العقائد من نهج البلاغة

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3457 لسنة 2020 م

مصدر الفهرسة : IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف : LC BP193.1.A2 M81 2020

المؤلف الشخصي : المعلم، محسن علي، 1372 للهجرة - مؤلف.

العنوان : العقائد من نهج البلاغة /

بيان المسؤولية : تأليف الشيخ محسن علي المعلم.

بيانات الطبع : الطبعة الاولى.

بيانات النشر : كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي : 433 صفحة ؛ 24 سم.

سلسلة النشر : (العتبة الحسينية المقدسة ؛ 814 ).

سلسلة النشر : (مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ 189 ).

سلسلة النشر : (سلسلة الكتب العلمية، وحدة الدراسات العقدية ؛ 23 ).

تبصرة ببليوجرافية : يتضمن هوامش. لائحة المصادر (الصفحات 411 - 419 )

موضوع شخصي : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي : علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة – حديث.

مصطلح موضوعي : علم الكلام (الشيعة الإمامية).

مصطلح موضوعي : عقائد الشيعة الامامية.

اسم شخص اضافي : دراسة ل(عمل) : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية

وحدة الدراسات العقدية ( 23 )

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1442 ه - 2020 م

العراق - كربلاء المقدسة -مجاور مقام علي الأكبر عليه السلاممؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Info@Inahj.org

تنويه:إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبربالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية

ص: 4

... فضيلة الشيخ محسن علي المعلم...

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد

... فضيلة الشيخ محسن علي المعلم...

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِیِّكَ الحُجَةِ بنِ الحَسَن صَلَواتُکَ علَیهِ و عَلی آبائِهِ فِی

هَذِهِ السَّاعَةِ وَ فِی كُلِّ سَاعَةٍ وَلِیّاً وَ حَافِظاً وَ قَائِداً وَ نَاصِراً وَ

دَلِیلًا وَ عَیْناًحَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَ تُمَتعَهُ فِیهَا طَوِیلا

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

اشارة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خیر الخلق أجمعن محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية فحسب، بل شمل غيرها من العلوم التي تسیر بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِ الْكِتَابِ مِنْ شَءٍ﴾ (الأنعام: 38 )، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَءٍ أحْصَيْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِینٍ﴾ (يس: 12 )، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلین يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيها، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (علیهم السّلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانین والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية

ص: 7

المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسیرة أمیر المؤمنین الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة الدراسات والبحوث) التي يتم عبرها طباعة هذه الكتب وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثین والدارسین وإعانتهم على تبین هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمیر المؤمنین علي (علیه السّلام) والسیر على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة التي بن أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك المرويات العلوية في ميدان علم الكلام والمعارف العقدية، الذي شغل حيزاً كبیراً في الدراسات

الحوزوية والأكاديمية لارتباطه بمباحث التوحيد والنبوة والإمامة وغيرها مما شغل الفكر الإنساني.

فجزى الله الباحث فضيلة الشيخ محسن المعلم دامت توفيقاته فقد بذل جهده وعلى الله أجره والحمد لله رب العالمن.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله رب العالمن «الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِینٍ »، وأقام محمدًا وعليًّا عليهما وآلهما السلام ولِيَّین في خلقه وهو الوليّ المطلق.

«إِنّمَاَ وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ .»(1).

وجعل ولاية (عليّ) بعد ختم رسالاته ب (محمد) كمالًا لدينه وإتمامًا لنعمته ورضاه بالإسلام دينًا.

«اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا .»(2).

فتولى (عليٌّ) الوليُّ خليفةً ووصيًّا ما كان يتولّاه (محمدٌ) رسولً ونبيًّا.

****

ولئن أزالوه عن مراتبه التي رتّبه الله فيها، وهم يعلمون أنه القمّة الشمّاء، والمحجّة العظمى كما قال(علیه السّلام) «وإنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطبِ من الرحا، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطیر .»(3)

ص: 9


1- سورة المائدة / 55 .
2- سورة المائدة / 3.
3- مفتتح الخطبة الشقشقية، نهج البلاغة خ 3، ص 48 .

فاستبدّوا بالأمر وأداروه بما أرادوه، إلّا أنهم إذا نزلت بهم نازلة، وحلّت بهم معضلة، وفجأتهم مشكلة، واعصوصب خطب، وفدح أمر فا يجدون من الرجوع إليه بدًّا، ومن الركون إلى كنفه مناصًا، فيميرهم بالعلم، ويحملهم على لاحب من المحجة البيضاء.

****

وإن (نهج البلاغة) ذلكم السفر النفيس الأنفس لخیر برهان على سموّ الامتياز، وسمة الانفراد، وتعانق الكمالات التي حبي بجلالها بطلُها الإلهيّ، ورجلُها الربانيّ، فهو المترجم الحقّ لما وعاه قلبه وحمله فكره وضُمّت عليه جوانحه وطُبعت به خلائقه وتجلّت فيه سیرته وسريرته.

فيض عطاء، وزاخر معارف، واسعة الآفاق، متعالية الأبعاد، عميقة

الأغوار، متلاطمة الأمواج في أبحر العلم، عقيدة وفكرًا وشريعة ودينًا، وخیر هدي وخلائق، مبصِّرةً مبشِّرةً مُنْذِرَةً في أبكار من المعاني لم يحم حولها أحد من قبل ومن بعد.

بل هو -عليه سلام بارئه- فاتح بابها، سابح عبابها، رائد فكرها، وسرّها.

****

فأذعنت لشامخ جلاله العقول، وخشعت لباذخ خلاله القلوب، وحارت في كنهه الألباب، فانطلقت الألسن معترفة بالعليّ والعجز عن توفيته حقّه، حيث لم تدرك من جوهره أمرًا، ومن مكنونه سرًّا.

1) ولقد أبدع فحل الشعراء (علاء الدين الشفهيني) -رضوان الله عليه- في

ص: 10

رائعته، أختار منها وكلها مختارة منتخبة:

وهو القؤولُ وقولُهُ الصدقُ الذي*** لا ريبَ فيهِ لِمنْ رعا وتأمَّلا:

واللهِ لو أنَّ الوسادةَ ثُنِّيَتْ*** لي في الذي حَظَرَ العَليُّ وحلَلا

لَحَكَمْتُ في قومِ الكليمِ بمقتى*** توراتِمْ حكماً بليغًا فَيْصَلا

وحكمتُ في قومِ المسيحِ بمقتضى*** إنجيلِهِمْ وأقمتُ منهُ الأَمْيلا

وحكمتُ بین المسلمينَ بمقتى*** فُرقانِهمِ حكماً بليغًا فَيْصَلا

حتى تقرَّ الكُتْبُ ناطقةً لقد*** صدقَ الأمینُ (علّیُ) فيما علَّلا

فاستخبِروني عن قرونٍ قد خَلَتْ*** مِنْ قبلِ آدمَ في زمانٍ قد خلا

فلقد أَحَطْتُ بعِلْمِها الماضي وما*** منها تأخرَّ آتيًا مستقبلا

وانظُرْ إلى نهجِ البلاغةِ هل ترى*** لأُولي البلاغةِ منهُ أبلغَ مِقْوَلا

حِكَمٌ تَأَخَّرَتِ الأواخِرُ دُونَها*** خُرْسًا وأفحمتِ البليغَ المقولا

خَسِئَتْ ذَوُو الآراءِ عنهُ فلن ترى*** مِنْ فوقِهِ إلّا الكتابَ المُنْزَلا

ولهُ القضايا والحكوماتُ التي*** وضحتْ لديه فحلَّ منها المُشْكِلا(1) )))

2) ورائع قول السيد حسن البغدادي في وصف (نهج البلاغة):

نهجٌ له كلُّ الأنامِ قد غدتْ*** خُرسًا وأهدى للطريق الأعدلِ

فلم نجدْ أفصحَ منه منطقًا*** سوى لتالي المصحفِ الغضِّ الجلي

ص: 11


1- أدب الطف 4/ 172 .

فذا كلامٌ قاله المولى علي*** وذا كلامٌ قاله المولى علي (1)

3) وقال ابن أبي الحديد -شارح نهج البلاغة- في قصيدة من (العلويّات السبع):

هو النبأُ المكنونُ والجوهرُ الذي*** تجسّدَ من نورٍ من القدسِ زاهرِ

وذو المعجزاتِ الواضحاتِ أقلُّها*** الظهورُ على مستودعاتِ السرائرِ

ووراثُ علمِ المصطفى وشقيقُهُ*** أخًا ونظیرًا في العُلا والأواصرِ

ألا إنما التوحيدُ لولا علومُهُ*** كعرضةِ ضِلِّيلٍ ونهبةِ كافرِ(2)

4) وقال أيضًا: «وهذا من صناعة الخطابة التي علّمه الله إيّاها بلا تعليم،وتعلّمها الناس كلّهم بعده منه .»(3).

قال ذلك تعقيبًا على شرحه لكلام أمیر البيان « (علیه السّلام): طعنًا في عيونكم وحزًّا في حلوقكم ودقًّا لمناخركم .»

بعد أن قال: «واعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون، ولمّا ذكر الحزّ وهو الذبح نسبه إلى الحلوق، ولمّا ذكر الدّق وهو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر .»

أقول: كما أمدّه الله فملّكه ناصية البلاغة والفصاحة فعاد (أمیر البيان) فقد ألهمه الله جلال العلم وغور الحقائق فهو (رب المعاني)، فصلوات الله على كمالاته وإبداعه.

ص: 12


1- أدب الطف 9/ 324 .
2- كشكول البحراني 2/ 84 ، والروضة المختارة / 120 .
3- شرح نهج البلاغة 13 / 143 .

وبعد..

فقد أمدّني التوفيق، وشرّفتني الدعوة الكريمة من الأخ الفاضل المحقق الشهم خیر الشباب الأستاذ محمد حسین الواعظ النجفي -حفظه الله ورعاه- بالرغبة في إعادة طبع هذا الكتاب من قبل (مؤسسة علوم نهج البلاغة) المشرّفة بخدمة (الروضة الحسينية) على مشرّفها آلاف التحية والثناء.

فرأيتني مغتبطًا بهذا الطلب، فله -رعاه الله- وللقائمین على تلكم المؤسسة المباركة خالص الشكر والامتنان ووافر الدعاء ومتواصل الرجاء أن يأخذ المولى -جلّت آلاؤه وعظمت نعماؤه- بفكرنا وقلوبنا وأرواحنا حيث يحب ربنا ويرضى على نهج علي إمام الدين والدولة وسنن سيد شهداء الأمة الحسین بن علي -عليهما وآلهما الصلاة والسلام- وأن يجعلنا مصداقًا لقوله -جمّت نعماؤه: «وَمَن

يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ »(1)، وأن يجعل ذلك نافعًا في دنيانا، وذخرًا في آخرتنا، إنه وليٌّ كريم.

والحمد لله على هدايته والتوفيق إلى ما دعا إليه من سبيله وموالاة أوليائه والبراءة من أعدائه.

والصلاة التامّة على هداة الخلق إلى الحق محمد وآله الكرام زنةَ عرش الله ومدادَ كلماته ومنتهى رضاه وعدد ما أحصاه كتابه وأحاط به علمه.

ص: 13


1- سورة المائدة / 56 .

ص: 14

مقدمة الطبعة الأولى

بِسْمِ اللهِ وَلَهُ الحَمْدُ والمَجْد، والصلاةُ والسلامُ على خُزِّانِ عِلْمِه، ومَعْدِنِ حُكْمِه، مَنْ أُوتُوا جَوَامِعَ الكَلِمِ وفَصْلَ الخِطَاب، نَبِيِّنَا الأَعْظَمِ وآلِهِ الأَطْيَاب، ولا سِيَّما بَابُ مَدِيْنَةِ عِلْمِه، ولِسَانُ حِكْمَتِهِ، أَمیِرْ المُؤْمِنِینَ عَليُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ(علیه السّلام).

وبَعْدُ.. فهَذِهِ مجموعةُ دروسٍ تَدُورُ حولَ أُصُولِ العقيدةِ في نَهجِ البلاغة، تَشَّرفْتُ بإِلقَائِها على لُمَّةٍ مِنَ الأخواتِ المؤمنات(1)، في الفترةِ من ليلة الأربعاء 4 جمادى الأولى سنة 1414 ه إلى ليلة الأربعاء 19 ذي القعدة الحرام سنة 1415 ه،فجاءت في 38 درسًا.

و(نَهجُ البَلاَغَةِ) هو ذلكمُ الأثرُ النفيس، والمعجزةُ الخالدةُ لبطلِ الإسلامِ ورَجُلِهِ الفَذِّ، الذي خَصَّهُ اللهُ بِمَوَاهِبِهِ وعَطَائِه، ومَنَحَهُ من مَلَكَةِ الكَماَلاتِ ما شَاء.

وذلكَ التراثُ الفكريُّ الثَّرِيُّ كانَ ولَم يَزَلْ مَعِينًا لَم يَنْضَبْ، ومَنْهَلاً عَذْبًا سَلْسَلاً رَقْرَاقًا، لَم يَنْفَدْ على وَفْرَةِ وُرَّادِه، والمَاتِحینَ مِنْه، مَعَ اتِّسَاعِ دِلاَئِهم وشِدَّةِ سَوَاعِدِهم، لا بَلْ إِنَّهم لَمعْتَرفُونَ بِقُصُورِ البَاعِ عَنْ إِدْرَاكِ غَايَتِه، والوُصُولِ إلى أَعْمَاقِه.

وقد أَدْلَيْتُ بدَلْوِي في الدِّلاء.. وأَنَّى لي؟ والرَّشَا قَصِير، والسَّاعِدُ وَاهِن.

ص: 15


1- كان الدرس ينقل إلى قسم الأخوات بالصوت والصورة.

وقد جاءتْ تلكمُ الدروسُ شَفَوِيَّةً غَیرْ مُحرَّرَةٍ وَقْتَ إِلْقَائِها، ثُمَّ أُفْرِغَتْ مِنْ الأشرطةِ المسجلةِ فيها، وفي ذلكَ ما يحملُ بعضَ العذرِ في ضعفِ الأسلوب، وعمقِ الطرحِ والفكرة، مضافًا إلى ما رُوْعِيَ من تفاوُتِ مستوى الدارساتِ العزيزات.

وحسبي أَنْ أَجَلْتُ فِكْرِي، وشَّرفْتُ لِسَاني بالحَدِيثِ عَنِ الإمامِ العظيم، وشيءٍ مِنْ آثارِه، ودلائلِ امتيازِه، فإِنْ حَظِيَتْ بالقبولِ والرِّضا فذلكَ ما أَرْجُو،وإِلاَّ فهو بطاقةُ وَلاء، وصحيفةُ وفاء، وعنوانُ انتماء، أسألُ اللهَ الكريمَ أَنْ يَتَوَلّاهُ بِقَبُولِهِ الحَسَنِ الجميلِ ويَجعَلَهُ ذُخْرًا وزادًا ليومِ لِقَاه، وأَنْ يكافئَ بالحُسنى مَنْ سَاهَمَ في إِحْيَاءِ هذا الأَثَرِ وتَقْوِيْمِه، حُضُورًا وإرشادًا وتوجيهًا ورِعَاية، وأَنْ يُوَفِّقَ الجميعَ للاهتداءِ بنَهْجِ الحق، والسیرِ في طَرِيْقِهِ المُسْتَقِيم.

والحمدُ للهِ دائِمًا وأَبَدًا، والصلاةُ على محمدٍ وآلِهِ سَرمَدًا.

****

محسن علي المعلم

9 ربيع المولود سنة 1420 ه

ص: 16

1) بين يدي الإمام

صلاة

الحمدُ للهِ الذي لا يبلُغ مِدْحَتَهُ القائلون، ولا يحصي نعماءَه العادُّون، ولا يؤدِّي حقَّه المجتهدون، والصلاةُ والسلامُ على رسولِهِ الذي اختارَهُ اللهُ من شجرةِ الأنبياء، ومشكاةِ الضياء، وذُؤابةِ العلياء، وسرةِ البطحاء، ومصابيحِ الظلمة، وينابيعِ الحكمة، وعلى وصيِّهِ وخليفتِهِ من بعده وبابِ مدينةِ علمِه، وميزانِ حكمته، وعلى

آلِهِ أساسِ الدين، وعمادِ اليقین، أزمَّةِ الحقِّ وألسنةِ الصدق، شجرةِ النبوة، ومحطِّ الرسالة، ومختلفِ الملائكة، ومعادنِ العلمِ، وينابيعِ الحكمة.

وبعدُ.. فقد قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ» .(1)

افتتاح

اشارة

نفتتح درس (نهج البلاغة) بركات أمیر المؤمنین (صلوات الله وسلامه عليه) ومن حسن التوفيق أن يأتي هذا الدرس بعد إنهاء درس (في رحاب القرآن) في هذا المجلس المبارك، ذلك لأن كلام الأمر (علیه السّلام) فوق كلام المخلوقن ودون كلام الخالق تبارك وتعالى، وأود أن تكون الدروس الأولى حول صاحب النهج ثم حول

جامع النهج وبعدها حول هذا النهج الخالد.

ص: 17


1- سورة الرعد / 43 .

وإني لأبتعد وأنأى عن أن أتناول شخصية أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من جوانب طرح الأدلة التي تثبت منزلته السامية ومقامه الرفيع، ذلك لأن هذه القضية قد أحكمت إحكامًا، وهي بمنأًى عن التشكيك، وفضائله -صلوات الله وسلامه عليه- من الضروريات المسلَّمات التي لا تحتاج إلى إثبات سند أو عنعنة رواية أو رد

شبهة أو فرية، وفي شخصيته صلوات الله عليه تتعانق الكمالات وتتسابق إلى ذاته،فهو ملتقى الفضائل في أروع صورها.

فنتناول -هنا- ثلاثة أمور.

أولاً: الإعداد الإلهي التكويني لهذه الذات المقدسة

اشارة

وقد تجلّی ذلك في ناحيتين: حديث الولادة، وتربيته في حجر الإيمان.

أ)حديث الولادة:

فهو من قلب الشجرة الهاشمية الكريمة المباركة، وجاءت ولادته في عناية إلهية خاصة فوق المقاييس، وفوق الاختيار البشري، فلم يكن لفاطمة بنت أسد أن تختار، ولم يكن لأبي طالب، ولم يكن لعلي، ولم يكن للرسول، إنما كان لله وحده أن يختار.

وقد اختار اللهُ تعالى أن يشرِّف كعبتَه بمولد أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، وتلك منزلة لم تكن لوليٍّ مقرَّب، ولا لنبيٍّ مرسل، إنما كانت لوليِّ اللهِ الأعظم، وأشرقت الكعبة بنور علي فكانت مولده ومهده.

قال الشيخ حسين نجف:

ص: 18

جَعَلَ اللهُ بيتَهُ لعليٍّ*** مولدًا يا لَهُ عُلا لا يُضَاهَى

لَم يُشَارِكْهُ في الولادةِ فيهِ*** سَيِّدُ الرُّسْلِ لا ولا أَنْبِيَاها

وقد قال عبدالباقي العمري في رائعته:

أنتَ العَليُّ الذي فوقَ العُلىَ رُفِعَا*** بِبَطْنِ مَكَّةَ وَسْطَ البيتِ إِذْ وُضِعَا

وقال السيد الحميري:

وَلَدَتْهُ في حَرَمِ الإلهِ وأَمْنِهِ*** والبيتُ حيثُ فناؤُهُ والمسجدُ

بيضاءُ طاهرةُ الثيابِ كريمةٌ*** طَابَتْ وطَابَ وَلِيدُها والمَوْلِدُ

وقال السيد حسين البروجردي (ت 1284 ه):

هو الذي كانَ بيتُ اللهِ مَوْلِدَهُ*** وصاحبُ البيتِ أدرى بالذي فيهِ

وقلت -وهو أول شعر قلته-:

رخامةٌ لَم تكنْ قِدْمًا سِوَى حَجَرٍ*** لا فَضْلَ فيها على نوعٍ مِنَ الحَجَرِ

شَّرفْتَها وَسْطَ بيتِ اللهِ فافْتَخَرَتْ*** بِحِكْمَةٍ قد أَرَادَتْها يَدُ القَدَرِ

وقد أشبع شيخ المحققین الأميني الموضوع بحثًا بإيراد المؤلفین والشعراء وإضمامة من الشعر في هذا الحدث الأعظم(1).

ورَدَّ الإمام (علیه السّلام) هذا الجميل بأن طَهَّر البيت من الأصنام:

ص: 19


1- الغدير 6/ 21 - 38 (ولادة أمير المؤمنين (علیه السّلام) في الكعبة).

لمَّا دعاكَ اللهُ قِدْمًا لِأنْ*** تُولدَ في البيتِ فلبيتَه

شَكرَتهُ بن قريشٍ بأنْ*** طهَّرْتَ من أصنامِهم بيتَهُ

ب)تربيته في حجر الإيمان:

وليس هناك من لحظة فاصلة بن حديث الولادة وتربيته في حجر الإيمان،فقد فتح عليٌّ عينيه وهو بن يدي رسول الله صلى الله عليهما وآلهما، فكانت تربيته، بدنًا وروحًا وقلبًا وفكرًا وخلُقًا وكل وجوده، على يدي أشرف خلق الله محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

وتقصر الكلمات هنا ويتراجع البيان، وما دام علي فوق المخلوقین -في امتيازاته باستثناء النبي الأعظم- فهم عاجزون عن الحديث حول هذه التربية الخاصة، إذن فلتصغِ قلوبنا إلى ما يقوله عليٌّ -وهو الصادق الأمین- مؤرِّخًا هذه الفترة من حياته الشريفة.

يقول (علیه السّلام)(1):

«أنا وضعتُ في الصغرِ بكلاكلِ العربِ، وكسرتُ نواجمَ قرونِ ربيعةَ

ومضر، وقد علمتُم موضعي من رسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالقرابةِ القريبة، والمنزلةِ الخصيصة،وضعني في حجرِه، وأنا ولدٌ، يضمُّني إلى صدرِه، ويكنُفُني في فراشِه... وما وجدَ

لي كَذبةً في قولٍ، ولا خَطلةً في فعلٍ، ولقد قرنَ اللهُ به (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مِنْ لَدُنْ كان فطيماً أعظمَ ملَكٍ من ملائكتِه، يسلكُ به طريقَ المكارم، ومحاسنَ أخاقِ العالم، ليلَهُ ونهارَه، ولقد كنتُ أتبعهُ اتباعَ الفصيلِ أثرَ أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقِه عَلَماً ويأمرني بالاقتداءِ به.

ص: 20


1- نهج البلاغة، خ 192 ، ص 300 - 301 .

ولقد كان يجاوِرُ في كلِّ سنةٍ بحراءَ، وأراه ولا يراه غیري، ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلامِ غیرَ رسولِ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وخديجةَ وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة... .»

نعم، لَأنْ كان اللهُ تعالى خصَّ محمدًا بأعظمِ ملَك، فقدخصَّ اللهُ عليًّا بمحمدٍوهو أعظم الخلق فقال: «أنا أديبُ الله وعلٌّی أديبي» .(1)

ثانیاً: مصادر علمه (علیه السّلام)

اشارة

من منافذ التعرف على شخصيته (علیه السّلام) منافذ العلم الذي حوته جوانحه،وكيف كان عليُّ بها عليًّا، وهذه المنافذ هي:

أ)القلب الواعي:

ففيه نزلت -بعد دعاء الرسول له- «وتَعِيَها أُذُنٌ وِاعِيَةٌ»(2).

فلم يسمع شيئًا من عطاء رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلاَّ وعاه.

ب)الإلهام:

وهو أعظم من الجانب الأول، فلقلبه من الانشراح والصفاء ما يطَّلع به على كلِّ ما في الكون، وعلى حقائق الأشياء، فلم يُسْأَلْ عن مسألة، أو يُفْزَعْ إليه في نازلة إلاَّ وأتى بحلها وكشف جوابها.

ص: 21


1- بحار الأنوار 16 / 231 .
2- سورة الحاقة / 12 .ومن مصادر نزولها في علي: أسباب النزول / 294 ، وشواهد التنزيل 2/ 271 - 285 ، والدر المنثور في التفسیر بالمأثور 6/ 260 ، ولباب النقول في أسباب النزول / 219 .
ج)حديث الملائكة:

وقد كان ذلك في زمن الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكذلك بعده كما مرَّ في الخطبة الشريفة السابقة الذكر، وكما جاء في الروايات(1).

وهذه ملامح منزلة تسمو على منازل أولي العزم من الرسل.

د)الملَكة الخاصة:

يرى الشيخ ميثم البحراني -أعلى الله مقامه- أن ما يخبر به أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من المغيَّبات وعلم الملاحم، ليس ناتجًا من مجموعة أحاديث سمعها من النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) -وإن كانت هذه منزلة سامية أن يكون مستودع أسرارِ الله- ولكن الأمر يرجع إلى منزلةٍ أسمى وهي الملَكة الخاصة التي تشرق بها هذه النفس الإلهية المميزة فتطَّلع على ما في الكون، فتفيض علماً وإحاطةً.

بل إن هناك رأيًا لبعض العلماء أسمى حتى من هذه المنزلة، وإلّاَ فما معنى أن يستوعبَ إنسانٌ ألف ألف (مليون) باب من العلم في مناجاةٍ واحدة! إنه لأمر فوق التصور وخاف المقاييس!(2).

وبهذا وغيره لم يتردد علي في حكم قط ولم يتحير في مسألة أبدًا(3).

ص: 22


1- الكافي 1/ 230 (ما أعطي الأئمة من اسم الله الأعظم) وص 264 (جهات علوم الأئمة) وص 270 )أن الأئمة (علیهم السّلام) محدثون فهمون) وص 273 (الروح التي يسدد بها الأئمة (علیه السّلام)) وأحاديث كثرة في مواطن عديدة.
2- شرح نهج البلاغة 1/ 83 - 85 .
3- عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له (لعلي): يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه، قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة،عجلت أبا حفص، قال: لم يَخفَ عَلَّی، فقال عليٌّ: وأنا أسرع فيما لا يخفى عَلَّی.بحار الأنوار 40 / 147 ، وشواهد التنزيل 1/ 307 .

وإلى الآن في مسمع الدهر ووعيه: «سلوني قبل أن تفقدوني » وهي كلمته الشهيرة والتي ما قالها أحد غیره إلا افتضح.

ولهذا يرى الشيخ الأميني أن النظر إلى الإمامة باعتبارها مرتبة سامية من الكمالات التي نملكها هو حط من عالي قدرها وجهل بحقيقتها، بل يجب النظر لها من الجانب الآخر الذي هو مصدر الفيض لها ألا وهو الله تعالى وتقدس الذي اختار الإمامة والأئمة(1).

ثالثًا: طرق التعرف على أبعاد شخصيته (علیه السّلام)

أ) كتاب الله الأكرم:

وهو الطريق الدقيق الصائب الذي لا يضاهيه قول مبدع منصف أو شاعرٍعاشقٍ لعليٍّ محلِّق، فمن أراد ترجمة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فإن كتاب الله تعالى خیر مصدر لذلك.

«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَن ْعِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ .»(2).

فممِاَّ تثبت به القضايا شهادة شاهدي عدل، وهذه القضية الكبرى شاهداها هما الله تعالى وعليّ، فأي شيء فوق أن يكون أمیر المؤمنین (مع الله تعالى!) شاهدًا

ص: 23


1- من تسجيل صوتي لحديث للشيخ الأميني(رحمه الله).
2- سورة الرعد / 43 .

على صدق النبوة بكلِّ عظمتها ومقامها الجليل.

وخذ آية التطهر وعشرات بل مئات الآيات التي ترجمت مقامه وبيّنت أنه نفس النبي وناهيك به من مقام(1).

ولسنا بعد ذلك بحاجةٍ إلى ترجمة أحدٍ، وقد قال النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):

«يا عليُّ ما عَرَفَ اللهَ حَقَّ معرفتِهِ غیري وغیرُك، وما عَرَفَكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ غیرُ اللهِ وغیري» .(2)

ب) الرسول الأعظم محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):

فقد عاصر دعوة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من أول يوم إلى آخر يومٍ مرورًا بهذه الفترة وأحداثها، فكان عليٌّ فيها روحَ النبيِّ وقلبَه بل كانَ نفسَه:

«وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ» .(3)

وكفى لذلك حديث «عليٌّ مِنِّي وأَنَا مِنْه .»(4)

ج) دلالة عليٍّ على ذاته بذاته:

فهو يدل بذاته على كمالاته ومقامه، ومن هذه الدلائل هذا النهج المعجز الخالد، الذي لم يتجلَّ فيه هذا الإبداع في الصياغة وحسب، بل فيه تبيان لكلِّ

ص: 24


1- كما في آية المباهلة «فمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنا ونِسَاءَكُمْ وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ على الكاذبن ». سورة آل عمران / 61 .
2- مناقب آل أبي طالب 3/ 60 .
3- سورة آل عمران / 61 .
4- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تأريخ دمشق 1/ 148 .

شيء، فهو فكرٌ إلهي في قوالب علوية، والقرآن فكر إلهي في قوالبَ إلهية.

وإذن فمصدر الإبداع واحد وهو الله تعالى وتقدس فا غروَ أن يكون نهج البلاغة بهذا المستوى وبهذا المقام الجليل.

وختامًا..

وإن كان يلذُّ للروح والمشاعر والوجود أن تهيم في هذه الذات، إلاَّ أننا ختامًا نكتفي بهذا الأثر الذي يرويه العلاَّمة الحلي(1)، يقول الراوي:

سمعتُ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد سُئِلَ بأي لغةٍ خاطبك ربُّك ليلة المعراج فأجاب: «خاطبني بلغةِ عليٍّ (علیه السّلام)، فألهمني أنْ قلتُ: يا ربِّ خاطبتني أم علي (علیه السّلام)؟ فقال: يا أحمد، أنا شيءٌ لا كالأشياء، خلقتُكَ من نوري وخلقتُ عليًّا من نورِكَ، فاطَّلعتُ على قلبك فلم أجدْ أحدًا إلى قلبِكَ أَحبَّ من علّیِ بنِ أبي طالب فخاطَبْتُكَ بلسانِهِ كيما يطمئِنَّ قلبُك .»(2).

وفي الحقيقة، أنا لا أفهم هذا السرَّ وما معنى هذه المخاطبة، وأعتقد أن الأمرلا يعني أنه كلام يشبه كلام عليٍّ ونبراتٍ كنبراته، بل أعتقد أن الأمر فوق ذلك وله أسرار لا نحيط بها.

وهذه رواية يرويها مخالفو أمیر المؤمنین (علیه السّلام) إلى جانب مئات بل آلاف الروايات التي تشیر إلى شخصية أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

ص: 25


1- منهاج الكرامة / 125 .
2- كشكول البحراني 1/ 54 وقد أورد روايتین، الثانية منها عن أبي المؤيد الموفق ابن أحمد المعروف بأخطب خوارزم في الباب السادس من كتاب (المناقب) ص 78 ، ط 3.

هذه الشخصية التي خلّدها التأريخ ولم يخلد غيرها ممن تسلّم الخلافة أو غيرهم، وهم الذين كانوا يحرجون حينما يتحدثون! وأما أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فإنه خلَّد للأجيال -فيما خلّد- هذا النهج الذي هو أثر من آثار الله تعالى.

وبعد .. حيث نحظى بنعمة دراسة نهج البلاغة في حین يُحرَمُ منها الكثیر،فجزاء هذه النعمة هو العمل بهداها وأن تَنفُذَ إلى أعماقنا.

نسأل الله أن نكون ممن يقتدي بأمیر المؤمنین (علیه السّلام) وأن لا نكون ممن يساهم في ظلمه، فإن من الظلم، بل من أشد الظلم لعليٍّ أن يبقى نهج البلاغة بعيدًا عن فكرنا وحياتنا ومشاعرنا، في حین أنه هو الفكر الأصيل والتربية الصحيحة

والموعظة والثقافة والتأريخ والعطاء الذي لا حدَّ له.

إذن جدير بنا ونحن ننتمي إلى هذه الدوحة بكلِّ فخرٍ واعتزاز، أن نحيى حياة علي بن أبي طالب.

«اللهُمَّ أحيني على ما أحييتَ عليه عليَّ بنَ أبي طالب وأَمِتْني على ما مَاتَ عليهِ عليُّ بنُ أبي طالب .»(1).

ص: 26


1- من أدعية تعقيب صلاة الصبح، مفاتيح الجنان / 19 .

2) الشريف الرضي

مدخل

أردت أن يكون هذا الحديث حول الشريف الرضي ناظمِ عقدِ النهجِ

العلوي، وذلك للتعرف على شخصية جامع النهج لتحديد مدى ثقتنا بما جمعه لنا من كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ومدى دقة اختياره وتعليقاته حول هذا العِلم الإلهي والكلام النبوي، وإن كان الشريف الرضي أسمى من أن يُعَرَّفَ أو يرقى له شك.

أولاً: نسب الشريف الرضي

جدِّي النبيُّ وأمي بنتهُ وأبي*** وصِيُّهُ وجُدودي خِیرَةُ الأُمَم

لنا المقامُ وبيتُ الله حُجْرَتُهُ ***في المجدِ ثابتةُ الأطنابِ والدُعمِ(1)

هو أبو الحسن محمد بن الحسن الطاهر بن محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم المجاب بن الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام).

وهو -كما في مصطلحهم- قصیر النسب، أي يكفي ذكر هذه السلسلة الشريفة من نسبه للتعريف به وأنه منحدر من شجرة مباركة، ويُعَدّ هذا مفخرة وشرفًا كبیرًا.

ص: 27


1- ديوان الشريف الرضي 2/ 388 .

وكان أبوه جليلاً عالي القدر، تقلب في مناصب العظمة من النقابة (يلقب بالنقيب الأوحد) وكذلك منصب رد المظالم وإمارة الحجيج، وما إلى ذلك منمراتب عظيمة.

وأما أمه فهي المرأة الجليلة فاطمة بنت الناصر من سلالة زين العابدين (علیه السّلام) وقيل يلتقي نسبها بنسبه بأمیر المؤمنین (علیه السّلام) من طريق ابنه عمر، وكانت أمه عظيمة الشأن جليلة المواقف، ولقد قال فيها الرضي:

لو كان مثلَكِ كلُّ أمٍّ برَّةً*** غني البنونَ بها عن الآبا ءِ(1)

ولد الشريف الرضي (رضی الله عنه) سنة 359 ه وتوفي سنة 406 ه فيكون عمره الشريف المبارك والقصر الطاهر 47 سنة فقط، وفي هذا يقول أخوه المرتضى:

لله عمرُكَ من قصیرٍ طاهرٍ*** ولَرُبَّ عمرٍ طالَ بالأدناسِ

ثانيًا: حياته ومعالم شخصيته

أ)إشارات إلى عظمة شخصيته منذ صباه:

فمن ذلك ما رواه شيخ الأمة ومعلمها أبو عبد الله محمد بن محمد المفيد الأجل -قدس الله روحه الطاهرة- يقول بأنني رأيت فاطمة الزهراء (علیها السّلام) وقد جاءت إلى المسجد وبيدها الحسن والحسن (علیهما السّلام) فقالت لي: يا أبا عبد الله، هذان ابناي فعَلِّمْهُما الفقه، يقول: فتحیرتُ من هذه الرؤيا... حتى كان اليوم الثاني فإذا بي وأنا في المسجد قد جاءت فاطمة بنت الناصر ومعها وصائفها ومعها جواريها

ص: 28


1- ديوان الشريف الرضي 1/ 27 .

وهي في وسطهم وبيديها ولداها محمد وعلي(1) وقد قالت لي: يا أبا عبدالله هذان

ولداي فعَلِّمْهُماَ الفقه، فبكيتُ لذلك وذكرتُ لها الرؤيا(2).

فعَلَّمَهُمَا وقد فتح الله لهما أبواب الفقه وأبواب المعرفة.

هذا الحدث في بداية دور هذه الشخصية، واشتمال الحدث على الزهراء والحسن والحسن (علیهم السّلام) وواسطة إمام الأمة المفيد، إضافة إلى صدق هذه الرؤيا وانطباقها وتحققها في الخارج -كل ذلك إِنباء في حينه- عن مستقبل هذه الشخصية

الزاخرة بالعظمة والعطاء.

ب) العمر القصير:

وإن المرء ليقي عجبًا أن السيد استطاع في هذا العمر القصیر أن يكوِّن كيانًا علميًّا ضخماً ويخلد آثارًا ويصنع قيادة مميزة -كما سنتحدث عن هذا هنا إن شاء الله تعالى- ولكن أَلاَ يرفع هذا التعجب معرفتنا أنه من سالة النبوة وشرف الإمامة وكفى؟

ج) الكيان العلمي العظيم:

كانت بغداد آنذاك عاصمة العلم ومهوى الأفئدة، وكانت مجمع العلماء على اختاف مللهم ونحلهم وأفكارهم، وحسبك أن فيها عالم الأمة الأوحد وإمامها المفيد، وكانت له حلقته الكبرى، ومع ذلك فقد كان لتلميذه الشريف الرضي حلقته المميزة لجامعيّته للعلوم، وكان له مقام خاص مميز في هذه العلوم لا سيما

ص: 29


1- محمد هو الرضي، وعلي هو المرتضى.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 41 .

فيا يتعلق بالعربية وفنون الأدب، وكان له ما يسمى مجمعًا علميًّا ومكتبة مميزة يرتادها أقطاب الأدب وروَّاد المعرفة، على غرار أخيه المرتضى وأستاذه المفيد(1).

د) آثاره:

وَجَّهَ الشريف الرضي عنايته العلمية -أولًا- إلى كتاب الله تعالى، وآثارُهُ حول القرآن الكريم كثرة، منها:

1) (حقائق التأويل) ويوجد منه الجزء الخامس فقط عنيت بطباعته جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف، ومما يؤسف له عدمُ وجود الأجزاء الأخرى من الكتاب، وذلك خسارة للمكتبة الإسلامية إذ يعد هذا الكتاب بمقدار كتاب (التبيان) للشيخ الطوسي -قدس سره- أو تفسر الطبري، ومع ذلك فإنه يُعرف من هذا الجزء المطبوع عمق الشريف الرضي في علم الكلام والعربية والتفسر

وما يدور في هذا الفلك.

2) (تلخيص البيان في مجازات القرآن) وهو مطبوع.

3) (معاني القرآن)، وكتب أخرى كثيرة حول القرآن الكريم.

ثم وَجَّهَ عنايته العلمية -ثانيًا- إلى حديث جده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ومن آثاره فيه (مجازات الآثار النبوية)، وقد يسمّى (المجازات النبوية) وهو -بحمد الله- مطبوع.

ثم وَجَّهَ عنايته -ثالثًا- إلى فضائل آبائه الطاهرين (علیهم السّلام)، فكان من ذلك جمعه لمعجزة علي (نهج البلاغة).

ص: 30


1- لاحظ حقائق التأويل (المقدمة) / 86 .

كما للشريف الرضي شروحٌ وتعاليقُ على كتب غیره وجمع لشعره وشعر غیره مثل (الحسن من شعر الحسن) أي الحسن بن الحجاج الشاعر الشهير.

ه) جمعه لنهج البلاغة:

لا شك أن من تسمو نفسه إلى هذه القمم الشامخة ويتوجه إلى دُرَرِ وجواهرِأمیر المؤمنین (علیه السّلام) لينظمها في عقد (نهج البلاغة) ينبغي أن يكون له من السمو مايليق بشجرة النبوة.

وينبغي أَلاَّ يظن أن هذا الجمع أمر سهل يسیر، فإن الاختيار دليل عقل المختار.

فلما بلغ الشريف الرضي من الكمالات والاستعداد، والنضج الفكري ما يؤهِّله لجمع النهج توجه لذلك، ولنصغِ إليه في مقدمته القيمة للنهج وهو يحدثنا عن جمعه للنهج، يقول رضوان الله تعالى عليه:

«فإني كنتُ في عنفوانِ السن، وغضاضةِ الغصن، ابتدأتُ في تأليفِ كتابٍ في خصائصِ الأئمةِ (علیهم السّلام)، يشتملُ على محاسنِ أخبارِهم وجواهرِ كلامِهم، حَدَاني عليه غرضٌ ذكرتُهُ في صدرِ الكتاب، وجعلتُه أمامَ الكلام، وفرغتُ من الخصائصِ التي

تخصُّ أمیرَ المؤمنین عليًّا (علیه السّلام) وعاقت عن إتمامِ بقيةِ الكتاب محاجزاتُ الأيام، ومماطاتُ الزمان، وكنتُ قد بوَّبتُ ما خرج من ذلك أبوابًا، وفصَّلتُهُ فصولًا، فجاء في آخرِها فصلٌ يتضمنُ محاسنَ ما نقِلَ عنه (علیه السّلام) من الكلامِ القصیرِ في المواعظِ والحكمِ والأمثالِ والآداب، دون الخطبِ الطويلةِ والكتبِ المبسوطة، فاستحسَنَ جماعةٌ من الأصدقاءِ ما اشتمل عليه الفصلُ المقدَّمُ ذكرُه معجبینَ ببدائِعِه،ومتعجبینَ من نواصِعِه، وسألوني عند ذلك أن أبتديءَ بتأليفِ كتابٍ يحتوي على

ص: 31

مختارِ كلامِ مولانا أمیرِ المؤمنین (علیه السّلام) في جميعِ فنونِه، ومتشعباتِ غصونِه: من خطبٍ،وكتبٍ، ومواعظَ، وأدب، علماً أن ذلك يتضمن من عجائبِ البلاغة، وغرائبِ الفصاحة، وجواهرِ العربية، وثواقبِ الكَلِمِ الدينيةِ والدنيوية، ما لا يوجدُ مجتمعًا في كلام، ولا مجموعَ الأطرافَ في كتاب، إِذْ كان أمیرُ المؤمنین (علیه السّلام) مشرَعَ الفصاحةِ وموردَها، ومنشأَ البلاغةِ ومولدَها، ومنه (علیه السّلام) ظَهَرَ مكنونُها، وعنه أُخِذَتْ قوانينُها، وعلى أمثلتِهِ حذا كلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامِهِ استعانَ كلُّ واعظٍ بليغ، ومع ذلك فقد سبقَ وقصروا، وقد تقدَّمَ وتأخَّرُوا، لأنَّ كلامَهُ (علیه السّلام) الكلامُ الذي عليه مسحةٌ من العلمِ الإلهي، وفيه عبقةٌ من الكلامِ النبوي... .»

إذن فالشريف الرضي (رضی الله عنه) بكل ما يحمل من شرف السيادة وطيب العنصر،وعلمٍ وإيمانٍ ومراقبةٍ لله تعالى، ومن فصاحةٍ وبلاغةٍ وذوقٍ رفيع - نجده هو (وليس غیره) الذي أشرف بنفسه على انتقاء وجمع هذا الأثر الخالد، وهذه الحقيقة

في الواقع توثيقٌ لهذا الجمع وحسْمٌ وردٌّ رادعٌ لكل مثیري التشكيك حول هذا النهج العظيم.

و) القيادة المميزة:

شَّرفَ الشريف الرضي مناصبَ عدة ضخمة تصل إلى حدّ أنها خلافة في خلافة كما يحلو لبعض المؤرخین التعبیر به، فلم يتجاوز العشرين قليلاً إلاَّ وهو نقيب الطالبيین يرعى شؤونهم رعاية تامة، ويحصيهم ويراقب الداخل فيهم بغیر حق والخارج منهم، ويفي لهم بحقوقهم ويقوم بتأديبهم وإرشادهم وتوفیر عطاياهم والقيام بقضاياهم.

ثم ترَقَّى ليكون نقيب النقباء، ثم أُوْكِلَتْ إليه ولاية المظالم وإقامة الحقوق،

ص: 32

ثم إمارة الحاج وهذا منصب كان في ذلك الوقت كبیرًا وخطیرًا يعتبر تمثيلاً للخليفة العام في أهم موسم للمسلمين وهو الحج العظيم، ولم يكن هذا المنصب ليعطى إلاَّ لمن توفرت فيه الشجاعة والحزم والعلم وسائر المؤهات والكمالات.

ثم ترقَّى ليعطى إمارة الحرمين.

وكان كفؤًا لهذه المناصب بل كان أكثر من ذلك، حتى أنه كان يطمح أن يشرف الخلافة بتوليه إياها(1).

ثالثًا: صفاته

1) النبوغ المبكر:

ومن شواهد ذلك أن السیرافي -شيخ العربية في وقته- كان أستاذًا للشريف الرضي (وعمره 10 سنوات) فسأله مختبرًا: ما علامة النصب في قولنا: رأيت عُمَرَ (أو عَمْرًوا)؟

فأجاب الشريف الرضي على البديهة: إِنَّ عَلامَةَ النَّصْبِ بُغْضُ أَمِیرِ المؤمِنینَ (علیه السّلام)، فعجب الحاضرون من جرأته في ذلك المحفل، الذي ملؤه علماء العامة،وسرعة بديهته وحِدَّةِ فكره.

(2)

2) إباؤه المنقطع النظير:

عُرِفَ عنه أنه كان يأبى أخذ العطية حتى من أبيه، ويذكر المؤرخون أنه عندما حفظ القرآن الكريم وهو شاب حدث السن، قال له معلِّمه:

ص: 33


1- يلاحظ الغدير 4/ 204 إلخ و(حقائق التأويل) المقدمة / 78 إلخ.
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 234 .

«أيها الشريف أين مقامك؟ قال: في دار أبي، بباب محول، فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه، قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة، فامتنع الرضي من قبولها وقال له: لم أقبل من أبي قط شيئًا، فقال: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك، لأني حفظتك كتاب الله تعالى، فقبلها .»(1).

3) سموّ نفسه:

فإنه وهو الشاعر العظيم الذي تنقاد له القوافي وتستجيب له المعاني قد ترفّع عن التملق للحكام بالمدح الفارغ لنيل عرض الدنيا مهما كان كثیرًا، ولم يتنزّل في وصفه للغزل والخمريات كعادة الشعراء حتى الكبار منهم، بل كان في جانبٍ واضحٍ يُرْمَقُ من الوقار والترفّع، فلم يساوم بشعره على حساب شخصيته، ولهذا لقب بالشريف الأجل، ولا شك أن ذاك الإباء وهذا السمو عالم خاص ارتضاه الشريف الرضي لنفسه السامية.

4) كرمه:

كان كريماً كآبائه الكرام، ومن ذلك أنه وأثناء سره للحج أمیرًا على

الحجاج، قطع عصابة عليه الطريق، ففدى الحجاج وحَفِظَ حياتهم هو وأخوه بتسعة أو سبعة آلاف دينار من مالهما الخاص(2).

5) علو همته:

فكان -كما مرَّ- يتطلع إلى أن يشرف الخلافة بتوليه إياها، ويرى نفسه أحق بها من أولئك الخلفاء.

ص: 34


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 34 .
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 235 .

فيخاطب أحد الخلفاء قائلاً:

إِلاَّ الخِلافةَ مَيَّزَتْكَ فإنني*** أنا عَاطِلٌ عَنْهَا وأَنْتَ مُطَوَّقُ

ويمسك بلحيته الشريفة يشمها فيلتفت إليه الحاكم الكبیر آنذاك قائلاً: كأنك تشم منها رائحة الخلافة، فيجيبه السيد: لا، وإنما رائحة النبوة(1).

6) شموليته وجامعيته للمعارف والكمالات:

يبرز العظاء والعباقرة في مجال أو مجالات محددة، وقلّ من يبرز في كل مجال،والشريف الرضي من هؤلاء القلة، فقد برز وحلّق في كل فضيلة ومنقبة، وما ذكرناه في هذا الدرس الشريف دليل كافٍ على هذا الاعتقاد، رغم أن ما ذكر شيء يسیر من عطائه وشخصيته الفذة، ويجب أن نعترف بأننا قصرنا في بيان فضل

السيد (رضی الله عنه) إلاَّ أن شهرته التي مأت الخافقین تغني عن بياننا، فهو الخالد بخلود جده أمیر المؤمنین (علیه السّلام).(2).

رابعًا: الشريف الرضي قدوة للمؤمنين الموالين

أغتنم الفرصة ونحن في هذه الرحاب المقدسة الطاهرة أن أشیر إلى جوانب القدوة لنا في هذه الشخصية النادرة، فإنه كان يريد للطالبيین، وهو نقيبهم ومؤدبهم، أن يكونوا أفضل العباد، وأن يحاكوا آباءهم الطاهرين في إيمانهم واستقامتهم وهديهم، ولهذا كان عندما يُرْفَعُ إليه طالبيٌّ جَنَى يوفّيه حقه من التعزير ثم يضيف إليه تعزيرًا آخر، فيُسْأَلُ عن ذلك فيجيب بأن هذا سالة منتجَبة من

ص: 35


1- الكشكول للشيخ يوسف البحراني 1/ 316 .
2- يلاحظ حقائق التأويل في متشابه التنزيل (المقدمة) / 84 - 85 .

محمد وعلي وفاطمة فيجب أن يكون عمله يليق بهم وأن يكون قدوة للآخرين(1).

ويقول لبعض القائمين بالأمور:

لا تَنْظُرِ الباغِي لِقُرْبَى وَارْمهِ*** بِالذُّلِّ واقْطَعْ ما عَلَيهِ يُعَوِّلُ

والعَفْوُ مَكْرُمَةٌ فَإِنْ أَغْرَى بهِا*** مُتَغافِلٌ قالَ الرجالُ مُغَفَّلُ(2)

فيجب ونحن أتينا هنا يجمعنا حبنا ورغبتنا في عطاء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أن نكون لائقین به ونحاسب أنفسنا بمقاييسه (علیه السّلام)، يجب على الطالب العزيز أن يهذِّب نفسه من كل منقصة قبل الحضور إلى درس (علي) لأنه هو الكمال ولا

يرضى منا النقص، علينا أن نلتفت إلى قولنا وعملنا وصحبتنا للآخرين لتكون سیرتنا على (نهج علي)، وهذا درس لنا جميعًا أن نستشعر أننا أتينا هنا لنكون بن يدي أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فيجب أن نكون في مستوى شرف الإضافة والانتساب لائقین لأن نكون تلاميذَ له، وإلَّ كان علمنا وبالًا علينا، وينبغي مجاهدة النفس

وتحقيق صفائها لينفذ إليها (نور علي).

جعلنا الله ممن يقتدي بمثل هذه السيرة المباركة وأعاننا على أنفسنا.

ص: 36


1- حقائق التأويل في متشابه التنزيل (المقدمة) / 63 .
2- حقائق التأويل في متشابه التنزيل (المقدمة) / 63 .

3) سهام التشكيك

مدخل:

كِتَابٌ كَأَنَّ اللهَ رَصَّعَ لفْظَهُ*** بجوهَرِ آياتِ الكتابِ المُنَزَّلِ

حَوَى حِكَماً كالدُرِّ يَنْطِقُ صادقًا*** فَلا فَرْقَ إِلاّ أنهُ غرُ منْزَ لِ(1)

أولاً: سند نهج البلاغة

أ) مقصد الشريف الرضي:

وهو أن يَنْظِمَ هذا الكَلِمَ في عِقْدٍ واحد ولم يكن من قصده وهمّه أن يكون باحثًا عن مصادر الكتاب التي كانت ثرية بها مكتبته ومكتبة أخيه ومكتبات بغداد عاصمة العلم آنذاك.

ب) الشريف الرضي موضع الثقة والعدالة:

وذلك ما تَعَرَّفْنَاهُ -في الدرس السابق- في هذه الشخصية الفذة من الثقة ومزيد الإيمان والخشية من الله أن يفتري أو يتَقَوَّلَ على جده أمیر المؤمنین (علیه السّلام)قولًا لم يقله.

ج) مصادر نهج البلاغة:

إن صح أنها نقطة تُسجَّلُ على السيد الشريف فنيًّا حيث أنه لم يذكر المصادر

ص: 37


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 245 ، ولم ينسبهما إلى قائل.

التي أخذ منها الكتاب(1)(كما يعتاد عليه الباحثون الآن) إلاَّ أنها والحمد لله قد تداركها الباحثون بعده وأشبعوا البحث فيها بما لا مزيد عليه، كما سيأتي إن شاء

الله تعالى.

ثانيًا: التشكيك في نسبة نهج البلاغة

طرأ التشكيك على هذا الكتاب الفريد منذ زمن طويل، وقيل أول المشككين هو ابن خلِّكَان وقيل غیره، واستمر التشكيك ولعله إلى يومنا هذا.

ثالثًا: أسباب التشكيك

أ) أسباب مفتعلة أو ثانوية:

1) الجُمَلُ والمصطلحات غير المعهودة:

من جملة ما لاحظوا أن هذا الكتاب قد حوى جملاً ومصطلحاتٍ فلسفيةًوعلمية يقولون إنها لم تُعْهَدْ في ذلك الزمن.

2) المواضيع العلمية:

ص: 38


1- قال السيد الأمن في كتابه (أعيان الشيعة) 1/ « ،540 منها (أي بواعث التشكيك في نهج البلاغة) إنه ليس فيها أسانيد، (والجواب) لأن جامعه لما كان من العلماء الثقات الخيرين وجب قبول قوله في أنه أخذ ما جمعه من كتب العلماء المعتبرة ولم يكن من قصده من جمعه أن تؤخذ منه الأحكام ومسائل الحلال والحرام ليذكر أسانيده، وإنما قصد جمع مختارات كلام له حظه في الفصاحة والبلاغة والمضامن العالية لينتفع قراؤه بذلك، ولو علم الشريف الرضي أنه سيجيء زمان ينكر فيه بعض الناس أن نهج البلاغة من كلام علي ويدعي فيه الركة وهو لا يعرف جامعه فينسبه إلى غیره لاجتهد في ذكر أسانيده وذكر الكتب التي انتخبه منها كما أنه أشار إلى بعضها .»

في حديثه عن الله والمعاد وجملة من الشؤون العَقَدية، نلاحظ أنه لم يعهد عند متكلم أن حام حولها أو تكلم بمثلها فجعلوا ذلك دليلاً أن هذا أمر منتحل باعتبار أنه يعبر عن ظواهر لم تعرف إلا في العصر العباسي من جهات علم الكلام أو ما إلى ذلك.

3) الأسلوب:

بما فيه من سجع وبما فيه من جوانب بلاغية عديدة، وما فيه من إطالة وإطناب لم يعهد في خطب الخطباء آنذاك، فجعلوا ذلك من الطعن والوهن في هذا الكتاب.

4) حديثه عن علم الغيب ووصفه لمخلوقات لم يرها.

هذه بعض أسباب التشكيك بالإضافة إلى أمور كثیرة أوصلوها إلى أربعة عشر أمرًا أو أكثر.

وتحكي هذه التشكيكات أنهم لم يدركوا ولم يعرفوا مقام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لا سيما ومَبْناهم على أنه صحابي كسائر الصحابة وترتيبه الرابع في الفضل عندالكثیر.

ب) أسباب حقيقية أو أساسية:

1) احتجاجُ أمير المؤمنين (علیه السّلام) على من تولَّی الحكم ومعارضته الواضحة لهم:

فقد كان صريحًا وواضحًا في أحقيته بالإمامة وأنه الوصي، وقد احتجّ على من ملك الأمر دونه وانتقدهم بعبارات واضحة وصريحة تجلت في خطبته

ص: 39

(الشقشقية)، التي لا يقرّ قرارٌ لأعداء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بالاستماع إليها، لأنه إذا تمت نسبتها إليه فإما أن يخطِّئوه وإما أن يخطِّئوا من خطَّأهم أمیر المؤمنین ،(علیه السّلام)

وتخطئة أولئك لا تجوز عندهم، وتخطئة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) قد يجرؤون عليها، ولكن البعض منهم لا يود أن يصرح بذلك، فلهذا يسعون جاهدين إلى نفيها وأنها لم تصدر منه.

ولهذا توجّه علماؤنا بالذات إلى هذه النقطة بنحو أخص وأثبتوا المصادر التي اشتملت على هذه الخطبة في كتب كُتِبَتْ قبل حياة الشريف الرضي أو قبل تدوينه للكتاب، أَوْ لا أقل، من معاصريه بل من أساتذته(1).

2) جهلُهم بشخصية الإمام (علیه السّلام) أو بغضهم له مع معرفتهم بمقامه.

ص: 40


1- قال السيد الأمین في (أعيان الشيعة) 1/ 540 ما نصه: «وإذا تأملنا بعین البصرة والإنصاف وجدنا أن الباعث لهؤلاء على إنكار نهج البلاغة كله أو بعضه إنما هو اشتماله على ما ما يعدونه قدحًا في الصحابة المقدسین عن كل قدح كالذي اشتملت عليه الخطبة الشقشقية وغيرها، واشتماله على ما يظهر منه التألم ممن تقدمه في الخلافة وإظهار أنه أحق بها منهم، هذا هو الباعث لهم على الإنكار لا أقل ولا أكثر، وقد أوضح عن هذا المعنى أمر البيان شكيب أرسلان في كلام له في مجمع معه أفاضل دمشق المشهورين(*) حین زارها بعد رجوعه من أوربا بعد الحرب العامة الثانية فجرى ذكر نهج البلاغة فقال أحدهم إنه موضوع على لسان علي ووافقه الباقون والأمير شكيب ساكت فسألوه عن رأيه في ذلك فقال: إذا كان موضوعًا فمن هو واضعه هل هو الشريف الرضي؟ قالوا: نعم، قال إن الشريف الرضي لو قسم أربعین رجلاً ما استطاع أن يأتي بخطبة واحدة قصیرة من خطب نهج البلاغة أو جملة من جمله، نهج البلاغة من كلام أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب دون شك ولكن الذي أوجب الشك فيه اشتماله على القدح في الصحابة الذين هم مقدسون في أنظارالناس .» (*) كذا في المصدر.

رابعًا: الرد على التشكيكات

1) التخبط في التشكيك: جملة منهم يقولون إن المرتضى هو الذي انتحل هذا الكتاب، وآخرون يقولون اشرك فيه الرضي والمرتضى، وآخرون قد يضيفون آخرين، فلماذا كل هذا؟

2) اعتراف الشريف الرضي نفسه: فهو يعترف أنه جامع الكتاب.

3) إرشاده في كتبه إلى ما دَوَّنه في نهج البلاغة.

وهذا من دلائل الصدق والانسجام، أن ينسب في كثر من كتبه، في (المجازات النبوية) أو في (حقائق التأويل) أو غيرها جملة من الكلمات والبحوث أنه قد شرحها في (نهج البلاغة)، بل إن بعض معاصريه يرشدون ويشرحون بعض ما ورد في (نهج البلاغة) من كلام أمیر المؤمنین(علیه السّلام).

4) بُعْدُ أسلوب الرضي عن أسلوب أمير المؤمنين (علیه السّلام).

حتى أن ابن أبي الحديد جعل من الحماقة والغفلة والمكابرة والعصبية أن ينبري أحد فيقول إن (نهج البلاغة) منتحل، وقد قال بملء فيه -وهو العالم الأديب- إننا نعرف مقاييس الشعر وكلمات الشعراء وأنفاسهم وانسجامهم ونميز بن شعر ينسب لفلان وشعر ينسب لآخر، وأن هذا دخيل وهذا صحيح لمعرفتنا لأذواقهم

ولمذاهبهم الشعرية، فكذلك عندما نقرأ كلمّا أو خطبة أو كتابة للرضي نَفْسِهِ نعرف نَفَسَهُ ونعرف أسلوبه وأنه شتان ما بین ما ضَمَّنَهُ في نهج البلاغة (من كلام الأمیر

ص: 41

(علیه السّلام) وبین ما كتبه لنفسه ومن عندياته، وسبحان الله أي داعٍ أن يفتخر الرضي بهذاالنوع من الكلم وينسبه لغره؟ لماذا لا ينسبه لنفسه؟(1).

5) وجود مصادر قبل النهج ذكرت بعض ما في النهج:

كما نبيِّنه هنا إن شاء الله تعالى.

خامسًا: بعض ما أُلِّفَ حول مصادر نهج البلاغة وحول الشبه المثارة

والكتب في هذا المجال كثيرة جدًّا ومن جملتها:

1) (ما هو نهج البلاغة) للعالم الجليل السيد هبة الدين الشهرستاني (رحمه الله)(2).

وكتابه هذا كراس صغر ولكنه استوعب الحديث عن الشبه المورَدَةِ وردَّها ردًّا علميًّا رصينًا.

2) (نهج البلاغة لمن؟) للشيخ محمد حسين آل ياسين.

تعرّض فيه إلى أن جملة من المقالات نرت في بعض المجلات فطلبت إليه مجلة (البلاغ) العراقية الحديث عن ذلك، وأفاض القول في النقاط المطروحة للبحث والتي أثارها من حاول التشكيك.

ص: 42


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 128 وهو رأي جدير بالنظر والتأمل.
2- ولد سنة 1301 ه/ 1884 م في سامراء، وقد كان من الأفذاذ وهو بالإضافة إلى علمه وفقاهته وكثرة مؤلفاته ونشاطه الاجتماعي والإصلاحي- أيضًا ممن شغل منصبًا وهو وزير المعارف سنة 1921 م في العراق، وله مكتبة ضخمة عند مرقد الكاظمین (علیهما السّلام)، باسم مكتبة الجوادين (علیهما السّلام)، وهو صاحب كتاب (نهضة الحسین) و(الهيئة والإسلام)، و(ثقات الرواة)، وأصدر أول مجلة في النجف الأشرف وهي مجلة (العلم)، وتوفي سنة 1386 ه ودفن في حرم الجوادين (علیهما السّلام).

3) (مصادر نهج البلاغة) للعلاَّمة الشيخ عبدالله نعمة(1).

وهو كتاب جليل ويتجلىَّ فيه جهد علمي كبیر، وقد بینّ فيه جملة من المصادر وردَّ كثیرًا من الشبه ولاحظ تأريخها وبدايتها ومن أسَّس عليها وأصَّلها وفرَّع عليها، كما أجاب على كثیر من الشبه والإشكالات.

4) (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) للعلاَّمة الخطيب السيِّد عبد الزهراءالحسيني.

ويكاد يكون موسوعة تجمع بن كثیر من الأمور، ففيه الاستدراك والدفاع والمعارف والعلوم الجليلة، وهو جدير بالرجوع إليه والقراءة المتأنية، وقد أوفى الغرض بما ذكر من مصادر وأسانيد، وكأنما أكمل جهد الشريف الرضي، وأشارإلى مؤلفات ومجاميع ذكرت جملاً كثیرة مما في نهج البلاغة أُلِّفت قبل سنة 400 ه

(سنة انتشار أو كتابة نهج البلاغة)، وكذلك إلى أعام دوَّنوا خطبًا وأشاروا إلى كلمات من كلم أمیر المؤمنین (علیه السّلام) قبل الشريف الرضي، فمن ذلك:

أ) المفيد وتوفي سنة 413 ه.

ب) القاضي أبو حنيفة المصري صاحب كتاب (دعائم الإسلام)، وتوفي سنة 363 ه.

ج) المسعودي الذي توفي سنة 346 ه وذلك قبل وفاة السيد الرضي.

ص: 43


1- أحد علماء لبنان المعاصرين وصاحب كتاب (فلاسفة الشيعة) و(روح التشيع) و(عقيدتنا في الخالق والنبوة والآخرة) وكتب أخرى في مجالات عدة.

د) أبو حنيفة الدينوري الذي توفي حدود سنة 290 ه.

وكذلك آخرون وقد جاءت أكثر من 114 مصدرًا كلها قبل سنة 400 ه.

5) (مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه) لآية الله الشيخ هادي كاشف الغطاء.

6) (مسند نهج البلاغة)، في أجزائه الثلاثة، للمحقق المتتبع العلاّمة السيد محمد حسن الجلالي(1).

سادسًا: مستدركات نهج البلاغة

إن ما أثبته الشريف الرضي في (نهج البلاغة) لم يكن كل ما أُثِر عن أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، كما صرح الشريف الرضي نفسُه بأنه انتقاه واختاره، وقد يقف على الخطبة فينقلها أو ينقل شيئًا منها، ثم يقف عليها برواية أخرى فيوردها ثانيةلاختاف الروايتین أو يختار، ولهذا كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين المعاصر لا يكتم هذا التبرم أو هذه الرغبة الملِحَّة أنه ليت السيد أكمل للبشرية هذا النفع بأن دوّن كل كلم أمیر المؤمنین في مختلف المجالات، ومما يهون الخطب شيئًا وجود مستدركات لنهج البلاغة يتمم بعضها بعضًا، فمن ذلك:

1) ما كتب مستقلًّا في مجالات أخرى تتعلق بالدعاء (كالصحيفة العلوية والتحفة المرتضوية)(2)، و(الصحيفة العلوية الثانية(3)، وكبعض خطب الجمعة،

ص: 44


1- وهو أنموذج مميّز في التتبّع بأناة ودقّة، وقد أنجز جملة وافرة في مجالات عدة.
2- للشيخ عبد الله الساهيجي من كبار علماء البحرين وقد جمع فيها ما صحت عنده روايته من الدعوات. مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/ 81 .
3- للشيخ المیرزا حسن النوري وقد استدرك فيها ما فات السماهيجي من أدعية أمیر المؤمنین (علیه السّلام)ومناجاته. مصادر نهج البلاغة وأسانيده / 83 .

و(ألفین كلمة من حكم أمیر المؤمنین (علیه السّلام)( وغیر ذلك.

2) (نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة) في 8 مجلدات للشيخ محمد باقر المحمودي(1).

3) (مستدرك نهج البلاغة) لآية الله الشيخ هادي كاشف الغطاء.

وغير ذلك كثير.

سابعًا: نهج البلاغة والضجة الفكرية والعلمية

هذا الكتاب في واقع الأمر أَحْدَثَ ضجة، ومن بعض حسناتها المهمة أنها عادت ضجة علمية ضخمة، لماذا؟ لأن الحق لابد أن يظهر وإن حاول الجاحدون إطفاء نور الله «ويَأْبَى اللهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نورَهُ ولو كَرِهَ الكافِرُونَ .»(2).

فنجد أنه قد انبرت للدفاع ولإثبات أمر نهج البلاغة أقلام وأفكار وعقول متفاوتة تختلف في المذهب ولكنها تتحد في النتيجة، فمن كراسة إلى كتاب ضخم في عدة أجزاء كالموسوعة، كلها بيان لهذا الأمر الثابت بما لا يُبقِي ذرة واحدة من تشكيك، وإن الحر تكفيه الإشارة، والمعاند لا تنفعه ألف عبارة، حتى أن بعضهم يأخذ به الهوى والنصب فينال حتى من الشرّاح لهذا النهج العظيم.

ص: 45


1- هو أحد المحققین المعاصرين وممن له اهتمام بالغ بتحقيق التراث السني الذي يتعلق بأهل البيت (علیه السّلام) وقد حقق من (تأريخ ابن عساكر) ما يخص الإمام عليًّا وابنيه الإمامین الحسنين (علیهما السّلام)، كما حقق (شواهد التنزيل) للحسكاني، وغيرها.
2- سورة التوبة / 32 .

نعم، أحدث ضجة علمية وإلى الآن لم تهدأ، يضاف إلى ذلك ما أثاره من أفكار سواءً كان في مجال الفلسفة أو في المعارف الأخرى، فانبرت الأقلام والأفكار للتحليل والتعليل لما كتب، وكما يقول الخطيب السيد عبد الزهراء حفظه الله إنه لو لاحظنا المصادر التي ترجع إلى هذه الأمور لاستطعنا أن نؤلف مكتبة ضخمة

باسم (مكتبة نهج البلاغة)(1).

إذن لنا أن نقف في هذا الموقف بكل وثوق بأن هذا الأثر لم يكن أثرًا عاديًّا،بل كلما أوغل الإنسان فيه أصابه العجب بل لا يكاد ينقطع عجبه.

يَزيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا*** إذا مَا زِدْتَهُ نَظَرا

ثامنًا: موضوعات نهج البلاغة وأفكاره

سار نهج البلاغة سیرة القرآن في هداية البشر وتربيتهم، تحدَّثَ في الإلهيات والفلسفة وعلم الكلام وما إلى ذلك، تحدَّثَ عن الإنسان وأسرار خلقته وما يحمل من نوازع وعواطف وخواص وما في هذه التركيبة من صنع الله وإبداعه وإعجازه،تكلَّمَ عن الآخرة والدنيا، تكلَّمَ عن الحرب والسلم، تحدَّثَ عن القرآن والفقه

والحديث والنبوة والتأريخ، وأشار إلى الأصول، تكلَّمَ عن الطیر والهواء والأرض والسماء والبر والبحر، تكلَّمَ عن كل شيء، وهذا كله جانب، ومواعظه وزواجره ونواهيه وأوامره جانب آخر.

وقد أحسن الباحثون صنعًا في أنهم يستخرجون موضوعات نهج البلاغة ويصنفونها تصنيفًا فنيًّا بما ينسبون كل شيء إلى بابه، تمامًا كما تأمَّل الباحثون

ص: 46


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/ 200 ، وقد نقل تحت عنوان (مكتبة نهج البلاغة) مقتطفات قيمة من كلمات الدكتور زكي مبارك.

والمستشرقون منهم فكتبوا في موضوعات القرآن الكريم.

ويقصر الإنسان عن إدراك هذه الحقيقة، كيف يتأتَّى لإنسان تُعْرَفُ عيشته وحياته وجميع شؤونه وأنه عاش في وسط معه كثیرون وسبقه كثیرون أكبر منه سنًّا وجاء بعده من جاء في عصر العلم وازدهاره، هذا وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) عاش معهم،

لهم صلة برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كما له على حدٍّ سواء، ولكن لا نجد لهم شيئًا يذكر.

هذا من جهة الكم فما بالكم من جهة الكيف، لم نعهد لعمر أن تحدث في شيءٍ يتعلق بالآخرة ولا بأسرار خلقة الإنسان ولا لأبي بكر ولا لعثمان شيئًا من هذا، ناهيك عن الفصاحة وكون الكلمات والمعاني أسیرة خاضعة خاشعة له ،(علیه السّلام) أنا لا أشك أن المدد من النبي بل من الله تعالى، تمامًا كما أن القرآن علم الله الذي أنزل على قلب محمد.

ويطيب لي أن أنقل كلمة لابن أبي الحديد حول امتياز أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في سائر شؤونه:

«واعلم أن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لو فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته، التي آتاه الله تعالى إياها، واختصَّه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره، ولست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية

على إمامته، كخیر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة، وخیر المناجاة، وقصة خيبر، وخیر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك، بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث، التي لم يحصل أقل القليل منها لغیره، وأنا أذكر من ذلك شيئًا يسیرًا مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه، وجلهم قائلون بتفضيل غیره

ص: 47

عليه، فروايتهم فضائله توجب سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم... (1).

واعلم أنا إنما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا، لأن كثیرًا من المنحرفین عنه (علیه السّلام) إذا مروا على كلامه في (نهج البلاغة) وغیره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول له (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وتمييزه إياه عن غره، ينسبونه إلى التيه والزهو والفخر،ولقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة، قيل لعمر: ولِّ عليًّا أمر الجيش والحرب، فقال: هو أتيه من ذلك! وقال زيد بن ثابت: ما رأينا أزهى من علي وأسامة!

فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسر قوله: (نحن الشعار والأصحاب ، ونحن الخزنة والأبواب) أن ننبِّه على عظم منزلته عند الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وأن من قيل في حقه ما قيل لو رقى إلى السماء، وعرج في الهواء، وفخر على الملائكة والأنبياء، تعظُّماً وتبجُّحًا، لم يكن ملومًا، بل كان بذلك جديرًا، فكيف وهو (علیه السّلام) لم يسلك قط مسلك التعظُّم والتكبرُّ في شيء من أقواله ولا من أفعاله، وكان ألطف البشرخُلُقًا، وأكرمهم طبعًا، وأشدَّهم تواضعًا، وأكثرهم احتمالًا، وأحسنهم بشرًا،

وأطلقهم وجهًا، حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح، وهما خلقان ينافيان التكبر والاستطالة، وإنما كان يذكر أحيانًا ما يذكره من هذا النوع، نفثة مصدور،وشكوى مكروب، وتنفس مهموم، ولا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة، وتنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة، فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف، والحض على اعتقاد الحق والصواب في أمره والنهي عن المنكر الذي هو تقديم

غیره عليه في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال: «أَفَمَنْ يَهدِي إِلَی الَحقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَّا يَهدِّيَ إِلّاَ أَن يُهدَى فَماَ لَكُمْ كَيْفَ تَحكُمُونَ» .(2).(3)

ص: 48


1- ثم ذكر ابن أبي الحديد أربعة وعشرين خبًرا في فضل أمير المؤمنين (علیه السّلام).
2- سورة يونس / 35 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/ 166 - 175 .

تاسعًا: القرآن الكريم ونهج البلاغة سيرة واحدة

1) التشكيك فيهما:

فقد قال القائلون إن القرآن ليس لله وقد قال القائلون إن نهج البلاغة ليس لعلي، وإن هذا ليس ببعيد عن الأسرار من التماثل أو التشابه بن القرآن الكريم ونهج البلاغة حتى في اتهامهما معًا.

2) وحدة موضوعاتهما:

فقد حذا النهج حَذْوَ القرآن تمامًا لا يفارقه في اتجاهاته في البحث ومناحيه لهداية البر وتربيتهم كما مرَّ، وصدق القائل وهو الإمام علي نفسه: «هذا كتابُ اللهِ الصامت وأنا كتابُ اللهِ الناطق .»(1)

والواقع أننا لا نريد أن نغالي في شخصية أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وَكَفَى بأنهُ يحملُ أسرارَ القرآنِ كاملةً لا يَشُذُّ عنهُ شيءٌ منها.

3) الاستفادة منهما للجميع:

اقتضت حكمة القرآن أن يستفيد منه كل من قرأ منه، كذلك أيضًا يستفيد من نهج البلاغة كل من قرأ منه، ففي حديث واحد يأخذ بيده أمیر المؤمنین (علیه السّلام) إلى مواطنَ عدة من الحكمة البالغة ومن الهدى والسداد.

4) كشف العلم والزمن عن أسرارهما:

كلما تقدم العلم جلىَّ شيئًا من حقائقِ القرآن، كذلك أيضًا شاء الله أن يهب نهج البلاغة ذلك.

ص: 49


1- وسائل الشيعة 18 / 20 .

وبعد.. فذلكم نهج البلاغة.. شعاع من نور علي.. الذي هو نفس رسول الله، يحيط بكثر من الأسرار الإلهية، وأُوْتِی فصلَ الخطاب، أبو الشجاعة، وأبو العبقرية النادرة الذي تقر حتى كلمة العبقرية أن تعر عنه، وكل هذا ما لا يفقهونه وما لا يفهمونه.. أو يفهمونه ولكن لا يحبون أن يذيعوه أو يعترفوا به.

وتلكم هي الحقيقة مشرقة كالشمس ما ضرها من جادل وشكك فيها..

وذلكم هو الطود الشامخ لم يعبأ بسهام التشكيك.

خاتمة:

نهجُ البلاغةِ نهجُ العلمِ والعَمَلِ*** فاسْلُكْهُ يا صاحِ تَبْلُغْ غايةَ الأمَلِ

كم فيهِ من حِكَمٍ بالحقِّ مُكَمَةٍ*** تُحيي القلوبَ ومن حُكْمٍ ومن مَثَلِ

ألْفَاظُهُ دُرَرٌ أَغْنَتْ بِحِليتِها*** أهلَ الفضائلِ عن حُلی وعن حُلَلِ

ومِن معانيهِ أنوارُ الهدى سَطَعَتْ*** فانْجَابَ عنها ظامُ الزَيْغِ والزَلَلِ

وكيف لا وهْوَ نهجٌ طابَ منهجُهُ*** هدَى إليهِ أمیرُ المؤمنینَ علي(1)

ص: 50


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 244 .

4) بعض الصدى

مدخل:

نَهجُ البلاغَةِ رَوضَةٌ مَمطُورَةٌ*** بالنّورِ مِنْ سُبُحَاتِ وَجْهِ البَاري

أَوْ حِكْمَةٌ قُدُسِيَّةٌ جُلِيَتْ بها*** مِرْآةُ ذَاتِ اللهِ للنُّظَّارِ

أَوْ نُورُ عِرْفَانٍ تَلأْلأَ هاديًا*** لِلعَالِمینَ مَنَاهِجَ الأبرارِ

نُضَمِّنُ هذه الحلقةَ حولَ نهجِ البلاغةِ جملةً من الإِحصائياتِ والمعلوماتِ عن هذا النهجِ العظيمِ لِتكونَ تَتْميماً للحلقةِ السابقة.

أولاً: الاهتمامُ العجيبُ والعنايةُ التامةُ بهذا الكتاب الجليل

وإن هذا الاهتمام وهذه العناية لهما على غرار ونسق الاهتمام بكتاب الله الأعظم، فالقرآن الكريم لا يزال وسيبقى مصدرًا للبحث وإِعْمالِ النظر في شتى المجالات، ولا يَقْدِرُ العادُّون إحصاء التفاسیر والدراسات التي تدور حول كتاب الله الأعظم، ونجد الاهتمام العجيب حول نهج البلاغة لا يزال وسيبقى.

ثانيًا: مظاهر الاهتمام

1) الحِفْظ:

فإن جملة من الحَفَظَةِ اشتغلوا بحفظه كاملاً على نَسَقِ كتاب الله الأعظم، وذُكِرَتْ شخصياتٌ عديدةٌ ممن يحفظ النهج كاملاً قديماً وحديثًا من العلماء

ص: 51

والخطباء، ولا شك أن ذلك مظهر من مظاهر الاهتمام(1).

2) النَّظْم:

كثیر من جُملِ وكلمات وأفكار النهج نُظِمَتْ شعرًا سواءً كان ذلك باللغة العربية أو بلغات أخرى كالفارسية والتركية وغيرها، ومن شواهد ذلك ما في تتميم كتاب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) لمؤلفه العظيم المیرزا حبيب الله

ص: 52


1- قال الصفدي في (الوافي بالوفيات) 18 / 236 : ابن نباتة الخطيب، عبد الرحيم بن محمد... الفارقي، قال سبط بن الجوزي: كان يحفظ نهجَ البلاغة، وعامةُ ألفاظه وخطبه من معانيه.وقال ابن الأثر في (البداية والنهاية) 12 / 260 : محمد الفارقي أبو عبد الله الواعظ، يقال إنه كان يحفظ نهج البلاغة ويعبر ألفاظه، وكان فصيحًا بليغًا يُكتب كلامه. وذكر الشيخ الأميني في الغدير 4/ 186 جملة من حفاظه وهم القاضي جمال الدين محمد بن الحسین بن محمد القاساني فإنه كان يكتب (نهج البلاغة) من حفظه، والفارقي، والسيد محمد اليماني المكي الحائري، والشيخ محمد حسن مروَّة، وهو من عجائب الحفاظ. كما ذكر الشيخ الطهراني في الكرام البررة 1/ 154 أن الشيخ المولى أكبر زمان الكرماني كان حافظًا لنهج البلاغة. وجاء في مجلة (العرفان) مج 44 ج 3 ص 282 عن الدكتور زكي مبارك أنه يحفظ نهج البلاغة، كما ذكر الشيخ اليعقوبي في البابليات 2/ 182 في ترجمة الشيخ مهدي اليعقوبي: ولا أغالي إذا قلت إنه كان يحفظ ثلاثة أرباع نهج البلاغة بما عليها من شروح ابن أبي الحديد وغره.وأضاف السيد الخطيب الحسيني في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) 1/ 256 كلًّا من الخطيب السيد صالح الحلي والأستاذ معن العجلي إلا القاصعة والوصية وعهد مالك الأشتر، والشيخ حسن جلو. وجاء في (مذكرات الشيخ بهلول السياسية) ص 56 أنه يحفظ أكثر خطب نهج البلاغة، والشيخ بهلول من النوادر العجيبة الغريبة في شؤونه وأطواره.

الخوئي، فإن من تَّممَهُ ذكر بعد كل ترجمة للكلمات القصار أو لبعض الخطب نَظْماً فارسيًّا لهذه الكلمات القصار أو الحكم التي يوردها(1).

وذلك باعتبار سرعة حفظ الشعر وكونه أسهل وبما يضفي عليه من وَقْعٍ خاص وإن كان لا يرقى قطعًا لبلاغة وفصاحة النهج ذاته، وقد كان ذلك معهودًا في عهد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يُنْظَمَ حديثُه(2).

ص: 53


1- وقد نُظِمَ بالفارسية أكثرَ مِنْ نَظْمٍ كما جاء في (مصادر نهج البلاغة) 1/ 257 ، كما نظم جملة معانيه وحكمه (المتنبي) وقد جمع السيد الخطيب الحسيني شطرًا من ذلك، واقرأ في كتابه (مائة شاهد وشاهد من معاني كلام الإمام علي (علیه السّلام) في شعر أبي الطيب المتنبي).
2- فمن حديث قيس بن عاصم: قلت يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نعر في البرية، فقال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): يا قيس إِنَّ مَعَ العِزِّ ذُلّاً، وإِنَّ مَعَ الحياةِ موتًا، وإِنَّ مَعَ الدنيا آخرة، وإِنَّ لِكُلِّ شيءٍ حَسِيبًا وعلى كُلِّ شيءٍ رقيبًا، وإِنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثوابًا ولِكُلِّ سيئةٍ عِقَابًا ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وإِنَّهُ لا بُدَّ لَكَ يا قيسُ مِنْ قرينٍ يُدْفَنُ معكَ وهو حيٌّ وتٌدْفَنُ معهُ وأنتَ ميتٌ، فإنْ كانَ كريماً أَكْرَمَك،وإِنْ كانَ لَئِيماً أَسْلَمَك، ثُمَّ لا يُحشرَ إِلاَّ معكَ ولا تُبْعَثُ إِلاَّ معه، ولا تُسْأَلُ إِلاَّ عنهُ فا تَجعَلْهُ إِلاَّ صالحًا فإنهُ إِنْ صَلُحَ آنَسْتَ بهِ وإِنْ فسدَ لا تستوحشُ إِلاَّ منه وهو فِعْلُك، فقال يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره، فأمر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من يأتيه بحسان، قال قيس: فأقبلت أفكر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتب لي القول قبل مجيئ حسان فقلت: يا رسول الله قد حضرتني أبيات أحسب أنها توافق ما تريد، فقال النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): قل يا قيس، فقلت: تَّخیرَّ خَلِيْطًا مِنْ فِعَالِكَ إِنّماَ*** قرينُ الفتى في القبرِ ما كانَ يفعلُ ولا بُدَّ بعدَ الموتِ مِنْ أَنْ تُعِدَّهُ*** ليومٍ يُنَادَى المرءُ فيهِ فيُقْبِلُ فإِنْ كنتَ مشغولً بشيءٍ فلا تَكُنْ*** بغیرِ الذي يَرْضَی بهِ اللهُ تُشْغَلُ فلن يَصْحَبَ الإنسان مِنْ بعدِ موتِهِ*** ومِنْ قبلِهِ إِلاَّ الذي كانَ يعملُ أَلاَ إِنَّماَ الإنسانُ ضيفٌ لأهلِهِ*** يُقِيمُ قلياً بينَهم ثُمَّ يَرْحَلُ .بحار الأنوار 74 / 110 .

3) الشرح:

اشارة

وإذا أتينا للشرح والروح فحدث عن البحر ولا حرج، إلى درجة أن الشيخ حسین جمعة العاملي اللبناني كتب كتابًا حول شروح نهج البلاغة فقط وأوصلها إلى 210 شروح، وأعتقد وقد يعتقد هو أيضًا أنه لم يأت على الشروح بأسرها، فقد يكون في الهند أو أطراف إيران، وعند العرب وغيرهم من الشروح ما لم يَطَّلع عليها أحد.

وكم من ذخائرَ ونفائسَ ذهبت طُعْمَةً للنار أو حيوانات البحر لا سيما جراء الحروب والفتن في العالم الإسلامي أو غیره كما جرى في بغداد وغيرها كثیرًا قديماً وحديثًا، ولهذا نقول إن هذا الكم الضخم من الروح قد لا يكون كلها، بالإضافة إلى أن القافلةَ لم تنقطعْ والركبَ بعدُ سائرٌ لشرح هذا الكتاب العظيم.

أنماط الشروح:

1) قد يكون شرحًا لفظيًّا أويذكر شيئًا من المعنى والفائدة للقارئ كما يتجلى ذلك في بعض الشروح المختصرة كشرح الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وعالمها الشهير.

2) قد يكون شرحًا علميًّا مميزًا كما يتضح في شرح الشيخ ميثم البحراني فإنه عُنِيَ كثیرًا بالنواحي العقلية والفلسفية، ولهذا الشيخ الجليل ثلاثةُ شروحٍ حول نهج البلاغة وهذا من مظاهر الاهتمام.

3) قد يكون شرحًا يتجه إلى ما في الكتاب من معارفَ عامة كما يتجلى في

ص: 54

(منهاج البراعة) وكتاب ابن أبي الحديد.

وهناك أنماط متعددة كل يتوجه وجهة معينة، وإن كان من أبرزها بصفة عامة (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد الواقع في 20 مجلدًا (أو قد يطبع في 10 أو 5)، فهذه الموسوعة من أنفس الشروح التي عُنِيَتْ بهذا (الكلم الطيب)، ولا يعني الثناء على المؤلِّف إغفال الاشتباه والضلال والتعصب للباطل عنده، وقد

قيل عن هذا: (نِعْمَ المؤلَّف لولا عنادُ المؤلِّف(1).

ولستُ راغبًا الآنَ في إفاضةِ الحديثِ في هذه النقطة، وإنا ذكرناه كشرح من الشروح المميزة، فإن فيه متعةً في الأدب ومتعةً في التأريخ وإبداعًا في الاعتقاد ومجالاتٍ كثیرة، إلاَّ أنه مع بالغ الأسف أذهب كثیرًا من هذه الطيبات بكثیر من التعصب والعناد كما يقف على ذلك المتأمل والباحث.

4) الدراسات الأخرى:

وهي لا تعني -بالدقة- الشرح، وإنا هي استجلاءُ الفكرةِ حول موضوعٍ ما فتُسْتَوْحَى من كلات وآراء الإمام (علیه السّلام)، ونلاحظ في هذه الدراسات أشتاتًا وأشكالًا، فمن جملتها الدراسات القانونية والدراسات السياسية ككتاب (الراعي

والرعية) للمحامي الكبیر والأستاذ الشهير توفيق الفكيكي، فإنه كتب في هذا الكتاب دراسةً مُسْتَوْفاةً حول عهد الإمام (علیه السّلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) وبینَّ فيه مقدار

النظرة الإسلامية لسياسة الحكم وقد كان بحق كتابًا رائعًا في زمانه.

وكذلك الدراسات الأخرى التي أولاها الباحثون لهذا الكتاب العظيم مثل

ص: 55


1- للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

(دراسات في نهج البلاغة) للشيخ محمد مهدي شمس الدين، و(في رحاب نهج البلاغة) للشيخ المطهري، ودراسات أخرى عديدة.

هذا بعض ما تقع عليه أعيننا من الدراسات التي كتبت بالعربية وإلَّا فالدراسات الأخرى كثرة جدًّا(1).

ص: 56


1- ونعطي لذلك مثالً عن حجم هذه الدراسات، باستعراض موقع (نهج البلاغة) أحد المراكز العلمية التابع للسيد السيستاني -أيده الله تعالى- وعنوان الموقع هو: https://arabic.balaghah.net/ وقد احتوى على الأقسام التالية: 1- نص نهج البلاغة، تحقيق الشيخ فارس الحسون، وآخر تحقيق صبحي الصالح. 2- نماذج من مخطوطات نهج البلاغة، وعددها 52 نسخة، وإحداها ترجع إلى سنة 469 ه مصورة من مكتبة السيد المرعشي (رضی الله عنه) 3- الدر الثمين في معرفة أمير المؤمنين (علیه السّلام)، يحوي 271 مقالًا. 4- البيان الجلي في معرفة الشريف الرضي (رضی الله عنه)، يحوي 114 مقالًا. 5- مراصد الاطلاع على نهج البلاغة، يحوي 347 مقالًا. 6- مكتبة المخطوطات، ويحوي 20 مقالًا حول المخطوطات. 7- مكتبة نهج البلاغة، ويحوي 414 كتابًا. 8- المعجم الموضوعي لنهج البلاغة. 9- سلم الوصول إلى معارف نهج البلاغة، ويحوي 510 مقالًا في مختلف المعارف من النهج الشريف، كالمعارف العقائدية، والأخلاقية، والإدارية، والأدبية، واللغوية، والتأريخية، والتفسرية، والاجتماعية، والتربوية، والخطابية، والفلسفية، وعلم النفس، وحقوق الإنسان، وموسيقى اللفظ، وغیر ذلك كثیر. 10- نهج البلاغة في الأدب العربي، ويحوي 153 مقالًا. 11- شبهات وردود، ويحوي 188 مقالًا. 12- المستشرقون ونهج البلاغة، ويحوي 122 مقالًا.

5) البحوث حول نهج البلاغة في مجالات أخرى:

فنجد أنه قد ينبري مجموعة ليعنوا بالأمثال -مثلاً- في نهج البلاغة، وهنا أيضًا كتب كثرة وبحوث عديدة جاءت في الغالب ضمن مقالات في المجلات كما للعلامة الشيخ عبدالهادي الفضلي في بعض المجلات قديماً، وكذلك لأستاذي الشيخ محمد الغروي كتابات في هذا المجال ككتاب (الأمثال العلوية)(1)

6) عقد المؤتمرات حول هذا الكتاب:

وذلك للبحث فيه والمشاركة والإِسْهام، كل ذي اختصاص من واقع

اختصاصه يتناول بحثًا في نهج البلاغة، وقد تكرر ذلك في تأريخنا، كما في مؤتمرات طهران، وقد عُنِيَ الباحثون في هذه المؤتمرات بنواحٍ عديدة، وكُتِبَتْ دراساتٌ في هذا المجال لمناسباتٍ كمرور ألفية على الشريف الرضي أو لدواعٍ أخرى.

7) الفهارس:

والتي جاد بها أفذاذ وقدموا خدمة كبيرة يشكرون عليها، ومن جملة ذلك:

1) كتاب (تصنيف نهج البلاغة) للأستاذ لبيب بيضون السوري، فإنه من أوسع ما كُتِب حول تصنيف نهج البلاغة واختار تصنيف الموضوعات فجمعها وضمها إلى بعضها البعض وجعل عناوين لها بما يريح الباحث كثیرًا فيما لو أراد الاطاع على بحوث نهج البلاغة والأفكار فيه.

2) (المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة)(2): وهو للسيد كاظم المحمدي

ص: 57


1- وله أيضًا (الأمثال النبوية).
2- على نسق (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. وقد شاء الله لهذا الكتاب أن يُخُدمَ بمثل ما يُخدمُ به كتاب الله الكريم.

والشيخ محمد الدشتي ويقع في أكثر من 1400 صفحة، وقد رُتِّبَ على نسق المعاجم اللغوية، أي بمعرفة مادة الكلمة (جذرها) يمكن استخراجها واستخراج الجمل التي تقع فيها، فمثااً كلمات (خالق ومخلوق) تكون تحت مادة (خَلَقَ) فتستخرج هي والجمل التي تقع فيها، وهذا بالطبع يوَفِّر الجهد كثیرًا(1).

3) فهارس نهج البلاغة، للدكتور صبحي الصالح ألحقها به: وإن من

الإنصاف أن الإنسان يُقَدَّرُ على عمله بغض النظر عن الاختلاف معه في المعتقد والمذهب، فقد خدم نهج البلاغة بهذا الكتاب وله جهد كبر يُقَدَّرُ لأجله ويُثْنى عليه، وإن كان لم يستوفِ جميع النواحي إلاَّ أنها مشاركة فعَّالة.

8) مكتبة نهج البلاغة:

ففي مجال الرد والانتصار لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) وفي مجال النقد والطعن ومجال الأفكار والتحليات وأمور أخرى في الواقع لو ضممناها إلى بعضها البعض نجدها مجالًا خصبًا وثريًّا للغاية، وكما يسمي ذلك السيد عبد الزهراء الحسيني (مكتبة نهج البلاغة).

