَف به، وإنّما هي مكذوبة على الرجل، وقد كثرت عليه الكذّابة وهذا شاهد على جلالته»(2).
ويقول الشيخ عباس القمّي: «وليعلم أنّ لأبي مِخْنف كُتُباً كثيرةً في التاريخ والسير، منها كتاب: مقتل الحسين علیه السلام الذي نقل عنه أعاظم العلماء المتقدِّمين واعتمدوا عليه... ولكن للأسف أنّه فُقد ولا يوجد منه نسخة، وأمّا المقتل الذي بأيدينا ويُنسب إليه، فليس له، بل ولا لأحد من المؤرِّخين المعتمدين، ومَن أراد تصديق ذلك، فليقابل ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره عنه حتّى يعلم ذلك، وقد بيّنت ذلك في نفس المهموم، في طرمّاح بن عدي، والله العالم»(3).
ويقول اليوسفي الغروي: «تتداول الأيدي والمطابع في هذه العهود المتأخّرة كتاباً في مقتل الحسين علیه السلام ، نُسب إلى أبي مخنف، ومن المعلوم الواضح أنّه ليس لأبي مخنف، وإنّما هو من جمعِ جامعٍ غير أبي مخنف، ولا يُدرى بالضبط متى؟ وأين؟ وممّن وجد هذا
ص: 181
الكتاب؟ ومتى طبع لأول مرّة؟» (1).
أقول: ولكن صاحب الذريعة قد صرّح بأنّ الطبعة الأُولى لهذا المقتل كانت على الحجر في بمبئي منضمّاً إلى المجلد العاشر من(البحار) في سنة ١٢٨٧ﻫ (2).
ثمَّ أُعيدت طباعته على الحجر مرّتين: الأُولى في بمبئي عام ١٣٢٦ﻫ، منضمّاً إلى مثير الأحزان واللهوف، كما نصّ على ذلك التبريزي في مرآة الكتب(3)، والأُخرى في النجف الأشرف عام ١٣٥٣ﻫ، كما صرح بذلك الأميني في معجم المطبوعات النجفيّة(4).
وللمقتل المتداول علامتان أساسيتان يمكن معرفته من خلالهما:
العلامة الأُولى: من خلال العنوان؛ حيث إنّ هذه النسخة عادة ما تُطبع بعنوان (مقتل الحسين علیه السلام ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء).
العلامة الأُخرى: من خلال الكلمات الأُولى فيه؛ حيث يبدأ بهذه الكلمات: «قال أبو مخنف: حدَّثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي...».
وهذه الكلمات هي أول مؤاخذة على هذا المقتل؛ فإنّ أبا مخنف هو شيخ هشام بن محمد وأُستاذه، فكيف يصح أن يحدِّث الأستاذ عن التلميذ؟!
الأمر الرابع: أشرنا في الأمر السابق إلى أنّ الباحثين المحققين قد أجمعوا على ضياع مقتل أبي مخنف، وأنّه لم يصلنا منه إلّا ما نقله المؤرِّخون عن هذا المقتل، والمعروف بين المحققين أنّ أقدم نصٍّ نقل مرويات هذا المقتل هو كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري (ت٣١٠ﻫ).
يقول اليوسفي الغروي: «وأقدم نصّ معروف لدينا ممّن نقل أحاديث هشام الكلبي في كتابه عن أبي مِخْنَف هو: تاريخ أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (٣١٠ﻫ)، وهو لمْ يُفرِد لها تأليفاً خاصّاً، وإنّما ذكر الوقعة في أثناء تاريخه لحوادث سنة (٦٠ _ ٦١ﻫ)»(5).
ص: 182
ويقول حسن غفاري: «... أردت أن أجمع الأخبار الواردة في مقتل مولانا الشهيد أبي عبد الله الحسين _ روحي له الفداء _ بحيث كان كلّ مَن نظر فيه وتأمّل في مضامينه أغناه عن الرجوع إلى سائر المقاتل، وبينا أنا كنت مشغولاً بذلك بان لي أنّ من جملة المقاتل التي استندوا إليها ونقلوا عنها مقتل أبي مخنف المشهور بين الخواصّ والعوام، ونقل مهرة الفنّ عنه في زبرهم القديمة، كمحمد بن جرير الطبري في كتابه تاريخ الأُمم والملوك...»(1).
ويتكوّن مقتل أبي مخنف المستخرَج من تاريخ الطبري _ بحسب ما حققه اليوسفي الغروي _ من ٦٥ حديثاً مسنداً(2)، رواها أبو مخنف بالمباشرة وبالواسطة عن ٣٩ راوياً، وقد وضع اليوسفي الغروي ستّ قوائم تفصيليّة بأسماء الرواة الوسائط بين أبي مخنف والأحداث، ووضع أمام اسم كلّ راوٍ منهم الحديث الذي رواه، فكانت هذه القوائم هي في حدّ ذاتها فهرستاً لأحاديث الكتاب أيضاً(3). وتتوّزع هذه الأحاديث المتناثرة في الطبري على حوادث المعركة وما قبلها وما بعدها، بشكل يغطّي أكثر التفاصيل، ويجيب على أغلب التساؤلات التي تشغل الباحث؛ ومن هنا أمكن إعادة تنسيقها وتشكيلها بحسب التسلسل الزمني للأحداث والخروج بمقتل متكامل أو شبه متكامل.
ولذا؛ قام المحققان الميرزا حسن الغفاري والشيخ اليوسفي الغروي بالتصدّي لإحياء مقتل أبي مخنف من خلال العمل على استخراج روايات أبي مخنف من تاريخ الطبري، ثمَّ تنسيقها بحسب تسلسل الأحداث ووضعها في كتاب مفرد يكون بديلاً للطبعة المتداولة بين الناس.
فكتب الأول مقتل الحسين علیه السلام ، وكتب الثاني وقعة الطفّ، وكلاهما مستخرَجان من تاريخ الطبري.
ص: 183
طريق الطبري إلى مقتل أبي مخنف هو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الكوفي (ت ٢٠٦ﻫ).
ولا ريب في أنّ الطبري لم يتّصل بهشام بن محمد، فقد توفّي الأخير قبل ولادة الطبري بحوالي ١٨ عاماً، ومع ذلك نجد أنّ الطبري _ في أحداث سنتي ٦٠ _ ٦١ ﻫ _ يسند مروياته إلى هشام من دون أن يذكر الواسطة بينهما، ويمكن أن نتصوّر في هذا الخصوص ثلاث فرضيات:
الفرضية الأُولى: أن نقول بانقطاع السند بين الطبري وهشام الكلبي؛ وبالتالي سنحكم على مجموع روايات الطبري عن أبي مخنف بالإرسال؛ فتكون ضعيفة بحسب المقاييس الفقهية؛ لأنّنا نجهل الواسطة بينهما.
ولو أردنا أن نتكلّم بلغة مبسَّطة وواضحة للجميع نقول: بما أنّنا نجهل الواسطة التي نقلت مقتل أبي مخنف من هشام إلى الطبري، فلا يمكننا الجزم بنسبة هذا المقتل إلى أبي مخنف، فلا تكون قيمته التاريخية أفضل من المقتل المتداول.
الفرضية الثانية: ما ذكره اليوسفي الغروي ومفاده: أنّ الطبري كان يمتلك نسخة من مقتل أبي مخنف، فكان ينقل من الكتاب بشكل مباشر، وكان يعزز ذلك بمرويات من هذا المقتل، وردت إليه عن طريق تلميذه هشام، ولا يعيِّن لنا مَن حدَّثه عن هشام(1).
وعلى ضوء هذه الفرضية؛ يكون دور هشام بن محمد دوراً هامشياً، والمصدر الأساسي الذي اعتمده الطبري هو كتاب مقتل أبي مخنف نفسه.
وممّا يعزّز هذه الفرضية، أنّ الطبري كثيراً ما يتجاوز هشام ويحدِّث عن أبي مخنف بالمباشرة، فيقول _ مثلاً _: «وقال: أبو مخنف».
الفرضية الثالثة: _ وهو ما توصلنا إليه في المقام _ فنحن نرى أنّ طريق الطبري إلى
ص: 184
هشام بن محمد معروف، فإنّ الطبري يروي عن الحارث بن محمد (ت ٢٨٢ﻫ)(1)، عن محمد بن سعد صاحب الطبقات (ت ٢٣٠ﻫ)، عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف.
وليس للطبري طريق إلى هشام غير ما ذكرنا، وقد صرَّح الطبري بذلك في ستّة موارد في الجزء الأول من تاريخه(2)، وبعد أن صار طريقه معروفاً إلى هشام بن محمد، بدأ يسند إلى هشام بن محمد بقوله _ مثلاً _ : «حُدِّثتُ». بصيغة المبني للمجهول، وهذه الطريقة في الاختصار تُسمى في علم الرجال ب_(التعليق)، وهي طريقة معروفة بينهم، لا سيما بين المتقدِّمين.
قال صاحب المعالم في منتقى الجمان: «اعلم أنّه اتّفق لبعض الأصحاب توهم الانقطاع في جملة من أسانيد الكافي؛ لغفلتهم عن ملاحظة بنائه لكثير منها على طرق سابقة، وهي طريقة معروفة بين القدماء، والعجب أنّ الشيخ رحمه الله ربما غفل عن مراعاتها؛ فأورد الإسناد من الكافي بصورته ووصله بطرقه عن الكليني من غير ذكر للواسطة المتروكة؛ فيصير الإسناد في رواية الشيخ له منقطعاً، ولكن مراجعة الكافي تفيد وصله. ومنشأ التوهم الذي أشرنا إليه فقد الممارسة المطّلعة على التزام تلك الطريقة...»(3).
يقول جعفر السبحاني _ حول طريقة الكليني في الإسناد _: «... قد يحذف الكليني
ص: 185
صدر السند في خبرٍ مبتنياً على الخبر الذي قبله، وهذا ما يُعبَّر عنه في كلام أهل الدراية بالتعليق، فمثلاً يقول في الخبر الأول من الباب: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس.. وفي الخبر الثاني منه: ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن عمر بن يزيد. أو يقول في الخبر الأول من الباب: علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله صاحب السابري.. وفي الخبر الثاني منه: ابن أبي عمير، عن ابن رئاب، عن إسماعيل بن الفضل. وفي الخبر الثالث منه: ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله علیه السلام ...»(1).
وعلى هذا الأساس _ أيضاً _ نفسِّر إسناد الطبري إلى أبي مخنف مباشرة؛ فإنّه لم يسند إليه إلّا بعد أن صار واضحاً أنّه يروي عنه بواسطة هشام.
وفي ضوء هذه الفرضية تتهاوى الفرضيتان السابقتان، وإن كنّا في الوقت نفسه لا نمانع من وصول كتاب مقتل أبي مخنف إلى الطبري، من خلال هذا الطريق عينه.
الأمر الخامس: أشرنا _ فيما مضى _ إلى أنّ أقدم نصٍّ تاريخي يحتوي على نقولات من مقتل أبي مخنف هو تاريخ الطبري، وهذا لا يعني أنّه النصّ الوحيد، فهناك العديد من النصوص التي اشتملت على مرويات من هذا المقتل، وهذه النصوص على أنواع:
النوع الأول: ما لم يكن طريقه إلى مقتل أبي مخنف يمرّ بالطبري، كالبلاذري (ت٢٧٩ﻫ) في أنساب الأشراف، وابن أعثم الكوفي (ت نحو٣١٤ﻫ) في الفتوح، والمسعودي (ت٣٤٥ﻫ) في مروج الذهب، وأبو الفرج الأصفهاني (ت٣٥٦ﻫ) في مقاتل الطالبيين، وغيرهم ممّن نقل عن أبي مخنف عن غير طريق الطبري.
ويمكن عدّ المفيد (ت٤١٣ﻫ) في الإرشاد، وسبط ابن الجوزي (ت٦٥٤ﻫ) في التذكرة منهم؛ فإنّهما لا ينقلان عن مقتل أبي مخنف عن طريق الطبري على ما يبدو، ففي هذه الكتب وأمثالها يجد الباحث شذرات مبثوثة من هذا المقتل يمكن اقتصاصها وإضافتها إلى مقتل أبي مخنف المستخرَج من الطبري.
ص: 186
النوع الثاني: ما كان معتمداً على نسخة الطبري من المؤرخين المتأخرين عنه، كابن الأثير(ت٦٣٠ﻫ) في الكامل في التاريخ، والذهبي (ت٧٤٨ﻫ) في تاريخ الإسلام، وابن كثير(ت٧٧٤ﻫ) في البداية والنهاية، وابن شهر آشوب (ت٥٨٨ﻫ) في مناقب آل أبي طالب؛ فإنّ لكلّ واحد من هؤلاء طريقه الخاصّ إلى تاريخ الطبري، وبعض هذه النسخ غير مطابقة لنسخة الطبري المتداولة في بعض الموارد.
وبالتالي؛ فإنّ المتتبّع لا يعدم _ من خلال المقارنة _ من التقاط بعض العبارات الساقطة من تاريخ الطبري، وهي وإن كانت نادرة جداً إلّا أنّنا بحاجة إليها أيضاً، فلعل فيها سداً لثغرة مهمّة في التاريخ الكربلائي.
النوع الثالث: نسخ من مقتل أبي مخنف لا تتطابق مع نسخة الطبري، ولا مع الطبعة المتداولة، وأبرز نماذج ذلك نسختان:
١_ نسخة القندوزي (ت١٢٩٤ﻫ) في ينابيع المودّة:
فقد خصص الباب الحادي والستين من الجزء الثالث من كتابه لما أورده أبو مخنف، وعند المقارنة يتّضح للباحث عدم تطابق هذه النسخة مع النسخة الشائعة المتداولة ولا نسخة الطبري، كما اتّضح لنا عند التحقيق أنّ هذه النسخة لا يمكن أن تكون ملفّقة من النسختين لانفرادها بالعديد من الموارد، مع أنّه يقول في صدر الباب: «الباب الحادى والستّون في إيراد ما في الكتاب المسمى ب_(مقتل أبي مخنف)، الذي ذكر فيه شهادة الحسين وأصحابه مفصلاً...»(1).
وهذا النصّ صريح بأنّه ينقل عن كتابٍ كان لديه اسمه (مقتل أبي مخنف)؛ فتكون هذه نسخة ثالثة من مقتل أبي مخنف ينبغي للباحثين والمحققين أن يلتفتوا إليها.
٢_ نسخة إعجاز حسين النيسابوري الكنتوري (ت١٢٨٦ﻫ):
قال في كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار: «مقتل الحسين علیه السلام للوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف (بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح النون) بن سالم الأزدي الغامدي أوله: قال أبو منذر هشام بن السائب الكلبي: أخبرنا أبو عبد الله
ص: 187
بن الجاسر، قال أخبرنا أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي إلخ»(1).
ولا ريب في أنّ هذا المقتل الذي يتحدَّث عنه صاحب (کشف الحجب) غير المقتل المشهور؛ لأنّ أوله _ كما مرَّ علينا _ هكذا: «قال أبو مخنف: حدَّثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي...».
وممّا لا بدّ أن يُشار إليه: هو أنّ صاحب (کشف الحجب) من العلماء المحققين والمنقِّبين في الآثار، حيث يقول عنه شهاب الدين الحسيني المرعشى النجفي: «واعلم أنّه سافر إلى العراق، وزار المشاهد المشرَّفة، واجتمع بعلمائها فأفاد واستفاد، وكثرت مجالسته مع العلّامة الحاج الميرزا حسين النوري شيخ مشايخنا في الرواية، وجمع هناك عدّة كُتب، ومن نفائس المخطوطات، فجاء بها إلى خزانة كُتب أخيه صاحب العبقات»(2).
ولا يخفى أنّ عصر صاحب (کشف الحجب) هو عصر اكتشاف الأُصول المندثرة، وقد اكتُشفت في هذه الفترة العديد من الكتب التراثية المفقودة(3)؛ ولذا لا نستبعد أن تكون نسخة صاحب (کشف الحجب) من بين تلك الأُصول المكتشفة في تلك الفترة، ولكنّنا مع شديد الأسف لا نعلم شيئاً عن مصير تلك النسخة.
إنّ هاتين النسختين _ نسخة ينابيع المودّة، ونسخة كشف الحجب والأستار _ هما أبرز نماذج نسخ مقتل أبي مخنف، التي لا تطابق نسخة الطبري، ولا النسخة المتداولة، ويظهر من خلال التأمّل في منقولات صاحب أسرار الشهادة عن مقتل أبي مخنف، ومقارنتها بالمقتل المتداول، ونسخة الطبري، وجود نسخ متعددة لمقتل أبي مخنف، ويبدو أنّ الدربندي كان ملتفتاً إلى ذلك، حيث يقول في بعض تلك الموارد: «وفي نسخة من نسخ كتاب أبي مخنف هكذا...»(4).
فهذه العبارة تدلّ بوضوح على تعدد نسخ مقتل أبي مخنف، وأنّ صاحب أسرار
ص: 188
الشهادة كان ملتفتاً إلى هذا التعدد.
وفي ضوء هذه الحقائق التي ذكرناها؛ فإنّنا نرى أنّه يمكن _ مع مضاعفة الجهود _ أنّ يُكتب مقتل أبي مخنف بحجم أكبر من المقتل المستخرَج من تاريخ الطبري.
في ختام بحثنا _ حول أبي مخنف ومقتله _ نرى أنّه من تمام البحث أن نقوم بتلخيص أهمّ النتائج التي خرجنا بها:
١_ إنّ أبا مخنف لوط بن يحيى الكوفي الأزدي هو من أعلام القرنين الأول والثاني الهجريين.
٢_ كان أبو مخنف من كبار الأخباريين والمؤرِّخين في عصره، وقد اختصّ بتاريخ العراق والتشيّع في الفترة التي تلت رحيل النبي صلّى الله عليه و آله إلى أواخر العصر الأُموي، وقد عُدَّ أعلم المؤرِّخين بتاريخ العراق والتشيّع فيما يخصّ هذه الفترة.
٣_ كان أبو مخنف شديد الولاء والمحبّة لأهل البيت علیه السلام ، متجاهراً في نقل مخازي أعدائهم إلى الحدّ الذي أوهم بعض الباحثين بكونه إمامياً، مع أنّه لم يكن على مذهب أهل البيت علیهم السلام ، ولكنّه لم يكن متعصباً.
٤_ تكاد تتّفق كلمة الرجاليين منّا على توثيق أبي مخنف، وقبول مروياته، وفي المقابل تكاد تتّفق كلمة مخالفينا على ترك أبي مخنف وتضعيفه، ومع ذلك فقد أجمع المؤرِّخون من الفريقين على عدم الاستغناء عنه فيما يخصّ مروياته التاريخيّة.
٥_ يُعتبر أبو مخنف من أهمّ مؤرِّخي واقعة الطف، ويُعتبر مقتله أشهر المقاتل الحسينيّة على الإطلاق، وقد جاءت هذه الأهمّية والشهرة ممَّا تضمنه هذا المقتل من تفاصيل تكاد تكون مفقودة في غيره، ومما سلكه من طريق علمي في جمع أخباره وتدوينها، وهو طريق الإسناد المعمول به بين المحدثين.
٦_ مقتل أبي مخنف مفقود في هذا العصر، ولم يتبقَّ منه سوى ما نقله المؤرِّخون المتأخرون عنه، وفي مقدمتهم الطبري في تاريخه الكبير، وأمّا النسخة المتداولة فهي
ص: 189
منحولة عليه بإجماع المحققين.
٧_ تمكنّا من العثور على الواسطة المفقودة بين الطبري وهشام بن محمد الكلبي راوي مقتل أبي مخنف، وبذلك سددنا الطريق على مَن أراد أن يطعن بمرويات هذا المقتل بكونها مراسيل، ولا أتصور أنّ أحداً من الباحثين والمحققين قد سبقنا إلى هذه النتيجة المهمّة.
٨_ أثبتنا أنّ تاريخ الطبري ليس هو النصّ الوحيد المتضمِّن لمرويات أبي مخنف، وهذه النصوص بعضها لا يمرّ بالطبري، وينهل من أبي مخنف مباشرة، وبعضها ينهل من الطبري، ولكنّها تحتوي على زيادات غير موجودة في المطبوعة المتداولة، وبعضها عبارة عن نسخ من هذا المقتل لا تتطابق مع نسخة الطبري، والنسخة المتداولة؛ وبهذا نكون قد أعنَّا الباحثين والمحققين المختصّين في هذا الشأن على التوصل إلى إمكانية كتابة مقتل أبي مخنف بصورة أوسع من الصورة المستخرَجة من تاريخ الطبري.
