أشعة من عظمة الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

أشعة من عظمة الإمام الحسين (عليه السلام)

صافي، لطف الله

مكتبة آية الله العظمي الصافي الگلپايگاني. وحدة النشر العالمية

ص: 1

اشارة

أشعة من عظمة الإمام الحسين (عليه السلام)

صافي، لطف الله

مكتبة آية الله العظمي الصافي الگلپايگاني. وحدة النشر العالمية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

اَللّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلي آبائِهِ في هذِهِ السّاعَةِ وَفي كُلِّ ساعَةٍ وَلِيّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَليلاً وَعَيْناً حَتّي تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فيها طَويلاً.

ص: 4

صورة

ص: 5

ص: 6

مقدمة المرجع الديني آية الله العظمي

الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني للترجمة العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا ونبينا محمد و آله الطاهرين ولا سيما بقية الله في الأرضين عليهم آلاف التحية والتسليم.

وما عساني أن أقول في عظيم أولت به سور وآيات وكثرت وهي تتحدث عن فضله السير والروايات ، وأحبه أهل الأرض والسموات وتزينت به الفردوس والجنات، فالحسين هو سيد شبابها ، وسيد الشهداء سيد مرائها ، وأحب أهل الأرض إلي أهل السموات .

ومن أين لنا أن نجد له مثيلا في الأرض او السماء بل ومن له كجده وأبيه وأمه وأخيه وذرية كبنيه ، وحاشا أن يكون لأحد تربة كتربته ، وقبة كقبته ، وذرية كذريته ، فهو وتر الله الموتور في السموات والأرض ، وهو النور في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، قد ختم الله له بالشهادة ، وجعله سيدة من السادة ، وقائدة من القادة ، وأكرمه بطيب الولادة ، وأعطاه مواريث الأنبياء .

فما أعظم الحسين بين العظام، وما أكبر الحسين بين الكبار ، بل هو شخصية فريدة جعلت فيها صفات ، ومنحت لها سمات ، ما جعلت وما منحت لكثير العظام والكبار، ولقد رضي الله تعالي ونحن في أجل حالات الصلاة ، أن تكون جباهنا في سجودنا علي تراب الحسين علي ، وان نكون دائما عليه مسلمين في كل وقت وحين « عليك مني سلام الله أبدأ ما بقيت وبقي الليل والنهار ، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم». .

و هكذا الحسين قربان الله و فخر التاريخ ومجد الإنسانية وسعادة البشرية ورمز ديني وإنساني في الفضيلة والدين نكتسب منه رفعة و عزة و عظمة وسمو وعلو ونتجلي به بين أهل الأرض ونتحلي به عند أهل السماء

وإن هذا السفر هو شعاع من ذلك المصباح الذي أنبأ عنه النبي الأعظم صلي الله عليه و آله و هو في مسير إسراءه بقوله : « إن الحسين مصباح الهدي وسفينة النجاة »، لنستصبح به في كل الأزمنة الحالكة ونهتدي به في كل الأمكنة المظلمة.

فيا أبا عبد الله هذه بضاعتي مع عجزي وفقري وصعوبة يومي وأمسي و فقد نبيي و غيبة ولي فتفضل علي بالقبول فإنك أهل الفضل والمرجو لكل خير .

لطف الله الصافي

ص: 7

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد نبيه و آله وسلم تسليما

وبعد، فان هذا الكتاب هو واحد من الكتب التي عالجت في موضوعها عظمة شخصية الإمام الحسين عليه السلام وفضائلها وأتت علي بيان مقصاد وأهداف ثورته ودراسة تطلعاتها وأبعادها والتدقيق في عللها والتحقيق في نتائجها وفوائدها، والتشريح لقضاياها ووقائعها، وكل ذلك بدراية فائقة ودراسة عالية معتمدة علي منابع تاريخية ومصادر اسلامية وتحاليل إنسانية.

ولقد أفاد مؤلفه فأفاض به علم و معرفة وأجلي الإمام الحسين عليه السلام حقيقة انسانية ورمزا دينية في الفضيلة والشريعة، وقدمه معين تستفيد منه شعوب الأرض علي أصنافها لما كان قد ذهب - المصنف - في مصتفه بأساليب البيان والبرهان ومن هنا صار لهذا الكتاب الزواج والإقبال ورغبت فيه الفضلاء والأعلام وليس ببديع القول ما ذكره العلامة الشهير الشيخ محمد تقي الجعفري في بعض كتبه(1) الذي قال فيه : من أجل التحقيق والمطالعة في عظمة الإمام الحسين عليه السلام من نظر المنابع الإسلامية والتاريخية المعتبرة تفضلوا بالاستفادة من كتاب (پرتويي از عظمت امام حسين عليه السلام) تأليف الأستاذ المعظم اقا لطف الله الصافي من الصفحة 20 إلي صفحة 109، ففي نظري (القول للعلامة المذكور) فإن الكتاب المذكور هو من الكتب الأفضل تحقيق وجمعة في عظمة الإمام الحسين عليه السلام .

وقد رأينا أن نتشرف بعد طبعاته المتكررة باللغة الفارسية تعظيما للدين وتعميما للفائدة في ترجمة وطبع هذا الكتاب باللغة العربية راجين من المولي عز وجل أن يتقبل منا، وسائلين منه أن يديم ظل مؤلفه ويوفقنا لنشر بقية مؤلفاته. والله ولي التوفيق إنه سميع مجيب.

دائرة التوجيه والارشاد الديني

قسم النشر العالمي

ص: 8


1- امام حسين شهيد فرهنگ پيشرو انسانيت .

المقدّمة

يومُ الحسين عليه السلام

ما مِن حادثة من أحداث التاريخ و وقائعه المهمة و المحزنة تشبه واقعة كربلاء الأليمة حيث تحيي ذكراها كلَّ عام بجلال و عظمة وافرة، و يشترك في مراسمها كافة الطبقات الاجتماعية، نساءاً و رجالاً، شباناً و شيوخاً و تعمُر مجالس شعائرها في المنازل و المساجد و المدارس و التكايا و الحسينيات و الاسواق و الشوارع و المحافل، و يتحدث الخطباء عنها، و يكتب الكتاب الكتب و المقالات، و يعجز مرور الازمنة و عن أن يُدرِسَها و يُبليها أو أن يقلل من اعتبارها و أهميّتها، بل علي العكس، كلما مرّت الدهور إزدادت عظمة و عمق هذه الواقعة الحزينة و تمّ استنباط معانٍ سامية و اهداف رفيعة لفلسفتها تتناسب مع كل عصر من العصور، و حينٍ من الأحيان.

إنَّ يوم الحسين عليه السلام، يومٌ يستحيل نسيانه علي مرّ الازمنة و الدهور و حادثة عاشوراء انحنت لها قلوب أهل الايمان و عشاق الفضيلة و الحقيقة، تعظيما لمعناها، و عاشوراء مشعل مُشعٌ كان و لازال في القرون و اطوار الدهر مصباح هداية العظماء و قادة الاصلاح و مُنجيهم من ظلمات الحَيرة و الضياع.

إنَّ ما قام به الحسين عليه السلام لم يكن أمراً عابراً كحوادث التاريخ، بل كان عملاً جبّاراً لم يسبق له مثيل و نظير.

إن ما قام به ابو عبد اللّه الحسين عليه السلام أمرٌ الهيٌّ اعتبره أهلُ عالم الجبروت و

ص: 9

سكان صوامع الملكوت و الملأ الأعلي، اكبر تجليات الكمال في مقام الانسانية، و إنَّ روّاد الفضيلة البشرية و اصحاب العقول الكاملة، و واصلي الحقائق العالية، و الانبياء أولي العزم، و الأولياء العظام، و شهداء طريق الاصلاح و الهداية، اعتبروا ما قام به الإمام الحسين عليه السلام نموذجاً ممتازاً و فريداً لتجلي قدرة الإرادة، و قوة العزم و الثبات و كمال الدين و الصبر و الايثار و الشجاعة، فخلوص الايمان، الرجولة، الصراحة، الوفاء، علوّ الهمّة، الثبات، الاستقامة، و مقاومة الظلم و التعدّي واضحة و جليّة في كل ملامح هذه الحادثة المؤلمة.

و عظمة المقاصد، و اباء النفس و احتقار زخارف الدنيا و الماديات، و اختيار الموت بعزٍّ و شرف علي العيش بالذلّ و العار، لهي رتوشٌ ظاهرة في صورة كربلاء.

و لَشَرحُ هذه القصة، شرحٌ لكمال روح الانسان و تحقيرٌ لكل مظاهر المادة و لذائذ الدنيا، و ادانة للشرك و الكفر و الظلم و الجور.

و إنَّ تاريخ هذه الحادثة المؤثرة في الارواح هو تاريخ الفداء الفريد في سبيل المبادئ و العقيدة، و احترام لشرف و كرامة الحق، و محاولة لتحرير و خلاص المجتمعات المحرومة.

و من ثَمّ، فلا دهشة من تأثير صداها في كل العالم و وصول صوتها الي الاسماع كوصول صوت الأذان أبدياً خالداً، و بقاء وقعها في القلوب بعد مرور اكثر من الفٍ و ثلاثمائة عام عليها و الخطباء و الكتّاب يقولون و يكتبون فيها، و لازالت الصلوات و التحيات تُهدي الي اولئك الرجال الأفذاذ الذين استقاموا في طريق الإيمان باللّه و اجراء احكامه، و فازوا بحسني الشهادة و شربوا كأسها حتي الثمالة.

إنهم رجالٌ لم تلههم الدنيا و لم يُضعف عزمهم شبحُ الموت المهيب تحت وقع

ص: 10

السيوف و الرماح في ساحة مقاومة طغيان أهل الباطل و تخلّوا عن كلِّ ما من شأنه إضعاف الارادة و الهمّة من الجاه و المقام و الذهب و الفضة و النساء و الأولاد، فتملكوا أعلي مراتب حرية الروح و سموها.

و في المعسكر المقابل تجد شرذمةً من ضعاف النفوس، و حقراء الغايات، عبيد شراك الدنيا و لذائذها، من ذوي الضمائر الميتة و الارواح الخبيثة الذين لا يتوانون عن قتل الأخيار من عباد اللّه و تمزيق أجساد الاطفال و الرضَّع بسهامهم المسمومة.

و الغلبة في هذه المعركة و إن كانت بحسب المقاييس الدنيوية الظاهرية عند عامة الناس هي لهذه الطائفة الشريرة من أعداء الدين، و إنَّ ايمان و عقيدة الحسين و أصحابه التي جعلتهم مظهراً للاستقامة و الفداء المنقطع النظير، و ان لم تكن ذا قيمة بحسابات اهل الدنيا و الماديات و صحيح أنَّ نهاية هذه الحادثة كانت بانتهاء يوم عاشوراء من شهر محرم سنة 61 ه، الاّ انه في الواقع و بحساب تاريخ الفضيلة و كمالات الروح الإنسانية و بالقياسات القرآنية و الإسلامية فانَّ النصر الخالد كان من نصيب الحسين عليه السلام و اصحابه، ذلك أنَّ ميزان اصحاب الحقيقة لا يري أنَّ قيمة الانسان و حجمه منحصران في المنافع الفانية و اللذائذ العابرة، و أنَّ ربح و خسارة و انتصار و انكسار الرجال العظام لا يكون بهذه المقاييس.

في ميزان الحقيقة، تكون قيمة و اعتبار الاشخاص بمقدار قوة ايمانهم و ارادتهم، و إنَّ الانتصار الحقيقي هو انتصار الباطن علي الظاهر و انتصار الروح علي الجسد و الحقيقة علي المجاز، و أنَّ النصر الواقعي هو الثبات في طريق المقاصد و الأهداف السامية و تسخير عوامل ضعف الروح و تلاشي الايمان و عدم التسليم لها.

ص: 11

نعم، كل الناس يموتون، و كم من الناس قضي نحبه في سبيل الدفاع عن العقيدة و الايمان و الحق و لكنهم مع ذلك لم يخلَّدوا كما خُلِّد شهداء كربلاء، ذلك انّ تضحيات و استقامة و ايثار و فضائل شهداء كربلاء لم تتجسد في غيرهم، في سائر ميادين المواجهة بين الحق و الباطل.

انهم أبطالٌ استقبلوا الموت و الشهادة بكل عزم و استبشار و قد كان بمقدورهم حفظ أرواحهم بمجرَّد التنحي عن ذلك الموقف الخطر الحاد.

الحقُّ، أنّ هؤلاء لو كانوا قد تراجعوا عن وقفتهم تلك و خضعوا لهيمنة حبّ النفس و المال و المقام، و استسلموا لرهبة السيوف و الموت، لكانوا قد اضرّوا بمقام الانسانية و الموازين الإسلامية السامية ضرراً يفوق حدَّ التصور.

إنَّ حادثة عاشوراء لم تكن تلك المعركة التي وقعت علي ارض كربلاء، و ان المواجهة التي حصلت يوم عاشوراء بين اولئك الاشخاص الذين تقابلوا ليست هي المواجهة الحقيقية، و انما الحرب الحقيقية هي الحرب بين الحق و الباطل، بين الأسلام و الكفر، فلو أنَّ اهل الحق كانوا قد تراجعوا يومئذ، لم يكن لينتهي تراجعهم في ذلك اليوم و في ذلك المكان الجغرافي، بل كانت آثاره السيئة و الخطرة ستظهر علي مستقبل الإسلام و علي الاجيال اللاحقة من المسلمين، اذ أنَّ مراقبي ساحة تلك المعركة الدامية لم ينحصروا في المعاصرين لها، و انما مراقبوا تلك المعركة هم كل الشعوب الإسلامية و كل الشرائح و الطبقات المظلومة و المحرومة علي مرِّ الدهور و الازمنة، و من هنا كان علي الحسين عليه السلام و اصحابه ان يرسموا صورة الاستقامة كاملة الرتوش و قد فعلوا ذلك بأروع صوره حتي حيّروا العقول بصمودهم في ميدان الابتلاء، و مع أنَّ العدو اللئيم قام بتقطيع أجسادهم الطاهرة ارباً ارباً و لكنه لم يستطع النيل من ذرةٍ من ذرات ارواحهم الطاهرة و ارادتهم الحرّة و نيّاتهم

ص: 12

الصادقة.

قد غيَّرَ الطَعْنُ منهم كلَّ جارحةٍإلاّ المكارم في أمنٍ من الغِيَرِ

دواعي اهتمام الكتّاب و الخطباء

إنَّ من أهم دواعي اهتمام الخطباء و الكتّاب بحادثة كربلاء هو الاهمية الدينية و المذهبية لهذه الواقعة، و قيمتها المعنوية و الواقعية للإنسانية و المجتمع البشري عامة.

فكلُّ الدروس المستخلصة من هذه الواقعة، ساميةٌ و مربية و مفيدة و انّ مدرسة عاشوارء مدرسة عامة شاملة تعدُّ هاديةً بدروسها لأهل كل بقاع الأرض، تدعو سكان المدن و القري و الارياف و البوادي و ناطحات السحاب، الي الفضائل و الكمالات الانسانية.

و من البديهي أنَّ مثل هذه الاطروحة لا يمكن أن يعتريها البلا، و ستبقي جديدة جذابة و محطَّ اهتمام الجميع.

و من جهة الثواب الاخروي و طبقا للاحاديث الصحيحية المعتبرة عُدَّ الكتّاب و المتحدثون و الخطباء حول قضية الإمام الحسين عليه السلام، من أوائل المتقربين الي اللّه تعالي و الي الرسول صلي الله عليه و آله و من ذوي المراتب العليا و النائلين للثواب الجزيل.

أضف الي كلِّ ذلك، و لما كانت واقعة كربلاء، ملحمة الصراع بين الحق و الباطل و العدالة و الظلم، و المواجهة بين الفضيلة و الرذيلة، صارت جاذبة بمبادئها لكلِّ المنصفين من الرساليين و روّاد العدالة و الحرية و التحرر، كما إنَّ الاحاسيس الإنسانية الصادقة و يقظة الضمير و الشعور الباطني تجذب الجميع و تشدُّهم الي الأبطال من عشاق الحق الذين سطَّروا ملحمة عاشوراء.

ص: 13

و من هنا وجدنا آلاف الكتب قد كتبت في الموضوع و أنَّ مئات الآلاف من الأبيات الشعرية قد انشدت، و أنَّ الكتّاب و الشّعراء لم ينسوا الحسين عليه السلام حتي في احلك ادوار الاضطهاد و التنكيل التي كان يمارسها عمّال الحكومات الجائرة لبني امية و بني العباس امثال «المتوكل» و ان خطر القتل و الإهانة و مصادرة الاموال و الحرمان من العطاء و الحقوق الإجتماعية و الاقتصادية لم تثن هؤلاء عن نشر مبادئ كربلاء، و سيدوم هذا الأمر الي زمن انتهاء أجل الدنيا و لن يُنسي الحسين عليه السلام.

إنَّ موجبات بقاء هذه الحادثة الأليمة هي التي حفظتها من الضياع و الاندثار ما دامت الإنسانية باقية، و ستبقي هذه الواقعة دليلاً لعشاق العدالة و الفضيلة و أعداء الظلم و الجور، و المنتفضين علي الحكومات الفاسدة.

نعم، لا يمكن ان يفتُرَ انجذاب الناس الي الانصات الي صوت اولئك الابطال من عشاق الحق في كربلاء و الذين جاهدوا غاية الجهاد و الفداء في سبيل الدفاع عن الحق و ضد الباطل(1).

و ستبقي قصة ايثار و فداء نخبة الخليقة و شهداء الفضيلة و الحقيقة يوم عاشوراء، زينةً خالدة لصفحات التاريخ، و لن تملَّ الآذان من سماعها و لا العيون و الألسن من مطالعتها و قرائتها مهما طال الزمن.

فالكتّاب اعتبروها منتقي مواضيع مقالات كتبهم، فالكل يطمح ان يسجل اسمه في قائمة من ترك أثراً في قضية الحسين عليه السلام.

فشعراء العرب و العجم ترجموا مبادئ و قيم و اهداف الحسين عليه السلام و اصحابهم.

ص: 14


1- الاّ من جهل وقائع ذلك اليوم او كان من المتخلقين باخلاق الجبارين و الظلمة و من حجبت الرذائل فطرتهم و وجدانهم.

بأبيات شعرية و قصائد بليغة غرّاء مفعمة بالحماس و الشوق، كل بلحنه و لسانه الخاص و صوروا لنا جانباً من جوانب تلك الملحمة الرائعة لرجال اللّه و الحقيقة ضد اهل الباطل و الضلال.

و مع كل ذلك، فما يكتب لاحقاً لا يخلوا من حلاوةٍ و وقعٍ جديدين في نفوس عشاق و رواد الفضيلة و الحق و لم توثر تلك الوفرة الأدبية في شدة استقبال الناس و انشدادهم و انجذابهم لعاشوراء.

و لما كان الموضوع و بالتناسب مع المقاصد و الاهداف المنظورة له، واسعاً و عريضاً جداً، و لمّا كان كلُّ كاتب أو أديب عاجزاً عن الإلمام بكل تفاصيل و دقائق الحقائق المرتبطة بعاشوراء الحسين عليه السلام، وجدنا انَّ كل اصدار جديد حول القضية لا يخلوا من جديد و لا يُعدم الفائدة المستقلة عمّا سبق من الفوائد و لا تنقصه البواكر من الافكار و الرُوئ، و يحق لنا أن نقول إنَّ لطفاً من الطاف الإمام الحسين عليه السلام يشمل كل واحد ممن يتناول قضيته عليه السلام لكي لا يُحرم أحدٌ من أن يستقي جرعة من بحر الحسين المواج الزاخر.

و من ثمَّ، تجد الكتّاب و كبار العلماء و المفكرين قد سطروا آلاف المقالات و التصانيف في هذا الموضوع، و انَّ كل كاتب له المامٌ يسير باهداف الحسين عليه السلام، رغب في الجلوس علي هذه المائدة المباركة طمعاً في تسويد اسمه في ديوان عشاق الحقيقة، ليبتاع لطف و عناية يوسف مُلكِ الشهادة.

جهات ما كتب في الحسين عليه السلام

إنَّ الكتب التي كتبت في تاريخ الإسلام و فضائل اهل البيت عليهم السلام و الصحابة، تناولت قضية الحسين عليه السلام ضمن طيّاتها و الكتب التي صنِّفت في خصوص

ص: 15

هذه الواقعة كثيرة جداً، و اكثرها تناول القضية من جهة وقائعها الزمانية و المكانية و الحالية فحسب، دون التطرق الي فلسفتها.

و امّا في زمننا المعاصر فانَّ أغلب الافكار تنصبُّ علي تحليل الأحداث و علي علل و نتائج القضية و بذلك تقيس و تزن تلك الأحداث علي اساس فلسفتها و نتائجها، و مثل هذه التأليفات تستهوي شباب و مثقفي العصر الحاضر اكثر من غيرهم.

و لذلك فان الكتب التي تناولت قضية سيد الشهداء عليه السلام و استشهاده من جهة مبادئها و فلسفتها و أسرارها و اسبابها الواقعية و تاثيراتها في المجتمعات الإسلامية و الفكر الإسلامي، لها جمهورٌ كبير من القراء و المهتمّين، و ذلك انَّ هؤلاء يرغبون في التعرف علي:

سبب نهضة الحسين عليه السلام؟

و لماذا لم يقبل الصلح و المهادنة مع يزيد؟

و لماذا هاجر من المدينة الي مكة و منها الي العراق؟

و ما هي مقاصد الحسين عليه السلام من النهضة و ما هي نتائجها؟

و ما هي الفوائد التي تجنيها الامة الإسلامية من إقامة مراسم عزاء الحسين عليه السلام و احياء ذكري عاشوراء خاصة عند الشيعة؟

و مئات الاستفسارات و التساؤلات الاخري، التي تدور في خَلَد عشاق ساحة الإمامة و الولاية.

و من ثمَّ انصب جهدُ الكتّاب و المؤلفين في قضية كربلاء، علي كتابة الاجابات اللازمة لتلك التساؤلات، و صمّموا علي خوض مضمار التحليل و التحقيق في الواقعة و تنبيه الناس الي فلسفة هذه النهضة المباركة و شرائطها و بيان اوضاع و

ص: 16

احوال و ظروف هذا القيام و الفداء الكبيرين.

و لا يخفي أنَّ ذلك لا يعني اهمال القدماء و السابقين من الكتّاب لهذه الجهة كلياً و عدم تعرضهم لفلسفة و اسرار الشهادة، بل إنَّ اوَّل من كشف عن تلكُمُ الاسرار و الاهداف السامية للنهضة الحسينية هو نفس سيد الشهداء عليه السلام و اهل بيته، بل قد سبقه الي ذلك نفس رسول اللّه صلي الله عليه و آله و من ثُمَّ الأئمة المعصومون الطاهرون عليهم السلام، حيث وضحوا هذه الجهة بشكل جليّ في أحاديثهم و رواياتهم و حتي في عبارات زياراتهم للحسين عليه السلام، ثم تبعهم علماء الإسلام و مفكرّيه سنةً و شيعة، و الشعراء الكبار ضمن قصائدهم، حيث عرَّفوا الناس بتلك الحقائق.

بَيدَ انه لم يعهد وجود كتاب مستقل يتناول تلك الأمور و فلسفتها علي النحو المتعارف هذه الأيام.

و لذلك فان الكتب التي تناولت التحليل التاريخي لحوادث كربلاء قليلة جداً بالقياس الي تلك التي أرَّخت أحداث الواقعة مع الاحتفاظ بتقديرنا لهذه المصنّفات التي حفظت لنا تاريخ تلك الواقعة و تفاصيل مجرياتها، ذلك أنَّ مثل هذه الكتب تشكل اللبنة الاولي للتحليل و التحقيق و هي اساس الفحص و التدقيق عند المفكرين و المحققين، و كذلك فان نقل صور ما جري في كربلاء يوم عاشوراء و علي الرغم من إختصارها و عدم احاطتها بكل الواقعة، حاكية عن حقيقة مظلومية الإمام عليه السلام و عاكسة لأسرار و فلسفة شهادته، كما أنها المرجع للمؤمنين الراغبين في نيل ثواب و اجر ذكر مصائب الحسين عليه السلام و البكاء و العزاء عليه و التقرب الي اللّه بإقامة شعائره.

جزا اللّه خير الجزاء كل الكتّاب و الخطباء و كل الذين ساهموا بنحو من الأنحاء في اعلاء و تجليل ذكر سيد الشهداء عليه السلام سابقاً و لاحقاً.

ص: 17

و هذا الكتاب الذي بين يدي القرّاء الكرام و المتضمن لمختصر من فضائل حضرة سيد الشهداء عليه السلام غيضُ من فيض علل و نتائج واقعة كربلاء، فهو بضاعة مزجاة و فخذ جرادة يقدمها هذا العبد العاصي بكل خجل و خضوع، هديةً لساحة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها و الي ملجأ الدين الابن التاسع لسيد الشهداء الحسين عليه السلام بقية اللّه في الارضين مولانا قائم آل محمد أرواح العالمين له الفداء راجيا من الاُم و الابن العزيز القبول آملاً الفوز في الدنيا و الآخرة ببركة التوسل بساحة قدس اهل بيت العصمة و الرسالة، و أنْ أعدُّ في زمرة مُحبّيهم، بحق محمد و آله الطاهرين صلوات اللّه تعالي عليهم اجمعين.

أقلّ خدمة ساحة محبّي أهل بيت النبوّة

لطف اللّه الصافي الگلبايگاني

ص: 18

البحث الأول: شخصيّة الحسين عليه السلام وفضائله

اشارة

ص: 19

ص: 20

شخصيّة سيّد الشهداء عليه السلام

لا يمكن الحكم علي قيَم و اهداف و علل نهضةٍ و حركةٍ ما لم يتم التعرف علي شخصية قائد تلك النهضة و الوقوف علي أخلاقه و فضائله و علمه و معارفه و سوابقه الفكرية و المحيط الذي نشأ فيه، و في غير هذه الصورة لا يكون الحكم تحقيقياً معتَمَداً.

فمثلاً للتعرف علي حقيقة الدعوة الإسلامية، يجب الاعتماد (مضافاً الي القرآن المجيد و التعاليم و المناهج الإسلامية) علي دراسة تاريخ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله و حياته و أخلاقه و سلوكه و علاقاته و طريقة تعامله في الحروب و الغزوات و سائر حالاته و حالات أهل بيته الأطهار عليهم السلام.

و للتعرف علي قيمة و حقيقة و علل و نتائج الثورة الحسينية المباركة لابد من المرور علي سيرة الإمام الحسين عليه السلام و فضائله و مناقبه و معجزاته و كراماته و مكارم اخلاقه و محامد أوصافه و محبوبيته و مكانته الاجتماعية و شهادة اعدائه بمقامه، و غير ذلك مما يرتبط بشخصيته، لكي نحصل علي ثواب ذكر فضائله مضافاً الي التعرف علي حقيقة إمام الاحرار بقدر إستعدادنا لتلقي الحقائق.

ص: 21

سمات الحسين عليه السلام اللامعة في كتاب اللّه

1 - آية المودة:

سمات الحسين عليه السلام اللامعة في كتاب اللّه(1)

«قُلْ لا أسئَلُكُمْ عَلَيهِ أجّراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُربي»(2)

روي أحمد بن حنبل في «المسند» و ابو نعيم الحافظ، الثعلبي، الطبراني، الحاكم النيشابوري، الرازي، الشبراوي، ابن حجر، الزمخشري، ابن منذر، ابن ابي حاتم، ابن مردويه، السيوطي و جمع آخر من علماء اهل السنة باسانيدهم عن ابن عباس، قال: «لما نزلت هذه الآية، قيل يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟

فقال لهم: «علي و فاطمة و ابناهما»(3)

و قد نظم في هذا المعني الشيخ شمس الدين ابن العربي:

رأيت ولائي آل طه فريضةًعلي رغم اهل البُعد يورثني القُربا

ص: 22


1- لا يخفي ان الآيات النازلة في شأن أهل البيت و الشاملة للإمام الحسين عليه السلام كثيرة و لكننا و رعاية للاختصار نتعرض الي ثلاث آيات فقط، و من أراد مزيد الإطلاع فليراجع كتب التفسير و الحديث و من جملة تلك الآيات الأخري آية 35، 37 من سورة البقرة و الآية 22 سورة الرحمن، و الآية 27 سورة الفجر، و سورة هل أتي و آيات اخري.
2- سورة الشوري، الآية 23.
3- احياء الموات ج 2، الاتحاف ص 5، الصواعق ص 168، الاكليل ص 191، الغدير ج 2 ص 307، خصائص الوحي المبين ف 5 ص 55-52، ابن بطريق ف 9 ص 25-23.

فما طَلَب المبعوثُ أجراً علي الهدي بتبليغه إلاّ المودّة في القُربي(1)

و قال الشافعي في هذا الشأن:

يا أهل بَيتِ رسولِ اللّه حُبُّكُم(2)

2 - آية التطهير:

«إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُم الرِّجْسَ أَهلَ البَيْتِ و يُطَهِّرَكُم تَطْهيراً»(3)

وردت احاديث متواترة و مشهورة عند الفريقين - السنة و الشيعة - في انَّ آية التطهير نزلت في مورد اجتماع أشرف شخصيات عالم التكوين، ايّ الخمسة أصحاب الكساء و الذين صلّي و دعا لهم الرسول صلي الله عليه و آله مرات متكررة في بيته و في بيت فاطمة الزهراء عليها السلام و في حجرة امِّ سلمة و بعض الاماكن الاخري، فهذه الآية الشريفة و الأحاديث الواردة في تفسيرها تدلُّ بوضوح علي عصمة و جلالة شأن الإمام الحسين عليه السلام.

و فيما يتعلق بهذه الآية الشريفة و احاديث الكساء و متونها، أُلِّفت كتب كثيرة، و قد نقل قسماً منها بعض الرواة مثل صبيح(4) و نقل مسلم و البغوي و الواحدي و الاوزاعي و المحب الطبري، و الترمذي و ابن الاثير و ابن عبد البر و

ص: 23


1- الصواعق المحرقة ص 170. اسعاف الراغبين ص 119.
2- نظم درر السحطين ص 18. اسعاف الراغبين ص 121. الاتحاف ص 29. الصواعق ص 148.
3- سورة الأحزاب آية 33.
4- اسد الغابة ج 13 ص 11. الاصابة ج 2 ص 175-33-4.

احمد و الحمويني و الزيني الدحلان و البيهقي و اخرون عن عائشة و ام سلمة و انس و وائلة و صبيح و عمر بن ابي سلمة و معقل بن يسار و ابي الحمراء و عطية و ابي سعيد و ام سليم، روايات عديدة في هذه الواقعة الجليلة و المنقبة العظيمة.

عن عائشة قالت:

خرج النبي صلي الله عليه و آله ذات غداة و عليه مرط مرجل من شعر فجاء الحسن بن علي فادخله فيه ثمَّ جاء الحسين فأدخله فيه ثمَّ جاءت فاطمة فادخلها فيه ثم جاء علي فادخله فيه ثمَّ قال: «إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُم الرِّجْسَ أَهلَ البَيْتِ وَ يُطهّركم تَطهيراً»

و روي الأوزاعي عن شداد بن عبد اللّه قال: سمعت واثلة بن الاسقع و قد جيء برأس الحسين عليه السلام فلعنه رجل من اهل الشام و لعن أباه فقام واثلة و قال:

و اللّه لا أزال أحب عليا و الحسن و الحسين و فاطمة بعد أن سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول فيهم ما قال، لقد رأيتني ذات يوم و قد جئت النبي صلي الله عليه و آله في بيت ام سلمة فجاء الحسن فأجلسه علي فخذه اليمني و قبله ثم جاء الحسين فأجلسه علي فخذه اليسري و قبله ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه ثم دعي بعلي ثم قال «إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُم الرِّجْسَ أَهلَ البَيْتِ وَ يُطهّركم تَطهيراً»(1)

و روي «الدولابي» في «الذرية الطاهرة» عن امِّ سلمة ان رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال لفاطمة: ائتيني بزوجك و ابنيك. فجاءت بهم و أكفأ عليهم كساءً فَدَكيّاً ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهمَّ إنَّ هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك و بركاتك علي آل محمد انك حميد مجيد.0.

ص: 24


1- اسد الغابة ج 2 ص 20.

قالت امّ سلمة: فرفعتُ الكساء لأدخل معهم فجذبهُ رسول اللّه صلي الله عليه و آله و قال:

«إنَّكِ علي خَيْرٍ»(1)

و روي، الحمويني نظير هذه الرواية عن وائلة.(2) و روي الواحدي في اسباب النزول و أحمد في المناقب و الطبراني عن ابي سعيد الخدري أنَّ آية «إنَّما يُريدُ اللّهُ» نزلت في حق خمسة اشخاص و هم: رسول اللّه صلي الله عليه و آله و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام.(3)

و روي احمد عن امِّ سلمة مثله.(4) و روي مثله الواحدي(5) بسنده عن امِّ سليم.

و هذه الاحاديث الكثيرة تدل علي عصمة سيد الشهداء عليه السلام و أنَّ كل عمل و نهضة تصدر عنه، إنّما هي مطابقة للصواب و الحقيقة و قد استدلّ السيوطي بهذه الآية و قال: الكلّ يعتبر أنَّ اجماع اهل البيت عليهم السلام، حجّة، لان الخطأ رجسٌ و قد نفاه اللّه عنهم. (6)».

ص: 25


1- ذخائر العقبي ص 24. العمدة ف 9 ص 25. و نقل في الفصل 8 صفحة 22-15 و فصول اخري احاديث كثيرة عن اهل السنة في اجتماع هؤلاء الخمسة المصطفين.
2- فرائد السمطين ج 1 ص 24.
3- ذخائر العقبي ص 24. و ذكر فيه طرق هذا الحديث في الصفحات 24-21. اسباب النزول ص 267.
4- السيرة النبوية ج 3 ص 366.
5- اسباب النزول ص 267.
6- الأكليل ص 178؛ و لا يخفي ان أسانيد هذا الحديث في الكتب الشيعية كثيرة جداً، و قد رُوي متن بعض هذه الأحاديث بنحو مفصل مثل حديث الكساء».

3 - آية المباهلة:

«فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنْ العِلْمِ فَقُلْ تعالَوا نَدْعُ أبنائَنا و أبنائَكم و نِسائَنا و نِسائَكُم و أنْفُسَنا و أنْفُسَكُم ثُمَّ نَبْتهلْ فَنَجعَل لَعنَةَ اللّهِ عَلي الكاذِبيٖنِ»(1)

من جملة الآيات الدالّة علي فضيلة و عُلُوّ مقام و رتبة سيّد الشهداء عليه السلام و باتفاق المسلمين هي آية المباهلة الشريفة.

و تعدُّ قضية المباهلة بين النبي صلي الله عليه و آله و نصاري نجران من أوضح مظاهر و دلائل قوة ايمان النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و تمسكه و اعتقاده برسالته، اذ أنَّ الدعوة الي المباهلة من قبله عليه السلام اذا لم تكن مقرونة بايمانه الراسخ بدعوته، لكانت انتحاراً حقيقياً و سنداً مهماً بيَدِ أعدائه لإبطال رسالته.

إذ إنَّ الأمر لم يكن ليخلو من احدي نتيجتين، إمّا ان يستجاب دعاء النصاري بانزال اللعنة الإلهية علي جانب النبي الاكرم صلي الله عليه و آله و إمّا ان لا يستجاب دعاء كلا الجانبين، و في كلتا الحالتين تبطل دعوي الرسول الكريم صلي الله عليه و آله، و لم نعهد عاقلاً إدّعي النبوّة قد اقترح مثل هذا الاقتراح و التحدي الاّ اذا كان علي يقين و اطمئنان تامَّين من استجابه دعائه في هلاك اعدائه، و قد كان النبي محمد صلي الله عليه و آله حاملاً لمثل هذا اليقين، و لذا قام بكل جرأة و شجاعة بمثل هذا الاقتراح، و هذا الثبات و الطمأنينة هو الذي أجبر خصمه علي الانسحاب.

كما ان إشراك الإمام عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة الزهراء عليهم السلام في المباهلة بامرٍ من اللّه تعالي، لخيرُ دليل علي أنَّ هؤلاء النفر الأربعة هم خيرُ خلق

ص: 26


1- سورة آل عمران، الآية 61.

اللّه تعالي و أعزَّ الناس علي قلب رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

أجل، لقد كانت آية المباهلة اعلان جلالة و مقام هؤلاء الأطهار و قربهم من اللّه تعالي و من ثمَّ كانت هذه الفضيلة واحدةً من أهمّ فضائل الإمام الحسين حيث إنتخب من بين كلِّ الامة الإسلامية، اطفالها و شبّانها و شيوخها رجالاً و نساءاً، ليكون أحد دعائم هذه القضية التاريخية و المنعطف العقائدي الخطير، بمعية أُمّه و أبيه و أخيه.

و في الوقت الذي نجد أنفسنا في غنيً عن ذكر المصادر و المراجع التي نقلت هذه الحادثة لكبار مفسري و محدثي و مورخي المسلمين الاّ انّنا سنذكر طرفاً منها ليراجعها من أراد الوقوف علي المزيد من حقائقها: تفسير الطبري، البيضاوي، النيشابوري، الكشاف، الدر المنثور، اسباب النزول للواحدي، الاكليل للسيوطي، مصابيح السُنَّة، سُنن الترمذي و كتب اخري.

ص: 27

سِماتُ الحسين عليه السلام في احاديث النبي الاكرم صلي الله عليه و آله

1 - الحُسين عليه السلام سيد شباب اهل الجنّة

روي احمد بن حنبل في مسنده، البيهقي في سُننه، الطبراني في الاوسط و في الكبير، ابن ماجه في السنن، السيوطي في الجامع الصغير و الحاوي و الخصائص الكبري، الترمذي في سننه، الحاكم في المستدرك، ابن حجر في الصواعق، ابن عساكر في تاريخ دمشق، ابن حجر العسقلاني في الإصابة، ابن عبد اللّه في الاستيعاب، البغوي في مصابيح السنّة، ابن الاثير في أسد الغابة، الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، أبو سعيد في شرف النبوة، و المحب الطبري في ذخائر العقبي، ابن السمّان في الموافقة، النسائي في خصائص امير المؤمنين، ابو نعيم في الحلية، الخوارزمي في المقتل، ابن عدي في الكامل، المناوي في كنوز الحقايق، و اخرون عن النبي الأعظم صلي الله عليه و آله انه قال: «الحسن و الحسين سيدا شباب اهل الجنة».

و هذا الحديث روي باسانيد عديدة عن جمع من كبار الصحابة كعلي بن ابي طالب عليه السلام، ابن مسعود، حذيفة، جابر، ابوبكر، عمر، عبد اللّه بن عمر، قُرَّه، مالك بن الحويرث، بريده، ابي سعيد الخدري، ابي هريرة، اسامه، براء، و أنَس و غيرهم.

و يستفاد من مجموع ذلك أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قد عَرَّف الحسن و الحسين عليهما السلام بهذه الصفة مرات متكررة، و ان صدور هذا اللفظ «الحسن و الحسين سيدا شباب اهل الجنة» عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله متواترٌ و مسلّمٌ و مشهور و معروف عند المسلمين، كما أنَّ

ص: 28

متن اكثر الاحاديث هو هذا اللفظ. و ورد في بعضها: «إنَّ ملكاً من الملائكة هبط علَيَّ و لم يكن قد هبط قبل ذلك و بشرني بأن ابنتي فاطمة سيدة نساء امّتي و ان حسناً و حسيناً سيدا شباب اهل الجنّة»

و في بعضها اضافة: «و أبوهما خيرٌ منها»

و في بعض طرق هذا الحديث ذكرت فضائل اخري لأهل البيت عليهم السلام. (1)

2 - الحسين حبيب رسول اللّه صلي الله عليه و آله

«حسينٌ مني و أنا مِن حُسَيْن»

كان حبُّ رسول اللّه للحسن و الحسين عليهما السلام حبّاً مميزاً، و كان صلوات اللّه و سلامه عليه يظهر ذلك الحب و يفصح عنه في مناسبات عديدة.

و قد اتفقت الروايات و التاريخ علي أنَّ حبَّ النبي لهؤلاء الاطهار لم يكن حبَّ الابِ لأبنائه فحسب بل كان حبّه يتعدي ذلك فجذور هذا الحب تمتد الي وحدة سنخية أرواحهم و اتصالهم المعنوي الراسخ و توافقهم الفكري العميق، الذي يعبِّر عنه النبي صلي الله عليه و آله:

ص: 29


1- سنن ابن ماجه ج 1 باب فضل اصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله - ص 56. الجامع الصغير ج 1 ص 7 و ص 152. الصواعق ص 185 و ص 189. الاصابة ص 330. الترمذي ج 13 ص 191 و ص 192 و ص 198. مصابيح السُّنة ج 2 ص 280. الحاوي ج 2 ص 457. فرائد السمطين ص 35. درر السمطين ص 205. ذخائر العقبي ص 93 و ص 139. خصائص النسائي ص 48 و ص 49 و ص 53 و حلية الأولياء ج 5 ص 71. مقتل الخوارزمي ف 6 ص 92. الخصائص الكبري ج 2 ص 265. مطالب السئول ص 65. تاريخ ابي الفداء ج 2 ص 97.

«إنَّهُمْ منّي و أنا مِنهُمْ»

او كما جاء في حديث زيد بن ارقم:

«أنا سِلمٌ لِمَنْ سالَمتُمْ و حربٌ لِمَنْ حارَبْتُمْ»(1). و تعابير اخري كلها تدل علي تفسير و ترجمة هذا الحبّ و العلقة الثابتة بينهم، البعيدة عن المجاملات و المبالغات.

إنَّه اتصال واقعي روحي و وحدة فكرية و أخلاقية و عقائدية تدعو النبي الاكرم صلي الله عليه و آله الي ان يعبِّر بهذا التعبير «أنا سلمٌ لمن سالمتم و حرب لمن حاربتم» فالجملة صريحة في وحدة التفكير و السلوك و الاساليب بينهم و بين النبي الاكرم صلوات اللّه عليهم اجمعين، و انه لا اختلاف و لا تفاوت بينهما في هذه الجهات ابداً و بذلك فقط يصير سلمهم و حربهم، سلم و حرب رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

و نحن اذ نطالع هذه الاخبار و الاحاديث التي تحكي لنا شدة ارتباط النبي بالحسين عليهم السلام، يجب ان لا نغفل عن ان هذه الكلمات تصدر عن خير انبياء اللّه و سيدهم، و عن رجل قضي حياته ماقتاً للمجاملات الكاذبة و الإطراءات الخادعة و التملُّقات الرخيصة، بل كانت خطاباته و سلوكه و افعاله كلِّها حجَّة للبشرية، و قوانين و شرائع للإنسانية، فكان كل ما يقوله ترجمةً للحقيقة.

لقد كان لرسول اللّه صلي الله عليه و آله بنات غير فاطمة عليها السلام و كان له ابناء عمومة غير علي عليه السلام، فلماذا خص حنانه و محبته المتميزة لهاذين و ابنائهما دون سائر اقربائه؟

و لماذا اختار هؤلاء من دون سائر اصحابه؟

كل ذلك بسبب أنَّ هؤلاء الاربعة كانوا يُجسّدون صفاته و اخلاقه و كمالاته الروحية.8.

ص: 30


1- سنن ابن ماجه ج 1 باب: فضل اصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله ص 65. سنن الترمذي ج 13 ص 248.

اذن، فافضل معرِّفٍ و دليل للفرد المؤمن علي عظمة الإمام الحسين عليه السلام و فضله هو نفس هذا الخطاب النبوي الشريف.

و من جملة الأحاديث الحاكية عن هذا الإرتباط و التعلق الشديد لرسول اللّه صلي الله عليه و آله بالحسين عليه السلام هو حديث يعلي بن مرّة إنه خرج مع رسول اللّه صلي الله عليه و آله الي طعام دعي اليه فإذا حسين عليه السلام يلعب مع الغلمان في طريق فاستنثل رسول اللّه صلي الله عليه و آله أمام القوم ثم بسط يده و جعل الصَّبيُ يفرُّ هاهنا و هاهنا فأخذه فقال: «اللهم إني أُحبّه حسين سبط من الاسباط.»(1)

و رواه البخاري و الترمذي و ابن ماجه و الحاكم بهذا النص:

«حُسين منّي و أنا مِنْهْ أحبَّ اللّه مَن أحبَّ حُسيناً. الحسن و الحسين سِبطانِ مِنْ الاسباطْ»(2)

و روي الشرباصي حديث النبي صلي الله عليه و آله:

«حُسين سبطٌ من الأسباط و أمَّة مِنَ الأُمِم»

ثم قال نقلاً عن القاموس: معني السبط، الجماعة و القبيلة، و قد يُريد النبي بذلك ان الحسين في مرتبته و رفعته أُمَّة كاملة، أو أن أجر الحُسين و ثوابه كأجر امة كاملةٍ لعظمة فضيلته و عظمة ما قام به عليه السلام. (3)0.

ص: 31


1- سنن ابن ماجه ج 1 ص 65. مصابيح السنة ج 2 ص 281. الترمذي ج 13 ص 195 و ص 196. اسد الغابة ج 5 ص 130 و ص 574 و ج 2 ص 19. كنز العمال ج 6 ص 233 و ج 3 ص 395. مطالب السئول ص 71.
2- الجامع الصغير ج 1 ص 148. كنز العمال ج 6 ص 223 ح 3953. امالي الشريف المرتضي ج 1 ص 219.
3- راجع حفيدة الرسول ص 40.

و روي الشبلنجي و ابن عبد البّر و مُسلم عن ابي هريرة، عنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال في حق الحسن و الحسين عليهما السلام عليهما السلام:

«اللْهُمَّ إنّي أحبُّهما فأَحِبَّهُما و أحبَّ مَنْ يُحبُّهما»(1)

و روي البغوي و الترمذي و سيد احمد الزيني و ابن الاثير و النسائي عن أسامة قال: انَّ رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال في الحسن و الحسين عليهما السلام:

«هذان إبنايَ و إبنا إبْنَتي الّلهمَّ إنّي أحبُّهما فأحبَّهُما و أحبَّ مَنْ يُحبُّهُما»

و روي الترمذي أن النبي صلي الله عليه و آله قال:

«اللّهمَّ إنّي أحبُّهما فأحِبَّهُما»(2)

و روي الترمذي و البغوي عن أنس ان النبي صلي الله عليه و آله سئل عن احبِّ أهل بيته اليه فقال: الحسن و الحسين.

و نقل السيوطي و المناوي ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

«أحَبَّ أهلَ بَيْتي إلَيَّ الحَسَنُ و الحُسَينُ»(3)

و روي الترمذي و البغوي عن انس ان النبي صلي الله عليه و آله كان يقول لفاطمة عليها السلام:

«أدْعُ إلَيَّ إبنَيَّ فَيَشُمُّهُما و يَضُمّهُما إليه»(4)

و روي أحمد بن حنبل ان النبي صلي الله عليه و آله كان يقول:4.

ص: 32


1- الاستيعاب ج 1 ص 376. نور الابصار ص 104. السيرة النبوية ج 3 ص 368.
2- مصابيح السنة ج 2 ص 280. الترمذي ج 13 ص 192 وص 193 وص 198. اسد الغابة ج 2 ص 11. خصائص النسائي ص 53-52.
3- مصابيح السنة ج 2 ص 281. الترمذي ج 13 ص 194. الجامع الصغير ج 1 ص 11. كنوز الحاقايق ج 1 ص 11.
4- ذخائر العقبي ص 143. نور الابصار ص 114.

«أللّهمّ إنِّي أُحبُّ حُسَيناً فأحِبَّهُ و أحبَّ من يُحِبُّهّ»(1)

و روي ابنُ ابي شيبه ان النبي صلي الله عليه و آله كان يقول في حق الحسن و الحسين:

«اللَّهمّ إنّي أُحبُهما فأحبَّهُما و ابغُض من يُبْغِضُهُما»(2)

و روي الصبّان عن ابي هريرة قال:

«رأيت رسول اللّه يَمتصُّ لِعاب الحُسين كما يمتصُّ الرَجُلُ التمرةَ»(3)

و روي المحب الطبري عن ابن بنت منيع و هو عن يزيد بن ابي زياد انه قال:

خرج النبي من بيت عائشة فمرَّ بدار فاطمة و سمع الحسين يبكي فقال:

«ألَمْ تعلمي أنَّ بكاءَهُ يُؤذيني»(4)

و نكتفي بما نقلناه عن سرد أمثال هذه الاحاديث و هي كثيرة، و سيظهر لنا مما سنرويه في الفصول اللاحقة مدي عمق و شدة حبِّ النبي صلي الله عليه و آله للإمام الحسين عليه السلام.

3 - الحُسَين ريحانة النبيّ صلي الله عليه و آله

روي ثلَّة من كبار محدثي اهل السّنَّة عن علي عليه السلام و إبن عمر و أبي هريرة و سعيد بن راشد و ابي بكر، أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال:

«الحسن و الحسين عليهما السلام ريحانتايَ مِنَ الدُنيا»

و في لفظ آخر:

«الوَلَدُ رَيحانَةٌ و ريحانتَيَّ الحَسَنُ و الحُسينُ»

ص: 33


1- كنوز الحقائق ج 1 ص 44.
2- كنوز الحقائق ج 1 ص 44.
3- اسعاف الراغبين ص 182.
4- ذخائر العقبي ص 143. نور الأبصار ص 114.

و في لفظ آخر:

«إنَّ ابنيَّ هذَينِ ريحانَتايَ من الدُنيا»

و في آخر:

«هَما ريحانتاي من الدَنيا»

و من اختلاف الألفاظ يظهر لنا جليا صدور هذا المضمون مراراً و تكراراً من النبي صلي الله عليه و آله(1) و روي سعيد بن راشد ان الحسن و الحسين اقبلا الي النبي صلي الله عليه و آله فضمّهما اليه و قال:

«هذان ريحانتاي من الدُنيا مَنْ أحبَّني فَلْيُحبهما»(2)

و روي المناوي عن الديلمي في فردوس الاخبار ان النبي صلي الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام:

«سَلامُ اللّه عَليك يا أبَا الريحانَتَيْن»(3)

اضف الي هذه الاحاديث ما ورد عنه عليه السلام مثل قوله:

«أوصيك برَيْحانتيَّ خَيراً»(4)

و لكننا أعرضنا عن ذكرها رعاية للاختصار.ر.

ص: 34


1- صحيح البخاري ج 2 ص 188. الترمذي ج 13 ص 193. اسد الغابة ج 2 ص 19. الإصابة ج 1 ص 332. مصابيح السنة ج 2 ص 280-279. كنوز الحقائق ج 1 ص 63 و ص 67 و ج 2 ص 151. خصائص النسائي ص 54. كنز العمال ج 6 ص 220 ح 3874 و ص 221 ح 3912. نظم درر السمطين ص 212. مطالب السئول ص 56. الصواعق ص 191.
2- ذخائر العقبي ص 124.
3- كنوز الحقائق ج 1 ص 145.
4- تاج العروس ج 2 ص 145. نهاية ابن الأثير.

4 - الحُسين عليه السلام أشبهُ أهل البيت بالنبيّ صلي الله عليه و آله

روي البخاري و ابن الاثير أنّه عندما جي براس الحسين عليه السلام لابن زياد لعنه اللّه و وضع بين يديه في طست، اخذ ابن زياد يضرب الرأس الشريف بعمود خيزران و يقول: اسرع اليك الشيب يا ابا عبد اللّه. فقال له أنس: انه اشبه اهل بيته برسول اللّه صلي الله عليه و آله(1) و نقل في «البدء و التاريخ» ان عبيد اللّه بين زياد كان يضرب الرأس الشريف و يقول: لم أرَ وجهاَ أجملَ منه» فقال له انس بن مالك: إعْلَم انه شبيه رسول اللّه صلي الله عليه و آله (2)

5 - النبيّ صلي الله عليه و آله يُقَبِّل الحسين عليه السلام

ان تقبيل الأولاد هو احد مظاهر المحبة و ترجمة العاطفة الجياشة للوالدين تجاه أولادهم.

لقد كانت امثال هذه التعابير عن العاطفة و الاحاسيس الشفافة معدومة في الجاهلية عند العرب قبل شروق شمس الإسلام و الهداية، حيث كان العرب يعتبرون الرأفة و الشفقة و المحبة و العطف لوناً من الوان الضعف، بينما كانوا يتفاخرون بقساوة القلب. و من اوضح مظاهر قساوة القلب عندهم هي ظاهرة وأد البنات حيث كان الاب يدفن ابنته و هي حيّة.

ص: 35


1- صحيح البخاري ج 2 ص 188. اسد الغابة ج 2 ص 20.
2- البدء والتاريخ ج 6 ص 11.

و كان تقبيل الولد و خاصة البنت يُعدّ عاراً عندهم، كما ان حَمل الولد امام الانظار يُعدُّ عندهم ضعةً و كسراً للهيبة و خرقاً للحشمة الكاذبة المصطنعة التي كان المتكبرون منهم يضفونها علي أنفسهم.

و لمّا كان النبي الأكرم صلي الله عليه و آله رحمة للعالمين و مبرءاً و منزهاً عن الرياء و النفاق، و كان ساعياً لبسط الرحمة و الرأفة و الإحسان و المحبة بين الناس و داعياً للايثار و نشر الفضائل و تقوية العواطف الخيِّرة، لذا نجد انه كما كان مظهراً لتمام و كمال العواطف الإنسانية لسائر المسلمين، فكذلك كان في اهل بيته، فقد وصلت احاسيسه و عواطفه النبيلة تجاه ابنته فاطمة عليها السلام و أبنائها حدَّ الكمال، و كان يري ان وجود الحسن و الحسين عليهما السلام امتدادٌ لوجوده الكريم، و ان بقاءَهم و حياتهم بقاءَه و حياته.

تقول «بنت الشاطئ» الدكتورة المصرية و الاستاذة في جامعة عين شمس موضحة جانباً من جوانب حبِّ و عاطفة النبي صلي الله عليه و آله تجاه ابناء إبنته العزيزة فاطمة عليها السلام في فصل مستقل من كتابها بنات النبي صلي الله عليه و آله:

و احتفلت مدينة الرسول صلي الله عليه و آله بمولد «الحسن عليه السلام» و تصدق جده صلي الله عليه و آله علي الفقراء من أهلها بزنة شعره فضة. ثم راح يرقب تفتح الحياة في هذه الفلذة الغالية منه، فما بلغ الوليد من العمر عاماً و بعض عام، حتي أردفته أّمه الزهراء عليها السلام بشقيقه «الحسين عليه السلام» في شهر شعبان، سنة أربع من الهجرة.

و تفتح قلب النبي صلي الله عليه و آله لهذين الحفيدين الغاليين يملآن حضن أُم أبيها «الزهراء عليها السلام»، و رأي فيهما امتداداً لحياته الخاصة علي هذه الأرض، و متنفسا لما يفيض به قلبه الكبير من عاطفة الأبوة التي يئست من الولد منذ ماتت خديجة عليها السلام.

و بدا أن قدانقطع خلف محمد بن عبد اللّه، إلاّ ان يكون عن طريق ابنته

ص: 36

«الزهراء عليها السلام».

فلا عجب أن أقبل الرسول علي سبطيه «الحسن و الحسين عليهما السلام» يغمرهما بكل ما امتلأ به قلبه الكبير من حب و حنان، و يفيض عليهما من عاطفة الأبوة ما شاء له الحرمان من الولد، علي كثرة من تزوج من النساء. بل لا عجب ان دعاهما ابنيه، فعن أنس بن مالك أنه صلي الله عليه و آله «كان يقول لفاطمة عليها السلام:

«ادعِ لي ابنيّ. فاذا ما جاءا اليه شمّهما و ضمّهما».

و نقل الترمذي في سننه عن «أسامة بن زيد» أنه قال:

طرقت باب النبي صلي الله عليه و آله في بعض الحاجة، فخرج رسول اللّه و هو مشتمل علي شيء لا أدري ما هو، فلما فرغت عن حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه يا رسول اللّه؟

فكشفه، فاذا الحسن و الحسين عليهما السلام، و قال:

«هذان ابناي و ابنا ابنتي، اللهم إنّي أُحبُّهما فأحبَّهما، و أحبَّ من يحبُّهما.»

و كان اسماهما عليهما السلام نغمة حلوة في فم أبي الزهراء عليهما السلام، يستعذبها و لا يمل من ترديدها، و فيهما كان يجد أنسه و سلوته عمن فقد من الأبناء!

لقد آثر اللّه الزهراء بالنعمة الكبري، فحصر في ولدها ذرية نبيه المصطفي صلي الله عليه و آله، و حفظ بها أشرف سلالة عرفتها العرب منذ كانت.

كما كرم اللّه وجه «علي عليه السلام»، فجعل في صلبه نسل خاتم الأنبياء، فكان له من هذا الشرف مجد الدهر و عزة الأبد.

و لعل محمداً صلي الله عليه و آله لو خير أي بناته تكون وعاء لنسله الطهور، و أي أصهاره يكون أبا لأهل البيت الشريف، لأختار ما اختاره اللّه له!

فعليّ أقرب أصهاره اليه مكانا و أمسهم رحماً، في عروقه يجري الدم الهاشمي

ص: 37

الأصيل، و عند عبدالمطلب يلتقي نسبه بنسب الرسول، فكلاهما له حفيد!

و ليس بمستغرب بعد هذا، أن يعي الزمن من آيات حب الرسول صلي الله عليه و آله للزهراء عليها السلام و علي عليه السلام و بنيهما عليهما السلام، ما نستطيع معه أن نتمثله صلي الله عليه و آله و هو يرنو الي بيت صهره «علي عليه السلام» كلما مرَّ به، و قلبه الكريم يخفق حبّاً و حنوّا، فاذا وجد من وقته سعة، عرج علي دار الأحبة، فأسعد أهلها بعطفه، و أسبغ علي حفيديه فيضا من حنانه الغامر!

و عاشت له فاطمة عليها السلام، كما عاش بنوها يملئون دنيا الرسول بهجة و أنسا، و يرضون فيه عاطفة الأبوة التي آدها ثكل البنين و البنات، و لم يبق لها إلاّ هذه البنت الحبيبة، تعوض أباها عمن فقد، و تعزيه عمن غاب.(1) و روي ابن عبد البر القرطبي عن ابي هريرة قال: قال ابو هريرة:

أبصَرَتْ عَيْنايَ هاتان و سَمِعَتْ أُذنايَ رسولَ اللّه صلي الله عليه و آله وَ هُوَ آخِذٌ بكَفَّي حُسَين و قَدَماهُ علي قَدَمِ رسول اللّه صلي الله عليه و آله و هو يقول: تَرَقَّ عَيْنَ بُقَّةٍ، قال: فَرَقي الغُلامُ حتّي وَضَعَ قَدَميهِ علي صَدْرِ رسول اللّه صلي الله عليه و آله ثم قال رسول اللّه: إفْتَح فاكَ. ثُمَّ قبَّلَهُ ثمَّ قال:

«اَللَّهُمَّ أحِبَّه فانّي أُحبُّهُ» (2)م.

ص: 38


1- بنات النبي ص 253-244 - بنت الشاطئ.
2- الاستيعاب ج 1 ص 182 وص 383. السيوطي في الجامع الصغير ج 3 ص 184 نقلاً عن الخطيب عن وكيع في الغرر و ابن سني في عمل اليوم والليلة، و كذلك عن ابي عساكر عن ابي هريرة و نقل الحديث بهذا اللفظ: «حُزُقُّةٌ حُزُقَّةٌ مَرَقَّ عَيَنَ بَقَّةٍ» و رواه ابن منظور في لسان العرب بهذا اللفظ أيضاً و من كلامه يستفاد ان النبي صلي الله عليه و آله كان يلاطف الحسنين مراراً بهذا النحو. و «الحُزُقَّة» بفتح الحاء و ضمِّ الزاء أو بضمهما معاً، كلمة تقال للشخص الضعيف الصغير قصير القدمين، و تَرَقّ بمعني إصعد، و عَيّنَ بَقّة كناية عن الصغر كما ذكر ذلك العلايلي، و هذه الجملة تقولها العرب لملاعبة الاطفال و ملاطفتهم.

روي العلايلي هذا الحديث و قال: إنَّ «عَين بَقَّة» كلمة تؤثر في روح الطفل و تدخل عليه البهجة و الطراوة.

ثم يقول: و لقد كان النبي صلي الله عليه و آله يمدُّه من رواء العاطفة كما يمده من رواء النبوة، و يغمره بالحب و يسقيه من نَبْعة الشعور، حتي يجيء حُقَّا قدسياً لمعني قدسي، يقدّم فيه المُثاليَّه العظمي التي يَنشُدها الانسان بالجدّ، فلا يخوّض منها إلا في السَّراب و الآل، و فيما يقص أبو هريرة شكل من أشكال تَخْليق النبي صلي الله عليه و آله للحسين عليه السلام تخليقاً مِثالياً، قال في حديث له «أبصرت عيناي هاتان و سمعت أذناي رسول اللّه صلي الله عليه و آله، و هو آخذ بكفي حسين صلي الله عليه و آله و قدماه علي قدم رسول اللّه صلي الله عليه و آله و هو يقول ترق ترق عين بقة، فرق الغلام حتي وضع قدميه علي صدر رسول اللّه صلي الله عليه و آله، ثم قال رسول اللّه صلي الله عليه و آله افتح فاك ثم قبله، ثم قال:

«اللهم أحِبَّهُ فإني أحبُّه.»

فالنبي صلي الله عليه و آله خَتَمَ في نفس الغلام، علي ما استودَع من معاني نفسه الكبيرة بقُبلة ناعمة، ثم قال يدعو اللهم أحبه فإني أحبه، كأنه قال للناس مشيراً إلي غلامه، أنا هُنا.

و الحب لا يكون حباً إلاّ إذا صاحبه الاصطفاء و الاستخلاص، و أمَّا إذا جاء دونهما فانما هو شيء من طَفح العاطفة، فلا تبالي أني وقعت. فالنبي صلي الله عليه و آله يحب حسيناً حقيقة الحب لأنه مصطفاه، و اللّه يحبه لأن النبوة تركت به شَفَقاً يعترض الأفق في مفرق الغروب. (1)ي.

ص: 39


1- سُمو المعني في سُمو الذات ص 77-76 - العلايلي.

و نقل ابن الاثير و السبط ابن الجوزي و الطبري قال ابو مخنف:

«حدثني سليمان بن ابي راشد، عن حُميد بن مسلم، قال: دعاني عمر بن سعد فسرَّحني إلي اهله لأبشرهم بفتح اللّه عليه و بعافيته، فأقبلت حتي أتيت أهله، فاعلمتُهم ذلك، ثم أقبلت حتي أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس و أجد الوفد قد قدموا عليه؛ فأدخلهم. و أذن للناس، فدخلتُ فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، و إذا هو يَنكُت بقضيب بين ثنيّتيه ساعةً، فلما رآه زيد بن أرقم لا يُنجِم عن نَكته بالقضيب، قال له: «أُعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثنيَّتين، فوالذي لا إله غيرُه لقد رأيتُ شَفَتي رسولِ اللّه صلي الله عليه و آله علي هاتين الشفتين يقبّلهما» ثم انفضح الشيخُ يبكي؛ فقال له ابن زياد: أبكَي اللّه عينك! فواللّه لولا أنك شيخ قد خَرِفتَ و ذهب عقلك لضربتُ عنقَك. قال: فنهض فخرج، فلما خرج سمعتُ الناس يقولون:

و اللّهِ لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتَلَه. قال: فقلت: ما قال؟ قالوا:

مرّ بنا و هو يقول: ملَْك عبدٌ عبداً، فاتّخذهم تُلداً. أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، و أمَّرتم ابن مُرجانة فهو يقتل خيارَكم، و يستعبد شِراركم، فرضيتم بالذلّ، فبعداً لمن رضي بالذّل!(1) و نقل في «البدء و التاريخ» ان يزيداً أمر ان يوقفوا نساء الحسين عليه السلام و بنات الرسالة بباب المسجد حيث يحبس الأُساري كي يتفرج الناس عليهم و وضع رأس الحسين بين يديه و أخذ يضربه بعمود الخيزران أو بالسيف و يقول:

ليتَ أشياخي بِبَدرٍ شَهدُواجزع الخزرَجِ مِن وَقع الأسَلّ7.

ص: 40


1- اسد الغابة ج 2 ص 21. تاريخ الطبري ج 4 ص 349. الكامل ج 3 ص 298. تاريخ ابي الفداء ج 2 ص 106. تذكرة الخواص ص 267.

لأهلّوا و استَهَلّوا فرحاً و لقالوا يا يزيدُ لا تَشل(1)

روي ابن الاثير و الترمذي و الطبري عن ابي برزه و هو من أصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله انه قال ليزيد:

«أتَنكُت بقضيبكَ في ثغر الحسين عليه السلام؟! أما لقد أخذَ قضيبُكَ من ثَغرِهِ مأخذاً، لربّما رأيتُ رسول اللّه يَرشِفُهُ، أما انك يا يزيد تجئ يوم القيامة و ابن زياد شفيعك، و يجئ هذا يوم القيامة و محمد صلي الله عليه و آله شفيعه. ثم قام فولّي. (2)

6 - النبي الاكرم صلي الله عليه و آله يحملُ الحسين عليه السلام علي كتفه

وردت روايات كثيرة في أن النبي محمد صلي الله عليه و آله كان يحمل الحسين عليه السلام علي كتفه و علي صدره، و قد روي اهل السنة ذلك أمثال ابن حجر العسقلاني عن ابي هريرة، و عبد اللّه البغوي عن شداد و ابو نعيم في الحلية عن ابن مسعود، و ابو حاتم عن عبد اللّه و جابر و ابن ابي الغرّاء عن انس، رووا هذا المعني من تعلق النبي العاطفي و الروحي بولديه الحسن و الحسين عليهما السلام.(3) و يُستفاد من جملة الاحاديث تكرر حمل النبي صلي الله عليه و آله الحسنَ و الحسينَ علي كتفه، و كذلك ارتقاءهما ظهر رسول اللّه حال الصلاة و هما صبيَّين. و عُرِفَ أنَّ النبي صلي الله عليه و آله كان يؤخر رفع رأسه من السجود حتي ينزل الحسن أو الحسين عن كتفه،

ص: 41


1- البدء و التاريخ ج 6 ص 12.
2- الكامل ج 2 ص 299. اسد الغابة ج 5 ص 20. الترمذي ج 13 ص 197. الطبري ج 4 ص 356.
3- الاصابة ج 1 ص 330 الحديث 1719. الجامع الصغير ج 2 ص 118. ذخائر العقبي ص 123 و ص 132.

بل و يستفاد من بعضها توبيخُ النبيّ صلي الله عليه و آله لمن لا يعرف قدر الحسن و الحسين عليهما السلام.

و في هذا السياق روي ابو سعيد في «شرف النبوة» عن عبد العزيز باسناده عن النبي صلي الله عليه و آله قال:

كان رسول اللّه صلي الله عليه و آله جالساً فاقبل الحسن والحسين فلما رآهما صلي الله عليه و آله قام لهما و استبطأ بلوغهما اليه فاستقبلهما و حملهما علي كتفيه و قال: «نِعْمَ المطيُّ مَطيُّكُما و نعمَ الرّاكبان أنْتُما»(1)

و روي الشبلنجي ان النبي صلي الله عليه و آله مرَّ بالحسن و الحسين عليهما السلام و هما يلعبان فطأطأ لهما عنقه و حملهما و قال: نعم المطيّة مطيتهما، و نعم الراكبان هما.(2)

و روي جمال الدين الحنفي و الترمذي و ابن حجر عن ابن عباس قال:

«أقبل النبي صلي الله عليه و آله و قد حمل الحسن علي رقبته، فلقيه رجل، فقال: نعم المركب ركبتَ يا غلام، فقال رسول اللّه صلي الله عليه و آله: «و نعم الراكب هو».(3)

و روي الزرندي عن عُمر و جابر و سعد و أنس روايات اخري في هذا المعني(4).

7 - حبُّ الحُسين عليه السلام فرضٌ

إنَّ الاحاديث التي وردت في وجود حُبِّ الحسين عليه السلام بلغت حدَّ التواتر فقد روي ابن عبد البر و ابو حاتم و المحب الطبري عن عبد اللّه بن عمر ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

ص: 42


1- ذخائر العقبي ص 130.
2- نور الأبصار ص 109.
3- الترمذي ج 13 ص 199-198. نظم درر السمطين ص 212. الصواعق ص 135.
4- نظم درر السمطين ص 212-211.

«من أحبّني فَليُحبَّ هاذَيْن» يعني الحسن و الحسين عليهما السلام.

و قال ابن عبد البر: و روي مثل هذا الحديث في المعجم البغوي عن شداد بن الهاد.(1) و روي الدولابي واحمد بن حنبل عن يعلي بن مرّة قال: جاء الحسن و الحسين يستبقان الي رسول اللّه صلي الله عليه و آله فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يَدَه في عُنُقه فضمّهُ الي بطنه صلي الله عليه و آله و قبّل هذا ثم قبَّلَ هذا ثم قال:

«إنّي أُحبُّهما فاحبّوهما»(2)

8 - فضلُ حُبِّ الحسين عليه السلام و عقابُ من أبغَضَهُ

روي ابن ماجه، ابن حجر، الديلمي، المناوي، احمد، الحاكم، السيوطي، ابن حجر الهيثمي، هارون الرشيد عن آبائه عن ابن عباس، المحب الطبري، ابو سعيد ابن حرب الطائي، السلفي، ابو طاهر البالسي، ابن السري و ابن الجوزي عن النبي الاكرم صلي الله عليه و آله قال:

«مَنْ أحَبَّ الحَسَنَ و الحُسَينَ فَقَدْ أحَبَّني وَ مَنْ أبغَضَهُما فَقَدْ أبغَضَني»

و هذا الحديث مشهور و معروف بين المحدثين، و بعض طرقه تنتهي الي ابي هريرة و مضمونه ان النبي خرج ذات يوم و معه الحسن و الحسين علي كتفه يقبل مرّة هذا و مرّة هذا حتي وصل عندنا فقال: من أحبَّ هذين فقد أحبّني و من أبغضهما فقد أبغضني»

ص: 43


1- الاصابة ج 1 ص 330 ح 1719. ذخائر العقبي ص 123.
2- ذخائر العقبي ص 123.

و قد نقل بعض الرواة المقطع الاول فقط، و نقله بعضهم الآخر هكذا:

«هذان إبناي مَنْ أحَبَّهُما فَقَدْ أحبَّني»

و في أحد الحديثين الذين رواهما هارون الرشيد في هذا الموضوع جاء:

«الحَسَن و الحسين مَنْ أحبّهما ففي الجَنَّة و مَن أبغضَهما ففي النارِ»(1)

و روي الترمذي و احمد، إنَّ رسُولَ اللّه صلي الله عليه و آله أخَذَ بيد حَسَن و حُسَين فقال: مَنْ أحَبَّني و أحبَّ هذَينِ و أباهُما و أُمَّهُما كانَ مَعي في درجتي يَوْمَ القيامَة.»(2)

و روي الطبراني عن سلمان ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

«مَنْ أحَبَّ الحَسَنَ و الحُسَينِ أحْبَبتُهُ وَ مَنْ أحبَبْتُهُ أحَبَّهُ اللَّه و أدْخَلَهُ النعيمَ وَ مَنْ أبغَضَهما أو بغي عَلَيهما أبغَضْتُهُ وَ مَنْ أبغَضْتُهُ أبغَضَهُ اللّه و أذْخَلَهُ جَهَنّمَ و لَهُ عذابٌ مُقيم»(3)

9 - النَظَر الي سيد شباب اهل الجنَّة

روي ابن حبّان، ابو يعلي، ابن عساكر، ابن سعيد، المحب الطبري، الشبلنجي و الصبّان عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال:

سَمِعتُ رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول: «مَنْ أحبَّ (أو مَنْ سرَّهُ) ان يَنظُر الي سيِّد شبابِ

ص: 44


1- سنن ابن ماجه ج 1 ص 56. الاصابة ج 1 ص 330 حديث 1719. كنوز الحقائق ج 2 ص 94. الجامع الصغير ج 2 ص 160. الصواعق ص 90. تاريخ الخلفاء ص 194. مسند أحمد ج 2 ص 228. ذخائر العقبي ص 124-123. نظم درر السمطين ص 210. مطالب السئول ص 71.
2- سنن الترمذي ج 13 ص 176. الصواعق ص 187. السيرة النبوية ج 3 ص 368. كنز العمال ج 6 ص 216 حديث 3782.
3- كنز العمال ج 6 ص 222 ح 3916.

أهْلِ الجنَّة فليَنْظُر الي هذا»

و رُوي ايضاً عن جابر بهذا اللفظ:

«مَنْ سرَّهُ أنْ يَنظُرَ الي رَجُلٍ مِنْ أهْل الجنَّة - و في لفظٍ الي سيِّد شباب أهْلِ الجنّة فَليَنظُر الي الحُسَينِ بن علي»(1)

10 - محبّو الحسين عليه السلام في الجنّة

روي في «سيرة الملأ» عن ابن عباس حديثاً طويلاً عن النبي صلي الله عليه و آله في فضائل الحسنين عليهما السلام يقول في آخره «أن الحسن و الحسين عليهما السلام و عمهما و عمتهما في الجنّة، و من أحبهما ففي الجنة و من عاداهما ففي النار»

و رواه في «نظم درر السمطين» عن هارون الرشيد و ذكر ان هارون كلما ذكر هذا الحديث جرت دموعه و خنقتهُ العبرة»(2) و روي نظيره صاحب كتاب «السُنّة» عن حذيفة. (3)

11 - دَرَجَةُ الوَسيلَة

روي ابن مردويه عن علي عليه السلام أنَّ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله قال:

«فِي الجنَّة دَرَجة تُدعي الوَسيلَة فاذا سألتُم اللّه فسَلُوا لي الوَسيلَة. قالوا: يا رسول اللّه مَنْ سَكَن معك فيها؟ قال: عليّ و فاطمة و الحَسَنُ و الحُسينُ» (4)

ص: 45


1- نور الابصار ص 114. ذخائر العقبي ص 130. اسعاف الراغبين ص 182.
2- هذا اعتراف صريح من اهل الباطل علي حقانية اهل الحق.
3- ذخائر العقبي ص 131. نظم درر السمطين ص 207 وص 213.
4- كنز العمال ج 6 ص 217 ح 3816. أسد الغابة ج 5 ص 523.

12 - الحسين عليه السلام مع النبيّ في دَرَجتِهِ

روي احمد و الطبراني و ابن الاثير عن عليٍّ عليه السلام و الحاكم في مستدركه عن ابي سعيد إنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال لفاطمة عليها السلام:

«يا فَاطِمَةُ إنِّي و ايّاكِ و هذا الراقِد (يعني علياً) و الحَسَنَ و الحُسَينَ يَوْمَ القيامَة لَفي مَكانٍ واحدٍ»(1)

و روي الطبراني عن ابي موسي ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

«أنَا و عليٌّ و فاطمَةَ و الحَسَنُ و الحُسَينُ يَومَ القيامة في قُبَّةٍ تَحتَ العَرشْ»(2)

و روي عمر بن الخطاب عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال:

«أنَا و عليٌّ و فاطمَةَ و الحَسَنُ و الحُسَينُ في حَظيرةِ القُدْسِ في قُبَّةٍ بيضاءَ و سَقْفُها عَرْشُ الرحمن»

و مثله عن ابي هُريرة (3)

13 - وُجوبُ نُصرَة الحسين عليه السلام

ان هذه المفردة مستفادة بوضوح من الاحاديث السابقة و كذا فيما سيأتي منها، و لو أنَّ امثال عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه ابن الزبير و غيرهم ممّن تيقنوا عدم شرعية حكومة يزيد، كانوا قد نصروا الحسين عليه السلام، لكان وضع الامة الإسلامية اليوم غير الذي هي عليه و هذه من اكبر الاشكاليات علي اولئك النفر من المسلمين.

ص: 46


1- كنز العمال ج 6 ص 216 ح 3793.
2- كنز العمال ج 6 ص 217 ح 3798. فرائد السمطين ج 1 ص 36.
3- فرائد السمطين ج 1 ص 36.

و قد روي أنس بن الحارث بن نبيه - و هو احد شهداء كربلاء مع الحسين عليه السلام - عن ابيه و هو من صحابة النبي صلي الله عليه و آله و من أهل الصفَّة قال: سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول مشيراً الي الحسين الذي كان في حجره:

«إنَّ إبنيَ هذا يُقْتَلُ في أرضٍ يُقالُ لها العِراق فَمَن أدْرَكَهُ فلينصُره»(1)

و رواه السيوطي عن البغوي، ابن عساكر و الباوردي و ابن منده و ابن السكن عن انس بن الحارث بهذا اللفظ:

«انَّ ابني هذا يُقتَلُ بارضٍ مِنَ العراقِ يُقال لَها كربلاءَ فَمَنْ شهد ذلك مِنهُم فلينصُره»(2)

و روي الخوارزمي في خبر طويل ان الحسين عليه السلام قال لابن عباس: أتَعلَم أني ابن بنت رسول اللّه؟ فقال اللّهم نعم، لا نعرف في الدنيا أحداً هو ابن بنت رسول اللّه غيرك و إن نصرك لفرض علي هذه الأمة كفريضة الصيام و الزكاة التي لا تقبل احديهما دون الاخري فقال الحسين عليه السلام يابن عباس، فما تقول في قولم أخرجوا ابن بنت رسول اللّه من وطنه و داره و موضع قراره و مولده و حرم رسوله و مجاورته قبره و مسجده و موضع مهاجرته و تركوه خائفاً مرعوباً لا يستقر في قرار و لا يأوي الي وطن يريدون بذلك قتله و سفك دمه و هو لم يشرك بالله شيئا و لا اتخذ دون اللّه ولياً و لم يتغير عما كان عليه رسول اللّه صلي الله عليه و آله و خلفائه من بعده. فقال ابن عباس ما أقول فيهم الاّ أنهم كفروا بالله و رسوله (لا يأتون الصلاة الا و هم كسالي يراؤن الناس و لا يذكرون اللّه الا قليلاً؛ مذبذبين بين ذلك لا الي هؤلاء و لا الي9.

ص: 47


1- أسد الغابة ج 1 ص 349. الاصابة ج 1 ص 68 وص 266.
2- كنز العمال ج 6 ص 223 ح 3939.

هؤلاء) الآية فعلي مثل هؤلاء تنزل الطبشة الكبري؛ و اما انت ابا عبد اللّه فانك رأس الفخار، ابن رسول اللّه، و ابن وصيه، و فرخ الزهراء نظيرة البتول، فلا تظن بابن رسول اللّه بان اللّه غافل عما يعمل الظالمون، و انا اشهد ان من رغب عن مجاورتك و مجاورة بنيك، فما له في الآخرة من خلاق، فقال الحسين اللهم اشهد، فقال ابن عباس جعلت فداك يابن رسول اللّه كانك تنعي الي نفسك؛ و تريد مني ان انصرك؛ فواللّه الذي لا اله الا هو لو ضربت بين يديك بسيفي، حتي ينقطع و تنخلع يداي جميعاً لما كنت ابلغ من حقك عشر العشير؛ وها انا بين يديك فمرني بامرك.

و هذا الخبر طويل و سننقل بغض مقاطعه في الصفحات اللاحقة و في أول هذا الخبر أن عبد اللّه بن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول: حسين مقتول فلئن خذلوه و لم ينصروه ليخذلنّهم اللّه الي يوم القيامة. (1)

14 - أوّلُ من يَدخُل الجَنَّةَ

روي الحاكم و ابن سعد عن علي عليه السلام ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

«إنَّ أوَّلَ مَنْ يَدخُل الجنَّة أنا و أنْتَ و فاطمةَ و الحَسَنَ و الحُسَين» قال علي عليه السلام: فقلتُ: فمحبّونا؟ قال صلي الله عليه و آله: من ورائكم»(2)

و رواه الطبراني و أحمد بن حنبل في المناقب ايضاً (3)

ص: 48


1- مقتل الحسين - الخوارزمي - ف 10 ص 191 وص 192.
2- الصواعق ص 151. ذخائر العقبي ص 123. كنز العمال ج 6 ص 216 ج 3787.
3- الصواعق ص 159. ذخائر العقبي ص 123. كنز العمال ج 6 ص 218 ح 3787.

15 - القائم عجل اللّه تعالي فرجه الشريف من وُلدِ الحَسين عليه السلام

روي حذيفة عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله انه قال:

«لَوْ لَم يبقَ من الدُنيا إلاّ يَومٌ واحدٌ لطوَّل اللهُ ذلك اليومَ حتّي يَبْعَثَ رَجُلاً من وُلدي اسمُهُ كاسمي. فقال سلمان: مِنْ أيِّ وُلدِكَ يا رسول اللّه قال: من وُلدِ هذا و ضرب بيده علي الحسين»(1)

16 - القائم عليه السلام هو التاسع مِنْ وُلدِ الحسين عليه السلام

رُوي عن سلمان قال: دخلت عن النبي صلي الله عليه و آله و اذا الحسين علي فخذه و هو يقبل عينيه و يلثم فاه و يقول: «إنك سيد ابن سيد أبو سادة، انك امام ابن امام ابو ائمة، انك حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم»(2)

روي الحمويني في خبر طويل عن النبي صلي الله عليه و آله قال: الحسن و الحسين إماما امتي بعد أبيهما و سيّدا شباب أهل الجنة، و أمّهما سيدة نساء العالمين، و أبوهما سيد الوصيين. و من ولد الحسين عليه السلام تسعة أئمة تاسعهم القائم من ولدي طاعتهم طاعتي و معصيتهم معصيتي إلي اللّه اشكو المنكرين لفضلهم و المضيّعين لحرمتهم بعدي و كفي باللّه ولياً و ناصراً لعترتي و ائمة امتي و منتقماً من الجاحدين حقهم «و سَيَعلَمُ الذين ظلموا ايَّ منقلبٍ ينقلبون» (3)

ص: 49


1- ذخائر العقبي ص 137-136. و هناك اكثر من 180 حديثاً تدل علي هذا المضمون راجع كتاب منتخب الأثر للمؤلف باب 8 ف 2.
2- مقتل الخوارزمي ص 146 ف 7. ينابيع المودة ص 445. مودة القربي - المودة العاشرة.
3- فرائد السمطين ج 1 ص 43-42. و الاحاديث في هذا الموضوع متواترة فراجع منتخب الأثر للمؤلف باب 10 ف 2.

17 - ثمرةُ شجرة النبوة

روي الحمويني، السمعاني، القندوزي و الخوارزمي عن جابر بن عبد اللّه قال: كان رسول اللّه صلي الله عليه و آله بعرفات و عليّ عليه السلام تجاهه فأومي إلي عليّ عليه السلام فأتاه. قال:

ادن مني يا علي. فدنا علي منه فقال: اطرح خمسك في خمسي (يعني كفك في كفي) يا علي أنا و أنت من شجرة أنا أصلها و أنت فرعها و الحسن و الحسين أغصانها فمن تعلق بغُصنٍ من أغصانها أدخله اللّه تعالي الجنة.

يا علي لو أن امَّتي صاموا حتي يكونوا كالحنايا و صلوا حتي يكونوا كالأوتار ثم أبغضوك لأكبّهم اللّه تعالي في النار.(1)

و روي الكنجي الشافعي عن تاريخ بغداد للخطيب عن علي عليه السلام ان رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال: أنا أصلها و علي فرعها و الحسن و الحسين ثمرتها و الشيعة و رقها فهل يخرج من الطيّب الاّ الطيب و انا مدينة العلم و عليٌّ بابها فمن أراد المدينة فليأتيها من بابها.(2)

و الاخبار بهذا المضمون كثيرة.

و قد نظم بعض الشعراء في ذلك فقال:

يا حبذا دوحةٌ في الخلد نابتةٌ

ص: 50


1- فرائد السمطين ص 39. مقتل الخوارزمي ص 108 ف 6. ينابيع المودة ص 91.
2- كفاية الطالب ص 98 وص 178.

أنا بحبِّهم ارجو النجاة غداً

18 - وديعة الرسول صلي الله عليه و آله

نقل الشبراوي و السبط بن الجوزي ان زيد بن ارقم اعترض علي ابن زياد عندما رآه يضرب ثنايا ابي عبد اللّه الحسين عليه السلام و قال: إرفع قضيبك، فواللّه لطالما رأيت رسول اللّه يقبل ما بين هاتين الشفتين. و بكي زيد فاغلظ عليه ابن زياد و هدده بالقتل و قال: لولا انك شيخ قد خرفت لضربت عنقك. فنهض زيد بن ارقم من مجلس ابن زياد و هو يقول: ايّها الناس انتم العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة و وليتم ابن مرجانة و اللّه ليقتلن أخياركم و ليستعبدنَّ سراتكم فبعداً لمن رضي بالذل و العار ثم التفت راجعاً لابن زياد و قال:

لاحدثنّك بما هو اغيظ عليك من هذا، رايت رسول اللّه اقعد حسناً علي فخذه اليمني و حسيناً علي فخذه اليسري، ثم وضع يده علي يافوخهما ثم قال:

«اللهمَّ اني استودعتك ايّاهما و صالح المؤمنين.» فكيف كانت وديعة النبي عندك يابن زياد. قال: فغضب ابن زياد و همَّ بقتله.

و روي هذا الدعاء السيوطي و المناوي نقلاً عن الطبراني عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله(1).

ص: 51


1- الاتحاف ص 17. تذكرة الخواص ص 267. كنوز الحقائق ج 1 ص 43. كنز العمال ج 6 ص 221 ح 3906.

19 - دعاء رسول اللّه صلي الله عليه و آله في حق الحسين عليه السلام

روي الطبرائي عن وائلة أنَّ النبي صلي الله عليه و آله دعا في حق علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السلام فقال:

اللَّهمَّ إنَّك جَعَلْتَ صَلَواتكَ و رَحمتَكَ و مَغفِرَتَكَ علي إبراهيمَ و آل ابراهيم اللّهمَّ إنّهم منّي و أنا مِنْهُمْ فاجْعَلْ صلواتكَ و رَحمَتكَ و مغفَرتكَ و رضوانَكَ عَلَيَّ و عليهِمْ (يعني علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً)(1)

20 - اشتقاق اسم الحسين عليه السلام من اسم اللّه تعالي

عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه و آله انه قال:

لما خلق اللّه تعالي آدم أبو البشر و نفخ فيه من روحه التفت آدم يمينة العرش فاذا في النور خمسة اشباح سُجَّداً ركَّعا. قال آدم: يا رب هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا يا آدم. قال: فمن هؤلاء الخمسة الاشباح الذين أراهم في هيئتي و صورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولا هم ما خَلقتك. هؤلاء شققت لهم خمسة اسماء من اسمائي. لولاهم ما خلقت الجنة و النار، و لا العرش و لا الكرسي و لا السماء و لا الأرض و لا الملائكة و لا الانس و لا الجن، فانا المحمود و هذا محمد، و أنا العالي و هذا علي، و أنا الفاطر و هذه فاطمة، و أنا الاحسان و هذا الحسن و أنا المحسن و هذا الحسين، آليت بعزتي انه لا ياتيني أحدٌ بمثقال ذرة من خردل من بغض أحدهم إلاّ أدخلته ناري و لا ابالي. يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي بهم انجيهم و بهم

ص: 52


1- كنز العمال ج 6 ص 217 ح 3807.

أهلكهم، فاذا كان لك اليَّ حاجة فبهؤلاء توسل.

فقال النبي صلي الله عليه و آله نحن سفينة النجاة من تعلق بها نجا و من حاد عنها هلك فمن كان له الي اللّه حاجة فليسأل بنا أهل البيت.(1)

و روي سلمان الفارسي قال: سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال:

أنا و علي بن أبي طالب من نور اللّه عن يمين العرش نسبح اللّه و نقدسه من قبل أن يخلق اللّه عزوجل آدم باربعة عشر ألف سنة، فلما خلق اللّه آدم نقلنا إلي أصلاب الرجال و أرحام النساء الطاهرات، ثم نقلنا إلي صلب عبد المطلب و قسمنا نصفين فجعل نصفاً في صلب أبي عبد اللّه، و جعل النصف الآخر في صلب ابي طالب، و اشتق اللّه تعالي لنا من أسمائه أسماءً فالله عزوجل محمود و أنا محمد، و اللّه الأعلي و أخي علي، و اللّه الفاطر و ابنتي فاطمة، و اللّه محسن و ابناي الحسن و الحسين، و كان اسمي في الرسالة و النبوة، و كان اسمه في الخلافة و الشجاعة، و أنا رسول اللّه و علي ولي اللّه». (2)ب.

ص: 53


1- فرائدالسمطين ص 26-25.
2- فرائد السمطين ص 30. ان امتال هذه الأحاديث تعدُّ اشارة الي مقام هؤلاء الخمسة الاطهار و انهم متأدبون بالادب الالهي و ان تربيتهم تربية الهية و ان اخلاقهم هي اخلاقٌ الهية، و كما ان الاسم يدُلُّ علي المسمي فكذلك اسماؤهم المشتقة من الحق جلّ و علا تدلّنا عليه سبحانه و تعالي، كما ان ذلك يدل علي ارتباطهم الوثيق بعالم الغيب و قد ورد في الخبر عنهم عليهم السلام: «نحن و اللّه الاسماءُ الحُسني»، و الموجودات و إن كانت كلها اسماء الحق تعالي لكن هذه الانوار الخمسة المقدسة تمتاز بمقام شامخ و ان دلالتها علي المسمي دلالة أظهر و أوضح من سائرها، و اما سبب تعدد اسماءهم فشرحه خارج عن اطار هذا الكتاب.

21 - إرث الحسنين عليهما السلام من النبي صلي الله عليه و آله

ورث الحسنُ و الحسينُ عليهما السلام كمالات النبي صلي الله عليه و آله العلمية و الروحية و الاخلاقية و الجسدية. و لقد كان المسلمون يرون في الحسين عليه السلام التجسيد الحقيقي لرسول اللّه صلي الله عليه و آله في سماته و سلوكه و اخلاقه و روحانيته.

و لا عجب في ذلك بعد أن تبين لنا ان النبي الاكرم صلي الله عليه و آله كان للحسن والحسين عليهما السلام الحجر الشفيق الرؤوف العطوف و المعلم المخلص و الاب الرحيم. كان يُحبهما و يشمَّهُما و يقبِّلهما و يمصُّ لسانهما و يحملهما علي كفته المبارك و يقول: إنَّهما ريحانتاي.

و كان صلوات اللّه عليه يحتضنُهُما كوُلده ويتأذي لبكائهما و يضعهما الي جنبه الشريف و علي صدره، و يلتذ من سماع إسمهما، و يصطحبهما معه الي السوق و المسجد والدار. و كان يهتمُّ لامر هما حتي و هو في حال الصلوة أو الخطبة.

و الاخبار المروية في كتب اهل السُنَّة المعتبرة، كلها حاكية عن هذا اللطف و الرعاية النبوية و لاعواطف الابوية.

و هذه الاحاسيس و العواطف النبوية و ان كانت تُعدُّ نموذجاً لتواضع النبي صلي الله عليه و آله و بساطته في العيش، الاّ أنها في نفس الوقت تحكي عن تمركز العواطف الابوية الشديدة و الجيّاشة تجاه الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السلام. لانها عواطفٌ صادرة عن رسول اللّه الذي هو في غاية الاعتدال و الاستقامة في كل الكمالات، و الحب و الرضا لا يجعلانه يبالغ في وصف الاخرين و لو بكلمة واحدة، بل انَّ لياقة الحسنين و علو شأنهما و صلاحيتهما هي التي دعت النبي صلي الله عليه و آله الي وصفهما بتلك الاوصاف و الي صبّ محبَّته و لطفه فيهما، فلم تكن المسألة مجرد احاسيس

ص: 54

أبويَّة عارية عن الحقيقة و المصداقية، بل كان النبي صلي الله عليه و آله يري في سيماهُم سرّاً إلهيّاً كشف عنه النبي صلي الله عليه و آله بوصفه ايّاهم بتلك الكلمات.

و بحسب ما جاء في احاديث الثقلين الشريفة، و احاديث «إمامان قاما أو قعدا» و أحاديث «السفينة» و غيرها و هو كثير و قد اوردناها في كتابنا الذي الّفناه في إثبات حجية فقه الشيعة و دلالتها الواضحة و الصريحة، بحسب كل ذلك يثبت ان الحسن و الحسين عليهما السلام هما وارثا علوم النبي صلي الله عليه و آله و كلٌ منهما هو الإمام و القائد الحقيقي للامة و وصي النبي هو ان يكون ميزاناً لتعادل و إعتدال الامور، اي ان يكون مركزاً و محوراً لطلاّب الحقيقة و الهُدي و دليلاً للسائرين في قافلة النجاة كي لا يتخلف عن القافلة احدٌ فيضل و لا يتقدم عنها احدً فيضيع، و الي هذا المعني اشار رسول اللّه صلي الله عليه و آله في قوله في ذيل بعض نقولات حديث الثقلين الصحيحة:

«فلا تَقدِموهُما فَتهلكوا و لا تَقْصُروا عَنهُما فَتَهلكُوا و لا تُعلّموهُمْ فانَّهُمْ أعْلَمُ منكُمْ»(1)

اذن فالإمام الحسين عليه السلام هو وارث علم و كمال رسول اللّه صلي الله عليه و آله بلا شك، و أن جميع الناس فقراء الي علمه و معرفته افتقارهم لعلم و معرفة رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

هذا و قد جاء في روايات متعددة ذكرتها الكتب المعتبرة أنَّ فاطمة الزهراء عليها السلام جاءت بالحسن و الحسين الي رسول اللّه في مرضه الذي توفي فيه و طلبت منه ان يورِّثهما، فقال:

أمّا الحَسنُ فَلَهُ هَيبَتِي وَ سُؤدَدي. و أمّا الحُسين فَلَهُ جُرأَتي و جُودِي. (2)7.

ص: 55


1- الصواعق المحرقة ص 148.
2- نظم درر السمطين ص 212. الاصابة ج 4 ص 316 وص 481. ذخائر العقبي ص 129. الصواعق ص 189. كفاية الطالب ص 277.

و هذه الاحاديث انما تكشف عن جانب صغير من الكمالات الاخلاقية و الروحية التي ورثها الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام من جدّهما.

و السرُّ في هذاالاختلاف في التعابير هو اختلاف الظروف الخاصة بكل واحد من الحسنين في قيادة الامة و جاءت احاديث النبي الاكرم مصدِّقةً لسلوكهما مع الامة، كلٌ بحسب عصره و ليعلم الناس أنَّ مصدر هذين الاسلوبين في القيادة واحدٌ و هو التكليف الديني و الارشاد النبوي المتلقي من الوحي و الذي امرهمابه النبي الاكرم، و لا يتخلف سلوكهما أيَّا كان عن سلوك رسول اللّه صلي الله عليه و آله لان الحسن و الحسين عليهما السلام كلاهُما جامعٌ لكمالات المصطفي و وارث لاخلاقه و كلاهما حافظ للدين و القرآن المبين.