ومن باب المثال، حينما يذكرون موضوع الإِشْكال والإيراد على أن الإمام (علیه السّلام) قد ذكر عن نفسه أنه الوصي وجعلوا ذلك طعنًا في نهج البلاغة وأنه منتحل، فينبري الباحثون ليؤكدوا على حقيقة الوصاية وما جاء فيها من أحاديث ومعارف وشعر، فتكون دراسة كاملة عن الوصاية فقط، أو مثلاً حديث أمیر المؤمنین (علیه السّلام)

ص: 58


1- واليوم تتوفر برامج بالكمبيوتر يوجد فيها النهج وبعض شروحه ليمكن الوصول إلى معلومات فيها بشكل أسرع.

ونقده الاذع لجملة من الحكام والصحابة، فجعلوا ذلك سببًا للطعن في نهج البلاغة، فينري الباحثون لبحث المسألة من جهة الاعتقاد والتأريخ وأمر الصحبة وجهات أخرى لتتكون دراسة واسعة في هذه الجهة فقط.

فإذا لاحظنا الإشكالات والشبه والرد عليها في المقالات والمجلات والكتب الصغرة والموسوعات نجد أنها مظهر كبیر من مظاهر العناية والالتفات، تمامًا وليس ببعيد عن الاهتمام الكبیر حول شخصية صاحب النهج أمیر المؤمنین (علیه السّلام)

فما أكثرَ الاهتمام والاختلافَ فيه، وكذلك حال كتابه فكان مجالًا لإِثْراء البحث إلى ما لا نهاية.

ولا يفوتني أن أشيد بإكبار بالموسوعة القيمة التي جاد بها فكر وقلم الخطيب السيد عبد الزهراء الحسيني حفظه الله، أعني كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) الذي يتمثل فيه الجهد العلمي والإخلاص وروحية المؤلِف المؤمنةوبذل الوقت الثمین في هذا الكتاب بحثًا وتنقيبًا وجمع الشوارد والشواهد شعرًا

ونثرًا، وهو جدير بالقراءة والدرس والتمليّ مما فيه من أفكار.

كما أن السيد عبد الزهراء له كتاب (مائة شاهد وشاهد من معاني كلام الإمام علي (علیه السّلام) في شعر أبي الطيب المتنبي)، وقد كان مشاركة منه في مؤتمر طهران عن نهج البلاغة.

ثالثًا: هل يستدل بنهج البلاغة فقهيًّا؟

وأعود هنا لبحث المسألة لارتباطها بعنوان البحث ارتباطًا وثيقًا.

فمن خلال تتبع جملة من الآراء حول (نهج البلاغة) لاحظت من يرى

ص: 59

صحة صدوره عن الإمام (علیه السّلام) وقد يعبر عن بعضه بِ (قطعية الصدور)، وربما اسْتُفِيدَ من كلام بعض آخر أنه (متواتر)، فلنستعرض جملة من كلماتهم.

قال الشيخ محمد حسن كاشف الغطاء: «وإلا فبعد شهادة مثل النجاشي المعاصر للشريفین والمتخرج عليهما وشهادة ابن شهرآشوب والشيخ الطوسي وكل تلك الطبقة المعاصرة لهما، بل وجل من تأخر عنهما إلى أن انتهى الأمر إلى الشيخ الراوندي وابن أبي الحديد والشيخ ميثم البحراني وهؤلاء الثلاثة شراح النهج وهم بالمكان الذي هم فيه من سعة الفضل وغزارة المادة وهم في قرن واحد،فمع إطباقهم وإطباق من قبلهم وبعدهم على أن ما في النهج كله لأمیر المؤمنین -سلام الله عليه- وأن جامعه هو الشريف الرضي، وإرسالهم ذلك كأحد القضايا الضرورية فهل يكون التردد أو الجحود في واحدة منهما إلا عنادًا ومكابرة .»(1)

وقال أيضًا: «أما أن جميع ما فيه لأمیر المؤمنین ليس إلا فذاك -عند أهله المعنين بهذا الأمر وهم علماء الإمامية شكر الله مساعيهم- أجلى من الشمس وكلها مروية بطرق وثيقة عن أساطين هذه الفرقة من أساتيذ السيد الرضي ومشايخه كالشيخ المفيد وابن قولويه وابن بابويه وأبي يعقوب الكليني ونظرائهم،ومن أصول هؤلاء جمع السيد ما جمع وانتخب في نهجه ما انتخب وهم المصادر والمصائر له، على أن أكثرها يوجد في غیر كتب الإمامية ممن تقدم على السيد من جهابذة التأريخ وأساطين العربية .»

وقال السيد الأمن: «وهذا الكتاب قد حوى من نفائس الكلام ما استحق به أن يسمى نهج البلاغة واشتهر به في جميع الأقطار والأمصار والأعصار اشتهار

ص: 60


1- المراجعات الريحانية 2/ 111 - 112 وله كلام نحو هذا في 1/ 54 .

الشمس في رائعة النهار، له منه عليه شواهد، وهو كسائر كلام علي كما قيل عنه إنه بعد كلام النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، لا يرتاب في ذلك إلا أمثال من يريد التشكيك في الشمس الضاحية .»(1).

ويعبر السيد محمد سعيد الحكيم عن النهج بأنه «يدل على نفسه بنفسه .»

ومن أجمع الكلمات ما ذكره الشيخ هادي كاشف الغطاء: «إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلاف طرقهم متفقون متسالمون على أن ما في نهج البلاغة هو من كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) اعتمادًا على رواية الشريف ودرايته ووثاقته، والجميع على اختلاف العصور وتعدد القرون لم يختلجهم في أمره ريب ولا اعتراهم في شأنه شك ولم يخامرهم ظن أو وهم في أن فيه وضعًا أو به تدليسًا حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه (علیه السّلام) عندهم من إنكار الضروريات وجحد البديهيات، اللهم إلا شاذ منهم لا يعرف ما خالف في نسبة بعضه إليه (علیه السّلام) ولعل جماعة من أكابر علماء أهل السنة والجماعة ومؤرخيهم -إن لم يكن أكثرهم- يوافقون على صحة تلك النسبة ولا يبدون أدنى خلاف في ذلك والمخالف من متقدميهم في نسبة بعضه إليه قليل نادر، وإنما نشأ التشكيك والخلاف من ناشئة جديدة تسعى لنقض الحقائق الراهنة تحت ستار طلبها فأخذوا يتشبثون لنفي ذلك بكل وسيلة ويتوصلون إليه بكل ذريعة.

والخلاصة أن اعتقادنا في كتاب نهج البلاغة أن جميع ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يروى عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وعن أهل بيته في جوامع الأخبار الصحيحة وفي الكتب الدينية المعتبرة، وإن منه ما هو قطعي الصدور ومنه ما يدخله أقسام الحديث المعروفة.

ص: 61


1- أعيان الشيعة 1/ 540 .

وأما مؤلفه الشريف فاعتقادنا فيه أنه منزه عن كل ما يشین الرواة ويقدح في عدالتهم وأنه لم ينشئ شيئًا من نفسه وأدخله في النهج كما أنه لم يدخل فيه شيئًا يعلم أنه لغیر أمیر المؤمنین، بل لم يكن كحاطب ليل فهو لا يروي شيئًا إلا بعد التثبت ولا ينقله إلا على من يعتمد عليه من الرواة وأهل السیر والتأريخ، فجميع

ما في النهج هو من كلام مولانا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) على رواية الثقة العدل ولا دخيلة فيه ولا وضع .»(1)

وقال ابن أبي الحديد: «لا يخلو إما أن يكون كل (نهج البلاغة) مصنوعًا منحولًا أو بعضه، والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثیرًا منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .»

ثم أخذ في بيان الأمر الثاني فما قال: «وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كله ماء واحدًا ونفسًا واحدًا وأسلوبًا واحدًا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفًا لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن

والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولًا وبعضه صحيحًا لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام)»... (2)

ولاحظت صنفًا آخر من العلاء يعبر عن (نهج البلاغة) بقوله: «فالقول

ص: 62


1- مستدرك نهج البلاغة / 190 - 191 .
2- شرح نهج البلاغة 10 / 128 - 129 .

بأنه لا وجه للتشكيك في نهج البلاغة إن أريد به المجموع من حيث المجموع فصحيح، وإما إن أريد به الجميع على نحو استيعاب الجمل والكلمات بأسرها ففيه إشكال .»(1).

وبعد.. فالاستدلال بِ (نهج البلاغة) فقهيًّا يعتمد على المبنى فمن قال بالتواتر وقطعيّة الصدور عوّل على ذلك ومن لم يقل فهو وإن صحّح الكتاب إلا أنه قد يرى أن للاستدلال الفقهي منهاجًا خاصًّا كما أشار إلى ذلك السيد العلامة الفاني في قوله: «ولكننا لما رأينا أن الفقيه النابه يأبى عن الاستناد في الأحكام الشرعية والعاقل في ترتيب آثار الصدق إلى ما ليس جامعًا لجميع شرائط الحجية يكون بذلك حجة في نظر الفقيه ودليلاً قاطعًا أجبنا وقلنا إن الدقة في مضامین النهج والاستضاءة بأنوار علوم عليٍّ (علیه السّلام) وحكمه ومعارفه تغني طالب الكمال عن التعرض لأسناد هذا الكتاب، لأن التعرف للحقائق شيء والاستدلال به على

الحكم الشرعي شيء آخر .»(2).

وعلى ضوء ذلك تعامل نصوصه على نسق ما يتعامل به مع الروايات في مجاميع الحديث، وكما يقول السيد العلامة الفاني: «وكما أنه توجد في الكافي الشريف الأخبار المرسلة فكذلك في نهج البلاغة ولذا نرى اعراف السيد بالإرسال في جملة من الموارد وربما يذكر السند ونراه ضعيفًا بحسب الاصطلاح

الرجالي الفقهي .»(3)

ص: 63


1- عبد الله بن عباس / 454 (ضمن لكل سؤال جواب).
2- عبد الله بن عباس / 454 (ضمن لكل سؤال جواب).
3- عبد الله بن عباس / 454 (ضمن لكل سؤال جواب).

ويقول الشيخ عبدالله نعمة: «فإن حال نهج البلاغة حال المرويات عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في جوامع الأخبار وكتب الحديث منه ما هو قطعي الصدور ومنه ما يدخل في أقسام الحديث المعروفة كالصحيح والموثق والحسن والمرسل وغيرها،

لكن ينبغي أن لا نغفل عن أن هذه الأقسام لا يمكن لنا استفادتها من نفس نهج البلاغة لأن الرضي (رضی الله عنه) لم يسند شيئًا مما ذكره فيه بل جاء به مرسلاً وإنما نستفيد ذلك من خارج النهج .»(1)

أقول:

أ) إن المسألة بالتالي تندرج في حجية مرسل الثقة -وهذا بالطبع فيما لم يسند- والرأي فيها مختلف عند الفقهاء وقد أشبع البحث فيها الشيخ المامقاني في كتابه (مقباس الهداية)(2).

ب) إن الجهد المضني والعمل الكبیر لإثبات أسانيد النهج مما يستحق كل إجلال وإكبار.

ج) إن تشخيص المتواتر وقطعي الصدور من النهج يستلزم بسطة في العلم والبحث، نعم قد نقف على المتواتر في ذات النهج مما تكرّر قوله وذكره كثیرًا في خطب الإمام (علیه السّلام) كما في جملة من مسائل الاعتقاد، فيسوغ لذلك الاستدلال به

فيها وتبقى المواطن الأخرى على حسب تصنيفها والتعامل معها طبق القواعد المقرّرة والآراء المختارة.

ص: 64


1- مصادر نهج البلاغة / 28 .
2- مقباس الهداية 1/ 338 - 366 .

رابعًا: منهجنا في دراسة نهج البلاغة

الدراسة ستكون إجمالًا دراسة موضوعية إن شاء الله تعالى، ففي هذا الكتاب أفكار تشمل الدنيا والدين وتكفل سعادة الإنسان، فيه بحوث كثیرة عن العقائد والأصول الخمسة والملائكة والجهاد والموت وغیر ذلك، فيه بحوث في التأريخ وسیرة الأنبياء (علیهم السّلام) وجيلهم، فيه بحوث عن القرآن والحديث النبوي

والأخلاق وسیرة الحياة وعجائب المخلوقات، فيه الحكم القصیرة والخطب الطويلة والمراسات والمكاتبات والعهود وغیر ذلك، فننسب كل موضوع إلى جهته ونلاحظ ما يقترن به، ونجعل حديثنا مُبتدأً من الأصول الخمسة مُسْتَوْحاةً من أفكار الإمام (علیه السّلام) ثم نشرع بالأَولى فالأَولى كحديث رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وتأريخه وتأريخ أهل البيت (علیهم السّلام) والخلاف والخلافة والإمامة، إلا أنه كما أعتقد أن هذا الأمر

لو قضينا عمرنا فيه -ونعم ما يُقْىَ العمر فيه- لما استطعنا استيفاءه والتمَلی منه، ولكننا سنختصر ما أمكن ونعطي الفكرة الواضحة الموجزة.

خامسًا: بعض المصادر للبحث

اشارة

وهي كثيرة وأشير إلى بعض ما هو متيسر لدينا للاستفادة منه.

أ) الشروح.

1- شرح ابن أبي الحديد.

2- منهاج البراعة للميرزا حبيب الله الخوئي.

3- شرح الشيخ محمد عبده.

4-شرح الشيخ محمد جواد مغنية (في ظلال نهج البلاغة)، وهو لطيف

ص: 65

خفيف يتعرض لنواحٍ اجتماعية وسياسية.

5- شرح الشيخ ميثم البحراني الذي يمتاز بعمقه بطبع المؤلِّف كفيلسوف.

ب) الدراسات:

1-دراسات في نهج البلاغة.

2-قضايا الحرب والسلم.

3- حركة التأريخ.

4- عهد الإمام (علیه السّلام) لمالك الأشتر.

وهذه كلها للشيخ محمد مهدي شمس الدين.

5-في رحاب نهج البلاغة، للشيخ المطهري.

6-دراسات أخرى في ضمن (أعيان الشيعة) أو (المجالس السَّنِيَّة) أو (دين وتمدين) للحَوْمائي فإنه على النمط الذي ذَكَر (الله ومحمد وعلي) فيعرض فيما يرتبط بالإمام (علیه السّلام) جملة من أفكار الإمام وسياسته وحكمته، وهو كتاب أدبيٌّ راقٍ إلاَّ أن في ثناياه بعض الأمور التي ينبغي للباحث أن يكون على حَذَرٍ في دراستها.

ص: 66

كلمة للسيد السيستاني حول نهج البلاغة

أحببت أن أورد هذه الكلمة التوجيهية التي سطَّرها سماحة المرجع السيد السيستاني أيده الله تعالى حول كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في (نهج البلاغة):

بسم الله الرحمن الرحيم

إن ما تضمّنه هذا الكتاب الشريف من كلام مولانا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) يعدّ في ذروة الكلام -بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه المصطفى (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )- لما فيه من بيان

للمنهج الفطري للتفكر والتأمل في الكون وحقائقه، وبيانٍ لأصول الإسلام ومعارفه، وإيضاح لحِكَمِ الحياة والسنن التي يبتني عليها، وتبينٍ لسبل تزكية النفس وترويضها، وتوضيحٍ لمقاصد الشريعة وما بني عليها من الأحكام، وتذكیرٍ بآداب الحكم وشروطه واستحقاقاته، وتعليمٍ لأسلوب الثناء على الله تعالى والدعاء

بن يديه وغیر ذلك كثر.

كما أنه من جهة أخرى مرآة صادقة للتأريخ الإسلامي وما وقع فيه من الحوادث بعد النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) خاصة في زمن خلافة الإمام (علیه السّلام)، ويتضمن جانبًا مهماًّ من سیرته وخلقه وسجاياه وعلمه وفقهه.

وحريّ بالمسلمين عامة أن يستنيروا في أمور دينهم تعلامًّ وتزكية بهذا الكتاب،ويهتمّوا -ولا سيما الشباب منهم- بمطالعته والتدبر فيه وحفظ طرف منه، كما يجدر بمن يدّعون محبة الإمام (علیه السّلام) ويتمنون أنهم لو كانوا في عصره ليستمعوا إلى

مواعظه ويهتدوا بهديه ويسیروا على نهجه أن يفعلوا ذلك في ضوء ما ورد في هذا الكتاب، ولقد قال (علیه السّلام) في حرب الجمل إنه حضره في هذه الحرب قوم من الناس

ص: 67

لم يزالوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وإنما عنى بذلك الذين علم الله منهم صدق النية فيما يتمنونه من الحضور في زمانه والاقتداء به في أفعاله، وهم الذين سيحشرون مع أوليائه (علیه السّلام) يوم يحشر كل إنسان خلف إمامه، وذلك لأنهم عَمِلوا

بما عَلِموه من الحق من غر أن يعتذروا عن ذلك بالشبهات ويزيّنوا انتماءهم إليه (علیه السّلام) بالأماني.

وينبغي لرجال الحكم من المسلمين أن يطبِّقوا ما بيّنه من وظائف أمثالهم ويقتفوا أثره ويتبعوا خطاه في سلوكهم وأعمالهم، وليقدّروا في أنفسهم أنهم بمثابة ولاته وعمّله ليظهر لهم مقدار التزامهم بنهجه وتأسّيهم به.

نسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي الجميع إلى اتّباع الهدى واجتناب الهوى إنه ولي التوفيق(1).

ص: 68


1- المصدر: موقع (نهج البلاغة). والكلمة مؤرخة في 26 / 7/ 1433 ه.

5) تأسيس الإمام (علیه السّلام) لعلم الكلام

أولاً: علم الكلام

أ)تعريفه:

هو العلم الذي يُبحَثُ فيه عن إثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلةالمفيدة لليقین بها.

ب)فائدته:

1- معرفة أصول الدين بنهج علميٍّ قائم على الدليل والبرهان.

2- القدرة على إثبات قواعد العقائد وإبطال الشبهات حولها بالحجة

والدليل.

ج)مكانته وشرفه:

يقول ابن أبي الحديد: «وقد علمتَ أن أشرفَ العلومِ هو العلمُ الإلهي لأن شَرفَ العلمِ بشرَفِ المعلوم، ومعلُومُهُ أشْرفُ الموجودات(1) فكان هو أشرفَ العلوم، ومن كلامِهِ (علیه السّلام) اقْتُبِسَ وعنه نُقِل وإليه انتهى ومنه ابتدأ»(2) .

ص: 69


1- وهو الله جَلَّ وعلا.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 17 .

ثانيًا: دور العقل في القضايا الاعتقادية

لا إشكالَ في أهميةِ العقلِ في القضايا الاعتقاديةِ، والوجدانُ يؤكدُ ذلك. ومع بالغ الأسف نجدُ طبَقةً حتى من المثقفینَ والكتابِ البارزينَ يتَنَكَّرُونَ لهذا الدورِ المهم ويريدونَ أن تستندَ جميعُ أفكارِنا إلى الدليلِ النقيِّ فقط (الكتاب الكريم والسنة المطهرة)، بمعنى أنه حينما نؤمنُ باللهِ تبارك وتعالى ربًّا فإننا في جميعِ القضايا لا نُعْمِلُ الدليلَ العقليَّ على الإطلاق بل نأخذُ جميعَ القضايا كالمُسَلَّمَات بل يعتبرون الاستدلال العقليَّ تفاهةً وتضييعًا للعمرِ فيما لا يحسُن، ومن الواضحِ أن هذه المقُولةَ قد تلقى قَبُولًا في الأذهان لتأطيرها بإطارٍ يرتبط في ظاهر الأمر بالله تعالى وتنزيهه وبرسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، والواقع أن هذه المقولة تخالف هدي أمیر المؤمنین (علیه السّلام) كما يتجلىّ ذلك بوضوح في طرق معالجته لقضايا الاعتقاد في نهجه الخالد.

والشيء الآخر أن نَفْسَ الإيمان بالله تعالى وبرسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يحتاج إلى الدليل العقلي كما هو واضح، فقبل الإيمان بإله واجب الوجود يلطف بعباده فيبعث لهم الأنبياء ويوحي إليهم ويصدق دعواهم بالمعجز لا يمكن الاستدلال على ذلك

بمحض الدعوى وأن الله أوحى إلى نبيِّه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في كتابه، فهل هذا إلا عین المتنازع فيه وهو رتبة ثانية بعد الإيمان بالواجب الباعث.

ومن هنا كان العقل الأصل الأصيل في انطلاقة الاستدلال في أصول الاعتقاد، نعم يمكن الإفادة من القرآن والحديث كهاديین ومرشدين وموقظین مكامن الفطرة لا أن يجعل مرتكز الدليل عليهما.

وسنرى ذلك في هدي أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فيما نستقبل من دروس إن شاء الله تعالى.

ص: 70

ثالثًا: التشيع والفلسفة أو علم الكلام

يلاحظ عبر التأريخ أن للفكر الشيعي امتيازًا خاصًّا في علم العقائد

والفلسفة، كما يلاحظ أن الشيعة تخالف الآخرين في نظرتهم وأفكارهم حول هذا العلم، وقد شهد بذلك حتى المخالفون، ونَعْرِضُ هنا نماذجَ من ذلك:

1- يقول الأستاذ أحمد زكي صالح(1): «ومن الجلي الواضح لدى كل من درس علم الكلام أن فرقة الشيعة كانت أنشط الفرق الإسلامية حركة، وكانت أول من أسس المذاهب الدينية على أُسُسٍ فلسفية، حتى أن البعض ينسب فلسفة خاصة لعلي بن أبي طالب .»

2- يقول الدكتور أحمد أمن المصري: «ولذلك كانت الفلسفة بالتشيع ألصق منها بالتسنن، نرى ذلك في العهد الفاطمي والعهد البويهي، وحتى في العصور الأخرة كانت فارس أكثر الأقطار عناية بدراسة الفلسفة الإسلامية ونشر كتبها، ولما جاء جمال الدين الأفغاني مصرَ في عصرنا الحديث -وكان فيه نزعة تشيع وقد تعلم الفلسفة الإسلامية بهذه الأقطار الفارسية- كان هو الذي

نشر هذه الحركة في مصر .»(2) .

إذن التأريخ يتحدّث والمخالفون يُقِرُّونَ ونهج البلاغة يشهد أن أمیر المؤمنین (صلوات الله وسامه عليه) هو واضع أُسُسِ هذا العلم الشريف عبر خُطَبِه يوم

ص: 71


1- الإمام الصادق (علیه السّلام)، للشيخ محمد رضا المظفر 1/ 182 ، وقد نقل كلام الأستاذ أحمد زكي من مجلة الرسالة المصرية.
2- ظهر الإسلام، لأحمد أمین المصري ج 1. نقله الشيخ المطهري في كتابه (في رحاب نهج البلاغة) ص 43 .

كانت الحاجة تدعو إلى ذلك لاسيما في الكوفة إذ كانت مهدًا لحضارات وثقافات كثیرة، فطرح الإمام أفكاره الفلسفية العقائدية وهي ليست نظريات توصل إليها عالم مهما كان عظيماً، بل هي فكر الله وعلمه الذي أودعه عليًّا (علیه السّلام) عن طريق

الإلهام، ثم أخذ الشيعة هذا العلم عن إمامهم الأعظم (علیه السّلام) وواكبوا هذه الحركة المباركة.

رابعًا: شبه المخالفين.. «وتِلْكَ حُجَّتُنا »

وبعد.. «فَماَ لَهؤلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا »، لقد قالوا إن ما تعرض له الإمام (علیه السّلام) في نهجه العظيم -وبالذات حول هذا العلم- كان مخالفًا لما هو مألوف آنذاك عند الصحابة وفي عصره بل فيما بعده من العصور، فهناك المصطلحات والأفكار التي لم تُطرح إلاَّ في فترات متأخرة من نُضْجِ الفلسفة حيث

شاع استخدامها، بل إنهم قاسوا الإمام (علیه السّلام) بغیره من الصحابة فقالوا إنه قد كان عصرهم واحدًا وحياتهم واحدة، وثقافته وعلمه كسائر الصحابة بل إن بعضهم أعلم منه (كما يزعمون) ولهذا يستبعدون هذه الأفكار عنه (علیه السّلام).

فنقول لهم: إننا في مقام الردّ نرشد إلى المقام العظيم والامتياز الخاص الفريد الذي ناله أمیرُ المؤمنین (علیه السّلام) وأنه في عالمٍ والآخرون في عالم آخر، وذلك يتجلىّ في مجال العلم وجميع مجالات الإبداع، فإنما يأتي بمعجزةِ نهجِ البلاغة من قال فيه الرسول الأكرم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) : «أَنَا مَدِيْنَةُ الْعِلْمِ وَعَليٌّ بَابُها .»(1).

فهو الذي امتاز بالمعارف الإلهية الخاصة فلا عجب لو جاد قلَمُه ولسانه ووجوده المقدس بشيء آخر لم يُعْهد في حياة الصحابة وفي زمانهم، فعندما يُعَبرّ

ص: 72


1- وسائل الشيعة 18 / 20 .

الإمامُ (علیه السّلام) عن (الأيسن) و(الأزل) و(المدى) وغیر ذلك ويطرح مصطلحاتٍ وأفكارًا لم تُعهد إلاَّ في فترات متأخرة من بروز الفلسفة فهذا دليل على أنها أُخِذَتْ منه، فإنَّ كلَّ مصطلحٍ وفكرةٍ لابد أن هناك من يبدأ بها، لا أنه يُسْتَغْرَبُ ويُستبعَدُ ذلك من الإمام (علیه السّلام) لأن فلانًا لم يَقُلْ خطبة كخُطَبِ أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، إن هذا لدليل ضعيف لا يمكن أن يُرْكَسنَ إليه إلاَّ في حسابِ الجهلِ أو العناد.

إنما يأتي بنهج البلاغة من على منیرِ الحقِ يتحدى كل من حوله، وحوله خصومه وأعداؤه الذين يُحصُون عليه أنفاسَه ويعدون عليه كلماتِه ويرصُدون كل شيء ينطق به ومع ذلك كان يأمر أنصاره بالسؤال ويتحدى أعداءه قائلاً: «سَلوُنْی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوْنِ .»(1).

وهذا الأمر بالسؤال أو التحدي لم يخص جانبًا دون آخر بل شمل كل علم،في العقائد والفقه والنحو والفلك وكل معرفة، بل إن ابن أبي الحديد لاحظ انتماء وانتساب كل العلوم إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فهو مصدرها ومنبعها وأخذ بتعداد هذه العلوم وتفصيل ذلك، فذكر علم العقائد والفقه والتفسر والتصوّف أو علم

الحقيقة والنحو، وذكر الكمالات فتحدث عن الشجاعة (سيد الأبطال) والسخاء والحلم والصفح والجهاد (سيف الله الغالب)، والخُلق الرفيع ولِنْ الجانب وشدة التواضع والزهد والعبادة وتعلقه بالقرآن الكريم، والرأي والتدبر والسياسة وشدتها في ذات الله تعالى.(2)

بل يتعدى ابن أبي طالب كل هذا ليكون مصدرًا لكل الكمالات وإمامها

ص: 73


1- وسائل الشيعة 11 / 98 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 35 - 46 .

الأول، فإنما يتحدث عن الشجاعة من قال فيه جبرئيل (علیه السّلام) بأمر الله تعالى: «لا سَيْفَ إِلاَّ ذُو الفِقَارِ ولا فَتَى إِلاَّ عَليٌّ »(1)، ومن يخوض غمار الحرب «حَتَّى يَطَأَ

صِمَخَها بأَخْمصِه »، كما تحدثت الصديقة الزهراء (علیها السّلام)، ولا يتحدث عن الشجاعة من قال فيها ابن أبي الحديد:

عَذَرْتُكُماَ إِنَّ الحِماَمَ لمُبْغَضٌ*** وإِنَّ بقَاءَ النفْسِ للنفْسِ محبوبُ

ويذكر بفرارهما في مواطن الحرب ومواطن الحرج والعناء، (وفاقد الشيء لا يعطيه)، ويقاس على ذلك إبداع الإمام (علیه السّلام) في الخطابة والوعظ والإرشاد وكل معرفة بل كل كمال فهو الفاتح والمؤسس.

خامسًا: القرآن الكريم ونهج البلاغة.. أساليب متفقة لإثبات العقائد

القرآن الكريم فيه تبيان «لِكُلِّ شيء » و «عليٌّ مَعَ القُرْآنِ «، وهو عِدْلٌ له في حديث (الثقلین)، إذن فهو الوجود البارز في المدرسة الإلهية الكبرى ومُعَلِّمُهُ الأول هو كتاب الله تعالى وتقدس فلا غرابة بعد ذلك إذا أتى بما لم يُعْهَد عند أحد.

ومن هنا نجد أن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في حديثه واستدلالاته وبرهنته حول هذا العلم (علم العقائد) بالذات نَهجَ نَهْجَ القرآن الكريم ولم يَشُذَّ عن شيء من الأنماط التي اتخذها القرآن الكريم للاستدلال على المعارف الإلهية، سواءً كان ذلك في أدلة النفس أو الآفاق أو العقل(2)، وما تعرض له من إيقاف البشر على السر المبتكر والإبداع والإعجاز في خلق الله والاستدلال بواقع الإنسان من جانبِ إِبداعِ خلقه، بل من جانبِ عجزِه، وسائر ما في الكون من عظات وعِبرَ ودلائل

ص: 74


1- بحار الأنوار 40 / 87 .
2- «سنُرِيِهمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّن لهمْ أَنَّهُ الحقُّ ». سورة فُصِّلَتْ/ 53 .

وشواهد، فنجد كل ذلك في نهج البلاغة على نسق ما هو في القرآن الأعظم.

وهذه الناحية (المدرسة الإلهية الكبرى) رُصِدَتْ ولُوحِظَتْ في حياة جميع الأئمة (علیهم السّلام)، ولنا أن نأخذ شاهدًا من حفيد أمیر المؤمنین الإمام الصادق (علیه السّلام) والذي يعتبر ممثلاً له في تأسيس الأفكار الإسلامية، فنجد أن الصادق (علیه السّلام) لم يتتلمذ على يد أحد، وفي علم الكيمياء -مثلاً- لم يكن له أستاذ ولا مختبرات ومع ذلك فهو يطرح النظريات الكيميائية الدقيقة الثابتة على رَسْلِهِ كما يتحدث مالكُ الكلام حتى يكتب أحد تلامذته وهو جابر بن حيان ألف صفحة في الكيمياء(1).

ونضيف إلى ذلك ما يتعلق بالطب وعلم التشريح كما في كتاب المفضل بن عمر وغیر ذلك كثیر مما هو مشهور وواضح، إذن فلا مصدر لهذه المعارف عند الأئمة وعند أبي الأئمة (علیهم السّلام) إلاَّ الإلهام الإلهي، وَمِنْ هُنَا سِّر إِعْجَازِ عَليٍّ (علیه السّلام)... فكان كالنجم... بل هو فوق النجم... بل هو شمسٌ... بل هو سماءٌ وغیرُه أرضٌ بل غیره لا شيء... بل هو أسمى من كل تعبیر وأعظمُ من كل وصف.

ص: 75


1- يمكن الاطلاع على كتاب (الإمام الصادق مُلْهِمُ الكيمياء) للدكتور محمد يحيى الهاشمي.

ص: 76

6) الذات المقدسة

مدخل:

يا وَاهِبَ العَقْلِ لَكَ المَحَامِدُ*** إلى جَنَابِكَ انْتَهَى المَقَاصِدُ

يا من هو اخْتَفَى لِفَرْطِ نُورِهِ*** الظاهِرُ البَاطِنُ في ظُهُورِهِ(1)

أولاً: تعريف الذات المقدسة

الله اسمٌ عَلَمٌ على الذاتِ المقدسةِ المُسْتَجْمِعَةِ لصفاتِ الجلال والجلال،ولا يُقْصَدُ من هذا التعريفِ أنه يُطَابِقُ القواعدَ العلميةَ والمنطقيةَ، بل هو أشبهُ بالتعريف الاسمي كما في علمِ المنطق، كما أنه ليس تعريفًا حقيقيًّا دقيقًا لأن التعريفَ الحقيقيَّ الدقيق لِشيءٍ يستدعي الوقوفَ على حقيقتِهِ وأَبْعَادِهِ وجميعِ شؤونِه، والإنسانُ عاجزٌ تمامًا عن ذلك فيما يتعلقُ باللهِ تعالى وتَنَزَّه.

ثانيًا: العقول قاصرة عن إدراك الكنه

الكُنْهُ بمعنى الحقيقة، والعقلُ في واقعِهِ مخلوقٌ للهِ ومحدود في قدرته الإدراكية فهو في عجزٍ ذاتيٍّ عن أن يحيطَ بتلك الأبعادِ غیرِ المتناهية، بل إن العقلَ عاجزٌ عن أن يحيطَ بأسرارِ إبداعِ الخلقِ في السماواتِ والأرضِ وما بينهما -كما هو واضح- فكيف يحيطُ علماً بخالقِ الخلقِ ومُبْدِعِهِ، وعَجْزُ الإنسانِ ليس فقط عن تعريفِ اللهِ

ص: 77


1- المولى الملا هادي السبزواري.

تعالى بدقةٍ بل عجزُهُ عن الإحاطةِ بسائرِ الشؤونِ الإلهيةِ كالقدرةِ والعلمِ والخلقِ والرزقِ والإِحياءِ والإِماتةِ والتشريعِ والحسابِ والجنةِ والنارِ والإبداعِ في الخلق.

ثالثًا: قال سيد الموحدين (علیه السّلام)

نَعْرِضُ فيما يلي بعضَ ما قالَهُ سَيّدُ الموحدينَ عليٌّ (علیه السّلام) حولَ هذه النقطةِ (العقولُ قاصرةٌ عن إدراكِ الكُنْه)، وتنبغي مراجعةُ هذه الخُطَبِ بكاملِها وبعضِ الشروحِ حولها للتوسُّعِ قدرَ الإِمكان.

أ) قال (علیه السّلام)(1):

«الذي لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الهِمَم ولا ينالُهُ غَوْصُ الفِطَن :»

(بعد الهمم): نهايتها عُلُوًّا، في قِبَالِ (غوص الفطن) أي نهايتها عُمْقًا، يقول (علیه السّلام) إنَّ بُعْدَ الهممِ لا يمكنُ أن يدركَ اللهَ تعالى لأن ما يدركُهُ العقلُ أشياءُ من جِنْسِهِ وفي مجال ما يمكن أن يَفْقَهَ فيه، أمَّا إذا كان الشيءُ بمنأًى بعيدٍ من أن يُفهمَ فإن

العقلَ لا يدركه، وكذلك غوص الفطن فهي عاجزةٌ عن أن تدركَ الذاتَ المقدسةَ مهما جَهِدَتْ في ذلك، ولماذا هذا العجزُ؟

ذكر الإمامُ (علیه السّلام) عددًا من أسبابِ ذلك:

«الذي ليس لصفتِهِ حَدٌّ محدودٌ ولا نَعْتٌ موجود »: ولذلك فإن من يريدُ وَصْفَهُ يكونُ في تمامِ العجزِ إِذْ كيف يُوصَفُ من لا تُحدُّ حقيقتُه.

ص: 78


1- خ 1، ص 39 . ويمكن مراجعة (منهاج البراعة) 1/ 293 وكذلك شرح الشيخ ميثم البحراني (رضی الله عنه) 106/1 للاطلاع أكثر على شرح هذه الخطبة الشريفة.

«ولا وقتٌ معدودٌ ولا أجَلٌ ممدود »: فهذه الذاتُ خارجةٌ عن الزمانِ والمكانِ وما يستطيعُ العقلُ إدراكَهُ إنما هو في حدودِ الزمانِ والمكانِ بطبيعةِ الحال.

ولكن إذا عجزت العقولُ عن إدراكِ اللهِ فكيف يُعْرَفُ لِيُشْكَرَ ويُعْبَد؟ هذا ما بادَرَ الإمامُ (علیه السّلام) إلى تِبيانِهِ قائلاً:

«فَطَرَ الخلائقَ بقدرتِه، ونشرَ الرياحَ برحمتِه، ووَتَّدَ بالصخورِ مَيَدَانَ أرضِه :» نعم لا يمكنُ أن يدركَهُ العقلُ ولكنه يتعرفُ على آثارِهِ إِجْمالًا، فإنا هذه الخلائقُ والرياحُ والجبالُ مظاهِرُ من مظاهرِ الإبداعِ يمكنُ أن تكونَ شواهدَ ومنافذَ للتعرفِ على الذاتِ المقدسة.

ب) وقال (علیه السّلام)(1):

«الحمدُ للهِ الذي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأُمُور »: أي عَلِمَهَا من باطنِها بل هو في أعماقِها، لأن روحَ الخلقِ منه والمخلوقاتِ أثَرٌ له، فهو مصدرٌ لخلقِها ومصدرٌ لبقاءِ وجودِها، وخفياتُ الأمورِ بطبعِها وتعريفِها لا يمكن أن يُطَّلَعَ عليها، فلا شكَّ أن من أوجدَ فيها السرَّ والإبداعَ والخفاءَ هو أخفى منها، فكيف يُعْرَفُ إذن؟

«ودَلَّتْ عليه أَعامُ الظُهُور »: أي الأدلة الظاهرة، فله من الشواهدِ على ذاتِه المقدسة وهيمنتِه المطلقة ما يُذْعِنُ له عقلُ كلِّ عاقل وفكرُ كلِّ مفكر اعترافًا بأنه هو الواحدُ الأحد.

«وامتنعَ على عنیِ البصیرِ » لاستحالةِ إبصارِه إذ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیءٌ »(2)،

ص: 79


1- خ 49 ، ص 87 .
2- سورة الشورى / 11 .

والذي يُرَى يجبُ أن يكونَ في جهةٍ وفي وقتٍ ما، واللهُ تعالى خارجٌ عن الزمانِ والمكان، ولكن إذا لم تبصرِه العین فهل يعني هذا أنه لا وجودَ له؟ يجيب (علیه السّلام):

«فلا عینُ من لم يرَهُ تنكِرُه »: أي صاحبُ العینِ التي لم تره يجبُ أن لا ينكرَه إذ أنَّ وجودَها في ذاتهِا أثرٌ من آثارِه ودليلٌ عليه.

«ولا قلبُ من أثبته يُبْصرِه »: ولا يخفى ما في هذه المقابلةِ من جهةٍ بلاغية، فلا العینُ الناظرةُ التي لم تره يحقُّ لها إنكارُه، ولا القلبُ الذي أثبتَه رآه، وأثبته أي جَزَمَ بوجودِه.

«سَبَقَ في العُلُوِّ فلا شيءَ أعلى منه، وقَرُبَ في الدُّنُوِّ فلا شيءَ أقرب منه، فلا اسْتِعْلاؤُه باعَدَهُ عن شيءٍ من خلقِه، ولا قُرْبُهُ ساواهم في المكانِ به »: فهو «معَهَم أَيْنَماَ كانوا »(1)، وهذه المَعِيَّةُ والقربُ ليس مساواتُهمْ في المكانِ به، بل هو في علوه وهذا العلوُّ ليس بعدًا عنهم بل هو محيطٌ بهم رُغْمَ علوِّه.

«لم يُطْلِعِ العقولَ على تحديدِ صفتِهِ »: فهذا العقلُ المُرَكَّبُ قاصرٌ عن إدراكِ المُرَكِّبِ المبدعِ له فقد حَجَبَ العقولَ عن إدراكِه.

«ولم يحجبْها عن واجبِ معرفتِه »: لماذا؟

«فهو الذي تشهدُ له أعلامُ الوجودِ على إِقرارِ قلبِ ذي الجحود .»

«تعالى اللهُ عما يقولُه المشبِّهونَ به والجاحدونَ له »: أي أيها العبدُ لا تفكرْ في ذاتِ اللهِ فإن ما يحُومُ حولَ فكرِكَ من شُبَهٍ إنما هي على صور ما تَرى من

ص: 80


1- سورة المجادلة / 7.

المحسوساتِ والمادياتِ مما هو في مجالِ إدراكِك ولكن اللهَ تعالى «ليس كمثلِهِ شيءٌ وهو السميعُ البصر »، لذلك ثِقْ تمامًا أيها العبدُ أن ما تراه من صور ليست هي اللهَ تعالى، ويقول (علیه السّلام): أيها الجاحدُ إِنَّ عدمَ إدراكِك لله ليس دليلَ عدمِ وجودِه

إذ تشهدُ له أعلامُ الوجودِ على إقرارِ قلبِك أي أنك أيها الجاحدُ مُقِرٌّ بالله تعالى في قرارةِ نفسِك.

ج) وقال (علیه السّلام)(1):

«لا تَقَعُ الأوهامُ له على صِفَةٍ ولا تُعْقَدُ القلوبُ منه على كيفِيَّة »: يؤكدُ الإمامُ (علیه السّلام) هذه الناحيةَ أن الأوهامَ والأفكارَ لا يمكنها وَصْفُه، لماذا؟ لأنها -كما مرَّ- إذا كانت تجهلُ كُنْهَه وحقيقتَه فكيف تصفُه، فقد يُفاجَأُ الإنسانُ بجهازٍ ضخمٍ لا يَعرفُ لِم هو فضلاً عن أن يَعرفَ دقائقَ تركيبِه فيكونُ حَذِرًا في التعاملِ معه،

فكذلك -وللهِ المثلُ الأعلى- ذاتُهُ المقدسةُ لا يمكنُ وصفُها لاسْتِحالةِ الإحاطةِ بها وإدراكِ أبعادِها.

رابعًا: شواهدُ على عجزنا

وهي شواهدُ نحياها في واقعِنا وندركُ أبعادَها وشيئًا من أمورِها ومع ذلك لا نقفُ على حقيقتِها وأسرارِها فكيف نطمعُ أن نقفَ على حقيقةِ خالقِها ومبدعِها.

ونأخذ شاهدًا من كلامِ أمیرِ المؤمنینَ نفسِه (علیه السّلام) في وصفِه للطاووس، فيقول (علیه السّلام)(2):

ص: 81


1- خ 85 ، ص 115 .
2- خ 165 ، ص 235 التي أولها (ابْتَدَعَهم خلقًا عجيبًا). وموضع الشاهد في ص 238 .

«وإذا تَصَفَّحْتَ شعْرةً من شَعَرَاتِ قَصَبِه أَرَتْكَ حُرةً ورديَّة وتارةً خضرةً زَبَرْجَدِيَّة وأحيانًا صفرةً عسجدية، فكيف تصلُ إلى صفةِ هذا عمائقُ الفِطَن أوْ تبلُغُهُ قرائحُ العقول أو تستنظِمُ وصفَه أقوالُ الواصفین! وأقلُّ أجزائِه قد أعْجَزَالأوهامَ أن تدركَه والألسنةَ أن تصفَه، فسبحانَ الذي بَهرَ العقولَ عن وصفِ خلقٍ جَالَّهُ للعيون فأدركتْه محدودًا مكوَّنًا ومؤلَّفًا ملوَّنًا وأعجزَ الألسنَ عن تلخيصِ

صفتِه وقَعَدَ بها عن تأديةِ نَعْتِه .»

نلاحظ أنه قد أشارَ إلى الطاووسِ وهو ليس أعظمَ مخلوقاتِ اللهِ بل أشار إلى أقلِّ أجزائِه شعرةٍ واحدةٍ منه بل أشارَ إلى صفةٍ واحدةٍ لهذه الشعرة وهي اللون ليُبَینِّ عظَمةَ الخالقِ وأنَّ كلَّ شيءٍ يدُلُّ عليه تعالى وتقدس، فما بالك لو ذكرَ فسيولوجيتَه وتشريحَه وما في عقلِه مركز هدايته، وأحشائِه وأسرارَها واستقامةَ جهازِ التغذيةِ عنده فلو أفاضَ في ذلك لأتى بكتابٍ كهذا الكتاب، وفي هذا النصِّ الشريفِ من الاستدلالاتِ به الشيءُ الكثیرُ وإنا ذكرنا موضعَ الشاهدِ من حديثِنا، وكم من شواهدَ أخرى في أنفسِنا، فعقولُنا وأرواحُنا وغرائزُنا وهي فينا ومع ذلك لا نستطيعُ تحليلَها وتجزأتَها والوقوفَ على أسرارِها.

خامسًا: جوانبُ بلاغيةٌ وعلميةٌ في هذه النصوصِ الشريفة

1-« بُعْدُ الهمم »: فإن الأصلَ (الهممُ البعيدة)، الموصوفُ تَلِيه الصفةُ ولكنه (علیه السّلام) أضافَ المصدرَ (بُعْد) إلى الموصوفِ (الهمم) لأن موضعَ الشاهدِ هو في البُعْدِ وأنه عاجزٌ عن إدراكِ اللهِ تعالى فليس الشاهدُ في الهِمَمِ بل في بُعْدِهَا ولذلك قَدَّمَ

البُعْد، وكذلك الحال في (غوص الفطن).

2-« غوصُ الفطن »: فإن فيه استعارةً إذ شَبَّهَ العلومَ العقليةَ والعوالمَ الإلهيةَ

ص: 82

بالبحارِ المتلاطمةِ والإنسانُ سابحٌ يغوصُ باحثًا عن ضالتِه من الجواهرِ واللؤلؤ وهي هنا الأسرارُ الإلهيةُ وحقيقةُ الذاتِ المقدسةِ ولكنه لا ينالُ ذلك كما قدمنا.

3-« ووَتَّدَ بالصخورِ مَيَدَانَ أرضِه »: والمقصودُ بالصخورِ الجبالُ والميدانُ التحركُ بتمايل، وهي إشارةٌ إلى حركةِ الأرضِ وأنه من أجْلِ أن لا تميلَ في حركتِها ثبَّتَها اللهُ بالجبال، وهذا التعبیرُ والإشارةُ مستعارة من القرآنِ الكريمِ إذ يقولُ تعالى: «وألْقَى في الأرضِ رَوَاسِی أَنْ تَميدَ بكم .»(1)

مطاف الخاتمة

قال ابنُ أبي الحديد من شعرِ المناجاة(2):

والله لا موسى ولا ***عيسى المسيحُ ولا محمدْ

علموا ولا جبريلُ وهْو*** إلى محلِّ القدسِ يَصْعَدْ

كلا ولا النفسُ البسيطةُ*** لا ولا العقلُ المُجَرَّدْ

من كُنْهِ ذاتِكَ غیرَ أنك*** واحِدِيُّ الذاتِ سَرمَدْ

وجدُوا إضافاتٍ وسَلْبًا*** والحقيقةُ ليس توجَدْ(3)

ورأوا وجودًا واجبًا*** يَفْنى الزمانُ وليس ينفَدْ

فلْتخْسَىءِ الحكماءُ عن*** حَرَمٍ له الأملاكُ تسجُدْ

ص: 83


1- سورة النحل / 15 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 50 .
3- أي أنهم بفضل الله تعالى علموا الصفاتِ الثبوتية والسلبية ولكنهم ما علموا الذات المقدسة التي لها هذه الصفات.

من أنت يا رسْطو ومن*** أفْاطُ قبلك يا مُبَلَّدْ

ومنِ ابنُ سينا حینَ قرَّرَ*** ما بنيتَ له وشيَّدْ

هل أنتمُ إلاَّ الفراش*** رأى الشهابَ وقد تَوَقَّدْ

فَدَنَا فأحْرَقَ نفسهُ*** ولو اهْتَدَى رشدًا لأَبْعَدْ

تنبيه

يجب أن نعيشَ جميعًا مع الإمامِ (علیه السّلام) فكرًا وروحًا وحياةً من أجلِ تحقيقِ الفائدةِ القُصوى من هذا الدرسِ الشريفِ لنيلِ الكمالات، وهناك أسبابٌ مهمةٌ للتوفيقِ، فأولها وجوهَرُها الإخاصُ في العمل، ومنها أن يأتي الطالبُ العزيزُ على وُضُوءٍ فإنه ليس أمرًا عاديًّا أن يأتي الإنسانُ ليتحدثَ أو يَسمعَ كلامًا حول أمیرِ

المؤمنین (علیه السّلام)، ونحن هنا نتعلمُ التوحيد، نتعلمُ سيِّدَ العلومِ على يَدِ سَيِّدِ الأوصياءِ عليٍّ (علیه السّلام) وبابِ مدينةِ علمِ رسولِ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

إذن ينبغي أن يُلاحَظَ للدرسِ قدسيتُه واحترامُه ومن ذلك التهيؤُ له بالحضورِ والمراجعةِ والحفظِ والتتبعِ قدر الإمكان، وهذه المسائلُ فيما أعتقد متروكةٌ للتفاعلِ

ص: 84

الخاصِّ مع أمیرِ المؤمنین (علیه السّلام) لأنه روحُنا ووجودُنا ودنيانا وآخرتُنا، فلْنَجْعَلْ هذا الدرسَ وهذا الإخلاصَ طريقًا للوصولِ إلى أمیرِ المؤمنین (علیه السّلام).

ص: 85

ص: 86

خاتمةُ المطاف

عن أبي حمزةَ (رضی الله عنه) عن زينِ العابدين وسيدِ الساجدين (علیه السّلام) قال: «يا أبا حمزةَ إن الله لا يوصَفُ بمحدودية، عَظُمَ ربُّنا عن الصفة، فكيف يُوصَفُ بمحدوديةٍ من لا يُحدُّ ولا تدركُه الأبصارُ وهو يدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبیر .»(1).

7) التوحيد

مدخل:

قال أمير المؤمنين (علیه السّلام):

«التَّوْحِيْدُ أَلاَّ تَتَوَهَّمه .»

أولاً: ضيق الخناق

وهو تعبر أصولي يعني أن الحديث والتعبیر عن الذات المقدسة، عن الله تبارك وتعالى يكون غیر واف وغیر واضح لأن العقل والإدراك لا يستطيع الإحاطة بالله تعالى وحتى عقول الأنبياء والأوصياء والأولياء وإدراكهم، وهذا العجز يكون في اللغة نفسها بالإضافة إلى المتكلم، ولذلك تُتخذ في التعبیر عن الذات المقدسة أساليب متعددة حتى يقرب المعنى المقصود إلى الذهن، وابتداء ننبِّه

أن ما نسمعه من بعض التعبیرات حول الذات المقدسة قد نتوهم فيها ما لايصح على الله تعالى وتقدس.

ثانيًا: أقسام التوحيد

للتوحيد أقسام عدة لخصت في أربعة أقسام أو أربع مراتب وهي:

أ) توحيد الذات: فهو واحد لا شريك له.

ب) توحيد الصفات: فصفاته عين ذاته ولا يشاركه فيها أحد.

ص: 87


1- أصول الكافي 1/ 100 . والآية الكريمة في سورة الأنعام / 103 .

ج) توحيد الأفعال: في تفرده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والقدرة وغيرها.

د) توحيد العبادة: في قبال الرياء والعجب وما إلى ذلك مما يكون مظهره عبادة غیر الله، وسوف يأتي بيان كل هذا إن شاء الله تعالى.

ثالثًا: الواحد والأحد

فمن صفاته تعالى الواحد والأحد، ويرى البعض أنه لاداعي للاعتناء

بالفرق بین الكلمتین مادامتا تشیران إليه تعالى وتقدس، بينما يرى البعض الآخر أن الواحد في قبال الاثنین، بينما الأحد في قبال المركب أي من أجزاء مضافًا إلى فوارق أخرى ذكرت في كتب اللغة وغيرها.

رابعًا : قال إمام الموحدين صلوات الله وسلامه عليه

ولنا هنا بعض الملاحظات حول ما نذكره من كلامه (علیه السّلام):

- إن الخطبة الواحدة فيها عدة بحوث تمامًا كالسورة الواحدة التي تتناول جهات عدة في البحث.

- ما نذكره هو نماذج فقط وليست كل ما ذكره أمیر المؤمنین (علیه السّلام) حول موضوع درسنا التوحيد.

- هذه النصوص الشريفة ونحوها وما فيها من أفكار وحقائق يمكن أن نصنفها حسب أقسام التوحيد الأربعة التي ذكرناها.

- تعدد الأساليب وتفنن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في إثبات حقيقة التوحيد، فتارة

ص: 88

يستخدم حقيقة أنه لا يحتاج إلى أنيس وليس له والد أو ولد، وتارة يستخدم عجز الإدراك العقي وتارة يشیر إلى أنه لوكانت هناك آلهة غیره سبحانه لكانت لهم أنبياء ورسل إلى الناس، وهذا التنوع في الأساليب ناتج من أن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وعلي (علیه السّلام) أعلم بها، فإلى جملة من كلماته الشريفة:

أ) قال (علیه السّلام)(1): «وكَماَلُ التَّصْدِيْقِ بِهِ تَوْحِيْدُه »: يعبر الإمام (علیه السّلام) بكلمة (كمال) أي أن الاعتقاد

بالله يجب أن يكون كاملاً وأما الاعتقاد المنقوص فلا يحقق الهدف لأن النتيجة تتبع أضعف المقدمات، أي أن نتيجة الاعتقاد الناقص تتبع هذا النقص لأنه أضعف مقدمة.

ويرى بعض الشراح والمفسرين أن التصديق ينقسم إلى قسمين: تصديق كامل وتصديق ناقص وكذلك التوحيد، وقوله (علیه السّلام) (توحيده) جاء مطلقًا ليدلل على توحيده في كل اعتبار فيوحده بأنه هو الرب والخالق والمعبود والفعال لما يريد ويوحده في أي جهة أخرى، واخْتُلِفَ في تفسیر هذا فقال البعض إن التصديق

الناقص هو الاعتقاد فقط بأن الله واجب الوجود فهذا اعتقاد صحيح ولكن ليس كاملاً فيجب أن يضاف إليه معرفته تعالى بالبراهین والأدلة، وبعضهم يرى أن إثباته فقط (الجزم بوجوده) هو تصديق ناقص والكمال أن ينفي ما سواه في مقام الألوهية.

«وكَماَلُ تَوْحِيْدِهِ الإِخْلاَصُ لَه «: يشعر هذا بتقسيم التوحيد أيضًا إلى توحيد

ص: 89


1- خ 1، ص 39 .

ناقص وتوحيد تام، فالتام هو الاعتقاد به ونفي الشريك عنه، والناقص هو الاعتقاد به وبشريك معه، إلا أن الشيخ محمد جواد مُغْنِيَة يرى أن هذا من الخطأ في التفسیر لأن الشرك من أقبح مواطن الإلحاد، فیرى الشيخ مُغْنِيَة أن المقصود بالإخلاص ليس عدم الشرك لأن الشرك ينافي التوحيد كله ولا ينافي كماله فقط،

وإذن فما هو الإخلاص الذي يحقق كمال التوحيد؟ فسر بعضهم الإخلاص بأنه الإخلاص في العبادة وأن عدمه ينافي كمال توحيده تعالى ولا ينافي التوحيد كله، بعكس الشرك الذي ينافي التوحيد كله.

وهنا تذهب العقول مذاهب بعيدة فبعضهم يرى أن هذا التعبیر عن

(الإخلاص) هو إشارة إلى العرفان الإسلامي والفناء في الله بحيث لا يرى العبد في الوجود إلا الله سبحانه، وما يعنينا هنا أن الإمام (علیه السّلام) قد جاء بهاتین الكلمتین ليشیر إلى أن هذه المعارف حول التوحيد بينها وشائج مترابطة.

ب) وتحدث عن تَوَحُّدِ الله تعالى، فقال (علیه السّلام)(1): «مُتَوَحِّدٌ إِذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ ولا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِه .»

إننا في تعابيرنا ننطلق من واقعنا، فكوننا ماديین يستدعي أننا نتعامل مع القضايا والأفكار من منطلق مادي فنقيسها بواقعنا، وفي هذا المثال يستشعر الإنسان أنه إذا ذهبت زوجته أو فقد ولده حتى بمرض فضلاً عن الموت فإنه يستوحش لذلك، والإنسان يستأنس حينما يعود إليه صديقه المسافر أو المسجون،

وهذه ونظائرها من صفات المخلوق صاحب المشاعر والغرائز والأحاسيس التي

ص: 90


1- خ 1، ص 40 .

ركَّبها الله تعالى فيه، وأما الله تبارك وتعالى فإنه «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیءٌ »(1)، فما نحسّه في أنفسنا أو نتصوّره فيها فإنه لا يصحّ على الله تعالى، فهو واحد متوحِّد لا

شريك له ولا سكن من زوجة أو ولد ولا هو يأنس بملائكته في سماواته أو حملة عرشه وكرسيّه -جل وعلا- أو أي شيء آخر.

ولنا أن نتأمَّل في شأن مولانا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وهو مثال القدرة الإلهية والعلم الإلهي، فإنه (علیه السّلام) وكما قال: «حَتَّى أَلْقَى اللهَ لا تَزِيْدُنِ كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِی عِزَّةً ولا تَفَرُّقُهُم عني وَحْشَةً »(2)، هذا هو أمیر المؤمنین (علیه السّلام)فكيف بالله تعالى الذي هو الغِنَى المطلق والكمال المطلق.

ج) وبيَّن معنى الوحدة في حقه تعالى، فقال (علیه السّلام)(3): «كُلُّ مُسَمَّى بالوِحْدَةِ غَیرْهِ قَلِيل »: وفي هذا ما عبرّنا عنه بضيق الخناق، فإن كلمة (الوحدة) تنطبق على الشخص الذي يكون في بلاد وحده أو في سجن وحده أو كحديث أن أبا ذرّ يُحشر أمة وحده أو فلان يمشي وحده، وتنطبق هذه اللفظة على الله تعالى وتقدس ولكن -ويا لروعة التعبیر!- يقول (علیه السّلام) إن غیره إذا وصف بالوحدة فإنها تعني القلة والتي تحتاج إلى كثرة تؤازرها، أما الله سبحانه فهو الواحد الحقيقي الذي لا يحتاج إلى كثرة، فكلمة الوحدة في حقه تعني التفرد والاستقلال والتوحيد الكامل.

ص: 91


1- سورة الشورى / 11 .
2- كتاب رقم 36 ، ص 409 .
3- خ 65 ، ص 96 .

د) وقال (علیه السّلام)(1): «لم يْوُلْد »ْ: استدلال على الوحدانية بحقيقة التوالد، فإن الغالب في التناسل أن يكون عن طريق التوالد، فالمولود -إنسانًا أو حيوانًا- محتاج إلى من يقوم بتغذيته ورعايته، أما الله سبحانه لتنزهه عن الحاجة فإنه «لم يْوُلْد .»ْ

«سُبْحَانَهُ »: وهنا شاهد على روعة أمیر المؤمنین في قوله (سُبْحَانَهُ) فبمجرد أن قال (لم يولد) فَصَلَ الكلام وقرنها بالتنزيه لأن الله تعالى حي في قلبه ووجوده.

«فيَكُونَ في العِزِّ مُشَارَكًا » :لأنه سيكون له أب له شأن الأبوة والهيمنة فتكون العزة منقوصة وليست كاملة وحاشا ساحة الجلال والجلال أن يطرأ عليه نقص من النقائص.

«ولَم يَلِدْ فيَكُونَ مَوْرُوثًا هَالِكًا »: لأن في هذا أسبابًا لعروض الحاجة للغير.

ه) وتحدث عن معنى (الواحد) تعالى، فقال (علیه السّلام)(2):

«وَاحِدٌ لا بِعَدَد »: فعندما يقال (الواحد) يرتسم في أذهاننا مباشرة (الاثنان والثلاثة)، أما بالنسبة لله تعالى فإنه عنوان الوحدة الكاملة التي لا تحتاج إلى رديف أو زيادة، وهذه نقطة مهمة جدًّا ولهذا تكرر هذا التعبر في كلامه(علیه السّلام).

و) وتحدث منزِّهًا الله تعالى عن وقوع الحال، فقال (علیه السّلام)(3):

ص: 92


1- خ 128 ، ص 265 .
2- خ 185 ، ص 269 .
3- خ 186 ، ص 272 .

«مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَه »: فمن واقعنا أن نسأل عن مزاج الشخص وصحته وكيف عمله فيلاحظ في ذلك الزيادة والنقيصة والتبدل وغیر ذلك، أما الله سبحانه فمنزَّه عن أن تطرأ عليه الأحوال والكيفيات كاللون الذاتي والجهر والإخفات للقراءة أو أنه ثخین أو رقيق، والاعتقاد بانتفاء الكيفيات عنه هو من كمال التوحيد.

ز) وقال (علیه السّلام)(1):«يَعُوْدُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لا شيءَ مَعَهُ »: وقوله (يعود) من ضيق الخناق أيضًا في أفهامنا فقد نتصور أنه ذهب عنها ثم عاد إليها، ولكن المعنى أنه قبل الدنيا ومعها وبعدها على حد سواء وهو لا يحتاج إليها أو يرتبط بها وبا يعرض عليها من فناء وتحوّل، بل يعود كما هو دائماً بلا زمان أو مكان.

ح) وفي الوصية الخالدة إلى نجله الحسن المجتبى (علیه السّلام)التي كتبها له من حاضرين، قال (علیه السّلام)(2):

«واعْلَمْ يا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَريْكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُهُ ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وسُلْطَانِهِ ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، ولَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَماَ وَصَفَ نَفْسَهُ لا يُضَادُّهُ في مُلْكِهِ أَحَدٌ، ولا يَزُولُ أَبَدًا ولَم يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلا أَوَّلِيَّةٍ وآخرٌ بَعْدَ فَنَاءِ الأَشْيَاءِ بِلاَ نِهاية :»

وهو استدلال عجيب حقًّا، إذ يقرر الإمام (صلى الله تعالى عليه() أن قوافل

ص: 93


1- خ 186 ، ص 276 .
2- ص 391 - 406 ، وموضع الشاهد ص 396 .

من الأنبياء كوكبة إثر كوكبة وفي مدد مختلفة جاءت إلى الناس بدعوة واحدة مجمع عليها وهي أنهم -أي الأنبياء- يقرّون بالله ربًّا وينزِّهونه ويعترفون بأنه ليس لهم من الأمر شيء، ولم يأتِ نبيّ من قبل إله آخر مما يدلّل صراحة أنه لا إله إلا الله تعالى وتقدّس، هذا من جانب الأنبياء وكذلك هو الأمر من جانب الخلق فهو في

انسجامه وإبدعه يدلل على أن مبدعه واحد ولو كان له شريك لظهرت آثار هذا الشريك.

وكلمة الأمر (علیه السّلام) التي افتتحنا بها الدرس: «التَّوْحِيْدُ أَلاَّ تَتَوَهَّمهُ » هي جامعة لهذه المعاني، فخواطر الإنسان حول الله تبارك وتعالى التي يجسدها الإنسان في أنها واحد في قبال الاثنین أو يجسدها في أنه لابد أن يكون له خالق أو أنه يجري عليه نظام التوالد والكيفيات، كل هذه الخواطر إنما هي توهّمات بتأثیر مادية الإنسان،وهنا ينبِّه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أن هذه التوهّمات تتنافى مع التوحيد، نعم يضيق فكر الإنسان دون الوقوف على حقيقة الذات المقدسة، ولهذا جاء النهي عن التفكر في ذات الله ولكن تفكّروا في مخلوقات الله تعالى(1).

خامسًا: «وَقَالَتِ النَّصَارَى»

إن الرب والابن وروح القدس أقانيم ثلاثة إله واحد، وهذه من المقولات الغريبة ومع بالغ الأسف نجد أن المفكرين المحدثین من النصارى المسيحيين يحاولون تصحيحها وتبريرها وهي في الواقع تستعصي على التصحيح وتأبى إلا

ص: 94


1- عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق ». الدر المنثور 2/ 110 . وعن أبي جعفر (علیه السّلام):« إيَّاكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه «. الكافي 1/ 93 .

الغلط فكيف يجتمع آلهة ثلاثة كل منهم له وجوده المستقل ليكونوا إلهًا واحدًا، بل يقولون: صحيح أن العلم لا يقر ذلك ولكن الدين يقره، وهذا أسلوب فيه مغالطة يهدف إلى اتهام الدين بأنه مجموعة خرافات لا تنسجم مع العقل والعلم.

وهذا يذكرنا بجملة فارسية تستعمل لبيان فداحة الخطأ والاشتباه الكبیر لبعض المغفلین، وهذه الجملة هي:

خسن وخسین هرستاش دخران معاوية، وترجمتها الخسن والخسین ثلاثتهم بنات معاوية، فأنى تستقيم هذه المقولة؟!

خاتمة

إن أعرابيًّا قام يوم الجمل إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فقال: يا أمیر المؤمنین أَتقول: إن الله واحد؟... فحمل الناس عليه، قالوا يا أعرابي أما ترى ما فيه أمیر المؤمنین من تقسّم القلب؟ فقال أمیر المؤمنین (علیه السّلام): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو

الذي نريده من القوم، ثم قال : «يا أَعْرَابِّی إِنَّ القَوْلَ في أَنَّ اللهَ واحِدٌ على أَرْبَعَةِأَقْسَام: فوَجْهَانِ مِنْهَا لا يَجوْزَانِ عَلىَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ووَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فيه، فأَمَّا اللذانِ لا يَجوزَانِ عَلَيْهِ فقولُ القَائِل: وَاحِدٌ يَقْصِدُ بهِ بابَ الأعداد فهذا ما لا يَجوزُ، لأَنَّ ما لا ثَانِی له لا يَدْخُلُ في بَابِ الأَعْدَادِ، أَمَا تَرَى أَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قالَ: ثالثُ ثلاثة، وقولُ القائلِ هو وَاحِدٌ مِنَ الناسِ يريدُ بهِ النوعَ مِنَ الجنسِ فهذا ما لا يَجوزُ عَلَيْهِ

لأَنَّهُ تَشْبِيْهٌ، وجَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ وتعالى، وأَمَّا الوَجْهَانِ اللذانِ يَثْبُتَانِ فيهِ فقولُ القائل: هو وَاحِدٌ ليسَ لهُ في الأشياءِ شِبْه، كذلكَ رَبُّنا، وقولُ القائل: إِنَّهُ عَزَّ وجَلَّ أَحَدِيُّ المعنى، يعني بأَنَّهُ لا يَنْقَسِمُ في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وَهْمٍ، كذلك رَبُّنَا

ص: 95

عَزَّ وجَلَّ .»(1)

«شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ والمَلاَئِكَةُ وأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيْزُ الحَكِيم .»(2).

ص: 96


1- التوحيد، للشيخ الصدوق / 83 - 84 .
2- سورة آل عمران / 18 .

8) الصفات الإلهية

مدخل

قال سيد الموحدين (علیه السّلام): «الحمدُ لله الذي أظْهَرَ من آثارِ سلطانِه وجلالِ كبريائِه ما حَیرَّ مُقَلَ العقولِ من عجائبِ قدرتِه، ورَدَعَ خَطَرَاتِ هَماهِمِ النفوسِ عن عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِه .»

أولاً: «وبَحرٌ عَمِيْقٌ فلا تَلِجُوهُ »

إن بحث الصفات بحر عميق متلاطم الأمواج فهو يتحدث عما يليق

وكيف يليق بالذات المقدسة الإلهية، ولما كانت الذات الإلهية في حدِّ ذاتها لا يُعلم كنهُها ولا يتأتَّى للعقل الوقوفُ على ساحلها فكيف يمكن الولوج إلى أعماقهاوأسرارها؟!

يركِّز الإمام (علیه السّلام) على عجز الإنسان وقصوره الذاتي عن إدراك ما يشاهد أو ما لا يشاهد من المخلوقات كحديثه (علیه السّلام) عن ملك الموت (علیه السّلام) فإن الإنسان يجهل

وصف هذه الذات المخلوقة ومعرفة أسرارها وشؤونها فكيف يصف ويحيط بخالقها بل لا قياس في المقام أصلاً، وكفى بهذا اعترافًا بعجزنا.

بل يذكر الإمام (علیه السّلام) أن الأولياء والمقرَّبین وُصِفُوا بالراسخين في العلم لاعترافهم بقصور أفكارهم وإدراكاتهم عن الإحاطة بصفات الله تبارك تعالى.

ص: 97

ثانيًا: أقسام الصفات

صفات الذات المقدسة تُقَسَّمُ إلى صفات ثبوتية وهي صفات الجمال والكمال، وصفات سلبية وهي صفات الجلال.

والصفات الثبوتية تُقَسَّمُ أيضًا إلى قسمين:

أ - الصفات الثبوتية الذاتية أو صفات الذات.

ب - الصفات الثبوتية الفعلية أو صفات الأفعال، ويعبر عنها بالصفات

الثبوتية الإضافية.

وهذا التقسيم هو بملاحظة ما يليق بالذات المقدسة وما لا يليق بحسب ما نتعلمه من أمیر المؤمنین (علیه السّلام) الذي علَّم الناس التوحيد وعرَّفهم على الله التعريف الممكن لعقولهم أن تدركه أو تدرك شيئًا منه.

وهنا تفصيلات أخرى في هذا التقسيم كإرجاع بعض الصفات لبعضها مثل علاقة الإرادة بالعلم وغیر ذلك مما لا يهمنا التعرض له هنا.

ثالثًا: مقياسٌ دقيق

صفات الذات كثرة من أهمها العلم والقدرة والحياة والإرادة والغنى،

وكذلك صفات الأفعال ومنها الخلق والرزق.

وهنا مقياس دقيق للتفريق بين صفات الأفعال وصفات الذات، فمن ذلك:

1- يلاحظ في صفات البشر أن الصفة شيء والموصوف شيء آخر، فإذا

ص: 98

وُصِفَ شخص بأنه شاعر أو مهندس فمن الواضح أن هذا الشخص (الموصوف) شيء والشعر أو الهندسة (الصفة) شيء آخر، وهذا جليٌّ جدًّا.

بينما في حقّ الذات المقدسة لا نجد هذا، بل نجد أن صفات الذات ليست شيئًا آخر غیر الذات فهنا الصفة والموصوف شيء واحد أي صفاته (الذاتية) هي عین ذاته، بينما صفات الأفعال صفات إضافية كما قدمنا.

2- وقد يكون هذا الأمر تتميماً أو توضيحًا للأمر الأول، وهو أن صفات

الذات لا تنفك عن الذات، فا يمكن تصور أن الله موجود ولكنه غیر عالم أو غیر قادر، بينما يمكن تصوّر الله تعالى موجودًا دون صفة من صفة الأفعال، مثلاً كان الله ولا سماء ولا أرض ولا كائن، إذن كان الله موجودًا ولم يكن خالقًا ثم خلق فكان خالقًا.

3- صفات الذات لا يمكن وصف الله بعكسها فا يقال علم الله هذا الأمر ولم يعلم هذا الأمر، أو قدر على هذا ولم يقدر على هذا، بينما صفات الأفعال يمكن وصف الله تعالى بعكسها فيصح أن يقال إن الله تعالى رزق فلانًا ولم يرزقني بستانًا مثلاً، أو أن الله خلق هذا الولد لي ولم يخلق لي ولدًا آخر.

رابعًا: قال إمام الموحدين (علیه السّلام)

أ - قال (علیه السّلام)(1):«الحمدُ لله الذي أظهرَ من آثارِ سلطانه وجلال كبريائه ما حیرَّ مُقَلَ العقولِ من عجائب قدرته :»

ص: 99


1- خ 195 ، ص 308 .

المُقَل جمع مقلة وهي شحمة العین التي فيها السواد والبياض، ونسبتها إلى العقول من باب الاستعارة فليس للعقول عيون تبصر، وإنما المراد أن العقول لديها القدرة على النظر الفكري أي الإدراك ومع ذلك فهي حائرة أمام آثار سلطانه وجلال كبريائه.

«ورَدَعَ خطراتِ هَماهِمِ النفوسِ عن عرفان كُنْهِ صفته :»

الهماهم يعني ما يهم النفس أي همومها في طلب العلم، فيقول لها بلسان الحال والواقع إنها تعود خاسئة حسیرة عاجزة عن الوصول إلى كنه صفاته تبارك وتعالى.

ب - وقال (علیه السّلام)(1): «الذي ليس لصفتِه حَدٌّ محدودٌ ولا نعتٌ موجود :»

وهذه النقطة يجعلها الإمام (علیه السّلام) ركيزةً في تعليم الناس طريقة التعامل مع الله بأننا نجهل كنهه وحقيقته وصفاته ولذلك لا يمكننا الإحاطة به تعالى وتقدس.

«وكمالُ الإخلاصِ له نفيُ الصفاتِ عنه :»

ماذا يعني الإمام (علیه السّلام) بهذه العبارة؟! كيف ننفي الصفاتِ عنه رغم أنه وَصَفَ نفسه في كتابه ووصفه رسوله ووليُّه (صلى الله تعالى عليها وآلهما) بأفضل الصفات؟! نعم لا يراد من هذا ما قد يُتوهم من ظاهر العبارة بل يراد ما بيَّنتْه العبارة التي بعد هذه العبارة مباشرةً بقوله(علیه السّلام) :

ص: 100


1- خ 1، ص 39 .

«لشهادةِ كلِّ صفةٍ أنها غيرُ الموصوف، وشهادةِ كلِّ موصوفٍ أنه غيرُ الصفة :»

فقد بيَّنا أن قولنا: فلان المهندس أو الشاعر، فيه فلان (الموصوف) شيء والشِعْر أو الهندسة (الصفة) شيء آخر ويمكن تَعَقُّلُ الموصوف مستقلّاً دون الصفةكما يمكن تَعَقُّلُ الصفة مستقلة دون الموصوف، فكل منهما معنى قائم بذاته.

ويا لروعة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في تعبیره (لشهادة) فهو يقول إن مجرد لفظ (صفة) و(موصوف) شهادة منهما أنهما ليسا شيئًا واحدًا، وحتى في الإعراب النحوي عندنا صفة وموصوف، بينما الصفات الذاتية لله تعالى هي عن ذاته ولا يمكن أن تكون هناك اثنينية: صفة وموصوف، وما المانع من الاثنينية؟ يجيب (علیه السّلام): «فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فقَدْ قَرَنَهُ، ومَنْ قَرَنَهُ فقَدْ ثنَّاهُ، ومَنْ ثنَّاهُ فقد جَزَّأَهُ ومَنْ جَزَّأَهُ فقَدْ جَهِلَه .»

لأنه وصفه بما لا يصحّ عليه، فالذي يتجزّأ إلى شيئين أو أكثر إنما هو الجسم المخلوق، تعالى الله الخالق وتقدّس.

«ومَنْ جَهِلَهُ فقَدْ أَشَارَ إِلَيه :»

فيشير إليه بما هو موصوف مستقل عن صفاته تعالى.

«ومَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فقَدْ حَدَّه :»

فيأخذ الإمام (علیه السّلام) في بيان المفارقات التي تترتب على هذا التصوّر الخاطئ.

إذن (نفيُ الصفات عنه) يعني عدم جعلها مستقلة عن ذاته جلَّ وعلا،

ص: 101

فالواقع أنه ليست هناك صفات متعددة فهو عالم بما هو حيٌّ وحيٌّ بما هو قادر وهذه الكمالات مجتمعة هي الذات المقدسة.

وهنا ثلاثة آراء:

1 - أن كل صفات الله حادثة.

أي كان الله ولم يكن معه أو فيه شيء من صفاته ثم حدثت.

وهذا الرأي لبعض أهل السنة وهو منبوذ، والرأيان الرئيسان هما:

2 - أن صفاته تعالى هي عین ذاته ولا اثنينية في المقام كما قال سيد الموحدين ومن علَّم الناس التوحيد مولانا أمیر المؤمنین(علیه السّلام).

وقد أخذ بهذا الرأي العَدْلية الذين هم الإمامية والمعتزلة.

3 - أن صفاته ليست حادثة بل هي قديمة ولكنها مستقلة عن ذاته فليست هي عین ذاته.

وهو رأي الأشاعرة الذين هم الكثرة الكاثرة من المسلمين في مجال الاعتقاد.

أي أن الصفات التسع أو الثمان بالإضافة إلى الله تعالى كلها قدماء وتعدد القدماء تعدد في الآلهة، فإذا كان النصارى قالوا بآلهة ثلاثة فقد قال هؤلاء بآلهة تسعة، ولا نقول أنهم يعتقدون بآلهة تسعة إنما ذلك لازِمُ مقولتهم.

ولهذا قال الفخر الرازي العالم الشهير:

ص: 102

«إن النصارَى أثبتوا ثلاثةَ قدماءَ وأصحابنا أثبتوا تسعة .»(1).

إخوانَنا الأدْنَینْ مِنَّا ارْفقُوا*** لقد رقيتُمْ مُرْتَقَىً صَعْبا

إنْ ثلَّثَتْ قومٌ أقانِيمَهُمْ*** فإنكمْ ثمَّنْتُمُ الربَّا (2)

مصادر للبحث

1- (في ظال نهج البلاغة) للشيخ محمد جواد مغنية، شرح الخطبة الأولى وكلامه واضح وجدير بالرجوع إليه.

2-(عقائد الإمامية) للشيخ المظفر، في بحثه للصفات.

3- (معالم التوحيد) للشيخ السبحاني، في بحث بساطة ذاته تعالى.

4- (خلاصة علم الكلام) للشيخ الفضلي في هذا المجال أيضًا.

ص: 103


1- معالم الفلسفة الإسلامية، للشيخ محمد جواد مغنية / 117 .
2- الغدير 3/ 293 .

ص: 104

خاتمة

سمع الإمام الصادق (علیه السّلام) رجلاً يُكَبرِّ (الله أكبر) فسأله الإمام (علیه السّلام): أكبر من أي شيء؟ فقال الرجل: أكبر من كل شيء، فقال الإمام (علیه السّلام): كان الله ولم يكن

شيء معه، فإذن أكبر من كل شيء؟ (يعني لم يكن هناك شيء حتى يكون أكبر منه) فقال الرجل: فماذا أقول؟ فقال (علیه السّلام): قل الله أكبر من أن يوصف(1)، يعني اعْتَقِدْ بهذا المعنى وإن كان قول (الله أكبر من كل شيء) صحيح ولكن يعَلِّمُه الإمام (علیه السّلام) أَنَّ الألْيَقَ بالله تعالى حينما نقول (الله أكبر) أن نعتقد أنه أكبر من أن يوصف،

والاعتراف بالعجز وصف من الأوصاف بل هو نهاية قدرة الإنسان.

9) تنزيه الذات المقدسة

أثر واقعنا على فهمنا للصفات الإلهية

قال أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم:

«اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الوَصْفِ الجَمِيل .»

إننا بطبعنا العادي ونظرًا لكوننا ماديین نميل دائماً إلى المحسوس ونقيس الأمور على واقعنا فا نتعقل مثلاً أن يكون السمع بلا حاسة، لماذا؟ لأننا وما حولنا من حيوانات نراها نسمع بحاسة هي الأذن، وهذه الناحية هي في الواقع قصور ذاتي فينا، ولو طبقنا هذه المادية وهذا القصور في فهمنا لصفات الله تعالى

لكان ربنا مثلنا تعالى الله وتقدس، وهو تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیءٌ .»(2)

وعلى هذا فإن نسبة السمع والبر والكلام نسبة صحيحة وصادقة ولكن ينبغي فهمها من منطلق ما يليق بالله تعالى، وقد أكّد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) على هذه الناحية كثیرًا كما رأينا ونرى في كلامه (علیه السّلام).

قال سيد الموحدين (علیه السّلام)

1- قال (علیه السّلام)(3):

«وكلُّ سميعٍ غیرَهُ يَصَمُّ عن لطيفِ الأصواتِ ويُصِمُّهُ كبيرُها ويذهب عنه

ص: 105


1- في ظلال نهج البلاغة 1/ 279 .
2- سورة الشورى / 11 .
3- خ 65، ص 96.

ما بَعُدَ منها :»

هناك أصواتٌ للنمل في المكان البعيد في الأرض، وأصوات لحيوانات في قعرالبحار، وأصوات لطيور في أجواء السماء البعيدة وهذه لا ندركها ولا نحسها، كذلك الإنسان، الصوت القويُّ يُصِمُّ آذانه وقد تصل الحالة إلى أنه لا يستطيع تمييز الصوت وفهمه وهذا أمر مشاهَدٌ بالتجربة، إذن الإنسان وكل سامع من المخلوقات له حدَّان أدنى وأعلى لمدى قدرته على السمع(1).

وهذا نقص في المخلوق والخالق منزَّه عنه، وكذلك هو الأمر في مجال البصر ومداه، يقول (علیه السّلام): «وكلُّ بصيرٍ غيره يعمى عن خفيِّ الألوان(2) ولطيفِ الأجسام :»

وهذا ما نعرفه اليوم من وجود المخلوقات التي لا ترى بالعین المجردة ونحتاج لنراها إلى الجهر، بل يقررون أن ثمة أجسامًا تعيش في النار وبعضها يعيش في الجليد وغیر ذلك وهي ذات ألوان ولكن لا تقع عليها أعيننا، ولكن الله أحاط بكل هذه الأمور فهو خالقها، فضلاً عن إحاطته تعالى بخلقه الذي لا نراه من ملائكة وجن وغیر ذلك، وأتصور أن الإمام (علیه السّلام) في حديثه هذا عن السمع والبصر في حق الله تعالى أراد إعلام الناس على قدر عقولهم ومن واقع تجاربهم

ص: 106


1- يقول المختصون: إن الإنسان يسمع الأصوات من تردد ( 20 هرتز) كحدٍّ أدنى، إلى تردد ( 20.000 هرتز) كحدٍّ أعلى، والإنسان (يَصَمُّ عن لطيفِ الأصواتِ) أي ما هو أقل من ( 20 هرتز)، (ويُصِمُّهُ كبيرُها) أي ما هو أكثر من ( 20.000 هرتز)، وقد يكون مراد الإمام (علیه السّلام) هذا المعنى أو معنى لا ندركه.
2- كالأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، القادمة من الشمس.

وأن الله تعالى فوق هذه المدرَكات والمدرِكات من مخلوقاته.

2 - وتحدث (علیه السّلام) عن صفات الله تعالى فقال(1):

«لا تقع الأوهامُ له على صفة »: وقد بيَّنا فيما سبق من الدروس أن هذا لا يعني عدم وصف الله تعالى وأنه خالٍ من الصفات فقد وصف نفسَه ووصفه رسولُه ووصفه أمیر المؤمنین عليها وآلهما الصلاة والسلام، وإنا المعني -كما سبق- استحالة الصفة بعنوان أنه شيء غیر الذات المقدسة فيلزم التركيب والتجزيء وهذا ما لا يصح.

«ولا تُعْقَدُ القلوبُ منه على كيفيَّةٍ »: لأن معرفة كيفيته تستدعي إحاطةَ ممكنِ الوجود بواجبِ الوجود، والقاصرِ بالكاملِ وهذا غیر معقول.

«ولا تنالُه التجزئةُ والتبعيضُ »: يمكن تفسر هذه العبارة الشريفة بعنوان نفي التجسيم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، كما يمكن تفسیرها بعنوان أن صفاته عین ذاته، فلو جزَّأنا الصفات عن الذات أو جعلنا كل صفة منفصلة عن الأخرى لجزَّأنا الله تعالى وبعَّضْناه وذلك يستدعي التركيب، والتركيب يستدعي مركِّبًا إلى

آخر هذه اللوازم الفاسدة، تعالى الله علوًّا كبیرًا.

ولهذا قال (علیه السّلام) في آخر هذه الفقرة الشريفة:

«ولا تُحيطُ بِهِ الأَبْصارُ والقُلُوبُ »: الأبصار كوسيلةٍ للشيء المنظور لا تحيط به وإنما ترى آثار سلطانه وقدرته، والقلوبُ وإنِ انعقدت على معرفته ووجوب وجوده وتوحيده، فهذا شيءٌ وأما الإحاطة به فيءٌ آخر، وكيف تحيط به وهي

ص: 107


1- خ 85 ، ص 115 .

بعض ما خلق.

3 - وتحدث حول اطلاع الله تعالى عل أعمال العباد، فقال(علیه السّلام)(1) : «إِنَّ اللهَ سبُحْانَهُ وتَعَالى لا يَخْفَى عَلَيْهِ ما العِبادُ مُقْترفُونَ في لَيْلِهِمْ ونَهارِهِمْ :»

فهو مطلعٌ على العباد ليلاً ونهارًا ولا فرق لديه لأنه العالم النافذ ولأنه منفصل عن الزمان، ولهذا قال بعد هذه العبارة:

«لَطُفَ به خُبرْا وأحاطَ به علماً »: واللطف: هو الرقة الخاصة التي تستوجب النفوذ والتوغل في أعاق الشيء الدقيق، وهو شبيه بما نعرف الآن -ولله المثل الأعلى- بعالم الأشعة التي تمكننا من التصوير من العلو إلى قيعان البحار وأعماق وخفايا الأرض، وهذا اللطف والدقة في العلم والإحاطة شيء معجز من جانب،

ومن جانب آخر فإن هذه الإحاطة تستوعب كل خلق الله تعالى بأعداده الهائلة من إنسان وجان ومَلَكٍ وحيوان وغیر ذلك وهذا إعجاز آخر.

«أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ »: وهذه الأعضاء ليست مصادر علمه تعالى وتقدس بل هو الذي جعلها شهودًا وأنطقها سواء كان النطق هذا الذي نعرفه أو أنها تحفظ آثار الجريمة التي تنطبع عليها، «وَقَالُوا لُجلُودِهِم لِم شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذي أَنْطَقَ كُلَّ شيءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مرةٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُون .»(2).

«وَضَمائِرُكُمْ عُيُونُهُ »: وهذا لطف في التعبیر لأن الضمیر بطبعه يناسبه الكتمان بينما العيون شاخصة بارزة، وإنما جمع بينهما الإمام (علیه السّلام) ليخبر بأن الله تعالى لا يُفَرِّقُ

ص: 108


1- خ 199 ، ص 318 .
2- سورة فُصِّلَتْ / 21 .

عنده حال العبد في السرِّ أو العلانية.

«وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه »: يرتكب الإنسان إثماً في خلواته بعيدًا عن الناس لكن هذه الخلوة هي عِيانٌ عند الله أي معايَنة ومشاهَدة.

4 - وقال (علیه السّلام)(1):

«ليسَ في الأشياءِ بِوَالِج، ولا عنها بِخَارِج »: ولتقريب حجم المخلوقات والمعلومات فلنأ خذ قريتَنا هذه وما فيها من البناء والبشر والمخلوقات والماء والنخيل والأرض والسماء فنجد أنها دنيا واسعة وما هي إلاَّ قطرة صغرة في بحر محيط بالنسبة لخلق الله، ومع ذلك فإنه الله مستغنٍ بعيدٌ ليس بداخلٍ فيها كما أنه -في بُعدِه- معها ومحيطٌ بها.

5 - ووصف (علیه السّلام) ملك الموت، وهذا أسلوب لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) إذْ يدلل بعجزنا عن الإحاطة بالمخلوقات على عجزنا عن الإحاطة بخالقها ومبدعها، وقد رأينا فيما

سبق مثالًا آخر من هذا في وصفه (علیه السّلام) للطاووس، فيقول هنا في وصف ملك الموت(2):

«هل تَحسُّ بِهِ إذا دَخَلَ مَنْزِلً أَمْ هَلْ تَرَاهُ إذا تَوفَّی أَحَدًا »: فقد جاء في الروايات أنه يتفقد البيوت كل يوم وإذا قبض روح أحدهم قال إن لي معكم عودات(3).

ثم يترقى الإمام (علیه السّلام) في بيان عجزنا عن وصف هذا الملك بقوله (علیه السّلام):

ص: 109


1- خ 186 ، ص 274 .
2- خ 112 ، ص 167 .
3- بحار الأنوار 6/ 141 - 143 و 169 ، ومنهاج البراعة 8/ 37 .

«بل كيف يتَوَفَّ الجنینَ في بطنِ أمِّه! أَيَلِجُ عليهِ مِنْ جَوَارِحِها أَمِ الروحُ أجابتْه بإذنِ ربِّها؟ .»

ثم يَخلِصُ الإمام (علیه السّلام) إلى الدرسِ من ذلك بقوله (علیه السّلام):

«كيفَ يصِفُ إلهَه مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مخلوقٍ مِثْلِه .»

خاتمة

تحدثنا عن بعض صفاته تعالى وتقدس وأن نسبتها إليه تعالى صحيحة صادقة ولكن ليس كما نتصوّر ونعايش في واقعنا، وهذا ينطبق على غیر الصفات مما يتعلق بالله تبارك وتعالى كما نقرأ في القرآن الكريم مثلاً، ومن ذلك قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِینْ مِنْكُم »(1)، فإن (قد) هنا كما نعلم من اللغة تفيد أنه قديعلم وقد لا يعلم، ولكن يجب حملها على غیر هذا المعنى لأنه لا يليق بالله تعالى وتقدس، ويذكر في النحو أن (قد) تفيد التكثیر وقد تفيد التوكيد.

كما أن كان وأمثالها من أفعال يذكرون أنها مع الله تكون مسلوبة الدلالة على الزمان، ولهذا فإن أستاذنا العمران حفظه الله وأيَّده يرتِّب على أمثال هذه الأمور آثارًا حتى في الإعراب لكي يتلاءم وجلال الله وما يليق به تبارك وتعالى، فمثلاً،في قوله تعالى: «وكَانَ اللهُ عليماً حكيماً »(2) لا يُعرِبُ كلمة (حكيماً) بحسب ظاهرها (خبرًا لكان) لأن هذا يستلزم أنه تعالى كان جاهلاً -ونستغفر الله لهذه الكلمة- ثم عَلِم، بل يعربها حالًا أي أن حال الله في كينونته هي العلم دائماً وأبدًا، لذلك يجب

تفسر مثل هذه الألفاظ بما يليق به تعالى، وهذا ما عبَّرنا عنه سابقًا بضيق الخناق.

ص: 110


1- سورة الأحزاب / 18 .
2- سورة النساء / 17 .

10) صفة العدل

مدخل

قال أمير المؤمنين وسيِّد الموحدين صلوات الله وسلامه عليه:

«التوحيدُ أَلَّ تتوهَّمهُ، والعدلُ أَلّاَ تَتَّهِمَه .»

أولاً: تعريف العدل لغة واصطلاحًا

العدلُ لغةً: القسط والإنصاف، وأصله المرتبة الوسط وكذلك التسوية والمماثلة، قال تعالى: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهم يَعْدِلُونَ »(1)، أي يجعلون له مثيلاً،والعدل مصدر فإطلاقه على الله أي أنه ذو عدل أي عادل.

واصطلاحًا: يُعرَّفُ في علم الكلام بأنه تنزيه الباري جلَّ وعلا عن فعل القبيح وعن الإخلال بالواجب.

وهذه التسمية بالنظر إلى أن جميع ما يصدر عنه تعالى متصف بالعدل بما يليق به تعالى لذلك جاء العدل وصفًا واسماً من أسمائه تعالى.

ثانيًا: مجالات العدل

فهي لا تنحصر في دائرة من الدوائر كالعدل في التشريع مثلاً، بل تشمل جميع الدوائر وكل ما ندرك وما لا ندرك في عالم التكوين وعالم التشريع، ونقصد

ص: 111


1- سورة الأنعام / 1.

بعالم التكوين أن الله فيما خلق وفيما يُميت ويُحيي وما يتعلق بالسماوات العُلى والأرضین السُفلى وما يتعلق بالجنة والنار والمعاد وكل شيء في الوجود فإنه على بُنْيَةِ العدل واستقامته التي لا يشذّ عنها شيء، فتركيبة الإنسان بما فيها من غرائز

وطاقات وقوى ولحم وعظم مبتنية على العدل، وكذلك هو الأمر في عالم الملائكة والجن والمخلوقات كلها.

ونقصد بعالم التشريع الأحكام الشرعية إذْ نؤمن أنها منبعثة من عدل، وهذا يريحنا كثیرًا عن معرفة أسرار التشريع وما يظهر أنه تمييز مثلاً بن الرجل والمرأة في المیراث فقد يُظن أنه حَيْفٌ وظلم ولكن لكوننا نؤمن بأنه تعالى عادل فإننا نؤمن بعدالة التشريعات الصادرة عنه سواءً فهمنا أسرارها أم لم نفهمها، ومن ذلك أيضًا

شرف السيادة والانتماء لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأن السادة لهم حق في الخمس وليس في الزكاة، وكذلك الأمر في القصاص والشهادة وأحكام المرأة، فإننا على يقین بعدالة هذه التشريعات فهمنا أسرارها أم لم نفهمها.

ثالثًا: لماذا خُصَّ العدلُ ليكون الأصلَ الثاني من أصول الدين؟

العدل بالنظر التحقيقي صفة من صفات الأفعال كسائر الصفات، وأصول الدين أساسًا ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، فيدخل العدل وجميع الصفات تحت التوحيد لأن التوحيد جامع لكل ما يتعلق بالله ومن ذلك توحيده في صفاته.