ص: 190
*أفضل البقاع
القسم الثاني
*تعظيم الشعائر الحسينية
تعظيم لحرمات الله تعالى
*مشي النساء إلى كربلاء
قراءة في الأدلة والنصوص الشرعية
ص: 191
ص: 192
الشيخ إسكندر الجعفري(1)
تعرضنا في القسم الأول من هذا المقال إلى فضل وأفضليّة بعض بقاع الأرض على سائر البقاع، وقد اتضح لنا مما بيّناه في هذا الموضوع الأُمور التالية:
١_ إثبات فضل تربة كربلاء في كتب الخاصّة بما لا يقبل الشك والتردد، وسيتضح ذلك أكثر عند عرضنا لروايات التفضيل في هذا القسم من البحث.
٢_ إثبات فضل تربة كربلاء في كتب العامّة، من خلال بعض الروايات والشواهد والمؤيدات، وقد أوضحنا ذلك مفصلاً، فلاحظ.
٣_ إن المراد من التفاضل _ المبحوث عنه _ هو التفاضل بمعناه الوسيع الشامل ل_(الأشرفية، والأكملية، والأكثر قداسة وحرمة، والأكثر ثواباً بالنسبة للعامل)، وغيرها من المعاني المرتبطة بذلك، ولا يراد من التفاضل خصوص بعض المعاني المشار إليها؛ إذ لا دليل على التخصيص والتقييد، بل الدليل قائم على التعميم والتوسعة كما تقدّم بيانه.
كلُّ هذه الأُمور قد أوضحناها مفصّلاً في القسم الأوّل، واستكمالاً للبحث نتعرّض في هذا القسم إلى النقطتين الآتيتين:
ص: 193
الأُولى: ما هي البقاع المفضَّلة، والتي يمكن أن تدخل في المنافسة؟
الثانية: ما هي البقعة الأفضل حسب ما تقتضيه الأدلة؟
وبعد الحديث حول هاتين النقطتين نكون قد أتممنا البحث، وعرفنا النتيجة النهائية.
إنَّ الله سبحانه وتعالى قد فضَّل بقاعاً من بقاع هذه الأرض على سائر البقاع، وجعل لها خصوصيةً ومزيةً لا توجد في غيرها، ككون الدعاء فيها مستجاباً، وثواب العمل فيها مضاعفاً، وحرمتها أعظم، إلى غير ذلك من الخصوصيات، وقد ورد في الحديث عن صادق أهل البيت علیهم السلام ، أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى فضَّل الأرضين والمياه، بعضها على بعض...»(1). وعنه علیه السلام أيضاً: «إنّ لله تعالى بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء»(2).
ولا سبيل لنا لمعرفة تلك البقاع إلّا من خلال الكتاب والسنّة؛ ولهذا فما سنذكره من بقاع إنّما هو بحسب ما نطق به الكتاب الكريم، وما دلت عليه أحاديث أهل البيت علیهم السلام ، ولا بدَّ أوّلاً من التعريف بهذه البقاع بشكل موجز:
اختلف الأعلام في سبب تسميتها بمكة على أقوال متعددة، نذكر بعضاً منها:
١_ سُمّيت مكة؛ لأنّها تمكُّ الجبارين، أي: تُذهب نخوتهم.
٢_ سُمّيت مكة؛ لازدحام الناس فيها.
٣_ سُمّيت مكة؛ لأنّها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هبطة بمنزلة المكّوك.
٤_ سُمّيت مكة؛ لأنّها لا يفجر بها أحد إلّا بكّت عنقه؛ فكان يصبح وقد التوت عنقه.
ص: 194
٥_ سُمّيت مكة من مك الثدي، أي: مصعه، لقلّة مائها؛ لأنّهم كانوا يمتكّون الماء، أي: يستخرجونه.
٦_ سُمّيت مكة، لأنّها تمُكّ الذنوب، أي: تُذهب بها كما يمُك الفصيل ضرع أُمّه، فلا يبقي فيها شيئاً (1).
وقد أسماها القرآن الكريم ب_(أُمّ القرى) و(البلد الأمين) و(البيت العتيق).
تقع مكة المكرمة في الجهة الغربية من السعودية، وتبعد عن جدّة من الغرب ٧٥كم، وهي بوابتها البحرية والجوية، ومن الجنوب الشرقي تُحيط بها مدينة الطائف فوق ربا جبال الحجاز على بعد ٨٠كم، وإلى الشمال منها تقع المدينة المنورة، وتبعد قرابة ٤٠٠كم(2)، وعرضها من جهة الشمال٢١ درجة و٢٥دقيقة، وطولها من جهة الشرق ٣٩ درجة و٥٠ دقيقة(3). وتبلغ مساحتها المعمورة ٦.٥٠ هكتاراً(4).
المدينة المنورّة كانت تُعرف قبل هجرة النبي الأكرم صلّى الله عليه و آله إليها بمدينة يثرب، وهي مدينة قديمة يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد، وتُعرف عند الأخباريين باسم (أثرب) و(يثرب)(5).
أمّا سبب تسميتها ب_(يثرب) فقد ذكر بعض الأخباريين أنَّ سبب تسميتها بذلك نسبة إلى (يثرب بن قانية... ابن نوح)، وكان أوّل من نزلها عند تفرّق ذرية نوح،
ص: 195
فدُعيت باسمه.
وقالوا: بل قيل لها: (يثرب) من التثريب «وهو اللوم والتعيير»(1). وقالوا: غير ذلك(2).
وأمّا سبب تسميتها بالمدينة، فذلك يعود إلى هجرة النبي صلّى الله عليه و آله إليها، حيث أُطلق عليها مدينة الرسول صلّى الله عليه و آله والمدينة المنورة.
تقع المدينة المنورّة وسط الجزء الغربي من السعودية، وتُحدد بخطوط الطول والعرض كما يلي:
خط الطول ٣٦ و ٣٩ تسع وثلاثون درجة، وستة وثلاثون جزءاً من الدرجة. وخط العرض ٢٨ و٢٤ أربع وعشرون درجة، وثمانية وعشرون جزءاً من الدرجة، وتبعد عن مكة ٤٣٠كم شمالاً تقريباً، كما تبعد عن شاطئ البحر بخط مستقيم ١٥٠كم، وتبعد عن العاصمة الرياض٩٨٠كم. وأما مساحتها، فتقدر ٥٣٩كم٢ تقريباً، منها ٢٩٣كم٢ تشغلها مناطق العمران، والبقية ٢٩٦كم٢ تشغلها الجبال، والأودية، ومجاري السيول، وغير ذلك(3).
إنَّ اسم كربلاء قبل الفتح الإسلامي لها هو (کرب _ إيلا)، وإيل تعني الإله الواحد، وكرب أحد أسماء الملوك، فمعنى (کرب _ إيلا) الإله العظيم أو الإله الواحد.
وكربلاء أوّل قرية في التاريخ العربي والعالمي تخصصت بعبادة الله (عزّ وجلّ)، وذلك أثناء وجود إبراهيم الخليل علیه السلام في كوش، التي لا تبعد عن هذه القرية إلّا
ص: 196
قليلاً، وكان اسمهما يدلُّ على ذلك(1).
وقد اختلف اللغويون في تسمية كربلاء بهذا الاسم على أقوال:
١_ إنَّ اسمها عربي مأخوذ من «الكربلة» وهي الرخاوة، يقال: جاء يمشي مكربلاً، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة، فسُمّيت بذلك.
٢_ إنّها من كربلت الحنطة إذا هذَّبتها ونقّيتها... فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض مُنقّاة من الحصى والدغل؛ فسُمّيت بذلك.
٣_ إنّها من الكربل، وهو اسم نبت الحماض... فيجوز أن يكون هذا الصنف من المنبت يكثر نبته هناك فسُمّي به(2).
تقع مدينة كربلاء على بعد ١٠٥كم إلى الجنوب الغربي من بغداد، على حافّة الصحراء في غربي الفرات، وعلى الجهة اليسرى لجدول الحسينية.
وتقع على خط طول ٤٤ درجة و٤٠ دقيقة.
وعلى خط عرض ٣٣ درجة و٣١ دقيقة.
ويحدُّها من الشمال محافظة الأنبار، ومن الجنوب محافظة النجف، ومن الشرق محافظة الحلة، وقسم من محافظة بغداد، ومن الغرب بادية الشام وأراضي المملكة العربية السعودية.
وتبلغ مساحتها ٥٢٨٥٦كم مربعاً(3).
هناك عدّة أقوال في سبب تسميتها ب_(عرفات) وهي:
ص: 197
١_ إنّ السبب يرجع إلى قصة جبرئيل علیه السلام مع إبراهيم علیه السلام ، حيث عرَّفه المناسك؛ إذ لمّا أوقفه بعرفة قال له: عرفت؟ قال: نعم. فسُمّيت عرفة.
٢_ إنّها سُمّيت بذلك؛ لأنَّ آدم وحواء تعارفا بها بعد نزولهما من الجنة.
٣_ إنَّ الناس يعترفون بذنوبهم في ذلك الموقف؛ فسُمّيت لذلك عرفة.
٤_ إنَّ العرف هو الصبر، وحيث إنَّ الناس يصبرون على ما يكابدونه في الوصول إليها؛ فسُمّيت لذلك بعرفة(1).
إنَّ عرفات منطقة تقع شرقي مكة، وتبعد عنها ٢٠كم تقريباً، وهي سهل واسع مُنبسط، محاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عرفة، فمن الشمال الشرقي يشرف عليها جبل أسمر شامخ وهو (جبل سعد)، ومن مطلع الشمس يشرف عليها جبل أشهل أقل ارتفاعاً من سابقه ويتصل به من الجنوب، وهذا يُسمّى (ملحة)، ومن الجنوب تشرف عليه سلسلة لاطية سوداء تُسمّى (أُمّ الرضوم)، وأمّا من الشمال إلى الجنوب فيمر وادي عرفة.
وأمّا مساحتها، فتبلغ ١٢كم من الشمال إلى الجنوب، و٥كم من الشرق إلى الغرب(2).
هذه نُبذة موجزة عن هذه البقاع الأربع المفضَّلة، والتي إحداها هي البقعة الأفضل، ولم أذكر غير هذه البقاع على الرغم من وجود بقاع أُخرى لها أفضلية، كالكوفة، وطوس، وبيت المقدس، وغيرها؛ وذلك لأنَّ البحث مختصُّ في البقاع التي دلَّ الدليل على أفضليتها على سائر البقاع.
بعد هذا العرض ننتقل إلى النقطة الثانية، والتي نستعرض فيها النصوص والأدلة الدالة على أفضلية هذه البقاع؛ لنرى من خلال عرضها وإيضاحها أيّ البقاع أفضل.
ص: 198
نستعرض فيما يلي ما يمكن أن يُستدل به على أفضلية كلّ بقعةٍ من البقاع الأربع، ثمّ نقوم بعد ذلك بالمقارنة بين الأدلة وتمحيصها؛ لتتضح لدينا حقيقة الأمر.
قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(1).
وقال تعالى:«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ »(2).
وقال تعالى:«وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(3).
وقال تعالى:«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ»(4).
وهذه الآيات لا إشكال في دلالتها على فضيلة مكة وحرمتها، ولكن الكلام في دلالتها على الأفضلية على سائر البقاع، وعند التأمل فيها لاسيَّما الآية الرابعة، لا يحصل اطمئنان بدلالتها على الأفضلية، وإنَّما دلالتها فقط على مستوى الإشعار دون الظهور.
قال تعالى: «وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا
ص: 199
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ»(1).
وقال تعالى:«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ »(2).
أجمع المفسرون على أنَّ المراد ب_(أُمّ القرى): مكة(3)، ولكنَّهم اختلفوا في سبب تسميتها بذلك على أقوال منها:
١_ إنَّها سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ الأرض دُحيت من تحتها(4)، والمراد من دحو الأرض: هو أنَّ الأرض في البداية كانت مغطاة جميعها بالماء، ثمَّ بدأت اليابسة بالاتساع من جوار الكعبة(5).
٢_ سميت بذلك؛ لأنَّها أوّل بقعة خلقها الله من الأرض لقوله تعالى:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»(6) (7).
ولكنّ الآية المباركة لا تدل على أسبقية خلق الكعبة على خلق الأرض، وإنَّما تدل على أنَّ الكعبة أوّل بيت للعبادة وضع على الأرض، بل لعلّها تدل على أسبقية خلق الأرض على الكعبة، وهنا أقوال أُخر.
والمهم أنَّ تسميتها ب_(أُمُّ القرى) يدل بوضوح على أفضليتها وأشرفيتها على سائر البقاع.
قال في تفسير الميزان:
«والكلام يدل على عناية إلهية بأُمّ القرى، وهي الحرم الإلهي، منه بُدِئ بالدعوة
ص: 200
وانشرت الكلمة»(1).
وقال الفخر الرازي في تفسيره:
«إنَّ الله تعالى سمَّى مكة أُمّ القرى، وظاهر هذا يقتضي أنَّها كانت سابقةً على سائر البقاع، في الفضل والشرف، منذ كانت موجودة»(2).
مناقشة:
يمكن المناقشة في دلالة الآية المباركة على أفضلية مكة على سائر البقاع، بأن يقال: إنَّ التعبير ب_(أُمّ القرى) وإن دل على عظم القرية وأهميتها، ولكن لا يدل على أفضليتها على غيرها، فإنَّ الله سبحانه قد جرت سنته _ في تبليغ الرسالة _ أن يبعث رسله إلى أعظم القرى وأكبرها وأهمها، بحيث تكون غيرها تابعة لها، فإذا آمنت بالرسالة، آمنت غيرها أو هان أمر إيمانها، ويدل على ذلك قوله تعالى:«وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ»(3).
إذن؛ يُحتمل قوياً أن يكون التعبير عن مكة ب_(أُمّ القرى)؛ لبيان أهميتها، وموقعها بالقياس لبقية القرى والمدن المحيطة بها، لا لبيان أفضليتها على غيرها، ويكفي الاحتمال المذكور لسقوط دلالتها على المطلوب.
هذه مُجمل الآيات الكريمة التي يمكن الاستدلال بها على أفضلية مكة على سائر البقاع، وقد اتضح من خلال عرضها _ وعرض كلام المفسرين _ أنَّ بعضها قد يدّعى دلالتها على المطلوب.
ما يُستدل به من الروايات على أفضلية مكة، يمكن عرضه ضمن طوائف:
ص: 201
الطائفة الأُوّلى: ما دلّ على أنَّ موضع البيت، أُوّل موضع خلقه الله تعالى من الأرض.
روى الكليني في الكافي، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي زرارة التميمي، عن أبي حسان، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «لمّا أراد الله (عزَّ وجلَّ) أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن وجد الماء حتى صار موجاً، ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلاً من زبد، ثمّ دحا الأرض من تحته، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا»»(1).
وفي مرسلة الصدوق زيادة، وهي: «فأوّل بقعة خُلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مُدت الأرض منها»(2).
وهذه الرواية وإن كانت مختصَّة بخلق الكعبة _ مع أنَّ الحديث عن أفضلية مكة _ إلا أنَّها تُفيد أنَّ خلق مكة أسبق من خلق سائر البقاع، فيُفيد الأفضلية والتقدّم، ويؤيد ذلك أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعدما خلق الكعبة، دُحيت الأرض من تحتها وأخذت بالاتساع، فدُحيت من البيت إلى منى، ومن منى إلى عرفات، فقد روى الصدوق مرسلاً عن الإمام الصادق علیه السلام ، قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى دحا الأرض من تحت الكعبة إلى منى، ثمّ دحاها من منى إلى عرفات، ثمّ دحاها من عرفات إلى منى، فالأرض من عرفات، وعرفات من منى، ومنى من الكعبة، وكذلك علمنا بعضه من بعض»(3).
وتقريب الدلالة: إنَّ كونها أوّل بقعة خلقها الله تعالى من الأرض، يدلّ بوضوح على الأفضلية، لا سيَّما مع ملاحظة أمرين:
الأوّل: إنَّ الإمام علیه السلام كان في مقام بيان الفضل والأهمية.
والثاني: الاستشهاد بالآية يدلّ بوضوح على كون الحديث عن الأفضلية والأشرفية.
ص: 202
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنَّ مكة أحبُّ الأرض إلى الله تعالى.
١_ روى القرطبي في تفسيره عن قتادة وابن عباس: لمّا خرج النبي صلّى الله عليه و آله من مكة إلى الغار، والتفت إلى مكة، وقال: «اللهمّ، أنتِ أحبُّ البلاد إلى الله، وأنتِ أحبُّ البلاد إليّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منكِ»، ثمّ قال القرطبي: «ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح»(1).
٢_ وروى الصدوق بسند معتبر، عن سعيد بن عبد الله الأعرج، عن أبي عبد الله علیه السلام : «أحبُّ الأرض إلى الله تعالى مكة، وما تربة أحبُّ إلى الله (عزَّ وجلَّ) من تربتها، ولا حجر أحبُّ إلى الله من حجرها، ولا شجر أحبُّ إلى الله من شجرها، ولا جبال أحبُّ إلى الله من جبالها، ولا ماء أحبُّ إلى الله من مائها»(2).
ومن الواضح أنَّ لازم المحبوبية الأفضلية والتقدّم.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنَّ مكة أفضل البقاع.
روى العياشي في تفسيره، عن ثعلبة بن ميمون، عن ميسر، قال: «كنّا في الفسطاط عند أبي جعفر علیه السلام نحو من خمسين رجلاً، قال: فجلس بعد سكوت كان منّا طويلاً، فقال: ما لكم لا تنطقون لعلّكم ترون أنّي نبي؟ لا والله، ما أنا كذلك، ولكن فيَّ قرابة من رسول الله صلّى الله عليه و آله قريبة، وولادة مَن وصلها وصله الله، ومَن أحبَّها أحبَّه الله، ومَن أكرمها أكرمه الله، أتدرون أيّ البقاع أفضل عند الله منزلةً؟ فلم يتكلّم أحد، فكان هو الراد على نفسه، فقال: تلك مكة الحرام التي رضيها لنفسه حرماً، وجعل بيته فيها.
ثمّ قال: أتدرون أيّ بقعة أفضل من مكة؟ فلم يتكلّم أحد، فكان هو الراد على نفسه، فقال: ما بين الحجر الأسود إلى باب الكعبة، ذلك حطيم إبراهيم نفسه، الذي كان يذود فيه غنمه ويُصلّي فيه، فو الله، لو أن عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان، قام النهار مُصلّياً حتى يجنَّه الليل، وقام الليل مُصلّيا حتى يجنَّه النهار، ثمّ لم يعرف لنا حقاً أهل البيت،
ص: 203
وحرمنا حقنا، لم يقبل الله منه شيئاً أبداً، إنَّ أبانا إبراهيم صلوات الله عليه كان فيما اشترط على ربِّه أن قال: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » أما إنّه لم يقلْ: الناس كلّهم. أنتم أولئك رحمكم الله ونظراؤكم، إنّما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود، والشعرة السوداء في الثور الأبيض، وينبغي للناس أن يحجّوا هذا البيت، وأن يعظِّموه لتعظيم الله إيّاه، وأن يلقونا أينما كنّا، نحن الأدلاء على الله»(1).
الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنَّ العمل في مكة أفضل منه في سائر البلدان.
١_ روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «تسبيحٌ بمكة يعدل خراج العراقين يُنفق في سبيل الله»(2).
٢_ وروي عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال: «الساجد بمكة كالمُتشحّط بدمه في سبيل الله»(3).
٣_ وروي عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «كان علي بن الحسين علیه السلام يقول: النائم بمكة كالمُتشحّط في البلدان»(4).
وهذه الرواية وإن لم تشتمل على عمل، ولكنّها تُفيد أنَّ الكينونة في مكة _ وإن لم تكن لعمل _ هي أفضل من الكينونة في بقية البلدان.
٤_ روى محمد بن علي بن الحسين، قال: قال علي بن الحسين علیه السلام : «الطاعم بمكة كالصائم فيما سواها، والماشي بمكة في عبادة الله (عزَّ وجلَّ)»(5).
الطائفة الخامسة: كراهة السكنى في مكة؛ لأنّها تقسّي القلب.
١_ رُوي عن النبي والأئمة علیهم السلام : «أنّه يُكره المقام بمكة؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله خرج عنها، والمقيم بها يقسو قلبه حتى يأتي فيها ما يأتي في غيرها»(6).