ص: 56

الإخبار باستشهاد الحسين عليه السلام

الإخبار باستشهاد الحسين عليه السلام(1)

من جملة معجزات النبي المصطفي المهمة هي اخباراته و تنبؤاته عن المستقبل و احداثه، و التي حفظتها لنا الاسناد و الوثائق التاريخية المعتبرة، و ان من له إطلاع علي تاريخ الإسلام سوف لن يتردد أو يشكك في تلك الاخبارات، ذلك أنها قد تحققت بحذافيرها. و في زمننا المعاصر، و بسبب سيطرة الافكار المادية علي الناس، و ضعف الارتباط بعوالم الغيب، و التشكيك بعالم الحقائق و كثرة الاهتمام بالظواهر و التجمُّلات و الانغماس بالملذات في الماكل و الملبس و المشرب، قلَّ التأمل و التفكير في هذه العوالم و الحقائق، و ان اكبر ما يشغل بال البشرية الماديّة هو الاكل و الشرب و اللباس و الالتذاذ الجنسي، و من أجل هذه التوافه تراهم يُشعلون الحروب و يُجَيِّشُون الجيوش، و يرتكبون المجازر الجماعية و يقترفون آلاف المظالم و الجنايات للوصول الي غايتهم تلك.

فالبشرية اليوم تعتبر كل الامور مقدمات لهذه المتطلبات المادية الثلاث، و اذا نادت - كذبا او صدقا بالحريات و الاستقلال و السياسة و العدالة و القانون و

ص: 57


1- بعد كتابة هذا الفصل وصلني مقال عن عالم الفيزياء المسمي «روبرت موريس بيچ» تحت عنوان «امتحانٌ ناجح» في كتاب «اثبات اللّه» في الصفحة 25، يحاول المؤلف فيه اثبات وجود اللّه عن طريق صحة و تحقق تنبؤات الانبياء. و لو ان هذا العالم الذي سجل لنفسه 37 اختراعاً و وفق لنيل جوائز كبيرة، كان قد اطلع علي تاريخ الإسلام و تنبؤات و اخبارات النبي الاكرم المستقبلية، لكان ايمانه باللّه اقوي و آكد.

المساواة و رعاية الحقوق و حبّ الوطن و نشر العلم و الثقافة و تأسيس الجامعات و الكليّات و المعاهد و المصانع و الشركات و مكافحّة الرجعية و الدعوة الي التقدمية و... الخ فكل ذلك انما هو للوصول الي تلك المطالب الثلاثة، المأكل و الملبس و الجنس و سدِّ حاجتها منها. و من هنا نجد أن الانسان لن يصل الي الاستغناء أبداً، بل تزداد رغباته و احتياجاته يوماً بعد آخر.

إن الاكل و الشرب و الالتذاذ الجنسي امرٌ مشترك بين كل البشر و كل الحيوانات و لكنه ليس قدراً مشتركاً جامعاً للبشرية حول محور واحد يمنعها من التجاوز علي بعضها البعض، و لا يمكنه ان يُخمدُ نيران الحرص و الطمع التي تسعر اوارها في نفس البشرية. و هذا القدر المشترك لا يثني احداً من الناس عن التفكير بالاكثار من الاسترباح باي وسيلة كانت حتي بغصب حقوق الآخرين و نهب اموالهم.

و لسنا في هذا المقام بصدد بيان مضار و عواقب المدنيّة المجرّدة عن الإنسانية و أنها لا تتناسب مع شأن و مقام الإنسان و الهدف من خلقه، و أنها عاجزة عن حلِّ مشاكل البشرية، فان كل ذلك يحتاج الي بحث مفصل، و انما غرضنا الحالي هو أن نبيّن ان البشر اليوم قد غرق في مستنقع الماديات، يسبحُ من اجل التمتع بالحظوظ الحيوانية، و انه يتخبط في الظلمات الي درجة الغفلة عن انوار الحقائق و مصابيح عوالم ماوراء المادة، و إذا كان بعض الناس يرون بصيصاً ضعيفاً لتلك الانوار و الحقائق فان انشغالهم بامور الدنيا يؤدي بهم الي نسيان مصدر ذلك النور و جهته فَيبقَوْنَ تائهين في ظلماتٍ و ظلمات.

إنَّ إدراك و فهم الانسان المعاصر، راقٍ الي درجة أنه و علي الرغم من إنغماسه بالمادة و الامور الدنيوية و علي الرغم من إنَّ زخارف الدنيا تبهر نظره،

ص: 58

تترشح منه أحياناً حقائق كبيرة، الا انَّ الماديات و قواه الحيوانية و نزعاته الهامشية تطغي عليه فتغطي تلك الافرازات الفكرية و تحجبها فلا تعُدُّ مؤثرة في حياته و لا تقدر علي تمزيق تلك الستائر السميكة التي نسجتها دوافعه المادية.

فاذا لم تكن تلك الحُجُب و الستائر الغليظة، و اذا كان الناس اليوم يستغلّون تلك الملكات الاخلاقية العالية، و اذا كان هناك منهج و اطروحة اخلاقية صحيحة، لتعاضدت النهضة الصناعية مع المنهج الاخلاقي المعنوي الصحيح و تمكنامن صناعة دنيا آمنة سعيدةً مستقرةً هادئة.

و لكي يقبل الإنسان المعاصر مناهج الانبياء الاصلاحية فكرياً و مادياً عليه أن يطالع بدقّة حياة الانبياء و سيرتهم ليقف علي بعض المواقف التي تعتبر أدلة إطمئنان معقولة للهداية و الفلاح.

و تاريخ الأنبياء الماضين و إنْ لم تكن جزئياته بل و حتي بعض الخطوط العامة له، مضبوطة و مدونة و محفوظة و إنْ بقي منها شي فانه قابل للنقاش، و لكن تاريخ نبينا الاكرم محمد صلي الله عليه و آله و ائمة الهدي أوصياؤه و تلامذته، بقي واضحاً محفوظاً مسنداً بالوثائق و المدارك المعتبرة الصادقة، مما يُمكِّنُ المحققين و العلماء من الوصول الي حقائق قيمة فيما يرتبط بالنبوة و الوحي و فلسفة بعث الانبياء.

فاحوال و اخلاق النبي الاكرم محمد صلي الله عليه و آله و حروبه و صُلحه و سائر ملامح حياته الشريفة، و تاريخ حياة والديه و اجداده و جدّاته و اقاربه و قومه و قبيلته و أصحابه، كلها محفوظة مدونة و معلومة مسندة، و إنَّ بعضها يُعدُّ فوق المعتبر من جهة القيمة السندية، اذ أنّه مقترنٌ بشواهد و قرائن توجب اليقين عندنا الي درجة الاحساس بمعاصرة ذلك الزمن و العيش فيه، و بعضها قد وصل الينا عن طريق أسانيد متواترة كثيرة جداً الي حدِّ الاطمئنان.

ص: 59

و من جملة الامور التي تفرض علينا القبول و الاطمئنان هو ما يرتبط بموضوعنا و هو الاخبار عن المستقبل و التنبؤ باحداثٍ تحققت بلا زيادة و لا نقصان، و هو ما يسمي بالإخبارات الغيبية.

فكل من طالع تاريخ الإسلام، لن يشكّ أبداً بأنَّ الرسول الاعظم صلي الله عليه و آله قد أخبر عن احداث و وقائع مستقبلية، قد حدث قسم منها في فترة حياته و تحقق قسم منها بعد التحافه بالرفيق الاعلي كما أخبر، و إنَّ مثل هذه الموارد تتعدي العشرات بل المئات من القضايا، و إنَّ هذه الاخبارات تورث اليقين خاصة بضم القرائن و الشواهد اليها بعد أنْ ثبت صدورها عنه صلوات اللّه عليه و آله بالقطع و التواتر.

و من جملة تلك الإخبارات، مقتل عمار بن ياسر (رضوان اللّه تعالي عليه) علي يد الفئة الباغية، فمهما كان الإنسان مشككاً الا انه سيذعن بقبول خبر مقتل عمّار الذي صرح ابن حجر و غيره بتواتره، مضافاً الي وجود القرائن و الشواهد الباعثة علي الاطمئنان له. فكتب السيرة و الحديث و تراجم الصحابة و غيرها، ذكرت و روت عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله انه قال لعمّار: «تَقْتُلكَ الفِئَةُ الباغيةُ»

و قد تكرر ذلك القول من النبي صلي الله عليه و آله حين بناء المسجد النبوي الشريف في المدينة، و في وقت حفر الخندق فيما كان عمارٌ سبّاقاً في العمل، و في مواضع اخري، و قد رُوي ذلك الخبر في بعض اسانيده بهذا النحو:

«تقتُلكَ الفئةُ الباغيةُ تدعُوهم الي الجَنَّة و يدعوكَ الي النار»

و في بعضها:

«تقتُلكَ الفئةُ الباغيةُ و قاتلُكَ في النار»

و في بعضها الاُخر:

ص: 60

«تَقْتُلُ عمّارَ الفِئَةُ الباغيةُ»(1)

إنَّ هذا الخبر كان معروفاً عند المسلمين عامةً بل و حتي عند المنافقين، و من هنا فان عمر بن العاص إضطرب كثيراً عندما سمع بمقتل عمّار الذي يقاتل الي صف سيد الولاية أمير المؤمنين عليه السلام، فجاء (اي عمرو) الي معاوية قائلاً: لقد قُتِلَ عمّار!!

فقال معاوية: ثمّ ماذا؟

فقال عمرو: سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول: «تَقْتُلُ عمّارَ الفِئَةُ الباغيةُ». فاضطرّ معاوية الي الاحتيال للتخلص من تبعة دم عمار أمام جيشه و تضليلهم فقال: إنّما قتل عمّار من أخرجه من داره!!

و عندما وصل هذا التضليل الي اسماع علي عليه السلام قال:

علي هذا يكون رسول اللّه صلي الله عليه و آله هو الذي قتل حمزة(2)

و عندما استشهد عمّار نزل خزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين) الي ساحة المعركة و كان في جيش علي عليه السلام لكنه الي ذلك الوقت لم يقاتل، و قد كان مقتل عمار علي يد الفئة الباغية دليلاً قاطعاً لخزيمة علي حقانية علي عليه السلام و كان خزيمة يقول:

سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول:8.

ص: 61


1- السيرة الحلبية ج 2 ص 76. سيرة ابن هشام ج 2 ص 114. أسد الغابة ج 4 ص 47 وج 2 ص 114. الاصابة ج 1 ص 426 و ج 2 ص 512 5704. الاستيعاب ج 1 ص 418 و ج 2 ص 4481. كنوز الحقائق ج 1 ص 108 و ج 2 ص 17. الجامع الصغير ج 2 ص 66. و في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 8 طبعة مصر ص 2711. و قد نقل بن مزاحم حكاية في هذا المجال يتعسر علينا ذكرها هنا لتحاشي التطويل، و لكننا نوصي القرّاء الاعزاء بالرجوع اليها للوقوف علي صحة هذا الحديث و ثبوته، و لكي يتضح كيف ان معاوية وقف ضد الإمام الحق مع انه كان يعلم و كذا المحيطين به انهم علي الباطل.
2- راجع السيرة الحلبية ج 2 ص 78.

«عمّارٌ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ الباغيةُ»(1)

و كان «ذو الكلاع» أحد قادة جيش معاوية، و اميراً علي اربعة آلاف فارس، فقال يوماً لمعاوية: كيف تقاتل علياً و معه عمار؟

فقال معاوية: سيعود عمّار الينا و يقتلُ معنا.

و صادف ان قتل «ذو الكلاع» قبل استشهاد عمّار، فقال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيّا لاخذ نصف العسكر معه الي عليّ(2) عندما نراجع كتب التاريخ، فكما اننا لا نشك بأصل وجود عمّار وياسر و سميّة، فكذلك لا نشك باخبار النبي صلي الله عليه و آله بقتل عمار، و كما اننا علي يقين من قتل عمار في صفين بيد جيش معاوية كذلك نحن علي يقين من أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قد اخبر بشهادته كذلك، و قد اعترف عمرو بن العاص و معاوية بهذه الحقيقة أيضاً.(3) و نظير هذا الخبر، اخبارات غيبية اخري وردت عن النبي صلي الله عليه و آله و هي مشهورة و مسلَّمة كاخباره - صلوات اللّه عليه و آله إن اوّل الناس لحوقاً به من اهل بيته هي ابنتُه فاطمةَ الزهراء عليها السلام و كذلك اخباره بخروج عائشة و نباح كلاب الحوأب عليها، و إخباره بقتال أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام للناكثين وه.

ص: 62


1- السيرة الحلبية ج 2 ص 78. اسد الغابة ج 4 ص 47 و ج 2 ص 114. الاصابة ج 1 ص 2251-426. و ذكر هذه الأبيات لخزيمة: إذا نحنُ بايعنا عليّاً فحسبُناأبو حَسَن ممّا نَخافُ مِنَ الفِتَنْو فيه الذي فيهمْ من الخير كُلِّهِو ما فيهِمُ بعضُ الذي فيهِ مِنْ حَسَنْ الاستيعاب ج 1 ص 418.
2- السيرة الحلبية ج 2 ص 78.
3- يقول ابن عبد البر في الاستيعاب: تواتر عن النبي صلي الله عليه و آله: «تَقْتُلُ عمّارَ الفِئَةُ الباغيةُ» و هذا الحديث من اصحّ الأحاديث و من الاخبار الغيبية الدالة علي نبوة رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

القاسطين و المارقين و إخباره باستشهاد علي عليه السلام و اخباره بارتداد بعض الصحابة و اخباره بفتوحات المسلمين و غير ذلك من الاخبارات، نكتفي بما نقلناه مراعاةً للإختصار، و نضيف ان هذا دليلٌ و برهان علي صحة ادّعاء النبوة من رجل لم يدرس عند أحد و يُخبر عن الغيب و تتحقق اخباراته بعد ثلاثين أو اربعين او ستين سنة؛ بل و حتي بعد الف سنة و اكثر و اقل. و هذا لوحده كافٍ لذوي الايمان و البصيرة لاثبات نبوة الرسول الاكرم محمد صلي الله عليه و آله و اثبات نبوات الانبياء و ارتباطهم بالسماء.

و من جملة اخبارات النبي محمد صلي الله عليه و آله بالمغيبات هو اخباره باستشهاد ولده الإمام الحسين عليه السلام و الذي وردت فيه روايات متعدده بطرق اهل السنّة في تواريخهم و كتبهم الحديثية و تراجمهم فضلاً عن ورودها بطرق الشيعة و علمائهم، و هذا يدعم صحة تلك الاخبارات و يثبتها، مضافاً الي انه يجعلها متواترة بالمعني.

و قد ذكّرنا ببعض تلك الروايات فيما مضي، و نضيف هنا بعض الروايات الواردة في مصادر معتبرة جداً عند السنة:

1 - روي ابن سعد و الطبراني عن عائشة أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال:

«أخْبَرني جبرَئيلُ أنَّ الحُسَين يُقتلُ بَعدِي بارضِ الطفِّ و جاءني بهذِهِ التُربَةِ فاخبرني أنَّ فيها مضجعَهُ»

و في الملاحم روي هذا الحديث بتفصيل زائد، و رواه الخليلي في الارشاد عن عائشة و ام سَلَمة بهذا اللفظ:

«إنّ جبرئيلَ أخبرني أنّ إبني الحُسَينُ يُقْتَلُ و هذه تربةُ تِلكَ الارض»

و في سندٍ آخر عن عائشة، قال رسول اللّه صلي الله عليه و آله:

«إنَّ جبرئيلَ أراني التُربَةَ التي يُقْتَلُ عليها الحُسينُ فاشتدَّ غَضَبُ اللّه علي من

ص: 63

يَسفِكُ دَمَهُ»(1)

2 - روي ابو داود و الحاكم عن امِّ الفَضل بنت الحارث أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال:

«أتاني جبرَئيلُ فأخبرني أنَّ أُمّتي سَتَقتُلُ إبني هذا «يعني الحسين» و أتاني تُربةً من تُربَةٍ حمراء»(2)

3 - روي الطبراني و ابويعلي عن زينب بنت جحش عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله انه قال:

«إنَّ جبرئيلَ أتاني و أخبرني أَنَّ ابني هذا تَقْتُلُهُ أُمَّتي قلتُ: فأرِني تُربَتَه، فاتاني بتُربةٍ حمراء»(3)

4 - روي أحمد ابن حنبل ان النبي الاكرم صلي الله عليه و آله قال:

«لَقَد دَخَلَ عَلَيَّ البَيتَ مَلَكٌ لم يَدخُل عليَّ قبلَها فقالَ لي: ان إبْنَكَ هَذا حُسيناً مقتولٌ و ان شئتَ أرَيتكَ من تُربةِ الارضِ الّتي يُقتَلُ بها قال: فأخرَجَ تُربةً حمراءَ»(4)

5 - و روي ابن سعد عن ام سلمة ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

«أخبرني جبرئيلُ بانّ ابنيَ الحسين عليه السلام يقتل..».

و روي ابن عساكر عن ام سلمة الحديث بهذا اللفظ:

«إنَّ جبرئيلَ أخبرني أنَّ ابني هذا يُقتلُ فاشتدَّ غَضَبُ اللّهِ علي مَنْ يَقتُلُه» (5)1.

ص: 64


1- الصواعق ص 190 وص 191. كنزالعمال ج 6 ص 223 حديث 294.
2- الصواعق ص 190. مقتل الخوارزمي ص 156 ف 7.
3- كنز العمال ج 6 ص 223 حديث 3944.
4- الصواعق ص 190.
5- كنز العمال ج 6 ص 223 حديث 3936 و حديث 3941.

و عن عبد اللّه ابن يحيي عن أبيه إنَّه سافر مع علي عليه السلام و كان علي مطهرته فلما حادي بيوتنا و هو منطلقٌ الي صفين فنادي علي عليه السلام:

«صَبراً يا أبا عبد اللّه صبراً يا أبا عبد اللّه صبراً يا أبا عبد اللّه بشاطئ الفُرات»،

فقلت له: ماذا أبا عبد اللّه؟ فقال: دخلت علي رسول اللّه صلي الله عليه و آله و عيناه تفيضان.

قال: قام من عندي جبرئيل عليه السلام قبل و حدّثني أنَّ الحسين يُقتل بشط الفرات. قال:

فقال: هل لك الي ان أشمَّك من تربته؟ فقلت: نعم. فمدَّ يَدَه فقبض قبضةً من تراب فأعطانيها فلم أملك عينيّ أنْ فاضتا.(1)

و رواه أحمد بن حنبل و ابن الضحاك عن علي عليه السلام كما رواه عبد اللّه بن يحيي عن أبيه عن علي عليه السلام.

7 - روي الخوارزمي ان البيهقي نقل في تاريخه ان النبي صلي الله عليه و آله قال للحسين عليه السلام:

«إنَّ لك في الجنّة دَرَجَةً لا تَنالُها إلاّ بالشهادة»

قال ابو علي السلامي: و من هنا كان الحسين عليه السلام و حينما اجتمعت عليه 1 الجيوش علم انه سيُقتل و لذا فانه صبر علي ذلك و لم يجزع الي ان استشهد عليه افضل السلام.(2) 8 - روي السبط ابن الجوزي: لما وصل الحسين عليه السلام أرض كربلاء قال:

«ما يقال لهذه الأرض فقالوا كربلاء و يقال لها أرض نينوي قرية بها فبكي و قال: كرب و بلاء أخبرتني أُم سلمة قالت: كان جبرئيل عند رسول اللّه صلي الله عليه و آله و أنت8.

ص: 65


1- الصواعق ص 191. ذخائر العقبي ص 148. تذكرة الخواص ص 260.
2- مقتل الخوارزمي ص 170 ف 8.

معي فبكيت فقال رسول اللّه: دعي ابني فتركتك فأخذك و وضعك في حجرة فقال جبرئيل أتحبُّه؟ قال نعم. قال فان أُمتك ستقتله. قال و إن شئت أن أريك تربة أرضه التي يقتل فيها. قال نعم. قالت فبسط جبرئيل جناحه علي أرض كربلاء فأراهُ إياها.

فلما قيل للحسين عليه السلام هذه أرض كربلاء شمها و قال هذه و اللّه هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول اللّه صلي الله عليه و آله و إنني أقتل فيها.

و في رواية قبض منها قبضة فشمها و قد ذكر ابن سعد في الطبقات عن الواقدي بمعناه.(1) و روي ابن بنت منيع حديثين في هذا الباب عن ام سلمة(2) 9 - ذكر ابن الاثير و الطبري و آخرون عن رجل من بني فزاره قال:

لما كان زمن الحجّاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في الّتمّارين، التي أقطعت بعد زهير بن القَيْن، من بني عمرو بن يَشكرَ من بَجيلة، و كان اهل الشام لا يدخلونها، فكنا مُخْتَبِئين فيها، قال: فقلت للفَزاريّ: حدّثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن عليّ؛ قال: كنا مع زهير بن القيْن البَجَليّ حين أقبلنا من مكة نساير الحسين، فلم يكن شئ أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القَيْن، و إذا نزل الحسينُ تقدّم زهير، حتي نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب، و نزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدي من طعام لنا، إذ أقبل رسولُ الحسين حتي سلّم، ثم دخل فقال:7.

ص: 66


1- تذكرة الخواص ص 260-259.
2- ذخائر العقبي ص 148-147.

يا زهير بن القَيْن، إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيَه، قال: فطرح كلّ إنسان ما في يده حتي كأننا علي رؤوسنا الطير.

قال أبو مخنف: فحدّثتني دَلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القَيْن، قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثمّ لا تأتيه! سبحان اللّه! لو أتيتَه فسمعتَ من كلامه! ثم انصرفت؛ قالت: فأتاه زهير بن القَيْن، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهُه؛ قالت: فأمر بفسطاطه و ثَقَله و متاعه فقُدّم، و حُمل إلي الحسين، ثم قال لأصحابه:

مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني و إلا فإنه آخر العهد، إني سأحدّثكم حديثاً، غَزوْنا بلَنْجَر، ففتح اللّه علينا، و أصبنا غنائم، فقال لنا سَلمان الفارسيّ: أفرِحتم بما فتح اللّه عليكم، و أصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فقال لنا: «إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا اشدّ فرحاً بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم»، فأمّا أنا فإنيّ أستَودعكم اللّه. قال: ثم و اللّه مازال في أوّل القوم حتّي قُتل.

و عبارة إبن الاثير هي:

«إذا أدركتم سيَّد شباب آل محمد فكونوا اشدَّ فرحاً بقتالكم مَعَهُ بما أصبتم اليومَ من الغنائم».

و ذكر الطبري «سلمان الباهليّ» بدلاً من سلمان الفارسيّ و هو الاصح اذ ان سلمان الباهلي هو الذي قُتل في بَلنجر.(1) 10 - روي ابن الاثير عن غرفة الأزدي و كان من اصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله من اهل الصفّة قال:

دخلني شكٌ من شأن علي عليه السلام فخرجنا مع علي عليه السلام إلي شاطئ الفرات فعدل9.

ص: 67


1- سموّ المعني ص 141. الكامل ج 3 ص 278-277. الطبري ج 4 ص 299.

عن الطريق و وقف وقفنا حوله فقال و أومأ بيده: هذا موضع رواحلهم و مناخ ركابهم و مهراق دمائهم بأبي من لا ناصر له في الأرض و لا في السماء إلاّ اللّه فلما قتل الحسين عليه السلام خرجت حتي اتيت المكان الذي قتلوا فيه فاذا هو كما قال ما أخطأ شيئا. قال: فاستغفرت اللّه مما كان مني من الشك و علمت أنَّ عليا عليه السلام لم يقدم إلاّ بما عهد اليه فيه.(1) 11 - رُوي عن سويد بن غفلة حديثٌ أن رجلا أتي أمير المؤمنين عليه السلام و قال:

عبرت وادي القري و قيل لي أن خالد بن عرفطة قد مات فاستغفرت له و قال له علي أمير المؤمنين عليه السلام لا يموت حتي يقود جيشا ضالاً و صاحب رايته حبيب ابن حمار.

فقام رجل إليه و قال: يا أمير المؤمنين أنا أحبك و أنا حبيب بن حمار. فقال له علي عليه السلام إنك ستكون حامل رايته و ستدخل برايتك من هذا الباب و أشار إلي الباب الذي كان أمامه.

و ما أن مرّت الأيام حتي أرسل إبن زياد عمر بن سعد لحرب الحسين عليه السلام و كان خالد بن عرفطة أحد قادة الجيش و حبيب بن حمار صاحب لوائه و وردا من نفس الباب الي مسجد الكوفة و صح بذلك إخبار أمير المؤمنين عليه السلام.(2) 12 - روي «الملاّ» إنَّ علياً عليه السلام لما مرَّ بمكان قبر الحسين عليه السلام قال:

«هيهُنا مَناخُ رِكابِهمْ و هيهُنا مَوضُعُ رحالهم و هيهُنا مَهراقُ دمائِهِمْ فتيةٌ مِنْر.

ص: 68


1- اسد الغابة ج 4 ص 169.
2- الاصابة ج 1 ص 410-2182. و هذا الحديث نقله صاحب الاصابة عن ارشاد الشيخ المفيد و لمّا لم يُعلِّق عليه ظهر لنا أنه معتبر عنده. و في الارشاد (حبيب ابن حماد) بدل حمار.

آل مُحَمَّدِ يُقتلونَ بِهذِهِ العَرَصَةِ تبكي عَلَيهُم السماءُ و الأرض»(1)

و روي هذا الحديث، الحافظ عبد العزيز الجنابذي في «معالم العترة الطاهرة» عن الاصبغ بن نباته عن علي عليه السلام باختلاف طفيف في الالفاظ.(2) 13 - قال ابو حنيفة الدنيوري لمّا ورد الحسين عليه السلام و اصحابه الي كربلاء فوقف الحر و أصحابه امام الحسين و منعوهم من المسير و قال انزل بهذا المكان فالفرات منك قريب. قال الحسين عليه السلام و ما اسم هذا المكان؟ قالوا له كربلاء. قال ذات كربٍ و بلاء و لقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره الي صفين و أنا معه فوقف فسأل عنه فاخبر باسمه فقال ههنا محط ركابهم و ههنا مهراق دمائهم فسئل عن ذلك فقال «ثِقلٌ لاِلِ مُحمَّدٍ ينزِلونَ ههُنا»(3)

و رواه الدميري و لكنه ذكر كلمة «نفرٌ» بدل «ثقلٌ»

14 - روي الحسن ابن كثير و عبد خير أنَّ علياً عليه السلام لمّا وصل الي كربلاء وقف و بكي و قال:

«بأبِي أُغيلمةٌ يُقتلون هيهُنا، هذا مَناخُ ركابهم و هذا مَوضِعُ رِحالِهم، هذا مصرعُ الرَجُلْ»(4)

15 - روي الديلمي عن معاذ أنَّ رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال:

«نُعِيَ إليَّ الحُسينُ و أُتِيتُ بتُربَتِهِ و أُخبِرتُ بقاتِلِهِ» (5)2.

ص: 69


1- الصواعق ص 191.
2- نور الابصار للشبلنجي ص 115.
3- الاخبار الطوال ص 226. حياة الحيوان ج 1 ص 60.
4- تذكرة الخواص ص 260.
5- كنز العمال ج 6 ص 223 حديث 3952.

16 - روي ابن عساكر عن ابن عمر ان رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال:

«لا بارَكَ اللّهُ في يزيدَ الطَعان اللّعانِ أما إنَّهُ نُعِيَ اليَّ حبيبي و سَخيلي حُسينٌ أُتيتُ بتُربتِهِ و رأيتُ قاتِلَهُ اما إنَّهُ لا يُقتلُ بين ظهراني قومٍ فلا ينصروه إلاّ عِمَّهُمُ اللّه بِعِقابٍ»(1)

17 - روي ابن عساكر عن علي عليه السلام انه قال لعمر بن سعد:

كَيفَ أنْتَ إذا أقَمتَ مَقاماً تُخَيَّر فيهِ بينَ المنيُة و النار فَتَخْتارَ النارَ»(2)

18 - و روي البيهقي ان رسول اللّه صلي الله عليه و آله أُخبر بقتل الحسين في الطف و هو مكان قريب من الكوفة يعرف بكربلاء.(3) 19 - روي ابن ابي الحديد في ضمن خبر عن امير المؤمنين انه قال لتميم بن اسامة بن زهير التميمي و كان ابنه الحصين طفلاً رضيعاً و أخبره بأن ابنه الحصين هذا سيشترك في قتل ولده الحسين عليه السلام.

و هذا ما حصل فلم يزل الحصين حتي عيّنه ابن زياد علي الشرطة و أرسله يوم التاسع من المحرم إلي كربلاء ليبلغ عمر بن سعد بقتال الحسين و يحذره من امهاله.(4) 20 - و كذلك ذكر ابن ابي الحديد ضمن إخبار امير المؤمنين بالمغيبات انه قال للبداء ابن عازب:

«أيُقتَلُ الحُسينُ و أنتَ حَيُّ فلا تنصُره»8.

ص: 70


1- كنز العمال ج 6 ص 223 حديث 3949.
2- كنز العمال ج 7 ص 111 ح 960.
3- السيرة النبوية ج 3 ص 220.
4- شرح نهج البلاغة ج 2 ص 509-508.

فقال البراء:

«لا كانَ ذلك يا أمير المؤمنين»

و كان البراء حينما قُتل الحسين عليه السلام يتذكر هذا الحديث و يبكي حسرةً علي عدم نصرته للحسين عليه السلام.(1) 21 - نقل الخوارزمي عن شيخ الإسلام الحاكم الجشمي أنّ أمير المؤمنين لما سار إلي صفين نزل بكربلاء و قال لابن عباس: أتدري ما هذه البقعة؟ قال: لا.

قال: لو عرفتها لبكيت بكائي، ثم بكي بكاءاً شديداً، ثم قال: ما لي و لآل أبي سفيان. ثم التفت الي الحسين و قال: صبراً يا بني فقد لقي أبوك منهم مثل الذي تلقي بعده.(2)

22 - يقول اليعقوبي في تاريخه: و كان اول صارخة صرخت في المدينة امّ سلمة زوج رسول اللّه صلي الله عليه و آله، كان دفع اليها قارورة فيها تربة، و قال لها: إن جبرئيل أعلمني ان امَّتي تقتل الحسين عليه السلام، و أعطاني، هذه التربة و قال لي: إذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين عليه السلام قد قتل. و كانت عندها، فلمّا حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلي القارورة في كلّ ساعة، فلمّا رأتها قد صارت دماً صاحت: وا حسيناه! و ابن رسول اللّه صلي الله عليه و آله! و تصارخت النساء من كلّ ناحية، حتي ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سُمع بمثلها قط.(3) و روي ابن حجر هذا الحديث عن «الملا» و ابن أحمد في زيادة المُسند،8.

ص: 71


1- شرح نهج البلاغة ج 2 ص 509.
2- فضل الخوارزمي ص 162 ف 8.
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 219-218.

بتفاوت بسيط و روي أنَّ تلك التربة هي تربة مكان قتل الحسين عليه السلام.(1) و مثل هذه الاخبار المروية عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله و عن أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة، و منها يُعلم أنَّ الشهادة قد كتبت علي الحسين عليه السلام و قد كانت شهادته من اكبر مناقبه و فضائله و من جملة مقاماته صلوات اللّه عليه و آله اجمعين.1.

ص: 72


1- الصواعق المحرقة ص 191.

معاجز الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

معاجز الإمام الحسين عليه السلام(1)

تعد المعجزات من جملة ادلة اثبات النبوات و الارتباط بالسماء و واحدة من اسس صحة الرسالات السماوية.

و تاريخ النبوات، يثبت اصل صدور المعجزات عنهم، كما ان الكتب السماوية و منها القرآن الكريم، يُصرِّح بذكر عدد من معاجز الانبياء الكرام صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و قد جَرَت السنن الاجتماعية علي طلب المعجزات من ادعياء النبوة، و من هنا كان الحق تعالي يظهر بعض المعاجز علي أيديهم لكي تكون حُجَّة علي البشر.

و في زمننا المعاصر قلَّ تصديقُ بعض الناس بمثل تلك المعجزات كشفاء المرضي و احياء الاموات و انقلاب العصا الي ثعبان و نزول مائدة من السماء. و بعض أتباع الديانات السماوية و بعض المؤمنين بالانبياء أخذوا يفلسفون تلك الامور الخارقة للعادة علي اساس العلل و الاسباب الظاهرية و يطبقونها علي السنن

ص: 73


1- المعجزة امرٌ خارق للعادة يتحقق علي يد النبي للتدليل علي صدق دعواه و قد ذكرت في الكتب الكلامية عدة تعاريف يظهر منهاان ما كان يصدر عن الائمة عليهم السلام و خواص اصحابهم من الامور الخارقة لا يطلق عليها اسم معجزة الا من باب المسامحة في التعبير، و الاكثر يعبرون عن غير ما يصدر عن النبي من الامور الخارقة اسم «كرامة» كما يعبرون عن خوارق العادة الصادرة عن النبي قبل نبوته بالارهاصات، و لكن و لوجود وجه اشتراك بين الجميع يعبر عنها احياناً بالمعجزة.

و النواميس و القواعد العلمية الحاكمة علي الطبيعة و ازداد ايمانهم بالمعجزات العلمية التي يذكرها القرآن الكريم، و ازداد تقبلهم و يقينهم بتلك المعجزات.

و الحق أنَّه ينبغي التسليم و قبول كل المعجزات و الايمان بها، ذلك لان المعجزة تعبير عن القدرة الغيبية و القوة المطلقة للّه سبحانه و تعالي، و المؤمن باللّه و قدرته و علمه و خلقه و ايجاده لهذا العالم، لا يمكنه ان يُشكك بصدور المعجزة، أوليس هذا العالم الكبير المترامي بكل كراته و مجراته و مخلوقاته الكبيرة و الصغيرة، و كل هذا الروعة في الخلق، معجزة؟

أنَّ المعجزة، هي الامر الذي يعجز البشر عن ايجاده بنفسه بدون الاستعانة بمقدماته و وسائله. و علي هذا فنفس العالم، معجزة، و هذه الجبال و البحار و الاشجار و المحيطات و الشموس و المنظومات السماوية، كلها معاجز.

و نزول المائدة من السماء، و احضار الشجرة و احياء الأموات و تكلُّم الحصاء و نظائر ذلك كلها معاجز، فكما إنَّ تلك معجزة فهذه أيضاً معجزة مع فارقٍ و هو أنَّ هذه المنظومات الشمسيه و الجبال و البحار و.. الخ مرئية لنا، و تلك مسموعة فلذا لا نتعجب من الاولي لاننا نزاها يومياً، أمّا معجزات الانبياء و لانها لم تكن مستمرة أبدية - أغلبها و لم نتمكن من لمسها و النظر اليها و انما نسمعها فقط، صارت عجيبةً عندنا و لذا يستبعدها بعض الناس.

اذن، فمن جملة السنن الالهية ان من يُنتخب و يُصطفي من قبل اللّه للنبوة، لابد ان يكون له معجزة، ليكون ذلك دليلاً علي تكذيب أدعياء النبوة المزيفين.

و لقد كان كبار الفلاسفة كابن سينا و الفارابي و ابن مسكويه يؤمنون بمعجزات الأنبياء.

يقول فريد وجدي في دائرة المعارف بعد ان يذكر شرحاً في معجزات الانبياء

ص: 74

و خاصة نبينا الاكرم محمد صلي الله عليه و آله:

«لا يوجد اليوم من يستطيع أن ينكر امكان حدوث المعجزات غير جماعة الماديين الذين وقفوا من العلم الطبيعي مع ما وصل اليه منذ مائة سنة و لو كان هؤلاء الماديون يستعرضون أمامهم ما هدي اليه ألوف من العلماء الباحثين في المباحث النفسية في مشارق الارض و مغاربها أمثال الاساتذة «ويليم كروكش» و «روبل ولاس» و «اللورد أفيري واكسون» و «تندل» و «باركس» و «لودج» و «مورغان» و... من الانجليز و «كاميل فلامريون» و «الدكتر داريكس» و «الدكتورة جيبي» و «الاستاذ شارل ريشه» من الفرنسيين و عدد لا يحصي من العلماء الايطاليين و الالمانيين و الروس و سواهم لرأوا أنّ كل هؤلاء قد هدوا بالتجارب التي أجروها علي القوي النفسية الي نواميس ارقي من النواميس الحاكمة علي المادة و في استطاعتها في شروط المخصوصة ابطال عمل تلك النواميس و احداث ظواهر جديدة خارقة للنظام الطبيعي المادي فأصبحت المعجزات في نظر العالم من الممكنات و علم أنها تابعة لنواميس خاصة بها.(1) و من البديهي فان من يؤمن بمعاجز الانبياء اليوم، انما يؤمنون بها سماعاً و بالاعتماد فقط علي النقولات الموثقة الي درجة كبيرة توجب الاطمئنان القريب من الحس.

قد يظن البعض ان دعوي المعجزة غير مقبول عقلاً و انه مخالفُ للاصول و المقاييس العلمية، أو ان اثبات وقوعها صعب جداً.

لكنَّ هؤلاء علي خطأ، ذلك ان المعجزة لا تتنافي ابداً مع العقل، بل إنَّ العقل2.

ص: 75


1- دائرة المعارف ج 1 ص 202.

يؤيد و يُصدِّق وقوعها، عن طريق المشاهدة أو السماع القطعي و النقل اليقيني و المتواتر.

و هؤلاء الذين لا يُخطون خطوة واحدة في طريق قبول و تعقل المعجزة و يعدونها مخالفة للمقاييس العلمية الطبيعية، إن كان مقصودهم من المخالفة، مخالفة العلوم المادية الحديثة التي توصلوا اليها و التي صارت طريقهم الوحيد لمعرفة اسرار الكون، فاننا نقول لهم في معرض الاجابة: إننا لا نحتاج الي هذه الموازين لاثبات صحة دعوي وقوع المعجزات، اذ انَّ تلك القوانين ليست السبيل الوحيد لإدراك كل الحقائق الكونية، إذ إننا اليوم نواجه مجهولات كثيرة جداً تفوق معلوماتنا، و هذه القوانين العلمية لا تهدينا الي تلك المجهولات و اكتشافها فهي قاصرة و لكننا نقبل تلك المجهولات و لا يمكن اثبات امتناعها الا بحكم العقل و البرهان.

اذن، فاذا لم نتعرف علي تحقق حادثة خارقة العادة، عن طريق الموازين العلمية الحسيّة و التجريبية، فهذا لا يبيح لنا انكار أصل وجودها، و سيكون مثل هذا الانكار غروراً و تعنتاً و اعتماداً علي سلسلة معلومات ناقصة و حفنةٍ من النظريات و الفرضيات غير القطعية.

مَثَلُ هؤلاء الاشخاص مثل الكيميائي الخبير و المطلع المتخصص في التركيبات الكيميائية، الذي يحاول التعرف علي كل المسائل الطبيّة من نافذة علم الكيمياء الضيقة، فيرد بعضها و يقبل بعضاً، و يبرم بعضا و ينقُضُ بعضاً، و الحال إنَّ الاطبّاء في العالم و استناداً الي تلك القواعد الطبية التي ينكرها هذا الكيميائي، يقومون بمعالجة و مداواة آلاف البشر يوميّاً.

و عقيدتنا بمعاجز الانبياء و كرامات الاولياء و عللها هو أنها ظواهر كالظواهر الكونية الاخري الموجودة في هذا العالم الكبير، و سواء سميتموهاباسرار

ص: 76

الطبيعة و عالم الخلقة او سمّيتموها خوارق العادات، فاننا نقول إنَّ هذه الامور التي اسمها معجزة قد حصلت و تحققت في هذا العالم و قد ثبت ذلك باوثق النقولات المتواترة، و امّا تعليلها بالعلل الماديّة فليس بصحيح، و من حاول إضفاء صبغة علمية حسيّة مادية عليها و أنَّها معلولات لعلل مادية طبيعية فهو مشتبه، اذ ان انقلاب العصا الي ثعبان و احياء الموتي علي يد عيسي المسيح، لا ارتباط له ابداً بالعلل المادية الطبيعية.

و لو لم تكن تلك الاخبارات الموثقة الاّ حول امرٍ عادي بسيط لقبلها الناس ب 1% من تلك الاخبارات و النقولات، و لكن لما كانت تلك الاخبار الموثقة حول امور خارقة للعادة و معجزات غير مأنوسة للبشر فاننا نضطر الي مزيد من التحقق منها و التأمل ثم قبولها.

و في زمننا الحالي، تنقل أحيانا مراكز الانواء الجوّية و بعض الجرائد بعض الظواهر الجوية الغريبة و التي يصعب التصديق بها، و مع ذلك فنحن نصدق تلك المراكز و الجرائد، مع اننا لو سمعنا ذلك الخبر من شخص عادي من افراد المجتمع ممن ليس له خبرة في هذا المجال لاستهزئنا به و اتهمناه بالسطحية و السذاجة، فنحن نقبل من محطات التلفزة و الراديو و وكالات الأنباء العالمية المعتبرة كالاسيوشتيدبرس و غيرها، لان تكذيب هذه المراكز يعني اضطراب النظام الاقتصادي و السياسي العالمي القائم علي اساس هذه الاخبارات.

و لكننا نقول إنَّ ذلك خطأ، فان الراي الصادر من انسانٍ عادي محترمٌ أيضاً و لا يمكن ردّه بلا دليل اذ قد يكون مطابقاً للواقع، و انَّ الخبر الذي تنقله وكالة الانباء العالمية الفلانية و الذي لم يقم اي دليل أو قرينة أو شاهد علي صحته، لا يمكن قبوله ببساطة كما لا يمكن انكاره و ردّه ببساطة، بل يبقي في حيز الامكان و الرد و

ص: 77

القبول.

و اليوم، نجد ان اكثر الناس يقبلون الاخبار التي ينقلها صحفي او مراسل مركز اعلامي، و يرتبون كل الآثار عليها، و كذلك لو سمعوا عن فلكي مجهول الهوية أنَّ النجم المذنب الكذائي سيرتطم بالارض في اليوم الفلاني و ان الارض ستتلاشي، فانهم سيقبلون ذلك دون تردد و سيُسيطر عليهم الخوف و الهلع، يقبلون ذلك و ينكرون كل هذه الاخبار التي تدلُّ علي حصول المعاجز علي يد الانبياء خاصة معاجز نبينا الاكرم محمد صلي الله عليه و آله و الائمة الطاهرين من عترته عليهم السلام، و التي نُقلت في اوثق المصادر التاريخية و الكتب الروائية المعتبرة، و التي رواها أوثق الرواة و المتتبعين، ما يجعلنا نقطع بتحقق تلك المعاجز في الزمن السابق.

و اني لا أظن انَّ متتبعاً للكتب تتبُّعَ احاطةٍ بالوثائق و المدارك التاريخية، يقف علي تواتر أخبار المعاجز يُمكنه ان ينكرها، و أنَّ اولئك الذين ينكرون المعاجز انما ينكرونهابسبب عدم اطلاعهم و عدم مراجعتهم للكتب التاريخية و الحديثية الروائية، و يندر أن ينكر ذلك احدٌ عن تعصبٍ أو لاغراض اخري، فان وجود قوة التعقل و استقامة الفكر تمنع الإنسان من ردِّ هذه الاخبار، فانَّ إنكارها يحكي عدم اعتدال القوة الفكرية و شذوذ العقل و انحرافه.

و علي كل حال، فانّنا نعتقد أن أهم دواعي المنكرين للمعاجز هو الاستبعاد المحض، و مجرد الاستبعاد لم يكن ابداً دليلاً عند العقلاء و لا يُعدَّ دليلاً عقلياً قطعياً للاحكام الجزمية.

و في هذا المبحث - معجزات الإمام الحسين عليه السلام - لا اريد الخوض في هذا الموضوع اكثر مما ذكرت، خاصة و إنَّ اكثر قراءنا الكرام هم من المؤمنين و المعتقدين بالمعاجز و خوارق العادة، و بناءً علي ذلك لا نحتاج الي ذكر مقدمات و

ص: 78

توضيحات اكثر في مقام ذكر بعض معجزات الإمام الحسين عليه السلام.

و صدور المعجزات عن الإمام الحسين عليه السلام سواءٌ في حال حياته أو بعد شهادته عليه السلام من المسلمات و المتواترات، و انَّ صدور تلك المعجزات عن الشُعاع الحق لنور النبوة و الامتداد الطبيعي لوجود شخص الرسول محمد صلي الله عليه و آله، و من صاحب مقام الولاية و الإمامة، غيرُ مستبعدٍ و لا منكر من ايِّ مسلم، فانه اذا لم يكن الحسين عليه السلام له مثل هذه المعجزات، فلمن يكون أذن؟

و اذا لم يكن الحسين عليه السلام مشمولاً للرعاية الالهية الخاصة، فمن ذا الذي يكون كذلك إذَنْ؟

و لما كان غرضنا في هذا المبحث هو إظهار سعة دائرة فضائل و مناقب و مقام الإمام الحسين عليه السلام بين عامة المسلمين و في كل نواحي شخصيته العظيمة فاننا لن ننقل ذلك من كتب الشيعة مع قوة اسانيدها و اعتبارها و صحتها، بل سَنقتصر علي ذكر نماذج مما ورد في كتب كبار علماء اهل السنة و محدثيهم و بعبارة اخري سنكتفي بغيضٍ من فيضِ ما جاء عنهم في هذا المضمار.

1 - نقل الطبري: بعد ان كتب عبيد اللّه ابن زياد الي عمر ابن سعد: أما بعد فحل بين الحسين و أصحابه و بين الماء، و لا يذوقوا منه قطرة، كما صُنع بالتقيّ الزّكيّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجَّاج علي خمسمائة فارس، فنزلوا علي الشريعة، و حالوا بين حسين و أصحابه و بين الماء أن يُسقوا منه قطرة، و ذلك قبل قتل الحسين بثلاث. قال: و نازَلَه عبد اللّه بن أبي حُصين الأزديّ فقال: يا حسين، ألا تنظرالماء كأنه كبد السماء! و اللّه لا تذوق منه قطرة حتي تموت عَطَشاً، فقال حسين: اللهم اقتله عطشاً، و لا تغفر له أبداً.

قال حميد بن مسلم: و اللّه لعُدتُه بعد ذلك في مرضه، فواللّه الذي لا إله إلاّ هو

ص: 79

لقد رأيتُه يشرب حتي يبغر، ثم يقئ، ثم يعود فيَشرَب حتي يبغر فما يَروي، فمازال ذلك دأبه حتي لَفَظ عصبه.(1) 2 - و كذلك نقل الطبري: روي هشام عن أبيه محمد بن سائب عن القاسم بن اصبغ بن نباته قال: حدّثني من شهد الحسين عليه السلام في عسكره، أنّ حسيناً حين غُلبَ علي عسكره ركب المسنّاة يريد الفرات، قال: فقال رجل من بني أبان بن درام، وَيْلَكم! حولوا بينه و بين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظْمِهِ، قال: و انتزع الأباني بسهم، فأثبته في حنك الحسين، قال: فانتزع الحسين السهمَ، ثم بسط كفَّيه فامتلأتْ دماً، ثم قال الحسين: اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنتِ نبيك؛ قال: فواللّه إنْ مكث الرجل إلاّ يسيراً حتي صبّ اللّه عليه الظمأ، فجعل لا يَروَي. قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروّح عنه و الماء يبرَّد له في السّكَر و عِساس فيها اللبن، و قِلال فيها الماء، و إنه يقول: وَيْلَكم! اسقُوني قتلني الظمأ، فيعطي القُلّة أو العُسَّ فيشربه، فإذا نزعه من فيه اضطجع الهُنيهة ثم يقول: وَيلَكُم! اسقوني قتلني الظمأ؛ قال: فواللّه ما لبث إلاّ يسيراً حتي انقدّ بطنُه انقداد بطن البعير.(2) 3 - روي الامام أحمد بن حنبل في مناقبه عن ابي رجاء انه كان يقول:

«لا تسبّوا عليّاً و لا أهْلَ هذا البيت» إنَّ جاراً لنا من بني الهجيم قدم من الكوفة فقال: ألمْ تروا هذا الفاسق ابن الفاسق ان اللّه قتله (يعني الحسين عليه السلام). فرماه اللّه بكوكبين في عينيه و طمس اللّه بصره. (3)5.

ص: 80


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 313. تذكرة الخواص ص 257. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 68.
2- تاريخ الطبري ج 4 ص 344. الكامل لابن الاثير ص 294. ذخائر العقبي ص 144.
3- ذخائر العقبي ص 145.

4 - روي ابن الجراح عن السدّي قال: أتيت كربلاء لأبيع التمر بها فعمل لنا شيخ من طي طعاماً فتعشينا عنده فذكرنا قتل الحسين عليه السلام فقلت: ما شرك احد في قتل الحسين إلاّ ماتَ بأسوأ موته و آيات ظهرت لمقتله. قال: ما اكذبكم يا اهل العراق انا ممن شرك في ذلك. فلم يبرح حتي دنا من المصباح و هو متقد بنفط فذهب يخرج الفتيلة باصبعه فاخذت النار فيها فذهب يُطفئها بريقة فأخذت النار في لحيته فغدا فالقي نفسه في الماء فرأيتهُ كأنه جمجمة.(1) و ذكره في «كفاية الطالب» و «المحاسن و المساوي» و البيهقي و الصواعق، و ورد فيها حممة بدلاً عن جمجمة، يعني مثل الفحم.(2) 5 - روي السبط بن الجوزي عن الواقدي أن شيخا حضر قتله فقط «أي الحسين» فعمي، فسئل عن سببه فقال: إنه رأي النبي صلي الله عليه و آله حاسراً عن ذراعيه و بيده سيف و بين يديه نطع، و رأي عشرة قاتلي الحسين مذبوحين بين يديه، ثم لعنه و سبّه لتكثير سوادهم ثم أكحله بمرود من دم الحسين فأصبح أعمي.(3) 6 - روي ابن الاثير في ضمن وقائع كربلاء: و تقدم رجل اسمه عبد اللّه ابن حوزه و وقف أمام الحسين فقال: يا حسين، يا حسين، فقال الحسين عليه السلام: ما تشاء فقال: أبشر بالنار. قال عليه السلام: كلاّ إني أقدم علي ربٍ رحيم و شفيعٍ مطاع. من هذا؟ قال له اصحابه هذا ابن حوزه قال: ربّ حزهُ الي النار. فاضطرب به فرسه في جدول و وقع فيه و تعلّقت رجله بالركاب و وقع رأسه في الارض و نفر الفرس3.

ص: 81


1- ذخائر العقبي ص 145.
2- كفاية الطالب ص 289. الصواعق ص 193. المحاسن و المساوي ج 1 ص 98.
3- نور الابصار ص 121. اسعاف الراغبين ص 192. الصواعق ص 193.

فأخذ يمرّ به فيضرب برأسه كلّ حجر و كلّ شجرة حتي مات.(1) و روي نظير هذه المعجزة عن ابن بنت منيع عن علقمة بن وائل و وائل بن علقمة في رجب لاسم: جريره.(2) 7 - روي الطبري قال: و لما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو اربعة دعا بسراويل مُحقَّقة يلمع فيها البصر يمانيّ محقق ففزره و نكثه لكيلا يُسلَبْه، فقال له بعض أصحابه:

لو لَبسْتَ تَحتَه تُبّاناً (سراويل قصير) قال: ذلك ثوب مذلّة و لا ينبغي لي أن البسه.

قال: فلما قُتِل اقبل بحر بن كعب فَسَلَبَهُ إيّاه فتركه مجرّدا.(3) 8 - روي الشبراوي شيخ الازهر الاسبق: و اشتد عطشه فدنا ليشرب فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه فتلقي الدم في يده و قال اللهم اقتل حصيناً عطشاً.

قال العلامة الاجهوري فابتلي بالحر في بطنه و البرد في ظهره و صار يوضع بين يديه الثلج و المراوح و يوضع خلفه الكانون و هو يصيح من الحر و العطش و صار يؤتي بسويق و ماء و لبن لو شربه خمسة لكفاهم فيشرب فلا يرتوي ثم يصيح فيسقي كذلك الي ان قُدَّ بطنُه و مات بعد موت الحسين بايام.(4) 9 - روي الطبري عن ملاكه و هو من كبار علماء السنة عن رجل من كليب قال: صاح الحسين بن علي: «إسقونا ماءً» فرمي رجلٌ بسهمٍ فشقَّ شدقه فقال: لا ارواك اللّه. فعَطِش الرجل الي ان رمي بنفسه في الفرات فشرب حتي مات. (5)4.

ص: 82


1- الكامل ج 3 ص 389.
2- ذخائر العقبي ص 144.
3- تاريخ الطبري ج 4 ص 345.
4- الاتحاف ص 16.
5- ذخائر العقبي ص 144.

10 - روي الترمذي حديثاً صحيحاً عن عمارة بن عُمير قال: لما جيء برأس ابن زياد و وضع في القصر رأيت الناس مجتمعين حوله و إذا بحية تأتي تدخل الي منخره و تخرج من فمه تفعل ذلك ثلاثاً.(1) 11 - روي ابن بنت منيع عن ابي معشر عن بعض مشيخته: ان قاتل الحسين عليه السلام لمّا جاء الي ابن زياد و حكي عليه كيفية قتله و ما قال له الحُسَين، إسْودَّ وجهُه.(2) 12 - روي الطبري عن ابي مخنف قال: حدثني سليمان بن ابي راشد عن حُميد بن مسلم، قال:... و مكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهي اليه رجل من الناس انصرف عنه و كره ان يتولي قتله و عظيم إثمه عليه، قال: و ان رجلاً من كندة يقال له مالك بن النُسير من بني بَداء، أتاهُ فضربه علي رأسه بالسيف و عليه بُرنُس له، فقطع البرنس و اصاب السيف رأسه، فادمي رأسه، فامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين عليه السلام:

«لا أكَلْتَ بِها و لا شَرِبت و حَشَرك اللّه مع الظالمين» قال: فالقي ذلك البرنس ثمَّ دعا بقلنسوة فلبسَها، و اعتمَّ و قد أعيا و بَلَّدْ. و جاء الكندي حتي أخذ البُرنس - و كان من خز. - فلما قدم بعد ذلك علي امراته ام عبد اللّه ابنة الحر اخت الحسين بن الحرّ البدّي، اقبل يغسل البُرنس من الدم، فقالت له إمرأته: أسَلبَ ابن بنت رسول اللّه صلي الله عليه و آله تدخِلُ بيتي؟ أخرجه عنّي. فذكر اصحابُه انه لم يزل فقيرا بشرٍّ حتي مات. (3)9.

ص: 83


1- سنن الترمذي ج 13 ص 197. أسد الغابة ج 5 ص 20. اسعاف الراغبين ص 189.
2- ذخائرالعقبي ص 144.
3- الطبري ج 4 ص 342. الحسن و الحسين عليه سبطا رسول اللّه ص 69.

13 - نُقل عن اليسار بن الحكم قال: إنتهب عسكر الحسين فوجد فيه طيب فما تطيبت به إمرأة الاّ برصت.(1) 14 - روي السيوطي: ان ما نُهبَ من مخيم الحسين عليه السلام من الورس قد تحول الي الرماد.(2) 15 - يقول العالم المصري محمد رضا: و من اعجب كرامات الحسين عليه السلام هو حديث الزهري في قتل الحسين و هذا هو سأل عبد الملك ابن مروان و هو قاعد في ايوانه، من كان مجتمعاً بحضرته فقال: ما أصبح ببيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي ابن ابي طالب. فلم يجبه أحد، فقال الزهري: إنه لم يرفع تلك الليلة التي قتل صبيحتها علي ابن أبي طالب و الحسين بن علي حجرٌ في بيت المقدس الاّ وجد تحته دمٌ عبيط.

قال عبد الملك: صدقت، حدّثني الذي حدثك و إني و إيّاك في هذا الحديث لغريبان. ثم أعطاه مالاً كثيراً.(3) و روي المحب الطبري عن ابن السرّي عن الزهري انه لمّا قُتل الحسين عليه السلام لم يُرفع أو لم يُقلع حجر بالشام الاّ عن دم.(4) 16 - روي المحب الطبري عن ابن لهيعة عن ابي قبيل قال: لمّا قتل الحسين ابن5.

ص: 84


1- العقد الفريد ج 4 ص 384. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 70-69. و قال بعد نقل هذه الكرامة: ان كرامات الحسين عليه السلام لا تحصي.
2- تاريخ الخلفاء ص 138. اسعاف الراغبين ص 192. الصواعق ص 192.
3- الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 70. اسعاف الراغبين ص 192. تاريخ الخلفاء ص 138.
4- ذخائر العقبي ص 145.

علي بعث برأسه الي يزيد فنزلوا اوّل مرحلة فجعلوا يشربون و يتحيّون بالرأس، فبينما هم كذلك اذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم حديد فكتبت سطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً شفاعة جدِّه يوم الحِساب.

فهربوا و تركوا الرأس.(1) و لا يخفي ان أخباراً كثيرة وردت في هذا الشعر، منها ما رواه السبط ابن الجوزي و ابن حجر و في درر السمطين و الشبراوي و الدميري و آخرون.(2) 17 - و رويت عنه روايات حول بعض الآيات السماوية و خوارق العادات حين استشهاد الإمام الحسين عليه السلام مثل مطر السماء دماً و غيرها، نقلها كبار علماء القوم مثل الحافظ ابي نعيم في دلائل النبوة، و ابن بنت منيع و المحب الطبري و الشبراوي و الشبلنجي و ابن الجوزي و الصبّان.(3) 18 - روي السبط بن الجوزي أنَّ شخصاً علَّق رأس الحسين عليه السلام في لَبَب فرسه فرؤيَ بعد أيّام وجهُه أشدُّ سواداً من القارّ و مات علي أقبح حالة.(4) 19 - روي ابن خالويه عن الاعمش عن المنهال الاسدي قال:

و اللّه لقد رأيت رأس الحسين عليه السلام حين حُمل و أنا بدمشق و بين يديه رجل يقرأ سورة الكهف حتي بلغ «أم حَسِبتَ أنَّ أصحابَ الكَهفِ و الرَّقيمَ كانوا من2.

ص: 85


1- ذخائر العقبي ص 145. اسعاف الراغبين ص 193.
2- الاتحاف ص 12. تذكرة الخواص ص 284. نظم درر السمطين ص 219. كفاية الطالب ص 291-290. حياة الحيوان ج 1 ص 60. الصواعق ص 194-193.
3- ذخائر العقبي ص 145. الاتحاف ص 25-24. نور الابصار ص 120. تاريخ الخلفاء ص 138. نظم الدرر ص 222-221. اسعاف الراغبين ص 192.
4- نور الابصار ص 121. اسعاف الراغبين ص 193-192.

آياتِنا عَجَبا» فنطق الرأس و قال: «قتلي أعجب من ذلك» و قد روي الصبّان هذه الكرامة الباهرة بهذه العبارة: «فنطق الرأس الشريف بلسانٍ عربيٍّ فصيح فقال جهاراً: أعجب من أصحاب الكهف قتلي و حملي»(1)

و قال الدميري، و تكلم بعدالموت اربعة، يحيي ابن زكريا حين ذبح، و حبيب النجار حيث قال: «يا ليتَ قَومي يعلَمون...» و جعفر الطيار حيث قال:

«و لا تَحسَبَنَّ الَّذينَ قُتلوا في سبيل اللّه...» و الحسين بن علي عليه السلام حيث قال: «وَ سَيَعلم الذينَ ظَلموا أيَّ منقَلَبٍ يَنقَلِبون»(2)

20 - يذكر صاحب كتاب «البدء و التاريخ»: في الليلة التي قتل الحسين عليه السلام في صبيحتها سمع اهل مدينة هاتفا يقول و لا يرون شخصه:

مَسَحَ الرَسولُ جَبينَهُ

21 - روي السبط ابن الجوزي عن عبد الملك ابن هشام في كتاب «السيرة» قال: لما أنفذ ابن زياد رأس الحسين عليه السلام إلي يزيد بن معاوية مع الأساري موثقين في الحبال موثقين مكشفات الوجوه و الرؤوس و كلما نزلوا منزلا أخرجوا الرأس من صندوق أعدوه له فوضعوه علي رمح و حرسوه طول الليل إلي وقت الرحيل، ثم يعيدوه إلي الصندوق و يرحلوا فنزلوا بعض المنازل و في ذلك المنزل دير فيه راهب فأخرجوا الرأس علي عادتهم و وضعوه علي الرمح و حرسه الحرس علي عادتهم و أسندوا الرمح إلي الدير فلما كان في نصف الليل رأي الراهب نوراً من مكان الرأس2.

ص: 86


1- نور الابصار ص 122. اسعاف الرغبين ص 193.
2- حياة الحيوان ج 1 ص 55.

إلي عنان السماء فأشرف علي القوم و قال من أنتم؟ قالوا نحن أصحاب ابن زياد.

قال و هذا رأس من؟ قالوا رأس الحسين بن علي ابن أبي طالب بن فاطمة بنت رسول اللّه صلي الله عليه و آله. قال نبيكم. قالوا نعم. قال بئس القوم أنتم لو كان للمسيح ولد لأسكنّاه أحداقنا ثم قال هل لكم في شئ قالوا و ما هو. قال عندي عشرة آلاف دينار، تأخذوها و تعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة و إذا رحلتم تأخذوه قالوا و ما يضرنا فناولوه الرأس و ناولهم الدنانير فأخذه الراهب فغسله و طيبه و تركه علي فخذه و قعد يبكي الليل كله فلما أسفر الصبح قال يا رأس لا أملك الا نفسي و أنا أشهد ان لا إله الاّ اللّه و ان جدك محمداً رسول اللّه و أشهد اللّه أنني مولاك و عبدك. ثم خرج عن الدير و ما فيه و صار يخدم أهل البيت. قال ابن هشام في السيرة ثم أنهم أخذوا الرأس و ساروا فلما قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض تعالوا حتي نقسم الدنانير لا يراها يزيد فيأخذها منا فأخذوا الأكياس و فتحوها و إذا الدنانير قد تحوّلت خزفاً و علي أحد جانب الدينار مكتوب «و لا تحسبنّ اللّه غافلاً عما يعمل الظالمون»(1) و علي الجانب الآخر «و سيعلم الذين ظلموا ايّ منقلبٍ ينقلبون»(2) فرموها في نهر «بَرَدا»(3) و روي هذه المعجزة ابن حجر ايضاً(4) 22 - و من جملة معاجز الحسين عليه السلام ما نقله العلامة التلمساني في شرح الشفاء، الفصل 24. و لعدم الاطالة نحيل القارئ المحترم الي الكتاب المذكور و كتاب7.

ص: 87


1- سورة ابراهيم، الآية 42.
2- سورة الشعراء، الآية 227.
3- تذكرة الخواص ص 274-273.
4- الصواعق ص 197.

نور الأبصار للشبلنجي.(1) 23 - روي ابو الفرج الاصفهاني ان رجلاً قال للحسين عليه السلام

«ألا تَري إلي الفُراتِ يا حُسينُ كأنَّهُ بُطونَ الحَيّات و اللّه لا تذوقَه أو تموتَ عَطَشاً.» قال: فواللّه لقد كان هذا الرجل يطلب الماء فيسقي فيخرج الماء من فيه ثم يطلب فيُسقي فيخرج الماء من فيه حتي مات عطشاً.(2) 24 - نُقل عن سلمان بن يسار قال: وجدوا حجراً كتب عليه:

لابُدَّ أنْ تَردَ القيامَةَ فاطمٌ

25 - روي الشبراوي و الشبلنجي بجزم ان الحسين عليه السلام يردُّ سلام بعض العلماء في كل وقت في المشهد الحسيني في مصر.(3) و حكي الشبراوي أيضاً ان السلطان صلاح الدين يوسف وشي له مرة بخادم من خدمة القصر المذكور كان بيده زمام القصور و قيل له انه يعرف موضع الاموال و الدفائن التي بالقصر فاُخذ و سئل فلم يذكر شيأً و تجاهل فامر صلاح الدين بتعذيبه فاخذه متولي العقوبة و جعل علي رأسه خنافس و شد عليها قرمزية و يقالم.

ص: 88


1- شرح الشفاء. نور الابصار ص 124-123.
2- فضائل الطالبيين ص 117.
3- الاتحاف ص 26. نور الابصار ص 122. لا يخفي ان احد المشاهد الشريفة المنسوبة الي راس الحسين عليه السلام مقام رأس الحسين في القاهرة و هو من المزارات المعروفة عند المسلمين، يؤُمه آلاف الزائرين كل سنة، و ان اهل مصر يعتقدون كل الاعتقاد به و يحترمونه كثيراً و يجللونه، و كان كبار علماء و مشايخ الازهر، و سلاطين الدولة العثمانية و مصر و الحكام و عامة الناس يزورونه علي الدوام.

ان هذا أشد العقوبات لانها تثقب بالرأس فلا يطيق الإنسان الصبر عليها فعل به ذلك مرارا و الخنافس توجد ميتة و لا تؤذيه فاخبروا به صلاح الدين فاحضروه و قال له عرفني ما سبب هذا فقال ليس له سبب أعرفه غير أنه لما وصل الرأس الشريف الي هنا حملته بالديباج و الطيب علي رأسي حتي وضعته داخل الضريح فقال صلاح الدين و أي سبب أشرف من هذا و عفي عنه.(1) 27 - و من جملة كراماته عليه السلام ان رجلاً يقال له شمس الدين القعويني كان ساكنا بالقرب من المشهد و كان معلم الكسوة الشريفة، حصل له ضرر في عينيه فكف بصره و كان كل يوم اذا صلّي الصبح في مشهد الإمام الحسين عليه السلام يقف علي باب الضريح الشريف و يقول يا سيدي أنا جارك قد كف بصري و أطلب من اللّه بواسطتك أن يرد عليّ و لو عينا واحدة. فبينما هو نائم ذات ليلة اذرأي جماعة أتو الي المشهد الشريف فسأل عنهم فقيل له هذا النبي صلي الله عليه و آله و الصحابة معه جاؤوا لزيارة السيد الحسين عليه السلام فدخل معهم ثم قال ما كان يقوله في اليقظة فالتفت السيد الحسين الي جده صلي الله عليه و آله و ذكر له ذلك علي سبيل الشفاعة عنده في الرجل فقال النبي صلي الله عليه و آله للامام علي عليه السلام «يا عليّ كَحِّلهُ» فقال سمعا و طاعة و أبرز من يده مكحلة و مرودا و قال له تقدم حتي أكحلك فتقدم فلوث المرود و وضعه في عينه اليمني فاحس بحرقان عظيم فصرخ صرخة عظيمة فاستيقظ منها و هو يجد حرارة الكحل في عينه ففتحت عينه اليمني فصار ينظر بها الي ان مات و هذا الذي كان يطلبه فاصطنع هذه البسط التي تفرش في مشهد الإمام الحسين عليه السلام و كتب عليها وقفا. (2)9.

ص: 89


1- الاتحاف ص 27. نور الابصار ص 122.
2- الاتحاف ص 30-29.

28 - و نقل الشبراوي كرامة اخري للحسين عليه السلام عن الشيخ ابي الفضل نقيب الخلوتية، ملخصها ان اللّه تعالي عافاه ببركة التوسل و زيارة المشهد الحسيني من مرض عضال اعيي الاطباء علاجه.(1) 29 - روي ابو الفرج الاصفهاني عن القاسم بن الاصبغ بن نباته قال:

رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، و كنت أعرفه جميلاً، شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفتك، قال: إني قتلت شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلتة إلاَّ أتاني فيأخذ بتلابيبي حتي يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح، فما يبقي أحد في الحي إلاّ سمع صياحي.

قال: و المقتول العباس بن علي عليه السلام.(2) و لا يخفي علي القاري العزيز ان كرامات و معجزات سيد الشهداء عليه السلام في كتب الفريقين كثيرة جداٍ، و من اراد المزيد عمّا ذكرناه فليراجع كتاب المناقب لابن شهر آشوب و البحار للمجلسي و العوالم للبحراني و كتب اخري.

الفَضْلُ ما شهِدَتْ به الاعداءُ

إنَّ في وجود كلِّ إنسان بصيصُ نورٍ من عالم الغيب و مصباحٌ يسُوقُهُ الي الحقيقة و العدالة و الامانة.

و هذا النور يصل اليه من عالم الغيب و بالامداد الالهي، و يشتدُّ و يقوي اثر

ص: 90


1- الاتحاف ص 30.
2- مقاتل الطالبيين ص 118. و هذه المعجزة و ان كانت من كرامات ابي الفضل العباس عليه السلام - لكن المؤلف لم يجد بداً من تسطيرها و عدِّها من معاجز الحسين عليه السلام بمناسبة الارتباط بين الاخوين و الاولوية.

الاعمال الصالحة و العلم و المعرفة و التربية المستقيمة، و تصل قوته احياناً الي الاحاطة بتمام باطنه الوسيع و إضاءته الي درجة انعدام كل الظلمة في نفسه.

كما أنَّ سوء التربية و الانغماس بالقبائح و الشهوات و الاقبال علي الماديات و اهمال التعلم و الاطلاع علي الحقائق و المعارف و المعقولات يوجب ازدياد سمك الحجب و الاغشية التي تمنع القلب عن البصيرة.

كما ان الاشتغال بالمناهي و الملاهي و حبِّ الدنيا و المال و الجاه و المقام و الشهوات يُنسي الانسانَ الحقائق و يُنسيه مصيره و ما يؤول اليه امرُه و مستقبله الذي ينتظرُهُ.

و لكن، و حتي في هذه المرحلة المظلمة، و مهما هوي الإنسان في السقوط و حتي لو صار مصداقاً لقوله تعالي: «أولئكِ كَالانعامِ بَل هُمْ أضَلّ»(1) يبقي بصيص أمل لعودته و يبقي بعض المنافذ و الشبابيك مفتوحة في وجوده تُرجعُه الي عالم الغيب و الحقيقة، و يبقي خلاصُه من متاهات السقوط و الانحدار و من ظلمات الشهوات الحيوانية، ممكناً غيرَ مستحيل.

و سواءُ سميتم ذلك بالإدراك أو الوجدان الواقعي للانسان أو غريزة حب الحقيقة أو الفطرة أو اي اسم آخر فالمهم هو وجودها في الإنسان مهما انحدر، فهذا البصيص من النور و حتي لو كان ضعيفاً و خفيفاً، يتجلي في باطن الإنسان و يُشعره بمسئولية تجاه ربِّه و يُتمُّ الحجّة عليه الي درجة ان الناس جميعاً يتوقعون منه القيام بتكاليفه و وظائفه و احترام شرف إنسانيته، و الاّ كان مستحقاً للملامة و الذمِّ و التوبيخ، بل و مستحقاً للعقاب و التأديب في نظر العقلاء.9.

ص: 91


1- سورة الاعراف، آية 179.

و نلاحظ أيضاً إنَّ اولئك الذين يخالفون الانبياء و المناهج السماوية الداعية الي الحق و العدالة و الحرية، و في اشدِّ ساعات المواجهة بينهم، تصدر عنهم احيانا و بلا ارادة بعض عبائر المدح و الثناء للانبياء فتتصرف فيهم فطرتهم السليمة و توثر فيهم الحقيقة و المعنويات و الطهارة فتراهم أحيانا يبكون و يتالمون للانبياء، و لكنهم يعودون الي ما يقترفون من ذنوب و معاصي و اضطهاد للاخيار و كأن هزّة باطنية تعتورهم و تبعدهم عن واقعهم المرير، ثم يلتفتوا الي حالهم فيعودوا لما نُهوا عنه و يرجعون الي الدرجة الاولي في السُلَّم و الي قلعة الانانية و الانكار و التمرد.

و تاريخ الإسلام مشحون باقرارات و اعترافات أشدِّ اعداء الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله و الائمة الطاهرين باحقيّة هؤلاء الاطهار و صحة منهجهم و سبيلهم.

نعم، إنَّ اعداء أهل البيت عليهم السلام، و الحاقدين و المتعصبين و عبدة الدنيا و المغرورين الذين اضطهدوا اهل البيت عليهم السلام، يشهدون في مواقع عديدة بفضيلة و حقانية أهل البيت و يقرّون ببطلان أنفسهم و يعترفون بان حبّ الدنيا أو العناد و اللجاجة هي التي دفعتهم الي انكار حق اهل البيت عليهم السلام.

اقراؤا قصة أبي سفيان و الاخنس و ابي جهل في سيرة حياة النبي الاكرم صلي الله عليه و آله و كيف انهم كانوا يأتون في الليالي الظلماء و بعيداً عن الانظار و في الخفاء، لكي يستمعوا الي آيات القرآن المجيد من لسان النبي صلي الله عليه و آله، و في النهار يعودون الي محاربته و انكاره و ايذائه.

و إنَّ من عزل علياً عليه السلام عن ساحة الاحداث و اجلسه الدار، كان يعترف بفضائل و مقام علي عليه السلام و كان يعترف بان علياً هو الاكفأ و الاقدر و الأنسب من بين كل المسلمين بهذا الأمر و هذا معاوية و عمروبن العاص و في حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام و بعد شهادته، و في مجالسهم الخاصة و العامة احياناً، يعترفون بفضائل و

ص: 92

مناقب علي عليه السلام و علمه و ورعه و تقواه، و تارة كان معاوية يبكي عندما يذكر مناقب أمير المؤمنين و يترحم عليه!!

و هذا مروان بن الحكم يشترك في تشييع الإمام الحسن عليه السلام و عندما يُسأل:

كنت تجرعه الغصص في حياته و اليوم تمشي في جنازته؟ فيقول: كنت افعل ذلك مع من كان حلمُه يوازي الجبال.

و هذا عبد الملك بن مروان، و عندما واجه مشكلة ضرب النقود العويصة - كما يذكر ذلك البيهقي و الدميري اضطر الي التماس محمد بن علي الباقر عليهم السلام و اخذ الحلِّ من علمه الجمِّ، و هكذا كان فقد علمهُ الإمام الباقر عليه السلام حلِّ تلك المعضلة.(1) و ها هو المنصور الدوانيقي الذي قتل ذراري رسول اللّه السادات بافجع صور القتل و أبشعها، و طبقا لاوثق النقولات المعتبرة أنه دسَّ السُمَّ للإمام الصادق و قتله، نفس هذا السفاح و طبقا لما يذكره اليعقوبي(2) عن اسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن عباس، ان المنصور بكي علي الإمام الصادق عليه السلام حتي ابتلّت لحيته من دموع عينيه و كان يقول: انه كان سيد أهل بيته و بقية الاخيار منهم و انه ممّن نزل فيهم قوله تعالي:

«ثُمَّ أورَثْنا الكتابَ الّذينَ إصْطَفَينا مِنْ عبادنا»(3)

و هذا هارون الرشيد يعترف و يُقرُّ بمقامات موسي بن جعفر عليهما السلام و ما ذكره المأمون من قصة احترام هارون الرشيد للإمام موسي بن جعفر و تبجيله، مشهورة2.

ص: 93


1- المحاسن و المساوئ ج 2 ص 236-232. حياة الحيوان ج 1 ص 63.
2- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 117.
3- سورة الفاطر، الآية 32.

و معروفة.

و هكذا سائر الائمة عليهم السلام يحدثنا التاريخ أنَّ خلفاء زمانهم و اعدائهم قد اعترفوا بفضلهم و مقامهم و علمهم واهليتهم لحلِّ المعضلات من المسائل و انَّ اولئك الخلفاء كانوا يلوذون بهم ساعات الابتلاء و الشدائد.

و لا يخفي إنَّ اكثر الاعترافات و الاقرار من هؤلاء الظلمة كان من باب السياسة و خداع الرأي العام و رعاية للمصالح الشخصية و النفاق و المراء لاستغفال الناس، و لكنها مع كل ذلك كانت شهادة الاعداء بحسن قبول الناس لاهل البيت و حُسن سيرة المعصومين و اتفاق الناس علي اهليتهم و صلاحيتهم بل اسبقيّتهم علي الاخرين في كل المجالات الي درجة عجز اعدائهم عن اخفائه.

و الفَضْلُ ما شهدت به الاعداءُ.

و ما ذكرناه من اعتراف الاعداء، ينسحب الي اعداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام بوضوح، يقول الاستاذ عباس محمود العقاد: و لكنَّ الجيش الذي أرسله عبيد اللّه بن زياد لحرب الحسين عليه السلام كان جيشاً يحارب قلبه لاجل بطنه و أو يحارب ربِّه لاجل واليه اذ لم يكن فيهم رجلٌ واحد يؤمن ببطلان دعوي الحسين عليه السلام أو رجحان حقِّ يزيد، و لم يكن فيهم كافر ينفح عن عقيدة غير عقيدة الإسلام إلاّ من طوي قلبه علي كفر كمين هو مخفيه و لا نخالهم كثيرين...

و لو كانوا يحاربون عقيدة بعقيدة، لما لصقت بهم وصمة النفاق و مسبّة الاخلاق، فعداوتهم ما علموا أنّه الحق و شعروا أنَّهُ الواجب أقبح بها من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله و معرض عنه بشعوره لأنهم يحاربون الحقَّ و هم يعلمون.

و من ثمَّ كانوا في موقفهم ذلك ظَلاماً مطبقا، ليس فيه من شعور الواجب بصيصٌ واحدٌ من عالم النور و الفداء، فكانوا حقّاً في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام

ص: 94

تكافحُ قوّة من عالم النور.(1) و روي ابن أعثم أنَّه لما ورد كتاب يزيد بن معاوية الي الوليد بن عقبة و الذي يأمره فيه بقتل الحسين بن علي عليه السلام و يعده بالامارة و الجائزة، اغتمَّ الوليد لذلك و قال: «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»

و اللّه لو ان يزيدا اعطاني الدنيا بما فيها لما اشتركت بقتل الحسين ابن رسول اللّه.(2)

يقول الدينوري: عندما اقترح مروان بن الحكم علي الوليد، قتل الحسين قال:

«وَيْحكَ أتُشيرُ عليَّ بِقَتْلِ الحُسين بنِ فاطمةَ بنت رسول اللّه و اللّه ان الذي يُحاسَبُ بِدَمِ الحُسَينِ يَومَ القيامةِ لخفيفُ الميزانِ عند اللّه»(3)

و هذا يدل علي مدي تعجب و استغراب الوليد من جرأة مروان و قلة حيائه، و لم يتوقع حتي من مثل مروان المنافق الحاقد، التفكير في قتل مثل الحسين.

يقول السبط ابن الجوزي، قال الوليد لمروان:

«وَ اللّه ما أُحبُّ أنَّ ليَ ما طَلَعَتْ عَليهِ الشّمسُ و إنّي قَتَلتُ حُسيناً.»(4)

و روي ابن الاثير ان الوليد قال:

«و اللّه ما أحبّ انَّ لي ما طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ و ما غَرُبَتْ عَنْهُ من مالِ الدنيا و مُلكِها و إنّي قَتَلتُ حُسيناً أنْ قال لا أُبايعُ و اللّه إنّي لأظنّ أنَّ إمْرَءً يُحاسَبُ بدَمِ7.

ص: 95


1- ابو الشهداء ص 137.
2- تايخ ابن أعثم ص 345.
3- الاخبار الطوال ص 208.
4- تذكرة الخواص ص 247.

الحُسَين لخفيف الميزان عند اللّه يوم القيامَة.»(1)

و روي الخوارزمي ان مروان حذّر الوليد من التمرد علي امر يزيد بقتل الحسين عليه السلام فقال له الوليد:

«مَهلاً وَيْحَكَ دَعْني من كلامِكَ هذا، و أحْسِنِ القولَ في ابن فاطِمَةَ فانَّهُ بقيَّةُ وُلدِ النَّبيّين.»(2)

و نقل الخوارزمي أيضاً ان الوليد لمّا علم بخروج الحسين عليه السلام الي العراق كتب الي ابن زياد:

«أمّا بَعْدُ فَإنَّ الحُسينَ بنَ عليٍّ قَدْ تَوجَّهَ الي العِراقِ و هو ابن فاطمةَ البتولِ و فاطمةٌ بنتُ رسول اللّه صلي الله عليه و آله فاحْذَر يابنَ زياد أنْ تأتي إليهِ بسوءٍ فَتُهيِّجَ علي نَفْسِكَ في هذه الدُنيا ما لا يَسُدُّه شئ و لا تَنساهُ الخاصَّة و العامَّة أبداً ما دامَتِ الدُنيا.»

ثمَّ يقول الخوارزمي بعد نقل ذلك: «فَلَمْ يَلْتَفِتْ عَدُوّ اللّه إلي كتابِ الوَليد.»(3)

و يقول ابن الاثير استمهل عمر بن سعدُ عبيد اللّه بن زياد يوماً حتي ينظر في امره بقتل الحسين عليه السلام، فانصرف عمر يستشير نُصَحاءَه، فلم يكن يستشير احداً الاّ نهاه و جاء حمزة بن المغيرة بن شعبة و هو ابن اخته فقال: انشدك اللّه يا خال ان تسير الي الحسين عليه السلام فتأثَم بربَّك و تَقطَع رَحمَك! فو اللّه لان تخرج من دنياك و مالك و سلطان الارض كلِّها لو كان لك خيرٌ من ان تلقي اللّه بدم الحُسين! (4)3.

ص: 96


1- الكالم ج 3 ص 265.
2- مقتل الخوارزمي ص 181.
3- مقتل الخوارزمي ج 1 ص 221 ف 11.
4- تاريخ الطبري ج 4 ص 610. الكامل لابن الاثير ج 3 ص 283.

قال ابو زهير العبسي: سمعت شبث ابن ربعي ايّام امارة مصعب يقول: لا جزا اللّه اهل الكوفة خيراً، و منعهم الرشاد، ألا تعجب اننا قاتلنا علياً و من بعده ابنه، و نصرنا آل ابي سفيان، ثم نصرنا آل معاوية و ابن سميّة علي ابن عليّ و هو خير اهل الارض؟! «ضلال يا له من ضلال»

و روي ابن سعد في الطبقات: ان مرجانة ام عبيد اللّه بن زياد قالت لابنها:

يا خَبيث قَتَلْتَ ابن بنت رسول اللّه، و اللّه لا تَري الجَنَّةَ ابداً»(1)

قال حميد بن مسلم: كان لي صحبه مع عمر بن سعد فأتيته عند منصرفه من قتال الحسين عليه السلام فسألته عن حاله فقال لا تسئل عن حالي فانه ما رجع غائب إلي منزله بشرّ مما رجعتُ به قطعتُ القرابة القريبة و ارتكبت الأمر العظيم.(2) و لما قام عمر بن سعد من عند ابن زياد يريد منزله إلي أهله و هو يقول في طريقه: «ما رجع أحد مثل ما رجعت أطعت الفاسق ابن زياد الظالم ابن الفاجر و عصيت الحاكم العدل و قطعت القرابة الشريفة».

و هجره الناس و كان كلما مرّ علي ملأ من الناس أعرضوا عنه و كلما دخل المسجد خرج الناس منه و كل من رآه قد سبّه فلزم بيته الي أن قُتل.(3) و روي ابن الاثير و الطبري:

دخلوا (القوم الذين جاؤوا برأس الحسين عليه السلام من الكوفة) علي يزيد فوضعوا الرأس بين يديه و حدثوه الحديث قال: فسمعت دَوْرَ الحديث هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كُرَيرْ - و كانت تحت يزيد بن معاوية فتقنعت بثوبها و خرجت فقالت:9.

ص: 97


1- تذكرة الخواص ص 269.
2- الأخبار الطوال ص 232.
3- تذكرة الخواص ص 269.

ياأمير المؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه قال: نعم، فأعْولي عليه و حُدّي علي ابن بنت رسول اللّه و صريخة قريش عجّل عليه ابن زياد فَقَتلَهُ قَتَلَهُ اللّه.(1) و حتي ابن زياد لما رأي اعتراضات الناس و سخطهم عليه و انَّ نفرة المسلمين و لعنتهم لحقت به، حاول التبري من دم الحسين عليه السلام عليه السلام، حتي انه حاول اتلاف كل كتبه التي وجهها الي ابن سعد و غيره فيما يرتبط بقتل سيد شباب اهل الجنة عليه السلام، قال هشام: عن عوانة قال: قال عبيد اللّه بن زياد لعُمر بن سعد بعدع.

ص: 98


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 58. الكامل ج 3 ص 298. لا يخفي ان مثل هذه الاقوال انما تصدر من امثال هؤلاء الارجاس كيزيد و عمر بن سعد و شبث و غيرهم، لا تدل بحال من الاحوال علي توبتهم و ندمهم علي قتل الحسين عليه السلام بل هي دليل علي شدّة اعتراض المسلمين عليهم و تنفرهم من عملهم، فارادوا بذلك تهدئة مشاعر الناس ضدهم. ان يزيداً راي ان قتل الحسين عليه السلام قد اثر حتي في داخل بيته و نسائه فاعترضن عليه، و أحسّ بخطر الانقلاب عليه من كل طبقات المجتمع حتي المجتمع الشامي الحاقد علي أهل البيت. و كيف نحكم بندم يزيد و هو الذي اكرم عبيد اللّه بن زياد بعد قتل الحسين عليه السلام و كافأه و قرّبه بدلاً من توبيخه و عزله و معاقبته، فكيف يصح القول ان يزيد برئ من دم الحسين عليه السلام؟! أبداً، و كما ورد في خطبة عقيلة الهاشميين التاريخية الشريفة حين ذكرت ان يزيد كان فرحاناً مسروراً شامتاً بقتل الحسين عليه السلام انتقاماً لاشياخه المشركين في بدر. و هذا عمر بن سعد، فمضافاً الي انه صار معرض ذم المسلمين و انكارهم له، و لم يصل الي ما كان يصبو اليه من حكومة الري، و لذا ندم علي ما قام به بعد خسارته ما من اجله قتل الحسين عليه السلام، و لكنه لو كان قد حصل علي ولاية الريّ و تمكن من قمع معارضيه و الناقمين عليه لقتله سيد شباب اهل الجنّة، لما كان قال ما قال من مظاهر الندم، و لما توانا و تباطئَ عن القيام بامثال ما قام به في كربلاء، لو أمر به ثانياً و ثالثاً و رابعاً، و بكل ميل و رغبة. إذن، ما ورد من هذه الاقوال و الخطب انما هي لاستغفال المسلمين و امتصاص نقمتهم و التخفيف من وطأة الحدث المريع.

قتله الحسين عليه السلام: يا عمر اين الكتاب الذي كتبتُ به اليك في قتل الحسين؟

قال: مَضَيتُ لامرك و ضاع الكتاب! قال: لتجيئني به. قال: ضاع! قال: و اللّه لتجيئني به. قال: ترك و اللّه يُقرأ علي عجائز قريش اعتذاراً اليهنَّ بالمدينة، أما و اللهِ لقد نصحتُك في الحسين نصيحةً لو نصحتُها أبي سعد بن ابي وقاص كُنتُ قد ادّيت حقه.

قال عثمان بن زياد اخو عبيد اللّه: صَدَقَ و اللّه، لوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجُلٌ إلاّ و في أنفِهِ خِزامةُ الي يوم القيامة و أنَّ حُسيناً لم يُقتل. قال: فو اللّه ما أنكر ذلك عليه عبيد اللّه.(1) روي ابو مخنف: قال الناس لسنان بن أنس: قتلتَ الحسين عليه السلام بن علي و ابن فاطمة ابنة رسول اللّه صلي الله عليه و آله؟ قتلت اعظمَ العرب خطراً، جاء الي هؤلاء يريد ان يزيلهم عن ملكهم، فأت امراءَكَ فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلاً.

فاقبل علي فرسه و كان شاعراً و كانت به لَوْثة(2) فاقبل حتي وقف علي باب فسطاط عمر ابن سعد ثم نادي باعلي صوته:

أوْقِر ركابي فِضَّةً أو ذَهَبا

فقال عمر بن سعد: أشهَدُ إنَّكَ لمجنون ما صَحَحْتَ قَطْ، أدخلوه عليَّ فلما دخل حَذَفَهُ بالقضيب ثمَّ قال: يا مجنون أتَتَكَلَّم بهذا الكلام! أما و اللّه لو سمعك ابن زيادن.

ص: 99


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 660.
2- مسيٌ من الجنون.

لضرب عُنُقك.(1) و مع هذا التنبيه من عمر ابن سعد بسنان، نجد ان خولي بن يزيد حينما جاء الي عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين، أنشد نفس هذه الابيات(2) وروي السبط بن الجوزي ان عمرو بن حريث و كان من خواص زياد وابنه عبيد اللّه قال لابن زياد:

قد بلغت حاجتك من هذا الرأس فهب لي ما القيت منه فقال: ما تصنع به؟ فقال اواريه. فقال: خذه. فجمعه في مطرف خز كان عليه و حمله إلي داره فغسله و طيبه و كفنه و دفنه عنده في داره و هي بالكفوة تُعرف بدار الخز، دار عمر بن حريث المخزومي.(3) و لا تَعجَبْ لذلك حتي لو كان عمرو بن حريث في عداد حزب بني أُميَّة و تحت إمرة عبيد اللّه بن زياد، لان أمثال هؤلاء كانوا يتقيدون بالدين - و لو ظاهراً مادام لا يعارض مصالحهم الدنيوية، فاذا وقعت المعارضة باعوا دينهم بدنياهم بل حتي بدنيا غيرهم، و امثال هؤلاء كثيرون حتي في زماننا. ان عمرو بن حريث كان يُقدس لحم رأس الحسين، و لعله كان يعتقد ان في ذلك بركة لبيته، و لكنه مع ذلك0.

ص: 100


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 649.
2- اسد الغابة ج 2 ص 21. يقول ابن حجر في الصواعق: ان قاتل الحسين جاء الي ابن زياد و انشد: إملأ ركابي فضةً أو ذهباًفقد قتلتُ الملك المحجّباو من يصلي القبلتين في الصَّباو خَيرُهيم اذ يَذكُرون النَسَبا فغضب ابن زياد و قال له: اذا كنت تعلم ذلك فلماذا قتلته؟ ثم امر به فضربت عنقه. خسر الدنيا و الآخرة.
3- تذكرة الخواص ص 270.

كان يُعين قاتل الحسين عليه السلام!!

و في زماننا يوجد بعض الناس يقدسون اهل البيت عليهم السلام و يظهرون المودة و الحب لهم، لكنهم يحاربون مبادئ و اهداف اهل البيت عليهم السلام، يبكون لأسر زينب و اخوات زينب من بنات الرسالة، لكنهم لا يكترثون لستر نساءهم و حجابهنَّ، و يتبركون بالقرآن و يباركون اولادهم بحمل القرآن و تعليقه علي صدورهم، و يتحرزون به عند سفرهم و لكنهم يخالفون احكام القرآن الكريم.

هذه هي الحقيقة المرّة و هي ان هؤلاء لو كانوا في زمن يزيد لكانوا من جنده و لم يتوانوا عن سلِْْ سيوفهم في وجه الحسين عليه السلام و هؤلاء هم الذين وصفهم الحسين روحي فداه بقولهك

«الناس عبيدُ الدنيا و الدِّينُ لَعَقٌ علي ألسِنَتِهِمْ فاذا محصّوا بالبَلاء قَلَّ الدّيّانون.»

«أُفِّ لمثل هؤلاء المسلمين و أُفِّ لمثل إسلامهم!»

ص: 101

انعكاسات مقتل الحسين عليه السلام

استقبل المسلمون في كل بلدانهم نبأ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بلوعةٍ و تأسف شديدين، فما من خبرٍ سمعَهُ المسلمون باكثَر أساً و حُزناً من خبر قتل السبط الوحيد لخاتم النبيين و سيد المرسلين محمد صلي الله عليه و آله.

فصحيحٌ انَّ خبر هذه الواقعة الفجيعة لم يصل في البدء الي اسماع كل المسلمين - خاصة تلك المناطق التي كانت تصلها موجات الدعاية و الاعلام الاموي التي تبثها قنوات التضليل و وضع الاحاديث المختلقة مثل المناطق التي كانت السلطة الاموية تحكم السيطرة عليها و تضبط الاخبار الواصلة اليها و لكن بعد ذلك بايّام و نظراً للدور الاعلامي المبرمج الذي لعبته قافلة الاساري من كربلاء الي الكوفة و الي الشام ثم الي المدينة، و الخطب التي سمعها الناس من بنات الرسالة و الإمام السجاد، و حركة انتقال المسافرين بين بلدان العالم الاسلامي آنذاك، بعد كل هذا وقف المسلمون علي قبح الجريمة التي اقترفتها الايادي الامويّة، و عَمَّت موجَة الغضب و التذمر و السخط علي يزيد و ولاته و عمّاله، اكثر المرافئ الإسلامية.

و لا نبالغ إذا ما قلنا إنَّ الظروف السياسية و الاجتماعية و الاخلاقية التي قتل فيها الحسين عليه السلام كانت الي درجة من الارهاب و الاستبداد بحيث لو انَّ نبياً من الانبياء كان قد قتل فيها، لم يكن ليصل نبأ مقتله بسرعة الي كل العالم الاسلامي و لم تكن له انعكاسات واسعة أكثر من انعكاس خبر قتل الحسين عليه السلام، فمأموروا السلطة الجائرة و مرتزقتهم و جواسيسهم و وعاظ سلاطينهم و عملاؤهم كانوا قد ملاؤا

ص: 102

الافاق، يرفعون التقارير بكل صغيرة و كبيرة و جلاوزة الحكومة يُلقون القبض علي من يُظنُّ بانه مخالف لهم و يزجّون به في غياهب السجون و المطامير تحت اشدِّ انواع التعذيب و التنكيل، و في مثل هذه الظروف كيف نتوقع انتشار نبأ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في الآفاق بسرعة اكبر مما كانت عليه؟

لقد عضَّ الصديق و العدو، العالم و الجاهل، الرجل و المرأة، علي أصابعهم دهشة و حيرة من هذه الجسارة علي اللّه و رسوله و هتك حرمته و تعجبوا من تلك القسوة و الوحشية التي مورست بحق ابن بنت رسول اللّه من قبل اتباع بني أُمية في كربلاء.

فبعض الناس، مثل عبد اللّه بن عمر، لم يُصدِّق خبر إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام و جسارة هؤلاء الاشرار بساحة رسول اللّه صلي الله عليه و آله مع انه كان قد سمع بخبر إستشهاد أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه.

و الحق، أنَّ قتل الحسين عليه السلام بتلك الطريقة و ذلك الاسلوب الوحشي و بتلك الخسّة التي تصرّف بها قاتلوه، لازال الي اليوم مثاراً للاستغراب و الدهشة، إذْ كيف يعقل مثل ذلك و لم يمض علي رحيل النبي محمد صلي الله عليه و آله الي الملأ الاعلي اكثر من خمسين سنة فقط إلاّ و قد انتشرت مبادؤه و تعاليمه و رسالته بسرعة عجيبةً الي اسماع كل العالم يومذاك، و إنَّ الفتوحات الإسلامية كانت قد اتّسعت لتقضَّ مضاجع المشركين و عبدة الاوثان و السلاطين و الملوك و الاكاسرة، حتي وصل الإسلام الي آسيا الوسطي و افريقيا، و اعتنق سكان الكثير من بلدان العالم الإسلام و ازدادت يوماً بعد يوم محبّة النبي في القلوب بسيرته الحسنة الشريفة و نبيل اخلاقه و صفاته.

ذلك النبي الذي فتح أمام قومه بل لكل البشرية أبواب الهداية و الرحمة و العزّة و السعادة و الغني و الثروة و خير الدنيا و الآخرة، أنقدهم من الجهالة و

ص: 103

الفجور، و أخرجهم من الظلمات الي النور و من الموت الي الحياة و من الذلة و المهانة الي الشرف و الرفعة، لم يمض علي وفاته اكثر من خمسين سنة فقط، و اجتمع نفرٌ من الاشرار و المنافقين من أُمّتِهِ، و من الذين يشهدون بلسانهم بنبوته خمس مرات باليوم، من الذين اصبح الإسلام و منهج النبي السماوي، راسُمال عزَّتهم و مجدهم و قدرتهم، اجتمعوا لارتكاب اكبر جناية في التاريخ الانساني، فقاموا بقتل ابن ذلك النبيّ و عزيزه و من يمثل الامتداد الطبيعي له في حياة المسلمين و عزَّتهم و افتخارهم، و الذي كان مَظهَراً لكل الكمالات الإنسانية، و الذي كان مجاهداً في سبيل نجاة الامة، قتلوه في جملة من أهل بيته و أطفاله و عدة من اصحابه و هم خيرة أوتاد الارض و قرّاء القرآن، العبّاد و الزّهاد، معلموا الاخلاق الإنسانية الفاضلة العظام، و أدلة المجتمع في طريق السعادة، و نماذج صفاء و نقاء و طهارة ملائكة الرحمن في الارض، بعد أنْ حاصروهم في صحراءَ قاحلة، و منعوهم الماء المباح حتي للحيوانات، ثم قتلوهم بافجع طريقة عرفها التاريخ.