وتدخل الإمامة تحت النبوة لأنها امتداد لها وتشرك معها في شروطهاوأمورها إلا ما اختصّ بالنبوة كالوحي مثلاً، فلماذا إذن نرى تقسيمًا آخر يجعل أصول الدين خمسة فيضيف لها العدل الإمامة؟

ص: 112

والجواب أن ذلك بسبب اختلاف المسلمين في العدل والإمامة إلى فرقتین، فبالنسبة للعدل قالت إحدى الفرقتین وهم الأشاعرة الذين هم غالبية السنة: أن الحَسَنَ ما حسَّنَه الشرعُ، والقبيحَ ما قبَّحَه الشرعُ، فجميع الأمور يجوز صدورها عن الله تعالى وتكون عدلًا حتى لو لم تتفق مع العقول السليمة والفطرة المستقيمة،

ويمثلون لذلك بأنه لو أدخل اللهُ سيِّدَ رسلِه النارَ لكان ذلك عدلًا، ولو أدخل أشدَّ أعدائِه المتكبرين جنتَه لكان ذلك عدلًا، بينما قالت الإمامية والمعتزلة إن هناك حُسنًا عقليًّا وقُبحًا عقليًّا، والله لا يصدر منه إلَّ الجميل الذي يوافق العقل السليم والفطرة المستقيمة والوجدان، ولذلك توصف الإمامية والمعتزلة بالعدلية.

رابعًا: من فكر وتربية أمير المؤمنين (علیه السّلام)

1 - قال (علیه السّلام): «والعدلُ ألاَّ تتهمه »: فالمؤمن الذي هو على بصیرة من أمر ربه يثق بعدالته في كل الأمور فيما يعلم وفيما لا يعلم، وفيما يرضى وفيما لا يرضى وتلك منزلة كبیرة تلتقي مع منزلة التسليم لله تعالى وتقدس، فقد يفقد الإنسان ما يظن أنه سرُّ سعادته كأن يفقد ولده الوحيد فيترّم ويقول: أي حكمة وأي عدل في أن يحرم اللهُ عبدًا مسكينًا من ولده الوحيد ومصدر خیره ونفعه الظاهري، وقد يحرم الإنسان من وجاهةٍ كانت له فيسقط في نظر المجتمع، وقد يحرم نعمة من النعم، ولكنه إذا عرف أن الله عدل سلَّم له وانقاد ورضي بقضائه، ولو كان الله ظالمًا -ونستغفر الله لهذه الكلمة- للزم أن يكون هناك دوافع تدعوه للظلم تعالى الله وتنزّه، فإما أن يكون محتاجًا للظلم، ولكن الله هو الغنيُّ المطلق، وإما أن يكون عمله هذا عبثًا، ولكنه الحكيم الذي لا يعبث، وإما أن يكون ظلمه جهلاً، ولكنه العالم بكل شيء،

ص: 113

وحيث امتنعت جميع الدوافع للظلم لأنها لا تليق بجلاله إذن ثبت استحالة الظلم منه سبحانه وتعالى(1).

إذن فالله سبحانه عدلٌ في تكوينه، وعدلٌ في تشريعه، وعدلٌ في كل أمره، فيجب التسليم له سواءً عرفنا أسرار ذلك أم لم نعرفه، «فلا وربِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيْماَ شَجَرَ بَيْنَهم ثُمَّ لا يَجدُوا في أُنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّما قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تسَليِمْا .(2).

2 - وعن عدل الله تعالى في الآخرة، قال (علیه السّلام)(3):

«إذا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ، وحَقَّتْ بِجَلائِلِها القِيَامَةُ، ولِحقَ بكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ، وبكُلِّ معبودٍ عَبَدَتُه، وبكلِّ مطاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ، فلمْ يُجزَ في عَدْلِهِ وقِسْطِهِ يومئذٍ خَرْقُ بَصرَ في الهَوَاءِ ولا هَمسُ قَدَمٍ في الأَرْضِ إِلّاَ بِحَقِّه :»

يقول (علیه السّلام) إن هذه الدنيا مليئة بالفوضى والآثام والمظالم، أما إذا قامت القيامة بما فيها من أهوال ولحِق كل أناسٍ بإمامهم سواءً كان إمامَ باطلٍ أو حقٍّ، فعندها لا يكون ظلم حتى بمقدار لا يكاد يُحسُّ كخرق البصر في الهواء أو همس القدم في

الأرض.

«فكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ، وعَلائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ :»

كم: خبرية لبيان الكثرة، أي أنه يمكن التضليل والتزوير في الدنيا

ص: 114


1- يراجع في ذلك (عقائد الإمامية) للشيخ محمد رضا المظفر، في مبحث العدل.
2- سورة النساء / 65 .
3- خ 223، ص 345.

والاحتجاج بحججٍ واهية وأعذارٍ ضعيفة، أما في الآخرة فتتكشف الحقائق ولا تنفع هذه الحجج والأعذار، فهو يوم العدل الذي يُنتصر فيه للمغلوب وللمظلوم في الدنيا، و «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم .» (1).

وعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (علیه السّلام) في رسالة بعث بها إلى هارون العباسي من مطامیر السجن: «إِنَّهُ لَنْ يَنْقَضيِ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ البَلاءِ إِلَّا انْقَضىَ عَنْكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ حَتَّى نُفْضيِ جَميعًا إِلى يَوْمٍ لَيْسَ لَهُ انْقِضَاءٌ يَحسرَ فيهِ

المُبْطِلُون .»(2).

نعم تمر الحياة وتنتهي، على الظالم والمظلوم، على السجين والسجَّان، على من في القر وعلى من في الكوخ، ثم يكون الملتقى عند الله تعالى...

هكذا أدَّبَنا أمير المؤمنين (علیه السّلام)

فقد جاء عنه (علیه السّلام):« اللَّهُمَّ احْملْني على عَفْوِكَ ولا تَحْمِلْني على عَدلِك .»

فإذا كان إمامنا (علیه السّلام) الذي كان من عدله ما جاء عنه: «واللهِ لَوْ أُعْطِيْتُ الأَقَالِيْمَ السَّبْعَةَ بِماَ تَحتَ أَفْلاكِها عَلىَ أَنْ أَعْصيِ اللهَ في نَمْلَةٍ أَسْلُبُها جُلْبَ شَعِيْرةٍ ما فَعَلْتُه »(3)، ومع ذلك يبتهل بلسان العبودية الصادقة يسأل الله أن يعامله بعفوه لا بعدله لأن الحَمْلَ على العدل ثقيل، وهذا درس وعِظَةٌ لنا للكف عن كل ذنب خوفًا من عدل الله وحكومته.

ص: 115


1- نهج البلاغة، الكلمة رقم 241 ، ص 511 .
2- سير أعلام النبلاء 6/ 273 .
3- نهج البلاغة، خ 224 ، ص 347 .

نسأل اللهَ أن يعيننا على أنفسنا ويعاملنا بعفوه بحق من نتشرف بالانتماء إليه صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 116

11) العدل وسعة آفاقه

مدخل

مدخل(1)

ورأيت أن في العدل مواطن إفاضة ووفرةً في كلم الإمام الهادي والمربي الربّاني كما هو شأنه في كافّة ما يعالج، فسلكت نهجه ووطئت عقبه، واقتفيت أثره، فكانت هذه المراحل والمنازل.

أولاً: عدل الله سبحانه وتعالى

أ) «فَالَحقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِی التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِی التَّنَاصُفِ، لَا يَجرِي لِأحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجرِيَ لَهُ وَلَا يَجرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصًا للهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلىَ عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِی كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُروفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَ العِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ

جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِماَ هُوَ مِنَ المَزِيدِ أَهْلُهُ .»(2).

ب) «الذي صَدَقَ في مِيعادِهِ، وارتفعَ عن ظُلْمِ عِبادِه، وقام بالقِسْطِ في خَلْقِهِ،وعدلَ عليهم في حُكْمِهِ .»(3).

ج) «الذي عَظُمَ حِلْمُهُ فعَفَا وعدلَ في كلِّ ما قضى .»(4).

ص: 117


1- فصل مضاف في الطبعة الثانية.
2- نهج البلاغة خ 216 / 332 - 333 .
3- نهج البلاغة خ 185 / 269 .
4- نهج البلاغة خ 191 / 283 .

د)«وأشهدُ أنه عدلٌ عَدَلَ، وحَكَمٌ فَصَل .»(1).

ه) «وقدَّرَ الأرزاقَ فكثَّرَها وقلَّلَها، وقسَّمها على الضيقِ والسعَةِ فعَدَلَ فيها لِيَبْتَليَ مَنْ أرادَ بميسورِها ومعسورِها، ولِيَخْتَبرِ بذلكَ الشكرَ والصبرَ من غنيِّها وفقيرِها .»(2).

ثانيًا: القرآن الكريم منهل العدل ومشرعته

«فهو معدنُ الإيمانِ وبحبوحَتُهُ، وينابيعُ العِلْمِ وبُحُورُهُ، ورِياضُ العدلِ

وغدرانَهُ .»(3).

ثالثًا: الرسول الأعظم صلى (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

أ) «وأَجْزِهِ مِن ابْتِعاثكَ لهُ مقبولَ الشهادةِ ومَرْضِّی المكانَةِ، ذا منطقِ عدلٍ وخطبةِ فصلٍ .»(4).

ب) «فهو إمامُ مَن اتَّقى... وسنَّتُهُ الرُّشْدُ وكلامُهُ الفَصْلُ وحُكْمُهُ العَدْل .»(5)

رابعًا: الوالي والعدل

أ) ففي حديثه مع عاصم بن زياد وقد شكاه أخوه العلاء للبسه العباءة وتخليه عن الدنيا، فدعا به إليه فعاتبه ونصح له وأرشده، فقال عاصم: «يا أمیر

ص: 118


1- نهج البلاغة خ 214 / 320 .
2- نهج البلاغة خ 198 / 315 .
3- نهج البلاغة خ 214 / 320 .
4- نهج البلاغة خ 72 / 101 .
5- نهج البلاغة خ 94 / 139 .

المؤمنین، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! »، فقال(علیه السّلام) :« وَيْحكَ إِنِّی لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ عَلىَ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ(1) بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ .»(2).

ب) ومما قاله لعثمان لما أجمع الناس إليه وشكوا ما نقموه عليه وسألوه مخاطبته واستعتابه:

«فاعلمْ أنَّ أفضلَ عبادِ اللهِ عندَ اللهِ إمامٌ عادلٌ هُدِيَ وهَدَى، فأقامَ سنةً معلومةً، وأمات بدعةً مجهولة... وإِنَّ شرَّ الناسِ عندَ اللهِ إمامٌ جائرٌ ضَلَّ وضُلَّ به، فأمات سنةً مأخوذةً، وأحيا بدعة متروكة .»(3)

ج) وما جاء في عهده الشريف لوليه وواليه (مالك):

«ثم اعلمْ يا مالكُ أني قد وجَّهْتُكَ إلى بلادٍ قد جَرَتْ عليها دُوَلٌ قبلَك، مِنْ عدلٍ وجورٍ، وإِنَّ الناسَ ينظُرُونَ مِنْ أمورِكَ في مِثْلِ ما كنتَ تنظُرُ فيه مِنْ أمورِالوُلاةِ قَبْلَكَ، ويقولونَ فيكَ ما كنتَ تقولُ فيهِمْ .»

ص: 119


1- يتبيَّغ: يهيج به الألم فيهلكه.
2- نهج البلاغة خ 219 / 224 - 225 . وطريف تفاوت أمر الأخوين وعيشهما، وكذا اختلاف مقولة الإمام (علیه السّلام) لهما. فقد قال للعلاء وكان قد دخل عليه يعوده، فلا رأى سعة داره قال: «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة .»
3- نهج البلاغة خ 164 / 234 - 235 .

«وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِی الَحقِّ وَأَعَمُّهَا فِی الْعَدْلِ .»

«وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیيْ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ .»

د) والعدل قائم بين الوالي والرعية:

«وَأَعْظَمُ مَا افْترَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الُحقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلىَ الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلىَ الْوَالِی، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلىَ كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَامًا لأُلْفَتِهِمْ، وَعِزًّا لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِصَلاَحِ الْوُلَةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ، فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَی الْوَالِی حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِی إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ

الَحقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِم الْعَدْلِ .»(1).

خامسًا: ومن مقومات العدل وشؤونه

أ) وسئل (علیه السّلام): أيهما أفضل العدل أو الجود؟ فقال « (علیه السّلام): الْعَدْلُ يَضَعُ الْأمُورَ مَوَاضِعَهَا وَالُجودُ يُخرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَالُجودُ عَارِضٌ خَاصٌّ، فَالْعَدْلُ أَشْرفُهُاَ وَأَفْضَلُهُماَ .»(2).

ب) ومن صفات المتقین: «قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الَحقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لَا يَدَعُ لِلْخَیرْ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَلَ مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا »(3)

ج) وقال (علیه السّلام) في شأن طلحة والزبير:

ص: 120


1- نهج البلاغة خ 216 / 333 .
2- نهج البلاغة حكمة 437 / 553 .
3- نهج البلاغة خ 87 / 119 .

«وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهمْ لَلْحُكْمُ عَلَ أَنْفُسِهِمْ .»(1).

ومن كتاب له (علیه السّلام) إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان:

«أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ الْوَالِی إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذلِكَ كَثِیرًا مِنَ الْعَدْلِ، فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِی الَحقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِی الَجوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ، وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيَما افْترَضَ اللهُ عَلَيْكَ، رَاجِيًا ثوَابَهُ، وَمُتَخَوِّفًا عِقَابَهُ .»(2).

وفيما كتبه (علیه السّلام) لمحمد بن أبي بكر حين قلّده مصر:

«وَآسِ بَيْنَهُمْ فِ اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَماَءُ فِی حَيْفِكَ لَهمْ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُمْ مَعْشرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِیرَةِ مِنْ أَعْمَلِكُمْ وَالْكَبِیرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ .»(3).

وقال عليه (علیه السّلام) في خطبة خطبها بصفين:

«وَلاَ تَظُنّوا بِی اسْتِثْقَالًا فِی حَقٍّ قِيلَ لِی، وَلاَ التِماَسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسيِ، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الَحقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهماَ أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلا تَكُفُّوا

ص: 121


1- نهج البلاغة خ 137 / 194 .
2- نهج البلاغة كتاب 51 / 449 .
3- نهج البلاغة كتاب 27 / 383 . ونحوه في كتاب له (علیه السّلام) إلى بعض عمّله. كتاب 46 / 421 .

عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل .»(1).

د) وقال (علیه السّلام) فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان: «وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ؛ فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ .»(2).

ه) «وأَفْضَلُ مِنْ ذلكَ كُلِّهِ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ .»(3).

سادسًا: عشّاق الدنيا لا يروق لهم العدل

فمن كتاب له (علیه السّلام) إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة في لحوق قوم من أهلها إلى معاوية:

«وَإِنَّماَ هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ، وَسَمِعُوهُ ووَعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِ الَحقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَی الاْثَرَةِ، فَبُعْدًا لَهمْ وَسُحْقًا!! إِنَّهمْ -وَاللهِ- لَم يَنْفِرُوا مِنْ جَوْر، وَلَم يَلْحَقُوا بِعَدْل، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِی هذَا الاْمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللهُ لَنَا صَعْبَهُ،يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَالسَّاَمُ علَيْكَ»(4) .

ص: 122


1- نهج البلاغة خ 216 / 235 .
2- نهج البلاغة خ 15 / 57 .
3- نهج البلاغة حكمة 374 / 542 .
4- نهج البلاغة الكتاب 70 / 461 .

سابعًا: انقطاع الأمل وبقاء الحسرة

أ) «أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الُمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ المُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهمْ، أَظْأَرُكُمْ(1) عَلىَ الْحقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الِمعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الاْسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرارَ(2) الْعَدْلِ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحقِّ .»(3).

ب) «أَلَم أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الاْكْبرَ وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الأَصْغَرَ! وَرَكَزْتُ فِيكُم ْرَايَةَ الإِيماَنِ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلىَ حُدُودِ الَحلالِ وَالَحرَامِ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِی، وفَرَشَتكُمُ(4) المَعْرُوفَ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الَأخْلاَقِ مِنْ نَفْسيِ؟ .»(5).

ثامنًا: ويتجلّى الحق في يوم الجزاء

«يَوْمُ العَدْلِ عَلَ الظَّالِم أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الجَوْرِ عَلَی المَظْلُومِ .»(6)

وبعد..

فهذه لئالئ من جوامع الكلم والعقد المنتظم، صاغها ربُّ البيان ومن أوتي فصلَ الخطاب، أفرغها بيانُه، ورسمها بنانُه، جمعت فأوعت، مصدرَ العدلِ ومعدنَه وموطنَه ومجراه، بدءًا من منبعه (العدل الحكيم) ، و سرًا لتغلغله في قوام حياة البشر حكّامًا ورعية، ونفوذه في شؤونهم، وختماً لعاقبة الأمور حيث

ص: 123


1- أظأركم: أعطفكم.
2- السرار: آخر ليلة من الشهر والمقصود الظلمة.
3- نهج البلاغة خ 131 / 188 - 189 .
4- فرشتكم: بسطتُ لكم.
5- نهج البلاغة خ 87 / 120 .
6- نهج البلاغة حكمة 341 / 534 .

محكمة (العدل) الكبرى يوم العرض الأكبر في ساحة الحق «يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ( 88 ) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( .89)

فسبحانه من عليم حكيم وحكم وعدل:

«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِ بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ العَزِيزُ العَلِيمُ .»(1).

«وَاللهُ يَقْيِ بِالحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشيَءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِرُ( 20)(2).

«إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِله يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْر الفَاصِلِينَ .(57)(3).

وما أجلّ الواهب! وأكرم الموهوب! فقد أفاض عليه مولاه وحباه خیرما حباه، فجعله خزانة علمه ولسان حكمه ومظهرًا لكماله وجلاله وجماله، ومن ثَمّ أقامه علماً بعد خاتم رسله وصفوة أنبيائه، وبابًا لمدينة علمه، لينهج بالأمة مسالك الهدى ويسدّ عنها منافذ الردى، ويأخذ بها إلى الله حيثما وكيفما يريد في حياتها الدنيا والأخرى.

فصلى الله على محمد نبيّه وعليٍّ وليّه والأئمةِ الهداة من آلهما وسلّم تسليمًا.

ص: 124


1- سورة النمل، الآية 78 .
2- سورة غافر، الآية 20 .
3- سورة الأنعام، الآية 57 .

12)الحكمة والروية

مدخل

قال سيِّد الحكماء والموحدين (علیه السّلام):

«وأَرَانا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وعَجَائِبِ ما نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِه .»

أولاً: تعريف الحكمة وعلاقتها بالرَّوِيَّة

الحكمة هي وضع الشيء في موضعه وهي بذلك مزيد التفكّر والروِيَّة وإمعان النظر، وأما في حق الله فهو حكيم لا يحتاج إلى روِيَّة، وهذا ما سيتجلَّی إن شاء الله تعالى خلال الدرس مستوحًى من نهج البلاغة الذي هو دائرة المعارف الإلهية الكبرى.

ثانيًا: أسلوب الإمام (علیه السّلام) في التدليل على الحكمة

يستدل الإمام (علیه السّلام) على الحكمة في الأمور المحسوسة من خلال آثار الإبداع والإتقان في الخلق المحسوس، ثم يستدل (علیه السّلام) بذلك على الحكمة في الأمور غیر

المحسوسة وغر المدرَكة سواءً كان ذلك في عالم التشريع أو عالم التكوين.

وقد أكَّد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) على هذا النمط من الاستدلال كثیرًا فمن ذلك ما يلي:

ص: 125

ثالثًا: دلائل الحكمة

1) تحدث الإمام عن دلائل الحكمة في الخلق، فقال (علیه السّلام)(1): «وأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آَثَارُ حِكْمَتِهِ... فَصَارَ كُلُّ ما خَلَقَ حُجَّةً لَهُ ودَلِيْلاً عَلَيه :»

يستدل الإمام (علیه السّلام) بآثار الصنع وعجيب الإتقان في الخلق على حكمة الخالق.

«وإِنْ كَانَ خَلْقًا صَامتًا فحُجَّتُهُ بالتَّدْبِیرْ نَاطِقَة، ودلالَتُهُ على المُبْدِعِ قَائِمَة): هذه المخلوقات المتقنَة وإن كانت أرضًا جامدةً أو سماءً أو أي شيءٍ مما يصنَّف أنه جماد، إلاَّ أنه ناطق بلسانٍ آخر معبرِّا دالًّا على آثار الحكمة.

هذا شيءٌ، والشيءُ الآخر أن نواحي الإبداع هذه هي فقط ما تقع عليه أعيننا أو تلمسه أيدينا أو تدركه مشاعرنا الخاصة فكيف لو عرفنا كنهها ونفذنا إلى أعماقها واستطلعنا سرَّها واستخبرنا حقيقتها لكان في ذلك من الدلائل ما هو أجلى وأعظم وأهم ولكن في حدود ما ندرك فإنه دلالة كبیرة على الملكوت والقدرة والحكمة ودلالة على المبدع.

والمبدع هو من ينشيء الأمر ابتداءً على غیر مثالٍ سابقٍ يحتذيه ويقفوه، وهذا مظهرٌ آخر للإعجاز.

2) وقال (علیه السّلام)(2):

ص: 126


1- خ 91 ، ص 126 .
2- خ 91 ، ص 127 .

«قدَّرَ ما خلقَ :»

تستخدم (ما) غالبًا لغیر العاقل في مقابلة (من) التي تستخدم غالبًا للعاقل، واستخدام الإمام (علیه السّلام) (ما) هنا من باب التغليب بالنظر إلى أن المخلوقات المرئيةوغیر المرئية التي تصنَّف في قسم غر العاقل هي أكثر من التي تصنَّف في قسم

العاقل، فالمعنى إذن قدَّر كل ما خلق لاشتمال (ما) على العاقل وغیر العاقل.

«فأَحْكَمَ تقديرَه :»

أي جعل له مقداره الخاص به «وأَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ شَءٍ مَوْزُون »(1)، أي لكل شيء مقداره أو تركيبته، وهذا ما يكشف عنه العلم وإن كنا لسنا بحاجة إلى الاقتصار عليه في الاستدلال على الخالق ولكنه من آثار التعرف على الله تعالى،

فنرى عالَم الفضاء وما فيه من الأبعاد وعلاقة الأجرام فيه، كبعد الشمس عن الأرض ودرجة حرارة الشمس وأنه لو اختلف هذا البعد وهذه الحرارة لانعدمت الحياة على الأرض، وكذلك تركيب الثمار وطبقات الأرض من نسبٍ ثابتة من المواد، إلى ما شاء الله من المخلوقات.

«ودبَّرَهُ فأَلْطَفَ تَدْبِيْره :»

أي كان في غاية الدقة بحيث لا يتأتَّى لغیر الله الحكيم المطلق هذا التدبیر الدقيق المتقن.

«ووَجَّهَهُ لِوُجْهَتِهِ فلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِه :»

ص: 127


1- سورة الحجر / 19 .

وهذه رائعة فكرية تضاف إلى كل روائع أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، والمعنى واضح من سیر الخلق إلى الهدف وعلى الطريق الذي رسمه الله له.

3) وقال (علیه السّلام) مستدلًّا ببعض الخلق على حكمة الخالق(1):

متحدثًا عن الخفَّاش، كما يتحدَّثُ عنهُ مَنْ خَلَقَه، وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) ليس خالقًا ولكنه لسان الخالق، أو كما يحلو للشيخ محمد جواد مغنية أن يعبرِّ بأن الله تعالى هو المؤلِّف وعليٌّ (علیه السّلام) هو المخرج، وهذا كاشف عن شيء من عظمة أمیرالمؤمنین (علیه السّلام) في التدليل على إعجاز الله وإبداعه وحكمته، وإن كانت هذه الخطبة قصیرة إلاَّ أنها أحاطت بما يفي بالغرض مما يتعلق بهذا الحيوان الذي يعجز الإنسان (غیر محمد وآله) من أن يحيط بوصفه، فقال (علیه السّلام):

«الحمدُ للهِ الذي انحَسَرتِ الأوصافُ عن كنهِ معرفتِه... :»

روعةٌ في الاستهلال وبراعة، وهو فنٌّ من فنون البلاغة.

«ومن لطائفِ صنعتِه، وعجائبِ خلقتهِ ما أرانا... :»

دلائلُ وشواهدُ واضحةٌ جليَّةٌ لنا.

«في هذه الخفافيش التي يقبضُها الضياءُ الباسطُ لكلِّ شيءٍ، ويبسطُها الظلامُ القابضُ لكلِّ حيٍّ »: وهنا ينحو الإمام (علیه السّلام) منحًى آخر ليقول إن خاصية الضياء أنه يبسط الأشياء، والظلام يقبض الأحياء، وأما الخفافيش هذه فإن الضياءَ

يقبضها والظلام يبسطها، وبغض النظر عن النواحي الفنية والبلاغية التي يبرزها

ص: 128


1- خ 155 ، ص 216 .

الإمام (علیه السّلام) دونما تكلف وهذه المقابلة وغيرها - فإنه (علیه السّلام) يأخذ في الوصف مدللاً على إبداع الله وحكمته وأن هذا لا تليق نسبته إلى المصادفة أو العشوائية، ولو أخذ الإنسان عيِّنةً من هذه الخفافيش وشرَّحها وقارنها بما يقول أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وهو الصادق المصدَّق، لرأى مدى الانطباق وجمال الوصف بل قد يقع بصره على ما لايستطيع وصفَه، ولهذا قلنا إن الإمام (علیه السّلام) هو لسان الله المعبرِّ، ولا يعني هذا

أنه خبر هذه المخلوقات ودرسها بل قد يكون رآها كما يراها غیره ولكنه العلم والإحاطة الإلهية.

4 - وأفاض (علیه السّلام) في صفة خلق من الحيوان مستدلّاً بذلك على بديع الصنع وإتقان الخلق وجليل الحكمة(1).

5 - وبيَّن عجز الخلق، فقال (علیه السّلام)(2):

«ولو اجتمع جميعُ حَيَوانِها... ومتبلِّدةِ أممِها وأكياسِها على إحداثِ بعوضةٍ ما قَدَرَتْ على إحداثِها ولا عرفتْ كيف السبيلُ إلى إيجادِها »: وهذا النوع من التحدي هو على غرار ما تحدَّى به القرآنُ الأممَ أن تأتي بمثل القرآن الكريم.

رابعًا: الرَّوِيَّة

قلنا إن الحكمة تتازم مع ما تحتاجه من الروِيَّةِ والتأمُّلِ ومزيدِ التفكیر،لكن الله تعالى مع بالغ حكمته وكما يصفه الإمام (علیه السّلام) بأنه لا يحتاج إلى روية.

ص: 129


1- في خ 185 ، ص 270 .
2- خ 186 ، ص 275 .

1 - وفي هذه الناحية قال (علیه السّلام)(1):

«أنشأَ الخلقَ إنشاءً، وابتدأَهُ ابتداءً، بلا روِيَّةٍ أَجَالهَا، ولا تجربةٍ استفادَها :»

نعم نحن نفكِّر في الأمور ونتأمل ثم نقرر وقد نخطيء وقد نصيب، وكلما كان الأمر عظيماً احتاج إلى رَوِيَّةٍ وتفكیرٍ أكثر، ولكن الله تعالى مع عظم خلقه وجلال حكمته فإنه لم يحتج إلى رَوِيَّةٍ وتفكیرٍ حین أبدع الخلق ولم يستفِدْ من تجربةٍ سابقة، وما أروعَ قوله (علیه السّلام): «ولا حَرَكَةٍ أَحْدَثَها، ولا همامةِ نفسٍ اضْطَرَبَ فيها .»

2 - وقال (علیه السّلام) عن الروية(2):

«خلقَ الخلقَ من غيرِ روِيَّة :»

لماذا ؟ لأن هذه المخلوقات لا تحتاج في خلقها إلى تعقلٍ منه، وإن كانت هي عن العقل، ولا تحتاج إلى تعليلٍ من جهته وإن كانت معلَّلَةً بتمام الحكمة.

«إذْ كانتِ الرَّوِيَّاتُ لا تليقُ إلاَّ بذوي الضمائر، وليس بذي ضمیرٍ في نفسِه »: إن إجالةَ الفكر تكون عند من يختلف عليه الحال، عند من يقلب الأمر ظهرًا لبطن مرةً بعد أخرى وقد يستجدُّ له شيءٌ وقد يستفيد من تجربةٍ ويصحح أخطاءه، والله تعالى منزَّهٌ عن كل ذلك، فلا يظهر له علمٌ كان قد جهِله، وهذه أيضًا عقيدتنا في

البداء فليس هو علمٌ بعد جهلٍ بل هو إظهار بعد إخفاء، وهذا ينطبق على باقي

ص: 130


1- خ 1، ص 40 .
2- خ 108 ، ص 155 .

الصفات كما تحدث (علیه السّلام) في مواطنَ أخرى من أنه تعالى (متكلمٌ بلا روِيَّة) وغیر ذلك.

خاتمة وخلاصة

يُجمل الإمام (علیه السّلام) هذه الأمور بقوله(1): «المقدِّر لجميع الأمور بلا روِيَّةٍ ولا ضمير »:

وذلك في عالم التكوين والتشريع على حدٍّ سواء وقد جاءت هذه الجملة الشريفة نتيجةً منطقيةً حتميةً لما سبقها في هذه الخطبة الجليلة.

ص: 131


1- خ 213 ، ص 330 .

ص: 132

13)صفات الكمال والجمال

مدخل

قال مولانا وسيدنا أمير المؤمنين وسيد الموحدين (علیه السّلام):

«لا تُدْرِكُهُ الحواسُّ فتُحِسَّه، ولا تَلْمَسُهُ الأيدي فتَمَسَّه، ولا يتغیرَّ بحال، ولا يتبدَّلُ في الأحوال .»

حديثنا هذا هو ختام ما يتعلق بالإلهيات في هذا الدرس الشريف، ويدور حول جملةٍ من صفات الكمال والجمال، فنأتي بما يتعلق بموضوع كلام الله تعالى وخلق القرآن والصفات الأخرى كالسمع والبصر وغیر ذلك مما وقع فيه النزاع وصار مثارًا للجدل عبر تأريخ المذاهب الإسلامية.

أولاً: حقيقة السمع والبصر

السمع والبصرمن صفات الذات، ولعلَّ هذه الفكرة تتبلور وتتضح حينما ننطلق من رأي الإمامية في حقيقة هذه الصفات، فلا يصح القول بأنه يسمع إذا دعاه أحد (سمع الله لمن حمده) وإذا لم يدعه فإنه لا يسمع. فحقيقة السمع علمه بالأشياء المسموعة، وحقيقة البصر علمه بالأشياء المبصرَة، من دون توسط آلة

ولا أداة ولا جارحة، إذن السمع والبصر مظهر وبعد من أبعاد العلم، والعلم من صفات الذات وبالتالي فإن السمع والبصر من صفات الذات.

ولكن إذا كان السمع والبصر مظاهر لصفة العلم فلماذا خُصَّا بالذكر؟

ص: 133

من ضمن التعليلات والتفسرات لهذا التخصيص الجنبة الترهيبية بالنسبة للعبد والتركيز على أن الله تعالى يعلم السرَّ وأخفى ويطلع على السرائر والضمائر وهذا مثار للإنسان كي يرعوي ويرجع عمَّا يهم أن يأتي به من عمل غیر لائق.

ثانيًا: أسباب التصور الخاطئ لصفات الكمال والجمال

اشارة

فقد لوحظ هذا التصور الخاطئ عند الفرق الإسلامية بشكل انْجَرَّ معه إلى مفارقات كثیرة كما سيمر خلال البحث إن شاء الله تعالى، ومن أسباب ذلك ما يلي:

1) قيود المادية:

وقد أشرنا في أحاديثَ سابقة أن الإنسان لا يكاد ينفك عن ماديته، وهذه المادية تنحو به دائماً إلى أن يفهم المعقول بلباس المحسوس، فلا يكاد يدرك المعقولات إلَّا حین تمثَّل له بمثالٍ ويريد للمعاني الإلهية أن تتجسّد، والمعاني الإلهية معانٍ تأبى عن التمثيل والتجسيم وشؤون المحسوس، فنحن محكومون بلغتنا

وببيئتنا فيما ندرك ونخبر عنه وفيما نشبه به، ولهذا نحن مثلاً في دور الطفولة نتصور إلهنا بموجود كبیر يلبس الثياب البيض في السماوات العلى متربع على عرشه، وهكذا توحي لنا أوهامنا وتصوراتنا وبيئتنا أو أي سبب من الأسباب.

2) الجمود على ظواهر الألفاظ:

فهم يخضعون ألفاظ القرآن الكريم إلى تصوراتهم ومن هنا وقعت المشكلة، فالقرآن الكريم قطعي السند وهذه الألفاظ -السمع والبصر واليد والوجه ونحوها- صدرت حتماً عن الله تعالى، ولكنهم اعتقدوا أن لله يدًا وساقًا وعرشًا والتزموا بالمعنى الظاهر المخالف لتقديس الله وتنزيهه عما لا يليق به تبارك وتعالى،

ص: 134

بل يرون أن الدين والورع هو الجمود عليها ولكنهم للتنزيه قالوا إن له يدًا وساقًا وغیر ذلك ولكنها بالشكل الذي يليق بجلاله، وسيأتي نقض ذلك من فكر أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

وقد أشرنا فيما مضى إلى أن الألفاظ القرآنية مع إعجازها البشر إلَّا أنها لم تخرج عن إطار اللغة بكاملها، والمعاني الكبیرة الشامخة تستعصي عن أن تصاغ بشكل واضح في هذا الإطار اللغوي، فإذا جمدنا على ظواهر الألفاظ جرَّنا ذلك إلى القول بما لا يليق بالله تعالى وتقدس، فمثلاً نقرأ قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِيْنَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا »(1) فحينما نأخذ «قَدْ يَعْلَمُ » بظاهرها مما درسناه في اللغة أن (قد) إذا دخلت على المضارع تفيد التقليل، عندها يكون المعنى أنه يعلم أحيانًا وأحيانًا لا يعلم، وهذا محالٌ على الله وهو فهمٌ فاسد باطل جرَّه الجمودُ على ظواهر الألفاظ.

إذن لابدَّ للعقل من مدخل وقد قدَّمنا في الأحاديث الأولى أن أساس البحث العلمي في العقائد والفلسفة وعلم الكلام هو دليل العقل، والآيات والروايات تعاضد العقل وترشد إلى ما يرشد إليه، وأمَّا تعطيله فسيكون على حساب الدين والفكر وسيكون سببًا لنسبة ما لا يليق إلى الله تعالى.

ومن ناحيةٍ أخرى أنه حتى من منطلق لغوي فإن باب المجاز والكنايات في اللغة العربية مفتوح على مصراعيه، فلا يقول أحدٌ إن قول العرب: (فلان مهزول الفصيل، فان جبان الكلب، فان كثیر الرماد، فلان كثیر الدخان) أن هذه الألفاظ تعني ظاهرها، بل المعنى الذي كانوا يقصدونه أنها كنايات عن الكرم،

ص: 135


1- سورة النور / 63 .

بل إن المعنى الظاهر لا يحوم حول أذهانهم أصلاً فإن مدلولها اللفظي المطابقي قد يسوغ (كوجود الرماد بالفعل دليل على الإطعام) وقد لا يسوغ هذا المدلول اللفظي المطابقي (كأن لا يوجد رماد) ولكن المدلول الالتزامي (وهو الكرم هنا) هو الذي يسوغ دائماً وهو المقصود.

3) دور السياسة:

ومن الغريب أن الجمود على الألفاظ وتنحية العقل وإقصائِه كان في ذات الوقت الذي قُبِلَتْ فيه السياسة المضللة في هذه القضايا، فقد صارت المعارف الإلهية الشامخة محلَّا لأن يعبث فيها (المتوكل) و(المأمون) ومن جاء بعدهم ويسخِّرون العقول والأقلام والشعراء والناس لأفكارهم، ويكون المقياس للولاء والعداء هو تبني هذه الأفكار، فذهب كثیر من قيمة المعارف الإسلامية بسبب التدخل المشین للسياسة الحاكمة وألقت تبعاتها الوخيمة على فكر المسلمين، ولعل هذه الآثار وكذلك تلك الأسباب باقية إلى الآن «واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصَيْبَنَّ الذِيْنَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ »(1).

ولذلك يُشْكَلُ على أحمد بن حنبل أنه هنا بالذات قد تخلَّی عن مبناه، فقد كان مبناه عدم الخوض في المسائل التي لم يأتِ فيها نصٌّ في الشرع وأن الحديث عنها بدعة في حین أنه عالج موضوع خلق القرآن بهذا النوع من المعالجة ولم يلتزم بمبناه، وإن كان ينسب له أنه في نهاية أمره عدل عن خوضه في موضوع خلق

القرآن لعدم ورود نص فيه، وإلَّا فإنه كان يكفِّر من لا يقول بمقالته.

ص: 136


1- سورة الأنفال / 25 .

ثالثًا: المقولة الحق

1- قال (علیه السّلام) مبينًا الاعتقاد الحق في الله تعالى(1):«والخالقِ لا بمعنى حَرَكَةٍ ونَصَبٍ» :

وقد أشرنا إلى ذلك في الأحاديث السابقة فلا حركة ولا جهد ولا عناء في خلقه للسماوات والأرض وما فيها ومن عليها.

«والسميعِ لا بأداة »: إثبات السمع من جانب، ونفي الأداة سواءً كانت أذنًا أو غيرها لأن الأداة من صفات المخلوق لا الخالق.

«والبصیرِ لا بتفريقِ آلة »: فسَّر البعضُ هذه الجملة أن الإنسان عندما يريد الإبصار يفرق جفنيه ليبصر، ولكن الله تعالى مستغنٍ عن أداة الإبصار، مع ثبوت البصر له كمظهر من مظاهر العلم أي أنه عليم بالأشياء المبصرَة كما مرَّ.

«والشاهدِ لا بمماسة »: فالله حاضر مع الأشياء كلِّها في كلِّ زمان ومكان ولكن ليس ملامسًا ومماسًّا لها، ومن هنا قال بعض العلماء إنه لا تعقل الجسمية في حقِّ الله تعالى لأن الله يقول: «وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما تَكُونُوا واللهُ بِماَ تَعْمَلُونَ بَصِیرْ»(2)

والجسم لا يشغل أكثر من مكان واحد في نفس الوقت.

2-وقد سأله ذعلبُ اليماني: هل رأيت ربَّك يا أمیر المؤمنین؟ فقال (علیه السّلام): أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال (علیه السّلام):

ص: 137


1- خ 152 ، ص 212 .
2- سورة الحديد / 4.

«لا تُدْرِكُهُ العيونُ بمشاهدةِ العِيانِ، ولكن تُدْرِكُهُ القلوبُ بحقائقِ الإيمان، قريبٌ من الأشياء غیرَ ملابس، بعيدٌ منها غیرَ مباين، متكلمٌ لا بروِيَّة، مريدٌ لا بِهمَّة، صانعٌ لا بجارحة .»(1).

فهو -تعالى- منزَّه عن كلِّ هذه الأمور، بل حتى إدراك القلوب له ليس رؤيةً أو إحاطةً بل هو نوعٌ من الوجدان بل إنه يعني التصديق والإذعان.

3-وقال(علیه السّلام)(2):

«والحمدُ للهِ قبل أن يكون كرسيٌّ أو عرشٌ أو سماءٌ أو أرض... :»

بغض النظر عن أن يكون معاني الكرسي والعرش هي معاني العلم والإحاطة أو غیر ذلك .

«الذي كلَّمَ موسى تكليماً، وأَرَاهُ مِنْ آياتِهِ عظيماً، بلا جوارحَ ولا أدواتٍ، ولا نطقٍ ولا لهوات »: يمهد الإمام (علیه السّلام) للموضوع بذكر الكلام وإثباته في حقِّ الله تعالى ويضرب لذلك مثالًا وهو تكليم الله تعالى لموسى تكليماً، ثم ينفي أن يكون لله تعالى

في هذا الكلام أي أداة يحتاجها المخلوق للكلام كاللسان والشفتين واللهوات (وهي جمع لهاة) فهو ينفي الجارحة أصلاً لا أنه يثبتها ثم يقول إن هذه الجارحة بشكل يليق بالله تعالى، لأن هذه الجوارح لو وُجدت أصلاً لكان اللهُ مركَّبًا منها فيحتاج

إلى مركِّب فيكون مخلوقًا ممكنَ الوجود، لا خالقًا واجبَ الوجود، ولا عجبَ أن تصدر هذه الرائعة من علي بن أبي طالب (علیه السّلام) الذي علَّم الناس التوحيد، وإلَّا فهم

ص: 138


1- خ 179 ، ص 258 .
2- خ 182 ، ص 262 .

لا يفقهون شيئًا ولا يهتدون إلاَّ به (علیه السّلام)، ولينظر الإنسان الحر وليقارن بین ما قدَّمه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وبین ما قدَّمه غیره، إن كانوا قدَّموا شيئًا.

ثم يقول (علیه السّلام) كعادته في روائعه فيقرن تنزيه الله تعالى عن المخلوقین بالتدليل على عجزهم عن وصفه بعجزهم عن وصف مخلوقاته، فيقول (علیه السّلام): «بل إِنْ كنتَ صادقًا أيها المتكلِّفُ لوصفِ ربِّك فَصِفْ جبريلَ وميكائيلَ وجنودَ الملائكةِ المقرَّبینَ، في حُجُرَاتِ القدسِ مُرْجَحِنینَ(1) ، متولِّةً عقولُم أن يحدُّوا

أحسن الخالقینَ، فإنما يُدْرَكُ بالصفاتِ ذَوُو الهيئاتِ والأدوات... »: وتمامًا كما قدمنا أن من يجيل الرأي ويتروَّى فيما يمارس، ومن تعرض عليه الحالات يفكر ويتأمَّل، ويخطئ ويصيب، وكذلك لا يوصَف إلاَّ من له هيئة وله أدوات يمارس بها، وكل هذه الأمور منزَّه عنها الله تعالى، ولهذا لا يمكن حدُّه أو وصفُه، وهذه الكلمات

من معلِّم التوحيد هي تفصيل لما أفاده الله تعالى في كتابه «لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصارَ وَهُوَ اللّطِيْفُ الْخبِیرُ .»(2)

4- وتحدث عن تنزيه الله تعالى، فقال (علیه السّلام)(3): «ولا تدركُهُ الحواسُّ فتحسَّهُ، ولا تلمسُهُ الأيدي فتمسَّهُ، ولا يتغیرَّ بحالٍ، ولا يتبدَّلُ في الأحوال »: يتحدث الإمام (علیه السّلام) عن الجسمية ثم -كعادته- ينحو منحى القرآن في تشعب مواضيعه فيتحدث عن السمع والبصر والكلام والحب والبغض والإرادة وغر ذلك فيقول (علیه السّلام):

ص: 139


1- المُرْجَحِنُّ -كالمُقْشَعِرِّ- المائلُ بثقله والمتحرك يمينًا وشمالاً
2- سورة الأنعام / 103 .
3- خ 186 ، ص 274 .

«يخبر لا بلسانٍ ولهواتٍ، ويسمعُ لا بخروقٍ وأدواتٍ، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحَفَّظُ، ويريدُ ولا يُضْمِر، يحبُّ ويرضى من غیرِ رِقَّة، ويبغَضُ ويغضَبُ من غیرِ مَشَقَّة »: إذن فالإطاق اللفظي لهذه الأوصاف يشمل الخالق والمخلوق فالجميع يسمع ويبصر ويتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويغضب، ولكن الفرق بین هذه الصفات في حق الخالق عنها في حق المخلوق هو الفرق بین واجب الوجودوممكن الوجود، فيتنزَّهُ تعالى عن اللسان واللهوات وأداة السمع ويتنزَّه عن التلفظ والتحفظ والإضمار في النفس والرقة والمشقة، وكل هذه عوارض على المخلوق.

ولهذا تفسر محبة الله للخلق ورضاه بمعنى الثواب، وبغضه وسخطه بمعنى العقاب ولهذا أجمل الإمام في الأخیر بقوله (علیه السّلام):

«يقولُ لمن أرادَ كونَه: «كُنْ فيَكُونُ » لا بصوتٍ يُقرَعُ ولا بنداءٍ يُسمعُ وإنما كلامه سبحانه فعلٌ منه أنشأه ومثَّله، لم يكن من قبلِ ذلك كائنًا، ولو كان قديماً لكان إلهًا ثانيًا :»

نلاحظ أن الإمام (علیه السّلام) يوسع دائرة معنى الكلام ليكون الكلام بمعنى الفعل والوجود، وكمثالٍ على ذلك «إن اللهَ يبشركِ بكلمةٍ منه اسمُهُ المسيحُ عيسى بنُ مريم »(1) فمعنى عيسى كلمة الله أي أن وجوده دالٌّ على الله تعالى فكلام الله هنا هو إيجاده لعيسى (علیه السّلام)، ويتحدث الإمام(علیه السّلام) عن الكلام ليكون بمعنى العلم لا بمعنى هذه الحروف والألفاظ.

ومن هنا دخلت هذه المشكلة على الفكر الإسلامي وجرَّت ويلاتِها على الأمة

ص: 140


1- سورة آل عمران / 45 .

الإسلامية حينما تصوَّروا أن الله يتكلم مثلما نتكلم نحن فإذا كان اللهُ قديماً وجب أن يكون كلامه قديماً لأنه صفة من صفاته وانحدر هذا الفكر إلى منحدرات سحيقة سخيفة كما سنعرض في النتيجة.

والنتيجة

النتيجة أن المادية والجمود ودور السياسة لعبت بالمعارف الإسلامية وأوصلتها إلى منحدرات سحيقة جدًّا، ففي مجال خلق القرآن وصل الأمر إلى أن قالوا إن الحروف والقلم الذي استخدمه الخطاط يكون قديماً بل كذلك جلد الماعز الذي يكتب عليه يكون قديماً كقدَمِ الله(1) «سُبْحَانَهُ وتَعَالَی عَماَّ يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِیرْا »(2)، بل إنهم يكفِّرون من لا يقول بمقولتهم وينعون على من يناقش فإنه من باب السؤال المحرم، وكم من فرقٍ بین هذا الفكر وما يقوله نجلُ أمیر المؤمنین الباقرُ (علیه السّلام):« إنه سميعٌ بصرٌ، يسمع بما يُبصرِ ويُبصر بما يسمع »(3)، لأن السمع والبصر ما هما إلاَّ مظاهر للعلم والإحاطة وكلها شيء واحد.

وفي مجال التجسيم وصل الانحدار إلى أن قالوا إن الله له يد وساق ووجه ولحية بل وغیر ذلك، بل يصل الأمر في التجسيم إلى الفكاهة والتندر فقوله تعالى «ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإِكْرامِ »(4) وهم يقولون إن له غیر الوجه يدًا وساقًا وجوارحَ إذن كلُّ شيء من هذا يهلك ويبقى الوجه فقط، في حین أنه من لطف التعبیر في الآية أنْ جاءت كلمة «ذُو » مرفوعة على أنها صفة لكلمة

ص: 141


1- معالم الفلسفة الإسلامية / 110 .
2- سورة الإسراء / 43 .
3- الكافي 1/ 108 . وقد ذكره السيد عبد الله شبر في (حق اليقين) 1/ 36 .
4- سورة الرحمن / 27

«وجَه » في حین أن المناسب أن يقول (ذي) مجرورة على أنها صفة لكلمة «ربِّكَ » لوكان المعنى أن الوجه هو ما نعرفه كجزء من جسم «ربِّكَ » ويبقى هذا الجزء دون بقية الأجزاء، ولكن حيث جاء المعنى أن الوجه هو الموصوف بأنه ذو الجلال دلَّ هذا أن الوجه هو ذات الله تعالى فكل شيءٍ هالكٌ إلاَّ الله تعالى.

وما أعجب ما يذكره السيوطي(1) في تفسره لقوله تعالى «يَوْمَ نَقُولُ لِجهَنَّمَ هَل امْتَلأتِ فتَقُوْلُ هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ »(2) من أن جهنم تنادي بملء فيها «هَلْ مِنْ مزَيِد »ٍ فلا يشبعها شيءٌ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط، بعزتك وكرمك وجلالِك.

وهذه مهزلة في الفكر، ولهذا كانت كلمة للشيخ الفضلي في كتابه (خلاصةعلم الكلام) أنه جدير بالباحثین السُّنَّة أن ينزهوا المجاميع الحديثية الكبیرة كالبخاري ومسلم وغيرهما عن هذا النوع من الفكر ويلتقوا مع فكرة أهل البيت (علیهم السّلام) وما قرَّره أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بأن الله تعالى «لا تُدْرِكُهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ العِيانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيْمانِ .»

وقد صدق من قال إن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) هو معلِّم التوحيد، ومن تجنب هذا الهدى فقد تنكّب الصراط والجادة، ومن تنكب الجادة لم يأمن العثار.

ص: 142


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 107 .
2- سورة ق / 30 .

14) النبوة، آدم (علیه السّلام)

مدخل:

قال سيِّد العارفين ومولى الموحِّدين (صلوات الله وسلامه عليه):

«فَبَعَثَ فيهم رُسُلَه، ووَاتَرَ إليهم أنبياءَه، لِيستأدُوهم ميثاقَ فِطرتِه،

ويُذَكِّرُوهُم مَنْسيِّ نِعمتِه، ويَتجُّوا عليهم بالتبليغِ، ويُثِیروا لهمْ دَفَائِنَ العقول، ويُروهم آياتِ المقدرة .»(1).

بعد أن أنهينا القسم المتعلق بالتوحيد والإلهيات في هذا الدرس الشريف،نعطف على ذلك بالحديث حول النبوة مستوحًى من واقع الدرس وهو كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في نهجه الخالد.

ومنطلق الحديث من أمیر المؤمنین (علیه السّلام) له خصوصية إذ أنه (علیه السّلام) محيط بتأريخ الأنبياء (علیهم السّلام) لاسيما تأريخ النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وكلامه (علیه السّلام) تفصيل لما أجمل في القرآن الكريم حول النبوة.

أولاً: تعريف النبوة

النبوة لغةً(2) مأخوذة من النبأ أي الخبر، وقيل معنى ذلك في الأساس من النَّبْوَة أو النَّبَاوة وهي الأرض المرتفعة، وتسمية النبي من هذه الجهة نظرًا لكونه

ص: 143


1- خ 1، ص 43 .
2- كما في (مجمع البحرين) 1/ 404 .

أرفع وأشرف من سائر الخلق.

واصطلاحًا: النبي هو المخبرِ عن الله تعالى بغير واسطة بشر، وهنا تفصيلات كثیرة جدًّا نشیر إلى بعضها إشارات عابرة، فالنبي يرى في منامه الملَك ويسمع صوته ولكنه لا يراه في اليقظة، وذلك أن النبي قد يكون نبيًّا لنفسه فقط، بينما الرسول يرى الملَك حتى في اليقظة، ويتفاوت الرسل في حجم الرسالة، فبعضهم

كان رسولًا في ظل رسالة رسولٍ آخر، وبعضهم كان رسولًا مستقلًّ، كما أن بعضهم كان لهم كتاب سماوي وبعضهم لم يكن له، بالإضافة إلى امتياز أولي العزم من الرسل.

ثانيًا: أصل الإنسان

أحببت أن تكون بداية الحديث عن أبي الأنبياء وأول الخلق آدم (علیه السّلام) وهذا الحديث يقودنا إلى أحاديث كثیرة نشیر إليها إشارة فقط، ومن ضمنها الحديث عن أصل الإنسان.

تتحدث بعض النظريات أن الإنسان منحدر من أصل بعض الحيوانات

الأخرى، ويتحدث بعضها أن الإنسان جاء من امتزاج الطبيعة من السماء والأرض، بل إن بعضهم يرى أن الإنسان منحدر من مجموعة القاذورات والنفايات في العالم الأول»(1).

ص: 144


1- من المفيد مراجعة ما ذكره الشيخ محمد جواد مغنية حول هذا الموضوع في كتابه (في ظلال نهج البلاغة) 1/ 42 .

ثالثًا: رأي الإسلام

تلاحظ في الرأي الإسلامي حول هذا الموضوع ملاحظتان:

أ) أن آدم (علیه السّلام) هذا الذي نتحدَّث عنه ليس هو أول إنسان بل إن الروايات تتحدث عن أن قبله آلاف الأوادم، وأن عالمنا هذا قبله آلاف العوالم، ولعلَّ هذا الرأي ينسجم مع الإحصائيات حول عمر الكون وأنه بمليارات السنين، وأن الإنسان وجد قبل فترة قصیرة مقارنة بعمر الكون، فينسجم هذا مع معنى الروايات أن قبل آدم الآلاف ممن عمروا الكون وعاشوا في هذا العالم، ويلتقي هذا

الرأي مع ما يمكن استفادته مما جاء في القرآن الكريم من حديث الملائكة حول استخلاف الله تعالى آدم «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّ جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ »(1)، بناء على أن حكمهم قائم على معرفتهم بأحوال البشر ممن سبقوا آدم المراد استخلافه.

ب) يتحدث القرآن الكريم بوضوح عن أول الخلق في عالمنا هذا وأنه مخلوق من تراب، والروايات تفصِّل وتشرح الآيات المباركة حول هذا الموضوع، فيُذكر أن هذا التراب أُجرِيَ عليه الماء ومُزِجَتِ الطينة وعجنت ثم بعد ذلك جففت وبقيت فترة ذكرت بعض الروايات أنها أربعون عامًا، وبعضها أكثر من ذلك،ثم بعد ذلك نفخ الله فيها الروح فكانت الحياة، وتتحدث الروايات عن تَكَوُّنِ

الجوارح والأطراف والعقل والمشاعر والإحساسات وشؤون النفس.

ص: 145


1- سورة البقرة / 30 .

ويلاحظ في هذا المجال التطابق والانسجام بین ما يذكره القرآن الكريم وبین ما يذكره عدل القرآن وتلميذ السماء أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

يضاف إلى ذلك أن الإمام (علیه السّلام) كان يرتجل هذه الخطب ارتجالًا عقيب سؤال أو غیر ذلك فيأتي بما يحیرِّ الألباب ويحيط بالموضوع إحاطة العارف وينحو في مختلف هذه المجالات الشائكة الغامضة في واقع الأمر، وهذا بعض من دلائل إعجازه (علیه السّلام).

قال تعالى: «إِنَّ مَثَلُ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ من تُراب ثم قال له كن فيكون »(1):

الضمیر في «خَلَقَهُ » يعود على آدم (علیه السّلام) فهو المخلوق من التراب، وأما عيسى (علیه السّلام) فإن حمله في بطن أمه العذراء كان بغیر واسطة أب بل «فنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا »(2)، وهذا التمثيل في الآية المباركة بن آدم وعيسى (علیهما السّلام) إنا جاء للرد على من يقول إن عيسى (علیه السّلام) ابن الله حيث أنه لا أب له وخلقه معجز، فيجيبهم

القرآن بأن آدم (علیه السّلام) خُلق من التراب من غیر أبٍ ولا أم وخلقه أكثر إعجازًا،فلماذا لا يكون هو ابن الله، تعالى اللهُ وتقدس.

رابعًا: كيفية الخلق

1-تحدث عن خلق أول الخلق، فقال (علیه السّلام)(3):

ص: 146


1- سورة آل عمران / 59
2- سورة الأنبياء / 91
3- خ 1، ص 42 .

«ثم جمع سبحانه من حَزْنِ الأرضِ وسَهْلِها، وعَذْبِها وسَبخِها، تربةً سَنَّها بالماءِ حتى خَلُصَتْ، ولاطَها بالبلَّةِ حتى لزبَتْ :»

الحزن مقابل السهل ومعناه الشديد من الأرض، وكذلك العذب الحلو مقابل السبخ وهو المالح، وسنَّها بالماء أي أجراه عليها، حتى خلصت (أي كانت خالصة) ولاطها (أي خالطها) بالبلة حتى لزبت (أي حتى يبست).

فائدة: قال الإمام (علیه السّلام): (ثم جمع)، فنسب الجمع إلى الله تعالى وهذا ما يسمى بنحو التوسع في النسبة، فالروايات تذكر أن الذي جمع التراب إنا هو عزرائيل (علیه السّلام)، ولكن أسند ذلك إلى الله تعالى لأن هذا الجمع كان بأمره وكل الأمور إنما هو المسبب لها بأسبابها(1)، وهذا متعارف عليه في اللغة فيقال فتح الملك الفاني المدينة الفلانية في حین أن الذي فتح المدينة هو جيشه المؤتمر بأمره.

«فجَبَلَ منها صورةً ذات أحناءٍ ووُصُول، وأعضاءٍ وفُصُول »: جبل أي خلق، والأحناء هي الضلوع، وبعضهم قال إنها الأطراف، والوصول والفصول إشارة إلى ما في الجسم من عظامٍ متصلة وأخرى منفصلة.

«أجْمدَها حتى استمسَكَتْ، وأَصْلَدَها حتى صَلْصَلَتْ »: الكلام هنا يعود على الطينة، وأصلدها جعلها قوية صلدة حتى صلصلت، ولعلَّ هذا إشارة

ص: 147


1- ونظیر ذلك نسبة من يَتَوَفَّی الأنفس، فتارة ينسب ذلك إلى الله تعالى، وتارة إلى ملك الموت، وتارة إلى الملائكة من أعوانه، قال تعالى: «اللهُ يَتَوَفَّ الأَنفُسَ حِینَ مَوْتِها»، وقال تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ »، وقال تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ». وعلى نسق ذلك ما جاء في الزيارة الجامعة: «وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم » أي أن أهل البيت (علیهم السّلام) هم من يحاسبون الناس بأمر الله تعالى، وهذا معنى التوسُّع في النسبة.

إلى الصلصال الذي تتحدث عنه الآيات الكريمة: «ولَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ »(1)، فيسمع لها صوت حین تضرب نظرًا لأنها يابسة.

«لوَقتٍ معدود، وأَمَدٍ معلوم »: وتذكر بعض الروايات أن هذه الطينة بقيت مدة قبل أن تلجها الروح، وتحدد بعض الروايات هذه المدة بأربعین عامًا أو أكثر، وبالطبع قد تكون هذه السنين بحساب كوكبنا أو بحسابٍ آخر.

«ثم نَفَخَ فيها من رُوحه »: فالطينة لا حياة فيها إلاَّ بولوج الروح التي بها الحياة والهيمنة على المخلوق.

«فمثُلت إنسانًا ذا أذهانٍ يجيلُها، وفكَرٍ يتصرفُ بها، وجوارحَ يختدِمُها وأدواتٍ يقَلِّبُها »: فهو صاحب عقلٍ يميز وكذلك يجعل الجوارح خادمةً له فيما يودُّ أن يصنع طبقًا لتمييزه وإدراكه.

«ومعرفةٍ يفرِّقُ بها بین الحقِّ والباطل، والأذواقِ والمَشَام، والألوان

والأجناس، معجونًا بطينةِ الألوانِ المختلفة »: هذه إشارات إلى ما في الإنسان من إدراكات وحواس كالذوق والشم والنظر واللمس وكيف أن هذا كله مودع في مخلوقٍ أصله من التراب، وهذا إظهار للإعجاز الإلهي في خلق الإنسان.

«والأشباهِ المؤتَلِفة، والأضدادِ المتعادية... »: وهذا ما يذكره العلماء من نسب المواد من أملاح ومعادن في جسم الإنسان كالحديد والكبريت وغيرها.

ثم يذكر الإمام (علیه السّلام) موضوعًا يتعلق بأحداث أول الخلق وقضية إبليس اللعین.

ص: 148


1- سورة الحجر / 26 .

2 - وقال (علیه السّلام)(1):

«فلما مهَد أرضَه، وأنفذَ أمرَه، اختارَ آدمَ (علیه السّلام) خيرةً من خلقِه :»

الإمام (علیه السّلام) يبن أن الاختيار هو اختيار الله فلا بد أن يكون عن الحكمة، وكون آدم (علیه السّلام) هو المختار الأول خصوصيةٌ له وليست أفضليةً له على سائر الخلق، فالأفضلية لسيد الموجودات وفخر الكائنات الرسول الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

«وجعله أولَ جبِلَّتِه »: وهذه هي النظرة الدينية للخلق وأنه ابتدأ بالتولُّد وهو نشوء الخلق الأول، ثم تسلسل بالتوليد وهم الخلق الذين انحدروا من الخلق الأول، ويلاحظ ذلك في بعض المخلوقات، ولآدم (علیه السّلام) الكرامة والشأن، فيلاحظ أن بعض المخلوقات تنشأ من التراب دون أن تتولد من حيوانات أخرى سابقة ثم تبدأ عملية التكاثر والتناسل، ولا أوضح من تعفن الأطعمة كالسكروغیره فتتولد منها ديدان وبكتيريا لم تأت من مخلوقات سابقة لها، ثم بعد ذلك تبدأ عملية التكاثر، وكل هذا بعین الله وقدرته.

3 - وتحدث عن الانحراف الأول، فقال (علیه السّلام)(2):

«إلاَّ إبليس اعترضَتْهُ الحميةُ فافتَخَرَ على آدم بخلقِه، وتَعَصَّبَ عليه لأصلِه، فعدوُّ اللهِ إمامُ المتعصبین، وسَلَفُ المستكبرين :»

يؤكد (علیه السّلام) هذه الحقيقة من افتخار إبليس اللعین على آدم (علیه السّلام) بالنظر إلى

ص: 149


1- خ 91 ، ص 133 .
2- خ 192 ، ص 286 .

خلق كل منهما «أنا خیرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقتَهُ من طین »(1)، فكان إبليس مؤسس العصبية والتكبرّ، مثلما أنه أول من قاس حيث اعتقد أن فضل النار على التراب يوجب فضله على آدم (علیه السّلام) وأنه لا يصح أن يسجد له.

ثم يذكر (علیه السّلام) أن هذا كان عن الحكمة وأنه كان بإمكان الله تعالى أن يفوِّتَ على إبليس اللعین الفرصة ويقطع عليه الحجة بأن يخلق آدم (علیه السّلام)من مادة أخرى محیرة للعقول كالنور مثلاً الذي هو بلا شك أرقى من النار فتخضع النفوس له، هذا وقد خلق الله تعالى الملائكة من نور ومع هذا فلم يستكبروا عن عبادته وسجدوا لآدم (علیه السّلام) رغم أنه مخلوق من تراب، ولكن كما يبن الإمام (علیه السّلام) جعل اللهُ ذلك بلاءً يتميز فيه من يطيع، ويبعد عن خُلُقِهِ الخيلاءَ والتكبر، وهذه الناحية

تصلح أن تكون تعليلاً لاختيار الراب عنصرًا لأول الخلق.

وللأمر عليه الصلاة والسلام كلمات بهذا المعنى حول موضوع الحج وأن الله جعل بيته «بوادٍ غیرِ ذِي زرعٍ »(2) وكان بإمكانه أن يجعل بيته في جنة رائعة تسحر الخلائق ولكنه أمرُ الابتلاء والتمحيص(3).

ص: 150


1- سورة الأعراف / 12 .
2- سورة إبراهيم / 37 .
3- خ 192 / 292 .

15)الأنبياء (علیهم السّلام)

مدخل

قال سيدُ العارفين (علیه السّلام): «اختارَ آدمَ (علیه السّلام) خِیرةً من خلقِه، وجعلهُ أولَ جِبلَّتِه، وأسكنهُ جنتَه، وأرغدَ فيها أُكُلَه، وأوعزَ إليه فيما نهاهُ عنه، وأعلمه أن في الإقدامِ عليه التعرضَ لمعصيتِه .»(1).

أحببتُ أن يكون هذا الحديث متمماً للحديث عن آدم (علیه السّلام) وبدايةً لحديثنا عن الأنبياء (علیهم السّلام) فيما نستقبل من دروس إن شاء الله تعالى.

أولاً: آدم (علیه السّلام)

أ) مظهر للقدرة والابتلاء:

فقد مرَّ علينا حديث القدرة في خلق آدم (علیه السّلام) بذلك التفصيل الذي هو نهاية الإبداع والإعجاز فيما يتصوره الفكر، وهو على الله تعالى سهل يسیر.

وأما مظهر الابتلاء فيتمثّل في اختبار الله تعالى للملائكة (علیهم السّلام) ولإبليس اللعین في موضوع السجود لآدم (علیه السّلام)، ومن التعليلات المستلطَفة لهذا السجود ما يذكره شيخ الفلاسفة الأصفهاني أستاذ السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليهما في قوله:

تُقُبِّلتْ توبةُ آدمَ الصَّفِي*** بِيُمْنِهِ، أَكْرِمْ بهِ مِنْ خَلَفِ

ص: 151


1- خ 91 ، ص 133 .

وسجدةُ الأملاكِ لا لِغُرَّتِهْ*** بل نورُ ياسینَ بدا في طلعتِهْ

وكما مرّ(1) فإن خلق آدم من تراب هو في حدِّ ذاته ابتلاء وكان بإمكان الله جلَّ وعلا أن يخلقه من مادة سامية تخضع لها الخلائق ولكن اقتضت مشيئته أن يبلوهم.

كما يتجلىَّ الاختبار لذات آدم (علیه السّلام) وذلك أنه نُهيَ عن شيءٍ ولكنه أتى به ثم بكى على ما صدر منه وتوسل إلى الله تعالى بكلمات خاصة فتاب عليه، وسنتبين حقيقة الأمر في هذا الدرس إن شاء الله تعالى، ثم أهبطه الله تعالى إلى أرضه.

ب) والمصدر لتناسل البشر:

لما هبط آدم (علیه السّلام) الأرض مارس فيها الشؤون الطبيعية فكان مصدرًا لتناسل البشر.

يقول أمير المؤمنين (علیه السّلام)(2):

«ثم بسطَ اللهُ له في توبتِه، ولقَّاه كلمةَ رحمتِه، ووعده المردَّ إلى جنته، وأهبطهُ إلى دارِ البلية، وتناسلِ الذرية .»

وقال(علیه السّلام)(3):

«وأوعزَ إليه فيما نهاه عنه وأعلمهُ أن في الإقدامِ عليه التعرضَ لمعصيتِه »:

ص: 152


1- الدرس السابق في ذكر كلماته (علیه السّلام) في الخطبة رقم 192 ، ص 286 - 287 من نهج البلاغة.
2- خ 1، ص 43 .
3- خ 91 ، ص 133 .

أي الإقدام على نهيٍ نهاه اللهُ عنه.

«والمخاطرةَ بمنزلتِه »: وهي أنه كان مبوَّءً في جنة النعيم.

«فأقدمَ على ما نهاه عنه - موافاةً لسابقِ علمه »: فالله تعالى كان يعلم أن آدم(علیه السّلام) سيصدر منه ما صدر، ولكن هذا العلم ليس جبرًا لآدم (علیه السّلام) أن يأتي بما أتى به،

فعِلْمُ الله تعالى بسائر الأمور ليس علةً وسببًا لحدوثها بل هي تجري بمجرياتها الطبيعية وفقًا لاختيار الإنسان فيما يمارس.

«فأهبطه بعد التوبة ليعمرَ أرضَه بنسلِه، وليقيمَ الحجةَ على عبادِه .»

ثانيًا: المخالفة

من جملة النقاط التي تستوقفنا حقيقةُ المخالفة التي صدرت من آدم ،(علیه السّلام) والحديث هنا يقودنا إلى أحاديث متشعبة ليست من غرض هذا الدرس وتحتاج إلى وقت طويل للإلمام بها كموضوع عصمة الأنبياء (علیهم السّلام) وتنزيههم وما يدور في

هذا الفلك، ولكننا سنشیر إن شاء الله تعالى إشارةً مجملة ونترك الأمر للطالب أن يتوسع في هذا المجال في فلك النهج الأشرف وفي خارجه.

ومما يلاحظ هنا ما يلي:

-1 أنه لا يمكن أن تكون المخالفة التي صدرت من آدم (علیه السّلام) بذلك المستوى من الشناعة والفظاعة، والعياذ بالله تعالى، لأنه لو كان الأمر كذلك لذهبت منزلته السامية، كيف والمهمة التي أوكلت إليه مهمة كبیرة تتعلق بهداية البشر وإعمار

الأرض وتحقيق خلافة الله تعالى عليها، وهو حجة الله على عباده فكيف يرتكب

ص: 153

الذنب الكبیر ويقبل منه العباد أن يكون واسطة بينهم وبین الله تعالى.

2- يقرِّرون في الاعتقاد أن هذه المخالفة كانت مخالفةً للأَولى ولا تعني المعصية المحضة، كما أنهم يذكرون أنها كانت قبل التكليف إذ التكليف بعد أن أهبط آدم (علیه السّلام) إلى الأرض، وأما في الجنة فليس هناك تكليف.

3- من هنا يجب فهم الألفاظ القرآنية أو التي يذكرها المعصوم حول هذا الموضوع فهماً صحيحًا بلحاظ بعدنا عن اللغة ومداليلها ومع مراعاة تنزيه الأنبياء (علیهم السّلام)، فمثلاً يذكرون أن (غوى) بمعنى أنه كان تائهًا في الأرض أو اتخذ منهجًا ظنَّ أنه يوصله إلى الله تعالى ولكن ذلك لم يكن، وكذلك (نسي) يعني هذا النسيان

الذي يكون الإنسان عرضةً له بطبعه أو أن النسيان بمعنى الترك.

4- مما يذكر أيضًا هنا أن آدم (علیه السّلام) لم يعهد أن شخصًا يحلف باللهِ كاذبًا،وقد أقسم له إبليسُ اللعین فصدقه وذلك قوله تعالى: «وقاسَمَهُما أني لكما من الناصحین »(1).

5- وهي النقطة الأهم هنا، وهي ما اتفقت عليه الأدلة النقلية من وجوب عصمة الأنبياء على نبينا وآله وعليهم الصلاة والسلام، وكيف يجوز أن قرآنًا يتلى آناء الليل وأطراف النهار يسجل ويصرح بارتكاب الأنبياء (علیهم السّلام) للذنوب الكبیرة؟

وكيف يتم الهدف من إرسالهم ويخضع لهم الناس وقد أرسلهم اللهُ تعالى لهداية الناس وفضَّلهم وتفضَّل عليهم وهم المقرَّبون المصطفَون؟! لا شكَّ أن ذلك خلاف للحكمة واللطف الإلهيین.

ص: 154


1- سورة الأعراف / 21 .

ثالثًا: الأنبياء (علیهم السّلام)

أ) «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ »

أ) «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ »(1):

لله تبارك وتعالى الحجة البالغة على خلقه، فهيَّأَ لهم عقولًا يميزون بها وتعتبر بمثابة أنبياء باطنة تقودهم إلى الفطرة وتهديهم إلى الله تعالى، ومع ذلك فإن الذنوب والجهل والغفلة والاشتغال بالدنيا تؤدي إلى أن تموت هذه القلوب وهذه العقول وتضمر وتنتهي فلهذا هيَّأَ لهم أنبياء أرسلهم إتمامًا للحجة.

وحول ذلك قال أمير المؤمنين (علیه السّلام)(2):

«فبَعَثَ فيهم رُسُلَه، ووَاترَ إليهِمْ أنبياءَه »: إثباتٌ للحقيقة القرآنية التي أشارت إليها الآية المتقدمة، وقد جاء في الحديث الشريف أن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة وآخر من يموت هو الحجة(3)، وعن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال:

«الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق »(4)، وعن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام):« واللهِ ما تركَ اللهُ أرضًا منذُ قبضَ اللهُ آدمَ إلاَّ وفيها إمامٌ يُهتَدَى به إلى الله وهو حجته على

عباده، ولا تبقى الأرضُ بغیرِ إمامٍ حجة للهِ على عباده .»(5).

والإمام هنا بالمعنى العام، نبيًّا كان أو رسولًا أو إمامًا وصيًّا لنبيٍّ كأئمتنا

ص: 155


1- سورة فاطر / 24 .
2- خ 1، ص 43 .
3- يقول السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) في كتابه (مواهب الرحمن) 1/ 176 إن الرواية مستفيضة عن أهل البيت (علیهم السّلام) أن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة وآخر من يموت هو الحجة.
4- الكافي 1/ 177 .
5- الكافي 1/ 178 . وقد ذكره الميرزا حبيب الله الخوئي في (منهاج البراعة) 2/ 159 .

عليهم وعلى جدهم وأمهم وعلى أنبياء الله الصلاة والسلام، وقد ذكر الأمیر (علیه السّلام) من الأنبياء آدم وعيسى وموسى وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل وداوود وسليمان (علیه السّلام)، في مناسبات مختلفة سواءً تعلقت بالموعظة أو الرسالة أو أي ناحية أخرى نلم بها فيما نستقبل في الدروس القادمة بعون اللهِ وتوفيقه.

ب) طهارة الأصلاب والأرحام:

قال أمير المؤمنين (علیه السّلام)(1):

«فاستودعهم في أفضلِ مُستَودَع، وأقرَّهم في خیرِ مستقَر، تناسختهم كرائمُ الأصلابِ إلى مطهَّراتِ الأرحامِ، كلما مضى منهم سلفٌ قام منهم بدينِ اللهِ خَلَف :»

نعتقد أن أمهات الأنبياء (علیه السّلام) منزهات عن السفاح والتناسل غیر المشروع والعياذ بالله، كما نعتقد أن آباء الأنبياء (علیهم السّلام) وأجدادهم منزهون عن الشرك، ومن حِكَمِ ذلك أن الأنبياء (علیهم السّلام) يليق بهم هذا التكريم وهذا التطهیر والكمال، وحتى يكونوا محل القبول والإجلال في المجتمعات التي يدعونها وهذا هو الدليل العقلي، ومن الأدلة النقلية قوله تعالى «الذي يراك حین تقوم * وتقَلُّبَكَ في الساجدين »(2)، يعني آباءك وأجدادك إلى آدم (علیه السّلام) كانوا كلهم عبادًا لله موحدين ساجدين، وقد جاء في زيارات الرسول الأكرم وأهل بيته(علیهم السّلام) :« ولم تزالوا بعینِ اللهِ

ينسخُكم في أصلابِ كلِّ مطهَّر، وينقلُكم في أرحامِ المطهرات، لم تدنِّسْكمُ الجاهليةُالجهلاء .»

ولهذا يُدفع ما قد يُتوهم من ظواهر الآيات خلاف هذا المعتقد حول

ص: 156


1- خ 94 ، ص 139 .
2- سورة الشعراء / 218 - 219 .

الأنبياء (علیهم السّلام)، وكمثالٍ على ذلك ما يُقرأ من أن آزرَ المشرك كان والدًا حقيقيًّا لإبراهيم (علیه السّلام) خليل الله تعالى، وهذا لا يمكن أن يكون بل كان آزرُ عمّا لإبراهيم

(علیه السّلام)، وحيث ربَّاه صار يسميه أباه(1).

ويلحق بهذا كل ما قد يُتوهم منه خلاف هذا الاعتقاد في طهارة نسب الأنبياء (علیهم السّلام) لقيام الدليل العقلي والنقلي الصريح بذلك.

ج) النبيُّ والمهمة:

قال أمير المؤمنين (علیه السّلام)(2):

«بعثَ اللهُ رسلَه بما خصَّهم به من وَحْيِه »: فالوحي إذن من مختصاتهم (علیه السّلام) لايشاركهم فيه أحد مهما سما، وهو من عند اللهِ وليس من عندياتهم فهم مبلغون ومؤتمنون على الوحي.

ص: 157


1- «وإذْ قالَ إبراهيمُ لأبيهِ آزرَ أَ تتخذُ أصنامًا آلهة ». سورة الأنعام / 74 . وقد ناقش السيد الطباطبائي (رحمه الله) صلة القرابة بن إبراهيم (علیه السّلام) و(آزر) من وحي آيات القرآن، وذلك في ج 7، ص 161 - 165 من تفسره الميزان، وبیّن فيما بیّن أن القرآن الكريم أطلق على آزر صفة (الأب) لإبراهيم (علیه السّلام)، وأنه استغفر له، ثم تبرأ منه بعد إصراره على الكفر، وبعد ذلك دعا إبراهيم (علیه السّلام) لنفسه ولوالديه بالمغفرة، فالذي تبرأ منه وترك الاستغفار له ليس هو الذي دعا إليه بعد ذلك بالمغفرة، مما يدل على أن آزر هو أب إبراهيم (علیه السّلام) أي جده أو عمه وليس والده، وبیّن السيد أن لفظ الأب في القرآن يطلق أيضًا على الجد والعم، بينما الوالد هو الأب الصلبي، ووالد إبراهيم (علیه السّلام) الوارد في التأريخ وفي التوارة هو (تارخ) وليس (آزر).وفي الآية إشارة واضحة إلى أن آزر لم يكن أبًا حقيقيًّا لإبراهيم (علیه السّلام)، ولو كان كذلك لم تذكر الآية اسم (آزر) واكتفت بكلمة (أبيه).
2- خ 114 ، ص 200 .

«وجعلهم حجةً له على خلقِه لئلاَّ تجبَ الحجةُ لهم بترك الإعذارِ إليهم :»

وهذه العبارات توأم الآية الكريمة «لئلاَّ يكونَ للناسِ على الله حجةٌ بعد الرسل .»(1).

«فدعاهم بلسانِ الصدقِ إلى سبيلِ الحقِ، ألا إنَّ اللهَ تعالى قد كشف الخلقَ كَشفةً، لا أنه جهل ما أخفوه من مَصُونِ أسرارِهم ومكنونِ ضمائرِهم، ولكنْ ليبلوَهم «أيهم أحسنُ عملاً »(2)، فيكونَ الثوابُ جزاءً والعقابُ بواءً :»(3)

نلاحظ بيان مهمة الأنبياء من عناوين الإِعذار والحجة وبيان السبيل ليكون اختبار الخلق، يأتيهم النبي فيعلمون صدقَه وأمانته ويرون معجزته ويدعوهم دعوة الخیر في الدنيا والآخرة ليكشف من يتمسك بحبله ونهجه ومن يخالفه، لا أنه -تبارك وتعالى- جهل حالهم فأراد أن يعلمه -تعالى اللهُ عن هذا علوًّا كبیرًا.

وتحدث عن مهام الأنبياء (علیهم السّلام) فقال(علیه السّلام)(4):

«وهو الذي أسكنَ الدنيا خلقَه، وبعثَ إلى الجنِّ والإنسِ رسلَه، ليكشفوا لهم عن غطائِها، وليحذروهم من ضرَّائِها، وليضربوا لهم أمثالَا، وليبصِّروهم عيوبَها، وليهجموا عليهم بمعتبرَ من تصرفِ مصاحِّها وأسقامِها وحلالهِا وحرامِها، وما أعدَّ اللهُ للمطيعن منهم والعصاةِ من جنةٍ ونار، وكرامةٍ وهوان .»

ونلاحظ هنا نوعًا من التفصيل الآخر والأكثر حول مهمات الأنبياء (علیهم السّلام) تجاه

ص: 158


1- سورة النساء / 165 .
2- سورة الكهف / 7.
3- باءَ فلانٌ بفلانٍ أي قُتل به.
4- خ 183 ، ص 265 .

وقال (علیه السّلام) عن ذلك أيضًا(1):

«ويحتجُّوا عليهم بالتبليغِ ويثیرُوا لهم دفائنَ العقولِ ويُرُوهم آياتِ

المقدرَة... »: قلنا إن العقول تخبو وتنتهي وكذلك القلوب تموت بفعل الاشتغال بالدنيا والذنوب والغفلة والجهل فيأتي الأنبياء (علیهم السّلام) لإحياء كل ذلك وهذا معنى البعثة، أي إحياء ما أماتته الدنيا والذنوب وتنبيه الناس من غفلتهم وإرشادهم

بعد جهلهم إلى الفطرة التي بدَّلوها.

ص: 159


1- خ 1، ص 43 .

ص: 160

16)موسى وهارون (علیهما السّلام)

مدخل:

قال (علیه السّلام): «ما شكَكْتُ في الحقِّ مُذْ أُريتُه، لم يُوجِسْ موسى (علیه السّلام) خِيفةً على نفسِه، بل أشفقَ من غلبةِ الجهَّالِ ودولِ الضلال »(1).

أولاً: أهداف الإمام (علیه السّلام) من عرض السيرة

لم يكن الإمام (علیه السّلام) في عرضه للسیرة بصدد الترجمة والإفاضة والتحليل لحياة هذا النبي أو حياة ذلك الوصي، وإنما غرضه كغرض القرآن الكريم من التنبيه والتركيز على جانب الموعظة أحيانًا، وأحيانًا أخرى أخذ العبرة من سیرة العظماء وتأريخ

الزمان، ولهذا نلاحظ الفرق بن كلامه (علیه السّلام) عن آدم (علیه السّلام) وما مرَّ علينا من بديع خلقته وكونه أول الخلق ومظهر القدرة والابتلاء وبین حديثه هنا عن موسى وهارون.

ثانيًا: «أفمَنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه »

اشارة

ثانيًا: «أفمَنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه »(2)

قال الإمام (علیه السّلام)(3):

«ما شكَكْتُ في الحقِّ مُذْ أُريتُه، لم يُوجِسْ موسى (علیه السّلام) خِيفةً على نفسِه، بل

ص: 161


1- خ 4، ص 51 .
2- سورة هود / 17 .
3- خ 4، ص 51 .

أشفقَ من غلبةِ الجهَّالِ ودولِ الضلال .»

أ) مناسبة الكلمة:

يشیر الإمام (علیه السّلام) إلى موقف من المواقف الصعبة الحرجة بعد واقعة الجمل المشومة وبعد قتل طلحة والزبیر اللذين في البدء كانا معه يدافعان عنه ثم بايعاه ثم ألَّبا عليه وحارباه في الجمل حتى أمكنه الله منهما.

ب) دلالة الكلمة:

يقول علي(علیه السّلام): « ما شَكَكْتُ في الحَقِّ » فيركز أولًا على موضوع الشك وما يحمله (علیه السّلام) من بصیرة تامة وثبات ويقین أبرزه في كلمته المعجزة الخالدة: «لو كُشِفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقينًا »، وقوله (علیه السّلام) (مُذْ أُرِيْتُه) لا يعني -والعياذ بالله- أنه لم يكن يعرف الحق في فترة سابقة ثم عرفه في فترة متأخرة بل المعنى أنه عرفه منذ وجوده الشريف نظرًا لعلمه وإحاطته سواءً كان ذلك بالإلهام أو بتعليم النبي له (صلى الله عليهما وآلهما) أو بأي مصدر من مصادر علم الإمام (علیه السّلام) كما مرَّ علينا في الدرس الأول من هذا الدرس الشريف.

يرصِّح (علیه السّلام) أن هذا القلق الذي يعيشه الإمام (علیه السّلام) في هذا المعترك وفي الموقف العصيب لم يكن من باب الخوف والتردُّد في أنه محق أو ليس كذلك أو أنه وُفِّقَ للصواب أو لم يوفَّق له، وينظِّر (علیه السّلام) تنظیرًا مهماًّ ورائعًا بنبي الله موسى (علیه السّلام) الذي هو في مقام العصمة والتسديد من قبل الله تعالى وهو من أولي العزم الكرام وصاحب رسالة ضخمة وشاملة، فقد ألقى السحرة عِصِيَّهم فإذا هي ثعابین ترهب الناس

«فأوجسَ في نفسِهِ خِيفةً موسى »(1)، ولكن هذه الخيفة لم تكن على نفسه شكًّا

ص: 162


1- سورة طه / 67 .163

منه في السلاح الذي يملكه أو أنه سيخسر الموقف أو شكًّا في نصرة الله تعالى له وأنه على الحق بل كان يخشى على الأمة أن تكون عاقبتها الضلال وتكون للظالمین دولة.

فالإمام (علیه السّلام) يثبت أنه قد يعرض على النبي الخوف الذي لا يعني النقص والجبن ومن ذلك أيضًا الآية التي تحدثت عن خروج موسى (علیه السّلام) «فَخَرَجَ منها خائفًا يترقَّبُ »(1)، إلاَّ أنه صلوات الله عليه ينزِّه موسى (علیه السّلام) عن الشك ويبین هذا المقام الشامخ من اليقین والبصیرة.

ومما يجدر ذكره هنا أن هذا الحكم ينطبق على الفكرة التي تطرح كما في قول الشاعر:

خرجَ الحسینُ من المدينةِ خائفًا*** كخروجِ موسى خائفًا يتكتمُ

فالحسین (علیه السّلام) أبدى من الشجاعة ما حیرَّ العقول ولم يُرَ شجاعٌ مثله كما تحكي سیرته الخالدة، وإنما كان خوفه (علیه السّلام) على مستقبل الدين ومصیر الأمة.

وقد قال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في شرحه للنهج(2) إن هذه الجملة الشريفة هي أحسن تفسیر لقوله تعالى: «فأوجَسَ في نفسِهِ خِيفةً موسى »

وأفضل تبرئة لنبي الله (علیه السّلام) من الشك في أمره، فهي تفسر الآية بمعنى من المعاني الكبیرة والمهمة لا أنها تعني الخوف والتردد والشك في الحق، كما تعطي هذه المعاني

الجليلة وتشیر إليها في شخصية أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

ص: 163


1- سورة القصص / 21 .
2- ج 1، ص 40 .

ج) الدلالة على العصمة:

هذه الكلمة التي ذكرناها للإمام (علیه السّلام) فيها دلالة على العصمة في حق الأئمة(علیهم السّلام)، لماذا؟ لأن البصیرة والعلم والتسديد والإلهام وتمام الموازنة في سائر الملكات الموجودة عند الإمام (علیه السّلام) تمنعه من ارتكاب جرم أو وقوع في خطيئة والعياذ بالله، لذلك بنَّ الشيخ ميثم البحراني (رحمه الله) أن هذه الكلمة فيها دلالة على العصمة(1).

ثالثًا: «وكَلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا »

ثالثًا: «وكَلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا »(2)

ومما قاله الإمام حول نبي الله موسى (علیه السّلام)(3) بعد تقديس الله تعالى:

«ولا يُوصف بالأزواج، ولا يُخلق بعلاج، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُقاس

بالناس، الذي كلَّم موسى تكليماً، وأراه من آياتِهِ عظيماً، بلا جوارحَ ولا أدوات .»

وهذا بيانٌ جلي لمقام موسى (علیه السّلام) فهو كليم الله تعالى، وبالطبع فإن المسألة مشروحة في موطن آخر سواءً كان في بحث الاعتقاد أو التفسیر أو الرواية باعتبار أن الكلام الذي صدر من الله تعالى لم يكن بجارحة إنما خلق الله تعالى الكلام وأوجده في الشجرة فخرج منها مخلوقًا من مخلوقات الله تعالى، وقد تعرَّضنا في أحاديث سابقة لما ينفع مما يتعلق بهذه النقطة من الجهة الاعتقادية.

رابعًا: موسى (علیه السّلام) مثال الزهد والانقطاع

تحدث الإمام (علیه السّلام) عن الزهد في الدنيا الفانية، وذكر من يؤثرها على الآخرة

ص: 164


1- في شرحه للنهج 1/ 275 .
2- سورة النساء / 164 .
3- خ 182 ، ص 262 .

ومن يؤثر هواه على الله تعالى، وتعرَّض لكثیر من زخارفها ومعايبها ثم أعطى للزهد فيها أمثلة ابتدأها بالمثل الأعلى والقدوة الكبرى لكل الخلق ألا وهو النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ثم ثنَّى بالحديث عن موسى (علیه السّلام)، فقال (علیه السّلام)(1):

«وإنْ شئتَ ثنَّيتُ بموسى كليم الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: «ربِّ إني لمَا أنزلتَ إليَّ من خیرٍ فقیرٌ »(2)، واللهِ، ما سأله إلاَّ خبزًا يأكله، لأنه كان يأكلُ بقلةَ الأرض، ولقد كانت خضرةُ البقلِ تُرى من شفيفِ صِفاقِ بطنه،

لهزالِه وتشذُّبِ لحمه .»

يضربُ الإمام (علیه السّلام) مثلاً أروع بشخصية كبیرة عظيمة جليلة، نبي من الأنبياء الكرام من أولي العزم وأنه كان في تمام الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى، والتأريخ يحدث أن نبي الله موسى (علیه السّلام) سار مسافات طويلة يقطع الفيافي والبيد بلا كلأ ولا ماء ثمانية أيام، فلما أرهقه الجوع شكا إلى الله تعالى وتضرَّع إليه أن يرزقه خبزًا فقط، فهو على شدة جوعه في تمام الإعراض عن الدنيا وإنا يطلب خبزًا كي يحفظ حياته ويتقوَّى على العبادة والطاعة والشكر، فهذه اللذات ليست مرغوبة بالأصالة وإنما بالعرض.

وقول الإمام (علیه السّلام): (واللهِ) ليس في صدد أن يقسم لمحض القسم فهو يستعرض العبَّاد والزهَّاد والأولياء الذين انقطعوا عن الدنيا إلى الله تعالى ولكن نظرًا إلى أن الأمر قد يصعب على الأذهان، واقتلاع حب الدنيا من ذوات الناس يحتاج إلى قول قاطع لذلك عزَّزه بالقسم وجاء القسم في الصميم عقيب الآية

ص: 165


1- خ 160 ، ص 226 .
2- سورة القصص / 24 .

المباركة مباشرة (واللهِ، ما سأله إلاَّ خبزًا) يأكله فقط ولا يجمعه ويكنزه، وفي تصوير الإمام (علیه السّلام) لشدة الجوع الذي وصل له نبي الله (علیه السّلام) لم يرد أن يبالغ بل هو يذكر الواقع كما هو، فلقد كان صفاق بطنه (وهو الجلد الأسفل الذي فوقه الجلد

الظاهر للبطن) شفيفًا (أي رقيقًا يُستشفُّ ما وراءه) بحيث ترى خضرة البقل داخل بطنه فقد كان شديد الهزال متفرق اللحم، هذا وهو في تمام المنزلة والكرامة عند الله بحيث لو سأله ما يشاء من الملذات لأعطاه إياها حلالاً طيِّبًا لا ينقص من منزلته عند الله شيء، ومع ذلك يترك هذه الملذات تعففًا.

ويلاحظ في حياة الزهاد كالرسول الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكأمیر المؤمنین (علیه السّلام) ونبي الله موسى (علیه السّلام)، أنهم رغم زهدهم وقلة طعامهم لم يكن ذلك ليقعد بهم عن العبادة والحرب والجهاد وكل مظاهر القوة والكمالات الجسمية.

خامسًا: موسى وهارون (علیهما السّلام)

اشارة

وقال (علیه السّلام) عن تواضعما وقوة يقينهما (علیهما السّلام)(1):

«ولقد دخل موسى بنُ عمرانَ ومعه أخوه هارونُ (علیهما السّلام) على فرعونَ، وعليهما مدارِعُ الصوف، وبأيديهما العِصِّی، فَشَرطا له -إنْ أسلمَ- بقاءَ ملكِه، ودوامَ عزِّه، فقال: «ألا تعجبونَ من هذينِ يشرُطانِ لي دوامَ العِز، وبقاءَ الملك وهما بما ترونَ من حالِ الفقرِ والذُّل، فهَاَّ أُلقِيَ عليهما أساورةٌ من ذهب؟(2) » إعظامًا للذهبِ

وجمعِه، واحتقارًا للصوفِ ولبسِه... .»

ص: 166


1- خ 192 ، ص 291 .
2- « فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ». الزخرف / 53 .

في هذه الجمل الشريفة أبعاد كثیرة وإنما يعنينا منها ما نربطه بموضوعنا حول هذين النبيین العظيمین.

أ) التواضع وصلابة الموقف:

يسجل الإمام (علیه السّلام) التواضع الذي تمثل في هذا اللباس البسيط وتلك العصي وأنهما على طبيعتهما ودونما تكلف يدخلان على فرعون وهو يتقلب في أفخر لباس من خز وذهب، فلا يقعد بهما هذا التفاوت في المظهر أن يؤدِّيا وظيفتها بكل صلابة وثقة، فإن القيمة ليست في اللباس بل فيما يحملان في قلبيها وفي فكرهما وإيمانهما.

ب)الحاكم العادل:

يفهم من هذه الحادثة وهذا الوصف أنه من صالح العباد والبلاد بقاء الحاكم العادل، بل إن عدل الحاكم هو من موجبات بقاء عزِّه، فليتمتع كما يشاء،ولكن فليكن عادلًا في رعيته يقوم بالنظام ويحفظ الحقوق، ولكن إذا كان فرعونًا جائرًا متعسفًا فإن ملكه إلى الزوال، وهو يحتقر أولياء الله تعالى بقوله (ألا تعجبون من هذين) فإنه لا يسميهما باسميهما بل يشیر لها باسم الإشارة (هذين) احتقارًا ومهانةً لهما.