ص: 204
٢_ وروي عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته، وليلحق بأهله؛ فإنَّ المقام بمكة يُقسّي القلب»(1).
وموضع الاستدلال هو التعليل الوارد فيها؛ فإنّ كراهة السكنى فيها ناشئة من حصول القسوة، الحاصلة من اقتراف الذنوب والموبقات، وقد دلّت الروايات على أنّ ارتكاب الذنب في مكة موجب لمضاعفة العقوبة، بل في بعض الروايات أنّ ذلك إلحاد.
فعن أبي الصباح الكناني، قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قوله (عزَّ وجلَّ): «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» فقال: «كلّ ظلم يظلمه الرجل نفسه بمكة من سرقة، أو ظلم أحد، أو شيء من الظلم، فإنّي أراه إلحاداً؛ ولذلك كان يتقى أن يسكن الحرم»(2).
هذه خمس طوائف من الروايات، يمكن أن يُستفاد منها أفضلية مكة على سائر البلدان، ولعلّ المتتبع يجد روايات أُخر، ولكن اقتصرنا على هذه؛ لحصول الغرض بها.
بقي شيء يجدر الإشارة إليه وهو أن هناك مواضع في مكة المكرمة قد دلّت الروايات على أفضليتها على سائر البقاع، وهي كالتالي:
فقد تقدّم _ في الطائفة الأُوّلى من الروايات _ أنّ أوّل بيت خلقه الله تعالى هو الكعبة، ثمّ دُحيت الأرض من تحتها، وهذا يدلّ على أنَّ الكعبة أفضل بقعة في مكة، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا»(3).
ص: 205
وقد دلّ الكثير من الأحاديث على أفضلية الكعبة على سائر البقاع، وإليك الحديث الآتي:
عن زرارة، قال: «كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر علیه السلام وهو مُحتبي مستقبل الكعبة، فقال: أما إنَّ النظر إليها عبادة. فجاء رجل من بجيلة يقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر علیه السلام : إنَّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة... فقال له أبو جعفر علیه السلام : كذبت، وكذب كعب الأحبار معك. وغضب، فقال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً يقول: كذبت، غيره».
ثمّ قال: «ما خلق الله بقعة في الأرض أحبُّ إليه منها، ثمّ أومأ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله منها، لها حرَّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة متوالية للحج: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة، وهو رجب»(1).
والمراد من الحطيم هو المكان الواقع بين ركن الحجر الأسود، وباب الكعبة، ومقام إبراهيم، والأخبار في فضله كثيرة منها:
١_ روى الصدوق في ثواب الأعمال بسنده عن أبي حمزة، قال: «قال لنا عليّ بن الحسين علیه السلام : أيُّ البقاع أفضل؟ قلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم. قال: إنّ أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أنَّ رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح علیه السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، يصوم نهاراً ويقوم ليلاً في ذلك المقام، ثمّ لقى الله (عزَّ وجلَّ) بغير ولايتنا، لم ينتفع بذلك شيئاً»(2).
٢_ وروى الصدوق في ثواب الأعمال أيضاً، بسندٍ متصلٍ عن ميسرة، قال: «كنت عند أبي جعفر علیه السلام وعنده في الفسطاط نحو من خمسين رجلاً... أتدرون أيّ بقعة في المسجد الحرام أفضل عند الله حرمة؟ فلم يتكلّم أحد منّا، فكان هو الراد على نفسه،
ص: 206
قال: ذلك ما بين الركن الأسود والمقام وباب الكعبة، وذلك حطيم إسماعيل علیه السلام ، ذلك الذي كان يذود غنيماته، ويُصلّي فيه، والله، لو أنَّ عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان قام ليلاً مُصلّياً حتى يجيئه النهار، وصام حتى يجيئه الليل، ولم يعرف حقنا وحرمتنا أهل البيت، لم يقبل الله منه شيئاً أبداً»(1).
روى الشيخ الطوسي في التهذيب بسند متصل، عن أبي الفرج السندي، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «كنت أطوف معه بالبيت، فقال: أيّ هذا أعظم حرمة؟ فقلت: جُعلت فداك، أنت أعلم بهذا منّي. فأعاد عليَّ. فقلت له: داخل البيت. فقال: الركن اليماني باب من أبواب الجنة، مفتوح لشيعة آل محمد صلّى الله عليه و آله ، مسدود عن غيرهم، وما من مؤمن يدعو عنده إلّا صعد دعاؤه حتى يُلصق بالعرش، ما بينه وبين الله تعالى حجاب»(2).
ومحل الشاهد قوله علیه السلام : «أيّ هذا أعظم حرمةً؟» ومقصوده: أيّ موضع في المسجد الحرام أعظم حرمة؟ وأجاب علیه السلام : «الركن اليماني».
وما يمكن الاستدلال به على أفضلية المدينة على سائر البقاع عدّة روايات:
١_ ذكر الشيخ الطوسي قدِّسَ سرُّه في التهذيب _ وهو يتحدّث عن دفن رسول الله صلّى الله عليه و آله _ ما نصه: «وقبره بالمدينة في حجرته التي توفِّي فيها، وكان قد أسكنها في حياته عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، لمّا قُبض النبي صلّى الله عليه و آله اختلف أهل بيته، ومَن حضر من أصحابه في الموضع الذي ينبغي أن يُدفن فيه، فقال بعضهم: يُدفن بالبقيع. وقال آخرون: يُدفن في صحن المسجد. فقال أمير المؤمنين علیه السلام : إنّ الله لم يقبض نبيه إلّا في أطهر البقاع [أشرف البقاع]؛ فينبغي أن يُدفن في البقعة التي قُبض فيها، فاتفقت الجماعة على قوله علیه السلام ودُفن
ص: 207
في حجرته...»(1).
وظاهر قوله رحمة الله : «فقال أمير المؤمنين علیه السلام ...». جزْمُ الشيخ قدِّسَ سرُّه بنسبة هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، ولو لم يكن جازماً بذلك لقال مثلاً: «روي أنّه قال»، أو «قيل»، أو نحو ذلك من التعابير التي تُشعر بعدم الجزم بالنسبة.
ومحلّ الشاهد قوله علیه السلام : «إنّ الله لم يقبض نبيّه إلّا في أطهر البقاع». إذ من المعلوم أنَّ النبي صلّى الله عليه و آله قُبض في المدينة، فدلّ ذلك على أنَّ المدينة أطهر البقاع، وعلى النسخة الأُخرى أشرف البقاع.
إلّا أنَّ الاستدلال بهذه الرواية على أفضلية المدينة لا يخلو من تأمل؛ وذلك لأنَّ الظاهر من قوله علیه السلام : «إنَّ الله لم يقبض...»، هو أفضلية البقعة التي قُبض فيها، أي: حجرته، أو موضع قبره؛ بقرينة ما سبقه من كلام، حيث قال البعض: يُدفن في البقيع. وقال البعض الآخر: في المسجد. فلو كان المراد من (أطهر البقاع) في كلام أمير المؤمنين علیه السلام ما يشمل تمام المدينة، أو أوسع من موضع قبره؛ لشمل المسجد أو البقيع، فيُفهم من كلامه علیه السلام أنّ أطهر البقاع أضيق من المسجد، فيتعين كونها الحجرة وموضع القبر، وقد تقدّم منّا في القسم الأوّل من هذا البحث، أنّ محلّ الكلام ليس في موضع القبر، وإنّما الكلام فيما يزيد على ذلك.
وعلى هذا الأساس؛ فلا تصلح الرواية المذكورة للاستدلال على أفضلية المدينة على سائر البقاع.
٢_ روى الحاكم في المستدرك، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله ، قال: «اللهمّ إنّك أخرجتني من أحبِّ البلاد إليَّ، فأسكنّي أحبَّ البلاد إليك. فأسكنه الله المدينة»(2).
وتقريب الاستدلال:
إنّ أحبَّ البلاد إلى الله تعالى يُلازم أفضليتها على سائر البقاع، ولكن هذا المضمون رُوي بشكل آخر.
ص: 208
فقد رُوي عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، أنّه سمع النبي صلّى الله عليه و آله ، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة، وهو يقول: «والله، إنّك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»(1).
والرواية الثانية لا تشتمل على قوله: «فأسكني أحبَّ البقاع إليك»، وحيث إنّه يُحتمل اتحاد الرواية، وعدم تعددها تسقط هذه الزيادة عن الحجية، ويكفي احتمال الوحدة للتشكيك في صدور هذه الزيادة التي هي محلّ الاستدلال.
ولو تنزلنا وقلنا بتعدد الرواية، وعدم وحدتها، يمكن الجمع بينها، بتقييد قوله صلّى الله عليه و آله : «فأسكني أحبَّ البقاع إليك»، بأنَّها أحبُّ البقاع إليك بعد مكة، وممّا يُؤكد إمكانية هذا التقييد، ما رواه الحاكم في المستدرك أيضاً في موضع آخر، حيث روى عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، يُحدِّث عن أبيه، قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله في حجته، وهو واقف عند راحلته، وهو يقول: والله، إنّك لخير الأرض وأحبُّ الأرض إلى الله، ولولا أنّي أُخرجت منك ما خرجت، قال: فقلت: يا ليتنا لم نفعل، فارجع إليها فإنَّها منبتك ومولدك، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله : إنّي سألت ربّي (عزَّ وجلَّ)، فقلت: اللهمّ إنّك أخرجتني من أحبِّ أرضك إليَّ، فأنزلني أحبَّ الأرض إليك، فأنزَلَني المدينة»(2).
إذاً؛ هذه الرواية لا يصلح الاستدلال بها لإثبات المطلوب.
٣_ روى الحسن بن الجهم، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام ، أيما أفضل: المقام بمكة أو بالمدينة؟ فقال: أيُّ شيء تقول أنت؟ قال: فقلت: وما قولي مع قولك؟! قال: إنَّ قولك يردُّ إلى قولي. قال: فقلت له: أما أنا فأزعم أنَّ المقام بالمدينة أفضل من الإقامة بمكة. فقال: أما لئن قلت ذلك، لقد قال أبو عبد الله علیه السلام ذلك، يوم فطر وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله ، فسلّم عليه، ثمّ قال: لقد فضُلنا الناس اليوم؛ بسلامنا على رسول الله صلّى الله عليه و آله »(3).
ص: 209
ومحلّ الشاهد قوله علیه السلام : «لقد فضُلنا الناس اليوم؛ بسلامنا على رسول الله صلّى الله عليه و آله »، فإنّه يدلّ على أنّ السكن في المدينة أفضل من السكن في غيرها من البلدان؛ لأنَّ الساكن في المدينة يمتاز عن غيره، بمجاورته لقبر رسول الله صلّى الله عليه و آله ، والسلام عليه، وهذا يدلّ على أفضلية المدينة على سائر البقاع، يُضاف إلى ذلك إقرار الإمام جواب الحسن بن الجهم الذي فضَّل الإقامة في المدينة على مكة.
هذا أقصى ما يمكن أن يُقرَّب به الاستدلال بهذه الرواية.
ولكنّه لا يخلو من تأمل؛ وذلك لأنّ أفضلية الإقامة في مكان، لا تعني أفضلية نفس البقعة؛ لأنَّ الإقامة والسكن لا يُلحَظ فيه _ عادةً _ أشرفية البقعة، وأفضليتها فقط، وإنَّما يُلحظ أُمور أُخرى كأخلاق الناس الساكنين فيها، ونحو ذلك، وقد لاحظ الإمام علیه السلام ذلك في هذا الحديث، حيث جعل أفضلية الإقامة في المدينة؛ لمجاورة قبر النبي صلّى الله عليه و آله ، والسلام عليه، والتعليل المذكور ليس تعليلاً لأفضلية البقعة نفسها، وإنَّما هو تعليل لتفضيل الساكنين في المدينة، كما هو واضح من قوله علیه السلام : «لقد فضُلنا الناس...»، ولو كانت المدينة أفضل من مكة وغيرها لكان المناسب التعليل بذلك، فيقال مثلاً: «إنَّ الإقامة في المدينة أفضل من الإقامة في غيرها لأفضليتها وأشرفيتها عليها»، أو نحو ذلك من التعابير.
وقد نقلنا فيما تقدّم بعض الروايات الدالة على كراهة السكنى في مكة، وعلّلتْ ذلك بأنّه يُقسي القلب؛ لأنَّ الساكن قد يرتكب المعاصي، وارتكاب المعاصي في مكة يُوجب قسوة القلب، وهو يتنافى مع قدسية المكان، والكراهة المذكورة قد استفدنا منها _ سابقاً _ أفضلية مكة على سائر البقاع، ومنه يُعلم أنَّ كراهة السكن في مكان، وأفضليته في مكان آخر، لا يلازم أفضلية البقعة وأشرفيتها.
هذه مجمل الروايات التي قد يُستدل بها لإثبات أفضلية المدينة على سائر البقاع، وقد اتضح عدم تمامية شيء منها.
والآن نريد القول: إنَّ المدينة _ باستثناء المسجد النبوي الشريف، والحجرة
ص: 210
المقدَّسة، وبيت أمير المؤمنين، والأماكن المقدَّسة فيها _ لا خصوصية لها على سائر البقاع، وقد يُستفاد ذلك من بعض الروايات.
من قَبيل ما رواه عمار بن موسى، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «سألته عن الصلاة في المدينة، هل هي مثل الصلاة في مسجد رسول الله؟ قال: لا، إنَّ الصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله ألف صلاة، والصلاة في المدينة مثل الصلاة في سائر البلدان»(1).
الكثير من الروايات تحدّثت عن فضل عرفات، وفضل الدعاء فيها، والذي يمكن الاستدلال به على أفضليتها على سائر البقاع رواية واحدة حسب تتبعي القاصر وهي:
ما رُوي من أنّه جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله ، فسأله أعلمهم عن مسائل، وكان فيما سأله، أن قال: «أخبرني لأيّ شيء أمر الله بالوقوف بعرفات بعد العصر؟ فقال النبي صلّى الله عليه و آله : إنَّ العصر هي الساعة التي عصى آدم فيها ربَّه، ففرض الله (عزَّ وجلَّ) على أُمتي الوقوف والتضرّع والدعاء في أحبِّ المواضع إليه، وتكفّل لهم بالجنة، والساعة التي ينصرف بها الناس، هي الساعة التي تلقّى فيها آدم من ربِّه كلمات فتاب عليه، إنّه هو التوّاب الرحيم...»(2).
ومحلّ الشاهد قوله: «في أحبِّ المواضع إليه» فهو يدلّ بإطلاقه على أنَّ عرفة أحبُّ المواضع إلى الله تعالى.
وهناك رواية أُخرى تدلّ على أفضلية الحرم من عرفات، حيث جاء فيها: «حدُّ عرفة من بطن عرفة وثوية ونمرة وذي المجاز، وخلف الجبل موقف إلى وراء الجبل، وليست عرفات من الحرم، والحرم أفضل منها»(3).
ص: 211
وهذه الرواية تصرِّح بأفضلية الحرم المكّي على عرفات؛ فتكون مكة أفضل من عرفات، بل ومزدلفة ومنى أيضاً، والسؤال هو: كيف يتم الجمع بين مدلولي الروايتين؟
والجواب: حيث إنَّ دلالة الأُولى على أفضلية عرفات على سائر البقاع مطلقاً بينما الثانية أضيق منها دائرةً؛ فيمكن تقييدها بها، فتكون النتيجة أنَّ عرفات أحبُّ المواضع إلى الله سبحانه، باستثناء منطقة الحرم؛ فإنّها أفضل منها.
وبهذا الجواب تخرج عرفات من الحساب؛ لعدم تمامية دليلها على أنَّها أفضل من سائر البقاع، حيث ثبت أنَّ منطقة الحرم أفضل منها، يُضاف إليه أنّها رواية واحدة لا تقاوم الروايات الكثيرة الدالة على أفضلية مكة وكربلاء.
يمكن عرض الروايات الدالة على أفضلية كربلاء على سائر البقاع، ضمن طوائف هي:
الطائفة الأُولى: ما دلّ على أنَّ الله سبحانه قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً قبل مكة.
١_ ما رواه جعفر بن محمد بن قولويه في (کامل الزيارات) بإسناده عن عبد الله ابن أبي يعفور، قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول لرجل من مواليه: يا فلان، أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي علیهماالسلام ؟ قال: نعم، إنِّي أزوره بين ثلاث سنين مرَّة. فقال له _ وهو مصفرّ الوجه _: أما والله الذي لا إله إلّا هو، لو زرته لكان أفضل لك ممّا أنت فيه. فقال له: جعلت فداك، أكلُّ هذا الفضل؟ فقال: نعم والله، لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته، وبفضل قبره، لتركتم الحج رأساً، وما حجّ منكم أحد، ويحك! أما تعلم أنَّ الله اتخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرماً...»(1).
وهذه الرواية تدلّ بوضوح على ثلاثة أُمور:
الأول: إنَّ الله سبحانه قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً.
ص: 212
الثاني: إنَّه اتخذها كذلك قبل أن يتخذ مكة حرماً آمناً.
الثالث: إنَّ زيارة الإمام الحسين علیه السلام أفضل من الحج، وهو بإطلاقه يشمل الحج الواجب أيضاً.
٢_ ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات أيضاً، بسنده عن أبي سعيد، عن بعض رجاله، عن أبي الجارود، قال: «قال علي بن الحسين علیه السلام ، اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً آمناً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها، رُفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنها إلّا النبيون والمرسلون _ أو قال: أُولو العزم من الرسل _ وأنّها لتُزهر بين رياض الجنة، كما يُزهر الكوكب الدرّيُ بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعاً وهي تنادي: أنا أرض الله المقدّسة الطيبة المباركة، التي تضمنت سيّد الشهداء، وسيّد شباب أهل الجنة»(1).
وهذه الرواية تؤكد مضمون الرواية السابقة وتضيف إليها:
١_ اتخاذ كربلاء حرماً آمناً قبل مكة بأربعة وعشرين ألف عام.
٢_ إذا زلزلت الأرض رُفعت كربلاء بتربتها نورانية صافية.
٣_ جُعلت أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن.
٤_ تُزهر بين رياض الجنة كما يُزهر الكوكب الدُّرّي.
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنَّ الله سبحانه خلق كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام.
فقد روى ابن قولويه في كامل الزيارات عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «خلق الله تعالى كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها، وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدّسة مباركة، ولا تزال كذلك، ويجعلها أفضل أرض في الجنة»(2).
ص: 213
الطائفة الثالثة: ما دلّ على تفضيل كربلاء على أرض الكعبة.
١_ روى ابن قولويه عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إنّ أرض الكعبة قالت: مَن مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري، ويأتيني الناس من كلِّ فج عميق، وجُعلت حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها: أن كفّي وقرّي، فوعزتي وجلالي، ما فضُل ما فُضِّلتِ به، فما أعطيت به أرض كربلاء إلّا بمنزلة الإبرة غُمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضَّلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقرّي واستقرّي وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلّا سخت بك وهويت بك في نار جهنم»(1).
٢_ وروى ابن قولويه بسنده عن صفوان الجمّال، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام ، يقول: «إنَّ الله تبارك وتعالى فضَّل الأرضين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت، ومنها ما بغت، فما من ماء ولا أرض إلّا عُوقبت؛ لتركها التواضع لله، حتى سلَّط الله المشركين على الكعبة، وأرسل إلى زمزم ماءً مالحاً حتى أُفسد طعمه، وإنّ أرض كربلاء، وماء الفرات أوّل أرض وأوّل ماء قدّسهما الله تبارك وتعالى، وبارك الله عليهما، فقال لها: تكلّمي بما فضَّلك الله تعالى، فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض. قالت: أنا أرض الله المقدّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر، بل خاضعة ذليلة ل_مَن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني، بل شكراً لله. فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين علیه السلام وأصحابه.
ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام ، مَن تواضع لله رفعه الله، ومَن تكبر وضعه الله تعالى»(2).
الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّ كربلاء أكرم أرض على الله تعالى.
فقد روى ابن قولويه مرسلاً عن أبي جعفر علیه السلام ، أنّه قال: «الغاضرية هي البقعة التي كلّم الله فيها موسى بن عمران علیه السلام ، وناجى نوحاً فيها، وهي أكرم أرض الله عليه، ولولا
ص: 214
ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه، فزوروا قبورنا بالغاضرية»(1).