ألا يحق لنا و للجميع ان يستغربوا ذلك؟

اذ لم يكن من المتوقع أن تصل الخيانة و الوحشية و نكران الجميل و الطعن من الخلف الي هذه الدرجة من اللؤم و الخسَّة.

و لم يكن متوقعاً أن تسقط البشرية الي اسفل درجات الانحطاط الاخلاقي.

لقد كان الأمر مذهلاً للعقول و مُحيِّراً للافكار، خاصة و إنَّ الكثير من قتلة الحسين عليه السلام كانوا قد كاتبوه و دَعَوْه و بايعوه، و كانوا علي يقين من علو قدره و مقامه و فضله بل كانوا يعرفون انّه الاكثر فضلاً و إستحقاقاً من سائر البشر أجمع.

كان الأمر مذهلاً و محيّراً، و قد إنكشف اولئك الأشرار، المقنّعين بقناع الدين و الشرف و ظهروا علي حقيقتهم و كيف إنَّهم باعوا دينهم و باعوا شرفهم و باعوا

ص: 104

ضمائرهم بثمن بَخْس، و قد أقرّوا بأنفسهم بجنايتهم و خسَّتهم، فبقيت وصمة عارٍ في جبينهم الي يوم القيامة. لما سمع أبو عثمان عبد الرحمن الهندي، الذي اسلم زمن النبي و اشترك معه في عدة حروب، و صاحب سلمان الفارسي مدة اثني عشرة سنة و كان معروفاً بالعبادة و قراءة القرآن، عندها علم بذلك هجر الكوفة و قال:

لا أسكنُ بَلَداً قُتِلَ فيهِ ابنُ بنت رسول اللّه صلي الله عليه و آله(1)

و روي ابن سعد إنَّ امَّ سلمة - و التي كانت بعد خديجة عليها السلام نموذجاً للمرأة المسلمة لمّا بلغها قتل الحسين عليه السلام قالت متعجبةً:

«أو قد فعلوها؟ ملأ اللّه بيوتهم و قبورهم ناراً ثم بكت حتي غشي عليها.(2) و كان الحسن البصري يقول:

لو كنتُ مع قتلة الحسين عليه السلام أو مع من رضي بقتله، ما دخلتُ الجنّة حياءً من رسول اللّه صلي الله عليه و آله و خوفاً من نظره اليّ بعين الغضب»(3) و حكي الزهري:

«لما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين عليه السلام بكي و قال: لقد قتلوا فتية لو رآهم رسول اللّه صلي الله عليه و آله لأحبّهم و أطعمهم بيده و أجلسهم علي فخذه.»(4) و قال يحيي بن الحكم(5) لمّا اقبل وفدُ أهل الكوفة برأس الحسين و دخلوا مسجد دمشق قال لهم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلاً فأتينام.

ص: 105


1- اسد الغابة ج 3 ص 325.
2- تذكرة الخواص ص 277.
3- نور الابصار ص 106. الاتحاف ص 24. و نقل مثل هذا الكلام عن ابراهيم النخمي.
4- تذكرة الخواص ص 278.
5- و هو اخو مروان بن الحكم، و مروان هو الذي رغَّب الوليد بقتل الحسين عليه السلام.

و اللّه علي اخرهم و هذه الرؤوس و السبايا. فقال:

«حُجِبْتُمْ عن محمد يَوْمَ القيامَة، لَنْ اجامِعَكُمْ علي أمرٍ ابداً»

ثمَّ قام فانصرف.(1) و يحيي هذا هو الذي انشد تلك الابيات المعروفة في مجلس يزيد.

قال ابو مخنف: حدثني ابو جعفر العبسيّ عن ابي عمارة العبسيّ قال: فقال يحيي بن الحكم اخو مروان بن الحكم:

لهامٌ بجنب الطفِّ أدني قرابةً

فقال: فضرب يزيدُ بن معاوية في صدر يحيي بن الحكم و قال: إسكُتْ.(2) و أمثال يحيي بن الحكم كثيرون في حاشية بني اميّة و مقربيهم، و قد هزّتْهُم فاجعة كربلاء و لم يكفّوا السنتهم عن ذم قتلة الحسين عليه السلام و لم يسكتوا علي العار الذي لحق بهم جرّاء ارتكاب بني اميّة و اعوانهم، بل حتي حريم القصر و نساء يزيد، عَلَتْ صيحاتهنَّ و صراخهن و بكائهن علي الحسين عليه السلام كما اشرنا سابقاً، و لا عجب في ذلك، فان من حَمَل ذرّة من الإسلام، و شمَّ قليلاً من رائحة الدين، لا يتحمل السكوت عن مثل هذه الجريمة البشعة بقتل أولاد النبيين و أسر نسائهم، دون أنْ يصبَّ جامَ لعنته علي مقترفيها.ت.

ص: 106


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 658.
2- الطبري ج 4 ص 654-655، طبعة بيروت.

قال عبد اللّه بن الزبير:

«لقد اختار الحسُين الميتة الكريمة علي الحياة الذميمة، فرحم اللّه حسيناً، و أخزي قاتلَ الحُسين، فلعمري لقد كان من خلافهم إيّاه و عصيناهم ما كان في مثله واعظ و ناهٍ عنهم، و لكنه ما هُمَّ نازل، و اذا اراد اللّه أمراً لن يُدفع. أفبعد الحسين عليه السلام نطمئن الي هؤلاء القوم و نصدق قولهم و نقبل لهم عهداً؟ لا، و لا نَراهُم لذلك أهلاً، أما و اللّه لقد قتلو طويلاً بالليل قيامُه، كثيراً في النهار صيامُه، احقَّ بما هم فيه منهم و أولي به في الدين و الفضل، أما و اللّه ما كان يُبدِّل بالقران الغناء، و لا بالبكاء من خشية اللّه الحُداء، و لا بالصيام شرب الحرام، و لا بالمجالس في حَلَق الذكر الركض في تطلاب الصيد يعرض بيزيد فسوف يلقون غَيّا»(1) و قال ابنُ عباس: رأيت النبيّ فيما يري النائم نِصْفَ النهار و هو قائمٌ أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، قلت: بابي و أمّي أنت يا رسول اللّه ما هذا؟ قال: «هذا دَمُ الحُسَين لم أزَلْ التقطهُ» فلما استيقظت وجدتُه قد قُتل في ذلك النهار.(2) و قال الزهري:

لمابلغ الحسن البصري قتل الحسين عليه السلام بكي حتي اختلج صدغاه، ثم قال:

واذلّ امّة قَتل ابنَ بنتِ نبيّها ابنُ دعيِّها، و اللّه ليرِدنَّ رأسُ الحسين الي جسده ثمّ لينتقمنّ له جدُّه و أبوهُ مِن إبنِ مرجانة.(3) و روي أنَّ زوجة كعب بن جابر الذي قَتل برير عليه السلام قالت له: نصرت قتلة الحسين إبنَ فاطمة و قتلت بُرير سيد القراء! و اللّه لا اكملك من راسي كلمة بعد8.

ص: 107


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 668-667.
2- الاصابة ج 1 ص 335-1724. الاستيعاب ج 1 ص 381. الاتحاف ص 12.
3- تذكرة الخواص ص 278.

اليوم.(1) لقد كان قتل الحسين عليه السلام ثقيلاً جداً علي وجدان الناس و نفوسهم الي درجة إنَّ نفس قتلة الحسين الذين حضروا كربلاء من أجل الغنائم و طمعاً بالمناصب و الدراهم، و علي الرغم من تعلقهم الكبير بحفظ مناصبهم في اجهزة الدولة و مؤسسات الحكم الاموي، لم يتمكنوا من إخفاء عظم الجرم الذي ارتكبوه، فكانوا يستشعرون خسّتهم و قبح ما ارتكبوه و من هنا نجد الواحد منهم يحاول جاهداً القاء اللوم علي الاخرين و التبرئ من فداحة الجريمة التي اقترفوها.

يقول الشبراوي:

و لمّا ضعف جسم الإمام الحسين عن النهضة بالجراحات حمد اللّه تعالي و أثني عليه ثم قال: «اللهم اني اشكو اليك ما يُصنع بابن بنت نبيك اللهم احصهم عددا و اقتلهم مددا و لا تبق منهم أحداً». و اقبل شمر في نحو عشرة الي منزل السيد الحسين و حالوا بينه و بين رحله و قدموا عليه و هو يحمل عليهم و قد بقي في ثلاث نفر من أصحابه و مكث طويلا من النهار و لو شاؤوا أنْ يقتلوه لقتلوه و لكنّهم كان يتّقي بعضهم ببعض و يحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء فنادي شمر في الناس و يحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحملوا عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك التميمي بكفه اليسري فصار يقوم و يكبو بقوّة جاش و ثبات جنان و فضل شجاعة و عدم مبالاة بما فيه من الجراح بشهامة قرشية و عزة هاشمية غير مكترث ذلك الاسد الوثاب بنهش تلك الكلاب غير أنَّ الاقدار الازلية و الحكمة الالهية اقتضت اظهار هذا الخطب الجسيم و الصدع العظيم تنبيها علي حقارة هذه0.

ص: 108


1- الكامل لابن اثير ج 3 ص 290.

الدار و أنها إنما خلقت مطبوعة علي الاكدار و ليتأسي بهذه المصيبة المصابون و ينال هذا الإمام مقام الشهادة الذي يتنافس فيه المتنافسون و الا فمن أكرم علي اللّه سبحانه من بضعة حبيبة المجتبي و سبط الرسول المصطفي صلي الله عليه و آله و من المعلوم قدرته سبحانه علي نصره علي أعدائه و كف أسلحتهم عنه و دفع ضررهم و شرهم

«لكنَّهُ يَفعلُ ما يَشاءُ و لا يُسئَلُ عمّا يَفْعَل»(1)(,2)

لقد كان وقع المأساة عظيماً الي درجةٍ لفَّ الحزن بها كل العالم الاسلامي، اذ أنَّ موتَ عالمٍ روحاني مُتحرق الي هداية المجتمع، مجاهدٍ في تربية النفوس و تهذيب الارواح و تكميلها و تعليم الاخلاق الفاضلة، لمقرحٌ للجنون و مسبلٌ للعيون.

و إنَّ فقدان مرجع ديني و زعيم روحي لمحرقٌ للقلوب أساً و حزناً، فكيف بفقدان الحسين عليه السلام؟!

و كلنا شاهدنا كيف إنَّ ارتحال الزعيم الكبير و المجاهد، استاذنا المعظم آية اللّه السيد البروجردي قرس سره، قد هزَّ العالم الإسلامي و عمَّ الحزن و المآتم انحاء البلاد، فكيف بقتل ابن فاطمة الزهراء بنت محمد صلي الله عليه و آله؟!

فللوقوف علي عظم ماساة و مصيبة الحسين عليه السلام و ما تركته من أثر و حزن و انعكاس في اعماق الناس و أنفسهم، لابد من التوسل بالمقايسة بفقد هؤلاء العلماء، و الاستعانة بهذا الميزان مع الاحتفاظ بالفارق الكبير و البون الشاسع بين القضيتين.

فاستشهاد الإمام الحسين عليه السلام و أولاده و إخوته و ابناء اخوته و أبناء أخواته، و كلهم من أبناء بيت النبوة، و جواهر بحر الهداية و التُقي، لا يقاس أبداً3.

ص: 109


1- الاتحاف ص 17-16.

بموت عالم عاش حياته علي بركات مائدة آل محمد، خاصة إنَّ قتل الحسين عليه السلام لم يكن قتلاً مماثلاً لما عليه القتل في الحروب، و أنَّما قُتل الحسين و اطفاله عُطاشي مُنعوا حتي من الماء المباح للحيوانات.

و إستشهاد الحسين عليه السلام كان مقترناً بقتل و ذبح الاطفال الرضَّع بابشع و أخسِّ اساليب القتل!!

و إستشهاد الحسين عليه السلام كان مقترناً بجريان خيل الضلال علي صدره الشريف!!

و إستشهاد الحسين عليه السلام التوأم مع سلب ملابسه و ثيابه و قطع رأسه و اصبعه!!!

و إستشهاد الحسين عليه السلام تبعه الغارة علي أخبية بنات محمد و علي و فاطمة و سلب النساء و البنات حليِّهن و أقراطهن بقسوة و وحشية!!

و إستشهاد الحسين عليه السلام المتعقب باسر مخدرات الوحي و عقائل النبوة، و هتك ستور حرم العصمة و الجلالة.

أجل، لا يمكن قياس ايَّ واحدة من هذه المصائب بالمقياس العادي كفقد عالم كبير أو مرجعٍ، بل تعجز كل المقاييس عن بيان فداحة هذا المصاب الجلل، و تبقي كل الموازين صغيرة محدودة تضيق عن كشف ثقل هذه الحادثة الاليمة بابعادها الكاملة.

فمن الواضح إنَّ انعكاسات مثل هذه المصائب تهيج طوفاناً من الاسي و الحزن يعتصر القلوب و الارواح، و لا يهدأ أبداً بمرور السنين و الدهور و الاعصار.

و من ثمَّ حاول يزيد و اكثر المشتركين بهذه الجريمة جاهدين من أجل إثبات براءتهم في المحاكمة الكبيرة التي اقيمت في محكمة وجدان المسلمين بل عموم الناس

ص: 110

التي حكمت علي كلَّ قتلة الحسين عليه السلام و الذين ظلموا اهل البيت عليهم السلام بالعار و الشنار و الارتداد و الخروج عن ربقة الإسلام بل الإنسانية.

ان يزيد الذي كان منتشياً بنشوة النصر الظاهري، و الذي أمر بنفسه باحضار عقائل النبوة اساري الي دمشق، و الذي لم يلو جهداً في إيذائهم و إذلالهم في مجلسه و ترنَّم بتلك الاشعار الكافرة علناً، و كشف عن اساريرة الخبيثة الجاهلية، يزيدٌ هذا و عندما احسّ بانقلاب السحر علي الساحر و شعر بانعكاس الجريمة الخطيرة و التي ظهرت حتي في غرف حريمه و مخادعه، و عندما صكت مسامعه خطبة العقيلة زينب و خطبة الإمام السجاد عليه السلام في مسجد الشام، و رأي بامِّ عينيه اعتراضات اقرب الناس اليه و اشدهم عناداً لآل محمد، أراد أن يستدرك الموقف، فلجأ الي النعمان بن بشير و اليه الذي عزلهُ عن الكوفة لرفقه بدُعاة الحسين عليه السلام، و أمرهُ ان يسير بآل الحسين الي المدينة و يجهزهم بما يُصلحهم و قيل انه ودّعَ زين العابدين و قال له:

«لَعَنَ اللّه ابن مرجانَة... أما و اللّه لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلةً أبداً إلاّ اعطيتُهُ إيّاها و لدفعتُ الحتفَ عنهُ بكلِّ ما إستطعت و لو بهلاك بعض وُلدي و لكنَّ اللّه قضي ما رأيت يا بُني!! كاتبني من المدينة و انهِ اليَّ كل حاجة تكونُ لك»(1)

و لم يكن بتقديرنا يزيد نادماً أبداً من قتل الإمام الحسين عليه السلام، اذ لم يكن يزيدُ يُعيرُ ايَّ اهتمامٍ للفضائل و القيم و لا يقيم لها وزناً في قبال الملك و السلطة، بل كان مسرور جذلان بالانتقام من رسول اللّه محمد بما فعله يوم بدر و الاحزاب، و لولا انه خاف الفتنة لأمر بقتل البقية الباقية من آل محمد صلي الله عليه و آله و ان كانوا نساءاً و اطفالاً،2.

ص: 111


1- ابو الشهداء - العقّاد ص 172.

كما فعل باهل المدينة في واقعة الحرّة.

و الثابت الذي لا جدال فيه، انَّ يزيداً لم يعاقب احداً من ولاته كبر او صغر علي شي مما اقترفوه في فاجعة كربلاء، بل انّه و كما قلنا سابقا و كما سيتضح لنا اكثر فاكثر لاحقاً، حَبي ابنَ زيادٍ و كرّمه و جازاه و قرَّبهُ، و لكن يزيد قال ما قال لزين العابدين، مكراً و رياءاً و خوفاً من نقمة الناس عليه، و لانه احسّ بخطأ خُطَطِه و فشلها.

لقد ظنَّ يزيد و ابنُ زياد انّه بعد أن يقتل الحسين عليه السلام و يُوطئ الخيل صدره يستطيع أن يخدع الناس باضفاء صبغة شرعية قانونية علي عمله بادّعاء خروج الحسين عليه السلام علي خليفة وقته و شقَّ عصا المسلمين، أو انَّ بامكانه كمِّ الاخواه التي يُحتمل إعتراضها، بالمال و الرُشا، أو إحكام قبضة الحديد و النار علي من لا تنفع معهم تلك الاساليب باجمعها، و انه سيتوسل بقطع الايدي و جذع الانوف و الآذان، كما فعل معاوية ابن ابي سفيان مع شيعة علي عليه السلام حيث تتبعهم تحت كل حجر و مدرٍ، و اعلن البراءة ممَّن تولي ابا تراب، و أمر خطباء جمعته بسبِّ علي عليه السلام علي المنابر، هكذا كان يظن يزيد، و لكن كل الحسابات كانت مغلوطة و لم تؤتِ ثمارها حتي لفترة قصيرة، لان اعتراض الناس بدأ منذ اليوم الاول من قضية كربلاء، و لم تستطع مجزرته بالمدنية من تلافي سلبيات ما اقترفته يداه الاثيمتان في كربلاء و محو آثارها في قلوب المسلمين.

إنَّ مظلومية الحسين عليه السلام قد تجلَّت الي درجة ان قتلته أنفسهم كانوا يشعرون بالخزي و العار بقية حياتهم.

يقول الدكتور العقاد:

و ركب اناساً منهم الفَزَع الدائم بقية حياته لانهم عرفوا الاثمَ فيما اقترفوه

ص: 112

عرفاناً لا تسعهم المغالطة فيه، و من هؤلاء رجل من بني أبان بن دارم كان يقول:

قتلت شابا أمرد مع الحسين عليه السلام بين عينيه أثر السجود. فما نمتُ ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني فيأخذ بتلابيبي حتي ياتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقي احدٌ في الحيَّ الاّ سمع صياحي.

و رأي هذا الرجلَ صاحبٌ له بعد حين و قد تغيَّر وجهه و اسود لونُه فقال له:

«ما كدت اعرفك» و كان يعرفه جميلاٍ شديد البياض (1)8.

ص: 113


1- ابو الشهداء ص 138.

مكانة الحسين عليه السلام عند الصحابة و التابعين

من بالغ حبِّ الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله و عطفه الكبير علي الحسين عليه السلام و من كثرة الاحاديث الوادرة عنه صلوات اللّه عليه في خصوص مناقب و فضائل الحسين عليه السلام و التي اصبحت ورد لسان المسلمين و زينة محافلهم و مجالسهم و اجتماعاتهم، و من اقربية الحسن و الحسين عليها السلام الي رسول اللّه صلي الله عليه و آله، و من كل الخصال الحميدة في الحسين عليه السلام و التي جعلته محبباً للجميع، من كل ذلك، يعلم مدي تجليل و احترام الحسين من قبل عامة المسلمين.

و مما ساعد المسلمين علي الصبر علي فقدان النبي الاكرم، وجود عليِّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و من هنا كان هؤلاء الاربعة و هم تذكار النبي صلي الله عليه و آله، مورد احترام و تبجيل المسلمين و محور تمركز أحاسيسهم و عواطفهم، فكانوا عليهم السلام المرهم الشافي لجروح القلوب المفجوعة بفراق رسول اللّه صلي الله عليه و آله المخفِّف عن احزانهم و آلامهم.

و لكن كما نعلم ان فاطمة عليها السلام لم تمكث بعد رسول اللّه الاّ فترة قصيرة و التحقت بأبيها و ارتاحت من امواج الغم و الحزن و المصائب العاتية.

و بقي عليُّ و الحسنان عليهم السلام مركز تجلّي احاسيس المسلمين و عواطفهم الجيّاشة في رسول اللّه رسول اللّه صلي الله عليه و آله، فمن كان محبّا لمحمد، كان ملؤ قلبه الحبَّ للحسنين، فهما تذكار رسول اللّه و احترامهما إحترام النبي صلي الله عليه و آله، و كان الناس يتذكرون رسول اللّه كلما نظروا الي الحسن و الحسين عليهما السلام.

ص: 114

و لا نبالغ اذا ما قلنا بان هاذين الطفلين كانا اعظم مالكٍ لقلوب رجال و نساء المسلمين بعد النبي صلي الله عليه و آله و أنَّ المدينة كانت تحتفظ بثقلها الروحي الذي كانت عليه ايام رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

فاذا جاء الحسنان الي المسجد، كأن رسول اللّه قد جاء، و اذ حضرا محفلاً ذكّر وجودهما الناس بالنبي محمد، و كانت تظهر علي وجوه الناس ملامح البشر و السرور و الطمأنينة بوجودهما الحاكي عن وجود المصطفي صلي الله عليه و آله.

و من لم يَنَلْ من الناس إفتخار صحبته النبي، كان يُعزّي نفسه بصحبته للحسنين و هما ذكري النبي صلي الله عليه و آله، فكان الجميع يجلسون اليهما و يسمعون منهما و يتبركون ببركتهما و كانت كل القلوب - الاّ قلوب المنافقين شرق و غرب العالم الإسلامي مفعمة بحب وَلَديّ رسول الإنسانية، بل إنَّ بعض أهل النفاق و مبغضي اهل البيت، و لكي يخدعوا العوام و من اجل الحفاظ علي مصالحهم السياسية، كانوا يظهرون الودَّ للحسنين عليهما السلام.

و كان ودُّ المسلمين للحسنين كبيراً الي درجة انَّ البعض ظن بانَّ المسلمين كانوا يحبونهما اكثر من ابيهما علي ابن ابي طالب عليه السلام

و ها هو الاحنف ابن قيس يقف أمام معاوية في المجلس الذي أقامه معاوية لأخذ البيعة لابنه يزيد، و لم يتجرأ أحد علي الاعتراض عليه، فقال له الأحنف:

أنت أعلمنا بليله و نهاره و بسرّه و علانيته فان كنت تعلم انه شرّ لك فلا تزوّده الدنيا و انت صائر الي الآخرة فانه ليس لك من الآخرة الاّ ما طاب و اعلم أنه لا حجة لك عند اللّه إن قدّمت يزيد علي الحسن و الحسين و أنت تعلم من هما و الي ما هما و إنما علينا ان نقول سمعنا و أطعنا ربنا و اليك المصير. (1)9.

ص: 115


1- الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 50-49.

و قد يكون الأمر كذلك، فخواص الصحابة امثال عمّار و قيس بن سعد الانصاري و امثالهم ممن ادرك عهد النبي و عرف ايثار و فداء و مقام علي ابن ابي طالب، كانوا اكثر تعلقاً بعلي عليه السلام، لكنَّ محبة الحسن و الحسين و بملاحظة انهما ريحانتا رسول اللّه و ثمرة فؤاد فاطمة الزهراء، كانت قد ملأت القلوب و النفوس، و كانوا يعتبرونهما منبع الكرامات و البركات، فهما تذكارا رسول اللّه و لا شك في ان كل مسلم يُحبُّ تذكار النبي صلي الله عليه و آله.

يقول الاستاذ العقاد:

و قد عاش الحسين سبعاً و خمسين سنة بالحساب الهجري و له من الاعداء، من يصدقون و من يكذبون، فلم يَعِبْهُ احد منهم بمعابَةٍ و لم يملك احد منهم ان ينكر ما ذاع من فضله، حتي حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحسين له، و اقترحوا عليه أن يكتب اليه بما بصغرهُ في نفسه، فقال: إنهُ كان يجد ما يقوله في عليّ و لكن لا يجد ما يقوله في حسين»(1).

و بعد استهشاد الإمام الحسن عليه السلام ازدادت محبة الحسين عليه السلام في القلوب، و كبُر اشتياق الناس الي رؤيته و زيارته، و لا مبالغة في قول: انَّ كل محبتهم للرسول و علي و فاطمة و الحسن قد اضيفت الي حبِّهم للحسين عليه السلام.

و يمكن تقريب هذا المعني بضرب مثل رجلٍ له خمسِ اولاد مميزين، نوابغ و ابتلي بفراق موت اربعة منهم واحداً بعد الآخر، فمثل هذا الشخص سيتركز حبُّهن.

ص: 116


1- ابو الشهداء ص 34. و كان معاوية يقصد انه كان يملك حيلة في إضلال الناس بالافتراء علي امير المؤمنين بدم عثمان لمشاركته أو سكوته عن قتلته مع ان معاوية كان يعلم ببراءة علي من ذلك، الاّ انه اراد ان يشعل نار الفتنة، مثله مثل طلحة و الزبير و عائشة الذين كانوا المحرك الاصلي لقتل عثمان.

للخامس و يتأكد حفاظاً عليه و اعترازا به و فَرقاً من فراقه، فتراه دائم الانشغال به مهتماً برعايته ساهراً علي خدمته، فاذا ما قُدِّر ان ابتلي بفراقه هو الآخر، كانت مصيبته أعظم المصائب عنده.

يقول العقاد:

و لقد كان الحسين بن علي بهذه المزيَّة (النسب الشريف) أحبَّ انسانٍ الي قلوب السلمين و أجدَر انسانٍ أنْ تنعطف اليه القلوب.(1) و كان مجلس الحسين من أفضل مجالس العلم و التفسر في مسجد النبي صلي الله عليه و آله و كان الكل يفتخرون بالحضور عنده، و كما اعترف معاوية بذلك.

و قد نقل ابن كثير أنّه لما ورد الحسين عليه السلام و ابن الزبير الي مكة و اقاما فيها، لازم الناس الحسين بن علي و لم يفارقوه و كانوا يَردون عليه افواجاً افواجاً و يجلسون حوله و يستمعون اليه.(2) و قد نقل الواقدي و الذهبي في تاريخ الإسلام في اخبار مقتل الحسين عليه السلام، حديثا عن ابي عون - و رُوي نظيره في تاريخ النبي الاعظم صلي الله عليه و آله - يدل علي ايمان الناس و اعتقادهم الكبير بمقام الإمام الحسين الروحي و انه مظهر كمالات جدِّه رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

و الحديث هو: خرج الحسين عليه السلام من المدينة فمرَّ بابن مطيع و هو يحفر بئره، فقال أين فداك أبي و أمي؟ متعنا بنفسك و لا تَسِرْ، فأبي حسين عليه السلام فقال إن بئري هذه رشحتها، و هذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو، فلو دعوت لنا فيها بالبركة، قال هات من مائها، فأتي به في الدلو فشرب منه ثم مضمض ثم رده في البئر. (3)3.

ص: 117


1- ابو الشهداء ص 52.
2- سمو المعني في سمو الذات ص 139.
3- سمو المعني في سمو الذات ص 140. تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 323.

يقول الاستاذ العلايلي: و ممّا لا اختلاف فيه بين الرواة أن الحسين عليه السلام كان محببا الي كل نفس، مصطفيً بين كل قبيل. و زادت به جاذبيته إلي الناس، أنهم غدوا يقدسونه تقديسا و ينظرون إليه بالنظر الذي هو فوق اعتبارات الناس.(1) و من جملة ملامح خضوع الناس لشخصية الإمام الحسين عليه السلام هو تواضع عبد اللّه بن عباس له، فابن عباس من بني هاشم و هو ابن عمَّ النبي و من رجالات الإسلام و هو اكبر سنّا من الحسين عليه السلام و مشهور بالعلم و المعرفة بين الناس و من الرواة المعروفين و حملة حديث النبي صلي الله عليه و آله و كان ابو بكر و عمر يقيمان له وزناً ابّان خلافتهما، و كان عمر يشاوره في كثير من الامور، و في زمن خلافة امير المؤمنين عليه السلام كان من كبار صحابة علي و تلامذته، و مع كل ذلك، و كما يقول ابن سعد في الطبقات: إنَّ ابن عباس كان يُمسك بزمام راحلة الحسن و الحسين عليهما السلام ليركبا و كان يقول:

«هُما إبْنا رَسولِ اللهِ»(2)

و كان عمر ابن الخطاب يلتزم باظهار الاحترام و تعظيم مقام الحسين عليه السلام و كان يقول له:

«إنَّما أنْبَتَ في ما تَري في رؤوسنا اللّهُ ثُمَّ أنتُم»(3)

اي إنَّ كلَّ ما لدينا من عزَّة و فخر و دين و دنيا هو ببركة اللّه و بركتكُم.

و كان عبد اللّه بن عُمر جالساً في ظل الكعبة فقدم ابو عبد اللّه الحسين عليه السلام فقال ابن عمر:3.

ص: 118


1- سمو المعني، ص 139.
2- تذكرة الخواص ص 245.
3- الاصابة ج 1 ص 333-1724. اسعاف الراغبين ص 183.

«هذا أحبُّ أهلِ الأرض إلي أهلِ السماءِ اليوم»(1)

و كان أبوبكر يحاول التشبه برسول اللّه صلي الله عليه و آله فكان يُركب الحسن و الحسين علي كتفيه.(2) و كان ابو هريرة يطلب من الحسين عليه السلام ان يسمح له بتقبيل سُرّته.(3) و كان الحسن البصري يقول: الحسين سيّد زاهدٌ صالحٌ يحب الخير للمسلمين حَسن الخُلق»(4) و خطب عبداللّه بن الزبير في المسجد الحرام بعد مقتل الحسين عليه السلام فقال:

لقد اختار الحسُين الميتة الكريمة علي الحياة الذميمة، فرحم اللّه حسيناً، و اخزي قاتلَ الحُسين، فلعمري لقد كان من خلافهم إيّاه و عصيناهم ما كان في مثله واعظ و ناهٍ عنهم، و لكنه ما هُمَّ نازل، و اذا اراد اللّه أمراً لن يُدفع. أفبعد الحسين عليه السلام نطمئن الي هؤلاء القوم و نصدق قولهم و نقبل لهم عهداً؟ لا، و لا نَراهُم لذلك أهلاً، أما و اللّه لقد قتلو طويلاً بالليل قيامُه، كثيراً في النهار صيامُه، احقَّ بما هم فيه منهم و أولي به في الدين و الفضل، أما و اللّه ما كان يُبدِّل بالقران الغناء، و لا بالبكاء من خشية اللّه الحُداء، و لا بالصيام شرب الحرام، و لا بالمجالس في حَلَق الذكر الركض في تطلاب الصيد يعرض بيزيد «قَتَلُوهُ فَسَوفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ألا لَعنَة اللهِ علي الظالمين». (5)8.

ص: 119


1- الاصابة ج 1 ص 333-1724.
2- مقتل الخوارزمي، ص 93 ف 6.
3- مقتل الخوارزمي، ص 93 ف 7.
4- مقتل الخوارزمي ص 153.
5- تاريخ الطبري ج 4 ص 668-667. تذكرة الخواص ص 288.

اخلاقية الإمام الحسين عليه السلام

لا شكَّ في أنَّ قيمة المرء، في علمه و كماله و فضائله و كريم خلقه. فافراد البشر مهما تفاوتت أوصافهم الجسمية و العرقية و تمايزوا ببلدانهم و ملابسهم و مالهم و مقامهم و سائر العوارض الاخري الاّ ان كلَّ ذلك لا يفضل بعضهم علي بعض، و الأمر الوحيد الذي يمايزهم هو الكمالات الروحية و الاخلاق الحميدة و المآثر الجميلة. و بعبارة، ان فضيلة الإنسان ليست في الاستمتاع باللذائذ الحيوانية و الاتصاف بما يشترك به مع سائر الحيوانات و البهائم، و انما كمال الإنسان بالاتصاف بما يميزه عن الحيوانات، و كلما تعمّق اتصافه بهذه الفوارق، ازداد تمايزاً و ابتعاداً عن عالم البهائم و اقترب الي الإنسانية و تجلّت فيه صفات البشر.

فكثيرٌ من الناس صورهم صور البشر، لكنهم لازالوا يراوحون في الحيوانية، و البعض يطوي الفاصلة بين الحيوانية المحضة و الإنسانية الكاملة و يتوقف في نقطة في منتصف الطريق، و بعضهم الآخر يطوي تلك الفاصلة كاملة فيصل الي حدِّ الكمال التام.

و العلوم و المعارف و الاخلاقيات الحميدة، هي كواشف عن مقدار المسافة التي اجتازها هذا الفرد او ذاك في هذا الطريق، و تجلٍّ للمرحلة التي توقف عندها أو وصلها.

فالانسان بفطرته يمتاز بحب الاخلاق الحميدة، و يُحبُّ ذوي المكارم و الفضل و يتأثر بالمشاهد الاخلاقية و صور القيم الرائعة.

ص: 120

و علي مرّ العصور، كانت العدالة و طهارة النفس، الامانة، الصدق، الاستقامة، الثبات، الشجاعة، الصراحة، الصبر، الحلم الوفاء بالعهد، التواضع، الرحمة، الاحسان، الايثار، الفداء، و الرغبة في التحرر من الظلم، و خدمة البشرية من الامور المحبّبة و الممدوحة عند الإنسان و مهما تغيرت الظروف الحياتية و تبدل شكل الحياة و تنوعت ظواهر العيش، الاّ ان احساس البشر و تفاعلهم مع هذه الاخلاقيات، بقي ثابتاً صامداً لا يعتريه التغيير، لانه امرٌ فطري و في المقابل، تنفر الطبائع البشرية عن رذائل الصفات كالحسد، التكبر، النفاق، الكذب، الظلم، الخيانة، الحقد، الغرور و الخيلاء.

و علمُ الاخلاق و التربية أُنشأ علي اساس هذا الافراز الفطري و الادراك الباطني.

و مطالعة التحقيقات العلمية لعلماء الاخلاق و معرفة النفس، ضرورية للسائرين في طريق تهذيب النفوس و تربيتها للتعرف علي فوائد و مضار الاخلاق الحميدة و اضدادها.

و قد عني الإسلام و هو آخر الاديان السماوية الالهية، بهذه الجهة فكانت برامجه التربوية و الاخلاقية، اكمل و اتمِّ البرامج المعروفة منذ بدء الخليقة و الي يوم الناس هذا. فمضافاً الي تضمُّن قسم كبير من الاحكام التكليفية و الوضعية، للمفاهيم الاخلاقية التي تساهم في تربية و تهذيب النفوس، كما في باب العبادات و المعاملات و التكاليف اليومية، كذلك وضع القرآن و المنهج الإسلامي برنامجاً تربوياً مستقلا لاصلاح الارواح و تزكيتها، لايصالها الي الكمال.

و قد كتب العلماء و الفلاسفة المسلمون، اقتباساً من التعاليم الاخلاقية للاسلام، أفضل الكتب في علم الاخلاق، و القاء نظرة خاطفة علي أدبيات العرب و

ص: 121

العجم، يكشف لنا بوضوح صحة هذه الدعوي.

و كلمات نبي الإسلام العظيم الجامعة، و خطب امير المؤمنين و كلماته القصار، و ما نُقل عن ائمة اهل البيت عليهم السلام و محامد اخلاقهم و كرائم صفاتهم و جميل سيرتهم، كلها أسناد فخر للمسلمين و ادلة حيّة علي كمال المنهج التربوي للاسلام.

كما إنَّ ميزان اهتمام الدين الاسلامي الحنيف بنشر الاخلاق و المكارم يتجلي اكثر فاكثر من خلال التشويق و الترغيب بالثواب و الأجر الجزيل لكل واحدة من تلك الصفات الكريمة الانفة الذكر.

و في سورة آل عمران، الآية 164، و سورة الجمعة الآية 2، لخصت برامج عمل النبي صلي الله عليه و آله التربوية في ثلاث امور هي:

1 - تلاوة الايات القرآنية.

2 - تزكية و تربية النفوس.

3 - تعليم الكتاب و الحكمة.

و قول النبي صلي الله عليه و آله معروف و مشهور:

«إنَّما بُعثتُ لاُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق» (1)ه.

ص: 122


1- و مما يؤسف له، ان المسلمين اليوم يتخبطون في المفاسد الاخلاقية و الانحرافات الروحية مع امتلاكهم لهذه الثروة العظيمة الغنية من المعارف الاخلاقية و البرامج التربوية السماوية، فتراهم يُقلدون الغرب المسيحي الكافر، الفاقد لكل القيم المعنوية، و يتجرَّدون عن كرائم الاداب و الخلق الايماني الرفيع الذي كان فخراً للامم الإسلامية، و يتقمصون ثوب الابتذال و الميوعة والتبرج و التحلل و الاختلاط الجنسي و الشذوذ و السكر و المجون و القمار و اللهو، و يعملون علي ترويج هذه الصفات و الاخلاقيات الرذيلة في مجلاتهم و صحفهم و مطبوعاتهم، و ينشرون الصور الخليعة و يخرجون الافلام الماجنة المفسدة التي تأباها النفس الكريمة بل و حتي بعض الحيوانات و البهائم التي تتستر في مثل تلك الحالات عن الناظرين. مع ان استقلال و كرامة و عزّة كلِّ امّة من الامم انما هو في الاحتفاظ بعاداتها و تقاليدها و اخلاقياتها و آدابها، فاذا ماذابت عاداتها و تقاليدها و مكارم اخلاقها في الثقافات الاخري، لم يَعُدْ لهذه الامة ايَّ مقدار و لا رصيد و صارت امّة هشَّة رخيصة تتقاذفها امواج الثقافات الاخري و تلعب بها رياح المناهج التربوية الفاسدة، فتذوب هويتُها و شخصيتُها و عنوانها في العناوين الاخري، فلم يَعُد لها وجود مستقل كسائر الامم الاخري. و كما يقول العلماء و المفكرون و المختصون في علم الاجتماع، فان ضعف الامة الإسلامية اليوم و خمولها و تطفلها علي المجتمعات الاخري ليس ناشئاً عن ضعف و ندرة البرامج التربوية الإسلامية، اذ لا توجد تعاليم و مناهج اكثر دقة و ثباتاً و واقعية من المناهج التربوية للاسلام، و انما السبب كل السبب هو عدم الالتزام بتلك المناهج و التمرد عليها و عدم الامتثال للاحكام الشرعية الإسلامية، و الجهل بالمعارف و البرامج التربوية، و الكسل في طلب العلوم حتي الاكاديمية و الطبيعية منها، و عدم الجدِّ في كسب الخبرات التجريبية و الصناعية. فعلي المسلمين ان يشمرّوا عن سواعدهم لتطوير صناعاتهم و الاستفادة من العلوم الحديثة و النهضة التكنلوجية للوصول الي الاكتفاء الذاتي و التخلص من سيطرة و هيمنة الاجانب، و الاستفادة من الاموال الطائلة التي تصرف في تقليد الاجانب و عاداتهم القبيحة و صرف تلك الاموال في المشاريع الانمائية و الاعمار و الصناعة و التطور، لكي يخطو العالم الإسلامي خطوات سريعة في عالم الرقيّ و التطور من جهة، و حفظ هويته الإسلامية و المحافظة علي شبابه من الانحراف الاخلاقي و آفات المدنية الكاذبة من جهة اخري. و ليت هؤلاء المتأثرين بالثقافة الغربية البرّاقة الكاذبة، رجعوا الي مطالعة و قراءة الكتب التربوية الإسلامية، بل ليتهم قرأوا كتب علماء الغرب أنفسهم بدقة و استفادوا من المفيد منها، لا أن يُقلّدوا الغرب تقليداً أعميً عجولاً، و ان لا ينخدعوا باساليب الغربيين البراقة الخدّاعة التي لا تجرَّ الإنسان الاّ الي الفساد و الانحراف و الهلاك. و اليوم تئنُّ الدنيا من النكبات الاخلاقية و المفاسد الغربية، و يحترق العالم في لهيب الاضطراب الفكري و الروحي و يكتوي مليارات البشر بحرارة الرغبة الطائشة لطغيان و حرص و طمع اصحاب الاسلحة المدمّرة، و في كل يوم نسمع جديداً عن برامجهم الانحرافية و سوء اخلاقهم و ظلمهم و طغيانهم و خلاعتهم مما لا يليق ذكره. نعم، علي المسلمين ان يكون انموذجاً يُحتذي به في الاخلاق و الفضائل، و ان يحافظوا علي وحدتهم و عزتهم و كرامتهم بالتمسك بتوحيد الكلمة و كلمة التوحيد، و ان يبرهنوا للعالم انهم أقوي الامم و أشرفها، لا ان يتشبهوا بالمجتمعات المسيحية الخاوية الهزيلة التي كانت عالةً علي المجتمع الإسلامي في مناهجه و قيمه و علومه.

ص: 123

لقد كان النبي الاكرم صلي الله عليه و آله المثل الأعلي لكل الاخلاق الفاضلة و الصفات الحميدة و الكمالات الروحية و النفسية، و باعتراف العدو و الصديق.

فاخلاق النبي صلي الله عليه و آله و سيرته الحسنة و معاشرته الحميدة، مذكورة في كتبٍ أُلّفت في هذا المجال بالخصوص، مضافاً الي ما ورد في كتب السيرة و التاريخ، و مطالعة مثل هذه المصنفات لكبار المتخصصين في التربية، كافٍ لتوجيه الإنسان و هدايته لمكارم الاخلاق.

كما إنَّ اهل بيت النبي، الائمة الاطهار عليهم السلام و هم الامتداد الطبيعي للرسول الاكرم، يمثّلون النموذج الجميل للكمال، و باتفاق الموافق و المخالف، كانوا نوابغ عصورهم و المصاديق الاكمل للاخلاق النبوية الإسلامية الحسنة.

و لقد كان عليُّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام ممثلوا التكامل و الرقي الإنساني، و كانت اشعة نور اخلاق رسول اللّه بادية الانتشار في وجوداتهم الكريمة.

ص: 124

مكارم اخلاق سيد الشهداء عليه السلام

اشارة

لقد كان لتضحية الحسين عليه السلام و استقامته و طلبه الحقَ و توكله و ارادته القوية و تخلّيه عن الدنيا، من أبرز تجليات شخصيته المقدسة في عاشوراء و التي جذبت الانظار الي درجة أنها غطّت علي سائر صفاته و عظمة سجاياه الاخري. و كأن العقل البشري و الفكر الاجتماعي اذا وجد الشخص مبالغاً في الفداء و الايثار في طريق الحق، اعتبره مالكاً لكل السجايا الحميدة الاخري، و كلما ارتقي في درجات التضحية و الفداء، و اخلص في الصمود و الايثار، ازدادت عظمته و شموخه في القلوب.

إنَّ فداء الحسين المنقطع النظير، رفعه و رفعه الي درجة امكان قياس كل صفاته الحميدة الاخري بمقياس هذه الصفة، و وزنها بهذا الميزان، و إنَّ ذلك جعله السّباق لكل الكرام و المتفوق علي كل الأفاضل.

و هذه هي الحقيقة، فان صدور مثل تلك التضحيات و الاستقامة و الفداء و الشجاعة و الثبات و المناعة، لا يتيسر الاّ لمن تحققت فيه كلّ الكمالات الاخري باتمِّ صورها و أروعها.

و تحقق ذلك الصمود و الفداء، محالٌ إلاّ بوفرة الايمان و اليقين و المعرفة و البصيرة و التوكل و الاعتماد علي اللّه و الزهد و الصبر باعلي مستوياتها، و بغير ذلك لا تتجلي تلك الآيات العظيمة المحكمة في الصبر و الاستقامة العاشوراءئية.

يقول العلايلي:

ص: 125

«و نحن فيما اتَّسق لدينا من الأخبار عن الحسين عليه السلام و صفته، نراه كيف كان يتحزَّم علي نفسه بكل مظاهر القدوة الصالحة، بحيث لا يَعدُو أن يكون مثالاً نبوياً في حدوده و من شتي أقطاره.

و لقد انصرف بكل نفسه عن الدنيا و ما إليها، حتي قال زين العابدين عليه السلام لمن قال له: ما كان أقل ولد أبيك! قال عليه السلام: العجب كيف ولدت له، كان لا يفتر عن الصلاة في ليل أو نهار فمتي كان يتفرغ للنساء؟

فهذا المَتحنَّث المُتأَلِّه في تأمله و إطراقه، و تحركه و سكونه. هو الذي سنراه مجاهداً مكافحاً و مغامراً مستَميتاً حتي كأنه الأسد لا تُنال تلابيبه. فلم يكن يشغله أمر عن أمر، و لا حاجة للّه عن حاجة للناس.(1) و يضيف قائلاً:

«أرأيتم إلي الرجل يقوم علي اسم اللّه و يمضي علي اسم اللّه و يموت علي اسم اللّه، كيف تسمو به الغاية و يعلو به الهدف. هو هدفٌ و لكن ليس من شهوات النفوس، و غايةٌ و لكن ليس كمثلها الغايات، غاية تحقِر كل ما في الحياة من أشيائها، و لا تري سِوَي الملكوت الأعلي هدفاً و سوي السماء مستقراً، لأنه مَهدُها فلا بدع أن حنّشت إليه و طلبت اللَّحاق به فللناس أوطانهم، و للناس حَنينهُم، و لمثل هذه الشخصيَّة وطنُها و لها حنينها، فهي تشُقُّ طريقها بين الجلامد و الصُّخور، راضيةً مرضيةً و ماضيةً مطمئنَةً، لانها تناجي الأمنيَّة السامية و تَنشُد المثل الأعلي، و هل وراء اللّه مَطلب؟ و هل إلي غير اللّه مصير؟ و هل بعد اللّه حقيقة؟

هذه مبادئُ الرجل المصطفي، و الرجل المختار. فلا عَجَب أن راح يطلبها في2.

ص: 126


1- سموّ المعني ص 102.

كل شي، و لو حال الموت دونها فهو يَستعذ به، لأنه الطَّفرة التي تصل به الي أعذب الأماني، و هل مع الأماني العذاب، شعور بمريرات العذاب.

و قديماً ارتفع صوت المسلم في إقدام و مضاء، بالكلمة الرهيبة عند الناس و الأُغنية عنده.

و لَستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلِماًعلي ايِّ جِنب كان في اللّه مَصرعي

الشخصية الكبيرة من الناس، و لكن بما فيها من المعني الإلهي و السر القدسي و القبس العلوي، تنير السبيل للانسانية في حالة الظلم و في الليل الأليل الادكن «اللّه نور السمواتِ و الأرضِ مَثَلُ نورِهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المِصباحُ في زجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كأنَّها كوكبٌ درِّيٌ». و كذلك تكون في حياتها دليلا أميناً، و بعد مماتها أُمثُولةً رائعةً فيها من كل عناصر الخلود و السُّمُوّ.

و تاريخ كل أُمة إنما هو في الحقيقة تاريخ عظمائها، فأُمة لا عظيم فيها لا تاريخ فيها أو ليست جديرةً بالتاريخ.

و نحن اذا قدمنا حسيناً بين العظماء، فإنا لا نقدم فيه عظيما فحسب، و انما نقدم فيه عظيماً دونه كلٌ عظيم، و شخصية أسمي من كل شخصية، و رجلا فوق الرجال مجتمعين.

و لا بِدع فكلُّ مَن عرفهم التاريخ و عرفناهم قَضَوا دون غاية من أمجاد الأرض، فكان مَن قضي دون مجد من أمجاد السماء أسمي.

و الآن سأخوض في بيان نواحي العظمة التي امتاز بها الحسين عليه السلام في كل ميدان، حتي يبدو أمة بين العظماء. فقد عرفنا العظيم في ثوب الشجاع، و عرفنا العظيم في ثوب البطل، و عرفنا العظيم في ثوب الضحيَّة الشَّهيد، و عرفنا العظيم في ثوب الزاهد، و عرفنا العظيم في ثوب العالم، و أما العظمةُ في كل ثوب، و العظمة في

ص: 127

كل مَظهر، حتي كأنها تَآزَحَت من أقطارها فكانت شخصاً ماثلاً للناس يقرَأُونه و يعتبرون به. فهذا ما نراه في الحسين عليه السلام وَحدَه، و هذا ما نَلمَسُه فيه فقط، حيث هو من نفسه و حيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مِثله و لكن لا يجد له أباً كمثل نفسه.

فرجل كيفما سَمَوت به من أيِّ جهاته انتهي بك الي عظيم، فهو مُلتَقي عظمات و مجمع أفذاذ. فإن من يَنبثِق من عظمة النبوة «محمد صلي الله عليه و آله»، و عظمة الرُّجولة «علي عليه السلام» و عظمة الفضيلة «فاطمة عليها السلام» يكون أُمثولة عظمة الانسان، و آية الآيات البينات.

فلم تكن ذكراه ذكري رجل بل ذِكري الإنسانيّة الخالدة، و لم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذَّة.

فالحسين عليه السلام رجل و لكن فيه آيةُ الرجال، و عظيم و لكن فيه حقيقة العظمة.

فَرَعياً لذكراه، و رَعياً للعِظَة به.

و من ثَمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه علي الدوام، كمصدر إلهامي انبثق وهاجاً قوياً، و امتد بأنواره أجيالاً و أجيالا، و لا يزال يسطع كذلك حتي ينتظم اللانهايات و ينفذ إلي ماوراء الأرض و السموات، و هل لنور اللّه حد يقف عنده أو مَعلَم ينتهي اليه؟ «و يَأبي اللهُ إلاّ أن يُتِمَّ نورَهُ»(1)

و يقول العقّاد:

«و قد لبث بنو أميّة بعد مصرعه (الحسين عليه السلام) ستّين سنة يسبّونه و يسبّون أباه علي المنابر، و لم يجسر أحدٌ منهم قط علي المساس بورعه و تقواه و رعايته لاحكام الدين في اصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً أو علانية، و حاولوا ان يعيبوه4.

ص: 128


1- سموّ المعني ص 106-104.

بشي غير خروجه علي دولتهم فقصرت ألسنتهم و ألسنة الصنائع و الأجراء دون ذلك.»(1) و قال أيضاً: «فهي (كربلاء) اليوم حرمٌ يزوره المسلمون للعبرة و الذكري، و يزوره غير المسلمين للنظر و المشاهدة، و لكنها لو اعطيت حقّها من التنويه و التخليد، لحقَّ لها ان تصبح مزاراً لكلِّ ادمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة و حظاً من الفضيلة، لاننا لا نذكر بقعة من بقاع الارض يقترن إسمها بجملة من الفضائل و المناقب اسمي و ألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين عليه السلام فيها.»

فكلُّ صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسانُ انسانٌ و بغيرها لا يحسب غير ضربٍ من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بايام الحسين عليه السلام في تلك البقعة الجرداء.

و ليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل و لا ألزم له من الايمان و الفداء و الايثار و يقظة الضمير و تعظيم الحق و رعاية الواجب و الجدِّ في المحنة و الانفة من الضيم و الشجاعة في وجه الموت المحتوم - و هي و مثيلات لها من طرازها هي التي تجلَّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين عليه السلام.

ثم يقول بعد ذلك: «و حسبك من تقويم الاخلاق في تلك النفوس، انه ما من أحدٍ قتل في كربلاء الاّ كان في وسعه ان يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة و لكنهم جميعا آثروا الموت عطاشاً جياعاً مناضلين علي ان يقولوا تلك الكلمة و أو يخطوا تلك الخطوة لانّهم آثروا جمال الاخلاق علي متاع الحياة.»ي.

ص: 129


1- ابو الشهداء ص 115، طبع الشريف الرضي.

و بعد ان يُفصل العقاد بذكر جملة من فضائل الحسين و اصحابه و مناقبهم في كربلاء، يقول:

«و قد تناهت هذه المناقب الي مداها الاعلي في نفس قائدهم الكريم و يُخيل الي الناطر في أعماله بكربلاء ان خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها، ايّها يظفر بفخار اليوم، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، ام في صبره أصبر، ام في كرمه اكرم، ام في ايمانه و أنَفَتِهِ و غيرته علي الحق بالغاً من تلك المناقب المثلي أقصي مداه.(1) و مع اننا نقرُّ بعجزنا عن وصف عظام سجايا الحسين عليه السلام و من حقنا ان نعجز عن بيان كل تلك المناقب، و لكننا مع ذلك سنذكر بعض جوانب كمالات الحسين الاخلاقية و العلمية بنحو الاختصار، ليُعلم ان وجوده عليه السلام هو التجلّي الاتمّ للعظمة و الاستقامة و الصبر و الفداء و الاباء في طريق تعظيم الحق، و انه عليه السلام محور كل كرائم المزايا و الصفات.

1 - علمُ الإمام الحسين عليه السلام

إنَّ ما نعرفه و يشهد له تاريخ و سيرة النبي الاعظم و الائمة الاطهار عليهم السلام، هو أنَّ علمهم و معارفهم هي مواهب الهية و لم يتتلمذوا علي يد احد و لم يدخلوا في ايِّ مكتبة و مدرسة.

فالنبي الاكرم كان يتلقي العلم من المصدر الالهي و صار مصدراً لكل هذه المعارف و العلوم و الشرائع المحكمة.

ص: 130


1- ابو الشهداء ص 131-130 و ص 134-133. طبعة الشريف الرضي.

لقد فتح النبي صلي الله عليه و آله مدرسة بقيت لاربعة عشر قرناً يفتخر الفلاسفة و العلماء الكبار بتلقي دروسها، و ينتقون من معارفها و ينهلون من فيوضاتها و يجرعون من كاسات علومها الحقّة.

و كذلك معارف و علوم علي عليه السلام و سائر الائمة، فهي افاضات ربّانية و هبات الهية و علوم محمّدية استقوها من النبي المصطفي صلي الله عليه و آله.

فايُّ مدرسة في تلك الفترات المظلمة يمكنها ان تخرِّج مثل هؤلاء الافذاذ، ليكونوا اساتذة العالمين في كل فنون العلم حتي في زمن صباهم و طفولتهم، و يكونوا مراجعَ لكبار المراجع في المسائل العلمية الدقيقة، و حلاّلي عويصات المشكلات الفلسفية و الفقهية عند كبار العلماء و الفلاسفة؟

انها المدرسة السماوية فقط، التي من شأنها تخريج هؤلاء الاساتذة.

إنَّ الاحاديث المعتبرة تدلّ علي انَّ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله قد علَّم علياً و ابناءه عليهم السلام علوماً خاصة، و انه أملي علي عليٍّ عليه السلام كتاباً كتبه عليٌ بيمينه، كان و لازال محفوظا في هذا البيت، كمرجع و مستندٍ يرجعون اليه، و في الحقيقة انَّ برامج و تعليمات الائمة عليهم السلام و سيرتهم و اسلوبهم هو اكمال و تتميم اهداف النبي في تربية المجتمع البشري و هدايته.

و من مثل حديث الثقلين المتواتر و المشهور، و الذي ارجع النبيُّ فيه الامّة الي هؤلاء الاطهار، تتجلي لنا صلاحيتهم العلمية التامّة و تظهر و تتضح لياقتهم و اهليتهم لهذا المقام.

اضف الي ذلك الروايات الكثيرة الواردة بطرق اهل السِنَّة و الدّالة علي تميُّز علي عليه السلام من بين سائر اصحاب النبي صلي الله عليه و آله في اهتمام الرسول به، و تلقّيه المعارف و العلوم و الفيوضات النبوية، فحقَّ له ان يكون المرجع العام للمسلمين في المسائل

ص: 131

العلمية و العلوم الشرعية، و كان الكلَّ منتهياً اليه في معرفته.

لقد كان عليُّ عليه السلام أعلم الصحابة، و كان علم الصحابة مجتمعين لا يساوي شيئاً في قبال علم علي عليه السلام، و كان الكل محتاجاً لعليِّ و كان عليُّ مستغنٍ عن الجميع.

فعليُّ عليه السلام، و مضافاً الي استعداداته الخاصة و مواهبه الالهية التي لم يُشاركه فيها احدٌ من الصحابة، حتي صار حلاّل المشكلات في عهود الخلفاء الثلاثة، و الممتاز في فهم و درك الاحكام و المعارف و العلوم الغامضة و المسائل المشكلة و حقائق الوحي و كليّات القواعد الدينية، كان اختصاص النبي و تفرّده به، له الاثر الكبير في تربية عليّ و صياغته علمياً و روحياً، فطالما كان علي ينهل العلم من محمد صلي الله عليه و آله، و قد شرح اللّه صدره الي درجة انه تمكن من فتح الف باب من العلم من باب واحد تعلّمه من رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

لقد كان تتلمُذُ عليٍّ عليه السلام علي يد النبي صلي الله عليه و آله تتلمذاً خاصاً لا نظير له، فصار علي نسخة مطابقة للأصل.

و لذا، فصورة النظام الإسلامي، كلها واضحة و متجلّيةٌ في سلوك عليٍّ و سيرته و متجسمةٌ في فعاله و اقواله.

و من بعد عليِّ عليه السلام اختص ولداه الحسن والحسين عليهما السلام بهذا المنصب الالهي و القيادة العلمية و الدينية، فكانا الملاذ و الملجأ للناس في المسائل الإسلامية و علوم التفسير و الاحكام الشرعية، فكان خطابهم هو الفيصل المقبول عند الناس، و كانت سيرتهم و سلوكهم هما الميزان و النموذج الذي يُحتذي به.

فاذا ما أمعنت النظر في حالات الإمام الحسين عليه السلام و جدته مقتفياً لأثر بصيرة نافذةٍ و منهجٍ غيبي، فعلمه و احتجاجاته مع خصوم اهل البيت، خاصة معاوية و مروان، و الكتب التي تبادلها مع معاوية، و خطبه التي القاها بمناسبات مختلفة، و

ص: 132

دعاؤه يوم عرفة و ادعيته الاخري المنقولة في كتب المسلمين عامة، خير دليلٍ علي هذا المدّعي.

و ما أثر عنه في توديعه للصحابي الجليل ابي ذر - الذي كان من أجلّة صحابة النبي و من السابقين، حيث ذكر ابن الاثير و في أسد الغابة إنَّ اباذر كان خامسَ من إعتَنق الإسلام و عدَّ الكثير من مناقبه عندما نفاه عثمان الي الربذة بعد ان طرده معاوية من الشام، و كان الحسين عليه السلام في جملة من شيَّعه و ودعه و هم الإمام علي و الحسن و عمّار و عقيل، قال الحسين عليه السلام لابي ذر:

«يا عمّاهُ إنَّ اللّهَ قادرٌ عَلي أنْ يُغَيِّر ما قَدْ تَري، و اللّه كلَّ يَومٍ في شأنٍ، و قد مَنَعَكَ القومُ دُنْياهُمْ وَ مَنَعْتَهُم دينَك، و ما أغناك عمّا منعوكَ، و أحْوَجَهُم الي ما مَنَعَتَهُمْ، فاسْأَلْ اللّهَ الصَبْرَ و النّصْرَ و استعِذ بِهِ مِنَ الجَشَع و الجَزعِ فانَّ الصَّبرَ مِن الدِّين و الكَرَمِ، و انَّ الجَشَعَ لا يُقدِّمُ رزقاً و لا يُؤَخّرُ أجَلاً»(1)

و هذه الكلمات قالها الإمام الحسين عليه السلام مرتجلاً و كان يومئذٍ في نحو الثلاثين من عمره، يخاطب بها رجلاً مسنّا فاضلاً جليلاً من الصحابة، فكانما أودع هذه الكلمات شعارَ حياته كاملةً منذ ادرك الدنيا الي ان فارقها في مصرعه بكربلاء، و هي تعبِّر عن قدس مقام و روحانية الحسين العالية و علمه و معرفته و غناه و كمال بصيرته.

و روي ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج 4 ص 323 عن نافع بن الازرق رئيس فرقة الازارقة الخوارج حينما قال نافع للامام الحسين عليه السلام:

صِفْ لي ربّكَ الذي تعبُدْ!5.

ص: 133


1- ابو الشهداء ص 55.

فقال الحسين عليه السلام:

«يا نافِعْ مَنْ وَضَع دينَهُ عَلي القِياس لم يَزَلْ الدّهَرَ في الالتباس مائلاً ناكباً عَنِ المناهج، ظاعناً بالاعْوجاج، ضالاًّ عن السَبيل قائِلاً غَيرَ الجميل، يابْنَ الازرق، اصفُ إلهي بما وَصَفَ بِهِ نَفسَهُ، لا يُدرَكَ بالحواسُ و لا يُقاسُ بالنّاسِ قريبٌ غيرَ مُلتَصِقْ و بَعيدٌ غَيْرَ مستقصي يُوَحَّدُ و لا يُبَعَّضْ، معروفٌ بالآيات موصوفٌ بالعَلاماتُ لا إلهَ إلاّ هو الكبير المتعال»

فبكي ابن الازرق و قال:

«ما أحسَنَ كلامك»

فقال له الحسين عليه السلام: بلغني انك تشهد بكفري و كفر أبي و أخي!

فقال ابن الازرق:

«أمَا و اللّه يا حُسين لئن كانَ ذلك، لَقَدْ كُنْتُم منارَ الإسلام و نُجومُ الاحكام»(1)

ثم استشهد الحسين عليه السلام بقوله تعالي:

«و أمّا الجدارُ فَكانَ لغُلامَيْنِ يَتيمَيْنِ»(2)

و أتمّ الحجّة عليه.

و كان معاوية اذا اراد ان يبين لجلسائه علم الحسين عليه السلام و فضله، يقول:

«إذا دَخَلتَ مَسْجِدُ رسولِ اللّه فرأيت حَلَقَةً فيها قومٌ كأنَّ علي رؤوسهم الطَيْرُ، فَتِلكَ حَلَقَةُ أبي عبد اللّهِ، مؤتزراً الي انصاف ساقَيْه» (3)2.

ص: 134


1- سمو المعني ص 148.
2- سورة الكهف، الآية 82.
3- سموّ المعني ص 98، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 322.

و يقول العلايلي:

«كذلك يظهر المعني الحي في محل القداسة علي المؤمنين الذين ينشرون أشعَّةً من سيمائهم تورث الناظر خَشيةً في اطمئنان، و سكوناً في دعَة، كأنما زَوَت الي قواعدهم. فما أنت بناظرٍ جماعةً في مواضع من المعبد في معالم من الأرض، بل يتداركك حين تنظر كأن الملأ الأعلي تجسَّم و انتشر في أشخاص استعلي بهم أو اعتلوا به فوق دنيا الناس (ما اجتمعَ قومٌ علي ذكر اللّه إلاّ حفّت بهم الملائكة و غَشِيَهُم الروح و ذكرهم اللّه فيمن عنده) و في رواية (في ملأ عنده).

قد تكون كلمةً ساذجةً طَفَحَ بشعورها قلب ساذج، لَو صدرت من غير معاوية الملك، الذي كان يَجمع أسباب السيطرة و الرهبة و القِنْفَخريَّة علي نفسه جمعاً ليظهر بكل ذلك غير تارك منها إلاّ ما يزيده في مظهر الجبروت قوة.

و أما هي معاوية نفسه فإنها ذات وجه آخر بمعان أخري.، فقد نظر الي الحسين عليه السلام من جانبه الذي انزَوَت إليه الدنيا بعظائمها، و توافرت لديه أشياؤها حتي بدا كأنما انجمعت الدنيا في ناحية مكانه، و هذا ما يجعل للكلمة قيمة أخري.

فان معاوية لم تحُل به أُبَّهات الملك عن أن يري المعني الالهي في الحسين عليه السلام بما له من رَهَبات، تَزَعُ النفس الإنسانيّة الجامحة و تردها رداً عنيفاً الي حدود عُبُوديتها، حتي تُبصِر ما تلبَّس به بُطُلاً من الباطل و آلا من الآل، فتظل مَشدوهةً مأخوذة كالذي يكون مع خاطرة أو فكرة. ثم تنقب قوتها التي اشتقت من طبيعة المبالغة، ضعفاً فيه طبيعة المبالغة.

فكان معاوية ينظر الي نفسه بما أحاطها به من أشياء الدنيا، و الي الحسين عليه السلام بما أحاطته به الحقيقة العظمي من أشيائها، فيري نسبةً كما بين العدم و الوجود، ثم ينظر فيري في الوجهة المقابلة منبَعَث النور الذي يُعشي فَيبهرَ، و في الوجهة الأخري

ص: 135

متراكم الظلال و مختلط الأشباح و الأوهام.

و هذه ساعة تستيقظ فيها النفس الي حقيقتها، فتري كل شيء علي حقيقته، و نِعِمَّا هي كلمة معاوية في جلوة سمابها علي دنياه بما جمعت.

و كان الحسين عليه السلام اذا برز للناس يتحلَّقون بين يديه صفاً بعد صف حتي يذهب فيهم البصر، و يقعون عليه وقوع الطير في اليوم الحرور علي ثمد يتبرَّد به و يَتَصابُّه، و كأنهم بذلك يهربون و لو ساعة من اسر الشهوات و عبودية أنفسهم، ليقولوا كلمة الايمان خالصة بها قلوبهم، كما كان يعبر الصحابة حينما يعرجون الي النبي صلي الله عليه و آله «هيّاً بنا لنُؤمِنَ بِربّنا ساعَةً»(1)

و المؤمن مُؤمنٌ في كل الحالات، و لكن الحضور في محضر رسول اللّه صلي الله عليه و آله و حلقة افادة ولده العزيز الحسين، و التذوق من حلاوة الايمان و الاستزادة من العلم و المعرفة، و استشعار عوالم الغيب و جداناً، لا تتيسر دائماً و في كل المحافل و المجامع، يقول ابن كثير:

«انَّ الحُسين خَرَجَ و ابنُ الزُبير من المدينة الي مكة و أقاما بها عَكَف الناسُ علي الحُسين يفدونَ الَيْه و يُقدمون عليه و يَجلسونَ حواليهِ و يَستمعون كلامَه و يَنتَفِعونَ بمايُسمَعُ منهُ و يضبطون ما يَرْوُونَ عَنْهَ.»(2)

و يقول العلايلي:

«و الذي ينبغي أن لا يفوتنا في هذا الخبر، التعبير بكلمة (عكف) و هي تفيد في كل مشتقاتها معني التعلق و الانقطاع. فما كانت بواحد إلاّ الحسين عليه السلام رجلاً عُلِّقَه9.

ص: 136


1- سمو المعني ص 99.
2- سمو المعني ص 139.

كل الناس عَرَضاً، كأنما هم من ناحية الدنيا يشهدون فيه حقيقة أخري من عالم الابداع الالهي. فهو إذا نطق كأنما انطلق لسان الغيب يعبر عن رموزه و يكشف عن خفاياه، و إذا صمت كأنما راح الغيب يعبر عن معناه بطريقة أُخري بلحن آخر، فإن من الحقائق ما لا يعبر عنه إلاّ الصمت العميق، كالنقطة في ثنايا السطور، فإنها تعطي معني لا يقوم إلاّ بها، و لا يتم إلاّ اذا كانت، و هي بعدُ إشارة سلبية و لكنها تدل علي غرض إيجابي؟، أو كقرار النغمة الصامت فإنه جزء من تمام اللحن الناطق.

و في الخبر صورة كاملة لمقام الحسين عليه السلام، في زمن لم ينتف من طغيان السلطة و تحامل المتغلب، و لكن أَنَّي للقوة أن تحول بين الإنسان و قلبه، أو بينه و بين ما هو من ضميره، فإن القوة لا تعمل إلا في حدودها، و لا تجد مضاءها إلاّ في ملابساتها، و هي كيفما امتدت بأسباب فإنها لا تحيك في مواطن الشعور. و الخبر بعد ذلك يعرفنا بأن الحسين عليه السلام كان مكثراً من الحديث و الرواية، و لم يكن كما تشاء بعض كتب الأخبار تصويره بانه كان مقلاً نزر الآثار.»

ثم ينقل العلايلي بعد ذلك، ما رُوي عن الحسين عليه السلام.(1) و يقول ايضاً:

«الأخبار عن الحسين عليه السلام في هذا الباب أكثر من أن تحصي، و لقد كان يجئ بالمدهشات في الفُتيا و ما إليها من العلم، حتي قال فيه ابن عمر: «إنَّه يُغَرُّ العلم غرَّاً». (2)2.

ص: 137


1- سمو المعني ص 97.
2- سمو المعني، ص 148. و نظير هذه الكلمات وردت عن لسان يزيد في شأن الإمام زين العابدين، عندما اقترح الإمام علي يزيد ان يرتقي المنبر فلم يقبل يزيد و قال: اذا صعد فانه لا ينزل الا بفضيحتي و فضيحة آل ابي سفيان! فقيل له و ما قدر ما يُحسن هذا الغلام؟ فقال: هذا من اهل بيت قد زقّوا العلم زقّا» نفس المهموم ص 242.

فكما ان الطيور تزقّ الطعام زقّاً، فكذلك الحُسين عليه السلام زُقَّ العلم زقّاً في بيت النبوة و الولاية، و اغتذي من اصابع علم رسول اللّه صلي الله عليه و آله، و ارتضع من ثدي معارف الإسلام، فنمي و تربّي علي ذلك.

2 - عبادة سيد الشهداء عليه السلام

.

روي ابن عبد البر و ابن الاثير عن مصعب بن الزبير انه قال:

«كانَ الحُسَينُ فاضِلاً دَيِّناً كثير الصَلوةِ و الصَومِ و الحَجّ.»(1)

و قال عبد اللّه ابن الزبير في وصف عبادة الحسين عليه السلام:

«لَقَدْ كانَ قَوّاماً باللّيلِ صَوّاماً بالنّهار»

و يقول العقّاد:

«و كانَتْ لَهُ صَلوات يؤدّيها غير الصلوات الخَمْس، و ايّام من الشهرِ يَصومُ نَهارها و يقوم ليلها، و لم يفته الحَجّ».(2)

و كان عليه السلام يصلّي في اليوم و اللّيلة الفَ ركعة، و حجَّ البيت ماشياً خمس و عشرين حجّة تقادُ معه نجائبه.(3) و هذا دليل كمال عبادته و خضوعه للّه عزوجل.

ص: 138


1- اسد الغابة ج 2 ص 20. الاستيعاب ج 1 ص 378.
2- ابو الشهداء ص 63.
3- الاستيعاب ج 1 ص 382. اسد الغابة ج 2 ص 20. تذكرة الخواص ص 244. تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 219. تاريخ ابي الفداء ج 2 ص 107.

و ذات يوم شوهد في احد اركان الكعبة داعياً متوسلاً:

«إلهي نَعَّمتَني فَلَمْ تجدني شاكراً، و إبتليتني فَلَمْ تجدني صابراً، فَلا أنتَ سَلَبّتَ النعمةَ بترك الشكر، و لا أدَمْتَ الشِدَّة بتركِ الصَبْر، إلهي ما يكونُ مِنَ الكريمِ إلاّ الكَرمْ»(1)

و من اراد الوقوف علي احوال سيد الشهداء في دعائه و مناجاته و طلبه و مسكنته بين يدي اللّه عزوجل فليراجع دعاءَه يوم عرفه فإنه كافٍ في توضيح المطلب.

فقد روي بشر و بشير ابنا غالب الاسدي، قالا: كنّا مع الحسين بن علي عليهما السلام عشيّة عرفه فخرج عليه السلام من فسطاطه متذللاً خاشعاً فجعل يمشي هوناً هَوناً حتّي وقف هو و جماعة من اهل بيته و ولده و مواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين ثم قال:

«الحمدُ للّه الّذي لَيسَ لقضائه دافعٌ و لا لعطائه مانعٌ و لا كصُنعِهِ صُنعُ صانِع و هو الجواد الواسع...»

و هو الدعاء المعروف بدعاء الحسين يوم العرفه و المذكور في كتب الادعية و الزيارة. فقرأ الدعاء حتي وصل الي هذه الجملة:

«و صلي اللّه علي خيرته مُحمّدٍ خاتم النبيّين و آله الطيّبين الطاهرين المخلّصينَ و سَلَّمْ». ثم اندفع في المسألة و اجتهد في الدعاء و عيناه سالتا دموعاً حتي وصل الي قوله: «و ادْرَء عنّي شرَّ فَسَقَةِ الجنِّ و الإنْسْ» ثم رفع رأسه و بصره الي السماء و عيناه ماطرتان كأنَّهُما مزادّتان و قال بصوت عال:3.

ص: 139


1- اسعاف الراغبين ص 183.

«يا أسْمَعَ السَامعينَ» الي ان وصل الي فقرة: «و أنت علي كلِّْ شئٍ قَديرٌ يا رَبّ» و كان يُكرر قوله «يا رب» و شَغل من حَضَر ممن كان من حوله عن الدعاء لأنفسهم و اقبلوا علي الاستماع لَهُ و التأمين علي دعائه ثمَّ عَلَتْ اصواتُهم بالبكاء معه و غربَت الشمس و افاض الناس مَعَهُ الي مزدلفة.

3 - سخاء الحسين عليه السلام

عُرف اهلُ البيت عليهم السلام بالجود و الكرم فصاروا مضرب المثل بذلك، و قد نزلت آيات كثيرة في امير المؤمنين عليه السلام و أهل بيته، ثناءً من الباري عزوجل لجوده و انفاقه في رضا اللّه فملأ ذكرُ عليٍّ الآفاق حين تصدق بدرهمه الوحيد و قرص خبزه و خبز اولاده و امهم فاطمة للفقراء و المساكين و ابناء السبيل مؤثرين علي انفسهم علي خصاصة كانت بهم.

فكم من ليلة بات علي و أهل بيته جياعاً لاجل اطعام و اشباع غيرهم من الفقراء في سبيل اللّه، و كم من رداءٍ و هبة عليُّ لفقير كان عليُّ احوجَ منه لذلك الرداء.

روي ابن عساكر في تاريخه عن ابن هشام القنّاد انه كان يحمل الي الحسين عليه السلام بالمتاع من البصرة و لعلَّهُ لا يقومُ حتي يهب عامَّتَه.(1) و روي أيضا: أنَّ سائلاً خرج يتخطي أزقة المدينة حتي أتي باب الحسين عليه السلام فقرع الباب و أنشأ يقول:

لم يخب اليوم من رجاك و من حرك من خلف بابك الحلقة

ص: 140


1- سمُو المعني ص 151-150.

أنت ذو الجود أنت معدنه أبوك قد كان قاتل الفسقة

و كان الحسين عليه السلام واقفاً يصلي فخفف من صلاته و خرج الي الاعرابي فرأي عليه أثر ضرٍّ و فاقة، فرجع و نادي بقنبر فأجابه لبيك يا ابن رسول اللّه قال ما تبقّي معك من نفقتنا. قال مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال هاتها فقد أتي من هو أحق بها منهم، فأخذها و خرج يدفعها الي الاعرابي و أنشأ يقول:

خذها فإني إليك معتذر

فأخذها الاعرابي و ولّي و هو يقول:

«اللّهُ أعلَمْ حيث يجعل رسالَتَهُ(1)»(2)

و رُوي أنَّ الحسين عليه السلام دخل علي اسامة بن زيد، و هو مريض و هو يقول واغماه، فقال له الحسين عليه السلام و ما غمك يا أخي. قال: ديني و هو ستون الف درهم، فقال الحسين عليه السلام هو عليّ قال إني أخشي أن أموت. فقال: لن تموت حتي أقضيها عنك فقضاها قبل موته.(3) و روي البحراني ان الحسين عليه السلام كان جالساً في مسجد جده رسول اللّه صلي الله عليه و آله بعد وفاة أخيه الحسن عليه السلام و كان عبد اللّه بن الزبير جالساً في ناحية المسجد و عتبة

ص: 141


1- سورة الأنعام الآية 124.
2- سموّ المعني ص 151 عن عيون الاخبار ج 3 ص 140.
3- سمو المعني ص 152-151. و ذكر البيهقي في المحاسن و المساوي ج 1 ص 189 هذه الحكاية عن الإمام الحسن، و في نفس الصفحة روي حكاية عن الحسنين عليهما السلام و ان كل واحد منهما اعطي 150 درهماً لفقير سألهما.سموّ المعني ص 153-152 نقلاً عن «عقد اللآل في مناقب الآل».

بن أبي سفيان في ناحية أُخري، فجاء أعرابي علي ناقة فعقلها بباب المسجد و دخل فوقف علي عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال الاعرابي اني قتلت ابن عم لي و طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئاً، فرفع رأسه إلي غلامه و قال ادفع إليه مائة درهم، فقال الاعرابي ما أريد إلاّ الدية تماماً ثم تركه و أتي عبد اللّه بن الزبير و قال له مثل ما قال لعتبة، فقال عبد اللّه لغلامه ادفع اليه مائتي درهم، فقال الاعرابي ما أريد إلاّ الدية تماماً، ثم تركه و أتي الحسين عليه السلام فسلم عليه و قال يا ابن رسول اللّه اني قتلت ابن عمٍّ لي و قد طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئاً، فأمر له الحسين عليه السلام بعشرة آلاف درهم وقال هذه لقضاء ديونك و عشرة آلاف درهم اخري و قال هذه تلم بها شعثك و تحسن بها حالك و تنفق منها علي عيالك. فأنشأ الاعرابي يقول:

طربتُ و ما هاجَ لي مَعبَقُ

4 - أدبُ الحُسين عليه السلام و رأفته:

لقد كان الحسين عليه السلام في الذروة، في حُسن معاشرته للناس و أدبه و شفقته

ص: 142

وعفوه.

روي جمال الدين محمد الزرندي الحنفي المدني عن علي بن الحسين عليه السلام عن أبيه الحسين بن علي عليهما السلام قال:

«سمعت الحسين يقول: لو شتمني رجل في هذه الاذن و أومي الي اليمني و اعتذر لي في الاخري لقبلت ذلك منه، و ذلك أن أمير المؤمنين علي بن ابيطالب عليه السلام حدثني أنه سمع جدي رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول: لا يرد الحوض من لم يقبل العذر من محق أو مبطل.»(1)

و لقد كان الحسين عليه السلام في قمّة الأدب و المحبّة و الرأفة و العطف و المودة في اهله و اولاده و نسائه.

روي ابن قتيبة أن رجلاً أتي الحسن بن علي عليهما السلام يسأله. فقال الحسن إن المسألة لا تصح إلا في غُرم فادح أو فقر مدقع أو حَمالة مُفظِعَة، فقال الرجل ما جئت إلاّ في إحدهن، فأمر له بمائة دينار ثم أتي الرجل الحسين بن علي عليهما السلام فسأله فقال له مثل مقالة أخيه فردَّ عليه كما رد علي الحسن فقال كم أعطاك؟ قال مائة دينار فنقصه ديناراً. كره أن يساوي أخاه، ثم أتي الرّجل عبد اللّه بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير و لم يسأله عن شيء، فقال له الرجل إني أتيت الحسن و الحسين و اقتص كلامهما عليه و فعلهما به فقال عبد اللّه: وَيحك و أنّي تجعلني مثلهما إنهما غُرَّا العلم غُرَّا المال.(2) روي ياقوت المستعصمي عن أنس قال: كنت عند الحسين بن علي عليهما السلام2.

ص: 143


1- نظم درر السمطين ص 209.
2- سموّ المعني ص 152.

فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان، فحيّته بها، فقال لها:

«أنتِ حُرَّةٌ لِوَجهِ اللّه تعالي»

قال: فقلت له: «جاريةٌ تجيئك بطاقةِ رَيْحان فَتَعتقُها؟»

قال عليه السلام: كذا أدّبَنا اللّه... قال تبارك و تعالي: «و إذا حُيّيتُمْ بتَحيَّةٍ فحيّوا بأحسَنَ مُنْها أوْ ردُّوها(1)» و كان أحسَنَ مُنْهاعِتْقُها»(2)

يقول العقّاد بعد ذكره لهاذين البيتين عن الحسين عليه السلام

لَعَمرُكَ إنَّني لأُحبُّ داراً

و هُما - البيتان معبران عن خُلُقِهِ في بيته و بين أهله فقد كان من أشدِّ الآباء حَدباً علي الأبناء و اشدِّ الازواج عطفاً علي النساء، و من وفاء زوجاته بعد مماته ان الرّباب هذه التي ذكرت في البيتين السابقين خَطَبَها أشرافُ قُريش بعد مقتله فقالت:

«ما كنْتُ لا تخذَ حَماً بعد رسول اللّه» و بقيت سنةً لايظلُها سقف حتي فَنِيَتْ. و ماتت و هي لا تفتر عن بكائه و الحزن عليه. (3)

5 - طلبُ الحق:

لا تجد نظيراً لآل عليِّ في العالم، في طلب العدل و حماية المظلوم و مقارعة الظالم.

فحكومتهم، حكومةُ الحق و العدل، و سيرتهم و سلوكهم و دينهم إقامة العدل

ص: 144


1- سورة النساء، الآية 86.
2- سموّ المعني ص 159. أبو الشهداء ص 62.
3- ابو الشهداء ص 57-56.

و أخذ حقِ المظلومين، فلا يقرُّ لهم قرار اذا ما سمعوا بظليمةً حتي يأخذوا الحق للمظلوم من الظالم.

و ما ذكر في كتب التاريخ عن عدل عليّ عليه السلام يُدلّكَ علي عشق عليّ للحق، و فنائه في العدالة، و قد اوصي عليّ ولديه الحسنين بقوله: «كُونا للظّالم خَصْماً و للمَظلومِ عَوْناً»

و الحُسين عليه السلام، ابنُ عليٍّ و وارثُه، فلم يكن ليصبر علي ظلم بني أميّة و عمّالهم، فكانت ثورثُه ثورة الحق ضد الظلم و الاضطهاد و الجور، و كانت نهضتُه نهضة نجاة المظلومين و المقهورين.

فلم يكن عند الحسين عليه السلام كما عند جدّه و أبيه و أخيه شئٌ الذَّ و احلي من صور عبادة اللّه و العدالة و القسط، و لا أمرَّ من مناظر و صور الظلم و الجور و الفساد، فكان، بقدر إمكانه مدافعاً عن شرف و كرامة و ناموس و ارواح و اموال المسلمين.

و من جملة ما نقل عن الحسين عليه السلام و الذي يكشف عن مدي حرص الحسين علي كرامة المسلمين و شرفهم، هو قصة أرينب (أو زينب) بنت إسحاق، زوجة عبد اللّه بن سلام.

فهذه القصة المعروفة تكشف النقاب عن انحطاط و سقوط و فساد بني امية و عن رَذالة معاوية و يزيد و تجردهم عن كلِّ القيم الاخلاقية حتي أبسطها، و تدلك علي ضحالة هموم المتسلطين علي رقاب المسلمين.

و قد نقل هذه الحكاية ابن قتيبة، الشبراوي، العلايلي، النويري، و ابن بدرون، العقاد و آخرون(1) مضافاً الي ذكرها في كتاب مستقل باسم «أُرينبْ» (2)ي.

ص: 145


1- الامامة و السياسة ص 212-203. الاتحاف ص 83-79. سموّ المعني ص 159-156. أبو الشهداء ص 39-37.
2- كتاب «أرينب، قصة تاريخية» عبد اللّه حسون العلي.

و لما كانت هذه القصة طويلة، طوينا كشحاً عن سردها باكملها، و لكن نذكر مجملها كشاهدٍ علي مدّعانا:

طمع يزيد، الذي كان يعيش حياة المجون و الخلاعة و اللعب و معاقرة الخمرة و الغناء و الرقص، طمع في إمراة سمع بجمالها و دلالها و هي أرَينب زوجه عبد اللّه بن سلام، و التي كان من وظائف يزيد و ابيه حماية و صون عرضها و شرفها، و كانت أرينب أو زينب هذه علي ما قيل اشهر فتيات زمانها بالجمال و كانت زوجة والي معاوية علي العراق عبد اللّه بن سلام القرشي. فمرض يزيد في حبِّها و اخفي سرَّه عن أهله حتي استخرجه منه بعض خصيان القصر الذين يعينونه علي شهواته... فلما علم أبوه سرَّ مرضه ارسل في طلب عبد اللّه ابن سلام و استدعي اليه أبا هريرة و أباالدرداء، فقال لهما ان له ابنة يريد زواجها و لم يرض لها خليلاً غير ابن سلام، لدينه و فضله و شرفه و رغبة معاوية في تكريمه و تقريبه. فخدع ابن سلام بما بلغه و فاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكَّل معاوية الأمر إلي أبي هريرة ليبلِّعها و يستمع جوابها. فكان جوابها المتفق عليه بينها و بين أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، و لكنها تخشي الضرَّة و تشفق أن يسوقها إلي ما يغضب اللّه. فطلق ابن سلام زوجته و استنجز معاوية و عده.. فإذا هو يلويه به و يقول بلسان ابنته انها توجس من رجل يطلق زوجته و هي ابنة عمه و أجمل نساء عصره..

و قيل إنَّ الحسين عليه السلام سمع بهذه المكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطبا.. فصدع أبو هريرة بأمره و قال لزينب: «إنك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد اللّه بن سلام.»

ص: 146

قالت: «من»؟ قال: «يزيد بن معاوية و الحسين بن علي، و هما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال.»

و استشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم أحد علي فم قبَّله رسول اللّه، تضعين شفتيك في موضع شفتيه»

فقالت: «لا أختار علي الحسين بن علي أحداً و هو ريحانة النبي و سيد شباب اهل الجنة»

فقال معاوية متغيظاً:

أنعِمي أُمَّ خالدٍرُبَّ ساعٍ لِقاعِدٍ

و لم يلبث الحسين عليه السلام أن ردها إلي زوجها قائلا:

«ما أدخلتها في بيتي و تحت نكاحي رغبة في مالها و لا جمالها، و لكن أردت إحلالها لبعلها»(1)

6 - زهد الإمام الحسين عليه السلام:

لعلَّ من ابرز شواخص زهد الإمام الحسين عليه السلام و رغبته عن الدنيا هو فداؤه و بذله روحَه و ارواح اولاده و اخوته و اصحابه طلباً للحق، و تحمل كل تلك البليات و المصائب في كربلاء.

فمن لم يستحقر الدنيا باموالها و نعيمها و زينتها و مغرياتها، لا يقوي علي مثل تلك التضحيات في سبيل اللّه و الحق و القيم، حتي انه شاهد أجساد فلذات كبده يقطعون إرباً إرباً، و سمع أنين عطش أطفاله و لوعتهم، و عاين دموع نسائه و بناته

ص: 147


1- ابو الشهداء. عباس محمود العقاد ص 39-37.

المهراقة، فكل ذلك أوجع قلبه المفحم بالحب و العاطفة و الشفقة و الرأفة، مضافاً الي عشرات الجراحات التي لا يسعها الاّ جسمُ الحسين عليه السلام الصارخ لنصرة دين اللّه، الثابت عن الخنوع و الاستسلام للباطل، ثبات الجبل الاشمِّ قبال الاعاصير.

نعم لقد اقترحوا عليه التنازل و لو بالقليل ليزيد و ابداء المرونة في موفقه الصُلب، بما لا يُقلل من شأنه و مقامه مقابل السماح له و لاهله بالعيش الرغيد و عدم التعرض له.

و لكن، لم يكن الحسين عليه السلام بالذي يبيع مصالح المسلمين و عزتهم من اجل حياة ذليلة، و لم يكن الحسين عليه السلام ليغضَّ الطرف عن تجاوزات بني اميّة علي الاحكام الشرعية الإسلامية، و لم يكن الحسين عليه السلام ليقبل بمتاع زائف في قبال إمضاء خروقات الحكم الفاسد الظالم لتعاليم السماء و اضفاء الشرعية عليها، و لم يكن من المتسامحين في الحق و في اداء الدور الذي كُلِّفَ به من قبل اللّه تعالي.

ان حُسيناً هو ابن الذي قال:

«و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي علي أنْ أتركَ هَذا الأمر ما تَركتُه حتّي أهْلَكَ دُونَهُ أو يُظهره اللّه»

ان الحسين عليه السلام هو ابن القائل:

«إنَّ دنياكم هذِهِ أهْوَنُ عليَّ مِنْ عَفطَةِ عَنْزٍ»

يقول العلايلي:

«هذا الجانب عظيم و غريب عند الإمام الشهيد، فقد كان مستهيناً بالحياة و مستهيناً بالموت، غير ناظر إلي شيء إلا برهان ربه، الذي امتزجت به نفسه فهو يفتديه بكل شيء هان أو عزَّ، و من ثم كان جديراً بأن يسمي «البَنَّاء الثاني في الإسلام» بعد جده المصطفي صلي الله عليه و آله، و بأنه المجدد لبناية التوحيد كما يقول الشاعر

ص: 148

الهندي «معين الدين اجميري» رحمه اللّه»(1) و يقول ايضاً:

«لقد انصرف «الحسين عليه السلام» بكل نفسه عن الدنيا و ما إليها».(2) فالحسينُ اذن، كأبيه امام الزاهدين الذي قال:

«و اللّه إنَّ إبْنَ أبيطالب آنَسُ بالمَوتِ من الطِفل بثدي أُمِّه»

«و ما أنا إلاّ كقاربٍ وَرَدْ أو كطالِبٍ وَجَدْ»

و قال الوَلَد:

«إنّي لا أري الموت إلاّ سَعادَةً و لا الحياةَ مع الظالِمينَ إلاّ بَرَماً»

قال ابن شهر آشوب في معرض حديثه عن زهد الحسين عليه السلام: قيل للحسين:

«ما أعْظَمَ خَوفِكَ مِنْ رَبِّك»

فقال عليه السلام:

«لا يأمنُ القيامَةَ إلاّ من خافَ اللهَ في الدُّنيا»(3)

7 - تواضع الحسين عليه السلام:

كلما ازداد الإنسان معرفةً بربّه و توحيده، و كثر عِلمُه و حكمته، كلما ازداد خضوعاً و تواضعاً، فالكبر ينشأ من الجهل و قلّة المعرفة و الغفلة و الغرور.

و قد ذمَّت الآيات القرآنية الكريمة، و الاحاديث النبوية الشريفة، الكبر، و مدحت التواضع.

ص: 149


1- سموّ المعني ص 119.
2- سموّ المعني ص 102.
3- المناقب ج 4 ص 69.

و اذا كان التواضع مطلوباً، فهو من القادة و الزعماء اكثر مطلوبيةً و ينبغي عليهم الابتعاد و التخلص من الكبر و الغرور الخيلاء، فان تكبرهم يُبعدهم عن قلوب افراد المجتمع و يُنَفّرُ الناس عنهم، و يُفردهم عن الامَّة و يعزلهم.

و الجهلاء، و بمجرد أنْ ينالوا يسيرا من حُطام الدنيا، يدخلهم الخيلاء و التكبر، فيستحقرون الناس، و يحاولون فرض آرائهم مهما كانت سخيفة.

إنَّ من أبرز ملامح الحكم الاسلامي، كما كان في زمن امير المؤمنين عليه السلام، هو تواضع ولاة الأمر و القضاء و الغاء الفوارق الطبقية و القومية التي كانت سائدة في الانظمة الحاكمة قبل الإسلام.

لقد كان عليُّ عليه السلام يعيش مع المسلمين كأحدهم، يسعي في قضاء حوائجهم، و يهتم بنفسه بحوائجه، فكان يتسوّق بنفسه لنفسه، و يحمل متاعه بردائه أو عباءته و ياتي به الي داره، و في نفس الوقت كان يستمع الي شكاوي الناس و ينظر فيها، و كان يلبس الخشن من اللباس و هو مع ذلك يُرقِعَه و يتقشف، و كان يصلح نعليه بنفسه و امام الناس، و طعامُه الجشب، فطالما كان يأكل الخبز و الملح أو اللبن، و لكنه لم يكن مع ذلك يأمر الاخرين بمثل ذلك، فهو الخليفة و عليه ان يواسي أضعف الرعية حالاً، و من هنا صار عليٌّ مظهرَ العدالة الإنسانية و الزهد الفريد.

كان و هو الخليفة يحضر مجلس الترافع و القضاء، اذا ما اشتكي عليه شاكٍ، فيجلس كما يجلس المدعي، و كم من مرّة لم يُحكم لصالحه و لم يُقلل ذلك من شأن الخلافة و الخليفة.

لقد روّض عليُّ نفسَهُ بالزهد و التواضع و بساطة العيش و عوّدها علي القناعة، كيلا تطغي غريزة الطمع فتجرُّهُ الي الحيف و اختلاس بيت المال و صرفه في التجملات و القصور الفارهة.

ص: 150

و قد ورد في الرواية: «مَنْ أرادَ ان يتَمثَّلَ لَهُ الرِجالُ فليتبوَّء مَقْعَدَهُ مِنَ النّار»

فمن الفاسد في مقياس الحق و العدل الاسلامي، أنْ يلبس الخليفة و يركب و يسكن، أفضل ما يلبس و يركب و يسكن عُمالُه، و ان يحيط نفسه بجهاز حاكم مبذر مسرف ليتميز عن سائر المسلمين، متخلّقاً باخلاق الجاهلية.

إنَّ هذه العادات القبيحة، هي ما اعتادت عليه حكومة بني أميّة حيث جددت اعراف الجاهلية، و هذا الانحراف ارجع خلافة الممالك الإسلامية الي طرز الجاهلية في الحكم.

و سنتطرق في الصفحات اللاحقة انشاء اللّه الي تفصيل هذا الأمر و نكتفي هنا بالحديث عن تواضع الإمام الحسين عليه السلام.

لقد كان الحسين عليه السلام علي تواضعه، مُهاباً مبجلاً من قبل الناس، و عندما كان يسير هو و اخوه الحسن المجتبي الي الحجِّ، كان كبار الصحابة، يترجلون احتراماً لهما، و لم يكن هذا الاحترام للحسين عليه السلام من أجل قصر مُجلَّل يسكنه الحسين أو مركب و دابة غالية الثمن، او لكثرة غلمانه و جنوده و خدمه و حشمهِ، فلقد كان الحسين عليه السلام يعيش بين الناس و معهم، متواضعاًبسيطاً في عيشه، و كان يذهب الي الحجِّ في كل سنة و يجلس مع الناس، و يجالس الفقراء و يحضر الجماعات و يعود المرضي و يشترك في تشييع الجنائز و يجلس في مسجد النبي صلي الله عليه و آله مع اصحابه، و يجيب دعوة الفقراء الي طعامهم و يدعوهم الي طعامه، و كان يحمل الخبز و الطعام بنفسه الي الفقراء و المعوزين و الأيتام و الارامل.

و عندما جرّده اهل الكوفة الظالمين عن ملابسه يوم عشاوراء، وجدوا آثار حمل الجراب علي كتفه الشريف، فسألوا عن ذلك فاجابهم الإمام السجاد، بان ذلك آثار حمل الطعام الي فقراء المدينة و ايتامهم.

ص: 151

8 - خلوص الايمان و الثبات

يُعتبر الايمان بالهدف من اهم عوامل الاستقامة و الثبات و الاستمرارية عند ارباب و زعماء النهضات الاصلاحية الدينية و الاجتماعية، فاذا كان القائد علي يقين من حقانية اهدافه، سار بخطيً راسحة نحو تلك الاهداف و لم تنهه عقبات الطريق مهما بدت كأداء، فهو يستلهم قوته و عزمه من ايمانه و يقينه ذاك.

