يأجوج ومأجوج في عصر الظهور

اشارة

يأجوج ومأجوج في عصر الظهور

الشيخ توفيق حسن علوية

دار الصفوة

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولي 1428ه - 2007م

دار ال صفوة

لبنان - بيروت - بئر العبد خلف محطة دياب تلفاكس: 42 49 27 (9611+) - 00 29 55 (9611+)

جوال: 49 01 80 (9613+)

ص.ب.:

25/91 بيروت - لبنان

E-mail: dar_asafwa@hotmail.com

ص: 2

يأجوج ومأجوج في عصر الظهور

الشيخ توفيق حسن علوية

دار الصفوة

بيروت - لبنان

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الإله الواحد الأحد المعين، الذي عليه توكلي وإياه أستعين، والذي لا تخفي عليه ذرة في العالمين.

والصلاة والسلام علي المحمود الأحمد الأمين، ورسول رب العالمين، والنبي العظيم المكين الأمين، محمد خير الوري أجمعين، وعلي آله الأطهرين المعصومين الميامين، وصحبه الأخيار الذين لم يرتدوا عن دين الله المتين، ولازموا ولاية أمير المؤمنين والحسن والحسين والتسعة المعصومين عليهم السلام أجمعين.

ص: 5

ص: 6

إهداء

إلي الذي أنقذنا من ظلمات الضلالة وأخذ بأيدينا إلي حيث نور الهداية الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وآله ...

إلي التي أضاء نورها الوجود، وتشرف بذكرها الخلود، سيدتي ومولاتي المعصومة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ...

إلي الذي تمحض الحق به، وتحيرت العقول بوصفه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ...

إلي الذي لو كان العقل رجلاً لكان هو، عظيم المهابة والسؤدد سيدي ومولاي الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) ...

إلي الذي حرّك ساكن الحياة، وهزّ مصرعه الكائنات، سيدي ومولاي الإمام الحسين عليه السلام ...

إلي صاحب الدعوات المستجابات سيدي ومولاي الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) ...

إلي واسع العلم، ورائد الحكمة والفهم سيدي ومولاي الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) ...

ص: 7

إلي صادق القول، وعضد العدل، ومحارب الظلم سيدي ومولاي الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) ...

إلي كاظم الغيظ، وصاحب الهدايا والعطايا، ومظلوم الأمة الإمام موسي بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) ...

إلي غريب الغرباء، وشهيد الأرض والسماء الإمام علي بن موسي الرضا (عليهما السلام) ...

إلي جواد الأمة، وسليل الأئمة الإمام محمد بن علي الجواد (عليهما السلام) ...

إلي هادي الأمة، وصاحب أخطر مهمة، الإمام علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) ...

إلي المبشر بخلاص الأمة، وصاحب البشارة العظمي، الإمام الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) ...

إلي زاد القلوب التواقة، ولهفة الصدور المشتاقة، سليل الأئمة، ومخلص الأمة الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف ...

إليهم جميعاً وإلي روح والدتي الطاهرة الحاجة نزيهة توفيق علوية، وإلي والدي الذي رباني علي حب محمد وآل محمد وولايتهم، وإلي أنسابي وأسبابي سيما زوجتي الموقرة، وإلي جيراني وإخواني في الله عزَّ وجل أهدي هذا السفر راجياً من الله جل شأنه وتعالت قدرته القبول والشفاعة.

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

«يأجوج ومأجوج في عصر الظهور عنوان اخترناه لهذا البحث الشيّق لأنه يتحدث عن حقيقة قرآنية لا يتسني إنكارها البتة.

والبحث عن حقيقة يأجوج ومأجوج وإن كان حفراً في الماضي البعيد جداً، إلا أن لمسات الحاضر أو المستقبل لا تكاد تبدو خافية، فعبارة «فإذا جاء وعد ربي» القرآنية خير شاهد علي ما نقول.

وقد تسأل لماذا يأجوج ومأجوج؟؟ والجواب: إن ذكرهما في القرآن الكريم يحفز فينا روح التدبر من جهة، وإن تناثر البحث عنهما في كتب التفاسير والبحوث العلمية سيما العقائدية منها يشجعنا علي إفرادهما ببحث مستقل من جهة ثانية، وإن عدم تكوين صورة علمية موحدة عنهما يبعث فينا الحماسة لتحقيق ذلك وإن علي سبيل الإحتمال أو الترجيح من جهة ثالثة، وإنّ تكرار وتشابه التصنيفات والتآليف في الآونة الآخيرة يرغبنا في تصنيف كتابٍ لا سابقة له إلي حد ما من جهة رابعة.

وقد تسأل ما هو الرابط بين يأجوج ومأجوج وبين عصر الظهور؟؟

والجواب: نحن قلنا في عصر الظهور، فقد يكون خروج يأجوج

ص: 9

ومأجوج قد تحقق فعلاً قبل ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف؛ فهذا مما لا ينافي كون حصول ذلك في عصر الظهور، لأنه في علم الله عز وجل يطلق علي ما قبل الظهور سيما ببرهة قصيرة عصر الظهور، وقد يكون خروج يأجوج ومأجوج قبل ظهور المهدي عليه السلام بوقت قريب فكذا هذا العنوان لا ينافيه، وقد يكون خروج يأجوج ومأجوج بعد قتل الدجال، ونزول عيسي عليه السلام ، وبعد ظهور الإمام المهدي، فكذا هذا مما لا ينافي أن يكون خروج يأجوج ومأجوج في عصر الظهور، علي أن هذا العنوان أعني «يأجوج ومأجوج في عصر الظهور» متبني من قبلنا علي نحو الترجيح، لأنه موافق للتحقيق من جهة، وغير مناف للآراء الأخري من جهة أخري.

وإنني إذ أشكر الله عزَّ وجل علي ما أنعم علي إذ وفقني لإتمام هذا البحث، أرجو من القرّاء الكرام أن لا يكتفوا بهذا الكتاب وأتمني عليهم البحث أكثر، كما أشير إلي ضرورة التمعن والتدقيق بمحتوي هذا الكتاب لأن القراءة العابرة لا تكفي.

أسأل الله عزَّ وجل أن يجعل هذا السفر ضمن صحيفة أعمالي المقبولة

إنه نعم المتقبل ونعم المجيب.

توفيق حسن علوية العاملي

الجنوب - مارون الراس في 2007/1/8 م

الموافق لعيد الغدير الأغرّ

ص: 10

مدخل

هناك جدلية قائمة حول جدوي ربط القديم بالحاضر، وربطهما بالمستقبل، وذلك أن استحضار الماضي البعيد والقريب في واقعنا الحاضر، وفي آفاق مستقبلنا، هو أمر مذموم ومعيب عند الكثير ممن يقول لك بلسان عصري فصيح: «نحن أبناء اليوم وأحلام الغد».

وكما أن استحضار الماضي أمر معيب عند البعض، فإن الاهتمام بالمستقبل البعيد أيضاً من الأمور المعيبة عند هؤلاء لماذا؟؟ لأنهم يقولون لك بلسان عصري فصيح أيضاً: «نحن في الآن ودعنا من غد».

وهكذا تستمر هذه الجدلية في كل ساحة من ساحات الاحتراب الفكري، وأمام أي استحقاق من استحقاقات الحياة. ولكن الحقيقة تأبي إلا أن يشع نورها فها هي تصرخ وتقول: إن الماضي المتحرك لا الجاف له دخالة في صياغة الحاضر والمستقبل وكيف لا، والوجود برمته يسير وفق المخطط الإلهي العام، والبشرية كما أن لها نهاية فإن لها بداية، ولولا البداية لما كانت النهاية.

ومن القضايا التي لماضيها ربط بالمستقبل الآتي قضية النبي عيسي (عليهما السلام)، وقضية المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، وأيضاً قضية «يأجوج ومأجوج» حيث أن القرآن الكريم أكّد حقيقة وجودهما في

ص: 11

الماضي، كما أنه حتم حقيقة خروجهما في يوم من الأيام، والسؤال هو : من هما يأجوج ومأجوج؟؟ هل هما بشر؟؟ هل هما غير بشر؟؟ هل هما تعبير حقيقي أم أنهما مجازيان؟؟ هل هما في الأرض أم في السماء؟؟ هل خرجا أم لم يخرجا؟؟ هل سدهما موجود أم مفقود؟؟ هل هو سد حقيقي أم مجازي؟؟ هل هما من علامات ظهور المهدي عجل الله فرجه الشريف أم أنهما خرجا قبل خروجه عجل الله فرجه؟؟ هل هما من أشراط الساعة أم الا؟؟ أسئلة كثيرة، وجمة غفيرة، واجوبتها ماثلة في الصفحات التالية فتابع معنا بتمعن وتدقيق ولا تثنيك الملالة عن البحث والمثابرة.

ص: 12

ياجوج وماجوج في اللغة

اختلف حول «يأجوج ومأجوج» من حيث اللغة، والخلاف هاهنا مرده إلي أمرين هما:

الأول: اللفظان أي «يأجوج ومأجوج» هما لفظان عربيان، فإذا كانا كذلك عندها تهون المسألة ونبحث حينئذٍ عن الاشتقاق اللغوي.

الثاني: اللفظان هما أعجميان، ولا دخل لهما بالعربية وحينئذٍ فلا مجال للبحث عن الاشتقاق اللغوي كما لا يخفي.

وقبل حسم الخيار حول تحديد المعني اللغوي للفظي «يأجوج ومأجوج» لا بد من الوقوف عند نقطتين هما:

النقطة الأولي: أنهما إسمان، أي أن يأجوج ومأجوج من الأسماء، فإن رجعا إلي اللغة العربية وبالتالي كان لهما اشتقاق لغوي فإنهما لن يخرجا عن دائرة الإسمية، وإن كانا من الأعجمية فإنهما أيضاً من الأسماء.

النقطة الثانية: الرجوع إلي معاجم اللغة العربية لتحديد المراد، فقد أرجع الفيومي يأجوج ومأجوج إلي اللغة العربية مستخدماً عبارة قيل فقال: «وقيل مشتقان من أجّت النار فالهمز فيهما أصل ووزنهما يفعول ومفعول وعلي هذا

ص: 13

ترك الهمز تخفيف»(1) وفي تفسيره لمعني أجّت النار قال: (أجّت) النار (توّج) بالضم (أجيجاً) توقدت»(2).

ولكنه أيضاً استخدم عبارة قيل في إرجاعه يأجوج ومأجوج إلي الأعجمية حيث قال: واقيل إسمان أعجميان»(3).

ولكننا نستطيع القول بأن وضعه ليأجوج ومأجوج تحت عنوان «ماء أجاج» يمكن أن يستشف منه ترجيحه كونهما عربيان ولهما اشتقاق لغوي من أجّ يُؤج(4).

وفي ذلك قال البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل «وقيل إنهما إسمان أعجميان بدلالة منع الصرف»(5)، بينما نفي آخر أعجميتهما لقوله تعالي: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ»(6)، ومن هنا أرجع النافي لأعجمية يأجوج ومأجوج أصل الكلمتين إلي اللغة العربية قائلاً:

«فالإسم مشتق من أجّ أي أسرع والآخر مشتق من مجّ ومعناه تحدر أو إنسلّ فالأج والمج واحد في الفعل مختلف في الصورة الأول يُظهر الإسراع والآخر ينسل خفية بإسراع فهو كالفارق تماماً بين الهمز واللمز»(7)، واستدل هذا القائل بما ورد في القاموس حيث قال في القاموس: «أج إذا أسرع وأصله الهمز»(8).