الطائفة الخامسة: ما دلّ على جواز الأكل من طين التربة الحسينية.
وقبل ذكر الروايات لا بدَّ من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي: أنّ الدليل قد دلّ على حرمة تناول الطين مطلقاً، ثمّ جاء الدليل على الجواز بالنسبة لطين الحائر الحسيني، وهذا يعني وجود ميزة في تربة كربلاء، وإلّا لما جاز تناول طينتها والاستشفاء بها.
وإليك بعض الروايات:
١_ سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن علیه السلام عن الطين. فقال: «أكلُ الطين حرام مثل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، إلّا طين الحائر؛ فإنَّ فيه شفاء من كلِّ داء، وأمناً من كلِّ خوف»(2).
٢_ عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «لو أنَّ مريضاً من المؤمنين يعرف حقَّ أبي عبد الله علیه السلام وحرمته وولايته، أخذ من طين قبره مثل رأس أنملة كان له دواء»(3).
٣_ روى سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «أكلُ الطين حرام على بني آدم، ما خلا طين قبر الحسين علیه السلام ، مَن أكله من وجع شفاه الله»(4).
الطائفة السادسة: ما دلّ على استحباب السجود على التربة الحسينية.
فقد روى محمد بن الحسن في (المصباح) بإسناده، عن معاوية بن عمار، قال: «كان لأبي عبد الله علیه السلام ، خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله علیه السلام ، فكان إذا حضرته الصلاة صبَّه على سجادته وسجد عليه، ثمّ قال علیه السلام : إنَّ السجود على تربة أبي عبد الله علیه السلام ، يخرق الحجب السبع»(5).
ص: 215
ولم يرد مثل هذا الاستحباب في أيِّ بقعة أُخرى.
ويمكن المناقشة في دلالة الطائفتين الأخيرتين على الأفضلية، بأنَّ جواز التناول، واستحباب السجود عليها، يدلّ على الفضل وعلو المقام في نفسه، ولا يدل على الأفضلية المبحوث عنها.
هذه طوائف ست يمكن أن يُستفاد منها أفضلية كربلاء على غيرها من البقاع، ولعلَّ المتتبع يجد طوائف أُخر تدلّ على المطلوب، اقتصرنا على هذه لحصول الغرض المهم منها.
إلى هنا انتهينا من عرض البقاع المفضَّلة، وعرض رواياتها، وما يمكن الاستدلال به عليها، وقد اتضح أنَّ المهم من هذه البقاع هي (مكة وكربلاء) بعد اتضاح المناقشة في أدلة أفضلية المدينة وعرفات؛ حيث اتضح عدم تمامية الروايات المستدل بها على أفضلية المدينة وعرفات.
ومن الآن نشرع في بيان طرق الجمع بين طوائف تفضيل مكة، وطوائف تفضيل كربلاء، أو معالجة التعارض بينها أو الترجيح.
اتضح ممّا تقدّم أنَّ روايات تفضيل مكة تقع ضمن خمس طوائف حاصلها:
١_ إنَّ البيت أوّل موضع خلقه الله تعالى من الأرض.
٢_ إنَّ مكة أكرم أرضٍ على الله تعالى.
٣_ مكة أفضل البقاع.
٤_ العمل في مكة أفضل منه في سائر البقاع.
٥_ كراهة السكنى في مكة؛ لأنَّه يُقسِّي القلب.
واتضح أنَّ روايات تفضيل كربلاء تقع ضمن ست طوائف حاصلها:
١_ إنَّ الله سبحانه قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً، قبل أن يتخذ مكة حرماً آمناً.
٢_ ما دلّ على أنَّ الله سبحانه قد خلق كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام.
ص: 216
٣_ ما دلّ على تفضيل كربلاء على أرض الكعبة.
٤_ كربلاء أكرم أرض الله تعالى عليه.
٥_ لا يجوز أكل الطين إلّا طين الحائر الحسيني.
٦_ يُستحب السجود على التربة الحسينية.
وهنا تواجهنا الأسئلة التالية:
السؤال الأوّل: كيف يتم التوفيق بين ما دلّ على أنَّ الكعبة _ ثمّ مكة _ أوّل موضع خلقه الله تعالى، ثمّ دُحيت الأرض من تحته، فإنَّه يدلّ بإطلاقه على تقدّم خلقها على أرض كربلاء، وبين ما دلّ على أنّ أرض كربلاء هي أوّل ما خلق الله تعالى، وأنّها أسبق من خلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام؟
السؤال الثاني: كيف يتم التوفيق بين ما دلّ على أنّ الله سبحانه قد اتخذ مكة حرماً آمناً، كما نصت على ذلك الآيات الكريمات، والذي يدلّ بظاهره على أسبقية ذلك لمكة، وبين ما دلّ على أنَّه سبحانه قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً، قبل أن يتخذ مكة حرماً آمناً؟
السؤال الثالث: كيف يتم التوفيق بين ما دلّ على أفضلية مكة المكرّمة على سائر البقاع والتي منها كربلاء، وبين ما دلّ على أفضلية كربلاء على مكة المكرّمة؟
هذه أسئلة ثلاثة رئيسة نحاول فيما يلي الإجابة عنها:
ولا بدّ قبل بيان الجواب من لفت النظر إلى ما ذكره بعض المحققين في هذا المجال:
حيث ذكر محقق كتاب (عوالي اللئالي) السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي قدِّسَ سرُّه، أنَّ الأخبار قد استفاضت في أنّ أرض الكعبة أوّل أرض خُلقت على وجه الماء، ومنها دُحيت الأرض، وبه سُمِّيت أُمّ القرى، ثمّ ذكر بعد ذلك الوجوه المحتملة للجمع بين هذه الأخبار، والأخبار الدالة على أنَّ كربلاء قد خُلقت قبل الكعبة(1).
ص: 217
وما ذكره هذا المحقق الجليل رحمة الله قابل للمناقشة؛ فإنَّ مراجعة الأخبار المذكورة في مظانها يورث الشك في استفاضتها؛ إذ عمدة الأخبار في هذا المجال ما ذكره الشيخ الكليني في الكافي في باب «أنّ أوّل ما خلق الله من الأرضين موضع البيت» (1)، حيث ذكر سبعة أحاديث أغلبها ضعيف السند، قاصر الدلالة، ولو تنزلنا عن ضعف السند، لا نجد غير ثلاثة أحاديث تدلّ على المطلوب، وهذه لوحدها لا تشكل استفاضة كما يدعي السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه.
وعند مراجعة بقية كتب الحديث لا نجد غير ما ذكره الكليني، وبعض الأحاديث المرسلة التي ذكرها الشيخ الصدوق في كتاب مَن لا يحضره الفقيه.
هذا كلّه بلحاظ كتب الخاصّة.
وأمّا كتب العامّة، فقد نُقل هذا المعنى كقول لبعض المفسرين: كابن عباس، ومجاهد، ولم ينسبوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه و آله ، فلم يتحقق كونها رواية فضلاً عن الاستفاضة، وإذا كانت هناك روايات بهذا المعنى، فهي لا تبلغ حد الاستفاضة بكلِّ تأكيد.
وفي هذا الصدد ذكر الطبري في جامع البيان في تفسير قوله تعالى:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»(2) أقوالاً في معناها:
١_ إنَّه أوّل بيت وضع للعبادة.
٢_ إنّه أوّل بيت وضع للناس.
٣_ إنّه خُلق قبل جميع الأرضين، ثمّ دُحيت الأرضون من تحته، ونسب هذا القول إلى مجاهد.
٤_ ما نقله عن السدي أنَّ المراد من (أوّل بيت): «أنّه يوم كانت الأرض ماءً، وكان زبدة على الأرض، فلمّا خلق الله الأرض، خلق البيت معها، فهو أوّل بيت وضع في الأرض»(3).
ص: 218
وأنت تُلاحظ أنَّ الطبري قد ذكر أقوالاً متعددة في المسألة، ومنها: أنَّ الكعبة خُلقت قبل الأرض وقد دُحيت الأرض من تحتها، ونسبه إلى بعض المفسرين، ولم يذكر له شاهداً من الروايات.
وكيف كان، حتى لو اعتبرنا ما نقله الطبري عن ابن عباس ومجاهد، رواية، وضممنا ذلك إلى رواياتنا لم تحصل الاستفاضة التي ادعاها السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه.
وبعد اتضاح هذا الأمر نعود للإجابة عن السؤال، فنقول:
لقد طُرحت ثلاثة أجوبة عن هذا السؤال نذكرها فيما يلي، مع المناقشة إن وجدت، ثمّ نطرح الإجابة المناسبة.
١_ أجاب السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه بإمكان الجمع العرفي بين الطائفتين، وذلك بأن يقال: إنَّ خلق أرض كربلاء متقدِّم على خلق الكعبة، وليس متقدّماً على خلق أرضها(1). هكذا أفاد.
ونحن نضيف إلى ما ذكر مطلباً يؤكد الجمع المذكور، إذ يدلّ عليه من الروايات ما جاء في رواية قد تقدّمت عند عرض روايات تفضيل كربلاء، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام ، قال: «خلق الله تعالى كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام...»؛ فإنّها دلت على تقدّم خلق كربلاء على خلق الكعبة، ولكنّها لا تدلّ على تقدّم خلق كربلاء على أرض الكعبة، فمن هذه الناحية الرواية ساكتة، وحيث إنَّ روايات تقدّم خلق الكعبة قد دلت على تقدّم خلق أرضها على سائر الأرضين، كما في مرسلة الصدوق المتقدّمة: «فأوّل بقعة خُلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مُدّت الأرض منها» أمكن الجمع المذكور؛ فيكون تقدّم خلق كربلاء على جسم الكعبة هو مقتضى روايات تقدّم كربلاء، بينما تقدّم أرض الكعبة على خلق كربلاء هو مقتضى روايات تقدّم الكعبة.
ص: 219
هذا أقصى ما يمكن أن يقال في الجواب الأوّل، الذي طرحه هذا المحقق مع المؤيدات، والشواهد من الروايات.
ولكنَّه مع ذلك لا يمكن قبوله لمناقشتين:
المناقشة الأُولى: إنّ التفصيل بين (أرض الكعبة) و(الكعبة) نفسها، فيقال: إنّ خلق أرض الكعبة متقدّم على خلق نفس الكعبة، وهذا يبتني على إعمال الدّقة غير العرفية في فهم النصوص والروايات، وهو أمر مرفوض كما قُرر في علم الأُصول، إذ الروايات إنّما أُلقيت على المخاطبين العرفيين، فلا بدّ من فهمها على طبق ما يفهمه الإنسان العرفي؛ ومن هنا نقول: إذا سمع الإنسان العرفي الرواية المتقدّمة القائلة: «فأوّل بقعة خُلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مُدّت الأرض منها». يفهم أنّ الكعبة قد خُلقت قبل سائر بقاع الأرض، هي والبقعة التي بُنيت عليها، ولا يُفهم التفصيل بين جسمها وأرضها.
إنّ هذا الفهم ليس فهماً عرفياً، لاسيِّما وأنّ الرواية قد أطلقت لفظة البقعة على الكعبة.
ولو أردنا مجاراة السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه في الدّقة المذكورة، يلزم أن نحكم بتقدّم خلق (کربلاء) بذاتها دون أرضها؛ لأنَّ الرواية المتقدّمة قد ذكرت خلق كربلاء دون أن تذكر أرضها، فلم تقل: خلق الله تعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة، وإنّما قالت: خلق الله تعالى كربلاء، وهذا شيء لا يمكن قبوله.
المناقشة الثانية: لو تنزلنا عن الإجابة المتقدّمة إلّا أننا نقول: إنَّ هذا الجمع مخالف لصريح بعض الروايات، من قبيل ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده، عن أبي سعيد، عن بعض رجاله، عن أبي الجارود، قال: قال علي بن الحسين علیه السلام : «اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً، قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام». فإنّها قد صرّحت بأنَّ تقدّم كربلاء كان على أرض الكعبة أيضاً، لا على الكعبة فقط.
ص: 220
ومع هاتين المناقشتين لا يمكن قبول الجمع المذكور.
٢_ أجاب السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه نفسه، بجواب آخر حاصله:
إنَّ كلمة (الخلق) بلحاظ تقدّم خلق كربلاء يمكن حملها على معنى (التقدير) لا (الإيجاد)، بينما كلمة (الخلق) بلحاظ خلق الكعبة، تكون بمعنى الإيجاد؛ فيكون المراد أنَّ كربلاء أسبق من الكعبة تقديراً، بينما الكعبة أسبق من كربلاء وجوداً، ويتمُّ بذلك التوفيق بين الطائفتين من الروايات.
وإذا قلت: إنَّ تفسير (الخلق) بمعنى (التقدير) يحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة. قلت: صحيح، أنَّ لفظ الخلق يُطلق على معانٍ متعددة، ولكن أشهرها في الآيات والروايات، هو التقدير، ومن ذلك قوله تعالى: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ »(1)؛ ومعه تكون هذه الشهرة قرينة صالحة لتفسير الخلق بالتقدير(2).
هذا أقصى ما يمكن أن يُقرّب به الجمع المذكور.
وهذا الجمع يواجه مناقشتين هما:
المناقشة الأُولى: إنّ شهرة المعنى لا تصلح للقرينة على حمل اللفظ على المعنى المشهور، ما لم تشكِّل الشهرة المذكورة ظهوراً في المعنى، أو انصرافاً إليه، ونحن عندما نقرأ الروايات المتقدّمة لا نشعر بهذا الظهور، أو بهذا الانصراف؛ ومعه نبقى بحاجة إلى قرينة إثباتية وإلّا يبقى الجمع المذكور جمعاً تبرعياً يفتقر إلى الشاهد.
وإذا قلت: إننا صرنا إلى هذا الجمع؛ لأنّنا بحاجة إليه، لدفع التنافي بين الروايات.
قلت: دفع التنافي لا يبرّر الجمع المذكور، وإنّما يندفع التنافي بما يُقرر العرف من الفهم، فيكون العرف هو القرينة الدافعة للتنافي، وإلّا فيبقى التنافي على حاله، ويُصار حينئذٍ إلى مقتضيات قواعد التعارض حسبما هو مقرّر في علم الأُصول.
إذاً؛ شهرة المعنى لوحدها لا تكفي للقرينية، ما لم تشكل ظهوراً في الكلام، أو انصرافاً.
المناقشة الثانية: لو تنزلنا وقلنا: إنَّ الشهرة في المعنى تصلح للقرينية على حمل الخلق
ص: 221
على التقدير، نقول: إنَّها _ حسب الفرض _ قاضية بحمل لفظ الخلق على التقدير في الموردين، أي: كما نحمل لفظ الخلق على معنى التقدير في روايات تقدّم كربلاء، كذلك نحمل لفظ الخلق على معنى التقدير في روايات تقدّم الكعبة، ولا معنى لتخصيص القرينة بمورد دون آخر، فإنّه ترجيح بلا مرجح، كما هو واضح.
٣_ جواب المحدّث الكاشاني في الوافي، نسبه إليه السيّد المرعشي قدِّسَ سرُّه وحاصله:
إنّنا بإمكاننا أن نحمل القبلية الواردة في روايات تقدّم كربلاء، على القبلية بالشرف، ونحمل الأعوام الواردة فيها على الدرجات؛ فيكون المعنى أنَّ كربلاء متقدّمةٌ على الكعبة بالشرف، وتفضلها بأربعة وعشرين ألف درجة، من درجات الشرف والفضيلة(1).
وهذا الجواب لا يخلو من مناقشة واضحة؛ إذ هو مخالف لظاهر الروايات، فيحتاج إلى قرينة صارفة للظاهر، وهي مفقودة.
هذه ثلاث محاولات لرفع التنافي بين الطائفتين، عثرت عليها عند مراجعة كلمات الأعلام، وقد اتضح ممّا تقدّم المناقشة فيها جميعاً.
٤_ الجواب الذي يخطر في البال، حيث يمكننا أن نتعامل مع الطائفتين تعامل المطلق والمقيد، فنجمع بينهما جمعاً عرفياً من خلال حمل المطلق على المقيد، أو تعامل الظاهر والصريح.
وتوضيحه: إنَّ الروايات الدالة على تقدّم خلق الكعبة على سائر الأرض تدلّ على تقدّم خلقها على كربلاء بالإطلاق؛ إذ يُفهم منها أنَّ الكعبة قد خُلقت قبل المدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والبصرة، وكربلاء، وهكذا، فهي _ إذن _ تدلّ على الأسبقية بالإطلاق، بينما الروايات الدالة على تقدّم خلق كربلاء على الكعبة، دلالتها على التقدّم دلالة مقيدة، فهي لم تقل: خلق الله تعالى كربلاء قبل خلق سائر البقاع. وإنّما قيّدت القبلية بالكعبة، فقالت: خلق الله تعالى كربلاء قبل الكعبة، أو قبل أرض الكعبة. وهذا المعنى _ بحسب الفهم العرفي _ أضيق دائرة من الروايات الدالة على تقدّم الكعبة؛ فنحمل إطلاق تلك الروايات على هذه الروايات المقيّدة، وتكون النتيجة: خلق الله
ص: 222
تعالى الكعبة قبل خلق سائر الأرض إلّا كربلاء، فإنّها أسبق من الكعبة.
أو نقول: إنَّ دلالة روايات تقدّم الكعبة على أسبقيتها من كربلاء بالظهور، بينما دلالة تقدّم كربلاء على الكعبة صريحة، ومقتضى الجمع العرفي بينها حمل الظاهر لصالح الصريح.
وهذه النتيجة التي حصلنا عليها لا تتنافى مع قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»(1)؛ لأنَّ المراد منه، أوّل بيت وضع لعبادة الله تعالى على الأرض، ولم يثبت كون المراد منه أوّل بيت خلقه الله تعالى من الأرض، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
إلى هنا انتهينا من الإجابة عن السؤال الأوّل.
تقدّم منَّا عرض الآيات الكريمة الدالة على أنَّ الله سبحانه قد اتخذ مكة حرماً آمناً، وعند التأمل فيها يتضح أنّها لا تنفي أنّه سبحانه قد اتخذ بلداً آخر حرماً آمناً، إلّا بناءً على ثبوت المفهوم للوصف، وقد تقرّر في علم الأُصول عدم ثبوته؛ ومعه فالآيات لا تدلّ على أنَّ الله سبحانه قد اتخذ مكة حرماً آمناً فقط، ولم يتخذ غيرها، وبهذا تسلم روايات كربلاء الدالة على أنَّ الله سبحانه قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً، قبل أن يتخذ مكة حرماً آمناً من المعارضة والمنافاة؛ وتكون النتيجة: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد اتخذ كربلاء حرماً آمناً، قبل أن يتخذ مكة حرماً آمناً بأربعة وعشرين ألف عام.
من خلال الإجابة عن السؤال الأوّل يمكننا أن نُجيب عن هذا السؤال وبنفس الطريقة التي سلكناها هناك، فنقول: إنَّ النصوص الدالة على أفضلية مكة، تدلّ على أفضليتها على سائر البقاع، ومنها كربلاء بالإطلاق، بينما روايات أفضلية كربلاء،
ص: 223
تدلّ على أفضليتها على مكة صريحاً، حيث صرّحت بأفضليتها على مكة، وبتطبيق قاعدة الجمع العرفي القائلة بلزوم حمل المطلق على المقيد، أو الظاهر على الصريح، نحمل نصوص أفضلية مكة المطلقة، على روايات أفضلية كربلاء المقيدة؛ وتصير النتيجة: مكة أفضل من سائر البقاع إلّا كربلاء؛ فإنّها أفضل منها.
هكذا ينبغي أن تكون النتيجة حسبما تقتضيه قواعد الجمع العرفي.
ولكن هذا كلّه يتم بناءً على تمامية أسانيد روايات تفضيل كربلاء، وهي لا تتم إلّا بناءً على أحد أمرين:
الأوّل: تمامية كبرى وثاقة كلّ مَن جاء في أسانيد كامل الزيارات.
الثاني: البناء على وثاقة بعض مَن ورد اسمه في الأسانيد، من قَبيل (محمد بن سنان)، حيث قد اختلفت كلمات أعلام الرجال في وثاقته وعدمها، والصحيح لدينا وثاقته واعتبار رواياته، وقد أثبتنا ذلك في محلّه، بل هو معتمد لدى جملة من المتأخرين أيضاً(1).