و اذا ما استقرأنا تاريخ الانبياء، و خاصة خاتمهم محمد المصطفي صلي الله عليه و آله و امعنّا النظر في سيرته، لوجدنا إنَّ عمدة اسباب نجاحه هو ايمانه القاطع و الثابت، و يقينه الجازم بنبوته و وحي السماء له، و مع مثل ذلك الايمان، دعا النبيُّ صلي الله عليه و آله الي التوحيد أشدَّ الناس وحشية و جهلاً و عناداً من بين عبدة الاوثان، و حمل راية الدعوة الي كل الملل، و مع انَّ العقبات التي كانت تعترض طريقة، كانت كثيرة و كبيرة، لكنّه نادي باعلي صوته و بكل قوة قلب و اطمئنان خاطر:

«قُولوا لا إله إلاّ اللّه تُفْلِحُوا»

و هذا الايمان الراسخ و العزم الذي لايلين كان بيِّناً و ملازماً له صلوات اللّه عليه طيلة حياته المثخنة بجراح الاحداث و البليات. ففي حروبه و غزواته، و ابّان الفتح و ايام الانكسار الظاهري و في بداية الدعوة و قلة الناصر و تسلّط الكفار و الضغوط المادية و الروحية، في كل تلك الحالات، كان النبي صلي الله عليه و آله يُنفذ برامجه بكل إطمئنان و يتقدم نحو الهدف بخطوات ثابتة هادئة مستقرة.

و كان الحسين عليه السلام كجدّه الاكرم في ارتقاء الرتبة الاعلي في الايمان بالهدف و الاطمئنان و اليقين بصحة السبيل.

كان يعتقد حقانية هدفه، و بطلان نهج الامويين، و إنَّ ما يقوم به انما هو

ص: 152

لصلاح الامة الإسلامية و انقاذها، و كان يعرف انَّ السبيل الوحيد لافشال مخططات بني امية هو بالامتناع عن بيعة يزيد و الثورة ضدَّه.

كان الحسين عليه السلام متيقّناً إنَّ الطريق الذي سَلَكَهُ موافق لرضا الربِّ عزوجل و الرسول صلي الله عليه و آله و انه ينتهي به الي الشهادة و السعادة. و من ثمَّ، اعلن صراحةً مخالفته لاستخلاف يزيد مع علمه المسبق بان ذلك سيكلّفَهُ غالياً، و استقبل كل المصائب و البليّات ليقينه بانها بعين اللّه و رضاه.

فكما التاجر الذي يتيقن الربح الكبير في معاملة تجارية، لا يتراجع عنها أبداً فكذلك الحسين عليه السلام الذي تعامل مع ربّه معاملة يعلم بكل ارباحها و منافعها الدينية الاخروية، و من حَمَل مثل هذا اليقين باللّه و بثوابه الجزيل، لا يقبل بالبديل، فمهما كانت التضحيات، كان النفع أعظم.

لقد كان ابو عبد اللّه الحسين عليه السلام متيقناً وجوب دفع الاخطار المحدقة بالاسلام و المسلمين، و يعلم أيضاً ان ذلك متوقف حصراً علي استشهاده و تسليمه للبلاء بعد البلاء.

إقرأوا تاريخ واقعة كربلاء من البدء الي الانتهاء، و ستجدون الايمان الراسخ بالقضية و الهدف و المصير و المسير، جلّياً واضح التجسّد في الحسين و ابنائه و اصحابه و نسائه و اخواته و بناته.

لقد كانت كلمات الحسين عليه السلام في المدينة و في مكة و في الطريق و في كربلاء، بمضمون واحد و ان اختلفت العبارات، ففي المدينة و عندما طلب منه الوليد ان يبايع يزيداً، قال الإمام الحسين عليه السلام:

«إنّا أهلُ بَيتِ النّبوَة و مَعْدنُ الرّسالة و مختلَف الملائكة و مهبط الرحمةِ، بنا فَتَحَ اللّه و بنا خَتَمَ و يزيدُ رَجُلٌ فاسقٌ شاربُ خمرٍ قاتل نفسٍ معلنٍ بالفسق، فمثلي لا

ص: 153

يبايعُ مِثلَه»(1)

و لما قال له مروان بن الحكم ان صلاحه في مبايعة يزيد قال عليه السلام:

«إنا للّه و انا اليهِ راجعون و علي الإسلام السلام اذ إبْتُلِيَتْ الامّة براعٍ مثل يزيد»(2)

فالحسين عليه السلام يري ان بيعة يزيد خيانةٌ للاسلام، و أنها تعني نهاية الإسلام و اضمحلاله، و الموافقة علي مبايعته يعني إمضاء تدمير الإسلام و انقراضه.

و ورد هذا المعني ايضاً عنه عليه السلام عند قبر جدِّه رسول اللّه صلي الله عليه و آله و مواضع اخري.

و في مكة، و في ضمن خطبته المعروفة «خُطَّ الموتُ علي وُلدِ آدم» اعلن الحسين عليه السلام صراحةً برامجه، و بَيَّن نهاية المطاف بوضوح.

و ذكر ابن الاثير عن عتبة بن سمعان الكلبي قال:

لما ارتحلنا من قصر ابن مقاتل، و سرنا ساعة خَفَق رأسُ الحسين عليه السلام خفقة ثم انتبه فاقبل يقول: «إنّا للّه و إنّا إليهِ راجِعُون» و «الحمدُ للّه ربِّ العالمين» مرتين.

فاقبل اليه علي بن الحسين عليهما السلام و هو علي فرس فقال له: يا أبي جُعلتُ فداك مِمَّ استرجعت؟ و علامَ حمدت اللّه؟

قال الحسين عليه السلام: يا بني انه عَرَض لي فارس علي فرس، فقال: القوم يسيرون و المنايا تسيرُ اليهم، فعلمت أنها أنفُسُنا نُعيتْ الينا.

فقال: يا أبتاه لا اراك اللّه سوءاً ابداً، السنا علي الحق؟

قال: بلي و الذي يرجع اليه العباد.9.

ص: 154


1- مقتل الخوارزمي ص 184 ف 9.
2- مقتل الخوارزمي ص 184 ف 9.

فقال: «يا ابت، فاذاً لا نُبالي أنْ نموتَ محقّين.»

فقال له الحسين عليه السلام: «جزاكَ اللّه مِن وَلَدٍ خَيرَ ما جزي وَلَداً عَنْ والدِهِ.»(1)

و في احد المنازل خطب خطبةً باصحابه و اصحاب الحُرِّ، و بعد ان حمد اللّه و اثني عليه، قال:

«ايّها الناسُ إنَّ رسولَ اللّهِ صلي الله عليه و آله قال: مَن رأي سلطاناً جائِراً مستحلاً لحُرُم اللّهِ ناكثاً لِعهدِ اللّهِ مخالفاً لِسنةِ رسولِ اللّهِ صلي الله عليه و آله يَعملُ في عبادِ اللّه بِالإثمِ و العُدوانِ فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ و لا قولٍ كان حقّاً علي اللّه أن يُدخِلهُ مَدخلَهُ ألا و انَّ هؤلاء قد لَزِمُوا طاعةَ الشَيطانِ و تركوا طاعَةَ الرَّحمن و أظهروا الفَسادَ و عطَّلُوا الحدودَ و استأثَروا الفَيي و أحلُّوا حرامَ اللهِ و حرّموا حلالَه و أنا أحقُّ مَن غَيَّرَ».(2)

و قال عليه السلام للفرزدق:

«أنا أوْلي مَنْ قامَ بنُصرة دين اللّه و إعْزازِ شَرْعِهِ و الجهاد في سبيله لتكونَ كَلِمَةُ اللّهِ هيَ العُليا»(3)

و اصرح كلام صدر عنه في هذا المعني، هو خطبته يوم عاشوراء في جيش عمر بن سعد، و التي تدل علي ثباته علي نفس المبادئُ و القيم التي اعلن عنها في المدينة و في مجلس الوليد، و انه لم يعدل عنها و لم يتغير ابداً، فقد جاء في خطبته البليغة تلك:

«ألا و انَّ الدَعيَ ابنَ الدَعيّ قَد رَكزَ بَيْنَ إثنتين، بَيْنَ السلَّةِ و الذلّة، و هيهات منّا الذّلَة يأبي اللّه تعالي ذلك لنا و رسولُه و المؤمنون و حُجورٌ طابت و2.

ص: 155


1- الكامل ج 3 ص 272. مقاتل الطالبين ص 111.
2- الكامل ج 3 ص 280. تاريخ الطبري ج 4 ص 304.
3- تذكرة الخواص ص 252.

طَهُرَتْ و أنوفٌ حَميَّة مِنْ أنْ نُؤثرَ طاعَةَ اللئامِ علي مصارعَ الكِرام»(1)

9 - شجاعة الحسين عليه السلام

قد يظنُّ البعض، إنَّ شجاعة الحسين عليه السلام هي تلك القوة العضلية الجسدية، و علمه بفنون القتال و الحرب، و قتل الابطال و الفرسان، و إنَّ أروع صور شجاعته هي حملاته و صولاته منفرداً علي جيش الاعداء و تفريق جموعهم و فرارهم بين يديه كفرار الاغنام بين يدي الذئب، و عندما يئسوا من منازلته و جبنوا، اخذوا يرشقونه بالحجارة و السهام، و هؤلاء و ان استطاعوا ان يقتلوا الحسين عليه السلام و يطعوا و يقطعوا رأسه و يرفعوه علي راس الرمح، و لكن لم يدع ايٌّ منهم إنّه استطاع ان يناجزه و يقتله، و انما اجتمع عليه نفرٌ بعد ان اثخن بالجراح و اضرَّ به العطش حتي اسودّت السماء بعينه، و اعياه النزف و أضعفه، فاستبسل الجبناء بالاجهاز عليه بطريقة وحشية حاقدة باجمعهم حتي اختلفوا في تعيين قاتله.

يقول ابن حجر في شرح الهمزية: «و كان أكثر مقاتليه المكاتبين له و المبايعين له فلما جاءهم فرّوا عنه الي عدوه و كان الجيش الذي ارسله ابن زياد لمحاربته عشرين ألف مقاتل فحارب ذلك الجيش الكثير و معه من أهله نيف و ثمانون فقُتل أكثرهم و ثبت في ذلك الموقف ثباتاً باهراً و لولا انهم حالوا بينه و بين الماء ما قدروا عليه اذ هو الشجاع القرم الذي لا يحول و لا يزول».(2) اذن، لقد كانت حملات الحسين عليه السلام و صولاته مظهراً من مظاهر شجاعته و

ص: 156


1- كتب المقاتل. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 302.
2- الاتحاف ص 16.

ليست كل شجاعته، فالشجاعة التي نحن بصددها، و التي تعدُّ من جملة سجايا الحسين عليه السلام البارزة، هي تلك الحالة النفسانية و الروحية الوسط بين التهور و الجُبن، و التي تمنع صاحبها من الخوف و الجبن و الضعف و الفتور، و تردعه عن التهور و التجبّر و الظلم و الاسراف.

و هذه الملكة النفسانية، تقود القوة الجسمية العضلانية و توجهها نحو الاعتدال و الاستقامة، و حينئذٍ تعدُّ من الشجاعة، و الاّ كانت وَبالاً علي صاحبها و صارت سبباً لملامة الناس له و ذمِّهم اياه.

و هذه الصفة، من اشرف صفات الكمال و الفضيلة، و ان تجليات الكمالات البشرية مرتبطة.

فالامّة التي تنعدم في افرادها تلك الشجاعة الروحية الاخلاقية، يكون مصيرها الي العدم و الفناء، و تصير أسيرة سلطة الاجانب و الطامعين. فبقاء الأمم و عزَّتها و كرامتها، رهنُ ترجمتها للشجاعة.

فالتقيُّدات الزائدة، و الاحتياط بلا دليل، و خداع عوام الناس، و عدم قبول الرأي الآخر و النقد، و منع الحريّات، و كتم الانفاس و الفكر، و التهور في العمل، و التجاسر المجنون، و الضعف الروحي و عدم الصبر، و الظلم و العمالة للاجنبي، و خيانة الامّة، و السريُة و التستر في الامور، و الخنوع و الذلّ، كلها امور كاشفة عن فقدان الشجاعة. كما ان ضبط النفس و الثبات و الاستقامة، و الصراحة و مقاومة الصعاب و العقبات، و مواجهة منعطفات الحياة، و قبول النقد و الحوار البنّاء، و احترام حريات الآخرين، كلها امور تفرزها الشجاعة.

و كل مظاهر هذه الشجاعة قد تجسدت في الحسين عليه السلام، و كانت روحه مكانُ جسمُهُ، مركز عرض اسمي مراتب الشجاعة حتي صارت «الشجاعة الحسينية»

ص: 157

مضرب المثل.

ينقل الشيخ الشبراوي عن بعض اهل العلم إنَّ آل البيت حازوا الفضائل كلها علما و حلما و فصاحة و صباحة و ذكاءً و بديهة وجوداً و شجاعة، فعلومهم لا تتوقف علي تكرار درس و لا يزيد يومهم فيها علي ما كان بالأمس بل هي مواهب من مولاهم من أنكرها و أراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس فما سألهم في العلوم مستفيد و وقفوا، و لا جري معهم في مضمار الفضل قوم الاّ عجزوا و تخلفوا و كم عاينوا في الجلاد و الجدال أمورا فتلقوها بالصبر الجميل و ما استكانوا و ما ضعفوا تفرّ الشقاشق اذا هدرت شقاشقهم و تصغي الاسماع اذا قال قائلهم و نطق ناطقهم سجايا خصهم بها خالقهم.

ثم يضيف الشبراوي:

«و قد حل الإمام الحسين عليه السلام من هذا البيت الشريف في اوج ذراه و علافيه علوا تطامنت الثريا عن أن تصل الي معناه، و لما انقسمت غنائم المجد كان له منها السهم الاوفر و الحظ الاكبر، و قد انحصرت جرثومة عزِّ هذا البيت فيه و في أخيه فكان لهما من خلال المجد و الفضل ما لا خلاف فيه، كيف لا و هم إبنا فاطمة البتول الملحظان بعين الودِّ و الرأفة و القبول من أشرف نبي و أكرم رسول:

هُما شَمَّرا للمَجْدِ يَبْتَنِيانِهِ

ثم يقول:

«و الحسين عليه السلام أقدم بقوة الجنان الي مقارعة الابطال الشجعان و منازلة السيف و السنان فكان عليه السلام في حرب أعدائه كرارا صبّارا يري الفرار دناءةً و عاراً فلم يزل خائضا غمرات الاهوال بنفس مطمئنة و عزيمة مرحجنةٍ يري مصافحة

ص: 158

الصفاح غنيمة و مراوحة الرماح فائدة جسيمة و بذل المهج و الارواح في نيل العزّ ثمناً قليلاً و يأبي الدنية و إنْ تركته قتيلاً:

يري الموت احلي من ركوبِ دَنيَّةٍو لَيْسَ بِعَيْشٍ عَيشُ مَنْ ركَبَ الذُّلا

ثم يقول:

عندما قصد الحسين عليه السلام الكوفة سمع ابن زياد بهذا الخبر و أرسل اليه عشرين الف مقاتل و أمرهم أن يأخذوا البيعة منه ليزيد و إن أبي قتلوه. و عندما عرضوا عليه البيعة لم يقبل و تأسّي بجدّه و أبيه و لم يرض بالعار و الذلّ و تجلّت فيه الشجاعة و النّجدة الهاشميّة مع أنه كان قد حوصر هو و أهل بيته و أعزّته و أصحابه و صار مرماً للرّماح و النّبال و أثر أن يبقي ثابت القدم في الجهاد و صمد بشهامة عالية و بقوّة قلب لا نظير لها في مثل هذا الموقع الخطير و ناداهم قائلاً:

«يا أهلَ الكُوفة ما رَأيتُ أَغدَرَ منكم قُبحاً لكم، و تَعساً لكم الوَيلُ ثمَّ الوَيلُ، إستَصرَختُمونا فأتيناكم، و أسرعتُم إلي بيعتنا سُرعة الذُّباب و لمّا أتيناكم تَهافَتُّمْ تَهافُت الفراشُ، و سلَلتم علينا سُيوفَ أعدائِنا مِن غيرِ عدلٍ أفشَوهُ فيكم، و لا ذَنبٍ منّا كان إليكم، ألا لعنةُ اللّهِ علي الظّالمين.»

ثمَّ حَملَ عليهِم، و سَيفُهُ مصلَّتٌ في يدِهِ و هو يُنشِدُ:

أنا ابنُ عليّ الحِبْر مِن آلِ هاشمٍكَفاني بهذا مَفخَراً حينَ أفْخُرُ(1)(,2)

و يقول الشبراوي أيضاً: ثم لم يزل يقاتلهم الي ان اثخنوه بالجراح فطعن إحدي و ثلاثين طعنة و ضرب أربعاً و ثلاثين ضربة و غلب عليه العطش الي أن سقط الي الارض و مكث طويلاً من النهار كلما انتهي اليه رجل من أعدائه رجع عنه و كره أنْ يتولي قتله فقدم عليه رجل من كندة يقال له مالك فضربه علي رأسه بالسيف قطع البرنس و أدماه. و مكث طويلاً من النهار و لو شاؤوا أن يقتلوه لقتلوه و لكنهم كان يتقي بعضهم ببعض و يحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء فنادي شمر في الناس و يحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحملوا عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك التميمي بكفه اليسري فصار يقوم و يكبو بقوّة جاش و ثبات جنان و فضل شجاعة و عدم مبالاة بما فيه من الجراح و تمسك بشهامةٍ قرشية و هاشميّة غير مكترث ذلك الاسد الوثاب بنهش تلك الكلاب».(1) و روي الطبري و ابن الاثير عن عبد اللّه بن عمار: «فشدّ عليه رجّالة ممَّن عن يمينه و شماله، فحمل علي مَن عن يمينه حتي ابتعدوا، و علي مَن عن شماله حتي ابتعدوا، و عليه قميص له من خزّ و هو معتمٌّ؛ قال: فواللّه ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه، أربط جأشاً، و لا امضي جَناناً و لا أجرأ مقدماً منه، و اللّه ما رأيتُ قبلَه و لا بعدَه، مِثلَه؛ أن كانت الرّجالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشافَ المعزي إذا شدّ فيها الذئب، قال: فو اللّه إنه لكذلك إذ خرجتْ زينبُ ابنة6.

ص: 159


1- الاتحاف ص 16-15.

ص: 160

فاطمة أُخته، و هي تقول:

«لَيْتَ السماء تطابقت علي الأرضْ»!

و قد دنا عمر بن سعد من حسين؛ فقالت:

«يا عُمَر بن سَعْدٍ أيُقْتَلُ أبو عَبْد اللّهِ و أنْتَ تَنْظر اليهِ»!

قال: فكأني أنظر الي دموع عمر و هي تسيل علي خديه و لحيته؛ قال: و صرف بوجهه عنها.(1) و يقول ابن ابي الحديد:

و من كالحسين عليه السلام في شجاعته حيث نقل من حضر كربلاء أننا لم نجد مكثوراً قط قتل أهله و ولده و أصحابه أشجع منه حيث كان يحمل علي الاعداء فينهزمون من بين يديه كفرار المعزي و كيف ظنّك برجل لا يرضي بالذّل و لم يضع يده في يدهم حتي قتل.(2) و يقول العقّاد:

«و شَجاعةُ الحُسَين صِفَةٌ لا تُستَغْرَبْ مِنْهُ «الشيّ مِنْ مَعْدَنِهِ» كما قيل، و هي فضيلة ورثها عن الآباء و أوْرثَها الأبناء بعده»

الي ان يقول:

«و لَيْسَ في بَني الإنْسانِ مَنْ هو أشْجَعُ قَلباً ممّن أقدَمَ عَلي ما أقْدَمَ عَلَيهِ الحُسين في يَومِ كربلاء».

و يقول في موضع آخر:2.

ص: 161


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 345. الكامل لابن الاثير ج 3 ص 295.
2- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 482.

فانّه كان يقاسي جهد العطش و الجوع و السَهَر و نزف الجراح و متابعة القتال، و يلقي باله إلي حركات القوم و مكائدهم، و يدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات و يتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه و بلاءهم... و يتكاثر عليه وقر الأسي لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. و لا يزال كلما اصيب عزيز من اولئك الأعزاء حمله الي جانب اخوانه و فيهم رمق ينازعهم و ينازعونه و ينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه... فيطلبون الماء و يحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، و يرجع الي ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزماً يناهض به الموت و يعرض به عن الحياة... و يقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك» و يهدف صدره لكل ما يلقاه...(1) و يقول أيضاً:

«و ظَلَّ (الحسين عليه السلام) علي حُضور ذِهنِه و ثبات جأشه في تلكَ المحْنَةِ المتراكبة التي تعصف بالصَبْر و تطيش بالألباب، و هو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم و الدَم، و لا ينهضُ به إلاّ أولوا العزم من أندر ما يلد آدم و حوّاء.»

و لكنَّ حسين عليه السلام الشهامة و الاستقامة و الايمان، تحمَّل كل هذه المصائب و دافع تلك البليات التي تكفي واحدة منها لهدّ عزم اشجع الشجعان، كما يدفع الشجاعُ عن نفسه الابطال في الوغي.

بوركت حقيقة الإنسانية التي اذا تجلَّت غطَّت كل مناظر الجمال في عالم الخلقة، و منحت لحم و دم و عظام و شحم الإنسان قدْراً عالياً و تسامت حتي ساوت كل الممكنات وزناً و قدراً و اعتباراً، و اهتزّت رايتها في السماوات العُلي!3.

ص: 162


1- ابو الشهداء ص 136-133.

و بورك طلب الحق و رضا الرب، الذي يرتفع بروح الإنسان و يُعظمها الي درجة الارتقاء الي مصاف الانوار القدسية.

و بورك آل محمد، اهل بيت الرسالة، و قربي النبوة، الذين علّموا البشرية دروس الشرف و الاستقامة و الصبر و الفداء و رباطة الجأش و العزيمة!

و بوركت الامة الإسلامية، و الفخر و العزُّ للطائفة الشيعية الحقة و الفرقة المحقة، التي تحيي الذكري السنوية لهذه التضحيات و الفداء الفريد، و التجلّي العظيم للروح الإنسانية مستفيدة ومفيدة من هذه المراسم و الشعائر، دروس الاباء للمجتمع البشري!

10 - تجلّيات عظمة الحسين عليه السلام

اشارة

يتحدث العلايلي ضمن تعداده لمظاهر عظمة الحسين عليه السلام، عن عظمة صراحة لهجة الحسين و صدقه، و عن عظمة تصميمه، و عن عظمة إباء نفسه و علو همّته و رجولته.

و لان هذه المزايا الّتي ذكرها مستقاة من روح الحسين عليه السلام الفيّاضة الشجاعة الظافرة، لذا فسنقتصر علي نقل مقاطع من كلام العلايلي:

عظمة المضاء

و هذا جانب أكثر عَمليَّةً من الصراحة إذ هو التصميم و العزم النافذ و توطين النَّفس الي النهاية علي أية أشكالها. و هذا شي يشعر به أرباب المشاعر المُرهَفَة حتي أنهم يحسون في دمائهم غلياناً، كأن بركاناً انفجر و ثار في شرايينهم فهو يقذف بالحمم و يندفع كالسيل الناري حين ينصب من علو بين الشرر المتصاعد و القوة

ص: 163

المتدافعة، و بين النَّفس اللافح و الانهمار القوي، فلا براح من أن يمضي بدون تراخٍ تحت شعوره الجيّاش و احساسه الملتهب. و اسمعوا اسمعوا إلي كلمات الحسين عليه السلام كيف تخرج مع هذا الشعور الخطير قال: «الحمد لله، و ما شاء اللّه و لا قوة إلا باللّه و صلي اللّه علي رسوله خُط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة، و ما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف، و خيِّر لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلوات بين النواويس و كربلا فيملأن مني أكراشاً جُوَّفاً و أجربة سغباً لا محيص عن يوم خط بالقلم رضي اللّه رضانا أهل البيت، نَصبر علي بلائه و يوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقُرُّ بهم عينه و ينجز بهم وعده، إلاّ فمن كان باذلاً فينا مهجته و موطناً علي لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا، فانني راحل مصبحاً إن شاء اللّه تعالي».

هذه الكلمات الثائرة كانت منطق الحسين عليه السلام لأولئك الذين أرادوا أن يحملوه علي غير رأيه، و لهؤلاء عذرهم فانهم لا يحملون نفسه و لا يشعرون بشعوره، و لا تتوقَّد في نفوسهم ما يتوقَّد في نفسه.

و لندرك عظمة هذا الموقف الذي يقفه إلاّ أن يمضي الي غايته، نذكر الرجالات الذين نهوه عن الخروج، منهم أبوبكر عمر بن عبد الرحمن المخزومي، و عبد اللّه بن عباس، و عبد اللّه بن عمر، و محمد بن الحنفية، و كلهم من خُلَّص الرجال، و لكنهم في مواجهة الرجولة الحقة فقدوا جلد الرجولة و بدوا كدقاق الحصي في سفح الجبل الأشم حين تعصف العاصفة، تُسمِع أصواتاً مع انحدارها و ربما كانت ضجة من الأصوات، و الجبل في موقفه ساخر في صموت، و ساكن في غير مبالاة. و ربما كان جواباً خالداً في التصميم، و العزيمة، قول الحسين عليه السلام لابن عمر لما أشار عليه بصلح أهل الضلال، و حذره من القتل و القتال فقال: «يا أبا عبد الرحمن

ص: 164

أما علمت أن من هوان الدنيا علي اللّه، أن رأس يحيي بن زكريا، أهدي الي بغيٍّ من بغايا بني اسرائيل»

هذه فقرة نبيلة من جواب الإمام، تجعلنا نلمس مقدار قوة التصميم عنده، و مقدار مضاء العزيمة لديه، لتحقيق هدفه الذي لا يحيد عنه قيد أنملة.

و كذلك مضي و هو لا يري إلاّ مبدأه الذي يأتلف من كلمات ثلاث، ثم لا يسمع سوي صوت هذه الكلمات عميق الصدي سحرياً...

اللهُ رَسوله القُرآن

عظمة الإباء

و هذا جانب آخر من عظمة الإمام الشهيد، و لكنه أنبلها جميعاً و ذلك إذا رأينا كيف يَفقد المبدأ و الصراحة و المضاء ما فيها من معاني إذا أرضت صاحبه شهوة أو أقنعه مُنفَس، أو أجاب الي دنيا. و ليست تفقد معناه فحسب بل ينقلب النبل فيها عاباً، و الشرف حطة فكان الإباء حجر الأساس و ركن الزاوية و كذلك أبي الامام عليه السلام إلاّ الاباء و نطق بها كلمة تفرق منها نفس العاتي و تضؤل معها كبرياء الظالم «لا و اللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، و لا أفر فرار العبيد، يا عباد اللّه إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون، أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب»(1)

ثم قال عليه السلام:

«ثمّ ايمُ اللّه لا تَلبِثونَ بَعدَها إلاّ كَرَيثِ ما يُركَبُ الفرسُ حتّي تدورَ بِكُم دَورَ

ص: 165


1- سموّ المعني ص 117.

الرَّحي، و تقلُقَ بكم قَلَقَ المحوَرِ عهدٌ عهدَهُ اليَّ أبي عن جدّي فأجمِعوا أمركُم، و شركائَكم ثمَّ لا يكُنْ أمرُكم عليكُم غُمَّة ثمَّ اقضُوا اليَّ و لا تُنظِرون إنِّي توكَّلتُ علي اللّهِ ربّي و ربِّكم ما مِن دابّةٍ إلاّ هو آخذٌ بناصيَتِها إنَّ ربّي علي صِراطٍ مستقيمٍ»(1)

ثم أناخ راحلته، و ركب فرسه، و تهيأ للقتال...

أعظم بِهِ بَطلاً لَم يَعطِ متَّضِعاً

أكْرِمْ بها خلَّةً كانت لنا نَهَجاً ثمَّ استمَرَّت علي الأيَّام نِبراساً

أجل، ان الحسين عليه السلام و بما ورثه من عزَّةٍ عن جدِّه و بإباءِ شخصيّته لم يَهِن و لم يَنكُل أبداً، و عَجَزَ التاريخ أن يجد له نظيراً في شموخه و إبائه و عزّته. فلقد كان الحسين عليه السلام و لازال معلم الأجيالِ معلّمَ العزّةِ و الشّموخ.

ويقول ابن أبي الحديد:

«سيِّد أهْلِ الإباء الّذي علَّمَ الناسَ الحميَّةَ و الموتَ تَحتَ ظلال السّيوفِ إختياراً لَهُ علي الدَنيَّة، أبو عبد اللّه الحُسين بنُ علي بن أبي طالبٍ عليهما السلام الّذي عُرضَ عليه الأمان و أصحابُه فأنفَ مِنَ الذّل...»(2)

عظمة البطولة:

هذا جانب من العظمة أشد ما يكون وضوحاً عند الحسين عليه السلام، و ربما لم يظهر عند غيره بالروعة التي نراها عنده، و لعل أبرع مواقف بطولة الحسين عليه السلام، هذا

ص: 166


1- مقطع من خطبة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشواراء.
2- شرح نهج البلاغة ج 1 ص 302.

الموقف الذي يقول فيه:

«قوموا رحمكم اللّه إلي الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رُسُلُ القوم إليكم»، فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً و حملةً، حتي قتل من أصحاب الحسين عليه السلام جماعة. فعندئذ ضرب الحسين عليه السلام يده إلي لحيته و جعل يقول:

«اشتد غضب اللّه علي اليهود إذ جعلوا له ولداً، و اشتد غضبه علي النصاري إذ جعلوه ثالث ثلاثة، و اشتد غضبه علي المجوس إذ عبدوا الشمس و القمر دونه، و اشتد غضبه علي قوم اتفقت كلمتهم علي قتل ابن بنت نبيهم، أما و اللّه لا أجيبهم إلي شيء مما يريدون حتي ألقي اللّه و أنا مخضب بدمي»(1)

محل الروعة البالغة أو بلاغة الروعة في قوله «قوموا إلي الموت رحمكم اللّه» و في قوله «أما و اللّه لا أجيبهم إلي شئ مما يريدون حتي ألقي اللّه تعالي و أنا مخضب بدمي»

هاتان الفقرتان اللتان ترسمان بكل وضوح نفسية الحسين عليه السلام غير هياب و لا وجل و لا شكس و لا وكل. يدعو أصحابه إلي الموت كأنما هو يدعوهم إلي مأدبة لذيذة، و لقد كانت لذيذة عنده حقاً، لأنه و هو ينازل الباطل يرتسم له برهان ربّه الذي هو مبدؤه، و يسمع صوت اللّه الذي هو صوت ضميره، ثم يشد علي القوم، و هو لا يري بناظريه إلاّ هذه الكلمات الثلاث...

اللهُ رسُوله القُرآن

و اذا ما اردنا ان نواصل الحديث في شجاعة الحسين عليه السلام و ثباته الروحي و الجسدي، لن نكمل كتابة هذا الكتاب قريباً، و لذا نحاول ان نطوي هذه الصفحة8.

ص: 167


1- سمو المعني ص 118.

المشرقة من حياة أبي الشهداء، و نقنع بهذا القليل، محيلين القارئ العزيز الي كتب المقاتل، للتأمل في تاريخ حياة و سيرة الإمام الحسين عليه السلام.

11 - صبر الحسين عليه السلام

اشارة

تُعدُّ هذه الصفة من اصول الاخلاق الحميدة و الملكات المحمودة، و قد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم وصلت الي السبعين آية في خصوص الصبر، من جملتها:

«انَّما يُوفَّي الصابرونَ أجرهم بغَير حسابٍ»(1)

«و لَنَجزيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أجرَهُم بِأحسَنِ ما كانوا يَعملوُنَ»(2)

«و اصبِرُوا إنَّ اللّهَ معَ الصابِرينَ»(3)

«و جَعَلنا مِنهُم أئِمَّةً يَهدُونَ بأمرِنا لمَّا صَبَرُوا»(4)

«إصبِروا و صابِروا»(5)

«و اصطَبِر لِعِبادَتِهِ»(6)

«يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا استَعينُوا بالصَّبرِ و الصَّلاةِ إنَّ اللّهَ معَ الصابِرينَ»(7)

و من الروايات المعروفة في هذا المجال:

ص: 168


1- سورة الزمر، الآية 10.
2- سورة النحل، الآية 96.
3- سورة الانفال، الآية 46.
4- سورة السجدة، الآية 24.
5- سورة آل عمران، الآية 200.
6- سورة مريم، الآية 65.
7- سورة البقرة، الآية 153.

«الصبرُ من الايمانِ كالرأسِ منَ الجَسَدْ لا خيرَ في جَسَدٍ لا رأسَ مَعَهُ و لا في ايمانٍ لا صبرَ مَعَهْ»

و عن امير المؤمنين عليه السلام:

«إطرَحْ عَنكَ وارداتِ الهُموم بِعزائِمِ الصَّبْرِ و حُسنُ اليَقينِ»(1)

و للوقوف علي فضيلة الصبر و تعريفه و مراتبه و درجاته و اقسامه، راجع كتب الحديث و الاخلاق، كبحار المجلسي و المحجّة البيضاء و جامع السعادة و معراج السعادة.

يقول الراغب في «مفردات القرآن»:

«الصبرُ حَبسُ النفسِ علي ما يَقتضيهِ العقلُ و الشَرعُ أو عمّا يقتضيانِ حَبسَهما عَنهُ.»

و المستفاد من الآيات و الروايات، مضافاً الي علو مقام و مرتبة الصابرين، ان الصبر مفتاح البركات، و انه مقدمة لنيل كل المقامات المعنوية، و انه شرط الموفقية و النجاح في كل عمل و كسب كل فضيلة.

و لقد نجح الإمام الحسين عليه السلام في الامتحان في مقام الصبر نجاحاً أبهَرَ اعداءَهُ قبل محبّيه، بل ان صبْرَه مما تعجبت منه الملائكة، و كما ورد في الزيارة المنسوبة الي الناحية المقدسة:

«لَقَد عَجَبتْ مِن صَبركَ ملائكَةُ السماء»(2)

و وصل صبره الي درجة انه صار من اوضح الواضحات و المسلّمات، و لكنن.

ص: 169


1- شرح نهج البلاغة. ابن ابي الحديد ج 1 ص 107.
2- الزيارة الناحية - ضياء الصالحين.

و مع ذلك و لتتميم الفائدة الاخلاقية و السلوكية، نعرض لبيان عدة تجلّيات من صبره عليه السلام:

الصبر علي الجهاد:

و أحَدِ معاني هذا الصبر، هو عدم ضعف المجاهد في سبيل اللّه، اذا ما اثخن بالجراح، و عدم الادبار في المواجهة، و عدم التزلزل في العزم و الصمود، و المحافظة علي الاقدام عند مواجهة الحشود الهاجمة.

إنَّ من جملة اسباب فتوحات المسلمين في صدر الإسلام، هو حالة الصبر التي كانوا يتدرعون بها في الجهاد لكسب الثواب و الفوز بالقرب الالهي في ساحات الوغي، و القرآن يمتدح هؤلاء بقوله:

«و الصابرينَ في البأساء و الضَرَّاء و حين البأسْ»(1)

و قال تعالي:

«كَمْ مِن فِئَةٍ قليلَةٍ غَلبَتْ فئةً كثيرَةً بإذنِ اللّه و اللّه مع الصابرينَ»(2)

و هذا السبق في سوح الجهاد، كان و بالدرجة الاولي نصيبَ علي عليه السلام و آل عليّ، حيث لم نعهد لهم هزيمةً و إدباراً أبداً. فلقد كان امير المؤمنين عليه السلام في بدر و أحد و الاحزاب و حنين و غيرها من الحروب و الغزوات، ثابت القدم و في غاية الصبر و التحمل، حتي انه اصيب في «أُحُد» بتسعين جراحة و ضربة، و لم يكفَّ عن القتال دفاعاً عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله و عن الإسلام.

ص: 170


1- سورة البقرة، الآية 177.
2- سورة البقرة، الآية 249.

و لقد اصيب اخوه جعفر ابن ابي طالب في «مؤته» باكثر من سبعين جراحة سيف و رمح و سهم، و مع ذلك بقي رافعاً راية الإسلام عالية حتي قُطعت يداه الكريمتان، و طبقا لبعض الاخبار انه بقي مرابطاً حتي قُدَّ جَسَدُه نصفين.

يقول عباس محمود العقّاد واصفاً صبر الحسين عليه السلام:

فانفرد وَحده يُقاتل الزحوف المطبقة عليه، و كان يحمل علي الذين عن يمينه فيتفرقون، و يشدُّ علي الخيل راجلاً و يشقّ الصفوف وحيداً و يهابُه القريبون فيبتعدون، و يهمُّ المتقدمون بالاجهاز عليه ثمَّ ينكصون...»

ثم يقول:

«و وجدَت بعد موته عليه السلام ثلاث و ثلاثون طعنة، و اربع و ثلاثون ضربة غير اصابة النبل و السهام و احصاها بعضهم في ثيابه فاذا هي مائة و عشرين»(1) بل، ان المستفاد من بعض الروايات أنَّ مجموع الجراحات الواردة علي جسده الشريف بلغت (310) جراحة سيف و طعنة رمح و إصابة سهم و جرح حجارة، و الملفت للنظر هو إنَّ كل تلك الجراحات كان في مقدم جسده و وجهه و صدره الشريف.(2) و مع كل هذه الجراحات الدامية، ظلَّ يجاهد و ينازل الجموع و يرتجز و يحمل علي الرجال راجلاً، حتي انه و عندما خرَّ علي وجهه جعل يقوم و يكبو و هم يطعنونه برماحهم و يضربونه بسيوفهم حتي سكن حراكُه، فتنادي القوم بمصرع الحسين عليه السلام فبلغت صيحتهم مسمعه الذي اثقله النزع، فلم يخطر له انه ضعيف1.

ص: 171


1- ابو الشهداء ص 155.
2- القمقام الزخّار ص 468. مروج الذهب ج 3 ص 11.

منزوف فالتمس سيفه فاذا هم قد سلبوه، فلم يجد الا مُدية صغيرة قنع بها و غالب الوهن و الموت ثم وثب علي قدميه من بين الموتي وثبة المستيئس الذي لا يفرُّ من شئ، فتولاهم الذعر، و شُلَّت أيديهم من الخوف، فانطلق يُثخن فيهم قتلاً و جرحاً و لم يقووا عليه، فكان عليه السلام الصابر حقّاً و المجاهد صدقاً.

الصبر علي فقدان الأحبّة

و هذا القسم من الصبر، اشدُّ من الصبر علي الجراح و السيوف و الأسرع في اضعاف العزيمة، و لكنّ الحسين الذي يعدل صبره و ثباته صبر الجبال الرواسي، صبر علي تلك المصائب المفجعة من مصرع الاولاد و الاخوة و الاحبَّة و هم خير الأهل و خير الصُحب الذين كانوا يتلظون عطشاً امام عيني الحسين عليه السلام، لكنه صبر. صَبَر الحسينُ صبراً لم يشهد عالم الخلقة الإنسانية نظيراً له، صبر عندما رُميَ طفلُه الرضيع في حجره بسهم حقود مسموم، و صبر عندما ضرب ابنُ اخٍ له لم يتجاوز العاشرة من عمره، جاء مدافعاً عن عمه الحسين عليه السلام فضربه لئيم من اللئام بضربة اتقاها الغلام بيده فقطعت يدُه و هو في حجر عمّه الذي كان ملقي علي الرمضاء، وحيداً لا ناصر له و لا معيناً، و صبر الحسين عليه السلام عندما رأي طفلاً له فرَّ من الخيمة طلباً لجرعةٍ من الماء يطفئ بها لهيب قلبه الذي اضرَّ به العطش فاذهله عن مخاطر تلك الساعة، فضربه القوم بعامود خيمة لا يتحملها كبار الرجال، فقضي الغلام عطشاناً مظلوماً.

و صبر الحسين عليه السلام و أمر ابن اخيه الصغير الذي قطعت يده في المعركة و بقيت معلقة بجلدة عضده، أمره بالصبر كما يأمرُ الفرسانَ بذلك، و قال:

«يا إبْنَ أخي إصبِرْ علي ما نَزَلَ بك، و إحتسب في ذلك الخَير.»

ص: 172

و صبر الحسين عليه السلام و هو يري بوادر أسرِ بناته و اخواته و نسائه و هنَّ عقائل النبوة و مخدرات الامامة، و كان وقْع ذلك علي قلبه، أكبر من وقع السيوف و الرماح، لكنه صَبَر و أوصاهم بالصبر و الوقار و التحمل و بشَّرهم برحمة اللّه و لطفه و حمايته لهم، فقال:

«و رَحمَةُ اللّهِ لا تُفارقُكُم في الدنيا و الآخرة.»

ضبط النفس

ورد عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله انَّ القوي من ملك نفسه عند الغضب، و لم يُعهد عن الحسين عليه السلام انه تبع غضبه يوما ما، بل كان مالكاً لنفسه حين غضبه، و مهما اجتمعت عليه مناشئ الغضب لم تؤثر في سلوكه و لو لطرفة عين، و لم تخرجه عن حلمه و سكينته، يقول العلايلي:

إنَّ غلاماً وقف يصبُّ الماء علي يديه فوقع الابريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه فقال الغلام يا مولاي: «و الكاظمين الغيظ»

قال عليه السلام: كظمت غيظي، قال: «و العافين عن الناس» قال عليه السلام: «قد عفوت عنك»، قال: «و اللّه يحب المحسنين». قال الحسين عليه السلام: «اذهب فانت حرٌّ لوجه اللّه الكريم»(1)

و من جملة تجلّيات حلم الحسين عليه السلام و ملكه لنفسه ساعة الغضب، ما قام به في كربلاء عندما التقاه جيش الحرّ بن يزيد و هم عطاشا في تلك الصحراء القاحله فسقاهم الحسين عليه السلام الماءَ عن آخرهم و سقي خيولهم و رشَّفها.

ص: 173


1- سموّ المعني ص 161.

يقول علي بن الطعّان المحاربي: كنت مع الحرِّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من اصحابه، فلمّا رأي الحسين مابي و بفرسي من العطش قال: «يا ابنَ أخ أنخْ الراويَة» فانَختَهُ، فقال: إشرب، فجعلتُ كلّما شربت سال الماء من السقاء، فقام الحسين عليه السلام: «إخنث السِقاء» اي اعطفه. قال: فجعلت لا ادري كيف أفعل، فقام الحسين عليه السلام فَخَنَثَهُ، فشربت و سَقَيتُ فرسي.»(1) و من نماذج صبر الحسين عليه السلام إباؤه البدء بالحرب، علي معرفته بان هؤلاء الكفار لن يرحموه و لن يرحموا اعزّته، فرموه بالنبال و صبر و اقام الحجّة عليهم و لم يمدَّ ولا أحدٍ من صحبه يداً علي سلاح.

لما وصل كتاب ابن زياد الي الحرّ بن يزيد بمحاصرة الحسين عليه السلام و الجعجعة به علي غير ماء و كلاء، قال زهير بن القين: يابن رسول اللّه انَّ قتال هؤلاء اهون علينا من قتال من يجئ من بعدهم، فقال له الحسين عليه السلام:

«إنّي اكرَهُ أنْ أبدأهم بقتال»

و حتي عندما منعوا الماء عن الحسين عليه السلام و صحبه، فلم يبق في مخيم الحسين ذو روح من الرجال و النساء و الاطفال و حتي الجياد، الا و هو يعاني من العطش، و تعالت الصرخات بالعطش، مع ذلك لم يبدأهم الحسين عليه السلام بقتال.

و رأي شمرَ ابن ذي الجوشن، - من أبغض مبغضيه المؤلبين عليه يدنو من بيوته و يجول حولها ليعرف منفذ الهجوم عليها، فابي علي صاحبه مسلم بن عوسجة ان يرميه بسهم و قد امكنه ان يصميه و هو اسدَّ الرماة، لانه (اي الحسين عليه السلام) كره ان يبدأهم بعداء(2) ، و كانه اراد ان تكون حربه دفاعية محضة.3.

ص: 174


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 603. منشورات مؤسسة الاعلمي.
2- ابو الشهداء ص 144-143.

و من جملة مظاهر عفوه و صبره، و عملاً بالآية الشريفة: «و لِمَنْ صبرَ و غَفَرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأُمور»(1)

هو قبوله توبة الحر بن يزيد، و ملاطفته له و محبته اليه، و هو لا يصدر الاّ من معدن الصبر و الحلم و العفو و المغفرة.

الصبر علي العطش

و لعمري انّهُ لمن اقوي انواع الصبر، و خاصة عندما يشتدُّ العطشُ بالمرء.

فالثبات و الصمود عند اشتداد العطش و عدم الخضوع و التسليم للباطل، لهو من علامات العزم الراسخ الكبير و لعلّنا لا نجد في التاريخ من صَبَر علي العطش كالحسين عليه السلام.

و بحسب النقولات التاريخية، فان الماء قد مُنع عن خيام الحسين عليه السلام من اليوم السابع من المحرم، و ان كان بعض اصحاب الحسين عليه السلام و خاصة ابو الفضل العباس قد تمكنوا من الاستقاء لبعض الماء ما بين اليوم السابع و العاشر، فان هذا الماء كان يخصص للاطفال و النساء و لم يكن للكبار نصيب فيه، و علي هذا فالحسين و أصحابه لم يشربوا الماء ليومين أو ثلاثة أيام، و يكون صبرُهم علي العطش، خاصة يوم القتال، صبراً لا نظير له. و من عاش حرارة الطقس في العراق، يعرف جيداً ان تحمل العطش لعدة ساعات امرٌ بعيد المنال، خاصة في زحمة الجهاد و المبارزة و الجراح و حرارة الشمس و نزف الدم و الهيجاء و الغُبار، كل ذلك باعث علي اشتداد إضرار العطش، و لكن الإمام العطشان صبر علي ذلك و لم يستسلم لاولئك

ص: 175


1- سورة الشوري، الآية 43.

الاوغاد.

صلّي اللّه عليك يا أبا عبد اللّه

الصبر علي الطاعة

لا شكَّ في أنَّ كل تجليات صبر الحسين عليه السلام انما كانت طاعة للّه و أمره، و لامتثال تكاليفه، فاستقبال الحسين عليه السلام لتلك البليّات و المصائب، و رفضه لكل الدعوات التي صدرت من محبّيه و من اعدائه، للتنازل و الاستسلام و البيعة ليزيد، انما كانت امتثالاً للاوامر و النواهي الالهية و تطبيقاً لاحكام الشريعة و تجسيداً للصبر علي الطاعة.

عزيزي القارئ، إنَّ شخصية الإمام الحسين العظيمة، و مناقبه و فضائله و كرائم اخلاقه، قد بلغت و في كل الجهات، حدّاً من العظمة الي درجة استحالة الالمام بها بعدة مقالات، بل و حتي المؤلفات المستقلة المختصة بذلك عاجزة عن الاحاطة ببعضها، و لذا نجد أنفسنا عاجزين الاّ عمّا قدمناه من مختصر وجيز لبعض تجليات تلك الصفات، و نقول بنحو جامع و ملخص: إنَّ الحسين عليه السلام هو اكملُ الناس علماً و معرفةً و حلماً و فصاحةً و بلاغةً. (1)

ص: 176


1- ان الكلمات الاعجازية للحسين عليه السلام و خطبة الفصيحة البليغة و مواعظه و نصائحه الجامعة و الادعية التي أثرت عنه و ضبطت في كتب العامة و الخاصة، لخيرُ دليل و برهان علي ان الحسين عليه السلام كأبيه امير المؤمنين عليه السلام، مالكِ مُلك الفصاحة و حاكم اقاليم البلاغة. يقول معاوية بن ابي سفيان في معرض وصفه لمنطق الحسين عليه السلام و جميل بيانه: «لكنّها ألسنَةُ بني هاشمٍ الحِداد الّتي تفلِقُ الصَخَرَ و تغرِفُ من البحر.»

البحث الثاني: بني هاشم و بني أُميَّة

اشارة

ص: 177

ص: 178

بَني أُمَيَّة و بني هاشم

اشارة

لا نبالغ اذا ما قلنا باننا لم نجد صراعاً بين الحق و الباطل، و لا مواجهة بين اولياء اللّه و المصلحين مع المفسدين و الظالمين، كالمواجهة و الصراع الذي كان بين بني هاشم و بني امّية، حيث تشخّصتْ الفرقتان و امتاز صفُّ اصحاب الفضيلة، اصحاب الخير و الشرف عن صفِّ عناصر الشرِّ و الباطل.

كما لا مبالغة في القول: انَّهُ لم تنكشف حقيقةُ صراعِ بين أهل الحق و اهل الباطل، كانكشافها في صراع الحسين عليه السلام مع بني اميّة في قدسية اهداف الحسين عليه السلام و رذالة اهداف يزيد.

و ما تجلّي من الحق في جبين الحسين يومَ كربلاء، و انتشار جمال حقيقته في آفاق العالم، و تمزيق ستائر الخداع و الفساد، لم يتجلَّ في مظلوميّة و استشهاد ايِّ واحدٍ من شهداء طريق الحق و قادة الاديان.

أجل، إنَّ المثل الأعلي و النموذج الاكمل لخصال الايمان و طلب الحق، و حُبّ الخير و العدالة و الفضيلة، هو خاتم الأنبياء محمد صلي الله عليه و آله، و من بعده أمير المؤمنين عليه السلام الذي اقترب و اقترب من الحق، و لازمه الي درجة تصديق و تصريح لسان الوحي بهذه الملازمة، فقال: «علي مع الحق و الحق مع علي» و كما كانت جنود الحق و التوحيد في حروب النبي و علي مع الكفار و الباطل متميّزة كل التميّز عن جنود الشرك و الكفر، فكذلك في هذه المعركة التي تجسد الحق في شخص الحسين عليه السلام و

ص: 179

تجسد الباطل في شخص يزيد، تميزت قوي الحق عن قوي الباطل بلا ادني شبهة.

لقد كان بنو هاشم في الجاهلية و في الإسلام، الدَّ خصوم الظلم و الجور، و حماة المظلومين و حرسة الحق و العدالة، فهم الذين لعبوا الدور المشرف في حلف الفضول في الجاهلية و وقفوا لنصرة المظلومين يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و البغي، و بذلوا الاموال من اجل رفع الحيف عن الفقراء، كما ذكر ذلك مفصلاً في كتب التاريخ و كان موقفهم ذاك نابعاً عن حسّهم الانساني بحبّ النوع البشري و دليلاً علي نقاء نيّاتهم و سرائرهم و كاشفاً عن طيب عنصرهم و طهارة نفوسهم و كمال سجاياهم، و لو انّ العالم المعاصر المتمدن اليوم تعاقدوا علي مثل ذلك الحلف، لكان ذلك فخرهم الوحيد، و إنجازهم الاهم.

لقد كان حلف الفضول من أشرف العهود التي ابرمت قبل الإسلام و نموذجاً عن قدس الروح و طهارة الباطن و نزاهة الأخلاق و عدالة و شرف بني هاشم الرفيع، اذ أنَّ اولَّ من سعي جاهداً لتاسيس هذا الاتحاد الطاهر و المقدس، و العامل علي تطبيقه و ترجمته عملياً، هو الزبير بن عبد الملك، عمُّ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله و اشترك فيه عموم بني هاشم، و قد حضره النبي الاكرم صلي الله عليه و آله حين انقعاده في دار عبد اللّه بن جذعان و كان من شيوخ قريش، و كان عمر النبي يومذاك خمساً و عشرين عاماً، و كان النبي بعد البعثة يقول:

«لَقَدْ شهدتُ في دار عبد اللّه بن جِذعانَ حِلفاً لو دُعيتُ الي مِثْلُهُ في الإسلامِ لأجَبْتُ»

و في نقل آخر:

«لَقَدْ شهدتُ في دار عبد اللّه بن جِذعانَ حِلفاً ما احبُّ أنَّ لي بِهِ حُمْر النِّعَمِ و لَوْ أُدعْي بهِ في الإسلام لأجَبْت»

ص: 180

و في آخر:

لَقَدْ... ما احِبُّ أنَّ لي بِهِ حُمْر النِعَمْ، و لو دُعيتُ به اليوم لأجبتُ لا يزيدُه الإسلامُ إلاّ شدَّةً»

و كان سبب هذا الحلف أنَّ قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة علي الحميَّة و المنعة، فتحالف المطيِّبون و هم بنو عبد مناف و بنو أسد و بنو زهرة و بنو تيم و بنو الحارث بن فهر علي أن لا يُسلموا الكعبة ما أقام حراء و ثبير و ما بلّ بحر صدفه. و صنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه.

و قيل إن الطيب كان لأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، و هي توأم عبد اللّه أبي رسول اللّه، و تحالفت اللَّعقة و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم و بنو جُمَع و بنو سهم و بنو عديّ علي ان يمنع بعضهم بعضاً و يعقل بعضهم عن بعض و ذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها؛ فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب و من لا عشيرة له حتي أتي رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سَهم فأخذها السهميّ و أبي ان يعطيه الثمن، فكلّم قريشاً و استجار بها و سألها إعانته علي أخذ حقّه فلم يأخذ له احدٌ بحقّه فصعد الأسدي أبا قُبَيس فنادي بأعلي صوته:

يا أهلَ فِهر لمظموم بضاعَتَهُ

و قد قيل لم يكن رجل من بني أسد و لكنه قيس بن شيبة باع متاعاً من أبي خلف الجمحي و ذهب بحقه، فقال هذا الشعر، و قيل بل قال:

يالَ قُصَيّ كيفَ هذا في الحَرَم و حُرمَة البيْتِ و أخلاقِ الكَرَم أظلَمُ لا يُمْنَعُ منّي مَنْ ظَلَم

ص: 181

فتذمّمت قريش فقاموا فتحالفوا ألاّ يُظلم غريب و لا غيره و أن يؤخذ للمظلوم من الظالم، و اجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان التيميّ. و كانت الأحلاف هاشم و أسد و زهرة و تيم و الحارث بن فهر فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمّي حلف الفضول. و قال بعضهم: حضر ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة و الفضل بن حشاعة و الفضل بن بضاعة فسمّي بهذا الاسم. و قد قيل إنَّ هؤلاء النّفر حضروا حلفاً لجُرْهم فسمّي حلف الفضول بهم و شُبّه بالحلف في تلك السنة.

و من حلف الفضول و غيره، يتضح لنا ان كرائم الأخلاق و الشرف و الفضيلة و الغيرة و الصدق و العدالة و الامانة و الشجاعة و صراحة اللهجة و التقوي و الفداء و الايمان، كانت مقدسة في قاموس بني هاشم.

و لمزيد الإطلاع علي المكانة الروحية و الملكوتية لبني هاشم، راجِع تاريخ آباء النبي الاكرم محمد صلي الله عليه و آله.

و كان من جملة صفات بني هاشم البارزة، طهارة النسب، العفاف، السخاء، قري الضيف، اشاعة العدل، الاحسان الي الفقراء، و سقاية الحاج و اطعامهم، و التي تتفق التواريخ علي اثباتها لهم.

و مهما سودنا الصفحات في بيان فضيلة بني هاشم فهو قليل و انه من توضيح الواضحات، و بعيد عن الأدب و العقل ان يُقارِنَ الانسان بينهم و بين بني اميّة، و لا يليق بكاتب مسلم بل و كل كاتب مطلِّع علي التاريخ، منصفٍ للقيَم، إذْ إنَّ تلك القبيلة التي كان لها فخر انتساب فخر الكائنات و المصطفي من العالمين و التجلِّي الاكمل للحقيقة الإنسانيّه لها، لهي قبيلة راجحةٌ في كفة ميزان كل المقاييس و المثل العليا، فكيف بقبيلة رذيلة كبني اميّة التي يضرب المثل بلؤمهم و كفرهم و فسقهم و فجورهم علي مرِّ تاريخهم؟

ص: 182

إنَّ التقابل و المواجهة التي تحققت بين ابراهيم خليل اللّه و نمرود، و بين موسي كليم اللّه و فرعون، و بين محمد حبيب اللّه و ابي جهل و ابي سفيان، و بين علي ولي اللّه و معاوية، و بين الحسين سيد الشهداء و يزيد، هذه المواجهة و إن وقعت بين شخصين أظهر كلُّ منهما ماهيته و حقيقته، لكنها في الواقع معارضة و مقابلة بين النور و الظلمة و بين الحق و الباطل، و بين الخير و الشرِّ، و بين العدل و الظلم، و بين القسط و الجور، و بين العلم و الجهل.

و في مثل هكذا مواجهة، يُعاب القياس و الترجيح، اذ أنْ كل الكمال قد تحقق في طرفٍ، و كل السقوط و الإنحدار قد تحقق في الطرف الثاني، فلا وجه للقياس البتة، و من الواضح ان إثبات تقدم الحق علي الباطل، و الخير علي الشرّ، و العلم علي الجهل، لا يحتاج الي دليل و برهان.

فلو أننا اخذنا بنظر الاعتبار قداسة شخصية الحسين عليه السلام و محبوبيته عند عامة المسلمين، و أخذنا بالمقابل سي سمعة يزيد، و نفرة الناس عنه، لكان ذلك كافياً للتدليل علي ان المواجهة كانت بين الحق و الباطل.

لقد كان الحسين عليه السلام قد بلغ رتبة من الصلاح الاخلاقي و قدس المقام الي درجة أن احداً من بني اميّة أنفسهم لا يشكّ في ذلك، و ذلك، حتي اولئك الذين قتلوه طمعاً بالحُطام، لو رجعوا الي ضمائرهم لما استطاعوا انكار فضل الحسين عليه السلام و انكار أحقيّته بالخلافة و زعامة المسلمين.

لقد كان الحسين عليه السلام اقرب للناس الي قلوب المسلمين، حتي صاراً رمزاً و عنواناً لحبهم لنبيِّهم، كيف لا و هم عاشوا حنان رسول اللّه لولده الحسين و اخيه الحسن، و لمسوا شفقته عليهما و حنوّه لهما.

فهم، شاهدوا النبي يخرج من دار عائشة يوماً فيمرُّ علي بيت ابنته و حبيبته

ص: 183

فاطمة فيسمع الحُسين يبكي. فيقول:

«ألَم تَعلمي أنّ بكاءُهُ يُؤذيني»

و سمعوه و هو يقول لفاطمة: أدعِ إلَيَّ ابنَيّ» فيشمهما و يضمّهما اليه و لا يبرح حتي يُضحكهما و يتركهما ضاحكين.» و هذا ما لم يكن يفعله احدٌ من الناس في ذلك الزمان.

و قد اوضحت الروايات شدّة تعلّق النبي صلي الله عليه و آله بالحسين عليه السلام حتي لم يبق شكٌّ عند أحدٍ بان النبي كان يري في الحسين عليه السلام مصدراً للآيات، و انه صاحب كرامات و مقامات عاليات و ان له شأناً من الشأن، و من هنا كان الحسين عليه السلام أحبّ الناس الي قلب النبي صلي الله عليه و آله و في بعض الروايات انَّ فاطمة الزهراء عليها السلام مرضت لما ولدت الحسين عليه السلام و جفَّ لبنها، فطلب رسول اللّه في مرضعةً فلم يُجْدِ، و كان يأتيه فيلقَمهُ ابهامَهُ، فَيمُصَه و يجعل اللّه في ابهام رسول اللّه صلي الله عليه و آله رزقاً يُغذيه، فيفعل ذلك أربعين يوماً و ليلة، فانبت اللّه سبحانه وتعالي لحم الحسين عليه السلام من لحم رسول اللّه.(1) و لقد عاش الحسين عليه السلام سبعاً و خمسين سناً بين الناس و كان له من الاعداء من لا يأبَه بالافتراء علي غيره، و لكن و حتي هؤلاء لم يتجرأ أحدٌ منهم ان يعيب علي الحسين عليه السلام بمعابة او ان ينكر احدهم ما ذاع من فضل الحسين عليه السلام و حسن طبايعه، حتي حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحسين عليه السلام له و تحقيره ايّاه، فاقترحوا علي معاوية ان يكتب اليه بما يصغّره في نفسه فقال معاوية علي مكره و شدَّة افترائه و حيَلة:

«وَ ما عَسَيْتُ أن اعيبَ حُسيناً، و اللّه ما أري للعَيِّبِ فيهَ مَوْضعاً»4.

ص: 184


1- ابو الشهداء ص 54.

اجل، لقد كان معاوية واقفاً علي زوايا خفايا سيرة الحسين عليه السلام البيضاء و كان يتجسَّسُ علي حالاته، و كان اكثر الناس طلباً لثغرةٍ في الحسين عليه السلام ينفذُ منها للنيل منه و اعابته، و مع ذلك قال:

«و اللّه ما أري لِلعَيّب فيهِ مَوضِعاً»

و كان صادقاً في ذلك، فهو يعلم انه لو عاب الحسين عليه السلام، للحقت به هو لعنة الناس و تكذيبهم ايّاه، لعلمهم ان لا موضع للعيب و النقص في الحسين عليه افضل الصلوة و السلام.

و لو دققت النظر، لما وجدت في قتلة الحسين عليه السلام أحداً يُحسن الظنَّ بيزيد و ابن زياد و جهاز الحكم الاموي، او يُسئ الظنَّ بالحسين عليه السلام، بل كان اغلب مَن اشترك في قتله، او الذين سكتوا و حايدوا، كان همُّهم الطمع بالمال و المقام، أو الخوف من العزل و مصادرة الأموال.

اذن، فملاحظة قدس مقام الحسين عليه السلام و من اي زاوية و ناحية كانت، و ملاحظة رذالة يزيد في اي زاوية و ناحية، يكفي لمعرفة الحقَّ من الباطل فهي اوضح من الشمس في رابعة النهار.

بل، لو القيت نظرةً علي اصحاب الحسين عليه السلام و القيت مثلها علي عسكر يزيد، لوقفت علي حقيقة المعركة التاريخية بينهما.

فاصحاب الحسين عليه السلام أمثال سيد القراء حبيب ابن مظاهر، و مسلم بن عوسجة، زهير بن القين، الحر بن يزيد، برير، عابس، و شباب بني هاشم الاطهار أمثال مسلم بن عقيل و ابي الفضل العباس و علي الاكبر عليهم السلام و اتباع يزيد: ابن زياد، عمر بن سعد، شمر، مسلم بن عقبه، مروان، الحصين بن النمير، و امثالهم من الاشقياء المعروفين و الجلاّدين و القتلة الماجورين و حثالة التاريخ،

ص: 185

الذين اشتركوا بقتل ابن بنت رسول اللّه صلي الله عليه و آله او اشتركوا في مجزرة المدينة و هدم الكعبة المعظمة و الجرائم المماثلة.

و لكي نقف علي عظمة ثورة الحسين عليه السلام و ضرورة نهضته المقدسة، نفهرس هوية بني اميّة و عدة نفرٍ من كبار هذه الشجرة الملعونة، و ننقل باختصار جوانب من ملامح كفر و شرك و دناءة هذا النسب، و فضائحهم، ظانّين أنَّ هذا المجمل يُرشد القارئ العزيز الي قراءة المفَصَّلْ.

بني اميّة

بني اميّة اسمٌ يُطلق علي عدَّة بُطون من العرب، أحدها هم بني اميّة المعروفين و هم بطنٌ من قريش بانتسابهم الي اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف.

بني اميّة في ميزان الخُلق

يُعدُّ بنو اميّة في المقياس الأخلاقي، في المرتبة الدُنيا، فلم يسجّل لهم فضل و لا كمال، ففي الجاهلية و الإسلام معاً، وُصفوا بحبّ الدنيا و الشهوات و الملذات الجنسية، و الافراط في المجون و اللهو، و الإسراف في الطمع و العصبيّة و الدنيّة.

و ذكر العقاد في كتابه: «معاوية بن ابي سفيان في الميزان» في فصل «خليقة أموية»!؟ شواهد تاريخية اثبت بها هذه الاوصاف لهم و لم يستثن حتي عثمان بن عفان و عمر بن عبد العزيز من الاتصاف بها.

نسب بني اميّة

الكلام في نَسَب بعض كبار بني اميّة المشهورين، طويل و عريض، و ما قيل

ص: 186

في ردِّ انتسابهم الي قريش هو: إنَّ اميّة كان عبداً رومياً اشتراه عبد شمس و استلحقه به كما كانت العادة الجاهلية قائمةً علي ذلك.

و يستشهد القائلون بهذا القول بكلام أمير المؤمنين عليه السلام في احدي رسائله الي معاوية حيث يقول:

«لَيسَ أُميّةُ كهاشم، و لا حربُ كعبد المطَّلِبْ و لا ابو سفيان كابي طالبٍ و لا المهاجرُ كالطليقِ و لا الصَّريح كاللصِيق»

و يصرِّحُ العلماء - كمحمد عبده المصري في شرح نهج البلاغة ان الصريح هو الشخص الصحيح النسب، و اللصيق لفظ يطلق علي البعيد الذي يستلحق بالعائلة و القبيلة.

و كان اميّة سيّئ السُمعة، منبوذاً، يعترض النساء، مشهوراً بالزنا، و قد عُوقب بالنفي عشر سنين عن مكة فتركها الي الشام، و في الشام زني بامراة يهودية ذات بعل، فولدت اليهودية علي فراش زوجها الذي كان يهودياً، ولداً استلحقه أُمية و سمّاه ذكوان و كنّاه بابي عمرو. ثم زوّجه زوجته و هو علي قيد الحياة، و ذكوانٌ هذا هو أبو «معيط» و جدُّ عقبة ابو الوليد بن عقبة اخو عثمان بن عفان.(1) و لمّا تنافر عبد المطلب و حرب بن اميّة جدُّ معاوية، الي نفيل بن عبد العزي، قال نفيل لحرب:

أبوكَ معاهِرٌ و أبوه عفٌّو ذاد الفِيلَ عن بَلَدٍ حرامِ(2)

بني اميّة في القرآن و الحديث

رُوي في كتب الحديث و التفسير و بطرق الفريقين روايات عديدة عن الإمام الحسن و الحسين عليهما السلام و يعلي بن مرّة و ابن عمر و سعيد بن المسيب ان رسول اللّه صلي الله عليه و آله رأي في منامه بني اميّة ينزون علي منبره كالقردة فاغتمَّ النبي لذلك و لم يُرَ بعدها ضاحكاً. فانزل اللّه تعالي في ذلك:

«وَ ما جَعَلنا الرُؤيا الّتي أرَيناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاس و الشَّجرة المَلعونَة في القرآنِ و نُخَوِّفَهُمْ فَما يزيدهم إلاّ طَغياناً كبيراً»(1)

و نزلت ايضاً:

«إنّا أعطَيناكَ الكَوثر...»

و نزلت سورة القدر ايضاً(2) و روي ابن عساكر عن ابي ذر الغفاري رضي اللّه عنه ان رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله قال:

«اذا بلغ بنو اميّة اربعين رجلاً اتخذوا عباد اللّه خِوَلا و ماله دِوَلا و كتاب اللّه حولاً».(3)

و روي ابن منده و ابو نعيم عن عمران بن جابر اليماني، و ابنُ قامع عن سالم الحضرمي ان النبي صلي الله عليه و آله قال:

ص: 187


1- سورة الاسراء الآية 60.
2- الدرر المنثور ج 4 ص 191. شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444 و ج 4 ص 6. تاريخ الخلفاء ص 9. تفسير النيشابوري، تفسير سورة القدر. مجمع البيان ج 6 ص 424.
3- النصائح الكافية ص 110.

ص: 188

«وَيْلٌ لِبَني أُميَّةَ وَيلٌ لبني اميّة»(1)

و روي ابن مردويه عن علي عليه السلام انَّه في سورة محمد آيةٌ فينا و آيةٌ في بني اميّة، «إقرأ السورة من أوَّلِها إلي آخرها»(2)

و امّا الروايات في ذمِّ بني اميّة و انهم آفة الدين و آفة هذه الامة، و انهم اعداء رسول اللّه صلي الله عليه و آله و انهم الشجرة الملعونة، فهي كثيرة. (3)

بني الحَكَمْ

روي جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنّا عند رسول اللّه صلي الله عليه و آله فمرَّ بنا الحكم بن ابي العاص، فقال النبي صلي الله عليه و آله: «وَيْلٌ لأُمَّتي ممّا في صُلبِ هذا»(4)

بني الحكم، شعبة من بني اميّة، و الحَكَم عمُّ عثمان و ابن عمِّ ابي سفيان، و كان الحكم في الجاهلية خصّاءاً(5) و الحَكَمُ هذا هو الذي قال رسول اللّه صلي الله عليه و آله فيه و في ابيه: «أنتما الشجرة الملعونة»(6) و كان الحكم جاراً لرسول اللّه صلي الله عليه و آله و كان يؤذيه كثيراً.(7) و روي ابن حجر و السيد احمد الزيني و ابن الاثير أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قد لعن الحكم

ص: 189


1- النصائح الكافية ص 110. السيرة الحلبية ج 1 ص 355.
2- النصائح الكافية ص 110.
3- راجع كتاب النصائح الكافية ص 111. و كتاب الغدير ج 8.
4- النزاع و التخاصم ص 24. و في السيرة الحلبيّة نقله عن جبير عن النبي بلا واسطة و الظاهر انه الأصحّ إلاّ اذا كان راوي الحديث هو ابن مطعم بن عبيدة و اللّه العالم.
5- حياة الحيوان ج 1 ص 194. لفظ جزور.
6- الغدير ج 8 ص 248. السيرة الحلبية ج 1 ص 353.
7- سيرة ابن هشام ج 2 ص 25.

و اولاده.(1) و روي في كنز العمّال أنَّ النبي صلي الله عليه و آله لَعَنَ الحكم و اخبر أنَّه سيخالف كتاب اللّه و سنة نبيّه و ان دخاناً سيخرج من صلبه يصل الي عنان السماء، فقال بعض الناس للنبي صلي الله عليه و آله: إنَّ الحكم اقلَّ شأناً من ذلك فأخبرهم النبي صلي الله عليه و آله بان بعضهم سيكون من اتباعه.(2) بعد ان جاء الحكم الي المدينة و اعلن اسلامه، اختار النفاق ثوباً له. و لم يزل يترصد بالمسلمين الدوائر و يتحين الفرص لايذاء رسول اللّه، فكان يقف خلف رسول اللّه في الصلوة و يغمز بعينيه و حاجبيه و يحرك شفتيه و اصابعه و يتجاسر علي النبي صلي الله عليه و آله و غير ذلك من الحركات و الغمز و اللمز، و قد ذكرت كتب السيرة و التاريخ ذلك. فدعا النبي صلي الله عليه و آله عليه و ابتلي بالرعشة، و لكنه لم ينتهي عن سوء فعاله، و كان النبي صلي الله عليه و آله يعامله بلطف اخلاقه و يحلم معه كعادته مع سائر المنافقين نظراً لتظاهرهم بالإسلام، و لمّا لما ينفع مع الحكم ذلك، اضطر النبي صلي الله عليه و آله الي طرده و ولده الي الطائف. و بعد التحاق النبي بالرفيق الاعلي، تشفع عثمان بن عفان للحكم عند ابي بكر ليرجعه الي المدينة، فلم يقبل ابوبكر بذلك، و تشفع له عند عمر بن الخطاب، فلم يقبل، و لما تولي عثمان الحُكمَ خالف امر النبي صلي الله عليه و آله و اعاد الحكم و ولده الي المدينة متحديا مشاعر و احاسيس المسلمين جميعاً، و قرّب الحكم و ابنه مروان و خلع عليهم و اعطاه مائة الف دينار و منحة ثلاثمئة الف درهم من صدقات قضاعة، العائدة لبيت مال المسلمين، و جَعل مروان بن الحكم مستشاره و هو الذي وصفه0.

ص: 190


1- السيرة الحلبية ج 1 ص 354. اسد الغابة ص 34. مستدرك الحاكم ج 4 ص 381.
2- كنز العمال ج 1 ص 39 حديث 90.

رسول اللّه صلي الله عليه و آله بقوله:

«الوَزَغ ابنُ الوَزَغْ و الملعون بنُ الملعون»(1)

و زوجه عثمان ابنته و اعطاه خمسمائة الف دينار من خمس افريقيا، و كان كلَّ ذلك من جملة اسباب ثورة المسلمين علي عثمان، حيث تعالت صيحات الاعتراض عليه و انتهي الأمر الي قتله.

و الروايات في لعن الحَكَم و اولاده كثيرة(2) و من اراد الوقوف علي شرح قبائح فعال و مظالم و جنايات الحكم و مروان ضد المسلمين، و قتل الابرياء و تولية الظالمين امثال الحجّاج، و هدم الكعبة و ترويج الفحشاء و المنكر في مدينة طيبة، و اهانة القرآن الكريم و تنصيب الجواري الجُنب أئمة للجماعة، فليراجع كتب التاريخ و سيري عَجَبا!!

فهذه العائلة و بهذه الصفات، كانت شعبة من بني اميّة و امُّ الحكم الذي ينسب اليه بني مروان، كانت زرقاء، و قد عدَّها ابن الاثير و آخرون من ذوات الرايات الفواحش.(3) و من بني اميّة أيضاً: معاوية بن المغيرة بن العاص، و قد طرده الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله من المدينة هو الآخر، و امهله ثلاثة ايام ليخرج منها، فلم يخرج، فقتله علي عليه السلام و عمّار بأمر النبي صلي الله عليه و آله.

و من بني اميّة: عبيدة بن سعيد بن العاص، الذي قتله الزبير في بدر.4.

ص: 191


1- حياة الحيوان ج 1 ص 62 و ج 2 ص 399.
2- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444. اسد الغابة ج 2 ص 34. سيرة ابن هشام ج 1 ص 354. السيرة الحلبية ج 1 ص 354-353. حياة الحيوان ج 1 ص 339.
3- النصائح الكافية ص 114.

و منهم: العاص بن سعيد، الذي قتله الإمام علي عليه السلام.

و ممن استُلحقَ ببني اميّة: عقبة بن ابي معيط، و الذي كان يهزأ بالنبي صلي اللّه عليه و آله و من الدِّ معاديه، و كان مجاوراً للنبي صلي الله عليه و آله و يكثر ايذاءَه، و طبقا لما ذكره ابن هشام، فان الإمام علي عليه السلام هو الذي قتله(1).

و ابنُ عقبة و هو الوليد الذي نزل فيه قوله تعالي:

«إنْ جائَكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا ان تصيبوا قوماً بجهالة...»(2)

و لمّا كان الوليد اخاً لعثمان من أمّه، عزل عثمانٌ سعدَ بن أبي الوقاص عن ولاية الكوفة و ولي الوليد عليها، و لما جاء الوليد الي الكوفة قال له سعد:

و اللّه ما ادري أكِستَ بعدنا أم حمقنا بعدك. فقال له لا تجزعن أبا اسحاق فانما هو الملك يتغداه قوم و يتعشاه أخرون.

فقال له سعد: أراكم ستجعلونها ملكاً.(3) و من بني اميّة: امُّ جَميل (حمالة الحطبْ) اخت ابي سفيان و زوجة ابي لهب، التي صرّح القرآن بذمّها، و كانت هي التي تحرض ابالهب من بين بني هاشم علي مخالفة النبي صلي الله عليه و آله و ايذائه.

و من اولاد عبد شمس: عتبة بن ربيعة ابن أخِ أميّة و كان في جيش المشركين يوم بدر، و قُتل و ابنُهُ الوليد، بيد اسد اللّه الغالب علي ابن ابي طالب عليه السلام(4) و عتبة هذا هو جدُّ معاوية لامّه و قتل اخوه شيبة في بدر بيد حمزة عليه السلام.1.

ص: 192


1- السيرة الحلبية ج 1 ص 353. سيرة ابن هشام ج 2 ص 356. الكامل ج 2 ص 50.
2- سورة الحجرات الآية 9، و لمزيد الإطلاع تراجع كتب التفسير.
3- اسد الغابة ج 5 ص 91.
4- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 411.

آل ابي سفيان

لقد كان عنادُ و فسادُ أبي سفيان اكبر من عناد كلِّ الذين خالفوا دعوة الإسلام و الحق الي التوحيد و الايمان باللّه، و لقد بقي ابو سفيان علي غيِّه و طغيانه و عدائه الي آخر لحظة قبل ظفر المسلمين الكامل و القاطع، و كان يتزعم كلَّ حملة لاطفاء انوار شمس الإسلام، و قاد الجموع لمحاربة للنبي صلي الله عليه و آله في أحد و الخندق، و أحد قادة الكفر و الشرك حتي عام الفتح.

و لم يدّخر أبوسفيان و زوجته و ولده جهداً لم يصرفوه في إيذاء النبي صلي الله عليه و آله و استماتوا في الدفاع عن الكفر و الشرك، و قد اشترك ثلاثة من أولاده في بدر و هم معاوية و حنظلة و عمرو، فقتل عليُّ حنظلة و أسر عمرو، و فرَّ معاوية الي مكة فراراً أدمي قدميه و نفخ ساقيه حين وصلها، و بقي يعالجهما لشهرين متتاليين.(1) و في عام الفتح اسلم ابو سفيان و زوجته هند و من تبقي من ولده، مكرَهين و خوفاً من القتل، و لكنهم بقوا علي كفرهم الباطني، و عاش مع المسلمين منافقاً حتي هلك.

و الروايات الواردة في ذمِّ ابي سفيان كثيرة، فقد رُوي ان النبي صلي الله عليه و آله رأي ذات يوم أباسفيان راكباً علي حمار، و كان ابنه معاوية ماسكا بزمامه و ابنه الآخر يزيد يسوق الدابة، فقال رسول اللّه صلي الله عليه و آله:

ص: 193


1- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 412. سيرة ابن هشام ج 2 ص 294. و طبقا لما اورده العلامة الكراچكي في كتابه «التعجب» فان معاوية كان في اليمن عام الفتح، و لمّا سمع باسلام ابيه، لامَهُ و وَبَّخَه، و اضطرّ معاوية الذي كان قد هُدِرَ دمُه ان يُسلم و كان ذلك قبل وفاة النبي بخمس أو ستة اشهر.

«لَعَنَ اللّه الراكبَ و القائِد و السائِق»(1)

و قد سطر المورخون حكايات كثيرة عن نفاق ابي سفيان و عدائه للإسلام و المسلمين.

و من جملة ما استشهر و عُرف عنه، انه كان يقول بعد بيعة عثمان و بداية حكم بني اميّة:

«تَلقَفّوها يا بني عَبْدَ شمسٍ تَلقُّف الكُرةِ، فو اللّهِ ما مِنْ جَنَّةٍ و لا نارٍ»(2)

و في نقل آخر انه قال:

«فو الذي يَحلَفُ به أبوسفيان ما من جَنَّةٍ و لا نارٍ»

و روي ابن عبد البر عن الحسن البصري أنَّ أباسفيان دخل علي عثمان بعدما بويع و قال له:

«قَد صارت اليْكُم بَعدَ تَيم و عَدِيٍّ فأدُرْها كالكُرَة و اجْعَلْ أوتادَها بَني أُميّة فانّما هُو المُلك و لا أدري ما جنَّة و لا نارْ».(3)

و ذات يوم، كان ابوسفيان في المسجد ينظر الي النبي صلي الله عليه و آله و يفكر في نفسه و يقول: بماذا غلبني محمد؟

«فَضَربَ النبي صلي الله عليه و آله و قال: باللّه نغْلبُكَ»(4) و وقف يوماً علي ثنية أُحُدٍ و كان قد فقد بصره، فقال لسائقة:6.

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 433.
2- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 443.
3- الاستيعاب ج 4 ص 87. و لعمري لقد عمل عثمان بوصيّة ابن عمّه، فولّي من كان من بني اميّة علي البلدان الإسلامية و سلّطهم علي رقاب المسلمين فعاثوا الفساد.
4- الإصابة ج 2 ص 179 حديث 4046.

«هاهُنا رَمَيْنا مُحمَّداً و قَتَلنا أصحابَهُ»(1)

و من علائم نفاقه، انه قال ذات يوم للعباس ابن عبد المطلب:

«لَقَد عَظُمَ مُلك ابنِ أخيك»

فقال له العباس:

«وَيحَك يا أبا سفيان إنَّها النبوَّة»

و عندما كان بلال يؤذن و يقول: أشهدُ أنَّ مُحمداً رسولُ اللّه، كان أبوسفيان يقول: «سَعُدَ عُتَبَة و لم يَرَ هذا اليوم»(2) و في حنين و لما انهزم المسلمون و ثَبَت رسول اللّه صلي الله عليه و آله و عليُّ و عدَة قليلة، صدع ابوسفيان بنفاقه و حقده الدفين و قال:

«لا تَنتهي هَزيمَتهُم دونَ البَحْر»(3) و كان ابو سفيان في الشام يحرّض الروم علي المسلمين، و يتأسف لهزائم الروم.(4) و مضافاً الي نفاق و عناد ابي سفيان للحق، فقد كان زنيماً فاجراً و قد اعترف معاوية بزناه حينما استلحق زياداً به.

ذكر الزمخشري في ربيع الابرار أنَّ اربعة نفر وطئوا النابغة امَّ عمروبن العاص و كانت مشهورة بالزنا، منهم: أبوسفيان، فوُلد عمروبن العاص و ادّعاه الاربعة جميعاً لكن النابغة نسبته الي العاص، لتكفُّله مخارجها، و كان أبوسفيان بن الحارث4.

ص: 195


1- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 334.
2- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444.
3- سيرة ابن هشام ج 4 ص 72. المختصر ج 2 ص 51.
4- ابو الشهداء ص 24.

بن عبد المطلب يقول لعمرو بن العاص:

«أبوك أبوسفيان لا شكَّ قد بَدَت...»(1) و عندما رَحل النبي صلي الله عليه و آله الي جوار ربِّه، كان ابوسفيان في مكة منهمكاً في اثارة الفتنة علي الإسلام سعياً منه في اعادة الجاهلية فإنبري سهيل بن عمر في تلك الحال الي افشال مخططات أبي سفيان و خطب خطبة في الناس و أقسم بالله أنه علي يقين من أنّ هذا الدين سينتشر في شرق و غرب العالم. و أن أبا سفيان يريد أن يظلهم و أن أبا سفيان يعلم بهذه الحقيقة و لكنّ حسده لبني هاشم عظيم.(2) و جاء ابوسفيان من مكة الي المدينة، و حاول اللّعب بورقة السقيفة و بيعة ابي بكر و غصب الخلافة، محاولاً ايقاد نار الحرب الداخلية بين المسلمين، فجاء الي أمير المؤمنين علي عليه السلام و قال:

«مُدَّ يدك لابايعك فو اللّه لو شئت لأملأنّها عليهم خيلاً و رجلا.»(3)

هند آكلة الأكباد

زوج أبي سفيان و أُمُّ معاوية، جدَّة يزيد، أشهر منْ أن يَخفي حقدُها و عداؤها للنبي و آل النبوة، فلقد كانت كحمّالة الحطب في تأليبها ضد النبي صلي الله عليه و آله بل لقد فاقتها هندٌ في ذلك.

لقد كانت تُحمِّس الرجال علي حرب النبي و قتال المسلمين و تشترك في تعذيب المسلمين الاوائل المستضعفين، و لو لم يكن غير قتلها حمزة عمِّ النبي صلي الله عليه و آله

ص: 196


1- تذكرة الخواص - الحاشية ص 209. الغدير ج 10 ص 219.
2- الإستيعاب ج 2 ص 110.
3- الكامل لابن الاثير ج 2 ص 220.

لكفي في إثبات وحشيتها و لؤمها و خسّة عنصرها و طبائعها.

فهندٌ هذه هي التي أغرَت «وحشيّ» بالمال و الجمال ليغتال سيد شهداء أُحد، و وهبت له حُلِّيها و منَّته بامورٍ اخري كي يفتك بجسد حمزة، فمثَّلت بجسده الشريف و اخذت اذنيه و أنفه و... و جعلتها خلخالاً لها، و مزّقت أحشاءَه و استخرجت كبده و لاكتّهُ بلسانها، و ارادت ان تبتلِعَهُ فلم تقدر.(1) و قد تناولت خطبة العقيلة زينب اخت الحسين عليه السلام في مجلس يزيد هذه الجناية و القسوة و الغلظة، حيث قالت عليها السلام:

«وَ كَيفَ يُرتَجي مُراقبةِ مَن لَفَظَ فَوهُ اكبادَ الأزكياء و نَبَتَ لَحمُهُ بدماء الشهداء»

أضف الي ذلك تاريخ هند في الجاهلية الحافل بالخزي و العار و الشنار فَلقد كانت معروفة بالزنا و الفجر، و قد تَرجم ذلك حسّان بن ثابت فقال:

وَ نسيتِ فاحِشَةً أتَيْتِ بها

معاوية أبو يزيد

و معاوية هو صاحب تلك الصفحة السوداء، ذلك المنافق الذي لم تتجسد علامة النفاق (بغض علي بن أبي طالب) في أحدٍ من الناس كما تجسدت في معاوية، و ما تجرَّعه المسلمون من ظلم و اضطهادٍ و جنايات معاوية لم يتجرّعوه من احدٍ

ص: 197


1- سيرة ابن هشام ج 3 ص 341.

غيره.

فموبقات و كبائر و مجازر و بِدَع معاوية فاقت حدَّ الاحصاء و الوصف. و ما لم يطالع المرء دورة كاملةً في تاريخ هذا العنصر المشئوم، لن يقف علي خبث و لؤم ماهيته و قبيح فعاله، و التي سطرها المؤرخون في صفحات التاريخ. و كما قال ذلك العالم الالماني الجنسية للشيخ محمد عبده بان معاوية هو الذي سدَّ طريق الفتوحات الإسلامية للغرب.

و لقد أشعل معاوية بن ابي سفيان، و طمعاً بالملك و الحكم مستغلاً مقتل عثمان رافعاً شعار الطلب بدمه، حرباً حصدت اكثر من مائة و عشرة آلاف إنسان، و استشهد فيها ثلاثمائة و ستون صحابياً حَضَرَ بيعة الرضوان(1) و لم يكن معاوية بريئا من التحريض في حربي الجمل و النهروان، و انتهي به الامر الي الخروج علي خليفة رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

و من الواضحات فسق معاوية و عدم ايمانه بالدين و القرآن، و لا مبالاته بالشرف و الوجدان في حياته.

و لا شكَّ و لا شبهة في انَّ معاوية كان يحاول حرف الإسلام بل القضاء عليه و اعادة الجاهلية السفيانية و حكم آل حرب و طريقة بني غ اميّة في الادارة، و ما كلُّ تلك الحروب و العداء لبني هاشم و خاصة لامير المؤمنين علي عليه السلام، الاَّ حرباً للنبي صلي الله عليه و آله و استمرارية لحرب أبيه أبي سفيان و جدِّه لأمّه و عشيرته مع الإسلام.

و لو اردت ان تعرف من لا نظير له و لا مثيل، في النفاق و الطغيان و انكار الحق و الحيلة و المكر و الغدر و الخيانة و نكث العهود، فعليك بمعاوية.9.

ص: 198


1- الاصابة ج 2 ص 389.

فكما إنَّ عدّة معدودة من الناس، تصل الي مصافِّ الأخلاق الكريمة و الفاضلة، فكذلك تميّزت عدة من الناس في الرذائل و اثارة الفتن و حبّ الجاه و معاداة اهل الحق، و من جملة هؤلاء: معاوية، عمرو بن العاص، يزيد، مروان بن الحكم، زياد ابن أبيه، مسلم بن عقبة، عبد الملك بن مروان، الحجاج، بسر بن ارطاة، عبيد اللّه بن زياد، و شمر بن ذي الجوشن، و الذين حازوا المرتبة العليا في خبث السريرة و اللؤم و الخسّة من بين افراد طبقتهم من الكفّار.

نسب معاوية

المشهور أنَّ معاوية هو ابنُ ابي سفيان، لكنَّ هذا النسب غير مصدَّقٍ من قبل جميع علماء النسب، فان جمعاً من محققي علم الانساب يشككون في صحة هذا الانتساب، و اهم دليل علي قوّة هذا التشكيك هو التحلل الخلقي لبيت معاوية، فالزنا و الفجور و الفسق كاد مستشرياً في بيته و عائلته، و لم يكن هؤلاء يعيرون اي اهمية للشرف و الغيرة، و لقد هجاهم شعراء الجاهلية و الإسلام بهذه الاوصاف القبيحة، و يكفي للتدليل علي هذه القبائح من الصفات استلحاق معاوية لزياد ابن أبيه و نسبة الزنا الي أبي سفيان و عدم تحرُّجه من ذلك، خلافاً لحكم رسول اللّه صلي الله عليه و آله:

«الوَلَدُ للفراشُ و للعاهِرِ الحَجَرْ»

يقول الزمخشري في ربيع الابرار: و كان معاوية يعزي الي اربعة الي مسافر بن عمرو و الي عمارة بن الوليد و الي العباس بن عبد المطلب و الي الصباح عسيفاً لأبي سفيان شاباً و سيماً فدعته هند الي نفسها و قالوا ان عتبة بن ابي سفيان من الصباح أيضاً(1) و نقل السبط ابن الجوزي عن الاصمعي و الكلبي في كتابه المسمي

ص: 199


1- النصائح الكافية ص 115، الغدير ج 10 ص 170. شرح نهج البلاغة ج 1 ص 111، المجالس الحسينية ص 134.

بالمثالب قد وقفت علي معني قول (الإمام) الحسن لمعاوية: «قد علمت الفراش الذي ولدت عليه» ان معاوية كان يُقال انه من أربعة من قريش عمارة بن الوليد بن المغيرة و مسافر بن ابي عمرو.. و امّا عماره بن الوليد كان من أجمل رجالات قريش. قال الكلبي: عامة الناس علي إنَّ معاوية منه (مسافر) لانه كان اشدّ الناس حبا لهند فلما حملت هند بمعاوية خاف مسافر ان يظهر انه منه فهرب الي ملك الحيرة. و مات هناك من عشقه لهند.(1) و قال الكلبي: جري بين يزيد بن معاوية و بين اسحاق بن طابة كلام بين يدي معاوية و هو خليفة، فاقرَّ معاوية ان بعض قريش يزعمون انه ليس لابي سفيان.(2) هذا و قد انفرد العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء برأي في نسب معاوية و ان بعض الشواهد التاريخية تؤيد ذلك.

أقول: و إنْ كان الشيخ الجليل كاشف الغطاء لم يذكر تلك الشواهد، و لكننا و ضمن مطالعتنا و تفحصنا، اطلعنا علي بعض تلك الشواهد علي رأيه، لا نريد التعرض لها هنا و نكتفي بآراء القدماء من أهل الخبرة في الانساب.

معاوية في ميزان السنَّة و الحديث

تواتَر لعنُ معاوية في الروايات، و شُحِنَتْ كتب الحديث المعتبرةُ بذمِّه نكتفي بذكر بعضها:

1 - روي ابن ابي الحديد عن النبي صلي الله عليه و آله انه قال:

ص: 200


1- الغدير ج 1 ص 169. تذكرة الخواص ص 212-211.
2- تذكرة الخواص ص 212-213.

«يَطلَعُ مِن هذا الفجِّ رَجلٌ من أُمَّتي يُحشَرُ علي غيرُ ملَّتي» فطلع معاوية.(1) 2 - عن البراء بن عازب قال: مرَّ أبو سفيان و ابنه معاوية، فقال رسول اللّه صلي الله عليه و آله: «اللهم الْعَن التابِع و المتبوعَ اللهم عليك بالأقعيِس» فقاله ابنُ البراء لابيه:

من الاقيعِس؟ قال: معاوية.(2) 3 - و في حديث مشهورٍ مرفوع أنَّ النبي صلي الله عليه و آله قال: إنَّ معاوية في تابوتٍ من نار في أسفل درك من جَحيم ينادي يا حنّان يا منّان فيقال له: ألان و قد عصيتَ قبْلُ و كنتَ من المفسدين.»(3)

4 - و روي عن رسول اللّه صلي الله عليه و آله: «إذا رأيتم معاويةَ علي منبَري فاقتلوه».

قال الحسن البصري و هو من رواة هذا لحديث: «فتركوا أمره فلم يفلحوا و لم يتجحدوا.(4)

5 - و في الرواية ان النبي صلي الله عليه و آله ارسل ذات يوم خلف معاوية، فتباطأو اعتذر بانه مشغول بالاكل، فقال النبي صلي الله عليه و آله: «لا أشبع اللّه بطنه»

و كان معاوية بعد ذلك يأكل فلا يشبع و يقول: تعبت و ما شبعت.(5) هذا و من أراد زيادة اطلاع علي رذائل معاوية في الروايات و كلمات كبار الصحابة و التابعين فليراجع «الغدير» ج 10 للعلامة الاميني.4.

ص: 201


1- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444. الغدير ج 10 ص 141.
2- الغدير ج 10 ص 139.
3- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444. الغدير ج 1 ص 142.
4- شرح نهج البلاغة ج 3 ص 444. الغدير ج 10 ص 142. كنز الحقائق ج 1 ص 19.
5- شرح نهج البلاغة ج 10 ص 444.

معاوية و الخمرة

قد يتصور البعض أنَّ يزيد بن معاوية هو أوَّلُ بني اميّة في معاقرة الخمرة و حفلات السكر و العربدة و لم يسبقه احدٌ من بني اميّة في ارتكاب هذا الذنب الذي حرّمه الشرع و ذمّه العقل و العلم، غافلين عن ان يزيداً قد ورث ذلك عن ابيه و جدِّه.

فقصَّة شرب ابي سفيان الخمرة في بيت ابي مريم الخمار في الطائف، و زناه بسميّه، معروفة و مشهورة.

و مخازي الوليد بن عقبة و هو من بني اميّة، معروفة، و قد نقلنا فيما سبق انه صلي الصبح سكراناً في مسجد الكوفة فجاء باربع ركعات بدلاً عن الركعتين، و تقيأ في المحراب، و امتنع عثمان عن اقامة الحدّ عليه علي الرغم من اقامة البيِّنة عليه، لانه كان أخوه بالرضاعة، فقامُ علي عليه السلام بجلدِهِ حدَّ الشرب.

و امّا معاوية، فقد ذكرت التواريخ المعتبرة حفلات سكره و معاقرته للخمر و ان الخمور كانت تحمل اليه علانيةً الي دمشق. فبدلاً من أن يتولي معاوية اقامة حدود اللّه، كان هو يخرق تلك الحدود و يُجرِّئ الناس علي هتك الحرمات و النواهي الشرعية، و اذا صادف ان زجره احدٌ عن ذلك، صبَّ معاوية ويلات غضبه عليه. و قد روي ابن عساكر و ابن حجر و ابن عبد البر و ابن الاثير و ابن سفيان في مسنده و ابن قانع و ابن منده من طريق محمد بن كعب القرظي قال: غزي عبد الرحمن بن سهل الانصاري في زمن عثمان و معاوية أمير علي الشام فمرّت به روايا خمر لمعاوية فقام اليها برمحه فبقر كلّ راوية منها فناوشه الغلمان حتي بلغ شأنه معاويه فقال دعوه فانه شيخ قد ذهب عقله فقال: كلا و اللّه ما ذهب عقلي و لكن رسول اللّه صلي الله عليه و آله نهانا

ص: 202

أن ندخل بطوننا و أسقيتنا خمراً و أحلف بالله لإن بقيت حتي أري في معاوية ما سمعت من رسول اللّه لأبقرنّ بطنه أو لأموتنّ دونه. (1)

نفاق معاوية

ورد في كثير من الروايات التي رواها علماء العامّة ان «بغض علي بن ابي طالب» من اوضح علامات النفاق، و كما اسلفنا و كما هو واضح للجميع، ان معاوية بن ابي سفيان له السبق في هذه الصفة، فلقد صبَّ معاوية جام غضبه و حقده لرسول اللّه صلي الله عليه و آله علي أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام و حقق انتقامَه و انتقامَ أبيه من النبي الاكرم صلي الله عليه و آله، في عدائه و انتقامِهِ من علي عليه السلام لقد كان معاوية عدوا للنبي و لعلي و للقرآن و الإسلام، و لمّا يئس من عداوته للنبي، ركّز حقده علي آل النبي صلي الله عليه و آله و لم يكن في آل النبي ابرز و لا اقرب من عليٍّ اليه، و مَن أولي من عليًّ عليه السلام في استقبال سهام الكفار و المنافقين، فعلي نفس النبي بصريح القرآن، و عليٌّ اول المدافعين عن النبي طيلة حياته، و علي و النبي صلي الله عليه و آله هما من أرسا قواعد الإسلام و غرس شجرته العظيمة و سقاها، بفارق ان محمداً هو النبي و عليٌ هو الولي و الوصي.