نعم يمكن أن يستدل لقول هذا القائل بتوافق المعني اللغوي أي

ص: 14


1- المصباح المنير، ص 5
2- م.ن
3- م.ن
4- م.ن
5- الطور المهدوي، 51
6- سورة فصلت، الآية: 44
7- الطور المهدوي، 52
8- م.ن

الإنسلال بسرعة مع فعل يأجوج ومأجوج الذي تحدث عنه القرآن الكريم صراحة حيث قال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(1) فالتعبير بالإنسلال يتوافق مع تفسير المعني اللغوي ل- مجّ بمعني تحدر وانسل، وليعلم بأن صاحب مجمع البيان ذكر كلاماً موافقاً لهذا القائل في إرجاع عبارة يأجوج إلي «أجّ» علي وزن يفعول علي نحو يربوع ولكن بقيد كون اللفظ عربياً، ولكن الهمزة في يأجوج إن لم تكن علي التخفيف. فإن لفظ يأجوج فاعول من «يجج»، وهذا في يأجوج، وأما مأجوج فهي عند من همز مفعول من «أجّ» فتصير يأجوج ومأجوج من أصل واحد، أما عند من لم يهمز فتصير فاعول من «مجّ» فالكلمات علي هذا من أصلين وليسا من أصل واحد، أي «أجّ ومجّ».

قال في مجمع البيان: «قال أبو علي: يأجوج إن جعلته عربياً فهو يفعول من أجّ، نحو يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة، فقلبها ألفاً، فهو علي قوله يفعول أيضاً، وإن كانت الألف في (يأجوج) ليس علي التخفيف فإنه فاعول من ي ج ج فإن جعلت الكلمة من هذا الأصل، كانت الهمزة فيها كمن قال سأق - لغة في الساق -، ونحو ذلك مما جاء مهموزاً. ولم يتبع أن يهمز، ويكون الامتناع من صرفه علي هذا للتأنيث، والتعريف، كأنه اسم القبيلة كمجوس. وأما مأجوج فمن همز فمفعول من أج فالكلمتان علي هذا من أصل واحد، ومن لم يهمز فإنه فاعول من مجّ فالكلمتان علي هذا من أصلين، وليسا من أصل واحد، ويكون ترك الصرف فيه أيضاً للتعريفٍ والتأنيث(2).

ولكن هذه التمثيلات إن جعلتهما - أي يأجوج ومأجوج من الأعجمية؛

ص: 15


1- سورة الأنبياء، الآية: 96
2- ج 16، مج 6، 383

كلها لا تنفع ولا تصح فيهما لماذا؟؟ لأن امتناعهما عن الصرف حينئذٍ يكون للعجمة والتعريف لا لأجل التأنيث تبعاً لمن قال بعربيتهما، فقد قال في مجمع البيان: «فإن جعلتهما من العجمية فهذه التمثيلات - التي تقدمت - لا تصح فيهما، وإنما امتنعا عن الصرف للعجمة والتعريف»(1).

وعلي أي فإن أكثر معاجم اللغة أرجعت يأجوج ومأجوج إلي «أجّ» إذا صح فيهما الاشتقاق اللغوي وبالتالي صح عربيتهما، ومن هنا قال الراغب في المفردات: «أجيج النار وأجّتها، وقد أجّت، وائتج النهار ويأجوج ومأجوج منه، شبهوا بالنار المضطرمة والمياه المتموجة لكثرة اضطرابهم»(2)، وهذا كله بناءً علي عربيتهما، أما بناءً علي أعجميتهما فلا يصح ذلك، ومن هنا فُرّق بين كونهما مأخوذان من أج وما يوازيها، وبين كونهما غير ذلك بالنظر إلي عربيتهما وأعجميتهما، نعم فُرق أيضاً بين من قال بهمزهما فقال هما مأخوذان من أجّ، وبين من قال بغير الهمز فقال: هما مأخوذان من يجّ ومجّ، قال الفراهيدي في كتاب العين: «أجّ: ويأجوج ومأجوج، يقرأ علي الهمز وبغير الهمز، ومن لم يهمز قال: هو مأخوذ من يجّ ومجّ علي بناء فاعول»(3).

ومهما يكن فإن الأقوال في يأجوج ومأجوج من حيث اللغة:

1- إذا كانا عربيان:

أ- مأخوذان من أجّت النار بمعني توقدت، إذا صح فيهما الهمز.

ب- مأخوذان من يجّ إذا لم يصح فيهما الهمز.

ج- مأخوذان من أجّ بمعني أسرع، بالنسبة لمأجوج، ومجّ بمعني

ص: 16


1- م.ن
2- ص 64
3- ج 1، 67

تحدر وانسلّ بالنسبة لمأجوج. والأجّ والمجّ واحد في الفعل مختلف في الصورة كالهمز واللمز.

د- يأجوج ومأجوج عند من همزهما من أصل واحد، وعند من لم

يهمزهما ليسا من أصل واحد.

والمعني العام ليأجوج ومأجوج إذن: هو التوقد - الاضطراب -

الإسراع - الإنسلال.

2- إذا كانا أعجميان: فلا يصح كل ما ذكر، ومن هنا قيل: بأن «هاتين الكلمتين عبريتين ولكنهما في الأصل انتقلتا من اليونانية»(1).

ولما أنهما أعجميان فلا ينبغي الإعتناء بمصدر أعجميتهما طالما أنهما أعجميان، وإن كنت أميل ميل بترجيح إلي قولين اثنين تقدما معنا في طيات الكلام:

الأول: ما قرره النافي لأعجمية يأجوج ومأجوج منطلقاً من قوله تعالي: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ»(2). ولكن تحقيق القول في كون كل ألفاظ القرآن المفردة غير أعجمية يحتاج إلي دليل، نعم توافق بل تطابق تفسيره ليأجوج ومأجوج بمعني الإنسلال والإنحدار، والإسراع، مع قوله تعالي في وصفهما: «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» يمكن أن يقترب بنا إلي الإذعان بصدق هذا التعريف اللغوي.

الثاني: ما ذكره الراغب في مفرداته حيث قال: «شبهوا بالنار المضطرمة والمياه المتموجة لكثرة اضطرابهم» فهذا مما يتوافق مع قوله تعالي: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ»(3) والله العالم.

ص: 17


1- الأمثل، مجلد 9، 331
2- سورة فصلت، الآية: 44
3- سورة الكهف، الآية: 99

يأجوج وماجرج في الكتب القديمة

يأجوج ومأجوج وردا في الكتب القديمة سيما في التوراة، والبعض «يعتقد أن هاتين الكلمتين عبريتين، ولكنهما في الأصل إنتقلتا من اليونانية إلي العبرية، إذ كانتا تلفظان في اليونانية ب-«گاك وما گاك» ثم انتقلتا علي هذا الشكل إلي كافة اللغات الأوروبية(1).

«وفي كتاب «حزقيل» من التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، وفي كتاب رؤيا يوحنا الفصل العشرين، ذكرا بعنوان «گوك» و «ماگوگ» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج(2).

«وورد ذكر «مأجوج» و«جوج ومأجوج» في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الإصحاح العاشر من سفر التكوين من التوراة: «وهذه مواليد بني نوح: سام وحام ويافث وولد لهم بنون بعد الطوفان. بنويافث جومر ومأجوج وماداي وباوان ونوبال وماشك ونبراس».

وفي كتاب حزقيال الإصحاح الثامن والثلاثون «وكان إلي كلام الربّ قائلاً: يا ابن آدم اجعل وجهك علي جوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك ونوبال، وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أناذا عليك ياجوج

ص: 18


1- الأمثل، مجلد 9، 330
2- م.ن

رئيس روش ماشك ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك واخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلهم لابسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخودة، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوباً كثيرين معك».

قال: «لذلك تنبأ يا ابن آدم وقال لجوج: هكذا قال السيد الرب: الرب في ذلك اليوم عند سكني شعب اسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصي الشمال» الخ.

وقال في الإصحاح التاسع والثلاثين ماضياً في الحديث السابق: وأنت يا ابن آدم تنبأ علي جوج وقل: هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يا جوج رئيس روش ماشك ونوبال واردك واقودك وأصعدك من أقاصي الشمال. وآتي بك علي جبالِ إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسري واسقط سهامك من يدك اليمني فتسقط علي جبالِ إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلاً للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحفل، علي وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل ناراً علي مأجوج وعلي الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب».

وفي رؤيا يوحنا في الإصحاح العشرين: «ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة علي يده فقبض علي التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة، وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضلّ الأمم فيما بعد حتي تتم الألف سنة، وبعد ذلك لا بد أن يحل زماناً يسيراً.

قال: «ثم متي تمت الألف سنة لن يحلّ الشيطان من سجنه ويخرج

ص: 19

ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا علي عرض الأرض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذّاب وسيعذبون نهاراً وليلاً إلي أبد الأبدين»(1).

فيستفاد أن يأجوج في الكتب القديمة إسمه «جوج»، وقد نقل صاحب كتاب الأمثل عن العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان قوله: «إنه يستفاد من مجموع ما ذُكر في التوارة أن مأجوج أو جوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت تقطن أقصي نقطة في شمال آسيا، وهم أُناس محاربون يغيرون علي الأماكن القريبة منهم»(2).

وبالفعل فإننا إذا أردنا إيجاد جامع مشترك بين ما قيل في التوراة عن يأجوج ومأجوج، وبين ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، نجد أن الجامع المشترك ثلاثة أمور:

الأول: أن يأجوج ومأجوج كانا في سجن، ثم يخرجان للإفساد.

الثاني: أن دورهما - أي يأجوج ومأجوج - هو دور إفسادي.

الثالث: أن جموعهما كثيرة وغفيرة.

بل إذا تأملنا أكثر يمكن أن تتشارك أحاديث التوراة مع الروايات الإسلامية من حيث توصيف الأعلام والزمان والمكان والله العالم.

ص: 20


1- ميزان الحكمة، ج 9، ص 422 وما بعدها
2- الأمثل، مجلد 9، ص 331

الآيات الواردة بشان يأجوج ومأجوج

تحدث القرآن الكريم عن ظاهرة يأجوج ومأجوج بصورة مرتبطة مع مجريات سيرة إحدي الشخصيات الإلهية الكبري المعروفة «بذي القرنين» في بعض الموارد، وفي مورد آخر ذكر الله عزَّ وجلَّ يأجوج ومأجوج بصورة مرتبطة بتحقيق الوعد الإلهي.

وبالحقيقة فإن الآيات الواردة بشأن يأجوج ومأجوج ذكرت في موضعين من القرآن الكريم إحداهما في سورة الكهف، وثانيهما في سورة الأنبياء، وهذين الموضعين هما:

1- في سورة الكهف: حيث قال تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا

ص: 21

وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا»(1).

2- في سورة الأنبياء: حيث قال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ»(2).

ص: 22


1- سورة الكهف، الآيات: 83 - 99
2- سورة الأنبياء، الآيتان: 96 - 97

تفسير مفردات الآيات الواردة

-«وَيَسْأَلُونَكَ»: أي يسألونك يا محمد صلي الله عليه وآله.

-«ذِكْرًا»: خبراً وقصة.