فإذا بنينا على تمامية كلا الأمرين أو أحدهما أمكن المصير إلى النتيجة المتقدّمة، والتي حاصلها: أفضلية كربلاء على مكة المكرّمة، وأمّا إذا لم نبن على شيء من ذلك فلا يمكن المصير إليه؛ لأنَّ روايات تفضيل مكة بعضها تام السند بلا إشكال، يُضاف إلى ذلك أنّها مدعومة بدلالة الكتاب العزيز المحتملة على أفضليتها، وقد تقدّم منّا عرض الآيات وتقريب دلالتها.
والحاصل: دلالة الآيات والروايات على تفضيل مكة تامّة من حيث السند والدلالة، ولكن الخروج عن هذا الأصل اللفظي لا يكون إلّا بحجة؛ وحيث إنّ روايات كربلاء تتوقف تماميتها على تمامية أسانيدها، لا يمكننا المصير إلى تفضيل كربلاء، ما لم يتم لدينا أحد المبنيين الرجاليين المتقدّمين.
وفي الختام نود الإشارة إلى بعض الملاحظات:
١_ لم نتعرّض إلى كيفية التعامل مع باقي الطوائف التي ذكرناها عند عرضنا
ص: 224
لروايات تفضيل مكة، وروايات تفضيل كربلاء، واقتصرنا على الطوائف الثلاث الأُول، وذلك؛ لأنَّ المهم منها هو ما ذكرناه، وأمّا بقية الطوائف، فهي تصلح للتأييد والتأكيد ليس إلّا.
٢_ ذكرنا فيما تقدّم أنّ هناك بقاعاً في ضمن مكة، دلت بعض الروايات على أنّها أفضل البقاع، فما هو الموقف منها؟
والجواب: يمكننا أن نتعامل معها كما تعاملنا مع روايات تفضيل مكة، حيث يمكن أن نجمع بينها وبين روايات تفضيل كربلاء، بالإطلاق والتقييد، أو الظاهر والصريح، بعد الالتفات إلى قضية مهمة، وهي أنّ الركن اليماني جزء من الكعبة، وكذا الحطيم قبل أن يتم فصل المقام عن جدار الكعبة؛ فإنّه كان جزءاً من الكعبة أيضاً، وإذا ثبت تفضيل كربلاء على الكعبة، وسائر مكة، يتم تفضيلها على المكانين المذكورين.
٣_ قد تسأل: إنَّ المبحوث عنه هو تفضيل كربلاء كبلد، على مكة البلد أيضاً، وليس الكلام في تفضيل كربلاء، على خصوص الكعبة، أو نحو ذلك؟
والجواب: إذا ثبت تفضيل كربلاء على الكعبة، يثبت التفضيل على مكة (البلد) بالأولوية.
وإذا قلت: لم تستطع أن تثبت تفضيل كربلاء على الكعبة، حتى بناءً على تمامية أسانيد روايات كربلاء، وإنّما أقصى ما تثبته، تقدّم خلق كربلاء على خلق الكعبة.
قلت: تقدّم منّا سابقاً تقريب دلالة الأسبقية على الأفضلية والأشرفية، حيث ذكرنا قرينتين يُستفاد منهما أنّ الأسبقية في الخلق، تستلزم الأفضلية والأشرفية، فراجع.
ص: 225
ص: 226
أ.م. ميّاسة مهدي شبع(1)
يُعدّ البحث في موضوع الشعائر الحسينيّة من البحوث المهمّة والحسّاسة والفاعلة في زماننا الحاضر؛ لما نراه اليوم من توجّه وحضور شعبي واسع ولافت نحو إحياء شعائر ومراسم النهضة الحسينيّة الخالدة، وقد أضحت طقوساً مليونيّة يتابعها ويراقبها العالم بأسره، ولا شكّ في أنّ أُسس وقواعد تلك الشعائر المباركة هي الآيات القرآنية والتوجيهات والروايات الصادرة عن أهل بيت النبوة علیهم السلام ، والتي لا يتحرّك أتباع أهل البيت علیهم السلام ولا يسيرون إلّا بهديها، ولا يتمسّكون إلّا بحبلها؛ ولذا سننطلق في هذا البحث مستهدين بالثقلين (الكتاب والعترة علیهم السلام )؛ لنرى مكانة الشعائر الحسينيّة في مضامين النصوص المباركة.
ونبتدئ البحث بقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم:«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ »(2). الحرمات في اللغة: جمع حُرْمة، وهي ما لا يَحلُّ انتهاكه من ذمّة، أو حقٍّ، أو صحبة، أَو نحو ذلك. وقوله تعالى:«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ» أي: ما وجب القيام به، وحرُم التفريط به(3).
ص: 227
ولمّا نستقرئ النصوص الشرعيّة نجد أنّها قد ذكرت مصاديق متعدّدة للحرمات، نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:
قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ »(1). والأشهر الحرم الأربعة هي: (ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب)(2) بالنقل القطعي... وإنّما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حُرماً؛ ليكفّ الناس فيها عن القتال، وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الأُهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربّهم بالطاعات والقربات(3).
من الحرمات المكانيّة التي نصّ عليها القرآن الكريم هو بيت الله الحرام، قال تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ»(4)، ولقدسية هذا المكان وعظمته جُعل المسجد الذي فيه البيت الحرام مسجداً حراماً أيضاً، قال تعالى:«وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ »(5)، بل شملت الحرمة أيضاً البلد الذي احتضن البيت الحرام، قال تعالى: «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ »(6)، قال الشيخ الطبرسي _ معقباً على قوله تعالى: «الَّذِي حَرَّمَهَا» _: أي جعلها حرماً آمنا يحرم فيها ما يحلُّ في غيرها، لا ينفر صيدها، ولا يُختلى خلالها، ولا يُقتصّ فيها(7).
ص: 228
بدلالة اسم الإشارة (ذلك) في الآية _ محل البحث _: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ »، أي: الأمر ذلك، أي: الذي شرّعناه لإبراهيم علیه السلام ومن بعده من نُسك الحجّ، هو ذلك الذي ذكرناه وأشرنا إليه من الإحرام، والطواف، والصلاة، والتضحية بالإخلاص لله، والتجنب عن الشرك(1).
وحينما نراجع الآيات التي تسبق هذه الآية نجدها تتحدّث عن مناسك الحجّ، قال تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ *ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»(2)
ومن المعلوم أنّ مناسك الحجّ وشعائره تسمّى شعائر الله، قال تعالى: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ »(3)، وقال أيضاً: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ »(4)؛ فلذا صحّ أن نُطلق على هذا النوع من الحرمات بالحرمات الشعائرية.
تُثبت النصوص الشرعية حرمةً ومكانةً خاصّة للإنسان، فالله تعالى خلق الإنسان وكرّمه وفضّله على سائر المخلوقات، ولكن ليس المراد ثبوت تلك الحرمة والكرامة لمطلق البشر؛ لأنّ هناك أفراداً لا حرمة لهم، كالمرتدّ وغيره من الضُلّال، فهم بتعبير القرآن الكريم: «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا »(5)، ولكن في قبال ذلك ثبتت
ص: 229
الحرمة والكرامة الخاصّة لبعض البشر، فالمسلم مثلاً بصورة عامّة له تلك الحرمة، قال رسول الله صلّى الله عليه و آله : «المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه»(1).
وتنصّ المصادر الإسلامية أيضاً على أنّ حرمة المؤمن من أعظم الحرمات، أي: أعظم من الحرمات الزمانيّة والمكانيّة والشعائريّة، فقد جاء في مصادر أهل العامّة من المسلمين ما يتضمّن بياناً واضحاً للحرمة المذكورة، من ذلك ما رُوي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ: أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ أَعْظَمَ حُرْمَةً؟ قَالَ: قُلْنَا: يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالَ: قُلْنَا: شَهْرُنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»(2).
ورُوي أيضاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله نظر إلى الكعبة فقال: «مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله؟! والله، لَلمؤمن أعظم حرمةً منك»(3).
من هذا المنطلق _ وفي ضوء تلك الحرمة العظيمة والمنزلة الرفيعة _ حذَّر النبي الأكرم صلّى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار علیهم السلام من إلحاق أيّ أذى بالمؤمن، فعن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: «مَن آذى مؤمناً فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن آذى الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(4).
وبطبيعة الحال كلّما ازداد المؤمن إيماناً وارتقى في درجات إيمانه كلّما عظمت حرمته ومنزلته؛ ولذا كان أعظم البشر حرمةً عند الله تعالى هم محمد صلّى الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ، وقد ورد التصريح بهذه الحقيقة في الأخبار المتواترة من طُرق الفريقين، نذكر منها على سبيل الاستشهاد ما جاء في مصادر الخاصّة عن أبي عبد الله علیه السلام قال:
ص: 230
«لله (عزّ وجلّ) في بلاده خمس حرم: حرمة رسول الله صلّى الله عليه و آله ، وحرمة آل رسول الله (صلّى الله عليهم)، وحرمة كتاب الله (عزّ و جلّ)، وحرمة كعبة الله، وحرمة المؤمن»(1).
وفي هذا الضوء وبما أنّ الحسين علیه السلام من أعاظم أهل البيت الطاهرين المطهَّرين، بل تؤكّد المصادر الإسلامية والنصوص الدينيّة المتضافرة على أنّ للحسين علیه السلام خصوصية في ذلك البيت المبارك، في ضوء ذلك كلّه جاءت الروايات الشريفة المتواترة لتؤكّد على المنزلة والحرمة الخاصّة للإمام الحسين علیه السلام التي استُحلّت واستُبيحت يوم عاشوراء، ومن تلك الروايات ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في زيارته للحسين بن علي علیه السلام ؛ حيث يقول: «لَعَنَ اللهُ أُمَّةً اسْتَحَلَّتْ مِنْكَ الَمحارِمَ وانْتَهَكَتْ فِيكَ حُرمَةَ الإسلامِ...»(2).
وحصيلة ما نفهمه بعد ذكر مصاديق الحرمات: أنّ الله تعالى يأمرنا بأن نُعظّم تلك الحرمات جميعاً؛ فيكون المعنى المفهوم والمستخلص من الآية المباركة شاملاً لكلّ هذه المعاني:
(ذلك ومَن يعظّم الأشهر الحرم فهو خيرٌ له عند ربّه)، وأيضاً: (ذلك ومَن يعظّم الكعبة والمسجد الحرام فهو خيرٌ له عند ربّه)، وكذا: (ذلك ومَن يعظّم شعائر الله فهو خيرٌ له عند ربّه). وبما أنّ أعظم الحرمات عند الله تعالى هم محمد صلّى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار علیهم السلام ؛ فيكون المعنى المستخلص من الآية أيضاً: (ذلك ومَن يعظّم محمداً وآل محمد فهو خيرٌ له عند ربّه)(3).
وعظّم الشيء في اللغة(4) بمعنى: كبَّره، فخَّمه، بجَّله، وقَّره، احترمه وأجلَّه.
ص: 231
ومن الواضح أنّ تعظيم الشعائر الإلهية يتفاوت بحسب نوع الشعيرة التي يرتبط بها التعظيم، فإن كانت الشعيرة هي البُدن فتعظيمها استسمانها، وإن كانت هي دين الله تعالى فتعظيمها الالتزام بها، وإن كانت هي مناسك الحجّ فتعظيمها بأداء الأعمال المرتبطة بها، كالسعي والطواف، وهكذا بالنسبة إلى سائر الشعائر الإلهية.
والسؤال المطروح في المقام هو: كيف يمكننا أن نُعظّم أهل البيت علیهم السلام ؛ كي ننال بذلك الخير والبركة ورضى الله تعالى؟
وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل المهم نقول بنحو الإيجاز: إنّ تعظيم مقام أهل البيت علیهم السلام يستطيع الفرد المؤمن أن يحقّقه من خلال ممارسة جملة من الأُمور، نذكر منها ما يلي:
لقد تضافرت الأحاديث من طرق أهل البيت علیهم السلام بوجوب إحياء أمرهم، لكن يبقى التساؤل عن كيفيّة الإحياء وآلياته، فكيف يمكننا أن نُحيي أمرهم؟ وقد أجاب الإمام الرضا علیه السلام حينما سُئل عن ذلك، فقال: «رحم الله عبداً أحيى أمرنا. فقيل: وكيف يُحيى أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا معالم ديننا لاتّبعونا»(1). ويُعدّ هذا جانباً مهمّاً من جوانب إحياء أمرهم علیهم السلام ، وهناك جوانب أُخرى أيضاً سيأتي الإلماح لها لاحقاً.
ويتحقّق ذلك بالسير على نهجهم ومتابعتهم في أقوالهم وأفعالهم، وسلوكهم وأخلاقهم، وعقائدهم وآدابهم. قال رسول الله صلّى الله عليه و آله : «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(2).
ص: 232
وهو من كمال العهد والوفاء لهم علیهم السلام ، كما رُوي ذلك عن الإمام الرضا علیه السلام ، أنّه قال: «إنّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام العهد زيارة قبورهم، فمَن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة»(1).
وقد ورد النصّ على ذلك في قول الإمام الصادق علیه السلام : «شيعتنا خُلقوا من فاضل طينتنا، عُجنوا بماء ولايتنا، يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا»(2).
إذاً _ ومن خلال النصوص الشرعية وأحاديث أهل البيت علیهم السلام _ نستنتج الاهتمام والتركيز على إحياء جانبين مهمّين، وهما:
أ) الجانب المعرفي بإلقاء المحاضرات الدينيّة لتوعية أتباع أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم.
ب) الجانب العاطفي عن طريق البكاء والنحيب واللطم ولبس السواد، بل حتى الضرب بالسلاسل وإقامة مراسم الشبيه و... وإحياء كلّ رمز وشعيرة تعبِّر عن الحزن العميق على ما جرى من المآسي والمحن والمصائب على أئمّة أهل البيت علیهم السلام وذراريهم.
ونحاول فيما يلي تركيز البحث حول الشعائر الحسينيّة؛ لكونها تشكّل المعلم الأبرز لحديثنا في هذا المقال، ولكي نمارس هذه الشعائر المباركة بعقيدة راسخة وقناعة ثابتة لا تزعزعها الرياح الهوجاء من أعداء مذهب أهل البيت علیهم السلام ، الذين دأبوا على بثِّ سموم الشبهات والترهات في أذهان عامّة الناس والمستضعفين منهم، ليحرفوهم عن الصراط المستقيم؛ فينبغي ترسيخ هذه الشعائر في أنفسنا عن علم ومعرفة، وعن طريق الاطّلاع على الأدلّة التي تثبت مشروعيتها واستحبابها في الشريعة الإسلامية. وفي هذا الضوء نستعرض بعض تلك الأدلّة بنحو الإيجاز والاختصار:
ص: 233
لقد تعرّض علماء مذهب أهل البيت علیهم السلام ومنذ القدم لذكر البراهين والأدلّة على مشروعيّة الشعائر الحسينيّة، وقد احتشدت في هذا المجال طوائف كثيرة ورصينة من تلك الأدلّة، كلّها تُثبت وبوضوح استحباب ومطلوبيّة تلك الشعائر الإلهية، ونحاول فيما يلي أن نُشير بنحو الإجمال إلى بعضها:
حينما نقف على مضامين الآيات القرآنية، نجد أنّ جملة وافرة منها قد أشارت وبوضوح إلى استحباب إحياء تلك الشعائر.. وسوف نمرّ على بعض هذه الآيات المباركة مع الإشارة إجمالاً إلى وجه الاستدلال بها في المقام:
الآية محل البحث، وهي قوله تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ»(1)، فحينما استعرضنا مضمونها أثبتنا بأنّ أهل البيت علیهم السلام هم من أعظم الحرُمات التي يلزمنا تعظيمها وتوقيرها.
وكذا قوله تعالى:«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(2)، فهو صريح في الحثّ على تعظيم وتوقير الشعائر الإلهية، ولا شكّ في أنّ الشعائر الحسينيّة من مصاديق شعائر الله تعالى؛ لأنّ إعلاء كلمة الحسين علیه السلام وتوقيره وتعظيمه إعلاءٌ لكلمة الله (عزّ وجلّ)، وتعظيمٌ لشعائره الدينيّة.
وأيضاً ما جاء في آية المودّة، وهو قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(3).
إذ من الواضح أنّ تعظيم الشعائر الحسينيّة، والفرح لفرح أهل البيت علیهم السلام ، والحزن لحزنهم من أبرز مظاهر ومعالم المودّة لقربى النبي الأكرم صلّى الله عليه و آله .
ص: 234
عرّف العلماءُ السنّةَ الشريفة: بأنّها قول المعصوم وفعله وتقريره(1). فتارة تُستنبط الأحكام الشرعيّة من قول المعصوم: هذا حلالٌ، أو هذا حرامٌ. ويُستفاد الحكم الشرعي تارة أُخرى من فعله وممارسته العمليّة، فمثلاً: لم يصلنا عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله الإخبار قولاً بجواز طواف الحاجّ حول الكعبة راكباً، ولكنّ الفقهاء استنبطوا ذلك حينما بلغهم أنّه صلّى الله عليه و آله كان يطوف حول الكعبة على ناقته، وأمّا تقرير المعصوم: فهو كلّ ما ثبت سكوته أو رضاه عن بعض الأعمال التي يمارسها المسلمون أمامه وبمرأى منه.
والآن لنأتي إلى استعراض الشعائر الحسينيّة، ونُبيّن أدلّتها الشرعية من السنّة الشريفة:
إنّ الأدلّة من السنّة المباركة على استحباب البكاء على مصائب أهل البيت علیهم السلام والحثّ عليه متنوّعة وكثيرة جداً، وقد أثبتت الثواب العظيم والمنقلب الكريم للباكي على مصائبهم علیهم السلام ، نذكر منها على سبيل المثال:
ما رُوي عن الإمام الرضا علیه السلام ، أنّه قال: «... مَن تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2).
وكذا ما رُوي عن مولانا الإمام الباقر علیه السلام ، قال: «مَن دمعت عيناه فينا دمعةً لدمٍ سُفك لنا، أو حقٍّ لنا نُقصناه، أو عرض انتُهك لنا، أو لأحدٍ من شيعتنا، بوّأه الله بها في الجنّة حقباً»(3).
مضافاً إلى ما ثبت من استحباب البكاء بأفعال وممارسات المعصومين، وأوّلهم نبي الرحمة محمد صلّى الله عليه و آله ؛ حيث بكى الحسين علیه السلام منذ ولادته، وقد بكاه في الأمكنة والأزمنة
ص: 235
المختلفة، والنصوص الدينيّة في هذا المجال كثيرة جداً، ومتضافرة في كتب الفريقين، وبكى أباه أيضاً الإمامُ زين العابدين علیه السلام حتى عُدّ من البكّائين الخمسة، وقد لامه الناس وخافوا عليه من كثرة البكاء، فما قُدّم له طعام أو شراب إلّا ومزجه بدموع عينيه المباركتين.
وممَّا يُثبت استحباب البكاء أيضاً تقريرهم وإمضاؤهم لبكاء الآخرين؛ حيث تفاعلوا مع بكاء مَن بكى على الإمام الحسين علیه السلام .
وهو من الشعائر التي ثبتت مشروعيّتُها بأقوال المعصومين وأفعالهم وإمضاءاتهم، كما يشهد على ذلك مجموعة من النصوص والروايات، وقد أفتى الفقهاء في ضوء ذلك بشعائرية لبس السواد واستحبابه.
يقول الشيخ نجم الدين الطبسي: «ذهب جماعة كثيرة من علمائنا الأعلام وفقهائنا الكرام إلى استحباب لبس السواد في مأتم مولانا الحسين علیه السلام _ قولاً وفعلاً _ كالفقيه المحدِّث البحراني في الحدائق، والدربندي في الأسرار، والسيّد إسماعيل العقيلي النوري في وسيلة المعاد في شرح نجاة العباد، والمحدِّث النوري في المستدرك، والشيخ زين العابدين المازندراني في ذخيرة المعاد، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في حاشيته على العروة، والشيخ محمد على النخجواني في الدعوات الحسينيّة، والسيّد حسن الصدر في تبيين الرشاد في لبس السواد على الأئمّة الأمجاد، والشيخ أبو الفضل الطهراني في شفاء الصدر، وقد كان بعض الفقهاء يلبس السواد طيلة هذين الشهرين، كالفقيه السيّد حسين القمّي والسيّد الحكيم وغيرهما... ويؤيّده ما أورده البرقي: عن عمر بن زين العابدين، أنّه قال: لمّا قُتل جدّي الحسين علیه السلام لبس نساء بنى هاشم في مأتمه السواد والمسوح، وكنَّ لا يشتكينَ من حرٍّ ولا بردٍ، وكان علي بن الحسين يعمل لهنَّ الطعام... إذ من المستبعد عدم اطّلاع الإمام على اتفاقهن على لبس السواد ولم يمنعهن؛ فهو تقريرٌ منه علیه السلام »(1).