ج)اليقين في الدعوة:

فهما يحملان دعوة الحق على تمام اليقین والبصیرة، ويحملان ضمان الغيب، ومن يضمن الغيب سوى الله تعالى؟ إذن فهما ينبئان عن الله تعالى في هذه القضية الضخمة وهي ضمان بقاء ملك فرعون، وأي مُلكٍ هذا الملك؟! كل ذلك دلالة واضحة على أنها رسولا رب العالمین اللذين هما بعزة الله فوق كل عز ومقام،

ص: 167

وفوق مقياس فرعون المادي الذي ينظر للذهب واللباس والمال على أنه يرفع من شأن الإنسان، والواقع كما هو في مقياس الله تعالى أن الإنسان يشرِّف اللباس ويشرِّف الذهب وكل مظهر للترف.

نعم، يتشرَّف ويتربَّك الناس بتراب أقدام العالم، وهم يحتقرون قصور الظالم، وفي الرواية «لا يهوننَّ عليكَ من قَبُحَ مَنْظَرُهُ ورثَّ لباسُه، فإن الله تعالى ينظر إلى القلوب ويجازي بالأعمال .»(1).

وقد تتربَّى أفكارنا ونفسياتنا بحسب ما نعايش في حياتنا أن صاحب المركب الفخم، والدار الواسعة، والمال الكثیر هو إنسان كريم على الله تعالى ولذا أعطاه وأنعم عليه، وقد نتصور أن صاحبة الجلال واللباس الحسن هي التي تستحق التقدير والإجلال بسبب جمالها ولباسها، فنقيِّم الناس ونصاحبهم بهذه المقاييس

الخاطئة التي تأخذ أثرها في مجتمعنا وأعماقنا، في حین أن مقياس الله تعالى في تقييم عباده لا يُعْنَى بهذه المظاهر فرب عبد في أطماره لو أقسم على الله تعالى لأبرَّ قسمه،

وهذا درس نستفيده جميعًا من أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

ص: 168


1- من حكم أمير المؤمنين (علیه السّلام). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 326 .

17)عيسى (علیه السّلام).. روح الله وكلمته

مدخل

قال (علیه السّلام) متحدثًا عن عيسى روح الله وكلمته(1):

«وإنْ شئتَ قلتُ في عيسى بنِ مريمَ (علیه السّلام)، فقد كان يتوسَّدُ الحجرَ، ويلبسُ الخشِنَ، ويأكلُ الجشِبَ، وكان إدامُه الجوعَ، وسراجُهُ بالليلِ القمرَ، وظلالُهُ في الشتاءِ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، وفاكهتُهُ وريحانُهُ ما تنبتُ الأرضُ للبهائمِ، ولم تكنْ له زوجةٌ تفتنُه، ولا ولدٌ يحزنُه، ولا مالٌ يلفتُه، ولا طمعٌ يذلُّه، دابَّتُه رجلاه، وخادمُهُ يداه .»

أولاً: هدف الإمام (علیه السّلام)

يهدف الإمام (علیه السّلام) من هذا العرض لحياة السيد المسيح (علیه السّلام) -التزهيد في الدنيا وإرشاد الخلق إلى الإعراض عنها، والورع وعدم التهالك على مظاهرها وزخارفها، كما يدلِّلُ الإمام (علیه السّلام) ويوضِّح أن هذه الدنيا في تمام الحقارة وأنها لا تستحق أن يذلَّ الإنسان نفسه من أجلها، ولو لم تكن كذلك لما أعرض عنها أنبياء الله وأولياؤه(علیهم السّلام).

ثانيًا: عيسى (علیه السّلام) .. نهاية الانقطاع عن الدنيا

«كان يتوسَّدُ الحجرَ »: وإذن فلم يكن له بيت أو فراش يأوي إليه، وهذا

ص: 169


1- خ 160 ، ص 227 .

غاية في البساطة والغرابة في نفس الوقت، وهو(علیه السّلام) « يلبسُ الخَشِنَ » فلا يعنى بلباس، «ويأكلُ الجَشِبَ »، أي الغليظ فهو لا يهتم بالحصول على الطعام الحسن الراقي، بل «إدامه الجوع » وهذا تعبیر عجيب جدًّا فإن الإدام معروف لدى الناس

وله درجات فقد يكون ملحًا أو خلاًّ أو لحماً، أمَّا أن يكون هو الجوع فهذا نهايةالوصف والتعبیر، فإنه (علیه السّلام) روَّضَ نفسه رياضةً لا تطمح معها إلى شيءٍ أصلاً حقیرًا كان أم غیر ذلك، ثم لم يكن يعتمد حتى على شمعةٍ أو سراجٍ بل كان «سراجه بالليل القمر »، وكانت «ظلاله » التي يلجأ إليها للدفءِ في الشتاء «مشارقَ الأرضِ ومغاربَها » فلم يعد لنفسه شيئًا من الدنيا لهذا الغرض، وإذا كان عند الناس عناية وتصنيف وتمييز بین فاكهةٍ تستطاب، ورياحینَ تشم، فإن عيسى (علیه السّلام) كانت «فاكهته

وريحانه » -على حدٍّ سواء- «ما تنبتُ الأرضُ للبهائم » من نباتٍ لا يحتاج إلى عنايةِ إنسانٍ بل ينبتُ طبيعيًّا بفعل مطر السماء، فهو من هذه الناحية لا ينشغل عن الخالق بزراعة فاكهة وريحان أو الحصول عليها.

والمرأة بطبعها تكون محبوبةً ومحلاًّ للإعجاب والانشغال بها وهذا شأن من شؤون الحياة، أما هذا النبي العظيم فلم «تكن له زوجةٌ تفتنه » وتشغله عن معشوقه الأوحد، ونتيجة لهذا فلم يكن له أيضًا «ولدٌ يحزنه » فالأولاد يحتاجون إلى اشتغال بهم وجهد ووقتٍ يصرف معهم ويأنس بهم، فينشغل العبد بهذا الأنس عن الأنس بالله تعالى، وكذلك هي الحال في المال وما يتطلب من عنايةٍ بجمعه والحفاظ عليه والنظر في مصارفه وشؤونه، ثم يعمِّم الإمام (علیه السّلام) نواحي الانقطاع في حياة هذا النبي العظيم بقوله إنه لم يكن له «طمعٌ » فإن الطمع يذل ويضع الإنسان موضع الضعة والاحتقار والمسكنة، ثم هو بعد كل هذا «دابتُهُ رجلاه،

وخادِمُهُ يداه .»

ص: 170

ثالثًا: مثال الكمال والعشق الإلهي

فهو يمثل قدوة ومقامًا عظيماً من الكمال برز فيه بأروع صوره، وبرز في القلة ممن ربَّاهم وأدَّبهم بصورٍ أخرى من الانقطاع والإعراض عن الدنيا، وأما بقية الناس فبعيدون كل البعد عن هذا الكمال وهذا العشق، ولو نظرنا إلى من ينتسب لعيسى (علیه السّلام) حديثًا لرأيناهم أهل الدنيا الغارقن في ملذّاتها، بينما كان الجديربهم أن يتخذوا من ينتسبون له قدوةً، وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) يؤكد على حقيقة القدوة هذه في موطن آخر(1) بقوله:

«يا نوفُ، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبین في الآخرة، أولئك قومٌ اتخذوا الأرضَ بساطًا، وترابَها فراشًا، وماءَها طيبًا، والقرآنَ شعارًا، والدعاءَ دثارًا، ثمَّ قرضوا الدنيا قرضًا على منهاجِ المسيح .»

وقوله (علیه السّلام) (طيبًا) هو عنوان شامل لكل الطيبات، وأما تعبیره (قرضوا) فإنه يعني أنهم تناولوا الدنيا بأطراف أسنانهم كنايةً عن قلة تزودهم من طيباتها، في قبال الذين (خضموا الدنيا) أي تناولوها بكل فمهم كنايةً عن شدة إقبالهم على ملذاتها، وإذن هذا هو التفاوت والتعبیر لما بن الصنفین من فرق، ويختم

الإمام (علیه السّلام) هذا البيان والإشادة بالزاهدين بقوله (على منهاج المسيح) فهو مثلٌ يُرْمَقُ شاخصًا للكمال والعشق الإلهي.

رابعًا: لماذا هذا الإعراض الكامل عن الدنيا؟

يتساءل البعض: لماذا هذا الإعراض التام عن الدنيا في حین أن الله تعالى

ص: 171


1- الكلمة رقم 104 ، ص 486 .

يحب من عباده أن تظهر عليهم آثار نعمته وأن يأكلوا من الطيبات؟ ويجاب على ذلك بعدة أمور، منها أن الأنبياء (علیهم السّلام) هم قدوة الناس وهم أسوةٌ للفقراء والضعاف من الرعية، فحينما يرى المحرومون أن أولياء الله الذين هم أكرم خلقه عليه ومع هذا فإنهم في تمام الإعراض والزهد في ملذات الدنيا - لا شك أن هذا

يخفف على المحرومین معاناتهم وحرمانهم، فلا يتبرَّمون من قضاء الله وقدره أو يظنون أنه من غضب الله عليهم، ومن ناحية ثانية فإن زهد الأنبياء والأولياء (علیهم السّلام) في الدنيا تصريحٌ عمليٌّ أنها جديرةٌ بالاحتقار وأن الإعراض عنها لا يوجب منقصة أو يمنع من أداء الرسالة والتكليف الإلهي، وهذا خیر إرشادٍ للعباد أن لايتهالكوا على الدنيا وتحصيل ملذاتها الزائلة حتى لو استوجب ذلك ذلةً وبعدًا عن الله تعالى بارتكاب المحرمات، هذا بالإضافة إلى نواحٍ أخرى تتعلق بالصفاء والسمو الروحي وهذه الكمالات التي تتطلب التخلص من قيود الماديات.

خامسًا: عيسى في حياة الأئمة (علیهم السّلام)

يلاحظ في حياة الأئمة (علیهم السّلام) سیرة مشتركة مع نبي الله عيسى (علیه السّلام)، ومن ذلك ما يلي:

أ) قول الرسول الأعظم لعلي (صلى الله عليهما وآلهما)(1):

«والذي نفسي بيده لولا أن تقولَ طوائفُ من أمتي فيكَ ما قالتِ النصارى في ابنِ مريم لقلتُ اليوم فيكَ مقالًا لا تمرُّ بملإٍ من المسلمين إلاَّ أخذوا الترابَ من تحت قدميكَ للبركة .»

ص: 172


1- بحار الأنوار 40 / 81 .

يضاف إلى ذلك أن عيسى (علیه السّلام) غالى فيه قومٌ ادعوا له الربوبية، وطعن آخرون فيه فقذفوا أمه مريم (علیها السّلام) في أمر ولادته، وكذلك أمیر المؤمنین (علیه السّلام) جعله قومٌ إلهًا في حین استخفَّ آخرون بشأنه فرموه بما رموه(1).

ب) فيما أَبَّنَ به الإمام الحسن أباه أمير المؤمنين (علیه السّلام) قائلًا(2):

«ولقد توفِّی في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم .»

فسيرتهما واحدة ونهجهم واحد.

ج) عليٌّ سيدُ الزاهدين:

فحياته كحياة أخيه عيسى (علیه السّلام) زهدًا وإعراضًا عن الدنيا التي يخاطبها:

«يا دنيا، يا دنيا، إليكِ عني، أبي تعرضْتِ؟ أم إليَّ تشوَّقْتِ؟ لا حانَ حينُكِ!

هيهات! غرِّي غیري، لاحاجةَ لي فيكِ، قد طلَّقتُكِ ثلاثًا لا رجعةَ فيها! .»(3)

أو يقول (علیه السّلام)(4):

ص: 173


1- يا علي فيك مثلُ عيسى بنِ مريم، أبغضَتْه اليهود حتى بهتتْ أمَّه، وأحبتْه النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له ، يا علي يدخل النار فيك رجلان: محبٌّ مفرط، ومبغضٌ مفرط، كلاهما في النار ». بحار الأنوار 40 / 79 .
2- إِعلام الورى بأَعلام الهدى، للطبرسي / 208 .
3- الكلمة رقم 77 ، ص 480 - 481 .
4- الكتاب رقم 45 ، ص 419 - 420 . وهو كلام ضمن كتابٍ وجَّهَهُ (علیه السّلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، عاملِه على البصرة. وتجدر مراجعة هذا الكتاب بكامله نظرًا لروعته وكثرة الفوائد فيه فيما يتعلق بشخصية أمیر المؤمنين وسرته (علیه السّلام).

«وأيم اللهِ -يمينًا أستثني فيها بمشيئةِ الله- لأَرُوْضَنَّ نفسي رياضةً تَهشُّ معها إلى القرصِ إذا قدرتُ عليهِ مطعومًا، وتقنعُ بالملحِ مأدومًا، ولأدعنَّ مقلتي كعینِ ماءٍ، نضبَ معينها مستفرغةً دموعَها .»

فهو من باب الحرص على كمال نفسه الشريفة ومن باب الحرص على رعيته ومواساته لهم، ومن موقع قيادته كان مثالَ الزهد والبعد عن الدنيا وقد كانت بن يديه، وتعبیره (إذا قدرْتُ عليه) تعبیرٌ دقيق جدًّا، يعني أنه يدع نفسه تفارق حتى الخبز والملح فراقًا تهشُّ بعده لهذا الطعام البسيط، وقد كان (علیه السّلام) متحليًا

بهذه الكمالات بنحو أجلى وأمثل.

د) عيسى يصلي خلف المهدي(علیه السّلام):

فقد جاء عن الإمام المجتبى(علیه السّلام)(1) « ما منَّا أحدٌ إلاَّ ويقع في عنقه بيعةٌ لطاغيةِ زمانه، إلاَّ القائم الذي يصلي خلفه روحُ اللهِ عيسى بنُ مريم .»

فصاحب الزمان (أرواحنا فداه) إمامٌ للخلق بما فيهم نبي الله عيسى (علیه السّلام).

سادسًا: تسمية عيسى (علیه السّلام) بالمسيح

سادسًا: تسمية عيسى (علیه السّلام) بالمسيح(2)

ورد أن هذه التسمية جاءت لعدة أسباب محتملة، فمن ذلك أنه سمِّيَ بالمسيح لأنه مُسِحَ باليمن والبركة أي أن وجوده الشريف كان يمنًا وبركةً على الخلق، وقيل لأنه مطهَّرٌ من كلِّ ذنبٍ وعيب، وقيل لأن جبرئيل (علیه السّلام) مسحه بجناحه، وقيل لأن الأنبياء (علیهم السّلام) كانوا يتمسحون به تبركًا، وقيل لأنه (علیه السّلام) كان يمسح

ص: 174


1- بحار الأنوار 52 / 279 .
2- للوقوف على نواحٍ أكثر في حياة نبي الله عيسى (علیه السّلام( يمكن مراجعة )بحار الأنوار( 14 / 191 - 350 .

الأعمى فيبصر، ويمسح الأبرص والأكمه فيعافى بإذن الله تعالى.

سابعًا: القدوة والتكليف

يلاحظ في سیرة الأنبياء (علیهم السّلام) أن جملة منهم لم يتزوجوا ومنهم نبيَّا الله عيسى ويحيى (علیهما السّلام)، ومن هنا أُثرت مسألة في الفقه وهي هل أن الزواج مستحبٌّ ومرغوبٌ

في ذاته أم أنه مستحب ومرغوب لمن تتوق نفسه إلى ذلك؟ وذكر في هذا المجال أن الزوجة -بما هي- تقتضي الانشغال بها وبالأولاد وقتًا وجهدًا وتعلقًا، وعشق الأنبياء وهمهم هو التعلق والانشداد إلى الذات المقدسة، ويلاحظ أن هذه الأدلة أدلة عامة وقد يكون هناك أدلة خاصة في حق عيسى أو يحيى أو غيرهما من أنبياء الله (علیهم السّلام).

ويقرر العلماء أن ما يذكر من إعراض الأنبياء والأولياء عن الدنيا أو عدم زواج بعضهم ليس تكليفًا في حقنا، بل هم في مقام القدوة والقيادة وتكليفنا هو الاقتداء بهم في حدود أن لا ننساق خلف الدنيا انسياقًا نصبح معه أسارى لها تملكنا وتوجهنا، بل نحن الذين يجب أن نملكها، كما أن الإسلام نسخ الشرائع السابقة عليه جملةً وتفصيلاً، لا أنه أقرَّ بعضَ أحكامها وترك الآخر، وما يأتي من

تعاليم الإسلام موافقًا للشرائع السابقة عليه إنا هو تشريعٌ جديدٌ لا أنه مأخوذ من تشريع سماويٍّ سابق(1).

نسأل الله تعالى أن يهدينا ويحيينا حياة الأنبياء والأولياء المعصومین صلوات الله عليهم أجمعن.

ص: 175


1- الأصول العامة للفقه المقارن / 429 .

ص: 176

18)إبراهيم(علیه السّلام) .. خليل الله

أولاً: معنى (إبراهيم)

إبراهيم كلمة سامية استخدمتها السريانية وفق طريقة نطقها فكانت إبراهيم، ومعناها بالسريانية (أب رحيم)، وإذا نطقت في العربية غَیرْ عَلَمٍ فهي كذلك (أب رحيم) وفي حالة العلمية أخذت عن السريانية ممزوجة ومسرينة أي (إبراهيم)، و(أب) و(رحيم) من الكلمات الخوالد وهي المتحدرة من السامية إلى فروعها من سريانية وعربية وعبرانية وغيرها، ويلاحظ في التأريخ انطباق هذا

الوصف على إبراهيم (علیه السّلام) فإنه كان مظهرًا بارزًا من مظاهر رحمة الله تعالى، وعرف بحبه للمساكين وتفقده للأضياف وغيرته وغیر ذلك من الخصال الرفيعة.

ثانيًا: إبراهيم (علیه السّلام) في القرآن الكريم

ذكر القرآنُ الكريمُ خليلَ اللهِ إبراهيمَ (علیه السّلام) في سبعين موضعًا(1) تتحدث عن مختلفِ شؤونه فإنه خليلُ الرحمن وبطلُ التوحيد.

ثالثًا: إبراهيم (علیه السّلام) في نهج البلاغة

«إنَّ أولى الناسِ بالأنبياءِ أعلمُهم بما جاؤوا به، ثمَّ تلا: «إنَّ أولى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذين اتَّبعُوهُ وهذا النبيُّ والذينَ آمَنُوا »(2) الآية، ثم قال: إنَّ وليَّ محمدٍ

ص: 177


1- ذكر ذلك السيد السبزواري (رحمه الله) في (مواهب الرحمن) 2/ 6.
2- سورة آل عمران / 68 .

من أطاعَ اللهَ وإِنْ بَعُدَتْ لْحمَتُه، وإِنَّ عدوَّ محمدٍ من عصى اللهَ وإِنْ قَرُبَتْ قرابتُه .»(1).

ذكر أمیرُ المؤمنین (علیه السّلام) خليلَ اللهِ إبراهيمَ (علیه السّلام) في نهجه العظيم في موطنٍ واحدٍ هو هذا الذي ذكرناه(2)، كما تحدث عن إسماعيل وإسحاق ويعقوب (علیه السّلام) بشكل غیر مباشر ضمن الحديث عن أولادهم وعن بني إسرائيل، وسأحاول في هذا الدرس أن أتناول هذه الجوانب من وحي كلامه(علیه السّلام).

رابعًا: معنى كلامه(علیه السّلام)

يحتمل في هذه الكلمات الشريفة معنيان، وإن كان أحدهما أعمق وأنسب وأقرب إلى مراد الإمام (علیه السّلام)، وهذان المعنيان هما:

أ) المعنى الأول: وهو عنوان القدوة الصالحة والاتباع للأنبياء والأولياء (علیهم السّلام) وذلك في قوله (أولى)، وأما قوله (علیه السّلام):(أعلمهم با جاؤوا به) فليس حصرًا في محض العلم، بل يشمل ويقتضي العمل، أو هو العلم الباعث على العمل، ولذلك

تلا بعد ذلك الآية وفيها «اتَّبَعوا » وهذا تأكيدٌ على جانب العمل، فإذن العلم والعمل والاتباع تحقق الصلة بالأنبياء والأولياء (علیهم السّلام) وتجسد حقيقة القدوة بهم، وهذا أمرٌ متاحٌ لكل البشر.

ب) المعنى الثاني: وهذا المعنى أهم وأعمق وأولى بالقصد، وإن كان لا ينفي المعنى الأول، ألا وهو الأولوية في الخلافة والإمامة كامتدادٍ لإمامة خليلِ اللهِ إبراهيم (علیه السّلام) وسائر الأنبياء، وإذا كان أولى الناس بإبراهيم (علیه السّلام) هو من يكون إمامًا

ص: 178


1- الكلمة رقم 96 ، ص 484 .
2- مع التذكير أن (نهج البلاغة) لا يحوي كل ما قاله أمير المؤمنين(علیه السّلام) .

وخليفةً مثله، وجب والحال هذه أن يكون مراد الإمام (علیه السّلام) من قوله (أعلمهم) هو العلم الإلهي الذي تكون به تمام الخشية، وكمال العمل، بحيث يكون هذا الشخص (الأولى) مؤهلاً لأن يكون إمامًا يهدي إلى الله تعالى، كأنبيائه (علیهم السّلام)، ومما يؤيد هذا المعنى أن الآية الكريمة التي استشهد بها الأمیر (علیه السّلام) ذكرت أن أولى الناس بإبراهيم (علیه السّلام) هو النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ولهذا لا يكون المعنى الأنسب عنوان القدوة والاتباع لأن الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أفضل من خليلِ الله (علیه السّلام)، وإنماالمعنى المراد في حق رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن نبوته وإمامته للخلق، وكذلك إمامة أمیر

المؤمنین (علیه السّلام) هي امتداد لنبوة وإمامة إبراهيم (علیه السّلام).

وفي معرض الحديث عن النبوة والإمامة ذكرتُ في بعض ما كتبت ما ذكره السيد البهبهاني (رحمه الله) من التفصيل في الفرق بن النبوة والإمامة، وكما تذكر كتب الاعتقاد أن الإمامة مرتبة أسمى من النبوة، ومن ذلك أن إبراهيم كان نبيًّا ثم بعد ذلك أعطاه اللهُ مقام الإمامة في قوله تعالى «إِنِّ جَاعِلُكَ لِلناسِ إِمامًا »(1)، وقد كان قبلها نبيًّا وحسب، فقد تنفرد النبوة كما في معظم الأنبياء(علیهم السّلام)، وقد تنفرد الإمامة دون النبوة كما هو مقام أمیر المؤمنین وأئمتنا (علیهم السّلام)، وقد تجتمع النبوة والإمامة كما في مقام خليل الرحمن إبراهيم (علیه السّلام).

ويستدل بالآية السابقة على اشراط العصمة في الإمام فإن الله تعالى يقول «إِنِّ جَاعِلُكَ لِلناسِ إمامًا قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظالِمین »، فكلمة (عهدي) فاعل، و(الظالمین) مفعول به أي أن عهدَ اللهِ تعالى -وهي الإمامة- لا يشمل الظالمین، والظلم هنا مطلقٌ سواءً كان ظلم العباد أو ظلم النفس بأي ذنبٍ

ص: 179


1- سورة البقرة / 124 .

كان، وسواءً كان ذلك الظلم قبل إسلام الشخص أو بعد إسلامه.

خامسًا: قانون الانسجام

أعرض هنا بعض الروايات التي تتعلق بحديثنا هذا، لنرى مدى انسجامها معه من جهة ومع سیرة الشخص وواقع الحال من جهة أخرى، وهذا ما يحلو لي أن أسميه (قانون الانسجام) الذي يدلل على صدق القضية، وتمام الحقيقة، هذا الحديث في موضوع الآية المباركة هو قول الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«أنا دعوة أبي إبراهيم، فقلنا: يا رسول الله، وكيف صِرتَ دعوةَ أبيك

إبراهيم (علیه السّلام)؟ قال: أوحى اللهُ عزَّ وجلَّ إلى إبراهيم «إِنِّ جَاعِلُكَ لِلناسِ إمامًا »فاستخفَّ إبراهيمَ الفرح فقال: يا ربِّ «ومِنْ ذُرِّيَّتِي » أئمة مثلي... فانتهت الدعوة إليَّ وإلى أخي علي، لم يسجدْ أحدٌ منا لصنمٍ قط، فاتخذني اللهُ نبيًّا وعليًّا وصيًّا .»(2)

إذن ففي هذا الحديث وغیره نجد أن طهارة النشأة وعدم السجود لصنم قط هو مظهر من مظاهر عدم الظلم التي أشارت إليه الآية الكريمة، وبذلك

ص: 180


1- رواه الشيخ في أماليه ورواه ابن المغازلي في مناقبه، نقل ذلك السيد السبزواري في (مواهب الرحمن) .20/2
2- وقد ورد في دعاء الندبة ما ينسجم مع هذا الحديث من أن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) دعوة إبراهيم ،(علیه السّلام) فقد جاء في هذا الدعاء: «وبَعْضٌ اتَّخذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَلِيلاً وسَأَلَكَ لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ فأَجَبْتَهُ وجَعَلْتَ ذلكَ عليًّا »، والنص الشريف جمع بن الآيتین الكريمتین: « وَاجْعَل لِّی لِسَانَ صِدْقٍ فِ الآخِرِينَ » (سورة الشعراء / 84)« وَوَهَبْنَا لَهم مِّن رَّحْمتِنَا وَجَعَلْنَا لَهمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » (سورة مريم / 50 ).

استحقَّ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يكون في مرتبة الإمامة بعد النبوة والرسالة، واستحقَّ أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أن يكون في مرتبة الإمامة، فيكون معنى كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) -الذي ذكرناه من النهج- أنه يُنَظِّرُ ويشبِّه نفسه بإبراهيم (علیه السّلام) لأنه في القمة من الإمامة والوظيفة الإلهية.

سادسًا: ولد إسماعيل وبنو إسحاق وإسرائيل (علیهم السّلام)

1) قال (علیه السّلام)(1):

«فاعتبروا بحالِ ولَدِ إسماعيلَ وبني إسحاقَ وبني إسرائيلَ (علیهم السّلام)، فما أشدَّ اعتدالَ الأحوالِ، وأقربَ اشتباهِ الأمثال! تأمَّلوا أمرَهم في حالِ تشتتِهم وتفرقِهم،لياليَ كانت الأكاسرةُ والقياصرةُ أربابًا لهم، يحتازونهم عن ريفِ الآفاقِ، وبحرِ العراقِ، وخضرةِ الدنيا، إلى منابتِ الشيح، ومهافي الريح، ونكَدِ المعاش، فتركوهم عالةً مساكين إخوانَ دَبَرٍ ووَبَرٍ، أذلَّ الأممِ دارًا، وأجدبَهم قرارًا، لا يأوون إلى جناحِ دعوةٍ يعتصمونَ بها... .»

كان هذا تنظرًا من الإمام(علیه السّلام) وتشبيهًا لحالة المسلمين في عصره بعد أن رجع الحقُّ إليه، ولكن تشتت الناس وقامت الفتن من هنا وهناك - بحالِ أولاد إسماعيل نبي الله (علیه السّلام) الذي كان له ما نعلمُ من المقام الجليل وشرف بناء الكعبة المشرفة، وكذلك أولاد إسحاق وإسرائيلَ (يعقوب) (علیهم السّلام)، وقد كان لإسرائيل اثنا عشر ولدًا، ومع كثرتهم وانحدارهم من سالة الأنبياء فإنهم لما تركوا الحقَّ جانبًا وتمردوا آلَ أمرُهم إلى الشتات والضياع بهذا المقدار الذي وضحه الإمام (علیه السّلام) من استعباد القياصرة والأكاسرة لهم وحرمانهم من خیر الدنيا.

ص: 181


1- خ 192 ، ص 297 - 298 .

2) تحدث إلإمام (علیه السّلام) عن التيه الذي حلَّ ببني إسرائيل والذي تحدث عنه القرآن الكريم أيضًا، فقال (علیه السّلام)(1):

«أيُّها الناس لو لمْ تتخاذلوا عن نصرِ الحق، ولم تهِنوا عن توهینِ الباطل، لم يطمعْ فيكم من ليس مثلَكم، ولم يقوَ من قوِيَ عليكم، لكنكم تِهتم متاهَ بني إسرائيل، ولعمري، لَيُضَعَّفَنَّ لكم التيهُ من بعدي أضعافًا بما خلَّفتم الحقَّ وراءَ ظهورِكم، وقطَعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعيَ لكم، سلك بكم منهاجَ الرسول... .»

نلاحظ الانسجام بن هذا المقطع والمقطع السابق من كلامه (علیه السّلام)، فإنه يتحدث عن الفرقة والابتعاد عن الحق ويتحدث عن بني أمية (الذين وصلهم الناس وهم أبعد عن الحق) كما يتحدث عن الحال التي وصل لها المسلمون ويدعو إلى التآلف ونصرة الحق، ويشبِّه الناس في خذلانهم وابتعادهم عن الحق

ببني إسرائيل الذين تاهوا أشد متاه، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا التيه بقوله تعالى: « قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( 24 ) قَالَ رَبِّ إِنِّ لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسيِ وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَینْ القَوْمِ الفَاسِقِينَ ( 25 ) قَالَ فَإِنَّها مُحرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِینَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِی

الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلىَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ ) .( 26)(2).

وتذكر الروايات أشياء عجيبةً عن هذا التيه وأنهم يمشون طوال الليل حتى إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان لم يبرحوه، وذلك أن اللهَ يأمر

ص: 182


1- خ 166 ، ص 241 .
2- سورة المائدة / 24 - 26 .

الأرضَ بذلك فتعود بهم إلى نفس المكان، واستمر تيههم هكذا أربعن سنة، وتذكر الروايات أيضًا أن الأمة تاهت فترة طويلة إلى زمن حكم أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لتُشابِهَ الأمم السابقة كما هو مدلول الحديث «لَتَركَبُنَّ سُنَنَ من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لا تخطئون طريقهم، ولا يخطئكم سنة

بني إسرائيل .»(1).

سابعًا:أنبياء الله (علیهم السّلام) في الكتب السماوية الأخرى

مع بالغ الأسف فإن الكتب السماوية الأخرى طالتها يد التحريف بشكلٍ لم يبقَ فيها أثرٌ من آثارِ اللهِ تعالى، ففي الوقت الذي يتحدث فيه القرآن الكريم بكلِّ إجلالٍ لأنبياء الله (علیهم السّلام) وعلاقتهم باللهِ تعالى وإجلاله بما هو أهلٌ له- نجد أن الكتب السماوية الأخرى تذكر السخافات والأباطيل التي وضعتها يد التحريف،فمن ذلك يذكرون أن كلمة (إسرائيل) تعني في العبرية (مُصَارِع الله)، وقد سمِّيَ نبي الله إسرائيل (يعقوب) (علیه السّلام) بهذا الاسم لأن الله تعالى وتقدس دخل على

يعقوب في الليل غرفته وتصارع معه إلى الفجر فما غلب أحدهما الآخر فمنحه الله لقب (إسرائيل).

ثامنًا: الأنبياء (علیهم السّلام).. القدوة

استشهد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بالآية الكريمة «إنَّ أَوْلى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبيُّ والذينَ آمَنُوا »، واستنادًا إلى المعنى الأول الذي قلنا إن المعنى الثاني لا ينفيه فإن الأنبياء قدوة للجميع مع اختلاف مستوى الأخذ بهم كقدوة، فكل يأخذ حسب قدره وشأنه، فتحمل الآية أن أولى الناس بنبي الله إبراهيم هم

ص: 183


1- بحار الأنوار 13 / 180 .

الذين يتبعونه ويسیرون على نهجه ويقتدون به، فإن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) يقول: «إن وليَّ محمد من أطاع الله وإنْ بَعُدَتْ لْحُمَتُه، وإنَّ عدوَّ محمد من عصى الله وإنْ قَرُبَتْ قرابته »، فالقريب من قرَّبته الطاعة، ومن ذلك أيضًا الحديث الصادقي: «إنَّ وليَّ

عليٍّ (علیه السّلام) لا يأكل إلَّ الحلال لأن صاحبه كان كذلك، وإِنَّ وليَّ عثمان لا يبالي أحلالاً أكل أو حرامًا لأن صاحبه كذلك .»(1).

وهذا مظهر من مظاهر الانتماء يتجلىَّ ليس في جانب الاعتقاد وحسب بل في جانب السلوك والعمل، ولهذا قال أمیر المؤمنین (علیه السّلام):« العلمُ مقرونٌ بالعمل، فمن عَلِمَ عَمِل، والعلمُ يهتفُ بالعمل، فإِنْ أجابَهُ وإلّاً ارْتَحلَ عنه .»(2)

ص: 184


1- الكافي 8/ 144 .
2- نهج البلاغة، الكلمة رقم 366 ، ص 539 .

19)داوود وسليمان (علیهما السّلام)

أولاً: داوود (علیه السّلام)

أ) قال (علیه السّلام)، متحدثًا عن نبي الله داوود (علیه السّلام)(1):

«وإنْ شئتَ ثلثتُ بداوودَ -صلى اللهُ عليه وسلم(2)- صاحبِ المزامرِ، وقارئِ أهلِ الجنةِ، فلقد كان يعملُ سفائفَ الخوصِ بيدِه، ويقولُ لجلسائِه: أيكم يكفيني بيعَها! ويأكلُ قرصَ الشعيرِ من ثمنِها .»

هذه الكلمات عطف على ما سبق من عنايته -سلام الله عليه- بأخذ العبرة من حياة الزُّهَّاد والعُبَّاد، فقد ذكر أولًا رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ثم موسى (علیه السّلام)ثم ثلَّث بداوود (علیه السّلام)، ووصف داوودَ (علیه السّلام) بأنه (صاحب المزامیر)، وقد فسرَّ بعضهم -كالشيخ محمد جواد مُغْنِيَة- ذلك بأنه الزمر المعینَّ المتعارف، أما غیره فقد ذكروا بأن (المزامیر)

من جهة لغوية هنا، ما كان يتغنَّى به داوود (علیه السّلام) بقراءته الزبور نظرًا لأن الله تعالى وهبه عذب النغم ولذة الترجيع فلهذا وصف صوته بالمزامیر، وكان لصوته (علیه السّلام)

أثر غريب كالسحر، فقد كان يؤثر في الإنسان والحيوان والنبات والجماد، فقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أن داوود (علیه السّلام) كان «إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل

ص: 185


1- خ 160 ، ص 227 .
2- عبر الإمام (علیه السّلام) عن داوود كما عبر عن موسى أيضًا بقوله: (صلى الله عليه وسلّم)، ولعلَّ هذا إشارة إلى أن آل بيت رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هم وحدهم المخصوصون بوجوب الصلاة عليهم مقرونة بالصلاة على الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأن هذا لا يشمل أهل بيت أي نبي آخر.

ولا حجر ولا طائر ولا سبع إلّاَ جاوبه »(1)، وجاء أن الطیر تقع عليه والوحش تدخل بین الناس لاهية عن افتراسهم.

وإن كنتُ أتصور -والله العالم- أنه ليس فقط حسن الصوت هو السبب بل هو ما ينبعث من صفاء القلب المؤمن المتعلق بالله تعالى فيأسر النفوس جميعًا.

والوصف الآخر، هنا، لداوود (علیه السّلام) أنه (قارئ أهل الجنة) و(خطيب أهل الجنة)(2)، ولعلَّ المعني هنا أنه لسان الحمد والثناء لله تعالى في الجنة، أو أنه

للصوت النافذ المؤثر، وقد يكون لشيءٍ آخر، وبالمناسبة فقد ذكرتُ فيما كتبت أننا نلاحظ في حياة المعصومین (علیهم السّلام) هذا النوع من التأثیر في إسماع العدد الكثیر بالكلام العادي الطبيعي، كما ينقل في حق الرسول الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وكذلك في حق الإمام الحسن والإمام الرضا (علیهم السّلام)، والسيدة زينب (علیها السّلام) ، وأعتقد أن هذا نوع من

الهيمنة والنفوذ والولاية على الكون وعلى هذه الذبذبات والموجات وما فيها من طاقة وأنها منجذبة لأصواتهم وخاضعة لهم.

ثم يذكر (علیه السّلام) أن داوود (علیه السّلام) (كان يعمل سفائف الخوص بيده) على ما هو معروف لدينا الآن، فقد جاء أن داوود (علیه السّلام) حكم أربعین سنة وفي حديث له مع

جبرئيل (علیه السّلام) سأله ماذا يعاب مني؟ فأجابه يعاب منك أنك إنا تأكل من بيت المال، أي لا تأكل من كسب يدك، فأثَّر ذلك فيه أثرًا كبیرًا فكان يعمل سفائف الخوص بيده وهذا العمل في حدِّ ذاته غاية في الزهد، ثم إنه كان لا يحب بيعها لأن ذلك اشتغالٌ آخر بالدنيا، فيسأل بعضهم أن يبيعها ويؤثر البائع بثمنها ثم يأكل

ص: 186


1- أمالي الصدوق / 159 .
2- مستدرك سفينة البحار 3/ 380 .

منه قرص الشعير وهو طعام زهيد في قبال قرص البر مثلاً، وهذه مرحلة من حياة هذا النبي، ففي فرة أخرى كان (علیه السّلام) يصنع في كلِّ يوم درعًا ويبيعه بألف،فصنع في سنة 360 درعًا وباعها بِ 360 ألفًا فكان بعد ذلك يأكل من صنع يده، وهذه المقدرة الخاصة تحدث عنها القرآن الكريم فقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ

مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَالطَّیرْ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ ( 10 ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِ السرَّدِ وَاعْمَلُوا صَالًحا إِنِّی بِماَ تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ (11)(1).

وقال تعالى: «واذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُودَ ذا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ »(2)، وذو الأيد يعني صاحب القوة، فكان يأخذ الحديد يقطعه بيده دون حاجة إلى إعمال آلة، فيصنع منه درعًا، فلهذا جاء في الدعاء (يا ملینَ الحديدِ لداوودَ(علیه السّلام)(3)، وبالمناسبة أيضًا،يستحب أن يكون السفر في يوم الثلاثاء لأنه يوم ألانَ اللهُ فيه الحديدَ لداوود (علیه السّلام)(4).

ويلاحظ هذا التفاوت في حياته (علیه السّلام) بین الفقر والغنى ومع ذلك يبقى هذاالجوهر على ما هو عليه من التعلق بالله والانقطاع إليه.

ب) في جانب من جوانب العرفان والانقطاع إلى الله تعالى يستشهد الإمام (علیه السّلام) بداوودَ (علیه السّلام) قائلاً(5):

ص: 187


1- سورة سبأ / 10 - 11 .
2- سورة ص / 17 .
3- من أدعية الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان. مفاتيح الجنان/ 404 .
4- من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السّلام):«سافروا يوم الثلاثاء واطلبوا الحوائج فيه، فإنه اليوم الذي ألان الله فيه الحديد لداوود (علیه السّلام)» . الدعوات، لقطب الدين الراوندي / 293 .
5- الكلمة رقم 104 ، ص 486 .

«يا نوفُ، إنَّ داوودَ (علیه السّلام) قام في مثلِ هذه الساعة من الليل فقال: إنها لساعةٌ لا يدعو فيها عبدٌ إلاَّ استجيب له، إلاَّ أن يكون عشَّارًا أو عَرِيفًا أو شرطيًا أو صاحبَ عَرْطَبَةٍ أو صاحبَ كَوْبَة .»

في هذه الفقرة الشريفة عدة أمور:

1) إنه نوع من الأسرار الخاصة يعرفها أهل التعلقِ والولَهِ والعشق في الله تعالى، فهم يعرفون ساعات المناجاة، وقد ذُكر أن هذه الساعة التي أشار إليها الأمیر هي السَّحَر.

2) ورد في خصائص نبينا الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن له مع الله تعالى حالات خاصة لا صلة فيها بأي ملك وإنما ارتباط مباشر خاص به، فيبدو أن للأنبياء (علیهم السّلام) ساعات

مناجاة معينة يعرفونها، وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) واقف على هذه الأسرار، وهو يفيضها على الأوعية القابلة لتحمل ذلك، مثل نوف البكالي الذي يبدو أن له خصوصيات مع الأمیر (علیه السّلام) في المواعظ التي يلقيها، فكان على درجة عالية من الترفع عن الدنيا والإقبال على الله تعالى، ولهذا أفاض عليه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من الأسرار كما كان ذلك في حق الصفوة من أصحابه، فقد أُثِرَ عنه (علیه السّلام) إخباره المغيَّبات لرشيد الهجري وميثم التمار وسلمان المحمدي (رضی الله عنه).

3) إن هذا ترغيب للعبد أن يبتهل إلى الله تعالى في عموم الأوقات وفي الأوقات المخصوصة كليالي الجمعة وآخر ساعة من يوم الجمعة قريب الغروب وفي السحر وبین الطلوعین، فإنها أوقات مناجاة وإقبال على الله تعالى.

4) إن فيه أسلوبًا تربويًّا معينًا يهدف أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من ورائه أن يبعد

ص: 188

الإنسان عن جملة من المهن الوضيعة، وذلك بأنه ذكر أنها نقائص تحول دون استجابة الدعاء، وهذا هو ما نهجه الإمام السجاد (علیه السّلام) في أسلوبه التربوي عن طريق الدعاء، فيذكر أمیر المؤمنین (علیه السّلام) هنا أن هذه النقائص وهذه المهن هي أن

يكون المرء عشَّارًا وهو من يأخذ أعشار المال من الناس في الجمرك، والثاني العريف وهو الجاسوس على الناس الذي يعمل لصالح الحاكم الجائر، والثالث هو الشرطي والمقصود به من يكون عونًا للحاكم الجائر، والرابع صاحب العَرْطَبة وهي الطنبور، ولعلها عموم اللعب بشيءٍ محرم، والخامس صاحب الكَوْبة وهي

الطبل، إذن هذه أمور ذكرها أمیر المؤمنین (علیه السّلام) عن داوود (علیه السّلام) في معرض الحديث عن المناجاة والدعاء، ثم ذكر بعض موانع الدعاء في أسلوب تربوي يهدف من ورائه أن يتنزه العبد عنها.

ثانيًا: سليمان (علیه السّلام)

قال أمير المؤمنين (علیه السّلام)(1):

«فلو أن أحدًا يجدُ إلى البقاء سلَّمًا أو لدفعِ الموتِ سبيلًا، لكان ذلك سليمان بن داوود (علیه السّلام) الذي سخِّر له مُلْكُ الجنِّ والإنس، مع النبوة وعظيمِ الزلفة، فلما استوفى طعمته واستكملَ مدته، رمته قسيُّ الفناء بنبالِ الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطلة، وورثها قوم آخرون، وإن لك في القرونِ السالفةِ لعبرة .»

ذكر القرآن الكريم ما يتعلق بشأن ملك سليمان (علیه السّلام)، كما يمكن الرجوع في ذلك إلى ج 14 من البحار، وما يعنينا هنا عدة أمور:

ص: 189


1- خ 182 ، ص 262 .

1) إن سليمان (علیه السّلام) وهو نبي الله، مظهر أعظم لسلطانِ الله الأعظم وغناه وقدرته، واجتماع هذه الأمور فيه لا يعني جانب تفضيله على بقية الأنبياء كنبينا محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، بل يعني خصوصية لنبي الله سليمان (علیه السّلام) وفرق بن الأفضلية والخصوصية، وفي جانب آخر يجب أن لا يتسرب لأذهاننا أن ما نراه من غنى الكافرين هو بسبب كرامتهم على الله تعالى، بل إن الرزق يشمل الجميع وللسعي مجال في ذلك، وقد يحرم المسلم ويعطى الكافر للابتلاء أو لحكمة يريدها الله تعالى.

2) إن هذا السلطان وهذه الدنيا التي أعطيت لسليمان (علیه السّلام) لم تنقص من قدره شيئًا، فهو النبي الزاهد المقرَّب من الله تعالى.

3) إن هذه القدرة وهذا السلطان لسليمان (علیه السّلام) لا يحيط به عقل بشر ولا يمكن أن يتصور لبشر لولا أن الله تعالى خالق البشر هو الذي مكَّنه، فهو يسخِّرالجن والشياطين والإنس والرياح ويخاطب الحيوانات وما بقي أحد إلا وهو تحت قبضته، ولكن كل ذلك كان تمكينًا من الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك عندما

تتدخل القدرة الإلهية لتعطيل قدرة سليمان (علیه السّلام) أو هدمها ينقطع كل شيء لأنها قوة ومدد من الله تعالى وليست ذاتية، «فلما استوفى طعمته، واستكمل مدته، رمته قسيُّ الفناء بنبال الموت .»

نعم، هذا السلطان الذي يعجز عن تصوره فقط كل متصور مهما بلغ من قوة الخيال، يسميه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) (طعمة) أي أنه قوت قليل حقیر، وكما جاء في(البحار) أنه لم يهنأ بيوم راحة ونعيم أبدًا، وفي يومٍ ما أراد أن يخلو كما يريد، فأمر غلمانه وحشمه بتغليق أبواب قصره وأن لا يدخل عليه أحد، وإذا بداخل يدخل عليه! فقال له سليمان: من الذي أدخلك؟ قال: أدخلني رب القصر! قال: ومن

ص: 190

رب القصر؟ قال: الذي وكَّلني بقبض روحك! وانتهى كل شيء.. وإذا بهذا الذي تخافه الجن والشياطين والطیر والإنس «فَلَاَّ قَضَيْنا عليه الموتَ ما دَلَّهم على مَوْتِهِ إلَّا دابَّةُ الأرضِ تأكلُ مِنْسَأَتَه » أي تأكل عصاه حتى نخرتها «فلما خَرَّ تَبَيَّنتِ الجِنُّ أَنْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ » بموتِه «ما لَبِثُوا في العَذابِ المُهِین »(1)، أي ما بقوا مملوكین يخافونه حتى بعد موته وهم لا يعلمون أنه ترك هذه الدنيا.

ثالثًا: «ومَنْ عندَهُ عِلْمُ الكتاب»

قال تعالى: «قالَ الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ من الكتابِ أنا آتِيكَ بهِ قبلَ أَنْ يَرْتَدَّ إليكَ طَرْفُكَ »(2)، فهذا الذي عنده علم (من) الكتاب وهو آصف بن برخيا وزير سليمان (علیه السّلام) استطاع أن يأتي بعرش بلقيس لسليمان (علیه السّلام) قبل أن يرتد إليه طرفه،وهذه معجزة خارقة أتى بها آصف بن برخيا وعنده علم (من) الكتاب فقط أي عنده شيء من علم الكتاب، وتذكر الروايات أنه عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وأما أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فعنده اثنان وسبعون جزءً من الاسم الأعظم وهو الذي عنده «عِلْمُ الكِتَابِ »(3) فكيف لا تصح منه وتثبت له كل معجزة خارقة؟

وكيف لا يكون أمیر المؤمنین وأئمة الهدى (علیه السّلام) هم أصحاب الولاية والإمامة العامة التامَّة المطلقة؟ وكيف لا يكونون أعلى مراتب وأسمى وأكثر عطاءً وإعجازًا من جميع الأنبياء باستثناء النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )؟

ص: 191


1- سورة سبأ / 14 .
2- سورة النمل / 40 .
3- الكافي 1/ 229 - 230 .

رابعًا: أمير المؤمنين (علیه السّلام) سيد الزاهدين

تقول الروايات إن سليمان (علیه السّلام) كان يطعم أضيافه الطعام الجيد من خبز البر واللحم وغیره، أما هو مع عظيم ملكه فقد كان يأكل خبز الشعير غیر منخول، وهذا ما كان عليه سيد الزاهدين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) بل أكثر من ذلك، فقد كان

يكسر خبزه اليابس بركبته ويشرب ماء ويمسح بطنه ويحمد الله تعالى، وهذا نهاية ما يتصور من الإعراض عن الدنيا.

طريفة وموعظة

يروى أن سليمان (علیه السّلام) سمع عصفورًا يخاطب عصفورته قائلاً لها: لماذا تمتنعين مني ولو شئتُ لأخذت قبة سليمان ورميتها في البحر؟! فتبسم سليمان من قوله والتفت إليه قائلاً: أوَ تطيق أن تفعل ذلك؟ قال: لا يا رسول الله، ولكن المرء قد

يزين نفسه ويعظمها عند زوجته، فالتفت سليمان (علیه السّلام) للعصفورة وقال لها: لماذا تمنعین نفسك منه وهو يحبك؟ فقالت العصفورة: إنه لا يحبني، وإنه لمدعي في حبي، ولو كان يحبني لما أحب أحدًا معي، تقول الرواية فأثَّر ذلك في قلب سليمان

أثرًا بليغًا وبكى بكاءً شديدًا واعتكف عن الناس أربعین يومًا داعيًا سائلًا الله تعالى أن يفرغ قلبه لحبه(1).

ص: 192


1- الكُنَى والألقاب 1/ 357 .

20)النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

مدخل

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

«الَّذِي يَرَاكَ حِيْن تَقُومُ * وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ»(1).

الحديث في هذا الدرس الشريف بداية الأحاديث عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فنتحدث -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس والدروس القادمة عن مراحل حياة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مستعرضين نشأته الأولى، وعصر الجاهلية المظلم، وما أحدثته دعوة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من

نور أضاءت له الآفاق، وعموم أدوار حياته بما أفاض به تلميذه، وحبيبه وربيبه ونفسه أمیر المؤمنین (علیه السّلام).

أولاً: مصادر معرفة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

أ) كتابُ الله الكريم: وقد افتتحنا الحديث بهذه الآية المباركة حول نشأته الأولى، بالنظر إلى أن القرآن الكريم هو المترجم الأول الصادق في الحديث عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ومَنْ أصدقُ وأعلم من الله تعالى بنبيه «أَلَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهو الْلَطِيفُ الخَبِیرُ »(2)، ومن ذلك أن ألَّفَ محمد عزة دروزة كتابًا حول (سیرة الرسول) مستقى ومنتقى من الآيات

ص: 193


1- سورة الشعراء / 218 - 219 .
2- سورة الملك / 14 .

الكريمة فقط(1).

تتحدث الآية المباركة -كما نقل المفرون عن الأئمة (علیهم السّلام)- أن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان طاهرًا مطهرًا في عموم أدوار حياته، فقد جاء في مجمع البيان لأمین الإسلام الطبرسي (رضی الله عنه):« وقيل معناه وتقلبك في أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيًّا... عن ابن عباس، في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله صلوات الله عليها، قالا: في أصلاب النبيین نبي بعد نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غیر سفاح من لدن آدم .(علیه السّلام)(2).

ب) ترجمةُ أمیرِ المؤمنینَ علي لرسولِ اللهِ الأعظمِ محمد (صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما):

وحسب ما نلاحظ وكما جاء في الآثار أن المعرفة الصادقة إنا تؤخذ من هذه الطرق الموثوق بها، فإن شخصية الرسول العظيمة تشتمل على أسرار كبیرةلا يمكن أن يحيط بها أحد إحاطة ظلِّهِ ونفسِهِ عليٍّ بها، وقد جاء عنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مخاطبًا عليًّا (علیه السّلام):« ولا يعرفُني إلاَّ اللهُ وأنت .»(3).

وقد كان الإمام (علیه السّلام) لهجًا بالحديث عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولهذا فلنعايشه في جميع أدوار حياته في ظلال نهج البلاغة العظيم.

ص: 194


1- ذكر ذلك الشيخ السبحاني في (معالم النبوة في القرآن الكريم) / 539 .
2- مجمع البيان، للطبرسي 7/ 323
3- مناقب ابن شهرآشوب 3/ 267 - 268

ثانيًا: طهارة الأصلاب والأرحام

وقد مرَّ هذا الحديث عن عموم الأنبياء (علیهم السّلام)(1)ولكن نذكره هنا حسب مقتى نقاط البحث، ولأنه جدير بأن تتمثل هذه الناحية وهذا الكمال في أجلى مصاديقها وأروع صورها في شخص خاتم الأنبياء (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

فقد قال (علیه السّلام)(2)،:

«حتى أفْضَتْ كرامةُ اللهِ سبحانهُ وتعالى إلى محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فأخرجه من أفضلِ المعادنِ منبتًا، وأعزِّ الأُروماتِ مغرسًا؛ من الشجرةِ التي صدَعَ منها أنبياءَهُ وانتجبَ منها أُمَناءَهُ، عترتُه خیرُ العتر، وأسرتُه خیرُ الأسر، وشجرتُه خیرُ الشجر؛

نَبَتَتْ في حَرَم، وبَسَقَتْ في كَرَم... فهو إمامُ من اتَّقى... .»

الأرومات: جمع أرومة، وهي الأصل، فأصوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هم شجرة الأنبياء(علیهم السّلام).

وقد كرَّر هذا المعنى في قوله (علیه السّلام) (3)«مستقرُّه خيرُ مستقر، ومنبتُه خيرُ منبتٍ، في معادنِ الكرامة... .»

كما أكد ذلك في موطن آخر بقوله (علیه السّلام)(4): :

«أسرتُهُ خیرُ أسرة، وشجرتُهُ خیرُ شَجَرة، أغصانُها معتدِلة، وثمارُها متهدِّلة .» أي متدلية دانية القطاف.

ص: 195


1- في الحديث عن الخطبة رقم 94 ، ص 139 ، في درس (الأنبياء (علیهم السّلام)
2- خ 94 ، ص 139 .
3- خ 96 ، ص 141 .
4- خ 161 ، ص 229 .

وتلاحظ عناية الباحثین كثیرًا بذكر نسب النبي وقد ذكر هو (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« أنا دعوةُ أبي إبراهيم »(1)، أي حينما دعا -كما مرَّ- بأن يهبه الله تعالى الذرية الصالحة، فهو (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ينحدر من سالة الأنبياء (علیهم السّلام) عن طريق إسماعيل بن الخليل إبراهيم (علیه السّلام).

وفي حديث عنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريش من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم .»(2).

فأسرته إذن خیر الأسر، سواءً فسرناها بإسماعيل وإبراهيم (علیه السّلام) أو فسرناها بعبدالله وعبدالمطلب وغيرهم من أشراف بني هاشم.

ومن ذلك قوله (علیه السّلام)(3):

«وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وسيدُ عبادِه، كلما نسخَ اللهُ الخلقَ فرقتینِ جعله في خيرهما، لم يسهِمْ فيه عاهر، ولا ضربَ فيه فاجر .»

وما أروع حديثه (علیه السّلام)(4):

«اختارَهُ من شجرةِ الأنبياءِ، ومشكاةِ الضياءِ، وذؤابةِ العلياءِ، وسرَّةِ البطحاءِ، ومصابيحِ الظلمةِ، وينابيعِ الحكمة .»

ومشكاة الضياء هي كوَّةٌ يوضع فيها المصباح، والذؤابة هي الناصية أو منبتها من الرأس والمعنى قمة العلياء.

ص: 196


1- مرَّ علينا هذا الحديث بكامله في الدرس حول إبراهيم (علیه السّلام)، وقد رواه الشيخ في أماليه ورواه ابن المغازلي في مناقبه، نقل ذلك السيد السبزواري في (مواهب الرحمن) 2/ 20 .
2- نقله الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (في ظلال نهج البلاغة) 3/ 259 عن (صحيح مسلم).
3- خ 214 ، ص 330 .
4- خ 108 ، ص 156 .

ثالثًا: (كريمًا ميلادُه)

قال (علیه السّلام)(1):

«مأخوذًا على النبيين ميثاقُه، مشهورةً سِمَتُه، كريمًا ميلادُه .»

نلاحظ في هذه الكلمات أمرين مهمين:

1) قوله (مأخوذًا على النبيین ميثاقُه): قد يكون في ذلك ارتباط بعالم الذَّرِّ وما كان فيه من أخذ الميثاق، وليس لنا غرض هنا في إفاضة الحديث في هذا المجال، وقد يكون بعنوان ما بشرَّت به الرسل الكرام (علیهم السّلام) من أمر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنهم يعلمون أن جهادهم ودعوتهم هي تمهيد لدعوته الخاتمة المباركة، قال تعالى «ومبشرِّاً برسولٍ يأتي مِنْ بَعْدِي اسمُهُ أحمد »(2).

2) (كريماً ميلاده): وذلك لشرف المولود وآثار الخیر والبركة المترتبة على وجوده الشريف الذي يغیر الدنيا فتشرق بتعاليمه وهديه وإخباره عن ربه.

رابعًا: (خيرَ البريةِ طفلاً)

قال(علیه السّلام)(3):

«حتى بَعَثَ اللهُ محمدًا (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) شهيدًا، وبشیرًا، ونذيرًا، خیرَ البريةِ طفلاً، وأنجبَها كهلاً .»

ص: 197


1- خ 1، ص 44 .
2- سورة الصف / 6.
3- خ 105 ، ص 151 .

وهذا تعبیر مهم ولافت للنظر باعتبار أن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في دوره الأول في عالم الوجود يوصف بهذا الوصف العظيم وأنه خیر البرية وله الأفضلية عليهم منذ أن كان طفلاً، وهذا ليس ثناء وحسب بل إنه الواقع والذي لمسه الناس في شخصه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولذلك حينما نرجع إلى السیرة، وإن كانت لا تسعفنا بتفصيل وافٍ عن أدواره الأولى إلا أننا نجد حياته الأولى مع مرضعته حليمة السعدية وامتيازه في أخلاقه بنحو لافت جدًّا، فهو يود أن يخدم وأن يكلَّف بما يكلف به صبيتها

وينأى عن الاستبداد، وينأى عن اللعب واللهو الذي كان عادة الصبية، يضاف إلى ذلك بركات وجوده مع مرضعته والخیر الذي نالته به، كل هذا وهو بعد طفل، وكذلك رحمته الواسعة وحبه للخلق وقد كان معاصروه يعرفونه بالصادق الأمین، فهو بحق خیر البرية طفلاً.

والنقطة الأخرى المهمة في حياته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والتي تعتبر من الأسرار التي ما كان ليكشف عنها غیر أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بقوله(1):

«ولقد قرنَ اللهُ به (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مِنْ لَدُنْ أنْ كان فطيماً أعظمَ مَلَكٍ من ملائكتِه، يسلكُ به طريقَ المكارم، ومحاسنَ أخلاقِ العالم، ليلَهُ ونهارَه .»

فهذه جوانب روحية وإلهية خاصة لا يحيط بها إلَّا من كان ظلاًّ للنبي بل هو نفسه، ملازمًا له في أدوار حياته الأولى، ولهذا جاء عنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« لقد صلَّتْ الملائكةُ

عليَّ وعلى عليٍّ سبعَ سنينَ، وذلك أنه لم يصلِّ معي رجلٌ غیره .»(2).

فالله هو المسدد والملهم لرسوله الكريم على يد أعظم ملكٍ من ملائكته

ص: 198


1- خ 192 ، ص 300 .
2- بحار الأنوار 40 / 77 .

من لدن أن كان فطيماً، وتعبیر الإمام (علیه السّلام) (قرنَ به)أي جعله ملازمًا له (ليله ونهاره)، وهذا الملَك ليس أمن الله جبرئيل (علیه السّلام) بل الروايات الواردة أنه أعظم منه وأنه كان مع الأئمة (علیهم السّلام) أيضًا، يوصل لهم تسديد الله تعالى وتعاليمه(1)، وقد أشرت فيما مضى أن ذلك لا يعني أصلاً فضل الملَك على النبي أو الإمام، فالنبي أشرف الخلق، والإمام يأتي في الفضل بعده، وإنما هذا الملَك هو تكريم للنبي أو الإمام بإرسال موفَدٍ إليهما من قبل الله تعالى، وقد قال(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) :« أنا أديبُ اللهِ وعليٌّ

أديبي .»(2).

وقوله: (ومحاسن أخلاق العالم) ليس يعني الأخلاق التي كان العالم يتصف بها، فالنبي أشرفهم وأفضلهم، وإنا المقصود الأخلاق الإلهية التي أراد الله تعالى للعالم أن يتصف بها ويبلغ ذروتها فبها صلاح الدنيا والآخرة.

إذن فالنبي الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حتى قبل البعثة وقيامه بأمر الدعوة كان قمة الكمال البشري فلا يمكن أن يصدر منه ما يتنافى والكمال، ولا دور لبعثته في كماله بل

كماله ورعاية الله تعالى له منذ نشأته الأولى، وقد أبدع الإمام (علیه السّلام) في إيجاز هذه النواحي العظيمة في هذه الكلمات.

ص: 199


1- عن أبي بصیر قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيماَنُ »)*( قال خلق من خلق الله تعالى أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يخیره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده. الكافي 1/ 273 . (*) سورة الشورى / 52 .
2- بحار الأنوار 16 / 231 .

ص: 200

21)النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) .. ما قبل البعثة

مدخل

جاء في الحديث عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه قال: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماءِ والطينِ .»(1).

الحديث الثاني عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يدور حول فترة أخرى من حياته المباركة وهي التي تسبق عهد البعثة النبوية الشريفة، وبطبيعة الحال فإن دائرة بحثنا هي ضمن

كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في نهجه العظيم.

أولاً: (وأنجبَها كهلاً)

قال (علیه السّلام)(2):

«خيرَ البريةِ طفلًا، وأنجبَها كهلًا .»

معنى الكهل في اللغة: يراد به تحديد فترة زمنية وقد اختلف فيها فهناك قول أن ما جاوز الثلاثین فهو زمن الكهولة، وهذا خلاف لما نعهد، وقول آخر أنه ببلوغ المرء سن الأربعین يكون كهلاً، وقول ثالث أن ما بین سن الرابعة والثلاثین إلى الحادية والخمسین هي فترة الكهولة، وقبل الكهولة تكون فترة الشباب، وبعد

ص: 201


1- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 183 .
2- خ 105 ، ص 151 .

الكهولة تأتي فترة الشيخوخة ثم فترة أرذل العمر.

فهنا بعد أن قال الأمیر (علیه السّلام) إن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو خیر الناس وهو طفل، فإنه يقول هنا إنه أفضلهم أيضًا في فترة الكهولة فهو في هذه الفترة التي تشتد فيها الغرائز والرغبات ومع ذلك يكون أنجب الناس، والأنجب بمعنى الأفضل وبمعنى الأكرم.

ثانيًا: بماذا كان النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يتعبد قبل البعثة؟

ورغم أن هذا ليس له فائدة عملية، إلا أننا نشیر إليه من باب الفائدة العلمية، وقبل هذا يطرح سؤال وهو: هل يجب أن يتعبد النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قبل البعثة؟

يميل البعض إلى أنه لا يجب أن يتعبد النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بشريعة ما قبل البعثة على الإطلاق، وفي قبال هذا الرأي هناك رأي يقول إن فرض عدم تعبد النبي قبل البعثة لا يتلاءم بل يتنافى مع مقام النبي وعظمته وكونه لسان ومثال الشكر لخالقه والمنعم عليه، وشكرُه لخالقه يتمثل بنحو أكمل من طريق العبادة، أضف إلى ذلك الروايات الواردة في هذه الناحية، ومنها ما افتتحنا به الحديث من وصفه بالنبي قبل خلق آدم (علیه السّلام) فلا يحسن بعد ذلك أن لا يمارس عبادة قبل البعثة، وقد

جاءت الروايات أنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان يصلي ويحج ويمارس سائر العبادات.

ولكن بماذا كان يتعبد؟ هل بتشريع نوح أو إبراهيم أو عيسى أو غيرهم(علیه السّلام)؟

اختلفت الأقوال كثیرًا عند السنة والشيعة في هذه النقطة، وملخص القول عند الإمامية هو ما يميل إليه ثقة الإسلام المجلسي (رحمه الله) الذي أشبع الموضوع

ص: 202

بحثًا وإيرادًا للروايات في بحار الأنوار(1)، وخلاصة رأيه الشريف أن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان

يتعبّد قبل البعثة بشريعته هو لأنه كان نبيًّا قبل البعثة بكثیر، وأنه كان يُلِمُّ بغار (حراء) كل عام ويبقى شهرًا كاملاً يعبد الله تعالى فيه، وكان يطعم فيه من يأتيه من المساكين فهو محل حاجة الناس وتوجههم، وهو رحمة لهم يرى نفسه مسؤولًا عنهم حتى قبل البعثة.

وبما يملكه الرسول الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من معرفة وعلم وعقل فائق يمكنه أن يعبر عن شكره لله تعالى بطرق أخرى؛ إلا أنه من لطف الله تعالى به وحبه له زوَّده بهذه العبادات وعلَّمه كيف يناجيه ويشكره، فيتلقى عباداته من الله تعالى ويمارس عبادةً عقليةً وقلبيةً وجسدية.

ثالثًا: قال أمير المؤمنين(علیه السّلام)

أ) مرَّ علينا الكلام حول قول أمیر المؤمنین متحدثًا عن النبي (عليهما وآلهما السلام): «ولقد قرنَ اللهُ به (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من لدُنْ أنْ كان فطيماً أعظمَ مَلَكٍ من ملائكتِه،

يسلكُ به طريقَ المكارم، ومحاسنَ أخلاقِ العالم، ليلَهُ ونهارَه »(2)، ولا شك أنه مع هذه العناية الكبیرة به كان يتحفه بمختلف المعارف فلا يعقل أن تكون فترة ما قبل البعثة خالية من الأحكام الشرعية والتعبد بها، بل جاءت الروايات أن هذا

الملَك الموكل بالنبي كان يخاطبه وهو بعدُ شاب بقوله: «السلام عليك يا محمد،السلام عليك يا رسول الله .»

هذا والجمل الأخرى ترك عليًّا (علیه السّلام) في هذه الكرامة وأن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان

ص: 203


1- ج 18 ، ص 278 .
2- خ 192 ، ص 300 .

يأمره بالاقتداء به فيمارس معه العبادات، وكان للإمام (علیه السّلام) تمام المنزلة والمكانة «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »، أي أنه لو جاز أن يكون نبي بعد النبي لكان عليٌّ، وهذا بعيد عن الغلو بل هو عن الحقيقة فمقام

الإمامة الحاصلة لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) فوق مقام النبوة، وقد تحدثنا سابقًا أن مقام الإمامة التي نالها إبراهيم (علیه السّلام) هو بعد أن نال مقام النبوة.

وأما كيفية صلاته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قبل البعثة فهذا يرتبط بكونه يتعبد بشريعته فتكون صلاته هي التي شرعها للناس بعد ذلك، وإلاَّ فمن المحتمل أن تكون له عبادات خاصة قبل البعثة المباركة.

ب) وقال (علیه السّلام)(1):

«اللهم إني أولُ من أناب، وسمعَ وأجاب، لم يسبقني إلَّا رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالصلاة »: وفي هذا حكاية لما قلنا، ويمكن تطبيقه على ما قبل البعثة وأنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان يتعبّد بالصلاة قبل الكل ثم كان علي (علیه السّلام) هو الشخص الثاني الذي عبد الله تعالى، وقد جاءت الروايات صريحة بذلك، فعن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« لقد صلَّتْ الملائكةُ عليَّ وعلى علیٍّ سبعَ سنينَ، وذلك أنه لم يصلِّ معي رجلٌ غیره »(2)، إلى غیر ذلك من الروايات الكثیرة.

ص: 204


1- خ 131 ، ص 189 .
2- بحار الأنوار 40 / 77 .

22)النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) .. البعثة المباركة

مدخل

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: «هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّینَ رسولًا منهُمْ يتلُو عليهم آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضلالٍ مُبِین»(1).

ستكون أحاديثنا المقبلة -إن شاء الله تعالى- حول بعثة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وستكون في الموضوعات التالية:

1) البعثة النبوية الشريفة وكلمات أمير المؤمنين (علیه السّلام) حولها.

2) الجاهلية، وكلمات الإمام (علیه السّلام) في تصوير عهد ما قبل البعثة المباركة.

3) النجاح العظيم الذي حققه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عقيب قيامه بهذه الدعوة العظيمة.

4) درس مهم نستفيده في حياتنا من هذه الأحاديث المباركة.

وسيكون هذا الدرس حول الموضوع الأول (البعثة النبوية الشريفة).

أولاً: تعريف البعثة

البعثة كمصطلح ديني تعني قيام النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بدعوته الإلهية من قبل ربه تبارك وتعالى، وإظهار أمر دينه وتبليغ رسالة ربه.

ص: 205


1- سورة الجمعة / 2.

ويوم البعثة هو السابع والعشرون من شهر رجب، وقد جاء في فضلها وشرفها حديث عن الإمام الجواد (علیه السّلام):« إن في رجب ليلةً هي خیرٌ للناسِ مما طلعتْ عليه الشمس، وهي ليلةُ السابع والعشرين منه؛ نبِّيءَ رسولُ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في صبيحتِها »(1).

ونقاط البحث كالتالي:

ثانيًا: مهمات النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

قال أمير المؤمنين (علیه السّلام)(2):

«إلى أنْ بعثَ اللهُ سبحانهُ محمدًا رسولَ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لإنجازِ عِدَتِه، وإتمامِ نبوَّتِه، مأخوذًا على النبيینَ ميثاقُه... .»

فبمقتضى إنجاز الوعد الإلهي بُعِثَ رسولُ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكأنما هذا المبعث هو تمام الحلقة والبشارة والتكميل الإلهي لرسالات الأنبياء والمرسلين (علیهم السّلام)، وعبرَّ عنها بأنها إتمام لنبوة الله أي لولاها لكانت النبوة ناقصة والعروة منفصمة، ومن تمام الفضل أن يختم الله هذه السلسلة المباركة بخیر الأنبياء وأشرف المرسلين صلى الله عليه وآله

وعليهم أجمعين.

وقال (علیه السّلام) عن هذا الحدث الأعظم(3):

«حتى أورى قبسًا لقابسٍ، وأنار علَماً لحابس، فهو أمينُكَ المأمون، وشهيدُكَ

ص: 206


1- مفاتيح الجنان، للشيخ القمي / 148 .
2- خ 1، ص 44 .
3- خ 106 ، ص 153 .

يومَ الدين، وبعيثُكَ نعمةً، ورسولُكَ بالحقِّ رحمةً .»(1).

فهو المأمون من قبل الله تعالى على التنزيل وهذه رتبة سامية أن يكون الحامل للقرآن العظيم بما يحويه من آثار الله وعلمه وأسراره، وبما يحمل من هداية للبشر، وهو الشهيد، والشهادة مهمة كبیرة جدًّا تعني الحضور والمراقبة لعمل الخلق ومدى اتباعهم للحق، وهذه المهمة أيضًا من اللطف الإلهي أن تكون هذه الرحمة

المهداة وهذا النور قائماً بن أظهر الناس يرعى شؤونهم ويخط لهم درب السعادة،ويتلافى أخطاءهم ويستدرك عليهم، وتلك نعمة كبیرة. قال تعالى: «يا أَيُّها النبيُّ إِنَّا أرسلناكَ شاهدًا ومُبَشرِّاً ونَذِيْرًا »(2)، فهو يشهد لهم في الدنيا ويشهد لهم وعليهم في الآخرة.

وقوله (علیه السّلام) (وبعيثك نعمة) إشارة إلى أن بعثة النبي في حد ذاتها نعمة جليلةمن الله تعالى، ورحمة واسعة للعباد.

وقال (علیه السّلام)(3):

«حتى بعثَ اللهُ محمدًا (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) شهيدًا وبشيرًا ونذيرًا .»

وينبغي الالتفات إلى أن هذه ليست فقط صفات للنبي، بل هي في واقعها مهمات أُوكلت إليه فقام بها خیر قيام.

ص: 207


1- يمكن مراجعة نهج البلاغة، ص 613 للاطلاع على معاني بعض الكلمات الواردة في هذا النص الشريف (الكلمات رقم 1409 إلى 1412 ).
2- سورة الأحزاب / 45 .
3- خ 106 ، ص 151 .

وقال (علیه السّلام) حول بعض مهام هذه الدعوة(1):

«فبعثَ اللهُ محمدًا (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالحقِّ ليخرجَ عبادَه من عبادةِ الأوثانِ إلى عبادتِه، ومن طاعةِ الشيطانِ إلى طاعته... .»

وفي الواقع يمكن أن يقال إن هذا هو السر، والأمر الأهم في البعثة المباركة،فإن الإنسان ما لم يعبد الله ويهتدِ بهداه فإنه يعبد الوثن، لأنه إما الله وإما الشيطان،سواءً كان ذلك الوثن متمثلاً في صنم يصنعه الإنسان بيده من حجارة أو خشب ثم يسجد له ويقدم له القرابین، أو كان هواه يتبعه، أو كانت الدنيا يعبدها ويعبد

حُكَّامها، فكل تلك أوثان مآل صاحبها إلى الهلاك، ولا منجى ولا مخلص إلا بعبادة الله تعالى، ولهذا لاحظوا التعبیر: (ليخرجوا العباد) فهم في مأزقٍ وبلاء مبرم وهوَّةٍ سحيقة، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، كما سنذكر ذلك في حديث لاحق عن الجاهلية، إن شاء الله تعالى.

وأخيرًا قال (علیه السّلام) معممًا دور بعثة الرسل(2):

«وبَعَثَ إلى الجنِّ والإنسِ رسلَه، ليكشفوا لهم عن غطائِها، وليحذروهم من ضرَّائِها، وليضربوا لهم أمثالهَا، وليبصروهم عيوبَها، وليهجموا عليهم بمعتبرٍ من تصرُّفِ مصاحِّها وأسقامِها، وحلالهِا وحرامِها، وما أعدَّ اللهُ للمطيعنَ منهم والعصاةِ من جنةٍ ونار وكرامةٍ وهوان... .»

والرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو خاتم الأنبياء وسيدهم وقد تجلت في نبوته هذه المهمات

ص: 208


1- خ 147 ، ص 204 .
2- خ 183 ، ص 265 .

وهذه الجامعية بنحو أكمل.

ثالثًا: دعامة أمره وركن دعوته

للرسول الأكرم جنبتان: جنبة مع الخَلْق، وجنبة مع الحق، مع الله تبارك وتعالى، وهذا معنى جامعيته للنبوة والرسالة كما تقدم، فالنبوة هي جنبته مع الحق، فهو يتلقى الوحي منه تعالى بطريق الأمین جبرئيل (علیه السّلام) بل إن له ما هو فوق ذلك، فله مع خالقه مناجاة وخلوات وانقطاعات خاصة بغیر واسطة ملَك

ووحي، وهذه الناحية هي إحدى دعائم أمره.

ومن أركان دعوته القرآن الكريم «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَیءٍ » ولا يُطلَبُ بعده شيء، وقد أحاط رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأسراره ومعارفه.

وفي هذا المجال تحدث الإمام (علیه السّلام)(1):

«إنَّ اللهَ بعثَ رسولً هاديًا بكتابٍ ناطقٍ، وأمرٍ قائم .»

فالقرآن الكريم إذن هو الدعامة الأولى للدعوة، وقد عبر عنه الإمام (علیه السّلام) بأنه (ناطق) وهذا خلاف ما يعهد من الروايات من التعبیر عن القرآن الكريم بأنه كتاب الله الصامت، والإمام كتاب الله الناطق لأنه ترجمان للقرآن يخبر عنه ويجسد تعاليمه عمليًّا، وهذا التعبیر هنا عن القرآن الكريم بأنه (ناطق) قد يكون لعدة اعتبارات: منها، أنه ناطق بالنسبة للنبي، وصامت بالنسبة لغیره، وذلك أن النبي محيط بما فيه من علم فتنطق حروفه وكلماته له بكل ما فيه من أسرار وحكم، بينما هو صامت بالنسبة للآخرين لعدم إحاطتهم بمعارفه وأسراره «وَما يَعْلَمُ

ص: 209


1- خ 169 ، ص 243 .

تَأْوِيْلَهُ إِلّاَ اللهُ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ »(1).

يضاف إلى ذلك أن النبي سمع الوحي بالقرآن قبل أن يكتب فهو في حقه ناطق بهذا الاعتبار أيضًا، ولعل قوله (علیه السّلام) (وأمر قائم) إشارة إلى أن سائر تشريعات الإسلام أمور معلومة واضحة جلية عند النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

وقال (علیه السّلام)(2):

«ابتعثهُ بالنورِ المضيءِ، والبرهانِ الجلي، والمنهاجِ البادي، والكتابِ الهادي :»

وهذه إشارة إلى ركائز الدعوة سواءً كانت هذه الصفات مترادفات تشیر إلى القرآن الكريم، أو كانت تعني ما زُوِّدَ به الرسول الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من قوة الحجة وتمام البرهان على دعوته العظيمة، وهذه الحجة هي الركيزة الأخرى في دعوته

وأمره، لأن من يتكفل بهذه الدعوة الكبیرة ويدعي أنه وحده المبعوث من قبل الله تعالى إلى جميع الأمم- لا بد وأن يكون له من البينات والحجج الظاهرة ما يثبت دعواه، فالناس أشتات فيهم العقلاء والمفكرون وعلماء الديانات السابقة من اليهود والنصارى لهم علم بالكتب السماوية ومعرفة بالأديان، ولديهم احتجاجات لا بد وأن يظهر عليها بحججه القوية الواضحة (والمنهاج البادي والكتاب الهادي).

ولذلك قال (علیه السّلام) في نفس الخطبة(3):

«أرسلهُ بحجةٍ كافية، وموعظةٍ شافية، ودعوةٍ متلافية... »: فهنا يجمع الإمام

ص: 210


1- سورة آل عمران / 7.
2- خ 161 ، ص 229 .
3- خ 161 ، ص 230 .211

(علیه السّلام) جملة من دعائم أمر البعثة وما كان عليه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من عدة ومدد إلهي في

هذا الأمر.

ومن هذه النصوص قوله (علیه السّلام)(1):

«أرسلهُ بالدينِ المشهور، والعلَمِ المأثور، والكتابِ المسطور، والنورِ الساطع، والضياءِ اللامع، والأمرِ الصادع، إزاحةً للشبهات، واحتجاجًا بالبينات... »: ولا أعتقد أن هذه كلها مترادفات وإن كانت تصب في أمر الدعوة والإرشاد، بل إن بعضها يشیر إلى القرآن، كما يشیر بعضها إلى عقل النبي الكبیر، وملكاته وكمالاته التي أهَّلته للدعوة.

رابعًا: البلاء الحسن الجميل

في هذه الناحية يجب أن لا يغفل كا نبهنا من قبل أننا نتحدث في إطاركلمات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وإلا فالروايات الكثیرة فيها تفصيل أكثر -بطبيعة الحال- حول بلاء النبي والأذى الكبیر والعناء الذي تحمله، والصعوبات التي اعترضته، في سبيل الدعوة، وقد جاء عنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« ما أُوْذِيَ نبيٌّ مثلَ ما أُوْذِيت .»

وفي هذا الفلك قال (علیه السّلام)(2):

«فبالغَ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمةِ والموعظةِ الحسنة »: وموضع شاهدنا قوله (علیه السّلام): (بالغ) وهذا لا يعني -بالطبع- ما نفهم

نحن من أن المبالغة خلاف الحقيقة، بل يعني أنه بذل جهده وابتلي كل البلاء في

ص: 211


1- خ 2، ص 46 .
2- خ 95 ، ص 140 .

سبيل دعوته، فهو لم يكتفِ بدعوة الناس بصدق وعزم، ولهم بعد ذلك أن يختاروا فيهتدوا أو لا يهتدوا، بل أكد دعوته وأصرَّ عليها رغم التكذيب، وتحمل كل عناءحبًّا في هداية من أُرْسِلَ إليهم وهم الناس كافة.

وقد بين ذلك (علیه السّلام) بقوله(1):

«فجاهدَ في اللهِ المدبرين عنه والعادلین به »: ولا سيما وأن الكافرين والمعارضین كانوا هم الغالبية وأصحاب العدد والعدة، فتحمل منهم الأذى في مكة بكل أنواعه، ثم الطائف، ثم ما باشره من المدينة بنفسه من حروب ضد الكفار جرح فيها الجراحات الشديدة وكسرت رباعيته وانشقت شفته وأدميت ركبته؛ هذا وهو يحمل الهداية والخیر والرحمة للناس.

ونختم بقوله (علیه السّلام)(2):

«خاضَ إلى رضوانِ اللهِ كلَّ غمرة، وتجرَّع فيه كلَّ غُصَّة، وقد تلوَّنَ له الأدْنَوْن، وتأَلَّبَ عليهِ الأقصَوْن، وخلَعَتْ إليهِ العربُ أعِنَّتَها، وضربتْ إلى محاربتِهِ بطونَ رواحلِها، حتى أنزلتْ بساحتِهِ عداوتَها، من أبعدِ الدار، وأسحقِ المزار .»

وهذا تصوير مهم ورائع ومثیر، فإن تجرُّعه الغصص وخوضه الغمرات

مع طول المدة كان طلبًا لرضوان الله تعالى عنه، وأي جهاد وأي صدق في الدعوة أعظم من هذا؟ وقد تلوَّن له الأدنون فكان أبو لهب وأبو جهل والأقربون منه، وما أسلم بعضهم إلا بعد عناء شديد وفترة مريرة، وبعد أن أخذ الإسلام زمام

ص: 212


1- خ 133 ، ص 191 .
2- خ 194 ، ص 307 .

الأمور وحقق انتصاراته، وتألَّب عليه الأقصون البعيدون فكان اليهود والنصارى والعرب وكل قد أتى لحربه، وأجهد في ذلك واشتد، وأنزلوا بساحته عداوتهم فقصدوه بالإيذاء قصدًا من أقصى الأرض، وكان الله تعالى ناصره ومسدِّده، صلى الله عليه وآل بيته الطيبین الطاهرين.

ص: 213

ص: 214

23)الجاهلية

مدخل:

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

«أَفَحُكْمَ الَجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّه حُكْمً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(1) .

أولاً: تعريف الجاهلية

الجاهلية كمصطلح لا ترتبط فقط بتلك الفترة التي كانت قبل البعثة، ولا ترتبط بأمة معينة، بل حتى في زماننا هذا إذا لم يكن الفكر سليمًا والعقل نیرِّاً وحياة الأمم والشعوب على وفق النظام الإلهي فتلك هي الجاهلية وإن كانت جاهلية حديثة.

ثانيًا: أسبابها

من ضمن الظروف التي تهيء لظهور الجاهلية هو ما يبتلى به البشر من فترة ينقطع فيها إرسال الرسل، وليس في ذلك اعتراض على الله تعالى فقد بعث الأنبياء والمرسلين وجعل الأولياء، ولكن ابتعاد الناس عن منهج الأنبياء في حياتهم وبعد موتهم يؤدِّي إلى ظهور الجاهلية، ولهذا يذكر في هذه الفترة فترة

انقطاع الرسل أن نبيًّا من الأنبياء كان قائماً بین الناس وهو آخر الأنبياء العرب

ص: 215


1- سورة المائدة / 5.

وهو خالد بن سنان، وقد جاء في (بحار الأنوار)(1) حديث عنه في أربع روايات تتحدث عن شيء من سیرته وأن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أدرك ابنته وكان يكرمها ويشیر إلى أنها ابنة نبي ضيعه قومه، مما يدل على أن عهده قريب من عهد الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ويناقش البعض في نبوته أو حجمها، ولكن حجم النبوة لا يضر بكونه نبيًّا.

ثالثًا: مظاهر الجاهلية

مظاهر الجاهلية كثرة ونحن نستمد التعريف بها من كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) والذي تحدث عن ذلك كثیرًا وفي مناسبات عديدة لا يمكن الإحاطة بها جميعًا في هذا الدرس.

وقيمة حديث الإمام هنا عالية جدًّا ومهمة باعتبار أنه أدقُّ المؤرخین -إن صح التعبیر- وأصدق المتحدثن عن هذه الفترة لمعايشته لها وعلمه بالقوم، وعلمه بحقيقتها من رسول الله، ولعلمه الإلهي الذي يستطيع به أن يخبر عن هذا الكون وما يحويه من حقائق.

فمن تلك المظاهر التي ذكرها الإمام (علیه السّلام):

1) الاعتقاد، والحديث فيه شبه خاص بالعرب باعتبار أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بُعث فيهم.

2) الفتن الكثيرة التي كانت نارها متأجِّجة بينهم.

3) الضياع الذي كانوا يعيشونه بتمام ما لكلمة (الضياع) من معنى.

4) اتباعهم للشيطان في أهوائهم وميولهم وعواطفهم.

ص: 216


1- ج 14 ، ص 448 .

5) ما كانوا عليه من أمِّيَّة مستقطبة.

6) إطباق الجهل الذي كان عندهم وانعكاسه على ممارساتهم.

ومن أسباب قيمة الحديث من الإمام (علیه السّلام) أنه البطل الذي واجه الجاهلية بسيفه فقتل أقطابها بین يدي الرسول، وبفكره فحارب بدعها وجهلها، وأرشد الطلاب الأعزاء إلى مراجعة فقرات خطبة الزهراء العصماء في حديثها -صلوات الله وسلامه عليها- عن هاتن النقطتین: تأريخ الجاهلية وبلاء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في صراعه معها.

وبعد هذه الإلمامة السريعة والعرض العاجل نحاول أن نستعرض بعض كلمات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في هذا المجال.

أ) قال (علیه السّلام) في وصفه للاعتقاد في الجاهلية(1):

«وأهلُ الأرضِ يومئذٍ مِلَلٌ متفرقة، وأهواءٌ منتشرة، وطرائقُ متشتتة، بین مشبِّهٍ للهِ بخلقِه، أو ملحدٍ في اسمِه، أو مشیرٍ إلى غیرِه »: فهذا جانب من جوانب الاعتقاد يعرض له أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وأن أهل الجاهلية كانوا يقيسون الخالق بالخلق

وهذا دليل ضآلة معرفتهم، وضعف معتقدهم ويكون انفعالهم معه بمستواه.

ب) وقال (علیه السّلام)(2):

«والناسُ في فتنٍ انجذمَ فيها حبلُ الدين، وتزعزعت سواري اليقین،

ص: 217


1- خ 1، ص 44 .
2- خ 2، ص 46 - 47 .

واختلف النَّجْرُ، وتَشَتَّتَ الأَمْرُ،... ونُصرِ الشيطانُ، وخُذِلَ الإيمانُ، فانهارتْ دعائمُهُ، وتنكَّرَتْ مَعالِمهُ، ودَرَسَتْ سُبُلُه، وعَفَتْ شُرُكُه،... »: وهذا وصف آخر للنظرة التوحيدية وما يتعلق بالإلهيات في تلك الفترة العصيبة التي انقطع فيها حبل الدين المتصل (انجذم)، وتزعزعت سواري (دعائم) اليقین واختلف النجر (الأصل والمنبت) فانهارت بسبب ذلك دعائم الإيمان وعفت (انطمست وخفيت)

شركه (أي طرقه).

ثم يقول (علیه السّلام)(1):

«في فِتَنٍ داسَتْهم بأخفافِها، ووَطِئَتْهم بأظلافِها، وقامتْ على سنابِكِها، فهم فيها تائهون... في خیرِ دارٍ وشرِّ جیران، نومُهُمْ سُهُودٌ، وكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بأرضٍ عالِمها مُلْجَمٌ، وجاهِلُها مُكْرَمٌ »: فيشبِّه (علیه السّلام) تلكم الفتن كالإبل تدوس بأخفافها،

وكالبقر تطأ بأظلافها، وكالخيل تقوم على أطراف حوافرها (سنابكها)، فهم في بلاء شديد من هذه الفتن، هذا وهم في مكة خیر دار، ولكنهم شر جیران لها وللبيت الحرام، ولقد كان عالمهم لا يستطيع التحدث بعلمه وأما جاهلهم فهم يكرمونه، وهذا تصوير دقيق لحال الجاهلية وما كانوا عليه من انعدام المقاييس

والتخبط في الجهل.

ج) وتحدث عن الوضع الاجتماعي، فقال (علیه السّلام)(2):

«وأنتم معشرَ العربِ على شرِّ دينٍ وفي شرِّ دارٍ، مُنِيخُونَ بین حجارةٍ خُشْنٍ وحياتٍ صُمٍّ، تشربونَ الكَدِرَ، وتأكُلُونَ الجَشِبَ، وتسفِكُونَ دماءَكم، وتَقْطَعُونَ

ص: 218


1- خ 2، ص 47 .
2- خ 26 ، ص 68 .

أَرْحَامَكُم، الأصنامُ فيكم منصوبة، والآثامُ بكم معصوبة »: يتحدث الإمام (علیه السّلام) هنا عن مجال آخر هو حياة الجاهلية وممارساتهم في معيشتهم واقتصادهم ويخص العرب بالحديث، بينما في النص الشريف السابق كان الحديث عن أهل الأرض،

فالعرب وإن كان لهم دين فهو شر، وهم مقيمون في شر دار، وقد عبرَّ عنها هناك بأنها خیر دار باعتبار قدسية مكة وقدسية البيت الحرام، أما هنا فعبر عنها بأنها شر دار بلحاظ أهلها وما كانوا عليه، ومثال على ذلك أننا نقول إن ذلك البلد ناصبي بمعنى أن أهله نواصب، وإلاَّ فالأرض لا تكون ناصبية، وكانوا يشربون الكدر

ويأكلون الجشب وهو الطعام الخشن أو الذي لا إدام فيه.

ثم يتحدث (علیه السّلام) عن شتات المجتمع بسفك الدماء وقطيعة الأرحام، وأخیرًا يشیر إلى عبادتهم للأصنام ونصبها على الكعبة المشرفة بقعة التوحيد، وكذلك ممارستهم للآثام وأنها معصوبة (أي مشدودة بهم وملتصقة تمامًا).

د) وتحدث عن الأمِّيَّة المستقطبة آنذاك، فقال (علیه السّلام)(1):

«إن اللهَ بعثَ محمدًا، (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وليس أحدٌ من العربِ يقرأ كتابًا، ولا يدَّعي نبوَّة »(2): وهذه الأمية لها لوازمها ونتائجها لأن الكتابة والقراءة من الطرق

المهمة للعلم والمعرفة، وإن لم تنحصر فيها، ومن المهمات التي قام بها النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن بادر بالقضاء على هذه الأمية في أول أيام دولته المباركة في المدينة، فكان يطلب

من أسارى المشركین الذين يعرفون القراءة والكتابة أن يعلموا عشرة من صبية المسلمين ذلك، في مقابل إطلاقهم من الأسر، وهذه خطوة رائدة ومهمة في طريق

ص: 219


1- خ 33 ، ص 77 .
2- وقد ذكر الإمام (علیه السّلام) هذا المعنى أيضًا في الخطبة رقم 104 ، ص 150 .

محو الأمية.

ه) كما تحدَّث الإمام (علیه السّلام) عن هذه الجاهلية، وهو البطل الذي حطمها بسيفه وفكره، فقال (علیه السّلام)(1):

«أرسلهُ على حینِ فترةٍ من الرسل، وطولِ هجعةٍ من الأمم، واعتزامٍ من الفتن، وانتشارٍ من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفةُ النور، ظاهرةُ الغرور، على حین اصفرارٍ من ورقِها، وإياسٍ من ثمرِها، واغورارٍ من مائِها، قد دَرَسَتْ منارُ الهدى، وظهرت أعلامُ الردى فهي متجهمةٌ لأهلِها، عابسةٌ في وجهِ طالبِها، ثمرُها الفتنة، وطعامُها الجيفة، وشعارُها الخوف، ودثارُها السيف

فاعتبروا عبادَ الله :»

يصوِّر الإمام (علیه السّلام) الحروب وأنها كالنار تتلظى في تلك الفترة العصيبة، كما يصوِّر الدنيا بأنها كالشجرة في الخريف أوراقها صفراء تتساقط، وقد بلغت من العمر حدًّا يأس الناس من ثمرها، وقد غار ماؤها وانقطع.

و) وهكذا لا يكاد ينقطع حديثه عن هذه الفترة فمما قال(علیه السّلام)(2):

«بَعَثَهُ والناسُ ضُلاًّلٌ في حیرةٍ، وحاطبونَ في فتنة، قد استهوتْهمُ الأهواء، واستزَلَّتْهُمُ الكبرياء، واستخفَّتْهُمُ الجاهليةُ الجهلاء، حيارى في زلزالٍ من الأمر، وبلاءٍ من الجهل :»

فالناس إذن حاطبون في فتنة أي كلهم يشارك فيها، وهم في بلاء من الجهل

ص: 220


1- خ 89 ، ص 121 .
2- خ 95 ، ص 140 .