-«مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ»: ملكناه حتي صارت تحت ولايته وسلطته.

-«وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا»: أي أعطيناه كل القدرات والطاقات حتي يبلغ ما يعزم عليه بإذن من الله عزَّ وجل وطلبٍ منه.

-«فَأَتْبَعَ سَبَبًا»: أي سلك طريقه الذي خرج من أجله.

-«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ»: أي وصل غرب الكرة الأرضية.

-«عَيْنٍ حَمِئَةٍ»: شديدة السخونة، وهي من ماء وطين.

-«عَذَابًا نُكْرًا»: أي عذاباً منكراً. في نار جهنم.

-«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»: أي سلك طريقاً آخراً عزم علي سلوكه.

-«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ»: أي شرق الكرة الأرضية.

-«أَحَطْنَا»: علمنا

-«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»: سلك طريقاً ثالثاً.

-«لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا»: لا يفهمون، وقيل: لا يفهمون لغة ذي القرنين.

ص: 23

-«خَرْجًا»: جعلاً من المال.

-«بِقُوَّةٍ»: برجالٍ. وقيل بالأدوات.

-«رَدْمًا»: سداً وحاجزاً. وقيل غير ذلك وسيأتي الكلام عنه.

-«زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطع الحديد الصغيرة.

-«سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ»: سوّي بين جانبي الجبلين.

-«قِطْرًا»: النحاس المذوب.

-«يَظْهَرُوهُ»: يعلوه.

-«نَقْبًا»: أي خرقاً وحفراً.

-«دَكَّاءَ»: مسويً بالأرض.

-«يَمُوجُ فِي بَعْضٍ»: يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم.

-«نُفِخَ فِي الصُّورِ»: قرن ينفخ فيه نفخة البعث. وقيل: جمع الصور.

-«فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ»: فتحت جهتهم بخراب السد الذي حجزهم حين بُني علي يد الإلهي المعروف بذي القرنين.

-«مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»: من كل مرتفع من الأرض يسرعون.

-«الْوَعْدُ الْحَقُّ»: قيام الساعة. وقيل موعد خروج يأجوج ومأجوج.

«شَاخِصَةٌ»: لا تطرف.

ص: 24

التفسير الإجمالي للآيات القرآنية

تتحدث الآيات القرآنية عن سؤال وُجه إلي النبي محمد صلي الله عليه وآله حول قصة ذو القرنين فكان أمر الله عزَّ وجل إليه أن يحدثهم عنه، فهو ممن آتاه الله الملك والسلطنة وهيء له كل أسباب القوة والمعرفة بما يُتيح له تحقيق الأهداف الإلهية التي أرسل من أجلها، فها هو يسلك طريقاً إلي غرب الأرض حيث وصل إلي تلك المنطقة المغربية فوجد قوماً من الأقوام ووجد نفسه مُطالب بالحكم العادل، وكان قراره أن يعاقب المصر علي الشرك ويجازي التائب المحسن، ثم إنه عليه السلام سلك طريقاً آخر فبلغ جهة الشرق فوجد قوماً تباشرهم الشمس بحرارتها القاسية، وكل هذا بعلم الله عزَّ وجلَّ، ثم أنه سلك طريقه متوجهاً نحو منطقة تقع بين جبلين، وهناك التقي بقومٍ كانوا ولا زالوا يعانون من مشكلة عويصة قوامها: وجود جماعة همجية كثيرة العدد تعمل بالناس والأرض والخيرات قتلاً، ونهباً، وفساداً، وتخريباً، وبما أن القوم لا يعرفون طرق وسبل التخلص من جماعة يأجوج ومأجوج المفسدة، وبما أنهم لا يهتدون لذلك سبيلاً؛ فقد وجدوا في ذي القرنين عليه السلام الحل الشافي، والأمل الكافي في تخليصهم من يأجوج ومأجوج، وعرضوا علي ذي القرنين عليه السلام أن يأخذ مالاً لقاء خدمته التي سيخدمهم بها، ولكنه لم يقبل بعرضهم المالي لأن الله عزَّ وجلَّ أعطاه أكثر مما يعرضونه عليه، ولكنه طلب منهم أن يمدوه بالرجال الأقوياء، وأن يأتوا له بالمواد الأولية المتوفرة

ص: 25

لديهم حتي يبني لهم سداً من نحاس يمنع يأجوج ومأجوج من الخروج منه وتخطيه، وهكذا وبعملية إعمارية وكيميائية بني عليه السلام سداً نحاسياً قوياً، لا تستطيع أفواج يأجوج ومأجوج أن تقفز من فوقه، ولا تستطيع أن تحفر عميقاً للخروج من تحته، وهكذا بني عليه السلام لهؤلاء القوم المستضعفين سداً حتي أعطاهم الآمان بأكثر مما يرجون، ثم أن هذا السد سيبقي حتي يجيء وعد الله عزَّ وجل قبل يوم القيامة فإذا جاء وعد الله عزَّ وجل خرب السد وانهار وخرجت أفواج يأجوج ومأجوج وأفسدت إفساداً يفوق التصور.

ص: 26

التفسير التفصيلي للآيات القرآنية

1- «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)»: «وَيَسْأَلُونَكَ»: الخطاب موجه إلي النبي محمد صلي الله عليه وآله، «عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» أي أخبرنا عن خبره وقصته لا عن شخصه كما أورد الطبرسي في تفسيره(1) واختلف فيه من هو؟؟ وما هي شخصيته وأوصافه؟؟ وفي أي زمان كان؟؟ وأين كان حكمه؟؟ وسيأتي الحديث عن هذا مفصلاً في عنوان مستقل.

«قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا» أي يا محمد صلي الله عليه وآله قل لهم سأقرأ عليكم منه خبراً وقصة والذكر حضور المعني للنفس، وقد يكون بالقلب وهو التفكر، وقد يكون باللسان(2)، وهنا الذكر باللسان كما لا يخفي.

إذن سُئل النبي صلي الله عليه وآله عن ذي القرنين، وأمره الله عزَّ وجل بالإجابة بحسب القرآن، وقد ورد لفظ ويسألونك في القرآن الكريم في عدة مواضع، وهذا من الأساليب المهمة للوحي حيث تكون الآيات القرآنية جارية مع حياة الناس ومواكبة لهم، ومن الموارد التي ورد فيها لفظ «وَيَسْأَلُونَكَ» قوله تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ»(3)، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَي»(4)، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 27


1- مجمع البيان، ج 16، مجلد 6، ص 379
2- م.ن
3- سورة البقرة، الآية: 219
4- سورة البقرة، الآية: 220

الْمَحِيضِ»(1) وقوله تعالي: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ»(2)، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ»(3)، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»(4) وإلي آخره.

2- «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)»(5).

أي: بسطنا يده في الأرض، وملكناه حتي استولي عليها، وقام بمصالحها. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخّر الله له السحاب، فحمله عليها، ومدّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء. فهذا معني تمكينه في الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فيها، وذلّل له طريقها وحزونها، حتي تمكن فيها أنّي شاء»(6)، وقال بعضهم أن مقتضي عموم قوله «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» يدل علي أنه ما من شيء من أسباب الحياة إلا وأوتي منه عليه السلام ، بل إن بعضهم استدل علي نبوته عليه السلام بعموم إتيانه من كل شيء سبباً، ومن المعلوم وجود خلاف حول هذه الشخصية الإلهية المعروفة بذي القرنين وحول كونه إنسياً أم ملكاً أم غير ذلك.

وبالجملة فقوله عزَّ وجلَّ «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» أي: فأعطيناه من كل شيء علماً يتسبب به إلي إرادته، ويبلغ إلي حاجته ... وقيل: معناه وآتيناه من كل شيء يستعين به الملوك علي فتح البلاد، ومحاربة الأعداء»(7).

و بالعموم فإن قوله عزَّ وجلَّ «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» يعني أُعطيعليه السلام كل ما يحتاجه في مسيرته الإلهية.

ص: 28


1- سورة البقرة، الآية: 222
2- سورة البقرة، الآية: 189
3- سورة البقرة، الآية: 217
4- سورة البقرة، الآية: 219
5- سورة الكهف، الآية: 84
6- مجمع البيان، ص 378
7- مجمع البيان، ج 16، 380

3- «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)»(1) واختلف حول المراد بقوله عزَّ وجل فأتبع سبباً علي قولين:

الأول: أنه عليه السلام أتبع طريقاً من طرقه التي عزم علي سلوكها وهي الطريق التي سلكها نحو الغرب.

الثاني: أن قوله عزَّ وجل «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)» أي أنه أتبع سبباً من الأسباب التي أوتي بها في قوله تعالي: «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا»، فيكون قوله عزَّ وجل «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)» متفرعاً علي الأسباب التي أوتيها.

ولكن الإنصاف هنا أنه أتبع سبباً أي سلك طريقاً أوصلته فيما بعد إلي المغرب.

4- «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)»(2).

يتحدث القرآن الكريم عن ذي القرنين عليه السلام كيف أنه «أَتْبَعَ سَبَبًا» أي سلك طريقه نحو غرب الدنيا حيث تغرب الشمس، فوصل إلي تلك المنطقة حيث مغرب الشمس، وموضع مغرب الشمس هذا في آخر عمارة الدنيا، حيث لم يبق بعد هذا الموضع أي أثر من العمارات. وقال ابن جريج: هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب وهذا من الغرائب.

وعندما وصل عليه السلام إلي موضع مغرب الشمس وجد أن الشمس تغرب في عين حمئة أي حامية، ومعني العين الحمئة أي العين المليئة بالطين الأسود المنتن، وهي عين حامية وحارة، وعن كعب قال: أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين(3).

ص: 29


1- سورة الكهف، الآية: 85
2- سورة الكهف، الآية: 86
3- مجمع البيان، ص 380

وحول غروب الشمس في عين حمئة أقوال:

القول الأول: أنها تغرب في عين حمئة حقيقية، وهذا الرأي بعيد جداً

وللرازي في استبعاد هذا القول مناقشة لطيفة هذا نصها:

«ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضاً قال: «وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا» ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض»(1).

القول الثاني: إن ذا القرنين لما بلغ موضع الشمس في المغرب ولم يبقَ بعده شيءٌ من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يري الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم يرَ الشاطيء وهي في الحقيقة تغيب وراء البحار، وهذا ما قرره العلامة الطبرسي في تفسيره حيث قال: «وجدها تغرب» «أي كأنها تغرب في عين حمئة» وإن كانت تغرب وراءها لأن الشمس لا تزال الفلك فلا تدخل في عين الماء، ولكن لما بلغ ذلك الموضع تراءي له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر يراها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء»(2).

القول الثالث: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلي الشمس يتخيل كأنها تغيب في البحار، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء، فقوله: «تغرب في عين حمئة» إشارة إلي أن الجانب الغربي من

ص: 30


1- التفسير الكبير
2- مجمع البيان، ج 16، مجلد 6، ص 380

الأرض قد أحاط به الأرض وهو موضع شديد السخونة.

هذا في تفسير عبارة «وجدها تغرب في عين حمئة»، أما قوله تعالي: «وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا» فالضمير في قوله «عندها» إما عائد إلي الشمس ويكون التأنيث للشمس، وإما عائد إلي العين الحامية، ورجحّ الطبرسي رجوع الضمير إلي العين لا إلي الشمس. وهكذا وجد عليه السلام أناساً يتصفون بصفة الكفر، فقال له الله عزَّ وجل بإلهام منه: إما أن تعذب هؤلاء وإما أن تعفو عنهم، وقال الطبرسي: إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم علي الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر، لتعلمهم الهدي، وتستنقذهم من العمي... فقضي ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالي، وكان عالماً بالسياسة(1).