ص: 236
وأمّا بالنسبة إلى النصوص التي قد يظهر منها كراهة لبس السواد عموماً، فيقول المحقّق البحراني بصددها: «لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين علیه السلام من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان»(1).
كما يقول السبزواري بهذا الصدد أيضاً: «أقول: في بعض التواريخ أنّ لبس السواد كان حداداً لقتل آل محمد من الحسين بن علي علیه السلام ، وزيد، ويحيى، بل يظهر من بعضها أنّ الشيعة في تلك الأزمنة كانوا كذلك. وعلى هذا؛ يمكن القول: بأنّ ما ورد كراهة لبس السواد لم يرد لبيان حكم الله الواقعي، بل ورد لبعض المصالح، كبيان أنّ حداد لبس السواد بين بني هاشم والشيعة لم يكن بتسبب من الأئمّة علیهم السلام حتّى يصير ذلك منشأ للظلم والجور من الأعداء عليهم، ويشهد لما قلناه خبر الرقيّ، قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله علیه السلام عن لبس السواد. قال: فوجدناه قاعداً عليه جبّة سوداء وقلنسوة سوداء، وخفّ أسود مبطّن بسواد، ثمَّ فتق ناحية منه وقال: أما إنّ قطنه أسود. وأخرج منه قطناً أسود، ثمَّ قال: بيّض قلبك والبس ما شئت»(2).
وقد أورد بعض المحقّقين أدلّة وشواهد كثيرة في هذا المجال يطول المقام بذكرها.
لا شكّ في أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله هو أوّل مَن أقام مجلس العزاء والرثاء على ابنه الحسين علیه السلام قبل استشهاده، كما دلّ على ذلك الأحاديث المتواترة من طرق الفريقين، وقد أعقب ذلك المجالس المتنوِّعة والمختلفة التي أقامها الصحابة والأئمّة المعصومون علیهم السلام ، كما أنّ الأئمّة قد حثّوا شيعتهم على إقامة مثل تلك المجالس، فمن ذلك ما رُوي عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «تجلسون وتتحدَّثون؟ قال: قلت: جُعلت فداك، نعم. قال: إنّ تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، إنّه مَن ذكرنا وذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة؛ غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).
ص: 237
ورُوي عن أبي هارون المكفوف أنّه قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام : يا أبا هارون... مَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فبكى وأبكى واحداً، كُتبت لهما الجنّة...»(1).
وفي حديث الأربعمائة مدح أمير المؤمنين علیه السلام الشيعة قائلاً: «يحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا؛ أولئك منّا وإلينا»(2). والنصوص في هذا المجال متضافرة لا داعي لاستعراضها، لاحظ في هذا المجال كتب الحديث المختصّة بذلك.
هناك مجموعة من النصوص والروايات قد دلّت بوضوح على شعائريّة واستحباب اللطم وشقّ الجيوب؛ حزناً على مصيبة سيد الشهداء، فمن تلك النصوص ما جاء في زيارة الناحية المقدّسة المروية عن الإمام الحجّة عجل الله تعالی فرجه الشریف من فعل الفواطم؛ حيث قال: «فبرزنَ من الخدور، ناشرات الشعور، لاطمات الخدود»(3). وهذا الفعل كان بمرأى المعصوم _ الإمام زين العابدين علیه السلام _ ولم يصدر منه نهيٌ أو اعتراض، بل تفاعل مع هذا الحدث، وهذا يُعدُّ إمضاء منه علیه السلام ، مضافاً إلى أنّ نقل الإمام المعصوم لذلك يكشف عن المقبوليّة، بل يكشف عن الاستحباب والمطلوبية.
ومن ذلك أيضاً ما رُوي عن الإمام الصادق علیه السلام ، أنّه قال: «لقد شققنَ الجيوب، ولطمنَ الخدود الفاطميات على الحسين بن علي علیهماالسلام ، وعلى مثله تُلطم الخدود، وتُشقّ الجيوب»(4).
ومن ذلك أيضاً ما رواه الإربلي في كشف الغمّة، قال: «خرج أبو محمد [العسكري] في جنازة أبي الحسن [الهادي] وقميصه مشقوق، فكتب إليه ابن عون: مَن رأيت أو بلغك من الأئمّة شقّ ثوبه في مثل هذا؟! فكتب إليه أبو محمد [العسكري]: يا أحمق، وما
ص: 238
يدريك ما هذا؟! قد شقّ موسى على هارون»(1).
يُروى أنّ شاعر أهل البيت، الكميت بن زيد الأسدي _ صاحب ديوان الهاشميات _ قال: «دخلت على أبي عبد الله الصادق علیه السلام يوم عاشوراء، فأنشدته قصيدةً في جدّه الحسين علیه السلام ، فبكى وبكى الحاضرون، وكان قد ضرب ستراً في المجلس وأجلس خلفه الفاطميات، فبينما أنا أُنشد والإمام يبكي إذ خرجت جارية من وراء الستار، وعلى يدها طفلٌ رضيع مقمّط حتى وضعته في حجر الإمام الصادق علیه السلام ، فلمّا نظر الإمام إلى ذلك الطفل اشتدّ بكاؤه وعلا نحيبه»(2).
وما يقصد من ذلك العمل إلّا تمثيل طفل الحسين علیه السلام ، الذي ذُبح على صدر أبيه بسهم حرملة بن كاهل الأسدي في يوم العاشر من المحرّم، وهو عبد الله الرضيع.
يمكننا الاستدلال أيضاً على مشروعيّة الشعائر الحسينيّة بأشكالها المنظورة، وحتى التي لم نجد لها تفصيلاً في الكتاب والسنّة _ كضرب السلاسل وغيرها _ بالأدلّة والشواهد التالية:
لم يترك الشارع المقدَّس للمكلَّف _ عملاً أو قولاً، أو أيّ شيءٍ آخر _ إلّا وله فيه حكمٌ معين، وكلّ ما لا يوجد له حكمٌ من الأحكام الأربعة، فهو مباحٌ شرعاً وعقلاً؛ استناداً إلى أدلّة كثيرة ذكرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية، منها ما ورد نصّه في الكتاب الكريم، كقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا »(3)، ومن
ص: 239
الروايات، صحيحة عبد الله بن سنان، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام : كلّ شيء يكون فيه حرامٌ وحلالٌ فهو لك حلالٌ أبداً، حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدَعه»(1).
وبهذا الأصل شُرّع وأُبيح استخدام الإنترنت والقنوات الفضائية، واستخدام الهواتف النقّالة وغير النقّالة، وركوب السيارة والطائرة والوسائل الأُخرى التي لم يستخدمها المعصوم علیه السلام ؛ فالأصل هو الإباحة في الأشياء.
مضافاً إلى أنّ المباح يبقى مُباحاً إذا لم تعرض عليه جهاتٌ تُحسّنه أو تقبّحه، فإذا عرضت عليه تلك الجهات ينقلب إليها، فإن كانت _ أي الجهة _ حسنة فيصير حسناً، وإن كانت قبيحة يصير قبيحاً، فالقيام بمثل هذه الشعائر الحسينيّة بأشكالها المتنوِّعة راجحٌ ومستحبٌّ بقصد إعلان شعائر الحزن على سيّد الشهداء علیه السلام ، وهو داخلٌ أيضاً في باب الجزع والحزن على الإمام المظلوم علیه السلام ، وهو مما لا ريب في استحبابه والثواب عليه، كما سنُبيّن لاحقاً.
الأُسوة هي القدوة، والتأسّي هو الاقتداء، وهو أمرٌ فطريٌّ يميل إليه الإنسان، ويبحث عنه تلقائياً، فهو يميل إلى أن يكون أمامه أُنموذج حيّ يقتدي به، يُجسّد المفاهيم، ويأخذ المواقف، ويتبنّى القرارات ويجري عملياً على طبقها، بحسب ظروفها ومقتضياتها، لفظاً وعملاً وموقفاً.
والنبيّ هو أفضل أُسوة عمليّة حسنة؛ بتزكيةٍ وشهادة ربّانية، فقد قال تعالى:«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(2). وإنّما يكون الرسول صلّى الله عليه و آله أُسوةً لنا إذا اشتركنا معه في التكليف، ولا معنى للتأسّي إلّا مع مشاركة المتأسِّي للمتأسَّى به(3)،
ص: 240
والله أمرنا أن نقتدي أيضاً بالأنبياء والرُسل، ومنهم نبي الله إبراهيم والذين آمنوا معه، قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»(1)، فالله أمرنا أن نقتدي بجميع خصال إبراهيم والذين آمنوا معه، فكما كنّا نقتدي بهم في العمل كالقيام بمناسك الحجّ والزيارة، كذلك لزم الاقتداء بهم في الترك، كلزوم البراءة من الطواغيت والمشركين(2).
ولمّا نسلط الضوء على بعض مناسك الحجّ التي يقوم بها المسلمون نجدها أعمالاً تتضمّن المواساة لإعمال إبراهيم ومَن آمن معه، فالسعي بين الصفا والمروة ما هو إلّا تأسٍّ بفعل هاجر علیهاالسلام، التي صبرت على ما أصابها، ولم تجزع حتى فرّج الله عنها في شوطها السابع؛ بأن جعل ماء زمزم ينبع من تحت قدمي نبيّ الله إسماعيل علیه السلام .
والرمي ما هو إلّا تأسٍّ بفعل إبراهيم وإسماعيل علیهماالسلام اللذين حاول الشيطان إغراءهما وجعلهما يتركان الأمر الإلهي، ولكنّهما لم يستجيبا، بل صبرا وسلّما أمرهما إلى الله تعالى، ورجما وساوس الشيطان.
وتقديم الأضاحي في يوم النحر ما هو إلّا تأسٍّ بفعل إبراهيم علیه السلام حينما فدى اللهُ تعالى إسماعيلَ بذبحٍ عظيم.
فالله تعالى أمر كلّ مَن يُؤدّي فريضة الحجّ أن يقتدي ويتأسّى بفعل إبراهيم والذين آمنوا معه في هذه المناسك، والتمسّك بها إلى قيام الساعة؛ تكريماً للمواقف البطولية التي قام بها أصحابها، ولأجل أن تستلهم الأُمّة الدروس منها حينما تمارسها بنفسها.
ولمّا نأتي إلى قضيّة الإمام الحسين علیه السلام ، نجد أنّ ما قام به في يوم الطّف لا يقلّ أهمّية وعظمة عمّا قام به إبراهيم علیه السلام والذين آمنوا معه، فإذا كانت هاجر قد سعت سبعة
ص: 241
أشواط بين الصفا والمروة صابرةً محتسبةً، فإنّ الحسين علیه السلام كان له أكثر من مسعى وأشواط، فسعى تارةً بين الخيام لتفقّد النساء والأطفال، وسعى أُخرى بين القتلى والخيام ليجمعهم فيها، وسعى ثالثة لقتال الأعداء ومبارزتهم، وهكذا... يُضاف إلى ذلك سعي بنات النبوة، وسعي السيدة زينب علیهاالسلام مهرولةً بين الخيام والحسين علیه السلام ، واضعةً يديها تحت جثمانه قائلةً: «ربّنا تقبّل منّا هذا القُربان»(1).
وكذا السيدة هاجر لم ترَ سوى مصيبة الغربة والعطش، بينما رأت العقيلة زينب مصائب الغربة والعطش والذبح والقتل والتمثيل والسلب والسبي وشماتة الأعداء... فأيّهما يا تُرى أحقّ بالتأسّي والمواساة؟!!
وفي ضوء ذلك نفهم مضامين العشرات من الروايات التي تنصّ على كون الثواب المترتّب على زيارة الحسين علیه السلام يعدل ثواب حَجّة من حجج رسول الله صلّى الله عليه و آله ، وربّما أكثر من ذلك بكثير؛ حيث يختلف ذلك ويتفاوت بحسب معرفة الزائر وانقياده لسيّده الحسين علیه السلام ، ومن تلك الروايات _ على سبيل المثال _ ما رواه الصدوق بسنده عن هارون، قال: «سأل رجل أبا عبد الله علیه السلام [الإمام جعفر الصادق علیه السلام ] وأنا عنده، فقال: ما ل_مَن زار قبر الحسين علیه السلام ؟ فقال: إنّ قبر الحسين علیه السلام وكّل الله به أربعة آلاف مَلك، شعثٌ غبرٌ يبكونه إلى يوم القيامة. فقلت له: بأبي أنت وأمي، تروي عن آبائك أنّ ثواب زيارته كثواب الحجّ؟ قال: نعم، حجّة وعمرة. حتى عدّ عشراً»(2).
وفيما يتعلّق بمنسكي الرجم والذبح، فإن كان نبي الله إبراهيم علیه السلام قد رجم إبليس وقدّم ابنه قرباناً لله تعالى، وكان جزاؤه أن فدى الله تعالى إسماعيل علیه السلام بذبحٍ عظيم، فإنّ الحسين علیه السلام قدّم جميع أولاده وإخوته وأهل بيته وأصحابه حتى طفله الرضيع قرابين لله تعالى، فأيّهما أحقّ بالتأسّي والمواساة يا ترى؟!! ولذا خاطب الإمام الحسين علیه السلام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي قائلاً: «... فلكم فيّ أُسوة»(3).
ص: 242
والشعائر الحسينيّة التي يُحييها الشيعة من بكاءٍ ورثاءٍ ونحيبٍ ولبس سواد ولطمٍ وغيرها، ما هي إلّا مواساة لما جرى على الحسين علیه السلام وأصحابه وأهل بيته، فتواسي دموعنا دموع الحسين علیه السلام وأهل بيته، ودموع العلويات الطاهرات... ويواسي نحيبنا نحيب النساء والأطفال... وهكذا اللطم وبذل الدماء، فهذه العواطف المتجسّدة بتلك الأفعال مع ما يُقارنها من حمل أهدافهم، ومتابعتهم وملازمتهم في أقوالهم وأفعالهم، تعدُّ مواساةً حقيقيّة لهم علیهم السلام ... مواساةً لسيّد أهل الإباء وخامس أصحاب العبا، بل هو بذاته جزعٌ وتلهُّفٌ عليهم، ويظهر من الأخبار الشريفة أنّ الله تعالى أحبّ مواساةَ الإمام الحسين علیه السلام في مصائبه، فأشرك الأنبياء في بعضها، نذكر منها هذا النصّ الذي يرويه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار: «إنّ آدم لمّا هبط إلى الأرض لم يرَ حوّا، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الّذي قُتل فيه الإمام الحسين علیه السلام ، حتى سال الدّم من رجله، فرفع رأسه إلى السَّماء، وقال: إلهي، هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإنّي طُفت جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض. فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم، ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً؛ فسال دمك موافقةً لدمه. فقال آدم علیه السلام : يا ربّ، أيكون الحسين علیه السلام نبيّاً؟ قال: لا، ولكنّه سبط النبيّ محمّد. فقال علیه السلام : ومَن القاتل له؟ قال: قاتله يزيد، لعين أهل السّماوات والأرض. فقال آدم علیه السلام : فأيّ شيء أصنع يا جبرائيل؟ فقال: العنه يا آدم. فلعنه أربع مرّات، ومشى خطوات إلى جبل عرفات، فوجد حوّا هناك»(1).
فإذا كان الأنبياء السابقون قد حزنوا وبكوا الحسين علیه السلام وهو لم يُولد ولم يُقتل بعد، فنحن أولى بالبكاء وإقامة العزاء عليه، والتأسّي بأفعاله وما جرى عليه... وقد رُوي بهذا الصدد: «أنّه لمّا أخبر النبي صلّى الله عليه و آله ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت: يا أبتِ، متى يكون ذلك؟ فقال: في
ص: 243
زمانٍ خالٍ منّي ومنك ومن علي. فاشتدّ بكاؤها، ثمّ قالت: يا أبتِ، فمَن يبكي عليه؟ ومَن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة، إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكلّ مَن بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة»(1).
يُطلق الجزع تارة ويُراد منه ما يُقابل الصبر، أي: الاعتراض على قضاء الله وقدره، وهو محرّم شرعاً. ويُطلق أُخرى ويُراد منه ما زاد عن الحدّ المتعارف في إظهار الحزن والحداد، وحكمه الكراهة شرعاً.
والتساؤل الذي يُطرح في المقام هو: أنّ الجزع على الفقيد بمعناه الثاني إذا كان حكمه الكراهة شرعاً، فلِمَ جاز لنا الجزع على الإمام الحسين علیه السلام ؟
وفي مقام الإجابة عن ذلك نقول: إنّ هناك أدلّة وافرة تُجيز الجزع على فقد ومصاب حجج الله وخلفائه، كالأنبياء والأوصياء، ونذكر منها على سبيل المثال:
لقد بيّنت الآيات من سورة يوسف الجزع الشديد الذي صدر من النبي يعقوب على فقدان ولده يوسف، حتى أدّى به جزعه إلى فقد بصره، قال تعالى:«وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ»(2).
مضافاً إلى النصوص الدينيّة التي تؤكّد بأنّه قد ابيضّ شعره، وتقوّس ظهره، وأسرع إليه الهرم، وقد وصف مولانا الإمام الصادق علیه السلام ذلك حين سألوه: «ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟ قال: حزن سبعين ثكلى بأولادها»(3).
ص: 244
ويتجلّى لنا الاستدلال بذلك في المقام بنحوٍ أوضح لو أخذنا بنظر الاعتبار هاتين الحيثيّتين:
الحيثيّة الأُولى: عظيم من_زلة الإمام الحسين علیه السلام عند الله تعالى، فهو علیه السلام نفس النبي محمّد صلّى الله عليه و آله ؛ لقوله: «حسينٌ منّي وأنا من حسين»(1). ولا ريب في أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله أعظم منزلة من يوسف ويعقوب وجميع الأنبياء والمرسَلين علیهم السلام فكذلك يكون الحسين علیه السلام .
الحيثيّة الثانية: لا يمكن المقايسة بين ما جرى على الصدِّيق يوسف علیه السلام وبين ما جرى على الإمام الحسين علیه السلام كما هو واضحٌ وجليّ؛ وبذلك يكون الجزع على الحسين علیه السلام أولى بالمقبولية من جزع يعقوب على ولده يوسف.
وبهذا الدليل استشهد إمامنا زين العابدين علیه السلام حينما لامه الناس على كثرة بكائه، وخافوا عليه الهلاك، فقال لهم: «لا تلوموني؛ فإنّ يعقوب فقد سبطاً من وِلده، فبكى حتى ابيضّت عيناه ولم يعلم أنّه مات، وقد نظرت إلى أربعة عشرة رجلاً من أهل بيتي في غزاة واحدة، أفترون حزنهم يذهب من قلبي؟!»(2).
هناك جملة وافرة من النصوص والروايات التي صرّحت بجواز الجزع على الحسين علیه السلام ، نذكر منها ما يلي:
أولاً: قول الصادق علیه السلام : «كلّ الجزع والبكاء مكروه، ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين علیه السلام »(3).
ويمكن بيان ذلك في هاتين النقطتين:
ص: 245
تُسنّ الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية المقدّسة وتُجعل لموضوعاتها الخاصّة بها، إلّا أنّ هناك استثناءات، ونوضّح ذلك بالمثالين التاليين:
مثال الأول: من المعلوم أنّ حكم مَن شكّ في صلاته بين الثالثة والرابعة هو البناء على الرابعة، وبعد إتمام الصلاة يأتي بركعتين من جلوس أو ركعة من قيام، ولكن هناك استثناء خاصّ لكثير الشكّ للقاعدة المقررة في الكتب الفقهية: «لا شك لكثير الشك»(1). أي: إنّ كثير الشكّ حكمه أن لا يعتني بشكّه.
مثال الثاني: الربا حكمه معلوم وهو الحرمة، ولكن الشريعة المقدّسة ذكرت له استثناءً خاصّاً، وهو لا ربا بين الوالد وولده، ولا بين الرجل وزوجته(2).
فإذا فهمنا ذلك علمنا بأنّ الجزع على الفقيد رغم أنّ حكمه هو الكراهة، إلّا أنّ الاستثناء ورد في الجزع على الحسين علیه السلام خاصّة.