و لذا، ما كانت عداوة معاوية لعليٍّ عليه السلام من علي منابره، الاّ لعنِ و شتمِ و سبِ النبي الاعظم صلي الله عليه و آله، و قد نقل السيوطي أنَّ بني اميّة لعنوا و سبّوا علياً من علي سبعين الفَ منبرْ. و في كتاب «العتب الجميل» لمحمد بن عقيل: لما رفع عمر بن عبد العزيز لعنَ علي علي المنابر، خطب خطيب المسجد الجامع في حرّان خطبته مجرّدةً عن لعن

ص: 203


1- تاريخ ابن عساكر ج 7 ص 211. الاصابة ج 2 ص 401-402. الاستيعاب ج 2 ص 44. اسد الغابة ج 3 ص 299. الغدير ج 10 ص 180-181. النصائح الكافية ص 96.

و سبِّ أمير المؤمنين عليه السلام، و لما نزل من علي المنبر اعترض عليه همج الناس و رعاعهم و صاحوا به:

«وَيحَكَ وَيحَكَ.. السُنَّة السُنَّة، تركتَ السُنَّة...»

فهؤلاء الجهّال كانوا يظنّون ان سبَّ و لعن عليّ عليه السلام من اجزاء الخطبة المسنونة.(1)

إنَّ إعلام معاوية في الشام التي كانت بعيدة عن مركز الخلافة، قد أثَّر في الناس، و صار سبباً في اضلالهم.

لقد استغل معاوية أموال بيت المال، و وظَّف الخطباء و الشعراء و المتملِّقين و وعاظ السلاطين و وضاع الحديث، لتشويه الإسلام و حرف الدين، و اجبرهم علي الطعن بامير المؤمنين عليه السلام و كبار صحابة رسول اللّه صلي الله عليه و آله و اتهامِهِم و الافتراء عليهم، ظنا منه أنَّ ذلك سيحطَّ من قدر بني هاشم بين الناس، و رغبة منه في اثارة الفتن و الجهالة و اطفاء نور الإسلام و اعادة ظلمات الجاهلية الاموية.

نقل إبن الاثير أنَّ شاباً من اصحاب معاوية خرج في حرب صفين و أخذ يرتجز و يضرب بسيفه و يلعن أصحاب عليّ فقام له هاشم المرقال و كان من قادة جيش علي عليه السلام و وعظه و خوفه اللّه الذي هو مسائله يوم القيامة عن قتاله المؤمنين فقال ذلك الشاب سأقول لله إني قاتلتكم لان صاحبكم لا يصلي و انكم لا تصلون!! و أن صاحبكم قتل خليفتنا عثمان و أنكم أعنتموه علي ذلك. فقال له هاشم المرقال: و ما انت و عثمان إنَّ عثمان قتله اصحاب رسول اللّه و أبناء الصحابة و قرّاء القرآن الذين لم يعصوا اللّه طرفة عين. و أما ما قلت من أن صاحبنا لا يصلي فاعلم5.

ص: 204


1- الإسلام بين السنة و الشيعة. ص 25.

إن صاحبنا هو اول من صلي بعد رسول اللّه و أنه أعلم الخلق بدين اللّه و أقربهم الي رسول اللّه و أن هذا الجيش الذي تراه هو من القرّاء المحيين الليل بالعبادة و التهجّد و اعلم ان هؤلاء الاشقياء (معاوية و حزبه) قد أضلوك.

فقال له الشاب: فهل لي من توبة؟ قال هاشم: نعم، تب يتوب اللّه عليك و يغفر لك ذنوبك. فرجع الشاب.(1) و ذكر الجاحظ أنَّ قوماً من بني اميّة قالوا لمعاوية: لقد وصلت الي ما تريد، فاترك سبَّ و لعن عليٍّ!

فقال: لا و اللّه حتي يشّبُّ عليه الصغير و يهرم الكبير، و لا يبقي احدٌ يذكر له فضلاً.

و من علامات نفاق معاوية، عداؤه للانصار، لانهم نصروا النبي صلي الله عليه و آله فكان معاوية يُعنِّفُهُم و يهزأ بهم، و وصل به الأمر الي حجب جابر بن عبد اللّه الانصاري.

فقد روي المسعودي أنَّ جابر بن عبد اللّه الانصاري قدم الي معاوية بدمشق فلم يأذن له أياماً، فلما اذن له قال: يا معاوية اما سمعت رسول اللّه صلي الله عليه و آله يقول: من حجب ذا فاقة و حاجة حجبه اللّه يوم فاقته و حاجته. فغضب معاوية و قال له: لقد سمعته يقول: انكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتي تردوا عليّ الحوض. أفلا صبرت؟ قال: ذكرتني ما نسيت و خرج فاستوي علي راحلته و مضي، فوجه اليه معاوية بستمائة دينار، فردّها و قال لرسوله: قل له و اللّه يابن آكلة الاكباد لا وجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداً. (2)8.

ص: 205


1- الكامل ج 3 ص 159.
2- مروج الذهب ج 3 ص 58.

وَصمَةُ عارٍ علي جبين التاريخ

و من جملة مخازي معاوية و ذنوبه التي لا تغتفر و غير المسبوقة بمثلها، هو أنَّه عندما اراد الخروج الي صفين و حرب خليفة زمانه و اثارة الحرب اللعينة بين الاخوة، خاف من هجوم الروم علي مواني الشام فعقد معاهدة مع قسطنطين ملك الروم، يدفع بموجبها معاوية جزيةً من بيت مال المسلمين للروم كل سنة. و كان ذلك وصمة عارٍ لطخت جبين كل تلك الفتوحات الرائعة اللامعة في تاريخ الإسلام و مجاهديه و من اطلع علي تاريخ الإسلام جيداً يعلم أنَّ مثل هذا العمل يعدُّ خيانة عظمي، و لا يمكن قبوله بحال من الاحوال و منذ صدر الإسلام.

لقد قدم الجيش الاسلامي التضحيات و التضحيات و مئات آلاف الشهداء و لم يقبل بذلَّةٍ كهذه، فمثل هذه المعاهدات مع الكفار و اعداء اللّه، تؤدي الي سيطرتهم و سلطنتهم علي المسلمين و «ما جعل اللّه للكافرين علي المؤمنين سبيلاً».»

و قد اراد معاوية بذلك اسقاط الحكومة المركزية للاسلام، و خالف دستور القرآن «أشدّاء علي الكفارِ رُحماءَ بينَهُمْ» و وقع معاهدة الذُل و الهوان و الجزية و الخراج و التبعية للكفار مُعلناً بذلك اتحادَه مع الكفار و حربه ضد المسلمين.

و ليته قد اكتفي بذلك، لكنه و بعد هلاك قسطنطين (سنة 668 م - 47 ه. ق) جدّد معاهدة الجزية السنوية مع قسطنطين المعروف ببوكونات، و كان ذلك سنة (60 ه. ق) المصادف (679 م) قبل هلاك معاوية بعدّة اشهر.

بعد أن كسر معاوية حوالي القسطنطنية انكساراً مُرّاً، عرف أنَّ معنويات جيشه لم تعد قوية كما كانت عليه سابقاً. فقد كانت سياسة الحكم و فساده و ترفه قد أثّرت في روحية المقاتلين سلباً، و أضعفت معنويّاتهم كما انّ المسلمين لم يكونوا

ص: 206

مستبشرين بتلك الفتوحات و قلّت رغبتهم في الجهاد اذ أنَّ أتعابهم كانت تصبُّ في مصلحة فئةٍ محصورة من آل أبي سفيان و إشباع أطماعهم و رغباتهم و تقوية شوكتهم و هم الذين رفعوا راية العداء لآل النبوّة و قتلوا الصفوة من الصحابة في مكة و المدينة و الكوفة و البصرة، تاركين الأمر بالمعروف و العمل بالأحكام الشرعيّة.

و من جهة أخري كان معاوية قد أعدَّ العُّدة لتولية يزيد الحكم عن طريق الترغيب و الترهيب و القوة و الرشاوي و كان يعلم أنَّ الاضطرابات ستعُمُّ البلدان الاسلامية بسبب هذا الإستخلاف و إنَّ يزيد و الحزب الاموي لن يقوي علي فتح جبهتين داخلية و خارجية في آنٍ واحد، و لذا فقد استسلم ثانيةً للرّوم و بعث بعثاً مع بعض النصاري العرب مع هدايا و تُحف الي ملك الروم، يستميلُه لعقد معاهدةٍ تستمرُّ لثلاثين عاماً، يدفع المسلمون الجزية للنّصاري علي أساسها!! و تعهَّد معاوية بدفع ثلاثين ألف سكّة ذهبيّة، و إطلاق صراح ثمانمائة أسير رومي و أن يبعث إليهم بثمانمائة رأس جواد عربي أصيل.

و قد جاء في الفقرة الرابعة من المعاهدة أنَّ هذه الأموال تُدفع بعنوان الخراج الي الدّولة الروميَّة!!

هذا و قد تعهَّد يزيد بعد معاوية لزيادة تلك الاموال و دفعها الي النصاري.(1) و بهذا يكون معاوية و ابنه يزيد الذين ارادا ان يحافظا علي ملكهما باي ثمن كان و لكي يتسلط بنو اميّة علي رقاب المسلمين قهراً، و ان يمحوا آثار الإسلام و1.

ص: 207


1- حجة السعادة ج 2 ص 70-71.

يهدموا قواعده، قد اذلاّ الامّة الاسلاميّة بهذا العار، بقبولهم تلك المعاهدات المهينة.

المستشارون المسيحيون

و من مآثم معاوية التي لا تغتفر تسليط الكفار علي المسلمين و أموالهم باستخدامه مستشارين كفّارَ أجانب مخالفاً بذلك صريح القرآن المجيد.

فلقد اعتمد علي بعض المسيحيين في ادارة الامور المالية و العسكرية و الادارية، فكان يستشيرهم في برامجه و خططه، و اعتبرهم امناء سرّه، منهم سرجون النصراني و ابنه منصور، و الذي أوكل معاوية اليه امر خزينة بيت المال و حسابات الجند، و لذا كان هذا الكافر بمقتضي وظيفته الحساسة، ينفذ الي كل اجهزة الحكم و خاصة قوّاد الجند و المؤسسة العسكرية المهمة و الخطيرة.(1) و الظنُّ، انَّ سرجون و رفاقه الذين كانوا علي إتصال دائم بالروم، كان لهم الدور الكبير في هزيمة المسلمين في القسطنطنية، و التي قُتل فيها ثلاثون الفاً من المسلمين.(2) و لقد كان سرجون و ابنه منصور - كما عن حجة السعادة وزيراً في زمن يزيد ايضاً، و طبقا لبعض المصادر التاريخية كان لسرجون هذا دور خبيث في قضية

ص: 208


1- يقول «فردينال نوئيل» المسيحي في «أعلام الشرق» ان منصور بن سرجون كان مديراً للمالية و حسابات الجيش في زمن معاوية. و يقول العقاد في كتابه «معاوية في الميزان» ص 168: لقد اوكل معاوية الامور المالية الي سرجون و من بعده الي ابنه منصور. و اصل كلمه مرجون: سرژيوس، كما عن كتاب حجة السعادة ج 2 ص 72.
2- حجة السعادة ج 2 ص 72.

استشهاد الحسين عليه السلام و فاجعة كربلاء، حيث ان يزيداً قد عيَّن عبيد اللّه بن زياد والياً علي الكوفة باشارة من سرجون النصراني هذا.(1) و اذا ما تأملنا في الحوادث التاريخية، و ما سنبيِّنَه في الصفحات اللاحقة حول نشأة يزيد و ظروف تربيته، فاننا سنقف علي ان النصاري كان لهم اليد الطولي في رسم سياسة الدولة الاسلامية في زمن معاوية و يزيد، و ان عملاءهم و جواسيسهم كانوا يشغلون مناصب حساسة في اجهزة حكم بني اميّة، و أنَّ حكومة الشام كانت متكية و عميلة للامبراطورية الرومية، بل، و كما يقول العقاد في كتابه «معاوية في الميزان» فصل «تمهيدات الحوادث»؛ يستنتج من الادلة التاريخية أنَّ بني اميّة كانوا علي ارتباط بالبلاط الرومي منذ الجاهلية، و كان بعضهم كعثمان و أبي سفيان آلة بيد الروم لتحقيق مآربهم السياسية، و عملاء تجسس للحكومة البيزنطية.

فلا عجب حينئذٍ من استماتة بعض المستشرقين المسيحيين مثل «لانس» البلجيكي، في الدفاع عن معاوية و يزيد، اذ انَّ حكومة بني اميّة كانت تحت نفوذ المسيحيين و انها الحاجز و المانع من انتشار الإسلام في اوربا، و مثل هذه الحكومة لابدَّ ان تحظي بتاييد الحكومات الاستعمارية المسيحية.

تجاهر معاوية بالفسق

لم يكن معاوية متستراً بالمحرّمات و مخالفة السُنَّة، كالربا و شرب الخمرة و الاكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة و لبس الذهب و الحرير. و لقد كان يأنسُ

ص: 209


1- مقتل الخوارزمي ص 198. الكامل لابن الاثير ج 3 ص 268. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 84-85.

بالاستماع الي الطرب و الغناء، و يرغب في لذائذ الاطعمة و الاشربة، و يلبس أفخر الملابس.

و في الجملة كان سلوكه و لبسه و مأكله و مسكنه في القصور الفخمة(1) و امتلاك الجواري و الغلمان و الحرس و الحشم و الخدم و ملوكية العيش، مخالفاً لطريقة رسول اللّه صلي الله عليه و آله و كرام الصحابة، و علي غير نهج الإسلام.

كان معاوية يبذل بيت مال المسلمين و يبذّره علي حاشيته و خواصّه و أن سياسته المالية الخاطئة و السيّئة أدّت الي فراغ بيت المال فاضطرّ الي أخذ الضرّائب الثقيلة من الناس، كما أنّه خالف الشريعة في قضيّة أخذ الجزية من المشركين و غيّر القوانين المالية الاسلامية كما أنّه سنّ لعن أمير المؤمنين عليه السلام علي المنابر و استلحق زياد بن أبيه و استخلف ولده يزيد و استخفَّ بمقام النبوَّة المقدَّس حيث كان لا يردع الذين يتجاسرون علي مقام النبوَّة و يسلّمون علي معاوية بالرّسالة.(2) و قد تجرَّد معاوية عن فضائل الأخلاق كالشجاعة و العدالة و الانصاف و الغيرة و التقوي و الامانة و البطولة، و لم يكن له سهم و نصيب حتي في الحلم و السياسة. و بعض السطحيين و ان كانوا و بمطالعة بعض الحكايات الاسطورية المنقولة عنه، يتصورون انه حليم مدبّر، و لكن و بالتدقيق في مضامين تلك النقولات يظهر أنه كان يتظاهر بالحُلم مكراً و خداعاً، و الوقائع التاريخية تثبت ذلك و7.

ص: 210


1- فلما بني (معاوية) قصر الخضراء بلغ من اعجابه بالبناء ان سأل اباذر داعية الزهد و الكفاف من الرزق: كيف تري هذا؟ فسمع منه جواباً كان خليقا ان يترقبه لو لم يكن لزهوه بما ابتناه لا يصدق ان احداً يراه بغير فارآه، قال ابوذر: ان كنت بنيته من مال اليه فانت من الخائنين و ان كنت بنيته من مالك فائت في المسرفين.
2- النصائح الكافية ص 99-94. معاوية في الميزان ص 27 و 37 و 189-187.

تفضحه كقضية قتل حجر بن عدي.

و قد أوضح العقاد في كتابه «معاوية في الميزان» فصل «الحلم» مفصلاً ان تظاهر معاوية لا يمت الي الحلم بصلةٍ، كما انه ليس كما يتصوره الكثيرون ذو باعٍ في المكر و الدهاء و الخديعة، و هذا ما نستنتجه من كلام العقاد في فصل «الدهاء».

فسياسة معاوية لم تكن مستندة الي قوة عقلية، كما انه لم يكن في الخدعة و المكر نظيراً لعمرو بن العاص و المغيرة و زياد ابن أبيه.

إنَّ ما ساعد معاوية علي تحقيق طموحاته، هو الظروف المواتية له، و عدم تورعة عن اي جناية، و هذا ما يجعل من كل سياسي و إن كان في مرتبة متدنية، قادراً علي تحقيق طموحاته و الوصول الي مآربه السياسية، و الحق ان سياسة معاوية في الامور المالية و الاجتماعية و الامنية، كانت فاشلةً تماماً. (1)

اهداف معاوية

يتضح من مطالعة تاريخ معاوية، أنَّ هدفه من الفتن التي أثارها و الحروب التي أشعلها هو الوصول الي السلطة و الحكم، و انه كان يحلم بذلك منذ ايام خلافة عثمان. و مع ان معاوية كان يعلم تماماً انه لا يستحق ذلك و ان رصيده التاريخي معدومٌ تماماً، مع ذلك، اشعل حرباً شعواء علي ولي اللّه الذي اتفق الصحابة كلَّهم علي أحقّيّته بالخلافة.

ص: 211


1- معاوية في الميزان ص 41-75. لقد بيّن العقاد في هذا الكتاب معالم طريقي علي عليه السلام و معاوية بكل وضوح. و ذكر ان عليّاً عليه السلام لا يمكنه الانحراف عن طريقه لانه طريق الحق و العدل، و اما طريق معاوية فلا يمت الي الحق و العدالة و مصلحة المسلمين باية صلة، و نوصي القراء الكرام لمطالعة هذا الكتاب و ننبّههم الي ان الكتاب لا يخلو من الاشتباه.

لقد كان معاوية قد اطلق العنان لنفسه و لم يتقيد بحفظ مصالح الإسلام و المسلمين، كما انه لم يبال لاحكام الشرع و رعايتها، فكان يستهين بكل شي من اجل تحقيق هدفه.

و لم يكن معاوية صادقاً في الطلب بدم عثمان(1) و انما كانت تلك حجّة واهية يتذرع بها لتحقق مآربه الماكرة، و لذا نراه قد اعرض تماماً عن الطلب بدم عثمان بعد ان تحقق له ما اراد من الحُكم، و لم يتتبع احداً من المتّهمين بدم عثمان.

و بعد ان صالح معاوية الإمام الحسن عليه السلام الذي خذله اصحابه الذين انخدعوا بحيل معاوية و ابن العاص و غرَّتهم امواله، جاء الي الكوفة و خطب في الناس و كشف عن نواياه الحقيقية قائلاً: «يا أهل الكوفة... اني ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتحجّوا و لا لتزكوا فاني اعلم انكم تفعلون ذلك، و لكن قاتلتكم لأتأمَّر عليكم و قد أعطاني اللّه ذلك. ألا و اني كنت قد مَنَّيت الحسن بن علي بامور، و اني لن أفِ بشي منها و هي تحت قدمي»(2)

فمعاوية الذي تعهد في بنود الصلح بامور كثيرة، لم يعمل بايٍّ منها(3) ، فلقد قتل حجر بن عدي و اصحابه البررة و عمرو بن الحمق الخزاعي، و لم يترك سبَّ عليٍّ عليه السلام، و اخذ البيعة ليزيد من الناس قهراً، و دسَّ السمَّ للامام الحسن عليه السلام فقتله،7.

ص: 212


1- عقد الاستاذ العقاد في كتابه «معاوية في الميزان» فصلاً مستقلاً بعنوان «موقف معاوية من قضية عثمان» و هذا الفصل و ان كان مختصراً و لكن القارئ و بتامل بسيط سيقف علي خبث مخططات معاوية في تلك القضية، و ما ابتليت به الخلافة الاسلامية من انحرافات بسبب الألاعيب و الخدع السياسية التي عقبت غصب الخلافة من أهل البيت عليهم السلام و مجي بني اميّة للحكم.
2- شرح نهج البلاغة ج 4 ص 6.
3- شرح نهج البلاغة ج 4 ص 7.

و لم يرعَ حرمة الشعائر الاسلامية.

فكان لا يُخفي حقده الدفين علي النبي صلي الله عليه و آله عندما كان يسمع اسمه ينادي به في الاذان خمس مرات في اليوم و الليلة، و يتوعد بمحوه حتي لا يَبق أثراً للاسلام.

يقول المسعودي نقلاً عن كتاب «الموفقيات» لابن بكار، ان المطرف بن مغيرة بن شعبة: وفدت مع ابي المغيرة الي معاوية فكان ابي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف اليّ فيذكر معاوية و يذكر عقله و يعجب مما يري منه اذ جاء ذات ليلة فامسك عن العشاء فرأيته مغتماً فانتظرته ساعة و ظننت أنه شيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة. قال يا بني: جئتك من عند أخبث الناس فقلت له و ما ذاك. قال: قلت له و قد خلوت به إنك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً و بسطت خيراً فانك قد كبرت و لو نظرت الي اخوانك من بني هاشم فوصلت ارحامهم فواللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه. فقال لي هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل فواللّه ما غدي أن هلك فهلك ذكره الاّ أن يقول قائل أبوبكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمّر عشر سنين فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره الا أن يقول قائل عمر ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل و عمل به فواللّه ما عدي أن هلك فهلك ذكره و ذكر ما فعل به و ان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمداً رسول اللّه فأي عمل يبقي مع هذا لا امّ لك لا و اللّه الا دفناً دفنا.(1) و هذه الحكاية تؤيد ما نقول، فان معاوية كان يهدف مضافاً الي تحقيق اغراضه السياسية، محوَ كلِّ ما يمتُّ الي السماء بصلة من ملامح الإسلام حتي اسم2.

ص: 213


1- مروج الذهب ج 3 ص 362.

«محمد رسول اللّه» و ارجاع الناس الي حكم الجاهلية.

و لو اردنا ان نطلق العنان لاقلامنا لكتابة جرائم و جنايات معاوية فاننا سنتعبُ انفسنا و قراءنا الكرام بكتابة و قراءة كتاب كبير، و نكون بعدها ملزمين بالاعتذار لعدم اداء حق الموضوع كما يجب. و لذا فاننا سنحيل القارئ العزيز الي مطالعة شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد و كتب التاريخ و كتاب الغدير للعلامة الاميني الجزء العاشر، و كتاب «النصائح الكافية» و حينئذٍ سيتضح للقارئ ان كل ما قلناه و ما سنقوله في مطاعن هذا العنصر الخبيث، ليس الاّ قطرة من بحر لؤمِه و خسَّته و وحشيته.(1) و نقل عن كتاب «التعجب» للكراچكي، أنَّ معاوية لم يسلم و أنه كان باقيا علي شركه، و مكذباً الوحي، مستهزءاً بالشرع، و انه كان عام الفتح في اليمن و عندما سمع باسلام أبيه - نفاقا و خوفاً - كتب اليه شعراً و نثراً يذمّهُ فيه، و انه بقي علي شركه و هرب الي مكة فاضطر لخوفه من هدر دمه ان يذهب الي النبي و شفَّع العباس عمَّ النبي اليه فعفا عنه رسول اللّه صلي الله عليه و آله و كان اسلامه - الكاذب - قبل رحلة النبي الي جوار ربّه بخمس أو ستة أشهر فقط، و كان مع النبي صلي الله عليه و آله في ذلك الوقت اربعة عشر كاتباً و لم يُعهد ان معاوية هذا قد كتب شيئاً للنبي صلي الله عليه و آله من كتبه ورسائله، و حتي لو فرضنا انه كتب كتاباً، فان ذلك لا يعدُّ فضيلةً لمثل معاوية الاّ إنَّه من «المؤلفة قلوبُهُم».3.

ص: 214


1- شرح نهج البلاغة ج 1 ص 12. ابو الشهداء ص 75. معاوية بن ابي سفيان ص 163.

من هو يزيد؟

انَّ مِن هَوانُ الدنيا و عِبَرها، ان يكون يزيد بن معاوية حاكماً علي المسلمين و علي كبار الصحابة و التابعين!

فانَّ اشدَّ صفحات التاريخ البشري ظلمةً و سوادا، هي تلك الصفحات التي تناولت حياة يزيد. ففضائح بني اميّة و جناياتهم المشهورة من بين جناة التاريخ قد جعلتهم في مصاف الفاسدين لكنَّ يزيد بن معاوية يعدُّ وصمة عارٍ حتي في جبين بني اميّة أنفسهم حتي كادت فضائحه ان تُنسي الناس فضائح سائر بني اميّة، و تجعل يزيداً بطل الشرِّ و الكفر و الطغيان و السخف و الدناءة و العداء لاهل بيت رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

فيزيد هو النقطة الاشدَّ سواداً في صفحة تاريخ بني اميّة الحالكة الظلمة، و مصداقُ «ظلماتُ بعضُها فوق بعض.»

نشأة يزيد

يقول العلايلي: لنفهم مصرع الحسين عليه السلام يلزمنا ان نعرف من يزيد؟

و لكي نعرف يزيد لابد من مطالعة تربيته الاُسريّة، اذ من الواضح ان للبيئة و المحيط أثرهما في بناء شخصية الانسان سلباً أو ايجاباً. فالحجر و اللبن و الاُم و سلوك الاب و العادات العائلية كلها تؤثر في أخلاق الانسان و هذا ما يؤيده علماء الأخلاق و النفس، و قد اكدت الشريعة عليه تأكيداً كبيراً.

فكم من فرق بين من تربّي في بيئة سليمة ملؤها الصدق و العفّة و الصلاح و

ص: 215

بين من تربّي في بيئة سيّئة ملؤها الظلم و الفجور و الفساد و الكفر و الإجرام.(1) و علي هذا تكون مطالعة ظروف التربية العائلية لرجالات التاريخ، و قراءة العوامل المحيطية المؤثرة في رشد افكارهم و سلوكهم و نفسياتهم، ضرورية و لازمة، و لقد كان يزيد من جملة الذين ترتبط أعمالهم و سلوكهم بالمحيط الذي تربوا فيه ارتباطاً مؤكداً، و لقد كان نسخةً طبق الأصل.

و لقد تناولنا فيما مضي بعض أفراد اسرة يزيد كابيه معاوية و اجداده و جدَّته و بعض بني عمومته، و قد نفصِّل فيما ياتي عنهم قليلاً و لكننا لم نتعرض لحدِّ الآن الي هويّة أُمِّ يزيد، فمن هي امُّ يزيد؟

مَيسون:

مَيسون امُّ يزيد بنت بجدل الكلبي، و طبقا لنقل كتاب «تجارب السلف» و «الزام النواصب» و «ربيع الابرار للزمخشري» و اشعار النسابة الكلبي، فان يزيداً مطعون في نسبه، مردودٌ انتسابه الي معاوية، فان ميسون لما جي بها الي معاوية كانت حبلي بيزيد من غلامٍ لأبيها. (2)

ص: 216


1- ان هذه القاعدة يمكن ان تتخلف، و بعبارة اخري، فان المحيط و البيئة التي يعيش فيها الانسان ليست هي العلّة التامة لصياغة شخصيته، فكم من مؤمن صالح نشأ في بيئة فاسدة و من ابوين فاسدين، و كذلك العكس و صدق تعالي حينما قال: «يخرج الحيَّ من الميّت و يخرج الميت من الحي» و لكن يبقي للبيئة أثرها علي نحو الموجبة الجزئية، فيمكن ان يعترك الانسان مع المحيط الفاسد و يتغلب عليه فلا يكون المحيط فاسداً ابداً عُذراً للفساد و الأخلاق القبيحة.
2- راجع القمقام الزخّار ص 229. المجالس الحسينية ص 134.

يزيد في أحضان بني كلب

يقول العلايلي: و إنَّ اهم ما يلزمنا أن نعرف هنا من أمر يزيد ناحيتان:

نشأته المسيحية أو بالأحري التي كانت أقرب إلي المسيحية، و عقليته التي كانت في نظري غَيبيَّة جداً، و تبعد كثيراً عن العقلية الواقعية العملية التي امتاز بها أبوه.

يبدو مستغرباً بادئ ذي بدء، أن نعرف أن يزيد نشأ نشأة مسيحية تبعد كثيراً عن عرف الإسلام، و تزيد القاري دهشةً الي حد الانكار، و لكن لا يبقي في الأمر ما يدعو الي الدهشة، إذا علمنا أن يزيد يرجع بالأمومة إلي بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تدين بالمسيحية قبل الإسلام، و من بديهيات علم الاجتماع أن انسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمناً طويلاً، بين معاوَدات نفسية و رَجعات ضميرية و ذِكريات وجدانية. و بالأخص إذا كانت عقيدة سيطرت علي الافكار و العادات و العُرف العام.

و التاريخ يحدثنا أن يزيد نشأ فيها الي طور الشباب أو حتي جاوز طور الطفولة، و معني هذا أنه أمضي الدور الذي هو محطُّ أنظار المُرَبِّين و عنايتهم، و بذلك ثبت علي لون من التربية النابية تمازجها خشونة البادية، و جفاء الطبع.

علي أن طائفة من المؤرخين ترجِّح و لا يبعد أن يكون صحيحاً، أن من أساتذة يزيد بعض نساطرة الشام من شمارقة النصاري، و ربما شهد لهذا التقدير ما جاء في تاريخ الشام لابن عساكر من أن يزيد كان يعرف طرفاً من الهندسة هذا الفن الذي كان مجهولاً من العرب، مما يضعنا أمام الأمر الواقع الذي يتسق تفسيره علي هذا الوجه. و لا يخفي ما يكون لهذه التربية من أثر سيي فيمن سيكون ولي أمر المسلمين.

ص: 217

و هذه التربية تصحح الرواية الأدبية القائلة بأن يزيد أراد كعب بن جُعَيل علي هجاء الأنصار، فاستأبي عليه تأثُّماً لمقامهم الديني و دله علي الأخطل التغلبي الشاعر النصراني، و من ثم اطَّردت الصداقة بينهما. و نحن نشك في صحة هذه الرواية و نعزو الاتصال بينهما الي مكان التربية عند يزيد، فقد كان يتزيَّد في تقريب المسيحيين و يستكثر منهم في بطانته الخاصة، لمّا أنّه يقع بينهم علي من يمتزج به و ينسجم معه (علي ما يقولون). و لقد اطمأن إليهم حتي عهد بتربية ابنه الي مسيحي علي ما لا اختلاف فيه بين المؤرخين. و لا يمكن أن نعلل هذه الصلة الوثيقة و التعلق الشديد بالأخطل و غيره إلا إلي مكان التربية ذات الصبغة الخاصة و اللون النابي.

إذا كان يقيناً أوما يشبه اليقين، أن تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة و بعبارة اخري كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الاسلامية، لا يحسب لتقاليدها و اعتقادها أي حساب و لا يقيم لها وزناً، بل الذي يستغرب أن يكون علي غير ذلك.(1) و من ثمَّ وجدنا يزيداً يشاور المسيحيين و الاجانب امثال سرجون الرومي و يعمل بما يملوه عليه و كما قلنا سابقاً فانه جعل عبيد اللّه بن زياد والياً علي الكوفة باشارة من سرجون المسيحي(2) و مضافاً الي ذلك، فان يزيد قد ترعرع و نشأ في البادية عند اخواله بني كلب، و لم يكن تأثره بعادات البداوة بأقلَّ من تاثره بالمسيحية في رذائل الأخلاق و وحشية الطباع، اذ أنَّ معاوية ترك ميسون امَّ يزيد و ارسلها الي البادية، فكانت6.

ص: 218


1- سمو المعني ص 67-66. مروج الذهب ج 3 ص 3.
2- الكامل في التاريخ ج 3 ص 268. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 84-85. حجة السعادة ج 2 ص 6.

ولادة يزيد فيها، و متاركة ميسون لمعاوية و ان فسَّرها البعض بكراهة ميسون حياة القصور و الحضارة، و منادمة الجواري الحسان و القيان و آنية و الذهب و الفضة و السجّاد، و لكن الحق انَّ دواعي الفراق الحقيقية هي الحنينُ الي ذلك الغلام و ثورة العشق المتأججة في قلب ميسون له، فطالما سمع معاوية أشعار ميسون الغزلية لعشيقها و هي في قصره، و طالما احسَّ معاوية بسهرها و لوعتها علي فراقه، فاضطر الي إرسالها الي عشيقها و هجرها.

أخلاق يزيد

يقول العقاد: فتي عربيد يقضي ليله و نهاره بين الخمور و الطنابير، و لا يفرغ من مجالس النساء و الندمان إلا ليهرع إلي صيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة و البواري و الآجام، لا يبالي خلال ذلك تمهيداً لملك و لا تدريباً علي حكم و لا استطلاعاً لأحوال الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه، ثقة بما صار اليه من التمهيد و التوطيد و ما سوف يصير.(1) و يقول ايضاً فكان كلفه بالشعر الفصيح مغرياً له بمعاشرة الشعراء و الندماء في مجالس الشراب، و كان ولعه بالصيد شاغلاً يحجبه عن شواغل الملك و السياسة، و كانت رباضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين و الفهادين، فكان له قرد يدعوه «أبا قيس» يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب و الفضة و يحضره مجالس الشراب، و يركبه أتاناً في السباق و يحرص علي أن يراه سابقاً مجلياً

ص: 219


1- ابو الشهداء ص 17.

علي الجياد.(1) و لم ينتهِ يزيد عن معاقرة الخمرة و المآثم حتي في مدينة النبي صلي الله عليه و آله.

قال الحسين عليه السلام في يزيد لمعاوية: و قد دل يزيد من نفسه علي موقع رأيه فخذ ليزيد في ما اخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش و الحمام السبق لاترابهن و القينات ذوات المعازف و ضروب الملاهي تجده ناصراً. (2) و يقول محمد رضا رشيد هذه نشأة أولاد الطبقة الارستقراطية عادة، فهم لا يعبأون بالتعاليم الدينية و لا يعرفون الحلال من الحرام و إنما همهم التعلق بأنواع المسليات و الملاهي و الصيد و القنص و الرقص و الغناء و شرب الخمور. فتربية يزيد كانت خلاف تربية أولاد الصحابة إذ كانت تربيتهم دينية محضة. و قد استطاع معاوية بسلطته أن يأخذ البيعة لانه من أهل الشام لكنه لم يستطع أن يؤثر في أهل المدينة، فلما مات جنح يزيد إلي استعمال القوة في حملهم علي مبايعته و قال: «و اللّه لأطأنهم وطأة آتي منها علي انفسهم».(3) و يقول المسعودي: كان يزيد صاحب طرب و جوارح و كلاب و قرود و فهود و منادمة علي الشراب و جلس ذات يوم علي شرابه و عن يمينه ابن زياد و ذلك بعد قتل الحسين عليه السلام فأقبل علي ساقيه و قال:

أسقني شربة تروّي فؤادي0.

ص: 220


1- ابو الشهداء ص 77.
2- الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 60.
3- الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 60.

قاتل الخار حيٌّ أعني حسينا و مبيد الاعداء و الحسّاد

ثم أمر المغنّين فغنّوا(1) و غلب علي أصحاب يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق و في ايامه ظهر الغناء في مكة و المدينة و استعملت الملاهي و أظهر الناس شرب الشراب و كان له قرد يكني أبا قيس، يحضره مجلس منادمته و يطرح له متكأ... الي أخره.

و كان عمّال يزيد و حاشيته يشاركونه في مجونه و فسقه، و انتشر ايام حكومته الغناء و الطرب في مكة و مدينة، و استعملت آلات الموسيقي و القمار، و ابيحت حانات الخمر و الميسر.

ثم يذكر المسعودي قصة قرد يزيد المسمي «ابو قبيس» و حضوره مجالس الشراب و اللهو.(2) يقول الكيا الهراسي الشافعي: و كيف لا يكون كذلك و هو المتصيد بالفهد و اللاعب بالنرد و مدمن الخمر و من شعره في الخمر قوله:

أقول لصحبٍ ضمَّت الكأس شملَهم

و كتب فصلا طويلاً في مذمَّة يزيد و قال:

«و لو مُددتُ ببَياضٍ لأطلَقتُ العنان و بسَطتُ الكلام في مخازي هذا الرجل» (3)4.

ص: 221


1- مروج الذهب ج 3 ص 15. تذكرة الخواص ص 290.
2- مروج الذهب ج 3 ص 16-15. ابو الشهداء ص 75.
3- حياة الحيوان ج 2 ص 224.

جنايات يزيد

1 - إنَّ اعظم جناية ارتكبها يزيد هي قتله للامام الحسين عليه السلام و شباب بني هاشم و خيار و افاضل قرابة الرسالة و اصحابه الابرار، و أسْر بنات النبوّة.

فعبيد اللّه ابن زياد قتل الحسين عليه السلام بأمرِ يزيد، و أسَرَ أهله و نسائه و بناته اسرَ الكفار، و ارسلهم مع رأس الحسين عليه السلام الي الشام بطلب يزيد نفسه، و بامر من يزيد، و أوقفهم بباب مسجد دمشق يتفرج عليهم الناس كما يتفرجون علي اسري الديلم و الكابل.

و يزيد، ليس فقط لم يتبرأ من فعل ابن زياد، و انما كافأه و حباه و قرَّبه و ادناه بدلاً عن أن يلومه علي منع اطفال محمد صلي الله عليه و آله من شرب الماء، و قتله الرضَّع و العجائز. و لمّا قدم ابن زياد الي دمشق اجلسه في مجلسه و احتفل بجريمته و نادمه و أشعر فيه و تغنّي بوحشيته في كربلاء حتي قال فيه:

قاتِل الخارجيّ أعني حُسيناًو مُبيد الأعداء و الحُسّاد!

كتب ابن عباس رداً علي كتاب يزيد اليه: بلغني كتابك تذكر فيه اني تركت بيعة ابن الزبير وفاءاً مني لك و لعمري ما أردت حمدك و لا ودّك تراني كنت ناسياً قتلك حسيناً و فتيان بني المطّلب مضرّجين بالدماء، مسلوبين بالعراء تسفي عليهم الرياح و تنتابهم الضباع حتي أتاح اللّه لهم قوماً واروهم فما أنس ما أنس طردك حسيناً من حرم اللّه و حرم رسوله و كتابك الي ابن مرجانة تأمره بقتله و اني لارجو من اللّه أن يأخذك عاجلاً حيث قتلت عترة نبيه محمد صلي الله عليه و آله و رضيت بذلك و أما قولك انك غير ناس برّي فاحبس ايها الانسان برّك عني و صلتك فاني حابس عنك ودّي و لعمري انك ما تؤتينا مما لنا من قبلك الا اليسير و انك لتحبس عنّا منه

ص: 222

العرض الطويل. ثم انك سألتني أن أحثّ الناس علي طاعتك و أن أخذلهم عن ابن الزبير فلا مرحباً و لا كرامة تسئلني نصرتك و مودّتك و قد قتلت ابن عمي و أهل رسول اللّه مصابيح الهدي و نجوم الدجي غادرتهم جنودك بأمرك صرعا في صعيد واحد قتلي أنسيت إنفاذ اعوانك الي حرم اللّه لتقتل الحسين فما زلت ورائه تخيفه حتي أشخصته الي العراق عداوةً منك لله و رسوله و لأهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا فنحن اولئك لآبائك الجفات الطغاة الكفرة الفجرة اكباد الإبل و الحمير الاجلاف أعداء اللّه و أعداء رسوله الذين قاتلوا رسول اللّه في كل موطن و جدّك و أبوك هم الذين ظاهروا علي اللّه و رسوله و لكن إن سبقتني قبل أن أخذ منك ثأري في الدنيا و قد قتل النبيون قبلي و كفي بالله ناصراً.(1) 2 - و بعد فاجعة الطف الاليمة، و قبل ان تجفَّ دموع اهل المدينة علي مقتل ابي عبد اللّه الحسين عليه السلام، حدثت واقعة الحرَّة في المدينة المنورة و التي فجعت أهلها بافضع الجرائم التي يندي لها جبين البشرية جمعاً، و التي كشفت القناع عن كفر يزيد و أبيه، و اشعرت الناس جميعاً بالخطر الذي يتهدد اساس و مقدسات الإسلام من جهة بني اميّة.

فبعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و انتشار الخبر، احسَّ المسلمون عموماً بخطر يزيد علي الإسلام، و تيقَّنوا ان من جملة غاياته، هتك المحرمات و الغاء احكام الشرع و اهانة مقام الرسالة، و ان جرائمه و شنائع افعاله لن تتوقف عند حدٍّ معين.

و كان يزيد قد منع العطاء عن اهل المدينة، فتهيأت اسباب مقدمات ثورة2.

ص: 223


1- تذكرة الخواص ص 275-276. القمقام الزخّار ص 584. تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 221-222.

عارمة عليه فيها.

و عزل يزيد والي المدينة الوليد بن عقبة و بعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان و كان فتيً غرّاً لم يجرِّب الامور و لم يحنكه السن، و لم تضرَّسه التجارب، و بعث الي يزيد وفداً من اهل المدينة فيهم عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة، و عبد اللّه بن ابي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي و المنذز بن المنذر رجالاً كثيراً من اشراف اهل المدينة، فاجتمعوا بيزيد و وهب لهم هدايا و الجوائز(1). و بعد ان شاهدوا باعينهم فساد يزيد في قصره و مجونه و طربه و معاقرته الخمرة، شتموا يزيداً و عتبة و قالوا:

انا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر و يَعزف بالطنابير و يُضرب عنده القيان(2) و يلعب بالكلاب و يسامر الخُرَّاب و الفتيان، و إنا نشهدكم انا قد خلعناه»

و في بعض التواريخ المعتبرة ان اهل المدينة ثاروا علي عامل يزيد و اخرجوه بعد ان ثبت عندهم فسقه و اسرافه في المعاصي، و جوره و ظلمه و ظلم ولاته.

فارسل لهم يزيد جيشاً بامرة مسلم بن عقبة المعروف بقساوته و ظلمه و تعديه علي المقدسات الدينية و كان من تربية معاوية و معتمديه، فامره يزيد ان يستحل المدينة لثلاثة أيام، و كان النبي الاكرم صلي الله عليه و آله يقول:

«من أخاف أهلَ المدنية أخافَهُ اللّه و عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناسِ اجمعين.»ة.

ص: 224


1- و خصَّ زعماء الوفد برعايته و اكبر مبلغ من المال و هو واثق من ان الوفد سيرجع بغيرالروح التي كان يحملها عندما خرج من المدنية و لكن سهامه قد طاشت و ظنونه قد خابت فلم يحصل منهم غير الهجاء و السباب بعد رجوعهم من عنده الي المدينة.
2- جمع قينة و هي المغنية.

و سار ابن عقبة بالجيش الشاميّ و كان اهل المدينة قد حفروا خندقاً لاتّقاء الجيش و حتي لا تكون المعركة في شوارعها كما فعل رسول اللّه صلي الله عليه و آله في وقعة الاحزاب حينما جمع جدُّ يزيد المشركين لغزوها. و لكن ذلك لم يمنع غزاة يزيد من اقتحام المدينة و انتهت المعركة بهزيمة اهل المدينة لعدم تكافؤ القوتين فقد بلغ جيش الغزاة نحواً من ثلاثين الفاً و عدد المقاتلين في المدينة لم يتجاوز الالفين، و لمساعدة مروان بن الحكم و خيانة رجل من بني حارثة، فاستباحوا المدينة ثلاثة ايام بلياليها و دخلت خيلهم مسجد النبي صلي الله عليه و آله و بقروا بطون الحوامل و استباحوا الاعراض، و استثني من ذلك الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام و ال رسول اللّه صلي الله عليه و آله لعدم اشتراكه في الاحداث التي تسببت في ذلك.

هذا و قد قُتل في هذه الواقعة الفجيعة ثمانون صحابياً من اصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله و سبعمائة من اولاد المهاجرين و الانصار و اكثر من عشرة آلاف من سائر الناس.

دخل أحد جنود مسلم ابن عقبة الي دار امرأة انصارية كانت ترضع طفها فأراد أن ينهب أثاث المنزل فقالت له: و اللّه لم يبق لنا رفاقك شيئا. قال: لابد أن تعطيني شيئا أو قتلت طفلك. قالت المرأة: ويلك إنه ولد ابن أبي كبشة الانصاري من أصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله و إني من النساء اللاتي اشتركن في بيعة الشجرة و قد بايعت علي أن لا أزني و لا أسرق و لا أقتل ولداً و قد وفيت ببيعتي، فخف اللّه ربك.

ثم نظرت الي طفلها و قالت: بني لو كان عندي ما أفتديك به لفعلت.

لكنّ الرجل لم يرحمها و لم يرحم طفلها فأخذ الرضيع من علي صدرها و ضرب رأسه بالجدار فتناثر مخّ الصبي أمام عيني امه.

و طبقاً لبعض النقولات التأريخية فان هذا الرجل لم يخرج من تلك الدار الا و

ص: 225

قد اسودّ نصف وجهه.(1) و الحاصل، إنَّ استهتار يزيد و امير جيشه مسرف ابن عقبة (كما يسميه البعض) بلغ حداً أنْ وطئت خيولهم مسجد رسول اللّه صلي الله عليه و آله و بالَتْ و راثَتْ بالقرب من قبر النبي صلي الله عليه و آله و منبره الشريف، و قتلوا كل من لاذ بقبر النبي صلي اللّه عليه و آله فسالت الدماء في المسجد النبوي و شوارع المدينة.

و كل هذه الجرائم كانت بامر ابن ميسون، و لما انتهت الواقعة اكرم يزيد مروان الذي اعان مسرف بن عقبة علي تنفيذ اوامر سيده يزيد.

3 - و من جملة شنائع افعال يزيد انه أجبر اهل المدينة علي بيعته علي انهم عبيد قنُّ له، و ختم اعناقهم بختم العبيد!!

و لما انقضت الايام الثلاثة أمر اللعين مسرف بن عقبة باحضار الاسري مكبلين بالاصفاد، و احضر سائر الناس و من نجي من القتل و أخذ منهم البيعة ليزيد قسراً علي ان تكون اموالهم و ارواحهم ملكاً ليزيد يفعل بها ما يشاء!! و من رفض او اعتذر قتل فوراً.

و اول من جي به لاخذ البيعة هو عبيد اللّه بن ربيعة ابن امِّ سلمة زوجة النبي صلي الله عليه و آله و عندما طُلب منه البيعة قال: ابايع علي كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

فقال له مسرف: تبايع علي انك مملوك ليزيد يفعل بمالك و اولادك ما يشاء! فامتنع عبد اللّه من ذلك فامر اللعين مسرف بضرب عنقه.

و هكذا اخذ مسرف البيعة من كبار الصحابة و التابعين و سائر الناس الاّ علي بن الحسين عليهما السلام، علي انهم عبيد قَنّ و ختم اعناقهم كما يختم علي الجياد بعلامة2.

ص: 226


1- البداية و النهاية لابن الاثير. تاريخ الطبري ج 4 و ج 5. مروج الذهب ج 2.

الملكية، و كذلك ختم علي راحة أيديهم كما يُفعل بالعبيد.

و بهذا يكون اهل المدينة قد دفعوا لبني اميّة ضريبة خدماتهم للاسلام و التوحيد و النبوة و المسلمين زمن هجرة النبي صلي الله عليه و آله اليهم، فانتقم يزيد منهم لوقوفهم الي جنب النبي معرباً عن حقده و حقد آبائه الدفين تجاه الانصار.

4 - و الفاجعة الرابعة هي تعرُّض يزيد و هجوم جيشه علي بيت اللّه الحرام و هتك حرمة الكعبة الشريفة و ضربها بالمنجنيق و احراق ستائرها و هدمها و هي قبلة المسلمين و ملاذهم و امنهم (1)

كفر يزيد

مما تقدم في ذكر قبائح أفعال يزيد، يزول الشكُّ في كفره عند المنصف المتجرد عن العناد و التعصب. حيث تبيَّن ان يزيد بن معاوية لا يري ايَّ قدسيةٍ و احترام لمسجد و روضة النبي صلي الله عليه و آله و الكعبة المشرفة، و لم يكن مؤمناً أبداً برسالة و نبوة محمد بن عبد اللّه صلي الله عليه و آله و لولا ذلك لما تجاسر بتلك الوحشية و الاسراف و هتك حرمة تلك المقدسات الاسلامية. و بالتدقيق في تصرفاته و تصرفات ابيه، يتضح جلياً انه لم يكن ليستحي من ارتكاب ما ارتكب حتي لو كان النبي صلي اللّه عليه و آله علي قيد الحياة اذا تمكن و قدر علي ذلك، و لم يتواني عن قتل رسول اللّه صلي الله عليه و آله سائراً علي درب

ص: 227


1- لمزيد الإطلاع علي واقعة الحرّة و ختم اعناق المسلمين و تلك البيعة الخبيثة و هدم الكعبة، راجع: الامامة و السياسة ج 2 ص 220-232 و ج 2 ص 11. تاريخ الخلفاء ص 140-139. السيرة الحلبية ج 1 ص 199-195. الاخبار الطوال ج 1 ص 220-237. تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 223-224. مروج الذهب ج 3 ص 19-17. تذكرة الخواص ص 299-289. شرح نهج البلاغة ج 3 ص 470. تاريخ الطبري ج 4 ص 370. الكامل لابن الاثير ج 3 ص 310.

اسلافه من بني اميّة في حرب بدر و احد و خندق.

و مضافاً الي تجسيد يزيد الكفر عملياً، فقد كان يصرح بلسانه و اشعاره بكفره و عدم ايمانه، و قد ورد انه لمّا وضع رأس الحسين بن علي عليهما السلام بين يديه، أخذ يضرب الراس الشريف بعود خيزران و انشد يقول:

يا غُرابَ البَين ما شِئتَ فقُل

يقول ابن عقيل: و من الادلة علي كفر و زندقة يزيد اشعاره المتضمنة لمعاني الكفر و خبث السريرة و لؤم العنصر، و من جملتها:

عُليّةُ هاتي و اعْلني و تَرنَّمي

ألا هاتِ فاسقيٖني علي ذاك قَهوَةً8.

ص: 228

و لا بُدَّ لي من أن أزورَ مُحمَّداً بَمشمولةٍ صفراءَ تروي عظامِيا

و من جملة أشعاره ايضاً:

مَعشَر الندمانِ قُومُوا

و من اشعاره الدالة علي كفره:

لمّا بَدَت تلكَ الحُمول و أشرَقَتْ

الحالة الاجتماعية في عصر يزيد

يعتقد محققوا علم التاريخ و الاجتماع إنَّ الانحطاط الاجتماعي و الاخلاقي للمسلمين تسارع منذ عهد عثمان بن عفّان و تسلط بني اميّة علي رقاب المسلمين.

و في عصر معاوية و بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام كان إنحدار المجتمع الاسلامي سريعاً جدا، فظهر التفاوت العجيب بين حالة المجتمع و قتذاك و حالته زمن النبي صلي الله عليه و آله و خلافة أمير المؤمنين فالمبادئ الفكرية انحرفت، و الأخلاق تغيرت، و العادات و السلوك الاجتماعي تبدَّل، و دبَّ الفساد الاداري في مرافي الدولة، و عادت مظاهر حكومات ايران و الروم التي كسحتها المفاهيم الاسلامية و

ص: 229

القيم السماوية، و بدأ تأويل الشريعة و القران و الاحكام، بما ينسجم مع الميول و الرغبات الشخصية، و بدأ التفتيش في عقائد الناس و التجسس علي معتقداتهم و محاربة المعتقدات التي تخالف منهج بني اميّة في الحكم، و ابتدأ تطبيق منهج جديد في تربية الناس علي الخنوع و الخضوع و الاستسلام للظلم و السكوت عن الحق و التملق و التزلف للولاة و الجباة و الظلمة، و اشاعة فكرة أحقيَّة معاوية و استخلافه و سعة صلاحياته.

و امّا في الامور التي ينبغي الرجوع فيها الي آراء عامة الناس (كالبيعة) فلم يكن غير رأي الحاكم و ارادته محترماً، و كانت الآراء تؤخذ تحت بريق السيف و لمعان رأس السنان و صليل الحراب، و بما يتناسب مع ميول بني اميّة، و كانت الاستفتاءات التي يعبَّر عنها في ذلك الوقت بالشوري!! مجرَّد مسرحيات سافرة.

فلقد كان معاوية يرتقي المنبر في مجمع كبير مثل مسجد النبي صلي الله عليه و آله حيث يجتمع المخالفون لولاية عهد يزيد، و يعلن بكل وقاحة و صلافة، انَّ المسلمين اجمعوا علي انتخاب يزيد و بيعته و أنَّ اهل الحلِّ و العقد هم الذين رشَّحوا يزيداً لولاية العهد!! و الحال، إنَّ الجلادين و القتلة يصطّفون تحت منبره لقمع و كتم انفاس ايِّ معترض مهما علا شأنُه.

فرجال الإسلام الذين جاهدوا لمرضاةِ اللّه و استقبلوا الموت في سبيله بافتخار، و قطعوا طمعهم عن الدنيا و ملذاتها و قنعوا ببساطة العيش الكريم و ذابوا في حبِّ العدالة الاجتماعية، و لم تأخذهم في اللّه لومة حاكم او جائر و ظالم و كانوا كابي ذر الغفاري رضوان اللّه تعالي عليه جادَّين من اجلّ تعاليم القران و المطالبة بتطبيق احكام الشرع المبين، هؤلاء تخلّوا عن مواقعهم لا ناسٍ انكبّوا علي الدنيا و زينتها و أموالها، و اعمت بصائرها الشهوات و الملذات و طيب العيش و القصور و

ص: 230

الموائد اللذيذة، و اضعف قواهم الاخلاقية حبَّ الدنيا، فقبلوا الذلّة و الاستكانة و الخنوع طمعاً في الدراهم المعدودة التي يستلمونها من بيت المال، و اطاعوا الفرامين الجائرة و سكتوا عن الحق و تخلوا عن الغيرة و الرجولة و العزِّ و الشرف و الكرامة و الإنسانيّة.

و لم يعُد هناك من يأتمر باوامر رئيسه اذا ما دعاه الي العمل بالقانون، و لم يَعُد هناك من يتمرد علي اوامر رئيسه اذا ما دعاه الي مخالفة القانون، فلقد باع الجميع انفسهم بالجوائز و الهبات الحقيرة، فصاروا عبيداً لمعاوية و يزيد و زياد و شمر و الاخرين من نظائرهم المتردية و النطيحة، فلم يَعُد للقوانين معني إلاّ تلك التي تصدر عن بني اميّة.

و ان وُجد من يتمنع من اجراء القوانين الظالمة - كوالي خراسان فانهم يتعرضون للتصفية الجسدية و يُبعدون عن ساحة الاحداث.

و لم يَعُد مهماً للمسلمين ايُّهما يحكم، يزيد و معاوية ام الحسين و علي عليهما السلام، فان المهم عندهم هو مصالحهم الشخصية التي تتحقق لهم في حكومة بني اميّة فوالَوْا حكومة بني اميّة.

كان الخمول و الركود و الخنوع و السكوت و الخوف قد عمَّ كل نواحي الحياة الاجتماعية، و تُرك الامرُ بالمعروف و النهي عن المنكر، و كانت اجهزة السلطة الاموية تمنع منهما.

و لم يعد للخطباء دور إلاّ التمجيد و الدعاء و الثناء للولاة و لمعاوية و يزيد، و لعن و ذمِّ الاخيار و الصلحاء و اولياء اللّه. و قد أخذ الفقر و الفاقة مأخذهما من الناس، و صرفت اموال بيت المال في البذخ و الحفلات الماجنة و الجوائز و الهبات و العطايا و الصلات لغير مستحقيها، بدلاً من صرفها في مصالح المسلمين و التوسعة

ص: 231

عليهم و تطوير اقتصاد الدولة الاسلامية و اعمارها، فاستشرت تجارة الغلمان و الجواري و مجالس اللهو و الطرب و الخمر و القمار و الرقص.

و قد انحدر مستوي الثقافة و العلم و الفكر و التديُّن و الايمان حتي وصل الي ادني مستوياته و ضعُفت الارادة الاجتماعية و العزم الوطني الاسلامي الي درجة ان احداً لا يمكنُه الاعتراض علي موظفٍ صغير في جهاز الحكم علي مخالفاته القانونية.

و وصل القمع الفكري و الديني الي حدّ لم يبق معه من الإسلام الاّ اسمه و من القران الاّ رسمه، و تفشّي التلاعب بالاحكام و القوانين الاسلامية، و انحصرت الملاكات و موازين الامور في ارادة الحاكم و مزاج جهاز الحكم.

و سقطت اسلامية القوانين عن الاعتبار، و عمّ القمع الي درجة ان معاوية نفسه يمنع عبد اللّه بن عباس و هو من كبار الصحابة و المعروف بحبر الامّة، من تفسير القرآن و بيان الحقائق، و مُنع تداول احاديث اهل البيت و نقلها، و كان البحث العلمي و التفسير و الحديث، و بيان احكام الحلال و الحرام، تحت مراقبة اجهزة السلطة الاموية و عيون بني اميّة.

و الحاصل، و كما قال الإمام الحسين عليه السلام: «لقد أماتوا السنة و احيَوْا البدعة، و الحق لا يُعمل به و الباطل لا يتناهي عنه».

و اوضح دليل علي ما قلناه هو تخاذل الناس عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام، أولئك الذين كانوا يتمتعون بالقدرة القتالية و التسليحية و الرغبة في الخلاص من حكم بني اميّة في وجدانهم، و الذين كتبوا الي الإمام الحسين عليه السلام ان اقدم الينا فقد اينعت الثمار و اخضرَّ الجناب... الخ و بايعوا سفيره مسلم بن عقيل علي اقامة العدل و محاربة الظلم و الجور و الكفر، و احياء الدين و الشرع الحنيف، و لكن و بمجرد ان جاء عبيد اللّه بن زياد و خوَّفهم بجيش وهمي و رغَّبهم بالمناصب و طمعهم بالاموال

ص: 232

و المنال، باعوا دينهم بدنيا غيرهم و نكثوا بيعتهم، بل و انضمّوا الي صفوف المحاربين لامامهم و تركوه لدي الهياج وحيداً حتي قُتِلَ هو و اهلُ بيته و اصحابه البررة و أسِرَتْ نساؤه و اطفاله و جي بهم الي الكوفة امام أعين اولئك الذين كاتبوه و بايعوه و عاهدوه علي التضحية من اجله و اجل اهل بيت الرسالة!! فايُّ دليل علي انحطاط المجتمع فكرياً و عقائدياً و اخلاقياً اوضح من هذا التخاذل؟؟

و لقد ذكّرنا سابقاً بهذا التدني الاخلاقي و قلنا أنَّ جيش الكوفة كان جيشاً حاربت يداه و رجلاه و لسانُه، و جدانَهُ و فكرَه و روحَه، و كما وصفهم الفرزدق:

قلوبهم معك و سيوفهم عليك!

إنَّ الذي جاء بعمر بن سعد و شبث بن ربعي و عمرو بن الحجاج و حجّار بن ابجر و الاخرين الي كربلاء، لم يكن الاّ حبُّ الدنيا و الخوف من خسارة المال و المنصب، لا عدم القناعة بالواقع المرِّ.

تأملوا في اجوبة عمر بن سعد للامام الحسين عليه السلام فيما طلب منه أنْ يلتحق به و يترك بني اميّة، لم يقل عمر بن سعد: إنَّ الحق مع بني اميّة، و لم يقل إنَّ الحسين علي باطل او إنَّ حركته ليست اصلاحية، لكنه قال: اخاف أنْ يخرب داري!

فقال له الإمام عليه السلام: اعوضك بخير منها.

فقال: اخاف ان يصادر ضيعتي.

قال الحسين عليه السلام: انا اعوضك بضيعة لي في الحجاز.

قال: اخاف علي اهلي يقتلهم ابن زياد.

فانت تري ان كل اعذار عمر بن سعد ناجمة عن خوفه و عن طمعه بالدنيا و المال، و كان دافعه الأول و الأهم هو ملك الريّ و هكذا حال الاكثر من اولئك الذين حاربوا الحسين عليه السلام فلقد كانت روح اليأس و الخوف و الانحطاط الفكري و

ص: 233

التدني الخُلقي و الطمع في الدنيا و زينتها الزائلة، فكانت الامّة في سُبات و خمول و خنوع و جُبن، و فقدان ارادة و عزيمة.

و كيف يرتجي غير ذلك من امّةٍ يتسلط عليها امثال معاوية و يزيد و مسلم بن عقبة و زياد و المغيرة و عمرو بن العاص و الحصين بن نمير و عبيد اللّه بن زياد؟

كيف يرتجي منهم غير الدناءة و الرذالة و الخسّة و الفساد و دنو الهمّة و الضعة و السفالة؟

و مثل هذه الامة، لا يُتوقع منها ان تقف الي جنب المصلحين و الرساليين و اولياء اللّه، و لا يرتجي منها الفداء و التضحية من أجل المبادي و المثل السامية، و ان مثل هذه الامة الميتة تحتاج الي حركة اصلاحية قوية كحركة الإمام الحسين عليه السلام تهزُّ ضميرها و توقظها من سبات الخنوع و الذلّ.

ص: 234

البحث الثالث: دواعي ثورة الحسين عليه السلام

اشارة

ص: 235

ص: 236

دواعي الثورة

1 - امتثال التكليف الالهي

اشارة

دواعي الثورة(1)

1 - امتثال التكليف الالهي

قد يكون المحرك و الدافع لثورة و نهضةٍ ما هو المنافع المادية و الامور الدنيوية و الاغراض الشخصية و بعبارة، هوي النفس و طلب الشهرة و المقام.

و قد يكون الدافع مقدساً كحبِّ الخير و الفضيلة و الاصلاح و امتثال التكليف الالهي و الوظيفة الشرعية.

ص: 237


1- لا يخفي عدم وجوب معرفة علل و اسرر افعال النبي و الأئمة عليهم السلام و لا معرفة الحكمة و المصالح الكامنة في ما يقوم به، و ذلك لا يوجب خللاً في مقام النبوة و الامامة، بعد ان ثبت عصمتهم و وجود الملاكات في ما يقولون او يفعلون او يتركون و يحرّمون، نظير مجهولية كثير من مصالح الخلقة في عالم التكوين لدي البشر، و لا يجيز ذلك إنكارها و انكار حكمة خالق الكون، و يعود ذلك الي محدودية تعقلات الكائن البشري و ضيق قطر دائرة ادراكه لاسرار عالم التكوين. و كذا الحال في عالم الشريع و منهج الانبياء و الاولياء، فاذا لم يبيِّنُ نفسُ الأنبياء و الأولياء المصالح و الملاكات في افعالهم، فانهي ستبقي خافية علي الذهن البشري العام، و مثال ذلك ما ورد في قصة النبي موسي عليه السلام و الخضر عليه السلام. فنحن عاجزون عن ادراك علل افعال الإمام الحسين عليه السلام و بحثها و التحقيق فيها. و عليه فما سنقوله في هذا القسم من الكتاب في دواعي نهضة الحسين عليه السلام لا يُعدُّ توجيهاً و تصويباً لثورته الشريفة، اذ اننا نعتقد ان كل ما يقوم به الإمام عليه السلام و من جملة ذلك حركته في كربلاء، هي عين الصواب و الحق، كما اننا لا ندعي الاحاطة بكل حِكَم و مصالح هذه الثورة المقدسة، اذ يسع مياة البحر الاّ البحر نفسُه، و انما غرضنا من هذه البحث هو توضيح بعض الافكار و تقوية مباني الأخلاق و الايمان عند طبقة الشباب من المجتمع.

و من الضروري، أنَّ الدوافع المادية الشخصية تجرّد العمل عن قدسيته و ممدوحيته و سُموَّه، و يكون اقرب للغرائز و الميول الحيوانية، بحثاً عن العلف و الطعام، و اكثر الناس لا تسمو أهدافهم و أغراضهم عن الرغبات الحيوانية.

اجل، إنَّ هؤلاء الناس، اذا ما سعوا للحصول علي المنافع المشروعة حتي المادية منها، و لم يخونوا الاخرين و لم يظلموا حقوقهم و لم يعمهم الطمع و الجشع، و كانوا مراعين للآداب الشرعية و الاخلاقية، حينئذٍ لا يمكن ملامتهم و ذمِّهم، بل يقال عن مثل هؤلاء انهم اجتازوا عالم الحيوانية و وضعوا اول قدم في عالم الإنسانيّة المقدس، و سوف يثابون علي أعمالهم، فهم مصداق قوله تعالي:

«وَ مِنهُمْ مَنْ يقولُ ربَّنا آتِنا في الدُنيا حَسَنَةً و في الآخِرَةِ حَسَنَةً»(1)

و أمّا اذا حاولوا الوصول الي مرادهم و اغراضهم عن طريق هضم حقوق الآخرين و بالطرق اللامشروعة، استحقوا الذمَّ و الملامة، بل و المحاسبة و المعاقبة و صاروا في عداد الطغاة و الظالمين و السارقين و المرابين و القتلة و الفساق و...

نظائرهم.

و لذا، فان اكثر أخيار المجتمع هم اولئك الذين يتوسلون بالطرق المشروعة لتحصيل اغراضهم المادية الشخصية، كما إنَّ اكثر روّاد الطرق الملتوية المنحرفة عن الشرع، هم اولئك الذين يحاولون اشباع حاجاتهم باي وسيلة حتي لو كانت محرمة، فالحرام و الحلال مترادفان في قاموسهم، و ليس للطمع و الجشع عندهم حدُّ ادني أو أقصي.

و متي ما كان المحرّك، حبُّ الخير و امتثال التكليف الالهي، و الخلوص لله، و1.

ص: 238


1- سورة البقرة، الآية 201.

خدمة الإنسانيّة، كان العمل منتسباً الي الإنسانيّة و الكمال، و تبعاً لذلك يستحق فاعله المدح و الثناء و التشويق، و المحبوبية عند الناس لحسن ذلك العمل عقلاً و بالذات.

و لعلَّ من ابرز ما اكَّد عليه الانبياء في منهجهم التربوي، هو ايصال الناس الي الكمال بحبِّ الخير و اشاعة المحبّة و العلم و العدالة و هداية المجتمع و سوقه نحو هذا المحور المقدس، لتتمركز المصالح و الاغراض في نقطة واحدة و مركز متوحد فيكون سير البشرية اجمع نحو ذلك المركز و يتحقق الكمال الاجتماعي البشري العام.

و ما ذكر، ليس الاّ اشارة الي هذا البحث العميق، و تفصيل الكلام فيه يوجب الاطالة و يُبعدنا عن المقصد من هذا الكتاب.

و هناك صنفٌ من البشر، يسمو محركهم و تترقّي دواعي افعالهم علي كل هذه العوامل و تتفاضل علي كل تلك المقاصد فهؤلاء هم عباد اللّه الحقيقيين، و الخواصّ من اوليائه، فلا يعنيهم ما سوي العبودية لله و الطاعة لاوامره و الامتثال لاحكامه.

فلا تستند حركاتهم و سكناتهم إلاّ الي معرفتهم باستحقاق اللّه لهم، فليست مصلحة المأمور به و لا مفسدة المنهي عنه، يعبدون، و لا للفائدة و الملاكات يمتثلون. فان ذلك في قاموسهم تجاوز علي الحدود و فضولية و جرأة علي المولي، بل لانهم وجدوا اللّه أهلاً للامتثال فامتثلوه، فالموثر الوحيد و المحرك الفريد لهم و المتصرف الكامل بهم و باموراتهم هو اللّه و الداعي الي نهضتهم و ثورتهم و سكوتهم هو الأمر الالهي، اولئك الذين صدق في حقهم:

«عبادٌ مُكرَمونَ لا يَسْبِقونَهُ بالقَوْلِ وَ هُم بِأمرِهِ يَعلَمون» (1)7.

ص: 239


1- سورة الانبياء، الآية 27.

و كلّما علت و خلُصت مرتبة توحيدهم، كلما كمل تسليمهم و نيّاتهم من جهة الامتثال، حتي يصلوا الي مرحلة فناء مقاصدهم و مطالبهم و رغباتهم في المطلوب الحقيقي و المقصود بالذات و منتهي الآمال، و تمحي من صفحة وجودهم إنيّاتهم و آمالهم الشخصية. فالتوحيد و ايمانهم الخالص و المنزه من الشوائب، يسوقهم نحو اللّه لا غير، و كما ورد في كلمات ابي عبد اللّه الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة:

«أنتَ الَّذي أزَلتَ الأغيار عَنْ قلوبِ أحبّائِكَ حتّي لم يُحبُّوا سِواكَ وَ لَم يلجَئُوا الي غَيرِكَ»

اذن، فعلل و دواعي حركتهم ليست الاّ الأمر الالهي و حبِّ اللّه و رضاه، و لذا يقولون:

«اللهم إرزُقني حُبَّكَ و حبَّ كلِّ عَمَلٍ يُوصِلُني الي قُربكَ»

و شعارُهم و ذكرهم:

«لا إله الاّ اللّه و لا حَوْلَ و لا قُوَّةَ إلاّ باللّه و أُفَوِّضُ أمري الي اللهِ و حَسبْنا اللّهُ و نِعمَ الوَكيلُ و اللّه أكبَر.»

طاعتهم اسمي من طاعة الطمع بالحور و قصور الجنّة و الثواب و اعلي من طاعة الخوف من النار و العذاب و العقاب يوم النشور، و انما طاعتهم ممحضة و خالصة من كل نفع الاّ القرب من اللّه بامتثال امره، و كل ما سوي ذلك ذنبٌ عندهم.

و لقد كان الانبياء و الائمة الطاهرين و هم الادلة علي التوحيد الخالص و السابقون في قافلة الموحدين و عباد اللّه المخلصين، هم خيرة هؤلاء المكرمين و سادة الخلق اجمعين.

فمطالعة تاريخ سيرة هؤلاء هي اسمي درس تتعلمه الإنسانيّة.

يقول ابراهيم الخليل:

ص: 240

«إنِّي ذاهِبٌ الي رَبِّي سَيَهدينِ»(1)

و يقول:

«إنّي وَجَّهتُ وَجهيَ للَّذي فَطَرَ السماواتِ و الأرضِ حَنيفاً مسلماً و ما أنا مِنَ المُشرِكينَ»(2)

و كان خاتم الانبياء صلي الله عليه و آله يقول:

«إنَّ صَلوتي و نُسُكي و مَحيايَ و مَماتي للّه ربِّ العالَمين لا شَريكَ لَهُ»(3)

و لقد كان أمير المؤمنين و اولاده المعصومين من بعد النبي النموذج الاعلي للتوجه الخالص للمبدأ و في التوحيد.

فعليُّ هو الذي وصفه النبي صلي الله عليه و آله بان السماوات و الارض لو وضعت في كفَّة ميزان، و وضع ايمان عليٍّ في الكفة الاخري لرجح ايمان علي عليه السلام.

فطلب الحق و العدل و العبودية لله و الزهد و التقوي و الشجاعة و الصراحة و كل الصفات الإنسانيّة السامية، قد تجسدت في علي و آله عليهم السلام و لقد كان عليه السلام ثمرة شجرة التوحيد و عبادة اللّه و التسليم الخالص للمبدأ عزوجل، و كان اذا خُيِّرَ بين أمرين اختار اشدّهما عليه و ارضاهما لربِّه.

و من أوضح مظاهر الخلوص و الطهارة، و تجلّيات الحقيقة و طلب الحق و اهل هذا البيت، ثورة الحسين عليه السلام ضد يزيد و حكومة بني اميّة، فكانت ثورة الهية خالصة و نهضة دينية صادقة.».

ص: 241


1- سورة الصافات، الآية 99.
2- سورة الانعام، الآية 79.
3- مستلهم من الآيات 162-161 من سورة الانعام. «قُل ان صلاتي و نسكي و محيايَ و مماتي لله رب العالمين لا شريك له...».

فالحسين عليه السلام في ثورته لم يكن طالبَ حكمٍ و سلطان و مقام دنيوي، و لا طامعاً في نفوذ و مالٍ و ثروة، و انما امتنع عن بيعة يزيد، طاعة للّه تعالي، و ترك الحرمين الشريفين مهاجراً الي العراق امتثالاً لامر اللّه عزوجل، و جاهد في اللّه لله، و لم يدْعُهُ الي تلك الحركة الاّ امر اللّه و أداء التكليف.

و لذا، فان افضل ما يمكن التعبير به عن علل ثورته عليه السلام، هو الأمر الالهي، و هذه حقيقة يؤيدها التاريخ و الدين و سيرة الحسين عليه السلام.

فالتاريخ شاهدٌ علي ان أوضح دليل علي خالص نية الحسين عليه السلام، و عظيم إثرته و محض تسليمه لامر اللّه، هو تضحيةُ الحسين عليه السلام و فداؤه.

و ايُّ دليل و شاهد علي طهارة النيّة و صفائها، و شفافية الباطن، و التوحيد الخالص، أفضل من عزم الانسان علي ملاقات الحتوف في سبيل اللّه، و استقبال المصائب و البلايا في رضا اللّه، و افتجاعه بفقد اعزِّ اولاده و إخوته و اصحابه، و أسرِ أطفاله و نسائه، و آهات و أنّات العطاشي و الثكالي؟

و من ثمَّ، فمشتبهٌ تماماً من يتخيل أنَّ المصالح السياسية و المنافع المادية الشخصية او الصراعات القبلية العشائرية و العائلية، كان لها ادني مدخلية في ثورة الحسين عليه السلام، فضلاً عن تصور كونها العلل الاهم في ذلك، فان الحسين عليه السلام هو ولي اللّه الكامل، و العبد الذي عرف معني العبودية الخالصة لله، و اندكَّ مرادُه في ارادة اللّه فلم يَعُد لما تريدُه نفسه اي معني في قبال ارادة ربِّه.

لقد كان الحسين عليه السلام علي يقين علمي و عملي بان اللّه رقيبُه و حافظُه، و كان الحسين عليه السلام يري اللّه بعين المعرفة و بصيرة الايمان، و لذا كان كلامه و خطابه:

«عَمِيَتْ عَينٌ لا تَراكَ عَليها رَقيباً، و خَسرَت صَفَقَةُ عَبدٍ لم تَجْعَلْ لَه مِن حُبِّكَ نَصِيباً»

ص: 242

و ادعية الحسين عليه السلام يوم عرفة و يوم عاشوراء و غيرها ترشدنا الي رفيع أحاسيسه الروحانية، و ذوقه و دركه الوجداني اللطيف، و الي تجلّي عميق ارتباطه باللّه، و من حمل مثل هذه المعرفة باللّه، و هذه المرتبة العالية من الاخلاص، محالٌ ان يخطو خطوة في غير رضا اللّه تعالي و امتثال أمره.

كما ان كل الروايات و الاحاديث الواردة في سيرة الحسين عليه السلام و سماته و صفاته و اخلاقه، تدل علي محض الامتثال، كما انها واضحة في ان النصر العسكري الظاهري، لم يكن منظوراً ابداً للحسين عليه السلام، و لم يكن في حسبانه تحقيق المكاسب السياسية و الزعامة و السلطة، بل كانت حركته اصلاحيةً محضة، كما كانت حركة جدِّه رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و دعوته، دعوة و نهضة الهيّة سماويّة لهداية البشرية، و لم تهدف يوماً مّا تحقيق مآرب سلطوية فئوية، و نيل مكاسب دنيوية عابرة، فالملاك كل المِلاك في الحركتين هو امتثال امر اللّه، و من هنا كانت حركة الحسين عليه السلام امتداداً لدعوة النبي صلي الله عليه و آله و مكملةً لها:

«إنْ كانَ دين محمّدٍ لا يَستَقمْ إلاّ بقَتلي يا سيوفُ خُذيني»

فمهما قيل في تفسير ثورة الحسين عليه السلام، و اي تعبير استعمل لترجمتها و سواءٌ قيل انها امتحان و ابتلاء الهي، أو انها حركة لتحقيق اهداف الانبياء و الاولياء، أو أنَّها محاولة لتاسيس أو تجديد الحكومة الاسلامية العادلة، أو انها مامورية و تعهدٌ التزمه الحسين عليه السلام علي نفسه من عوالم الغيب، أو انها مشاهد لتجلّي اعلي مراتب الخلوص لله عند البشر، و الدفاع عن الحق و العدل و الدين، أو أنها أبرز تجلّيات الصبر و الصمود و العزّة و الاباء و الفداء و كمال الروح و النفس، و مهما فسَّرَ العارف و الفيلسوف و المورخ و المحدث و الشاعر، و مهما قيل في عظمة هذه الثورة المقدسة، فالكل ينتهي الي معنيً واحد و هو إنَّ ما قام به الحسين عليه السلام ليس إلاّ

ص: 243

مامورية إلهية متميِّزةً، و رمزاً غيبياً و سرّاً سماوياً، و إنّ الذي دعي الحسين عليه السلام الي تحمل كل تلك الرزايا و البلايا هو الأمر الالهي و حسب.

و قد جرت العادة في الثورات و الحركات السياسية أنْ يتشبث قادتها بشتي الوسائل و الطرق - حتي المحرمة و القبيحة - لتحقيق مآربهم و تحشيد القوي و الطاقات و تجميع الاسلحة و المعدات الضرورية لحركاتهم.

و حتي قادة الحركات النزيهة و الشريفة فان لهم بعض الثوابت التي تعدُّ ضرورية و لازمة لنجاح حركاتهم و كسب الأنصار و المؤيدين، من قبيل إشاعة روح النصر فيهم و عدم إخبارهم باحتمال الهزيمة و الانكسار أو القتل و الشهادة أو الأسر فضلاً عن أسر النساء و قتل الاطفال و نزول البلايا و المصائب بهم.

كما ان هؤلاء يختارون الاماكن الآمنة لهم و لاتباعهم و خاصة تلك الاماكن المقدسة المحترمة عند الجميع و التي يضطر العدو الي عدم مهاجمتها لعلمه المسبق بالعواقب الوخيمة لهذا العمل.

و اما لو كان العكس، فاخبر القائد قواته بالمصير المأساوي الذي ينتظرهم و انهم مقتولون لامحالة، و أن عوائلهم ستسبي و أن اموالهم سنتهب و أن اطفالهم ستقتل و ان رؤوسهم ستقطع، و خيَّرهم بالانصراف و اذن لهم بالرحيل عنه، و ترك المكان الآمن و اختار صحراء قاحلةً بعيدة عن الاعلام و دعاهم الي استقبال الموت و الشهادة و كان هو في مقدمة الفدائيين المستميتين و المضحين بكل غالٍ و نفيس حتي الرضَّع من اولاده، فمثل هذا القائد لا يمكن اتهامه بطلب الرئاسة و الزعامة و المال و النفوذ بل سينظر الناس اليه علي ان ثورته ثورة صادقة مبدئية، و مثل هذا القائد لا يجتمع اليه اهل الطمع و المرتزقة و طلاّب الدنيا و المال و المقام الذين ينخرطون مع كل حركة و ثورة من اجل المكاسب و الغنائم.

ص: 244

و الآن تعالوا معنا لقراءة ثورة الحسين عليه السلام من هذا المنظار:

ألف: التنبوء بالقتل

لقد جاء في روايات متواترة لفظاً و معني ان الرسول الاكرم محمد صلي اللّه عليه و آله أخبر باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام و هذه الروايات ضبطت في أصح كتب التاريخ و الحديث، و قد نقل هذه الاخبار صحابة النبي صلي الله عليه و آله و زوجاته مباشرةً أو بوسائط.

و عندما عزم الحسين عليه السلام علي ترك المدنية الي مكة، و كذلك عندما ارد الخروج من مكة الي العراق، جاءه كثير من اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و كبار رجالات الإسلام و الشخصيات المعروفة عند عامة المسلمين و حاولوا اقناعه بعدم الخروج و حذَّروه من القتل في العراق، مندفعين من أمرين:

الأول: علمُهم و يقينهم باستشهاد الحسين عليه السلام في هذا الخروج لما بلغهم من كلام الرسول صلي الله عليه و آله و ما سمعوه عنه مباشرة و اخباراته المتكررة بقتله عليه السلام.

الثاني: بملاحظة الاوضاع السياسية القائمة آنذاك و استيلاء بني أمية ببطشهم و طغيانهم، و ظلمهم الذي عمَّ كل انحاء البلاد الاسلامية و خنوع الامة الاسلامية و سكوتها عن الحق. فقد عاش هؤلاء فشل اهل الكوفة زمن أمير المؤمنين و الإمام الحسن عليهما السلام في الدفاع عن الامامة و الحق، فكان مصير الحسين عليه السلام واضحاً و انه يسير نحو الشهادة و القتل، و ان احتمال نجاح حركته ضعيف جداً.

فلو كان احتمال انتصار الإمام الحسين عليه السلام عسكرياً قائماً بنسبة 50% أو 20% لتبعه كثيرٌ من الناس المؤمنين به و المحبين لآل بيت الرسول صلي اللّه عليه و آله و لما تخلي عنه امثال عبيد اللّه بن الحر الجعفي، و لكن ولأن امثال هؤلاء كانوا من طلاّب

ص: 245

الزعامة و السياسيين الذين يعتمدون علي الحسابات السياسية، فكانوا يعرفون بنتيجة هذه الثورة، و لم يكونوا كزهير بن القين الذي تخلّي عن كل امواله و حياته في سبيل اللّه و نصرة ابن بنت رسول اللّه صلي الله عليه و آله، كما أن هؤلاء لم يسمح لهم وجدانهم و ضمائرهم التي كانت لا تزال تذكر صوراً رائعة من حياة ال بيت الرسول صلي الله عليه و آله الي الاصطفاف في صف بني اميّة لقتال ابن فاطمة الزهراء، فبقوا علي الحياد و حُرموا سعادة الشهادة و نصرة إمامهم.

فلم يعدُ المسلمون، مسلمو زمن النبي صلي الله عليه و آله، فلقد أثَّرت فيهم و غيّرتهم المظاهر الدنيوية الخلاّبة، و خدعتهم حلاوة الملك و السلطة و الزعامة، و ذاقوا طعم الثروة الطائلة و الاملاك و الغلاّت و الغلمان و الجواري، فازداد تعلُّقهم بالدنيا و قلَّ نصيبهم من الايمان.

فلا معروف يؤمر به، و لا منكر يُنهي عنه، و لا زهد و لا تقوي فضلاً عن الفداء و التضحية في طريق الحق، و لقد اعمي حبَّ الدنيا أبصارهم، و اصمَّ آذانهم، و سوّد قلوبهم.

و امّا اولئك الذين كانوا علي سدَّة الحكم، فامرهم واضحٌ جلِّي، فلقد مضوا اعمارهم باللعب بالقردة و الكلاب و القمار و الشراب و الرقص و المجون و الطرب و اللهو، و تقسيم أموال بيت مال المسلمين الي حاشيتهم و اقربائهم، و اشتروا ضمائر قادة المؤسسات الحكومية بالاموال و اشباع الشهوات، و مسخوا شخصياتهم فلم يَعُد للغيرة و الشرف و الدين وجود في قاموسهم.

و من لم يكن مع بني اميّة، فاقلَّ ما يتحمله من عقاب هو قطع عطائه و حرمانه من أبسط حقوقه الاجتماعية.

و في مثل هذه التركيبة الاجتماعية و السياسية المضطربة، لا يمكن توقع احتمال

ص: 246

اندلاع ثورة علي الحكم الاموي، و لا يمكن توقع اجتماع الناس حول قائد ديني و زعيم وطني يحاول الاصلاح.

و من هنا، وجدنا هؤلاء الناس كيف اداروا ظهورهم لنهضة الحسين عليه السلام و لم يلتحقوا بركب الشهادة و السعادة و رضوا بالدنيِّ من الدنيا و تركوا الحسين عليه السلام وحيداً في مواجهة الباطل(1).

و كما اسلفنا فان الناس كانوا يهوون الحسين عليه السلام و يحبونه و مقتنعين بافكاره و حركته بل إنَّ بعضهم هو الذي طلب منه القيام، و لكن كانت تنقصهم الشجاعة و الاقدام و الرشد الفكري و الروحي و الايماني، فلم يصلوا الي مستوي حبيب بن مظاهر و مسلم و الحر و زهير و عابس الذين ضحوا بالمناصب و الميزات الاجتماعية و المالية من اجل الدين و نصرته و الانتصار للحق و المظلومين.ة.

ص: 247


1- الانصاف ان اهل اكوفة لم يكونوا الوحيدين في الاقبال علي الدنيا و الادبار عن الحق، فلا ينبغي ان نحصر اللوم و التوبيخ بهم، فقد كان لهم نظائر علي مرِّ العصور كاولئك الذين تخلّوا عن نصرة قادة الاديان و زعماء الحركات الاصلاحية التغييرية المحقة، مع فارق ان هؤلاء الزعماء لم يكن لهم ما كان للامام الحسين عليه السلام من مقام و عظمة و سابقة، و لكن كان منهم من ثار علي منهج الحسين عليه السلام و داعيا الي مبادئه و مأساة المسلمين اليوم هو ابتلاؤهم بضعف الارادة و سبات الضمير و تفرقهم و اختلافاتهم و حبهم للدنيا و خوفهم من الموت. و كما ورد في الخبر عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «كيف بكم إذا تَداعي عليكم الأمَم كما تداعي الأكَلَةُ علي القصاع؟ قالوا: أمِنْ قلَّةٍ يومئذٍ يا رسول اللّه؟ قال: بل من كثرةٍ و لكنكم غُثاء كغُثاء السَّبيل قَد أوهَن قلوبُكم حبُّ الدنيا و كراهيةِ الموت» و لا يخفي ان هذا الخبر ورد بلفظ آخر و هو: «كيف بكم اذا تداعي عليكم بنو الأصفَر» و علي هذا التقدير يكون المراد من بني الاصفر هو بني اميّة و بني مروان لان اصل بني اميّة من الروم أو علي الاقل ان بني مروان من الروم كما ذكر ذلك العقاد و آخرون، فهؤلاء يسعون الي الهيمنة علي المجتمع الاسلامي كلِّه، مع ان عدد المسلمين كبير، إلاّ ان حبَّ الدنيا و الخوف من التضحية و الاقدام، منعهم من الدفاع عن الإسلام، فخسروا حقوقهم المشروعة.

و ما اروع ما عبَّر به الفرزدق عن حالتهم تلك، عندما قال للحسين عليه السلام:

«قُلوبُهُم مَعَكَ و سُيُوفُهُم عَلَيكَ»(1)

فهذه الجملة تبين حقيقة محبّة الحسين عليه السلام في قلوب عامة المسلمين كما انها تبيِّن الهزال الروحي و الفقر الفكري و ضعف الأقدام و المسكنة الاخلاقية عندهم.

و قال له مجمع بن عبيد العامري: أمّا اشراف الناس فقد اعظمت رشوتهم و ملئت غرائرهم فهم ألبٌ و احدٌ عليك، و اما سائر الناس بعدهم «فان قلوبهم تهوي اليك و سيوفهم غداً مشهورة عليك»(2)

و الحاصل إنَّ الصحابة و سائر الناس و بعض بني هاشم كانوا في خضمّ الحسابات السياسية، و أمّا اصحاب الحسين عليه السلام فكانوا سائرين الي الشهادة عن علم و يقين و اصرار.

و قد نقل عن ابن عباس انه كان يقول ان اهل البيت كانوا يعلمون بان الحسين عليه السلام سيُقتل بالطف.(3) و هاهم عبد اللّه بن عباس، عبد اللّه بن عمر، محمد بن حنظلة و عبد اللّه ابن جعفر الطيار و غيرهم من كبار الصحابة يقترحون علي الحسين عليه السلام ان لا يخرج لعلمهم بما سمعوه من النبي صلي الله عليه و آله باستشهاد هذا الإمام المظلوم في كربلاء و انه نورُ اللّه في الارض و الهادي للناس و الأمل للمؤمنين.(4) و الاكثر من هذا و ذاك فان الإمام نفسه كان علي بصيرة تامة من أمره، لما8.

ص: 248


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 290. تذكرة الخواص ص 251.
2- ابصار العين ص 86. ابو الشهداء ص 73 (طبع الشريف الرضي). بطلة كربلاء ص 108.
3- مقتل الخوارزمي ف 8 ص 160.
4- مقتل الخوارزمي ف 10 ص 218.

عرفه عن مصيره من جدِّه و أبيه، و لعلمه باحوال الناس و اخلاقهم، فهو الاعرف بهم من سائر الناس و لذا كان عليه السلام يقول: «الناسُ عبيدُ الدُنيا و الدِّينُ لَعقٌ علي ألسِنَتِهِم فاذا محصوا بالبلاء قلَّ الديّانون»

و لذا نراه يقول لرجل من بني عكرمة عندما التقاه و حذّره المسير الي الكوفة و انه لن يرد إلاّ ّعلي سيوف و رماح:

«يا عبد اللّه إنَّهُ ليسَ بخَفِّي عَلَيَّ الرأي و لكن اللّه لا يُغلَب علي أمرِهِ»(1)

باء: الاخبار باستشهاده

إنَّ من ضروريات حنكة القائد الذي يسعي لتغيير نظام حكمٍ ما و السيطرة علي زمام الدولة، ان يبث روح النصر في جنوده و يحارب العدو إعلاميا و نفسياً، و يشيع قوة احتمال انتصاره و كسر عدوه، و يرتجز الاشعار الحماسية ليقوي عزائم انصاره، و يبثَّ الرعب في قلوب اعدائه.

أمّا ان تجد قائداً يتحدث لجيشه عن استشهاده و قتله و قتل انصاره، و يصرّح أو يلمح بالمصير القاسي الذي ينتظرهم، و هو الذي يُضعف عزيمة الجيش إلاّ من تحلّي منهم بالايمان القوي و روح الفداء من اجل المبادئ، فان ذلك يدلُّ علي ان مثل هذا القائد لم يتحرك او يُقاتل بدافع الملك و الحكم و الزعامة، فانه مضافاً الي عدم استعداده المسبق للقتال، فهو لا يُبقي علي الاستعدادات الموجودة ايضاً، و هذا المنطق لا يتلائم مع رجاء تحقيق الاغراض السياسية و الملك و لابد ان يكون مثل هذا القائد يبحث عن اهداف اخري و تحركه دواعٍ وراء تلك الدواعي الدنيوية

ص: 249


1- الطبري ج 4 ص 31. الكامل ج 3 ص 278.

الضيقة.

و لقد كان الإمام الحسين عليه السلام من الصنف الثاني، و كان يكرر القول علي الاسماع بانه مقتول، و لم يؤثر عنه انه وعد بخلع يزيدٍ أو تغيير حكم بني اميّة أو التمكن من السلطان و حكومة البلاد الاسلامية، مع انه القي الحجة علي الجميع بضرورة الاشتراك معه في نهضته و نهاهم عن بيعة يزيد و حرّضهم علي الثورة ضدَّه، و لكنه كان يعلم ان ذلك لن يتم، و انه سيبقي وحده مع تلك القلَّة المؤمنة من آله و صحبه و انهم سيُقتلون بأجمعهم، و لذا فقد اعلن مراراً عن مصرعه، و كان احياناً يجيب اولئك الذين كانوا يحاولون ان يثنوه عن الخروج قائلاً: اني رأيت رؤيا فيها رسول اللّه صلي الله عليه و آله و أُمرتُ فيها بأمرٍ انا ماضٍ له عليَّ كان أوْبي؛ فقيل له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدَّثت احداً بها، و ما أنا محدِّث بها حتي القي ربّي.(1)

ثم ان عبد اللّه بن عمر قال للحسين عليه السلام اكشف لي عن موضع تقبيل رسول اللّه لك فكشف له الحسين عن بطنه فقبلها ابن عمر ثلاث مرات و بكي و قال استودعك اللّه فانك مقتول في سفرك هذا.(2) و روي ابن الأعثم الكوفي ان الحسين عليه السلام خرج الي قبر جده فصلي ركعات فلما فرغ من صلاته جعل يقول اللهم إن هذا قبر نبيك محمد صلي اللّه عليه و آله و أنا ابن بنت نبيك و قد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم اني احب المعروف و انكر المنكر و اني اسئلك يا ذا الجلال و الاكرام بحق هذا القبر و من فيه الا اخترت لي من امري ما هو لك رضا و لرسولك رضا و للمؤمنين رضا ثم جعل يبكي عند القبر3.

ص: 250


1- تاريخ الطبري ج 4 ث 292. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 92-91.
2- القمقام الزخار ص 333.

حتي اذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه علي القبر فأغفي فإذا هو برسول اللّه قد اقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه و شماله و بين يديه و من خلفه فجاء حتي ضمّ الحسين الي صدره و قبّل بين عينيه و قال حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلا بدمائك مذبوحاً بأرض كربلاء بين عصابة من أمّتي و أنت في ذلك عطشان لا تسقي و ظمأن لا تروي و هم في ذلك يرجون شفاعتي ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة و ما لهم عند اللّه من خلاق. حبيبي يا حسين ان أباك و امك و أخاك قدموا عليّ و هم اليك مشتاقون و ان لك في الجنة لدرجات لن تنالها الاّ بالشهادة، قال فجعل الحسين في منامه ينظر الي جده محمد صلي اللّه عليه و آله و يسمع كلامه و يقول له يا جداه لا حاجة لي في الرجوع الي الدنيا فخذني اليك و أدخلني معك الي قبرك فقال له النبي صلي الله عليه و آله: يا حسين لابد لك من الرجوع الي الدنيا حتي ترزق الشهادة و ما قد كتب اللّه لك من الثواب العظيم فانك و أباك و امك و أخاك و عمّك و عمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتي تدخلوا الجنة. قال فانتبه الحسين من نومه فزعاً مرعوباً فقصّ رؤياه علي أهل بيته و بني عبد المطلب فلم يكن في ذلك اليوم في شرق و لا غرب أشدّ غماً من اهل بيت رسول اللّه و لا اكثر باكياً و لا باكية.(1) و في كشف الغمة روي عن سفيان بن عيينة عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام إن الحسين بن علي كان يذكر يحيي بن زكريا عليهما السلام و يقول أن من هوان الدنيا علي اللّه أن يهدي رأس يحيي الي بغي من بغايا بني اسرائيل. (2)5.

ص: 251


1- مقتل الخوارزمي ص 187 ف 9. القمقام الزخار ص 264-263. ترجمة تاريخ ابن اعثم ص 349.
2- القمقام الزخار ص 359. نظم درر السمطين ص 215.
جيم: الهجرة من مكّة

إنَّ طلاّب الحكم و السياسيين، لا يتورعون عن التحصن في الاماكن المقدسة و المشاهد المحترمة عند المسلمين، بل يستغلّون كل المواقع التي تحظي بتقديس و احترام الناس للتخندق و التمترس بها، فان ذلك يُحرج العدو و يردعه عن الهجوم أو علي الاقل يتسبب له بالملامة من قبل المسلمين، اذ ان هتك حرمة هذه المواقع يُثير غضبَ و استياء عامة الناس، و إنْ اراد أنْ يحفظ حرمة تلك الاماكن، إضطر الي اهمال خصمه و تحمل الضربات منه.

و كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يختار اقدس بقعة عند الامة الاسلامية، و اكثرها امناً و هو بيت اللّه الحرام و مكة المعظمة و المسجد الشريف، ذلك المكان الذي وصفه عزوجل في كتابه الكريم: «مَن دَخَلَهُ كانَ آمناً» و هو المكان الذي كان العرب في الجاهلية يكنّون له الاحترام أيضاً و يرعون حرمته علي الرغم من وحشيتهم و سلوكهم العدائي مع بعضهم البعض، فلم يُعهد عنهم حمل السلاح في ذلك الموقع الشريف. ولا شكَّ في انَّ هذه المكان كان من أفضل الأماكن التي يمكن للحسين عليه السلام اختياره كمقر لادارة حركته و دعوته ضد بني أميّة و تحشيد الحشود للانقضاض عليهم، و ما كان اسهل من أن ينقلب الحسين عليه السلام و من معه علي والي مكة الاموي و السيطرة علي مكة و اعتمادها عاصمة لثورته و دعوة باقي المدن للالتحاق بنهضته، و لكنه كان يعلم أنَّ عاقبة ذلك هو هجوم جيش بني اميّة علي الكعبة الشريفة و محاصرة مكة و هدم بيت اللّه الحرام و ابادة المسلمين في الحرم الأمن كما فعل يزيد في واقعة الحرة و حربه ضد عبد اللّه بن الزبيرفي مكّة.