5- قال «أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا»(2).

ولما طلب الله عزَّ وجلَّ من ذي القرنين أن يحكم في قوم موضع مغرب الشمس، وخيّره عزَّ وجل في ذلك، حكم بحكم الله عزَّ وجل فقرر ما يلي:

أولاً: من بقي علي الشرك ورفض التوبة والهداية يقتل في الدنيا، ويعذب

عذاباً أشد وقعاً من القتل في الآخرة، فيخسر الدنيا والآخرة.

ثانياً: من قبل منهم بالهداية، فسنعفو عنه، ونقول له قولاً جميلاً.

- «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)»(3)، أي سلك طريقاً آخر من الأرض بغية الوصول إلي الشرق بعدما انتهي من سفره إلي الغرب.

7- «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا

ص: 31


1- م.ن، 381
2- سورة الكهف، الآية: 87
3- سورة الكهف، الآية: 89

سِتْرًا»(1) وسار عليه السلام في طريقه الإلهي حتي وصل إلي شرق الكرة الأرضية، حيث تطلع الشمس، والتقي هناك أناس يعيشون في أقرب الأماكن من مطلع الشمس، وأما قوله عزَّ وجلَّ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا» فقيل في ذلك قولان:

الأول: ليس هناك شجر ولا جبل، ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم، فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس مما يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش.

قال العلّامة الطبرسي في تفسير هذا المقطع القرآني: «معناه أنه لم يكن بها جبل، ولا شجر، ولا بناء، لأن أرضهم لم يكن يثبت عليها بناء، فكانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه والأسراب، وإذا غربت تصرفوا في أمورهم»(2).

وعن الإمام الباقر عليه السلام في رواية قال: «لم يعلموا صنعة البيوت»(3).

الثاني: إن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً، ويقال في كتب الهيئة: إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك(4).

ومن الطريف ما قيل بأن أهل تلك المناطق كانوا يشوون الأسماك النيئة علي الشمس.

8- كذلك «وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا»5.

وقد أحطنا بما لديه خبراهه(5).

ص: 32


1- سورة الكهف، الآية: 90
2- ص 382
3- م.ن
4- تفسير الرازي، ج 21، ص 497
5- سورة الكهف، الآية: 91

وقيل في تفسير هذه الآية أقوال منها:

القول الأول: أي علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجيوش، والعدة، والآت السياسة(1).

القول الثاني: معناه أحطنا علماً بصلاحه واستقلاله بما ملكناه قبل أن يفعله، كما علمناه بعد أن فعله، ولم يخف علينا حاله(2).

القول الثالث: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم علي ما قد أعلم رسوله صلي الله عليه وآله في هذا القرآن الكريم.

القول الرابع: كذلك كانت حاله مع أهل مطلع الشمس كما كانت حالته عليه السلام مع أهل مغرب الشمس، فكلما قضي في أولئك قضي وحكم في هؤلاء.

القول الخامس: أنه عزَّ وجل بقوله «كذلك» أي تم الكلام عن قوم أهل مطلع الشمس كما وجدهم عليه ذو القرنين. وبعد ذلك تحدث الله عزَّ وجل عن أنه عزَّ وجل كان محيطاً بما كان يفعله عليه السلام وهذا يعني أن هذا القول يفرق بين عبارة «كذلك» وبين باقي الآية. هذا وليعلم بأن لفظ «بما لديه» الوارد في الآية الآنفة الذكر إشارة إلي حسن الثناء من قبل الله عزَّ وجل علي ذي القرنين عليه السلام ، وأيضاً إشارة علي الرضي بأفعاله في جميع أحواله عليه السلام .

9- «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»(3). أي ثم اتبع مسلكاً بالغاً مما يبلغه قطراً من أقطار الأرض. وهذا يقوي قول من قال: بل هو المتيقن - إن الأرض كروية الشكل، لأنه لم يأخذ في الطريق الذي كان قد عاد فيه، وإنما أخذ في طريق آخر(4).

ص: 33


1- مجمع البيان، 382
2- م.ن
3- سورة الكهف، الآية: 92
4- مجمع البيان، ص 382

10- «حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا»(1)، سلك عليه السلام طريقاً ثالثاً نحو منطقة جبلية، وبالتحديد إلي منطقة تقع بين جبلين، وقيل أن موضع السدين في ناحية الشمال. وقيل: هما جبلان بين ارمينية وبين أذربيجان. وقيل: في مقطع أرض الترك. وحكي الطبري في تاريخه: أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجهِ إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع. وقال أبو الريحان: مقتضي هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة»(2)، وذكر المراغي في تفسيره أن موضع السدين وبالتالي سد ذو القرنين يقع وراء جيحون في عمالة بلخ وهو بمقربة من مدينة ترمذ وقد نقل المراغي ذلك عن مجلة المقتطف لسنة 1888(3)، وبما أن موضع السدين أو الجبلين في نفس موضع يأجوج ومأجوج فقد ذكر المراغي أن بلادهم تمتد من التبت والصين إلي البحر المتجمد»(4).

ومهما يكن فالمراد بالسدين الجبلين «لأن السد يطلق علي الجبل وعلي كل حاجز يسد طريق العبور»(5)، والسدان هما الجبلان اللذان جعل - أي ذو القرنين - الردم بينهما، وهو الحاجز بين يأجوج ومأجوج(6).

وقال صاحب التفسير الكاشف في موضع السدين أنها بلاد تقع شرقي

البحر الأسود يسكنها الصقالبة - كما قيل - وفق تعبيره(7).

ص: 34


1- سورة الكهف، الآية: 93
2- تفسير الرازي، ج 21، ص 498
3- التفسير الكاشف، ج 16، ص 158
4- م.ن
5- من وحي القرآن، ج 14، ص 390
6- مجمع البيان، ص 387
7- التفسير الكاشف، ج 16، ص 159

ثم أنه عليه السلام التقي وراء الجبلين قوماً يعيشون البساطة، ولا يملكون العمق الفكري، ولا يستطيعون إتخاذ التدابير والسبل المناسبة للدفاع عن أنفسهم، ولذا عبّر القرآن الكريم عنهم بأنهم «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا»، واختلف حول عدم تفقههم للقول علي أقوال:

الأول: أنهم قاصرون عن الفهم والإدراك بالحد المطلوب، أي عندهم سذاجة وبساطة في التفكير العام فهم «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» في ما يوحي به ذلك من بساطتهم وسذاجة فهمهم، بحيث لا يعيشون العمق الفكري في مواجهتهم للمشاكل(1).

قال في الأمثل: البعض احتمل أن جملة «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» لا تعني أنهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوي الكلام، أي كانوا متخلفين فكرياً»(2).

الثاني: أنهم كان لديهم وعي عادي بحسب ما تقتضيه ظروفهم البيئية البدائية وغير المدنية، وبوعيهم العادي هذا هم لديهم قصور عن مواجهة الطواريء التي تداهمهم بطريقة فعّالة، ومن هنا فهم يحتاجون إلي من يعينهم علي ذلك من خلال دعمه الفكري، والتخطيطي، ومما يؤيد هذا القول أن فكرهم العادي المنطلق من واقع بيئتهم وجغرافيتهم جرّهم إلي اعتماد مقولة بناء سد، وهذا قريب من وجود جبال ووهاد حولهم، ولهذا حدثنا الله تبارك وتعالي عنهم حينما قالوا لذي القرنين: «عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»(3)، أي بينهم وبين يأجوج ومأجوج الذين يغيرون عليهم دوماً. فهم استوحوا هذه لفكرة من خلال بيئتهم المحيطة بهم، ولم يتطرق إلي ذهنهم مقولات أخري

ص: 35


1- من وحي القرآن، ج 14، ص 390
2- الأمثل، ج 9، ص 316
3- سورة الكهف

من قبيل المعاهدة، أو المواجهة، أو بعث الهدايا، أو الإقناع وما شاكل، نعم قد يُحتمل عدم وجود مشكلة فكرية معمقة عندهم باعتبار أن فكرتهم ببناء السد هي مما أيدها ووافق عليها ذو القرنين عليه السلام ، ومما يؤيد هذا الإحتمال طبيعة يأجوج ومأجوج الإفسادية والتي يستفاد منها عدم قابليتهم للمعاهدة أو المواجهة، أو الإقناع أو تقبل الهدايا وشتي الوسائل الأخري، ولعل هذا مما يؤيد أيضاً مقولة من قال بأن يأجوج ومأجوج ليسا ظاهرة بشرية وسنبحث في هذا مفصلاً بعد حين.

ومهما يكن من شيء فهذا القول مما يمكن المآل إليه ومما يمكن عدم

المال إليه، ولكن يكفي القول بأن هؤلاء القوم لم يكونوا ممن عاش المدنية، ومن هنا اعتبر البعض بأنهم كانوا علي مستوي دانٍ من المدنية، وكانوا ضعفاء في المجالين الصناعي والتخطيطي(1)، ويؤيد هذا القول ما تحدث به القرآن الكريم عن فعل ذي القرنين عليه السلام حيث أنه صنع لهم سداً من حديد ونحاس وهذه سابقة لم يسبقه بها أحد.

الثالث: أن معني قوله: «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» ما هو معلوم بحسب الظاهر أي أنهم لا يتكلمون كلاماً كاملاً، وبتعبير آخر إنهم يتكلمون بعبارات ناقصة لقلة فهمهم في التعبير عما يريدونه والإشارة عليه، ولذا هم تحدثوا مع ذي القرنين بعبارات ناقِصة لا يمكن الإعتداد بها.

الرابع: المراد بقوله «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» أي أنهم لديهم لغتهم الخاصة بهم، ولدي ذي القرنين لغته الخاصة به، الأمر الذي أدي إلي ضرورة توسط مترجم بينهما، ولذا قال في الجديد في تفسير القرآن المجيد: «لم يفهموا قوله ولا عرف لغتهم لغرابتها»(2)، وقال في مجمع البيان: «أي خصوا بلغة كادوا

ص: 36


1- م.ن، ص 317
2- ج 4، ص 363

لا يعرفون غيرها. قال ابن عباس: كادوا لا يفقهون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم(1).

الخامس: وهو قول ضعيف وهو يعتمد علي علي عبارة «لا يكادون» حيث أنهم وبمقتضي هذا اللفظ كانوا يفهمون بعض الأشياء بصعوبة دون البعض الآخر، وهذا ما أورده الطبرسي في مجمع البيان حيث قال: «وإنما قال لا يكادون» لأنهم فهموا بعض الأشياء عنهم، وإن كان بعد شدة»(2).

ثم والمهم بعد كل هذا أن ذا القرنين عليه السلام فهم منهم ما يريدونه، واختلف في كيفية فهمهم منه ذلك وفهمه منهم علي أقوال:

الأول: أنه عليه السلام فهم منهم مرادهم من خلال تفهيمه لغتهم من قبل الله عزَّ وجل، تماماً كما أمكن الله عزَّ وجل سليمان عليه السلام علي فهم منطق الطير، وهذا مستفاد من اعتبارين:

الإعتبار الأول: أنهم كلموه رأساً ومباشرة وبلا واسطة حيث قال الله تعالي حكاية عنهم: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ».