فهو مستحكم على الأفكار وقد ملك كل حياتهم، واصطبغت حياتهم بصبغة الجهل والتنكر لكل القيم والمعارف.

ز) وقال (علیه السّلام)(1):

«أضاءت به البلادُ بعد الضلالةِ المظلمة، والجهالةِ الغالبة، والجفوةِ الجافية، والناسُ يستحِلُّونَ الحريم، ويستذِلُّون الحكيم، يحيَونَ على فَترْةٍ، ويموتونَ على كفرَة »ٍ: فهم يستحلون المحرمات، ويعيش صاحب الحكمة والروية بينهم ذليلاً لأنه لا يسايرهم فيما يعملون، وهذا غاية في الضعة وانعدام المقاييس، وبالفعل كان مصداق ذلك المعاملة التي تعاملوا بها مع الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )؛ فقد عاملوه بكل قسوة من أذى بالقول والفعل، وأما حياتهم فقد كانت خالية من الشرائع منقطعة من الرسالات السماوية، وهم نتيجة لذلك يموتون على الكفر.

ح) نعرض فيما يلي نصین آخرين يمكن لمن يريد أن يتوسع في الدرس بمطالعة شرح النصین في كتب الشروح للنهج.

النص الأول(2):

«أَظْهَرَ به الشرائعَ المجهولة، وقَمَعَ به البِدَعَ المدخولة، وبینَّ به الأحكامَ المفصولة، فمن يبتغِ غیرَ الإسلامِ دينًا تتحققْ شِقْوَتُه... .»

النص الثاني(3):

ص: 221


1- خ 151 ، ص 210 .
2- خ 161 ، ص 230 .
3- خ 192 ، ص 297 - 298 .

«لا يأوون إلى جناحِ دعوةٍ يعتصمون بها، ولا إلى ظلِّ أُلفةٍ يعتمدونَ على عزِّها، فالأحوالُ مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرةُ متفرقة، في بلاءِ أزْلٍ، وأَطباقِ جَهْلٍ، من بناتٍ موؤودة، وأصنامٍ معبودة، وأرحامٍ مقطوعة، وغاراتٍ مشنونة .»

هذا بعض ما حدثنا به أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من أمر الجاهلية، ويكون تتميم هذا البحث في الدرس القادم -إن شاء الله تعالى- بذكر النجاح العظيم الذي حققه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في دعوته وصراعه مع الجاهلية.

ص: 222

24)نجاح الدعوة

أولاً: مدخل

قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم:

«هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ

ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِینٍ .»(1).

درسنا يدور -إن شاء الله تعالى- حول النقطة الثالثة التي وعدنا بها وهي نجاح النبي في دعوته، وحينما نقارن بن واقع الجاهلية وما كانوا عليه من تخبُّط وضلال وانحراف كبیر، وبین حال الناس بعد تلك الفترة الوجيزة التي قام فيها النبي داعيًا إلى الله تعالى مجاهدًا مخلصًا حتى أحدث ذلك التحول العجيب- فلا شك أننا نقف على نجاح هو في حد ذاته معجزة قدَّمها النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) دليلاً على صدق دعوته.

وقد صوَّر لنا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) كما مرَّ وضع الناس قبل البعثة في جاهليتهم،وهو هنا يصوِّر لنا النجاح الكبیر الذي حققه النبي بدعوته المباركة.

وكلامه (علیه السّلام) ثريٌّ جدًّا في كل هذه المجالات، كيف لا وهو البطل الفرد الذي واكب الدعوة من أولها ورأى النجاح الباهر الذي استمر وواكبه الإمام بعد رحلة الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى بفترة طويلة، إذن فهو أعظم مؤرخ

ص: 223


1- سورة الجمعة / 2.

وأصدق متحدث عن الفترات السابقة والمواكبة واللاحقة للبعثة المباركة، وهذا ما سنقف عليه من كلمات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) التي اخترنا هنا بعضها لتكون كاشفة عن هذا النجاح الإلهي الخاص الذي غیرَّ العالم وأخرج الدنيا من الظلمات إلى

النور.

ثانيًا: النجاح الكبير

أ) تحدث عن هذا النجاح فقال(علیه السّلام)(1):

«فهَداهُمْ بهِ مِنَ الضَّلالةِ، وأَنْقَذَهُمْ بمكانِهِ مِنَ الجَهالة »: أمیر المؤمنین (علیه السّلام) هو أمیر البلغاء وربُّ الكلام، فهو هنا يقول إن الرسول قد هدى الناس، وهذا يستدعي أنهم كانوا على ضلالة، (وأنقذهم) وهذا يعني أنهم كانوا في مأزق وفي غاية المحنة والبلاء بسبب جاهليتهم، وتركيز الإمام على الجهل باعتباره مصدر البلاء والدمار، وقد استخدمت الزهراء (علیها السّلام) أيضًا هذا التصوير: «فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ بأَبِی محمد »، فالدنيا إذن كانت في مأزق حتى أُنْقِذَت ببركة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وعطاء دعوته.

ب) وقال (علیه السّلام) عن ذلكم الإنجاز العظيم(2):

«فَسَاقَ الناسَ حتى بوَّأَهم محِلَّتَهُمْ وبلَّغَهُمْ مَنْجاتَهمْ، فاستقامتْ قناتُهم واطْمَأَنَّتْ صَفاتُهمْ »: وكأنما الناس رعية يحتاجون إلى من يسوقهم سوقًا وليس مجرد إرشادهم، بل لعلَّ الإمام يقصد من قوله (فَسَاقَ) أن الناس كانوا بما هم فيه من جهلٍ وخلوٍّ من الشرائع، وبما كانوا يمارسونه، كانوا كالأنعام بل هم أضل

ص: 224


1- خ 1، ص 44 .
2- خ 33 ، ص 77 .

سبيلً، فساقهم سوقًا إلى المحل الذي يجدر بهم أن يكونوا فيه.

«وبلَّغهم منجاتَهم »: فقد كانوا على جانب من الهلكة في اعتقادهم وأخلاقهم وسلوكهم، وقد أسند الإمام هذا السَّوق وهذا التبليغ إلى النبي مباشرة باعتباره صاحب الدعوة الأول الذي قاد الناس وشملهم برعايته، وإن كان الله تعالى هو مصدر كل خیر وأساس كل عطاء، وكان نتيجة هذا العمل من النبي أن استقامت

قناة الناس وهي الرمح أو العمود والذي لا يُنتفع به ما لم يكن مستقيمً وذلك كناية عن اتجاه الأمة إلى الوجهة الصحيحة وتبدل انحرافها إلى هذه الاستقامة، وكذلك (اطمأنت صَفاتهم) وهي الأرض الصلبة فهي مطمئنة يستقرون عليها، كناية عن استقرار جميع شؤونهم وما يتعلق بدينهم ودنياهم.

ج - وقال (علیه السّلام) متحدثًا عن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«قد صُرفَتْ نحوه أفئدةُ الأبرار »: فالله تبارك تعالى هو المالك لأزِمَّة القلوب والماسك برغبات الخلائق، فبعد ذلك البلاء والجاهلية ينبعث رجل مفردًا يتحدى الناس أنهم على باطل وهو على الحق، ويصمد أمام جميع المغريات والتحديات، فتستجيب الناس له حتى ينقلب أعداؤه أعوانًا له يستحيون من النظر إليه لما أساؤوا في حقه، وأما (الأبرار) الذين يملكون العقل والصفاء فقد مالوا بقلوبهم

إليه بعد أن كانت شؤونهم بعيدة عنه، فأصبح الرسول أحب إليهم من أنفسهم وقاتلوا دونه حتى آباءهم كما حصل في حروب الإسلام الأولى.

«وثُنِيَتْ إليه أزِمَّةُ الأبصار »: فهي لا تشخص إلا إليه ولا ترنو غيره.

ص: 225


1- خ 96 ، ص 141 .

«دفنَ اللهُ به الضغائِنَ، وأطفأَ بهِ الثوائِر »: وهذا تعبیرٌ راقٍ جدًّا، فقد عبرَّ عن ضغائن الجاهلية بأنها دُفِنت أي لم يعد لها أثرٌ يُرَى، وكأنها لم تكن أصلاً فهي مُودَعةٌ في التراب، وكذلك الثوائر الهائجة بالنار أُطفِئَتْ، وهذه جهة من جهات النجاح.

ثم يقول (علیه السّلام):

«ألَّفَ به إخوانًا وفرَّقَ به أَقرانًا »: وقد نسب الإمام (علیه السّلام) هذه الأمور لله تعالى لأنه المالك والمدبر الحقيقي لها، والنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بما يحمل من عطاء وكمال هو

المنفذ لها، قال تعالى: «وَأَلَّفَ بَینْ قُلُوبِهمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِی الأَرْضِ جَميعًا ما أَلَّفْتَ بَینْ قُلُوبِهمْ ولَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ »(1)، (وفرَّقَ به أقرانًا) كانوا متحدين على أمر الباطل، فهو إذن يفرِّقهم عما ينبغي أن يتفرقوا عنه ويجمعهم على ما ينبغي أن يجتمعوا عليه، ولهذا قال (علیه السّلام) مبينًا نتيجة ذلك:

«أَعَزَّ بهِ الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بهِ العِزَّةَ »: فكم من فقیر ووضيع لا يُحسب له حساب وإذا به يُرفعُ له شأن، فهذا بلال الحبشي لم يكن عند ذلك المجتمع شيئًا يذكر وإذا به هو -رضوان الله تعالى عليه- يصعد سطح الكعبة مدويًا بالأذان وبذكر الله ورسوله، وأما أبو لهب فقد كان شريفًا في قومه بل كان عمّا لرسول الله، وإذا به يصبح وضيعًا وسُبَّةً على ألسنِ البشر في قرآنٍ يُتلى آناء الليل وأطراف النهار.

د) وكما قدَّمنا فإن كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ثري جدًّا في هذا المجال وهو يحكي ترجمة صادقة لأنها عن معاينة واطلاع على أحداث الدعوة التي كان الإمام

ص: 226


1- سورة الأنفال / 63 .

في صميمها، فهو يقول (علیه السّلام)(1):

«يسوقُهم إلى منجاتِهم؛ ويبادرُ بهم الساعةَ أَنْ تنزِلَ بهم »: فهو في غاية الخوف عليهم والرحمة بهم أن تنزل بهم الساعة أو يموتون وهم على ضلالهم.

«يحسرُ الحسیر، ويقِفُ الكسیر، فيقيم عليه حتى يلحِقَه غايتَه، إلا هالِكًا لا خیرَ فيه »: فبعضهم يحسر أي يكل ويتعب فيقف، وبعضهم يقف لأنه مكسور،وهذا كناية عن الذي يضعف إيمانه فلا يسیر بل يتردد في طريق الحق ويقف،ولكن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يُعنى ويرعى هؤلاء الضعاف في الاعتقاد، فيصلح شأن الضعيف والمكسور، ثم يلحقه بالركب حتى يبلغ غاية النجاة.

وهذا ما كان عليه الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من الأناة والحلم وتحمل الجهد الشديد في سبيل الدعوة وهداية الناس، وأما من يضل ويرفض الحق فيهلك فإنما هو باختياره وليس من الرسول أدنى تقصیر بعد أن تحمل غاية الجهد والبلاء في

سبيل الدعوة.

«حتى أَرَاهُمْ مَنْجاتَهمْ وبَوَّأَهُمْ مَحلَّتَهُمْ فاستدارتْ رَحاهُمْ واسْتَقامَتْ قَناتُهمْ »: فأوصلهم إلى النجاة فرأوها، وجعلهم في المحل الذي يجدر بهم أن يكونوا فيه، فجرت رحاهم جريها الطبيعي وهذا كناية عن استقامة جميع أمورهم ببركة

دعوته.

ه( وقال(علیه السّلام)(2):

ص: 227


1- خ 104 ، ص 150 .
2- خ 151 ، ص 210 .

«أضاءت به البلادُ بعد الضلالةِ المظلمة، والجهالةِ الغالبة، والجفوةِ الجافية :»

وهذا تذكیر وتكرار لمعان سابقة؛ فالبلاد كانت في ظلام الضلال، وكان الجهل متفشيًا غالبًا، فإذا بالبلاد تشرق بنور دعوته(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

و) وقال (علیه السّلام)(1):

«فبَلَّغَ الرسالةَ صادعًا بها، وحمل على المحجةِ دالّاً عليها، وأقامَ أعلامَ الاهتداءِ ومنارَ الضياءِ، وجعل أمراسَ الإسلامِ متينةً، وعُرا الإيمانِ وثيقةً »: فقد جهر بالدعوة وقام بها خیر قيام، ودل الناس على المحجة (الطريق) التي توصل للحق، وجعل أمراس (حبال) الإسلام متينة، ولم يجعل للإيمان عرا وحسب، بل جعلها وثيقة، وهذه الجمل وغيرها بيان من الإمام (علیه السّلام) إلى أن الدعوة لم تنجح وحسب؛ بل كان نجاحها باهرًا وهو في حدِّ ذاته معجزة بل هو أول المعجزات.

ز) وأشار إلى الإصلاح الاجتماعي فقال(علیه السّلام)(2):

«فانْظُرُوا إلى مواقعِ نِعَمِ اللهِ عليهم حین بَعَثَ إليهم رسولًا فَعَقَدَ بمِلَّتِهِ طاعتَهم، وجَمعَ على دعوتِه أُلْفَتَهم »: يتخذ الإمامُ (علیه السّلام) -هنا- أسلوبًا إلى الحسِّ أقربَ منه إلى الفكر فيأمرهم بالنظرِ إلى النعمِ الظاهرةِ برسولِ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وكيف أصبح من بُعث فيهم مطاعین من قبل العالمین، وألَّف بينهم تحت ظل دعوته، بعد أن كانوا شرارًا في علاقتهم ببعضهم، وفي علاقتهم مع الناس.

«كيف نَشرَتِ النعمةُ عليهِمْ جناحَ كرامتِها، وأسالت لهم جداولَ نعيمِها... :»

ص: 228


1- خ 185 ، ص 270 .
2- خ 192 ، ص 298 .

وهذا تعبیر عن كثرة النعم وتشعبها فهي كالجدول.

«قد تَرَبَّعَتِ الأمورُ بهِمْ في ظلِّ سلطانٍ قاهر... »: وهو حكم الله تعالى، فهم التجأوا إلى سلطان يكون الحكم فيه لله وليس للأهواء أو رؤساء العشائر أو غيرهم.

«فهم حُكَّامٌ على العالمین، وملوكٌ في أطرافِ الأَرَضِین، يملكونَ الأمورَ على من كان يملكُها عليهم... لا تُغمَزُ لهم قناةٌ، ولا تُقْرَعُ لهم صَفاةٌ »: فبعد أن كانوا شراذمَ مفككین، نهبة الناهب وطعمة الطامع، أصبحوا حكامًا وملوكًا وكانوا محكومین ومملوكین، لا سيَّما وأن حديث الإمام (علیه السّلام) كان في زمنٍ كثرت فيه الفتوحاتُ، فيكون حديثه عن أمرٍ محسوسٍ يلاحظه الجميع، وبغض النظر عن شرعية الفتوحات وسلبياتها فإنها كانت باسم الإسلام ولذلك نجحت، فهي ليست نتيجةً لعبقريةِ أبي بكر وعمر وشجاعتهما! بل هي نتيجة لروح النبي وروح الإسلام المهيمنة في بداية الدعوة، وهذا الأمر نلاحظه حتى في زماننا هذا فنجد

في أقصى البلاد وشتى الأقطار وجودًا للمسلمين؛ وهذا كلُّه بفضل جهدِ النبيِّ وبركات دعوته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

ح) وقال (علیه السّلام)(1):

«جَعَلَهُ اللهُ بلاغًا لرسالتِه، وكرامةً لأُمَّتِه، وربيعًا لأهلِ زمانِه، ورِفْعَةً لأعوانِه، وشَرفًا لأنصارِه »: فكل فضل عاد للأمة من علم واطلاع على خیر السماء والملأ الأعلى، وواقع الدنيا وأخبار الماضین، وهذا التشريع والقانون الإلهي، إنما هو

ص: 229


1- خ 198 ، ص 315 .

ببركة دعوة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا مصداق الكرامة والرفعة والشرف.

عليكَ بأربابِ الصدورِ فمن يُرَى*** مضافًا لأربابِ الصدورِ تصدَّرَا

فإنما شرفهم كان لانتسابهم إليه ووجوده الشريف بينهم.

وكان زمانه ربيعًا خصبًا مميزًا، ولو أخذَ الناسُ بهديهِ من بعدهِ لعاشوا في ربيع دائم.

ط) وقال (علیه السّلام)(1):

«أَرْسَلَهُ بالضياءِ، وقدَّمَهُ في الاصطفاء، فَرَتَقَ بِهِ المفاتِق، وساورَ بهِ المُغالِبَ... »: أي رتق (سدَّ) به ما كان شائعًا من (مفاتق) وهي الفساد القائم.

«حتى سرَّح الضلالَ عن يمینٍ وشِمال »: نتيجة للغلبة والنصر المبین دحر الضلال فولى مهزومًا عن يمین وشمال.

ي) نعرض هنا نصين يمكن للطالب أن يراجع شرحيهما في كتب الشرح.

النص الأول(2):

«... على محمدٍ عبدِك ورسولِك الخاتمِ لما سبق » إلى قوله: «ورسولِكَ إلى الخلق .»

ص: 230


1- خ 213 ، ص 330 .
2- خ 72 ، ص 101 .

النص الثاني(1):

«فصدَعَ بما أُمِرَ به، وبلَّغَ رسالاتِ ربِّه » إلى قوله: «والضغائنِ القادحةِ في القلوب .»

ثالثًا: خاتمة

لا بأس أن نختم حديثنا بكلمة لأحد الفلاسفة المشهورين؛ وإن كنتُ -فيما أرى دائماً- أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أن نستعير كلمات فلاسفة أو مفكرين أجانب للتعريف بالنبي أو الإمام أو القرآن الكريم، فشواهد الصدق ودلائل الحق واضحة، وليس بعد قول الله تعالى قولٌ لقائل، ولكن نذكر هذه الكلمة على وفق

سیرة الناس وطبعهم وأنهم يرتاحون ويأنسون بمثل هذه الأمور.

فإن الكاتب العالمي الشهير برنارد شو يقول:

«إن محمدًا يجب أن يدعى منقذَ الإنسانية؛ وأعتقد أنه لو تولى رجلٌ مثلُه زعامةَ العالمِ الحديثِ لنجحَ في حلِّ مشاكلِه بطريقةٍ تجلِبُ إلى العالمِ السعادةَ والسلامة، إن محمدًا أكملُ البشرِ من السابقينَ والحاضرينَ، ولا يُتَصَوَّرُ وجودُ مثلِهِ في الآتین ». وقال أيضًا: «لو كان محمدٌ في القرنِ العشرينَ لقضى على ما فيه من

فسادٍ وضلال »(2).

ص:231


1- خ 231 ، ص 353 .
2- في ظلال نهج البلاغة، للشيخ محمد جواد مغنية 1/ 63 ، 355 .

ص: 232

25)الدرس العظيم

مدخل

قالَ اللهُ العظيمُ في محكمِ كتابِهِ الكريم:

«أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَومٍ يوقِنون»(1)

تحدثنا في الدروس الأخیرة الماضية عن الجاهلية وما كان عليه حال الأمم قبل الإسلام، وتحدثنا عن النجاح العظيم الذي حققه ذلك النور الإلهي المتمثل في دعوة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ويأتي هذا الدرس الأخیر في هذه السلسلة وهو ما وعدنا به من الحديث عن الدرس العظيم الذي نستلهمه ويجدر بنا أن نأخذ به من هذه السیرة المباركة، وقصة نجاح الدعوة، ونؤكد مجددًا أن هذا كله يدور في فلك كلمات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في هذا المجال، فقد تحدث (علیه السّلام) عما لاحظه من انقلاب الموازين، وضياع الأمة خاصة في الفترات الأولى لرحيل النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

أولاً: معنى الجاهلية

إن تحديد معنى الكلمة يمكِّننا من الفهم الصحيح لمدلولها، ونستعير هنا معنى الكلمة من حديث للعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه (بین الجاهلية والإسلام)، فقد قال: «والحقيقة أن الجاهلية اسم للضلال والانحراف عن المُثُلِ الصحيحة والمناهج المستقيمة لدى أي عنصر من الناس وفي أي موطن

ص: 233


1- سورة المائدة / 50 .

وأي زمان، فهي صفة لعالم ما قبل الإسلام كله بما فيه من عرب وغيرهم، وهي أيضًا صفة للمبادئ والمثل التي تبشر بها المادية المعاصرة على اختلاف مظاهرها وأشكالها »(1)، وبتعريف ملخص يذكر -حفظه الله تعالى- أن الجاهلية «منهج في الحياة مقابل ومضاد لمنهج الإسلام .»(2)

وكذلك يتحدث عن الجاهلية الحديثة ويرى أنها تتمثل في فلسفة وفكروحياة ونظام الإنسان الأوروبي فيما اختارَهُ من مَدَنِية وتنكَّرَ لجميع القيم والمبادئ، بل إن كل نمط يمارسه حتى المسلم أو المؤمن ويحمل في طياته مخالفة شرعية فإنه يرجع بالتالي إلى الجاهلية، والشيخ شمس الدين يستعين بالآيات القرآنية على هذا المدلول الواسع، وهذا نمط رائع لدراسة فكرة ما من ناحية موضوعية، بالتماس النصوص القرآنية والروايات ثم الخروج منها بنتيجة صحيحة.

ثانيًا: الدرس العظيم

رأينا في الدروس السابقة حديث الإمام (علیه السّلام) ومقارنته بین مظاهر الجاهلية ثم تبدل الحال بعد الدعوة المباركة للنبي الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ونحن نبني أمرنا في

الاعتقاد والفقه والتأريخ وفي سلوكنا وسائر شؤون حياتنا وفي عموم أبعادها على هذا الدين القويم الذي نؤمن به ونؤمن أنه أخرج الناس من ظلمات الجهل والجاهلية إلى نور العلم والهداية، ثم بعد ذلك ننظر واقعنا فإذا نحن نتنكر له ونغض الطرف عنه وهو النور الذي أبصرناه بل أبصرنا به، وهو مصدر سعادتنا وسر حياتنا الحقة، ولا شك أَنَّ تنكرَ أعداء الإسلام له هو جهل لأن ذلك حرمان

ص: 234


1- بين الجاهلية والإسلام/ 19 .
2- بين الجاهلية والإسلام/ 237 .

لهم من مصدر السعادة، فكيف بتنكُّرِ أبناءِ الإسلامِ للإسلام؟

هذا هو الدرس العظيم الذي يجب أن نناجي به أنفسنا وهذه هي نعمة الهداية التي ينبغي أن نلتفت لها ونصونها، وهذا هو التشريع الذي لولاه لكنا عبادًا للأصنام أو خاضعین لحكومات تعبث بمقدراتنا، وهذا هو التشريع الذي كان نتيجة الدعوة والبلاء العظيم الذي قدمه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، إذن فنحن جميعًا مدعوون لتقييم أنفسنا بعد هذا النجاح العظيم الذي حققته الدعوة حتى أذعن لها أهل الجاهلية فسعدوا بها، فلا يليق بنا أن يكون أهل الجاهلية أسعد منا ونحن الذين نشأنا منذ البداية على تعاليم الدعوة المباركة ثم بعد ذلك نتنكَّر لها ونعرض عنها ويكون ما أخذناه منها شيئًا يسیرًا لا يكاد يذكر في قبال ما تركناه منها.

ثالثًا: هكذا تحدث أمير المؤمنين (علیه السّلام)

أ) قال (علیه السّلام) عن مأساة ما بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«حتى إذا قَبَضَ اللهُ رسولَهُ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) رجَعَ قومٌ على الأعقاب، وغالتْهُمُ السُّبل،واتَّكَلُوا على الولائج، ووصَلُوا غیرَ الرَّحِم، وهَجُروا السببَ الذي أُمِرُوا بموَدَّته، ونقلوا البناءَ عن رَصِّ أساسِهِ فبنوهُ في غیرِ موضعِه »: فقد ارتدوا بعد النبي إلى

الجاهلية، وهذا مصداق قوله تعالى: «وما محمدٌ إِلاَّ رسولٌ قد خلتْ من قبلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ ماتَ أو قُتِلَ انقلبتُمْ على أعقابِكُمْ ومن يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ فلن يضرُّ اللهَ شيئًا وسيجزِي اللهُ الشاكرين»(2) .

ص: 235


1- خ 150 ، ص 209 .
2- سورة آل عمران / 144 .

ونتيجةً لهذا الرجوع غالتهم أي قتلتهم السبل وهي المذاهب والآراء والأهواء التي اتبعوها، ثم برزت مظاهر الانحراف فاتكلوا على الولائج وهي بطانة الرجل وخاصته ويقصد بهم من يدبرون المكر والخديعة، ثم وصلوا غیر الرحم الذي أمر الله به أن يوصل وهم رحم رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقطعوا بذلك صلتهم برسول الله الذي هو مصدر سعادتهم، وأما السبب فهو الحبل وهم العترة الذين أُمِروا بمودتهم وهذا إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: «قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَى »(1)، فقد هجروهم ونقلوا البناء الذي بناه النبي بأوامر إلهية،فوضع الإمامة في موضعها المهم في بناء الإسلام ولكن الناس أزاحوها وأبعدوها «فلعنَ اللهُ أمةً أَزَالَتْكُمْ عن مَراتِبِكُمُ التي رَتَّبَكُمُ اللهُ فيها .»

نقاش

ذكر ابن أبي الحديد عند شرحه لهذا النص الشريف(2) أنه إذا أطلقت كلمة (الرحم) كان المراد بها رحم الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تمامًا كما إذا أطلقنا عبارة (أهل البيت) فيَفْهَمُ منها المسلمون أنهم أهل بيت رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، أما السبب فمعناه الحبل

وهو إشارة إلى قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« إني تارِكٌ فيكمُ الثَّقَلینِ: كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي، حبلانِ ممدودانِ من السماءِ إلى الأرضِ وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ

الحوض .»

ثم يتساءل ابن أبي الحديد: هل في كلمات الإمام (علیه السّلام) هنا دلالة على موضوع الإمامة ونقد من تولى الحكم قبله، أو أنه ليس فيها ذلك، وكأنه يعترف بأن ظاهر

ص: 236


1- سورة الشورى / 23 .
2- نهج البلاغة 9/ 132 .

الكلام هو هذه الدلالة ثم يحاول أن يصرفه ويقول إن الإمام يعني أمر صفین والجمل وما فعلته مجموعة أخرى كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومروان بن الحكم وهذه الشاكلة، ثم يعترض على نفسه بأنه يفهم من كلام الإمام أنه يعني الأيام الأولى عقيب رحلة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ويجيب ابن أبي الحديد بأن الإمام (علیه السّلام) لعله كان يعلم بحقيقة أولئك وأنهم ليسوا مسلمين حقيقة بل ظاهرًا فقط ويعلم ما سيحدثونه من ضلال.

ومن المفيد مراجعة الفصل المتعلق بشرح هذا النص الشريف في كتاب (منهاج البراعة) للمیرزا حبيب الله الخوئي (رحمه الله) فإنه ناقش ابن أبي الحديد في هذا الموطن مناقشة دقيقة، فبینَّ المیرزا أن هذا خلاف الإطلاق وخلاف الظاهر من كلام الإمام (علیه السّلام) وفي ذلك تحميل للنص ما لا يحتمله، لا سيما وأن كلمات الإمام التي صرح فيها بنقده للقوم وتأذيه من أحداث السقيفة، تلتقي مع هذا النص الشريف.

«معادنُ كلِّ خطيئة، وأبوابُ كلِّ ضاربٍ في غَمْرة، قد مارُوا في الحَیرة، وذَهَلُوا في السَّكْرة، على سُنَّةٍ من آلِ فرعون: مِنْ مُنْقَطِعٍ إلى الدنيا راكِن، أو مُفَارِقٍ للدينِ مُبايِن :»

ثم يصف هؤلاء الذين عادوا للجاهلية عقيب ذلك النور والهداية والبلاء الحسن الذي أباه الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، فإن كان الأوائل معذورين لجهلهم فما عذر من أبصر نور الإسلام ثم ارتد عنه؟ فهم قد ركبوا كل غمرة (شدة) وماروا (اضطربوا) في الحیرة وذهلوا في السكرة وهي الغفلة التي أصابتهم، ثم يشبِّهُ

الإمام (علیه السّلام) ويقرن ضلالهم الجسيم بضلال آل فرعون، فهؤلاء بانصرافهم عن

ص: 237

النبوة والقانون الإلهي كآل فرعون المنكرين من الأساس للنبوة والقانون الإلهي، ثم يصنفهم هذا التصنيف: فهم بین (منقطع) قد جعل الدنيا همه الذي يركن إليه ولا يُعنى بالدين على الإطلاق، أو (مفارق) للدين ولم ينل مع ذلك شيئًا من الدنيا «خَسرِ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذلكَ هُوَ الخُسرْانُ المُبِینُ »(1).

ب) وأكَّد على الاستفادة من الدرس العظيم فقال (علیه السّلام)(2):

«ولا تكونوا كجفاةِ الجاهليةِ لا في الدينِ يتفقَّهون، ولا عنِ اللهِ يعقِلون،كقيضِ بيضٍ في أَداحٍ، يكون كسرُها وزرًا، ويخرِجُ حضانها شرًّا »:

تشبيهات الإمام (علیه السّلام) غیر مبتذلة بل هي تشبيهات أصيلة يبتكرها الإمام نفسه (علیه السّلام)، وقد اختلفت كلمات جملة من الشراح حول هذا النص الشريف، فيقول بعضهم إن الإمام يشبِّه الذي يحمل الفكر الجاهلي سواءً كان مؤمنًا منحرفًا

أو أهل الجاهلية أنفسهم بأنهم أمثلة شر في وجودهم، وهم تمامًا كمثل البيض الذي لا يعرف الإنسان هويته فقد يكسره وهو مفيد ويؤذي كائنًا وجوده خیر، وقد يتركه ليُحضن فيتضح بعد ذلك أنه يخرج شرًّا كأن يكون بيضَ أفاعٍ مثلاً،فلو قتل الجاهلي لربما كان ذلك وزرًا إذ ربما يهتدي، ولو ترك فقد يفسد وينشر

الدمار، وبالفعل لا يكشِفُ عن حال المرء إلا أفعاله ومواقفه، وهي لا تُعرف إلا بعد حین.

ج) وحذر من رموز الجاهلية وطغاته فقال (علیه السّلام)(3):

ص: 238


1- سورة الحج / 11 .
2- خ 166 ، ص 240 .
3- خ 192 ، ص 290 .

«ألا فالحذرَ الحذرَ من طاعةِ ساداتِكم وكبرائِكم! الذين تكبرَّوا عن حسبِهم، وترفَّعُوا فوق نسبِهم، وألقوا الهجينةَ على ربِّهم، وجاحَدُوا اللهَ على ما صنع بهم مكابرةً لقضائِه، ومغالبةً لآلائِه، فإنهم قواعدُ أساسِ العصبية، ودعائمُ أركانِ الفتنة، وسيوفُ اعتزاءِ الجاهلية :»

فإنهم دائمو الفخر بالأنساب (الاعتزاء)، فمن يركن إلى ذلك من المسلمين فإنه على نمط أهل الجاهلية.

د) وإن كان هذا النص خارج دائرة موضوعنا (الدرس العظيم)، إلا أن له ارتباطًا بالرجوع إلى الجاهلية بعد رحيل النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«وقال له بعض اليهود ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه! فقال (علیه السّلام) له: إِنّمَا اخْتَلَفْنا عنهُ لا فيه، ولكنَّكُمْ ما جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ البَحْرِ حتى قُلْتُمْ لنبيِّكُمْ اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ فقال إِنكم قومٌ تَجهَلُون »: وهذه المناظرة تسجل حقيقة أيضًا وهي أن الاختلاف في أمر الخلافة وسرعة الارتداد بعد الرسول كان مثارًا للانتباه والسؤال وموجبًا لشماتة وفرح أعداء الإسلام وعلى رأسهم اليهود، والإمام يجيبه هنا بأننا لم نختلف في شخصية النبي وفي وجوب الأخذ بما جاءنا به وامتثال أوامره، ولكن سبب الاختلاف كان ما نقله بعضهم كذبًا وافتراءً على النبي فأخذبه الناس ظنًّا منهم أنه صدر عن النبي، والإمام في نفس الوقت لم يدافع عن الذين سببوا الاختلاف والفتنة هنا، وقد صدر منه من النقد الصريح لهم ما هو معروف.

ص: 239


1- غريب كلامه (علیه السّلام) رقم 317 ، ص 531

ه) ويدخل في هذا السياق قوله (علیه السّلام)(1):

«إن أولى الناسِ بالأنبياءِ أَعْلَمُهُمْ بما جاؤُوا به، ثم تلا: «إِنَّ أَوْلَی الناسِ بإِبراهيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبيُّ والذينَ آمَنُوا »(2)، ثم قال: إِنَّ وليَّ محمدٍ مَنْ أطاعَ اللهَ وإِنْ بَعُدَتْ لْحمَتُه، وإِنَّ عدوَّ محمدٍ مَنْ عصا اللهَ وإِنْ قَرُبَتْ قرابتُه »: فإن

مصداق اتباع النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو الالتزام بأوامره ونواهيه، وأما غیر ذلك فهي الجاهلية.

نسأل الله أن يهدينا بهدايته وأن يوفقنا لاتباع نهج محمد وآله وسلوك طريقهم المستقيم.

ص: 240


1- الحكمة رقم 96 ، ص 484 .
2- سورة آل عمران / 68 .

26)الإسلام

مدخل

قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«إِنَّ الدِّينَ عندَاللهِ الإِسْلامُ »(1).

حديثنا الآتي يدور حول الإسلام كما تحدث عنه بطل الإسلام الأول أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في نهجه العظيم، ويقع هذا الحديث في حلقتین إن شاء الله تعالى، ففي هذا الدرس نستعرض أربع نقاط هي:

1) نسبة الإسلام وتعريفه.

2) ضلال البشر وحيرتهم إذا اتبعوا أهواءهم.

3) الله تعالى هو مصدر الدين، ودعامتا الدين هما الشهادتان.

4) محاسن الدين ومقاصده.

والعلاقة بن هذه النقاط وثيقة، لأن ضلال البشر هو باتباع أهوائهم وكون الله تعالى ليس مصدر الدين الذي يأخذون به، أما إذا كان الله تعالى هو مصدر الدين ففي ذلك الهدى والنجاة، ثم نعرض بعد ذلك لمحاسن الدين وتتمة لها

ص: 241


1- سورة آل عمران / 19 .

نستعرض في الدرس القادم إن شاء الله تعالى بعض تشريعات الإسلام.

أولاً: نسبة الإسلام وتعريفه

الإسلام بالمعنى اللغوي هو الاستسلام والانقياد والطاعة وتتمثل في الخضوع لهذا الدين العظيم، وفي الاصطلاح يقصد بالإسلام ما ينطبق على من شهد الشهادتين من أحكام ككونه طاهرًا تحل مناكحته وذبيحته وما إلى ذلك من أحكام، غیر أن المعنى الأعمق والأهم هو الإسلام الكامل الذي يرقى إلى عنوان الإيمان بمعنى أن يصل إلى مرتبة التطبيق العملي الكامل للإسلام في كل مناهجه التي تعود إلى الدين والدنيا وتتصل بالآخرة، وقد نسب الإمام (علیه السّلام) الإسلام نسبة بیّن أنه انفرد بها حيث عرَّف الإسلام التعريف الكامل، وذلك قوله (علیه السّلام)(1):

«لأنسِبَنَّ الإسلامَ نِسْبةً لم ينسِبْها أحدٌ قبلي، الإسلامُ هو التسليم، والتسليمُ هو اليقین، واليقینُ هو التصديق، والتصديقُ هو الإقرار، والإقرارُ هو الأداء، والأداءُ هو العمل .»

وهذه نسبةٌ خاصة وصلت كما بينَّا إلى مرتبةِ التطبيق العملي الكامل للإسلام، فقد شمل مسمى (مسلم) كلَّ من أظهر الشهادتين ولو كان منافقًا، فبظاهر الشهادتين تجري عليه أحكام الإسلام، وهذه هي النسبة العامة، أماالنسبة الخاصة فهي التي تصل إلى أعماق الإنسان فيكون بداية هذه النسبة (التسليم) كقاعدة أولية بالانقياد لله تعالى في كل ما أمر ونهى، ثم هذا التسليم لا يراد منه أن لا يتجاوز اللسان، بل يراد منه يقین يخالط القلب وينفذ في الأعماق، وإلا فهو لفظ وقشر لا لبَّ فيه، وإن كان هذا التلفظ يحقن دم الإنسان ويجري عليه

ص: 242


1- الحكمة رقم 125 ، ص 491 .

حكم (المسلم)، ثم يترقَّى الإمام ليبیّن أن هذا اليقین لا بد وأن يعني التصديق لا سيما فيما لا يفقه الإنسان سره ولا يعرف حكمته، فيصدِّق مع هذا به لأنه تنزيل من عزيز حكيم، ثم إن هذا التصديق يرقى إلى مرحلة (الإقرار) والاعتراف، ثم إلى الالتزام و(الأداء) الذي هو وظيفة كبیرة جدًّا تتطلب (العمل) فيكون عمل

الإنسان وشعوره وفكره كاشفًا لما في أعماقه من تصديق وإقرار.

إذن فقد أراد الإمام (علیه السّلام) هذه النسبة الخاصة ولم يرد النسبة التي يتعامل بها الناس بالعنوان الأولي العام للإسلام.

ثانيًا: ضلال البشر وحيرتهم إذا اتبعوا أهواءهم

تحدث الإمام (علیه السّلام) عن أن البشر حین يفقدون مرشدًا وهاديًا، ويفقدون نظامًا ودينًا، فإن كلًّ منهم يتخذ من نفسه إمامًا، ومن هواه قائدًا، وهذا يعني التخبط في دياجیر الضلال.

فقد قال (علیه السّلام)(1):

«فيا عجبًا! وما لي لا أعجبُ من خطإِ هذه الفرقِ على اختلافِ حُجَجِها في دينِها! لا يقتَصُّونَ أَثَرَ نبيٍّ، ولا يقتدُون بعملِ وصيٍّ، ولا يؤمنونَ بغيب، ولا يعِفُّونَ عن عيب، يعملونَ في الشبهات، ويسیرونَ في الشهوات، المعروفُ فيهم ما عَرَفُوا، والمنكرُ عندهم ما أَنْكَرُوا .»

نلاحظ أن الإمام (علیه السّلام) يلتفت إلى الضلال والحیرة التي تحل بالبشر حينما يتبعون أهواءهم ويشیر إلى أن ذلك مثار العجب حيث أنهم متنوعون ومختلفون في الحجج

ص: 243


1- خ 88 ، ص 121 .

ومع ذلك فهم على خطإ، و «كلُّ حزبٍ بما لديهِمْ فَرِحُون »(1)، بل كل فرد من هؤلاء يبني لنفسه من هواه دينًا يتبعه ويغض الطرف عن اتخاذ قدوة صالحة من (نبي) أو (وصي) يكون له مرشدًا وهاديًا فيما يتعلق بالدين والدنيا، وهم ينكرون ما لا يوافق هواهم أو ما لم تصل عقولهم إليه فهم (لا يؤمنون بغيب)، ولذلك تنحرف مسیرتهم في الأمور الاعتقادية والعبادية ف (لا يعفُّونَ عن عيب) سواء لأنهم لا يميزون العيب من غیره، أو يعرفونه ولكن أهواءهم تدعوهم إلى ممارسته دون مبالاة، بل يستمرون في (الشبهات) فلا يهتدون، وينقادون خلف (الشهوات) فيضلُّون.

ونتيجةً لإِقصاء التربية الإلهية تتبدل مصاديق (المعروف) و(المنكر)، وذلك ما يلاحظ في حياة الشعوب على مر التأريخ من أعراف وممارسات خاصة خاطئة ولكنها أعراف لا يمكن أن تمحى عندهم، وعلى سبيل المثال يُعَدُّ معروفًا عند بعض الشعوب أن المرأة يجب أن لا تتحجب لأن الحجاب حَجْبٌ للجمال وهذا لا يليق، وهم بذلك يغفلون عما هو أهم من ذلك وهي المفاسد والأضرار التي

تترتب على إقصاء الحجاب، وإقصاء التعاليم الإلهية بشكل عام.

«مفزَعُهُمْ في المُعضِلاتِ إلى أَنْفُسِهِم، وتعويلُهُم في المهِماَّتِ على آرائِهم، كأنَّ كلَّ امرئٍ منهم إِمامُ نفسِه، قد أخذَ منها فيما يرى بعُرًى ثِقَاتٍ، وأسبابٍ مُحكَماتٍ .»

فإن ما تقدم من انحراف يقطع ارتباطهم بالله تعالى فلا يتوكلون عليه أو يفزعون إليه عند الشدائد وفي أخذ الأحكام (كأنَّ كلَّ امرئٍ منهم إِمامُ نفسِه) ويرى وثاقة ما يتمسك به من رأيه وأن سببه محكم حتى ولو لم يتصل بالله تعالى،

ص: 244


1- سورة (المؤمنون) / 53 .

وهذا هو الضلال؛ فإن اختلاف وجهات النظر قائم، فلو كان كل شخص يعالج كل قضية تعرض له برأيهِ هو لضلَّ وأضل وهذا مما يلاحظ بالوجدان في حياة الناس وقد «ضلَّ مَنْ ليسَ لهُ حكيمٌ يُرْشِدُهُ »(1).

ثالثًا: الله تعالى هو مصدر الدين ودعامتا الدين هما الشهادتان

وهذه الحقيقة هي من مقومات الدين إذ أنه يستند إلى الله تعالى وهو الذي ارتضاه «إِنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلامُ »، وليس هنا من نقطة فراغ فإن الله الذي خلق هو الذي شرع وخالق الطبيعة هو واضع الشريعة، فهو تعالى مصدر الدين، وما الأنبياء والرسل والأئمة (علیهم السّلام) إِلاَّ مبلِّغون عن الله تعالى يوصلون للناس تشريعه الأعظم ولذلك اختارهم معصومین يتجلّى فيهم الكمال البشري في أروع صوره،وقد جُعِلَ لهذا الدينِ دعامتان، وهما: التوحيد (الشهادة الأولى) والنبوة (الشهادة الثانية)، وقد ركز الإمام (علیه السّلام) على هذه الحقيقة، وأنه بدون الشهادتين لا يكون هناك وجود للدين.

ومن ضمن حديث الإمام (علیه السّلام) حول استناد الدين في مصدره إلى الله تعالى قوله (علیه السّلام)(2):

«وأنزل عليكم الكتابَ تبيانًا لكلِّ شيء، وعمَّرَ فيكم نبيَّهُ أزمانًا، حتى أكملَ له ولكم -فيما أنزل من كتابِهِ- دينَهُ الذي رضيَ لنفسِه، وأنهى إليكم -على لسانِهِ- محابَّهُ من الأعمالِ ومكارهَه، ونواهيَهُ وأوامرَه .»

ص: 245


1- عن أمير المؤمنين (علیه السّلام). الفصول المهمة في معرفة الأئمة 2/ 859 .
2- خ 86 ، ص 117 .

فالله تعالى هو المصدر الذي أنزل (الكتاب) وأكمل (دِينَه) وهذه نعمة ومنة عظيمة، وأوصل إلى الناس (أوامرَهُ ونواهيَه) ولكن عن طريق النبي و(على لسانِه)، فإن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو القائم بأمر الدين، وقد عاش بین الناس (أزمانًا) ينفِّذُهُ

ويطبِّقُه ويكون قدوةً للناس في كل أمر فيعلمهم أحكام الحرب والسلم وجميع العبادات كالصلاة، والمعاملات كالتجارة، وغیر ذلك، وتكامل الدين لا يكون إلا بوجود التشريع المعصوم وهو القرآن الكريم ووجود من يقوم بأمره، ومن هنا تبرز الحاجة إلى الإمامة المعصومة امتدادًا للنبوة المعصومة، وهذا ما أشار له الإمام

(علیه السّلام) في النص السابق.

وقد تحدث الإمام (علیه السّلام) عن الحقيقة الأخرى وهي أن الشهادتين (التوحيد والنبوة) هما دعامتا الإسلام، فمن ضمن ذلك قوله (علیه السّلام)(1):

«أما وصيتي: فاللهَ لا تشركوا به شيئًا، ومحمدًا (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلا تُضيِّعُوا سُنَّتَه، أقيموا هذينِ العمودين، وأوقدوا هذينِ المصباحین، وخَلاكُم ذَمٌّ، ما لم تشرُدُوا .»

والتعبیر الرائع للإمام (علیه السّلام) هو أنه قدَّمَ المفعول به (اللهَ: لفظَ الجلالة، ومحمدًا) فجعله في صدر الكلام لبيان أهميته وشدِّ انتباه السامع، فقال: (فاللهَ) فينتظر السامع ما يُلقَى عليه من حكم يتعلق بهذا اللفظ العظيم، فيقول: (لا تشركوا به شيئًا)، ثم يعطف بقوله: (ومحمدًا (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ))، (فلا تُضيِّعُوا سُنَّتَه)، فلا تضيعوا شريعته والتعاليم التي جاء بها، وهذا تأكيد على اقتران النبوة بالتوحيد وعدم الاستغناء بالقرآن الكريم وحده، والخطأُ الفادح في قول القائل: حسبنا كتاب الله، فإن كتاب الله نفسه يحكم بكذب هذه المقولة وضلالها وأنه لا بد من السنة مع

ص: 246


1- خ 149 ، ص 207 .

الكتاب بقوله تعالى: «وما آتاكمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنهُ فانْتَهُوا »(1).

ثم جمعها الإمام (علیه السّلام) وأمر بإقامتها فهما للدين كالعمودين للخيمة لا تقوم بدونهما، وهما مصباحان يجدر بالناس أن يوقدوهما ليتبيَّنوا طريق الحق، ثم يعبّرالإمام (علیه السّلام) تعبیرًا رائعًا بقوله: (وخلاكم ذَمٌّ) أي أنكم بتمسككم بالكتاب تكونون

بعيدين عن الذم وتكون أعمالكم محمودة ولكن بشرط: (ما لم تشرُدُوا).

رابعًا: محاسن الإسلام ومقاصده

أفاض الإمام (علیه السّلام) الحديثَ عن كثیرٍ من محاسن الإسلام وآثاره المباركة التي تعود على البشر بكل خیر في دنياهم وآخرتهم، ونأخذ هنا ثلاثة نصوص في هذا المجال.

النص الأول: قوله (علیه السّلام)(2):

«الحمدُ لله الذي شَرعَ الإسلامَ فسهَّلَ شرائعَهُ لمن وَرَدَهُ، وأعزَّ أركانَهُ على مَنْ غَالَبَهُ »: فهذا الدين بحكم انتمائه إلى الله تعالى له عزة، وبمقتى العزة يكون غالبًا منتصرًا، وبالفعل لم يكن يدور في خاطر أحد أن هذا الدين بإمكانياته المحدودة ينجح، وكان من المنتظر أن يوأَدَ في مهده فإذا به ينتصر وتدخله الناس أفواجًا

بمرور الزمن، بل يعطي وعدًا للمستقبل بأنه سيَظهَرُ على كل الأديان ويكون له الحكم المطلق «لِيُظْهِرَهُ على الدينِ كلِّهِ ولو كَرِهَ المُشْركُونَ »(3).

ص: 247


1- سورة الحشر / 7.
2- خ 106 ، ص 153 .
3- سورة التوبة / 33 ، وسورة الصف / 9.

«فجعلهُ أَمْنًا لمن عَلِقَهُ، وسِلْمًا لمن دخلَهُ، وبرهانًا لمن تكلَّمَ به، وشاهدًا لمن خاصمَ عنه، ونورًا لمن استضاءَ به... »: فمن علِقه (تعلق به) فإنه يكون له أمنًا وسلمًا، ومن أخذه بوعيٍ فإنه لا يُغلَبُ في حجة لأن حجته مستندة إلى حجة الله تعالى وللهِ «الحُجَّةُ البالِغَة »(1)، وجعله الله تعالى شاهدًا لمن خاصم به أو عنه، ونورًا يستضاء به لأنه هدي الله تعالى.

«وراحةً لمن فوَّض »: لأن من يستشعر أن كل شيء بيد الله تعالى وأنه المالك الذي أعطاه ما أعطى ومنعه ما منع، فإنه يفوض الأمر كله لله تعالى فيكون في راحة.

«وجُنَّةً لمن صبر »: أي وقاية في الدنيا والآخرة لمن صبر عن المحرمات وصبر على الطاعات وصبر في الشدائد.

«فهو أبلجُ المناهِجِ، وأوضحُ الولائِجِ، مُشرْفُ المنارِ، مُشرْقُ الجَوَادِّ، مُضيءُ المصابيحِ، كريمُ المِضْارِ، رفيعُ الغايةِ، جامعُ الحَلْبَةِ، متنافِسُ السُّبْقَةِ، شريفُ الفُرْسانِ... .»

طُرُقُ الإسلام (مناهجه) هي أشد الطرق ضياءً (أبلج). والولائج هي البطانة والخاصة والمعنى أن أموره أكثر الأمور وضوحًا وكذلك الجوادُّ (جمع جادة وهي الطريق الواضح) مشرقة مضيئة، وهذه الأوصاف حقائق في تشريع الإسلام الذي يؤخذ من مصادره الصحيحة التي تمثله، وليس ما يؤخذ من ممارسات المسلمين فإنها مع بالغ الأسف شيء آخر، فلهذا من الخطإِ أن يُحكَمَ

ص: 248


1- سورة الأنعام / 149 .

على الإسلام بأفعال المسلمين إذ تصدر منهم أفعال غیر إسلامية، وأما قوله (علیه السّلام): شريف الفرسان، فهو يهيب بالملتزمین بالإسلام أن يستشعروا هذا الشرف وهذه النعمة بكونهم فرسان الدين.

«والموتُ غايتُه... »: وهذه العبارة لها معنيان محتملان وهما متقاربان أيضًا: الاحتمال الأول أن يكون المعنى أنه لا تكليف بعد الموت، والاحتمال الثاني أنه من مقوِّمات الدين تأكيده على أنه لا خلود في الحياة فينبغي للإنسان أن يتزود بفعل الصالحات ما دام يعتقد بالآخرة.

«والجَنَّةُ سُبْقَتُه »: فهي الجائزة بعد كل هذا التسابق في الدنيا، وأَعْظِمْ بها من جائزة فيها ما لا عین رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

النص الثاني: هو قوله (علیه السّلام)(1):

«إِنَّ اللهَ تعالى خصَّكم بالإسلامِ، واستخلصَكم له، وذلك لأنه اسمُ

سلامةٍ... »: وهذا تشريف لمن ظهر نور الإسلام بينهم وإن كان للبشر جميعًا، وقوله (علیه السّلام): (اسم سامة)، وصفه الشرُّاحُ بأنه تعبیر من أروع وأجمع التعبیرات فهو سلامة في الدنيا والآخرة، وسلامة للجوارح والفكر والمشاعر.

«قد أحمى حماه... »: أي صان الله تعالى دينه وجعل له حمًى وحدودًا لا يتعداها العباد.

النص الثالث: هو قوله (علیه السّلام)(2):

ص: 249


1- خ 152 ، ص 212 .
2- خ 198 ، ص 313 .

«ثم إنَّ هذا الإسلامَ دينُ اللهِ الذي اصطفاهُ لنفسِه... .»

هذا التعبیر هو من أروع التعابیر فقد جاء أن الله تعالى مكَّنَ العباد من التشبُّه به أي التأدُّب بآدابه المتمثلة في الإسلام الذي اصطفاه الله لنفسه فيدلل على آدابه، وهذا غاية الحث على التوجه إلى الكمال والسمو، فلا يليق بعد ذلك الاقتداء بالبهائم في عموم الممارسات.

«أذلَّ الأديانَ بعزَّتِه »: والمقصود إن كانت الأديان السماوية أنه نسخها، أو المقصود الأديان الوضعية وأنه أذلها بغلبته عليها.

ص: 250

27)الإسلام والحياة

مدخل

قالَ اللهُ العظيمُ في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللِّه الْإسْلامُ »(1).

«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ »(2).

تتميماً للحديث السابق نتحدث في هذا الدرس عن أمور تتعلق بتشريعات الإسلام، وهذه الأمور هي:

1) جامعية هذا الدين لكل الفضائل، ومن ذلك ما هو محض تعبد وتعليم خاص من الله تعالى يتعلق بجملة من العبادات.

2) حاجة الدين إلى الجماعة.

3) إنذار بالشر لترك المسلمين الإسلام والعواقب الوخيمة من وراء ذلك.

أولاً: جامعية الإسلام لكل الفضائل

وأداءً لحق البحث ينبغي أن نعرف أن استيفاء النصوص حول جامعية الإسلام للفضائل سواء ما يتعلق بالاعتقاد أو بالعبادات والمعاملات أو الأخلاق-

ص: 251


1- سورة آل عمران / 19 .
2- سورة آل عمران / 85 .

يحتاج إلى توسع كبیر لا يسعنا في هذا الدرس بطبيعته، ولذلك نجدد الدعوة لقراءة هذا النهج الخالد للاطلاع الواسع على جوانب جامعية الإسلام لكل الفضائل، ونأخذ هنا نماذج لما ذكره الإمام (علیه السّلام) حول هذه الجامعية.

أ) قال (علیه السّلام) متحدثًا عن مصدر الإسلام(1):

«أمْ أنزلَ اللهُ سبحانهُ دينًا ناقصًا فاستعانَ بهم على إتمامِه! »: حديث الإمام (علیه السّلام) هنا ينعى فيه على العلماء اختلافهم في الفتوى ويذمُّ اختلاف أهل الرأي الذين لا يعوِّلون على المقاييس الصحيحة ولا يأخذون العلم من مصادره، ويبیّن قبال

ذلك أمر الإسلام وكماله وجامعيته للفضائل.

«أمْ كانوا شركاءَ لهُ فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟ »: فالتشريع إنما هو من الله تعالى وحده فهو الحكيم العليم بما يصلِحُ البشر، فعلى الناس أن يرضَوا ويسلِّموا، فلا تنقلب الموازين بعد ذلك لتغیر هذه الحقيقة الجوهرية، فالعمل بالهوى والقياس والظنون يغیّر الحقائق ويصرف عن الحق «فَماَذَا بَعْدَ الَحقِّ إِلَّا الضَّلاَلُ »(2).

«أمْ أنزلَ اللهُ سبحانهُ دينًا تامًّا فقصَّرَ الرسولُ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن تبليغِهِ وأدائِه »: وهذا استفهام إنكاري من الإمام (علیه السّلام) أن يُظَنَّ أن التقصیر من الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، ثم يَستدل الإمام بالقرآن الكريم لمن يؤمن به ويعتقد أنه تشريع إلهي، بقوله (علیه السّلام):

ص: 252


1- خ 18 ، ص 61 .
2- سورة يونس / 32 .

«واللهُ سبحانهُ يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِی الْكِتَابِ مِنْ شَیءٍ»(1)، وفيه تبيانٌ لكلِّ شيء(2)، وذكرَ أنَّ الكتابَ يصدِّق بعضُهُ بعضًا، وأنه لا اختلافَ فيه فقالَ سبحانه: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَیرْ اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِیرًا »(3): فهو محكم لا يناقض أو يخالف بعضه.

«وإنَّ القرآنَ ظاهرُهُ أنيق، وباطنُهُ عميق، ولا تفنى عجائبُه، ولا تنقي غرائِبُه، ولا تُكشَفُ الظلماتُ إلاَّ به »: فظاهر القرآن الكريم أنيق (حَسَنٌ معجِب) وهذا تعبیر عن بلاغته وحسنه، وباطنه عميق، ولهذا قال الله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللُّه وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ »(4)، ولا تفنى عجائبه؛ فكلما ازداد الإنسان فكرًا وتأماً اكتشف أسرارًا وعجائبَ في قرآن الله الكريم.

إذن نستفيد من حديث الإمام (علیه السّلام) حول اختلاف أصحاب الرأي وحديثه عن دعامة الإسلام الأولى القرآن الكريم وإشارته إلى كفاءة المبلِّغ الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

نستفيد من كل ذلك جامعية الإسلام للفضائل.

ب) وتحدث عن مكانة الإيمان فقال (علیه السّلام)(5):

«إِنَّ أفضلَ ما توسَّلَ به المتوسِّلونَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى الإيمانُ به وبرسولِه .»

يعرض الإمام (علیه السّلام) جملة من التشريعات لا بنحو الحصر، وإن كانت هذه

ص: 253


1- سورة الأنعام / 38 .
2- قوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شْیءٍ ». سورة النحل / 89 .
3- سورة النساء / 82 .
4- سورة آل عمران / 7.
5- خ 110 ، ص 163 .

التشريعات بمكان من الأهمية البالغة وهي أساس مهم في تشريع الإسلام، وقد قدَّم الإمام حديثه وووصفها بأنها أفضل ما يتوسل به المتوسلون ويقربهم إلى الله تعالى زلفى، فالأمر الأول منها الإيمان بالله وهو الدعامة الأولى، والتعبیر بالإيمان مرتبة أخرى فوق مجرد إظهار التوحيد، ويعني الاعتقاد الصحيح الراسخ

والالتزام الكامل، ثم ذكرَ النبوة (الدعامة الثانية) للإسلام.

بعد ذلك أشار الإمام إلى تشريعات على جانب كبیر من الأهمية ولكلٍّ خصائصه وفضله؛ فقال (علیه السّلام):

«والجهادُ في سبيلِه، فإنهُ ذروةُ الإسلام «: والوجدان أعظم برهان على ذلك؛ فإن هذا الدين لو لم تكن له قوة تحميه لكان ضائعًا لأنه لا حقَّ إلا بالقوة، وليس يعني هذا اعتماد الدين على السيف وإلزامه الناس بالقوة والإيذاء فهذا ليس من الدين في شيء، بل القوة سبب لحفظ الدين من جانب، ولتطبيق أوامره على

الناس من جانب آخر، ولذلك احتاج الدين فيما احتاج إلى نصرة أبي طالب (علیه السّلام) خاصة في الظروف الحرجة لبداية الدعوة، واحتاج في كل أدواره وحتى كانت له الغلبة والنصر إلى سيف بطل الإسلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، فقد كان هناك فئات لم تكن تذعن وتنقاد للدين، ولم يكن للدين أن يبقى ويدافع عن نفسه لولا قوة الجهاد، وهذا مظهر من مظاهر حاجة الدين إلى الجماعة كما سنتحدث -إن شاء الله تعالى- في النقطة الثانية.

«وكلمةُ الإخلاصِ فإنها الفطرة »: التي فطر الله الناس عليها.

«وإقامُ الصلاةِ فإنها المِلَّة »: وليس نمط النهج مخالفًا لنمط القرآن الكريم، وليس النهج كالمؤلفات الأخرى في تنظيمه وجهات بحثه، بل هو يعرض

ص: 254

لموضوعات عدة وأمور كثیرة في عبارات قصیرة، ويذكر الإمام هنا أن مفهوم الملَّة لا يكون له مصداق في الخارج إِلاَّ بإبراز إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة شيء فوق أدائها، فالإقامة تعني الإتيان بها في حدودها وبشروطها المعينة والتأثر بعطائها، ومن ذلك الخطاب للمعصوم (علیه السّلام) في بعض الزيارات: «أشهد أنك قد أقمتَ

الصلاة »، فمن يؤدي الصلاة كثیرون، ولكن لا يقيمها إلا أهلها العاشقون لها العارفون بها.

«وإِيتاءُ الزكاةِ فإنها فريضةٌ واجبة »: وهذا التشريع يدخل في محاسن الإسلام كا يدخل في جامعيته، فبعد أن ذكر الإمام (علیه السّلام) ما به حفظ الدين وهو الجهاد،وذكر جانبًا روحيًّا من التشريع وهو الصلاة- يذكر هنا جانبًا ماديًّا يتعلق بالحياة واقتصاد الأمة، وفي ذلك ما لا يخفى من إعانة المحتاج والقضاء على الفقر الذي يكاد يكون كفرًا.

«وصومُ شهرِ رمضانَ فإنهُ جُنَّةٌ من العقاب »: فامتناع الإنسان عن الطيبات المباحة طاعة لله تعالى وتقربًا له يوجب له غفران الذنب والأمن من عقاب الآخرة.

«وحجُّ البيتِ واعتمارُهُ فإنهما ينفيانِ الفقرَ ويرحَضَانِ الذنب »: ولا يخفى أن في هذه العبارات مجالً واسعًا جدًّا للحديث عن أسرار التشريع وجوانب الحكمةالبالغة في التشريعات، وهذا الدرس بطبيعته ومحدودية وقته لا يسع للتوسع كثیرًا في ذلك إلا أننا نأخذ القدر اللازم الذي يفي بالغرض، فالإمام (علیه السّلام) يشیر هنا إلى علاقة بعض التشريعات الدينية بخیر الدنيا أيضًا، وهذه العلاقة هي من الأسرار وإن كان لها بعض الجهات الظاهرة كالتجارة التي تحصل في الحج فيكون بسببها

ص: 255

نفي للفقر، وإلا فالسبب أن لمثل هذه العبادة الجليلة المهمة خصوصية في استمطار الرزق وإنمائه وبركته، كما أن الحج والعمرة يرحضان (أي يغسلان ويزيلان) الذنب.

ثم يعطف الإمام على جهة أخلاقية وإنسانية يؤكد عليها في ضمن حديثه عن أركان الدين ودعائمه وتشريعاته الكبیرة، فيقول (علیه السّلام):

«وصِلَةُ الرحِمِ فإنها مثراةٌ في المالِ، ومنسأةٌ في الأَجَلِ »: وهذه أيضًا خصوصية لهذا التشريع بطبعه، ولعل من الروابط بین الأمرين أن إطالة العمر سبب في استحصال الرزق ونماء المال.

«وصدقةُ السرِّ فإنها تكفِّرُ الخطيئة، وصدقةُ العلانية فإنها تدفعُ مِيتةَ السوء :»

وهذه دعوة إلى العمل وخاصة التصدق في السر والعلانية ولكلٍّ مميزاته وفضله، وبالإضافة إلى ما ذكر هنا فإن صدقة العلانية فيها دعاية لها وحث الناس عليها، ولهذا كان الإمام الرضا (علیه السّلام) يأمر ولده الإمام الجواد (علیه السّلام) وهو بعد غلام أن يخرج من مسجد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مارًّا بالشارع العام ويكون عنده المال حتى يراه المحتاجون

فيعطيهم فيسدُّ حاجتهم ويكون بذلك إشاعة للصدقة وحثٌّ عليها.

«وصنائعُ المعروفِ فإنها تقِي مصارعَ الهوان »(1): وهذه كلمة جامعة للمعروف وإن له أثرًا في إبعاد الهوان والذل عن الإنسان في حياته وعند مماته.

ج) وتحدث الإمام (علیه السّلام) عن الصلاة وموقعها(2):

ص: 256


1- وعن الإمام الصادق (علیه السّلام):« صنائع المعروف تقي مصارع السوء ». وسائل الشيعة 11 / 522 .
2- خ 199 ، ص 316 .

«تعاهَدُوا أمرَ الصلاة، وحافِظُوا عليها، واستكْثِرُوا منها، وتقرَّبوا بها، فإنها «كانتْ على المؤمنینَ كتابًا موقوتًا »1(1)، ألا تسمعونَ إلى جوابِ أهلِ النارِ حین سُئِلوا: «ما سَلَكَكُمْ في سَقَرٍ * قالوا لم نَكُ من المصلِّین »(2)، وإنها لتَحُتُّ الذنوبَ حتَّ الورق، وتطلقُها إطلاقَ الرِّبَق، وشبَّهها رسولُ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالحَمَّةِ تكونُ على

بابِ الرجل، فهو يغتسلُ منها في اليومِ والليلةِ خمسَ مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟... .»

في هذا النص الشريف بيان لأهمية الصلاة وأنها تقربٌ إلى الله تعالى، وقد ورد عن الإمام الرضا (علیه السّلام):« الصلاةُ قربانُ كلِّ تقي »(3)، وكذلك يبن الإمام (علیه السّلام) عقوبة تاركها ودورها في مغفرة الذنوب وأنها تحتُّها كالورق وتطلقها كالربق (الحبال)، ومَثَلُها كالحَّمة وهي المياه المعدنية الحارة أو مطلق المياه الحارة التي بطبيعتها تنقي البدن مما يعرض له من الدرن أي القذارة والوسخ، وفي هذا التشبيه لا يُقصَدُ طهارة البدن فقط، فالصلاة تتطلب الوضوء أو الغسل وفي هذا طهارة للبدن،ولكن الطهارة بالصلاة تشمل طهارة الروح فتزيل ما يحول بينها وبین الخشوع والخضوع لله تعالى من الذنوب وأمراض النفس.

ثم تحدث عن الزكاة بقوله (علیه السّلام):

ص: 257


1- سورة النساء / 103 .
2- سورة المدثر / 42 - 43 .
3- الكافي 3/ 265 .يمكن مراجعة نصوص أخرى حول النقطة الأولى فمن ذلك: الخطبة رقم 1، ص 45 ، والحكمة رقم 152 ، ص 512 ، وتمام النص في ص 316 و 317 .

«ثم إن الزكاةَ جُعِلَتْ مع الصلاةِ قربانًا لأهلِ الإسلام، فمن أعطاها طيبَ النفسِ بها فإنها تُجعَلُ له كفارةً، ومنَ النارِ حجازًا ووقاية، فلا يتبِعَنَّها أحدٌ نفسَه، ولا يُكثِرَنَّ عليها لهَفَه... »: والتعبیر بِ (أهلِ الإسلام) أسلوب رائع وله دلالة مهمة في أن من يدع أمر الزكاة فقد خرج على الأقل عن مظهر الإسلام، ثم يعالج الإمام (علیه السّلام) قضية من أشد القضايا وهي حرص الإنسان على المال واعتباره إياه سرَّ حياته ووجوده، وأن نتائج ذلك الحرمان من الأجر والندم نتيجة لمنع الزكاة أو إعطائها بغیر طيب نفس.

د) وفي واحدة من روائعه تحدث حول آثار بعض العبادات فقال (علیه السّلام)(1):

«وعن ذلك ما حرَسَ اللهُ عبادَهُ المؤمنین بالصلواتِ والزكوات، ومجاهدةِ الصيامِ في الأيامِ المفروضات، تسكينًا لأطرافِهم، وتخشيعًا لأبصارِهم، وتذليلاً لنفوسِهم، وتخفيضًا لقلوبِم، وإذهابًا للخُيَلاءِ عنهم... »: وفي ذلك بيان لبعض أوجه الحكمة المهمة من بعض العبادات وأثرها على الجوارح وكذلك أثرها العظيم على الجوانح.

ثانيًا: حاجة الدين للجماعة

وقد يكون هذا التعبیر غريبًا باعتبار أن المعروف لدينا أن الجماعة بل كل البشر تحتاج إلى الدين فيضمن سعادتها ونجاتها، فما معنى أن الدين بحاجة إلى الجماعة؟! والجواب أن الدين مجموعة من المعارف والتشريعات التي لو كانت مقتصرة على وجودها في كتاب مقدس أو مقتصرة على فئة معينة من حملة الدين

المؤمنین به لما استفاد منها البشر، فلا بد إذن من جماعة تأخذ على عاتقها نصرة

ص: 258


1- خ 192 ، ص 294 .

الدين وتقوم بتنفيذه بین الناس وتبلغه ليكون دينًا لهم، ولا يعني هذا -بالطبع-حاجة الله تعالى للبشر بل يعني أن أمر الدعوة يحتاج إلى من يقوم به ويدافع عنه كما أشرنا إليه في النقطة الأولى حول موضوع الجهاد.

ومن النصوص حول هذه النقطة قوله (علیه السّلام)(1):

«ولقد كنا مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) نقتل آباءَنا وأبناءَنا وإخوانَنا وأعمامَنا، ما يزيدُنا ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، ومُضيًّا على اللَّقَم، وصبرًا على مضَضِ الألم وجِدًّا في جهادِ العدو.... »: وفي الواقع إن هذا الحديث مثیر وهو يكشف عن مدى تغلغل الإسلام في نفوس من آمن به وفضلهم في وصوله إلينا، وإن كان مصدر الفضل هو الله تعالى، وللرسول ولأمیر المؤمنین -عليها وآلهما السلام- الفضل الأكبر في ذلك.

وهو هنا يتحدث عن وضع المسلمين بشكل عام يوم آمنوا بالإسلام وتقدموا لأجله في ساحات الجهاد، مسلِّمين ماضین على اللَّقم وهي جادة الطريق أو معظمه، والمقصود طريق الحق الواضح.

«فلما رأى اللهُ صدقَنا أنزلَ بعدوِّنا الكبْت، وأنزلَ علينا النصرَ، حتى استقرَّ الإسلامُ ملقيًا جِرَانَه، ومتبوئًا أوطانَه، ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدينِ عمودٌ... »: فالصدر الأول الذين شيدوا دولة الإسلام لهم الفضل في قيامه بها، حتى ألقى الإسلام جِرَانه وهذا التعبیر في معناه الأولي هو إلقاء البعیر منحره

(جِرَانَه) على الأرض تعبیرًا عن استقراره واطمئنانه، والمعنى المجازي هنا استقرار

ص: 259


1- خ 56 ، ص 91 - 92 .

الإسلام، والإمام في معرض المقارنة بین جيش الرسول وبین جيشه يوم صفین، وأن أولئك لو كانوا كهؤلاء لما قام للإسلام عمود أو كانت له الغلبة والنصر، ثم يقول (علیه السّلام):«وأيمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّها »: والمنتظر أن ما يحلب يكون لبنًا سائغًا فيه الخیر

والفائدة، لكنه يقول (علیه السّلام):

«دَمًا »: كناية عن العواقب الوخيمة لتركهم الدين.

«ولَتُتْبِعُنَّها ندمًا »: وهذا إنذار أيضًا بالشر كما سنتحدث عنه في النقطة الثالثة التالية.

ثالثًا:إنذار بالشر وتحذير من العواقب الوخيمة لترك المسلمين الإسلام

وهذا تعبیر رهيب في واقع الأمر، إلا أن وجود العواقب الوخيمة لرك عملٍ ما دليل على أهميته وأحقيته، فإذا كان الأمر في فعل أو ترك العمل سواءً- كان هذا العمل وضيعًا ليس له هيبة أو أهمية في حياة البشر، فللدين إذن هذه الهيبة وهذه الحساسية والأهمية الخاصة بحيث أنه إذا طُبِّقَ فإنه يضمن سعادة البشر ورقي المجتمعات، وإذا تُرِكَ فإن نتيجة ذلك انتشار الجهل والفساد وهيمنة الظلم، بل ما هو وراء ذلك ألا وهو الحساب والعذاب يوم القيامة. «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلىَ الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا »(1) ،« وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا

عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّماَءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِماَ كَانُواْ يَكْسِبُونَ »(2)،

ص: 260


1- سورة الجن / 16 .
2- سورة الأعراف / 96 .

«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ »(1).

ومما قاله (علیه السّلام) في هذا الإنذار والتحذير:

أ) قوله(علیه السّلام)(2):

«فمن يبتغِ غیرَ الإسلامِ دينًا تتحقَّقْ شِقوتُه، وتنفصِمْ عُروتُه، وتعظُمْ كَبوتُه، ويكنْ مآبُهُ إلى الحزنِ الطويل، والعذابِ الوبيل »: وهذه العواقب لترك الدين يقرِّرها الإمام (علیه السّلام) كما قرَّرها الله تعالى في كتابه الكريم، فإن نتيجة الأخذ بالإسلام السعادة وعاقبة تركه الشقاء وانفصام العرى المربوطة الوثيقة والكبوة

والوقوع في الأمر الشائك والخطيئة الكبیرة، ثم يؤدي ذلك إلى الحزن الطويل (في الدنيا) والعذاب الشديد (في الآخرة).

ب) وفي إحدى كلماته القصيرة الجامعة قال (علیه السّلام)(3):

«لا يتركُ الناسُ شيئًا من أمرِ دينِهم لاستصلاحِ دنياهم إلاَّ فتحَ اللهُ عليهم ما هو أضرُّ منه »: ولعلَّ المصداق العمي لذلك ملاحظة البشر في تأريخهم الطويل، بل ملاحظة أهل المنطقة الصغیرة، بل ملاحظة الإنسان لنفسه لیرى العواقب التي تنزل عند ترك الدين والإعراض عنه رغبةً في الدنيا، فإذا بالخسارة والضرر يكون أكثر، فقد يلهو الإنسان بالمال ويضيعُ حقَّ الله تعالى حرصًا منه على المال فإذا بجوانب الشر من مرض أو موت أو مصيبةٍ ما أو خذلان في الدنيا تسارع إليه

ص: 261


1- سورة الفجر / 14 .
2- خ 161 ، ص 230 .
3- خ 161 ، ص 230 .

بسبب اختياره السيء.

إذن فهذه عواقب يحذِّر الإمام (علیه السّلام) منها ويرشد إلى أن سبيل النجاة منها هو اتباع دين الله تعالى «ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإِنَّ لهُ معيشةً ضَنْكًا ونَحْشرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى »(1)« ومَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرحمنِ نُقَيِّضْ لهُ شيطانًا فهُوَ لهُ

قَرِينٌ »(2)، وأي عاقبة أشد من ذلك؟

نسألُ اللهَ تعالى أَنْ يبَصِّرنا دينَه، وأن يعرِّفَنا أحكامَه، وحلالَهُ وحرامَه، ويحيينا حياةً طيبةً على نهج محمد وعلي وآلهما، عليهما وآلهما الصلاةُ والسلام.

ص: 262


1- سورة طه / 124 .
2- سورة الزخرف / 36 .

28)سيرة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وارتحاله إلى الرفيق الأعلى

مدخل

قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«ماكانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولكنْ رسولَ اللهِ وخاتمَ النَّبِيِّينَ »(1).

رغبتُ أن يكون هذا الحديث مسك الختام لأحاديث النبوة بالحديث حول خیر الأنام وخاتم النبيین (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في جملة من شؤونه ومواقفه، ثم ارتحاله إلى الرفيق الأعلى.

أولاً: حياة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

وهي حياة عجيبة حافلة بالمواقف، فمما يثیر الانتباه حقًّا أن هذا الرجل العظيم بما يملك من مقام كبیر ومنزلة من الله تعالى وسيادةٍ للمجتمع وأفضلية على الخلق وبما يحمل من سائر الكمالات- نجد أن شؤونه في نفسه ومع أهله وصلته بالناس وعموم أدوار حياته كلها مواطن تستوجب منا الوقوف والتأمل

فيها طويلاً، وهذا التأمل في هذه السیرة العظيمة لا شك أنه يقوي إيماننا بمقام الرسول العظيم الذي هو برهان بذاته على حسن اختيار الله تعالى له وأهليته لتحمل أعباء الرسالة الكبیرة، وهذا أمر مهم جدًّا في المقام، وفي هذا المجال

ص: 263


1- سورة الأحزاب / 40 .

يتحدث الإمام (علیه السّلام) عن يوميات النبي وممارساته الطبيعية التي كان يحياها(1):

«ولقد كان (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يأكلُ على الأرضِ، ويجلِسُ جِلسةَ العبدِ، ويخصِفُ بيدِهِ نعلَه، ويرقَعُ بيدِهِ ثوبَه، ويركبُ الحمارَ العاري ويُردِفُ خلفَه .»

وذلك مظهر التواضع من هذه النفس الفذة التي هي بالأفق السامي، ومع ذلك فهو يجلس ليأكل على الأرض، ولم يأخذ به منصب النبوة والسيادة بل والطباع البشرية التي تلازم المناصب العليا بطبعها، فهو مع كل ذلك يجلس كالعبد(2)، وهو أنموذج آخر مغاير لكل هذه الاعتبارات فبيده يصلح نعله، وثوبه

مرقوع وراقعه هو نفسه، وأما مركبه فلا سروج من ذهب عليه ولا بطائن من حرير بل هو المركب العادي العاري الذي يساويه في ذلك بعامة الناس ويُركِبُ عليه معه (يردف) من يكون من الناس.

«ويكون السترُ على بابِ بيتِهِ فتكونُ فيه التصاويرُ فيقول: يا فلانةُ -لإحدى أزواجِهِ- غيِّبِيهِ عني فإني إذا نظرتُ إليه ذكرتُ الدنيا وزخارِفَها... .»

«فأعرضَ عن الدنيا بقلبِه، وأماتَ ذكرَها من نفسِه، وأحبّ أن تغيبَ زينتُها عن عينِه، لكيلا يتخذَ منها رياشًا ولا يعتقدُها قرارًا... .»

ص: 264


1- خ 160 ، ص 228 .
2- عن أبي عبد الله (علیه السّلام):« مرت امرأة بذية برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو يأكل وهو جالس على الحضيض، فقالت: يا محمد والله إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): ويحك وأي عبد أعبد مني؟! قالت: فناولني لقمة من طعامك، فناولها، فقالت: لا والله إلا التي في فيك، فأخرج رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) اللقمة من فمه فناولها، فأكلتها، قال أبو عبد الله (علیه السّلام): فما أصابها داء حتى فارقت الدنيا روحها ». المحاسن، للبرقي 2/ 457 .

فيعمرها ويعمل لها ويهيء له فيها أسباب النعيم بل هو يعتقدها -كما هي- ممرًّا عاجلاً إلى الآخرة، هذه حياة مميزة ونفسية فذة سمت من السمو ما تحار به العقول(1).

ثانيًا: النبي أكمل الخلق

لا شك أن مظهر الشجاعة ومظهر القوة التي دافعت عن الإسلام وأعزته تَمثَّلَ في بطولات أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، ولكن ينبغي أن لا يُغفل عن حقيقة أن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو أشجع الناس من غیر حاجة إلى شهادة أحد، وكذلك هو الأمر في الخطابة والبلاغة فمظهرها وشمسها هو أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، ولكن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو أبلغ الناس وقد أوتي جوامع الكلم، وهكذا هو الأمر في كل فضيلة لأن النبيَّ لا بد وأن يكون أكمل الناس ليكون لائقًا بهذا المنصب، وهذا ما يقتضيه الاعتقاد الصحيح كما أنه مما تشهد به سرة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، والإمام (علیه السّلام) يقرِّر هذه الحقيقة بل جاء في بعض تعبيراته: «إنا أنا عبدٌ من عبيدِ محمد »(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ (2)، والشهادة من الإمام (علیه السّلام) لها قيمتها الخاصة نظرًا للشجاعة الكبیرة التي اتصف بها فتكون شهادته شهادة الخبیر

العارف المختص.

وسجّل الإمام (علیه السّلام) شهادته فقال(3):

«كنا إذا احمرَّ البأسُ اتَّقينا برسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلم يكن أحدٌ منا أقربَ إلى العدوِّ منه »: وليس بعد هذا الوصف وصف فعند اشتداد البأس يكون الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

ص: 265


1- من المفيد مراجعة كتاب (سنن النبي) للسيد الطباطبائي صاحب الميزان.
2- الكافي 1/ 90 .
3- غريب كلامه (علیه السّلام) رقم 9، ص 520 .

درعًا للمسلمين وأقربهم إلى العدو، وقد علم الجميع شجاعة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فهذا الأمر إذًا ليس ضعفًا فيه أو خوفًا في بعض الأوقات بل هو دلالة وشهادة بشجاعة النبي التي لا تضاهيها شجاعة، فكون النبي له عريش في المعركة يوجِّهُ

منه أصحابه ويشاورهم لا يعني بُعدَه عن القتال، ولكن اقتضت حكمة الله تعالى أن لا يباشر الرسول سفك الدماء بنفسه بكثرة وإن كان هذا في سبيل الله، وذلك لأنه صاحب الدعوة الأول وهو مظهر الرحمة «وَما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمةً لِلْعَالِمينَ »(1) فاقتى الأمر أن يقوم بهذه المهمة الكبیرة الشخص الثاني في الدعوة ونفس النبي علي (علیه السّلام)، وشتان بین شجاعة النبي والوصي من جهة وبین ما كان عليه غيرهما

كالأول والثاني اللذين يعتذر لها ابن أبي الحديد بقوله:

عَذَرْتُكما إِنَّ الحِمامَ لَمبْغَضٌ*** وإِنَّ بقاءَ النفسِ للنفسِ محبوبُ

مذكرًا بفرارهما يوم أحد، وعودتها منهزمین من خيبر يجبن كل منهماأصحابه ويجبنونه، ولا يخفى أن هذا العذر هو في حدِّ ذاته ذمٌّ لهما.

ثالثًا: النبي الأمان والرحمة

كما يعرف من التأريخ أن الأمم السابقة كانوا يُعاجَلون بالعقوبة والعذاب عند تكذيبهم للرسل، إلا أن أمة الرسول محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كانت آمنةً من العذاب والعقوبة في الدنيا وما ذلك إلا لامتياز الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على بقية الرسل برحمةٍ إلهية خاصة وشاملة، ولهذا يُطلب منه أن يدعو على قومه فيدعو لهم لا عليهم قائلاً: «اللهمَّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون »(2).

ص: 266


1- سورة الأنبياء / 107 .
2- الخرائج والجرائح 1/ 164 .

ويرشدنا أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلى ذلك(1):

«وحكى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السّلام) أنه قال:

كان في الأرضِ أمانانِ من عذابِ الله، وقد رُفِعَ أحدُهما، فدونكمُ الآخرَ فتمسكوا به: أما الأمانُ الذي رُفِعَ فهو رسولُ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وأما الأمانُ الباقي فالاستغفار، قال الله تعالى: «وَمَا كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهمْ وأنتَ فيهِمْ ومَا كانَ اللهُ مُعَذِّبَهمْ

وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ .»(2).

قال الرضي: وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط.

ويلاحظ تركيز كثیر من الروايات والآثار على هذه الناحية في حق النبي وفي حق آله وأنهم سببٌ لرحمة الله تعالى لعباده وإخراج الخیرات من الأرض وإنزالها من السماء، وينبغي أن يلاحظ أن رفْعَ الأمان لا يعني رفع الخیر والبركات الأخرى للرسول بعد ارتحاله للرفيق الأعلى فخیره وبركاته والرحمة به باقية، وهذه ليست

قضية جزئية بل هي أمور تكوينية تتعلق بالكون ونظامه، إضافةً إلى انتفاع الناس العظيم بالدعوة التي شيَّدها الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وتركها لهم إن تمسكوا بها.

رابعًا: «وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ »

رابعًا: «وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ »(3)

ولا يعنينا -هنا- الحديث عن الوسيلة ببيان أنها ليست مظهرًا للشرك -والعياذ بالله- أو ليست مظهرًا لعدم التوكل على الله تعالى والثقة برحمته، مع تمام

ص: 267


1- الحكمة رقم 88 ، ص 483 .
2- سورة الأنفال / 33 .
3- سورة الشرح / 4.

وثوقنا بصحة معتقداتنا ووضوحها ورسوخها وقيام الدليل التام عليها وبعدها عن أدنى مغالطة أو شك، بل يعنينا بيان ارتباطها بشخص الرسول الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالدرجة الأولى، فالرسول بما يملك من قدسية ونفسية فذة جعل الله تعالى وجوده رحمة «ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّ رَحْمةً لِلْعَالِمینَ »، وقد قال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« إنما أنا رحمةٌ مُهْدَاة .»(1)

ولكون حرمته حيًّا كحرمته ميتًا ولبقاء بركاته فإن الصلة به لم تنقطع بارتحاله إلى الرفيق الأعلى بل هذه الصلة باقية، ويلاحظ كما تشیر إليه الروايات أنه لو لم يخلَّد ذكر الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في القرآن الكريم ويكون له وجود في الشعائر الإسلامية ومنها الأذان، وكذلك العبادات كالصلاة، لنُسيِ ذكره الشريف ونسيانه حرمان من الخیر والعطاء، وهذا الخلود هو مصداق لقوله تعالى: «ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ »(2).

إذن فهو بهذا المقام حينما يُتَّخَذُ وسيلةً إلى الله تعالى إنما لأنه العبد المرتضى والحبيب المصطفى ونحن نستعين به لغفران الذنب وتهذيب النفس الأمارة بالسوء ولعموم الخیر والرحمة «وَلَوْ أَنَّهمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيماً »(3)..

وبيَّن (علیه السّلام) أدب مسألة الله تعالى فقال(4):

«إذا كانت لك إلى اللهِ سبحانه حاجةٌ فابدأ بمسألةِ الصلاةِ على رسولِهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ثم سلْ حاجتَك، فإن اللهَ أكرمُ من أن يُسألَ حاجتین فيقيَ إحداهما ويمنعَ الأخرى :»

ص: 268


1- بحار الأنوار 16 / 115 .
2- سورة النساء / 64 .
3- الحكمة رقم 88 ، ص 483 .
4- خ 197 ، ص 311 .

فسمَّى الصلاة مسألة لأنك تسأل الله أن يصلي عليه، وكما نعتقد -وهو الحق- أن الله لا يرضى ورسوله لا يرضى بالصلاة البتراء إنما يرضى الله تعالى ويرضى رسوله بالصلاة التي شرَّعها الله تعالى، فيصلي صاحب الحاجة قائلاً: (اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد)، وهذه المسألة مقضية لحب الله تعالى لرسوله، فإذا سأل السائل

بعدها بمسألته المشروعة قضاها الله تعالى لأنه أكرم من أن يمنع حاجة وقد قضى أخرى، وذلك بغض النظر عن وجه استجابة الدعاء، فقد يستجاب سريعًا وقد يؤجل في الدنيا وقد يؤخر ويدَّخر للآخرة، وقد يدفع الله به بلاء عن السائل.

خامسًا: الفاجعة الكبرى بارتحال النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

وهذه الفاجعة ألمَّت بالدرجة الأولى بالإمام (علیه السّلام) لأن الشخص إنما يتأثر بارتحال العظيم بقدر ما يدرك من مقامه، ومن هذا ما حدثني به أحد أجلاء أساتذتي أن الشيخ عبد الحسین الأميني صاحب الغدير كان يأتي لحرم أمیر المؤمنین (علیه السّلام) كل ليلة فيستقبل الضريح ساعة كاملة يتفجر بركانًا من البكاء، لأنه كان يعرف الكثیر عن مقام ومظلومية أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، ولهذا فإن تأثر الإمام وتصويره لرحلة النبي إنما

هو ناتج عن معرفته التامة والخاصة بمقام النبي وبركات وجوده الشريف وارتباط الأرض بالسماء لوجوده، كما أنه يصور خطورة الفادحة وشدة آثارها على الأمة.

عبر الإمام (علیه السّلام) عن ارتحال النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«ولقد قُبِضَ رسولُ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وإنَّ رأسَهُ لعلى صدري، ولقد سالت نفسُهُ في كفِّي فأمرَرْتُا على وجهي، ولقد وُلِّيتُ غُسْلَهُ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والملائكةُ أعواني... .»

ص: 269


1- خ 235 ، ص 355 .270

وتستوقفنا في هذا النص الشريف عدة مواطن نشير إليها فيما يلي:

أ) تفنيد وكذب ما يرويه بعضهم من أن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مات عند عائشة وهو بین سحرها ونحرها محاولین أن يجعلوا لها بهذا مقامًا، ومن المعروف أن النبي كان في لحظاته الأخیرة لا يأنس إلا بعلي والزهراء والحسنين (علیهم السّلام) ويدعوهم إليه، والإمام يشیر هنا بوضوح أنه صاحب هذا المقام وهذا الفضل في كونه مع الرسول حین قُبِضَ وإن رأسه لعلى صدره.

ب) ماذا يعني بالنفس؟ يرى البعض أن المعني بالنفس هو الدم كما هو أحد معانيها، وأنه خرج من النبي عند احتضاره دم أخذه علي وأمرَّهُ على وجهه، أما التفسیر الآخر وهو اللائق والمناسب كما يذكره المیرزا حبيب الله الخوئي (رحمه الله) فهو أن المقصود بالنفس هي الروح الطيبة المقدسة التي استلهم منها الإمام البركة والقداسة والشرف الأرفع، ولا يخفى أن هذا بعيد كل البعید عن حلول روح النبي في الإمام فإن هذا مما لا يصح أصلاً، ومن قبيل التشبيه العادي لتقريب المعنى ما يفعله المسلمون عند ذكر النبي أو بعد الدعاء من أنهم يمرُّون أيديهم على وجوههم طلبًا للرحمة والبركة، كما لا يخفى أن الحقيقة التامة لهذا الأمر هي من أسرار النبي والوصي وهذا ليس بغريب عن عالمهما إِذْ ضمَّ من الأسرار الشيء الكثیر، وإلا فأي معنى مثلاً لقول أمیر المؤمنین (علیه السّلام):« فإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) علمني ألفَ بابٍ من العلم يفتح كل بابٍ ألفَ باب، ولم يعلم ذلك أحدًا غیري »(1)، وأيُّ

أسلوب هذا الذي يتعلم فيه الإمام مليون (ألف ألف) باب من العلم في مناجاة واحدة.

ص: 270


1- الخصال، للشيخ الصدوق / 572 .

ج) إن مهمة وشرف تغسيل النبي وتجهيزه ومواراته كانت موكولة إلى نفسه علي والملائكة أعوان له.

وقال (علیه السّلام) عند تغسيله النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مُؤَبِّنًا ومُتَفَجِّعًا(1):

«بأبي أنت وأمي يا رسولَ الله! لقد انقطعَ بموتِكَ ما لم ينقطعْ بموتِ غیرِكَ من النبوةِ والإنباء، وأخبارِ السماء »: فالأنبياء السابقون كان لهم بعد ارتحالهم خلف من الأنبياء، وأما الرسول فارتحاله نهاية لوجود النبوة الظاهر.

«خَصَصْتَ حتى صِرتَ مسليًا عمن سواك، وعَمَمْتَ حتى صارَ الناسُ فيك سواء... »: فقد ملك النبي على الإمام كل مشاعره إذ كان وجود الرسول هو كل شيء عند أمیر المؤمنین.

«بأبي أنت وأمي! اذكرنا عند ربِّك واجعلنا من بالِك! »: وهذه التفاتة رائعة من الإمام لحياة النبي الخاصة عند الله تعالى وأنه يسأله أن يذكره ويجعله من اهتماماته.

ومما أظهره من الأسى على قبر الرسول ساعة دفنه(2):

«إن الصبرَ لجميلٌ إلا عنك، وإن الجزعَ لقبيحٌ إلا عليك، وإن المصابَ بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل »: فالإمام يصور افتجاعه بارتحال النبي الذي عاش معه وعاصر دعوته كلها ثم بقي بعده ورأى الآثار وخطورة الموقف بارتحاله وحیرة الأمة وتخبطها وانقلابها بعده، كما أنه رأى اختلاف الحال يوم أن كان مع

ص: 271


1- غريب كلامه (علیه السّلام) رقم 292 ، ص 527 .
2- غريب كلامه (علیه السّلام) رقم 292 ، ص 527 .

الرسول يُرمَقُ كالنجم، وإذا به بعده ينزِله الدهر حتى صار يُقرَن إلى تلك النظائر،وتلك هي المأساة التي لم يُصب بمثلها أحد، ولذلك كان له أن يبوح ويبثَّ آهاته.

نسأل الله أن يجعلنا ممن يهتدي بهدي محمد وآله

وأن يوفقنا للسير على نهجهم وإحياء أمرهم

عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.

ص: 272

29)الإمامة

مدخل

قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«وإذِ ابْتَلىَ إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمهنَّ قالَ إني جاعلُكَ للناسِ إمامًا قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا ينالُ عَهْدِي الظالمین »(1).

هذا الحديث هو بداية أحاديثنا -إن شاء الله تعالى- حول الإمامة، ومعلوم أننا نتناول مواضيع هذا الدرس الشريف من خلال كلات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في نهجه العظيم، وحديث الإمامة له تمام الأهمية لأنه يواكب ويتصل بحياتنا، وقد تحدث الإمام عن الإمامة كثیرًا في ذاتها وفي أهميتها وشروط القائم بها ونهجها

الذي يجب أن تنهجه كي تقود الأمة للهداية عبر الطرق الإلهية الصحيحة، وعن الملابسات التأريخية التي اكتنفت وحفت هذا الموضوع الخطر، وحديث الإمام له أهمية خاصة باعتباره معنيًّا مباشرة بموضوع الإمامة، وهو رجل القضية وبطلها، وقوله الحق والفصل، ونتناول في هذا الحديث تعريف الإمامة وأهميتها ثم عرض المواضيع التي تناولها الإمام في نهجه الخالد.