ص: 252

لكن الحسين عليه السلام لم يكن طامعاً في الملك، و لم تكن مقاصده سياسية(1) و لم يكن ممن يستخف بالمقدسات و الشعائر الالهية.

إنَّ أوَّل شعارٍ للحسين عليه السلام هو الاعتراض علي بني اميّة لهتكهم الحرمات و الشعائر المقدسة و الاحكام الالهية، فكيف يرضي لنفسه ان يتسبب في هتك بني اميّة لتلك الحرمات و اراقة الدماء في الحرم المكي الآمن؟!

لقد كان الحسين عليه السلام عارفاً بان اعلان ثورته في مكة لن يُثمِرَ إلاّ هتك حرمة البيت و هدم الكعبة و اساءة الأدب الي عامة المشاهد الشريفة في مكة. و هذه النظرة الصائبة الثاقبة للحسين عليه السلام اتضح صحتها فيما بعد، إبّان حركة عبد اللّه بن الزبير. و من ثمَّ أبي الحسين عليه السلام ان يتخذ من مكة مقراً و مركزاً لثورته.

و كان بامكان الحسين عليه السلام ايضاً ان يبقي في مكة و لا يبايع يزيد، و يسكت علي مساوي بني اميّة، و هذا ما اقترحه عليه عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن عباس و بعض الصحابة، ظناً منهم ان لا أحد يتجزأ علي التعرض للحسين عليه السلام في الحرم الأمن.ة.

ص: 253


1- لا يُتَوَهم اننا نرفض اشتراك اولياء اللّه و المؤمنين في السياسة و ممارسة العمل السياسي واعتزال الساحة و الاحداث و عدم الاكتراث بمصالح الامة الاسلامية، اذْ انَّ ذلك لا يتناسب مع روح الإسلام، فان الإسلام حتي في احكام العبادات كالصلوة و الحج و الصوم و الشعائر الدينية الاخري، يهدف الي اشاعة روح الالفة و الوحدة و التعاضد من اجل مواجهة و مقارعة الظلم و الفساد و القضاء علي الباطل و اهله و اظهار عظمة الإسلام و المسلمين، و لم يكن الإسلام يوماً ما دين صوامع و بيع و تصوف بعيداً عن النظام و الحكم و الادارة، و انما غرضنا من قولنا ان الحسين عليه السلام لم يكن له مقاصد سياسية هو ان الحسين عليه السلام لم يكن يهدف اساساً الحكم و التسلط علي الناس و الحصول علي المقام و المنال، فلقد كان عارفاً منذ البداية بانه لم يتمكن من القضاء علي بني اميّة.

لكن الإمام الحسين عليه السلام لم يقبل ذلك المقترح، لانه كان علي يقين من أنَّ بني اميّة سيقتلونه و إن كان متعلقاً باستار الكعبة و انّهم لا يعيرون اي أهمية لحرمة البيت الحرام.

كان الحسين عليه السلام يعلم انَّ بني اميّة قد جنّدوا بعض الرجال لقتله في موسم الحجّ، فبقاؤه سيؤدي الي هتك حرمة البيت و قتله بدون تحقق اية ثمرة و لا حصول أيَّة فائدة.

فلذا خرج الحسين عليه السلام من مكة يوم التروية بعد أن جعل حجه عمرة مفردة، لئلا تهتك حرمة البيت بسببه، كما أخبر بذلك الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

و عندما سأله الفرزدق عن علَّة استعجاله بالخروج من مكة قبل أداء المناسك فقال: «لَوْ لَمْ أُعجِّل لأُخذْتُ»(1)

و يقول عليه السلام ايضاً: و اللّه لا يَدَعوني حتي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتي يكونوا أذل من فرام الامة.(2)

و نقل ابن الاثير أن الحسين قال لابن الزبير بأن أباه أمير المؤمنين حدثه أن رجلاً سيقتل في الكعبة و تهتك حرمتها و أنه لا يحب أن يكون ذلك الرجل.(3) و ذكر الطبري عن أبي مخنف عن أبي سعيد عن بعض أصحابه قال: سمعت الحسين بن علي و هو بمكة و هو واقف مع عبد اللّه بن الزبير فقال له ابن الزبير اليّ يابن فاطمة، فأصغي إليه، فسارّه، قال: ثم التفت الينا الحسين فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا اللّه فداك، فقال: قال أقم في هذا المسجد9.

ص: 254


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 290. تذكرة الخواص ص 251.
2- تاريخ الطبري ج 4 ص 269. الكامل ج 3 ص 276. القمقام الزخار ص 334.
3- الكالم ج 3 ص 275. تاريخ الطبري ج 4 ص 289.

أجمع لك الناس، ثم قال الحسين: و اللّه لأن اقتل خارجاً منها بشبر أحب اليّ من أن أقتل داخلاً منها بشبر و أيم اللّه لو كنت في حجر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتي يقضوا فيّ حاجتهم و و اللّه ليعتدنّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت. (1)

دال: حَلُّ البَيعَة

من الواضح إنَّ الثورات و الانقلابات السياسية و العسكرية تحتاج الي الكوادر و الافراد و القوّات التي تحرِّك الثورة و تفعِّل المعركة، و اذا ما اهمل قائد الثورة هذه الناحية، لا يمكن اعتباره طالب حكمٍ و قلب نظام.

و لو أنَّ هذا القائد نفسه، اعلن لجنده بمصيره و مصيرهم المأساوي و انتهاء حركته بقتلهم، فان ذلك سيؤدي بلا شك الي تفرّق انصاره عنه، و لو فرضنا ان هذا القائد، اجاز و سمح لانصاره بالتفرق عنه و حلَّ بيعتَهم و اذن لهم بل و لاهله بالانصراف و بيَّن لهم الطريق الآمن لابتعادهم عن مخاطر العدو، فذلك سيدفع كل احتمالات رغبة هذا القائد و طمعه بالملك و السلطة تماماً.

و الحسين عليه السلام و من حين خروجه من المدينة الي مكة و منها الي العراق كان يخبر من معه من انصاره و اهله بانه مقتول مستشهد و يكشف لهم ما سيصبُهم من الاذي و المصائب، كما في خطبة له في مكة قبل خروجه للعراق و في الطريق الي

ص: 255


1- الطبري ج 4 ص 289. الكامل ج 3 ص 276. نور الابصار ص 116. و لا يخفي ان عبد اللّه بن الزبير كان متَّهم النصيحة للحسين عليه السلام اذ لم يكن شي أثقل عليه من مكان الحسين عليه السلام بالحجاز... و لا احبَّ اليه من خروجه الي العراق طمعاً في الوثوب بالحجاز لان ذلك لا يتم له إلاّ بعد خروج الحسين عليه السلام منها (أبو الشهداء ص 100. بطلة كربلاء ص 93. و مصادر اخري).

العراق.

و عندما وصل ركب الحسين عليه السلام الي منطقة ذي حسم خطب فيهم قائلاً:

«أمّا بَعدُ أنَّه قد نزلَ ما قَد تَرونَ، و إنَّ الدُّنيا قَد تَغَيَّرت، و تنكَّرتْ و أدبرَ معرُوفُها، و استمرَّتْ جِدّاً حتّي لم يَبق منها إلاّ صبابَة كصُبابَةِ الإناء و خَسيسُ عَيشٍ كالمَرعَي الوَبيلِ. ألا تَرَونَ أنَّ الحَقَّ لا يُعمَلُ به و أنَّ الباطلَ لا يَتَناهي عنه لِيَرغَبَ المُؤمن في لِقاءَ اللّهِ محقاً فانِّي لا أري المَوتَ إلاّ سعادةً و لا الحياةَ مع الظالينَ إلاّ برماً»(1)

قالوا لو كانت الدنيا باقية لاخترنا الشهادة عليها و فديناك بارواحنا حتي لو قطعونا ارباً اربا اننا سلم لمن سالمك و حرب لمن حاربك و لقد منّ اللّه علينا بك يابن رسول اللّه.(2) و عندما وصل الحسين عليه السلام الي ارض كربلاء، دلَّهم علي مصارعهم، و لما وصل الي منطقة الزّبالة، أخبرهم عن مقتل مسلم بن عقيل و عبد اللّه بن يقطر و قال: «قَدْ خَذَلَنا شيعَتُنا فَمَن احبَّ منكُم الانصرافَ فلينصرِفْ ليسَ عليهِ منّا ذِمامٌ»

و حينئذٍ، تفرق اولئك الذين اتَّبعوه علي العافية، و الطامعين في الغُنْم، و بقي معه ثلَّةٌ أخلصت لله و النبي و اهل بيته.(3) و في ليلة العاشر من المحرم، و كان اصحاب الحسين عليه السلام بين ساجد و راكع و8.

ص: 256


1- القمقام الزخار ص 353، و كتب اخري باختلاف طفيف في الالفاظ، كذخائر العقبي ص 150. الاتحاف ص 25. درر السمطين ص 316. حلية الاولياء ج 2 ص 39. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 160.
2- القمقام الزخار ص 354.
3- ابصار العين ص 48. بطلة كربلاء ص 104. الكامل ج 3 ص 278.

ذاكر و تالٍ للقرآن، جاءهم سيِّدهم و خطب فيهم قائلاً:

«أثني علي اللّه احسنَ الثَّناءِ، و أحمَدهُ علي السَّراءِ، و الضرَّاءِ. اللَّهمَّ إني أحمدكَ علي أن أكرمتَنا بالنُبُوَّةِ و عَلَّمتَنا القُرآنَ، و فقَّهتَنا في الدِّينِ، و جَعَلتَ لنا أسماعاً و أبصاراً و أفئِدَةً فاجعَلنا منَ الشّاكرينَ. أمّا بَعدُ فإني لا أعلمُ أصحاباً أوفي و لا خَيراً من أصحابي، و لا اهلَ بيتٍ أبرَّ و لا أوصلَ من أهلِ بيتي، فجزاكُمُ اللّهُ خيراً فَقد أبرَرتُم و عاوَنتُم، ألا و إنَّه لأظُنُّ أنَّ لنا يوماً من هؤُلاءِ. ألا و إنِّي قَد اذِنتَ لكم فانطلِقوا جميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم مِنِّي ذِمامٌ، و هذا اللَّيلُ قد غَشيَكُمْ فاتَّخذوه جَمَلاً، و دَعوني و هؤلاء القَومِ، فانَّهم ليسِ يُريدونَ غَيري.»(1)

و ما كان من اولاد الحسين عليه السلام و اخوته و ذوو الوفاء من اصحابه الاّ ان شهروا سيوفهم و اعلنوا تجديد بيعتهم و الوفاء و النصيحة فبقيت كلماتهم دروساً للأوفياء و الأصفياء و الاولياء ما بقيت الأرضُ و السّماء.

و تركهم الحسين عليه السلام لعبادتهم و اذكارهم و تهجّدهم و عاد الي خيمته ليهتمَّ بالامور المستقبلية و توصياته الي أهله.(2) و هكذا وجدنا الإمام الحسين عليه السلام و الي حد ليلة العاشر من المحرم، يُعْلِم اصحابَه و أهلَ بيته بمصيرهم، و لم يُمنيِّهم بالنصر و الغنيمة و الفتح المادّي و المناصبب.

ص: 257


1- ابصار العين ص 9. القمقام ص 382. ابو الشهداء ص 156. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 120. الطبري ج 4 ص 217. بطلة كربلاء ص 113.
2- إبصار العين ص 9. القمقام الزخّار ص 383. ابو الشهداء ص 157. الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 121-122. و الانصاف ان الحسين عليه السلام و أهله قد انجزوا ذلك الوفاء و وفوا بذلك العهد يوم عاشوراء، و اثبتوا خلوصهم و ثباتهم حتي شهد لهم العدو قبل الصديق باستقامتهم و شجاعتهم و محبتهم لاهل بيت النبي الاكرم صلي الله عليه و آله بما يحيِّر العقول و يدهش القلوب.

الحكومية، و لم يكن دافعه الي النهضة الاّ امتثال الامر الالهي، و التكليف الشرعي.

و من ثمَّ، فمن الخطأ و الاجحاف، تعليل نهضة الحسين عليه السلام بالدوافع السياسية أو الخلافات العائلية بين بني اميّة و بني هاشم، علي الرغم من وجود تلك المفارقات الاخلاقية و التباينات الروحية و التنافر الفكري بين العائلتين.

و من جملة دوافع يزيد الي تشديد شراسته و وحشيته علي الحسين عليه السلام و آله و عياله، هو ذلك الحقد الدفين الذي اكتنزه قلبُه ضد بني هاشم عامة و آل عليٍّ خاصة، ذلك الحقد المشفوع بخسَّة الطبائع عنده و التربية الفاسدة و البيئة المنحرفة التي ترعرع فيها.

و اما ثورة الحسين عليه السلام فهي اسمي من ان تتأثر بتلك الخلافات الخاصة، بالضبط كدعوة النبي صلي الله عليه و آله التي لم تتأثر بمثل هذه الخلافات العائلية، فما يمكن ان يقال و هو الحق: إنَّ ثورة الحسين عليه السلام هي ثورة المبادئ و القيم و انها مأمورية و مهمَّةٌ الهية أوكلت اليه و قد قام بامتثالها علي احسن وجوه الامتثال و اكملها و أتمّها.

2 - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

«وَ لْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يدعونَ الي الخَيرِ و يأمرونَ بالمعروف وَ يَنهَونَ عن المنكَرِ و اولئِكَ هُم المفلِحون.»(1)

ورد في بعض المصادر التاريخية المعتبرة، أنَّ الحسين عليه السلام ترك وصيةً لأخيه من أبيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية جاء فيها:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصي به الحسين بن علي بن ابي طالب الي

ص: 258


1- سورة آل عمران، الآية 104.

اخيه محمد المعروف بابن الحنفية، ان الحسين يشهد ان لا اله الاّ اللّه وحده لا شريك له و أنَّ محمداً صلي الله عليه و آله عبده و رسوله جاء بالحق من عند الحق، و أن الجنة و النار حق، و أنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أن اللّه يبعث من في القبور، و اني لم أخرج أشراً و لا بطراً و لا مفسداً و لا ظالماً و انما خرجت لطلب الاصلاح في أُمة جدي صلي الله عليه و آله أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن ابي طالب عليه السلام فمن قبلني بقول الحق فاللّه أولي بالحق، و من رد علي هذا أصبر حتي يقضي اللّه بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين. و هذه وصيتي يا أخي اليك و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت و اليه أُنيب.»(1)

و هذه الوصية تعدُّ ككلمة التوحيد، مشتملةً علي نفي و إثبات. اما جهة النفي، فصحيح أنَّ احداً من الناس لا يحتمل في حقِّ الحسين عليه السلام ان يقصد بحركته و نيَّته الفساد و التجاوز و الظلم، أو الامتناع عن قبول الحق، اذ لا يوجد ايُّ حق متصور ليزيد، فلم يكن الحسين عليه السلام نكرة في المجتمع لا يعرفه الناس أو لا يعرفون سلامة نفسه و طهارة ضميره و شفافية وجدانه، فهو الذي نزلت في حقه و حق أخيه و أمِّه و أبيه، آية التطهير من كلِّ رجس، و قد بُيِّنَت عصمتُه من خلال حديث الثقلين المشهور، و لكنه قال تلك الكلمات ليبطل و يجهض محاولات الظلمة و الفاسدين و ساسة الحكم الاموي و اجهزته الاعلامية، في اتهامه بالخروج من أجل السلطان، سعياً منهم في اضلال عوام الناس و بسطائهم، فقال:

«إنّي لم أخرج أشراً و لا بَطَراً و لا مفسداً و لا ظالماً»9.

ص: 259


1- نفس المهموم ف 9 ص 38. سموّ المعني ص 112. و جملة «السلام عليك» الي آخر الوصية نقلناها من مقتل الخوارزمي ص 189.

و اما جهة الاثبات في كلامه، فهو قوله:

«إنَّما خَرَجتُ لطَلب الاصلاح في أُمَّةِ جدّي مُحمَّد صلي الله عليه و آله أُريدُ ان آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر و أسيرُ بسيرة جدِّي و أبي علي ابن ابي طالب»

فالحسين عليه السلام يلخص في هذه الجملة، دواعي ثورته باربع امور:

1 - اصلاح الامّة.

2 - الامر بالمعروف.

3 - النهي عن المنكر.

4 - اقتفاء أثر جده رسول اللّه صلي الله عليه و آله و أبيه أمير المؤمنين عليه السلام.

انَّ من اهم الفرائض و الواجبات الاسلامية هو الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و اهميّتها العقلية غير خافية، و جاءت الاوامر الشرعية تأكيداً لتلك الاهميّة.

و هذا الحكم الشرعي نموذج للاحكام الاسلامية الرفيعة و الذي يعطي الحق لكل مسلم ان يطالب الجميع باجراء و تنفيذ الاحكام الشرعية، و ان يواجه المتمردين علي تطبيقها، و ان يكون المسلمون جميعاً ناظرين علي اجراء القانون الاسلامي و الحدود و الاحكام. و في الحقيقة ان هذا الحكم هو ضمانة قوية لتطبيق الإسلام، و لذا فان عزّة المسلمين و كرامتهم مرتهنةٌ بامتثال هذا الواجب، كما ان ذلهم و مهانتهم مرتبط بترك العمل به.

و لقد كان المسلمون في صدر الإسلام يعتبرون الاهتمام بهذا الحكم، سنداً و قوة لحفظ حقوقهم و الحدِّ من الظلم و التعدي عليها، فكم من مؤمن مستضعف وقف بوجه الولاة و الحكام يامرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر بكل صراحة و جرأة، منتقداً تصرفاتهم اللامشروعة، و ما اكثر الولاة و الحكّام الذين استجابوا لنصائح

ص: 260

عامة المسلمين و اعتذروا عن سوء تصرفاتهم و حاولوا اصلاح الامور.

و بعد رحيل النبي الاكرم صلي الله عليه و آله الي الملأ الأعلي، و علي الرغم من ان الخلافة قد انحرفت عن مسارها المستقيم، و لكن الولاة كانوا يحافظون علي العمل بسائر الاحكام الاسلامية، لقربهم من زمن النبي صلي الله عليه و آله و كان الاطار العام للحكم الاسلامي محفوظاً رغم بعض الخروقات هنا و هناك، و كان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ساري المفعول، يحتفظ المسلمون بحقِّهم و حريتهم في ابداء تحفظاتهم علي تصرفات الحكام و المسئولين و نظارتهم علي تطبيق القوانين و الشريعة من قبل اجهزة الحكم و لم يتعرض احدٌ علي الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر حتي تولي الحكم عثمان بن عفّان حيث تبدَّل شكل الحكم و الاطار العام للنظام الاسلامي شيئاً فشيئاً و خرج عن شكله الاسلامي و أخذ طابع الملوكية و السلطنة، و كان لمعاوية بن ابي سفيان اليد الطولي في هذا التغيير و ابتداع هذا النمط الجديد من الحكم و كانت بداية انحراف معاوية تعود الي زمن الخليفة عمر بن الخطاب الي درجة اعتراض الأخير عليه بمظهره و مظهر حاشيته و قصوره و غلمانه و جواريه. ثم تبع معاوية سائرُ بني اميّة فنهجوا منهج الكسروية و القيصرية في ادارة الحكم، فكانوا يعتبرون أنفسهم و من أحاط بهم من أقاربهم و حاشيتهم، اعلي من مستوي سائر المسلمين، فضعفت الاخوَّة و المساواة، و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خوفاً من معاقبة اجهزة الحكم الاموي!!

و لو أنَّ حكومة بني أميّة كانت حكومة سليمة نزيهةً، لما اضرَّ بها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لم تتعقب المنتقدين الناصحين بالأذي و الاعتقال و التشريد و التنكيل، لكنها لم تكن كذلك، بل كانت مبتنية علي الظلم و الجور و الترهيب و إهانة المجتمع و قمع الحريات و هتك المقدسات، و مثل هذه الحكومة

ص: 261

تخاف دون شك من تطبيق فريضة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و من هنا حاول حكام بني اميّة طمس معالم هذه الفريضة، فسلبوا هذا الحقِّ من المسلمين، و طاردوا و تتبعوا اخبار كل من يتصديٌ للاعتراض علي مخالفة الدولة لاحكام الشرع و القوانين الاسلامية و صادروا امواله و شرَّدوه و سجنوه، أو هدروا دمه كما فُعِلَ بعبد الرحمن بن حسان العنزي، الذي دَفَنَه زياد بن أبيه حيّاً بأمر معاوية!! و الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري الذي طرده معاوية من الشام لانه اعترض علي تصرفاته اللااسلامية فارجعه الي المدينة المنورة بعد أن كان عثمان قد نفاه منها الي الشام، كل ذلك لان أباذر كان يطبق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر!!

و لعلَّ اول من وقف بوجه هذه الفريضة و حاول قتلها ودفنها، هو عثمان بن عفان، الذي لم يُعر اذُناً صاغيةً لنصائح كبار صحابة رسول اللّه صلي الله عليه و آله له، و انتقادات سائر المسلمين لولاته و مسئولي اجهزة حكمه، فتصرف عثمان و كانه في وادٍ و الامة الاسلامية في وادٍ آخر، حاله حال سائر الملوك و السلاطين. و لو ان عثمان بن عفان، كان قد اعار اهتماماً لتذكير و نصائح الصحابة في خصوص فساد عمّاله و خيانتهم و ظلمهم و تظاهرهم بالفسق، و لم يُسرف في اموال المسلمين، لبقيت الخلافة علي استحكامها و قوَّتها و لم تظهر تلك الفتن و الانقلابات التي توالت و توالت حتي غيَّرت منهج الحكومة الاسلامية.

و لقد كان ما حصل من ثورة علي عثمان، و قتله، نتيجةً طبيعيةً لعدم إهتمامه بهذه الفريضة الالهية، و سلبه لحريات المسلمين في التعبير عن رأيهم و اسداء نصائحهم و القيام بواجبهم الديني و الوطني، فَنَفذ صبر الناس و ضاقوا ذرعاً بحاشيته و فسادهم، و سكوته عن المظالم و لم يبق لهم إلاّ الثورة عليه و قتلة.

ص: 262

و بعد عثمان، و عندما ولي أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة، حاول احياء هذه الفريضة بشتي الوسائل، و كان هو بنفسه اوّلُ الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، فكان يدور في الاسواق و التجمعات و ينصح الناس و يحذرهم من مخالفة الشرع، فاعاد الي الأذهان صورة حكم النبي صلي الله عليه و آله، و لكن بسبب قصر مدة حكمه و انشغاله بثلاث حروب طاحنة من جهة، و وجود تلامذة مدرسة بني اميّة و بقايا حكومة عثمان من جهة اخري، منع من إعادة الامور الي نصابها و ارجاع المياه الي مجاريها.

و بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام وقف ازلام حكومة معاوية موقفاً شديداً من الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، حتي وصل الأمر الي ان احداً لم يَعُد يتجرأ ان يُبدي ايَّ راي تجاه الحكم و مخالفات اجهزة الدولة، إلاّ من جازف بنفسه و استعدَّ لدخول السجون المظلمة و معتقلات زياد و بقية الولاة.

و نعتقد إنَّ اكبر سدٍّ كسره بنو أميّة هو هذه الفريضة الالهية، و إنَّ اكبر خطر كان يُهدد العالم الاسلامي في ذلك اليوم و في كل عصر و زمان هو اهمال هذه الفريضة الالهية الخطيرة، و منع الناس من اجراءها.

لقد استطاع بنو اميَّة و من خلال القمع و الارهاب الفكري، أن يتلاعبوا بكل المقدسات و الاحكام الاسلامية، و ان يرتكبوا ما يحلو لهم من المخالفات و الجرائم، و بهذا الاسلوب استطاعوا أن يوسعوا من حكمهم الاستبدادي الذي غطَّت غيومه كل المجتمع الاسلامي، و قد استغلَّ موظفوا الدولة مناصبهم و مراكزهم و حمَّلوا الناس ما لا يطيقون، و لم يكن ليتجرأ احدٌ علي فتح فمه للاعتراض، و قد وصل الأمر بالمجتمع حتي صار الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف رائجاً، و عاد المنكر معروفاً و المعروف منكراً!!

ص: 263

و لقد قتل بنو اميّة حجر بن عدي و رشيد الهجري و عمرو بن الحمق الخزاعي و ميثم التمّار و آخرين، بابشع طرق القتل بجرم حبِّ علي بن ابي طالب عليه السلام و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و لقد وصل خوف الناس و تركهم للامر بالمعروف و النهي عن المنكر الي درجة ان كبار الصحابة لم يتجرأوا - بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام - ان ينكروا علي الدولة أو احد صغار موظفيها، منكراً ارتكبه أو معروفاً تركه!! خوفاً من السيوف و الرماح و السجون التي كانت تتهددهم.

و سبتت الامة الاسلامية في مستنقع الخنوع و الذلَّة و الارعاب و الوعيد بالقتل و الحبس.

و تحت وطأة السيوف التي كانت تقطر دمَ آلاف الابرياء، أعدَّ معاوية طبخة البيعة لابنه يزيد، و أصدر أوامره لجلاوزته و جلاّديه أن يبادروا بضرب أعناق كل المخالفين لهذه البيعة، و بدأ بالمدينة المنورة التي يكثر فيها كبار الصحابة و أهل الحلِّ و العقد و أعلن رغبته في أخذ البيعة منهم ليزيد، ثمَّ اشاع في الاقطار بان الصحابة وافقوا علي ذلك و انهم بايعوا يزيد بن معاوية، كذباً منه و حيلة و خداعاً.

و من العسر أن نوضح تفاصيل مأساة ابتلاء المسلمين و ما لحق بهم جرّاء تركهم فريضة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و عدم مناصرتهم لأمثال أبي ذر الغفاري و المقداد و الحجر بن عدي و عمّار ابن ياسر.

و ايُّ منكرٍ أعظم من سبِّ أمير المؤمنين عليه السلام من علي المنابر التي لم تكن لتشيَّدلولا همّة عليٍّ و جهاده و قتاله و دفاعه عن النبي صلي الله عليه و آله؟

عليُّ الذي هو بمنزلة نفس رسول اللّه صلي الله عليه و آله و ابنُ عمّه و صهره و وصيه و أوّل مجاهد و حامٍ عن الإسلام، و أعلم و أزهد و أتقي و أعدل و أورع و أعبَدَ أهل

ص: 264

الإسلام بعد النبي صلي الله عليه و آله؟

و أيّمنكر أكبر من إباحة مدينة الرسول لجيش الشام ثلاثة أيام بامرٍ من يزيد، يقتلون و ينهبون و يهتكون الحرمات و تغتصب النساء العفيفات و يُقهر كبار صحابة رسول اللّه صلي الله عليه و آله؟!

نعم، هذه نتيجة حتمية لترك الامّة للامر بالمعروف و النهي عن المنكر و تسليمها مقاليد أمورها لامثال معاوية و يزيد، و بيعها دينها بدنيا غيرها، و لا يتوقع غير ابتلاءها بحكم بني اميّة، فيُقتل الصلحاء و العلماء و المصلحون أو يُسجنوا ، و تصرف أموال بيت مال المسلمين في الملذات و حفلات الرقص و الطرب و المجون ، و يُتجاوز علي اعراض الناس و نواميسهم، و تعطل الحدود و الاحكام، و تحقَّر الشعائر الاسلامية، و يرسل الوليد بجاريته الجنب لتصلي بالناس الجمعة و الجماعة!! و والي الكوفة يصلي بالناس الصبح سكران و يتقيأ الخمرة في المحراب، و ينتشر الزنا و الطرب بين الناس و الكل خانع!!

و كل هذه المفاسد تتصل بمركز الحكومة و تنتهي الي شخص واحدٍ يحكم الناس باسم خليفة المسلمين و امامهم، و قد أمسك بزمام امور المسلمين و منع الحريات و كتم الانفاس و أضاع الدين و هضم حقوق المسلمين.

و ليس من قصدنا هنا شرح مفاسد بني اميّة و نقدها و انما قصدنا أنَّ بني اميّة عرفوا أنَّ تحقيق مآربهم و سلطانهم و بسط نفوذهم و حرفهم للثوابت الاسلامية، و محوهم آثار الإسلام الحقيقي الاصيل، لا يتسني لهم إلاّ اذا قضوا علي هذه الفريضة الالهية المهمة. فمن الواضح، إنَّ هذه الفريضة لو كانت متروكة، لفُسح المجال للنظم اللامشروعة و الحكومات الغاصبة ان تفعل ما يحلو لها بلا تردد و لا وَجَلٍ من عواقب الامور، فتجرُّ الامة الي الويلات، يساعدها في ذلك المتملقون و المتزلفون و

ص: 265

وعاظ السلاطين و من غرَّتهم الدنيا فباعوا دينهم و ضمائرهم بثمن بخس، فيمدحون الظلمة و يثنون عليهم في المحافل و المجامع و المنابر و يصفونهم بانهم المصلحون الاولياء الاوفياء لمصالح المسلمين العامة.

و كان الحسين عليه السلام ناظراً لكل تلك الانحرافات، شاهداً علي كلِّ ذلك الاضطراب الاجتماعي و السياسي و الفكري للمسلمين، فمضافاً الي وظيفته كفرد مسلم في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، فكذلك كان عليه أن ينطلق من موقعه القيادي و مقامه المعروف عند عامة المسلمين، فكان تكليفه اشقَّ و وظيفة أدق اذ كانت الانظار متوجهة اليه و منشدةً نحوه باعتباره القائد المعنوي و الروحي للاسلام و المسلمين، اذ كان الناس يتوقعون منه عدم السكوت و إلاّ صار سكوته حجّة و عذراً لسائر المسلمين، فالحسين عليه السلام هو الاعرف بالاحوال و الاوضاع، فمن اولي منه اذن في التصدي و المواجهة؟

لقد رأي الحسين عليه السلام إنَّ من واجبه و تكليفه الالهي أن ينهي عن المنكر و أنْ يوقظ ضمير الامة الاسلامية من سباته و أنْ يقصم ظهر الحكم الاموي بتضحيته هو و اهل بيته و اصحابه.

و تحسُّس الحسين لهذه المسؤلية كان واضحاً في خطبه و كلماته، مثل ما نقله ابو مخنف عن عقبة بن ابي عيزار من خطبةٍ للإمام الحسين عليه السلام في صحبه و عسكر الحر بن يزيد الرياحي في البيضة(1) و جاء فيها:

«أيها الناس إنَّ رسول اللّه صلي الله عليه و آله قال: مَن رأي سلطاناً جائِراً مُستَحِلاًّ لِحُرُم اللّهي.

ص: 266


1- منزل في الطريق الي كربلاء، نزل به الحسين عليه السلام للاستراحة، فخطب اصحابه و اصحاب الحر بن يزيد الرياحي.

ناكثاً بِعَهد اللّه، مُخالفاً لِسُنَّة رسولِ اللّه يَعمَلُ في عبادِ اللّه بالإثمِ و العُدوانُ فَلَم يُغَيِّرْ عليهِ بِفِعلٍ و لا قَولٍ كان حقّاً عَلي اللّه أن يُدخِلَه مَدخَلَهُ ألا و إنَّ هؤُلاءِ قد لَزِموا طاعَةَ الشيطانِ، و تَرَكوا طاعَةَ الرَّحمنِ و أظهَروا الفَسادَ و عَطَّلُوا الحُدودَ و استَأثَروا بِالفَي، و أحَلُّوا حرامَ اللّه و حَرَّموا حلالَه و أنا أحقُّ مَن غيَّر...»(1)

فان قيل:

إنَّ شرائط الأمر بالمعروف لم تكن متحققة في زمن الحسين عليه السلام فان من جملة شرائطها احتمال التأثير، و لم يكن حكم بني اميّة و خصوصاً يزيد بن معاوية قابلاً للتأثر بالامر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما إنَّ من شرائط هذه الفريضة هو عدم تضرر الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، و هذا الشرط غير متحقق أيضاً في ذلك الظرف.

قلنا:

1 - اننا نفهم شرائط الاحكام الشرعية و نتعلمها و نتعرف علي خصوصياتها من الحسين عليه السلام، و خير دليل علي مشروعية العمل هو قيام الحسين عليه السلام به، و بعبارة اخري: إنَّ سلوك الحسين عليه السلام و فعله هو من أدلة الاحكام الشرعية.

ففرض دلالة الدليل علي اشتراط الامر بالمعروف باحتمال التأثير أو الأمن من الضرر و انّه يشمل بعمومه أو اطلاقه لهذا المورد، حتي لو كان صحيحاً، لكنه يُقيَّدُ بفعل الحسين عليه السلام فيكون إقدام الحسين عليه السلام و نهضته مخصِّصاً أو مقيِّداً لذلكف.

ص: 267


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 34. الكامل لابن الاثير ج 3 ص 280. القمقام الزخار ص 353. و من أراد التعرف علي المزيد من اهمية الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و مذمَّة تركهما من وجهة نظر الإمام الحسين عليه السلام فليراجع خطب الإمام عليه السلام و التي نقلها الحسن بن علي بن شعبة البحراني (قدس سره) في كتابه «تحف العقول» ص 170-168 طبعة النجف.

الدليل العام، و يدل علي عدم مدخلية هاذين الشرطين في وجوب الفريضة، فكان يجب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر حتي لو لم يكن مؤثراً أو احتمل وجود الضرر فيه.

2 - إنَّ اشتراط الامر بالمعروف و النهي عن المنكر بالأمن من الضرر ليس مسلَّماً في كل الموارد، بل يمكن القول إنَّ الثابت شرعاً هو عدم الاشتراط في بعض الموارد، و لابد من الموازنة بين المصالح الموجودة في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و بين مقدار الضرر الداخل منهما، فان كانت المصلحة أهم و يجب استيفاؤها شرعاً مثل احياء الدين، لزم تحمل الضرر و لم يجز ترك الامر بالمعروف أبداً.

و ببيان آخر: فرقٌ بين الامر بالمعروف و النهي عن المنكر الشخصي و عند بعض الافراد كالمعاصي الشخصية و الذنوب و بين النهي عن المنكر العام الذي يلزم منه دروس الدين و اماتة الشريعة و تعطيل الاحكام كلها، و هتك المقدسات و الشعائر الاسلامية، فترك النهي عن هذه المنكرات يؤدي الي خسارة كبيرة و مصائب و ويلات علي المجتمع الاسلامي و يقوّي شوكة الكفّار و تسلطهم علي المسلمين، كما في عصر يزيد بن معاوية حيث كان خطر الانحراف الكامل للدين و تغيير الهوية الاسلامية للمجتمع، يهدد العالم الاسلامي أجمع، فالمؤشرات كانت تدل علي قرب زوال الدين إلاّ اسمه و الإسلام إلاّ رسمه.

ففي الصورة الأولي - النهي عن المنكر الفردي - يكون الاشتراط صحيحاً و سليماً، و أمّا في الصورة الثانية فلا يصح ذلك الاشتراط، بل لابد من النهوض باعباء المسئولية الدينية و نصرة الدين و دفع الخطر المتوجه الي الإسلام و المسلمين حتي لو استلزم ذلك التضحية بالمال و النفس.

3 - إنَّ احتمال التأثير علي قسمين: فتارة يكون النهي عن المنكر في خصوص

ص: 268

فردٍ في حالة ارتكاب المعصية، فاذا لم نحتمل التأثير لم يجب نهيُه عن تلك المعصية، و تارة ننهي عن المنكر و لا نحتمل تأثيره في نفس الوقت، لكنننا نقطع بتأثيره في المستقبل، ففي هذه الحالة لا يسقط وجوب النهي عن المنكر فهو بقوة احتمال التأثير الفعلي و لا فرق بينهما. كما لو احتملنا إنَّ تصدينا لفضح و محاربة الفرق الضالة و المؤسسات الفاسدة و نشر معايبها و انحرافاتها علي الناس سيؤدي في المستقبل الي توعية الناس شيئاً فشيئاً ثم كساد تلك المؤسسات و إفلاسها و إندثارها، أو التقليل من تأثيرها في المجتمع أو علي الاقل يؤدي الي الحدِّ من اتساع رقعة نشاطاتها و اضلالها، أو تحصين الناس من الانخداع بافكارها و برامجها، ففي هذه الصورة يكفي احتمال التأثير المستقبلي في عدم سقوط الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.

إنَّ اكثر الشعوب و الامم في العالم المعاصر، انما استطاعت أن تفك قيود أسرها و أنْ تنال حرياتها و استقلالها، بواسطة اختيارها لهذا الطريق، طريق التضحية و الفداء و تحمل الصعاب و الضغوط، و عن طريق توعية الناس بانحرافات الأعداء و فضح مكائدهم و زلزلة أسس مناهجهم و زعزعة اركان نفوذهم و من ثمَّ افشال مخططات العدو و دحره، و كم من دماءٍ أريقت في سبيل نيل هذه الحريات و الاستقلال، كانت المحرك الاساسي لنهضة المجتمع و ثورته و اسقاط الانظمة المستبدة، حتي لو كانت تلك النتائج تظهر متأخرة عن وقت الانتفاضات و الحركات التحررية، فالغرض و الهدف هو التغيير و الاصلاح و الخلاص، لا الرئاسة و الحكم و السلطة.

و هكذا أولياء اللّه، فانهم يجاهدون من أجل أهدافٍ سامية و مبادئ انسانية رفيعة، مع علمهم بأنَّ أعداء اللّه سيصبّون جام غضبهم علي رؤوس المجاهدين و يقتلونهم و يشردونهم و ينهبون أموالهم و يرفعون رؤوسهم علي رؤوس الرماح،

ص: 269

لكن ذلك لم يؤخرهم عن التضحية و الفداء و التحمل و الصبر و الجهاد في سبيل الإسلام، ليكون جهادهم و تضحياتهم مناراً يهتدي به الناس لتغيير مسيرة التاريخ.

و كذا كان الحسين عليه السلام، فقد رأي أنَّ الاخطار تهدِّدُ أحكام القرآن و الإسلام و إنَّ مستقبلاً مظلماً ينتظر الامة الاسلامية، و إنَّ شمس الإسلام النيّرة باتت قريبة من الافول، و إنَّ الجاهلية نفضت ترابها لتعود الي مرافي الحياة و إنَّ الخلافة الرشيدة لبست ثوب الكسروية و القيصرية، و مع هذا كلِّه لم يكن من الحسين عليه السلام أن يسكت بمجرد إحتمال الضرر أو حتي القطع به، و يجلس حلس داره يذرف الدموع علي الإسلام و يقرأ فاتحة الدين و ينصب العزاء علي الشريعة.

إنَّ الحسين عليه السلام كان علي يقين و احاطة تامة بالمخاطر المحدقة بالدين، و من ثم وجدناه من أول ساعة و عندما عرض عليه مروان بن الحكم بيعة يزيد فينعم - بزعم مروان - بحياة هادئة محترمة، فقال الإمام الحسين عليه السلام:

«إنّا للّه و إنّا اليهِ راجِعُون و علي الإسلامِ السَّلامَ اذ قد بُليَتِ الأُمَّةُ براعٍ مِثل يَزيد»

لقد كان علي الحسين عليه السلام و في مثل تلك الظروف و هو يري تلك المنكرات، أن يهبَّ هبَّة كاملةً قويَّة للدفاع عن الإسلام، و أنْ يحفظ ثغوره و حصونه حتي لو آل الامر الي قتله و قتل اولاده و اخوته و اصحابه، و حتي لو استلزم تحمل أسرِ اخواته و نسائه و ذبح الرضَّع من اطفاله في حجره، لان الحسين عليه السلام كان يرجّح بقاء الإسلام و احكامه علي بقاء نفسه بين جنبيه، و لذا قام بذلك الفداء الجبّار.

هذا، و إنَّ احتمال التأثير كان موجوداً، بل ان الحسين عليه السلام كان متيقناً من تحقق التأثير، و أيَّتأثير اكبر من حفظ استمرارية و دوام الإسلام و إنَّ نهضته ستؤدي الي ضمان بقاء الدين، فالحسين عليه السلام كان يعلم إنَّ بني اميّة اذا قتلوه - و هو سبط النبي

ص: 270

و محور تحقق الآمال الروحية عند الناس، و أشرف و أعزَّ الخلق و احبَّهم علي قلوب المسلمين - فان قدرتهم ستتلاشي و انَّ مخططاتهم ستُفتَضَح، و انَّ سيلاً عارماً من الغضب و النفرة و الانتقاد سيسلب منهم القدرة علي محاربة الشعائر و إماتة الدين و اعادة الجاهلية، و إنَّ عليهم أن ينتقلوا من مواقع الهجوم الي مواقع الدفاع ليتمكنوا من المحافظة علي سلطانهم لأيام معدودة.

لقد كان الحسين عليه السلام يعلم تماماً إنَّ استشهاده و أسر بنات الوحي و عقائل النبوَّة سيكشف القناع المزيف لحكام بني اميّة و يفضح عداءهم للاسلام و للنبي و آل النبي صلي الله عليه و آله، مما يؤدي الي تثبيت جذور الإسلام و الايمان في قلوب الناس و إنَّ مصرعه و مصرع اصحاب الوفي من انصاره سيهزَّ ضمير الامّة و يحيي فهيا حسَّ التمرّد علي الامويين، و انه سيوقظ الجميع من رقدتهم و سباتهم.

لقد كان الحسين عليه السلام يعلم جيداً انه اذا قُتِل و سبيت عياله و ذبح رضيعه علي صدره، و رفع رأسُه فوق القناة، فان المسلمين سيكتشفون إنَّ منهج بني اميّة منهج معادٍ للاسلام، و انهم اقرب الي الجاهلية، و من الواضح انَّ انكشاف هذه الحقيقة سيؤدي الي زوال هذا الحكم و إن استطاع البقاء لمدة قصيرة يعالج الزوال و الاضمحلال، عاجزاً عن تغيير هوية المجتمع الاسلامية و اضلال المسلمين.

لقد هزّت فاجعة كربلاء العالم الإسلامي أجمع، فكان يوماً كيوم رسول اللّه صلي الله عليه و آله و ثارت احاسيس الغضب علي بني اميّة عند عامة المسلمين، و بدأت الثورات و الحركات تترا ضدَّ حكم بني اميّة حتي سقطت تلك الحكومة التي كانت تروِّج للشرك و الكفر باسم الإسلام و الدين، فكانت دماء اهل البيت الطاهرة هي ثمن نجاة الإسلام و اعادة روحه الي بدنه و هويته الي معتنقيه.

اذن، فما قام به الحسين عليه السلام من امر بالمعروف و نهي عن المنكر كان منسجماً

ص: 271

مع القواعد الشرعية، بل كان ضرورياً و واجباً، و لقد فدا الحسين عليه السلام الدينَ بنفسه و ولده و اخوته و خير اهل الارض جميعاً، و تحمل كل البلايا و الرزايا التي هاجمته من كل ناحية من اجل الاهداف السامية.

فقد كان الحسين عليه السلام يري بعينيه الرحيمتين، اطفاله الرضَّع يتلظون عطشاً و يذبحون بسهام الغدر المسمومة، و لكنه لم يهن و لم يضعف قدر اغلة في طلب الحق.

و تاريخ الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و مقارعة الظلم و الكفر، لم يرو لنا قصة رجلٌ شابه الحسين عليه السلام في تضحياته و فدائه و وقف هو و عياله و اطفاله و قد احاط به جيش جرارٌ آثمٌ من كل جانب و جهة و شاهد ذبح اطفاله و موتهم عطشاً و شاهد سر بناته و اخواته و نسائه، و كان جسده الشريف يشخب دماً و قد اصيب باكثر من سبعين ضربة سيف و طعنة رمح و نبل، و مع كل ذلك بقي محافظاً علي رباطة جأشه معتزاً بكرامته وفيّاً لمبادئه و دينه انه الحسين عليه السلام المنفرد في قوة قلبه و شجاعته و صموده في طريق الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الحسين عليه السلام فريد العصور في ملحمته التي سطرها يوم عاشوراء و نجح في كل الامتحانات و الابتلاءات و حاز علي الرتبة الأعلي من بين سائر طلاّب الحقَّ و الحقيقة.

فأيَّ شجاع و ايَّ مقدامٍ يصبر ساعة الوغي مع ما به من جراح و عطش علي تلك المصائب التي حلَّت بساحة الحسين عليه السلام؟ انه الحسين فقط الذي يثبت علي امتثال التكليف الالهي الشاق بالامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لم يعتذر بعذرٍ و لم يتململ بحجَّة فكان مصداق الحديث النبوي المشهور:

«سَيِّدُ الشهداء عَمّي حَمزَة و رجلٌ قامَ الي إمامٍ جائِرٍ فأمَرَه و نهاهُ فَقَتَلَه»

ص: 272

3 - دواعي الثورة من لسان قائدها

«ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب و القائم بالقِسطِ و الدائِنَ بِدينِ الحَقِّ و الحابسِ نَفسَهُ علي ذات ِاللّه» الإمام الحسين عليه السلام

عندما حضر الحسين عليه السلام الي دار الإمارة بعد أن دعاه الوليد و هو والي المدينة و نعي له معاوية فاسترجع، و قرأ له كتاب يزيد في أخذ البيعة، فقال الحسين عليه السلام «إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سراً حتي أبايعه جهراً فيعلم الناس ذلك.»

قال الوليد: أجل.

فقال الحسين عليه السلام «تصبح و تري رأيك في ذلك» فقال الوليد: انصرف علي اسم اللّه تعالي حتي تأتينا مع جماعة الناس، فقال مروان للوليد: و اللّه لأن فارقك الحسين الساعة و لم يبايع لا قدرت منه علي مثلها ابداً و لكن أحبس الرجل لا يخرج حتي يبايع أو تضرب عنقه. فقال الحسين عليه السلام لمروان ويلك يا ابن الزرقاء أ أنت تأمر بضرب عنقي أم هو كذبت اللّه و لؤمت، ثم التفت الي الوليد و قال «يا أمير إنا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة، بنا فتح اللّه و بنا ختم و يزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق و الفجور، و مثلي لا يبايع مثله و لكن نصبح و تصبحون و ننظر و تنظرون أينا أحق بالبيعة و الخلافة.»

و إنَّ قوة العارضة في الحق تفعلُ في النفوس فعل السحر و تَعصف بالجلامد و الصخور، فتُبدَّل منها حتي تجعلها كالكثيب المهيل. و كلمة الحق الصارخة لابدّ أن تجد لها في أُذُن الباطل وقعاً، و أن تترك فيه دويّاً، إمّا أن يَصمَّها و إما أن يُصلح منها. و كذلك فعلت كلمة الإمام ذلك الدويَّ الذي كان رجعه صلاحاً و تأنيب

ص: 273

ضمير في أذن الوليد، و صمماًو عتوّاً في أذن مروان. و اسمع إلي المراجعة التي دارت بينهما بعد خروج الحسين عليه السلام.

قال مروان للوليد: عصيتني! لا و اللّه لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً. و كان أشار عليه بقتله إن امتنع.

فقال الوليد: ويحك، إنك أشرت عليّ بذهاب ديني و دنياي، و اللّه ما أحبَّ أن أملك الدنيا بأسرها، و إني قتلت حسيناً سبحان اللّه أقتُل حسيناً لمّا أن قال لا أُبايع؟

و اللّه ما أظنُّ احداً يلقي اللّه بدم الحسين عليه السلام إلاّ و هو خفيف الميزان لا ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب اليم.(1) إنَّ هذه الصفحة من تاريخ الحسين عليه السلام مهمة و حساسة في توضيح و كشف دواعي الثورة و اباء الحسين عليه السلام عن بيعة يزيد، اذ إنَّه عدد جملة من الامور يكفي واحد منها للامتناع و التخلف عن تلكم البيعة و علي وجوب الانتفاض و الثورة.

فلا يشكُّ احدٌ في دلالة تلك الاسباب التي استند اليها الحسين علي مشروعية الثورة و حرمة البيعة، فالكل يقبل تلك الخروقات اليزيدية كبريً و صغريً، و حتي الوليد بن عقبة مع انه ابن عم يزيد و واليه، فلم يتحرج من تصديق الحسين عليه السلام، و ما كان منه إلاّ ان يستسلم لمنطق الحسين عليه السلام و صحة استدلاله و احتجاجه، بلا اي ردٍّ أو انكار.

و لا ريب إنَّ أفضل من يقدر علي بيان علل و دوافع ثورة الحسين عليه السلام هو الحسين عليه السلام نفسه، اذ لا يختلف اثنان في صدق لهجة الحسين عليه السلام و لا في اضطلاعهي.

ص: 274


1- سمو المعني ص 114-113. مقتل الخوارزمي ص 184 ف 9 و مصادر اخري.

بحقائق الامور و مجريات الاحداث السياسية في العالم الاسلامي، و لا في معرفته بمخططات بني اميّة و يزيد و عمّاله، فما يقوله الحسين عليه السلام في هذا المضمار هو عينُ الحقيقة و كمالها و اوثق مصدر و مرجع يمكن الاستناد اليه في الوقوف علي خصوصيات نهضته و دوافعها.

و ما دام الكلام صادقاً و مطابقاً للواقع، نفذ الي النفوس و قبلته القلوب و اهتزت له المشاعر، و لذا فقد اثرَّ كلام الحسين عليه السلام حتي في قلوب اهل الباطل فرأيناهم يقرّون بذلك احياناً و إن سكتوا عن الإنحراف، امثال الوليد بن عقبة الذي لم يتجرأ علي انكار ما قاله الحسين عليه السلام في وصف يزيد و بني اميّة، و لقد بدا الحسين عليه السلام كلامه قائلا:

«أيّها الأميرُ إنّا أهلُ بيت النُبُوَّة و مَعدِنِ الرِّسالَة و مَختَلَف الملئِكَة و مَهبَط الرَّحمَةِ»

فنجد الحسين عليه السلام يبيِّن أهليته العلمية و العملية و سوابقه الفريدة لقيادة الامَّة، و رعاية مصالحها و تقرير مصيرها، فالكلمة قصيرة، لكنها مليئة بالمعاني الحسّاسة و الخطيرة، فهو قد نبّه الوليد الي مقامه في العالم الاسلامي، و ذكّره بانَّ لا أحد أعرف منه بالامور الشرعية و الأهداف الاسلامية و لا احرص في الحفاظ علي بيضة الإسلام و كرامة المسلمين، اذ انه من اهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مهبط الرحمة و ملتقي الملائكة.

و لا نظنُّ إنَّ كلمات أوقع من هذه الكلمات يمكنها ان تفيد هذه المعاني و توصلها الي ذهن المخاطب.

فبناء التوحيد و عمارة الإسلام العظيم انّما تمَّت بهندسة جدِّه رسول اللّه و جهاد أبيه علي عليه السلام و سخاء جدته خديجة و حنان و رعاية أُمّه فاطمة عليها السلام

ص: 275

لجدّه و أبيه، و فداء و تضحيات عمّه جعفرٍ الطيار و عمِّ ابيه الحمزة بن عبد المطلب، و سائر المجاهدين في طريق التوحيد من بني هاشم، و ها هو الآن بعد اخيه الحسن المجتبي عليه السلام، المحامي الوحيد عن الإسلام و المتلهف لاغاثة المسلمين، فإذا سكت - و هو الذي نزلت في بيته قوانين الشرع و مقررات الدين و آيات الوحي - عن نصرة الإسلام فلا شكَّ في انَّ سائر الناس سيسكتون عن الحق و لن يتطوع احدٌ للدفاع عن الدين.

لقد أوضحت هذه الجملة القصيرة، مسئولية الحسين عليه السلام الخطيرة و الثقيلة تجاه الإسلام و القرآن، كما رسمت الخطوط العريضة لحركته المستقبلية، و تدلّ بالقطع و اليقين علي استحالة سكوت الحسين عليه السلام و تجاهله لعواقب الاوضاع الوخيمة.

لقد قام الحسين عليه السلام بما كان سيقوم به جدُّه رسول اللّه صلي الله عليه و آله لو كان في زمن يزيد. أفهل كان النبي صلي الله عليه و آله سيسكت عن سياسة يزيد و يبايعه؟ أم هل يُعقل أنَّ النبي صلي الله عليه و آله كان سيتفرج علي مهازل الحكم الاموي و استخلاف فاسق فاجر شارب للخمر، و لا ينتفض؟ هل كان مشروع النبي صلي الله عليه و آله و المجتمع الايماني الملكوتي الذي اسسه تحت لواء التوحيد و العدالة و الحرية، يعني أنْ ياتي أمثال يزيد و ابن زياد و يتسلطون علي رقاب الناس و يهتكون كرامة المسلمين و يتمردون علي الحدود و القوانين الالهية؟

هذا النبي صلي الله عليه و آله هو ذلك النبي صلي الله عليه و آله الذي قالها كلمة باقية علي مسمع الدهور و العصور و الملل و النحل:

«و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته حتي يظهره اللّه أو أموت دونه»

و هذا الحسين عليه السلام هو ابن ذلك النبي، قال:

ص: 276

«إنا أهل البيت النبوة و معدن الرسالة، بنا فتح اللّه و بنا ختم. و يزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق و الفجور، و مثلي لا يبايع مثله»

فهو غير مستعدٍ للبيعة مع يزيد حتي لو ضيقوا عليه الآفاق و بقي مشرداً في الصحاري و القفار.

و انت تري أنَّ منطق النبي صلي الله عليه و آله و منطق الحسين واحدٌ أبداً. فهذه الجملة المختصرة الفاظُها، الغزيرة معانيها تكشف موقع الحسين عليه السلام في امته و تشرح وظيفة الحسين عليه السلام تجاه دينه و اسلامه و تعرِّي الحكم الاموي من مشروعيته، كما إنها تجسد مقوّمات شخصية الحسين عليه السلام الروحية السامية، يقول: «بنا فتح اللّه و بنا خَتم» اي إنَّ منصب و مسئولية هداية البشرية و قيادتها، فينا أولاً و أخيراً. ثم يقول:

«و يَزيد فاسقٌ فاجرٌ شاربٌ للخمرِ قاتلٌ للنفس المحترمة مُعلِنٌ بالفسق و الفجور»

فهل تري صارخةً أشجع و اوضح من هذه، حيث إنَّ المخاطب هو الوليد، والي يزيد علي المدينة التي هي من اقوي مراكز القدرة و السلطلة و في دار الامارة و مقر الحكومة و بين جلاوزة يزيد و بني اميّة، يقوم الحسين عليه السلام بفضح شخصية يزيد و كشف ذمائم اخلاقه التي لو وجدت واحدةٍ فقط في شخصٍ ما، لم يكن اهلاً لادارة قرية من القري الاسلامية فكيف اذا اجتمعت كل تلك الرذائل في رجل يريد ان يتزعم الامة الاسلامية كلّها؟!

فكل واحدة من تلك الصفات، تعدُّ دليلاً قاطعاً علي عدم مشروعية حكم يزيد و حرمة البيعة له و تمكينه من رقاب المسلمين.

ص: 277

1 - الفسق و الفجور و الزنا و المعاصي.

2 - معاقرة الخمرة.

3 - قتل النفس المحترمة بلاحق.

4 - التجاهر بالذنوب.

إذْ إنَّ من صفات الخليفة إظهار العدالة و اشاعة المفاهيم الاسلامية و الايمانية في سلوكه، و أن يكون النموذج الكامل للتربية الاسلامية الصحيحة، و المرآة العاكسة للدين و التديُّن.

كما إنَّ الغرض من تعيين الخليفة و الإمام هو إجراء الحدود و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و نصرة المظلوم و تطبيق الشريعة و الحفاظ علي ارواح الناس، و لذا ينبغي عليه أن يكون أوَّل الناس تطبيقاً لهذه المُثل و أسرعهم امتثالاً للاحكام الشرعية، و الاكثر التزاماً باخلاقية الهُدي و الصلاح.

امّا اذا كان الخليفة نفسه متجاهراً بالفسق، مرتكباً للفواحش خائناً لدينه و للمسلمين، غيرُ مامونٍ ضررُه عليهم، لم يَعُد لتلك الامة أمن و لا أمان و تزلزلت اركان الدولة و سارت نحو الزوال.

فالمجتمع، مضافاً الي انه لا يجوز له أن يبايع أمثال هؤلاء، فان عليه أيضاً ان يثور عليهم و يعزلهم عن مراكزهم و مسئولياتهم.

الجملة الثانية:

«و مِثلي لا يُبايِعُ مِثلَهُ»

و ما هي النتيجة و الخلاصة مما تقدم من كلام الحسين عليه السلام، أي إنَّ الرجل في مقام الحسين عليه السلام لا يعقل ان يدوس علي كل القيم و يبايع مثل يزيد، إذْ إنَّ البيعة مع الخليفة في مصطلح المسلمين تعني التعهد بالطاعة و الانقياد لمن يتولي منصب قيادة

ص: 278

الامة و هدايتها و عزِّها، و الذي يعمل علي احياء الدين و معالم القرآن الكريم و يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر، و بعبارة أوضح، إنَّ البيعة تكون لخليفة رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

إنَّ معني البيعة الصحيحة الصادقة، هو إعلان الاستعداد للانقياد التام و التسليم لاوامر الخليفة الحقيقي، و التضحية في طريق امتثال تلك الاوامر، و التي وجبت بحكم قوله تعالي:

«أطيعُوا اللّهَ و أطيعُوا الرَّسولَ و اولي الأمرِ منكُم»

و مثل هذه البيعة مع مثل يزيد ابن معاوية - و إن كانت صورية و لدفع الضرر - هي إمضاءٌ و قبولٌ و شرعية لكل ذنبٍ يرتكبه و فسقٍ و فجورٍ و تجاهرٍ بالمنكرات يقوم به، و اضاعة لحقوق المسلمين و معونة للظالمين، و يستحيل علي الحسين عليه السلام شرعاً و عرفاً ان يبايع مثل هذه البيعة و لذا قالها صريحة واضحة كوضوح الشمس «و مثلي لا يبايع مثلَه» و كانها حكمٌ بديهي مسلَّمٌ عند الجميع، إذ لم يكن احدٌ منصف يتوقع من الحسين عليه السلام أن يبايع يزيداً أبداً.

و كانت هذه النتيجة منطقية ثبَّتها الحسين عليه السلام بعد أن ذكر موقعه في الامَّة و مقامه في أهل البيت عليهم السلام.

نعم، و لو فرضنا ان كل المسلمين استسلموا للذُّلِ و المهانة و بايعوا يزيد بن معاوية، لم يكن من الحسين عليه السلام و هو صاحب الفضائل و المناقب الذي ترنو اليه أبصار المسلمين، و تتوقع من مثله بذل الجهد في خلاصهم و انقاذهم من الزاوية الحرجة التي وضعوا أنفسهم بها بسوء فعالهم، لم يكن له أن يبايع محور الشرِّ و القسوة و قطب الفسق و المجون يزيد. فمقام الحسين عليه السلام متميزٌ عن سائر الصحابة فضلاً عن سائر المسلمين، فهو من اهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مهبط الوحي و

ص: 279

مختلف الملائكة و منزل الرحمة الالهية، و هو من بعد اخيه الإمام الحسن عليه السلام الابن الوحيد لابنة سيد المرسلين علي وجه الارض و سبطه و لذا قال للفرزدق «إنَّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد في الارض و أبطلوا الحدود و شربوا الخمور و إستأثروا في اموال الفقراء و المساكين و أنا أولي من قام بنصرة دين اللّه و إعزاز شرعه و الجهاد في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا.»(1)

فلم يكن امام الحسين عليه السلام خيار و هو في موقعه ذاك، و يزيد في موقعه ذاك، إلاّ أن يُعلن حالة الخطر و النداء بعدم شرعية حكومة يزيد و بيعته، اذ ان بيعة الحسين عليه السلام أو بيعة كل واحدٍ من الصحابة ليزيد تعدُّ اضفاء شرعية لحكمه و تنزيهاً له و تزكية، و ابطالٌ لحقيقة الخلافة، و عدولٌ عن كل شرائط الزعامة الاسلامية و خلافة النبي صلي الله عليه و آله و سوق المجتمع الي الضلالة، و ستكون هذه البيعة سلسلةَ قيودٍ لأسر و تعذيب أولياء اللّه، لا يوازي ثقلُ الجبال ثقلها.

لقد انتفض الحسين عليه السلام بهذا المنطق، و ثبت عليه الي النهاية و كان يقول:

«ما الإمامُ إلاّ العاملُ بالكتابِ و القائمُ بالقسطِ و الدائنُ بِدينِ الحقِّ و الحابسُ نَفسَهُ علي ذات اللّه»(2)

و يوم عاشوراء، و عندما صُبَّت عليه المصائب و البلايا و الرزايا كان يكرر نفس المنطق و يقول:

«أما و اللّه لا أجيبُهُم الي شي مما يُريدونَ حتّي ألقي اللّه و أنا مُخضَّبٌ بدَمي» (3)8.

ص: 280


1- تذكرة الخواص ص 252.
2- تاريخ الطبري ج 4 ص 262.
3- سمو المعني في سموّ الذات ص 118.

4 - فسادُ أجهزة الحكم

لا خلاف بين المفكرين و العلماء في ضرورة كون الحكومة الاسلامية راعية لمصالح المسلمين ممثلةً لافكارهم و آرائهم و مجسدةً لروح المجتمع الاسلامي و محققة لرسالة الإسلام.

و يعتقد الشيعة، أنَّ الحاكم هو القائد الالهي الكامل و هو النبي صلي الله عليه و آله. و بعد رحيل النبي صلي الله عليه و آله و التحاقه بالرفيق الاعلي تعيّنت القيادة في أشخاص نصبهم اللّه علي لسان الرسول صلي الله عليه و آله و كما كان النبي صلي الله عليه و آله متكفلا قيادة المجتمع دينياً و روحياً و اخلاقياً و سياسياً و اجتماعياً، فكذلك الإمام يتمتع بذلك الموقع بفارق انَّ النبي يوحي له و الإمام لا يوحي له، و إنما يعتمد علي الكتاب و السنَّة في أداء وظائفه، أمّا النبي فيأخذ الشرائع و الدين من عالم الغيب و هذا من مختصات النبي صلي الله عليه و آله.

و من الواضح، إنَّ هذا المنهج لادارة المجتمع هو أفضل المناهج و الطرق النافعة و الصحيحة، و لا شك في أنَّ من يعينه النبي صلي الله عليه و آله بامرِ اللّه تعالي، يكون لائقا و مؤهلاً لهذه القيادة، و كما يقول الفيلسوف الكبير الشيخ ابو علي ابن سينا:

«و الاستخلافُ بالنصِّ أصوَب فانَّ ذلك لا يُؤدي الي التَشَعُّبِ و التَشاغُبِ و الاختلاف»(1)

و بناءً علي مذهب أهل السنَّة، فكذلك ينبغي علي الحكومة أن تكون مَظهَر روح المجتمع الاسلامي، و إنما تجب طاعة مقرراتها فيما لو كانت ملتزمة بحفظ شعائر الإسلام و رعاية مصالح المسلمين و أن تكون مصدر قدرةِ المجتمع المسلم، فان

ص: 281


1- الالهيات - الشفاء - الفصل 5، المقالة 10.

تخلفت عن ذلك لم تكن شرعيةً و لا اسلامية.(1) و من أهمّ وظائف الخلافة و تعهداتها هو تقويم الاعوجاج و تطبيق العدالة الاجتماعية و اجراء القوانين الاسلامية، فاذا ما أهملت الخلافة هذه الجوانب، لم يعُد لها أيّ اعتبار و لا قيمة و يكون التمرد علي اوامرها واجباً و اعانتها ذنباً و لقد حارب الإسلام تسلط الحاكم و استبداده، و اسقط الحكومات المستبدة في افريقيا و امراء و رؤساء قبائل نجد و الحجاز و غيرها. و أدان الإسلام بشدة اذلال البشرية باي عنوان كان ذلك، و رَفع المستوي الثقافي و الفكري للمجتمع، و كسر شوكة المستثمرين و لم يكن كلُّ ذلك من اجل استبدال الحاكم الفارسي أو الأفريقي بحاكمٍ عربي و إنَّما كان ذلك من أجل تثبيت اسس كرامة الانسان و نجاته من الاستغلال و الاستعباد.

و لم يحارب الإسلام ملوك ايران و لم يهدم قصر كسري الذي بُني علي اكتاف المزارعين المحرومين و باموالهم، لكي يستبدله بقصر الخضراء في الشام، و قصور المنصور في بغداد، و لا أن يتغير اسم الحكم من كسروي الي اموي أو عباسين.

ص: 282


1- و علي الرغم من ان ما ورد في الاخبار المروية بطرق اهل السنة من عدم جواز اطاعة الحكومات الظالمة غير الملتزمة باحكام الإسلام و حتي تلك الروايات المطلقة في لزوم إطاعة الحاكم منصرفةٌ الي الحاكم الحافظ للشرع و مصالح عامة المسلمين، إلاّ انه و للاسف لا نجد تطبيقاً لهذه القاعدة الشرعية عملياً، فاكثر اهل السنَّة يطيعون الحكام علي علاّتهم كالوليد و الحجّاج و يزيد و جبابرة بني العباس و الفسّاق و الظلمة، و يعتبرونهم خلفاء رسول اللّه صلي الله عليه و آله و امراء المسلمين و يوجبون طاعتهم. و لكن كبار المفكرين المعاصرين من أهل السنة، انكروا هذا التسليم و الانقياد و الاطاعة و خرقوا تلك السيرة التي كانت قائمة لقرون مديدة، و انتقدوها و ابطلوا هذا المُعتَقَد، و كشفوا فضاعة مثل هذا الفكر المنحرف، البعيد عن روح الشريعة و القرآن.

يضطهد الناس و يستعبدهم(1) بل كان هدف الإسلام من كلّ ذلك هو إنهاء الاستعباد و الاستبداد، كي تتمكن الشعوب من صيانة عزتها و شرفها و الحدِّ من الطاعة العمياء للملوك.

فالإسلام، لا يعتبر السلطة و القدرة ملكاً للحاكم يتصرف بها كيف يشاء فيجمع الغلمان و الحريم و يكنز الذهب و الفضة و يبني القصور الفخمة و يتباهي علي الفقراء و سائر المسلمين بقدرته و ملكه، و انما يري الإسلام ان القدرة و السلطة هي تجلٍّ من تجليات قوة الشعب و المجتمع، و الحاكم احد افراد ذلك المجتمع، و إنَّ كل فرد من أفراد الامّة له نصيب من هذه القدرة، فلا يمكن تحويل هذه القدرة العامة الي سلطة فردية يُساء استغلالها.

فالنظام الاسلامي قائم علي انَّ واضع الاحكام و مقنن القوانين هو اللّه عزوجل و ليس لاحدٍ من البشر حق التشريع:

«إن الحُكمُ إلاّ للّهِ أمَرَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاه»(2)

و قد اوجب الإسلام علي الجميع رعاية قواعد الشرع و اقامة الحدود، و نهي عن الحكم بما لم ينزل اللّه:0.

ص: 283


1- و من نماذج استعباد بني العباس للناس، انهم كانوا قد نصبوا حجراً علي باب احد قصورالخليفة العباسي، مشابها للحجر الاسود، و قد غطي بقطعة قماس ثمينة، فمن اراد من الرؤساء و الملوك و رجال الحكم لقاء الخليفة عليه ان يمرَّ علي ذلك الحجر و يقبّله!! و عندما اراد احد العلماء و اسمه مجد الدين اسماعيل الفالي ان ينقل رسالة حاكم فارس الي خليفة بغداد، امتنع عن تقبيل الحجر، و لما الزموه بذلك، اضطر الي وضع قرآن علي ذلك الحجر و تقبيل القرآن (روضة الصفا)
2- سورة يوسف، الآية 40.

«وَ لَم يحكُمْ بما أنزَلَ اللّهُ فاولئكَ هم الظّالمون»(1)

«وَ من لَم يَحكم بِما أنزَلَ اللّهُ فاولئك هُم الفاسِقون»(2)

و من اختار غير حكم اللّه و اتّبع غير منهج الإسلام و شريعة القرآن فهو ضالٌ مضلّ:

«وَ ما كانَ لِمُؤمنٍ وَ لا مُؤمِنَةٍ إذا قَضي اللّهُ و رسولُهُ أمراً أن يكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ من أمرِهِم و مَن يَعصِ اللّه و رسولَه فَقد ضلَّ ضلالاً مُبيناً»(3)

فالاسلام يهدفُ الي إنهاء حكومة البَشر و تسليم الأمر الي حكومة اللّه عزوجل.

و عندما حمل النبي صلي الله عليه و آله راية التوحيد و الدعوة الي هداية البشرية و انتشر صدي ندائه في أقطار العالم فايقظ المجتمعات النائمة علي فراش الغفلة، و انتبه الجميع الي انغام هذه الانشودة الجميلة التي لم يسمعوا مثلها أبدا، فعرَّفهم بحقوقهم و كرامتهم و قدرهم و قيمتهم الروحية و المعنوية و قال:

«تَعالَوا الي كَلِمَةٍ سَواءٌ بينَنا و بينَكُم ألاّ نعبُدَ إلاّ اللّه و لا نُشركَ بِهَ شيئاً وَ لا يتَّخذَ بعضُنا بَعضاً ارباباً مِن دُون اللّه»(4)

لقد كانت الحكومات في ذلك الوقت، وسائل لاستعباد و استثمار شرائح كبيرة من طبقات المجتمعات، فسلطنة البشر علي البشر و استرقاقه كانت هي الرائجة، و كان للحكم سلطنةٌ مطلقة في الحروب و السلم و الاتحاد و التنازع، و كل القرارات4.

ص: 284


1- سورة المائدة، الآية 45.
2- سورة المائدة، الآية 47.
3- سورة الاحزاب، الآية 36.
4- سورة آل عمران، الآية 64.

العسكرية و الاقتصادية و الاجتماعية كانت من حق الحاكم فقط و لم يكن للشعوب حول و لا قوة في التدخل باتخاذ ايّ قرار، بل كان عليها التسليم و الانقياد المطلق.

و كان احترام الناس للحاكم و الامير و الوزير، ليس من جهة حبِّهم و موافقتهم ايّاه، و إنَّما كان في الاغلب باعتباره صاحب الحق في التصرف و انَّه السلطة العليا التي ينبغي التسليم و الخضوع لها و تعظيمها تعظيماً لا يمتُّ الي الأخلاق الإنسانيّة بايِّ صلة، و تواضعاً فاق تواضع العبيد لاسيادهم.

في مثل هذا العالم الذي كانت الشعوب فيه بمثابة مماليك للملوك و عبيد للامراء الذين كانوا يعتبرون الناس خدماً و عبيداً لهم، و في الوقت الذي كانت البشرية تمرّ بمرحلة انحطاط اجتماعي و اخلاقي كبير، ظهر نبي الإسلام صلي الله عليه و آله يحمل بشارة الحرية و الغاء الاستعباد و الرقيَّة و الاذلال، و يعلِّم الناس دروس العدالة و الفضيلة و المساواة.

ذات يوم جاء أعرابي الي النبي صلي الله عليه و آله، و مع إنَّ النبي صلي الله عليه و آله كان في ذلك اليوم يعيش حياةً بسيطةً هو و اصحابه، فلا عرش و لا كرسي و لا سجاد و لا خدم و لا قصر، لكن أخذت الهيبة و الرهبة مأخذاً من ذلك الاعرابي فارتعش جسده و كأنه يقف امام ملك من الملوك فقال له النبي صلي الله عليه و آله: علي رسلك يا أخا العرب، ما انا إلاّ رجل ولدتني امرأة من قريش تأكل القديد».

إنّ مسئولية الحكم و الامارة مسئولية خطيرة و إنّ عواقب وخيمة تتهدد الامراء و الحكام، إلاّ انْ يقيموا الحق و يمحوا الباطل.

و لقد كان اولياء اللّه و الاتقياء يتهربون من الامارة و الحكم و يفرّون من السلطة و الزعامة فرارهم من الاسود الكاسرة الوحشية، اذ قلَّ ما تجد إنساناً لم يغرَّه السلطان و القدرة و لم تؤثر في روحه و اخلاقياته و سلوكه، فالحاكم واقفٌ

ص: 285

علي شفير جهنَّم إلاّ ان يقيم الحق و يعمل بالصدق.

روي صاحب كتاب الصفوة عن أبي مطرف انه رأي علياً عليه السلام في السوق يسأل بزازاً هل عنده قميص فقال له البزاز نعم يا أمير المؤمنين. و لما عرف علي أن البزاز عرفه تركه و ذهب الي آخر و وصل الي شاب لم يعرفه فاشتري منه قميصاً بثلاث دراهم. فجاء أبو ذلك الشاب فأخبره ابنه بذلك فعرف الرجل أن علي بن أبي طالب هو الذي اشتري القميص فأخذ درهماً و ذهب الي علي عليه السلام و قال له: يا أمير المؤمنين أن قيمة الثوب درهمان. فأخبره علي عليه السلام أنه اشتري الثوب من الغلام بثلاث دراهم و هو راض بذلك.(1) و قال علي عليه السلام لابن عباس ذات يوم و هو في ذي قار، بينما كان أمير المؤمنين عليه السلام يصلح نعل رجله: «ما قيمةُ هذه النَعل؟»

فقال ابن عباس: «لا قيمة لها»

قال عليه السلام: «و اللّه لَهيَ أحبُّ إلَيَّ مِنْ إمارَتكُم إلاّ أن أقيم حَقّاً أو أدفَعَ باطلاً»(2)

و نحن نعتقد ان من أهم الامور الدالة علي روح الإسلام العظيمة و تعاليمه و أهدافه، هو طريقة و اسلوب الحكم و ادارة الامور سياسياً و اجتماعياً في النظام الاسلامي.

و لكن و للاسف الشديد، إنَّ جهاز الحكومة بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و عروج روحه الي الملاء الاعلي، ابتعد عن محتواه الشرعي شيئاً فشيئاً بسبب انحراف الخلافة2.

ص: 286


1- ينابيع المودة ص 219.
2- نهج البلاغة ج 1 ص 76 خطبة 32.

عن مسيرها الواقعي، و كلما ابتعدنا عن عصر النبي صلي الله عليه و آله زاد ذلك الانحراف و زاد التّشبّه بالحكومات و الأنظمة التي حاربت الإسلام و هيمن شبح الجاهليّة علي أجهزة الحكم و زادت الهوّة بين السياسة و الدين و انفصلت الحكومة عن الشريعة.

و هذه الفاصلة و ان كانت قليلة في زمن الخليفة الاول و الثاني بسبب قرب الناس من التجربة المحمديَّة و أُنسِهِم بالحكومة العادلة للنبي صلي الله عليه و آله، و هذا ما منع من تبديل الحكم الاسلامي الي كسروية و قيصرية علنيّة، فوجود كبار الصحابة كان رادعاً للانحراف الكبير، و لذا وجدنا بعض الفتوحات و اتساع ربقة الدولة الاسلامية، اذ ما كان بالامكان نشر الإسلام و توسيع الحكومة الاسلامية إلاّ بالمنهج الذي نهجه النبي صلي الله عليه و آله و لذا كان الخلفاء يتقيّدون برعاية الظواهر الشرعية و الاسلامية و يتظاهرون بحمل لواء العدالة الاجتماعية لكسب تأييد المسلمين للحكم، و مع انهم ارتكبوا الكثير من الخروقات الشرعية، و لكن و في الجملة كان ظاهر الحكم و المنهج المتبع في ادارة الدولة و سياستها يختلف كثيراً عن ظاهر الحكومات الملكية الموجودة في ذلك الزمان و كان المسلمون يتحسّسون هذه الفرق و هو ما كان يجعلهم يغضّون الطرف عن التجاوزات و المخالفات الادارية للحكم الاسلامي القائم.

و لكن هذا الوضع لم يَدُم طويلاً، ففي زمن عثمان تغيَّر المنهج رسمياً و بشكل سافر، و لذا تعالت أصوات الاعتراض و الانتقاد ضد سياسة عثمان خاصة في نصب الولاة و العمّال الذين لم يراعي في نصبهم و عزلهم ملاك الصلاح و الاهليّة و الأمانة، بل كان عثمان ينصب الولاة المتَّهمين بالفساد و الانحراف الاخلاقي و الشرعي، لمجرّد قرابتهم منه.

يقول سيد قطب في كتابه «العدالة الاجتماعية» الصفحة 182: إنَّ من أسوء

ص: 287

المصادفات هي تقديم عثمان ابن عفان علي علي ابن ابي طالب عليه السلام حيث جعل عثمان مقاليد الحكم بيد رجال متهمين من بني مروان، و لو أن حسن الطالع قد حالف علياً و صار خليفة لاستمرت تعاليم الاسلام.

و يقول في صفحة 186: انّ سوء طالع المسلمين هو الذي سلّط رجلاً ضعيفاً غير كفوء كعثمان علي الخلافة.

ثمّ ينتقد سيد قطب سياسة عثمان المالية و منهجه في غارة أموال المسلمين و تسليطه بني معيط و بني اميّة و الحَكَم طريد رسول اللّه صلي الله عليه و آله علي رقاب الناس، و هباته اللامعقولة و اللا مسئولة من مال الفقراء و يقول:

إنَّ عثمان أهدي لصهره ليلة زفافه مائتا الف درهم من بيت المال. و كان زيد بن الارقم خازن بيت المال فحزن و اهتم و اغتمّ لذلك الاسراف و سرقة بيت مال المسلمين مما دعاه الي الاستعفاء من عمله، فقال له عثمان: ياابن ارقم أتبكي لانّي أصل الرحم؟! فقال له زيد: و اللّه لو أنك أعطيته مائة درهم لكان كثيراً. فغضب عثمان و قبل استقالة زيد بدلاً من أن يتوب الي ربه.

و في صفحة 187 من الكتاب يقول:

«إنَّ امثلة ذلك في تاريخ عثمان كثيرة و من جملتها أنه أعطي للزبير ستمائة الف درهم و لطلحة مائتا الف درهم و وهب مروان ابن الحكم خمس خراج أفريقيا مع أن كبار الصحابة نهوه عن ذلك»

و في صفحة 190 يقول:

«من الواضح أن سياسة عثمان في توزيع بيت المال و طريقة مستشاره مروان و تعيينه الولاة من بني امية أثر في سير تأريخ الامة الاسلامية»

و في نفس الصحفة يقول: ليس قليلاً أن يري الناس انّ الخليفة قد استأثر

ص: 288

بالخلافة لنفسه و عشيرته و أنه يقسّم بيت المال بينهم طارداً أصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله مولّياً أعداء رسول اللّه صلي الله عليه و آله المناصب و المقامات.

و في صفحه 209 يقول: إنَّ عثمان قُتل يوم قُتل و هو يملك مائة و خمسين الف مثقال ذهب و مليون درهم و بلغت قيمة ضياعه و أراضيه مائة الف دينار ذهب، أضف الي ذلك جياده و إبله الكثيرة.

و في صفحة 157 يقول:

«لقد كان علي عليه السلام هو الخليفة الحقيقي لرسول اللّه صلي الله عليه و آله و الذي كان يرتعش في الشتاء من البرد القارص لأنه لم يكن يملك ثوباً شتوياً مع أن بيت المال كان بيده و لم يكن يمنعه من التصرف ببيت المال الاّ يقظة الضمير.(1) كان خالد بن معمر السدوسي يدعو العلباء بن هيثم إلي ترك عليّ عليه السلام و الاتصال بمعاوية و كان يمنّيه بالجوائز و أموال معاوية و يقول: يا علباء إنك لن تصل الي المال مع عليّ و كيف تحصل المال من رجل لا يزيد عطاء ولديه الحسن و الحسين درهما يخفف عنهما وطأة العيش.(2) و نفذ صبر المسلمين الاحرار من سوء اوضاع الدولة زمن عثمان بعد ان أهمل عثمان الاستماع الي نُصحهم و اعتراضاتهم علي ولاته، فلم يعزل احداً من اولئك المفسدين الذين تصدوا لنهب اموال المسلمين و اهانة الصحابة و هضم الناس حقوقهم، حتي انجرَّ الأمر الي خلع عثمان عن الحكم و قتله(3).ث.

ص: 289


1- العدالة الاجتماعية ص 182 و 186 و 190 و 209 و 157.
2- نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 2 ص 585.
3- و لقد استغلت الاطراف و الفئات هذه الحادثة لصالح امرار مخططاتها الشيطانية، امثال معاوية و طلحة و الزبير و عائشة مع انهم كانوا من المحرضين علي قتله. و لا مجال في هذا الكتاب لشرح تفاصيل هذا البحث.

و لكن هذا الانقلاب و الثورة جاء بعد فوات الأوان قليلاً، فقد ضيع المسلمون الفرصة علي أنفسهم، اذ كان الولاة و العمّال قد احكموا قبضتهم علي المناطق التي كانوا يحكمونها و كانوا قر اشتروا الضمائر و الذمم بالاموال و اسكتوا الاصوات بالارهاب و التنكيل و مسخوا الشخصية الاسلامية الرسالية، و خاصة معاوية ابن ابي سفيان والي عمر و عثمان علي الشام الذي اقتدي بقيصر الروم في طراز الحكم و السياسة و حاول قتل الروح الاسلامية عند المسلمين و قد نجح في ذلك الي حدٍّ بعيد(1).

و في خضمِّ هذا الجوِّ السياسي و الاجتماعي الملتهب و الحسّاس، استلم أمير المؤمنين عليه السلام زمام الخلافة، و بَدَت في الافق طليعة تشكيل حكومة إسلامية أصيلة.

فكان الجميع يطمع و يأمل أنَّ علياًسيحقق الاهداف الاسلامية و انه سيعيد عصر النبي صلي الله عليه و آله الذهبي، و انه قد ولّي زمن الظلم و الجور و التمييز القومي و العنصري و نهب بيت مال المسلمين و قتل المستضعفين، و إنَّ علياً عليه السلام سيعزل الولاة الفاسدين الفاسقين، و انَّ العدالة و المساواة و الاخوة الاسلامية ستحقق بشكل تام و كامل.!!

ص: 290


1- لقد نجح معاوية بانتهاجه منهج ملوك الروم و الفارس في الحكم، في استعباد الناس و غسل أدمغتهم و تأصيل حبّ الدنيا و زخارفها في نفوسهم، و لقد كان موكب معاوية في سفره و تنقلاته مشابه لموكب الملوك و القياصرة، و لقد نقل ابن سعد في الطبقات؛ عندما قدم عمر بن الخطاب الي الشام، اعترض علي معاوية في ملابسه حيث وجد انه يرتدي جبّة خزٍّ و لباس ديباج، و لكنه قبل عذر معاوية و ان كان ذلك العذر سخيفاً لا يمت الي روح الشرع باي صلة، فاجازه عمر علي ذلك!! (النصائح الكافية ص 174) و في أسد الغابة (ج 4 ص 386) ذكر ان عمر بن الخطاب قال في حق معاوية: هذا كسري العرب!!

و كل هذه التطلعات و الآمال في علي عليه السلام انماجاءت لسابق معرفة المسلمين بسيرة علي عليه السلام و صلابته في اللّه و غزير علمه و ورعه و تقواه و زهده و ارتباطه الروحي و الاخلاقي بالنبي الاكرم صلي الله عليه و آله و معرفته التامة بروح التعاليم الاسلامية الخالصة، و لم يكن ظنُّ المسلمين بعلي عليه السلام جزافاً أبداً، و لا مجاملة و لا مبالغة.

فلا يُنتظر من حاكم مثل علي عليه السلام إلاّ ترويج العلم و الشريعة و تطبيق العدالة و نصرة المظلوم و اعمار البلاد الاسلامية و ارساء اقوي و امتن اسس النظام الاسلامي الصحيح، و حتي اعداءُ علي عليه السلام لم يتوقعوا غير ذلك، و لذا نجد إنَّ المسلمين كانوا يقولون: لقد ذكرنا علي عليه السلام بايّام رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

و لكن... اسفي علي المسلمين اذ انهم تأخروا كثيراً في الالتجاء الي علي عليه السلام، فقد كانت الفاصلة الزمنية بينهم و بين عهد النبي صلي الله عليه و آله تقرب من خمسة و عشرين عاماً، و كان الفاسدون و الطامعون امثال مروان و معاوية و الوليد بن عقبة و عمرو بن العاص قد تغلغلوا في اجهزة الدولة الاسلامية، الي درجة تمكنهم من التأثير في القرارات و إثارة الانشقاقات و التمرد علي منهج أمير المؤمنين عليه السلام خاصة و انهم كانوا قد انتشروا في بقاع متفرقة من أرجاء الدولة كالشام و مصر و أفريقيا و البصرة و غيرها من ولايات الحكم.

فالموانع و العقبات الكأداء التي كانت تعترض سبيل تشكيل حكومة اسلامية قوية، كانت متعددة، و لم يكن مع علي عليه السلام ممن يمكن الاعتماد عليه من تلامذة مدرسة النبي صلي الله عليه و آله إلاّ عدة قليلة أمثال عمّار بن ياسر و الذين بقوا علي ارتباطهم الروحي و السياسي مع علي عليه السلام.

و لو انَّ علياً عليه السلام كان قد تقلد زمام الامور بعد النبي صلي الله عليه و آله مباشرة، كما كان التخطيط الالهي مقرراً، و كما يقول المفكر المصري سيد قطب لو انه كان قد استلم

ص: 291

الخلافة قبل حكومة عثمان و تسلط بني اميّة، و لم تكن الخلافة قد انحرفت ذلك الانحراف الكبير، و لم يكن لامثال معاوية ذريعة قميص عثمان، لامكن اجراء بعض الاصطلاحات و ارجاع الأمر الي سابق عهد الخلافة الاسلامية بما يقرب من عهد النبي صلي الله عليه و آله، لكن مخطط الشوري السداسية قد أثمر ثماره، و كان منْ أسَّس لتلك الشوري قد خطط مسبقاً لتنحية علي عليه السلام و تنصيب عثمان توخياً لتحقق تلك التغييرات الاساسية في نمط الحكم الاسلامي.

و مع كل ذلك، فقد حقق علي عليه السلام و خلال مدة خلافته القصيرة و بذل كل ما بوسعه من اجل اعادة الشريعة الي مسارها الصحيح، حقق الكثير من الانجازات و علي كافة الاصعدة حتي صارت خلافة علي عليه السلام مضرب المثل في العدالة و المساواة و العلم و الورع و احترام الانسان، و لكن تلك الأوضاع المضطربة و الموانع و الصعاب و وجود الاشقياء امثال ابن ملجم المرادي، حرمت الامة الاسلامية بل البشرية جميعاً من تحقق عصر اسلامي نوراني شامل(1).

و كما يقول توماس كارل المسيحي في كتابه «الابطال»:

«أنّ علياً عليه السلام قد قُتل و طويت صفحة خلافته لعدالته و شدة اهتمامه باجراء هذه العدالة و لكنَّ تلك السنوات الخمس، و علي الرغم من كثرة ابتلاءات علي عليه السلام و شدة المعارضة له و قسوتها، قد ايقظت المسلمين، فبساطة عيش علي عليه السلام و زهده و تواضعه و ورعه و تقواه و علمه و حلمه و رجولته و بطولته، كانت قد تركت اثراًن.

ص: 292


1- فلو لم يسقط علي عليه السلام في محرابه، لحمل الناس علي المحجة البيضاء و لسار بالاسلام في المسار الصحيح السليم، و لنحّي بني اميّة و منعهم من التدخل في الشئون السياسية، لكن شقاوة ابن ملجم غيرت مسيرة التاريخ الاسلامي و بدلت مصير الامة الاسلامية، فعليه لعنه اللّه و الملائكة و الناس اجمعين.

عميقاً في اعماق نفوس الناس فصارت مضرباً للمثل في المثل العليا، و كلما مرَّ الزمان و تجدد الحكام، ازداد ايمان الناس و تجليلهم و تعظيمهم لعلي و آله عليهم السلام و ما زالوا يترنمون و يتغنون بمآثر علي عليه السلام و فضائله و عدله و حكمته و عرفانه، و في نفس الوقت يتأسفون علي تفريطهم بعلي عليه السلام و بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، اضطر الإمام الحسن عليه السلام و رعاية للمصالح الاسلامية العُليا، و لمعالجة بعض الشبهات الفكرية، ان يصالح معاوية، و ما قلناه و ما سنقوله في شأن معاوية و خبثه و خسَّة عنصره، قليل جداً، و من اراد الوقوف علي بعض حقائق شخصية هذا الرجل فليراجع كتاب «النصائح الكافية» و كتب التاريخ.

يقول الكاتب المعاصر محمد الغزالي:

و قد اجمع أئمة المسلمين علي أن تقاليد الاسلام في الحكم قد تحولت عن مجراها الرشيد علي عهد معاوية و اسرته ثم التاث امر الدين و اضطربت مصالح الناس و وجد من حكام المسلمين من سبق ملوك الكفر في سكرتهم و عمايتهم و ذلك من سوء حظ البشر قبل أن يكون من سوء حظ المسلمين. و حكم الاسلام في دفع اولئك الجبارين لا يحتاج الي مزيد من البيان و التكرار.(1) و يقول سيد قطب:

فلما جاء الامويون و صارت الخلافة الاسلامية ملكاً عضوضاً في بني امية لم يكن ذلك من وحي الاسلام انما كان من الجاهلية الذي أطفأ اشراقة الروح الاسلامي.

و يكفي أن نثبت هنا صورة من البيعة ليزيد لنعلم علي أيِّ أساس قامت:3.

ص: 293


1- الإسلام و الاستبداد السياسي ص 43.

دعا معاوية الوفود ليتكلم في اجتماع عقده لاخذ البيعة ليزيد فتقدم يزيد بن المقفع فقال: أمير المؤمنين هذا. ثم أشار الي معاوية. ثم قال فان هلك فهذا. و أشار الي يزيد. ثم قال: فمن أبي فهذا و أشار الي السيف. فقال معاوية: اجلس فانك سيد الخطباء.

ثم يذكر سيد قطب كيفية اخذ البيعة ليزيد في مكة و أنها تمت بالتهديد و السيوف و الرماح.(1) و بعد أن يذكر مخازي يزيد كمعاقرته للخمرة و تركه الصلوة و ارتكابه الزنا، يقول:

فاذا كانت هذه مقالة خصم ليزيد فان تصرفات يزيد العملية الواقعية في ما بعد من قتل للحسين عليه السلام علي ذلك النحو الشنيع الي حصار البيت و رميه... الخ تشهد بأن خصوم يزيد لم يبالغوا في ما قالوه. ثم يقول:

و ايّاً ما كان الامر فان احداً لا يجرؤ علي الزعم بأن يزيد كان أصلح المسلمين للخلافة و فيهم الصحابة و التابعين، انما كانت مسئلة و راثة الملك في البيت الاموي و كان هذا الاتجاه طعنة نافذة في قلب الاسلام و نظام الاسلام و اتجاه الاسلام.(2) ففي زمن معاوية كان اسلوب الحكم قد ابتعد كثيراً عن نمطه الاسلامي و بدأ التحول الكبير في شكل ادارة الدولة، و كانت البيعة ليزيد هي القشة التي قصمت ظهر البعير، و كما يقول سيد قطب:0.

ص: 294


1- العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 181-180.
2- العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 181-180.

إنَّ بيعة يزيد كانت الضربة القاضية في قلب الإسلام و نظامه، فوجب علي الحسين عليه السلام أن يتلافي ذلك، و يضمد الجراح التي اصابت جسد الإسلام، و أن يُنبِّه المسلمين الي عدم شرعية هذه البيعة و الحكومة، و أنَّ الخلافة الراشدة قد استحالت الي ملكية.

كان علي الإمام الحسين عليه السلام أن يُعلم الجميع، أنَّ قيادة الامة الاسلامية من قبل رجل كيزيد، امرٌ مستحيل، و أنَّ يزيداً و امثاله قد غصبوا الخلافة و أن منهجهم مغايرٌ تماماً لمنهج الحكومة الاسلامية.

و لقد أوضح الحسين عليه السلام رأي الدين في حكومة يزيد، و انقذ المسلمين من مغبة اشتباهاتهم التي كادت ان تبعدهم عن حقيقة الإسلام و احكامه.

فلو انَّ الحسين عليه السلام كان قد سكت علي سياسة يزيد أو بايع يزيداً، لاختلطت الاوراق علي عامة المسلمين، و اندثر النمط الاسلامي الصحيح للحكم، و لصار منهج يزيد و بني اميّة هو المصداق الاوضح للحكم الاسلامي.

يقول المستشرق الاستاذ نيكلسون:

«كان الأمويين في نظر الدين طغاة و إن كانوا كذلك فلا يحل لهم أن يقتلوا المؤمنين الذين امتشقوا الحسام ضد الغاصبين لسلطانهم، و أما حكم التاريخ في هذا الموضوع إذا ما تصدينا لبحثه فلن يعدو أن يكون حكم الدين ضد الملوكيّة أو قضاء الحكومة الدينية ضد الامبراطوريّة و علي هذا الأساس يحكم التاريخ بحقٍ باذانة الأمويين (أي في مصرع الحسين عليه السلام) علي أنه يجمل بنا أن نذكر أن انفصال الدين علي الحكومة لا وجود له في نظر المسلمين. (1)3.

ص: 295


1- سمو المعني ص 73.

و يبين الاستاذ محمد الغزالي، بعض مفاسد النظام الحكم في عهد يزيد و يقول: و اليك بعض المآخذ علي نظام الحكم في العهد الاموي:

1 - تحول الخلافة الراشدة الي ملك عضوض و احتكرت زعامة المسلمين أسَرْ معينة.

2 - ضعف احساس الامة بأنها مصدر السلطة و إنَّ أميرها نائب عنها أو أجير لديها و أصبح الحاكم الفرد هو السيد المطلق النفوذ و الناس أتباع اشارته.

تري الناس إن سرنا يسيرون حولنا و إنْ نحن أومأنا الي الناس وقّفوا

3 - تولي الخلافة رجال ميتو الضمائر و شباب سفهاء جريئون علي معصية اللّه و اقتراف الاثم و ليس لثقافتهم الاسلامية قيمة.

4 - اتّساع نطاق المصروفات الخاصة للحاكم و بطانته و متملقيه و تحمّل هذه المغارم بيت مال المسلمين. و أثر هذا السرف الحرام علي حاجات الفقراء و مصالح الامة.

5 - عادت عصبية الجاهلية التي هدمها الاسلام فانقسم العرب قبائل متفاخرة و وقعت الضغائن بين العرب و الفرس و غيرهم من الاجناس التي دخلت في الاسلام قبلا و كان الحكم المستبد يثير هذه النزعات الضالة ضارباً بعضها بالبعض و منتصراً باحديهما عن الاخري.

6 - هانت قيم الخلق و التقوي بعد ما تولي رئاسة الدولة غلمان ماجنون و بعد ما لعن السابقون الاولون علي المنابر «يقصد علي ابن ابي طالب» حتي أن شاعراً مسيحياً مدح يزيد بن معاوية فقال:

ذهبت قريش بالسماحة و النديو اللؤم تحت عمائم الانصار

7 - ابتذلت حقوق الافراد و حرياتهم علي أيدي الولاة و النصرين للملك

ص: 296

العضوض فاسترخص القتل و السجن حتي يروي الترمذي عن هشام بن حسان قال: احصي ما قتل الحجاج صبراً فوجد مائة الف و عشرين الفاً.