الإعتبار الثاني: أن عموم قوله تعالي: «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» يشمل تعلم اللغات ومعرفتها علي اختلافها وكثرتها.

قال الطبرسي في مجمع البيان: «ويجوز أن يكون الله سبحانه فهم ذا القرنين لسانهم كما فهّم سليمان عليه السلام منطق الطير(3).

ومن هنا اعتبر أن الأصح كونه عليه السلام كلمهم رأساً ومن دون واسطة أو مترجم(4).

ص: 37


1- ص 387
2- م.ن
3- م.ن
4- الجديد في تفسير القرآن المجيد، ص 364

الثاني: أنه عليه السلام كلمهم بواسطة مترجم وأفهموه مرادهم بواسطة مترجم.

الثالث: أنه عليه السلام فهم مرادهم بواسطة الإشارة، قال صاحب التفسير الكاشف: «ولكنه فهم مطالبهم بالإشارة أو بواسطة مترجم»(1).

ومهما يكن فهذه هي الأقوال في ذلك وقد رجّح القول الأول.

11- «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)»(2).

قلنا بأن قوم موضع السدين، والمضيق الجبلي والذين قبل الكثير في مكان سكنهم(3)، تحدثوا مع ذي القرنين إما مباشرة عبر تمكين الله عزَّ وجل لذي القرنين من فهم كلامهم عبر الإلهام الإلهي، وإما بالإشارات، وإما بواسطة مترجم، ورجحنا تكلمه معهم وفهمه لكلامهم مباشرة من دون واسطة، وهكذا فإنهم تحدثوا مع ذي القرنين عليه السلام عن ثلاثة أمور:

الأمر الأول: المشكلة، فقد طرحوا مشكلتهم أمامه عليه السلام ، وتتمثل هذه المشكلة بوجود ظاهرة إفسادية عامة إسمها «يأجوج ومأجوج»، فهذه الظاهرة مفسدة علي جميع الصعد اقتصادياً، ودموياً وغير ذلك. ولذا «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ(4).

الأمر الثاني: أنهم عرضوا علي ذي القرنين عليه السلام عرضاً مالياً لقاء ما سوف يفعله بإزائهم، ولذا قال تعالي حكاية عنهم: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ

ص: 38


1- ج 16، ص 159
2- سورة الكهف، الآية: 94
3- قال في الجديد في تفسير القرآن المجيد: «والظاهر أنهم الصينيون وما وراءهم في منقطع بلاد الترك في أقصي الشرق» (ج 4، ص 363)
4- سورة الكهف، الآية: 94

بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»(1)، أي نجعل لك عطية نخرجها إليك من أموالنا.

الأمر الثالث: عرضوا عليه عليه السلام مطلبهم النهائي القائم علي بناء سد يحول بينهم وبين يأجوج ومأجوج، قال تعالي: «عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»(2).

وورد أنهم قالوا لذي القرنين عليه السلام : «فقد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان وما أيدك به من الجنود ومن النور والظلمة، وإنّا جيران يأجوج ومأجوج وليس بيننا وبينهم سوي هذه الجبال وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الجبلين لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا ويأكلون ويفترسون الدواب والوحوش كما يفترسها السباع ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيّات والعقارب وكل ذي روح ولا نشك أنهم يملأون الأرض ويجلون أهلها منها، ونحن نخشي كل حين أن يطلع علينا أوايلهم من هذين الجبلين، وقد أتاك الحيلة والقوة «... عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)»(3).

وكما قلنا فهؤلاء القوم طلبوا من ذي القرنين أن يبني لهم حاجزاً طبيعياً بوحي من الطبيعة التي كانوا يسكنوها من جهة، وباعتبار أنهم عرفوا مسبقاً أنهم لن يواجهوا يأجوج ومأجوج إلا بهذا الأسلوب.

12- «قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)»(4).

ولما سمع منهم ما قالوه له عليه السلام ، وما طلبوه، وعرضوه، كان منه عليه السلام أن أجابهم علي عرضهم بإعطاءه المال من جهة، وطلب منهم ما يصلح حالهم ويحقق غرضهم من جهة ثانية، ولقاء ما يعينونه عليه سوف يحقق غرضهم بلا شك، ولذا فهنا ثلاث نقاط:

ص: 39


1- سورة الكهف، الآية: 94
2- سورة الكهف، الآية: 94
3- قصص الأنبياء، ص 183
4- سورة الكهف، الآية: 95

النقطة الأولي: ردّ عرضهم بإعطاءه المال: فقد قال لهم: أنا لا أريد منكم مالاً مهما كان كثيراً، لأني أعطيت من الله عزَّ وجل من النعم والقوة والتمكين ما يذهل عقولكم، فإني ممن أعطاني الله عزَّ وجل أفضل بكثير مما تعرضونه عليّ.

النقطة الثانية: أنا لا أريد منكم إلا أن تساعدونني في عملية بناء السد وسبُل المساعدة هي كل ما عندكم من إمكانيات تؤدي بالنهاية إلي تنفيذ غرضكم، وقيل في معني القوة التي طلبها عليه السلام كإعانة أقوال:

أ- الرجال.

ب- قوة الأبدان.

ج- العمل الذي تعملونه معي.

د- الآت العمل.

وعبارة بقوة تشمل جميع هؤلاء تماماً كقوله تعالي: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(1) فيشمل كل ما يُستطاع.

النقطة الثالثة: الهدف من هذه المساعدة هو بناء السد، واختلف في معني

الردم علي أقوال منها:

أ- السد والحاجز.

ب- السد المتراكب بعضه علي بعض.

قال ابن عباس: الردم أشد الحجاب(2)، وقال في الأمثل: «كلمة ردم» علي وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار، إلا أنها فيما

ص: 40


1- سورة الأنفال، 60
2- مجمع البيان، ص 388

بعد أخذت معني واسعاً بحيث يشمل كل سد، بل وشمل حتي ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسرين أن كلمة «ردم» تقال للسد القوي، ووفقاً لهذا التفسير «فإن ذا القرنين قد وعدهم بأكثر مما كانوا ينتظرونه»(1).

ومهما يكن من شيء فإن حل مشكلة هجوم وإفساد يأجوج ومأجوج لا تتناسب إلا مع بناء سد قوي متراكب علي بعضه البعض.

13- «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)»(2).

ثم أنه عليه السلام بدأ ببناء السد بمعاونة قوم تلك المنطقة، فاتخذ هذه الخطوات:

الخطوة الأولي: طلب منهم أن يأتوه بقطع الحديد وبما أن تلك المنطقة كانت غنية بالمعادن فقد كانت قطع الحديد متوفرة، وهكذا أتوه بقطع الحديد فجعلها بين الجبلين حتي صارت قطع الحديد متوازية معهما.

الخطوة الثانية: أمرهم بأن تنفخ النار في الحديد، فلما اشتعلت النار بالحديد بشكل فعّال، صار الحديد من شدة الإشتعال جمراً وقطعة واحدة، أو صار الحديد كالنار في مظهره من شدة اللهب.

الخطوة الثالثة: طلب منهم أن يعطوه نحاساً مذوباً فصبه علي السد بين الجبلين حتي ينسد الثقب الذي فيه، وبهذا أصبح السد جداراً صلباً تاماً حجارته من حديد، وطينه من نحاس مذوب.

ص: 41


1- مجلد 9، ص 318
2- سورة الكهف، الآية: 96

وورد أنه عليه السلام أمر بقطع الحديد والنحاس بالألماس، فقد نقل في قصص الأنبياء رواية جاء فيها ذكر أدوات بناء السد. ومما جاء فيها: «ثم أنه دلهم علي معدن الحديد والنحاس فضرب لهم في جبلين حتي فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس، قالوا: بأي قوة نقطع هذا الحديد والنحاس؟ فاستخرج لهم من تحت الأرض معدناً آخر يقال له السامور - أي الألماس - وهو أشد بياضاً وليس شيءٌ منه يوضع علي شيء إلا ذاب تحته، فصنع لهم منه آداة يعملون بها»(1).

ومن بناء السد نستفيد أن ذا القرنين عليه السلام استطاع أن يخترع معادلة كيميائية معقدة، بل كان من المؤسسين لعلم الكيمياء.

18- «فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)»(2).

ثم أن الآية تحدثت عن يأجوج ومأجوج قائلة: أنهم لم يستطيعوا أن يعلوا علي ظهر السد وأن يصعدوا من فوقه، ولم يستطيعوا أن يحفروا عميقاً ليخرجوا من تحته، مما يدل علي نجاح مشروع السد، وجاء في الحديث: إنهم يدأبون في حفره نهارهم، حتي إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس، قالوا: نرجع غداً ونفتحه، ولا يستشنون. فيعودون من الغد، وقد استوي كما كان»(3).

15- «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا»(4).

ثم أنه عليه السلام وبعد بناء السد ونجاحه حيث أن يأجوج ومأجوج لم يستطيعوا تجاوز السد؛ بين عليه السلام ثلاث حقائق متعلقة ببناء السد:

ص: 42


1- ص 183
2- سورة الكهف، الآية: 97
3- قصص مجمع البيان، ص 389
4- سورة الكهف، الآية: 98

الحقيقة الأولي: أن بناء السد هو رحمة إلهية، جعلها الله عزَّ وجل لهؤلاء القوم ولغيرهم قبل موعد انهدامه علي يد ذي القرنين عليه السلام ، ومن مظاهر رحمة الله عزَّ وجل بخصوص بناء هذا السد:

أ- الموفقية التي حظيت بها الشخصية الإلهية المعروفة بذي القرنين عليه السلام من حيث بناء السد ونجاحه.

ب- توفير الأدوات اللازمة لبناء السد، إذ لو لم تكن هذه الأدوات والمعادن متوفرة في تلك البلاد لما بُني السد بمثل ما بني عليه.

ج- إن بناء السد من قبل ذي القرنين كان بخلاف المتوقع عند قوم المضيق الجبلي، فهم كانوا يتوقعون بناء سدٍ لا يكون له هذا الأمد البعيد.

د- إن هذا السد قام بوظيفة فعّالة من خلال منع فساد يأجوج ومأجوج. وقد كان لذي القرنين عليه السلام دوراً عاطفياً رحيمياً في هذا المجال بخلاف ملوك الزمان الأخرين فإنهم كانوا لا يعينون أحد إلا بمقابل، ولهذا ورد أن ملوك الأرض الصالحين في الدنيا أربعة: ذو القرنين، وداوود وسليمان ويوسف»(1)، ولا ريب بأن ما فعله ذو القرنين إنما ينم عن هذا الصلاح والتعاطف الذي بدر منه، ويقول الشيخ محمد جواد مغنية في هذا المجال:

«وبناء هذا السد أصدق مثال علي أنه قد كان في تاريخ الإنسانية تعاون

وتعاطف بين الدول الغنية الكبري والدول الضعيفة «النامية»، بين الشعب الذي يملك أسباب التطور، والشعب الذي لا يملكها.

وقوة الولايات المتحدة - أمريكا - تشبه إلي حد بعيد قوة ذي القرنين من حيث أن كلاً منها لا تضارعها قوة في عصرها، ولكن الفرق بعيد جداً

ص: 43


1- قصص الأنبياء، ص 178

من حيث النتائج فإن ذا القرنين كان بكل ما يملك من قوة ملكاً لخير البشرية وإسعادها، أما قوة الولايات المتحدة فهي لحماية الشر والصهيونية، وللسيطرة علي المقدرات والأسواق والأفكار لمصلحة الاستعمار والرجعية بشتي صورها وأشكالها(1).