تُصاغ الأحكام عادةً بعنوانها الأوّلي(3)، ولكن قد تُصاغ أيضاً بعنوانٍ ثانوي(4)، فيتغيّر حكمها، ومثال ذلك:
أ) الصدقة حكمها الأوّلي الاستحباب، ولكن لو علمنا أنّ الأموال المدفوعة سوف تُعطى لجهات تجنِّد الإرهابيين لقتل الأبرياء، فهنا يتغيّر حكمها من الاستحباب إلى الحرمة.
ص: 246
ب) الصوم حكمه الأوّلي الوجوب، ولكن لو كان المكلف مريضاً، وكان الصيام يعرِّض حياته للخطر، فهنا يتحوّل الحكم من الوجوب إلى الحرمة.
ج) الكذب حكمه الأوّلي الحرمة، ولكن لو سأل ظالم عن رجل تقيّ وطلب من الناس الإعلام بمكانه ليقتله، فإنّه يجب عليهم الكذب في هذه الحالة للحفاظ على حياته، فيتحوّل الحكم من الحرمة إلى الوجوب.
كذلك الجزع، فإنّ حكمه الأوّلي هو الكراهة، لكن بما أنّ الجزع في المقام على الحسين بن علي علیه السلام ، صاحب المصيبة العُظمى والرزيّة الكُبرى، فإنّ الحكم سوف يتغيّر من الكراهة إلى الاستحباب، وهذا ما نصّ عليه الحديث الشريف.
ثانياً: الروايات التي تُثبت حصول حالة الجزع من قبل المعصومين
نذكر منها مثالاً واحداً، وهو قول زينب علیهاالسلام لابن أخيها الإمام السجاد علیه السلام : «ما لي أراكَ تجود بنفسكَ يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي ووُلد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم مرمَّلين بالعرى مسلَّبين...»(1).
ثالثاً: الروايات الآمرة بالجزع على الحسين علیه السلام ، ونذكر منها مثالاً واحد وهو:
ما ورد في كامل الزيارات لابن قولويه، عن مالك الجهمي، من أنّ الإمام الباقر علیه السلام قال وهو يُبيّن وظيفة مَن أراد زيارة الحسين علیه السلام يوم عاشوراء عن بُعد: «ليندب الحسين علیه السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويُقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين علیه السلام ، فأنا ضامنٌ لهم إذا فعلوا ذلك على الله (عزّ وجلّ) جميع هذا الثواب»(2).
١_ إنّ الحرُمات الإلهية على أنواع، منها: المكانيّة، والزمانيّة، والشعائريّة، والبشريّة، وأعظم الحرُمات حُرمة الإنسان المؤمن.
ص: 247
٢_ كلّما ازداد المؤمن إيماناً وارتقى في درجات إيمانه، كلّما عظُمت حرمته ومنزلته عند الله تعالى.
٣_ يتفاوت تعظيم الشعائر الإلهية بحسب نوع الشعيرة، فالبُدن تعظيمها استسمانها، ودين الله تعالى تعظيمه الالتزام به، ومناسك الحجّ تعظيمها بأداء أعمالها، وهكذا.
٤_ دلّت النصوص المتضافرة على أنّ أعظم البشر حرمةً عند الله تعالى هم النبي الأكرم محمد صلّى الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام .
٥_ بما أنّ أعظم الحرُمات عند الله تعالى هم محمد صلّى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار علیهم السلام ؛ فيكون المعنى المُستخلص من آية تعظيم الحرمات هو التالي: ذلك ومَن يعظِّم محمداً وآل محمد فهو خيرٌ له عند ربّه.
٦_ يتحقّق تعظيم أهل البيت علیهم السلام من خلال أداء مجموعة من الأفعال والمراسم، من قبيل اتّباعهم وحمل أهدافهم وإحياء أمرهم وزيارتهم ونحو ذلك.
٧_ الإمام الحسين علیه السلام من أعاظم أهل البيت الطاهرين المطهّرين علیهم السلام ، وله خصوصية خاصّة في ذلك البيت المبارك، وفي ضوء ذلك أكّدت الروايات المتواترة على المنزلة والحرمة الخاصّة له علیه السلام ، والتي استُحلّت واستُبيحت يوم عاشوراء، قال الصادق علیه السلام : «لَعَنَ اللهُ اُمَّةً اسْتَحَلَّتْ مِنْكَ الَمحارِمَ وانْتَهَكَتْ فِيكَ حُرمَةَ الاسلامِ...»(1).
٨_ هناك أدلّة وبراهين كثيرة ومتنوّعة من الكتاب والسنّة على مشروعية إقامة الشعائر الحسينيّة.
٩_ الشعائر الحسينيّة التي دلّت النصوص على مشروعيتها، هي من قبيل البكاء، ولبس السواد، وإقامة مجالس العزاء والرثاء، اللطم وغير ذلك.
١٠_ هناك أدلّة عامّة دلّت على مشروعيّة الشعائر الحسينيّة بأشكالها المنظورة في زماننا الحاضر، والأدلّة من قبيل أصالة الإباحة، ودليل المواساة، والحثّ على إظهار الحزن والجزع على مصائب أبي عبد الله الحسين علیه السلام .
ص: 248
الشيخ مشتاق طالب(1)
إحياء الذكريات _ الأحزان والأفراح ، وكذلك سيَر العظماء، وحركاتهم التحررية والتغييرية والنهضوية _ هي عادةٌ نابعة من اعتقادات البشر عموماً، والعقلاء خصوصاً، وربما كان ذلك من وازع فطري في نفوسهم، فيقومون بعمل مراسيم تناسب الذكرى المطلوب إحياؤها؛ ولأجل ذلك تُمارس بعض الشعائر والطقوس التي تتميز بأمرين أساسيين:
الأول: إبراز حجم الولاء والحب لصاحب الذكرى، وأهمية السير على نهجه.
الثاني: الحفاظ على الجوانب الإعلامية، والحركات الفكرية، والاستفادة منها في واقعهم المعاصر وللرأي العام بجميع طبقاته وتوجهاته؛ ولكي يصدّروا أفكارهم وعظماءهم إلى الطرف الآخر، اعتقاداً منهم بأنَّ فكر وشخصية وحركة صاحب الذكرى، مؤهّل إلى أن تنهل منه البشرية ذلك العطاء والتضحية، وتدين له بالتبجيل، بل وبالانتماء أيضاً.
والمراجع لتاريخ الأُمم والأديان يرى ذلك واضحاً في أدبياتهم وسيرهم، وتصرفاتهم في إقامة هذه المراسيم.
ص: 249
كما أنَّ المسلمين _ كسائر الأُمم والأديان _ مارسوا شعائر الانتماء والولاء لعظمائهم، وخلدوا ذكراهم وتضحياتهم، ومواقفهم التي تقف الإنسانية حائرةً أمام عظمتها، وكبير تأثيرها على مسار الإنسانية.
ولعلَّ تخليد ذكرى الحسين علیه السلام ونهضته كان أرحب وأوسع أنواع التخليد كمّاً وكيفاً؛ إذ كانت طقوس وشعائر الحسين علیه السلام هي الأكثر وضوحاً وتطبيقاً بين إقامة الشعائر عند المسلمين، والأكبر تأثيراً في النفوس والعقول، حتى أصبحت شعائره تُمارَس في أرجاء المعمورة وفي بلدان العالم كافة.
وموضوعنا الذي نحن بصدد بحثه يُعدُّ من أهم تلك الممارسات والطقوس، التي تجمع بين الجنبة الإعلامية والوجدانية والعقلية، هو موضوع (المشي إلى كربلاء المقدّسة) بمظاهرة مليونية تكتنفها الكثير من الطاعات، والبركات المعنوية، والمادية.
ومن صغريات المسائل المتعلقة بفقه الشعائر الحسينية _ هي مسألة متفرعة على موضوعة المشي إلى كربلاء _ هي (مشي النساء بالخصوص) ورغم التسالم على ثبوت هذه الشعيرة عند الإمامية إلّا أنَّه قد أُثيرت مؤخراً بعض الإشكاليات والاستفهامات حول مشروعيتها وشعيريتها؛ بسبب بعض التصرفات أو الممارسات التي قد تصدر من بعض السائرين والسائرات، والتي ربما تكون خاطئة بنظر بعضهم، بالرغم من وجود نصوص دالة على أصل المشروعية _ مشروعية مشي النساء _ والاستحباب، فضلاً عن وضوح دخولها في عنوان الشعائر الحسينية.
بدايةً سنتكلّم حول المشي في اللغة، والحكم الشرعي، وعلاقة بذل الجهد فيه، ونتحدث حول مدخلية حمازة الأُمور في استحقاق الثواب، ومن ثَمّ نبحث في الآيات والروايات التي تناقلت المشي وفضله عموماً، ونتكلّم حول المشي للحج أيضاً، ونورد بعدها تاريخية مشي النساء مطلقاً، وكذلك الأدلة التي نستدل بها لمشروعية مشي النساء إلى كربلاء، ونعرض أخيراً أدلة المعارضين لمشي النساء والإجابة عنها.
ص: 250
المشي لفظاً ومعنًى من الأُمور الواضحة عند الجميع، ولا بأس أن نقف على حقيقة تعريفه عند اللغويين.
قال الراغب: «المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة»(1).
وقال ابن فارس: «الميم والشين والحرف المعتل أصلانِ صحيحان، أحدهما يدلُّ على حركة الإنسان وغيره، والآخَر النَّماء والزيادة»(2).
وفي المصباح المنير: «مَشَى: (يَمْشِي) (مَشْياً) إذا كان على رجليه _ سريعاً كان أو بطيئاً _ فهو(مَاشٍ) والجمع (مُشَاةٌ)، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف»(3).
إنَّ الأحكام الشرعية الإلهية تُلحظ فيها جنبتان متغايرتان من حيث طبيعة الحكم وخصوصيته:
الجنبة الأُولى: وهي جنبة التشريف؛ إذ إنَّ الأحكام الشرعية هي تشريف للعبد المكلف؛ لأنَّ مَن كلّفه أراده أن يرتبط به روحياً ويُصبح منتمياً إليه ومضافاً إلى اسمه وموصوفاً بأنه (عبد لله) لا لغيره، فينال شرف العبودية لله ويخرج من براثن عبودية الغير وإذلاله.
الجنبة الثانية: جنبة التكليف؛ لأن الأحكام الشرعية هي تكليف وتحميل للمكلف بها، وهذه الجنبة التعبوية إنما هي لمصلحة من كُلف بها، وأن الله تعالى هو العالم بهذه المصالح أكثر من المخلوقين، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(4)؛ إذ إنها في إطار إعطاء نظام لتربية وإعداد المكلف وتنظيم علاقاته العامة
ص: 251
والخاصة وإدخاله في حيّز السعادة في الدارين؛ فقد روى النوري في المستدرك عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق: عن النبي صلّى الله عليه و آله أنه قال في خطبته: «أيها الناس، ما علمت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به»(1).
فإن الأحكام _ كما يقول العدلية _ تابعة لمصالح ومفاسد واقعية، فما من أمر إلا وفيه خير للمكلف المأمور به، وما من نهي إلا وفيه شر للمكلف المنهي عنه، وغاية تلك التكاليف والجهود هو الوصول إلى الدرجات المعنوية واليقين العلمي والطاعاتي، كما قال تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ »(2).
وهذه الأحكام كلما كانت أشد وأتعب كلما كان مردودها المعنوي والتربوي أكبر وأرحب؛ فإن أفضل الطاعات أشدها وأحمزها.
وبما أن المشي هو بذل للجهد أيضاً، بل لعله جهد كبير، وخاصة إذا اتّصف بالعبادية؛ فإنه سيكون أحب وأقرب، كالمشي للحج المندوب والمشي لزيارة النبي صلّى الله عليه و آله والأئمة علیهم السلام ؛ فهو بلا شك محبوب عند الله تعالى، كما سيأتي المزيد من البيان.
تنقسم العبادات في التشريع الإسلامي على ثلاثة أقسام: منها ما يكون جهدياً بحتاً كالصلاة والصيام، ومنها ما يكون مالياً بحتاً كالخمس والزكاة، ومنها ما هو مشترك كالحج والجهاد، وكلما كانت العبادة أجهد وأتعب كانت ثمراتها المعنوية أكبر وأعظم؛ ولذا ورد في الرواية المشهورة بين الخاصة والعامة عن النبي الأعظم صلّى الله عليه و آله أنه قال: «أفضل الأعمال أحمزها»(3).
ومعنى أحمزها كما في كتب اللغة هو:«أشدها وأمتنها، وأكثرها مشقة»(4).
ص: 252
والمشي _ كما سيأتي _ أشد وأصعب وأكثر جهداً من الركوب؛ فيكون أفضل قطعاً، وكلما كانت مسافته أطول فهو أشد جهداً ومشقة فيكون أفضل، بل وكلما كانت الظروف أصعب كان المشي أعظم أجراً، فالماشي في زمن الخوف أو الحر أو البرد الشديد أو غير ذلك من الظروف الصعبة أكبر منفعة وثمرة دنيوية وأُخروية من المشي بغير تلك الظروف، عملاً بالحديث النبوي الشريف؛ لذا فإن العبادات التي فيها مشي _ كالحج والجهاد والزيارة _ لها أهميتها وفضلها على سائر العبادات إلا ما خرج بالدليل.
ورد المشي في النصوص الشرعية كثيراً؛ إذ إن الآيات والروايات حافلة بهذا المعنى، إما صراحة أو على نحو التلازم بين المشي وبين ما ذكر، وبما أن بحثنا عن مشي خاص _ لا مطلق المشي _ أحببنا ذكر المشي بصورة مجملة وسريعة في النص القرآني والروائي:
ورد المشي في آيات عديدة وبموضوعات مختلفة، وفي بعضها إشعار بأنه نعمة من النعم الإلهية، وأنه ممدوح لأجل الوصول إلى شيء مطلوب، أو للخروج من واقع قاسٍ أو منحرف، وهنا نذكر بعض تلك الآيات:
الآية الأُولى: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ »(1).
الآية الثانية: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (2).
الآية الثالثة: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»(3).
ص: 253
الآية الرابعة: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا»(1)، وسنقف عند هذه الآية ببحث مفصل لاحقاً إن شاء الله تعالى؛ لقربها من موضوع البحث.
وأما قوله تعالى في الآية التي تُشير إلى ذم خروج النساء من بيوتهن:«يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا*وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى » (2). فسوف يأتي تفصيل الكلام حولها عند التعرض لأدلة المانعين الذين استدلوا بها لمنع خروج النساء مشياً، وسوف نُبيّن أنها ليست مانعة من أصل الخروج.
وردت روايات كثيرة في مدح المشي إما مطلقاً أو لغاية وطاعة وهدف إيجابي، ويمكن ذكر ذلك من خلال الطوائف التالية:
الأُولى: ما دل على عبادية المشي بذاته، وهذا ظاهر بعض الروايات التي تُحمل على المشي المعهود المادي، لا المشي المعنوي ، كما في الرواية _ المروية بعدة طرق وفي عدة موارد _ عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما عُبد الله بشيء أفضل من المشي»(3).
الثانية: الروايات الحاثة على السفر إما مطلقا أو لغايات مادية أو معنوية مستحبة أو مباحة؛ لاشتماله _ خصوصاً في الأزمان الغابرة _ على المشي راجلاً ، ومن تلك الروايات:
منها: ما روي عن جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه و آله : سافروا تصحوا، وجاهدوا تغنموا، وحجوا تستغنوا»(4).
ص: 254
ومنها: ما رواه أحمد بن أبي عبد الله البرقي في (المحاسن) عن أبي عبد الله علیه السلام «قال: سافروا تصحوا، سافروا تغنموا»(1).
منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبي صلّى الله عليه و آله _ في حديث المناهي _ قال: «مَن مشى إلى ذي قرابة بنفسه وماله ليصل رحمه أعطاه الله أجر مائة شهيد، وله بكل خطوة أربعون ألف حسنة، ومحا عنه أربعين ألف سيئة، ورفع له من الدرجات مثل ذلك، وكان كأنما عبد الله مائة سنة صابراً محتسباً»(2).
فقد روي عن أبي الحسن علیه السلام حين سئل عن ذلك، فقال: «عَنِ الحُقُوقِ تَسْأَلُنِي، كَانَ أَبِي يَبْعَثُ أُمِّي وَأُمَّ فَرْوَةَ تَقْضِيَانِ حُقُوقَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ»(3).
ولا شك في أن هذه الموارد بإطلاقها _ بل بصراحة بعضها _ تشمل الاستحباب للنساء أيضاً.
لا خلاف في جواز المشي للحج للرجال والنساء من أماكن بعيدة، كما دلت الآيات القرآنية والروايات كذلك، وإنما الخلاف بين الفقهاء في أفضلية المشي على الركوب في طريق الحج، فذهب المشهور إلى أفضلية الحج ماشياً على الحج راكباً؛ لأنه أكثر مشقة وتواضعاً وأحمز من الركوب، بل تمسكاً منهم ببعض الروايات الآتية الذكر.
هناك مجموعة من النصوص الشرعية الدالة على أفضلية المشي على الركوب:
ص: 255
١_ المشي إلى الحج الواجب أو المندوب خضوعاً وخشوعاً وطلباً للأحمز، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في خبر ابن سنان، وغيره: «ما عُبد الله بشيء أشد من المشي ولا أفضل»(1).
٢_ ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أيضاً، قوله: «ما عُبد الله بشيء مثل الصمت والمشي إلى بيته»(2).
٣_ ما أورده الحر العاملي في الوسائل بقوله: «روي أنه ما تقرب العبد إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين»(3).
٤_ ما روي عن الصادق علیه السلام حين سُئل عن فضل المشي، فقال: «إن الحسن بن علي علیهماالسلام قاسم ربه ثلاث مرات حتى نعلاً ونعلاً، وثوباً وثوباً، وديناراً وديناراً، وحج عشرين حجة ماشياً»(4).
٥_ ما روي في خبر أسامة، قال: «خرج الحسن بن علي علیهماالسلام إلى مكة ماشياً فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت لسكن عنك هذا الألم. فقال: كلّا»(5).
٦_ وروى أبو المنكدر عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «قال ابن عباس: ما ندمت على شيء صنعته ندمي على أن لم أحج ماشياً؛ لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: مَن حج بيت الله ماشياً كتب الله له ستة آلاف حسنة من حسنات الحرم، قيل: يا رسول الله، وما حسنات الحرم؟ قال: حسنة بألف ألف حسنة. وقال: فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وكان علي بن الحسين علیهماالسلام يمشي إلى الحج ودابته تُقاد وراءه»(6).
ص: 256
مع أن الروايات المتقدمة واضحة الدلالة على ما ذكرنا سابقاً إلا أن في مقابل ذلك روايات تدل على أفضلية الركوب تأسّياً بالنبي الأعظم صلّى الله عليه و آله ، ومن بينها:
١_ رواية رفاعة قال: «سأل أبا عبد اللّه علیه السلام رجل: الركوب أفضل أم المشي؟ فقال: الركوب أفضل من المشي؛ لأن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ركب»(1).
٢_ رواية ابن بكير، عن أبي عبد الله علیه السلام : «أنّه سُئل عن الحج ماشياً أفضل أو راكباً؟ فقال: بل راكباً؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه و آله حجّ راكباً»(2).
٣ _ وعن رفاعة أيضاً، قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن مشي الحسن علیه السلام من مكة أو من المدينة؟ قال: من مكة. وسألته: إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟ فقال: كان الحسن علیه السلام يزور راكباً. وسألته عن الركوب أفضل أو المشي؟ فقال: الركوب. قلت: الركوب أفضل من المشي؟ فقال: نعم؛ لأن رسول صلّى الله عليه و آله ركب»(3).
ويمكن أن نجمع بين هاتين الطائفتين من خلال القرائن الآتية _ والتي تُعطي نتيجةً مفادها أن الأفضلية محفوظة للمشي _:
القرينة الأُولى: ما ورد في روايات أُخر تُبيِّن أن الأفضلية للمشي إلا في بعض الحالات الخاصة:
الحالة الأُولى: إذا كان المشي لأجل كونه أقل نفقة مع العلم أن هذا الحاج في يسر ومكنة؛ فيكون الركوب أفضل في حقه، لقول أبي عبد الله علیه السلام في خبر أبي بصير: وقد سئل عن المشي أفضل أو الركوب: «إن كان الرجل موسراً فيمشي ليكون أقل لنفقته،
ص: 257
فالركوب أفضل»(1).