ثم يقول الغرالي: و الواقع ان الهزة التي أصابت الاسلام من هذه الفتن المترادفة كانت من العنف بحيث لو أصابت دعوة اخري لهدمتها.(1)(,2) كان هذا، مختصراً من مضار آفةٍ خطيرة إسمها يزيد و حكم بني أُميّة هجمت علي جسد الامة الاسلامية بشراسة، و غيرت صورة الحكم الاسلامي الرائعة الي صورة حكم ملكي منفورة كريهة.

و لو لم ينهض الحسين عليه السلام لكشف الحقائق و ازاحة قناع التزييف عن وجه الحكم الاموي، لكانت تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، اكبر وصمة عارٍ في جبين الامة الاسلامية، و لتلطخت سمعة نظام الحكم الاسلامي.

«فصلواتُ اللّه و سلامُه عليكَ يا أبا عبد اللّه، أشهدُ أنَّكَ أحييت نِظامَ الدِّين و أظهرتَ قواعِدَ الحُكم.»

5 - خَطرُ التقهقُر

كان خطر التقهقر و الارتداد الي حكم الجاهلية و الشرك و عبادة الاوثان،

ص: 297


1- الإسلام و الإستبداد السياسي ص 187-188.

من اكبر الاخطار التي تهدد المجتمع الاسلامي أيام حكم بني اميّة و بدت ملامح العودة الي ماوراء عصر الرسالة، و بدأت وسائل القمع و الترهيب و الترغيب و المخططات الامويّة باتيان اكلها في إضعاف المباني الدينية الاسلامية، و الغاء الاحكام الشرعية، و تحقير الشعائر العظيمة و الاستخفاف بها، و كان العالم الاسلامي و خاصةً مراكزه الحسّاسة كالكوفة و البصرة و مكة و المدينة، بكل ما فيها من ثقل الصحابة و رجالات الإسلام، تغطُّ في سبات عميق و سكوت فضيع و خنوع مريع.

و قد لعب ارعاب الناس و سياسة التقتيل و النفي و هدم البيوت و مصادرة الاموال، التي كان يمارسها عمّال الدولة امثال زياد بن ابيه و سمرة بن جندب و المغيرة بن شعبة، دورها الفعال في خنق الاصوات المعارضة أو المعترضة، فعمَّت حالة اليأس و الخوف في قلب المجتمع الاسلامي في كل اطرافه و نواحيه.

فلقد بذل بنوا اميّة جُهدَهم و جَهيدهم من أجل ارجاع الناس عن سلوك طريق الإسلام، و مخالفة نصوص الكتاب الكريم و سنة نبي الإسلام صلي الله عليه و آله، و كانت لمعاوية مبتكرات في مهاجمة الإسلام و الصحابة و الانصار و اهل البيت عليهم السلام.

و كانت اهتمامات بني اميّة منصبَّة علي تضعيف و قتل الروح الاسلامية في شعائر المجتمع المتدينة و الملتزمة بآداب و شعائر الدين. فمضافاً الي قتل سبط رسول اللّه صلي الله عليه و آله و الإغارة علي حرم النبي صلي الله عليه و آله و هدم و احراق الكعبة المعظمة قبلة المسلمين، و التجاهر بالمعاصي و الذنوب و تعطيل الحدود، حولوا مكة و المدينة الي مرتعٍ للمغنِّين و المطربين و المطربات و المخنثين والمردان و الشعراء الخليعين الاراذل و القتلة و المفسدين، رغبة منهم في كسر شوكة هاذين المركزين الروحية و الدينية، مما

ص: 298

يُجرِّئ باقي المدن و الاقاليم الاسلامية علي انتهاج نفس المنحي و الطريق.

فبنو اميّة، مضافاً الي شهر سيوفهم بوجه اهل البيت عليهم السلام و قتلهم لردع الناس عن التفكير في الالتفاف حول زعامة آل محمد صلي الله عليه و آله، و من أجل إخلاء الارض من كلِّ ما يُذكِّر المسلمين بالنبي و الإسلام، قاموا بصبِّ جام غضبهم و حقدهم علي الانصار بجرم نصرتهم للنبي صلي اللّه عليه و آله و المسلمين عندما هاجروا من مكة الي المدينة، و الذين أفشلوا مخططات أبي سفيان و المشركين الراميّة الي اجهاض دعوة النبي صلي الله عليه و آله، و لذا فقد حرم الانصار من ابسط حقوقهم زمن بني اميّة و اخذوهم بوحشية ليس لها نظير إلاّ في اعمال نيرون الطاغية.(1) و لقد بدأ تعطيل الحدود و دفع الشهود منذ زمن عثمان، و لو لم يكن علي عليه السلام و هو الوحيد من بين الصحابة، يطالب مصراً باجراء الحدود، لتعطلت الحدود كلياً منذ زمن عثمان.(2) قال العلايلي:

الذي ثبت لمفكري المسلمين أنَّ بني اميّة اداة فساد و في طبيعتهم بعث الحياة الجاهلية بكل اشيائها و الوانها.(3) و قال السبط ابن الجوزي:

«و قد ذكر جدّي في كتاب التبصرة و قال: إنما سار الحسين عليه السلام الي القوم لانه رأي الشريعة قد دُثرت فجدَّ في رفع قواعد أصلها. (4)3.

ص: 299


1- سمو المعني ص 27-28.
2- مروج الذهب ص 224-225.
3- سمو المعني ص 28.
4- تذكرة الخواص ص 283.

و لو ترك يزيد بلا معارضة يفعل ما يشاء، لتحققت امنيات معاوية و بني اميّة في محو ذكر رسول اللّه صلي الله عليه و آله و منع الاذان و الشهادة بالتوحيد و النبوة، و لم يبق من الإسلام إلاّ اسمه، و لعمري لو بقي منه الإسم لما كان له مسمي غير منهج بني اميّة و سيرة يزيد.

و لو لم تواجه خلافة يزيد بثورة و انتفاضة قوية من قبل الامة الاسلامية، لاعتبر يزيد خليفةً للنبي صلي الله عليه و آله و لاصبحت الدولة الاسلامية منتدي الفحشاء و المنكر و القمار و الخمرة و الرقص و الغناء و اللعب بالكلاب و القرود، إذ ان الناس علي دين ملوكهم و لانعكست هذه الصورة الخليعة للدولة الاسلامية علي العالم.

و لذا كان من الضروري لحفظ الإسلام و دفع المخاطر المحدقة به خاصة خطر الارتداد و القهقري الي الجاهلية و الشرك، أن ينبري رجال للانتفاض علي يزيد و بني اميّة، لتمييزهم عن الإسلام الحقيقي و فضح اكذوبتهم و كشف انتسابهم الي الجاهلية.

مضافاً الي ضرورة تهييج مشاعر و احاسيس الناس ضدهم لتقوية شوكة مخالفتهم و التشكيك في استحقاقهم الملك و الحكم، و تعريف الناس بخيانتهم و عدائهم للاسلام.

و لتحقيق هذين الهدفين، كانت ثورة الحسين عليه السلام ضرورةً مُلحَّة، اي كان من الضروري كشف القناع عن ماهية حكومة بني اميّة من جهة، و تعبئة المشاعر و شحذها ضدهم، و كسب عواطف المسلمين نحو آل البيت عليهم السلام من جهة اخري، ليستحيل علي بني اميّة اختراق قلوب الناس و التحكم بها، و منع الشعائر الدينية كالاذان و ذكر محمد رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

يقول الشيخ محمد محمود المدني، استاذ و رئيس كلية الشريعة في جامعة

ص: 300

الازهر: إن الحسين مثال بارز للمجاهدين في سبيل اللّه و قد رأي أن جناح الحق مكسور و أن الباطل قد أحاط به من جهاته الاربعة، لقد رأي نفسه و هو فرع شجرة النبوة و ابن ذلك الامام الضرغام الذي ما حني رأسه يوماً خوفاً... رأي نفسه و أنه قد احيل عليه انقاذ الدين و ازاحة الظلمات و المظالم، لقد سمع الحسين نداءاً من اعماقه يناديه أن قم يا أبا عبد اللّه فانت لها لا غيرك، لقد ازاح اللّه بجدك الظلمات و أزهق الباطل و أظهر الحق حتي نزل عليه (إذا جاء نصر اللّه و الفتح و رأيت الناس يدخلون في دين اللّه افواجا) و لقد كان ابوك ذلك السيف القاطع الذي لم ينم حتي اذلّ المشركين... قم يا أبا عبد اللّه كابيك و جدك و جاهد و دافع عن دين اللّه و ادفع الظالمين و طهّر الارض من الفساد و البغي و الظلم... انّ اهل بيتك و اصحابك قد استخفّ بهم و انّ النساء و الاطفال و الفقراء يستصرخون بك... فمن لكل هذه المظالم و الجور غيرك؟ و من الذي ينهض بهذا الحمل الثقيل الا انت يابن علي و فاطمة؟

أجل، لقد سمع الحسين هذا النداء من اعماقه ليلاً و نهاراً فلم يكن له الا ان يستجيب لهذا النداء و الاستصراخ و لم يكترث لاولئك الذين حاولوا ان يثنوه عن النهوض و لم يثنه علمه بقساوة اعدائه معه و عدم احترامهم لنسبه الشريف عن القيام و الثورة. فهو المجاهد الذي قام لامر اللّه فلا فرق عنده أن يغلب أو يغلب. اذ ان كلا الحالين شرف له «قل هل تربّصون بنا الا احدي الحسنيين» التوبة 52.

فالحسين عليه السلام استشهد في طريق اللّه و الحق و قد ابتلي قاتلوه باللعنة الابدية من اللّه و الملائكة و الناس اجمعين و اما هو فقد فاز باعلي المراتب عند ربه (مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين و الشهداء و الصالحين). (1)ف.

ص: 301


1- مجلة العدل، العدد 9، السنة 2 ص 6 طبعة النجف الاشرف.

و في ختام هذا الفصل، نتمثل بهذه الابيات التي تترجم خطر يزيد علي الإسلام و التوحيد، و تشيد بتضحيات سيد الشهداء عليه السلام:

لان جَرت لَفظةُ التَوحيدُ في فَمه

6 - الدفاع عن النفس

اشارة

6 - الدفاع عن النفس(1)

يجوز لكل انسان، عقلاً و شرعاً الدفاع عن نفسه في حالة مواجهة الاخطار، بل إنَّ الفطرة تدفع الانسان لا ارادياً الي اجتناب المخاطر لحفظ حياته، و إلاّ كان الانسان مسئولاً و مستحقاً للذَّم و التوبيخ.

فاذا ما تعرض الانسان لخطر القتل من قبل حكومة جائرة، و لم يأمن علي حياته، جاز له الانتفاض و الثورة لحفظ حياته و الدفاع عن نفسه، و هذا الحق ثابت لكل الناس، بلا ادني شك.

و بعد اتضاح هذه المقدمة نقول: إنَّ الحسين عليه السلام خرج بعد أن عرف أن حياته مهددة بالخطر، فكان يعلم جيداً أنَّ بني اميّة يترصدون به الدوائر و أنّهم استأجروا من يقتله حتي لو كان متعلقاً باستار الكعبة، و لذا فانه فانه ثار للحفاظ علي حياته

ص: 302


1- لا يخفي ان السبب الرئيس في ثورة الحسين عليه السلام هو امتثال الأمر الالهي و دفع المخاطر عن الإسلام و التوحيد و الاصلاح في الامة، و كما ورد في زيارة الاربعين: «بَذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجَهالة و حيرَة الضلالة» و اما بيان العلة السادسة فانما هو لكشف حقيقة ان الحسين عليه السلام حتي لو كانت حركته لعدم وجود أمان علي روحه في المدينة و مكة، فحركته مشروعة أيضاً بل هي دليل علي شجاعة و بطولة الحسين عليه السلام و ابائه و عزته.

الواجب شرعاً و عقلاً، و لتحاشي الاستسلام الذي يجرُّه الي الذلة و حاشاه من الذِّلة.

فان قيل: إنَّ هذا الخطر الذي توجه الي الحسين عليه السلام انما كان نتيجة عدم بيعته ليزيد، فلو انه بايع يزيد بن معاوية لكان آمناً؟!

قلنا: لا شك في امتناع الحسين عليه السلام عن البيعة ليزيد، لكن هذا الامتناع و الرفض لا يمكنه أن يرقي الي درجة تجويز قتله، إذ انّ النظام الاسلامي يقتضي أخذ البيعة طوعاً، فالبيعة اختيارية لا بالاكراه خاصة اذا كان الشك و الترديد قائماً حول شخصية الخليفة أو من نصَّبَ نفسه خليفة المسلمين، و هذا مُسلَّمٌ إلاّ عند اهل العامة و السنة خاصة في عصر بني اميّة و بني العباس، و مراحل الارهاب السياسي و الفكري و ازمنة القمع الثقافي المظلمة.

و لقد رأينا في زمن خلافة أمير المؤمنين عليه السلام و علي الرغم من إنَّ خلافته كانت ثابتة بالنص و الاجماع، لكنه لم يتعرض باي اذي لاولئك الذين تخلفوا عن بيعته، بل حتي اولئك الذين اعلنوا صراحة عدم رغبتهم بالبيعة لاعذار واهيةٍ غير معقولة و لا مشروعة، و حتي اولئك الذين تخلفوا عن جهاد القاسطين و المارقين و الناكثين، لم يلزمهم علي عليه السلام الاشتراك في القتال، فكان الامتناع عن بيعته حقٌ يحتفظ به المسلمون خاصة لوجود بعض الشبهات السياسية و الفكرية عندهم. (1)ء.

ص: 303


1- و من جملة المظالم التي ارتكبها الحكام الذين جاءوا بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله مباشرة، هو أنهم أجبروا أمير المؤمنين و جمع من بني هاشم و الانصار الذين امتنعوا عن البيعة لابي بكر، علي البيعة مع ان الممتنعين عن البيعة لم يظهروا اي شكل من اشكال العداء للدولة، فكان همُّهم التريث و دراسة الأمر من كل جوانبه و حسب، مما حدي بالسلطة و جلاوزتها الي ارتكاب الجرائم الفضيعة في حقهم، و هتك حرمة بيوتهم و ترويع عوائلهم و كل ذلك غير جائز في قاموس الحكومة التي تدعي انها قامت علي اساس الشوري و احترام الاراء.

فلم يتتبّعهم أمير المؤمنين عليه السلام مادام الإسلام و المسلمون في مأمن من مكرهم و غدرهم.

و من هنا وجدنا أنَّ الحسين عليه السلام كما جاء في بعض كتب المقاتل، كان قد اقترح علي بني اميّة أن يتركوه يذهب الي احد ثغور المسلمين و يكون «له ما لَهم و عليه ما عليهم»

اذن، فالتخلف عن البيعة في الفكر الاسلامي، لا يكون سبباً كافيا لتجويز إهراق الدم و اباحة مصادرة الاموال، و كان من حق الحسين عليه السلام أن يمتنع عن البيعة و خاصة:

1 - إنَّ محض الامتناع عن البيعة اذا لم يكن توأماً مع معارضة الحكومة و الخروج عليها، جائز و هو حق مسلَّمٌ للمسلمين خاصة مع الاعتقاد بعدم صلاحية المرشح للخلافة. نعم في عقيدة الشيعة إنَّ الإمام يعيَّن و ينصب من قبل اللّه تعالي بنصّ النبي عليه، و إنَّ الامامة منصبٌ الهي و لذا لا يجوز التخلف عن بيعة الإمام المنصَّب من قبله تعالي.

2 - إنَّ التخلف عن البيعة جائز لمن كان نفسه من أهل الحلِّ و العقد و مراجع الامور، و إنَّ عدم بيعته يوجب عدم انعقاد الاجماع، و طبقاً لمذهب اهل السُنة لا تكون الخلافة شرعية بدون بيعته، بل هي باطلة، ففرضها علي المسلمين يُعدُّ سلباً لحرية الرأي و قهراً للمسلمين كما إنَّ الامتناع عنها لا يُعدُّ تمرداً يستوجب العقاب.

3 - إنَّ البيعة المبتنية علي التطميع و الترهيب و الوعد و الوعيد، تعتبر بيعة

ص: 304

لاغية باطلة، و المنتخب علي اساسها لا يمثل المجتمع تمثيلاً واقعياً، و من ثمَّ يجوز الخروج علي الحكومة القائمة علي مثل هذه البيعة.

و لذلك كله، لو حاول عمّال الحكومة، التعرض للمسلمين لمجرد انهم امتنعوا عن البيعة للمرشح للخلافة، حقَّ للمسلمين الثورة ضدَّهم حفظاً لحياتهم و صوناً لدمائهم و أموالهم، كما يحق لهم تأليب الناس و دعوتهم الي مخالفة ذلك الحكم.

و اما البيعة ليزيد:

اولاً: لقد كان الحسين عليه السلام نفسه من اهل الحلِّ و العقد و من رجالات الإسلام و من الصحابة فضلاً عن انه سبط رسول اللّه صلي الله عليه و آله و ريحانته و سيد شباب اهل الجنة، فاذا كان البناء في تعيين الخليفة علي المشورة و الرجوع الي آراء عموم المسلمين و اجماع اهل الحلِّ و العقد، فالحسين عليه السلام هو أوّل من يكون لرأيه الأثر الكبير في مشروعية الانتخاب و شرعية الحكم، اذ مع كونه في ذلك المقام السامي الذي يعترف به جميع المسلمين حتي امثال الوليد بن عقبة و مروان بن الحكم و نفس معاوية، فيكون رأي الحسين عليه السلام مقدماً و محترماً و مؤثراً، كما إنَّ توجه انظار عامة المسلمين الي رأي الحسين عليه السلام في البيعة، يجعل رأيه هو الميزان و المقياس في شرعية هذه البيعة و عدمها.

فامتناع الحسين عليه السلام عن البيعة مساوق لبطلانها و عدم شرعيتها و نتيجة ذلك عدم شرعية كل النظام الحاكم و الذي يسمي بالخلافة!!

و لو فُرض انَّ ضغوطاً مورست علي مثل هذه الشخصية فاضطرت الي البيعة، لم يعد هناك أيَّمصداقية للاجماع و الشوري و تبقي فقط الفاظاً خاوية لا تحمل معانٍ سليمة وراءها.

و ثانياً: لو فرضنا - جدلاً - أنَّ الإمام عليه السلام لم يكن من طبقة اهل الحلِّ و العقد،

ص: 305

بل كان من عامة المسلمين، فمن قال إنَّ التخلف عن البيعة يُبيح هتك حرمته و التعرض الي نسائه و اباحة اراقة دمه و حرق بيوته و نهب أمواله؟ اذ لو فرضنا صحة بيعة يزيد لم يكن ليزيد علي الحسين عليه السلام إلاّ عدم المخالفة و المعارضة، فلا يحق ليزيد و لبني اميّة هدر دم أيَّمسلم لمجرد الامتناع عن البيعة.

ناهيك عن إنّ بيعة يزيد و باتفاق كل التواريخ و المفكرين، كانت بيعة مستندة الي الاكراه و الجبر و الترغيب و الترهيب، و إنَّ اكثر من بايع يزيداً، بايعه تحت بوارق السيوف و الاسنة المشهرة المتهددة المرعبة.

و من بايع طيِّعا، فاولئك الذين انشدَّت ابصارهم الي المناصب و الامتيازات و الطامعين في جوائز معاوية و هداياه و عطاياه و المتزلفين و المتملقين للحكم الاموي.

و لعمري، كم صُرِفَ من اموال المسلمين و حقوق الفقراء و المعوزين لاخذ البيعة ليزيد؟! و كم من الدماء الزاكيات قد أُريقت بلا ذنب؟ و ما أفضع الجرائم و الظلم الذي مورس لأخذ هذه البيعة المشئومة؟ و كم من الولايات قد جعلت سَوماً للبيعة لامثال المغيرة بن شعبة و زياد ابن ابيه و عمرو بن العاص و غيرهم؟

إذن، لقد كان من حق الإمام الحسين عليه السلام و سائر اصحابه و الشخصيات الاسلامية أن تمتنع عن البيعة لئلا تتلوث و تتلطخ ايديها بدماء الابرياء، و تشترك في تلك المظالم، و لم يكن لأحدٍ حق الاعتراض علي المتخلفين و الزامهم بها، فنفس امتناع هؤلاء، خير دليل علي جواز التمرد و الامتناع عن البيعة اذ ان امتناع هؤلاء يُعدُّ امتناعاً لاهل الحلِّ و العقد، فتكون البيعة باطلة، مضافاً الي إنَّ الجميع كانوا يعتقدون بعدم اهلية يزيد للخلافة و عليه تكون بيعته محرَّمةٌ شرعاً.

و بعد كل هذه الادلة علي جواز التخلف عن البيعة، نعود الي أصل الموضوع

ص: 306

و هو الخطر المتوجه الي حياة الحسين عليه السلام و عدم الأمن له، فانه علّة واضحة و مقنعة لجواز نهوضه و ثورته للدفاع عن حياته.

و قد نقلت كل التواريخ الاسلامية إنَّ حياة الحسين عليه السلام كانت في خطر و انه لم يأمن علي حياته من كيد بني اميّة و حكومة يزيد وكانوا يترصدونه لقتله سواء بايع أو لم يبايع.

و واضح إنَّ اسلوب حكومة بني اميّة و يزيد كان بحيث لا يمكن الاطمئنان حتي بوعودهم، فما اكثر من قتله بنو اميّة من زعامات المسلمين لمجرد سوابقهم الجهادية و الرسالية، مع انهم كانوا جلساء بيوتهم و لم يكن لهم ايَّ نشاط معادٍ للدولة الاموية.

و لم يكن بنو اميّة ممن يرعون حرمة العهود و المواثيق، و لم يكن لهم إلُّ و لا ذمة و لا حُرمة للامان في قاموسهم، فهم الذين قتلوا سعد بن ابي وقاص، و هم الذين قتلوا عبدالرحمن بن خالد علي يد ابن أثال المسيحي، مع أنَّ ابن خالد كان اموي الهوي و الميول تخوفاً من معارضته لتنصيب يزيد علي الحكم، و ولّوا قاتله المسيحي و لاية حمص مكافأة له علي قتله!! ضاربين بعرض الجدار قوله تعالي: «ما جعل اللّه للمشركين علي المؤمنين سبيلا» و معاوية و بنو اميّة هم الذين اغتالوا سبط رسول اللّه صلي الله عليه و آله الحسن بن علي بافضع اساليب القتل تخوفاً من معارضته لبيعة يزيد، لان معاوية كان قد تعهد في معاهدة الصلح ان لا يرشح احداً للخلافة من بعده و أنَّ الخلافة تكون للإمام الحسن عليه السلام. فاراد معاوية أن يزيل هذه العقبة من طريق يزيد.

و عندما أراد معاوية استخلاف ابنه يزيد استشار بعض السياسين فلم يجد الموافق علي ذلك حيث اعترض عليه أمثال الأحنف ابن قيس بان يزيد لا يقاس بأمثال الحسن و الحسين و أن محبوبية الحسن عليه السلام في قلوب المسلمين قد تفوق محبوبية

ص: 307

أبيه علي بن أبي طالب. فاستخلاف صبي نزق مشهور باللعب و الطرب و شرب الخمور كيزيد يعدّ خيانة للمسلمين.

إنَّ معاوية و بني اميه استخفوا بكل الشروط و المواثيق التي قطعوها علي انفسهم في معاهدة الصلح مع الامام الحسن عليه السلام فلم يكن حبر المعاهدة قد جف بعد حتي خطب معاوية في الكوفة قائلاً:

يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم علي الصلاة و الزكاة و الحج و قد علمت انكم تصلّون و تزكون و تحجّون، و لكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم و علي رقابكم و قد آتاني اللّه ذلك و انتم كارهون. إلا إنَّ كل مال أو دمٍ أصيب في هذه الفتنة فمطلول و كل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين.

هكذا (كل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين) و اللّه يقول: و أفوا بالعهد انّ العهد كان مسئولاً.(1)

فهؤلاء هم الذين أمنّوا مسلم بن عقيل عليه السلام و لم يفووا بامانهم له و قتلوه بتلك الوحشية. و لذا فان الإمام الحسين عليه السلام قال لقيس بن الاشعت يوم عاشوراء: «انت أخو اخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشِم باكثر من دَم مسلم» جواباً له حينما قال له قيس: انزل علي حكم بني عمِّك فانك لا تري منهم إلاّ ما تحبّ!!»(2) فكيف يطمئن الحسين عليه السلام الي امان هؤلاء الاوغاد الذين عجنت طينتهم بالغدر و الختل، فان ذلك محال في حق عامة الناس فكيف بالحسين عليه السلام المطّلع الضليع باحوال و اخلاقيات بني اميّة و مكرهم و غدرهم و فسقهم، و هو العالم بعلم0.

ص: 308


1- العدالة الإجتماعية ص 199.
2- الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه ص 110.

الامامة و الولاية و الذي أطلَعَه اللّه علي اسرار حوادث المستقبل؟

اذن، فحتي لو كان الحسين عليه السلام قد بايع يزيد، لم يكن يأمن علي حياته، لخطورة موقعه في الامّة و شرف مقامه في قلوب المسلمين و لانه مظهر الايمان و مجسد الإسلام الذي اراد بنو اميّة محوه و طمس معالمه و آثاره.

و لكي نقف علي حقيقة المخاطر التي كانت تهدد حياة و امن الحسين عليه السلام و انه لم يكن امامه سوي الخروج و الدفاع عن نفسه، يكفي قراءة ما قاله الحسين عليه السلام لكبار الصحابة في المدينة و مكة، فلا أحد اعرف بحقيقة الأمر من الحسين عليه السلام نفسه، فالدفاع و الثورة كان تكليفاً شعر به الحسين عليه السلام و امّا احراز الموضوع و الشرائط فالحسين عليه السلام اعرف بها، فكان الحسين عليه السلام يصرح بانَّ بني اميّة قد صمموا علي قتله، و لم يكن من الصحابة إلاّ تصديق الحسين عليه السلام بذلك لان حقائق الامور كانت واضحة جليّة، و من جملة مقولاته عليه السلام قوله لابن الزبير في مكة:

«و أيْمُ اللّه لو كُنتُ في حُجر هامَّة من هذه الهَوامِّ لاستَخرجُوني حتّي يقضُوا بي حاجَتهم، و اللّه ليعتدُنَّ عليَّ كما إعتَدَت اليهود في السَبت.»(1)

يقول صاحب الدرر النظيم: روي جعفر بن سليمان قال: حدثني يزيد الركسي قال: حديثني من شافة الحسين عليه السلام بهذا الكلام قال: حججت فأخذت ناحية من الطريق اتعسف الطريق فدفعت الي ابنية و اخبية فاتيت أدناها فسطاطاً فقلت: لمن هذه الاخبية؟ فقالوا: للحسين بن علي. فقلت: ابن فاطمة بنت رسول اللّه؟ فقالوا: نعم. قلت: في أيها هو؟ فأشاروا الي فسطاطٍ. فأتيت الفسطاط فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط و اذا بين يديه كتب كثيرة يقرأها فسلّمت عليه فقلت:6.

ص: 309


1- الكامل لابن الاثير ج 3 ص 276.

بأبي انت و امّي ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس و لا منفعة؟ قال: انَّ هؤلاء (يعني السلطان) أخافوني و هذه كتب اهل الكوفة اليّ و هم قاتليَّ. فاذا فعلوا ذلك لم يتركوا للّه حرمةً إلاّ انتهكوها. فيسلّط اللّه عليهم من يذلُّهم حتي يتركهم اذلّ من قرم الأمه (قال جعفر: فسألت الاصمعي عن ذلك فقال: هي خرقة الحيض التي تلقيها النساء و قد فعل اللّه ذلك بأهل الكوفة حين خذلوا الحسين عليه السلام و أسلموه حتي قُتل فسلَّط اللّه عليهم الحجاج فأذلّهم و أهانهم.(1) و قال له ابو هرة الازدي لماذا تركت حرم اللّه و حرم جدّك؟

فاخبره الامام عليه السلام بأن بني اميه أخذوا امواله فصبر و جرّعوه الغصص و صبر و هم الآن يريدون قتله و اهراق دمه و انتهاك حرمة البيت و إنه لن يصبر علي ذلك.(2) و امثال هذه الكلمات التي تدل علي احساس الإمام الحسين بالخطر الجدّي المتوجه الي حياته و الي هتك حرمة المدينة و مكة المعظمة، كثيرة و قد وردت في عدة مناسبات علي لسانه عليه السلام و هي مدونة في كتب التاريخ(3).

بين الحكومة و السياسة

قد يقال: لما كان هدف الحسين عليه السلام هو اقامة حكومة اسلامية و اسقاط حكومة يزيد، فهذا يعني انه ثار لاغراض سياسيّة أيضاً، اذ كيف نفسر قبوله لدعوة

ص: 310


1- نظم درر السمطين ص 214. القمقام الزخار ص 345.
2- القمقام الزخار ص 347.
3- راجع تاريخ الطبري ج 4 ص 269 و ص 289. تذكرة الخواص ص 251. الكامل ص 276. مقتل الخوارزمي ص 219.

اهل الكوفة بقلب الحكم؟ و لماذا ارسل ابن عمِّه مسلم بن عقيل اليهم؟

الجواب:

اولاً: إنَّ الثورة لتشكيل حكم قائم علي اساس العدالة الاسلامية و ضمان حسن تنفيذ احكام الدين و القوانين الاجتماعية و الاقتصادية و العمل بكتاب اللّه المجيد و اصلاح المجتمع و الامة، إذا كان من مثل الحسين عليه السلام فانه عين السياسة الرسالية بمفهومها السليم و المعقول و الواقعي، ففرقٌ بين هذا النمط من السياسة و بين سياسة الاحتيال و الفتن و الغدر و المكر و الكذب، تلك السياسة التي يقصد منها الاعداء التفرد بالسلطة و الحكم و استعباد الناس و لا مجال للمقايسة بينهما.

فالسياسة الهادفة الي ارساء قواعد حكومة إيمانية تحفظ حقوق كافة افراد المجتمع و تؤمن لهم الحريات و المساواة، لهي سياسة الهية و الحكومة المنبثقة عنها هي حكومة الهية شانها شأن حكومة النبي صلي الله عليه و آله.

و أمّا السياسة المعروفة في عصرنا الحاضر و التي تعني السعي للسلطة من اجل التسلط علي رقاب الناس و نهب خيراتهم و استغلالهم، فواضح بطلانها و قبحها.

إنَّ السياسة السليمة هي سياسة علي عليه السلام، فهل تقارن سياسة علي سياسة معاوية؟! فكلاهما كان يحارب، و كان لكليهما جيش، لكن اين الثري من الثريا؟

لقد كان علي عليه السلام يجاهد لكي تكون «كلمة اللّه هي العليا» و يقاتل لتحكيم أحكام اللّه علي الجميع، و ليقيم العدل و المساواة و الحرية.

و اما معاوية فكان يقاتل - كما كشف هو عن نواياه مراراً من اجل السيطرة و الهيمنة علي مقدرات الامة الاسلامية و من اجل السلطان و الجاه و التسلط علي الناس و اموالهم و ارواحهم و ناموسهم، و ليدير الامور كما يحلو له لا كما يريد اللّه و

ص: 311

تريده الشريعة.

اذن، إن كان المراد من السياسة، سياسة معاوية و عمرو بن العاص و يزيد، فهي سياسة مذمومة منكرةٌ، و الخوض فيها محرمٌ و ممارستها ممنوعة لسوق العبد الي هاوية جهنم، و إن كان المقصود منها سياسة النبي صلي الله عليه و آله و منهجه في تشكيل الحكم، و سياسة علي عليه السلام، فانها من اعلي مراتب صفات الكمال الانساني.

فاشتراك الامّة و نظارتها علي ادارة الحكم و تنفيذ المقررات و اجراء العدالة و النظم الصحيحة، و صياغة مجتمع مترقٍ و تشكيل حكومة صالحة تتوزع فيها المسئوليات بعدل و كفاءة، يعدُّ من أولويات المنهج الاسلامي الراقي، و لم تكن مثل هذه السياسة منفصلةً يوماً ما أبداً عن الدين، و ما يشاع علي بعض الالسن الجاهلة و المغرضة من «ضرورة فصل الدين عن السياسة» انما هو مبتغي الاستعمارو اعداء الإسلام الذين يسعون الي تجزئة الإسلام و اضعافه و حصره في دائرة التعبد و الطقوس الفارغة من المحتوي و المعني، و الذين يحاولون الحدَّ من وحدة المسلمين و اعادة هيبة الدولة الإسلامية و عظمة الإسلام، و تطبيق الاحكام الاسلامية، و ابدالها بقوانين الغرب و الشرق الكافرة و ترويج الاخلاق الفاسدة المنحرفة بين المسلمين.

فلو أنَّ مسلماً ظن أن حدود الإسلام تنتهي بالطقوس و المراسم الروحية و المعنوية، و ينكر اهلية الإسلام لخوض الادارة و الاعمار و القضاء و الحرب و السلم - مطابقا للموازين الشرعية المقررة في الفقه فهو ليس بمسلم بل يُحكم بكفره لانكاره ضرورة من ضروريات الدين.

إنَّ الاعتقاد بان الإسلام شاملٌ لكل مسائل الحياة الاجتماعية و الفردية و انه دينٌ و عقيدة و وطن و حكومة و قانون و روحانية و سياسة و صلحٌ و حربٌ و انه

ص: 312

ليس منفصلاً عن اي جانب من جوانب الحياة، هذا الاعتقاد يجب ترسيخه في النفوس و افهامه لكل مسلمي العالم.

فعلي كل مسلم (و خاصة كوادر المجتمع الاسلامي) أن يلتفت الي وجوب رعاية تقدم الإسلام و اجراء الاحكام و عزّة المسلمين، في كل حركاته و سكناته، في سكوته و نطقه و فعله و لفظه.

و بناءً علي هذا، فلا شكَّ في أنّ تشكيل حكومة اسلامية في الظرف الذي عاصره الحسين عليه السلام و استلام زمام امور الدولة الاسلامية و اجراء احكام الشريعة كان يمكن ان يتحقق من خلال اسقاط حكومة جائرة كحكومة يزيد، و لو ان شخصية كالإمام الحسين عليه السلام و هو امام منصوص علي امامته و يتمتع بكفاءة في اعلي مراتبها و ذو صلاحية و صلاح متفق عليه من قبل كل المسلمين، قامت بتشكيل حكومة اسلامية، لكانت تلك الحكومة قادرة علي القضاء علي كل المفاسد الاجتماعية و السياسية الموجودة في ذلك الوقت، و لارجعت الإسلام الي مسيره الاصيل و تقدمت بالمجتمع الإسلام خطوات سريعة و راسخة الي التطور و الرقي.

اذن، في حالة استجابة الناس و تفاعلهم مع دعوة الحسين عليه السلام و نصرتهم له، تكون ازاحة يزيد و تشكيل حكومة اسلامية، واجبٌ شرعي مقدسي، و ان هذا الهدف و الغرض لا يُعرَّي الثورة من حقيقتها و خلوصها و نزاهتها و اسلاميتها و كونها ثورة اصلاحية، و لا يتهمها بالانانية و السلطوية و الفئوية.

فهذا الاصل، اي أصل تاسيس حكومة اسلامية في حالة اشتراك عامة المسلمين كان يستحق من الحسين عليه السلام أن يثور من اجله و لعلَّه كان اقرب الطرق الي تحقيق اهداف الحسين عليه السلام، و لكن و لان الحسين عليه السلام كان يعلم بعلم الامامة و من خلال الظروف و الاحوال السياسية و الاجتماعية المحيطة به، ان الاستجابة من

ص: 313

الناس لدعوته ستكون ضعيفة، لذلك قرر ايصال صوته عن خلال مظلوميته و ردة فعل المصائب التي سيتحملها علي المجتمع، فاراد ان يوقظ ضمير الاُمة السابت من خلال تضحياته و فدائه و مظلوميته و مظلومية اهل بيته و اصحابه.

و ثانياً: إنَّ الاستجابة لدعوة اهل الكوفة و ارسال مسلم بن عقيل اليهم انما كانت بعد موت معاوية و استخلافه ليزيد المعروف بفسقه و انحرافه و فجوره، و كان الاحرار من المسلمين في حيرة و ضياع و لم يتحملوا فضاعة عواقب هذه البيعة القهرية، و كان العالم الاسلامي بنظر الناس (إلاّ من شذّ من مرتزقة الحكم الاموي و المنتفعين و الانتهازيين) بلا خليفة و امام، اذ ان وجهة نظر اتباع اهل البيت عليهم السلام هو ان الإمام الحسين عليه السلام امام قد نُصَّ علي امامته من قبل النبي الاكرم صلي الله عليه و آله و من وجهة نظر غيرهم فان حكم يزيد لم يكن مشروعاً، اذ إنَّ استخلافه من قبل معاوية لم يكن مبتنياً علي رعاية مصلحة المسلمين، كما ان اهل الحلّ و العقد لم يمضوا هذا الاستخلاف مع إنَّ رأيهم كان ميزاناً و مقياساً يُرجع اليه في مثل هذه الحالات، و اما من بايع يزيد منهم فبين ساكت عن الحق خوفاً من سيوف امثال زياد بن ابيه و مسرف بن عقبة، و بين طامع طمعاً بالجوائز و الهبات و الاموال و المناصب، فقد احسَّ معاوية الامتعاض من بيته قبل ان يحسَّه من الغرباء عنه، و حتي مروان بن الحكم - و هو اقرب الاقرباء الي معاوية - حيث بلغته دعوة العهد ليزيد اشتدت نقمته و خالف تلك البيعة و كتب الي معاوية «أنَّ قومك قد أبوا اجابتك الي بيعتك» فعزله معاوية عن ولاية المدينة و ترضّاه ما استطاع و جعل له الف دينار كل شهر و مائة دينار لمن كان معه من اهل بيته. (1)0.

ص: 314


1- ابو الشهداء ص 131-130.

و بنحو عام، كان عامة الناس (إلاّ من تخوف من حدِّ السيف او الذين استهوتهم اموال معاوية) ناقمين علي هذه البيعة، و غير مقتنعين بوجوب الطاعة و حرمة الخروج علي يزيد.

و من جهة اخري فلقد كان الحسين عليه السلام ابرز شخصية عرفها المسلمون توفرت فيها كل الكفاءات و المؤهلات للخلافة و قيادة الامّة، فلقد كانت الانظار متجهة اليه و الاعناق ممتدة نحوه لتأسيس حكومة شرعية و لقيادة الامة و هدايتها، فلو امتنع الحسين عليه السلام عن أخذ حقه الذي يعترف له به الجميع، و لو انه رضي بذلك الوضع المؤسف و الاضطراب الاجتماعي و السياسي و قبل بذلك الفراغ الاداري، لأعطي الحجّة للجميع في سكوتهم و خنوعهم و لا ضفي مشروعية علي حكم يزيد و شهادة منه له أنه نعم الخليفة المامول.

اذن، ما كان ينبغي علي الحسين عليه السلام فعله أولاً هو الامتناع عن البيعة و فسح المجال للمسلمين للاقدام علي انتخاب الحكومة الاسلامية و اتمام الحجة عليهم، و في المرحلة الثانية أن يدعوهم الي بيعته هو لتشكيل الحكومة الاسلامية.

و لذلك، قبل الحسين عليه السلام دعوة اهل الكوفة بعد أن توالت كتبهم و رسلهم اليه تدعوه الي تولي الامور بنفسه و اظهروا الانقياد و الانصياع لاوامره و اعلنوا الطاعة و الاستعداد للفداء و التضحية للخلاص من الضياع الذي تركه فراغ السلطة، و كانهم بذلك قد القوا الحُجَّة عليه و اتمّوها، مما دعي الحسين عليه السلام الي الاستجابة و ارسال إبن عمه مسلم بن عقيل لتقصّي الحقائق و دراسة الامور.

و من الواضح، انَّ كل هذا الاصرار و اعلان الاستعداد من قبل اهل العراق كان فرصة تاريخية لاعادة الامور الي مجاريها و اصلاح ما فسد منها، مما اضطر الحسين عليه السلام الي العزم علي الخروج الي العراق فلو لم يستجب الحسين عليه السلام لتلك

ص: 315

الصرخات و الاستغاثات، لترك الناس في حيرة و ضياع، فلم يكن للحسين أن يمتنع عن الاجابة مع كلِّ تلك التأكيدات من قبلهم، و لم يكن له ان يستند الي خذلانهم لابيه و اخيه في مرحلة سابقة اختلفت فيها الظروف و الاوضاع عن مرحلته.

و لم يكن بمقدور الحسين عليه السلام أنْ يطلب من أهل الكوفة - كما اقترح البعض أن يطردوا حاكمها و يسيطروا علي ادارة البلد، ثم يسير اليهم!! فان الحسين عليه السلام كان يعلم بان اهل الكوفة سيوقولون له: إنَّ كل حركة و ثورة و نهضة تحتاج الي قائد ميداني و إلاّ فشلت تلك الحركة، مضافاً الي انه لم يكن من شيم الحسين عليه السلام أن يطلب منهم الثورة و القتال و التضحية و الفداء، حتي ياتي هو و يحكم علي انقاض اجسادهم!! فان كل ذلك كان يُعدُّ عرفاً، تهرباً من الجهاد و الوظيفة الرسالية.

لقد كان لسان حال اهل الكوفة و الذين كتبوا للحسين عليه السلام: «إننا بلا امام و بلا قائد و إنَّ العالم الاسلامي في حيرة و ضياع، و إنَّ الاخطار تحدق بالامة الاسلامية بعد استخلاف يزيد» و وضعوه امام المسئولية الشرعية.

فكان علي الحسين عليه السلام أن يستجيب حتي لو كانوا من اهل السوابق في الخِدَع و الخذلان، و كان الإمام الحسين عليه السلام يقول كما ورد في بعض كتب المقاتل: «مَن خادَعَنا في اللّه إنخَدَعْنا لَه»

إنَّ استجابة الحسين عليه السلام لدعوة اهل الكوفة و تشكيل الحكم الاسلامي و ارسال مسلم بن عقيل، لم يكن من نوع السياسة المذمومة و بمعني طلب الزعامة و السلطة، بل هو من نوع الامتثال للتكليف الشرعي و السياسة المحمدية الاصيلة الصحيحية.

و لذا، و مع أنَّ الحسين عليه السلام، و بعلمه الخاص كان متيقناً من النتيجة، استجاب

ص: 316

لاهل الكوفة لالقاء الحجّة عليهم، فارسل مسلم بن عقيل.

و جاء مسلم الي الكوفة، جاء و لم يحمل معه الهدايا و الجوائز و الرشا الي رؤساء قبائلها و زعمائهم(1) ، و لم يَعد احداً بوزارة أو امارة أو ولاية، و لم يتهدد احداً بقتل أو تشريد أو سجن، بل بدأ نشاطه في جوٍ من الحرية و الاختيارية، و كما نعلم فانه استقبل بحفاوة و تكريم يكشفان عن تلك الاحاسيس و العواطف الجياشة التي عبّروا عنها في كتبهم الي الإمام الحسين عليه السلام و عن تفألهم بقدومه، و نفرتهم الشديدة من بني اميّة هذا و قد بايعه اكثر من ثمانية عشر الفاً منهم و في بعض التواريخ إنَّ العدد وصل الي ستين الفاً، باختيار و رغبة و شوق، فصارت قيادة الإمام الحسين عليه السلام رسمية شرعية، اذ لم يبايع اهل الحلِّ و العقد إحداً غير الحسين عليه السلام ناهيك عن عامة المسلمين، و حتي علي مقياس من يري البيعة بالاجماع، صارت البيعة للحسين عليه السلام شرعية و اصبح هو الخليفة الشرعي، فلقد كانت بيعة واقعية اختيارية بكل ما للكلمة من معني.

و لكن و للاسف الشديد، كان حبُّ الدنيا والمال و الذهب من جهة، و الخوف من الفداء و التضحية من جهة اخري، قد أخذ ماخذهما من نفوس الناس، فعاقهم ذلك عن الصمود ساعة الشدَّة و الامتحان، فابتلوا بخيانة العهدو نكث البيعة و الخذلان مما اورثهم ذُلاّ و عاراً يصعب التخلص منه علي مدي الاجيال.

و من الطبيعي، ان ما قام به الحسين عليه السلام من استجابة لدعوة المستغيثين و الملهوفين كما جاء في كتبهم و علي لسان رسلهم اليه، و ارسال مسلم اليهم ثم).

ص: 317


1- كان مسلم بن العقيل قد اقترض مبلغ 700 درهم لمخارجه الخاصة، و قد أوصي عنداستشهاده بدفعها من ثمن سيفه و لامته (ابو الشهداء ص 146).

خروجه بنفسه علي العراق، انما كان بحسب الظاهر لتشكيل حكومة اسلامية و اغاثة المستغيثين، و لكن لما كان واقع الامر و باطن الحقيقة معلوماً للحسين عليه السلام و لانه كان ينفِّذ ما نفَّذه الانبياء و الاولياء، قَبِل دعوتهم و اتمَّ الحجّة عليهم، عملاً بمفاد الآية الشريفة: «ليَهلَكَ مَن هلك عن بيِّنة و يحيي مَن حيَّ عَن بيِّنَةٍ» بالضبظ كفائدة دعوة الانبياء «لِئلا يكونَ للناسِ علي اللّه حُجَّة بَعدَ الرُسُلِ» كذلك كانت فائدة ثورة الحسين عليه السلام و استجابته، لئلا يكون للناس حجة يوم القيامة علي اللّه و علي الإمام.

لقد اثبت خذلان اهل الكوفة و أحداثها أنَّ تشكيل حكومة اسلامية غير متيسرٍ في ذلك الظرف، و انّ طريق دفع المخاطر عن الإسلام ينحصر في الامتناع عن البيعة و بالتسليم و الاستقامة و الاعداد لثورة فكرية عقائدية، و بتهييج المشاعر، و التضحيات من اجل افشاء مخططات بني اميّة.

و الحاصل: إنَّ الجواب علي ذلك هو أنْ يقال: إنَّ حفظ الإسلام كان منحصراً في أحد طريقين:

الاول: تشكيل حكومة اسلامية عادلة و اسقاط حكومة بني اميّة و يزيد.

الثاني: التضحية في طريق الامتناع عن البيعة و الاستسلام، و خوض طريق الشهادة و المظلومية.

و لمّا لم يمكن سلوك الطريق الاول لعدم وفاء الناس و خذلانهم، اختار الإمام عليه السلام و منذ البداية الطريق الثاني، مستفيداً من المشتركات بين الطريقين مادام خذلان الناس له لم يصل الي العلن و التحقق.

اذن، فتشكيل الحكومة الاسلامية، و إن كان هدفاً مقدساً و طلبُه لا يُخلُّ بمقام الحسين عليه السلام و قداسته بل كان عين الصواب و الحق، لكن و لان الحسين عليه السلام كان يعلم منذ البداية بعدم تحققه، لا يمكننا أن نقول بان تشكيل الحكومة كان من جملة اسباب

ص: 318

و دواعي ثورة الحسين عليه السلام.

دفعُ توهُم

إنَّ من يطالع تاريخ الثورة الحسينية ينجذب بشدة الي روح الفداء و طلب الحق الذي جسَّده الإمام الحسين عليه السلام و لا يشكُّ احدٌ أبداً في نزاهة الثورة و تجرّدها من المكاسب الدنيوية، بل سيتضح جليّاً له أنَّ الحسين عليه السلام الذي ضحّي بنفسه و اولاده و أصحابه، إنما ثار من أجل تصحيح القيم و اصلاح الامّة.

و قد عجز كل من حاول المساس بقدسية هذه النهضة، من أعداء الإسلام و أعداء اهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و من اولئك المتنكرين للحقّ، و اذناب المستعمرين و بعض المستشرقين و المأجورين مثل «لامنس» الذين دافعوا مستميتين عن بني اميّة و يزيد، سعياً منهم لاضلال و استغفال البسطاء من عامة الناس و السذَّج و الهامشيين، مفترين علي قائد هذه النهضة للانتقاص من شخصيته الرسالية الفريدة.

و لا ريب في فشلهم و عجزهم ذاك، اذ انَّ سلاح الافتراء و التهم اذا كان قاطعاً في بعض الموارد، فانه كالُّ في هذا المورد بالذات، بعد وضوح تضحيات الحسين عليه السلام الخاصة التي كشفت علي الحقائق و دفعت كل إبهام و خلل محتمل.

و لقد وصل الحسين عليه السلام الي درجة من الكمال عَجز معها حتي بنو اميّة من التجاسر قط علي المساس بورعه و تقواه و رعايته لاحكام الدين في اصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً و علانية و حاولوا أن يعيبوه بشئ غير خروجه علي دولتهم فقصرت السنتهم و السنة الصنائع و الاجراء دون ذلك، فاضطر كلٌ منهم الي التبري من عار و شنار قتله الفجيع و انكار مشاركته في ذلك، و كان كلٌ منهم يُلقي باللائمة علي غيره، و لكنهم لم يفلحوا في اقناع الامة الإسلامية ببراءتهم.

ص: 319

و حاول بعض المؤرخين و ضعاف الفهم و لاغراضٍ خبيثة ان يقلل من أهمية هذه النهضة و قداستها، و من جملة هؤلاء و لعله الوحيد من القدماء في إنحرافه الفكري و الضلال هو ابوبكر بن العربي الذي ينسب اليه قول:

«إنَّ حُسيناً قُتلَ بسيفِ جدِّه»(1)

و هذا القول، و إن كان ظاهراً في الدفاع عن قتلة الحسين عليه السلام الذين ارتكبوا - باجماع الامة أفضع الجرائم و الجنايات و اشتروا غضب اللّه و الرسول و الشقاء في الدنيا و الآخرة و خسرانهما، و لكن ما هو وراء هذا الدفاع أعظم ألا و هو اساءة الأدب و التجاسر علي مقام النبي الاكرم صلي الله عليه و آله الشامخ.

لقد ظن ابن العربي ان سيف الرسالة و النبوة، هو سيفٌ الضُحاك و جنكيز خان، و قد قُتل الحسين عليه السلام به!!

إنَّ ابن العربي يريد أن يقول: إنَّ سيف الظلم و الجور الذي كان بيد بني اميّة، هو سيف النبي صلي الله عليه و آله!!

انه يقول: إنَّ السيف الذي شهره معاوية و اراق به دماء الابرياء و اجلَّة الصحابة و التابعين هو سيف النبي صلي الله عليه و آله!!

انه يقول: إنَّ السيف الذي قُتل به عمّار بن ياسر و أويس القرني و خزيمة و ابن التيهان و حجر بن عدي و سائر شهداء مرج راهط، و رشيد الهجري و ميثم التمار، هو سيف رسول اللّه صلي الله عليه و آله!!

إنَّ ابن العربي يقول: إنَّ السيف الذي قام بمذبحة المدينة في الحرّة و اراق دماء الصحابة في حرم النبي صلي الله عليه و آله و هتك المقدسات الإسلامية و تعرض لنواميس المسلمين1.

ص: 320


1- سمو المعني ص 71.

و أعراضهم العفيفة، هو سيف النبي!!

فهو يقول: إنَّ السيف الذي كان بيد يزيد و ابن زياد و مسلم بن عقبة و بسر ابن ارطاة و الحصين بن النمير و الحجاج بن يوسف و الوليد و امثالهم من الجلاّدين و القتلة، هو سيف محمد بن عبد اللّه صلي الله عليه و آله!!

«لا حولَ و لا قوَّة إلاّ باللّه و إنّا للّه و إنا اليه راجعون»

و يحق لنا ان نبكي بدل الدموع دما علي مثل هذه البليَّة حين يكون في المسلمين مثل ابن العربي الذي يصل به العداء للنبي و اهل بيته الي هذا الحدِّ.

فهل هناك تجاسر و اهانة و شتيمة للنبي و الإسلام أكبر من جسارة ابن العربي؟!

لا، يا ابن العربي! إنَّ الحسين عليه السلام و اصحابه و اهل بيته و كل من هبَّ لنصرة الحق و الدين، لم يقتل بسيف رسول اللّه صلي الله عليه و آله.

إنَّ الحسين عليه السلام قُتلَ بسيف عتبة و شيبة و الوليد و المشركين الذين حاربوا الإسلام.

لقد قُتل الحسين عليه السلام بسيف الكفر و الجاهلية، بسيف ابي سفيان و ابنائه، ذلك السيف الذي شهر في بدر و احدٍ و الاحزاب ضد المسلمين، إن السيف الذي قتل الحسين عليه السلام هو نفس السيف الذي قتل حمزة عمِّ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله، انه سيف معاوية و عمرو بن العاص و مروان الطريد، إنَّ السيف الذي قتل الحسين عليه السلام هو سيفكم أيّها الكتاب المتملقون المتلونون.

و أحدُ هذه الاقلام الخبيثة المغرضة هو محمد خضري بيك صاحب كتاب «محاضرات تاريخ الامم الاسلامية» الذي خان الإسلام في كتابه المشئوم هذا.

هذا الرجل الناصبي المستميت في الدفاع عن بني اميّة عامة و معاوية و يزيد

ص: 321

خاصة، يعتبر ثورة الحسين عليه السلام تطرفاً و إنتحاراً سياسياً، و بعيدة عن الحزم و بُعد النظر، و انخداعاً بالعراقيين!!

و يستمر هذا الكاتب بتسطير جملات الاعتراض و الانتفاد لثورة الحسين عليه السلام بدلاً من توبيخ و محاسبة بني اميّة و خاصة معاوية الذي تسبب في فرقة المسلمين و اختلافهم، و الذي خرج علي خليفة زمانه الحق، و استخلف ولده يزيد الفسق و المجون، متبعاً طريقةً كسروية قيصرية في ولاية العهد!!

و ليت خضري بيك سكت و لم يوبخ، و انما نراه يحمل بشدة علي النهضة الحسينية ضد يزيد.

و في خاتمة مقاله يتخبط و يقول: لقد ثار الحسين علي يزيد قبل أن يصدر عنه أيّ ظلم و جور!!

و نقول لهذا المتملق: إنّ مثل الحسين عليه السلام الذي عرف المسلمون و العالم الاسلامي كلِّه، فضائله و مناقبه من خلال ما وصلهم من اخبار و احاديث متواترة عن النبي صلي الله عليه و آله، يكون احتمالُ خطأة معدوماً تماماً، كما انَّ صوابه و سلامة موقفه، هو المرتكز الراسخ في الفكر العام عند المسلمين، و في زمننا المعاصر، أطبق العقلاء و روّاد المجتمع العالمي علي ضرورة مقارعة الظلم و الجور و الاستغلال و الاستعباد، و إنَّ حياة و بقاء الامم مرتهن بمقاومتها للظالمين، و انَّ طريق الحسين عليه السلام و نهجه هو الطريق الأصح فهم يعتبرونه عليه السلام امام الاحرار و سيد المضحِّين في سبيل خلاص و انقاذ البشرية و الداعين الي الاستقلال و الحرية و الاصلاح، و لا يعتني احدٌ بسفسطائية الخضري الناصبي، بل يلعنون امثاله من الكتّاب الذين يروّجون الهَراء.

و رغم ذلك، و مع أنّ الاستاذ محمد رضا رشيد قد ردَّ في كتاب «الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه» علي «خضري بيك»، لكننا سنجيب علي تخرصاته ببعض

ص: 322

الاجوبة:

1 - انه خضري بيك، ظنَّ أنَّ الإمام الحسين عليه السلام خرج من اجل السلطان و اعتبر إنَّ عدم تحقق هذا الهدف المزعوم، دليلٌ علي قلة الحزم و التخطيط، و عدم اعداد العدَّة و العدد، و لذا اعتبر حركة الإمام الحسين عليه السلام حركة افراطية متسرعة غير مدروسة.

و لكن و كما اشرنا مراراً؛ إنَّ ثورة الحسين عليه السلام بشهادة أرباب القلم الحرِّ و مفكري العالم الاسلامي، لم تكن حركة سياسية محضة من اجل السلطان و الزعامة، و قد كان الحسين عليه السلام مطلعا علي عواقب حركته و خواتمها، و كان قد أطلع الاخرين علي تلك الخاتمة، فالحسين عليه السلام كان يري أن واجبه الشرعي يدعوه للخروج و الثورة و إن البيعة ليزيد محرَّمة و إن التخلف عنها واجبٌ مقدمي و إن كلفه حياته.

فالامام الحسين عليه السلام هو الشخصية الاولي في الامة الاسلاميّة، و كان يتمتع بكل مؤهلات زعامة و امامة الأمة، فهو من بيت النبيوة و الرسالة، و هو العارف بصلاح الامة و الحريص علي مستقبلها، فكيف يرضي باستخلاف شاب فاسق و جاهلٍ متجاهر بالاثم و المعاصي؟

و اذا وجب الامرُ بالمعروف و النهي عن المنكر، كان الحسين أولي من غيره بالقيام بهما، و أوّل من يجب عليه العمل علي محو الفساد و الظلم من المجتمع الاسلامي حتي لو كلفه ذلك غاليا.

فمن اولي من الحسين عليه السلام بالجهاد و الفداء في سبيل الحفاظ علي الدين و الدفاع عن الشرع؟

و الحسين عليه السلام كان يري التضحية و الشهادة واجبةً في طريق اقامة الحق و احيائه و اماتة الباطل و ازهاقه، و لذلك قال:

ص: 323

«لا اري الموتَ إلاّ سعادةً و لا الحياَة معَ الظالمينَ إلاّ بَرَما»

و قال عليه السلام:

«لا أُجيبُ إبن زيادٍ فَهَل هُو إلاّ الموتُ فَمَرحباً بِهِ»

لقد أُخِذَ الخضري بيك من جهة مقايسته ما بين ثورة الحسين عليه السلام و بين حركات السياسيين الطامعين بالزعامة و الملك، فاعتبرها انتحاراً سياسياً، و حركةً عشوائية متسرعة، مع إننا أوضحنا في الفصل الاول لهذا القسم من الكتاب، ان ثورة الحسين عليه السلام كانت امرا إلهياً، و اداءً للتكليف الشرعي، و مأمورية سماوية، لا تُقاس الاّ بحركات و نهضات الانبياء و الاولياء، التي لا تستند الي القوة المادية و الظاهرية.

لقد قام نبي اللّه ابراهيم عليه السلام الأعزل من السلاح و الجيش و الناصر و المعين، ضد أعتي جبار في زمانه و هو النمرود، فاستخفَّ بالهتهم و كسَّر اصنامهم و جعلها جُذاذاً.

و هذا موسي كليم اللّه عليه السلام، الراعي الفقير، يقف أمام جبروت فرعون مصر و دعواه الربوبية، و يأمره بان يتخلي عن هذا الادعاء، و ان يترك استعباد الناس، و أن يخلّي بينه و بين بني إسرائيل، و اعتبره ضالاً، و لم يكن مع موسي جيش و لا عدّة، إلاّ هرون اخوه.

و هذا رسول اللّه محمد صلي الله عليه و آله و لوحده قد حمل راية الدعوة الي التوحيد الي جبابرة و مستكبري العرب و العجم، و القبائل المشركة المتوحشة التي كانت تسجد لثلاثمائة و ستين صنماً! و أرسل الرسل الي ملوك فارس و قياصرة الروم يدعوهم الي دين اللّه.

و هذا يحيي بن زكريا النبي عليه السلام دعا الناس الي اللّه، فقِتل و أُهدي رأسه الي

ص: 324

بغيِّ من بغايا بني اسرائيل.

و الحسين عليه السلام دعي الناس الي الحق و العدل و الي دين جدِّه فقُتل و أهدي رأسُه الي يزيد الطاغية.

و هكذا زكريا و سائر الانبياء الذين قُتلوا أو كُذِّبوا، لم يعتمدوا الاسباب الظاهرية المادية في دعوتهم.

فهولاء جميعاً ما قاموا إلاّ امتثالاً لامر اللّه و التكليف الشرعي، و لم يدفعهم حبَّ الغلبة و السلطان، فسواء عليهم النصر أو الهزيمة الظاهريَّين، ماداموا يؤدون تكليفهم.

و لقد كان في أزمانهم مَنْ يتهمُهم و يفتري عليهم بالافراط و العجلة و عدم الحزم و التخطيط، و الاقدام علي التهلكة و القتل، بل ان الناس استهزؤا بهم و آذوهم و اتهموهم بالجنون و التخبط!!

ذلك لان الجهّال لا يميزون بين طالب حق و طالب سلطان، و يظنّون ان الحركات التمردية الاصلاحية المستندة الي وجوب الامتثال لله و اوامره، و الداعية الي الفضيلة و العدالة و الحق و اتمام الحجّة، هي مماثلة للحركات الدنيوية السياسية القائمة علي اساس حبِّ الدنيا و السلطان و الزعامة و النفع الشخصي.

2 - ما قاله الخضري بيك من انَّ الحسين عليه السلام لم يعط يزيداً الفرصة الكافية لاثبات جدارته، و إنه عليه السلام خرج عليه قبل ان يصدر ايُّ ظلمٍ و جور من يزيد، و كان الافضل أن يسكت الحسين و يصبر و يُمضي حكومة يزيد، ليعتلي يزيد دفة حكمٍ جائرٍ ليعمَّ العالم جورُه و ظلمه و جرائمه و فساده، ثم ينهض ضدَّه؟!

هذا الذي تشدَّق به الخضري ناجم عن ظنه الخاطي بجهل الإمام الحسين عليه السلام لشخصية يزيد و صفاته، و ان المسلمين لم يكونوا يعرفون من هو يزيد بن ميسون.

ص: 325

إنَّ يزيد بن معاوية كان مشهوراً بفساد اخلاقه و قبائح فعاله، و معاقرته الخمرة و لعبه بالقردة و الكلاب و تجاهره بالفجور و المعاصي، مستحلاً لحرم اللّه، و لم يمتنع من امتنع عن بيعته زمن أبيه - علي رغم مخاطر التمرد - إلاّ بعد ان عرفوا من هو يزيد بن معاوية، و انه لا يصلح لادارة قرية من قري بلاد المسلمين لفساده، فضلاً عن خلافة الامة الاسلامية.

إنَّ يزيد بن معاوية، لم يتورع عن شرب الخمر و السكر حتي في المدينة المنورة عندما سافر اليها زمن أبيه، مع علمه بانه سيكون بمرأي و مسمع صحابة رسول اللّه صلي الله عليه و آله و رجالات الإسلام(1).

إنَّ الحسين عليه السلام قد عرف يزيداً منذ اللحظة الاولي لاستخلافه من قبل معاوية فقال لمعاوية:

و اعلم ان اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة و اخذك بالتهمة و إمارتك صبياً يشرب الشراب و يلعب بالكلاب و ما اراك الا و قد أوبقت نفسك و اهلكت دينك و أضعت الرعية.(2)

3 - لو كان يزيد قد أحسن التصرف بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و عمل بكتاب اللّه و سنة نبيه، و تخلّي عن شرارته و فساده و مجونه، لاحتُمل - ظاهراً - ان الحسين عليه السلام قد لا يكون واقفاً علي مساوي يزيد و انه تسرَّع في نهضته، و لكنَّ افعاله الشنيعة يوم عاشوراء و أسرِ بنات رسول اللّه صلي الله عليه و آله و تسييرهنَّ في البلدان و بعد واقعة الحرَّة و هدم الكعبة و حرقها، و الاستمرار في التجاهر بالفسق و المعاصي3.

ص: 326


1- الكامل لابن الاثير ج 3 ص 317.
2- الامامة و السياسة ج 1 ص 53.

الكبيرة، كشفت ما بقي خافياً علي الناس من قبائح افعاله، لا يَبقي لظنِّ خضري بيك ايّ مصداقية إلاّ عداوته و نصبه لاهل البيت عليهم السلام.

4 - إنَّ كلام الخضري بيك ناشي إمّا عن التعصّب الاعمي، و امّا عن جهله باهداف الإسلام، فظنَّ ان كل من قام ضد حكومةٍ ما و في أيِّ ظرف كان، فهو شاقٌ لعصا المسلمين و مفرق لجمعهم و باعث علي اختلافهم و فرقتهم و انه ينبغي علينا تمكين الظلمة و الحكومات و اعانتهم و طاعتهم و مهادنتهم و التملق لهم، كي لا يتفرق المسلمون!! و أنَّ الوحدة و الاتحاد ممدوحٌ حتي في ظلّ الظالمين و اعانتهم علي ظلمهم، و أنه كان علي الجميع مدَّ يد العون ليزيد و الحجّاج و الوليد و معاوية و جبابرة التاريخ و مهادنتهم و شرعنة انظمتهم و امضاء سلوكهم، حفظاً للامّة من الفُرقة!!

كلا يا خضري بيك، لقد ضَلَلت و تُهت و ذهبتْ بك المذاهب فان الاختلاف بين أهل الحق و اباطل لا زال قائماً منذ قابيل و هابيل، و لا نعهد شريعة من الشرائع السماوية و لا الارضية السليمة، تبيح لأهل الحق السكوت و الاستسلام لاهل الباطل بحُجَّة الحفاظ علي وحدة المجتمع، فعلي مقياس الخضري يكون ابراهيم خليل اللّه عليه السلام الذي وقف مقابل جبروت نمرود، و يكون محمد بن عبد اللّهّ عليه السلام الداعي الي نبذ عبادة الاوثان، و سائر الانبياء، ادعياء تفرقة و اختلاف نعوذ باللّه من هذه المقالة.

كلا يا خضري بيك! إنَّ جذور اختلاف المسلمين و تفرقهم تعود الي امثال حكومة معاوية مفرِّق الجماعات و يزيد و من لفَّ لفَّهم الذين حاربوا التعاليم الاسلامية و قوانين الدين سعياً وراء السلطة و الملك.

5 - يا خضري بيك، إنَّ الحسين عليه السلام كان عارفاً بكل خطوة خطاها، عارفاً

ص: 327

بعللها و أهدافها و نتائجها، و كان يخطو الخطوات بكل حزم و دراسة و حكمة نحو هدف واضح مدروس و مخطط له، و كان مطَّلعاً علي ماوراء الزمن، متنبئاً بعواقب الامور، متيقناً من يقظة الامّة و انتباهها من غفلتها، متوقعاً ثورتها و انتفاضتها ضد يزيد و بني اميّة، موعوداً بزوال هذه الحكومة الجائرة و محوها من سجلِّ الحكومات الاسلامية، مستَتْبعةً بلعنة أبديةٍ.

إنَّ الحسين عليه السلام كان يسير نحو زعزعة بني اميّة عامة و معاوية و يزيد خاصة، و نحو كشف بواطن هذا الحكم العَفنِ، و أن يضمَّ اصوات عامة المسلمين الي صوته في إدانة هذا الحكم و إسقاطه و تخليص المجتمع من شرِّه، و لذا عبأ الإمام الحسين عليه السلام كلَّ القِوي و درس كلّ المحتملات و لم يتجرَّد عن الحزم و الدقة لحظةً واحدة طوال مسيره و حركته و نهضته، فكان قد حسب لكل شي حسابه و اعدَّ عدَّتَه و أوجد المقدمات توخياً لتحقق النتائج كاملة و ليملأ صوتُ مظلوميته أسماع العالم كلّه، و يعلو صوت الاعتراض العام و الملامة و النفرة و الكراهية ضد عدوه، فيُخذل العدو و تفشل مخططاته المشئومة لمحو الإسلام، و هذا ما حصل بالفعل و هو خير دليل علي بطلان مزاعم خضري بيك، اذ ما مرَّت إلاّ ايام قلائل حتي ارتقي معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) المنبر في دمشق فاضحاً جرائم أبيه و جدِّه و بني اميّة عامة، معلناً أحقيَّة علي عليه السلام و آله بالخلافة و الامامة.

بَينَ الفداء و الانتحار

إذا قال قائل: إنَّ الانسان اذا كان يهدف من ثورته مقتلهُ و مقتل اولاده و انصاره و أسرَ اهل بيته و عيالاته، فان ذلك بمثابة القاء النفس الي التهلكة و هو غير

ص: 328

جائز عقلاً و شرعاً بنص الآية الكريمة: «لا تُلقوا بأيديكُم الي التَّهلكَة»(1)، فكيف يصح من الحسين عليه السلام أن يَخرج للشهادة و القتل السبْي، و أن يَعدَّ و يستعدَّ لذلك؟ فان قتل الحسين عليه السلام و أسر بنات النبوة، من أعظم الجنايات و هو مبغوض عند اللّه تعالي، و لا يجرُّ علي صاحبه غير الضرر؟

أجبناه قائلين:

1 - إنَّ قتل النفس موضوع تشكيكي يختلف باختلاف الاحوال و العناوين، فتارة يكون موضوعاً لحكم تحريمي و اخري يصير موضوعاً لحكم وجوبي الزامي، و ليس محرماً علي الاطلاق كما توهم المستشكل، و حتي لو كان هناك اطلاق، فانه مخصَّصٌ بالادلة الاخري. فلو فرضنا ان الإسلام يواجه تهلكةً و خطراً قاتلاً، و يقال إنقاذ الإسلام و خلاصه من الخطر يتوقف علي القاء النفس في التهلكة، فهل يُال أيضاً بعدم جواز التضحية و القاء النفس الي التهلكة حفاظاً علي الإسلام؟

ألا يُلام و يُوبِّخ من يمتنع عن التضحية بنفسه في سبيل الحفاظ علي بيضة الإسلام و شرف المسلمين؟ أليس الدفاع عن الدين، و الجهاد في سبيل الحق، أولي بوجوب التضحية و الفداء؟

إنَّ فلسفة الجهاد و الدفاع هي الدعوة الي التوحيد و تحرير البشرية من العبودية لغير اللّه و حفظ الإسلام و تخليص الدين من المحو و التهلكة، أو حفظ الدولة الاسلامية من استيلاء الاجانب و الكفّار و الاشرار، و هو واجب علي كل المسلمين طبقاً لاحكام الجهاد و الدفاع - مع تيقن القتل و إلقاء النفوس في التهلكة.5.

ص: 329


1- سورة البقرة الآية 195.

فالدفاع عن خنادق و ثغور الإسلام، اذا توقف علي استشهاد عدد من جنود المسلمين، و وُجدت ضرورة لحفظ الدولة الاسلامية من المخاطر، وَجَب تحمل التلفات و التضحيات الكبيرة، و مثل هذه التضحيات و الفداء جائزة بل واجبة.

2 - انَّ هذا الحكم (حرمة القاء النفس الي التهلكة) حكم ارشادي، و مؤيد لحكم العقل بقبح «القاء النفس الي التهلكة»، و من الواضح ان انكار العقل لذلك انما هو في حالة عدم وجود مصلحة أهم من الحفاظ علي النفس، فان توقفت مصلحة أهم من ذلك عليه، حَكَم العقل بالجواز بل بالوجوب و الإلزام احياناً.

3 - إنَّ الهلاك متصورٌ بعدة انحاء من جملتها، الفناء و المحو و الانعدام، و قد يكون هذا النحو هو المقصود في الآية الشريفة، و هذا المعني انما يتحقق فيما لو لم يكن هناك غرض شرعي صحيح أو عقلي سليم، فان وجد مثل هذا الهدف و الغرض و كان ذلك امتثالاً للتكليف الشرعي و للأمر الالهي و للدفاع عن احكام الدين و عزَّة المسلمين، لم يكن الفداء و التضحية القاءً للنفس في التهلكة و لا فناءاً و إنعداماً.

فمن ضحي من اجل الدين و في سبيل اللّه لم يكن مُعدِماً لنفسه، و لا فانياً، بل هو حيٌ بصريح القرآن، قد باع نفسه باغلي الأثمان.

اذن، ففي حالة تحقق مصلحةٍ أهم من الحفاظ علي النفس، أو دفع مفسدةٍ أهم من ذلك، لم يكن بذلُ الانفس و السباقُ الي الموت و الشهادة، القاءاً للنفس في التهلكة، نظير بذل المال، فتارة يبذل المال بلا عوض، فهو الاسراف و التبذير، و اخري يبذل المال للحفاظ علي الشرف و الكرامة و الربح الأوفر، فلا يكون اسرافاً بل هو ممدوحٌ و مستحبٌ و قد يجب في بعض الاحيان.

4 - انَّ الصبر و الثبات حتي الشهادة، في ميادين الجهاد و الدفاع عن الدين، و خاصة فيما لو تسبب الادبار عن القتال، في هزيمة جيش الإسلام و غلبة الكفّار، و كان الفداء و التضحية محمساً و محفزاً جند الإسلام علي الصمود، أمرٌ ممدوح، بل هو

ص: 330

واجب مقدس، و لا نظن وجود احدٍ يدّعي ان مثل هذه التضحية القاءٌ بالنفس الي التهلكة و انَّه محرَّم، بل كان في صدر الإسلام و لازال يعدُّ من افتخارات و عزَّة و بطولة جند الإسلام و بالاخص قادتهم و امرائهم، كاستقامة و ثبات و فداء و تضحية جعفر الطيار عليه السلام التاريخية في حرب مؤتة، فان مثل هذا الجهاد و الايثار و التضحية و استقبال الشهادة هو دركٌ للسعادة العظمي و تقرب الي اللّه عزوجل، لا أنه القاء النفس في التهلكة و الانتحار.

5 - إنّ الآية الكريمة و إن دلَّت علي حرمة الالقاء بالنفس الي التهلكة، لكن لمّا كان متعلق النهي هو عنوان الالقاء في التهلكة و ليس مثل تعلق النهي بالموضوعات الخارجية كشرب الخمر أو القمار، فان تحقق مصداقه و فرده يدور مدار تحقق العنوان المذكور، فقد يكون الفعل في ظرفٍ معين و لشخص معين، القاءٌ في التهلكة، و لا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر و في حالٍ آخر، و كما يقول احد علماء التفسير بان هذا العنوان له مصاديق متعددة، فتارة يكون الالقاء في التهلكة متحققاً في ترك الانفاق، و تارة يتحقق في نفس الانفاق، و تارة يتحقق في ترك الجهاد، و تارة يتحقق في الدفاع، كما إنَّ الالقاء في التهلكة تارة يكون فردياً و اخري جماعياً و عاماً، فلابد من ملاحظة المفاسد و المصالح و المناسبات و الموارد، فقد يصدق الالقاء في بعض الموارد و لا يصدق في بعضها الآخر.

و في بعض الموارد، و حتي لو صدق العنوان، يكون تركه سبباً للابتلاء في التهلكة الدنيوية و الاخروية الاعظم و التي لا يمكن جبرانها.

و بعد بيان هذه الإجابات، ينبغي اضافة هذا التوضيح:

اولاً: إنَّ الحسين عليه السلام و هو صاحب مقام الامامة و العصمة، هو أعلم افراد الامّة بالاحكام الشرعية، و هو معصوم عن الخطأ و الاشتباه، و ما يصدر منه انما

ص: 331

يصدر موافقاً للأمر الالهي و امتثالاً للتكليف الشرعي.

و ثانياً: إنَّ بني اميّة، كانوا سيقتلون الإمام الحسين عليه السلام سواء خرج الي العراق أو بقي في مكة. و قد لاحظ الإمام عليه السلام كلَّ المصالح الموجودة في القضية، فخرج عن مكة صوناً لحرمة الحرم من الهتك، و كلُّ من تابع خطوات حركة الإمام الحسين عليه السلام و نهضته، سيعي تماماً أنَّ الحسين عليه السلام اراد أنَّ يوظف استشهادَه و مقتله و مظلوميته باكبر قدرٍ ممكن من اجل بقاء الإسلام و احياء الدين، فكان مراعياً لادقّ الدقائق و النكات لضمان نجاح هذا التوظيف.

و ثالثاً: إنَّ هدف الحسين عليه السلام من الثورة و الامتناع عن البيعة و الاستسلام و السكوت، و تحمل المصائب العظيمة، هو نجاة الدين، و لقد كان هذا الهدف مستحقاً لكل تلك التضحيات بوُلده و أصحابه و بنفسه الشريفة، و من ثمَّ اختار الشهادة و استقبل تلك البلايا و المصائب.

إنَّ الداعي الاوّل و الاخير لخروج الحسين عليه السلام هو امتثال الأمر الالهي و حفظ الدين و طلب الحق، و ابطال مشروعية حكم بني اميّة و افشال مخططاتهم و تفويت الفرصة عليهم لتحقيق اهدافهم المشئومة، و مقدمة الوصول الي هذه الاهداف هو عدم السكوت و الاستسلام، و الاستقامة و الثبات الي درجة الشهادة و تحمل كل تلك المصائب. و لقد كان هدف الحسين عليه السلام محبّباً لله و رسوله صلي الله عليه و آله و موافقاً للعقل و وجدان الإنسانيّة.

فمن المغالطة القول: بان قتل الإمام الحسين عليه السلام اذا كان مبغوضاً للّه، فكيف زجَّ الحسين عليه السلام نفسه الي القتل؟

إذ أنَّ الإمام عليه السلام لم يشأ أن يُقتل علي يد الآخرين، و لقد بقي يدافع عن نفسه الي آخر ساعة من حياته، و لكي يُتمَّ الحجَّة علي اعدائه، كان يعظهم و ينصحهم و

ص: 332

يجادلهم في فداحة قتله و سفك دمه، و لكن كانت الشهادة في سبيل اللّه، محبوبته التي تمنّاها، و التي اعتبرها من أعظم وسائل كمال القرب و الفلاح، و علي كلَّ مؤمن مسلم أن يتمني الشهادة و يشتاق اليها.

نعم، إنَّ قتل الإمام و أسر أهل بيته، مبغوض عند اللّه و من اكبر الجنايات و الكبائر، و لقد أوضح الإمام السجاد عليه السلام في خطبته في المدينة الطيبة بان قتل الحسين عليه السلام «كان ثلمةً عظيمةً» و انَّ نتائجها السلبية و مضارها علي العالم الاسلامي تفوق حدَّ التصور، و كان ينبغي علي اولئك الاشقياء ان لا يقدموا حتي علي التفكير في مثل تلك الجناية حتي لو قطعوهم ارباً ارباً، و لكن لم يكن لينبغي علي الحسين عليه السلام و لدفع هذه الثلمة العظيمة ان يستسلم لهم و يبايع يزيد، فان الضرر الناشي من هذا الاستسلام و السكوت و البيعة هو اكبر بمراتب، فالحسين عليه السلام يري أنَّ مصلحة حفظ الدين و الامتناع عن البيعة ليزيد، كبيرة عظيمة تستحق منه التضحية بنفسه و ولده و اعزته، و أن يفتدي احياء الإسلام و ابقاء كلمة التوحيد بكل ما يملك.

و بعبارة اخري كان الناس مكلفين بطاعة الإمام الحسين عليه السلام و نصرته و الدفاع عن وجوده المقدس و ترك التعرض لحرمته، و كان الحسين عليه السلام مكلفاً بالاستقامة و الثبات في طريق العقيدة و الهدف، و التضحية و تحمل المصائب لحفظ الإسلام. فاذا لم يمتثل الناس تكليفهم فهل علي الحسين عليه السلام أن لا يمتثل هو الآخر تكليفه و أن يستسلم للذُلِّ و الهوان و أن يتراجع و يترك الدين و القرآن و الشريعة في غربتها؟

اقرأوا قصة اصحاب الاخدود، اولئك الرجال و النساء المؤمنون الذين ذكر الحقُّ عزوجل في قرآنه صبرهم و بصيرتهم و امتدحها، طالعوها بدقة لتجدوا كيف

ص: 333

رجّحوا الاحتراق بالنار المؤجَّجة، علي الاحتراق بنار الكفر و الردَّة عن الايمان. و بذلك نجحوا في ذلك الامتحان و تخرَّجوا بدرجة المنزَّهين عن الغلِّ و الغش.

و عليه، فالثبات و الصبر في طريق العقيدة و الايمان و الدعوة الي اللّه و حفظ الدين و حماية الاهداف الإنسانيّة السامية ببصيرة و معرفة و قصد، شيءٌ، و القاء النفس الي التهكلة شيءٌ آخر، و انَّ الفداء و التضحية و نصر اللّه و الدين من العارف الملتفت العالم باحكامه، لَعزَّةٌ و فخرٌ يتمناها كلُّ مؤمن، و هو امرٌ خارج تخصُّصاً أو تخصيصاً عن الالقاء بالنفس الي التهلكة.

و من البديهي أنَّ دفع هذا الاشتباه في خصوص افعال النبي أو الإمام عليه السلام، لا يحتاج الي كل هذا البيان و التوضيح، فاننا قلنا مراراً: أنَّ فعل و قول و تقرير (سنة) الإمام عليه السلام يعدُّ من ادلة الاحكام الشرعية كما في سنة النبي صلي اللّه عليه و آله و ليس من شأننا أن نجتهد لتعيين وظيفة الإمام عليه السلام.

أجل، انَّ تتبّع هذا البحث مفيد من وجهة النظر الفقهية و الاستنباطية لتعيين تكليفنا نحن.

و علي اي حال، فانَّ في افعال و سيرة الانبياء و الائمة عليهم السلام اسرارٌ و حِكَمٌ لامتحان العباد و اتمام الحجَّة عليهم و تكميل النفوس واصلاح العباد و... الخ.

و التعرف علي تلك الحِكَم و المصالح يحتاج الي غور و تدقيق كبيرين في الآيات و الروايات و سيرة هؤلاء العظام، و مع ذلك فكل ما سنحصل عليه و نكتبه هو قليل من كثير و قطرة من بحر غزير.

ص: 334

لماذا سكت الإمام الحسن عليه السلام

دواعي سكوت الإمام الحسن عليه السلام

قد يتبادر الي اذهان بعض قرّاء الفصول السابقة من هذا الكتاب، تساؤل و استفهام عن اسباب عدم ثورة الإمام الحسن عليه السلام و دواعي صلحه مع معاوية، في الوقت الذي كان معاوية هو نفس معاوية، و إنَّ الإمام الحسن عليه السلام لم يكن اقلّ شجاعةً و معرفةً و حزماً و بأساً من أخيه الحسين عليه السلام، و ما كان فداءُ و تضحية و ايثار الحسين عليه السلام و صبره و تحمله و طلبه للحق و احياء الدين اكبر مما هو عند الإمام الحسن عليه السلام، فلماذا سلك الإمام الحسن عليه السلام طريق الحلم و الصبر و الهدنة، و اختار الحسين عليه السلام طريق الجهاد و الثورة و الشهادة؟

و المحققون و العلماء و المطّلعون علي احداث التاريخ الاسلامي و ان كانوا قد تناولوا هذه القضية(1) و شرحوا اسرار و مصالح صلح الإمام الحسن عليه السلام لكن و رغبة منّا في عدم إهمال هذا التساؤل بلا اجابة، سنبين بعض علل و حِكَم و دسرار هذا الصلح، موضحين الفرق بين عصر الإمام الحسن عليه السلام و عصر امام الحسين عليه السلام بحسب اجتهادنا العلمي و التاريخي و محيلين القاري العزيز الي تلك المصنفات للوقوف علي مزيدٍ من الإطلاع، فنقول:

1 - إنَّ طول أمد المعارك الداخلية و التي لم يسبق لها مثيل في تلك الفترة، و

ص: 335


1- كالعلامة الشيخ راضي آل يس، في كتابه «صلح الحسن عليه السلام».

كثرة القتلي و الجرحي و المتضررين من الحرب، كانت قد أضعفت الرغبة في الاستمرار في القتال عند الناس، إن لم نقل أنها قد أعدمتها تماماً، إلاّ عند بعض الافراد الذين لا يتجاور عددهم عدد الاصابع، كانوا قد قرأوا مستقبل الإسلام في ظل حكم بني اميّة و وقفوا علي الصورة القاتمة لهذا المستقبل، امثال قيس بن سعد من ذوي الايمان الكامل و البصيرة النافذة من تلامذة اهل البيت عليهم السلام، و أمّا سائر الناس، فقد كانت الحرب قد انهكت قواهم الروحية قبل الجسدية، و تلاعبت بهم الشبهات فسلبتهم روح الجهاد و القتال.

و كان أمير المؤمنين عليه السلام في اواخر حياته، كلما حثَّهُم و رغَّبهم بالجهاد، لم يَلقَ الآذان الصاغية و القلوب المطيعة و الحضور الفاعل، بل كان يواجَه بالتهرب و الخذلان، حتي شكاهُم مراراً و تكراراً.

و بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، ازدادت عزلة الناس عن الاحداث و تضاءلت استجابتهم لنداءات الجهاد، خاصة تلك العوائل المفجوعة باعزائها، فلقد بلغ عدد القتلي في حرب صفين علي ما نقل المسعودي(1) مائة و عشرة آلاف قتيل من الطرفين و عدد القتلي في النهروان اربعة آلاف قتيل(2) و طبقا لما نقله اليعقوبي فان قتلي حرب الجمل و هي اولي الحروب التي خاصتها أمير المؤمنين عليه السلام، كان قد بلغ اكثر من ثلاثين الف قتيل.(3) إنَّ كثرة عدد القتلي في هذه الحروب الداخلية شوّه صورة الجهاد و دعي أهل الدّعة و هم الاكثرية الي الهروب من القتال و لذا عندما صمّم الامام الحسن علي9.

ص: 336


1- مروج الذهب ج 2 ص 274.
2- مروج الذهب ج 2.
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 159.

القتال و حثّ الناس علي الجهاد و أرسل جيشاً الي الحدود و الثّغور و خرج بنفسه بعد أن استخلف عن الكوفة ابن عمه المغيرة ابن نوفل ابن الحارث ابن عبد المطلب تخلّف عنهم خلق كثير و لم يخرجوا معه بعد أن كانوا قد وعدوه بالقتال ضدّ عدوّه فغرّوه كما غرّوا أباه من قبل و بقي معسكراً بالنّخيلة عشرة أيام و ليس معه الا أربعة آلاف و رجع الي الكوفة يستنفر الناس و خطب فيهم يقول: قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي.(1)

2 - و عندما اتضح للامام الحسن عليه السلام ضعف الروح الجهادية عند الناس، و انهم أسلموه لمصيره وحيداً، اتمَّ الحجَّة عليهم و خطب فيهم خطبة بليغة تناول فيها فلسفة الحرب و الصلح و طلب منهم إبداء رأيهم، فما سمع منهم إلاّ كلمات الخذلان و التهاون، فكانوا يصيحون «البُقيا البُقيا يابن رسول اللّه»

3 - و طائفة من الناس، كانوا يَرونَ في استمرار القتال، اضعافاً لقوة المسلمين العسكرية، و استنفاذاً للذخائر القتالية، عدَّةً و عَدداً، مما يؤدي الي زيادة اطماع الكفار بالهجوم علي بلاد المسلمين و احتمال التمرُّد في الولايات الحديثة العهد بالاسلام، و انقلابها علي الحكم المركزي.

و لا شك، أنَّ هذا الاحتمال وجيهٌ فمن الطبيعي أن الحروب الداخلية تسبب ضعف القوي الاسلامية، مما يعجز ايَّ طرف غالب فيها، عن مواجهة الاخطار المحدقة بالدولة الاسلامية، و من الواضح أنّ معاوية الذي ارتكب كل تلك الجرائم، و خرج علي خليفة المسلمين المنتخب و قتل خيرة صحابة النبي صلي الله عليه و آله للاستيلاء علي الخلافة، و لم يكن لتهمُّه مصالح المسلمين و مصير الامة كي يتراجع عن القتال. فانه2.

ص: 337


1- الشيعة و الحاكمون ص 62.

خطط لسنوات عديدة و ارتكب فضائع الجرائم ليتسلط علي رقاب المسلمين، فكيف يُنتظر منه الخضوع للحق؟ و لو كان معاوية يحمل ذرَّة من الغيرة علي الدين و يهتم لعزّة الإسلام و المسلمين، لما خالف حكم أمير المؤمنين و اشعل نار الفتنة.

و لم يكن إلاّ الإمام الحسن عليه السلام الذي يري لزاماً علي نفسه الحفاظ علي المصالح العامة للاُمَّة و أنْ يتخلّي ظاهرياً عن حقه حِقناً لدماء المسلمين و حفظاً للدين، فصالح معاوية و تحمل تلك الشدائد و الملامة في سبيل اللّه، كما فعل ابوه عليُّ بن ابي طالب عليه السلام في زمن ابي بكر و عمر و عثمان.

4 - و طائفةٌ من المسلمين لم يتوقعوا أنَّ مكائد معاوية و مظالم بني اميّة و الاضرار التي ستلحق بالامة الاسلامية بسببهم، ستصل الي هذا المستوي من الفداحة، فعلي الرغم من معرفتهم بأن بني اميّة ليسوا كبني هاشم في حرصهم علي الإسلام و المسلمين و في معتقداتهم الروحية و النفسية و الخلقية، لكنهم لم يكونوا يظنون أن أساليبهم ستختلف كثيراً عن اساليب الحكم و نهجه زمن ابي بكر و عمر و حتي لو اختلفت و لم يكن معاوية كالخليفة الاول و الثاني في تظاهرهما بالاسلام، لكنهم لم يتوقعوا أن يبلغ التفاوت الي درجة الولوغ في دماء الصحابة و الابرياء من المسلمين، و انه سيشعل حرباً داخلية تجزي العالم الاسلامي و تضعفه الي هذا الحدّ.

و لقد أخطأ هؤلاء، اذ أنَّ بني اميّة كانوا يتحينون الفُرص لهدم اسس الإسلام و اعادة الجاهلية و سلب الحقوق و استعباد الناس.

و لم يظن هؤلاء أن حكم بني اميّة سيبتعد جداً حتي عن صورة حكم عمرٍ و أبي بكر، و انهم سيغيِّرون ظواهر المجتمع و عاداته و أن الخلافة ستتحول الي ملكية موروثة، ففي بداية الامر كان الخليفة مضطراً الي رعاية ظواهر الشرع، و كان المسلمون قريبين من عصر النبي صلي الله عليه و آله و يتذكرون منهج حكومته الالهية، خاصة مع

ص: 338

وجود كبار الصحابة الذين اعتادوا علي رعاية مظاهر الورع و الابتعاد عن مظاهر الملكية و البذخ و التجملات الزائدة الي درجة الاسراف، فلم تكن الارضية ممهدة لاستعجال ارجاع الجاهلية و تشكيل حكومة مستبدة، و التفرد بالسلطة و... الخ.

اما في زمن معاوية، فقد تغير مزاج المجتمع، و عاش الناس المظالم و الانحراف خاصة زمن عثمان، و تغلغل المتملّقون و الانتفاعيون و الانتهازيون الي مرافي السلطة و الحكم، و لم تَعُد الكفاءةُ و التقوي و الزهد و الايمان شرطاً في التصدي لادارة أجهزة الدولة، و لم يكن القصد من قبول المناصب، أداء التكليف و امتثاله و لا خدمة الإسلام و المسلمين.

إنَّ هذه الامور كانت خافية علي عامة المسلمين تقريباً، و لذلك رفضوا الاستمرار في الحرب و قتال معاوية و اراقة الدماء، بل إنّ بعضهم كان يعتبر ذلك خطراً علي مستقبل الامّة!

5 - إنَّ ملامح الصورة القائمة في ذلك الوقت، كانت توحي الي غلبة معاوية في الحرب، و انّ جيش الإمام الحسن عليه السلام سيواجه الهزيمة - و لو ظاهراً - و حينئذٍ، سيتضرر شيعةُ اهل البيت عليهم السلام اكثر من غيرهم، و ستعلو صيحات الاعتراض علي الإمام عليه السلام لعدم استجابته لاقتراح الصلح من قبل معاوية، خاصة و إنَّ الاكثرية كانت مؤيدة للصلح، و بعبارة اخري: كان هؤلاء سيتهمون الإمام الحسن بالتسبب في جرأة معاوية علي التجاسر علي المقدسات و تنفيذ مخططاته المشئومة، و لولا ذلك لاضطر الي احترام مقررات الصلح التي ستُملي عليه و الالتزام بما تعهد به من الوفاء بالشروط و العهود.

و امّا في زمن الإمام الحسين عليه السلام فلم يكن احدٌ يحتمل ادني إحتمال انَّ بني اميّة و خاصة يزيد الفسق و الفجور، سيفون بالعهد و المواثيق، و التزام شروط الصلح.

ص: 339

فالكلُّ علي ثقةٍ تامة من غدر يزيد و خيانته و نكثه للعهد و المواثيق و قتله الابرياء و إغتياله الصلحاء بلا تحرّج و حياء، و الكلُّ علي ثقةٍ من وجوب الثورة ضدّهم و اسقاط حكمهم.

اذن، كما كانت ثورة الحسين عليه السلام منبثقة من الحرص علي الإسلام و كانت نافعة و مثمرة في تحقيق هذا الهدف، فكذلك ما قام به الإمام الحسن عليه السلام صار باعثاً لبقاء الدين و حفظ مصالح المسلمين و كشف الاقنعة المزيفة لمعاوية و بني أميَّة، و لو أنَّ الإمام الحسن عليه السلام كان قد استمر بانصاره القلائل، في محاربة معاوية و في تلك الظروف المعروفة، لقُتلَ و لم تُثمر ثورته و حربهُ ايَّ ثمرة و لم تغد ايَّ فائدة، و لذهب دمُه هدراً، و فُسح المجال لبني اميّة اكثر فاكثر في محو الإسلام و اعادة الجاهلية.

6 - إنَّ قادة الدين و أولياء اللّه كعليّ و الحسن و الحسين عليهم السلام يسلكون طريق الحقيقة و الامانة في حروبهم و صلحهم، و حبِّهم و عداوتهم، و لا يتوسلون بالخدع و الالاعيب السياسية، و المكر و الحيلة و اغواء الناس، لنيل مقاصدهم و تحقيق أهدافهم، و أما ابطال السياسة الباطلة و طلاّب السلطة فانهم يلتمسون كل الوسائل لكسب الأنصار و تعبئة الناس، حتي الاحتيال و الخداع و التضليل و الخيانة، فيبذلون الاموال و الرُشا و يَعِدُون بالمناصب و الوزارات، و يشترون الذمم الرخيصة و يبتاعون دين و ضمائر عبدة الهوي و عشاق الدنيا و لذائذها لنيل مآربهم و تحقيق نواياهم.

و قادة الاديان، يجتذبون الناس عن طريق الدعوة الي الحق و الحقيقة و الفضيلة و الايمان، و اما السياسيون المخادعون فانهم يدوسون باقدامهم علي الحقيقة و يزيِّفون الحقائق و يسخّرون بيت مال المسلمين لاغراضهم الشخصية، و يشترون الاصوات المساندة و يهبون الحقائب الادارية لمن يعينهم علي باطلهم، اذ ليس في

ص: 340

قاموسهم معني لمفهوم العدالة و الكفاءة و مراعاة مصالح المسلمين و الاصلاح و التقوي و اجتناب الظلم و الشرور.

و اذا رجعنا الي تاريخ الإسلام، و طالعنا الوضع الروحي للمجتمع زمن خلافة الإمام الحسن عليه السلام و ايام تمرّد معاوية عليه لوجدنا قلَّة انصار الإمام الحسن عليه السلام إن لم نقل بانعدامهم، و كان اكثر المحيطين به من قادة جيشه و جُنده، مهزوزين لا يمكن الثقة بهم، و كان المجتمع يغوص في انحطاطة الخلقي بسبب القيادات الضعيفة و التربية الخاطئة.

فلم يكن أدعياء خلافة النبي صلي الله عليه و آله سائرين علي نهج النبي صلي الله عليه و آله في تربية النفوس و صقل الارواح و تهذيب الناس و حثّهم علي الزهد في الدنيا. مضافاً الي انهم و منذ البداية سلكوا طريق هتك النفوس و الاعراض، و السعي الي محو الروح الرسالية، فعزلوا الصلحاء عن الادارة، و ولَّوا الاشرار التابعين لهم، و مسخوا شخصية المسلم الذي كان في زمن النبي صلي الله عليه و آله يعتزُّ بهمَّته العالية و زهده في الدنيا، و تضحيته رغبة في الثواب و القرب الالهي و اعلاء كلمة الإسلام الي شخصية سطحية هامشية منكبَّة علي زخارف الدنيا و لهوها، مستكينةٍ للراحة و الدعةِ، متلهِّفة علي جمع الثروة و المال.