الحقيقة الثانية: مجيء وعد الله عزَّ وجلَّ، واختلف في المراد من قوله وعد ربي علي أقوال منها:

أ- المراد هو علامات القيامة وبالتعبير القرآني «أشراط الساعة».

ب- موعد خروج يأجوج ومأجوج مطلقاً.

ج- بعد قيام المهدي عجل الله فرجه الشريف، وقيل بعد قتل الدجال والله أعلم.

وهذه الحقيقة التي ذكرناها هي حقيقة إندكاك السد وتسويته بالأرض فالوعد الإلهي الذي سيتحقق هو وعد باندكاك السد.

الحقيقة الثالثة: إن وعد الله عزَّ وجل لن يُخلف، فهو متحقق حتماً «وكان

وعد ربي حقاً».

16- «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)»(2)،

وهنا أمران:

الأمر الأول: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ». وقيل في ذلك أقوال منها:

أ- أن يأجوج ومأجوج يموج بعضهم في بعض وهم داخل السد، إذ أنهم ممن يمنع عليهم تجاوز السد، فهم يزدحمون، ويموجون، ويتلاطمون داخل السد.

ص: 44


1- التفسير الكاشف، ج 16، ص 159
2- سورة الكهف، الآية: 99

ب- أنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد، يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس(1).

قال في التفسير الكاشف: «فإنا نفهم منه أن يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد، ويفسدون علي الناس حياتهم»(2).

ج- أن المراد بقوله «وتركنا بعضهم يومئذٍ» أي يوم القيامة.

واستبعد غير واحد كون المراد في قوله «يومئذٍ» خصوص يوم القيامة، ورجحوا كونه يوم اندكاك السد، قال الرازي في تفسيره: «إلا أن الأقرب أن المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكاً فعنده ماج بعضهم في بعض»(3)، وقال الشيخ مغنية في تفسيره: «هذا إلي أنه لو كان المراد بمجيء وعده تعالي يوم القيامة أو بعد الدجال لكان السد موجوداً الآن كما هو ومن الواضح أنه لو كان البان»(4).

وقال في مجمع البيان: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد، يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم، ويكون حالهم كحال الماء يموج باضطراب أمواجه»(5).

د- قيل أنه أراد سائر الخلق من الجن والإنس، أي: وتركناهم يوم خروج يأجوج ومأجوج، يختلطون بعضهم ببعض»(6).

ص: 45


1- تفسير الرازي، ج 21، ص 499
2- ج 16، ص 160
3- ج 21، ص 500
4- ج 16، ص 160
5- مجلد 6، ج 16، ص 391
6- م.ن

الأمر الثاني: قوله تعالي: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا»(1).

وهنا يتحدث الله عزَّ وجل عن يوم القيامة حيث أن هناك حدثان:

الحدث الأول: النفخ في الصور واختلف في نفخ الصور علي أقوال:

أ- أن الصور هو قرن ينفخ فيه.

ب- أن الله عزَّ وجل يصور الخلق في القبور بجمع صورهم ثم ينفخ فيها الأرواح.

ج- أن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث نفخات:

1- نفخة الفزع.

2- نفخة الصعق، التي يصعق فيها من في السماوات والأرض فيموتون.

3- نفخة القيام لرب العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم(2).

الحدث الثاني: جمع الخلائق جميعاً علي صعيد واحد للحساب.

17- «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)»(3).

آيتان من سورة الأنبياء تتصلان إتصالاً عضوياً بالآيات الواردة في سورة الكهف حول يأجوج ومأجوج، وعبارة «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» إشارة واضحة إلي السد، أي فتحت جهة يأجوج ومأجوج، وعند

ص: 46


1- سورة الكهف، الآية: 99
2- انظر مجمع البيان: ج 391
3- سورة الأنبياء، الآيتان: 96 - 97

خروجهم يرجعون إلي ما هم عليه من إفساد وقتل ونهب.

وقيل المراد بقوله: «وهم من كل حدب ينسلون «أي سائر الخلق في يوم القيامة.

وبالطبع فإنه وعند اقتراب الوعد الحق ومجيء يوم القيامة تشخص أبصار الكفار بمعني أنهم يصابون بالصدمة التي تذهلهم عن كل شيء فتري أبصارهم لا تتحرك من هول ذلك اليوم، وبعدها يشعرون بالحسرة والندم لأنهم غفلوا عن الآخرة ولم يهتموا إلا بالدنيا، وعندها يعلمون بأنهم ظلموا أنفسهم من خلال غفلتهم عن الآخرة.

ص: 47

الرحلات الثلاث لذي القرنين

تبين معنا بعد استعراض الآيات القرآنية الخاصة بذي القرنين عليه السلام، أنه قام برحلات ثلاث:

الرحلة الأولي: باتجاه مغرب الشمس، حيث وجد أن الشمس تغرب في عين حامية، وقلنا أن المراد بغروب الشمس في عين حامية أي كأنها تغرب في عين حامية.

الرحلة الثانية: باتجاه مشرق الشمس حيث وجد هناك أناساً لا ستر لهم يقيهم من حر الشمس، إما ستر تكويني كالجبال والأشجار، وإما ستر متعارف كاللباس وما شاكل.

الرحلة الثالثة: باتجاه المضيق الجبلي، حيث وجد أولئك القوم الذين اشتكوا إليه فساد وإفساد يأجوج ومأجوج، فبني لهم السد.

وقد ورد في كتب التاريخ أنه كان لذي القرنين عليه السلام جيوشاً قادها في هذه الرحلات الثلاث.

ص: 48

أسباب نزول الآيات الواردة بشان ذي القرنين عليه السلام

هناك أسباب النزول هذه الآيات الواردة بشأن ذي القرنين عليه السلام وبشأن رحلاته، ويأجوج ومأجوج، والسد، وقد ورد أن سبب الحديث القرآني عن ذي القرنين عليه السلام هو: أن مجموعة من قريش وبتنسيق مع اليهود أو بتحريض ودفع منهم، قررت اختبار نبوة النبي محمد صلي الله عليه وآله، فقامت بطرح ثلاثة أسئلة علي النبي صلي الله عليه وآله:

السؤال الأول: عن الفتية من أصحاب الكهف، حيث قال تعالي: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَي الْفِتْيَةُ إِلَي الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَي آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَي لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي * وَرَبَطْنَا عَلَي قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا»(1).

السؤال الثاني: عن ماهية الروح، حيث قال تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ»(2).

ص: 49


1- سورة الكهف، الآيات: 9 - 14
2- الإسراء، 85

السؤال الثالث: السؤال عن ذي القرنين حيث قال تعالي:«وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ»(1).

فعن «محمد بن إسحاق بإسناده عن سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن

عباس أن النضر بن الحرث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، أنفذهما قريش إلي أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وخبّراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتي قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبي صلي الله عليه وآله وقالا لهم ما قالت قريش، فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فرأوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب.

وسلوه عن رجل طواف، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو. وفي رواية أخري فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلي مكة، فقالا: يا معاشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم، وبين محمد، وقصّا عليهم القصة. فجاءوا إلي النبي صلي الله عليه وآله فسألوه، فقال: أخبركم بما سألتم عنه غداً، ولم يستثن، فانصرفوا عنه فمكث صلي الله عليه وآله خمس عشرة ليلة،لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل، حتي أرجف أهل مكة، وتكلموا في ذلك، فشقّ علي رسول الله صلي الله عليه وآله ما يتكلم به أهل مكة عليه، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام عن الله سبحانه بسورة الكهف وفيها ما سألوه عنه، عن أمر الفتية، والرجل الطواف، وأنزل عليه «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 50


1- سورة الكهف

الرُّوحِ» الآية. قال ابن اسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لجبرائيل حين جاءه: لقد أحتبست عني يا جبرائيلعليه السلام فقال له جبرائيل: «وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا» الآية(1).

وهذه الرواية وإن كان فيها خلل من ناحية أن النبي صلي الله عليه وآله كان قد وعد قريش بالإجابة غداً ثم لم يجبهم إلا بعد خمس عشرة يوماً، حيث أنه صلي الله عليه وآله معصوم ولا يصدر منه الوعد والخلف؛ إلا أن أسباب نزول الآيات بهذا الموضوع صحيحة بلا ريب.

ص: 51


1- مجمع البيان، مجلد 6، ج 15، 313 - 314

ذو القرنين وسماته في القرآن

لقد تحدث القرآن عن ذي القرنين عليه السلام من خلال ثلاثة أمور:

الأمر الأول:من حيث سماته وأوصافه.

الأمر الثاني: من حيث ما مكنّه الله عزَّ وجل وأعطاه.

الأمر الثالث: من حيث أفعاله وسيرته.

ونحن سوف نشير إلي هذه الأمور مجتمعة عبر الآتي:

1- أنه عليه السلام كان مشهوراً لدي الديانات التي كانت قبل الإسلام، بدلالة شهرته عند الذين سألوا النبي صلي الله عليه وآله حيث قال تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ»(1).

2- لقد هيأ الله عزَّ وجل له أسباب القوة، وعوامل التمكين، ومقدمات الإنتصار، وجعل كل المقدرات والطاقات تحت متناول يده.

3- لقد جهز ثلاثة جيوش مهمة: الأول إلي الغرب، والثاني إلي الشرق، والثالث إلي المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل الأسفار كان له تعامل مع الأقوام المختلفة بحسب المقتضيات المناسبة.

ص: 52


1- سورة الكهف

4- لقد كان رجلاً مؤمناً تتجلي فيه صفات التوحيد، والعطف، والزهد، والإحسان إلي الغير، وعدم الإنحراف عن طريق العدل.

5- كان مؤمناً بالله واليوم الآخر.

6- لقد بني سداً من أهم وأقوي السدود في العالم.

7- لقد كان أول كيميائي في العالم.

ولا ريب بأننا إذا رجعنا إلي الآيات الواردة بشأنه وبصورة متمعنة لوجدنا الكثير ولكننا اقتصرنا علي القليل.

ص: 53

ذو القرنين من هو؟؟

ذو القرنين عليه السلام شخصية قرآنية تاريخية، أما أنه شخصية قرآنية فلأنه عليه السلام ذكر في القرآن الكريم بشكل صريح جداً وذلك في سورة الكهف، وأما أنه شخصية تاريخية فلأنه ذُكر في القرآن الكريم علي أساس أنه كان في الزمن الماضي من جهة، ولأنه كان حاضراً في ثقافة ووجدان اليهود بدليل أنهم سألوا النبي محمد صلي الله عليه وآله عنه.

والبحث عن ذي القرنين عليه السلام ، وعن شخصيته عليه السلام ، وعن أحواله عليه السلام ، وإن لم يكن عنواناً لكتابنا عن «يأجوج ومأجوج»؛ إلا أنه له دخالة مهمة في تحديد هوية «يأجوج ومأجوج» كون ذكرهما قد اقترن به عليه السلام ، ومن هنا فإننا نبحث عن أحوال هذه الشخصية الإلهية المعروفة بذي القرنين للوقوف علي هويته عليه السلام ، وبحثنا عن ذي القرنين عليه السلام ينحل إلي أمور هي:

الأمر الأول: أين ذُكر؟؟

لقد ذُكر عليه السلام في القرآن الكريم وفي الكتب القديمة، وسنذكر هنا بحسب الوجادة مصدرين هما:

الأول: القرآن الكريم، حيث قال تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ»(1).