أولاً: تعريف الإمامة

أ) الإمام بالمعنى اللغوي هو القدوة سواء كان في الحق: «وجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً

ص: 273


1- سورة البقرة / 124 .

يَهدُونَ بأَمْرِنا »(1)، أو في الباطل: «وجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلى النَّارِ »(2).

ب) أما في الاعتقاد فهناك تعاريفُ كثیرة ومنها ومن أشهرها تعريف العلامة الحي بأن الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا، لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

فهي إذن رئاسة والناس مرؤوسون، وهي لا تحدُّ بحد بل هي في جميع الشؤون الدينية والدنيوية فهي في مجال الحكم التشريعي والتنفيذي فيما يتعلق بالإدارة والسياسة وجميع قضايا الحياة، بخلاف من يعرِّفُها بأنها خاصة بالسياسة فقط ولا تتصل بالمعتقد والشريعة.

وهي إذن ليست على غرار النبوة بل هي نيابة عن النبوة وامتداد لها،فلها جميع صلاحيات ومقومات النبوة باستثناء ما يتعلق بالوحي ويختص بالنبي فالإمام ليس نبيًّا.

ثانيًا: أهميتها

وأحسب أن أهميتها للحياة والبشر أمر بدهي لا حاجة إلى الإفاضة فيه، فحتى في المحيط الضيق في العائلة أو المدرسة ندرك بالوجدان أنه إذا لم يكن هناك من يقوم بشؤونها وينظر في مصالحها فإن مآلها إلى الضياع نظرًا لتشتت الأهواء وعبث الأفكار واختلاف المقاييس، وقد قِيلَ:

ص: 274


1- سورة الأنبياء / 73 .
2- سورة القصص / 41 .

لا يصلحُ الناسُ فُوضى لا سُراةَ لهم*** ولا سراةَ إذا جُهَّالُم سادوا

وقد «ضلَّ من ليس لهُ حكيمٌ يرشده »(1).

فإن الذي يضبط الأمور إما أن يكون عقل الفرد أو المجتمع أو الدين أو الإمام، فأما عقل الفرد فقد يكون مغلوبًا خاضعًا للأهواء ومؤثرات أخرى، قاصرًا عن إدراك المصالح، وأما المجتمع فتختلف فيه النزعات والأهواء وتتضارب المقاييس، وأما الدين فقد يكون معارَضًا غیر قادر أن يبثَّ تشريعاته كما هي الحال في فترات كثیرة من التأريخ كان الحكم فيها لغیر الدين بل لحكومات لا تحكم

بالدين مطلقًا أو لا تحكم بكل تشريعاته، فلا بدَّ إذن من إمام، أما الإمام الجائر أو الجاهل فلا يزيد الأمة إلا ضلالاً وشقاء، فا بد من إمام عالم عادل يأخذ بالبشرية إلى الطريق الصحيح ويكفل لها سعادتها، ومتى وُجِدَتْ أمة في التأريخ دون حاكم؟ نعم ظهرت جماعة غیر إسلامية تتبنى فكرة أو مذهبًا وتدعو إلى إحياء

الفوضوية وعدم وجود أي حكومة تحكم البشر، وقد كان هذا كردة فعل نظرًا لأن الحكومات بطبعها مستبدة وجائرة تتحكم فيها الأهواء والعواطف، إلاَّ أنه -كما نعتقد- ليس هذا هو الحل، بل الحل في وجود إمام عادل.

ومن مظاهر أهمية الإمامة والتركيز عليها وجود حجة من قبل الله تعالى في عموم تأريخ البشر، فيوم أن كان وجود البشر منحصرًا في فرد واحد هو آدم (علیه السّلام) كان هو نفسه الحجة، ولم يخلُ الناس من حجة في عموم حياتهم، فكان الأنبياء وكان أوصياؤهم الذين حملوا هديهم إلى الناس، حتى وصل الأمر إلى خاتم الأنبياء

ص: 275


1- عن أمير المؤمنين (علیه السّلام). الفصول المهمة في معرفة الأئمة 2/ 859 .

وامتدَّ في إمامة الأئمة عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.

وقد تحدث الإمام (علیه السّلام) كثیرًا عن هاتین النقطتین وما يتعلق بهما، فمن جملة ذلك ما يي:

أ) لما سمع قول الخوارج (لا حكم إلا لله) قال (علیه السّلام)(1):

«كلمةُ حقِّ يُرادُ بها باطل... وإنه لا بدَّ للناسِ من أمرٍ بَرٍّ أو فاجرٍ يَعْمَلُ في إِمرتِهِ المؤمنُ، ويَسْتَمْتِعُ فيها الكافرُ، ويُبَلِّغُ اللهُ فيها الأجلَ، ويُجمَعُ بهِ الفيءُ، ويُقاتَلُ بهِ العدوُّ، وتَأْمَنُ بهِ السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بهِ للضعيفِ من القويِّ... .»

وليس من غرضي هنا التفصيل في هذه النصوص الشريفة وإنما نأخذ منها مواضع الشواهد، فالإمام (علیه السّلام) يشیر إلى الرورة الملحة للإمرة سواءً كان يعني بها الإمامة أو الإدارة بشكل عام.

ب) وتحدث عن الأمان بالإمام من الاختلاف والضلال فقال (علیه السّلام)(2):

«فياعجبًا! ومالي لا أعجبُ من خطأِ هذه الفرقِ على اختلافِ حُجَجِها في دينِها! لا يقتصُّونَ أثَرَ نبيٍّ، ولا يَقْتَدُونَ بعملِ وصيٍّ... كأنَّ كلَّ امريءٍ منهم إمامُ نفسه »: فيعجب الإمام من ذلك الشتات فالكل له حجة ودليل والكل يرى أنه على الحق، ويقرن الإمام ضلالهم بعدم اتباع النبي أو الوصي اللذين هما في منصب

إمامة الناس، فكل فرد إذن أصبح وكأنه إمام نفسه.

ص: 276


1- خ 40 ، ص 82 .
2- خ 88 ، ص 121 .

ج) ويركز الإمام على أهمية الإمامة ثم على ممارسات الإمام في صدد تعليله لطلبه للحكم، فيقول (علیه السّلام)(1):

«وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكونَ الوالي على الفروجِ والدماءِ والمغانمِ والأحكامِ البخيلُ فتكونَ في أموالِم نُهمَتُهُ، ولا الجاهلُ فيُضِلَّهم بجَهْلِهِ، ولا الجافي فيقطعَهم بجفائِه، ولا الحائفُ للدُّوَلِ فيتخذَ قومًا دونَ قومٍ، ولا المرتشي في الحكمِ فيَذْهَبَ بالحقوق... »: فهناك أحكام يجب القيام بها وتستلزم وجود الإمام، ومن

أهم هذه القضايا النكاح والدماء أي ما يتعلق بها من قصاص وغیره وكذلك غنائم الحرب، وهناك إمامة المسلمين بشكل عام، فلابد إذن من وجود الإمام، وهذا الإمام له صفات تميزه وتؤهله للقيام بهذا المنصب وهذه القضايا، فلا يكون الإمام بخيلاً فيطمع في أموالهم ويستأثر بها لنفسه، ولا جاهلاً فيقودهم ولكن إلى

الضلال، فهم بحاجة إلى عالم بما يصلحهم، ولا الجافي الذي لا أريحية ولا لین فيه فيقطعهم ويقسو عليهم.

وينبغي أن يلاحظ أن تكرار الإمام لبعض المعاني في نصوص مختلفة إنما هو بسبب اختلاف المناسبات والحاجة إلى تلك المعاني بعينها فيها، وفي هذا النص التالي يأخذ الإمام بأسلوب آخر، وذلك حین استشاره عمر في أن يخرج مع الجيش لقتال الفرس سواء في القادسية أو غيرها(2)، فقال (علیه السّلام)(3):

«ومكانُ القيِّمِ بالأمرِ مكانُ النظامِ من الخرزِ يجمعُه ويضمه: فإن انقطعَ

ص: 277


1- خ 131 ، ص 189 .
2- من أجل الوقوف على تفصيل هذه الاستشارات يمكن مراجعة شرح المیرزا حبيب الله الخوئي لهذا النص الشريف في كتاب (منهاج البراعة).
3- خ 146 ، ص 203 .

النظامُ تفرَّقَ الخرزُ وذهبَ ثم لم يجتمعْ بحذافیرِهِ أبدًا »: فقد أشار الإمام على عمر بعدم الخروج، وقد يكون ذلك لحكمة ظاهرة كالحفاظ على من جُعِلَ رمزًا وسُمِّيَ خليفة للمسلمين، أو كان السبب هو خوف الإمام من هزيمة المسلمين بسبب القائد الذي كانت على يديه الهزيمة أولًا في خيبر، أو كان ذلك لحكمة لا

نعلمها، فعلى أي حال فإن مصلحة الإسلام عند الإمام هي فوق كل اعتبار آخر، وتشبيه الإمام هنا تشبيه حسي يصور فيه الناس كالخرز، وإمامهم بمثابة النظام وهو السلك الذي يجمع الخرز، فإذا انقطع السلك تناثر الخرز وتعسّر جمعه، وذلك كناية عن شتات الناس وضياعهم دون إمام.

د) وفي كتاب هو من عجائب الدهر وجهه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها، فمما قاله (علیه السّلام) في هذا الكتاب في شأن الإمامة(1):

«ألا وإن لكلِّ مأمومٍ إمامًا يقتدي به، ويستضيءُ بنورِ علمِه، ألا وإنَّ إمامَكم قد اكتفى مِنْ دُنياهُ بطِمْرَيْهِ(2)، ومِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ... .»

ثالثًا: أحاديث الإمام (علیه السّلام) حول الإمامة

تحدث الإمام (علیه السّلام) كثیرًا عن موضوع الإمامة، ونعرض هنا بعض المواضيع والتي سوف نتناولها فيما نستقبل من دروس إن شاء الله تعالى، فقد بثَّ شجونه وآهات جراحه التي ضمها، فذكر الوصية والإمامة وموقع أهل البيت (علیهم السّلام) منها،

وذكر مناقبه التي هي مؤهلاته للإمامة، وفي هذا أيضًا نعيٌ ونقدٌ واعتراض على

ص: 278


1- الكتاب رقم 45 ، ص 417 .
2- الطِّمْرُ: الثوب الَخلِقُ البالي.

الذين كان لهم الحكم مع أنهم يفقدون كل مقوِّمات الإمامة والحكم، فتقدموا وأخَّروه رغم ما كان يملكه من كمالات، وأنزله الدهر حتى صار يقرن بتلك النظائر.

وتحدث الإمام (علیه السّلام) عن ضياع الناس وحيرتهم بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حتى أنتجت سقيفتهم ما أنتجت، فخاض الإمام هذا الموضوع بما فيه من حساسية بقلب مألوم، وانتقد بكل وضوح وصراحة من تولى الحكم، وهذا النقد والاعتراض له أهميته الخاصة لأنه صدر من البطل الذي عاصر الدعوة من أولها إلى آخرها وبقى بعدها ورأى الحال التي وصلت إليها الأمة، وهذا النقد لا نجده عند غیر الإمام وهذا سبب آخر لأهميته، فقد سجل في مناسبات عدة على الحاكمین ملاحظات وجوانب نقد سواء كان في مؤهلاتهم العلمية أو الإدارية أو الحكمة أو غيرها من الجهات.

كما تحدث الإمام عن برنامجه ونظامه في الحكم من أحكام إلهية كان يحب للناس أن يهتدوا بهديها، إلا أنه نُحِّيَ عن الحكم فترة، ثم أتاه الناس يريدونه حاكماً بعد أن أحدث الأولون في الدين والأمة ما أحدثوا، فكانت المهمة صعبة، وفوق كل ذلك انشغل بحروب طويلة فكانت الجمل وكانت صفین وكانت النهروان، فلم يتأتَّ له أن يطبق نهجه الإلهي العظيم في الحكم، وقد بین الإمام جوانب من هذا النهج في عهده العظيم الخالد لصاحبه ورفيق دربه العزيز على

قلبه مالك الأشتر، رضوان الله تعالى عليه، مبينًا فيه نظام الحكم كما أراده الله تعالى أن يجري ويطبق، ولكن الناس أبوا واتبعوا أهواءهم «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلىَ الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا »(1).

ص: 279


1- سورة الجن / 16 .

ص: 280

30)الإمامة والنص

مدخل

قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«وَمَا كَانَ لِمؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضىَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لهُمُ الخِیرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا .»(1).

الدرس الثاني في هذا الموضوع المثیر الحساس (الإمامة) يدور حول نقطتین: دعوى الإمامة من أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، والنص عليه.

أولاً: دعوى الإمامة من أمير المؤمنين (علیه السّلام)

للإمامة أهمية بالغة في الإسلام وهي على جانب كبیر من الخطورة حتى قال في حقها الباحثون إنه ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على موضوع كما سُلَّ على موضوع الإمامة، وأهميتها فوق سائر الأركان التي يقوم عليها الدين لأنها أساسه

وامتداد للرسالة والنبوة، وهذا الادعاء من الإمام (علیه السّلام) للإمامة ومطالبته بتصديه لمهامها هو تكليف ومهمة إلهية على غرار ادعاء النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) للنبوة وإقامته المعجز دليلاً عليها، فالإمامة أمر إلهي لا يدَ للبشر فيه، وهي ليست فعلاً اختياريًّا يمكن أن يرفضه الإمام أو يتخلَّىّ عنه، ولهذا يلاحظ في التأريخ أن الأئمة (علیهم السّلام) لم يتنازلوا

عن الإمامة بل لم يعملوا بالتقية فيها رغم المحن والبلاء العظيم الذي عاشوه،

ص: 281


1- سورة الأحزاب / 36 .282

وفي المواطن التي تستدعي إظهار الكمالات الشخصية والمؤهلات للإمامة نجد أن الإمام يشیر إليها بوضوح ويصرح بفضائله وخصوصياته، وليس هذا فخرًا لا يحسن أو تزكية للنفس وثناء عليها بل هو إظهار للحق وحديث عن المؤهلات لا

سيما وأن الآخرين الذين تصدوا للحكم كانوا يفقدونها، فالمنصب إلهي وعلى تمام الأهمية فلا مجال للتواضع فيه وليس هذا محله.

ومن شواهد ذلك في حياة الأنبياء قول نبي الله يوسف (علیه السّلام):« اجْعَلْنِي على خَزائِنِ الأَرْضِ إِنِّ حَفِيظٌ عَلِيمٌ »(1)، إذ هو جدير لأن يقوم بهذه المهمة.

ونأخذُ هنا بعض النصوص الشريفة حول هذه النقطة، فمن ذلك ما يلي:

أ) أشار إلى أهم مؤهلات الإمام فقال (علیه السّلام)(2):

«ولهم خصائصُ حقِّ الوِلايةِ وفيهم الوصيةُ والوِراثةُ »: فهو يتحدث عن أهل البيت عمومًا وهو سيدهم، فهي إذن دعوى منه أنه يمتلك صفات اختص بها وهي تؤهله لأن يكون وليًّا، وبالنتيجة فإن من لا يحملها لا يكون أهلاً للولاية.

«الآن إِذْ رَجَعَ الحقُّ إلى أهلِه، ونُقِلَ إلى منتقَلِه »: فهذه الخطبة قالها في أيام خلافته وبعد انصرافه من صفین، فهي إذن بعد فترة طويلة ضاع فيها حقه ثم عاد إليه حيث المكان الذي انتقل منه وكان يجب أن يبقى فيه.

ب) وفي الخطبة المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة، قال (علیه السّلام)(3):

ص: 282


1- سورة يوسف / 55 .
2- خ 2، ص 47 .
3- خ 3، ص 48 .

«أما واللهِ لقد تقمَّصَها فلانٌ وإِنه لَيَعْلَمُ أن مَحلّي منها مَحلُّ القُطْبِ من الرَّحَى، ينحدرُ عني السيلُ، ولا يرقى إليَّ الطیرُ :»وهذه الخطبة اشتهرت باسم الشقشقية نسبة إلى الكلمة التي جاءت في جواب الإمام لابن عباس بعد الخطبة وهي قوله: «تلك شِقْشِقَةٌ هدَرَتْ ثم قرَّتْ »، وقوله (فلان) واضح في الدلالة على أبي بكر لأنه هو أول من حكم بعد الرسول وتقمص الخلافة أي لبسها كالقميص، وفي نسخ أخرى التصريح: «لقد تقمَّصها ابنُ أبي قحافة »، وهذا بيان واضح في أن الأول أخذ الخلافة بدون حق وكان يعلم أن الإمام (علیه السّلام) هو صاحبها وقطب رحاها وأنه في تمام علو المنزلة والشأن، وليكن هذا التصريح فخرًا أو تعريفًا بالنفس أو ثناءً عليها، فعلى أي حال «عليٌّ مع الحقِّ، والحقُّ مع علي » كما شهد له بذلك الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وإن تحدث فإنما يتحدث لإحقاق الحق وكفى.

«فسدَلْتُ دونها ثوبًا، وطَوَيْتُ عنها كَشْحًا ». أي أغضيت عنها، وليس هذا الأمر أمرًا سهلً بل كان مرارةً، وكان باعثًا على التفكر في أمر الأمة والقلق بشأنها والخوف عليها من الضياع. فقد بُنِيَتْ شرائعها وأحكامها وقضاؤها وحربها وسلمها على هذا الأساس الذي وضعه مَن حَكَمَ بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وبعد أن أزالوا الأسس التي وضعها الله تعالى وفي مقدمتها الإمامة التي كان الإمام قطب رحاها وبطلها الأول.

«وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بینَ أَنْ أَصُولَ بيدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبرِ على طَخْيَةٍ عَمْياءً »: فقد أخذ الإمام (علیه السّلام) يخیر نفسه بین أن يصول ويقاتل بلا أنصار وبین أن يصبر على هذه القضية التي هي ظلم وظلمات، ولكنه اختار أن يصبر محتسبًا ذلك في ذات

ص: 283

الله تعالى.

ج) وحین أُشِیرَ عليه أن لا يتبع طلحة والزبیر ولا يرصد لها القتال، كان مما قاله (علیه السّلام)(1):

«فواللهِ مازلتُ مدفوعًا عن حقي، مُسْتَأْثرًا عليَّ، منذُ قَبَضَ اللهُ نبيَّه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حتى يومِ الناسِ هذا »: فهو يسجل هذه الحقيقة بعد 35 سنة من حياته التي كانت توأمًا مع العناء والجفوة من الآخرين الذين صدوه عن حقه واستأثروا به

لأنفسهم.

د) ويصف حاله قبل البيعة له بقوله (علیه السّلام)(2):

«فنظرتُ فإذا ليس لي معینٌ إلا أهلُ بيتي، فضنِنْتُ بهم عن الموتِ، وأغضَيتُ على القَذَى، وشرِبتُ على الشَّجا... »: فقد كان الحق له ولو أمكنه أن يسرجعه بالقوة لفعل وذلك واجب عليه لأن هذا الحق (الإمامة) ليس حقًّا شخصيًّا بل هو حق الله تعالى، إلا أن استرجاع الحق لم يكن ممكنًا لعدم توفر الجيش القادر على

ذلك، فليس له إلا أهل بيته الذين سيُقتلون إن حارب بهم ولن يحقق نصرًا يُمَكِّنه من استرجاع ذلك الحق.

وستمر علينا في النصوص التالية أسباب أخرى لسكوت الإمام عن الحق أخیرًا كخوفه على الإسلام من أعدائه الذين يتربصون به، فأغمض عينه عن حقه الضائع رغم صعوبةِ وألمِ ذلك وتجرَّع الغصص صابرًا محتسبًا وفي القلب شجا وفي

ص: 284


1- خ 6، ص 53 .
2- خ 26 ، ص 68 .

العن قذى لأنه أغضى بها عن أمر عظيم.

ه) وفي كتاب وجَّهَهُ إلى أهلِ مصرَ مع مالك الأشتر حین ولاَّه إمارتها قال(علیه السّلام)(1):

«فلامَّ مضىَ (علیه السّلام) تنازع المسلمون الأمرَ من بعدِه، فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العربَ تُزعِجُ هذا الأمرَ من بعده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن أهلِ بيته ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده، فما راعني إلا انثيالُ الناسِ على فانٍ يبايعونه،فأمسكتُ يدي حتى رأيتُ راجعةَ الناسِ قد رجعتْ عن الإسلامِ يدعونَ إلى محقِ دينِ محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فخشيتُ إن لم أنصرِ الإسلامَ وأهلَهُ أن أرى فيه ثلماً أو هدمًا تكونُ المصيبةُ به عليَّ أعظمَ من فوتِ ولايتكم التي إنما هي متاعُ أيامٍ قلائل يزولُ منها ما كان كما يزولُ السراب، أو كما يتقشَّعُ السحاب، فنهضتُ في تلك الأحداثِ حتى زاحَ الباطلُ وزهق، واطمأنَّ الدينُ وتَنَهْنَه... »: فهو يركِّز على دعواه للإمامة

وأنه كان على عقيدةٍ راسخة ووثوق تام بأنه الإمام والوصي، ولم يكن يخطر بباله -بحسب المقاييس الطبيعية ولكثرة ما جاء في حقه- أن الناسَ تبايع غیره، وهذا لا يعني أنه لم يكن يفهم نفسيات القوم وطمعهم بل كان يقرأ ذلك بعينه ويعقله

بفكره ولكنه يسجله عليهم، ولذلك لنا أن نأخذ تلك النصوص وثائقَ تأريخية صادقة على تلك الأحداث، وهو هنا يذكر سببًا آخر أكثر أهمية لصبره وسكوته عن حقه ألا وهو خوفه على الإسلام من أعدائه الذين أرادوا أن يستغلوا النزاع بين المسلمين لكي يقضوا على الدين تمامًا، وقد رأى شتات الأمة وضياعها فاختار أن

يحافظ على الإسلام ويرعى قضاياه ويصلح شؤونه وإن أُبْعِدَ عن المنصب الحقيقي

ص: 285


1- الكتاب رقم 62 ، ص 451 .

الذي أراده الله تعالى له، وهو القائل: «وواللهِ لأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أمورُ المسلمينَ ولم يكنْ فيها جورٌ إلا عليَّ خاصَّةً .»(1).

و) وفي كتاب بعثه إلى معاوية، قال (علیه السّلام)(2):

«فيا عجبًا للدهر!؟ إِذْ صِرتُ يُقرَنُ بي من لم يسعَ بقَدَمي، ولم تكن له كسابقتي، التي لا يُدلي أحدٌ بمثلِها، إلا أن يدَّعي مدَّعٍ ما لا أعرفُه، ولا أظنُّ اللهَ يعرفُه، والحمدُ للهِ على كلِّ حال :»

يعجب فيه من الدهر حين ضاعت المقاييس ولم يبقَ للناس موازينُ صحيحة،حتى صار المفضول يُقدَّمُ على الفاضل، وصار يُقرَن بعليٍّ من لم يكن له شيءٌ من جهاد عليٍّ أو شجاعته أو علمه أو إيمانه، والإمام يتحدَّى أن يدَّعي غیرُهُ ما له من كمالات إلا أن يدعي كذبًا، وكلمة الإمام عجيبة حین أراد أن يصور كذب

دعوى من يدعي أن له من الكمالات والمؤهات ما لعلي، فوصف الإمام هذه الكمالات المدَّعاة بأن الله لا يعلمها وذلك دليل على أنها غیر موجودة في الواقع، وقوله (ولا أظن) ليس احتمالًا بل جزمًا كما هو معروف من بعض استخدامات هذا الأسلوب.

ز) وأخیرًا نذكر هذا النص الشريف الذي عبرِّ فيه الإمام (علیه السّلام) عن خلاصة القضية، فقد سأله أحد أصحابه: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فكان مما قال (علیه السّلام)(3):

ص: 286


1- خ 74 ، ص 102 .
2- الكتاب رقم 9، ص 369 .
3- خ 162 ، ص 231 .

«وقد استعلمتَ فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبًا والأشدون برسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) نوطًا فإنها كانت أثَرَةً شحَّت عليها نفوسُ قوم، وسَخَتْ عنها نفوسُ قومٍ آخرين؛ والحكَمُ اللهُ، والمَعْوَدُ إليه القيامةُ :»

ثانيًا: النص على الإمام

وحديثنا حول هذه النقطة مستوحًى -بطبيعة البحث- من كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) في نهجه العظيم، وإلا فلو أردنا الحديث عن هذه النقطة بالذات من خلال القرآن الكريم أو السنة الشريفة لطال بنا المقام كثیرًا، وفي حدود ما لاحظت في النهج لم أجد استشهادًا من الإمام بالآيات والروايات التي نصَّت على

إمامته (علیه السّلام)، وإنما وجدتُ جملة من النصوص تدخل في هذا الباب، فمن جملة ذلك ما يي:

أ) قوله (علیه السّلام) وهو النص الأول الذي استشهدنا به على النقطة الأولى(1):

«وفيهم الوصيةُ والوِراثةُ »: وهذه إشارة واضحة للنص بالإمامة، والوراثة لا تعني وراثة المال بالنسب وإلا لكانت الزهراء (علیها السّلام) أولى بذلك، ولكن المعنيَّ بها وراثةُ اللهِ على دينِه وقرآنه وأحكامه.

ب) وأشار (علیه السّلام) إلى بعض مكانة الأئمة (علیهم السّلام) فقال(2):

«إن الأئمةَ من قريشٍ غُرِسوا في هذا البطنِ من هاشم، لا تصلُحُ على سواهم، ولا تصلُحُ الولاةُ من غيرِهم »: فالنص على الأئمة جلي وأنهم من قريش،

ص: 287


1- خ 2، ص 47 .
2- خ 144 ، ص 201 .

ثم أضاف الإمام جملة دقيقة ولم يجعل العنوان عامًّا يدور في قريش هذه الأسرة الكبیرة بل خصَّصه في محله فصرَّح أن النص في بني هاشم.

وذلك معنى الحديث المشهور الذي من رواياته ما رواه جابر بن سمرة عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):« لا يزال هذا الدينُ عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة، قال جابر:

فقال كلمة أَصَمَّنِيها الناس، فقلت لأبي: ماذا قال؟ قال: كلُّهم من قريش .»(1).

وفيما لاحظتُ وأحسب أنها ملاحظة مهمة ما ذكره العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي حول هذه القضية حین ناقشها ونبَّهَ أن بعض النصوص كما في (ينابيع المودة) و(منتخب الأثر) تشیر إلى أن عبارة الرواية «كلهم من بني هاشم »(2)، وأحسب أنه لا يمنع أن تكون الرواية جامعة للتعبيرين (كلهم من قريش من بني هاشم) فهو تخصيص بعد تعميم كما في كلمة الإمام في هذا النص.

ج) وتحدث عن يوم الشورى وما حمله فقال (علیه السّلام)(3):

«وقد قالَ قائلٌ: إنك على هذا الأمرِ يابن أبي طالبٍ لحريص؛ فقلتُ: بلأنتم واللهِ لأحرصُ وأبعد، وأنا أخصُّ وأقرب، وإنما طلبتُ حقًّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرَّعته بالحجة في الملإ الحاضرين هبَّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني به! »: ويذكر بعض الشراح للنهج أن القائل هو سعد بن

أبي وقاص(4)، و(هبَّ) أي صاح وتكلم بالمهمل في سرعةٍ حمله عليها الغضب.

ص: 288


1- من مصادر هذا الحديث صحيح مسلم 6/ 4، و(إحقاق الحق) - الملحقات 16 / 1.
2- الغدير والمعارضون/ 96 ، للعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي وهو باحث ومتتبع جريء.
3- خ 172 ، ص 246 .
4- قال ابن أبي الحديد: والذي قال له: «إنك على هذا الأمر لحريص » سعد بن أبي وقاص، مع روايته فيه: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى » وهذا عجب. شرح نهج البلاغة 9/ 305 .

د) واستشهد الإمام (علیه السّلام) بما قاله له رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، فقال(1):

«إنك تسمعُ ما أسمعُ، وترى ما أرى إلا أنك لستَ بنبيٍّ ولكنك لوزير :»

وهذه إشارة واضحة إلى النص الواضح عليه من قبل رسول الله وهو معنى حديث المنزلة المشهور عن رسول الله مخاطبًا عليًّا: «أنتَ مني بمنزلةِ هارونَ من موسى إلَّ أنهُ لا نبيَّ بعدي .»

ه) وفي كتاب وجهه إلى أخيه عقيل جوابًا، قال (علیه السّلام)(2):

«فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حربِ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قبلي، فجَزَتْ قريشًا عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطانَ ابنِ أمي :»

والأمر ليس مسألة قبلية أو عربية أو سلطانًا يملكه الإمام بل هو سلطان الله تعالى.

وأخیرًا فقد استعرضنا في هذا الدرس دعوى الإمام للإمامة وبيانه

للمؤهات التي تؤهله لذلك ومنها النص عليه، وسنتحدث في الدرس القادم -إن شاء الله تعالى- عن سائر المؤهلات والكمالات التي كانت للإمام (علیه السّلام) والتي أهَّلته لمنصب الإمامة.

ص: 289


1- خ 192 ، ص 301 .
2- الكتاب رقم 36 ، ص 409 .

ص: 290

31) مؤهلات الإمام

مدخل

قالَ اللهُ العظيم في محكَمِ كتابِهِ الكريم:

«وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَم يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِی العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِی مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »(1).

نتحدث في هذا الدرس وهو الحلقة الثالثة حول الإمامة عن بعض مؤهلات أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لمنصب الإمامة، وإن كانت تصلح في مجملها كمؤهلات لإمامة سائر الأئمة من ذريته عليه وعليهم الصلاة والسلام.

إن واقع الإمامة مقرون بواقع الأمة في هذا الدين الجديد على الناس والذي بذل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ثلاثًا وعشرين سنة من عمره الشريف يبلِّغه للناس حتى دخلوا

فيه أفواجًا، وأخذًا بهذه الحقيقة نلاحظ أمرين استوجبا أن تكون الإمامة امتدادًا لائقًا بالنبوة ومواصلاً لمهمتها في التبليغ، وهذان الأمرانِ هما:

1) أنه وبطبيعة الحال لم تتوغل أفكار الإسلام وأهدافه في نفوس كل المسلمين الداخلین في هذا الدين، فقد كان منهم حديثو العهد بالإسلام، ومنهم الطلقاء الذين دخلوا في الدين خوفًا عند فتح مكة، ومنهم المشككون ومنهم المنافقون

ص: 291


1- سورة البقرة / 247 .

الذين مردوا على النفاق.

2) يضاف إلى ذلك أن هذا الدين القادم شكل خطرًا بحيث كاد أن يقضي تمامًا على سائر الأديان الأخرى في حينها، وكان لهذا أن يتم لو شاء الله تعالى لنبيه أن يعيش فترة أطول أو لم يحصل الارتداد بعد وفاته، فكان أعداء الإسلام يبثون الشكوك في الإسلام ويتحينون الفرص للقضاء عليه، ولم تكن فرصة مواتية لهم كالفترة التي سیرتحل فيها النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى جوار ربه، فكانوا يهيِّئون لإبراز أحقادهم وشن غاراتهم على الإسلام والمسلمين.

إذن فبملاحظة أتباع الإسلام أو أعدائه كان ارتحال النبي يشكل فترة عصيبة وخطرة، ولهذا كان لا بد لهذا الموقف من شخص يملؤ هذا الفراغ الذي خلَّفَهُ النبي فيصعد المنبر ليرشد الناس ويتولى القضاء ويرعى شؤون الأمة بالحكمة التي كانت لرسول الله وبعلمه وهديه وشجاعته وصموده درعًا وحصنًا للإسلام

والمسلمين، فيجب إذن أن يكون من يخلف النبي يليق بشأنه الرفيع ومقامه الجليل،ويليق كذلك بالمهمة الكبیرة بعد ارتحال النبي.

ومن غر المعقول أن يكون من يخلف النبي بعيدًا في مؤهلاته عنه، فيؤول الأمر من تلك القمة الشامخة إلى الحضيض، فهي إذن وجهة عقلية تستلزمها تلك الفترة العصيبة بما حملت من محنٍ شتى، فلا بد إذن من شخص تتوفر فيه مؤهلات وكمالات تهيؤه لخلافة النبي في مهمته العظيمة، ومن أهم تلك المؤهلات ما يلي:

أولاً: العلم

وغنيٌّ عن البيان الحاجة والأهمية البالغة للعلم في شخص الإمام، وتركيزنا

ص: 292

هنا على العلم بالشريعة دون العلوم الأخرى، فإنها وإن كانت من الكمالات التي يتفاضل بها العظماء إلا أنها ليست بأهمية العلم بالشريعة بالنسبة للإمام، فمن غیر اللائق أن يكون إمام المسلمين الذي يخلف النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يُسأَلُ عن مسألةٍ تتعلق بالدين في معتقده أو عباداته أو أخلاقه فيقول: لا أدري، جاهلاً محتاجًا إلى أن يتعلم،خاصة إذا كان من يسأل من غیر المسلمين فيجد أن إمام المسلمين جاهلٌ ولو

بشيء من مسائل الإسلام.

وقد حاز أمیر المؤمنین (علیه السّلام) هذا المؤهِّل وهذه الميزة وفاقها أيضًا، فقد أحاط بعلم الشريعة بكل تفاصيله، بل فاقه حتى بلغ العلم بالملإ الأعلى، وحتى شمل بعلمه علوم الطبيعة وأسرار الكون، ولم يشاركه في كل ذلك أحد، والإمام يجعل هذه الناحية من ركائز إمامته المهمة، وهو القائل: «إِنَّ هاهنا لَعِلْماً جمًّا لو

أصبتُ له حَملَةً .»(1).

بل كان (علیه السّلام) يتحدى بعلمه لإقامة الحجة على الناس بأحقيته بالإمامة، وكان مرموقًا بينهم جميعًا ولم تكن منزلته في العلم خافية عليهم فكانوا يفزعون إليه في المهمات، ولسنا بصدد استعراض حديث الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن علم الإمام أو حديث الصحابة أو التأريخ، بل نحن وكما هو منهج الدرس، نأخذ كلمات الإمام كوثائق تحمل في طيها ادعاء الإمام للإمامة والمواصفات التي يجب أن تتوفر عند الإمام الذي يشغل مقام النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(2).

ص: 293


1- الحكمة رقم 147 ، ص 496 .
2- وقد عرضتُ في كتاب (ثلاث مقالات) في المقالة الخاصة بعلم الإمام توسعًا في هذا المجال يمكن مراجعته للفائدة.

فمن جملة هذه النصوص ما يلي:

أ) قال (علیه السّلام) عن مناهل علمه الشريف(1):

«ولقد قرنَ اللهُ بنبيِّهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من لدُنْ أن كانَ فطيماً أعظمَ ملَكٍ من ملائكتِهِ يسلُكُ بهِ طريقَ المكارم، ومحاسنَ أخلاقِ العالم، ليلَهُ ونهارَه، ولقد كنتُ أتَّبِعُهُ

اتِّباعَ الفصيلِ أثَرَ أمِّه، يرفعُ لي في كلِّ يومٍ من أخلاقِهِ علَماً ويأمرني بالاقتداءِ به .»

والأخلاق هنا لا تعني فقط حسن المعاشرة أو جوانب الأخلاق كالصبروغیره بل هي عامة تشمل العلم بكل ما يتعلق بالشرع وبسائر المجالات التي يكون فيها كمال المتصف بها.

ب) وأضاف (علیه السّلام)(2):

«بل اندمجتُ على مكنونِ علمٍ لو بُحْتُ بهِ لاضطربتُم اضطرابَ الأرشيةِ في الطويِّ البعيدة »: الأرشية: جمع (رشا) وهي الحبل تنزل في البئر لاستخراج الماء، والطوي: هي البئر، والبعيدة بمعنى العميقة، فيقول (علیه السّلام) إنني اشتملت وضمت

جوانحي من العلوم ما لو أطلعتكم عليه لاضطربتم كالحبال تضطرب بسبب عمق البئر وتلك كناية عن علمه الغزير الذي لا ينال، وهذا الكلام قاله الإمام وجهر به أمام الملأ فكان بإمكان أي أحد أن يحاجه ويناقشه لو كان يستطيع لذلك سبيلًا.

ص: 294


1- خ 192 ، ص 300 .
2- خ 5، ص 52 .

ج) وتحدث (علیه السّلام) وملؤه علم وثقة(1):

«فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفي بيدِهِ لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبین الساعةِ... إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ... »: وهذه من الكلمات الخاصة بالإمام والتي سُجِّلَتْ حولها النوادر أيضًا في ذكر من قال: سلوني، ثم افتضح لأذل سائل وأقل مسألة(2)، ويشاء الله تعالى أن ينطق التأريخ بفضل علي (علیه السّلام)، وقوله (وبین الساعة)

تحدٍّ عجيب لا يحتمله أحد غیره، ثم يتمم ذلك بتتميمٍ رائعٍ قائلاً:

«ولو قد فقدتُموني ونزلَتْ بكم كرائِهُ الأمورِ، وحوازبُ الخطوبِ، لأطرَقَ كثیرٌ من السائلينَ وفَشِلَ كثیرٌ من المسؤولينَ »: وذلك هو الفرق بین علي الذي لا يتحیر في مسألة وبین غیره ممن قبله وبعده.

د) وفي نص عُنْوِنَ بِ (علم الوصي) قال(علیه السّلام)(3):

«أيّهُا الناسُ، سلوني قبلَ أن تفقدوني، فلأنا بطرقِ السماءِ أعلمُ مني بطرُقِ الأرض، قبل أن تشغَرَ برِجلِها فتنةٌ تطأُ في خطامِها وتذهَبُ بأحلامِ قومِها »: والإمام هنا لا يقصد أنه لا يعلم بعلوم الأرض بشكل تام كعلمه بالسماء، ولكن حديثه هذا لعله باعتبار أن علوم السماء أكثر سعة من علوم الأرض، أو باعتبار أن سائر

الناس تعلم بعلوم الأرض أكثر من علمها بالسماء فتكون له (علیه السّلام) الميزة والأعلمية في هذا المجال، ويستخدم الإمام الكنايات لهذه الفتن القادمة التي تشغر برجلها أي ترفعها كناية عن كثرة مداخل الفساد وعدم العدة للنجاة من الفتن التي

ص: 295


1- خ 93 ، ص 137 .
2- يمكن مراجعة كتاب (الغدير) 6/ 195 - 196 .
3- خ 189 ، ص 280 .

تطأ في خطامها أي تتعثر كناية عن الطيش وأنه لا قائد لها، فحينها تشتد الفتن وتكثر الخطوب ويحار الناس ويحتاجون إلى من يفزعون إليه فلا يجدون عليًّا وقد فقدوه، فعليهم إذن أن يبادروا بسؤاله الآن فهو المفزع والنجاة، ونؤكد أن الإمام كان يقول هذا أمام الملأ وفيهم خصومه وأعداؤه الذين يعدون عليه أنفاسه ولو

كانوا يملكون حيلة لأفحموه وأحرجوه أمام الناس، ولكن يأبى الله إلا أن يظهر الحق على يد وليه.

ه) وسجّل (علیه السّلام) هذه الحقيقة مضيفًا امتيازًا آخر(1):

«وليس كلُّ أصحابِ رسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من كان يسأله ويستفهمه، حتى إنْ كانوا ليحبُّون أن يجيءَ الأعرابيُّ والطارئُ فيسألَهُ (علیه السّلام) حتى يسمعوا، وكان لا يمرُّ

بي من ذلك شيءٌ إلا سألتُهُ عنه وحفظتُه »: فهي إذن ميزة كان يتصف بها الإمام (علیه السّلام) ويفقدها غیره.

ثانيًا: العصمة

ولا نقصد بهذا العنوان الحديثَ عن جهات العصمة المتعددة فإن المقام وإن كان مهماًّ إلا أنه يطول بنا، فنتحدث فقط عن أهميتها ودورها في منصب الإمامة وما ينبغي أن يكون عليه من سيكون حاكماً في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، ومالكًا للأمر في قضايا الحرب والسلم وما يتعلق بمقدرات الأمة، فيجب أن يكون

على نحو كبیر من الإيمان والتقوى والتعلق بالله تعالى بحيث لا تزيده كثرة الناس حوله عزة ولا تفرقهم عنه وحشة، ويجب أن يكون محيطًا بالشريعة وأوضاع الأمة إحاطة تعصمه من الخطأ مهما كان، وهذا ما لا يقوى عليه عامة البشر إلا من

ص: 296


1- خ 210 ، ص 327 .

اختصهم الله تعالى واصطفاهم لذلك.

والعصمة جهة باطنية فإن أعماق الشخص لا تعرف ولا يطلع على سره إلا الله تعالى وهو وحده يعلم إن كان ذلك الشخص يذنب سرًّا أم لا، وهو وحده العالم بنفسيته ومؤهلاته ومدى استعداده، وهو إذن العالم بالإمام وجدارته لهذا المنصب وهو وحده من يملك حق الاصطفاء.

والملاحظ أن الإمام كان يذكر لأصحابه ولأعدائه في كتبه إليهم شواهد من حياته حينما تقتضي المناسبة فتتجلى فيها صورة فريدة من الانضباط والنزاهة والعصمة التي ما كان يقدر عليها سواه، ومن جملة هذه النصوص ما يلي:

أ) أشار إلى مستوى من العصمة فقال (علیه السّلام)(1):

«ما شكَكْتُ في الحقِّ مذْ أُرِيتُه »: وكلمة الحق تشمل كل حقٍّ، علماً كان أو عملاً وممارسة، فالإمام فيما يعتقد وفيما يفعل ويترك كان على الحق وهذا غاية الكمال وشاهد على العصمة لأن الخطأ هو باطل مجانب للحق.

ب) وقال (علیه السّلام) حينما بويع بالخلافة(2):

«واللهِ ما كَتَمْتُ وَشْمَةً، ولا كَذَبْتُ كِذْبَةً »: والوشمة هي الكلمة، ومن ذا الذي يحتمل أن لا يكتم شيئًا من الحق ولا يكذب مطلقًا حتى ولو كان سهوًا؟!

فهذه منزلة ليست لكل أحد ورتبة سامية دعا الله عباده إليها: «يا أيّهُا الذينَ

ص: 297


1- خ 4، ص 51 .
2- خ 16 ، ص 57 .

آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصادِقِینَ »(1).

ج) ومما قاله (علیه السّلام) للخوارج(2):

«وواللهِ إنْ جِئْتُها إِنِّی لَلْمُحِقُّ الذي يُتَّبَعُ، وإِنَّ الكتابَ لَمعِي، ما فارَقْتُهُ مُذْ صَحبِتْه »ُ: فهو يصرح وبنفس واثقة بأنه أحق أن يُتَّبع، وأن الكتاب الذي «يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ »(3) معه يشهد له بأنه على الحق، هذا وهو عِدْلُ الكتاب، بل هو

كتاب الله الناطق.

د) وقال (علیه السّلام)(4):

«ولقد عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أصحابِ محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أني لم أردَّ على اللهِ ولا على رسولِهِ ساعةً قط »: ونلاحظ هنا براعة الاستهلال لهذا النص الشريف، وهو يستشهد بما يعلمه الصحابة الذين استحفظوا (على الحديث) ولم يكن في قلوبهم زيغ ولا خصومة وبغض للحق، فهم يعلمون علماً يقينًا بمدى نصرة الإمام وطاعته لله ولرسوله وأنه لم يرد على الله ولا على رسوله أبدًا وهذا نهاية التسليم.

«ولقد واسيتُهُ بنفسي في المواطنِ التي تنكِصُ فيها الأبطالُ، وتتأخَّرُ فيها الأقدامُ، نَجْدَةً أكرمَنِي اللهُ بها »: وإن الاستدلال بهذا على العصمة واضح فهي الالتزام الاعتقادي والعملي.

ص: 298


1- سورة التوبة / 119 .
2- خ 122 ، ص 179 .
3- سورة الإسراء / 9.
4- خ 197 ، ص 311 .

ثالثًا: الشجاعة

فإن قائد الأمة ينبغي له من القوة والشجاعة ما يكون به سندًا ووجودًا يرهبه الأعداء، ولا يعني هذا أن يكون ظالمًا يبطش بالعباد أو تنزع منه الرحمة، بل هي القوة والشجاعة في الحق ونصرته، فالحق لا يُحفَظُ إلا بقوةٍ تتكفل بإقامته والدفاع عنه وإلا ألَّمتْ به الفتن وشمله البلاء، وإن من نافلة الحديث أن نقول:

عليٌّ شجاع، وكفى بالتأريخ دليلاً بما ضمه من مواقف خالدة وبطولات عجيبة ونماذج من شجاعة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه عليه.

وإذا أردنا أن نستشهد بكلماته هو والتي صرح فيها بشجاعته إبرازًا لصفة من صفات الإمام وأنه أولى بالإمامة من غیره، فمن ذلك ما يلي:

أ) مما قاله(علیه السّلام)(1):

«واللهِ لابنُ أبي طالبٍ آنسُ بالموتِ من الطفلِ بثديِ أمِّه »: وأي شجاعة كالأنس بالموت وعدم الاكتراث به، ولِلعلمِ فإن مظهر الشجاعة ليس في الحرب فقط بل هي أيضًا القوة القلبية في تحمل الشدائد والصبر على البلاء.

ب) وقال (علیه السّلام) مؤرخًا لذلك السجل الحافل(2):

«حتى لقد قالت قريشٌ: إن ابنَ أبي طالبٍ رجلٌ شُجاعٌ، ولكن لا علمَ له بالحربِ، للهِ أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراسًا، وأقدمُ فيها مقامًا مني! لقد نهَضتُ فيها وما بلَغتُ العشرينَ، وهأنذا قد ذرَّفتُ على الستينَ! ولكن لا رأيَ

ص: 299


1- خ 5، ص 52 .
2- خ 2، ص 70 - 71 .

لمن لا يُطاعُ »: فلو اقتصرنا على مظهر الشجاعة في الحرب لوجدنا أنها تربو على أربعن سنة خاض الإمام فيها الحرب بطلاً للإسلام ومدافعًا عن الحق، لم يمنعه صغر السن ولم تقعده الستون، ومن العجب أن القوم أبوا عليه الخلافة لصغر سِنِّهِ كما صرَّحوا بذلك، فلماذا إذن لم يستصغروا سنّه فيخرجوا بدله حین خرج يواجه الأبطال في بدر وأحد والخندق وخير وكثیر غيرها، ولماذا كان الكبار كبارًا للخلافة وصغارًا في حروب الإسلام؟!

ج) وفي كتاب وجَّههُ إلى معاوية قال (علیه السّلام):(1)

«وقد دعوتَ إلى الحربِ، فدعِ الناسَ جانبًا واخرجْ إليَّ، وأَعْفِ الفريقینِ من القتال، لتعلمَ أيُّنا المَرِينُ على قلبِه، والمُغطَّى على بصرِه! فأنا أبو حسنٍ قاتلُ جدِّكَ وأخيكَ وخالكَ شدخًا يومَ بدر، وذلك السيفُ معي، وبذلك القلبِ ألقى عدوِّي، ما استبدلتُ دينًا، ولا استحدثتُ نبيًّا، وإني لعلى المنهاجِ الذي تركتموهُ طائعین، ودخلتم فيه مكرَهین »: أمیر المؤمنین (علیه السّلام) إمام البلاغة ومَشرْعُ الفصاحة، وأسلوبه هنا من الأساليب التي ترهب أعداء الله وتدخل الخوف على قلوبهم فلا يهنؤون بحياة، وكلماته (علیه السّلام) كسيفه، وفي أسلوبه أيضًا الفخر الذي هو في محله

لإحقاق الحق واستثارة أعداء الحق.

د) وفي كتاب بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر (رضی الله عنه) لما ولاه عليها قال (علیه السّلام)(2):

«إني واللهِ لو لقيتُهم واحدًا وهم طِلاعُ الأرضِ كلِّها ما باليتُ ولا

استوحشت »: فعليٌّ يتحدَّى الدنيا بأسرها بشجاعته، وهو الكفؤ الذي كان حامية

ص: 300


1- الكتاب رقم 10 ، ص 370 .
2- الكتاب رقم 62 ، ص 452 .

الإسلام والمسلمين والبطلَ المدافِعَ حین اشتداد الخطوب، والقائد إذا كان عليًّا فإن جيش الإسلام به منتصر كما كان كذلك، وإن الجند إنا يثبتون بثبات قائدهم فیربي منهم الأبطال أمثال مالك والمرقال وقيس بن سعد، وأما إذا كان القائد جبانًا فإن الجيش ينهزم بانهزامه ويفرُّ معه. فأما علي فيقال عنه:

إِنْ كنتَ لجهلِكَ بالأيامِ*** جحدْتَ مقامَ أبي شبرْ

فاسألْ بدرًا واسألْ أحدًا*** وسلِ الأحزابَ وسلْ خيبرْ

وأما غير عليٍّ فيقال له:

عَذرتكما إِنَّ الحِماَمَ لَبغضٌ*** وإِنَّ بقاءَ النفسِ للنفسِ محبوبُ

إذن فالعلم والعصمة والشجاعة مؤهات لمن يكون جديرًا ومستحقًّا لأن يشغل هذا المنصب الجليل (الإمامة) ويكون خلفًا لرسول الله في القيام بأمر الإسلام وقيادة الأمة، والله تعالى هو الذي اطلع وعلم من يصلح لهذا المقام فاصطفاه و «اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَه »(1) ،« أَلَا يعلمُ مَنْ خلقَ وهو

اللطيفُ الخبیرُ »(2).

ص: 301


1- سورة الأنعام / 124 .
2- سورة الملك / 14 .

ص: 302

32)علي (علیه السّلام) والحاكمون

مدخل:

قاسوكَ أبا حسنٍ بسوا*** كَ وهل بالطَّودِ يُقاسُ الذّرْ

أنَّى ساووكَ بمنْ ناوو*** كَ وهل ساووا نَعْليَ قنبرْ

الحديث في هذا الدرس يدور حول ثلاث نقاط:

1) أنه لا تصح مقارنة بين علي (علیه السّلام) وبين غيره.

2) ما وجَّهَهُ الإمامُ (علیه السّلام) من انتقاد لمن تولى الحكم قبله بعد رحلة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

3) أن الإمام (علیه السّلام) تتوفر فيه المؤهات ولديه الحجج التي احتجوا بها ليتسلموا الحكم، بل عنده من الحجج ما يزيد عليهم أيضًا.

ويكون هذا الدرس تتميماً لموضوع المؤهلات التي يجب أن تتوفر في خليفة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

أولاً: المقارنة بين علي (علیه السّلام) وغيره

تحدثنا عن هذا المنصب الجليل (الإمامة) وخطورته والأهمية البالغة لمن يشغل مقام النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وذلك أن كلمة (إمام) تعني قائدًا للأمة يهدي الناس إلى

سواء السبيل ويكون حجة عليهم، لذلك لا بد وأن يكون الإمام مميزًا عن الكل في مستواه العلمي والعقلي والإيماني وما إلى ذلك من كمالات.

ص: 303

وكما عُنِيَ الإمام (علیه السّلام) بأحقيته في الإمامة والنص عليه بها وأقام الدليل على ذلك، نجده أيضًا عُنِيَ وصرَّحَ بأنه لا تصح مقارنة بينه وبین غیره، وما ذاك إلا لبيان أحقيته بالإمامة ودليل ومؤهل آخر يجعله أحق بالإمامة، وليس هذا التصريح من باب الفخر بل هو بيان للحقيقة، ولا مجال هنا للتواضع والتنازل

فإن الإمامة أساسًا حق الله تعالى، وقد صرح الإمام بعدم صحة المقارنة بينه وبین غیره في خطبه وفي كتبه خاصة إلى معاوية، ومن ذلك ما يلي:

أ) قال (علیه السّلام)(1):

«لا يُقَاسُ بآلِ محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من هذهِ الأمةِ أَحَد »: وهذا تعبیر جازم وصريح بأنه لا تصح مقارنة بین آل محمد وسواهم، هذا والإمام سيد آل محمد فهو نفس النبي

وأبو السبطين ووالد الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وليست هذه الأفضلية لآل محمد بشرف النسب بل يعني الإمام بالمقاييس الصحيحة وما به التفاضل، فلا يقاس بهم أحد في علم أو إيمان أو نزاهة، ولهذا لا تعني هذه الكلمة كلَّ آل محمد وفي كل مجال وفضيلة بل تعني من استحق ذلك بما يملك من كمالات، ولهذا فالقريب من محمد من قرَّبه عمله، والبعيد عن محمد من أبعده عمله وإن قرَّبه نسبه.

«ولا يسوَّى بهم من جَرَتْ نعمتُهم عليهِ أبدًا... »: ولعل الإمام يشیر إلى أمور بعيدة باعتبار أن نعمة الخلق ونعمة المعرفة والهداية التي أفاضها الله على البشر إنما هي ببركات محمد وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام، فهم من جهةٍ علة الخلق، ومن جهةٍ أخرى ظاهرةٍ هم الذين جاهدوا لإيصال المعرفة والهداية

ص: 304


1- خ 2، ص 47 .

إلى الناس فكانت دعوة الرسول وكان جهاد عليٍّ بفكره وسيفه في سبيل الدعوة.

فعليٌّ نفسُهُ كان مؤسسًا ورائدًا للجهاد في سبيل نصرة الدعوة وإيصالها إلى الناس، وما بالك بقول النبي في يوم الخندق: «لضربةُ عليٍّ خیرٌ من عبادةِ الثقلین »(1)، وذلك لأنه لولا أن الإمام برز وجدَّل أعداء الإسلام لقُضيَ على

الإسلام والمسلمين بحسب الأسباب الطبيعية، ولم يصل الإسلام إلى ذلك الجيل والأجيال التي تلَتْه إلى يوم القيامة ولم يكونوا ليعرفوا العبادة وسائر تعاليم الإسلام، لذلك فهم مَدِينون لتلك الضربة وذلك الموقف الذي نمَّ عن جهاد خاص من أجل إيصال الدعوة إلى الخلق.

ب) وفي الخطبة الشقشقية، قال(علیه السّلام)(2):

«مَتَى اعْترَضَ الرَّيْبُ فِّی معَ الأولِ منهُمْ حتى صِرتُ أُقرَنُ إلى هذه النظائر :»

فإنه من المعلوم أن صيغ التفاضل إنما تصح إذا كان بین الشيئين أو الشخصين جهة مشتركة يمكن معها المفاضلة كأن يكون شخصان غنيین فنقول هذا أغنى من هذا أو كلاهما مؤمنَین فنقول هذا أشد إيمانًا من هذا، ولكن لا نقول إن هذا المؤمن

أشد إيمانًا من ذلك الكافر لعدم وجود جهة الاشتراك أصلاً، والإمام هنا يركز على هذه النقطة وأنه لا يقبل بالمقارنة بينه وبن غیره لأنها لا تصح أصلاً، ولم يكن هناك شك يمكن أن يرِدَ في فضله وعدم مقارنته بالأول منهم بالذات، وما ذَكَرَ الإمامُ (علیه السّلام) الأولَ منهم إلا لأنه أول من حكم لا لميزة فيه أو أنه أفضل من غیره أو لشيء آخر، ولذلك يخطيء أهل السنة كثیرًا حین يرتبون الحكام بعد النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

ص: 305


1- المواقف، للإيجي 3/ 628 .
2- خ 3، ص 49 .

في الأفضلية بحسب ترتيبهم في تولي الحكم فيكون الأول أفضل من الثاني، والثاني أفضل من الثالث، بل إن بعضهم يبالغ كثیرًا في الخطأ فيفَضِّل من جاء إلى الحكم أولًا حتى في الشجاعة فيكونون كلهم أشجع من الإمام (علیه السّلام)، وهذا النوع من المقاييس مما لا ينبغي الإجابة عنه أصلاً، فالإمام إذن يستنكر وبشدة مقارنته بغیره.

ج) وفي كتاب وجهه إلى معاوية، قال(علیه السّلام)(1):

«فيا عَجَبًا للدَّهْرِ! إذ صِرتُ يُقْرَنُ بي مَنْ لَم يسْعَ بِقَدَمِي ولَم تكنْ لهُ كسابقتي، التي لا يُدْلي أَحَدٌ بِمِثْلِها، إِلَّا أَنْ يدَّعي مُدَّعٍ... »: فإذا كان التفاضل بالسبق في الفضائل فليس لغیره مثل الذي له (علیه السّلام)، وقد أوردنا في درس سابق(2) شيئًا من النواحي البلاغية في هذا النص الشريف.

وأخیرًا أود أن أذكر نصین حول هذه النقطة لم يذكرهما الشريف الرضي في النهج وقد ذكرهما ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، وهذان النصان هما(3):

النص الأول: قال له عثمان في كلام تلاحيا فيه حتى جرى ذكر أبي بكر وعمر: أبو بكر وعمر خیر منك، فقال: «أنا خیر منك ومنهما، عبدتُ اللهَ قبلهما وعبدتُهُ بعدهما .»

فهو (علیه السّلام) لم يفخر بحسب أو نسب أو شيء مما يتفاخر به أهل الدنيا وإنما افتخر بعبادة الله تعالى وسبقه إلى ذلك في فترة لم يكن أحد منهم يعرف عبادة الله

ص: 306


1- الكتاب رقم 9، ص 369 .
2- درس (الإمامة والنص).
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، الكلمة رقم 66 ، ج 20 ، ص 262 ، والكلمة 733 ، ج 20 ،ص 326 .

تعالى.

النص الثاني: قال (علیه السّلام):«كنتُ في أيام رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كجزء من رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يَنْظُرُ إِلَّی الناس كما يُنْظَرُ إلى الكواكبِ في أفقِ السماء، ثم غضَّ الدهرُ مني فقُرِنَ بي فلانٌ وفلان، ثم قُرِنَ بي خمسةٌ أمثلُهُمْ عثمان، فقلتُ: واذفراه، ثم لَم يرضَ الدهرُ

بذلك حتى أرذلني فجعلني نظیرًا لابنِ هندٍ وابنِ النابغة، لقد استنَّتِ الفِصَالُ حتى القَرْعَى .»

ومن الملاحظ أن الإمام يصرح بالأسماء أحيانًا ولكن بعض الكتاب لا

يجرؤون على إيراد الاسم الصريح أو أنهم احترامًا للشيخين يقولون: فلان وفلان، فالإمام (علیه السّلام) يصرح أن مقارنته بالأول والثاني غضٌّ لحقه وفضله وأنها لا تصح أساسًا، ثم أنزله الدهر حتى قُرِنَ بالخمسة في شورى عمر، ثم لم يرضَ الدهر

حتى أنزله وقرنه بابن هند معاوية وابن النابغة عمرو بن العاص، والمثل الذي أورده الإمام (علیه السّلام) يُضرب لمن يرعى أمرًا فوق مستواه أو ينال ما ليس له، فالإمام إذن يضمِّن آهاته وحسراته بسبب هذه المقارنة بينه وبین من لا تليق المقارنة به.

ثانيًا: الانتقاد

اشارة

ومسألة الانتقاد مما ابتلي بها المسلمون فتحجرت عقول بعضهم عندها، وكان للتعصب دوره الكبیر في الإصرار على عدالة كل الصحابة، وأن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

استغفر لأهل بدر، وأن الله اطلع على قلوبهم فقال افعلوا ما شئتم... وجرت خطوب السياسة فأوقفت العقول وحَرَّمَتِ الحديث وانتقاد أيِّ فردٍ رأى النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأي نحو كان، وهذا ظلم للحقيقة وجور على الحق، ومن هنا تكمن الأهميةالبالغة لأحاديث الإمام (علیه السّلام) بهذا الصدد، فهو -كما عبرنا مرارًا- أصدق المؤرخین

ص: 307

وأقربهم إلى تلك الأحداث وذلك الصراع، فنجد أنه بكل لباقة من جهة، وبكل وضوح وجرأة من جهة أخرى تحدث في هذا المجال وانتقد ممارسات الحاكمین وأشار إلى افتقارهم لمؤهلات الحكم وخلافة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وشغل ذلك المنصب الجليل، فانتقد الثلاثة: أبا بكر وعمر وعثمان، وشخصيات أخرى.

وقد أوجد ذلك الانتقاد وخاصة الخطبة الشقشقية شجًى وقذًى عند أعداء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أو المتعصبین لتلك الشخصيات، فحاولوا إبعاد ذلك الانتقاد لكي لا يأخذ أثره الكبیر، وكان من نتائج ذلك الطعن في نسبة النهج إلى الإمام (علیه السّلام)، وقد أجبنا عن ذلك، ومن أحاديثه (علیه السّلام) بهذا الصدد ما يلي:

أ) قال (علیه السّلام) في الخطبة الشقشقية أيضًا(1):

1) أبو بكر: «أما واللهِ لقد تقمَّصَها فلانٌ وإِنه لَيَعْلَمُ أن مَحليِّ منها مَحلُّ القُطْبِ من الرَّحَى، ينحدرُ عني السيلُ، ولا يرقى إليَّ الطیرُ .»

وقد قلنا إنه في بعض النسخ تصريح باسم ابن أبي قحافة، وعلى كل فالمعني بالأمر معروف، كما قلنا إن معنى تقمصها أي لبسها كالقميص، فالإمام ينتقد وبوضوح هذا العمل لأن الذي اغتصب الخلافة كان يعلم تمامًا أن الإمام (علیه السّلام) أولى بها فهو لها كالقطب في الرحى قريب منها ولائق بها ولا تصلح إلا به، ويلاحظ

تمام الأدب والسمو في عبارات الإمام صلوات الله وسلامه عليه.

«فسدَلْتُ دونها ثوبًا، وطَوَيْتُ عنها كَشْحًا »: فمن كان يرى الحكم بل الدنيا

ص: 308


1- خ 3، ص 48 .

كورقة في فم جرادة ، ومن كانت الخلافة عنده كالنعل البالية لا قيمة لها- لا بد وأنه يزهد فيها لِذَاتِها ولا يطلبها إلا ليقيم الحق.

«وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بینَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبرِ على طَخْيَةٍ عَمْياءَ »: فإن الإمامة حق الله تعالى، والإمام يعلم أن الواجب عليه أن يسترجعها، ولكنه لم يفعل ذلك لقلة الناصر ولخوفه على الإسلام من أعدائه الذين كانوا يتربصون به في تلك الفترة العصيبة ويستغلون خلاف المسلمين للقضاء على الإسلام والمسلمين،

ولأسباب أخرى، ولذلك صبر الإمام محتسبًا وتجرع الغصص حتى لقي ربه.

2) عمر: «حتى مَضَب الأولُ إلى سبيلِه فأَدْلَی بها إلى فلانٍ بعدَه. ثم تمثَّل بقولِ الأعشى:

شتانَ ما يومي على كورِها*** ويومُ حيَّانَ أخي جابرِ

فيا عجبًا!! بينا هو يستقيلُها في حياتِهِ إِذْ عَقَدَها لآخرَ بعد وفاتِه، لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرعَيها! »: وهذا غاية البلاء أن يغتصب الأول الخلافة ثم يطلب الاستقالة منها لعلمه أنها ليست له، ومع ذلك فهو يعطيها للثاني بعد مماته وحتى دون استشارة أحد، وكأنها حقه وملكه، فأصبحت الخلافة كالبقرة الحلوب شَطْرٌ لأبي

بكر وشطرٌ لعمر، وقد أورد التأريخ أن عمر هو أول من بايع أبا بكر وهو الذي عقد له البيعة ومكَّنَه من الخلافة، ولذلك يستدل بعض علماء السنة بذلك على صحة عقد الخلافة لشخص إذا بايعه ولو شخص واحد، ثم كافأ أبو بكر عمر على ذلك فأعطاه الخلافة بعده.

ولكن لمن أعطاها؟

ص: 309

«فصيَّرها في حوزةٍ خشناءَ »: فقد عُرِفَ عمر بالخشونة والشدة حتى أن ابن أبي الحديد قال متحدثًا عن عائشة: «ولو كانت فعلتْ بعمر ما فعلتْ بهِ،وشقَّتْ عصا الأمةِ عليه ثم ظفرَ بها، لقتلَها ومزَّقها إربًا إربًا، ولكنَّ عليًّا كان حليماً كريماً »(1)، واعتذر ابن أبي الحديد أيضًا لعمر بأن هذه الشدة والفظاظة فيه غريزة جُبِلَ عليها.

«يغلُظُ كلْمُها... »: أي يشتد جَرحها للأمة.

«ويكثُرُ العِثَارُ فيها... »: أي الخطأ والزلل فيها وتلك نتيجة عدم العلم، ولهذا أُحصيِ لعمر سبعين مرة أو أكثر يقول فيها: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، ولولا علي لهلك عمر(2).

«فصاحبُها كراكبِ الصعبةِ إِنْ أشنقَ لها خرَم وإِنْ أسلَسَ لها تقحَّم »: أي عمر وحاله مع الخلافة، كراكب الناقة الصعبة، إن شد لجامها ليتمكن منها فإنه قد يقطع أنفها، وإن أسلس وأرخى اللجام ذهبت به وأقحمته في الأخطار.

«فمُنِيَ الناسُ -لعمرُ اللهِ-... »: فإنها عشر سنوات قاسى الناس فيها بلاءً شديدًا ومحنةً كبرى.

فيا للهِ ولِلشورى!

«حتى إذا مى لسبيلِهِ جعلها في جماعةٍ زعمَ أني أحدُهُم، فياللهِ وللشورى!

ص: 310


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 17 / 254 ، شرح الكتاب رقم 64 .
2- يمكن مراجعة الغدير 6/ 83 إلى ص 333 ، نوادر الأثر في علم عمر. وبالخصوص الصفحات: 110 ، 111 ، 126 ، 144 ، 172 ، 247 .

متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأولِ منهم حتى صِرتُ أُقرَنُ إلى هذه النظائر! »: وقد ذكرنا معنى تخصيص الإمام (علیه السّلام) الأول منهم بالذكر.

«فصغى رجلٌ منهم لضغنِه، ومالَ الآخرُ لصهرِه، معَ هَنٍ وهَن »: إذ كانت الشورى سداسية، وكان عمر يعلم أن عبد الرحمن بن عوف يميل إلى عثمان وكذلك سعد بن أبي وقاص لأن أمه من بني أمية، والتعبیر (مع هَنٍ وهَنٍ) أي مع أمور أخرى وغالبًا ما يستخدم ذلك كنايةً عن أمور مستقبحة.

3) عثمان: «إلى أن قامَ ثالثُ القومِ »: وهذا تعبیر لطيف من الإمام يقصد به أن عثمان الثالث من شاكلة قومه الأول والثاني.

«نافجًا حِضنَيهِ بن نثيلِهِ ومُعتَلَفِهِ »: ويقصد الإمام بهذا أن هَمَّ الثالث كان علفه ودنياه(1).

«وقامَ معه بنو أبيهِ يَخضَمُونَ مالَ اللهِ خِضْمَةَ الإبلِ نِبتَةَ الربيع .(2)».

ص: 311


1- قال ابن أبي الحديد عند شرحه للخطبة الشقشقية 1/ 197 : يريد أن هَّمهُ الأكل والرجيع، وهذا من ممض الذم وأشد من قول الحطيئة الذي قِيلَ إنه أهجى بيت للعرب: دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لِبُغْيَتِها*** واقعُدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
2- وقال ابن أبي الحديد عند شرحه للشقشقية 1/ 198 - 199 متحدثًا عن عثمان: وصحَّت فيه فراسة عمر، فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس، وولَّهم الولايات وأقطعهم القطائع، وافتُتِحَت إفريقية في أيامه فأخذ الخمسَ كلَّهُ فوهبه لمروان... وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صِلَةً فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد سیرَّه ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم، وتصدق رسول الله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزوز على المسلمين، فأقطعه عثمانُ الحارثَ بن الحكم أخا مروان بن الحكم، وأقطع مروان فدك... وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب... وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف....

«إلى أن انتكثَ عليهِ فتلُه، وأجهزَ عليهِ عملُه، وكبتْ بهِ بِطنتُه! »: وهذا غاية الأمر أن يكون كل ما أصاب عثمان من باء وغضب من الناس حتى قتلوه كان بسبب حرصه على لذات الدنيا وملأ بطنه، فكانت تلك عاقبته.

وذكر الشيخ المطهري أن الإمام تحدث عن عثمان في 16 موضعًا في النهج نظرًا لكثرة المحن التي جرَّها عثمان وشدة البلاء عليه(1).

ب) وقال (علیه السّلام) في معنى قتل عثمان(2):

«وأنا جامعٌ لكم أمرَه، استأثر فأساءَ الأثَرة، وجزعتُمْ فأسأتُم الجزَع، وللهِ حكمٌ واقعٌ في المستأثرِ والجازع »: أي أنه طمع وأساء، وهذا تعبیر دقيق من الإمام وبيان لواقع الحال.

ج) وقال (علیه السّلام) في حديث إلى عثمان(3):

«فاعلمْ أن أفضلَ عبادِ اللهِ عندَ اللهِ إمامٌ عادلٌ، هُدِيَ فهدى... وإنَّ شرَّ الناسِ

ص: 312


1- في رحاب نهج البلاغة، للشيخ المطهري، فصل (نقده للخلفاء)، ص 121 .
2- خ 30 ، ص 73 .
3- خ 164 ، ص 235 .

عند اللهِ إمامٌ جائرٌ ضلَّ وضُلَّ به... فلا تكوننَّ لمروانَ سيِّقَةً يسوقُكَ حيثُ شاءَ،بعد جلالِ السنِّ وتَقَضيِّ العُمْرِ »: وهذه صراحة ودقة في النقد ما بعدها شيء.

ويذكر التأريخ أن مروان كان هو المتحكم في عثمان وحكمه، وقد كانت زوجة عثمان أيضًا تخبره أن بلاءه هو من مروان.

د) وفي كتاب إلى معاوية، قال (علیه السّلام)(1):

«وما كنتُ لأِعتذرَ من أني كنتُ أنقمُ عليهِ أحداثًا، فإن كانَ الذنبُ إليه إرشادي وهدايتي له، فرُبَّ ملومٍ لا ذنبَ له .»(2).

ثالثًا: حجة الإمام (علیه السّلام)

فقد أخذ الإمام الحجة منهم عليهم وأدانهم بها بل وزاد عليها، كما يتجلى في هذه النصوص التالية:

أ) «لما انتهت إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال (علیه السّلام):

ما قالتِ الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمیر ومنكم أمیر؛ قال (علیه السّلام): فهلاَّاحتججتم عليهم بأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه (وآله) وسلم وصَّ بأن يحسنَ إلى محسنِهم، ويُتجاوزَ عن مسيئِهِم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال (علیه السّلام): لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصايةُ بهم، ثم قال (علیه السّلام): فاذا قالت قريش؟

قالوا: احتجت بأنها شجرة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، فقال (علیه السّلام):

ص: 313


1- الكتاب رقم 28 ، ص 388 .
2- وللتوسع في مجال النقد يراجع كتابنا الكبیر (النصب والنواصب) فقد أوردنا الكثیر من ذلك في تراجم الحكام الثلاثة.

احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة .»(1).

وحجة الإمام في الأنصار واضحة، وإذا كانت المسألة بالقرابة فأهل البيت أولى برسول الله وأقرب من سائر قريش.

ب) وقال (علیه السّلام) متعجبًا ومفندًا(2):

«وا عجباه! أتكونُ الخلافةُ بالصحابةِ والقرابة؟ »، وفي رواية يذكرها ابن أبي الحديد: «واعجبًا أتكونُ الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة .»(3).

فعلى الرواية الأولى ليست الصحابة ولا القرابة مقياسًا صحيحًا للأحقية بالخلافة وتولي منصب جليل كان يشغله رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، والحق أن أحقية آل محمد

(علیهم السّلام) بالخلافة ليست بسبب القرابة بل بسبب المؤهلات التي أهلتهم لذلك، ومن أهم الدلائل النص فهو يكشف عن المؤهلات لتولي هذا المنصب المهم، وقد كان النص وكانت المؤهلات جلية في أشخاص الأئمة (علیهم السّلام)، وعلى الرواية الثانية حتى لو أردنا الصحابة مقياسًا فإن عليًّا (علیه السّلام) يشترك مع القوم في كونه صحابيًّا، بل يزيد عليهم بطول الصحبة وقرابته أيضًا، وأين أبو بكر وعمر وعثمان من القرابة

الشديدة والصلة الوثيقة بین رسول الله وبین علي؟

قال الرضي: وروي له شعر في هذا المعنى:

فإنْ كنتَ بالشورى ملكتَ أمورَهمْ*** فكيفَ بهذا والمشیرونَ غُيَّبُ

وإِنْ كنتَ بالقُربى حجَجْتَ خصيمَهمْ*** فغیرُكَ أولى بالنبيِّ وأقربُ

ص: 314


1- خ 67 ، ص 97 .
2- الحكمة رقم 190 ، ص 502 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 416 .

33)الأئمة

مدخل

قال اللهُ العظيم في محكمِ كتابِهِ الكريم:

«يومَ ندعُو كلَّ أُناسٍ بإِمامِهِم »(1).

درسُنا لا يزال حول موضوع الإمامة بعد أن تحدثنا في دروس سابقة عن ادعاء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) للإمامة وإقامته الدليل والحجة وانتقاده لمن تصدى قبله للحكم، ويتناول درسنا هذا ما ذكره أمیر المؤمنین (علیه السّلام) حول الأئمة من أهل

البيت (علیهم السّلام) وهو يدور حول جهتین:

أولاً: التقاء النصوص العامة والخاصة في الأئمة (علیه السّلام) وانطباقها عليهم

ونعني بذلك أن كل الأحاديث التي تدور في فلك الإمامة والمسلَّم بها والمقبولة عند كافة المسلمين جميعها تنطبق وتؤيد مقولة أهل البيت (علیهم السّلام) حول الإمامة، وهذا الانطباق دليل ومقياس لصحة المعتقد، أما الآراء الأخرى حول الإمامة من غیر طريق أهل البيت (علیهم السّلام) فإن الخلل فيها واضح والإشكالَ بینِّ ويلاحظ بُعْدُها عن هذه الأحاديث المسلَّم بها وعدم قدرتها على تفسیرها، فحينما نستعرض حديث (الثقلین) وحديث «الأئمةُ اثنا عشرَ كلُّهم من قريش »، أو «كلُّهم

ص: 315


1- سورة الإسراء / 71 .

من بني هاشم »، كما بينا في درس سابق(1)، والروايات الأخرى كالتي جاءت في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 150:« في كلِّ خلفٍ من أمتي عدولٌ من أهلِ

بيتي ينفُونَ عن هذا الدينِ تحريفَ الضالِّین وانتحالَ المبطلین وتأويلَ الجاهلین، ألا وإِنَّ أئمتَكم وفْدُكُم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ فانظروا من تُوفِدون »، وأحاديثَ أخرى كثیرة كحديث (سفينة نوح) و(باب حطة) يمكن مراجعتها مثلاً في المراجعة العاشرة من كتاب (المراجعات) للإمام شرف الدين (رحمه الله)، فحينما نستعرض هذه الأحاديث وكثیرًا غيرها نجد أنها لا تنطبق إِلاَّ على مقولة أهل البيت (علیه السّلام) حول الإمامة.

وهنا أمران آخران:

الأمر الأول: أن هذه الروايات وهذا الموضوع الذي تتحدث عنه عاد محیرِّاً لعلماء السنة الذين وقفوا حائرين أمام هذه الروايات التي جاءت في صحاحهم وكتب الحديث عندهم، فهذا السيوطي وهو من أعلامهم المتبحرين في علم الحديث يلقي قولًا عجيبًا بل مضحكًا في تحديد الأئمة الاثني عشر الذين يجدهم في أحاديث صحيحة كثیرة عندهم، فيقول إن هؤلاء الأئمة الاثني عشر هم الخلفاء الأربعة وخامسًا معاوية وسادسًا الحسن وسابعًا الزبیر وثامنًا عمر بن عبد العزيز فهؤلاء ثمانية يمكن أن يضاف إليهم المهدي العباسي لأنه يشبه فيهم عمر بن عبد العزيز في الأمويین ويبقى منتظران آخران أحدهما المنتظر من آل محمد والمنتظر الآخر لم يذكره، ومع كل هذا التخبط والتجاوز واختيار حكام دون آخرين فإن العدد لم يكمل بعد، ولهذا عقَّب أبو رية ناقل الكلام بقوله رحم الله من قال إن السيوطي كحاطب ليل(2).

ص: 316


1- درس (الإمامة والنص).
2- نقل ذلك السيد محمد تقي الحكيم (رحمه الله) في كتابه (الأصول العامة للفقه المقارن)/ 180 ،نقلاً عن ،أبي ريَّة في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) ص 212

وكذلك الفضل بن روزبهان في رده على العلامة الحلي كان على هذه الشاكلة(1)، فهم يتخبطون في تعداد أسماء هؤلاء على مر التأريخ في حین أن الإماميةيأتون بأسماء الأئمة على نسق تأريخي صحيح وبصفاتهم المميزة التي اعرف لهم التأريخ بها وشهد بفضلهم كما أنهم يستندون إلى أدلة نقلية من الروايات الأخرى وأدلة عقلية جلية.

الأمر الثاني: طريفة:

يذكرها السيد عبدالله شبر(2) وخلاصتها أن سلطانًا من ساطينهم بعد أن اطلع على هذه الأحاديث جمع علماء بلده وسألهم على من تنطبق هذه الروايات

فإذا كان على كل أحد من قريش فالذين تصدوا منهم للحكم كثیرون، وإذا كان على مجموعة منهم فمن هي هذه المجموعة الخاصة المعينة، فاستمهلوه 10 أيام ثم بعد أن جمعهم غاب أحدهم وكان أبرزهم وأنبههم فلما طلب حضوره طلب منه

الأمان أولًا ثم قال في جوابه إن هذه الروايات لا تنطبق إلا على مذهب الإمامية، ولكنا نقول إنها أخبار آحاد لا تُثبتُ علماً ولا حجةً، فقنع منه وقبل قوله.

ويعقِّب السيد عبدالله شبر أن هذه روايات صحيحة ومتواترة وبعيدة تمامًا عن إطار أخبار الآحاد فلا يصح الحكم عليها بهذا الحكم.

ص: 317


1- كما في (دلائل الصدق) للشيخ محمد حسن المظفر 2/ 315 ، وتجدر مراجعة ص 314 إلى ص 319 ..فقد ألَّفَ العلامة الحلي كتابه (كشف الحق) وردَّ عليه ابن روزبهان بكتابه (إبطال الباطل) فرد القاضي نور الله على ابن روزبهان بكتابه (إحقاق الحق) وانتصر الشيخ المظفر للعلامة بِ (دلائل الصدق).
2- في كتابه (حق اليقين) 1/ 202 .

إذن فالنقطة الأولى هي انطباق أحاديث الإمامة على نظرية أهل البيت فقط ووضوح مصداق الأئمة الإثني عشر في أئمتهم (علیهم السّلام) مما يدلل على صحة المعتقد وقوته.

ثانيًا: نص الوصي

اشارة

وهذا مطلب مهم يعتمد على ما قُرِّرَ من أن الإمام يكون بالنص عليه إما من قِبَلِ الرسول أو من قِبَلِ الإمام الذي يسبقه، وحيث أن الإمام السابق معلومة إمامته مُصَدَّقٌ في قوله فيكون نصُّهُ على من يليه صحيحًا مثبتًا للإمامة، وقد بيَّنا فيما سبق أن النص الأول هو في الأساس من قِبَلِ الله تعالى وليس تبرعًا أو تكلفًا

من عند الرسول أو الإمام، فنصوص أمیر المؤمنین (علیه السّلام) حول الإمامة هي بأمر الله تعالى على لسان نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

ولو أردنا أن نصنف هذه النصوص على الإمام لوجدنا أنها صنفان أساسان:

الأول: النصوص العامة:

وهي التي تحمل امتياز أهل البيت (علیهم السّلام) على من سواهم وأهليتهم للإمامة بمؤهات العلم وجامعية المعرفة والإحاطة بكتاب الله تعالى وأنهم لا يقاس بهم أحد في فضيلة وبهم استقام الدين.

الثاني: النصوص الخاصة:

كذكره الإمامن الحسن والحسین (علیهما السّلام) أو حديثه عن الإمام المهدي (علیه السّلام)، وأما بقية الأئمة فلم يرد ذكرهم فيما بین يدينا من نهج البلاغة وإن كانوا قد ذُكِروا بأسائهم في أحاديث عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلا أن مجال درسنا هو فلك نهج البلاغة.

نماذج من النصوص العامة:

ص: 318

أ) قال (علیه السّلام)(1):

«هم موضعُ سرِّهِ، ولَجأُ أمرِهِ، وعيبةُ علمِهِ، وموئلُ حكمِهِ، وكهوفُ كتبِهِ،وجبالُ دينِه »: فأهل البيت (علیهم السّلام) هم لجأ (ماذ) أمر الله تعالى وعيبة (وعاء) علمه وهم كهوف كتبه المنزلة على الأنبياء أي أنهم يحيطون بالتوراة والإنجيل والزبور والصحف التي أنزلت على إبراهيم وغیره من الأنبياء (علیهم السّلام) بالإضافة إلى إحاطتهم بكتاب الله القرآن الكريم وهذه دعوى كبیرة لا تتم لأحد غيرهم.

«بهم أقامَ انحناءَ ظهرِهِ، وأذْهَبَ ارتعادَ فرائصِه »: فحينما يتولى أمر الدين غيرهم ينحني أمره وترتعد فرائصه أما هم فإنهم مصدر قوته وأمانه.

ب) وحبًّا وحرصًا على هداية الأمة أكَّد (علیه السّلام)(2):

«انظروا أهلَ بيتِ نبيِّكم فالْزَمُوا سَمْتَهم واتَّبِعُوا أثَرَهم، فلن يُخرِجُوكم مِنْ هدى، ولن يُعِيدُوكم في ردى، فإِنْ لَبَدُوا فالْبُدُوا، وإن نَهضُوا فانْهضُوا »: وهذا الأمر بالاتباع المطلق ليس دعوةً للتقليد الأعمى بل للتقليد الأهدى، وهو مُعَلَّلٌ بأنهم يقودون إلى الهدى ويُبعدون عن الضلال والردى وهم محل ثقة الله ومصاديق

العصمة والهداية.

ج) ويقرر (علیه السّلام) هذه الحقيقة بقوله(3):

«ألا إن مثَلَ آلِ محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كمثلِ نجومِ السماءِ إذا خوى نجمٌ طلعَ نجمٌ،

ص: 319


1- خ 2، ص 47 .
2- خ 97 ، ص 143 .
3- خ 100 ، ص 146 .

فكأنكم قد تكامَلَتْ من اللهِ فيكمُ الصنائعُ وأراكم ما كنتم تَأْمَلُونَ »: ففي كل فترة إمام من آل محمد قائم بأمر الدين، وهذا ضمان وأمان للناس من الضلال، وقد علمنا أن التعبیر بآل محمد أو العترة أو أهل البيت لا يُقصَدُ به عموم السادة -ممن له شرف الانتساب- بل يقصد به تلك المجموعة الخاصة المباركة المتمثلة في الأئمة

(علیهم السّلام)، ولعل آخر الكلام إشارة إلى الإمام المهدي (علیه السّلام) لأن به كمال النعمة وتحقق آمال المؤمنین بإقامة العدل وإبادة الظلم.

د) ويكرر الإمام (علیه السّلام) هذه الحقيقة بأسلوب آخر بقوله(1):

«نحن شجرةُ النبوَّةِ، ومحَطُّ الرسالةِ، ومختلَفُ الملائكةِ، ومعادِنُ العِلْمِ، وينابيعُ الحُكْمِ، ناصِرنا ومحبُّنا ينتظرُ الرحمةَ، وعدوُّنا ومبغضُنا ينتظرُ السَّطْوَةَ :»

فقد أوضح هنا المؤهات التي ميزت أهل البيت (علیهم السّلام) وأهَّلَتْهم للإمامة من كون الملائكة تتنزل في بيوتهم فهم أصل الدعوة، ومن كونهم أصحاب العلم لايجاريهم فيه أحد، ثم بینَّ (علیه السّلام) وجوب اتباعهم وأهمية ذلك وأن ناصرهم موضع

للرحمة في الدنيا والآخرة وعدوهم موضع للعذاب في الدنيا والآخرة.

ه) وقال(علیه السّلام)(2):

«فإنه من مات منكم على فراشِهِ وهو على معرفةِ حقِّ ربِّهِ وحقِّ رسولِه وأهلِ بيتِهِ مات شهيدًا... »: فهنا يذكر الإمام هذه الأصول المهمة: التوحيد والنبوة والإمامة وأن العارف بها يرتقي إلى مرتبة الشهيد ولو مات على فراشه،

ص: 320


1- خ 109 ، ص 162 .
2- خ 190 ، ص 283 .

وما ذاك إلا لجلال مقام هذه الأصول التي منها الإمامة.

وهذا النص ينسجم مع رواية يرويها الجميع: «مَنْ ماتَ على حبِّ آلِ محمدٍ ماتَ شهيدًا .»(1).

و) وفي حديث إلى كميل بن زياد (رضی الله عنه) قال (علیه السّلام)(2):

«اللهم بلى لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجةٍ، إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خائفًا مغمورًا... »: وهذه إشارة واضحة إلى الإمام المهدي (علیه السّلام) لأنه هو الإمام المغَيَّب، وهذا ينسجم مع المعتقد الحق وسیرة الأئمة من تعاقبهم على أمر الدين ووجودهم في كل فترة.

ولا يخفى أن هذه النصوص المتقدمة صادرة عن مصدر مسؤول، قوله حجة وتبليغه هو من عند الله تعالى.

نماذج من النصوص الخاصة:

أ) قال (علیه السّلام)(3):

«فأين تذهبون؟ وأَنَّى تُؤفكون! والأعامُ قائمة، والآياتُ واضحة...

وبينكم عترةُ نبيِّكم! وهم أَزِمَّةُ الحق، وأعلامُ الدين وألسِنَةُ الصدق! فأنزِلوهم بأحسنِ منازلِ القرآنِ، ورِدُوهم ورودَ الهِيمِ العِطاش... ألم أعملْ فيكم بالثقلِ الأكبر، وأتركْ فيكم الثقلَ الأصغر! .»

ص: 321


1- ينابيع المودة 2/ 333 ، وتفسير الرازي 27 / 165 ، وغيرها.
2- الحكمة رقم 147 ، ص 497 .
3- خ 87 ، ص 119 .

وهذا النص ينسجم مع حديث الثقلین (كتاب الله وعترة رسوله) فكان يجب على الناس أن يتبعوا العترة كما يتبعون القرآن وأن يعطوا القرآن والعترة حقيهما من الالتزام بهما وأن يأتوا العترة برغبة وشوق كما تأتي الإبل العطاش إلى الماء.

ب) وفي كتاب جوابًا إلى معاوية، قال(علیه السّلام)(1):

«ومنا سيِّدا شبابِ أهلِ الجنة، ومنكم صِبْيَةُ النار... »: فهذه إيماءة إِنْ لم تكن نصًّا صريحًا على إمامة الحسن والحسن (علیهما السّلام) اللذين قال فيهما رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): «الحسن والحسین سيدا شباب أهل الجنة »، لأن هذه السيادة لا تتأتى إلا للكامل في جميع الصفات والأخلاق والملكات وهذه هي العصمة التي هي شرط للإمامة.

ج) وفي ما استدركه ابن أبي الحديد على النهج(2) قوله (علیه السّلام):

«اللهم إني أستعديكَ على قريشٍ فإنهم أضمَرُوا لرسولِك (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ضروبًا من الشرِّ والغدرِ فعجزوا عنها وحُلْتَ بينهم وبينها فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ :»

فهو يسأل الله تعالى أن يأخذ له بحقه من قريش لأن البلاء منهم كان خاصة عليه، وعليه وقعت المحنة فكانت مظلوميته أشد وأعظم.

«اللهم احفظْ حسنًا وحسينًا ولا تمكِّنْ فجرةَ قريشٍ منهما ما دمتُ حيًّا :»

فإن الحفظ والسلامة يراد لكل العترة بل لكل المسلمين ولكن تخصيص الحسن والحسین بهذا الأمر إنا كان لمقامهما من الإمامة.

ص: 322


1- الكتاب رقم 28 ، ص 387 .
2- في شرحه للنهج 20 / 298 ، الكلمة رقم 413 .

د) وفيما ذكره حول الإمام المهدي (علیه السّلام) قوله(1):

«يَعْطِفُ الهوى على الهدى إذا عَطَفُوا الهدى على الهوى، ويَعْطِفُ الرأيَ على القرآنِ إذا عَطَفُوا القرآنَ على الرأي... وتُرِجُ له الأرضُ أفاليذَ كبدِها، وتُلقي إليه سِلْمًا مقاليدَها، فيُريكم كيف عدلُ السیرة، ويحيي ميتَ الكتابِ والسُّنة »: وهذا النص هو من أخبار الملاحم وهي قضايا من عالم الغيب يخبرِ بها الإمام قبل

وقوعها فتقع بعد حین كما أخبر بها.

وهو يشیر هنا إلى تبدل مقاييس الناس فحينما يريدون أن يكون الهدى تابعًا للهوى يأتي من يجعل الهوى والميل إلى الهدى، وحينما يريدون أن يجعلوا القرآن حسب آرائهم يأتي من يجعل آراءهم حسب القرآن، وتخرج له الأرض خيراتها فیرُي الناس العدل العظيم، ويحيي ما اندثر من تعاليم الكتاب والسنة وأضاعه الناس.

ه) وتحدَّث عن بعض بركات الإمام المهدي (علیه السّلام) قائلًا:

«لتعطِفَنَّ الدنيا علينا بعد شِماسِها عطْفَ الضرَّوسِ على ولدِها وتلا عقيب ذلك: «ونُرِيْدُ أَنْ نَمُنَّ على الذينَ اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ ونَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِینَ .»(2)

والآية التي تلاها الإمام فُسرِّتْ في المهدي (علیه السّلام) فإن الدنيا منعت أهل البيت (علیهم السّلام) من خيرها، وظَلَمَهم أهلُها واستضعفوهم ولم يتغیر هذا الظلم بعدُ، فهي إشارة إلى رجوع الحق إلى أهله بظهور المهدي (علیه السّلام) الذي يرث الأرض وتهب له

ص: 323


1- خ 138 ، ص 195 .
2- سورة القصص / 5.

خيراتها فيتحقق نصرُ المستضعَفين وسعادتهم.

و) وقال (علیه السّلام)(1):

«قد لبسَ للحكمةِ جُنَّتَها... فهو مغترِبٌ إذا اغتربَ الإسلامُ وضرَبَ بعَسِيبِ ذنبِه وألصقَ الأرضَ بجِرَانِه، بقيةٌ من بقايا حجتِه خليفةٌ من خلائِفِ أنبيائه .»

فهذه إشارة إلى ما يؤول إليه أمر الدين من ضعف وهوان وغربة حتى يأتي من يعيد له قوته وعزته وهو البقية والحجة المهدي (علیه السّلام).

وقد لاحظت في الشروح كشرح ابن أبي الحديد أنه يفسر هذه النصوص بأنها تعني المهدي (علیه السّلام) ويقول إن مقالة الإمامية تعني إمامًا حاضرًا ومقالتهم هم تعني إمامًا سيولد بعد ذلك، فالجميع إذن متفق أن هذه النصوص تشیر إلى قضية

المهدي (علیه السّلام) مع اختلاف المنهجین.

وقد عُدَّتْ أحاديث الإمامة بشكل عام والصادرة عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأنها من الإنباء بالغيب لأنه تحدث عن أئمة بأسمائهم وتسلسلهم قبل أن يولدوا بعد وقد دُوِّنت هذه الأحاديث عند الجميع قبل ميلاد جملة من الأئمة وكان الناس

على علم بها، ثم تتحقق الأحاديث كما تحدث بها الرسول فيولد الأئمة ويتصدون للإمامة ويكون لهم ذلك الوجود البارز والامتياز الخاص على أهل زمانهم، «ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَیرْ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافًا كَثِیرًا .»(2).

ص: 324


1- خ 182 ، ص 263 .
2- سورة النساء / 82 .