الحالة الثانية: إذا كان المشي يؤدي إلى تعطيل الحاج عن الدعاء أو العبادة أو أداء المناسك فيكون الفضل للركوب، كما في رواية سيف التمار، قال: «قلت لأبي عبدالله علیه السلام : إنا كنا نحج مشاة فبلغنا عنك شيء، فما ترى؟ قال: إن الناس ليحجون مشاة ويركبون. قلت: ليس عن ذلك أسألك. قال: فعن أي شيء سألت؟ قلت: أيّهما أحبّ إليك أن نصنع؟ قال: تركبون أحب إلي؛ فإن ذلك أقوى لكم على الدعاء والعبادة»(2).
الحالة الثالثة: إذا كان الحج ماشياً موجباً للاستخفاف والمهانة من قِبل الآخرين، فقد روى سليمان، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إنّا نُريد أن ن_خ_رج إلى مكة مشاة. فقال: لا تمشوا واخرجوا ركباناً. فقلت: أصلحك الله، بلغنا عن الحسن بن علي علیهماالسلام أن_ه حج عشرين حجة ماشياً، فقال: إن الحسن بن علي علیهماالسلام كان يحج ماشياً وتُساق معه الرحال»(3).
والنتيجة المتحصلة _ لدى الباحث بعد هذا الجمع هي _: أن المشي إلى الحج واجباً أو مندوباً أرجح من الركوب إلا في الموارد المتقدمة؛ فإذا أراد المكلف تحصيل ثواب أكثر في الحج المندوب كان المشي هو المتعين، وكذا الحكم في الطاعات الأُخر كالجهاد أو الزيارة أو غيرها، إلا إذا دلّ الدليل الخاص على الاستثناء، وكان مفاده: إن العبادة الأقل مشقة هي الأرجح؛ فعند ذلك يؤخذ بالدليل الخاص.
إن المتتبع لتاريخ الإنسانية _ وخصوصاً تاريخ العرب _ يجد ظاهرة المشي من يوميات الإنسان رجلاً كان أو امرأةً، حيث إن كثيراً من الأعمال والمهن تُمارَس مشياً على الأقدام، ولعل ظاهرة الرعي والزراعة من أهم تلك المهن التي تحتاج
ص: 258
إلى المشي، ونحن نجد أن المرأة كانت ولا زالت تُمارس هاتين المهنتين وباستمرار، والقرآن يحكي لنا أن نساء مقدسات وبنات أنبياء كنَّ يُمارِسن ذلك، كما في قصة ابنتي النبي شعيب علیه السلام والتي أصبحت إحداهما زوجاً لكليم الله النبي موسى علیه السلام ، حيث كانتا تمارسان الرعي وسقي الغنم؛ إذ قال تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ*فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (1)
وكذلك يحكي لنا القرآن سير موسى علیه السلام مع أهله:«فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (2).
بل إن بعض النساء المقدسات _ ومنهن السيدة الطاهرة خديجة _ كانت تمارس الخروج من البيت والمشي بسبب طبيعة عملها في التجارة، وقد تزوّج منها النبي الأعظم صلّى الله عليه و آله وهي تاجرة.
وإن السيرة التاريخية العامة تذكر مئات النساء اللاتي ذاع صيتهن وقد اكتنف عملهن بالمشي، خصوصاً المشي للأُمور المهمة والتواصل الاجتماعي والثقافي والعلمي والأدبي.
وامتدت تلك السيرة إلى زمن الإسلام وخروج المرأة في بعض الحروب لمساعدة الرجل في الأُمور الطبية واللوجستية وغيرها، وتحمّلها لبعض المهام والمشاغل العامة.
كما أن مسألة خروج المرأة المعاصرة أصبح شيئاً واضحاً ولا غبار عليه، خصوصاً بعد أن عملت بسلك الطب والتعليم والهندسة والتربية وغيرها من ميادين الحياة.
ولنقف على الأحداث التي يذكرها القرآن المختصة بالسيدة مريم العذراء رضوان الله عليها؛ لارتباطها الواضح بموضوع هذا البحث:
قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا*فَاتَّخَذَتْ
ص: 259
مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا*...«فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا»(1).
إن الآية تحكي قصة السيدة العذراء مريم وما جرى من مراسيم تحضيرية لأجل الولادة، ومن أهم تلك المراسيم هو خروجها لوحدها إلى مكانٍ قصيٍّ، والقصي: هو المكان البعيد القاصي المحتجب عن الأهل والأقارب والبلدة، فخرجت لوحدها لتأتي بالمولود المقدس.
وقد ذكر بعض العلماء المعاصرين(2) في قصة خروجها أُموراً تفيدنا في المقام:
الأول: إن خروجها كان لوحدها؛ وهذا يدل على مشروعية الخروج ما دام الخروج مطابقاً للموازين الشرعية مع كامل الحجاب والعفة وما دام لغاية سامية وهي طاعة الله.
الثاني: إن خروجها كان لمكان بعيد عن أهلها؛ وهذا يدل على مشروعية الخروج إلى مكان بعيد ما دامت مأمونة على نفسها ومعروفة بعفتها وشرفها.
الثالث: إن الكلام مع الأجنبي بحد ذاته ليس محرماً، ما دام مطابقاً للموازين الشرعية، وليس فيه خضوع بالقول ولا يحتوي على كلام غزلي ولا تعمد الإسماع.
وبذلك يتضح أن ظاهرة مشي النساء قديمة وممتدة وعامة، وبمرأى ومسمع من الأنبياء والأئمة والصلحاء، ولم يعترضوا على أصل الظاهرة، وإنما هناك أحكام وشروط تشريعية تنظم الخروج والمشي، وتجعله في حيز الجائز الذي لا فساد ولا إفساد فيه.
عرضنا فيما سبق الأدلة _ القرآنية والروائية _ المجوزة للمشي مطلقاً، بل والحاثة عليه لأجل بعض الطاعات والتواصل الرحمي والاجتماعي والحقوقي.
والآن نعرض بعض الأدلة الخاصة التي تدل على جواز واستحباب مشي
ص: 260
النساء (بالخصوص) لزيارة قبر سيد الشهداء وفاءً لحق الولاء للنبي وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة والسادة النجباء من أبنائها سلام الله عليهم أجمعين.
ونذكر ذلك في أدلة منها:
من جملة القواعد الفقهيّة المشهورة بين الفقهاء قاعدة الاشتراك، والتي مفادها في أحد معانيها: «اشتراك المكلّفين في الأحكام الشرعية رجالاً ونساءً إلى قيام يوم القيامة، سواء كانت أحكاماً إلزامية، كالوجوب والحرمة، أو غير إلزامية، كالاستحباب والكراهة، إلا في الموارد التي ثبت خصوصية للرجل أو المرأة فيها؛ فتكون خارجة عن القاعدة تخصيصاً»(1).
وبما أن هذه قاعدة _ وكل قاعدة تمتاز بأنها كلية _ لها تطبيقات وأفراد عديدة؛ فيكون المشي إلى كربلاء تطبيقاً وفرداً من أفرادها؛ مما يعني أن الاستحباب الوارد في الأدلة والروايات منصب على الرجال والنساء على حد سواء، ولم يرد في الروايات ما يدل على حصر استحباب المشي بالرجال، بل يبعد احتمال الخصوصية جداً.
وما ذكر من المنع من خروجهن مطلقاً _ ولو لأجل الطاعة _ مدفوع، كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً.
ولهذه القاعدة أدلتها وتطبيقاتها، وتفصيل ذلك في محلّه من كتب القواعد الفقهية، والذي يفيدنا منها هو حكم الاستحباب المشترك بين الرجال والنساء الموجود في أدلة المشي إلى سيد الشهداء علیه السلام .
وردت مئات النصوص الحاثة على المشي والمبينة لأجر الماشي وعظيم الثواب الذي يحصل عليه، وآداب المشي وسننه وما ينبغي أن يكون عليه الماشي، وما لا ينبغي، وقد
ص: 261
ذكر هذه الروايات أصحاب المجاميع الروائية وكتب الأدعية والزيارات(1)، وقد أجاد صاحب كتاب (نور العين في المشي لزيارة الحسين) حين جمع الروايات المتعلقة بالمشي لزيارة الإمام وبوبها تبويباً رائعاً، والمطلع على تلك الروايات يجد الإطلاق والعموم واضحاً تجاه مطلق المكلفين رجالاً ونساءً، بل شامل حتى لغير المكلفين؛ وبذلك يكون الاستحباب منصباً على الرجال والنساء على حد سواء، بل إن في بعض الروايات تصريحاً واضحاً لزيارة النساء وأنها من باب إسعاد فاطمة علیهاالسلام.
ولنقف على بعض الروايات المطلقة:
١_ عن الحسين بن عبيد الله، عن الحسن بن علي [بن أبي عثمان، عن عبد الجبار النهاوندي، عن أبي سعيد، عن الحسين] بن ثوير بن أبي فاختة، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : «يا حسين، مَن خرج من منزله يريد زيارة الحسين علیه السلام إن كان ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة، وحُطّ بها عنه سيئة، حتى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف ناداه ملك فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله [يقرئك السلام و] يقول لك: استأنف العمل؛ فقد غفر الله لك ما مضى»(2).
٢_ عن الحسين بن محمد، عن حميد بن زياد، عن عبيد الله بن نهيك، عن محمد بن فراس، عن إبراهيم بن محمد الطحان، عن بشير الدهان، عن رفاعة النخاس، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «أخبرني أبي أن مَن خرج إلى قبر الحسين علیه السلام عارفاً بحقه غير مستكبر، وبلغ الفرات ووقع في الماء وخرج من الماء، كان مثل الذي يخرج من الذنوب، وإذا مشى إلى الحسين علیه السلام فرفع قدماً ووضع أُخرى، كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات»(3).
ص: 262
٣ _ عن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن الحسين، عن أبي داود المسترق، عن أم سعيد الأحمسية، قالت: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «يا أُمّ سعيد، تزورين قبر الحسين علیه السلام ؟ قالت: قلت: نعم. قال: يا أُمّ سعيد، زوريه؛ فإن زيارة الحسين واجبة على الرجال والنساء»(1).
ثم قال صاحب الوسائل: «أَقول: وروى ابن قولويه هذا الحديث من عدة طرق بأسانيد كثيرة، وقد تقدم ما يدل على ذلك عموماً، ويأتي ما يدل عليه».
٤ _ روى الحسن بن علي بن فضال، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي علیهماالسلام ، قال: «مرو شيعتنا بزيارة الحسين بن علي علیهماالسلام ؛ فإن زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبع، وزيارته مفترضة على من أقر للحسين علیه السلام بالإمامة من الله عز وجل»(2).
٥ _ عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي المعزا، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «مَن لم يأت قبر الحسين علیه السلام حتى يموت كان منتقص الإيمان، منتقص الدين... دون المؤمنين فيها»(3).
إلى غيرها من عشرات _ بل مئات _ الروايات المبثوثة في بطون الكتب: كالبحار، وكتب المزار، تحكي لنا مشروعية مشي النساء للزيارة والحثّ عليها كثيراً، ونستفيد هذا من إطلاق الروايات والأدلة؛ ولذا أفتى جملة من الأعلام المعاصرين باستحباب مشي النساء؛ تمسكاً بإطلاقات الأدلة.
ما تقدم معنا من أدلة إنما كان مفادها الحث على المشي للزيارة بصورة مطلقة،
ص: 263
والآن نورد بعض الروايات التي تدل على الاستحباب بخصوص النساء بل إن في بعضها ما يدل على الوجوب بوضوح، كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وإن حملها أكثرهم على الاستحباب وبيّن أن الوجوب يراد منه شيء آخر انسجاماً مع الروايات الواضحة الدلالة على الاستحباب.
ولعل أشهر تلك الروايات رواية أُم سعيد الأحمسية الموالية للإمام الصادق علیه السلام ومن أصحابه، وغيرها:
١ _ روى ابن قولويه، عن أُم سعيد الأحمسية، قالت: «جئت إلى أبي عبد الله علیه السلام فدخلت، فجاءت الجارية فقالت: قد جئتكِ بالدابة. فقال علیه السلام : يا أُم سعيد، أي شيء هذه الدابة، أين تبغين، أين تذهبين؟ قالت: قلت: لأزور قبور الشهداء. فقال: ما أعجبكم يا أهل العراق! تأتون الشهداء من سفر بعيد وتتركون سيد الشهداء ولا تأتونه؟! قالت: قلت له: مَن سيد الشهداء؟ فقال: الحسين بن علي علیهماالسلام . قالت: قلت: إني امرأة. فقال: لا بأس بمن كانت مثلك أن تذهب إليه وتزوره. قلت: أي شيء لنا في زيارته؟قال: تعدل حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامهم»(1).
٢_ عن زرارة عن أحدهما علیه السلام (2) أنه قال: «يا زرارة، ما في الأرض مؤمنة إلا وقد وجب عليها أن تُسعِد فاطمة علیهاالسلام في زيارة الحسين علیه السلام »(3).
٣ _ في كتاب فضل زيارة الحسين لمحمد بن علي العلوي، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد النحوي، قال: نا محمد بن علي بن شاذان، قال: نا حسن بن محمد بن عبد الواحد، قال: نا عباد بن جعفر، قال: أخبرني محمد بن عبدويه، عن يحيى بن مساور، قال: كان جعفر بن محمد علیهماالسلام جالساً فأقبلت امرأة من العرب، فقال: «ما لي لم أركِ منذ أمس؟ قالت: كنت عند قبور الشهداء. قال: تركت سيد الشهداء عندك! قالت: مَن هو؟ قال:
ص: 264
الحسين علیه السلام . قالت: أزوره؟ قال: نعم زوريه؛ فإنه أفضل من حجة وحجة حتى عد عشراً. فقلت: فما لمن زاره ماشياً ؟ قال: له بكل خطوة حجة وعمرة»(1).
فإن هذه الروايات وغيرها حثّت أُم سعيد الأحمسية ونساء أُخر على الزيارة وحددت لهن أجر المشي، وهو بكل خطوة حجة وعمرة.
إن الزهراء علیهاالسلام _ وهي سيدة العفة والحشمة وقدوة النساء جميعاً _ خرجت في مواطن عديده ماشية، ومنها ما هو واجب كتصديها للخطبة أمام المهاجرين والأنصار لنصرة أمير المؤمنين علیه السلام والدفاع عن حقه بالخلافة وحقها في فدك التي غصبها الظالمون، ومنها ما هو مستحب، كما في خروجها كراراً لزيارة قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب وبعض الشهداء، وزيارتها لقبر أبيها الأعظم صلّى الله عليه و آله ، ولا شك في أن فعلها حجة وسنّة تقتدي بها نساء العالمين.
وفي هذا الصدد نذكر بعض الروايات الدالة على خروجها مشياً:
١_ قال الكليني رحمة الله : عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سمعته يقول: «عاشت فاطمة علیهاالسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكةً، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين: الإثنين والخميس، فتقول: ها هنا كان رسول الله صلّى الله عليه و آله ، وهاهنا كان المشركون»(2).
ثم قال بعد ذلك رحمة الله : «وفي رواية أبان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله علیه السلام أنها كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت علیهاالسلام»(3).
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أنّ خروج النساء لزيارة قبور الموتى لا ينافي
ص: 265
العفّة والوقار؛ إذ إن الزهراء _ وهي المعصومة من كل خطأ _ خرجت ماشية لزيارة القبور؛ فيكون فعلها حجّة، ولا شك في أن الخروج لزيارة قبر سيد الشهداء لهو أعظم من زيارة قبور المؤمنين؛ فما تفعله المؤمنات السائرات لقبر الحسين علیه السلام إنما هو اقتداء بسيرة ومسيرة الزهراء علیهاالسلام، كما إنه إسعاد ومواساة لها، كما تقدم ذلك.
واضح لدى الجميع أن قاعدة الشعائر العامة تدل على أهمية تعظيم الشعائر الدينية، وأن من مصاديق الشعائر الدينية هو إبراز الشعائر الحسينية. ولا شك في أن المشي للزيارة من أبرز مصاديق تلك الشعائر، وهذا المشي للزيارة غير مختص بالرجال، بل هو شامل للنساء أيضاً كما هو واضح؛ فخروج هذا الجمهور الإيماني ومن كل الطبقات والأصناف والأجناس مظهر عالمي يبرز شعيرة إعلامية واضحة للجميع.
وعليه؛ فلا داعي للتدليل أو إقامة البراهين والشواهد على ذلك، بعد أن أصبح القريب والبعيد على علم واطلاع بهذا الشأن، وبعد أن أفرد العلماء كتباً مختصة بالبحث عن الشعائر الحسينية(1).
وهذا له أمثلة كثيرة:
أولاً: خروج المرأة إلى الحج لوحدها
عقد الحر العاملي في وسائل الشيعة باباً خاصاً لخروج المرأة إلى حج بيت الله، وذكر عدة روايات، نورد بعضاً منها:
١_ محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن البزنطي، عن صفوان الجمال، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : قد عرفتني بعملي، تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبها إياكم، وولايتها لكم ليس لها محرم؟ قال: إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها؛ فإن المؤمن محرم
ص: 266
المؤمنة، ثم تلا هذه الآية: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ »»(1).
وروى الشيخ بإسناده عن موسى القاسم، عن عبد الرحمن، عن صفوان بن مهران نحوه(2).
٢_ محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله علیه السلام في المرأة تريد الحج ليس معها محرم، هل يصلح لها الحج؟ فقال: «نعم، إذا كانت مأمونة. ورواه الصدوق بإسناده عن هشام مثله»(3).
٣_ محمد بن الحسن، بإسناده عن موسى بن القاسم، عن صفوان، عن معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام : عن المرأة تحج إلى مكة بغير ولي؟ فقال: «لا بأس تخرج مع قوم ثقات»(4).
ورواه الصدوق بإسناده عن معاوية بن عمار(5).
٤_ عن صفوان، عن معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن المرأة تحج بغير ولي ؟ قال: «لا بأس، وإن كان لها زوج أو أخ أو ابن أخ فأبوا أن يحجوا بها وليس لهم سعة، فلا ينبغي لها أن تقعد، ولا ينبغي لهم أن يمنعوها...»(6).
وروى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار نحوه(7).
٥_ وعنه، عن عبد الرحمن، عن مثنى، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال:
ص: 267
سألته عن المرأة تحج بغير وليها، فقال: «إن كانت مأمونة تحج مع أخيها المسلم، وغيرها»(1).
وهذه الروايات تدلل على جواز خروج المرأة من دون اصطحابها لشخص من محارمها، وأنها مأمونة ومصونة ما دامت مع أخيها المؤمن، وبذلك أفتى مشهور الفقهاء أيضاً، وهي عامة تشمل الخروج للطاعات الأُخرى بهذه الحالة؛ إذ ليس فيها ما يُبيّن خصوصية للحج على غيره.
ثانياً: تعاليم النبي صلّى الله عليه و آله لكيفية مشي النساء
فقد ذكر صاحب الوسائل أيضاً باباً في مشي النساء مع الرجال في الطريق إلى المسجد، تضمّن بعضها الكيفية المثلى لمشيها مع الرجال الأجانب، وإليك بعض هذه الروايات:
١_ عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه و آله : ليس للنساء من سروات الطريق شيء، ولكنها تمشي في جانب الحائط والطريق»(2).
٢_ محمّد بن عليّ بن الحسين، قال: ذكر النساء عند أبي الحسن علیه السلام ، فقال: «لا ينبغي للمرأة أن تمشي في وسط الطريق، ولكنها تمشي إلى جانب الحائط»(3).
فلم تمنع الروايات النساء من الخروج، ولكن بيّنت أن ليس لهن أن يذهبن في وسط الطريق، بل إن في النص الثاني ورد التعبير بقوله علیه السلام : لا ينبغي. ومعناه أن مشيها في وسط الطريق وإن كان أمراً مرجوحاً وغير محبّذ لها إلّا أنه جائز.
ثالثاً: الخروج لأجل طلب العلم
فقد صرحت الروايات بأهمية طلب العلم، وأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة(4). ولا إشكال في أن طلب العلم في حالاته الغالبة مشتمل على الاختلاط، ولو على مستوى سماع الصوت من قبل الطالبات للأُستاذ أو الخروج لمسافات ذهاباً وإياباً