ص: 54


1- سورة الكهف

الثاني: التوراة، ففي كتاب «دانيال» حيث نقرأ في الفصل الثامن منه ما يلي: «حينما ملك (بل شصّر) عُرضت لي وأنا دانيال بعد الرؤيا الأولي التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام) فقد رأيت وأنا في المنام بأني علي مقربة من نهر (أولاي) وأن كبشاً يقف قرب النهر وكان له قرنان طويلان، ووجدته يضرب بقرنيه غرباً وشمالاً وجنوباً، ولم يتقدم أحد أمامه، ولأنه لم يكن يوجد أحد أمامه لذا فإنه كان يتصرف وفقاً لما يريد، وكان يكبر»(1).

وفي نفس الكتاب قال: «وقد تجلي له جبرائيل (أي لدانيال) وفسر

منامه هكذا: إن الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنه من ملوك المدائن وفارس

(أو ملوك ماد وفارس)...»(2).

الأمر الثاني: إن القرآن لم يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين عليه السلام من حيث وصفه، واسمه الحقيقي، وزمانه، ومكانه، قال في الميزان في تفسير القرآن: «لم يتعرض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته علي ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين»(3).

وقال سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن: «إن النص لا يذكر شيئاً عن

شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه، وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن، فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود، وإنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة»(4).

الأمر الثالث: قصة ذي القرنين في القرآن:

ص: 55


1- كتاب دانيال، الفصل الثامن، الجمل 1 - 4)
2- الأمثل، مجلد 9، ص 327
3- راجع تفسير الميزان
4- ج 16، 2289

إن القرآن الكريم وكما يظهر منه «اكتفي علي ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولي إلي المغرب حتي إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة (أو حامية) ووجد عندها قوماً، ورحلة ثانية إلي المشرق حتي إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع علي قوم لم يجعل الله لهم من دونها ستراً، ورحلة ثالثة حتي إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجاً علي أن يجعل بين القوم وبين يأجوج ومأجوج سداً فأجابهم إلي بناء السد ووعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون وأبي أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوة وقد أشير عنها في القصة إلي الرجال وزبر الحديد والمنافخ والقطر. والخصوصيات والجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي:

أولاً: أن صاحب القصة كان يسمي قبل نزول قصته في القرآن بل حتي في زمان حياته بذي القرنين»، «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ»، «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ».

وثانياً: أنه كان مؤمناً بالله واليوم الآخر ومتديناً بدين الحق كما يظهر من قوله: «هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» وقوله: «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا» الخ. ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالي: «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا»يدل علي تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي.

وثالثاً: أنه كان ممن جمع الله له خير الدنيا والآخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شيء وقد ذللت له الأسباب، وأما خير الآخرة فبسط العدل، وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر، وهذا كله مما يدل عليه

ص: 56

قوله تعالي: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)» مضافاً إلي ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية.

ورابعاً: أنه صادف قوماً ظالمين بالمغرب فعذبهم.

وخامساً: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعدما بلغ مطلع الشمس اتبع سبباً حتي إذا بلغ بين السدين. ومن مشخصات ردمه مضافاً إلي كونه واقعاً في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنه ساوي بين صدفيهما وأنه استعمل في بناءه زبر الحديد والقطر، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة»(1).

الأمر الرابع: ما هو الإسم الحقيقي لذي القرنين عليه السلام ؟؟

ذو القرنين عليه السلام معروف بلقبه الذي لُقب به، فهو شخصية معروفة بذي القرنين، أما إسمه فلم يتعرض القرآن لبيانه، ولكن ورد في الروايات تسميته باسمه الحقيقي، ولكنها لا علي نحو اليقين بل جميعها علي نحو الإحتمال أو الترجيح، كما أنه ورد في التحليلات العلمية والتاريخية ذكرٌ لاسمه ولكنها أيضاً مبنية علي التشخيص وقد تصح وقد لا تصح، ومهما يكن من شيء فإن ما ذكر لذي القرنين عليه السلام من أسماء التالي:

1- اسمه «عياش»، فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إن الله تبارك وتعالي لم يبعث أنبياءً ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين وإسمه عياش وداود وسليمان ويوسف، وأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب...»(2)، وقال الجزائري قدس سره في الباب الثامن من كتابه

ص: 57


1- ميزان الحكمة، ج 6، ص 421 - 422
2- الخصال، ج 1، ص 248

قصص الأنبياء: «وكان إسمه عياشاً»(1)، وعن الأصبع بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سُئل عن ذي القرنين؟ قال: كان عبداً صالحاً واسمه عياش ...»(2).

2- إسمه عبد الله بن ضحّاك بن معبد، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران نمرود وبخت نصر، وإسم ذي القرنين عليه السلام وعبد الله بن ضحاك بن معبد»(3).

3- الإسكندر أو «اسكندروس»، ففي إكمال الدين بإسناده إلي عبد الله بن سليمان وكان قارئاً للكتب قال: قرأت في بعض كتب الله عزَّ وجل أن ذا القرنين كان رجلاً من الإسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له «اسكندروس»(4)، وقال الثعلبي في وجه تسميته بذلك أن أمها - أم الإسكندر - هلالة بنت ملك الروم كانت لها نتن ورائحة كريهة فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها علي شجرة يقال لها اسكندروس فلما ولدت لها غلاماً فسمته باسم الشجرة التي غسلت بها وهي اسكندروس، ثم خفف فقيل إسكندر(5).

وقد ذُكر في غير واحد من المصادر أنه الإسكندر بن فليقوس اليوناني(6)، إلا أن القدر المتيقن أنه ليس هو الإسكندر ولا أقل من عدم دلالة الأخبار علي ذلك، فضلاً عن اضطراب الأقوال التاريخية حول الإسكندر، وسيأتي الكلام مفصلاً عن ذلك.

ص: 58


1- ص 173
2- م.ن، ص 185
3- الخصال، ج 1، ص 255
4- قصص الأنبياء، ص 179
5- م.ن
6- م.ن، 189

4- إسمه أبو كرب شمر بن عمير بن افريقش الحميري(1)، وقد دافع عن هذا القول الأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، وابن هشام في سيرته، وأبو الريحان البيروني في الآثار الباقية(2)، وهذه التسمية بعيدة جداً كما لا يخفي أن ملوك اليمن جميعاً لا تتوافق مواصفاتهم مع الصفات العظيمة لذي القرنين عليه السلام من جهة، كما أنه كان لملوك حمير سد مأرب المغاير تماماً لسد يأجوج ومأجوج المعروف بسد ذي القرنين عليه السلام.

5- اسمه: الصعب بن قرين بن الهمال(3). وهو قول ضعيف.

6- اسمه هرمس بن حيطون بن رومي بن لنطي بن كسلومين بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام (4)، وهذا الرأي راجع إلي كونه الاسكندر.

والخلاصة في إسم هذه الشخصية العظيمة الملقبة قرآنياً بذي القرنين أنه يدور حول نقطتين:

النقطة الأولي: أن اسمه «عياش» تبعاً للأخبار والروايات.

النقطة الثانية: أننا نجاري القرآن الكريم حول عدم الوقوف علي تسميته.

أما الأقوال الأخري فهي مجرد تشخيصات وتطبيقات فلا تخرج عن

دائرة الإحتمالات ولا تصل نوبتها إلي اليقينيات بل إلي الترجيحات.

الأمر الخامس: لماذا لُقب بذي القرنين ؟؟

لماذا لُقب عياش أو غيره بذي القرنين؟؟ قيل في ذلك الكثير من الأقوال ومنها:

ص: 59


1- م.ن، ص 189
2- الأمثل، مجلد 9، ص 323
3- المحبر للبغدادي، ص 365، نقلاً عن قصص الأنبياء
4- م.ن، ص 393

الأول: سمي بذلك لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس.

الثاني: سمي بذلك لأن صفحة رأسه - بل صفحتا - من نحاس.

الثالث: سمي بذلك لأنه كان علي رأسه ما يشبه القرنين.

الرابع: أنه كان يحمل تاجاً فيه قرنان.

الخامس: سمي كذلك لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها.

السادس: سمي كذلك لأنه كان له ضفيرتان.

السابع: لأن الله تعالي سخر له النور والظلمة، النور من أمامه والظلمة في ورائه.

الثامن: سمي كذلك لشجاعته لأن الشجاع يلقب بالكبش الذي ينطح اقرانه.

التاسع: سمي كذلك لأنه عليه السلام رأي في منامه كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي جانبيها.

العاشر: سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة.

حادي عشر: سمي كذلك للوجه الذي ذكره أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال عليه السلام : «كان عبداً صالحاً ضرب علي قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه الله تعالي فضرب علي قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله»(1).

ثاني عشر: أنه سمي كذلك لأنه كريم الطرفين.

الأمر السادس: هل كان ذا القرنين عليه السلام نبياً أم ملكاً أم ماذا؟؟

ص: 60


1- تفسير القمي، ج 2، ص 41

هناك نقاش حول شخصيته عليه السلام من جهة كونه نبياً أم ملكاً، أم عبداً صالحاً أم غير ذلك، والأقوال في ذلك أربعة هي:

الأول: أنه عليه السلام من الملائكة وهو قول ضعيف للغاية، ويبتني هذا القول علي أنه سمع عمر رجلاً يقول: يا ذا القرنين. فقال: اللهم اغفر، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتي تسموا بأسماء الملائكة(1).

وإنما قلنا بأن هذا القول في غاية الضعف لأنه قد يكون هذا الإسم من أسماء الملائكة ولقب به عليه السلام فما هو وجه القول بأن شخصه من الملائكة؟!! كما عليه السلام أنه أعتبر في بعض الأخبار ملكاً من الملوك بموازاة غيره من ملوك البشر، وفي بعض الأخبار عدّ نبياً، وفي بعض الأخبار عدّ عبداً صالحاً.

القول الثاني: أنه عليه السلام كان نبياً من الأنبياء، واستدل علي كونه نبياً من الأنبياء بدليلين:

الدليل الأول: وهو دليل مستوحي من القرآن الكريم، وبخصوص الفقرات التالية:

الفقرة الأولي: قوله تعالي: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» فيشمل هذا التمكين التمكين الدنيوي المتحقق بجعل شتي الطاقات والقدرات الداخلية في إطار ما يمكنه عليه السلام من تحقيق أغراضه الإلهية، ويشمل أيضاً التمكين الديني فيكون تمكيناً في النبوة.

ويرد علي هذا الدليل بعدة ردود أهمها أنه لا ملازمة بين تمكينه عليه السلام وبين كونه نبياً، فهذا طالوت عليه السلام كان ملكاً وقد مكنّه الله تعالي وزاده بسطة

ص: 61


1- راجع تفسير الرازي، م. س

في العلم والجسم مع أنه لم يكن نبياً، كما أن قوله عزَّ وجل «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» دليل واضح أن المسألة مرتبطة بالتمكين الإعتيادي المفضي إلي قدرته علي تنفيذ أغراضه الإلهية.