34)علي والحكم

مدخل:

جُمعَتْ في صفاتِكَ الأضدادُ*** فلهذا عزَّتْ لكَ الأندادُ

موضوعنا الذي سنتناوله فيما يأتي من دروس -إن شاء الله تعالى- هو حول عليٍّ: الإمام الحاكم والإمام الإنسان، ونتناول في هذا الدرس نقطة واحدة كمقدمة للموضوع وهي الأهمية الذاتية للحكم من جهة، وزهد الإمام فيه من جهة أخرى، ونتناول فيما يأتي من حلقات هذا الموضوع شيئًا من سياسة الإمام في

حكمه، وإنسانيته وأخلاقه كحاكم.

أولاً: الأهمية الذاتية للحكم وحرص الإمام عليه

فقد كان الإمام (علیه السّلام) على يقین تام بأن الحق والحكم له وكان يصرِّح بأنه لو وجد أنصارًا ولم يكن هناك خطر على الإسلام لحارب من أجل استرجاع حقه السليب، وذلك لأن الإمامة والحكم ليست مسألة شخصية اختيارية يقوم بها الإمام أو يدعها بل هي قضية إلهية على نسق النبوة التي يجعلها الله تعالى لمن

هو أهلها من عباده «اللهُ أَعْلَمُ حيثُ يجعلُ رِسالَتَهُ »(1)، فكما أن الإمام مكلفٌ بالصلاة والصيام ولا مجال له أن يدع ذلك، فكذلك هو مكلف بالقيام بالإمامة والحكم كتكليف النبي بالنبوة والدعوة، ولا مجال له أن يدع ذلك ويتنازل عنه،

ص: 325


1- سورة الأنعام / 124 .

بل إن موضوع الإمامة أسمى وأجل من سائر التكاليف بالعبادات لأهميتها البالغة في إقامة الدين وهداية الأمة.

ومن هذا المنطلق كان الإمام حريصًا على أمر الحكم ومستميتًا في ذلك، إلا أنه لم يتهيأ له من الظروف ما يمكِّنه من أخذ حقه وكانت هناك أسباب تمنعه بيناها فيما سبق، كعدم وجود ما يكفي من الأنصار والخوف على الإسلام في تلك الفترة الحرجة التي رجع فيها من رجع من الناس واستعد أعداء الإسلام للقضاء

عليه.

وكان الإمام -وهو المحيط بأوامر الشرع ونواهيه وتعاليمه وقضايا الدعوة- عالمًا بحاجة الناس أن يتعرفوا منه على أحكام الدين وغاياته وجميع شؤونه بما يصلحهم في دنياهم وأخراهم، فكان والحال هذه لا يسعه أن يتنحَّى ويعتزل ويترك أمر الأمة على ما هي عليه من الحاجة إليه.

وأما من جهة أخرى تتعلق بملكات الإمام وذاته السامية فقد كان أزهد الناس في الحكم لذاته بل في الدنيا بأسرها بكل نعيمها ومغرياتها، وإن كل ما أبداه الإمام من آهات وحسرات ومطالبة بالخلافة إنا كان من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل وإيصال الدين كما أراده الله تعالى إلى الناس.

ويعرف ذلك جليًّا في سرته(علیه السّلام) بالدرجة الأولى، كما يعرف من النصوص التي نستعرض هنا بعضها ويلاحظ عليها أنها قد تحوي مزيجًا من هذه الحقائق التي بيناها، كما أن بعضها ذكرناه في دروس سابقة كشواهد على نقاط أخرى لذلك قد نعرض هنا عن إعادة شرحها، فمن هذه النصوص ما يلي:

ص: 326

أ) قوله (علیه السّلام) حول ضرورة الأمير(1):

«وإنه لا بدَّ للناسِ من أمرٍ بَرٍّ أو فاجر، يعملُ في إمرتِهِ المؤمن، ويستمتعُ فيها الكافر، ويبلِّغ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَعُ به الفيء، ويُقاتَلُ به العدو، وتَأمنُ به السُّبُل، ويُؤخذُ به للضعيفِ من القوي، حتى يستريحَ بَرٌّ، ويُستراحَ من فاجر »: فيلاحظ التركيز هنا على أمر الحكم وأنه منصب لا بد أن يبقى، وكم من فرق بین أن يتولاه

إمامٌ بَرٌّ يهدي الناس إلى الجنة وبین أن يتولاه إمام فاجر يقود الناس إلى النار.

ب( وقال (علیه السّلام)(2):

«فواللهِ ما زلتُ مدفوعًا عن حقي، مُستأثَرًا عليَّ، منذُ قبضَ اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه (وآله) وسلم حتى يومِ الناسِ هذا »: فهنا تصريح واضح منه (علیه السّلام) بأنه الأولى بالحكم إلا أن القوم دفعوه عن هذا الحق.

ج) وفي الخطبة الشقشقية انتقاد واضح واعتراض شديد على من تولى الحكم قبله، وقد ضمَّنها الإمام حسراتٍ على ضياع الحكم واغتصابه من قبل الحاكمین قبله، لا سيما وأن هذه الخطبة كانت بعد انتهاء فترة الحكام قبله، وقد تكشَّفت حينها الحقائق وبان عدم أهليتهم للحكم من ناحية المقام العلمي والإيماني، فكانت حسرات الإمام أشد بسبب ما جرى من أضرار كبیرة على الدين والأمة(3).

د) وفي كتاب أرسله مع مالك الأشتر (رضی الله عنه) إلى أهل مصر لما ولاَّه إمرتها قال (علیه السّلام)(4):

ص: 327


1- خ 40 ، ص 82 .
2- خ 6، ص 53 .
3- وقد فصَّلت ذلك في شرح الخطبة الشقشقية.
4- الكتاب رقم 62 ، ص 451 .

«فلما مضى (علیه السّلام) تنازعَ المسلمون الأمرَ من بعده... فما راعني إلا انثيالُ الناسِ على فانٍ يبايعونه، فأمسكتُ يدي حتى رأيتُ راجعةَ الناسِ قد رجعتْ عن الإسلامِ، يدعون إلى محقِ دينِ محمدٍ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فخشيتُ إِنْ لم أنصرِ الإسلامَ وأهلَهُ أن أرى فيهِ ثلماً أو هدمًا، تكونُ المصيبةُ به عليَّ أعظمَ من فَوتِ ولايتِكم التي إنما هي متاعُ أيامٍ قلائل، يزولُ منها ما كان، كما يزولُ السراب، أو كما يتقشَّعُ السحاب، فنهضتُ في تلك الأحداثِ حتى زاحَ الباطلُ وزَهَق، واطمأنَّ الدينُ وتنهنه »: وإن

من مظاهر اهتمام الإمام بهذه القضية (غصب الخلافة) أننا نجده يسجلِّها في كثیر من المناسبات فنجدها في خطبه وكتبه وكلماته القصار، وهذا النص الشريف جامع لكل ما ذكرناه حول أهمية الحكم وزهده فيه من جهة أخرى، وفيه ترجمة موسَّعة

لقوله (علیه السّلام):« لأُسلِمَنَّ ما سَلِمتْ أمورُ المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا علّیَ خاصة، التماسًا لأجرِ ذلك وفضلِه، وزهدًا فيما تنافستموه من زخرفِه وزبرجِه .»(1).

وهذا ما ذكرناه في المقدمة من ضمن أسباب عدم قيام الإمام في أول الأمر وهو الحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين، ثم هو يضمِّنُ ما أشرنا إليه من زهده في الحكم الذي هو متاعُ أيامٍ قلائل.

ه) ويشير الإمام إلى هدفه من الحكم فيقول (علیه السّلام)(2):

«اللهم إنكَ تعلمُ أنه لم يكنِ الذي كان منا منافسةً في سلطانٍ، ولا التماسَ شيءٍ من فضولِ الحُطام، ولكنْ لِنَرِدَ المعالمَ من دينِك، ونُظهِرَ الإصلاحَ في بلادِك، فيأمنَ المظلومون من عبادِك، وتُقَامَ المُعَطَّلَةُ من حدودِك »: فهذا بيان منه لسبب

ص: 328


1- خ 74 ، ص 102 .
2- خ 131 ، ص 189 .

اهتمامه بالحكم وأنه ليس رغبةً شخصية أو حبًّا في السلطان بل لإقامة دين الله به ونصرة المظلومن، وبعد هذه الكلمات برهن الإمام أنه أولى وأحق بالحكم ثم بین صفات الحاكم الحق.

ثانيًا: زهد الإمام في الحكم متاعًا دنيويًّا زائلاً

ونأخذ هنا ثلاثة نصوص فيها تشبيهات عجيبة بینَّ فيها نظرته للحكم وللدنيا بأسرها:

و) «قال عبداللهُ بنُ عباس (رضی الله عنه): دخلتُ على أمیرِ المؤمنینَ (علیه السّلام) بذي قار وهو يخصِفُ نعله، فقال لي: ما قيمةُ هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمةَ لها! فقال (علیه السّلام): واللهِ

لهيَ أحبُّ إليَّ من إِمرتِكم، إلا أن أُقِيمَ حقًّا، أو أدفعَ باطلاً، ثم خرج فخطب الناس... .»(1).

في الوقت الذي يتنافس فيه الناس في الحكم حتى أنهم يُذهبون جاههم وحياتهم دونه على أملٍ قد يتم أو لا يتم- نجد أن الإمام (علیه السّلام) يرى أن الحكم لذاته أحقر من نعل بالية لا قيمة لها، إلا أن يقيم به حقًّا أو يدفع باطلاً.

ز) وأما التشبيه الثاني فهو قوله (علیه السّلام)(2):

«واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ با تحت أفلاكِها، على أن أعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلبُها جُلْبَ شعيرةٍ ما فعلتُه، وإِنَّ دنياكم عندي لأهونُ من ورقةٍ في فمِ جرادةٍتقضَمُها، ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى ولذةٍ لا تبقى .»

ص: 329


1- خ 33 ، ص 76 .
2- خ 224 ، ص 347 .

هذه الدنيا بأسرها بما تحمل من لذات ونعيم وسلطان وكرسي الحكم يعشقها البشر ويتهالكون عليها، وإذا بأمیر المؤمنین (علیه السّلام) يراها كما هي فيشبهها بورقة في فم جرادة تكسرها بل هي أهون عنده من ذلك، فأيُّ تشبيهٍ كهذا وأيُّ زهدٍ يضاهي زهد عليٍّ الذي برهن عليه من خلال سیرته العملية.

ح) وأما التشبيه الثالث فهو تشبيه بشع من ناحية المُشَبَّه وهو الدنيا، وهو تشبيه رائع لذاته وحقيقة تصويره ووصوله لهدفه وهو بيان الزهد وإبعاد الناس وتحذيرهم من التهالك على الدنيا، فيقول (علیه السّلام)(1):

«واللهِ لدنياكم هذه أهونُ في عيني من عِراقِ خنزيرٍ في يدِ مجذوم »: وقد لاحظنا أن الإمام -وهو مع الصدق- يبدأ القول في هذه النصوص بالقسم فيعرِّضُ الله تعالى الذي يُجلُّهُ للقسم، وما هذا إلا بسبب غرابة الأمر على السامع وحرص الإمام على بيانه لمن يسمع أو يصله القول وتأكيده على ذلك، وإن النفس لتنقبض لمجرد سماع هذه الكلمات، فالعِراق قيل فيه أنه اللحم الذي لا عظم فيه أو هو عِرْقٌ داخل البطن بین السرة والأحشاء أو هو الكرش، فهو شيء وضيع فما بالك إذا كان من خنزير الذي هو نجس العین، بل ما أبشعه إذا كان في يد مجذوم الذي يبتعد الناس عنه وينفرون منه، ولا شك أن هذا الأمر الذي يصوِّره الإمام

هو في غاية المهانة بحيث تنفر النفس منه أشد النفرة، وهذا هو حال الدنيا عند عليٍّ الذي يراها كما هي فيتعامل معها بما تستحقه.

إذن نلاحظ في هذه النصوص ما قدمناه من أن الحكم في حد ذاته مهم ولكن من زاويته الإلهية التي هي الإمامة فلا يسع الإمام تركه أو التخلي عنه لأنه

ص: 330


1- الحكمة رقم 236 ، ص 510 .

وظيفة إلهية لا بد من القيام بها، ولأهميته الذاتية في إقامة الحق والعدل وتنفيذ أحكام الله تعالى بن عباده، ومن جهة ثانية رأينا زهد الإمام غاية الزهد في الحكم بل في الدنيا بأسرها وما فيها.

وقد أثبت الإمام هذا عمليًّا، وسرته كلها تشهد بذلك وإنه من القلائل الذين لم تكذِّب أفعالُم أقوالَم بل كان يفعل فوق ما يقول ويأمر، وقد عَرَفَ هذه السیرةَ وهذا الزهدَ عدوُّهُ ومحبُّه وشهد به من شهد، فهو بالمنزلة التي لا تحوم حولها شبهة.

ص: 331

ص: 332

35)سياسة الإمام

أولاً: وضع الناس عند تسلم الإمام للحكم

إننا نعرف أن الإمام (علیه السّلام) عاصر الدعوة الإسلامية وشارك فيها المشاركة الفعالة، وقد آتاه الله تعالى سعة الأفق والعلم والشجاعة وسائر الكمالات التي امتاز واختص بها دون سائر الناس -باستثناء النبي الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )- فعايش تلك الأدوار ولاحظها ملاحظة دقيقة ووقف على التحول العجيب والسر الإلهي الخاص الذي تبدلت به حياة الناس من الجاهلية إلى نور الإسلام.

وعاش بعد ذلك فترات طويلة كان يعلم فيها أنه صاحب الحق ومع ذلك كان يشهد مدى رجوع أمر الناس إلى ما كانت عليه الجاهلية من قبل، وذلك الرجوع كان لعدة عوامل من أهمها أن القائمین بالحكم لم يكونوا بالمستوى اللائق بإمامة الناس والإحاطة بالشؤون الشرعية والسياسية.

وعلى مدى تلك الفترة الطويلة التي انتهت بمقتل عثمان سنة 35 ه ابتعدالناس كثیرًا عن الدين المقدس وتبدلت عقلياتهم وتغیرت نفسياتهم واضطربت أمورهم وكانوا ليسوا أولئك الذين نجح النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) معهم نجاحًا عظيماً في نقلهم إلى حياة جديدة كريمة وتحويلهم من الجاهلية المظلمة إلى نور الإسلام المشرق، وكان الإمام (علیه السّلام) حین عاد إليه الحق أمام هذا الوضع المتردي الذي وصل إليه الناس بسبب الحاكمین وطول مدتهم، والتأريخ يحدث عن مدى الاضطراب الذي شمل

الحاكمین والمحكومین، فكان الإمام أمام هذه المعاناة في سبيل إرجاع الناس إلى

ص: 333

نهجهم الأول وأن يرتووا من معین الإسلام العذب على يديه، وهذا الوضع يحتاج إلى سياسة فائقة وظروف مساعدة ويحتاج إلى توفيق الله تعالى له، وأما الظروف بالذات فقد كانت ضد مسیرة الإمام، فقد مُنِيَ بأحداث كثیرة لم يتهيأ له فيها أن يطبق نهجه كما يريد، واستعصى عليه الناس كثیرًا نظرًا لعدم عمق ارتباطهم

بالأصول الإسلامية والتعاليم النبوية بسبب قصر المدة التي كانوا فيها مع الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وبسبب التربية التي عاشوها مع الحاكمین بعد رحيل النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

فلم يتأتَّ للإمام (علیه السّلام) أن ينجح تمامًا في مشروعه الهادف إلى إعادة الناس إلى النهج الإلهي القويم.

وهذه المقدمة تلقي الضوء على ما سنراه من سياسة الإمام (علیه السّلام) التي كانت تتسم أحيانًا بشدة في الحق لا يرضاها الناس، وتتسم أحيانًا أخرى بالصفح والتسامح الكبیر حينما يكون الحق متعلقًا بشخصه، وهذا ما انتقده عليه بعضهم.

ثانيًا: سمو الهدف

قلنا إن هدف الإمام (علیه السّلام) من الحكم هو إقامة أحكام الله تعالى كما أرادها الله تعالى أن تكون، مقتفيًا في سبيل ذلك سیرة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، وهذا الهدف شهدت به سیرة الإمام العملية وقد كان الإمام يصرح به كثیرًا في خطاباته الأولى ويجعله محورًا لسياسته القادمة، ومن جملة النصوص في بيان هذا الهدف ما يلي:

أ) لما بويع بالمدينة قال (علیه السّلام)(1):

«ذِمَّتِي بما أقولُ رهينة، وأنا به زعيم، إنَّ من صرَّحتْ له العِبرَ عما بین يديه

ص: 334


1- خ 16 ، ص 57 .

من المَثُلات حجزتْهُ التقوى عن تقحُّمِ الشبهات، ألا وإن بليتَكم قد عادت كهيئتِها يومَ بَعَثَ الله نبيَّه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، والذي بعثه بالحقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بلبلة، ولَتُغَرْبَلُنَّ غربلة، ولَتُساطُنَّ

سوطَ القدرِ حتى يعودَ أسفلُكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلَكم، وليسبِقَنَّ سابقون كانوا قصرَّوا، وليُقصرِّنَّ سبَّاقونَ كانُوا سبقوا، واللهِ ما كتمتُ وشمة، ولا كذبتُ كذبة، ولقد نُبِّئْتُ بهذا المقام وهذا اليوم .»

وهذا النص هو إعلان المبادئ الأولية والأهداف التي يريدها الإمام (علیه السّلام) بصفته الامتداد الطبيعي للقيام بأمر الدين بعد رحلة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى الرفيق الأعلى،

وقد كان ينبغي أن يكون له هذا الحق قبل عشرات السنين فحينها ستكون المهمة أسهل، وأما الآن وقد أُبعد عن الحكم لمدة تصل إلى 25 سنة فإن الناس قد عادوا إلى جاهليتهم وإلى وضعهم عند بدء البعثة، فهو سيبدأ معهم كما بدأ الرسول مع الجاهلية الأولى، وإن كان أولئك كفارًا وهؤلاء مسلمون إلا أنهم يشتركون في قلة الإدراك وتردي الفكر، وإن التربية التي رباهم عليها الحاكمون طيلة هذه المدة قد أخذت منهم مأخذها، ثم أقسم الإمام ولم يستعمل لفظ الجلالة (واللهِ) أو غیره من ألفاظ القسم بل أقسم بالذي بعث النبي بالحق لتمام مناسبة القسم مع الحديث عن البعثة، ورجوع الوضع كما كان قبل البعثة.، ثم أخبرهم بأنهم يبلبلون أي يخلطون ويختبرون ويغربلون أي يفصلون لتمييز الخبيث من الطيب ويساطون كما يساط القدر أو يحرك فيكون الأسفل أعلى والأعلى أسفل، فهي إذن فترة امتحان

لإرادة وللإيمان، وقد يكون من قصرَّ قبل هذا تتضح له أمور فيكون سابقًا،وقد يكون من سبق لا يصمد أمام هذه المحنة والعودة إلى الإسلام الصحيح، فيكون مقصرِّاً بعد أن كان سابقًا.

ثم يقسم الإمام (علیه السّلام) بالله تعالى أنه على المبادئ التي كان عليها من استخلفه

ص: 335

للإمامة وهو النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنه لم يكتم كلمة للحق ولم يكذب مطلقًا فهو صادق إذن في هذا الإعلام وأن الأمر كما قاله وأنه على تمام البينة من أمر ربه بل هو يعلم

بهذا اليوم وهذا الموقف مع الناس قبل أن يكون.

ب) وقال (علیه السّلام) في خطبة عنونت بأنها في الرسول الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وباغ الإمام عنه(1):

«واللهِ ما أَسْمَعَكُمُ الرسولُ شيئًا إلا وها أنا ذا مُسْمِعُكُمُوه، وما أسماعُكم اليومَ بدونِ أسماعِكم بالأمسِ... ولقد نزلتْ بكم البليةُ جائلاً خطامُها، رِخوًا بِطانُها، فلا يغرنَّكم ما أصبح فيه أهلُ الغُرور، فإنما هو ظلٌّ ممدود، إلى أجلٍ معدود »: وهذا تصريح بأن الإمام على سیرة الرسول ويحمل نفس أهدافه، وأن هؤلاء يمكنهم أن يقبلوا من الإمام (علیه السّلام) كما قبل أولئك من الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، فإن لهم أسماعًا وعقولً كما كان لأولئك، هذا وإن بعض من كان مع الإمام كانوا أيضًا مع الرسول فيمكنهم أن يقبلوا الحق كما قبلوه من قبل.

ثم تحدث الإمام عن الفتنة التي حلت وأنها كالناقة التي يكون خطامها أي حبالها الذي تقاد به غیر مشدود، ويكون البطان الذي يربط في بطنها مرتخٍ فراكبها إذن في خطر من السقوط، وذلك كناية عن خطر تلك الفتنة.

ثم أشار الإمام (علیه السّلام) إلى شيء في غاية الأهمية ونبَّه الناس له وهو أن البعض نالوا من الدنيا شيئًا كثیرًا في الحكومات السابقة فكان بعضهم أمیرًا أو قائدًا أو قاضيًا إلا أنهم في حكومة الإمام قد لا يكونون كذلك، كما أن فئة من الناس

ص: 336


1- خ 89 ، ص 122 .

خاصة من قريش كانت تُعطَى الأموال وتُفضل على سائر الناس وأما في حكومة الإمام فسيكون هناك العدل والمساواة، فعلى أولئك الذين كانوا منعمین بغیر حق أن لا يغتروا بذلك النعيم فإنما كان بغیر حق وهو بعد هذا نعيم زائل.

ثالثًا: وضوح السياسة ونهج الحكم

فالإمام (علیه السّلام) ليس كسائر السياسيين قديماً وحديثًا والذين يخدعون الناس بالعبارات البراقة والإغراءات والدعايات الزائفة فيكسبون بذلك أصوات الجماهير ويشترون بأموال الأمة ضمائر البعض، ثم بعد ذلك يخلفون وعودهم للناس فلا

ينالون منهم شيئًا، وقد كان الإمام على تمام الوضوح في سياسته وفي بيان أهدافه ومنهجه في الحكم، ومن جملة النصوص في هذا المجال ما يلي:

أ) قوله (علیه السّلام) لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان(1):

«دعوني والتمسوا غیري، فإنا مستقبِلونَ أمرًا له وجوهٌ وألوان، لا تقومُ له القلوب، ولا تثبُتُ عليه العقول، وإن الآفاقَ قد أغامت، والمحجةَ قد تنكرت، واعلموا أني إنْ أجبتُكُمْ ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أُصغِ إلى قولِ القائل، وعتْبِ العاتب، وإنْ تركتموني فأنا كأحدِكم، ولعَليِّ أسمعُكم وأطوعُكم لمن ولَّيتموه أمرَكم، وأنا لكم وزيرًا خیرٌ لكم مني أمیرًا .»

وفي هذا النص عدة نقاط نعرض لها بإيجاز:

فقد سبق الحديث عن أن الإمامة منصب إلهي لا يمكن للإمام أن يستقيل منه، ولكن الإمام يقول هنا (دعوني) يقصد بذلك مسألة الحكم لا مسألة الإمامة

ص: 337


1- خ 92 ، ص 136 .

العامة، وحتى في مسألة الحكم لم يرد الإمام التخلي عن مسؤوليته، بل قال هذا الكلام لعدة أسباب منها أن يبین للناس أن سياسته ليست كسياسة الحاكمین قبله وقد أوضح ذلك في هذا النص أيضًا.

كما أنه أراد أن يقيم الحجة على الناس وأنه لم يفرض نفسه عليهم بالحيلة والقوة أو بغيرها، كما فعل من كان قبله حین وصلوا للحكم عبر المكر والعنف، فقد اختار الناس الإمام (علیه السّلام) بمحض إرادتهم بل وبإلحاح شديد منهم.

وسبب ثالث هو أن الإمام أراد أن يرشدهم إلى ثقل الحق عليهم بعد أن استمتعوا بالباطل سنين طويلة على حساب الأغلبية التي حرمت من كل متاع، كما أنه كانت هناك اعتبارات عند الحكام في تطبيق الأحكام والإمام ليس عنده تلك الاعتبارات والمجاملات بل سيطبق أحكام الله تعالى على الكل دون تفريق بین الناس في ذلك، فالتأريخ يذكر أن عمر كان يميز بین الناس في العطاء

ويقسمهم أصنافًا، فيعطي عائشة -مثلاً- 12 ألفًا في الوقت الذي يحرم فيه أم سلمة من العطاء سنة كاملة، وكذلك عثمان الذي امتازت سياسته بكثیر من هذا التمييز، ولا شك أن الذين كانوا يستمتعون بتلك السياسة على حساب الآخرين لن يرضوا بسياسة الإمام القادمة.

هذا بالإضافة إلى إقامة الإمام للحدود دون تفريق وهذا ما لا تحتمله العقول أو ترضاه القلوب، وليس هذا لأنه أمر محیرِّ أو يخالف الفطرة السليمة بل لأنهم تعودوا على غیره لمدة طويلة، وقد كانوا يعلمون من سیرة الإمام (علیه السّلام) وهديه ومن

حديث رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيه أنه على هذا النهج من العدل، وقد اعترف بذلك غیره فقد صرح عمر عند تعيينه للشورى أنه إن تولى الأمرَ عليٌّ حملهم على الجادة.

ص: 338

إذن فقد كان الإمام (علیه السّلام) على تمام الوضوح في إعلان سياسته وفي تجسيدها في الواقع العمي، وقد عبر الإمام عن حياة المسلمين بشكل عام بأنها كالآفاق الغائمة وأن طريقهم لم يعد واضحًا، فقد تغیرت الأحكام والأفكار وأصبح الناس بعيدين عنها، وبینَّ لهم أنه إِنْ أجابهم ركب بهم ما يعلم هو فإنه صاحب المقام

العلمي الذي لا يجاريه فيه أحد، وهو المسدد بعصمة الله تعالى، فمن عساه يستشیر وعمن يأخذ وقد استغنى عن الكل؟! فهل يصغي إلى انتقادهم وعتبهم إذا عزل فلانًا من منصبه أو أقام الحكم على آخر وبدَّل وغیر لتعود أحكام الله كما كانت؟!

ثم يوضح الإمام (علیه السّلام) موقفه من الحكام السابقين وأنه كان مسالمًا «ما سلِمتْ أمورُ المسلمين »، بل كان وزيرًا قريبًا من الأحداث خوفًا على الإسلام من أن يقي عليه أعداؤه في تلك الفترة الحرجة ولا سيما أن الحاكمین لم يكونوا بمستوى المسؤولية، والإمام يعلن أنه على استعداد أن يكون وزيرًا كما كان إذا كان ذلك في صالح الإسلام.

ب) وقال (علیه السّلام)(1):

«لو قد استوت قدمايَ من هذه المداحضِ لغيَّتُ أشياء .»

وهذه إشارة إلى جملة أشياء لم يغيرها الإمام فورًا وسنأتي عليها فيما بعد، ومن جملتها -مثلاً- أنه أقرَّ بالفعل للقضاة أن يقضوا كما كانوا يقضون من قبل حتى يأتيهم الأمر منه بغیر ذلك، فقد كان الإمام ينتظر أن تستقر الأمور شيئًا ما، وهذا ما عناه هنا بقوله: (لو قد استوت) أي (ثبتت) قدماه من تلك المداحض

ص: 339


1- الحكمة رقم 272 ، ص 523 .

(أي المزالق) وذلك كناية عن استقرار الأمور له.

رابعًا: التسامح مع المتخلفين والمعارضين

فالتأريخ يذكر ذلك الإجماع الكبیر والإلحاح الشديد من الناس في بيعتهم للإمام (علیه السّلام) والذي يُعَدُّ حجة ظاهرة في قبال الطرق التي تمت بها بيعة غیره، وإلاَّ فالإمام لا يحتاج إلى إجماع الناس عليه، وإِنْ صحَّ التعبیر بالإجماع فهو إجماع الله تعالى عليه وملائكته ونبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والمؤمنین، وكفاه نص الله تعالى عليه بالإمامة وأمره نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بذلك.

وقد صوَّر الإمامُ نفسُهُ هذه البيعة والصورة التي تمت بها في عدة نصوص، فمنها قوله (علیه السّلام)(1):

«وبسطتُم يدي فكففتُها، ومددتُوها فقبضتُها، ثم تداككتُم عليَّ تداكَّ الإبلِ الهيمِ على حياضِها يوم وِرْدِها، حتى انقطعتِ النعلُ، وسقط الرداء، ووُطِيءَ الضعيفُ، وبلغ من سرورِ الناسِ ببيعتِهم إيايَ أن ابتهجَ بها الصغیرُ، وهَدَجَ إليها الكبیرُ، وتحاملَ نحوها العليلُ .»

وأما بعد البيعة فكان التسامح الكبیر منه مع الذين تخلفوا عن البيعة له أو ما يسميه أهل العصر بالديمقراطية مع المعارضة، في حین نرى الفارق الكبیر بین هذا الموقف وموقف عمر وأبي بكر مع آل محمد ومع الزهراء (علیها السّلام) بالذات ومع عليٍّ(علیه السّلام) نفسه والمؤمنین معه، حتى تأسف أبو بكر ولكن بعد حین على ما صنعه ببيت الزهراء وتمنى أنه لم يصنع ما صنع ولو اشتمل بيت الزهراء على حرب

ص: 340


1- خ 229 ، ص 350 .

ضده، ولو صنع الإمام بالمعارضین ما كان يقدر عليه وأخذهم بالشدة لكانت له تمام الحجة والعذر لأنه الإمام المنصوص عليه وهم يعلمون بهذا النص من جهة، ومن جهة أخرى فقد بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين، ومن جملة أحاديثه عن المتخلفین عنه:

أ) وقال(علیه السّلام)(في الذين اعتزلوا القتال معه)(1):

«خَذَلُوا الحقَّ ولم ينصرُوا الباطل »: فهم لم ينصروا الباطل المتمثل في أعداء الإمام إلا أنهم أيضًا لم ينصروا الحق الذي كان مع الإمام وكان الإمام يدافع عنه،وعدم نصرتهم خذلان منهم للحق.

ب) «وقيل: إن الحارث بن حَوْط أتاه فقال: أتراني أظنُّ أصحابَ الجملِ كانوا على ضلالة؟ فقال (علیه السّلام): يا حارثُ إنك نظرتَ تحتك ولم تنظرْ فوقك، فحِرْتَ!

إنك لم تعرفِ الحقَّ فتعرفَ من أتاه، ولم تعرفِ الباطلَ، فتعرفَ من أتاه .»(2).

فقد ظن هذا الرجل أن المقياس الصحيح هو أن يرى الأشخاص ثم يحكم بأن الذي هم عليه هو الحق، بينما المقياس الصحيح كما وضحه الإمام (علیه السّلام) هو أن يعرف الحق تمامًا ثم يقيِّم الناس على أساسه، فإنما يُعرف الرجالُ بالحقِّ ولا يُعرف

الحقُّ بالرجال.

«فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر، فقال (علیه السّلام): إن سعيدًا وعبدَ اللهِ بنَ عمر، لم ينصرا الحقَّ، ولم يخذلا الباطل »: فقد كان

ص: 341


1- الحكمة رقم 18 ، ص 471 .
2- الحكمة رقم 262 ، ص 521 .

عليهما أن ينصرا الحق المتمثل فيه ومعه، وأن يخذلا الباطل بمعارضتهم وإطفائهم للحروب التي شنها أصحاب الجمل وأصحاب صفین، وعبد الله بن عمر هذا أبى بيعة الإمام (علیه السّلام) فطلب منه الإمام أن يأتي بكفيل له، ولعل ذلك ليضمن أنه

لا يقوم ضد الإمام فقال إنه لا يجد كفيلاً فكفله الإمام نفسه وأخبره بأنه سيء الخلق صغیرًا وكبیرًا، والمقصود ليس حدة المزاج بل الحمق وضعف الإدراك، وقد صدَّقَ الواقعُ قولَ الإمام فيه، فإن عبد الله بن عمر هذا الذي رفض بيعة الإمام آلت به الأمور أن يأتي للحجاج وما أدراك ما الحجاج! ليبايع عن طريقه عبد الملك بن مروان، فلما استعلمه الحجاج عن سبب ذلك الإلحاح في ذلك الوقت قال له ابن عمر: لأني رويت عن رسول الله أنه قال: لا يحِلُّ لامرءٍ يؤمن باللهِ واليوم الآخر أن يبيت وليس في عنقه بيعة، فاستهزأ به الحجاج كثیرًا وقال له إن يدي لمشغولة بالطعام عنك، هذه رجي فامسح عليها(1).

ومن جملة المعارضین أيضًا سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبیر ومع ذلك فإن الإمام (علیه السّلام)تعامل معهم بالصفح والتسامح الكبیر.

ص: 342


1- يراجع لذلك ( الغدير) 10 / 43 إلخ.

36)نماذج من سياسة الإمام

مدخل

درسنا هذا حول حلقة أخرى من سیرة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وسياسته في الحكم وهو يشمل الحياة السياسية والاجتماعية ويأخذ جهة تأريخية نظرًا لاتصال هذه الأمور بموضوعنا هذا، وسوف نستعرض ست نقاط نحاول أن لا نطيل حديثنا حولها بل نستقيها من كلام الإمام وسیرته العملية التي حفظ لنا نهج

البلاغة جزءً مهمّا منها، وسنلاحظ في جميع هذه النقاط نمطًا خاصًّا كان يحياه الإمام سواءً من جهة فكرية أو من جهة عملية وتربوية.

أولاً: البيعة والمبادئ الأولية

لقد ركز الإمام (علیه السّلام) على أمر البيعة وأكَّدَ عليها، كما ركَّزَ كثیرًا على إعلان مبادئه الأولية للناس بعد البيعة مباشرة، وقد أشرنا إلى هذه النقطة في الدرس السابق ونتمم هنا استعراضها.

فمن جملة النصوص حولها قوله (علیه السّلام)(1):

«لم تكن بيعتُكم إِيَّايَ فلتةً، وليس أمري وأمرُكم واحدًا، إني أريدُكم للهِ وأنتم تريدونني لأنفسِكم »: فهو إذن يركِّزُ على أمر البيعة ويحمل ذلك تعريضًا بل تصريحًا ونقدًا للطريقة التي تمت بها بيعة الحكام قبله وأبي بكر بشكل خاص، وأن

ص: 343


1- خ 136 ، ص 194 .

أساس الحكم السابق كان خطأً وإن جميع ما ترتب عليه أخطاءُ أخرى على نسقه، وكلمة (فلتة) معهودة وهي التي عبر بها عمر عن بيعة أبي بكر فقال: «كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى اللهُ المسلمين شرَّها، فمن عاد لمثلِها فاقتلوه »، وفي بعض

النصوص «فلتةً كفلتاتِ الجاهلية .»(1).

فالإمام (علیه السّلام) إذن يشیر بكل ثقة إلى حقه في الحكم فقد نص اللهُ تعالى عليه وبلَّغَ ذلك رسولُه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أولً، ثم بايعه الناس وبإلحاح شديد، فهو أولى الناس

بالناس ولن تكون بيعته فلتةً أولًا أو آخرًا.

ثم يقيِّم الإمامُ الوضعَ وموقفه كحاكم وموقفهم كرعية فيبینِّ الفرق

الكبیر، فهو يريدهم لله تعالى وهي كلمة جامعة مانعة تعني أنه يريد من الرعية ما يريده الله تعالى منهم سواءً فيما يتعلق بالقانون الاقتصادي أو أمور الحرب والسلم أو الجهة الفقهية أو بجميع شؤون الدين والدنيا، أما هم فلهم أهواؤهم وتربيتهم

التي عاشوا عليها وعصبيتهم وقبليتهم، وهذا فرق جوهري للغاية، فإنه شتان بین أن يكون الهدف هو الله تعالى وبین أن يكون الهدف هو الأهواء والأنفس أو الدنيا.

ثم عقَّبَ الإمام (علیه السّلام) بما يفصِّل ويشرح الأمر فقال:

«أيها الناسُ أعينوني على أنفسِكم، وأَيْمُ اللهِ لأُنصِفَنَّ المظلومَ من ظالمِهِ،ولأَقودَنَّ الظالِم بخِزامتِهِ حتى أُورِدَهُ منهلَ الحقِّ وإِنْ كان كارهًا »: وهذا بعض ما عنيناه من إعلان المبادئ الأولية بعد البيعة.

ص: 344


1- تلخيص الشافي 2/ 104 ، عن عدة مصادر.

ثانيًا: العدل وموقف الناس

فقد كان الإمام حريصًا وملتزمًا بأن لا يصلح أمر الحكم واستقرار الأمور له بما يهوى الناس إذا استلزم ذلك فسادًا كتفضيل فئة على أخرى، وشراء الضمائر،أو مخالفة أوامر الله تعالى وأحكامه، فمن جملة هذه الأمور ما يلي:

أ) قوله (علیه السّلام)(1):

«وإني لَعالِم بما يُصْلِحُكم ويُقيمُ أَوَدَكم، ولكني لا أرى إصلاحَكم بإفسادِ نفسي »: فالإمام مطلع وعالم بأمر المجتمع وهو خبیر بأمر الدين، فإما أن يستجيب للناس فيما يعلم أنه يضمن استقرارهم ورضاهم بحكمه وإن استلزم ذلك مخالفات

للشرع، وإما أن يلتزم بأحكام الله تعالى وإن أباها الناس بسبب تربيتهم وأهوائهم فلم يخضعوا لها واضطربوا عليه.

ب) ونموذج آخر يلقي الضوء على ذلك الوضع هو قوله (علیه السّلام):« لما عُوتِبَ على التسويةِ في العطاء :»

«أتأمروني أن أَطلبَ النصرَ بالجورِ فيمن وُلِّيتُ عليه! واللهِ لا أطورُ به ما سمَرَ سميرٌ، وما أَمَّ نجمٌ في السماءِ نجماً .»

فقد تربّى الناس على التفريق بينهم في العطاء وتفضيل فئة على أخرى فكانت هناك اعتبارات للمهاجرين والأنصار ولمن حظُوا بمودة الحاكمن فأغدقوا عليهم العطاء وفاضلوا بین الناس بغیر وجه حق، ولا سيما حین انتهى الحكم إلى

ص: 345


1- خ 69 ، ص 99 .

عثمان فإنه أعطى الدنيا التي ملكها لبني أمية حتى وصل الأمر إلى أن يعطي خُمسَ بلادٍ افتتحت لشخص واحد(1)، فلما جاء الإمام سوَّى بین الناس في العطاء ملتزمًا بذلك أمر الله تعالى وسیرة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في العطاء، فعُوتِبَ على هذه التسوية فإن الأغنياء لا يروق لهم ذلك ومن يرون لأنفسم أفضلية لا يقبلون بذلك، ومن هذه الأمثلة أنْ أتت سيدة قرشية من الحجاز وجاءت بعجوز فارسية تقيم في الكوفة فخاطبت أمیر المؤمنین قائلةً: هل من العدل أن تسوِّي بيني وبین هذه الأَمَةِالفارسية؟(2) وقد أبى الإمام أن يسعى للنصر واستقرار الحكم بأن يظلم من كان حاكماً عليهم وأقسم أن لا يصنع ذلك «ما أَمَّ نجمٌ في السماءِ نجماً » أي للأبد وما بقي الزمان لا يصنع ذلك، فهي إذن مسؤولية إلهية وولاية وأمانة تجاه من وُلِّی عليهم واللهُ مسائلُهُ عن ذلك.

ثم أشار الإمام إلى جهة مهمة ليتعظ الناس فقال:

«لو كانَ المالُ لي لسوَّيتُ بينهم، فكيف وإنما المالُ مالُ الله »: وتلك هي ذات علٍّی التي تنطوي على قانون العدل وتحبه لذاته فضلاً عن أمر الله تعالى به ونهيه عن الظلم، فلو كان المال له لجعل الناس سواسية فيه وأقام العدل فكيف وهو مالُ الله تعالى الذي استأمنه عليه وولاَّه على الناس ليقيم العدل بينهم.

ثالثًا: أوضاع الناس وتربيتهم السابقة

وقد أشرنا إلى أن الناس اعتادوا على تربية سابقة مع الحاكمین قبل الإمام

ص: 346


1- يمكن مراجعة شرح ابن أبي الحديد عند شرحه للخطبة الشقشقية وقد ذكرت بعض ذلك في درس (علي والحاكمون).
2- حياة الإمام الحسين (علیه السّلام)، للشيخ باقر شريف القرشي 1/ 407 .

(علیه السّلام) ولم تكن تلك التربية هي التي يرضاها الله تعالى فيقبلها الإمام، كما أن الناس لا ترضى باستقامة الإمام وما يريده لهم من تربية إلهية، ونأخذ لذلك نماذج:

أ) وفي كلام «كلَّم به طلحة والزبیر بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما » فمما قاله (علیه السّلام)(1):

«وأما ما ذكرتما من أمرِ الأسوة، فإن ذلك أمرٌ لم أحكمْ أنا فيه برأيي، ولا وَلِيتُهُ هوًى مني، بل وجدتُ أنا وأنتما ما جاء به رسولُ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد فُرِغَ منه، فلم أحتجْ لكما فيما فَرَغَ اللهُ من قَسْمِه، وأمضى فيه حُكْمَه، فليس لكما، واللهِ، عندي ولا لغيرِكما في هذا عُتبَى، أخَذَ اللهُ بقلوبِنا وقلوبِكم إلى الحقِّ، وألهمَنا وإياكم الصبر .»

وقد كان الزبیر ممن يظهر مودة الإمام ويدعو له وكان معه في بيته يوم امتنعوا عن بيعة أبي بكر فهجم عليهم القوم، ثم لما آلت الأمور إلى الإمام تبدل سلوكه وبرغم ذلك فقد بايع هو وطلحة الإمامَ طائعَین لا مُكرَهَین فإذا بهما يظهران ما أخفياه من طلبهما للدنيا التي ابتعد عنها الإمام وطلَّقها ثلاثًا، وكانا يريان لأنفسهما شرفًا كبیرًا خاصة وأنهما من المرشحين للخلافة في شورى عمر،

فكيف بعد كل هذا يأتي عليٌّ ليسوِّي بينهم وبین سائر الناس في العطاء؟ لذلك عاتباه في أمر الأسوة (أي التسوية في العطاء) واحتَجَّا عليه بفعل عمر في تفضيله أناسًا على آخرين في العطاء، فأجابهم الإمام بما بانت منه نفسيته وأن منهجه معلوم وهو دين الله تعالى فلا يحتاج إلى إجالة الفكر واستشارتهما في الحكم بین الرعية وتدبیر أمورهم، وردًّا على احتجاجهم عليه بفعل عمر احتج عليهم هو أيضًا ولكن بفعل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وسیرته في العطاء وقد كانا يعلمان ذلك فاحتج

ص: 347


1- خ 205 ، ص 322 .

الإمام عليهم به، وقوله (ولا لغيرِكما) إشارة إلى أنه إذا كان هذا تعامل الإمام مع من يرون أنفسهم أو يراهم الناس أن لهم مقامًا وأفضلية- فإن غيرهم إذن لن يطمع أو يتصور أن الإمام سيفضله في العطاء أو في غیر ذلك.

ب) وأما النموذج الثاني فهو موقف الإمام من قطائع عثمان وهذا بعض ما عنيناه بالجهة التأريخية في الموضوع، فقد أبى الإمام أن يُقِرَّ الناس على ما كانوا عليه وكان صارمًا في إرجاع ما أعطاه عثمان لمن أراد من قومه سواء كان أموالًا أو أراضٍ أو غيرها، قال (علیه السّلام)(1):

«واللهِ لو وجدتُهُ قد تُزُوِّجَ بهِ النساءُ، ومُلِكَ به الإِماءُ، لرَدَدْتُه، فإن في العدلِ سَعَةً، ومن ضاقَ عليهِ العدلُ، فالجورُ عليه أضيق »: وكل ذلك إصرار من الإمام على إقامة العدل بین الناس وإرجاعهم إلى التربية التي رباهم عليها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

رابعًا: معاملة الإمام للولاة

يحدث التأريخ عن تعامل الحكام مع عمالهم والولاة على البلاد، فأما عمر فقد وصفه التأريخ بالشدة في تعامله مع عماله، إلا أن ذلك لم يكن وصفًا دقيقًا وتامًّا حيث أن شدته ظهرت على أشخاص كأبي هريرة الذي كان عامله على البحرين فجاءته أخبار سرقته من أموال المسلمين فاتهمه وكذَّبه وأوجع ظهره

بالضرب(2)، أما هذه الشدة فلم تظهر من عمر مع معاوية أبدًا، فإن معاوية الذي

كان واليًا على الشام كان قبل ذلك لا يملك شيئًا لكنه أخذ ينهب ويستأثر بأموال

ص: 348


1- خ 15 ، ص 57 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 42 ، والنص والاجتهاد للسيد عبد الحسن شرف الدين/ 286 .

المسلمين فلم يصنع معه عمر شيئًا إلا أنه لقَّبه بكسرى العرب وأعظم به من لقب يرتاح له معاوية(1).

وأما عثمان فحدث عنه وعن عماله وما صنعوه بأموال المسلمين ولا حرج(2).

وأما في حكم أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه عليه، فإن التأريخ يحدث عن مدى ملاحظته لعماله والولاة على البلاد الإسلامية، وحرصه على إقامتهم العدل في كل صغیرة وكبیرة، ويلاحظ تفاوت مستويات الولاة في عقلياتهم ونفسياتهم بطبيعة الحال.

ونأخذ هنا نماذج من تعامل الإمام وبعض قضاياه مع عماله، فمن ذلك ما يلي:

أ) كتابه (علیه السّلام) إلى أحد عماله وقد جاء فيه(3):

«أما بعد، فقد بلغني عنك أمرٌ، إِنْ كنتَ فعلتَهُ فقد أسخطْتَ ربَّك،

وعصيتَ إمامَك، وأخزيتَ أمانتَك، بلغني أنك جرَّدْتَ الأرضَ فأخذتَ ما تحتَ قدميك، وأكلتَ ما تحت يديك، فارفعْ إليَّ حسابَك، واعلمْ أن حسابَ اللهِ أعظمُ من حسابِ الناسِ، والسلام »: لقد أمره الإمام أن يرسل إليه فيخبره بالوارد والصادر وما أخذه وما بذله ليحاسبه، ولكن الإمام (علیه السّلام) لم يكتفِ بذلك بل نبَّهَهُ

إلى أنَّ الحساب الحقيقي هو حساب الله تعالى له، فالإمام إنما يحاسبه بالظاهر وإن كان بإمكانه أن يحاسبه بما هو في الواقع بما يعلمه من الله تعالى، ولكن الله الخبیر

ص: 349


1- النص والاجتهاد/ 293 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في شرح الخطبة الشقشقية 1/ 198 - 199 ، وقد مرّ بعض ذلك،والغدير 8/ 286 .
3- الكتاب رقم 40 ، ص 412 .

بالأمور يحاسب بما هو في الواقع فيكون حسابه شديدًا.

ب) ومن النماذج الأخرى ما روته امرأةٌ لمعاوية، وقد كانت تتحدث عن عدل الإمام (علیه السّلام) وسیرته فقالت: «واللهِ لقد جئتُهُ في رجلٍ كان قد ولاَّهُ صدقاتِنا فجارَ علينا، فصادفتُهُ قائماً يصليِّ فلما رآني انفتلَ من صلاتِهِ ثم أقبلَ عليَّ برحمةٍ ورفقٍ ورأفةٍ وتَعَطُّفٍ وقال: أَلكِ حاجة؟ قلتُ: نعم، فأخبرتُهُ الخبر، فبكى ثم

قال: اللهم أنتَ الشاهدُ عليَّ وعليهم وأني لم آمرْهم بظلمِ خلقِك، ثم أخرجَ قطعةَ جلدٍ فكتب فيها... .»

وعزل الإمامُ ذلك الرجل من فوره(1).

وليُلاحَظ هذا الموقف قبال موقف سليمان بن عبد الملك الحاكم الأموي حينما بعث أحد رجاله إلى مصر فقال له: «احلبْ حتى ينفيك الدم، فإذا أنفاك فاحلبْ حتى ينفيك القيح، لا تبقيها لأحدٍ بعدي .»(2).

فهو وحكام بني أمية كانوا يأمرون رجالهم أن يسلبوا كل شيء من أموال الناس.

ج) ولنأخذ نموذجًا آخر من النهج كتابًا «إلى المنذر بن الجارود العبدي وقدخان في بعض ما ولاَّه من أعماله » فقد جاء فيه(3):

«أما بعد فإنَّ صلاحَ أبيك غرَّني منك، وظننتُ أنك تتبعُ هَدْيَه، وتسلُكُ

ص: 350


1- الإمام علي من المهد إلى اللحد، لمحمد كاظم القزويني / 269 - 270 ، وحياة الإمام الحسن (علیه السّلام) للشيخ باقر شريف القرشي 1/ 415 .
2- تأريخ ابن عساكر 2/ 402 - 403 .
3- الكتاب رقم 71 ، ص 461 .

سبيلَه، فإذا أنتَ فيما رُقِّيَ إليَّ عنكَ لا تدَعُ لهواكَ انقيادًا، ولا تُبقي لآخرتِكَ عتادًا، تعمُرُ دنياكَ بخرابِ آخرتِك، وتصِلُ عشیرتَكَ بقطيعةِ دينِك، ولئنْ كان ما بلغني عنكَ حقًّا، لجملُ أهلِكَ وشِسْعُ نعلِكَ خیرٌ منك، ومن كان بصفتِكَ فليس بأهلٍ أن يُسَدَّ بهِ ثغرٌ، أو يُنفَذَ به أمرٌ، أو يُعلىَ لهُ قدْرٌ، أو يُشرَكَ في أمانةٍ، أو يُؤمنَ على

جبايةٍ، فاقبِلْ إليَّ حینَ يصِلُ إليكَ كتابي هذا إن شاء الله .»

وقد قلنا إن الإمام يعامل الناس بالظاهر من أمورهم لا بما يمكنه أن يعلمه من علم الله تعالى، وإن هذه الشدة في تعامله مع أحد عماله هنا وهذه الدقة لا تصدر من غیر أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، كما أنه لا غرابة في صدورها منه فإن الذي يرى

الدنيا بكل نعيمها أهون من ورقة في فم جرادة وأحقر من نعل بالية- لا شك أنه يستحقر متاعًا يأخذه أحد عماله بالخيانة ويبيع دينه من أجله، لذلك فالإمام يستعظم منه ماصنع ولا يرضاه ويحاسبه أشد المحاسبة، ويصفه بذلك الوصف.

خامسًا: الحقُّ ثَقُلَ عليهم

قال (علیه السّلام)(1):

«إن كانتِ الرعايا قبلي لتشكو حيفَ رُعَاتِها، وإنني اليومَ لأشكو حيفَ رعيتي، كأنني المَقُودُ وهمُ القادة »: فقد كان معهودًا قديماً كما أنه كذلك حديثًا أن الحاكم لكي تستقر له أمور الحكم ويهابه رعيته ويخضعوا له يأخذهم بالشدةفي غیر موضعها وبالظلم والاستبداد والعنف فكانت الرعايا تشكو لذلك ظلم الحكام، أما الإمام (علیه السّلام) فلم يكن يعمل بتلك الطرق التي لا يرضاها الله تعالى، ولذلك قد يطغى عليه ضعاف النفوس وأهل الدنيا الذين يجدون الحق ثقيلاً

ص: 351


1- غريب كلامه (علیه السّلام) رقم 261 ، ص 520 .

لتعارضه مع مصالحهم وأهوائهم، فكان الإمام مع معاناته ذلك لا يلجأ لتلك الطرق أبدًا بل يلتزم بأحكام الشريعة.

سادسًا: الغدر والتقوى

لقد كانت الأمور والظروف مضطربة على الإمام (علیه السّلام) ومن هنا حاول البعض قديماً وحديثًا أن يبینَّ أن سبب ذلك هو عدم معرفة الإمام (علیه السّلام) بأمور السياسة والإدارة، إلا أن الواقع أن الإمام كان ملتزمًا بأحكام الله تعالى فلم يكن يلجأ إلى الأساليب التي نجح بها الآخرون في سياستهم لأن تلك الأساليب تخالف الشرع، لذلك قال ابن أبي الحديد: «وأمیر المؤمنین كان مقيدًا بقيود الشريعة...

فلم تكن قاعدتُهُ في خلافتِهِ قاعدةَ غیرِهِ ممن لم يلتزمْ بذلك .»(1).

ومعلوم أن الإسلام لا يريد أن يستقرّ حكمه بطرق الظلم والفساد والكذب والمراوغة والرشوة والغدر وهذا ما لجأ إليه غیر الإمام في سياستهم وتربى عليه الناس حتى لم يعد يصلحهم إلا ذلك، فالإمام (علیه السّلام) إذن رفض تلك الطرق لأن فيها مخالفة لأحكام الله تعالى كما أنها تمتع فئة من الناس على حساب الآخرين الذي يُحرمون من كل نعيم.

ومن جملة النصوص حول هذه النقطة ما يلي:

أ) قال (علیه السّلام)(2):

«ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذَ أكثرُ أهلِهِ الغدرَ كَيْسًا، ونسبَهُم أهلُ الجهلِ

ص: 352


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 212 .
2- خ 41 ، ص 83 .

إلى حسنِ الحيلة، ما لهم! قاتلهُمُ اللهُ! قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجهَ الحيلةِ ودونَها مانعٌ من أمرِ اللهِ ونهيِه، فيدَعُها رأيَ عنٍ بعدَ القدرةِ عليها، وينتهِزُ فرصتَها من لا حريجةَ لهُ في الدين .»

وهذا أيضًا بعض ما قدمناه من اتصال الحديث بجهاتٍ اجتماعية، فالإمام (علیه السّلام) يعرض مشكلة ونظرة اجتماعية خاطئة ترى أن الغادر هو الكيِّسُ العاقل الذي يعرف كيف يدير الأمور، وهذه النظرة قائمة قديماً وحديثًا، والإمام هنا يصرح بأن من يقلب الأمور أو يكون عارفًا بتقليبها وتحويلها لعقليته وإدراكه يجد الحيلة ويعرف كيف يستخدمها، فإذا كان ذلك الشخص من المتقین فإنه يدع

تلك الحيلة لاشتمالها على معصيةٍ لله تعالى مع قدرته عليها وهذا غاية الرفعة، أما إذا كان الشخص لا يعبأ بالدين فإنه ينتهز تلك الفرصة ويعصي الله تعالى.

ب) وتحدث عن لعبة السياسة حينها فقال (علیه السّلام)(1):

«واللهِ ما معاويةُ بأدهى مني، ولكنه يغدِرُ ويَفْجُرُ، ولولا كراهيةُ الغدرِ لكنتُ من أدهى الناس، ولكنْ كلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَة، وكلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَة، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرَفُ به يومَ القيامة، واللهِ ما أُسْتَغْفَلُ بالمكيدةِ، ولا أُسْتَغْمَزُ بالشديدةِ .»

ولعل باعث المقارنة وهذا التصريح هو تلك الظروف الحرجة التي كان فيها معاوية يغزو اليمن والمدينة وأطراف العراق فيقتل الرجال ويسلب الأموال، ويحقق نجاحًا في سياسته بالطرق المعروفة عنه، فأراد الإمام (علیه السّلام) أن يوضح للناس أن ذلك النجاح ليس لأن معاوية أعرف بأمور السياسة من الإمام (علیه السّلام) أو لقدرته

ص: 353


1- خ 200 ، ص 318 .

على الحيلة والمكر أكثر من قدرة الإمام، بل لأن الإمام يتقي الله تعالى ومعاوية لا يهتم بذلك، فقد كان معاوية يغدر ويشتري الضمائر بأموال المسلمين حتى أن قائد جيش الإمام الحسن (علیه السّلام) وهو ابن عمه عبيد الله بن العباس أغراه معاوية بالمال، فقد ذُكر أنه عرض عليه ألف ألف درهم وقيل غیر ذلك، وكان جيش الإمام (علیه السّلام) معسكرًا استعدادًا للحرب مع معاوية، فما كان من عبيد الله هذا إلا أن ضعف أمام المال وتوجه إلى معسكر معاوية(1).

أما أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فلم يكن ليشتري ضمائر الناس ويمارس الرشوة ويضيع أموال المسلمين التي هي أمانة لديه، وكان يسمع ويعلم بذهاب الناس عنه إلى معاوية، فيحدثه مالك الأشتر حول اختلاف الناس فيقول (علیه السّلام):« وأما ما ذكرتَ من أنَّ الحقَّ ثَقُلَ عليهم ففارقونا لذلك فقد علمَ اللهُ أنهم لم يفارقونا من جورٍ، ولا لجأوا إِذْ فارقونا إلى عدلٍ، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلةً عنهم كأَنْ قد فارقوها، وليُسأَلُنَّ يوم القيامةِ أَ للدنيا أرادوا أم للهِ عمِلوا .»(2).

وكان بعض أصحابه يشیر عليه باتباع تلك الطرق لاستقرار الحكم

فقد «مشى إليه طائفةٌ من أصحابه وسألوه تفضيلَ أولي السابقاتِ والشرفِ في العطاء » ،« فقالوا يا أمیر المؤمنین أعطِ هذه الأموالَ وفضِّلْ هؤلاءِ الأشرافَ من العربِ وقريشٍ على الموالي والعجمِ، ومن تخافُ خلافَهُ من الناسِ وفرارَه ،»(3)،

ص: 354


1- صلح الحسن (علیه السّلام) للشيخ راضي آل ياسين/ 131 ، وحياة الإمام الحسن (علیه السّلام) للقرشي 2/ 126 .
2- وليراجع أيضًا كتابه (إلى سهل بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية) وهو الكتاب رقم 70 ، ص 461 من نهج البلاغة.
3- منهاج البراعة، للمرزا حبيب الله الخوئي 8/ 184 ، 192 ، وكذلك (الإمام علي من المهد إلى اللحد) / 423 .

فكان الإمام (علیه السّلام) في تلك الظروف ثابتًا لا يعمل إلا بحكم الله تعالى مهما كلَّفَ الأمر فلا يطلب النصر بالجور.

وللتأريخ نذكر أن أول من استخدم المال واشترى الضمائر للهيمنة على الأوضاع هما أبو بكر وعمر لتثبيت حكم أبي بكر في تلك الفترة، فقد كان أبو سفيان يستهين كثیرًا بأبي بكر ويرى أنه من أحقر الناس، وقد كان أبو سفيان في مكة يجمع الصدقات فلما رجع إلى المدينة بعد وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) سأل من تولى الأمر؟ فقيل له: أبو بكر، فقال: أبو فصيل؟ مستهينًا به، فأراد أبو سفيان أن يشعل الفتنة فأتى إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وأخبره أنه يريد أن ينصره فطرده الإمام

(علیه السّلام)، فلما علم عمر بما يحاول فيه أبو سفيان أشار على أبي بكر بأن يعطي أبا سفيان ما في يديه من الصدقات لإسكاته ففعل ذلك(1).

وإننا نجد في تأريخنا المعاصر أن وضع الحكام على هذه الشاكلة فهم يَعِدُون الناس ويغرونهم ويشترون الضمائر والأصوات في الانتخابات ليتولوا الحكم.

وقد رفض أمیر المؤمنین (علیه السّلام) كل تلك الوسائل وأبى إلا أن يقيم العدل وأراد من الناس أن يقبلوا الحكم بالحق وليس بمعصية الله تعالى وظلم الناس ولو كانت سیرته خلاف ذلك لما صحَّ فيه:

«عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ مع عليٍّ » و «عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ .»

ص: 355


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 44 .

ص: 356

37)عهد الإمام (علیه السّلام) إلى مالك الأشتر (رضی الله عنه)

مدخل

قال (علیه السّلام): «رَحِمَ اللهُ مالكًا، لقد كانَ لي كما كنتُ لرسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1).

الحديث في هذا الدرس يدور حول عهدِ الإمامِ (علیه السّلام) لمالكٍ الأشتر رضوان الله تعالى عليه، حينما بعثه إلى مصر، وجديرٌ بهذا العهد العظيم أن يُبحثَ بما يستحقه.

وقبل الدخول في مضامين هذا العهد الجليل، لا بد أن نمر ببعض المقدمات:

أولاً: مقدمات

أ) شخصية مالك (رضی الله عنه):

وهو الرجل الكفؤ الذي كان مؤهلاً لأن يحمِّلَهُ الإمام تلك الأمانة العظيمة، وشخصية مالك من الشخصيات البارزة جدًّا في التأريخ، وهو من الرواد الأوائل والأماثل الذين لهم الوجود المميز حتى كانوا سواعد قوية يعتمد عليها أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، ويرى العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي -كما سمعتُ

منه- أَنَّ مالكًا هو أفضلُ شخصيةٍ في صحابةِ أمیرِ المؤمنینَ على الإطلاق، وناهيك بهذا المقام العظيم، وشهرة هذا الرجل في التأريخ ومقامه معروف بحيث لا يحتاج

ص: 357


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 / 98 ، ومثله معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 14 / 165 .

إلى مزيد من القول فيه، ولكن تأديةً لحق البحث نذكر شيئًا من سیرته المباركة.

فقد ذكره الإمام (علیه السّلام) كما في النهج في مواطن كثیرة بعنوان الثناء بكلمات عالية لا ترقى لها عبارات أخرى، أو بعنوان بيان فضله لمن أُرْسِلَ إليهم أو بعنوان ذكره في مناسبة ما، وكلمات الإمام خیر مترجم لهذا الصديق المخلص والناصر العظيم

الذي قل نظیره ممن كان يعرف حق الإمام وفضله(1).

ومن النصوص غير الموجودة في النهج هو قوله (علیه السّلام) في رثاء مالك:

«فرحمَ اللهُ مالكًا، لو كان جبلاً لكان فندًا، ولو كان حجرًا لكان صلدًا، للهِ مالك، وما مالِك؟ وهل قامتِ النساءُ عن مِثْلِ مالك؟ وهل موجودٌ كمالك؟...

وبكى عليه أيامًا، وحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال: لا أرى مثله بعده أبدًا .»(2).

«وروى الشيخ المفيد (رضی الله عنه) مرسلاً عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)قال: يخرج مع القائم (علیه السّلام) من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من

قوم موسى (علیه السّلام) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون(3)، وسبعة من أهل الكهف،

ويوشع بن نون، وسلمان وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بن يديه أنصارًا وحكَّامًا .»(4).

ص: 358


1- وأكتفي هنا بالإشارة إلى أرقام وصفحات هذه النصوص، وهي: الكتاب رقم 13 ص 372 ، ورقم 34 ص 417 ، ورقم 38 ص 410 ، ورقم 62 ص 451 ، وغريب كلامه (علیه السّلام) رقم 443 ، ص 554 .
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 14 / 163 - 164 .
3- قال تعالى: «وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يْهدُونَ بِالْحقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ». سورة الأعراف/ 159 .
4- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 14 / 162 ، عن الإرشاد للشيخ المفيد.

وقد عُرِفَ منه البلاءُ الحسن والرجولة والشجاعة والشهامة والصلاح والسداد، وهو ممن وصفهم الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالإيمان وذلك في حديثه عن وفاة أبي ذرٍّ

رضوان الله تعالى عليه، فقد أخبر الرسولُ بذلك وأن أبا ذر يأتيه رجال مؤمنون للصلاة عليه، وبالفعل حينا توفِّی أبو ذر في الربذة جاءه مالك ومن معه وصلوا على أبي ذر(1).

ونظرًا لما لمالك من مؤهلات فقد وجهه الإمام لبلد مهم كمصر، فكان سفيرًا للإمام لينفِّذَ ويطبق بنود هذا العهد العظيم والميثاق الجليل، وبالإضافة إلى تزوده بهذا العهد وما يحمل من تعاليم، فإن لمالك ما يعينه ويؤهله لهذه المهمة الكبیرة من علم وإيمان وسداد رأي وبعد نظر وحسن سياسة.

وقد دعا الإمام في ختام ذلك العهد بالشهادة له ولمالك، فكان ذلك، فأما الإمام فكانت شهادته في محرابه بسيف ابن ملجم، وأما مالك فكانت شهادته مسمومًا على يد نافع مولى عثمان(2) الذي صحب مالكًا وخدمه ثم لما نزل القلزم غدر به ودسَّ له سمّاَ في شربة عسل وقدمها له، وقيل إن من سمه مولى لعمر أو لآل عمر(3)، وكان ذلك سنة 39 ه أو 38 ه وهي السنة التي بعثه الإمام إلى مصر، وقد اشتهرت عن معاوية كلمته: إِنَّ للهِ جنودًا من عسل(4).

ص: 359


1- معجم رجال الحديث 14 / 161 - 162 . كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد وغیره وعدوا ذلك منقبة كبیرة لمالك أن يصفه رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالإيمان.
2- معجم رجال الحديث 14 / 163 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 76 .
4- معجم البلدان، للحموي 1/ 454 ، وتروى كثیرًا عن عمرو بن العاص كما في تأريخ البخاري 311/7 ، وتأريخ مدينة دمشق لابن عساكر 56 / 389 ، وسیر أعلام النباء للذهبي 4/ 35 ،وغيرها.

ب) العهد الشريف

ب) العهد الشريف(1):

وتكمن أهميته في عدة أمور:

1) أنه ينضم إلى جملة عهود مختصرة وموسعة عهدها الإمام (علیه السّلام) إلى مالك أو غیره وجملة نصوص أخرى أوضحت في مجموعها جانبًا كبیرًا من السياسة الإسلامية وأساليب الحكم والإدارة.

2) أنه جاء بعد مرحلة كانت الأمة الإسلامية تعيش فيها فتنة مقتل عثمان ومجيء أهل البصرة والاضطراب الذي عاشه الناس والحروب التي قامت، فكانت الأمور بعد ذلك تسیر إلى فترة أكثر هدوء واستقرارًا، ولذلك فقد سعى الإمام إلى إبراز السياسة الحقيقية للإسلام كما أرادها الله تعالى حتى يستفيد منها

البشر ويأخذوها من هذا الوجود المقدس؛ من شخص الإمام نفسه (علیه السّلام)، فالإمام أراد أن يهيء للناس في كل البلاد حياة خاصة تؤمن سعادة الدنيا والآخرة، بعد تلك الحياة وذلك الانحراف الذي شهدته فترات حكم الحاكمین قبل الإمام ،(علیه السّلام) فكان هذا العهد تجربة رائدة سجلها الإمام وسلمها إلى أوثق أصحابه عنده، بل إن الإمام لأهمية مصر آثر أهلها بمالك على نفسه مع حاجة الإمام إليه(2).

3) نضيف إلى ذلك ما نعتقده من أن الإمام (علیه السّلام) عندما بینَّ أُسَسَ السياسة والإدارة الإسلامية في هذا العهد لم يحتجْ إلى أَناةٍ وروية وطول تفكیر ومزيد مشاورة، بل أماه أوكتبه فلم يحتج إلا إلى الوقت الكافي لإملائه أو كتابته، وهذا

ص: 360


1- الكتاب رقم 53 ، ص 426 .
2- قال (علیه السّلام) متحدثًا عن مالك في كتاب إلى أهل مصر: «وقد آثرتكم به على نفسي ». الكتاب رقم 38 ، ص 411 .

هو الإمام وذلك هو العلم الذي لا بد أن يملكه من يكون نائبًا عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في الولاية العامة على الأمة بل على البشر.

إذن فالإمام يبلغ للناس السياسة الإلهية ويدلِّلُ على أنه ليس بالضعيف الذي لم يحقق نجاحًا، وليس بالمفتقر إلى الرؤية السياسية الواضحة والحكمة الإدارية والمعرفة بأساليب الحكم، وإنما وكما هو واضح لم تكن الظروف مواتية فكانت الفتن وكانت الحروب الطويلة التي شُغِلَ بها الإمام (علیه السّلام)، وكانت التربية المنحرفة التي تربى عليها الناس مع الحاكمین، نعم لم يتحقق النجاح كما أراده الإمام (علیه السّلام)، وكان هناك فشل من الناس وتقصیر بل عجز فيهم، وسیرة الإمام وما حمله من

فكر ثاقب ونظرة حكيمة وهذا العهد بالذات خیر شاهد على هذه الحقيقة.

فالمسؤولية تقع على الناس، وأما علي فإنه ومن هذا العهد فقط يتجلى لنا أي رجل كان هو في سياسته وحكمته وأنه لا يمكن أن يُقرَنَ به على الإطلاق أحد ممن سبقه أو لحقه.

ولا ينفي ذلك سائر إنجازاته (علیه السّلام) الإدارية فيما يتربط بالولاة والعمال، وإصلاح القضاء، والتنظيمات الاقتصادية، وبسط العدل، وتعليم الناس، والضمان الاجتماعي، وإصلاح السجون، وسك العملة، وغیر ذلك كثیر.(1).

ص: 361


1- وهي جوانب -مع بالغ الأسف- لم يسلّط عليها الضوء، ولم تجمع في دراسات مستقلة ومستوعبة، إلا أني أشر إلى بعض هذه الدراسات المتفرقة، فمن ذلك: -1 الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق. -2 الراعي والرعية، للمحامي توفيق الفكيكي، وقد سبقت الإشارة إليه. -3 السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، جامعة اليرموك، رسالة ماجستير، لأحمد أسعد محمود إبراهيم. 4-السياسة الاقتصادية للإمام علي، للشيخ نزيه محيي الدين. 5-تأريخ النقود الإسلامية / 44 - 46 ، للسيد موسى الحسيني المازندراني. 6- مقال بعنوان: الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام) بن حقوق الإنسان وواجباته، للسيد محمد تقي الحكيم. 7- مجموعة مقالات بعنوان: الإمام علي (علیه السّلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة، لمحمد العبادي.

ج) العناية بهذا العهد:

فقد جالت فيه الأقام شرحًا وبحثًا ودراسةً في جميع شروح النهج، بل أُفرِدتْ له شروح ودراسات مستقلة، فقد ذكر السيد عبد الزهراء الخطيب أكثر من 16 شرحًا مستقلًّ لهذا العهد(1).

ونضيف إلى ذلك (دراسات في نهج البلاغة) و(عهد الأشتر) للشيخ محمد مهدي شمس الدين، ويحسن بالطالب كثیرًا مراجعة هذا الكتاب (عهد الأشتر) فإنه مختصر ونافع في هذا المجال، ومن أفضل الشروح لهذا العهد شرح المحامي

الكبیر توفيق الفكيكي حین تعرض لشرحه ودراسته في كتابه (الراعي والرعية)، خاصة وأنه أخذ منهجًا آخر غیر الذي أخذه الشراح، وهذا المنهج هو أنه سعى للتطبيق بین ما قام به الإمام من بناء الدولة وإرساء السياسة والنواحي الإنسانية في سیرة حكمه، وبین ما أوضحه الإمام في هذا العهد، فكان سعي الكاتب للتطبيق بین نظرية الإمام وسیرته العملية، ثم قارن ذلك بالنظريات والقوانین الأخرى فبین أنها أخذت من فكر الإمام ونظرياته، فكان الإمام (علیه السّلام) هو الرائد والسَّبَّاق في هذه النواحي السياسية والإدارية(2).

ص: 362


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 3/ 426 - 429 .
2- ومن مظاهر هذه العناية بالعهد الشريف ما ذكره الأستاذ محمد عبد الغني حسن المصري، في تقريضه لكتاب (الراعي والرعية) فقد قال عن العهد الشريف: «فالإمام الشيخ محمد عبده شرحه في كتاب (مقتبس السياسة)... كما شرحه من أفاضل العلماء السيد الماجد البحراني... وسمّاه (التحفة السليمانية)... وشرحه سلطان محمد المتوفَّی سنة 1354 ه وسمّاه (أساس السياسة في تأسيس الرياسة)، وشرحه الحسن الهمداني وسمّاه (هداية الحسام لهداية الحكام)، وترجه إلى اللغة الفارسية نظماً الوقاري الوصال الشاعر الشیرازي المتوفَّی سنة 1274 ه، كما ترجمه إلى التركية نظماً الشاعر محمد جلال ». الراعي والرعية / 291 .

وحول أهمية هذا العهد الشريف نقرأ ثلاثة نصوص(1):

1) قال الشيخ آغابزرگ الطهراني:

«وهو أولُ كتابٍ قانونيٍّ إسلاميٍّ قويم، كما أنه أطولُ عهودِهِ (علیه السّلام)، وأجمعُ كتبِهِ لوجوهِ السياسةِ الدينيةِ والمحاسنِ والقيادةِ والتدبیر، وقد وقَفَ عندَهُ المشَّرعونَ ورجالُ القانونِ في الشرقِ والغربِ منذُ العهودِ السالفةِ حتى يومِ الناسِ هذا موقفَ الإِكبارِ والإعجابِ والتعظيمِ، وقد دُرِسَتْ على ضوئِهِ بعضُ القوانینِ

والنُّظُمِ الأوروبيةِ الحديثةِ وقُورِنَتْ بهِ فظهرتْ ميزتُهُ وأفضليَّتُهُ، ولم يوجدْ لهُ نظیرٌ أو شبيهٌ، بل إِنَّ معظمَ دساتيرِ الدولِ وقوانینِ الممالكِ مأخوذةٌ منهُ ناسجةٌ على منوالِه .»

2) وقال جورج جرداق، في كتابِهِ القيِّم (الإمام علي صوت العدالةِ

الإنسانية)(2):

«إِلاَّ أنهُ يصعبُ على المرءِ أن يجدَ اختلافًا بین العهدِ العلويِّ والوثيقةِ الدوليةِ

ص: 363


1- وقد أورد السيد عبد الزهراء الخطيب هذه النصوص في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) 3/ 425 نقلاً عن مصادرها.
2- ج 1.

لحقوقِ الإنسانِ، فليس مِنْ أساسٍ بوثيقةِ حقوقِ الإنسانِ إِلَّا ونجدُ له مثيلاً في دستورِ ابنِ أبي طالبٍ، هذا إلى إطارٍ مِنَ الحنانِ الإِنسانيِّ العميقِ يحيطُ بهِ الإمامُ دستورَهُ في المجتمعِ ولا تحيطُ الأممُ المتحدةُ وثيقتَها بمثلِه .»

3) وقال ابن أبي الحديد(1):

«الأَلْيقُ أن يكونَ الكتابُ الذي كانَ معاويةُ ينظرُ فيهِ ويعجبُ منهُ ويفتن بهِ ويقضي بقضاياهُ وأحكامِهِ هو عهدُ عليٍّ (علیه السّلام) إلى الأشترِ، فإنهُ نسيجٌ وَحْدَهُ، ومنهُ تعلَّمَ الناسُ الآدابَ والقضايا والأحكامَ السياسيةَ، وهذا العهدُ صار إلى معاويةَ لما

سمَّ الأشترَ وماتَ قبلَ وصولِهِ إلى مصر .»

د) سند العهد:

فإنه من جهات أهمية هذا العهد أن يكون سنده صحيحًا ومعتبرًا، قال السيد الخوئي -رضوان الله تعالى عليه- في مباني تكملة المنهاج ج 1، ص « :5 طريقُ الشيخِ إلى عهدِهِ (علیه السّلام) إلى مالكٍ الأشترِ معتَبرَ .»

ه) لماذا التخصيص بمصر؟

فقد خصَّ الإمامُ مصرَ بالذات بهذا العهد العظيم وبإيفاد شخصيةٍ كمالك الأشتر إليها، ولعل سبب ذلك هو ما قاله الشيخ محمد مهدي شمس الدين(2):

«إن مصر عريقةٌ في التنظيم المجتمعي والحضارة منذ عشرات القرون، وإن تقاليدها في السياسة والإدارة عريقة في القِدم، وإن مجتمعها الأصلي مجتمع مكتمل التكوين

ص: 364


1- شرح نهج البلاغة 6/ 73 .
2- في كتابه (عهد الأشتر) / 13 .

في عاداتِهِ وتقاليده وفئاته الاجتماعية .».

نضيف إلى ذلك وجود من قام على عثمان من مصر ممن لم يرضوا بسياسته، وكانوا يريدون عدالة الإسلام فأراد الإمام (علیه السّلام) نشر العدالة هناك وتهدئة الوضع ولتكون نموذجًا للبلاد الأخرى.

ثانيًا: مضامين العهد الشريف

اشارة

ونتناول في ذلك ثلاث نقاط:

أ) أهداف العهد:

وقد ذكرها الإمام (علیه السّلام) نفسه في مقدمة العهد، كما صاغها مَنْ كتبَ حول هذا العهد بعبارات أخرى كالشيخ شمس الدين، وهذه الأهداف هي أربعة أهداف أساسية:

1) مالية الدولة، التي عبر عنها الإمام بِ (جباية خراجها).

2) الدفاع والأمن، الذي عنونه الإمام بِ (جهاد عدوها).

3) الإصلاح الاجتماعي، وقد عبرَّ عنه الإمام بِ (استصلاحِ أهلها)، وهذا يشمل جهات عدة من التعليم والتربية والتثقيف في كل المجالات.

4) التنمية الاقتصادية، التي عبر عنها الإمام بِ (عمارة بلادها).

ب) بعض المضامين التي ركز الإمام عليها:

ويلاحظ أن مضامينه شملت نواحٍ عدة فيما يتعلق بالنفس وباللهِ تعالى

ص: 365

وبالرعية وبطبقات المجتمع والجيش وما يرتبط بالأخلاق والآداب ومجالات عدة واسعة.

فمن قوله (علیه السّلام)في مقدمة الكتاب(1):

«أمرَهُ بتقوى اللهِ، وإيثارِ طاعتِه، واتباعِ ما أمرَ به في كتابِه: من فرائضِهِ وسننِه... وأن ينصرَ اللهَ سبحانه بيدِهِ ولسانِه... وأمرَهُ أن يكسرَ نفسَهُ ويزعَها عند الجَمَحَاتِ، فإن النفسَ أَمَّارةٌ بالسوءِ إلا ما رَحِمَ الله .»

ثم بيَّن ركيزةً من الركائز المهمةِ يلفت إليها نظر هذا السفير الموفَد:

«ثم اعلم يا مالكُ، أني قد وجَّهْتُكَ إلى بلادٍ قد جرتْ عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجورٍ، وإن الناسَ ينظرونَ من أمورِك في مثلِ ما كنتَ تنظرُ فيه من أمورِ الولاةِ قبلَك، ويقولونَ فيك ما كنتَ تقولُ فيهم ». فجعل ذلك مقياسًا يجب أن يراعيه مالك في تصرفه مع أهل هذا البلد القادم عليه، فبالتزامه بهذه الناحية يحقق العصمة العملية والكمال المنشود.

وعالج الإمامُ قضيةَ ما يستوجبه الحكم بطبعه في نفس الإنسان وهذا أمر دقيق من الأمور النفسية الخاصة، فقال (علیه السّلام)(2):

«وإذا أَحْدَثَ لكَ ما أنتَ فيه من سلطانِكَ أُبَّهةً أو مَخيلةً، فانظرْ إلى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فوقَك، وقدرتِهِ منك على ما لا تقدرُ عليهِ من نفسِك... .»

ص: 366


1- ص 427 .
2- ص 428 .

فإن طبع الحكم له نشوة معينة ويستوجب نوعًا من الخيلاء والتعالي، والإمام (علیه السّلام) يربِّی تلميذه وسفيره بهذه التربية ويريده أن ينظر إلى سلطان الله تعالى وقدرته ويفكر في ذلك دائماً كي لا يغره ما عنده من سلطان، بل إن الإمام يحذره

من نخوة هذا السلطان والتكبر، وينهاه أن يؤدي به ذلك إلى تضييع حقوق الرعية حينما يخطئ في حقهم فيقول له(1):

«ولا عذرَ لك عند اللهِ ولا عندي في قتلِ العَمْدِ لأن فيه قَوَدَ البدن، وإنِ ابتُليتَ بخطإٍ وأفرطَ عليك سوطُك أو سيفُك أو يدُك بالعقوبةِ فإن في الوكزةِ فما فوقها مقتَلة، فلا تطمحنَّ بك نخوةُ سلطانِكَ عن أن تؤدِّي إلى أولياءِ المقتولِ حقَّهم .»

ونبه الإمام (علیه السّلام) أيضًا على أمر ملازم للحاكم، فإنه يحب أن يتعرف على من يحبه ومن يبغضه فيلجأ إلى التجسس وقد يشتري ضمائر الناس لاستقرار أموره، فيلفت الإمام نظر مالك إلى هذه الجهة بقوله(2):

«وليكنْ أبعدَ رعيتِكَ منك وأشنأَهُمْ عندَكَ أَطْلَبُهُمْ لمعائبِ الناسِ؛ فإن في الناسِ عيوبًا، الوالي أحقُّ مَنْ سَترَها، فلا تكشِفَنَّ عما غابَ عنكَ منها، فإنما عليكَ تطهیرُ ما ظهرَ لك، واللهُ يحكمُ على ما غابَ عنك، فاسترِ العورةَ ما استطعتَ يسیرِ اللهُ منك ما تحبُّ سترَه من رعيتِك .»

فهذا تهذيب للنفس ومنع من التجسس لما يحمله من أضرار على ذات الراعي وعلى الرعية ويخالف أمر الشرع المقدس.

ص: 367


1- ص 443 .
2- ص 429 .

ثم ذكر الإمام جهة يحتاج لها الحاكم، ألا وهي المشورة فيعلِّمُ الإمام مالكًا أصول المشورة وشروطها بقوله (علیه السّلام)(1):

«ولا تُدْخِلَنَّ في مشورتِكَ بخيلاً يعدلُ بكَ عن الفضلِ، ويَعِدُكَ الفَقْرَ،ولا جبانًا يُضعِفُكَ عن الأمورِ، ولا حريصًا يزيِّنُ لك الشرَهَ بالجورِ، فإن البخلَ والجبنَ والحرصَ غرائزُ شتى يجمعُها سوءُ الظنِّ بالله .»

فالإمام (علیه السّلام) يأمره باستشارة من هو أهل لأن يستشار، وينهاه عن مشورة هؤلاء الأصناف بالذات ويبین له سبب ذلك وأضرار مشورتهم، وتلاحظ هنا جهة أخرى وهي أن الإمام إلى جانب تقديم الإرشاد والتعاليم يُدخِل في ذلك المعرفة فيخبره بأن تلك الأمور غرائز مختلفة ولكن يجمعها سوء الظن بالله.

ثم يرشده الإمام إلى الوزراء وشؤونهم بقوله (علیه السّلام):

«إن شرَّ وزرائِكَ من كان للأشرارِ قبلك وزيرًا، ومن شَركَهُمْ في الآثامِ فلا يَكُوننَّ لك بطانةً، فإنهم أَعوانُ الأثمةِ، وإِخوانُ الظَلَمةِ، وأنت واجدٌ منهم خیرَالخلفِ ممن له مثلُ آرائِهم ونفاذِهم... »: وهذا يسترجع في الذهن ما كان عليه الحكم السابق حین كان آل أبي سفيان وآل أبي معيط وبني أمية عامة في زمن عثمان

هم القائمین على رقاب الناس والناهبین لأموالهم بغیر حق، فيحذِّره الإمام (علیه السّلام) من هؤلاء وأمثالهم وإن كانوا يملكون الإدارة ويعلمون بالسياسة، فإنه سيجد من الأخيار المؤمنین غيرهم ممن يملك الإدارة ويعلم بالسياسة.

وبعد ذلك يشر الإمام (علیه السّلام) إلى جهة أخرى هي من طبع الحكم ألا وهي

ص: 368


1- ص 430 .

أن الحاكم يحب الثناء عليه، وقد كانت سیرة الإمام تشهد أنه لا يحب الثناء عليه وكان ينهى أصحابه عن أن يثنوا عليه، وهو هنا يريد من مالك ما يريده لنفسه، قائلاً:

«ثم ليكنْ آثرُهم عندكَ أقولَم بمرِّ الحقِّ لك، وأقلَّهم مساعدةً فيما يكونُ منك مما كَرِهَ اللهُ لأوليائِه، واقعًا ذلك من هواكَ حيثُ وقعَ، والصقْ بأهلِ الورعِ والصدقِ؛ ثم رُضْهُمْ على أَلَّ يُطْرُوكَ ولا يَبْجَحُوكَ بباطلٍ لم تفعلْه، فإن كثرةَ الإطراءِ تُحدِثُ الزَّهْوَ... »: وهذا ما لا يريده الإمام لحاكمٍ يقومُ مقامه.

ثم يوجه الإمام (علیه السّلام) نظرةً دقيقة إلى ترابطِ جميعِ فئات المجتمع وطبقاته، بقوله(1):

«فالجنودُ -بإذنِ اللهِ تعالى- حصونُ الرعيةِ، وزينُ الوُلاةِ، وعِزُّ الدين،ِ

وسُبُلُ الأَمْنِ... ثم لا قوامَ للجنودِ إلا بما يُخرِجُ اللهُ لهم من الخَراجِ الذي يقوَوْنَ به على جهادِ عدوِّهم... ثم لا قوامَ لهذين الصنفینِ إلا بالصنفِ الثالثِ من القضاةِ والعمالِ والكُتَّابِ لما يُحكِمُونَ من المعاقِدِ، ويَجمَعُونَ من المنافعِ... ولا قوام لهم جميعًا إلا بالتجارِ وذوي الصناعاتِ فيما يجتمعونَ عليه من مَرافِقِهم ويُقيمونَهُ مِنْ أسواقِهِمْ... ثم الطبقةُ السفلى من أهلِ الحاجةِ والمسكنةِ الذينَ يَحقُّ رِفْدُهُمْ ومعونتُهُمْ، وفي اللهِ لكلٍّ سَعَةٌ، ولكلٍّ على الوالي حقٌّ بقَدْرِ ما يُصْلِحُه... .»

وتوصية بالأناة والبعد عن البطش(2):

ص: 369


1- ص 432 .
2- ص 444 .

«وإِيَّاكَ والعَجَلَةَ بالأمورِ قبلَ أوانِا، أو التَّسَقُّطَ فيها عندَ إِمكانِها، أو اللجاجةَ فيها إذا تنكَّرَتْ، أو الوهنَ عنها إذا استوضحَتْ، فضَعْ كلَّ أمرٍ مَوْضِعَه... .»

ثم يذكر الإمام (علیه السّلام) أمرًا رائعًا فيربط الأناة والبعد عن العنف والبطش بأمر المعاد قائلًا:

«وعما قليلٍ تنكشفُ عنك أغطيةُ الأمورِ، ويُنتَصَفُ منك للمظلومِ، امْلِكْ حَميَّةَ أَنْفِكَ، وسَوْرَةَ حَدِّكَ، وسَطْوَةَ يَدِكَ، وغَرْبَ لِسانِكَ، واحْترَسْ مِنْ كلِّ ذلك بكفِّ البادِرَةِ وتأخیرِ السَّطْوَةِ، حتى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فتَمْلِكَ الاختيارَ، ولن تَحكُمَ ذلكَ مِنْ نَفْسِكَ حتى تُكْثِرَ هُمومَكَ بِذِكْرِ المعادِ إلى رَبِّكَ »: فالسلطان حينما يغضب

قد يفتك وقد يزهق الروح، والإمام (علیه السّلام) يوصيه بأن ينتظر حتى يسكن الغضب ليملك بذلك اختياره ويستطيع أن يصيب في رأيه ويكون عادلًا في حكمه، وهذه أمور صعبة لا يمكن الوصول إليها إلا بالارتباط بالله تعالى وتذكر أمر المعاد والوقوف بین يديه تعالى.

ج) النواحي الإنسانية:

قال جورج جرداق: «هذا إلى إطارٍ مِنَ الحنانِ الإِنسانيِّ العميقِ يحيطُ بهِ الإمامُ دستورَهُ في المجتمعِ ولا تحيطُ الأممُ المتحدةُ وثيقتَها بمثلِه .»

ومن أمثلة هذه النواحي الإنسانية، ما يلي:

قوله (علیه السّلام) في حديثه عن الناس الذين كان فيهم المؤمنون وأهل الذمةوغيرهم(1):

ص: 370


1- ص 427 .

«فإنهم صنفانِ: إِمَّا أخٌ لكَ في الدِّينِ، أو نظيرٌ لك في الخَلْق... .»

وحین يلتفت الإمام إلى طبيعة الجنود وأن من طبعهم الشدة والفتك وإراقة الدماء - ينبه إلى أن الإسلام يريد نموذجًا آخر، فإن الجندي على ما يتطلبه وضعه من القوة والشدة في الحق ينبغي أن يكون أيضًا القدوة والمثل الأعلى في الرأفة والإنسانية، وقد كانت هذه صفة مميزة وعجيبة في سیرة الإمام نفسه (علیه السّلام) وهو هنا يقول(1):

«فولِّ من جنودِكَ أنصحَهم في نفسِك للهِ ولرسولهِ ولإمامِك... وأفضلَهم حلماً ممن يُبْطِئُ عن الغضب، ويستريحُ إلى العُذْرِ، ويَرْأَفُ بالضُّعفاءِ، ويَنْبُو على الأقوياءِ، وممن لا يُثِیرْهُ العُنْفُ، ولا يَقْعُدُ بهِ الضَّعْفُ .»

وحين يتحدث عن اهتمامه بالرعية يقول (علیه السّلام)(2):

«ثم تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ ما يَتَفَقَّدُ الوالدانِ من وَلَدِهما .»

ثم يأمره بالموازنة بين الرعية والاعتراف بفضل أصحاب الفضل فيقول(3):

«وواصِلْ في حُسْنِ الثناءِ عليهِمْ وتعديدِ ما أَبْلَی ذَوُو البلاءِ مِنْهُمْ .»

كما بین الإمام (علیه السّلام) المقاييس التي يجب أن يعتمد عليها الحاكم، وأن يتجنب المقاييس التي تصيب وتخطئ كالظن والفراسة، فيقول (علیه السّلام):

ص: 371


1- ص 432 .
2- ص 433 .
3- ص 434 .

«فإن الرجالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِراساتِ الوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ، وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وليس وراءَ ذلكَ من النصيحةِ والأمانةِ شيءٌ... .»

ومن لطفه وعطفه على الفقراء وحبه للمساكين يؤكد على الاهتمام بهم، ورعايتهم كل الرعاية، فيقول (علیه السّلام)(1):

«ثم اللهَ اللهَ في الطبقةِ السفلى من الذين لا حِيلةَ لهم، من المساكينِ والمحتاجینَ وأهلِ البُؤْسَى والزَّمْنَى، فإِنَّ في هذه الطبقةِ قانعًا ومعترًّا، واحفظْ للهِ ما استحفَظَكَ من حقِّهِ فيهِم، واجعل لهم قِسْماً من بيتِ مالِك، وقِسْماً من غَلاَّتِ صَوافِی الإسلامِ في كلِّ بلدٍ، فإن للأَقْىَ منهم مثلَ الذي للأَدْنَى... فإنك لا تُعذَرُ بتضييعِكَ التافِهَ لإِحكامِكَ الكثیرَ المُهِمَّ، فلا تُشْخِصْ هَّمكَ عنهم، ولا تُصَعِّرْ خدَّك لهم، وتَفَقَّدْ أمورَ من لا يَصِلُ إليكَ منهم ممن تَقْتَحِمُهُ العُيونُ وتَحقِرُهُ الرجالُ... وتعهَّدْ أهلَ اليُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ في السِّنِّ ممن لا حيلةَ له، ولا يَنْصِبُ للمسألةِ نَفْسَه »: وقد لاحظت أن الإمام (علیه السّلام) لم يبدأ فقرةً وأمرًا في هذا العهد الشريف بمثل هذه البداية «ثم اللهَ اللهَ في الطبقةِ السُّفْلَی »، فطبع المجتمع أن يكون فيه أثرياء ووزراء وقضاة كما أن فيه فقراء وزَمنى (مرضى) وأيتامًا ومسنين وقد تقتحم العيون هذه الطبقة أي لا يُعْبَأُ بهم ويُحتقرون، وفيهم القانع الذي لا يسأل كما أن فيهم المعترَّ الذي يتعرض للمسألة وهم بطبيعتهم وظروفهم هذه أحوج الناس إلى العدل، والحاكم لا يعذر إذا حفظ العدل والأمن والحقوق للغالبية المهمة وترك الأقلية غیر المهمة

من هذه الطبقة السفلى.

فعليه أن يلتفت إليهم ويُعنى بهم تمام العناية بل يجعل مجلسًا لذوي

ص: 372


1- ص 438 .

الحاجات منهم فإنهم قد لا يبوحون لكل أحد بوضعهم وحاجتهم، وقد استشهد الإمام له بسیرة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قائلاً:

«فإني سمعتُ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يقولُ في غیرِ موطنٍ:(لن تُقَدَّسَ أمةٌ لا يؤخَذُ للضعيفِ فيها حقُّه من القويِّ غیرَ مُتَتَعْتِعٍ .»