و لقد استفاد معاوية من هذا الخلاء الروحي و الاخلاقي، و عرف أنَّ الوقت المناسب لتشكيل حكومته المحققة لاهدافه قد حان، إذْ أنَّ شراء الذمم و الضمائر و الدين بالرُشا و الوعود بالمناصب و الولايات كان قد شاع في المجتمع، فنفذ معاوية من هذه الثغرة، فاستأجر أمثال عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة لاثارة الهَرَجَ و المَرَج متأمراً علي المجتبي عليه السلام و قد نجح في تمزيق جيش الإمام عليه السلام باستقطاب بعض قادة الجيش بعد أن منّاهم و رَشاهم، و وصل الأمر الي ان احد اكبر قادة جيش

ص: 341

الإمام قد التحق بمعاوية طمعاً بحطام الدنيا.

و قد كان معاوية قد وَعَد عمروبن حريث، الاشعث بن قيس، حجّار بن ابجر و شبث بن ربعي بمائة الف درهم و الزواج من احدي بناته، اذ ما قتلوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام و أن يستأمرهم في جيشه(1) و اتهم بعض اصحاب الإمام عليه السلام بأخذ الرشا، و غير ذلك من حيلة و اللاعيبة الماكرة التي استغفل بها السذَّج من الناس.

و لذا، فان اكثر افراد جيش الإمام عليه السلام و الذين كانوا من الجيل اللاحق للجيل المعاصر لرسول اللّه صلي الله عليه و آله و لم يتلقوا تربية اخلاقية صحيحة، لم يتمكنوا من مقاومة الاغراءات، فباع الكثير من قادتهم نفسه و دينه لمعاوية، و من الواضح أنَّ القتال بمثل هذا الجيش الذي لا يأنف عن بيع ذمَّته و دينه بحفنة دراهم و وعود كاذبة، لن يؤدي إلاّ الي الهزيمة و اراقة الدماء، و إن الاستعانة بمثل هذا الجيش امرٌ عارٍ عن الحكمة و العقل، كما إنَّ شراء الذمم بالمال و الوعود و إغراءهم بالمناصب و الحقائب الادارية، ليس من شيم آل علي لان ذلك يجرُّ الي ترويج الظلم و فسح المجال للخائنين و الظالمين لاشاعة الفساد.

و في مثل هذا الحال، لو لم يصالح الإمام الحسن عليه السلام، فمضافاً الي هزيمة هذا الجيش المهزور الضعيف، كان احتمال اغتيال الإمام عليه السلام علي يد الخونة و العملاء أمثال الاشعث بن قيس الذي كان و منذ زمن خلافة علي عليه السلام يمدُّ جسور الارتباط مع معاوية و يتأمر معه ضد أهل البيت عليهم السلام و ضد الإسلام، احتمالاً قوياً، بل و كان من المحتمل أن يلقي القبض علي الإمام عليه السلام و يُسلّم مكتوفاً الي معاوية،2.

ص: 342


1- الشيعة و الحاكمون ص 63-62.

ليغتنم معاوية الفرصة للانتقاص منه و من ثمَّ اطلاق سراحه متظاهراً بالحلم و العفو، مانّا علي أهل بيت النبي و بني هاشم، لتحطيم شخصية الإمام الحسن عليه السلام و محبوبيته في النفوس و هيبته و جلالته و مقامه في المجتمع و من ثمَّ تصفيته جسدياً.

و من الطبيعي، فان الضربة التي ستُوجه نتيجة لذلك الي اهل الحق ستكون قاصمة موجعة، و سيمنع ذلك من تمهيد الارضية لثورة الإمام الحسين عليه السلام.

7 - إنَّ الإمام الحسن عليه السلام لو كان قد بَقي حيّاً بعد هلاك معاوية، لكان قد ثار كما ثار الإمام الحسين عليه السلام إذا فُرض تحقق نفس الظرف، و لأمتنع عن بيعة يزيد كما إمتنع الحسين عليه السلام، بل لو كان الحسن عليه السلام حيّا و شهد إستخلاف معاوية ليزيد، لثار ضد معاوية و ما تسنّي ذلك لمعاوية، و لذا و كما ورد في المصادر التاريخية أن معاوية عندما جاء الي المدينة و استشار العبادِلة في ولاية عهد يزيد، تيقن أنَّ هذا الأمر مستحيل مع وجود الإمام الحسن عليه السلام و من ثمَّ اخفي معاوية ذلك العهد و الاستخلاف الي ان قتل الإمام عليه السلام بدسّ السُّم اليه، و بعد ذلك أعلن للناس استخلافه ليزيد و اخذ البيعة منهم بالقوة و الاكراه.

8 - روي ابن شهر آشوب إن أهل القبلة قد أجمعوا علي أن النبي صلي الله عليه و آله قال:

«الحسن و الحسين امامان قاما أو قعدا»(1).

و هذا الحديث دال علي سلامة و شرعية كلِّ عمل يصدر من الامامين عليهما السلام باعتبارهما إمامين تجب إطاعتهما، و إنَّ ما يقومان به إنما هو امتثال للتكليف الالهي الخاص بهما لاقتضاء المصلحة ذلك، و انهما في حربهما و صلحهما و ثورتهما و سكوتهما و سائر أحوالهما ماموران بالامر الالهي، و إنَّ كلاً منهما في عصره حامٍ4.

ص: 343


1- المناقب ج 3 ص 394.

للدين و الشريعة و امامٌ للناس و سفينة نجاتهم.

إنَّ الإمام الحسن عليه السلام قام بما قام به جدُّه رسول اللّه صلي الله عليه و آله أيام وجوده في مكة، و قام به أبوه أمير المؤمنين عليه السلام ايام حكومة ابي بكر و عمر و عثمان، و إنَّ الإمام الحسين عليه السلام قام بما قام به جدُّه رسول اللّه ايّام وجوده في المدينة المنورة و ما قام به أبوه عليه السلام في السنوات الخمس التي جاهد فيها الناكثين و القاسطين و المارقين.

و في الرواية، أن جابر بن عبد اللّه الانصاري، اقترح علي الحسين ان يهادن كما هادن أخوه الإمام الحسن عليه السلام، فاخبره الحسين عليه السلام أنَّ الحسن عليه السلام صالح بامر اللّه و رسوله، و انه أيضاً يقوم بامر اللّه و رسوله صلي اللّه عليه و آله(1).9.

ص: 344


1- المجالس الحسينية ص 19.

البحث الرابع: نتائج الثورة الحسينيّة

اشارة

ص: 345

ص: 346

نتائج الثورة الحسينية

اشارة

كل حركة و نهضة تهدف تشكيل مؤسسة جديدة و تبديل نظام بنظام أو إيجاد أصلاحات روحية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو أي هدف أخر، سيكون لها تأثير خاص في الفكر الاجتماعي العام و حتي في حياة الناس الميدانية، و سواء كانت تلك الحركات تحريرية إصلاحية حقَّة، أو كانت ضيقة محدودة بحدود المنافع و كسب الامتيازات الشخصية و المادّية و الطموحات السياسية.

و طبيعيٌ أنّ نجاح و انتصار حركة سياسية تهدف الي نيل المكاسب الدنيوية السلطوية الضيقة، إنما يكون بقهر الخصم و ابعاده عن مراكز القرار، و بالسيطرة علي المقام المقصود، و إلاّ كانت تلك الحركة فاشلة مندحرة. و في حالة الفوز و الغلبة يكون انتصاره محدوداً بحدود الفردية، و بتلك البرهة الزمنية التي يتزعم بها ذلك المنصب و المقام.

و أمّا نجاح و ظفر المصلحين الحقيقيين، و الثائرين من أجل الحق و المثل و المصالح العُليا، فهو في اقرار الحق و تحكيمه، و تأمين العدالة الاجتماعية و محو الظلم و الفساد، و إستبدال الفوضي بالنظام، و التمرد علي القوانين بتطبيقها.

و هؤلاء المصلحون و حتي لو خسروا المعركة ماديّاً و فشلوا في ابعاد الخصم و إزالته، و حتي لو كلفهم قيامُهم بذلَ أنفسهم في سبيل الحق، لا يُفشلون روحياً، و سيكون لاقدامهم أثرٌ في جذب النفوس السليمة الي أهدافهم، و القلوب الي

ص: 347

مبادئهم.

فتضحياتهم و فداؤهم و علوُّ همتهم يبعث الانظار الي الاتجاه صوبهم و الي الخير و الصلاح و طلب الحق و العدالة، فيصيرون أسوة و مثالاً يُحتذي به في مستقبل الاجيال، و يتسببون في إعلاء كلمة الحق و تضعيف و إزهاق كلمة الباطل و اهله.

و لأن هؤلاء ينتفضون من أجل الحق و المصالح العليا للمجتمع و نجاة البشرية، فانهم لن ينكسروا و لن يُهزموا أبداً في معركتهم التي بداوها و حتي لو لم يتحقق لهم النصر الآني، فانهم هم المنتصرون حقيقةً، لان قيامهم للحق، و الحقُّ باقٍ و ثابت و خالد، فتخلُد حركاتهم بخلوده، بخلاف المنتفضين من اجل المنافع و المصالح الخاصة الضيقة، فانَّ أعمارهم القصيرة اذا انتهت انتهت معها تلك الانتصارات المحدودة.

فظفر المصلحين الحقيقيين، دائميٌ خالد، و غلبة الدنيويين عمرها قصير مؤجل.

إذن، فمن الناحية النفسانية و من الناحية التاريخية أيضاً، لا يمكن انكار حقيقة أن نتائج و آثار الحركات الاصلاحية و التحررية، هي آثار ايجابية خالدة، و كذلك كانت تأثيرات ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في الامَّة بل المجتمع العالمي، و إنَّ ما قام به كان منسجماً و محققاً لاهدافه، و إنه ليس فقط لم يخسر المعركة بل إنه حقّق مكاسب عظيمة و كثيرة لا يُحصيها إلاّ اللّه تعالي، كما أنَّ الثابت في مواجهات الحق ضدَّ الباطل، إنَّ الناس يرون أنّ أهل الحق هم المنتصرون، و انهم يتمنّون ان يكونوا في جملة طلاّبة و في سجلِّهم.

و منذ حادثة كربلاء الاليمة، لم نعهد أحداً تمنّي ان يكون من أنصار شمرٍ و

ص: 348

حرملة و ابن زياد، أو أنه قبِل بفعالهم و لم يشمئز من ذكرهم.

و في المقابل، تجد ملايين الناس تمنّوا أنْ يكونوا ممن قاتل في صف الحسين عليه السلام و انصاره.

و بامكاننا و بمقايسة بسيطة و بضرب مثلٍ واحدٌ أن نُثبت أنَّ المنتصر في عاشوراء هو الحسين عليه السلام و أنَّ الخاسر هو يزيد و حزبُه.

و التاريخ يحدثنا أن رجلين جاءا معاً لقتال الحسين عليه السلام و كلاهما من بلد واحد و لهما سوابق و شهرة قتالية، احدُهما تخلّي في وسط الطريق عن كل امتيازاته و القابه و مناصبه و الجوائز و الهبات التي كانت بانتظاره، و أدار ظهره للدنيا و زخارفهاو زبارجها، و باع نفسه لله. و الثاني ازداد في تعلقه بالدنيا، و بقي علي عدائه لاهل البيت عليهم السلام و استمات في الدفاع عن ظلم بني اميّة و باطلهم و قساوتهم، اسمُ الاول هو الحرُّ بن يزيد الرياحي و اسم الثاني هو شمر بن ذي الجوشن.

فالحرُّ كان قد إنخرط في صفوف بني اميّة و جاء لحرب الحسين طمعاً بالجائزة و إمرة الجيش و الارتقاء في المراتب العسكرية، و لو فُرض انه بقي علي اصراره لعدة ساعات أُخَر و لم يتخلَّ عن عمر بن سعد، و ارتكب افعال حرملة و شمر و سنان، لما حصل من ذلك إلاّ علي لعنة التاريخ و الملائكة و الناس أجمعين كشمرٍ و حرملة و من لف لفهم. و لكنَّه، كان معهم بجسمه فقط، و امّا روحه فلم تكن من سنخ أرواحهم، و هذه الروح العالية هي التي جعلته من اصحاب الحسين عليه السلام، فلقد أدبر عن الدنيا و المنافع المادية و اهتزَّ هزَّة عَرَجت به من الدنيا الي الآخرة و من الظلمة الي النور و من الباطل الي الحق و من الكفر الي الإسلام، فاوصل نفسه الي السعادة الابدية، و اجبر التاريخ علي تسجيل إسمه في الخالدين امثال زهير و حبيب و مسلم بن عوسجة و رفاقهم.

ص: 349

و لو كان الحرُّ قد أصرَّ علي حرب الحسين عليه السلام كما أصرّ الشمر و غيره، لما حصل إلاّ علي دراهم و حطام ينتهي و يفني بموته أو قبل موته، و لكنك اليوم اذا سألت عن المنتصر، هل هو الحرُّ أم الشمر؟ لقيل لك بلا تأمل: إنه الحرّ، انتصر و نال العزّ و الفخر، و أمّا الشمر فهو الخاسر المبتلي بالذلّ و العار و الشنار و اللعنة الابدية.

و قس علي ذلك سائر اصحاب الحسين عليه السلام بمقارتنتهم بقادة جيش الكوفة، فستجد أنَّ المنتصر هم أصحاب الحسين عليه السلام و أنَّ الخاسر هم أهلُ الكوفة الذين لازالت اللعنة تلاحقهم أبداً.

فاين مسلم بن عوسجة و أين شبث بن ربعي؟ و أين حبيب بن مظاهر و أين عمرو بن الحجّاج؟ و ابن عمرو بن قرظة الانصاري و أين أخوه الذي كان في جيش ابن سعد؟ انها مقايسة الخلد بالفناء و النور بالظلمة و الطُهر بالرّجس.

فاسم حبيب و مسلم و عمرو بن قرظة و سائر أصحاب الحسين عليه السلام هي أسماء حبيبة الي القلوب، و أمَّا اسماء اولئك الملعونين فهي في عداد أسماء أبي جهل و اميّة و الكفار و الاشقياء.

فلا شك إذن، في تحقق نتائج تضحيات أولياء اللّه و لا في ظفرهم و موفقيتهم، و هذا حكمٌ فطري و عقليّ و شرعي مسلَّم، لا يمكن إنكاره بحال من الاحوال، و بذلك نال هؤلاء الفوز في الدنيا و الآخرة:

«إنَّ اللّه لا يضيعُ أجرَ المحسنين»(1)

و نحن و ان كنّا قد أشرنا الي بعض نتائج الثورة الحسينية، و لكن، و لكي يتَّسق هذا البحث مع هيكلية هذا الكتاب، نذكر بعض نتائج الثورة محاولين0.

ص: 350


1- سورة التوبة، الآية 120.

بقدرإستطاعتنا و قصورنا، اكمال البحث، و لانه يرتبط بالمطالب السابقة، فنعتذر مسبقاً عن التكرار في بعض الموارد:

1 - التقرّب و الارتقاء

إنَّ من أهم نتائج ثورة الحسين عليه السلام هو ثمرة القرب و ارتقاء الدرجة العالية التي نالها الحسين عليه السلام عند اللّه عزوجل.

فقد ورد في الأحاديث و الاخبار، أنَّ تضحيات و فداء الحسين عليه السلام و تحمّله للرزايا و المصائب في سبيل اللّه و احياء دينه، كان لها بركات و ثمرات كثيرة يعجز القلم و اللسان عن بيانها و تعدادها، و نفضِّل ان يتتبَّعها القاري العزيز في كتب الحديث و المقاتل ككتاب العوالم، البحار، نفس المهموم و غيرها من الكتب المدونة في عدة لغات، ليقف علي تلك الاخبار التي تتضمن فضيلة الثورة و بركاتها و الثواب الجزيل الذي يناله الحسينيون و زوّار الحسين عليه السلام و الباكون في مصيبته و انشاد الشعر في رثائه، و حتي استذكارَ عطشه و عطشَ عياله و أطفاله و أصحابه حين شُرْب الماء، و كلَّ ذلك الثواب هو من بركات الثورة الحسينية و للتبرك و التيمن نذكر واحداً من تلك الاحاديث:

روي الشيخ الصدوق باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان النبي صلي الله عليه و آله في بيت ام سلمه فقال لها: لا يدخل عليّ أحد. فجاء الحسين عليه السلام و هو طفل فما ملكت معه شيئا حتي دخل علي النبي صلي الله عليه و آله فدخلت ام سلمه علي اثره فاذا الحسين عليه السلام علي صدره و اذا النبي صلي الله عليه و آله يبكي و اذا في يده شيء يقلبه و قال النبي صلي الله عليه و آله يا امِّ سلمه إنَّ هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول و هذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك فاذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت ام سلمه يا رسول اللّه سل اللّه أن يدفع ذلك عنه

ص: 351

قال قد فعلت فأوحي اللّه تعالي أنّ له درجةً لا ينالها احد من المخلوقين و أ «له شيعةً يشفعون فيشفعون و أن المهدي عليه السلام من ولده فطوبي لمن كان من أولياء الحسين عليه السلام و شيعته هم و اللّه الفائزون يوم القيامة. (1)

2 - نجاة الإسلام

و من أهم نتائج الثورة الحسينية، إنقاذ الإسلام من مخالب مخططات بني اميّة(2).

و لكي نقف علي إنَّ حفظ بقاء الإسلام و الشريعة و استمراريتها و تكريم القرآن الكريم، مرهونٌ بتضحيات الحسين عليه السلام لابدَّ من تذكّر المخاطر التي كانت تهدد الإسلام من جهة بني اميّة، و من خلال مطالعة سيرة هذه العائلة و الشجرة الخبيثة.

فكلُّ من طالع تأريخ الإسلام متتبعاً مخططات بني اميّة في الجاهلية و الإسلام، سيُذعن بأنَّ الإسلام كان في طريقة الي الزوال و الطمس و الاضمحلال بفعل بني اميّة.

ص: 352


1- نفس المهموم ص 24 حديث 24.
2- قد يقول قائل ان بني اميّة اقلّ قدراً من محو الإسلام، لقوله تعالي: «انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون» و قوله تعالي: «يأبي اللّه الاّ ان يُتم نوره و لو كره الكافرون» فكيف يدَّعي ان الدين كان في معرض الزوال و ان الحسين عليه السلام هو الذي حفظه؟ و الجواب: ان اللّه سبحانه و تعالي أبي أن تجري الامور إلاّ باسبابها و الحسين عليه السلام من تلك الاسباب لاجراء مشيئة الحق جلّ و علا، كما كان النبي صلي الله عليه و آله باني اساس التوحيد بامر اللّه و مؤسس الدولة الاسلامية و هكذا فان علي بن ابي طالب عليه السلام هو حافظ الدين و المدافع عنه و الذاب عن حريمه، و لو لم يكن سيف علي عليه السلام لما كان هذا الدين قائماً، و كذلك الحسين عليه السلام بمظلوميته و فدائه حمي هذا الدين فكلهم اسباب لاجراء المشيئة الربانية لحفظ الدين.

فمنذ بداية البعثة النبوية الي حين اجتماع دار الندوة(1) و هجرة النبي صلي الله عليه و آله، و مروراً بحرب أُحد و غزوة الاحزاب و فَتح مكة، تجد أنَّ لبني اميّة دوراً فاعلاً في ايجاد المخاطر المحدقة بحياة النبي صلي الله عليه و آله، و رسالة التوحيد و دين الإسلام، سواءٌ بشكل مباشر أو بواسطة، و لقد كانت دارٌ أبي سفيان مركز قيادة العمليات التخريبية السياسية و العسكرية ضد الدعوة و الإسلام.

و لقد كان أبوسفيان و زوجته هند و اخته حمالة الحطب، و اولاده حنظلة و يزيد و معاوية، و ابو زوجته عتبة و عمَّ زوجته شيبه، و اخو زوجته الوليد، و ابنُ عمِّه الحكم و مروان و باقي افراد هذه العائلة الملعونة، ليس لهم همُّ في الجاهلية و في عصر الإسلام إلاّ ايجاد المخاطر لدين اللّه، و إنَّ حقدَهم الجاهلي الدَّفين لم يخرج من صدورهم أبداً حتي بعد الإسلام.

فالنبي الاكرم صلي الله عليه و آله كان يعرف أخطار بني اميّة علي الإسلام و الدين، من خلال معاشرته لهم أيّام حياته و إبّان دعوته الناس الي الإسلام، مضافاً الي ما كان يُوحي اليه من السماء بمخاطر هذه الشجرة الملعونة و عواقب امورها و هو ما كان يُخبر به مراراً و تكراراً كما إنّ اللّه عزوجل قد أخبر في كتابه الكريم بخطر هؤلاء عندما وصفهم بالشجرة الملعونة.).

ص: 353


1- و خلاصة القصة: إنَّ قريشاً اجتمعت في دار قصي بن كلاب و هو محل المشورة و اتخاذالقرارات السياسية المهمة و يسمي بدار الندوة، و قرروا تصفية النبي صلي الله عليه و آله حسدياً للتخلص من الإسلام الي الابد، فاخبر اللّه عزوجل نبيه بذلك و امره بالهجرة الي يثرب و ترك علي عليه السلام ليبيت تلك الليلة في فراشه فاديا له بنفسه، و لذلك مكر اللّه و اللّه خير الماكرين. و دُفع شرُّ المشركين عن النبي صلي الله عليه و آله و كان ابو سفيان و عتبة و شيبة من جملة المتآمرين في دار الندوة علي النبي صلي الله عليه و آله (سيرة ابن هشام ج 2 ص 93).

و لقد أفشَل النبيُّ صلي الله عليه و آله بعون اللّه و لطفه، كلَّ دسائس هؤلاء و تجييشهم الجيوش و تخزيبهم الاحزاب لدفن الإسلام، و لم تمرّ إلاّ ايام قلائل حتي تهدمت كل قلاع الكفر و الشرك و انتصر جند اللّه علي قوي الشرِّ و الضَلال، و تلاحقت الفتوحات الاسلامية، فتيقنَ بنو اميّة بضعفهم و عجزهم عن مواجهة الإسلام وجهاً لوجه، و عرفوا أنَّ حمل راية الشرك لم تَعُد نافعة و لا ناجعة، و أنَّ عهد الوثنية قد ولّي و أنَّ الدعوة الي التوحيد و الاخوّة و المساواة قد شَغفت العالمَ بحبِّ النبي الاكرم صلي الله عليه و آله، و انه يستحيل عكفُ القلوب من التوحيد الي الشرك و من الاخوة و العدالة و المساواة و الحرية الي التسلط القبلي و الفئوي و الفردي، فلم يجدوا سبيلاً للنيل من الإسلام إلاّ ارتداء عباءة النفاق و التظاهر بالاسلام.

فلم يَعُد للدعوة الي الشرك و مواجهة النبي صلي الله عليه و آله اذنٌ صاغية اذ كان الناس قد ذاقوا حلاوة دعوة التوحيد فلم يعدُ بالامكان استبدالها بعلقم الكفر و التمايز الطبقي، و لم يعد بالإمكان استبدال الآمال الرائعة للايمان، بكوابيس عصر الجاهلية الموحشة.

فالقائدُ الرَّبانيّ، متواضعٌ، حرُّ شريف، رؤوفٌ عطوف، بسيط في عيشه، يواسي ابسط الرعية، و القوانين السماوية للدين الجديد، تطبَّق علي الجميع بلا استثناء، و النبيُّ الاعظم يجالس الفقراء و المساكين و يُصاحبهم، و كانت اخلاقه الرفيعة قد اجتذبت القلوب اليه و الي كتابه السماوي، و أنْساهُمُ اللات و العزّي و مناة الثالثة الاخري، و أنساهم أبا سفيان و ملأ قريش.

لقد وعي بنو اميّة هذه الحقيقة جيداً، و عرف أبو سفيان و بطانته أنَّ فكرهم و مبادئهم قد قُضيَ عليها الي الابد، و أنَّ الفكر التوحيدي قد غزاهُم في عُقْر دارهم، فَلم يشأ أبو سفيان تضييع الوقت لئلا يتأخّر عن قافلة رفاقه الذين سبقوه في

ص: 354

الوصول الي هذه الحقيقة بثمانية أعوام، و لذا اظهر اسلامه مكرها مضطرّاً.

و ما أن وضع أول قدمٍ له في هذا العالم الجديد، حتي بدأ يَحيك المؤامرات و الدسائس، و يُشعل الفتن و يحاول إحباط العزائم و الهمم، مُتحيناً الفرصة لطعن الإسلام من الخلف، و قلع جذور شجرة التوحيد الغضَّة.

و ما أسرع ما فُجعَ العالمُ الاسلامي برحيل النبيّ الاعظم محمد صلي الله عليه و آله، و اظلّت المجتمع غمامَة تشنّجٍ فكري كاد معها البعض ان يرتدّ، و اختلف القوم في الخلافة، و أُقصي بنو هاشم الذين كانوا يرون في علي عليه السلام الخليفة المنصوص عليه و المعيَّن من قبل النبي صلي اللّه عليه و آله، و استولي آخرون علي سدة الحكم.

و هنا حاول ابو سفيان التصيُّد في الماء العكر، سعياً في إشعال الفتنة و القضاء علي الإسلام و اعادة الجاهلية الي الجزيرة العربية.

و لو أنَّ ابا سفيان كان قد نجح في ذلك اليوم في اثارة الفتنة و الحرب الداخلية و كانت السيوف قد شهرت في المدينة و قاتل المسلمون بعضهم البعض، لارتدَّ الناس بابشع صور الارتداد، إذ أنَّ اكثر الناس كانوا حديثي عهد بالاسلام و لم تكن الشريعة و الايمان قد تركزا في نفوس اهل القري و البوادي و القبائل العربية البعيدة عن المدينة، أضف الي ذلك أنَّ نفس رحيل النبي الاكرم صلي الله عليه و آله قد هزَّ القلوب، و شكك ضعفاء الايمان، بمستقبل الإسلام.

و في مكة بلغ الوضع حدّاً من التوتر جعل عتاب بن أُسيد والي مكة يتواري عن الانظار، و راح البعض يفكر في تحصيل الامارة و الحكم لو لا خوف تقسيم الدولة الإسلاميّة و هدم وحدة المسلمين و ردّة المجتمع الي الكفر.

في تلك اللحظات الحسّاسة، كان سلُّ السيف مساوقاً لسقوط الإسلام، و كانت ابواب الفتنة و الامتحان مفتوحة علي مصراعيها بوجه المسلمين.

ص: 355

و لما كان ابو سفيان واقفاً تماماً علي دقائق هذه المسائل، فكّر جاداً في استغلال الظرف لاشعالها فتنة داخلية، و من الواضح إنه في الحالة تلك يلتمس بني هاشم و انصارهم و خاصة علي بن ابي طالب عليه السلام لقربه من رسول اللّه صلي الله عليه و آله و لمحبوبيّته و شهرته، و لانه الاحق بالخلافة من غيره، و قد أُقصي عنها، مضافاً الي عدم اعتراف فاطمة الزهراء و بنت رسول اللّه و سيدة نساء العالمين عليها السلام، بحكومة ابي بكر، مما حَدي ببني هاشم الي الامتناع عن البيعة و التجمهر للاحتجاج في المسجد و دعوة ابي بكر الي التراجع و التخلّي عن الخلافة لعلي عليه السلام.

فجاء أبو سفيان الي علي عليه السلام و قال: «مُدَّ يدك لابايعك فو اللّه لو شئت لأملئنّها عليهم خيلاً و رجلا.»(1)

و قد لا يكون ابوسفيان مبالغاً في عرضه بتجييش الخيّالة و الرّجالة، اذ إنَّ مكّاراً مثله، كان قادراً علي اعداد ذلك لعلي عليه السلام الذي له من السوابق في الايمان و الجهاد و العلم ما يسهل مهمّة ابي سفيان.

و لكن علياً عليه السلام لم يكن ليرضي بذلك، خاصة مِن أبي سفيان الذي حزّب الاحزاب لحرب النبي صلي الله عليه و آله و الإسلام، فكيف يرضي علي عليه السلام أن يستعين بجيش يقوده أبو سفيان لضرب المسلمين بعضهم ببعض، و لقد اراد أبو سفيان بذلك ان يُعيد الاحزاب ثانية بثوبٍ جديد و لكن علياً و هو امام اهل الحق و عشاق الحقيقة، لم يكن طيلة حياته مائلاً الي الدنيا و حبّ السلطان و الانتفاع الشخصي و لو بمقدار ذرّة او مثقال ذرّة، فما كان منه إلاّ ان يصفع ابا سفيان بكلمات اعادته خائبا الي ادراجه.7.

ص: 356


1- الكامل ج 2 ص 220. شرح نهج البلاغة ج 2 ص 7.

لقد كان علي عليه السلام ماموراً من قبل النبي صلي الله عليه و آله باتخاذ موقفٍ ما حادَ عنه قيد أنملة.

كان علي عليه السلام يعلم جيداً ان شَهر السّيف بوجه أُناسٍ لا يعبأون بالفتنة الداخليّة، و لا تَهمُّهم المصلحة الاسلامية العليا، لا يُثمر إلاّ هدم الإسلام و كان علي عليه السلام يعلم جيداً أنَّ اولئك القوم سيحاربونه بكل ما أُوتوا من قوة و لن يتنازلوا عن مخططهم و أنَّ النتيجة مهما كانت فهي في ضرر الإسلام.

و لذا، و لمّا كان علي عليه السلام عارفاً باخلاقية الخصم و حرصه علي الزعامة و طمعه بالملك، أظهر حلماً و غَمَدَ سيفه، و جلس في داره، و طرد ابا سفيان و خاب املُ ابي سفيان في توجيه ضربة قاصمة للاسلام، و بقي يتحيَّن الفرصة، حتي وَليَ عثمان الحكم و اعتلي بنو اميّة (أعداء رسول اللّه) سدّة الحكومة و الادارة، و لذا دخل الي مجلس عثمان و قال قولته الكافرة المعروفة.

و لم يكن ما قام به عثمان طيلة مدة خلافته إلاّ ما يُقرُّ عينَي ابي سفيان و موافقا لمقاصده و خطوة في طريق تحقيق مخطّطه، فلقد فسح عثمان المجال لبني اميّة في التدخل بكل شؤونات الخلافة، و فتح لهم بيت المال يغترفون منه ما شاؤوا و ولاّهم الولايات، و إستوزر مروان بن الحكم، طريد رسول اللّه صلي الله عليه و آله و ولّي الوليد الفاسق السكير، الكوفة، و استقل معاوية علي الشام بلا رقيب و لا حسيب.

و عندما قتل عثمان بعد الثورة عليه، رفع معاوية قميص عثمان و استشعر به، مع أن المنتفع الاوّل من قتل عثمان هو معاوية ابن ابي سفيان الذي خلّي بين عثمان و بين الثائرين عليه و لم يحاول ايصال المدد اليه و نصرته، و خرج علي الخليفة المنتخب الحق، و اشعل نار تلك الفتنة، و قتل اصحاب رسول اللّه صلي الله عليه و آله و ثأر لقتلاه ببدر و غيرها، من المهاجرين و الانصار.

ص: 357

و عندما اغتصب الخلافة بالمكر و الاحتيال، استهان بالاحكام الشرعية و التعاليم الاسلامية، و روّج سبَّ أمير المؤمنين عليه السلام علي المنابر التي اشادها عليٌّ عليه السلام بسيفه، و سلّط زياد ابن أبيه علي الكوفة فعاث الفساد بأهلها و هتك الحرمات و نهب الاموال، ولكي يبقي الحكم في دائرة عائلته الضيقة المشئومة، استخلف ولده يزيد الرجس و المعاصي و الفجور، و لقد كان يزيد بارّا بأبيه حينما اتمَّ ما بقي ناقصاً من جرائم معاوية و هتكه لشعائر اللّه.

تُري كيف سيكون مصير الإسلام، اذا اتكي علي مسند الخلافة صبيٌّ متهتك فاسق، سكّيرٌ كيزيد بن معاوية؟

هذا الغلام الذي يتَّهم علناً و بكل وقاحة، نبيَّ الإسلام العظيم باللعب بالملك، و بالكذب؛ خاصة و إنَّ الإسلام لا يفصل بين الحكم و الدين و إنَّ القائد السياسي هو نفسه القائد الديني؟

فمن الواضح إنَّ الإسلام سيضيع و يندثر و تُقرأ فاتحته، و لا شك في أنَّ هذه الفعال القبيحة سيكون لها أثر داخل و خارج الدولة الاسلامية مما يؤدي الي ضعف ايمان الناس و تزلزل اعتقاداتهم.

فاذا كان الخليفة يحتسي الخمرة علناً، و يقيم مجالس اللهو الطرب و المجون، و يلعب بالقردة و الكلاب، و يرتكب الكبائر، و يستهزأ بدين اللّه، و يستخفُّ بالاحكام، فعلي الإسلام السلام.

فاراد الحسين عليه السلام أن يحدَّ من تحقق كل تلك الاثار السلبية لهذا الاستخلاف المشئوم و أن يمنع الانحراف الخلاقي و العقائدي عند الناس، و أن يُفهم العالم معني الدين و الخلافة و الحكم الاسلامي و اهداف دعوة جدّه الاكرم صلي الله عليه و آله.

لقد قرّر الحسين عليه السلام تعظيم الدين و اعلام الناس بان الإسلام هو الاغلي و انه

ص: 358

يستحق التضحية بكل غال و نفيس من الاموال و الاولاد و الاصحاب و النفس و انه اعزُّ من كل شي.

و قرّر أن يلفت انظار الناس عملياً الي ضرورة تعظيم الفرائض و الواجبات الدينية و رعايتها و الي أهمية الذنوب و المعاصي.

و قرر أن يعلِّم الناس درساً في التديُّن و الاستقامة و الثبات و مقارعة الظالمين و الكفر و الكافرين.

و قرّر حفظ الإسلام من الاندثار، و احياء الكتاب و السُنة و لم يكن هناك طريق لذلك، إلاّ الثورة و الامتناع عن البيعة و سلب اعتبار افعال يزيد المنكرة و سلوكه المنحرف و ذنوبه الكبيرة، دليلاً علي بطلان خلافته و حرمة مبايعته، و لقد ثبت و اصرَّ الحسين عليه السلام علي ذلك حتي استُشهد و فدي الدين بنفسه.

و لقد كان المجتمع يعلم جيداً انَّ الدين و احكام الإسلام التي صارت لعبة بِيَد يزيد يلعب و يهزأ و يستخفّ بها، لَهي عزيزةٌ الي درجة ان شخصا كالحسين عليه السلام يضحي بنفسه و اهله من اجل حفظها و اعزازها.

لقد زعزع الحسين عليه السلام يزيداً و حكمه، و فضح شخصيته المتهتكة الاجراميّة وانه بعيدٌ كلَّ البعد عن القرآن و الدين و القيَم و المُثل، و انه عنصر الخبث و الشرِّ، المتلوث بلوث الفحشاء، و الغارق في بحر الفجور، و انه عدو للاسلام و نبيّه و اهلِ بيته.

و لقد عجز بنو اميّة بعد استشهاد الحسين عليه السلام من توجيه ضربة قاصمة للاسلام و طعنة في ظهره، فلقد إتّضح للجميع أنَّ بني اميّة لا يمتثلون للاسلام، و انهم ثلَّة مجرمة مستبدة، تسلطت علي رقاب الامة الاسلامية بالقوة و بريق السيوف و الرُشا و أنَّها خائنة للاسلام و متربصة به الدوائر.

ص: 359

لقد اثارت قضية كربلاء احاسيس و عواطف الناس، الي درجة انهم ازدادوا تعلُّقا بالدين و احكامه، و كبر التزامهم بالشريعة علي الرغم من سياسة بني اميّة المحاربة للدين.

و من هنا فلا نبالغ اذا ما قلنا كما قال الشاعر الهندي الكبير «معين الدين الاجميري» بان الحسين عليه السلام هو المؤسس الثاني للدين و باني قصر الإسلام العظيم و مجدِّد هيكل التوحيد و الوحدانية.

3 - إيقاظ الشعور الديني

كان الشعور الديني عند عامة المسلمين قد ضعف نتيجة لاعلام معاوية و منهجه و خطط ولاته، و ابتعاد الناس عن عصر الرسالة و تعطيل الاحكام و منع نشرها و منع التبليغ الديني الصحيح، و اقصاء الاخيار و النُخب و العلماء. و قد وصل انحطاط الشعور بالمسئولية الي درجة الخنوع و الخصوع و الاستسلام لسياسة الحكم الاموي.

فلقد سري الاحساس بالذُلِّ و المَهانة و الظليمة في المجتمعات الاسلامية، سريان السرطان المنتشر، و عمَّ الاسترخاء و الضعف و الخواء الفكري في هيكل المجتمع، فاقعده عن التأثر بالمنكرات و المظالم فضلاً عن التاثير لاصلاح الامور فاصبحوا يُساقون كما تُساق الانعام و كما قال عبد اللّه بن همام السلولي:

فانْ تأتو بِرَملَة أو بهندٍنُبايعُها أميرةَ مؤمنينا

فكان بنو اميّة يولّون من يشاؤون علي رقاب الناس، و لو أنَّهم ولَّوْا نساءهم و جواريهم و قرودهم، لما اعترض عليهم احدٌ خوفاً من السجن و القتل و مصادرة الاموال.

ص: 360

إنَّ صفات الكمال التي كان يتحلي بها المسلمون أيّام رسول اللّه، كالخلوص و الفداء و الشجاعة و الاقدام و عدم الخوف من الموت، اصبحت كلها في خبر كان الناقصة، و لم يبق من أبطال الايمان و روّاد الفضيلة الذين كانوا يتسابقون الي الشهادة في سبيل نصرة الدين، الاّ عدة قليلة استشهدت مع الحسين عليه السلام في كربلاء، أو بقيت بعيدة عن ساحة الاحداث، أو زُجَّ بها في غياهب السجون.

إنَّ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و اصحابه البررة، أيقظَ ضمير الامَّة السابت، و احيي الخصال الإنسانيّة عندها، و علَّم المسلمين دروس البطولة و الاباء و الاستقامة و الفداء، الي درجة أنَّ بني اميّة كلّما اخمدوا ثورةً من الثورات التي إندلعت ضدّهم ببركة دماء الحسين عليه السلام و اهله، لم تخمُد تلك الروح الرسالية الاستشهادية المتأججة عند المسلمين حتي عاد القتل في سبيل القيم و الحق فخراً يعتزّ به المسلمون.

لما نظر مصعب بن الزبير الي حليلته سكينة عليها السلام مكتئبة حزينة قال لها: «لَم يُبقِ أبوكِ لابنِ حُرَّةٍ عُذراً»

و انشد قائلاً:

و إنَّ الأولي بالطفِّ من آل هاشمٍتأسوا فَسَنُّوا للكرام التأسيا

4 - ازدياد محبَّة اهل البيت عليهم السلام و بقيَّة السيف

«إنَّ الذين آمنوا و عَملوا الصالحات سَيَجعلُ لَهم الرَّحمن وُدّا»(1)

ذكرنا آنفا إنَّ اللّه سبحانه و تعالي أودع قلوب الناس محبّة اهل بيت النبي صلي الله عليه و آله

ص: 361


1- سورة مريم، الآية 96.

فلا تجدُ مسلماً مؤمناً يحبُّ نبيّ الإسلام صلي الله عليه و آله و لا يحبُّ عزيزته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام و ريحانتاه الحسن و الحسين و اخاه و ابن عمِّه عليّ بن ابي طالب عليهم السلام و قد اكدَّ هذا المعني الإمام السجاد عليه السلام في خطبته في مسجد الشام عندما عدَّ ما خصّههم اللّه به من الخصائص التي من جملها: «و المحبّةَ في قلوب المؤمنين».

و كان من جملة بركات النهضة الحسينية و آثارها، ازدياد تلك المحبة و ترسيخها في القلوب، و لاغرو في أنّ الشجاعة و صدق الحديث، و الثبات علي المبادي، و البطولة، و المظلومية و مقارعة الظلم و الظالمين تُعدُّ من الصفات الحبيبة و التي تقرَّب المتصفين بها الي القلوب.

و من خلال قراءة اللوحات الشعرية التي انشدت بعد استشهاد ابي عبد اللّه الحسين عليه السلام في رثائه و مدحه و مدح آل علي، يظهر لنا بوضوح مدي عمق التأثير الذي تركته مظلومية الحسين عليه السلام في قلوب المسلمين، فانَّ بعض تلك الاشعار تتضمن معاني الحبّ و الولاء الصادقَين بدرجة الهيام و الذوبان.

و مهما أسهبنا في شرح ذلك الحبّ و الارتباط الروحي للمسلمين بالحسين عليه السلام، فهو قليلٌ في جنب الواقع. فهذه المراسم و الشعائر التي تقام في الهند و الباكستان و العراق و ايران و لبنان و سورية و البحرين و الاحساء و افغانستان و مصر و في دول عديدة في اوربا و حتي في أمريكا و استراليا، خاصةً في بعض الليالي و الايام الخاصة كيوم عرفة و النصف من رجب و شعبان و العشرة العاشوراءئية و الاربعين، كلُّ ذلك يدلُّ بوضوح علي انَّ الحسين عليه السلام قد مَلَك القلوب الي درجةٍ تحيّرُ العقول و دخل عشقُه و حبّه حتي في قلوب الاجانب من غير المسلمين، فلا تنحصر هذه المراسم في مرقد الحسين عليه السلام الطاهر و حواليه، بل تقام في

ص: 362

كل المقامات المنسوبة اليه أو الي احد ابنائه أو اخوته أو بناته.

و اذا ما حضرت الي البقعة المنسوبة الي رأس الحسين الطاهر في القاهرة، يوم عاشوراء، و ليالي الاثنين في «مشهد السقط» بالقرب من حلب و مشهد السيدة رقيه بنت الحسين عليه السلام في دمشق عاصمة الحكم الاموي، و مشهد السيدة زينب و مقام راس الحسين في مسجد دمشق، و مقام السيدة زينب في مصر، لوقفت علي عمق الحبّ الذي تركه استشهاد الحسين عليه السلام في قلوب مسلمي تلك البقاع، فان المراسم في بعضها لا يقلَّ كثافة و حماساً عن المراسم التي تقام في كربلاء و بالقرب من مضجعه الطاهر.

حجَّ هشام بن عبد الملك فلم يقدر علي استلام الحجر الأسود من الزحام، فنُصبَ له منبر مجلس عليه و اطاف به اهل الشام فبينما هو كذلك اذ اقبل عليُّ بن الحسين عليه السلام و عليه ازار و رداء من احسن الناس وجهاً و اطيبهم رائحةً، بين عينيه أثر السجود فجعل يطوف فاذا بلغ الي موضع الحجر تنحّي الناس حتّي يستلمه، هيبة له، فقال شاميُّ: من هذا يا أمير؟

فقال هشام: لا أعرف (غَضَباً و حَنَقا علي اهل البيت عليهم السلام) لئلا يرغب فيه اهل الشام. فقال الفرزدق و كان حاضراً: لكنّي أنا أعرفه، فقال الشامّي: من هو يا أبا فراس؟

فانشأ الفرزدق قصيدة طويلة في مدح أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، منها:

يا سائلي أين حلَّ الجودُ و الكرَمُ

هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم هذا التّقيّ النّقيّ الطاهر العلم

ص: 363

اذا رأته قريشٌ قال قائلها

و منه يُعرف مَدي حبُّ الناس و تعلُّقهم باهل البيت عليهم السلام و عزّة و عظمة الإبن الوحيد للحسين عليه السلام و بقية السيف الاموي الذي لم يرحم حتي الرُضّع من اولاد ابي عبد اللّه يوم عاشوراء.

كما يستفاد من هذه الحكاية، شدَّة عطش الناس الي ذكر فضائل اهل البيت عليهم السلام فالفرزدق كان يعلم أنَّ إنشاء تلك القصيدة في ذلك المجمع و بمحضر هشام الغاضب، سيكلفه غالياً، فلم يمنعه ذلك من الاعلان عن مقام و فضل اهل البيت عليهم السلام.

و هذه هي الحقيقة التي عبَّر عنها أمير المؤمنين علي عليه السلام بكلمة قصيرة حينما قال:

«بَقِيَّة السَيف أبقي و أكثَرُ وَلداً»(1)

فموجبات البقاء و الكثرة و العزّة و العظمة، توفرت لاهل البيت عليهم السلام من خلال تضحياتهم و صبرهم و جهادهم و صدقهم مع اللّه، بعكس اولئك الخانعين الاذلاّء للظلمة.

و طبقا لما رواه حمد اللّه المستوفي، فانَّ يزيد بن معاوية كان له ثلاثة عشر4.

ص: 364


1- نهج البلاغة ج 3 ص 169. ك 84.

ولداً(1) ، و لكنك اليوم لا تجد احداً ينتسب الي يزيد!! و لو وُجد ذلك الأحد، فانه سيستنكف عن نسبه الوضيع هذا و لا يصرح به خوفاً من العار و يُخفيه خوفاً من ان تلحقه لعنة اللاعنين.

و لم يبق للحسين عليه السلام من اولاده الذكور، يوم عاشوراء إلاّ علي بن الحسين عليه السلام و لكنك اليوم تجد عشرات الملايين من السادات و الشرفاء من اولاد زين العابدين عليه السلام، مشهورين و معروفين و منتشرين في الاصقاع و الممالك الاسلامية، و الذين يُكنُّ لهم المسلمون - بسنَّتهم و شيعتهم - كلَّ احترام و تجليل و تبجيل، و يتبركون بهم.

5 - مدرسة عاشوراء

و من جملة ثمرات استشهاد الحسين عليه السلام التي لازالت الاجيال و علي مرَّ العصور تنتفع بها، تلك المراسم و الشعائر التي تقام لاحياء ذكراه، و ذكر مصائبه و نوائب اهله و عيالاته، و علي طول ايام السنة(2).

ص: 365


1- حجة السعادة ج 2 ص 3. مروج الذهب ج 3 ص 36.
2- للمستشرق الفرنسي المعروف، الدكتور رينو (جوزيف)، بيانٌ وافي في كتابه «الإسلام و المسلمون» تناول فيه بعمق فلسفة الشعار الحسينية بكل أشكالها من الناحية السياسية و الاخلاقية و تربية النفوس و تكميلها مشيراً الي تمركز هذه الشعائر عند الشيعة في ايران، معتبراً اءنه السرَّ في بقاء و قوة شوكة الشيعة في المستقبل و تنامي نهجهم و تزايد عددهم. و اشار المستشرق المذكور الي الاوقاف الشيعية و الحقوق الشرعيَّة التي يصرفها الشيعة في احياء مراسم عاشوراء و اقامة مجالس العزاء علي الحسين عليه السلام و قال: ان ما سوي الشيعة من المذاهب الاسلامية، لا يبذلون ما يبذله الشيعة من الاموال في الدعوة الي الدين، و قد يعادل بذل الشيعة ثلاثة أضعاف بذل الاخرين في نفس السبل، و لو أنَّ شيعياً كان يعيش بعيداً عن اهل ملّته و في ابعد نقاط العالم، فانه سيقيم لوحده مجلس احياء ذكر الحسين عليه السلام و ينفق علي الفقراء و يُطعم الطعام، و يكون بذلك داعية في الواقع الي الدين. و للمنبر و الوعظ و الارشاد و الخطابة، دور مهم في تربية الخطباء و الوعاظ و المتحدثين الاكفّاء لتعريف الناس و تعليمهم المعارف و الأخلاق الرسالية. فالمنبر يتناول مختلف المسائل الدينية و العقائدية و الفكرية و الاخلاقية، بالبحث و الدراسة، بنحو يكون الفرد الشيعي اعلم من اقرانه من سائر المذاهب، في تلك العلوم و المعارف. و لو القينا نظرةً الي الاقطار الاسلامية، لم نجد كالشيعة سبّاقاً في الميادين العلمية و الصناعية و الاقتصادية، فالاستعداد للابداع و الترقي و كسب العلوم الحديثة، اوضح عند الشيعة من غيرهم، كما ان اليد العاملة الشيعية اقدر من مثيلاتها من سائر الفرق، و اكثر عدداً بالقياس الي نسبة نفوسهم. و ان الشيعة لم ينشروا مبادئ مذهبهم و فكرهم، عن طريق القوة و السلاح، بل فعلوا ذلك بقوة التبليغ و الفكر و الأخلاق. ان اهتمام الشيعة باحياء هذه الذكري و ما يظهر من كرامات في تلك المجالس ادي الي ان يشترك ثلثا المسلمين بل و الهنود و المجوس أيضاً، في تلك المراسم. و من هنا، يمكننا الحكم بان عدد الشيعة سيزداد في المستقبل القريب و قد يفوق عدد اتباع المذاهب الاخري، و قداستطاع التشيع من النفوذ الي الملل و اهل المذاهب الاخري، و تمكن الشيعة من تبليغ و ايصال اصول مذهبهم الي الاخرين، و قد حققوا مايحلم ساسة الغرب به، بما يبذلونه من اموال طائلة لنشر المسيحية. ثم يتطرف المستشرق الي «مواكب الحسينية و الرايات و علائم العزاء، و يشرح بالتفصيل تأثيراتها و نتائجها و فلسفتها، و علاقة الشعائر بالاتحاد و الوحدة الشيعية و الاستقلالية و روح التحرير، و يقول: من الامور الفطرية و الطبيعية التي تدعم فكر الشيعة هو ان الطبع البشري و الفطرة الإنسانيّة ميّالة الي نصرة المظلوم و كراهية الظالم». ان هؤلاء الكتاب و المفكرين، يذعنون لحقيقة مظلومية الحسين عليه السلام و اصحابه، و طغيان و وحشية قتلتهم، و لا يذكر قتلة الحسين عليه السلام إلاّ باقبح الاسماء و الالقاب، اذ لا شي يكبح الشعور الفطري و الادراك الوجداني، و يقف حائلاً دون تقدم المذهب الشيعي و رُقَيّه. و هذه المقالة، طويلة مفصلة، و من اراد المزيد فليراجع كتاب «ذكري الحسين» ج 2 ص 204-208. تاليف العلامة مهاجر العاملي. و لقد نقلنا ملخصاً مضغوطاً لبعض تلك المطالب هنا ليعلم القاري العزيز أنَّ المستشرقين المنصفين و المفكرين و اهل النظر من علماء الملل الاخري قد اقرّوا بنتائج و ثمرات هذه المراسم الحسينية، و تأثيراتها في المبادي الوطنية و الاستقلال و الحريّة. و ليس هذا المستشرق هو الوحيد الذي التفت الي هذه الحقائق، بل هناك العديد منهم ممن يعتقد بدور ثورة الحسين عليه السلام الكبير في تثبيت دعائم الإسلام و نشره في العالم، من جملتهم المستشرق الألماني (ماربين) الذي يعتقد بنفس الشي في سياسة الحسين عليه السلام و طلبه للحق، و يمتدح معتقدات الشيعة. و لكن بعض اعداء الإسلام و مرتزقة الاستعمار و ذوي الاقلام المأجورة، الذين يخافون من وقوف الشعائر و المراسم المذهبية في وجه اطماعهم الاستعمارية في الدول الاسلامية و الحدّ من نفوذهم و تحكمهم برقاب المسلمين، خلافاً للمذاهب الاخري و من هنا فانهم يحاولون التقليل من اهمية الثورة الحسينية، بل و يتجرأ بعضهم علي إتهامها بالفشل و عدم الفائدة. و علي العموم فان هؤلاء يحاولون الاستخفاف بكل ظاهرة من شأنها أنَّ تقوّي شوكة المسلمين و ترفع شأنهم و توحد صفوفهم، و يحاولون تعطيل و منع هذه الشعائر و الظواهر، او الحدِّ من انتشارها علي اقل التقادير، كما نري ذلك بوضوح في دولة مصر، حيث حاولت الحكومة المصرية منع الشعار الحسينية التي كانت تقام في عدة ارجاء من مصر و بشكل مهيب و رائع حتي زمان الملك فؤاد الذي كان تحت رعاية و حماية الانجليز، حيث منعها. و في العراق، و ان حاول الحكام منع تلك الشعائر بين فترة و اخري و لكن، و لعلوّ همّة الشيعة و عزمهم و غيرتهم علي الدين، و تضحياتهم بقيت مراسم عاشوراء و الاربعين تقام بشكل رائع و مهيب يشترك فيها كلَّ طبقات المجتمع. و قد تشرفتُ بزيارة كربلاء المقدسة قبل اعوام، و في ايام عاشوراء، فلفت انتباهي، هيبة عزاء شكّلها اساتذة و طلاب الجامعات العراقية جاءوا من بغداد و الموصل و البصرة، فكان مشهداً رائعاً لينُمُّ عن عمق تأثير الثورة الحسينية في ضمائر المثقفين. فلقد كانت تلك الهيئة موكباً مميزاً من بين المواكب الحسينية، فإن اقامة الشعائر الحسينية من خلال نافذة العلم و المعرفة، يكون أوقع في التأثير و التأثر، فلقد اثبت هؤلاء بقصائدهم هتافاتهم و راياتهم السوداء و الحمراء التي رفعوها، ان الطريق الانجح لنشر مبادي الحسين عليه السلام و تحقيق اهدافه هو سبيل الشعائر المبتنية علي اليقين و المعرفة، و في الوقت الذي اثبتوا فيه اشتراكهم مع الهيئات و المواكب الاخري، اعلنوا عن استقلالهم و رشدهم الفكري و دركهم لحقيقة و فلسفة الشعائر الاسلامية و تعظيمها، و عدم تأثرهم بالاعلام الاستكباري الساعي الي تسخيف هذه الشعائر و الانتقاص من دورها. أجل، نحن نري اليوم، و في المجتمعات التي تدعي التحضر و المدنية ان مراسماً تقام و في مناسبات عديدة، لا تمتُّ الي الروح الإنسانيّة و الي العقل و السيرة العقلائية، و مع ذلك لا ينتقدها احدٌ، لان اولئك الذين يقيمون هذه المسابقات هم من أهل القدرة و المال و الذين يشجعون الناس علي حضور مسابقة الملاكمة و يجبرون رجلين أو امراتين ينتميان الي النوع البشري الكريم، علي ضرب احدها الآخر حتي الادماء و الطرح أرضاً، بلا فائدة روحية أو جسدية مرجوة من مثل هذا النزال. فكم من عين قد فقئت و اذن قد صمَّت، بل و كم من إنسان مات في هذه المسابقات الفارغة، و العجب انهم يفتحرون بذلك و يهدون الجوائز للاشدِّ قسوة و وحشية، و يصفقون له فرحاً بنصره!! ان التبذير و الاسراف و البذخ اليوم يعمُّ العالم الغربي، بدءاً من اعياد كانون و انتهاءاً بوصايا الاموات و مراسم التجهيز و الدفن. و التي تدلّ مضافاً الي الاسراف و التبذير، علي السخف و السفاهة و خفة العقل و قلة التدبير. سبق و ان قرأت في احدي الجرائد المشهورة، ان شجرةً في أميركا، يُقدِّسها الناس و يفدون لزيارتها، و ذكر المقال: ان عدد زوّار هذه الشجرة في تلك السنة قد بلغ ثمانية ملايين زائر. و المبالغ المالية التي تصرف في فرنسا و ايطاليا و دول اخري، علي الرمّالين و الفوّالين و الكهنة و قرّاء الكف و الفناجين و السحرة، كبيرة قد تعدل ميزانية احدي الدول الشرقية!! و مع كل هذا، لا تجد عاقلاً ينقض عليهم و يردعهم. و بعض المغتربين المبهورين بحياة الغرب، يصرف علي تجهيز و دفن كلبه، اموالاً تكفي لتأسيس مستوصفٍ في قرية نائية، و يبذر المال في مراكز القمار و الطرب و الرقص، و يعتبر ذلك تمدناً و خضارة و ثقافة!! في حين ان ابناء قريته في وطنه بامسِّ الحاجة الي القنوات المائية و ماء الشرب و اشباع بطونهم من الجوع. و نفس هؤلاء، و لعدائهم للاسلام و شعائره، يستخدمون اقلامهم و السنتهم الماجورة للنيل من اهتمام المسلمين بتعظيم شعائر الدين و الالتزام بالاداب و الاحكام الشرعية، منتقدين مراسم احياء ذكري الحسين عليه السلام. و لكن، و لله الحمد، لم يُعد لهؤلاء المستعمرين هُواة، فضلاً عن الانصار و ان الجيل الجديد من شباب الإسلام، وعي تلك الاحابيل و عرف تلك الحيل و الخدع الاعلامية المسمومة، و عرف ان اقامة هذه الشعائر و الاقتداء بسيد الشهداء، يُحيي المجتمع و يبعث روح التضحية و الفداء من اجل المبادي الفاضلة. إنَّ اقامة عزاء الحسين عليه السلام اضحي معجوناً بدماء الشيعة و رمزاً لهويتهم و استقلالهم، و أنه يستحق البذل منّا بكل غالٍ و نفيس، و علي الجميع أن يساهموا في ذلك، و يشتركوا، كما ان علي الخطباء و المبلغين ان يعرّفوا الشباب و الجامعيين المثقفين، علي فلسفة ثورة الحسين عليه السلام و مبادئه ليحصّنوهم من الإعلام المضاد، و يحفظوا استقلالية العالم الاسلامي. و اذا ما رامَ الشيعة و المسلمون عامة، ان يطووا مراحل الترقي و التطور، فعليهم ان يتتلمذوا في مدرسة العشق و الشهادة الحسينية فهذه المراسم العاشوراءئية، ليست مضادة للتطور العالمي و التكنلوجي و الاكتشافات و الاختراعات و غزو الفضاء و سائر مظاهر المدنية الحديثة، بل هي موافقة تماماً و انها من جملة السبل الكفيلة بالوصول بالانسان الي مدارج الرقيّ و التقدم.

ص: 366

ص: 367

ص: 368

و قد يتصور البعض خطأً، أنَّ الشيعة يبذرون الاموال حينما يصرفونها في اقامة مثل هذه الشعائر؛ و لكن الواقع يُشير الي غير ذلك، فالاستفادة المعنوية من هذه المراسم، و تأثيرها في تربية و تهذيب المجتمع واضحة الي درجة القطع بخطأ هذه المقولة، بل هذه المراسم و الطقوس هي من أفضل و انجح سبل الاصلاح و انها مدارس تربية و تعليم للقيم و المبادئ الاسلامية الرفيعة، و إنَّها وسائل إحياء أمر اهل البيت، و رمز بقاء التشيع و فكره الاصيل، بل بقاء الإسلام و الدين.

و لو خصَّصت آلاف الملايين من الاموال و عائدات الاوقاف لترويج

ص: 369

التعاليم الاخلاقية و الاجتماعية، و كانت صفوفها دائرة عامرة علي طول ايام السنة، لما حققت ما حققته المجالس الحسينيّة و لما استطاعوا المحافظة علي استمراريتها لكل هذه القرون المتمادية.

و لكنَّ الحسين عليه السلام و برأسمال الفضيلة و الخُلق الرفيع و بتضحياته في سبيل الحق، اسس مدرسة منذ اكثر من ثلاثة عشرة قرناً من الزمان لازالت صفوفها دائرة عامرة علي طول ايام السّنة، متزايدة شعبها و تشعباتها، و فنونها و علومها، يرتادها الرجال و النساء و الشباب و الشيوخ و الاطفال و كل طبقات المسلمين الفكرية و الاجتماعية، ليتعلموا دروس الحقيقة و الفداء.

إنَّ قراءة و استماع تاريخ تضحيات الحسين عليه السلام، و نهضته و ثباته و ثبات أصحابه، يقوِّي ايمان الانسان و يرسِّخ معتقداته الصحيحة و يعلو بهمَّته و ارادته.

إنَّ هذه المراسم التي تقام كلَّ سنة في المساجد و الحسينيات و البيوت و المنتديات، لَهيَ ادوات المبارزة مع الظلم و الظالمين و الوقوف بوجه سلاطين الجور، و الكفر و الشرك، و إعلان إنتصار الحسين عليه السلام!

إنَّ احد أنجح الوسائل و السُبل لترغيب الناس بالمبادي و القيم، هو ضرب الامثلة الحية الواقعية لهم، و حكاية تاريخ المتميِّزين في هذه المجالات، و ايُّ تاريخ و ايُّ نموذج و ايُّ قدوة أفضل من الإمام الحسين عليه السلام علي مرِّ التاريخ؟

إنَّ مجالس عزاء الحسين عليه السلام هي افضل مجالس التبليغ و الدعوة الي الإسلام.

ففي تلك المجالس، يتعرف روّادها علي المعارف القرآنية و أصول و فروع الدين و التفسير و الحديث و سيرة النبي صلي الله عليه و آله و الائمة و الصحابة، و المواعظ و الحكم و الأخلاق و علوم الاجتماع و التربية مضافاً الي الحقائق الكونية و الطبيعية.

و في مجالس الحسين عليه السلام يتعلم الفرد منهج التربية الاسريّة و الاجتماعية و

ص: 370

الاواصر التي تربط الانسان ببني نوعه.

و لا شكَّ في أنَّ ذلك من أفضل السُبل لتحقيق هذا الغرض، فالحسين عليه السلام قوةّ مغناطيسية تجذب الجميع اليها، و إنَّ محبوبية الحسين عليه السلام في القلوب تدفع الجميع للارتباط و الاقتداء به و تسجيل أسماءهم في سجلِّ انصاره و ذرف قطرات الدموع الساخنة علي مُصابه.

و لو انك اقترحت علي الناس ان يبذلوا شيئاً من المال للامور الخيرية و إعانة الفقراء، فانك ستحصل علي مبالغ لا تُعدُّ شيئاً بالقياس الي المبالغ التي يصرفونها تطوعاً و بلا اقتراح من أحدٍ، في إقامة مجالس الحسين عليه السلام فما أعظم الحسين عليه السلام وسيلةً للاصلاح و تقويم شؤون المجتمع الحياتية و هداية الشبيبة ينبغي أن نستفيد منها و ان نترجم تلك الاحاسيس و المشاعر و عواطف الملايين من المسلمين، الي موقفٍ موحدٍ لنصرة الدين و الحق.

إنَّ الامّة التي تمتلك مثل الحسين عليه السلام رمزاً و قدوةً و مثالاً، أمّةٌ ينبغي ان يُحتَذي بها في طريق الحرية و العدالة الاجتماعية.

و إنَّ امّةً أعلن قائدها:

«لا أري الموتَ إلاّ سعادةً و لا الحياة مع الظالمين إلاّ برما» و بقيت كلمته هذه خالدة في مسامع التاريخ، لا ينبغي لها ان تستلم لظالمٍ و تعين طاغ.

و إنَّ امّة تعلن يزيد بن معاوية و تعدُّ خيانته و مهادنته الكفار، ذنباً و خيانةً للاسلام، عليها أنْ تجتنب مهادنة الكفار و التذلّل لهم.

و ليس في زمننا الحاضر، منبرٌ تبليغيٌ أفضل من منبر الحسين عليه السلام فاذا ما استفدنا منه و أحسنّا إستغلاله، فسنصل الي أفضل النتائج و المغانم.

و نعتقد أنَّ مجالس الحسين عليه السلام في ايران، افغانستان، باكستان، الهند، العراق،

ص: 371

لبنان، سورية، البحرين، القطيف، قطر، اليمن، مصر و باقي ارجاء العالم، هي اكثر فائدة من سائر المؤسسات الثقافية و الارشادية العامة التي أسست للاصلاح و التغيير.

و كمثال لذلك: الخطباء و المدّاحين الذين ينتشرون في البلدان و يدورون علي مدار النسة في البيوت و المنتديات و يحتكّون بالناس و ينشدون الاشعار و المراثي و المدايح، و لو أمكن جمعهم و تنظيمهم و منهجةِ برامجهم من قبل العلماء و الحوزات العليمة و مراجع الدين و تعبئتهم و زرقهم بالمعلومات و توعيتهم سياسياً و إجتماعياً و تحليل الاوضاع السياسية و ما يهمُّ الناس و المجتمع لهم، لامكن الوصول الي الاهداف بشكل اشرع و انجع. اذ يمكن التاكيد في كل فترة علي واحدةٍ من الحالات الاجتماعية و الاخلاقية و تناولها من قبل الجميع باسهاب و دقةٍ و تخصُّص، فان ذلك سيؤدي الي ارتفاع المشاكل و الأمراض الاجتماعية و الحالات المعوَّجة في المجتمع، الواحدة بعد الاُخري للوصول الي المجتمع المثالي.

و في السنوات الاخيرة، ازداد عدد الطلاّب و فضلاء الحوزات العلمية الذين ينتشرون في المدن و المحافظات و القري و الارياف، أيام شهر محرم و صفر و شهر رمضان المبارك و المناسبات الاخري، لاقامة الجماعات و الوعظ و الارشاد و الخطابة و التوجبد الديني و السياسي و الاجتماعي، مما حَدي بالناس الي تقديرهم و شكرهم.

و هؤلاء، ايَّدهم اللّه يقومون اضافة الي الارشاد و التبليغ و ردّ الشبهات و تعليم الاحكام الشرعية، بالامور و الفعاليات الاجتماعية و الخدماتية كعمارة المساجد و تأسيس المؤسسات الخيرية الاجتماعية.

و اكررُ ثانية: إنَّ الانصاف، هو أنّنا لم نستفد بَعدُ كل الاستفادة من مائدة

ص: 372

الحسين عليه السلام، فانّ أحد أهم عوامل إنتشار مذهب التشيع و الإسلام في الهند، و باعتراف المطّلعين، هو إقامة شعائر الحسين و كما يقول «ماربين»: إنَّ عدد الشيعة لم يكن يتجاوز عدد الاصابع و لكنهم اليوم و ببركة مجالس الحسين عليه السلام يعتبرون من الطوائف المعتدِّ بها عدداً في الهند.

اذن، يمكننا القول:

كما انَّ استشهاد الحسين عليه السلام ساهم في الحفاظ علي الدين من الانحراف، فانَّ مجالس عزاء الحسين عليه السلام هي الاخري لها الدور الكبير في بقاء الدين و استمراريته و هداية المجتمع الي الحق. (1)فسلام اللّه عليك يا أبا عبد اللّه

6 - إدانَة بني اميَّة

لقد حفر بنو اميّة قبورهم بقتلهم الحسين عليه السلام و ازاحوا الستار عن شنائع أفعالهم و مقاصدهم المشئومة، و اشتروا بذلك غضب و نِفرة المجتمع الإسلام ضدَّهم.

و كما أشرنا في فصل سابقٍ (انعكاسات مقتل الحسين عليه السلام) فانَّ المجتمع

ص: 373


1- إنَّ رثاء الحسين عليه السلام و البكاء عليه، و زيارته قد ابتدأت في نفس سنة 61 ه. ق و استمر اقامة تلك المجالس عليه في العصور المختلفة من قبل الائمة و اتباعهم و عامة المسلمين. فقد أنشد كبار الشعراء القصائد في ثورة الحسين عليه السلام و مصائبه و تضحياته و من جملتهم شاعر اهل البيت دعبل الخزاعي. و للاطلاع علي تاريخ عزاء الحسين عليه السلام راجع: الدلائل و المسائل ج 1 ص 113. ذكري الحسين ص 8-5.

الاسلامي إستقبل حادثة كربلاء بحزنٍ و المٍ عميقين و قد أدان كلُّ المسلمين هذه الجريمة النكراء في حق سبط رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و رهطه و آل بيته، و توالت الاعتراضات الانتقادات من أقرباء بني اميّة أنفسهم قبل أعدائهم.

يقول المستشرق الالماني «ماربين»: إنَّ من اكبر أخطاء بني اميّة التي محت إسمهم من صفحة العالم، هو قتلهم الحسين عليه السلام.

و هذه حقيقة يذعن لها كلُّ مورخ و مطّلع علي تاريخ الإسلام، و لقد كان لذلك الاستنكار و الاعتراض العام علي حكم بني اميّة فوائده الكبيرة و الكثيرة. اذ يئس بنو اميّة من محاربة الإسلام و طعنه في ظهره، بعد أن عرف الناس حقيقة هذه العائلة الخبيثة و مخططاتهم الاجرامية و انكشف زيفهم و كفرهم للجميع، فقد فضح قتل الحسين عليه السلام بتلك البشاعة و الشناعة و سبي بنات رسول اللّه صلي الله عليه و آله، حقيقة بني اميّة.

و عاد التعاون مع بني اميّة و الدخول يسلكهم و سلطانهم، عاراً يفرُّ منه الناس.

و لولا بريق السيوف و رؤوس الاسنة و الرماح التي يُهدِد بها بنو اميّة الناس، لهدم الناسُ علي رووس بني اميّة دورهم و لقطعوهم إرباً إرباً، و مثّلوا بجثثهم كل تمثيل.

و انَّك لتجد في شعر عبد اللّه بن همام السلولي، ترجمةً لتلك الاحاسيس الغاضبة عند عامة المسلمين، حين يقول:

حُشينا الغَيضَ حتّي لو شَربنا دِماءَ بَني أمَيَّةَ ما رُوينا

و يقول احد علماء مصر الذي صنف فهرست كامل ابن الأثير:

«ان الجيش الذي تولي محاربة الحسين و قتله لهو أقسي قلوب العالم و ليس

ص: 374

فيه آثار الرحمة و الانسانية بل هم جمادات متحركة شرّيرة سجّلوا لأنفسهم في التأريخ أكبر العار و أسوء الاعمال و أفضع الافعال عاملهم اللّه بجرائمهم أشدّ العقاب.(1)

و يقول الشيخ عبد الوهاب النجار، أستاد قسم التخصّص في الازهر، في ملاحظاته علي الكامل:

«لعن اللّه الفسق و الفسّاق لقد سوّدوا صحائف التأريخ و سجّلوا علي أنفسهم الجرائم الكبري التي لا تغتفر و لا تنسي مدي الدّهر فأنا لله و إنّا اليه راجعون و لا حول و لا قوة الا بالله العلي العضيم.(2)

7 - توالي الثورات علي بني أميّة

من جملة نتائج نهضة الحسين عليه السلام و مظلوميته، تلك الحركات التحررية و الانتفاضات و الثورات التي توالت لاسقاط الحكم الاموي، و في عدَّة أرجاءٍ من العالم الاسلامي.

و من ابرز عوامل تلك الثورات هو الدعوة الي الأخذ بدم الحسين و الثأر من بني اميّة.

إنَّ ثأر الحسين عليه السلام أصبح شعاراً يرفعه المظلومون و المقهورون من حكم بني اميّة.

و هذه الثورات، و إن أُخمد اكثرها و قضي عليها علي يد السفّاحين أمثال

ص: 375


1- فهرست الكامل ج 3 ص ح و ط.
2- الكامل ج 3 حاشيه ص 297.

مسلم بن عقبة و الحصين بن نمير و الحجاج، دفاعاً عن اركان الحكم الاموي المتزلزلة، و لكن توالي تلك الثورات، يحكي عن شدة نفرة المسلمين من هذا الحكم، و يسيرُ بالحكم نحو الزوال و الانقراظ تدريجياً و يضعف مخططات بني اميّة.

و من الواضح، أن مثل هذه الحكومة التي لا تستند في قوامها و قوتها إلاّ الي بعض الاراذل من المرتزقة و المأجورين، بينما يعتبرها سائرالشعب حكومة غاصبة جائرة، لا يمكنها أن تدوم طويلاً في الحكم بالحديد و النار، فنفس إخماد تلك الثورات بالقمع، كان يبعث الروح القتالية الاستشهادية من جديد في نفوس الناس.

و اوّل ثورةٍ حدثت (بعد عدة حركات صغيرة مثل حركة الكوفة و حركة عبد اللّه بن عفيف) بعد نهضة الحسين عليه السلام هي ثورة المدينة، التي اشرنا اليها سابقاً، و التي قضي عليها مسرف بن عقبة بأمر يزيد، بتلك الوحشية و القساوة و هتك حرمة المدينة الطيبة.

يقول الطبري: بعد مقتل الحسين عليه السلام قام نجدة بن عامر الحنفي في اليمامة، و إبن الزبير في مكة(1).

و من اكبر الثورات المهمة التي إندلعت بعد ثورة الحسين عليه السلام هي ثورة التوّابين بقيادة الصحابي «سليمان بن صُرد الخزاعي» و التي اشترك فيها عدد من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و من أعيان الشيعة، و كان شعارهم «يا لثارات الحسين» و لقد ابلَو بلاءً حسناً و كانوا من الصادقين في شعورهم بالندم و الأسي علي إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام بين ظهرانيهم.

و لقد كانت خُطب و أشعار و كلمات هؤلاء الجماعة تدلّ بوضوح علي7.

ص: 376


1- تاريخ الطبري ج 4 ص 367.

إستقامتهم و ثباتهم و روحهم الاستشهادية، و مضافاً الي إنَّ هذه الثورة كانت من عجائب التاريخ و نموذجاً لهيجان الروح الطاهرة و الزكية و ليقظة الضمير، فهي تعكس بجدٍّ تأثيرات ثورة الإمام الحسين عليه السلام و مظلوميته و استشهاده، و ندم الناس علي عدم الالتحاق بركبه.

عندما، نودي بشعار «يا لثارات الحسين» كان عبد اللّه بن حازم جالساً مع زوجته و ابنته و كانت زوجته جميلة و عندما سمع النداء قام و حمل سلاحه و امتطر جواده و قالت له زوجته أجننت يابن حازم قال: لا، لكنّ منادي اللّه ينادي و لا يجوز القعود و لابد من الانتقام لدم المظلوم بكربلاء أو أن أقتل في هذا الطريق فقال له زوجته، و ماذا عن ابنتك قال: اوكلها الي اللّه، ثم التفت الي السماء و قال الهي أودعتك أهلي و أولادي فاحفظني لهم و اغفر لي تقصيري في نصرة ابن بنت نبيك.(1) و أول ما قام به التوابون بعد خروجهم هو التوجه الي قبر الحسين عليه السلام لزيارته و تجديد البيعة له، و باتوا ليلتهم عند مرقده الطاهر، محيين الليل بالبكاء و العويل، و الاعتذار و الوعد بالسير علي نهجه، و التوبة من خذلانهم له، و كانوا يقولون:

«اللهم ارحم حُسينا الشهيد بن الشهيد المَهديّ بن المهدي الصدّيق بن الصدّيق اللهم انّا نشهد أنّا علي دينهم و سبيلهم، و أعداء قاتليهم، و أولياء محبّيهم، اللهم إنّا خذلنا ابن بنت نبيّنا فاغفر لنا ما مَضي منّا، و تب علينا فارحم حسيناً و أصحابه الشهداء و انّا نشهد أنا علي دينهم و علي ما قتلوا عليه و ان لم تغفر لنا، و8.

ص: 377


1- القمقام الزخار ص 688.

ترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.(1)

و الحق، إنَّ التوابين قد أثبتوا وفاءهم و بطولتهم و بأسهم و محبتهم و ولايتهم لاهل البيت عليهم السلام بقتالهم بني اميّة في «عين الوردة» و بذلك سجّلوا إسمهم في صفحة الفخر و العزّ من تاريخ الامة الاسلامية. و لقد كانت قصتهم عبرة حقيقيةً و درساً تربوياً لكل الناس.

نسأل اللّه ان يقبل توبتهم، و يحشرهم في زمرة انصار الحسين عليه السلام.

و بعد هذه الثورة، اندلعت ثورة المختار الثقفي. و بقيت الثورات تتوالي حتي انقراض حكم بني اميّة.

و لم تمرّ الايام طويلة حتي عوقب كل من اشترك في جريمة كربلاء علي يدالثوار، أو ابتلاه اللّه بما اخزاه دنياً و آخرةً.

يقول الزهري: لم يبق احدٌ ممن إشترك في قتل احسين عليه السلام إلاّ نال عقابه في الدنيا قبل الاخرة. (2)

8 - التحور الفكري

من جملة الامراض الفكرية الخطيرة التي ابتلي بها المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلي الله عليه و آله و التحاقه بربّه، هو ضعف الارادة، و اللامبالاة و عدم الانفعال بما يجري حولهم، حتي لو كان ما يجري مخالفاً لخير و مصلحة الامّة و لتعاليم الإسلام و احكامه، و كانوا يعتبرون كلَّ من يستلم الحكم هو الخليفة المفروض عليهم طاعته!

ص: 378


1- الكامل لابن الاثير ج 2 ص 341.
2- حفيدة الرسول ص 53. اسعاف الراغبين ص 192.

و هذا الاستسلام، فسح المجال لكثيرين في استغفال المسلمين و القفز الي السلطة و المراكز الادارية في الدولة، و تمرير مخططاتهم، و الاستبداد بقراراتهم، و لم يكن إلاّ السيف و القوة اساساً لاستلام الحكم.

و هذا الاسلوب في الاستيلاء علي الحكم، كان هو المحكم في زمن الجاهلية، و في بعض البلدان المتخلفة، و حتي في بعض الدول التي تدّعي التطور و المدنية، بنسبٍ متفاوتة.

و أما في المجتمع الاسلامي الذي أُسّس علي اساس أرقي التعاليم و المقررات السماوية، فقد كان مثل ذلك المنهج غريباً و عجيباً، ذلك أن هذه الحكومات المستبدة، ليس فقط لا يمكنها هداية المجتمع الي الاهداف التي رسمها الإسلام، و إنّما يتسبب ذلك في إساءة فهم الإسلام و إتهامه من قبل الاجانب بالخواء و فقدان الانظمة الاجتماعية و السياسية.

فالممارسات المستبدَّة للحكومات الواصلة الي السلطة عن طريق القوة و الارهاب، و حتي لو أبدت بعض الليونة، لا يستطيع المسلم الحقيقي و الانسان الواعي و المتمدن الواقعي، أن يتحملها و يسكت عليها، و إن استحقار الامم و الشعوب بهذه الطريقة أمرٌ يستحيل قبوله ممن له ادني إدراكٍ بشري.

و أكثر أتباع مدرسة اللاأُبالية و الخنوع، هم من ضعاف النفوس و الماجورين و المغرضين أمثال عبد اللّه بن عمر(1) الذين يعتذرون علي سكوتهم بان7.

ص: 379


1- نقل ان الحجاج بن يوسف، عندما جاء الي مكة المكرمة و قضي علي عبد اللّه بن الزبير، جاءه عبد اللّه بن عمر و قال له: مدَّ يدك لابايعك! فاني سمعت رسول اللّه يقول: من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. فمدَّ له الحجاج رجله و قال له: ان يدي مشغولة. فقال له ابن عمر: اتهزا بي؟ قال الحجاج: يا أحمق بني عدي، أين كنت يوم بيعة علي بن ابي طالب؟ الم يكن علي امام زمانك؟ و اللّه انك لا تبايع امتثالاً لقول رسول اللّه و انما تبايع خوف هذا الجذع الذي صّلب عليه ابن الزبير: الكني و الالقاب ج 1 ص 357.

مخالفتهم للحكم يوجب التفرق و شق عصا المسلمين و اختلال النظام، و قد يلتمس هؤلاء أحياناً إعتذارهم من خلال بعض الروايات الداعية الي وجوب إطاعة ولاة الأمر، لذا فهم يسكتون عن كل الجرائم و الانحرافات الاخلاقية و السياسية و الاجتماعية و يعتبرون أن السكوت اولي من المواجهة!!

إنّ مؤيدي الحكام الغاصبين و ابواقهم الاعلامية و من أجل اسكات مخالفيهم و إستغفال المجتمع و إحكام قبضهم، يقولون باتهام الناصحين و الاصلاحيين باثارة القلاقل و الفتن و بالاخلال بالنظام و شقِّ عصا المسلمين.

و من الواضح، إنَّ طلاّب الدِعة و الراحة من ضعاف القلوب و ممن يضحي بالمصلحة العامة من أجل مصالحة الشخصية و لا يأبه للدين و شرف الامّة و عزّتها، كانوا يستسلمون لهذه الاحابيل الموافقة لمزاجهم، تهرباً من المسئولية.

و نتيجة ذلك، فسح المجال للظلمة يفعلون ما يشاؤون، بلا رادع و لا رقيب، و ينتهي الأمر الي وجوب تقديم الطاعة ليزيد و الحجاج و الوليد كما تجب طاعة الإمام العادل الصالح، و يكون الخروج علي الظالم، إشعالاً للفتنة و شقاً لعصا المسلمين!!

إنَّ نسبة هذا الحكم الي الإسلام زوراً و بهتاناً و إفتراءاً، أتاح للظلمة إرتكاب جرائمهم و تصفية القوي المعارضة لهم.

صحيح أنَّ الآيات و الروايات توجب إطاعة أولي الأمر و تحرِّم مخالفتهم و الخروج عليهم، و لكن الادلة تقصد أولي الأمر الذين يطبقون الشريعة بحذافيرها و

ص: 380

يدعون الناس الي الصلاح و يسعون الي تحقيق الاهداف الاسلامية و يظهرون عزّة الإسلام. فكيف تكون إطاعة حكومة كحكومة يزيد الفاسق و أمثاله من الظلمة واجبةً علي عامة المسلمين؟!

لو أنَّ مظلوماً جُلد جلدَةً واحدةَ ظلماً، كان كلُّ المسلمين الذين يعينون تلك الحكومة مسئولين، «الظالمُ و المُعينُ لَهُ و الراضي بِهِ شُركاءٌ ثَلاثٌ»

و في منطق الإسلام و مدرسة الانبياء عليهم السلام، لا يعدُّ الخروج طلبا للحق، و الامرُ بالمعروف و النهي عن المنكر و نصيحة الحكام و الدعوة الي الخير و الصلاح، إخلالاً بالنظام و لا تفريقاً للمسلمين، بل إنَّ ذلك عينُ النظام و وحدة المسلمين.

إنَّ زوال النُظم القائمة علي أساس الظلم و الباطل و التعدي علي حقوق الناس و الاستبداد و خنق الحريات و تكبيل المجتمع، أفضل من بقاءها، و النظام القائم علي التمييز الطبقي و الاستعلاء و إذلال المجتمع و نهب ثروات و خيرات الشعب، هو عينُ اللانظام و إنَّ النَظم الذي يسمح ليزيد و ابن زياد و شمر و الحجّاج بان يكنوا هم مصدر التشريع و التقنين، و يزجّ بالمفكرين و العلماء و الصلحاء في غياهب السجون، ليس نظماً بل هو فتنةٌ و إضطراب، و إنَّ الخروج علي مثل هذا النظم و حَلِّه، هو خروج لاحلال النظم الواقعي الصالح، قال تعالي:

«و قاتِلُوهُم حتّي لا تكونَ فِتنَةٌ و يكون الدّين للّه»(1)

فطبقاً لهذه الآية الشريفة، تكون كلُّ النظم، شرّاً و فتنَةً إلاّ النظام المرتبط بالسماء، و تكون الحكومات كلها، انفلاتاً و هرجاً و مرجشً و بلاءاً علي الناس، إلاّ3.

ص: 381


1- سورة البقرة، الآية 193.

الحكومة الاسلامية الصالحة.

فانه اذا كان ما قام به بنو اميّة في المدينة الطيبة من سفك الدماء و هتك الإعراض و إهانة المقدسات نظماً، فسيكون ما قام به فرعون و نمرود و جنكيز خان و سائر الظلمة و المستبدين، نظماً أيضاً!

و علي هذا الحساب الخاطي جداً، سيكون نبيُ اللّه ابراهيم و موسي بل و كل الانبياء و روّاد الاصلاح، مشاغبين! نعود باللّه.

إنَّ الاعتقاد بوجوب إطاعة كلِّ حاكم ولي زمام أمور المسلمين و لو بالقوة و الارهاب، هو أسخفُ رأي و معتقدٍ يثير العجب و الدهشة من أولئك الذين يؤيدون هذا المسلك الباطل.

لقد حارب الحسين عليه السلام هذا الفكر الخاطي الخطير، و نبّه الناس الي حرمة إطاعة الحكومات الجائرة كحكم يزيد و بني اميّة قاطبة، و افهمهم أنَّ القيام و الخروج علي مثل هذه الحكومات، واجبٌ شرعي و إنْ لزم تقديم التضحيات و الفداء.

و بعد ثورة الحسين عليه السلام، إتضح للناس، أنَّ الحكومة التي يجب علي عامة المسلمين اطاعة مقرراتها و نظمها هي الحكومة التي تجسِّدُ العدالة الإسلامية شكلاً و مضموناً، و تطبق القوانين و الاحكام الشرعية تطبيقا صادقاً دقيقاً.

9 - الاثر الخالد

إنَّ اثر ثورة الحسين عليه السلام بقي خالداً في صفحات التاريخ و كان و لازال الدافع و المحفِّز لأبطال الاصلاح و مجاهدي طريق الحق و الحقيقة و حماة العدالة و الفضيلة.

إنَّ جهاد الحسين عليه السلام لم يكن لشخص يزيد اللئيم بشمائله النحسة و شكله

ص: 382

القبيح، و انما كان جهادُ الحسين عليه السلام للمنهج الذي تجسد في يزيد عصر الحسين عليه السلام بفساده و استبداده و رذالته و اراقته للدماء البريئة و فسقه و مجونه و عدائه للاسلام و الايمان و طغيانه و تمرده علي اللّه و الرسول و خطره علي الدين و القرآن. و الحسين عليه السلام جاهد ذلك المنهج اينما كان و في يزيد ايَّ عصر و زمان تجسَّد.

و علي الشيعة و الاحرار في كل العالم ان يتعلموا هذا الدرس من الحسين عليه السلام و يعلموا أن ثورة الحسين عليه السلام لازالت قائمة مستمرة علي اليزيديين في كل عصر و مكان، فما دام هناك شركٌ و كفرٌ و جهلٌ و باطلٌ و ظلمٌ و إستبدادٌ و إستعبادٌ للناس و غصبٌ للحقوق الإنسانيّة، فهناك حسين عليه السلام يترصد تلك الانحرافات و يقف بوجهها بنفس العزم و نفس الصمود و نفس الاباء و نفس البأس.

و علي كل شخصٍ أنْ يميّز طريقه و يختار جبهته، جبهة الحسين ام جبهة يزيد؟ و هل هو في صف الظلمة و اعداء الإسلام، أم إنَّه في صفِّ الحسين عليه السلام و أصحاب الفضيلة و انصار الحق و العدالة؟

و كم من الناس، ظاهرهم أنَّهم من موالي الحسين عليه السلام و انصاره، و لكن باطنهم يدلُّ علي إنَّهم من حزب يزيد و بني اميّة.

و اقولها آسفاً، كم من قلمٍ و لسانٍ و فعال و خصال، تركت الحسين عليه السلام و الإسلام غريباً وحيداً و التحقت بمعسكر قتلة الحسين عليه السلام و مخالفي منهجه و اهدافه.

و لو يكن في الدنيا، رجالٌ أبطال حق و فداء كالحسين عليه السلام و اصحابه الذين فدوا آخرتهم بدنياهم و روحهم بأموالهم و الحقِّ بالباطل و الحقيقة بالمجاز، لضعفت القيم الإنسانيّة و بَهت ضياؤها و خبث جذوتها، و لساد حبُّ الدنيا علي حبِّ الآخرة و الغزائز الحيوانية علي الكمالات الإنسانيّة و لتحقق مصداق قوله تعالي:

ص: 383

«يعلمون ظاهراً مِنَ الحياةِ الدُّنيا و هُم عن الآخرة هم غافلون»(1)

و أمّا شهادة الحسين عليه السلام و تضحيات أصحابه و أسرِ أهله و عياله فقد عكس جمال الحقيقة الإنسانيّة، و ساق الانظار الي عالم السمو و المعني و افهَم الجميع ان الإنسانيّة معني سامٍ لا يتَّحدد بهذا القالب الجسماني الظاهري، فليست الإنسانيّة لحماً و دماً و عظاماً، فلو سار الانسان في وادي الآدمية و وصل الي مملكة الإنسانيّة فسوف يتجلي فيه الشرف و الرفعة و الكرامة الي درجةٍ لا تتمكن معها أيَّة قوة مادية من السيطرة و التسلط عليه، و لا يمكن استبدالها بكل الحظوظ الحيوانية و المقامات الدنيوية.

و هذا الاثر، خالدٌ و مستمر، و كلما كثرت مجالس عاشوراء و مراسم ذكر الحسين عليه السلام و مصائبه، و كلما إزداد التأمل و الغور في أسرار النهضة الحسينية، كلما إزداد تأثيرها في القلوب و كبر شوق الناس الي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ترسخت المفاهيم الاصلاحية و حماية المظلومين و نصرة الضعفاء و المحرومين و الايثار بالمال و المتاع الدنيوي من أجل المصالح العليا.

و لو انَّ القوي المستعمرة و اعداء الإسلام، قلّلوا من عدائهم للمنهج الحسيني و خلّوا بين المسلمين و بين هذه الحقائق السامية، و قام الوعّاظ و العلماء و الخطباء ببيان أسرار النهضة و أهدافها، لاقتلعت جذور الظلم و الفساد و استبدلت بشجرة الايمان و التوحيد و العدالة و الفداء و الاقتداء بالحسين عليه السلام و أهدافه.

ان الشعراء الذين انشدوا في الحسين عليه السلام كالكميت و دعبل و إبن الرومي و حتي ابي العلاء المعرّي، و في الازمنة الصعبة التي حكم فيها أعداء الحسين عليه السلام،7.

ص: 384


1- سورة الروم، الآية 7.

الذين بذلوا الأموال و الهدايا و الهبات لمتملقي السلطان، أنشدوا تلك القصائد البليغة الساحرة، لان ذوقهم الرقيق و شعورهم المرهف قد لَمس جمال الإنسانيّة الكريمة في تاريخ حياة الحسين عليه السلام و أولاده. مثلهم كمثل الشاعر المسحور بجمال الطبيعة الخلاّبة و الطيور و الرياحين و الصحاري و السماء و النجوم، و لكن شعراء الطف، سُحروا بجمال فضيلة و حقيقة الحسين عليه السلام و أصحابه البررة، فانشدوا بالبداهة تلك القصائد الرائعة.

نعم، لقد كان الحسين عليه السلام من أعظم آيات اللّه، و إنَّ تجلي الايمان و العبودية للحق تعالي و الحقيقة و الشجاعة و الشهامة و الفداء في شخصيته، كان أوضح من تجلي الشمس و القمر.

فمن وصف من الشعراء الحسين عليه السلام كان شعره هو الاوفر حظاً في الروعة و الجمال و اللطافة و هذه التأثيرات لشهادة الحسين عليه السلام في النفوس، و انفعال الارواح و تفاعلها معها، سيبقي خالداً علي مرّ التاريخ. و لذا وجدنا كيف فشل الجبّارون كالمتوكل العباسي، حينما أرادوا الحدّ من تأثيرات ثورة الحسين عليه السلام في نفوس الناس فازداد إقبال الناس علي تعظيم الشعائر الحسينية و إزداد إخلاصهم للحسين عليه السلام.

فتحقّق بذلك مصداق هذا البيت:

لقد وقفوا في ذلك اليوم موقفاًالي الحشر لا يزداد إلاّ معاليا

فسلام اللّه و صلواته عليك، و علي أولادك، و اهل بيتك و اصحابك، و أنصارك يا سيّد الشهداء، و يا أبا الأحرار و يا سفينة النجاة، و يا منقذ الإسلام، تقبَّل منّي هذا القليل، و لا تُؤاخذني بما فرّطت في خدمتك، فما في هذا الكتاب مِن الحسنات و الكلمات اللائقة بجنابكم فمنكم و ما فيه مما هُو دون مقامكم الرّفيع فهو منّي و من جهلي، و قصور معرفتي فانظر إليه يا مَولاي بعين العناية و القبول فانّكم

ص: 385

أهل البيت لا يخيب مَن رجاكم، و لا يحرم من أتاكم.

و أسئل اللّه تعالي بحقّ النّبي و اهل بيته أن يصلي عليه و عليهم و يغفر لي و لوالديّ و لأساتذتي و لجميع المؤمنين و المؤمنات، و ان يحشرني في زمرة سيدي و مولاي الحسين - عليه السلام - إنَّه قريبٌ مجيبٌ.

ص: 386

مصادر الكتاب من كتب العامّة

1 - ابو الشهداء عباس عقاد

2 - الأخبار الطوال ابو حنيفة دينوري

3 - احياء الميت بفضائل اهل البيت سيوطي

4 - اسباب النزول واحدي

5 - الإستيعاب في اسماء الاصحاب ابن عبد البر قرطبي

6 - اسد الغابة ابن اثير الجوزي

7 - اسعاف الراغبين محمد الصبّان

8 - الإكليل سيوطي

9 - الإتحاف بحب الاشراف شبراوي

10 - الإسلام و الاستبداد السياسي محمد غزالي

11 - الإصابة ابن حجر عسقلاني

12 - الإمامة و السياسة ابن قتيبة

13 - البدء و التاريخ مطهر مقدسي يا أبو زيد بلخي

14 - بطلة كربلاء الدكتوره بنت الشاطي

15 - بنات النبي صلي الله عليه و آله الدكتوره بنت شاطي

16 - تاج العروس مرتضي الزبيدي

ص: 387

17 - التاريخ الكبير ابن عساكر

18 - تاريخ الامم و الملوك الطبري

19 - تاريخ اليعقوبي اليعقوبي

20 - تاريخ الخلفاء السيوطي

21 - تاريخ ابن اعثم احمد ابن اعثم

22 - تذكرة الخواص سبط ابن الجوزي

23 - تفسير الطبري الطبري

24 - الجامع الصغير السيوطي

25 - الحاوي السيوطي

26 - الحسن و الحسين سبطا رسول اللّه صلي الله عليه و آله محمد رضا رشيد

27 - حلية القرآن ابو نعيم الاصفهاني

28 - حفيدة الرسول صلي الله عليه و آله الشرباصي

29 - حياة الحيوان الدميري

30 - خصائص النسائي

31 - الخصائص الكبري السيوطي

32 - دائرة المعارف فريد وجدي

33 - الدر المنثور السيوطي

34 - ذخائر العقبي محب الدين الطبري

35 - السيرة الحلبية علي الحلبي الشافعي

36 - سمو المعني في سموّ الذات أو اشعة من حياة الحسين عليه السلام العلائلي

37 - سنن الترمذي

ص: 388

38 - سنن ابن ماجه

39 - سيره ابن هشام

40 - السيدة زينب عليها السلام لجنة نشر العلوم و المعارف الاسلامية

41 - السيرة النبوية السيد احمد زيني

42 - شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد

43 - شرح نهج البلاغة محمد عبده

44 - صحيح البخاري

45 - صحيح الترمذي

46 - صحيح مسلم أبو الحسن مسلم

47 - الصواعق المحرقة ابن حجر

48 - العدالة الاجتماعية في الإسلام سيد قطب

49 - عقد الفريد ابن عبد ربه

50 - غرائب القرآن حسن بن محمد قمي النيشابوري

51 - فرائد السمطين الحمويني

52 - الكامل في التاريخ ابن الأثير

53 - كفاية الطالب الگنجي الشافعي

54 - كنز العمال علي المتقي الهندي

55 - كنوز الحقائق المناوي

56 - المحاسن و المساوئ ابراهيم بن محمد البيهقي

57 - المختصر في أخبار البشر ابو الفداء

58 - مسند احمد احمد بن حنبل

ص: 389

59 - مصابيح السنة البغوي

60 - مطالب السؤول محمد بن طلحة الشافعي

61 - معاوية بن ابي سفيان في الميزان عباس العقّاد

62 - مقاتل الطالبين ابو الفرج الاصفهاني

63 - مقتل الحسين عليه السلام الخوارزمي

64 - مودة القربيسيد علي الهمداني

65 - النصايح الكافية لمن تولي معاوية سيد محمد بن عقيل

66 - النزاع و التخاصم المقريزي

67 - نظم درر السمطين الزرندي

68 - نور الابصار الشبلنجي

69 - نهاية الارب في انساب العرب القلقشندي

70 - ينابيع المودة القندوزي

و كتب اخري

ص: 390

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.