ثم يوصيه بالثبات وسعة الصدر بقوله:

«ثم احتملْ الخُرْقَ منهم والعِيَّ ونحِّ عنهم الضِّيقَ والأَنَفَ يبسطِ اللهُ عليك بذلكَ أكنافَ رحمتِه، ويُوجِبُ لكَ ثوابَ طاعتِه .»

وقد دعا (علیه السّلام) أخيرًا بهذا الدعاء:

«وأنا أسألُ اللهَ بسَعَةِ رحمتِه، وعظيمِ قُدْرَتِه على إعطاءِ كلِّ رَغْبَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَني وإياكَ لمِا فيه رضاهُ مِنَ الإقامةِ على العُذْرِ الواضحِ إليهِ وإلى خلقِه، مع حُسْنِ الثناءِ في العِبادِ، وجميلِ الأثرِ في البلادِ، وتمامِ النعمةِ، وتضعيفِ الكرامةِ، وأَنْ يَختِمَ لي ولكَ بالسعادةِ والشهادة، إِنا إليهِ راجِعُونَ، والسلامُ على رسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الطيبین الطاهرين، وسلم تسليمًا كثیرًا .»

ص: 373

ص: 374

38)الإمام الإنسان.. السيرة الذاتية

مدخل

حديثنا هذا هو الحديث الختامي عن حياة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وهو حول سیرته الذاتية، فبعد أن تحدثنا عن الإمام الحاكم نتحدث هنا عن الإمام الإنسان، وسنلاحظ سعة مجالات الحديث وكثرتها، وسوف نقتصر على مجالات منها بما يستوعبه هذا الدرس.

مقدمة

أ) دراسة الشخصية:

إن الدراسة الدقيقة والموضوعية لشخصية ما هي الدراسة التي تستوعب حياة تلك الشخصية في مختلف الأدوار: في فترة الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة، ففترة الطفولة والصبا لها طبيعتها من الميل إلى اللهو، وفترة الشباب تستدعي طيشًا وانطلاقًا معينًا في العواطف والغرائز والمواقف، وفترة الشيخوخة

تصاحبها مؤثراتها ومتاعبها، وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) عاصر في بداية حياته وضع الجاهلية بكل انحرافاتها، ثم عاصر بداية الدعوة وواكبها حتى انتصارها وهو في مرحلة الشباب، ثم قاسى اغتصاب حقه منه مع إيمانه الراسخ به، ثم كان أن عاد الحق

إليه مع ابتلائه بالأحداث الجسام من فتن وحروب وغیر ذلك وهو في ذلك السن الذي جاوز فيه الستين، ومرورًا بكل تلك الأدوار نجد هذه الشخصية متماسكة فلا تجد ثغرة واحدة فيها خلال تلك الحياة الحافلة بالبلاء والأحداث الكبیرة، وإن

ص: 375

هذه النظرة السريعة لتثبت لنا وتؤكد أن عليًّا بشر ولكن ليس كسائر البشر.

إن قلتُ ذا بشرٌ فالعقلُ يمنعني*** وأختشي اللهَ في قولي هو الله

فصفات عليٍّ (علیه السّلام) هي صفات ممكن الوجود ولكنها صفات في أعلى درجات الإمكان، وصفات الله تعالى صفات واجب الوجود التي لا يصل إليها ممكن الوجود بأي حال، وصدق من قال: إذا كان عليٌّ بشرًا فلسنا من البشر في شيء، وإن يكن هو الله فذلك هو الكفر.

ب) ملتقى الكمالات:

فأمیر المؤمنین (علیه السّلام) هو ملتقى الكمالات والفضائل الإنسانية وأنموذج الاصطفاء والعناية الربانية، وسنلاحظ ذلك في عموم أدوار حياته وسائر نشاطه في أمر الدين بما يتعلق بأمر الحروب التي خاضها دفاعًا عن الإسلام ونصرةً للحق من بدر إلى النهروان، وبما يتعلق بمواقفه في فترات حكمه وفترات الحاكمین قبله،ومجال آخر هو عدالته ومظاهر ذلك مع أقرب الناس إليه أو مع ألد الأعداء له، وهي كذلك مع ولاته ومع سائر الناس، ومجال آخر هو إنسانيته مع أهله وخدمته لهم، وفي شؤونه الخاصة في لباسه وطعامه، وفي تواضعه وأريحيته في دعابته، وسعةأفقه وتعاليه، وجملة من شؤونه مع الناس.

وقد تجلت في كل ذلك عظمته تجليًا تامًّا.

وأخیرًا فإن هذه السیرة الذاتية الرائعة بل المعجزة للإمام (علیه السّلام)هي مدعاة للسرور والغبطة والفخر من جانب، كما أنها مدعاة للأسى من جانب إعراض الناس عن هذا الرجل الإلهي العظيم الذي جسَّدَ القرآن وجسَّدَ الحق.

ص: 376

أولاً: بطل الإسلام

وإذا تحدث عليٌّ (علیه السّلام) عن نفسه فهو الصادق غیر المتهم، وفوق كل ذلك فإن سیرته تصدق قوله فلا مجال للإنكار أبدًا، وقد قال (علیه السّلام)(1):

«حتى لقد قالت قريشٌ: إنَّ ابنَ أبي طالبٍ رجلٌ شجاعٌ، ولكن لا علمَ له بالحرب، للهِ أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مِراسًا، وأقدمُ فيها مَقامًا مني! لقد نَهضْتُ فيها وما بلغتُ العشرينَ وهأنذا قد ذَرَّفْتُ على الستينَ! ولكنْ لا رأيَ لمن لا يُطاعُ! .»

فعليٌّ الذي لم يتجاوز حينها العشرين سنة كان بطلَ الإسلام الأول في ساحة الجهاد، ويوم ذاك لم يكن لأبي بكر أثر.. ولم يكن لعمر عن ولا أثر.. ولم يكن لعثمان اسم يذكر في تلك المواقف.. ففي (بدر) كان عليٌّ فارسَ الإسلام الذي جدَّلَ فرسان الكفر، وفي (أُحُد) جاء النداء من السماء قائلاً: «لا فتى إلا عليٌّ ولا سيفَ إلا ذو الفقار »، وإن (أُحُد) لتشهد بذلك، وتلك الفتوة هي كما يقول ابن أبي الحديد كالتي عبر بها القرآن الكريم عن خليل الله إبراهيم(علیه السّلام)(2) فلا يرقى لمثلها إلا مثل تلك الشخصية، وفي (الخندق): ضربة عليٍّ يوم الخندق تعدل أعمال الثقلین.

قال ابن أبي الحديد:

«فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد وَدٍّ فإنها أجل من أن يقال جليلة، وأعظم من أن يقال عظيمة، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل

ص: 377


1- خ 27 ، ص 70 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 217 .

وقد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله، عليٌّ أم أبو بكر؟ فقال: يابن أخي، واللهِ لمَبارزة عليٍّ عمْرًا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتِهم كلها وتُربي عليها، فضلاً عن أبي بكر وحده »(1).

فقد كان في تلك الضربة نصر الإسلام وعزته وقوة المسلمين وبقاؤهم، واندحار الكفر وهزيمة جيشه، وكان عليٌّ (علیه السّلام) طوال تلك الفترة يمثل وحده جيشًا عظيماً لا يحتاج الإسلام إلى غیره، وإلى أن بلغ الإمام الستين وهو بعد يجاهد دفاعًا

عن الحق.

وقد تحدث الإمام عن تلك المنزلة شاكرًا الله تعالى الذي أكرمه بها وتفضل بها عليه، وتلك الكرامة التي خصه بها، فيقول (علیه السّلام)(2):

«ولقد عَلِمَ المستحفَظُونَ من أصحابِ رسولِ اللهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أني لم أردَّ على اللهِ ولا على رسولِهِ ساعةً قط، ولقد واسيتُهُ بنفسي في المواطنِ التي تنكصُ فيها الأبطالُ

وتتأخر فيها الأقدامُ، نجدةً أكرمني اللهُ بها »: واللهُ أعلم حيث يجعل رسالته وأمانته فإنه الحكيم الذي يضع الأمور مواضعها.

ثانيًا: مظاهر عدالته

وما أكثر هذه المظاهر وأعظمها، ولكن نأخذ سطورًا معبرة منها:

أ) قال (علیه السّلام)(3):

ص: 378


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 60 .
2- خ 197 ، ص 311 .
3- خ 224 ، ص 346 .

«واللهِ لَأنْ أبيتَ على حَسَكِ السعدانِ مسهَّدًا، أو أُجَرَّ في الأغلالِ مصفَّدًا،أحبُّ إليَّ من أن ألقى اللهَ ورسولَهُ يوم القيامةِ ظالمًا لبعضِ العبادِ، وغاصبًا لشيءٍ من الحُطامِ، وكيف أظلمُ أحدًا لنفسٍ يُشرْعُ إلى البِلى قُفولهُا، ويطولُ في الثرى حُلولهُا؟! .»

ثم يتحدث عن موقف مع أخيه عقيل وهو من أقرب الناس إليه وقد كان فقیرًا محتاجًا وكان في حالة شديدة يعلمها الإمام (علیه السّلام) وقد وصفها بدقة، ولكن عليًّا لا يساوم على دينه كما يساوم الآخرون، والإمام يقسم باللهِ تعالى ويؤكد واقع الحالة قائلاً:

«واللهِ لقد رأيتُ عقيلاً وقد أملَقَ حتى استماحني من بِرِّكم صاعًا، ورأيتُ صبيانَهُ شعثَ الشعورِ، غُبرْ الألوانِ من فقرِهم، كأنما سُوِّدَتْ وجوهُهم بالعِظْلِمِ، وعاودني مؤكِّدًا، وكرَّرَ عليَّ القولَ مردِّدًا، فأصغيتُ إليهِ سمعي، فظنَّ أني أبيعُهُ ديني وأَتَّبِعُ قيادَهُ مفارقًا طريقتي، فأحميتُ له حديدةً، ثم أدنيتُها من جسمِهِ ليعتبرِ

بها، فضجَّ ضجيجَ ذي دَنَفٍ من ألمِها، وكاد أن يحترقَ من مِيْسَمِها، فقلتُ له: ثكلتْكَ الثواكلُ يا عقيلُ! أتئنُّ من حديدةٍ أحماها إنسانُها لِلَعِبِه، وتجرُّني إلى نارٍ سَجَرَها جبَّارُها لغضبِه! أتئنُّ من الأذى ولا أئِنُّ من لظى .»

وموقف آخر يذكره على إثر هدية أهداها له ابن الأشعث، فيقول (علیه السّلام) بعد ذلك:

«وأعجبُ من ذلك طارقٌ طرَقَنا بملفوفةٍ في وعائِها، ومعجونةٍ شنِئْتُها، كأنما عُجِنَتْ بريقِ حيةٍ أو قيئِها، فقلتُ: أَصِلَةٌ أم زكاةٌ أم صدقةٌ؟ فذلك مُحرَّمٌ علينا أهلَ البيت! فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية. فقلتُ: هبِلَتْكَ الهَبُولُ! أَعن دينِ

ص: 379

اللهِ أتيتني لتخدَعني؟ أَمُتبِطٌ أنتَ أم ذو جِنَّة، أم تهجُر؟ واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ بما تحتَ أفلاكِها، على أن أعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلبُها جُلْبَ شعيرةٍ ما فعلتُه، وإنَّ دنياكم عندي لأهونُ من ورقةٍ في فمِ جرادةٍ تَقْضَمُها، ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى،ولذةٍ لا تبقى! نعوذُ باللهِ من سُباتِ العَقْلِ وقُبْحِ الزَّلَلِ، وبه نستعين .»

وللهِ أنت يابن أبي طالب، فالذي يتنافس فيه الملوك والناس كنت تنفر منه وتبتعد عنه بهذه الصورة، فهذا المنصور العباسي «هُيِّئَتْ له عجّةٌ من مخٍّ وسكر فاستطابها فقال: أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه .»(1).

وأما أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فيصف هذه الهدية بأنها كالتي عجنت بريق حية أو قيئها، فنفسه تنفر منها أشد النفرة، لأنها جاءت طمعًا أن يفضل الإمام (علیه السّلام) جماعة على أخرى في العطاء، وهو يجيب من أتى بها بذلك الجواب الشديد ثم يقسم بأنه لو أعطي الأقاليم السبعة ما ظلم نملة فكيف يظلم العباد.

ب) وكان عنده والٍ له شأن وكان معه في حرب الجمل يجاهد، وذلك الوالي لم يرتكب جرمًا عظيماً ولكن عليًّا يأبى إلا أن يربيه على آداب الله تعالى وبكل دقة، ويهديه بالهداية التي يعلمها وبكل إخلاص له، ويأبى إلا أن يكون ولاة الأمة بذلك المستوى الرفيع الذي أرشدهم إليه، فقد أرسل إليه الإمام كتابًا جاء فيه(2):

«أما بعد يابنَ حنيفٍ: فقد بلغني أن رجلاً من فتيةِ أهلِ البصرةِ دعاكَ إلى مأدبةٍ فأسرعتَ إليها تُستطابُ لك الألوانُ، وتُنقَلُ إليكَ الجِفانُ، وما ظننتُ أنك

ص: 380


1- مروج الذهب 3/ 309 .وإبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أحد الذين قاموا على المنصور.
2- الكتاب رقم 45 ، ص 416 .

تجيبُ إلى طعامِ قومٍ، عائلُهم مجفوٌّ، وغنيُّهم مدعوٌّ، فانظُرْ إلى ما تَقْضَمُهُ من هذا المَقْضَمِ، فما اشْتَبَهَ عليكَ عِلْمُهُ فالْفِظْهُ، وما أيقنتَ بطِيبِ وجوهِهِ فنَلْ منه .»

فالإمام (علیه السّلام) يريد من الوالي أن يكون ملتفتًا دائماً إلى رعيته بحيث لا يتميزعنهم، ويظل يرعاهم تمام الرعاية، ولا يرضى أن يكون الفقیر في رعيته يُبعَدُ ويجفى وأما الغني فإنه يُكرَّم ويدعا، كما يحذره الإمام من أن يُدع ويُرتَشَى بمثل هذه الدعوات وغيرها.

ثم يقرر الإمام (علیه السّلام) قانونًا عامًا بقوله:

«ألا وإن لكلِّ مأمومٍ إمامًا يقتدي به، ويستضيءُ بنورِ علمِه، ألا وإنَّ إمامَكم قد اكتفى مِنْ دُنياهُ بطِمْرَيْهِ(1)، ومِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلا وإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ على

ذلكَ ولكنْ أَعِينُوني بورعٍ واجتهادٍ، وعِفَّةٍ وسَدادٍ .»

ومن مظاهرعدالتِهِ مع أعدائه أو المعارضین له موقفه مع طلحة والزبیر، فقد «قالا له وقت البيعة: نبايعك على أنا شركاؤكَ في هذا الأمر، فقال لها: لا، ولكنكما شريكايَ في الفيء لا أستأثر عليكما ولا على عبدٍ حبشيٍّ مجدَّع بدرهمٍ فما دونه، لا أنا ولا ولدايَ هذان، فإن أبيتما إلا لفظ الشركة، فأنتما عونان لي عند

العجزِ والفاقة، لا عند القوة والاستقامة.

قال أبو جعفر: فاشترطا ما لا يجوزُ في عقد الأمانة، وشرط (علیه السّلام) لهما ما يجب في الدين والشريعة .»(2).

ص: 381


1- الطِّمْرُ: الثوب الَخلِقُ البالي.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/ 42 .

فهو يضرب المثل الأعلى في العدالة ويساوي نفسه -وهو أمیر المؤمنین- بسائر رعيته، ويأبى أن يمتاز عليهم بشيء ويأبى أن يُفضِّلَ بعضهم على بعض في العطاء.

ثالثًا: إنسانيته الفذة

وهي تتمثل في كثیر من المظاهر، فهو ورغم كونه الحاكم في فترة معينة ورغم كونه قبل هذا أمیر المؤمنین إلا أنه (علیه السّلام) كان طوال حياته عاملاً كادحًا، بل كان في حياة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يؤجِّرُ نفسه حتى لليهودي فيسقي نخياتٍ له بأجرٍ ولو كان زهيدًا كمقدارٍ من التمر يوفِّره لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

وأما إنسانيته في بيته فهو يشارك زوجه (علیهما السّلام) الخدمة في الطحن أو الكنس أو سائر الأمور الأخرى.

وأما إنسانيته في أموره الشخصية فقد تجلت حتى في لباسه وطعامه، وهو يقتدي في ذلك برسول الله، وقد قال متحدثًا عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(1):

«خَرَجَ من الدنيا خميصًا، ووردَ الآخرةَ سليمًا، لم يضعْ حَجَرًا على حَجَرٍ حتى مضى لسبيلِهِ وأجابَ داعيَ ربِّه، فما أعظمَ منةَ اللهِ عندنا حین أنعمَ به سَلَفًا نَتَّبِعُه، وقائدًا نَطَأُ عَقِبَه! »: وهذا هو الوعي والإدراك لرسالة الإسلام ومنزلة الرسول في القدوة ودور الحاكم وسیرته.

ثم قال (علیه السّلام):

ص: 382


1- خ 160 ، ص 229 .

«واللهِ لقد رقَّعتُ مِدْرَعَتي هذه حتى استحييتُ من راقعِها، ولقد قال لي قائلٌ: ألا تَنْبِذُها عنك؟ فقلتُ: اغْرُبْ عني فعند الصباحِ يَحْمَدُ القومُ السرُّى! :»

والإمام بقوله عن مدرعته: (هذه)، يشیر إلى واقع محسوس يرونه، وقد كان من يرقع مدرعته هو الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك فقد وصل الحال بالإمام أن يستحي منه.

وفي الكتاب رقم 45 شيء من شؤون الإمام الشخصية في لباسه وطعامه وسائر أموره، ولم يكن ذلك الحال منه بسبب الفقر أو الحاجة بل ليكون أسوة لأضعف رعيته وأشدهم حاجة، وهذه غاية الإنسانية من شخص كان هو الإمام الحاكم المهيمن على المقدرات والثروات، فهو (علیه السّلام) يقول في هذا الكتاب(1):

«ولو شئتُ لاهتديتُ الطريقَ إلى مُصَفَّى هذا العسلِ ولُبابِ هذا القمحِ ونسائجِ هذا القَزِّ، ولكن هيهاتَ أن يَغلبَني هوايَ، ويقودَني جشعي إلى تخیرِ الأطعمةِ، ولعلَّ بالحجازِ أو اليمامةِ من لا طَمَعَ له في القُرْصِ ولا عَهْدَ له بالشَّبَعِ :» فهو إمام الخلق فأراد أن يكون أسوةً لهم جميعًا، وذلك هو همه وتلك هي نفسيته

وعدالته وحبه للخلق وخوفه من الخالق.

وكان من تواضعه وإنسانيته أنه لا يحب الإطراء والثناء عليه وينهى أصحابه عن ذلك، فقد خطب بصفین «فأجابه (علیه السّلام) رجلٌ من أصحابِهِ بكلامٍ طويلٍ،يكثر فيه الثناءَ عليه ويذكرُ سمعَهُ وطاعتَهُ له » فكان مما قاله (علیه السّلام)(2):

«فلا تُثْنُوا عليَّ بجميلِ ثناءٍ، لإِخراجي نفسي إلى اللهِ سبحانَهُ وإليكم من التقيةِ

ص: 383


1- الكتاب رقم 45 ، ص 417 - 418 .
2- خ 216 ، ص 335 .

في حقوقٍ لم أَفْرُغْ من أدائِها، وفرائضَ لا بدَّ من إمضائِها، فلا تكلموني بما تُكَلَّمُ به الجَبابِرَةُ... ولا تظنُّوا بي استثقالًا في حقٍّ قيلَ لي ولا التماسَ إعظامٍ لنفسي... فإنما أنا وأنتم عبيدٌ مملوكونَ لربٍّ لا ربَّ غيره .»

وصدق الله تعالى إذ يقول: «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلىَ الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا »(1).

فلو حكم في الأمة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من يومها الأول فهو بهذا المستوى من التعامل مع الرعية، ولو أُعطِيَ الخلافة بعد الرسول مباشرةً لظهرت الخیرات وبانتِ البركات في أعمالهم لأنه سيهديهم ويحملهم على الصراط المستقيم فيستقيمون (على الطريقة)، وذلك بما يحمله الإمام من فكر ووعي، وبما يملك

من هيمنة على النفس لا يملكها غیره.

وقد تحدث الإمام (علیه السّلام) عن تقصیره في الحقوق التي كلفه الله تعالى بأدائها للرعية، وما ذاك إلا لسان العبد الكامل الذي يستشعر التقصیر دائماً.

رابعًا: أريحيته وسعة أفقه وتعاليه

فأما أريحيته فقد وصفه حتى أعداؤه بالدعابة والمزاح.

قال ابن أبي الحديد:

«وأما سجاحة الأخلاق وبشرْ الوجه وطلاقة المحيا والتبسم، فهو المضروبُ به المثل فيه؛ حتى عابه بذلك أعداؤه؛ قال عمرو بن العاص لأهلِ الشام: إنه ذو

ص: 384


1- سورة الجن / 16 .

دعابةٍ شديدة، وقال عليٌّ (علیه السّلام) في ذاك: عجبًا لابنِ النابغةِ يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس، وعمرو بن العاص إنا أخذها من عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: للهِ أبوك لولا دعابةٌ فيك! إِلَّا أن عمر

اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمَّجها .»(1).

وأما واقع تلك الدعابة فهي جانب من جوانب كمال الإمام (علیه السّلام) في أخلاقه وسیرته، قال ضرار بن ضمرة حينما قال له معاوية صف لي عليًّا: «وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللهِ مع تقريبهِ إيانا وقربِهِ منا لا نكاد نكلمه هيبةً له .»(2).

وقال قيس بن سعد في حديث مع معاوية أيضًا: «أما واللهِ لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيبَ من ذي لبدتین قد مسَّهُ الطَّوى، تلك هيبةُ التقوى، لا كما يهابك أهل الشام .»(3).

وقد أجاب الإمام نفسه على كلام عمرو هذا(4).

وموقف آخر مع الأسرى ومع مَصقلة بن هبیرة وذلك «لما هرب مصقلة بن هبیرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وأعتقهم، فلا طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام » فقال(علیه السّلام)(5):

ص: 385


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 25 .
2- الإمام علي من المهد إلى اللحد/ 243 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 25 .
4- خ 84 ، ص 115 .
5- خ 44 ، ص 85 .

«قَبَّحَ اللهُ مَصْقَلَةَ! فعل فعلَ السادةِ وفرَّ فِرارَ العبيدِ! فما أنطق مادحَهُ حتى أَسْكَتَه، ولا صدَّق واصِفَهُ حتى بكَّتَهُ، ولو أقام لأخذنا ميسورَه، وانتظرْنا بمالِهِ وُفُورَه .»

فقد مدحه الإمام على فعله الأول وكان مستعدًّا لأَنْ يعينه على هذا العمل الإنساني مع سبي من أعداء الإمام (علیه السّلام)، وموضع الشاهد الذي هو فوق ذلك أنه قيل للإمام أن يعيد من أعتقهم مصقلة إلى الرق لأنه لم يقبض ثمن عتقهم كله،

فرفض الإمام ذلك وقال (علیه السّلام):« ليس ذلك في القضاءِ بحقٍّ؛ قد عتقوا إذْ أعتقهم الذي اشتراهم، وصار مالي دينًا على الذي اشراهم »(1).

وموقف آخر مع مروان، وما أدراك ما مروان؟

«أُخِذَ مروان بن الحكم أسیرًا يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسین (علیهما السّلام) إلى أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فكلماه فيه فخلاَّ سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمیر المؤمنین؟ فقال

(علیه السّلام): أَوَ لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجةَ لي في بيعتِه! إنها كفٌّ يهودية، لو بايعني بكفه لغدر بِسُبَّتِهِ، أمَا إِنَّ له إِمْرَةً كلَعْقَةِ الكلبِ أَنْفَه، وهو أبو الأكْبُشِ الأربعة، وستلقى الأمةُ منه ومن وَلَدِهِ يومًا أحمر! »(2).

فقد عامله الإمام (علیه السّلام) بذلك المستوى من الإنسانية التي ليس لها نظر والتي هي ذاتية من ذاتياته لا تكلُّفَ فيها.

وموقف آخر مع الخريت بن راشد الذي كان مع الإمام في صفین، ثم بعد

ص: 386


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 147 .
2- خ 73 ، ص 102 .

التحكيم لم يرض بما صنعه الإمام فعزم على عصيانه والاعتزال عنه فجاء إلى الإمام مع ثلاثین من أصحابه، وأخبر الإمام بذلك ولكن الإمام ناقشه وطلب منه أن يناظره وأراد له الهداية وتلك إنسانية رفيعة أن يقبل أولًا أن يفاوض معارضًا يريد الخروج عليه بدل أن يرغمه بالقوة حتى يرجع أصحابه ولا يلحق به آخرون، بل

إن الإمام (علیه السّلام) كان يحب وبكل إخاص له الهداية(1).

وموقف آخر لما مر (علیه السّلام) بالأنبار في العراق خرج أهلها «فلما استقبلوه، نزلوا عن خيولهم، ثم جاؤوا يشتدون معه وبین يديه، ومعهم براذين(2) قد أوقفوها في طريقه، فقال: ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم؟

قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء؛ وأما هذه البراذين فهدية لك، وقد صنعنا للمسلمين طعامًا وهيئنا لدوابكم علفًا كثیرًا، فقال (علیه السّلام): أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء، فواللهِ ما ينفع ذلك الأمراء؛ وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له، وأما دوابكم هذه، فإن أحببتم أن آخذها منكم، وأحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم،

وأما طعامكم الذي صنعتم لنا؛ فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن... .»(3).

وهذا لطف ورأفة بالرعية وإنسانية لا يقدر عليها إلا عليٌّ (علیه السّلام) وهو يربي رعيته على ما يصلحهم ولا يريد أن يمتاز عليهم أو يرهقهم.

ص: 387


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 128 .
2- جمع (بِرْذون): وهو الخيل غير العربي.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 203 .

خامسًا: الانضباط والملكات الشريفة

ونجد ذلك في ما قاله قبل موته لما ضربه ابن ملجم لعنه الله(1):

«إِنْ أبقَ فأنا وليُّ دمي، وإِنْ أَفْنَ فالفناءُ ميعادي، وإِنْ أَعْفُ فالعَفْوُ لي قُرْبَةٌ .»

وقال (علیه السّلام)(2):

«يا بني عبدالمطلب، لا أُلْفِيَنَّكم تخوضونَ دماءَ المسلمينَ خوضًا، تقولونَ: قُتِلَ أمیر المؤمنین، ألا لا تَقْتُلُنَّ بي إلا قاتلي، انْظُرُوا إذا أنا متُّ من ضربتِهِ هذه، فاضِربُوهُ ضربةً بضربةٍ، ولا تمثِّلوا بالرجلِ، فإني سمعتُ رسولَ الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يقول:

إياكم والمُثْلَةَ ولو بالكلبِ العَقُور »: وقد كان بإمكانه أن يأمر أهله وشيعته أن يشعلوا الحروب مع قريش والعرب قاطبة من أجل الثأر له، ولكنه يأبى إلا الانضباط والالتزام بأحكام الشرع المقدس، كما أنه يوصيهم كيف يعاملون قاتله وأن لا يمثلوا به التزامًا بحكم الله تعالى.

وموقف عجيب كان للإمام (علیه السّلام) لما أن منعه معاوية من ماء الفرات بصفین وكان مع الإمام أكثر من مائة ألف فارس، فلما أن تمكن الإمام من الماء بعد قتال شديد، قال «أصحاب عليٍّ (علیه السّلام) له: امنعهم الماء يا أمیر المؤمنین كما منعوك، فقال:

لا، خلُّوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، سنعرضُ عليهم كتاب الله، وندعوهم إلى الهدى، فإن أجابوا؛ وإلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله .»(3).

ص: 388


1- رقم 23 ، ص 378 .
2- ص 422 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 331 .

وفي مجال ملكاته الشريفة نقف على جانب عظيم ومثیر في موقف الإمام مع عمرو بن العاص:

قال ابن أبي الحديد:«كان عمرو بن العاص عدوًّا للحارث بن نضر الخثعمي وكان من أصحاب عليٍّ (علیه السّلام)، وكان عليٌّ (علیه السّلام) قد تهيبتْهُ فرسان الشام، وملأ قلوبهم بشجاعته، وامتنع كل منهم من الإقدام عليه، وكان عمرو قلما جلس مجلسًا إلا وذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمي وعابه، فقال الحارث:

ليسَ عمرٌو بتاركٍ ذكرَهُ الحا***رثَ بالسوءِ أو يلاقي عليّا

فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمْرًا فأقسم بالله ليلقنَّ عليًّا ولو مات ألف موتة، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم عليٌّ (علیه السّلام) وهو مخترطٌ سيفًا معتقلٌ رمحًا، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فألقى عمرو نفسه عن

فرسه إلى الأرض شاغرًا برجليه؛ كاشفًا عورته، فانصرف عنه لافتًا وجهه مستدبرًا له، فعدَّ الناسُ ذلك من مكارمه وسؤدده، وضرب بها المثل .»(1).

سواء ضرب المثل بترفع أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وإنسانيته، أو بِضِعَةِ عمرو وموقفه ذاك، ولهذا قيل:

ولا خیرَ في دفعِ الرَّدَى بمذلَّةٍ*** كما ردَّها يومًا بسوءتِهِ عَمرُو

وأما بسر بن أرطاة -وهو الرجل الطاغية الجافي- فقد كان شديدًا مع غیر عليٍّ، أما مع عليٍّ فقد كان كقول القائل:

ص: 389


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 313 .

أنا في الحربِ ما جرَّبتُ نفسي*** ولكن في الهزيمةِ كالغزالِ

أو كقول القائل:

أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ*** خرقاءُ تهربُ من صفرِ الصافرِ

فقد حرضه معاوية على لقاء عليٍّ (علیه السّلام) في الحرب «ولم يزلْ يشجعه ويمنيه حتى رأى عليًّا في الحرب، فقصده، والتقيا فصرعه عليٌّ (علیه السّلام) وعرض له معه مثل ماعرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة .»

وللشعراء فيهما أشعار مذكورة.

وكان مما قاله الحارث بن نضر في ذلك(1):

أفي كلِّ يومٍ فارسٌ لك ينتهي*** وعورتُهُ وسطَ العجاجةِ باديه

يكفُّ لها عنه عليٌّ سنانَهُ*** ويضحكُ منها في الخلاءِ معاويه

بدتْ أمسِ من عمرٍو فقنَّعَ رأسَهُ*** وعورةُ بسرٍ مثلُها حذو حاذيه

فقولا لعمرٍو ثم بسرٍ: ألا انظرا*** لنفسِكما: لا تلقيا الليثَ ثانيه

ولا تحمدا إلا الحيا وخِصاكما*** هما كانتا واللهِ للنفسِ واقيه

ولولاهما لم تنجيا من سنانِهِ*** وتلك بما فيها إلى العَوْدِ ناهيه

متى تلقيا الخيلَ المغیرةَ صبحةً*** وفيها عليٌّ، فاتركا الخيلَ ناحيه

ص: 390


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 316 - 317 . وأعتذر من القارئ الكريم لذكر هذه الأبيات لما فيها، ولكن وكما يقول الشيخ القمّي إنه إذا كان مثل هذا الكلام في ذكر أعداء الله تعالى فلا بأس به.

وكونا بعيدًا حيث لا يبلغُ القنا*** نحورَكما إنَّ التجاربَ كافيه

«قال معاوية يومًا بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، لا أراك إلا ويغلبني الضحك؛ قال: بماذا؟ قال: أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفین، فأزريتَ نفسك فَرَقًا من شبا سنانه، وكشفتَ سوأتَك له؛ فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكًا؛ إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك، وربا لسانك في فمك، وغصصتَ بريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا منك ما أكره ذكره لك...

فقال: يا أبا عبد الله، خض بنا الهزل إلى الجد، إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عارَ على أحد فيهما .»(1).

سادسًا: السيرة الواحدة

فإن سیرة رسول الله وسیرة أمیر المؤمنین صلوات والله وسلامه عليها وآلهما واحدة «وإذا تأملتَ أحواله في خلافتِهِ كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في حياته كأنها نسخة منتسَخة منها، في حربه وسلمه وسیرته وأخلاقه، وكثرة شكايته من المنافقین من أصحابه والمخالفین لأمره؛ وإذا أردت أن تعلم ذلك علماً واضحًا، فاقرأ سورة (براءة) ففيها الجم الغفر من المعنى الذي أشرنا إليه .»(2).

وقال (علیه السّلام): «أنا من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد وكالكف من الذراع، رباني صغیرًا وآخاني كبیرًا؛ ولقد علمتم أني كان

ص: 391


1- شرح النهح لابن أبي الحديد 6/ 313 - 317 . ففيها ما يتعلق بعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 129 .

لي منه مجلس سرٍّ لا يطلع عليه غیري؛ وأنه أوصى إليَّ دون أصحابه وأهل بيته؛ ولأقولن ما لم أقله لأحد قبل هذا اليوم، سألته مرة أن يدعو لي بالمغفرة فقال: أفعل، ثم قام فصى، فلما رفع يده للدعاء استمعت عليه، فإذا هو قائلٌ: اللهم بحق عليٍّ عندك اغفر لعليٍّ، فقلت يا رسولَ الله، ما هذا؟ فقال: أَواحدٌ أكرم

منك عليه فأستشفع به إليه .»(1).

وقال (علیه السّلام): «كنتُ في أيام رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كجزء من رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يَنْظُرُ إِلَّی الناس كما يُنْظَرُ إلى الكواكبِ في أفقِ السماء، ثم غضَّ الدهرُ مني فقُرِنَ بي فلانٌ وفلان، ثم قُرِنَ بي خمسةٌ أمثلُهُمْ عثمان، فقلتُ: واذفراه، ثم لَم يرضَ الدهرُ بذلك حتى أرذلني

فجعلني نظیرًا لابنِ هندٍ وابنِ النابغة، لقد استنَّتِ الفِصَالُ حتى القَرْعَى .»(2).

وكم هو معبرِّ هذا النص عن المرارة والحسرة التي كان يحياها أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بسبب ذهاب الحق وبعد الناس عنه، ولهذا كان مما يأسى عليه كثیرًا أن يؤول أمر الحكم والإسلام إلى مثل معاوية ومن بعده، وتضيع كل الجهود التي بُذِلت من أجل الدعوة.

سابعًا: أمير البيان

وهنا كلمة لابن أبي الحديد بعد ذكره كلامًا قاله الإمام (علیه السّلام) بعد تلاوته «ألهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ »(3)، قال ابن أبي الحديد:

ص: 392


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 315 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 326 .
3- خ 221 ، ص 338 .

«وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا له، كما سجد الشعراء لقول عديٍّ بن الرقاع:

* قلمٌ أصابَ من الدواةِ مِدادَها *

فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر؛ كما تعرفون مواضع السجود في القرآن.

وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالها من السباع الضارية، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه، إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دمًا... وتارة يكون في صورة سقراط

الحبر اليوناني، ويوحنا المعمدان الإسرائيلي، والمسيح بن مريم الإلهي.

وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به؛ لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسین سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفًا وعظة، وأثَّرت في قلبي وجيبًا، وفي أعضائي رِعدة... .»(1).

وبعدُ.. فهذا شيء من السیرة الذاتية للإمام (علیه السّلام) وبعض من روائعه التي لاتحد، وحق للقائل أن يقول:

تحیرُ بمعناكَ عشرُ العقولْ*** ولولاكَ لا بعلَ يغشى البتولْ

ولولا ابنُ عمِّكَ كنتَ الرسولْ*** ولولا الغلوُّ لكنتُ أقولْ

جميعُ صفاتِ المهيمنِ لكْ

ص: 393


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 153 .

وليس المعنى بالطبع أن صفات عليٍّ هي صفات الله تعالى لأن صفات الله تعالى هي عن ذاته، وأما صفات عليٍّ فهي مُفَاضَةٌ من الله تعالى، وكما قلنا فتلك صفات واجب الوجود التي لا يصل إليها ممكن الوجود، وهذه صفات الممكن ولكنها في أرفع درجات الإمكان.

فكان عليٌّ مظهرًا لعلم الله تعالى ومظهرًا لقدرته ولكلِّ أثرٍ من آثاره.

خاتمة:

كان عبد الله بن عباس قبل موته يرفع يديه إلى السماء ويكرر قوله: «اللهم إني أتقرَّبُ إليك بمحمدٍ وآلِ محمد، اللهم إني أتقرَّبُ إليكَ بولايةِ الشيخِ عليِّ بنِ أبي طالب .»(1).

وجاء في زيارة الأمير (علیه السّلام)(2):

«السلامُ على أبي الأئمة، وخليلِ النبوة، والمخصوصِ بالأُخُوَّة، السلامُ على يعسوبِ الدينِ والإيمان، وكلمةِ الرحمان، السلامُ على ميزانِ الأعمال، ومقلِّبِ الأحوال، وسيفِ ذي الجلال، وساقي السلسبيلِ الزلال، السلامُ على صالحِ المؤمنین، ووارثِ علمِ النبيین، والحاكمِ يومَ الدين، السلامُ على شجرةِ التقوى،

وسامعِ السرِّ والنجوى، السلامُ على حجةِ اللهِ البالغة، ونعمتِهِ السابغة، ونقمتِه الدامغة، السلامُ على الصراطِ الواضح، والنجمِ اللائح، والإمامِ الناصح، والزنادِ القادح، ورحمةُ اللهِ وبركاته .»

ص: 394


1- الكنى والألقاب 1/ 347 - 348 .
2- مفاتيح الجنان / 437 .

ويستحب في تعقيبات صلاة الصبح أن يقال:

«اللهم أحيني على ما أحييتَ عليهِ عليَّ بنَ أبي طالب، وأمتْني عبى ما مات عليه عليُّ بنُ أبي طالبٍ .(علیه السّلام)»(1).

نسأل الله تعالى أن يحيينا على نهجه العظيم، ويحشرنا تحت ظلال لوائه لواء الحمد، ويسقينا من حوض كوثره بيده، ويجعلنا معه في أعبى عليین.

ص: 395


1- مفاتيح الجنان / 48 .

ص: 396

39)المعاد

مدخل

قال (علیه السّلام) : «عَجِبْتُ لِمنْ أنكرَ النشأةَ الأخرى وهو يَرَى النشأةَ الأولى »(1).

الدرس الختامي لهذا الدرس الشريف هو الحديث عن الأصل الخامس من أصول الدين وهو المعاد، وبحث المعاد من أكثر الأمور التي عُنِيَ بها الإمام (علیه السّلام) في كلِمِهِ، في خطبه وكتبه وكلماته القصار، فنجده يذكُر المعاد ويذكِّر به في كل مناسبة لذلك.

وحديث المعاد مترامي الأطراف وهو يتعلق بأحاديث عن الدنيا والآخرة ويتصل بموضوع الجنة والنار والبرزخ والبعث والنشور وأمور كثیرة هي في مجموعها من عالم الغيب الذي إنما نأخذ ما نعلم من تفصيلاته من القرآن الكريم ومن أحاديث رسول الله والأئمة عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

أولاً: تعريف المعاد

المعاد لغةً: البعث يوم القيامة، واصطلاحًا يعرِّفُهُ علماء الكلام بأنه الوجود الثاني للأجسام وإعادتها بعد موتها وتفرقها(2).

ص: 397


1- كلمة رقم 126 ، ص 491 .
2- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، للمقداد السيوري/ 86 .

وهذا نصٌّ على أن المعاد يتعلق بإعادة الأجسام وليس إعادة الأرواح فقط كما يعتقد آخرون.

في الكلمة التي افتتحنا بها هذا الدرس يقول (علیه السّلام)(1):

«عَجِبْتُ لِمنْ أنكرَ النشأةَ الأخرى وهو يَرَى النشأةَ الأولى .»

فالإمام (علیه السّلام) يتعجب أن ينكر الإنسان النشأة الآخرة وهي المعاد في حین أنه يرى النشأة الأولى التي هي الخلق والحياة في الدنيا، فقد خُلِقَ الإنسان وقد أتى عليه حین من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمن الممكن والأَولى أن يعاد خلقه بعد أن أصبح رفاتًا، وهذا مصداق لقوله تعالى: «أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَم يَكُ شَيْئًا »(2).

وفي هذا المجال يشیر الإمام إلى ناحية أخرى وهي ما عرَّفَ به علماء الكلام المعاد -كما ذكرنا- فيقول (علیه السّلام)(3):

«حتى إذا تصرَّمَتِ الأمورُ، وتقضَّتِ الدهورُ، وأَزِفَ النشورُ، أخرجهم من ضرائحِ القبورِ، وأوكارِ الطيورِ، وأوجرةِ السباعِ، ومطارحِ المهالِكِ، سراعًا إلى أمرِهِ، مهطعینَ إلى معادِهِ، رعيلاً صموتًا، قيامًا صفوفًا، يَنْفُذُهُمُ البَصرَ »: فيمكث الإنسان دهورًا في البرزخ، حتى إذا أزف (أي قرب) النشور، يخرج البشر من أماكن شتى كانوا متفرقین فيها، فبعضهم كان في قبر وبعضهم أكلته الطيور في أوكارها

ص: 398


1- الحكمة رقم 126 ، ص 491 .
2- سورة مريم / 67 .
3- خ 83 ، ص 108 .

وبعضهم أكلته السباع في أوجرتها (أي جحورها) أو في أماكن ومطارح أخرى يموت فيها البشر كقيعان البحار وغيرها، فيخرج الجميع مهطعن (أي مسرعین، وهو تعبیر قرآني) فيكونون في سیرهم كالرعيل أي القطعة من الخيل فلا ينفرد أحد عن الآخر بسبب سرعتهم فيكونون كلهم بین يدي الله تعالى يراهم ويحيط

بهم وذلك تعببر الإمام (يُنْفِذُهُمُ البَصرَ).

ثانيًا: سير الإنسانية

فقد أعطى الإمامُ نبذةً مختصرةً وهي جامعة لسير الإنسانية ابتداءً وانتهاءً.

فمن ذلك قوله (علیه السّلام)(1):

«عبادٌ مخلوقونَ اقتدارًا، ومربوبونَ اقتسارًا :»

فقد خلقهم بقدرته وهو مهيمن عليهم بهذه القدرة، وهذا لا يعني أنهم مجبورون على الأعمال بل القسر هنا هو من ناحية الخلق من الأساس، كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية بأن الإنسان مخیرٌ ظاهرًا مسیرٌ باطنًا، وهذا لا يعني الجبر في شيء بل يعني أن أساس الخلق كان قسرًا ولم يكن باختيار الإنسان، فالإنسان لم يختر أن يأتي للدنيا ولا يختار كيف يخرج منها ولم يختر أن يكون له عقل، بل إن كوننا مختارين في أعمالنا هو في حد ذاته أمر قسري علينا لا خيار لنا فيه.

«ومقبوضونَ احتضارًا، ومضمَّنونَ أجداثًا، وكائنونَ رفاتًا »: فالله تعالى

يقبض أرواحنا ويحضرها إليه، وأما أجسادنا فتوضع في الأجداث أي القبور، ثم بعد ذلك ينقلب سیر الإنسانية فتتحلل هذه الأجساد وتصبح رفاتًا تحت التراب.

ص: 399


1- خ 83 ، ص 109 .

«ومبعوثون أفرادًا، ومَدِينون جزاءً، ومميزون حسابًا :»

وتلك مرحلة أخرى من سیر الإنسانية، وذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَماَ خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ »(1)، وقوله تعالى في موضوع التمييز بین الناس في الحساب كل بعمله: «وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّها المُجْرِمُونَ »(2)، وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ »(3)، فكلٌّ مدينون ومجزيون بأعمالهم، إن خیرًا فخیر وإن شرًّا فشر «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(4).

«قد أُمهِلوا في طلبِ المخرج، وهُدوا سبيلَ المنهج؛ وعُمِّروا مَهَلَ المستعتب، وكُشِفَتْ عنهم سُدَفُ الريَب، وخُلُّوا لمضمارِ الجياد... في مدةِ الأجل :»

ولله الحق أن يعاتبهم ويحاسبهم فقد أمهلهم وأعطاهم الحياة وأعطاهم الاختيار وأوضح لهم الطريق ومكَّنهم من التنافس في المضار نحو الخیرات والمكارم لنيل الجنة.

ثالثًا: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْر الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ »

ثالثًا: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْر الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ »(5)

وفي هذا المجال نلاحظ قوله (علیه السّلام)(6):

ص: 400


1- سورة الأنعام / 94
2- سورة يس / 59 .
3- سورة هود / 105 .
4- سورة الإسراء / 15 .
5- سورة إبراهيم/ 48 .
6- خ 109 ، ص 161 .

«حتى إذا بلَغَ الكتابُ أجلَه، والأمرُ مقاديرَه، وأُلحِقَ آخِرُ الخلقِ بأوَّلِه، وجاءَ من أمرِ اللهِ ما يريدُه من تجديدِ خلقِه .»

ومن أقواله (علیه السّلام):« تخفَّفُوا تَلْحَقُوا، فإنما يُنتَظَرُ بأوَّلِكم آخِرُكم .»(1).

فهم مجموعون جميعًا أولهم وآخرهم في عرصة واحدة ومجمع واحد، فبعدذلك البِلى والتحلل في التراب أو في أحشاء الحيوان أو في قاع البحار يشاء الله تعالى أن يعيد الناس من جديد فيكون ذلك الموقف الرهيب:

«أمادَ السماءَ وفطَرَها، وأَرَجَّ الأرضَ وأرجفَها، وقلعَ جبالهَا ونسفَها، ودكَّ بعضُها بعضًا من هيبةِ جلالتِه، ومَخوفِ سطوتِه، وأخرجَ مَنْ فيها، فجدَّدهم بعد إخلاقِهم، وجمعهم بعد تفرُّقِهم، ثم ميَّزهم لما يريدُهُ من مسألتِهم عن خفايا الأعمال، وخبايا الأفعال، وجعلهم فريقین: أنعمَ على هؤلاء وانتقمَ من هؤلاء... .»

وميَّزهم بأعمالهم فريقین: «فَرِيقٌ في الجنةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ »(2)، وعندها (لا يظعَنُ النُزَّالُ) أي لا يرتحلون بل يقيمون فيقال لأهل الجنة: خلود، ويقال لأهل النار: خلود.

وقال (علیه السّلام)(3): «يومٍ تَشْخَصُ فيهِ الأبصارُ، وتُظلِمُ له الأقطارُ... ويُنْفَخُ في الصُّورِ، فتَزْهَقُ كلُّ مهجةٍ، وتَبْكَمُ كلُّ لهجة، وتذِلُّ الشمُّ الشوامخ... فلا شَفِيعٌ يَشْفَعُ، ولا حَمِيمٌ

ص: 401


1- خ 21 ، ص 62 - 63 .
2- سورة الشورى / 7.
3- خ 195 ، ص 310 .

يَنْفَعُ، ولا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ »: وذلك قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّ نَسْفًا ( 105 ) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا »(1).

رابعًا: عدل وعفو ومداقَّة

ولو أنَّا إذا مِتنا تُرِكنا*** لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيِّ

ولكنا إذا مِتْنا بُعِثنا*** ونُسْأَلُ بعدَها عن كلِّ شيِّ

ويتحدث الإمام (علیه السّلام) عن هذا العدل والعفو والتدقيق في الحساب في عدةمواطن، فمن ذلك:

قوله (علیه السّلام) في كتابٍ كتبه إلى محمد بن أبي بكر(2):

«فإنَّ اللهَ تعالى يسائِلُكم معشرَ عبادِهِ عن الصغیرةِ من أعمالِكم والكبیرة، والظاهرةِ والمستورة، فإِنْ يعذِّبْ فأنتم أظلم، وإِنْ يعفُ فهو أكرم .»

فمن جانب نجد الإحاطة التامة من الله تعالى بأعمال العباد والدقة في تسجيل جميع شؤونهم «وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِیرَةً وَلاَ كَبِیرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا »(3)، والتعبیر بالعباد تعبیر مهم وله مدلوله وهو أن الله تعالى هو المولى والناس عبيده فهو إذن

ص: 402


1- سورة طه / 105 - 106 .
2- الكتاب رقم 27 ، ص 383 .
3- سورة الكهف / 49 .

يملك أمر مساءلتهم وحسابهم على أعمالهم صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها وتلك هي الدقة في رصد الأعمال لأنه تعالى مطلع على كل شيء «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ »(1)، فإنْ

عذَّبَ اللهُ تعالى عباده فذلك هو العدل لأنه إنما يعذبهم بأعمالهم، وإِنْ عفا عنهم فهو العفوُّ الكريم.

إذن ففي ذلك مشهد وشأن من شؤون المعاد والقيامة، ونلاحظ أن في مجموع ذلك وما سيأتي أيضًا حكماً وأدلةً عقليةً توجب أن يكون المعاد حقًّا وأنه لا بد منه، وإلا لما كان هناك عدلٌ وانتظام ولكان القويُّ في هذه الحياة الذي يظلم ويفتك لا يُؤخَذُ منه الحق للضعيف المظلوم وهذاخلاف العدل والحكمة الإلهية، وتضييعٌ لحقوق الإنسان من النفس والمال والحريات.

خامسًا: صورتان للنعيم والجحيم

تحدث الإمام عن نعيم الجنة وعن جحيم النار في مواطن عديدة، فمن ذلك قوله (علیه السّلام): «واعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يجعلْ لهُ مخرجًا من الفِتَنِ، ونورًا من الظُّلَمِ، ويخلِّدْهُ في ما اشتهتْ نفسُه ويُنْزِلْهُ منزِلَ الكرامةِ عندَه، في دارٍ اصْطَنَعَها لنفسِه؛ ظِلُّها عَرْشُه، ونُورُها بَهجَتُه، وزُوَّارُها ملائكتُه، ورُفَقَاؤُها رُسُلُه »(2):

فالجنة فيها ما لا عینٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد

ص: 403


1- سورة ق / 16 .
2- خ 183 ، 266 .

وصفها الإمام (علیه السّلام) بهذه العبارات الكبیرة، وإن أمر الجنة وما تحويه لدليل على عِظَمِ تكريم الله تعالى للإنسان لو وعى الإنسان ذلك، وإذا كانت الجنة بهذا المستوى من النعيم والتكريم الإلهي وبما فيها من المقربین، وقد أرادها الله تعالى لعباده - فما الذي يجدر بالعباد أن يصنعوا؟

«فبادِرُوا المعادَ، وسابِقوا الآجالَ، فإن الناسَ يُوشِكُ أن يَنْقَطِعَ بهِمُ الأملُ، ويَرْهَقَهُمُ الأَجَلُ، ويُسَدَّ عنهم بابُ التوبةِ .»

وبعد أن أشار الإمام إلى الجنة وما يجدر بالإنسان أن يصنعه لينال ذلك التكريم - يشیر الإمام (علیه السّلام) إلى جحيم النار بقوله:

«واعْلَمُوا أنهُ ليس لهذا الجِلْدِ الرَّقِيقِ صبرٌ على النارِ، فارْحَموا نُفُوسَكم، فإنكم قد جرَّبْتُمُوها في مصائِبِ الدنيا.

أَفرأيتُمْ جزعَ أحدِكم من الشوكةِ تصيبُه، والعثرةِ تُدْمِيه، والرمضاءِ تُحرِقُه؟ فكيف إذا كانَ بین طابقینِ مِنْ نارٍ، ضجيعَ حَجَرٍ وقرينَ شيطانٍ! أَعلمتُمْ أن مالكًا إذا غَضِبَ على النارِ حَطَمَ بعضُها بعضًا لِغَضَبِه، وإذا زَجَرَها توثَّبتْ بین أبوابِها جَزَعًا مِنْ زَجْرَتِه! »: والإمام هنا يتحدث عن أشياء محسوسة ندركها ولكنا قدنغفل عنها، فهو يذكِّرنا بها لكي تكون أكثر حجة وتأثیرًا فينا، فقد جَرَّبَ الإنسان

مقدار تحمله لمصائب الدنيا وضعفه أمامها، فالشوكة تدميه، وجسده ضعيف لا يقوى على الآلام فكيف يصنع بألم النار وشدة العذاب وأهوال الجحيم «يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ

ص: 404

غِلاَظٌ شِدَادٌ »(1)، ومالكٌ خازنُ النار لا يحتاج لإشعالها حتى تضطرب بل إنه إذا غضب عليها اضطربت وتأججت وحطَمَ بعضها بعضًا.

ثم يخاطبُ الإمام كبار السن بشكل خاص لضعفهم وقرب أجلهم عادة، بقوله:

«أيها اليَفَنُ الكبیر، الذي قد لَهزَهُ القتیر، كيف أنتَ إذا التحمتْ أطواقُ النارِ بعظامِ الأعناق، ونشبتِ الجوامعُ حتى أكلتْ لحومَ السواعد »: فهو يذكر هذا الشيخ ضعيف البدن بأطواق النار التي تطوِّقُه، وبالجوامع (الأغلال) التي تأكل لحم سواعده، وهذا ما لا يحتمله الإنسان، فلو تدبر فيه لم يُقدِم على المعصية.

فقد جمع الإمام (علیه السّلام) ذكر الجنة ونعيمها وذكر الجحيم وعذابها، وما ينبغي للعباد أن يصنعوه، ثم ختم بقوله:

«أقولُ ما تسمعون، واللهُ المُستعانُ على نفي وأنفسِكم، وهو حسبُنا ونعم الوكيل .»

وقال(علیه السّلام)(2):

«فمن أقربُ للجنةِ من عاملِها، ومن أقربُ إلى النارِ من عاملِها! وأنتم طُرَداءُ الموت، إِنْ أقمتُمْ له أَخَذَكُمْ، وإِنْ فررْتُمْ منه أَدْرَكَكُمْ، وهو ألزمُ لكم من ظِلِّكم، الموتُ معقودٌ بنواصيكم؛ والدنيا تُطوَى مِنْ خَلْفِكم، فاحْذَرُوا نارًا قعرُها بعيد، وحرُّها شديد، وعذابُها جديد، دارٌ ليس فيها رحمةٌ، ولا تُسْمَعُ فيها

ص: 405


1- سورة التحريم / 6.
2- الكتاب رقم 27 ، ص 384 .

دعوةٌ... »: فالتسابق مُتاحٌ للجميع وبإمكان كل فرد أن ينال الجنة بعمله، كما أنه له الخيار أن يدخل النار بعمله أيضًا.

وقد عبر الإمام (علیه السّلام) عن عذاب النار بأنه جديد وذلك قوله تعالى: «كلُّماَ نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرهَا لِيَذُوقُواْ العَذَابَ »(1)، وإن النار ليس فيها رحمة من جهة العذاب لأن من فيها لا يستحق ذلك.

سادسًا: نومتان عن الجنة والنار مرديتان

قال (علیه السّلام)(2):

«ألا وإني لم أرَ كالجنةِ نامَ طالبُها، ولا كالنارِ نامَ هاربُها .»

فهناك من يطلب الجنة ولكنه في مجال العمل لا يعمل للوصول إليها بل ينام عن ذلك أو أن الجنة نظرًا لما فيها من النعيم العظيم والتكريم ينبغي أن لا ينام من يطلبها لأنها تستحق العمل الدائم من أجلها، فمن يعشق شيئًا دنيويًّا نجده يحرص على نيله وإذا كان موعده قريبًا نجد أنه لا ينام شوقًا إليه وخوفًا من أن يفوته غدًا.

وكذلك فإن النار بما فيها من أهوال كيف ينام من يريد الهرب منها، فإن من يحذر من أمر دنيوي نجده قلقًا مضطربًا خائفًا فلا ينام بسبب ذلك أو أنه يستميت في سبيل التخلص منه والبعد عنه.

ص: 406


1- سورة النساء / 56 .
2- خ 28 ، ص 71 .

وهاتان النومتان عن الجنة والنار هما النومتان المرديتان فإن نتيجتهما الهلاك والحرمان من نعيم ليس فوقه نعيم.

سابعًا: الخير والشر الحقيقيان

قال (علیه السّلام)(1):

«ما خیرٌ بخرٍ بعدهُ النار، وما شرٌّ بشرٍّ بعدهُ الجنة، وكلُّ نعيمٍ دونَ الجنةِ فهو محقور، وكلُّ بلاءٍ دونَ النارِ عافية .»

وما أروع أمیر المؤمنین في فكره وهديه وقولِه وعملِه، فهو يبین (علیه السّلام) هنا أن جميع ما في الدنيا من نعيمٍ وملكٍ ومالٍ يُؤتاهُ الإنسان، فيكون كفرعون أو قارون أو معاوية أو يزيد أو هذه النماذج من الماضین والباقین الذين نالوا من الدنيا أكبر النعيم وتحكموا بها، ومع ذلك حينما يكون عاقبة كل ذلك إلى النار ينكشف الواقع وأن ما كانوا عليه لم يكن نعيماً حقيقيًّا بل نعيماً زائفًا ولم يكن خیرًا حقيقيًّا، وإن هذا النعيم كله تُنسيهِ حالةٌ واحدةٌ ولحظاتٌ قليلة في نارِ جهنم ومشهدٌ واحدٌ من مشاهد القيامة.

وأما من ينال بلاءً وشرًّا دنيويًّا فيُظْلَم، ويُنهَب ويُشتَم ويُشَهَّرُ به ويُفترَى عليه ويُحتقَرُ وهو في رثِّ الثيابِ وليًّا من أولياءِ اللهِ تعالى لو أقسم على اللهِ لأبرَّ قَسَمَه، ومع كل ذلك البلاء الذي يناله فإن ذلك ليس شرًّا حقيقيًّا، لماذا؟ لأن وراءه نعيم الجنة وهو النعيم والخیر الحقيقي «ورِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبرَ»

إذن نحن نؤمن ونؤكد بأن هذه المشاهد وهذه الحقائق عن المعاد يجب أن

ص: 407


1- الحكمة رقم 387 ، ص 544 .

تبقى في أذهاننا وتخالط مشاعرنا لأن الارتباط بالمعاد له أكبر الأثر في سیر الإنسان نحو الله تعالى ونيل رضوانِهِ وجنانِهِ.

وفي نفس الوقت نلتمس جانبًا آخر غیر الخوف من الآخرة وهو جانب من الألطاف الإلهية ألا وهو التمسك بولاء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) والتزام نهجه وسیرته،وإن ما ينال المؤمن بسبب هذا الولاء، من البلاء والمضايقة في عمل أو دراسة أو في

سائر الأمور، لا لشيءٍ إلا لأنه يوالي محمدًا وآلَ محمد، فكل ذلك البلاء يهون ما دام الإنسان على الحق وما دامت عاقبته إلى النعيم.

ولذلك أحببتُ أن أختم هذا الدرس الشريف بذكر بعض من آثار الولاء لأولياء الله تعالى، محمدٍ وآلِ محمد، وبعضٍ من آثار العداء والبعد عنهم.

«وإنَّ على الكوثرِ أمیرَ المؤمنین (علیه السّلام) وفي يدِهِ عصًا من عوسج يحطِم بها أعداءَنا، فيقولُ الرجلُ منهم إني أشهدُ الشهادتين، فيقول انطلقْ إلى إمامِكَ فلانٍ فاسألْه أن يشفعَ لك، فيقولُ: تبرَّأَ مني إمامي الذي تذكرُه، فيقولُ ارجعْ إلى ورائك

فقل للذي كنتَ تتولاَّه وتقدِّمه على الخلق فاسألْهُ إذا كان خیرَ الخلقِ عندك أن يشفعَ لك فإن خیرَ الخلقِ من يشفع، فيقول إني أهلكُ عطشًا، فيقول له زادَكَ اللهُ ظماً وزادَكَ اللهُ عطشًا، قلتُ: جعلتُ فداك وكيف يقدرُ على الدنوِّ من الحوضِ ولم يقدرْ عليه غیرُه، فقال وَرِعَ عن أشياءَ قبيحةٍ وكفَّ عن شتمِنا أهلَ البيت إذا

ذكرنا، وترك أشياء اجترأ عليها غیره وليس ذلك لحبنا ولا لهوىً منه لنا، ولكن ذلك لشدةِ اجتهادِهِ في عبادتِه وتديُّنِهِ ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب، واتباعه أهل النصب وولايةُ الماضین وتقديمه لهما على

ص: 408

كلِّ أحد»(1).

هذا حال عدو آل محمد، فماذا عمن يوالي محمدًا وآل محمد:

«وأمیر المؤمنین (علیه السّلام) قائمٌ على الحوضِ يصافحُهُ ويرويه من الماء وما يسبقه أحدٌ إلى ورودِهِ الحوض حتى يروى ثم ينصرف إلى منزلِهِ من الجنة ومعه ملَكٌ من قِبَلِ أمیرِ المؤمنین يأمر الصراطَ أن يَذِلَّ له ويأمر النارَ أن لا يصيبه من لفحِها شيء حتى يجوزَها ومعه رسوله الذي بعثه أمیر المؤمنین .(علیه السّلام)»(2)

أَبَا حَسَنٍ لو كانَ حُبَّكَ مُدْخِلي*** جهنمَ كانَ الفوزَ عندي جحيمُهَا

وكيف يخافُ النارَ مَنْ بَاتَ مُوقِنًا*** بِأَنَّ أَمِیرَ المؤمنینَ قَسِيْمُهَا

نسأل الله تعالى أن يتقبل منا هذا العمل اليسیر، وهذا الدرس الذي عشقتُهُ وارتبطتُ به وأحسُّ بالحسرة لانتهائه فأسألُ اللهَ تعالى أن يتقبله بأحسن القبول وأن يجزيَ بالحسنى كل من ساهم في إحياءِ هذا الأمر، ونسأل الله تعالى أن يكافئنا

على ذلك ويثبِّتنا على حب أمیر المؤمنین (علیه السّلام) والتزام نهجه وسیرته.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله السادة المنتجبين.

ص: 409


1- كامل الزيارات/ 102 .
2- كامل الزيارات/ 123 .

ص: 410

المصادر

القرآن الكريم

1-إحقاق الحق: الشهيد نور الله التستري ، (ت: 1019 ).

2.أدب الطف وشعراء الحسين، جواد شبر، دار المرتضى-بيروت، 1409 ه- 1988 م.

3. الإرشاد: الشيخ المفيد، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت – لبنان، ط 2، 1414 ه- 1993 م.

4.أسباب النزول: الواحدي النيسابوري، (ت: 468 ه)، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع – القاهرة، 1388 - 1968 م.

5. الأصول العامة للفقه المقارن: السيد محمد تقي الحكيم، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) للطباعة والنشر، ط 2: 1979 م.

6.أصول الكافي: الشيخ الكليني، (ت: 329 )، تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية – طهران، ط 5: 1363 ش.

7. أضواء على السنة المحمدية: محمود أبو رية، (ت: 1385 )، دار البطحاء، ط 5.

8. إِعلام الورى بأَعلام الهدى: الشيخ الطبرسي، ط 1: 1417 .

9. أعيان الشيعة: السيد محسن الأمن، (ت: 1371 ه)، تحقيق: حسن الأمین، دار التعارف للمطبوعات - بیروت – لبنان.

10-أمالي الصدوق: (ت: 381 ه)، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة – قم، ط 1، 1417 ه.

11. الإمام الصادق (عليه السلام): الشيخ محمد حسن المظفر، (ت: 1375 ه)، ط 3، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت – لبنان، 1397 - 1978 م.

12. الإمام الصادق مُلْهِمُ الكيمياء: للدكتور محمد يحيى الهاشمي، دار الأضواء، ط 1:

ص: 411

1993 م.

13. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق، دار الأندلس، بیروت – لبنان، 2010 م.

14. الامام علي (عليه السلام) من المهد الى اللحد: السيد محمد كاظم القزويني، مؤسسة النور للمطبوعات – بیروت، 1413 ه - 1993 م.

15. البابليات، الشيخ محمد علي اليعقوبي، المطبعة العلمية، النجف الأشرف، 1955 م.

16.بحار الأنوار، العلامة المجلسي: (ت: 1111 ه)، مؤسسة الوفاء - بیروت – لبنان، ط 2: 1403 - 1983 م.

17. البداية والنهاية: ابن كثیر، (ت: 774 ه)، تحقيق: علي شیري، دار إحياء التراث العربي - بیروت – لبنان ط 1، 1408 – 1988 م.

18. بین الجاهلية والإسلام: الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 4: 1995 م.

19. التاريخ الكبیر: محمد بن اسماعيل البخاري، (ت: 256 ه) تحقيق مصطفى عبد القادر احمد عطا، دار الكتب العلمية.

20.تاريخ النقود الإسلامية، للسيد موسى الحسيني المازندراني، دار العلوم للطباعة، ط 3.

21.تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، (ت: 571 ه)، تحقيق: علي شیري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت – لبنان، 1415 .

22.ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق: أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله: مؤسسة المحمودي بيروت-لبنان، 1400 ه- 1980 م.

23. تلخيص الشافي، شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت: 460 ه)، قدم له وعلق عليه السيد حسن بحر العلوم، مؤسسة انتشارات، ط 1، إيران- قم، 1382 .

24.سلم الوصول إلى معارف نهج البلاغة، سلسلة مقالات منشورة على موقع نهج البلاغة

ص: 412

(/http://arabic.balaghah.net)

25. التوحيد: الشيخ الصدوق، (ت: 381 ه)، تحقيق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

26.نهج البلاغة في الأدب العربي، سلسلة مقالات منشورة على موقع (. http://www .)/shiasearch.com/ar

27. حق اليقین في معرفة أصول الدين، السيد عبد الله شبر (ت: 1242 ه)، مؤسسة الأعلمي للطباعة والنشر، 1980 م.

28.حقائق التأويل في متشابه التنزيل: الشريف الرضي، (ت: 406 ه)، تحقيق: محمد رضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت – لبنان.

29. حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، الشيخ باقر شريف القرشي، مطبعة الآداب - النجف الأشرف ط 1، 1394 ه- 1974 م،.

30.الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي، (ت: 573 ه)، تحقيق : مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام)، بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، ط 1 ، كاملة محققة،ذي مؤسسة الإمام المهدي - قم المقدسة، 1409 ه.

31.الخصال: الشيخ الصدوق، (ت: 381 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، 1403 - 1362 ش، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسن بقم المشرفة، 1403 ه.ق – 1362 ه.ش.

32.الدر الثمین في معرفة أمیر المؤمنین (عليه السلام) سلسلة مقالات منشورة على الرابط (html.01/61_book/03/https://www.haydarya.com/maktaba_moktasah)

33.الدر المنثور في التفسر بالمأثور: جلال الدين السيوطي، (ت: 911 ه)، دار المعرفة للطباعة والنشر - بیروت – لبنان.

34. الدعوات، لقطب الدين الراوندي، (ت: 573 ه)، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي (عجل

ص: 413

الله فرجه)، ط 1: 1407 ه.

35. دلائل الصدق لنهج الحق: الشيخ محمد حسن المظفر، (ت: 1375 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث – دمشق، ط 1: 1422 ه.

36.الراعي والرعية: للمحامي توفيق الفكيكي، مطبعة أسعد-بغداد: 1382 ه- 1962 م.

37.الروضة المختارة، (شرح القصائد الهاشميات)، كميت بن زيد الأسدي، (ت: 126 ه)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بیروت- لبنان.

38 38 سنن النبي: السيد محمد حسن الطباطبائي، (ت: 1402 ه)، كتابفروشي اسلامية للنشر، ط 5:، 1370 ش.

39. السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، جامعة اليرموك، رسالة ماجستير، لأحمد أسعد محمود إبراهيم.

40. السياسة الاقتصادية للإمام علي، للشيخ نزيه محيي الدين، شبكة الفكر.

41.سیر أعلام النباء، الذهبي، (ت: 748 ه)، تحقيق : إشراف وتخريج : شعيب الأرنؤوط،تحقيق : حسن الأسد، مؤسسة الرسالة للطبع - بیروت – لبنان، ط 9: 1413 ه - 1993 م،

42. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، (ت: 656 ه)، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط 1: 1378 ه - 1959 م.

43. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: الحاكم الحسكاني، (ت: ق 5)، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي- مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ط 1: 1411 - 1990 م.

44.صحيح مسلم: مسلم النيسابوري، (ت: 261 ه) دار الفكر - بيروت – لبنان.

ص: 414

45.صلح الحسن (عليه السلام)،الشيخ راضي آل ياسين، (ت: 1372 ه).

46.ظهر الإسلام: أحمد أمين المصري، تحقيق شفيق البسط، 2013 م.

47.الغدير: الشيخ الاميني، (ت: 1392 ه)، دار الكتاب العربي - بیروت – لبنان، ط 4: 1397 ه - 1977 م.

48.الغدير والمعارض : السيد جعفر مرتضى العاملي، مطبعة مكتب الاعلام الإسلامي، دار السیرة للنشر، بیروت لبنان / قم إيران، ط 3،: 1417 - 1375 ش – 1996 م.

49.الفصول المهمة في معرفة الأئمة: علي بن محمد بن أحمد المالكي المكي (ت: 855 ه)، تحقيق: سامي الغريري.

50.في رحاب نهج البلاغة: مرتضى المطهري، دار الاسلام، بيروت لبنان.

51.في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية، (ت: 1400 ه)، مطبعة ستار، انتشارات كلمة الحق للنشر، ط 1: 1427 .

52.كامل الزيارات: جعفر بن محمد بن قولويه، (ت: 367 ه) تحقيق: الشيخ جواد القيومي،مؤسسة نشر الفقاهة ط 1: 1417 ه.

53. الكرام البررة، الشيخ الطهراني: اسم الكتاب: طبقات أعلام الشيعة، العلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني، دار إحياء التراث العربي للطباعة والتوزيع، ط 1، لبنان - بیروت، 1430 ه- 2009 م.

54.الكشكول: الشيخ يوسف البحراني، دار ومكتبة الهلال، ط 1: 1991 م.

55.الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، (ت: 1359 ه)، مكتبة الصدر - طهران.

56.لباب النقول في أسباب النزول: جلال الدين السيوطي، (ت: 911 ه) تحقيق: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية – بیروت.

57.مجمع البحرين: الشيخ فخر الدين الطريحي، (ت: 1085 ه)، چاپخانهء طراوت للطبع، مرتضوي للنشر، ط 2: 1362 ش.

ص: 415

58.تفسر مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، (ت: 548 ه) تحقيق: لجنة من العلماء والمحققین الأخصائيین، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت – لبنان ط 1: 1415 ه- 1995 م.

59.المحاسن: أحمد بن محمد بن خالد البرقي، (ت: 274 ه) تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني (المحدث)، دار الكتب الإسلامية – طهران، 1370 ه- 1330 ش.

60.مذكرات الشيخ بهلول، عبد العظيم المهتدي البحراني، مكتبة سفينة النجاة، ط 3، الكويت، 1421 ه- 2000 م.

61.المراجعات الريحانية: الشيخ محمد حسین كاشف الغطاء (ت: 1373 ه)، تحقيق: محمد عبد الحكيم الصافي، دار الهادي للطباعة والنشر، بیروت لبنان، ط 1: 1424 ه - 2003 م.

62.مراصد الاطلاع على نهج البلاغة، يحوي 347 مقالًا.

63.مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي، (ت: 346 ه)، منشورات دار الهجرة ايران – قم ، ط 2: 1404 ه - 1363 ش - 1984 م.

64.مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، (ت: 1405 ه) تحقيق: الشيخ حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة،

.1418

65. مستدرك نهج البلاغة: الشيخ هادي كاشف الغطاء، (ت: 1361 ه)، منشورات مكتبة الأندلس.

66.المستشرقون ونهج البلاغة، سلسلة مقالات منشورة في موقع نهج البلاغة (- http://ar)/abic.balaghah.net

67.مصادر نهج البلاغة وأسانيده: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، دار الزهراء – بیروت، لبنان، ط 1: 1409 ه - 1988 م.

68. معالم الفلسفة الإسلامية: الشيخ محمد جواد مغنية، مكتبة الهلال بيروت.

69. معالم النبوة في القرآن الكريم: الشيخ السبحاني، دار الاضواء للطباعة والنشر، 1984 .

ص: 416

70.معجم البلدان: الحموي، (ت: 626 ه)، دار إحياء التراث العربي - بیروت – لبنان 1399 ه- 1979 م.

71.المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب المصرية، 1364 .

72. المعجم الموضوعي لنهج البلاغة: أويس كريم محمد، مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة، مجمع البحوث الإسلامية للنشر- مشهد ، ايران، ط 1: 1408 ه.

73.معجم رجال الحديث: السيد أبو القاسم الخوئي، (ت: 1413 ه)، ط 5: 1413 ه- 1992 م.

74 مفاتيح الجنان (عربي): الشيخ عباس القمي، (ت: 1359 ه)، تحقيق : تعريب : السيد محمد رضا النوري النجفي، دار البعثة للطبع، منشورات مكتبة العزيزي-قم، ط 3: 1385 ش - 2006 م.

75 مقباس الهداية: الشيخ عبد الله المامقاني. تحقيق الشيخ محمد رضا المامقاني، مؤسسة ال البيت (عليهم السام) لإحياء التراث.

76. مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، (ت: 588 ه) تحقيق: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1376 - 1956 م.

77. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب الله الهاشمي الخوئي، (ت: 1324 ه)، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، مطبعة الاسلامية بطهران، بنياد فرهنگ امام المهدي (عجل الله

فرجه)، ط 4..

78. منهاج الكرامة، العلامة الحلي: (ت: 726 ه) تحقيق: عبد الرحيم مبارك، مطبعة الهادي– قم، تاسوعاء للنشر – مشهد، ط 1: 1379 ش.

79. المواقف: الإيجي، (ت: 756 ه) تحقيق: عبد الرحمن عمیرة، دار الجيل للطباعة والنشر، بیروت لبنان، ط 1: 1417 ه- 1997 م،.

ص: 417

80.مواهب الرحمن: السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، منشورات دار التفسیر، ط 5: 1431 ه.

81. شرح نهج البلاغة: ابن ميثم البحراني، (ت: 679 ه) تحقيق: عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها، طبع چاپخانه دفتر تبليغات إسلامي، مكتب الاعلام الاسلامي - الحوزة العلمية للنشر، قم – ايران ط 1: 1362 ش.

82. تفسیر الميزان: السيد محمد حسن الطباطبائي، (ت: 1402 ه) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

83. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادى عشر، المقداد السيوري، (ت: 826 ه)، تحقيق: المقداد السيوري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت – لبنان، ط 2: 1417 ه- 1996 م.

84. النص والاجتهاد: السيد عبد الحسين شرف الدين، ، دار القارىء للطباعة والنشر، ط 2.

85.نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق صحبي الصالح ، (ت: 1986 م)، ط 1: 1387 - 1967 م.

86.نوادر الأثر في علم عمر، العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني، مركز الابحاث العقائدية.

87. الوافي بالوفيات: الصفدي، (ت: 764 ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث للطباعة والنشر، : 1420 ه - 2000 م.

88. تفسير الرازي: فخر الدين الرازي، (ت: 606 ه).

89. وسائل الشيعة (آل البيت): الحر العاملي، (ت: 1104 ه) تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، مطبعة مهر – قم المشرفة. ط 2: 1414 ه.

90.ينابيع المودة لذوي القربى: القندوزي، (ت: 1294 ه)، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة للطباعة والنشر، ط 1: 1416 ه.

ص: 418

المحتويات

مقدمة ...7

المؤسسة...9

مقدمة الطبعة الثانية... 9

مقدمة الطبعة الأولى... 15

1) بين يدي الإمام... 17

صلاة ...17

افتتاح...17

أولاً: الإعداد الإلهي التكويني لهذه الذات المقدسة... 18

أ) حديث الولادة:...18

ب) تربيته في حجر الإيمان:... 20

ثانيًا: مصادر علمه(علیه السّلام) ...21

أ) القلب الواعي: ...21

ب) الإلهام:... 21

ج) حديث الملائكة:...22

د) الملَكة الخاصة:... 22

ثالثًا: طرق التعرف على أبعاد شخصيته (علیه السّلام)...23

أ) كتاب الله الأكرم:..23

ب) الرسول الأعظم محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...24

ص: 419

ج) دلالة عليٍّ على ذاته بذاته:... 24

وختامًا.... 25

2) الشريف الرضي.... 27

مدخل ...27

أولاً: نسب الشريف الرضي... 27

ثانيًا: حياته ومعالم شخصيته ... 28

أ) إشارات إلى عظمة شخصيته منذ صباه:... 28

ب) العمر القصير:... 29

ج) الكيان العلمي العظيم: ... 29

د) آثاره: ... 30

ه) جمعه لنهج البلاغة:.. 31

و) القيادة المميزة: ... 32

ثالثًا: صفاته... 33

1) النبوغ المبكر: ... 33

2) إباؤه المنقطع النظير: ... 33

3( سموّ نفسه:... 34

4) كرمه: ... 34

5) علو همته:... 34

6) شموليته وجامعيته للمعارف والكمالات: ... 35

رابعًا: الشريف الرضي قدوة للمؤمنين لموالين...35

3) سهام التشكيك... 36

أولاً: سند نهج البلاغة... 37

أ) مقصد الشريف الرضي:.. 37

ص: 420

ب) الشريف الرضي موضع الثقة والعدالة: ...37

ج) مصادر نهج البلاغة:...37

ثانيًا: التشكيك في نسبة نهج البلاغة ...38

ثالثًا: أسباب التشكيك...38

أ) أسباب مفتعلة أو ثانوية:...38

ب) أسباب حقيقية أو أساسية:... 39

رابعًا: الرد على التشكيكات... 41

خامسًا: بعض ما أُلِّفَ حول مصادر نهج البلاغة وحول الشبه المثارة.... 42

سادسًا: مستدركات نهج البلاغة... 44

سابعًا: نهج البلاغة والضجة الفكرية والعلمية... 45

ثامنًا: موضوعات نهج البلاغة وأفكاره... 46

تاسعًا: القرآن الكريم ونهج البلاغة سيرة واحدة... 49

1) التشكيك فيهما:... 49

2) وحدة موضوعاتهما:... 49

3) الاستفادة منهما للجميع:... 49

4) كشف العلم والزمن عن أسرارهما:.... 49

خاتمة:...50

4( بعض الصدى.... 50

مدخل: ...51

أولاً: الاهتمامُ العجيبُ والعنايةُ التامةُ بهذا الكتاب الجليل... 51

ثانيًا: مظاهر الاهتمام... 51

1) الحِفْظ: ... 51

2) النَّظْم:... 52

ص: 421

3) الشرح:... 54

أنماط الشروح: ... 54

4) الدراسات الأخرى:...55

5) البحوث حول نهج البلاغة في مجالات أخرى: ...57

6)عقد المؤتمرات حول هذا الكتاب: ... 57

7) الفهارس: ...57

8) مكتبة نهج البلاغة:... 58

ثالثًا: هل يستدل بنهج البلاغة فقهيًّا؟ ... 59

رابعًا: منهجنا في دراسة نهج البلاغة... 65

خامسًا: بعض المصادر للبحث... 65

أ) الشروح. ... 65

ب) الدراسات:... 66

كلمة للسيد السيستاني حول نهج البلاغة ... 67

5) تأسيس الإمام (علیه السّلام) لعلم الكلام ... 69

أولاً: علم الكلام... 69

أ) تعريفه:... 69

ب) فائدته: ... 69

ج) مكانته وشرفه: ... 69

ثانيًا: دور العقل في القضايا الاعتقادية... 70

ثالثًا: التشيع والفلسفة أو علم الكلام ... 71

رابعًا: شبه المخالفين.. «وتِلْكَ حُجَّتُنا»...72

خامسًا: القرآن الكريم ونهج البلاغة.. أساليب متفقة لإثبات العقائد...74

6) الذات المقدسة...77

ص: 422

مدخل: ...77

أولاً: تعريف الذات المقدسة... 77

ثانيًا: العقول قاصرة عن إدراك الكنه... 77

ثالثًا: قال سيد الموحدين(علیه السّلام) ...78

رابعًا: شواهدُ على عجزنا... 81

خامسًا: جوانبُ بلاغيةٌ وعلميةٌ في هذه النصوصِ الشريفة ...82

مطاف الخاتمة... 83

خاتمةُ المطاف... 84

تنبيه.... 84

7) التوحيد...87

مدخل: ...87

أولاً: ضيق الخناق ... 87

ثانيًا: أقسام التوحيد ... 87

ثالثًا: الواحد والأحد... 88

رابعًا : قال إمام الموحدين صلوات الله وسلامه عليه... 88

خامسًا: «وَقَالَتِ النَّصَارَى »...94

خاتمة...95

8) الصفات الإلهية ... 97

مدخل ...97

أولاً: «وبَحْرٌ عَمِيْقٌ فلا تَلِجُوهُ » ...97

ثانيًا: أقسام الصفات... 98

ثالثًا: مقياسٌ دقيق... 98

رابعًا: قال إمام الموحدين (علیه السّلام)...99

ص: 423

خاتمة...103

مصادر للبحث...103

9) تنزيه الذات المقدسة... 105

أثر واقعنا على فهمنا للصفات الإلهية ....105

قال سيد الموحدين(علیه السّلام) ...105

خاتمة...110

10 ) صفة العدل... 111

مدخل ...111

أولاً: تعريف العدل لغة واصطلاحًا... 111

ثانيًا: مجالات العدل ... 111

ثالثًا: لماذا خُصَّ العدلُ ليكون الأصلَ الثاني من أصول الدين؟...112

رابعًا: من فكر وتربية أمير المؤمنين(علیه السّلام)...113

هكذا أدَّبَنا أمير المؤمنين(علیه السّلام)...115

11 ) العدل وسعة آفاقه... 117

مدخل ...117

أولاً: عدل الله سبحانه وتعالى ... 117

ثانيًا: القرآن الكريم منهل العدل ومشرعته ... 118

ثالثًا: الرسول الأعظم صلى (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...118

رابعًا: الوالي والعدل... 118

خامسًا: ومن مقومات العدل وشؤونه... 120

سادسًا: عشّاق الدنيا لا يروق لهم العدل ... 122

سابعًا: انقطاع الأمل وبقاء الحسرة ... 123

ثامنًا: ويتجلّی الحق في يوم الجزاء ... 123

ص: 424

12 ) الحكمة والروية ... 125

مدخل ...125

أولاً: تعريف الحكمة وعلاقتها بالرَّوِيَّة... 125

ثانيًا: أسلوب الإمام (علیه السّلام) في التدليل على الحكمة...125 ثالثًا: دلائل الحكمة...126

رابعًا: الرَّوِيَّة ...129

خاتمة وخلاصة... 131

13 ) صفات الكمال والجمال... 133

مدخل ...133

أولاً: حقيقة السمع والبصر... 133

ثانيًا: أسباب التصور الخاطئ لصفات الكمال والجمال... 134

1) قيود المادية:..134

2) الجمود على ظواهر الألفاظ:... 134

3) دور السياسة:... 136

ثالثًا: المقولة الحق... 137

والنتيجة... 141

14 ( النبوة، آدم 143(علیه السّلام)...143

مدخل: ...143

أولاً: تعريف النبوة...143

ثانيًا: أصل الإنسان...144

ثالثًا: رأي الإسلام...145

رابعًا: كيفية الخلق ... 146

15 ) الأنبياء (علیه السّلام)...151

ص: 425

مدخل ...151

أولاً: آدم(علیه السّلام)...151

أ) مظهر للقدرة والابتلاء:... 151

ب) والمصدر لتناسل البشر: ... 152

ثانيًا: المخالفة....153

ثالثًا: الأنبياء(علیه السّلام)... 155

أ) «وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيْرٌ»...155

ب) طهارة الأصلاب والأرحام: ...156

ج) النبيُّ والمهمة: ...157

16 ) موسى وهارون (علیهما السّلام)...161

مدخل: ...161

أولاً: أهداف الإمام (علیه السّلام) من عرض السيرة... 161

ثانيًا: «أفمَنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه»...161

أ) مناسبة الكلمة: ...162

ب) دلالة الكلمة:...162

ج) الدلالة على العصمة: ...164

ثالثًا: «وكَلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا»...164

رابعًا: موسى (علیه السّلام)مثال الزهد والانقطاع...164

خامسًا: موسى وهارون(علیهما السّلام)...166

أ) التواضع وصلابة الموقف:...167

ب) الحاكم العادل:..167

ج) اليقين في الدعوة:...167

17 ) عيسى (علیه السّلام).. روح الله وكلمته ....169

ص: 426

مدخل ...169

أولاً: هدف الإمام(علیه السّلام)...169

ثانيًا: عيسى (علیه السّلام) .. نهاية الانقطاع عن الدنيا...169

ثالثًا: مثال الكمال والعشق الإلهي...171

رابعًا: لماذا هذا الإعراض الكامل عن الدنيا؟...171

خامسًا: عيسى في حياة الأئمة(علیهم السّلام)...172

سادسًا: تسمية عيسى (علیه السّلام) بالمسيح...174

سابعًا: القدوة والتكليف... 175

18) إبراهيم (علیه السّلام) .. خليل الله... 177

أولاً: معنى (إبراهيم).... 177

ثانيًا: إبراهيم(علیه السّلام) في القرآن الكريم ....177

ثالثًا: إبراهيم (علیه السّلام) في نهج البلاغة .... 177

رابعًا: معنى كلامه (علیه السّلام)...178

خامسًا: قانون الانسجام... 180

سادسًا: ولد إسماعيل وبنو إسحاق وإسرائيل(علیهم السّلام)...181

سابعًا:أنبياء الله (علیهم السّلام) في الكتب السماوية الأخرى..183

ثامنًا: الأنبياء (علیه السّلام).. القدوة ... 183

19 ) داوود وسليمان(علیهما السّلام)...185

أولاً: داوود(علیه السّلام)...185

ثانيًا: سليمان(علیه السّلام)...189

ثالثًا: «ومَنْ عندَهُ عِلْمُ الكتاب»...191

رابعًا: أمير المؤمنين (علیه السّلام) سيد الزاهدين...192

طريفة وموعظة...192

ص: 427

20 ) النبي الأعظم محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...193

مدخل ...193

أولاً: مصادر معرفة النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...193

ثانيًا: طهارة الأصلاب والأرحام...195

ثالثًا: (كريمً ميلادُه)...197

رابعًا: (خيرَ البريةِ طفلاً)...197

21 ) النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) .. ما قبل البعثة.... 201

مدخل ...201

أولاً: (وأنجبَها كهلاً) ...201

ثانيًا: بماذا كان النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يتعبد قبل البعثة؟.... 202

ثالثًا: قال أمير المؤمنين(علیه السّلام)...203

22) النبي الأعظم محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) .. البعثة المباركة... 205

مدخل ...205

أولاً: تعريف البعثة....205

ثانيًا: مهمات النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...206

ثالثًا: دعامة أمره وركن دعوته ... 209

رابعًا: البلاء الحسن الجميل ... 211

23 ) الجاهلية....215

مدخل: ...215

أولاً: تعريف الجاهلية...215

ثانيًا: أسبابها....215

ثالثًا: مظاهر الجاهلية ... 216

24 ) نجاح الدعوة.... 223

ص: 428

أولاً: مدخل...223

ثانيًا: النجاح الكبير...224

ثالثًا: خاتمة....231

25 ) الدرس العظيم... 233

مدخل ...233

أولاً: معنى الجاهلية ... 233

ثانيًا: الدرس العظيم... 234

ثالثًا: هكذا تحدث أمير المؤمنين(علیه السّلام)...235

نقاش ...236

26 ) الإسلام...241

مدخل ...241

أولاً: نسبة الإسلام وتعريفه ... 242

ثانيًا: ضلال البشر وحيرتهم إذا اتبعوا أهواءهم...243

ثالثًا: الله تعالى هو مصدر الدين ودعامتا الدين هما الشهادتان ... 245

رابعًا: محاسن الإسلام ومقاصده... 247

27 ) الإسلام والحياة...251

مدخل ...251

أولاً: جامعية الإسلام لكل الفضائل... 251

ثانيًا: حاجة الدين للجماعة... 258

ثالثًا:إنذار بالشر وتحذير من العواقب الوخيمة لترك المسلمين الإسلام ... 260

28 ) سيرة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وارتحاله إلى الرفيق الأعلى.... 263

ص: 429

مدخل ...263

أولاً: حياة النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...263

ثانيًا: النبي أكمل الخلق ... 265

ثالثًا: النبي الأمان والرحمة... 266

رابعًا: «وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ»...267

خامسًا: الفاجعة الكبرى بارتحال النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...269

29 ) الإمامة... 273

مدخل ...273

أولاً: تعريف الإمامة ...273

ثانيًا: أهميتها....274

ثالثًا: أحاديث الإمام (علیه السّلام) حول الإمامة ... 278

30 ) الإمامة والنص...281

مدخل ...281

أولاً: دعوى الإمامة من أمير المؤمنين(علیه السّلام)...281

ثانيًا: النص على الإمام... 287

31) مؤهلات الإمام ...291

مدخل ....291

أولاً: العلم...292

ثانيًا: العصمة...296

ثالثًا: الشجاعة...299

32 ) علي (علیه السّلام) والحاكمون.... 303

مدخل: ...303

أولاً: المقارنة بين علي (علیه السّلام) وغيره.....303

ص: 430

ثانيًا: الانتقاد ...307

فيا للهِ ولِلشورى!.....310

ثالثًا: حجة الإمام(علیه السّلام)...313

33 ) الأئمة...315

مدخل ...315

أولاً: التقاء النصوص العامة والخاصة في الأئمة (علیهم السّلام) وانطباقها عليهم ... 315

ثانيًا: نص الوصي.... 318

الأول: النصوص العامة: ... 318

الثاني: النصوص الخاصة: .. 318

نماذج من النصوص الخاصة:.... 321

34) علي والحكم.... 325

مدخل: ... 325

أولاً: الأهمية الذاتية للحكم وحرص الإمام عليه... 325

ثانيًا: زهد الإمام في الحكم متاعًا دنيويًّا زائلاً... 329

35) سياسة الإمام... 333

أولاً: وضع الناس عند تسلم الإمام للحكم ... 333

ثانيًا: سمو الهدف... 334

ثالثًا: وضوح السياسة ونهج الحكم... 337

رابعًا: التسامح مع المتخلفين والمعارضين.... 340

36) نماذج من سياسة الإمام... 343

مدخل ...343

أولاً: البيعة والمبادئ الأولية... 343

ثانيًا: العدل وموقف الناس... 345

ص: 431

ثالثًا: أوضاع الناس وتربيتهم السابقة... 346

رابعًا: معاملة الإمام للولاة... 348

خامسًا: الحقُّ ثَقُلَ عليهم... 351

سادسًا: الغدر والتقوى...352

37) عهد الإمام (علیه السّلام) إلى مالك الأشتر(رضی الله عنه)...357

مدخل ....357

أولاً: مقدمات...357

أ) شخصية مالك (رضی الله عنه)...357

ب) العهد الشريف:... 360

ج) العناية بهذا العهد:..362

د) سند العهد: ...364

ه) لماذا التخصيص بمصر؟ ....364

ثانيًا: مضامين العهد الشريف... 365

أ) أهداف العهد:...365

ب) بعض المضامين التي ركز الإمام عليها: ....365

ج) النواحي الإنسانية: ...370

38 )الإمام الإنسان.. السيرة الذاتية ...375

مدخل ...375

مقدمة...375

أ) دراسة الشخصية: ...375

ب) ملتقى الكمالات: ...376

أولاً: بطل الإسلام ... 377

ثانيًا: مظاهر عدالته... 378

ص: 432

ثالثًا: إنسانيته الفذة... 382

رابعًا: أريحيته وسعة أفقه وتعاليه .. 384

خامسًا: الانضباط والملكات الشريفة ... 388

سادسًا: السيرة الواحدة...391

سابعًا: أمير البيان... 392

خاتمة:..394

39) المعاد... 397

مدخل ...397

أولاً: تعريف المعاد ... 397

ثانيًا: سير الإنسانية ... 399

ثالثًا: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْر الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ»...400

رابعًا: عدل وعفو ومداقَّة... 402

خامسًا: صورتان للنعيم والجحيم... 403

سادسًا: نومتان عن الجنة والنار مرديتان... 406

سابعًا: الخير والشر الحقيقيان... 407

المصادر...411

ص: 433

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.