الفقرة الثانية: «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا»، ومن جملة الأشياء النبوة، فمقتضي العموم أي عموم «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» نستفيد شمول النبوة كسبب من جملة الأسباب المأتية له عليه السلام

ويرد علي هذا الدليل أيضاً بنفي الملازمة بين إتيانه عليه السلام من كل شيءٍ سبباً وبين النبوة من جهة، وبحمل الأسباب المأتية له عليه السلام من قِبل الله عزَّ وجل علي وظيفته الفعلية عليه السلام والتي اقتضت أن يؤتي من كل شيءٍ سبباً.

الفقرة الثالثة: «يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا» فهذه الفقرة دلت علي أن الله عزَّ وجل تكلم مع ذي القرنين عليه السلام بواسطة الوحي ومن يوحي إليه فهو نبي.

ولكن يرد علي هذا الكلام بأن التكلم هنا مع ذي القرنين عليه السلام هو إلهام من الله عزَّ وجل وليس وحياً وهذا حاصل مع غير واحد كما في قصة أم موسي عليه السلام ، كما أن بعضهم احتمل كون أحد الأنبياء (عليهم السلام) في عصره كان يسدده بالوحي.

الدليل الثاني: علي نبوتهعليه السلام الروايات والأخبار الواردة في هذا الصدد فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: فإن الله تبارك وتعالي لم يبعث أنبياء ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان ويوسف...»(1).

ص: 62


1- علل الشرائع، ص 554

قال الصدوق رحمه الله: جاء في الخبر هكذا، والصحيح الذي اعتقده في ذي القرنين أنه لم يكن نبياً ... وذو القرنين ملك مبعوث وليس برسول ولا نبي، كما أن طالوت ملكاً. قال الله عزَّ وجل: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا»(1) وقد يجوز أن يذكر في جملة الأنبياء من ليس بنبي، كما يجوز أن يذكر من الملائكة من ليس بملك...»(2)، وقال أحد الأعلام: «والظاهر من الأخبار أيضاً أنه لم يكن نبياً»(3).

القول الثالث: أنه عليه السلامكان ملكاً من الملوك، ويعتضد هذا القول بالأخبار الواردة في المقام، ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام : «إن الله تبارك وتعالي لم يبعث أنبياءً ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان ويوسف، وأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب ...»(4)، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين عليه السلام ...»(5).

القول الرابع: أنه عليه السلام كان عبداً صالحاً، ولم يكن ملكاً ولا نبياً، فقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ فقال: لا ملكاً ولا نبياً بل عبداً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصح له، فبعثه إلي قومه فضربوه علي قرنه الأيمن فغاب عنهم، ثم بعثه الثانية فضربوه علي قرنه الأيسر فغاب عنهم، ثم بعثه الثالثة، فمن الله له في الأرض(6)، ومن هنا

ص: 63


1- سورة البقرة، الآية: 247
2- الخصال، ج 1، ص 248
3- قصص الأنبياء، ص 192
4- الخصال، ج 1، 248
5- الخصال، ج 1، ص 255
6- تفسير القمي، ج 2، ص 41

استظهر بعض الاعلام كونه كان عبداً صالحاً لا ملكاً ولا نبياً(1).

الأمر السابع: النظرية الصحيحة في شخصية ذي القرنين عليه السلام؟؟

لقد اختلف جمع من الأعلام حول شخصية العبد الصالح والناصح والمعروف بذي القرنين، واختلافهم من جهة انطباق أوصافه علي شخصيات تاريخية اشتهر وجودها علي مسرح الحياة، ومن هنا فإن الأقوال حول شخصية ذو القرنين عليه السلام متعددة ومنها:

الأول: أنه الاسكندر بن فليقوس اليوناني قالوا: والدليل عليه أن القرآن دلّ علي أن الرجل المسمي بذي القرنين بلغ ملكه المشرق والمغرب، ومثل ذلك الملك... لا شك أنه علي خلاف العادة وما كان كذلك وجب أن يبقي ذكره مخلداً علي وجه الأرض وأن لا يبقي خفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ: أنه بلغ ملكه إلي هذا القدر ليس إلا الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه، جمع ملك الروم بعد أن كانت طوائف، ثم حصد ملوك المغرب وقهرهم وامعن حتي انتهي إلي البحر الأخضر، ثم عاد إلي مصر وبني الإسكندرية باسم نفسه، ثم دخل الشام وقهر بني اسرائيل، ثم انعطف إلي العراق ودان له أهلها، ثم توجه إلي دارا وهزمه مرات إلي أن قتله واستولي الإسكندر علي ملوك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلي خراسان وبني المدن الكثيرة ورجع إلي العراق ومرض بسهرورد ومات بها.

فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك الأرض كلها وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الاسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الاسكندر بن فليقوس اليوناني»(2).

ص: 64


1- قصص الأنبياء، ص 192
2- قصص الأنبياء، ص 189

وليعلم بأنه قد ورد في التواريخ عن البعض قوله أن الإسكندر المقدوني لم يعمر أكثر من (36) سنة، أما جسده فقد ذهبوا به إلي الإسكندرية ودفنوه هناك(1).

وهذا القول بالحقيقة لا يمكن القبول به لعدة اعتبارات، أهمها أن الاسكندر المقدوني ليس بعيداً من حيث الزمان عنا بخلاف البعد الزمني الذي يفصلنا عن ذي القرنين عليه السلام ، حيث أنه جاء بعد النبي نوح عليه السلام كما ورد في الأخبار، كما أن المواصفات القرآنية لذي القرنين عليه السلام لا تنطبق علي الإسكندر المقدوني بالكلية.

قال أحد الأعلام: المستفاد من الأخبار كما قال شيخنا المحدث: أنه غير الإسكندر وأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وأنه أول الملوك بعد نوح عليه السلام »(2).

وقد أشكل أحدهم علي كونه الإسكندر المقدوني باشكال مفاده: أن الإسكندر المقدوني كان تلميذاً لأرسطوطاليس وعلي هذا فمدح الله عزَّ وجل لذي القرنين أي الإسكندر يستلزم مدحاً لأرسطوطاليس ولمذهبه وهذا مما لا سبيل إليه.

ويرد علي هذا الإشكال إن كون الإسكندر هو الذي عُرف قرآنياً بذي القرنين؛ هو تلميذ لارسطوطاليس لا يمنع من كونه ممدوحاً ومعظماً عند الله عزَّ وجل سيما وأنه كان عبداً صالحاً، كما أشار، وإذا تفحصنا قضية أرسطوطاليس فلربما تلمسنا توحيده وسيره علي المنهج الحق.

علي أن نفينا لكون الاسكندر هو ذو القرنين عليه السلام ليس لأجل أن أستاذه

ص: 65


1- الأمثل، ص 323
2- قصص الأنبياء، ص 192

هو أرسطوا طاليس بل لأجل أنه لا تنطبق عليه المواصفات القرآنية.

الثاني: البعض يعتقد أن ذا القرنين كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمون ب-«تبّع» وجمع ذلك «تبابعة ») وقد دافع عن هذه النظرية الأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، وابن هشام في تاريخه المعروف بسيرة ابن هشام، وأبو ريحان البيروني في الآثار الباقية.

ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن،

وبعضاً من شعراء الجاهلية تفاخر بكون ذي القرنين من قومهم»(1).

قال أبو الريحان البيروني: «ويشبه أن يكون هذا القول أقرب، لأن الأذواء - أي الملوك الذين كان في صدر ألقابهم «ذو» - كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أساميهم من ذي، كذي المنار وذي نواس وذي النون»(2).

وعلي هذا فيكون إسم الملقب بذي القرنين هو: أبو كرب شمر بن عمير بن أفريقش الحميري(3).

ووفقاً لهذا القول فيكون سد ذو القرنين هو سد مأرب.

ولكننا لا نستطيع القبول بهذا القول فإن مواصفات العبد الصالح المعروف بذي القرنين عليه السلام الموجودة في القرآن لا تنطبق علي ملوك حمير المعروفين بمواصفاتهم التي لا ترقي لتلك التي كان يتحلي بها ذو القرنين عليه السلام ، كما أن السد أي سد يأجوج ومأجوج هو معمول من حديد ونحاس وسد مأرب معمول بالحجارة والباطون، كما أن الغاية من سد يأجوج ومأجوج هي لمنع الأقوام الهجمية من الإفساد فيما الغاية من سد

ص: 66


1- الأمثل، مجلد 1، ص 323
2- قصص الأنبياء، ص 19
3- م.ن

مأرب هي لاحتجاز الماء ومنعها من الغور تحت الأرض.

الثالث: هو ما ذهب إليه المفكر الإسلامي (أبو الكلام زاد) والذي كان يشغل منصب وزارة الثقافة في الهند، و محصل كلامه: أن ذا القرنين هو «كورش الكبير» الملك الأخميني(1).

ومما يؤيد أن ذا القرنين هو كورش الكبير أنه ووفقاً للعديد من «الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات - أي الآيات النازلة في ذي القرنين عليه السلام - فإن الذي سأل عن ذي القرنين هم قوم من اليهود، أو أن قريشاً قامت بالأمر بتحريض من اليهود، ولذا يجب العثور علي أصل هذا الموضوع في كتب اليهود.

ومن الكتب المعروفة عند اليهود هو كتاب «دانيال» حيث نقرأ في الفصل الثامن منه ما يلي: «حينما ملك (بل شصر) عرضت لي وأنا دانيال بعد الرؤيا الأولي التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوسان) في بلاد (عيلام) فقد رأيت وأنا في المنام بأني علي مقربة من نهر (أولاي) وأن كبشاً يقف قرب النهر وكان له قرنان طويلان، ووجدته يضرب بقرنيه غرباً وشمالاً وجنوباً، ولم يتقدم أحد أمامه، ولأنه لم يكن يوجد أحد أمامه لذا فإنه كان يتصرف وفقاً لما يريد، وكان يكبر(2).

وبعد ذلك نُقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله: «وقد تجلي له جبرائيل (أي لدانيال) وفسر منامه هكذا: إن الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنه من ملوك المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس)... ولم تمضي مدة طويلة حتي ظهر (كورش) علي مسرح الحكم في إيران ووحّد بلاد (ماد وفارس)

ص: 67


1- الأمثل
2- كتاب دانيال، الفصل الثامن الحمل (1 - 4)

وشكّل منهما مملكة كبيرة، وكما قال دانيال، فإن الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق، فإن كورش قد قام بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث وحرّر اليهود وسمح لهم بالعودة إلي فلسطين والطريف ما نقرأه في التوراة في كتاب «أشعيا» فصل (44) رقم (28) «ثم يقول بخصوص كورش: إنه كان راعياً عندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ مشيئتي».

يجب الإنتباه إلي أن وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة علي أنه «عقاب المشرق» والرجل المدبر الذي يأتي من مكان بعيد»(1).

وقد وردت هذه التعبيرات في (أشعيا فصل 46، رقم 211)(2).

ومن هنا فسؤال اليهود الموجه إلي النبي عليه السلام عن ذي القرنين عليه السلام يقتضي أن يكونوا قد أخذوا العلم بوجود ذي القرنين عليه السلام من التوراة أو مما بقي سليماً من التوراة، ولما أن ذكر كورش في التوراة أو فيما بقي سليماً منه جاء بشكل متطابق مع ما فعله المعروف بذي القرنين عليه السلام وقام به، وسيما رحلاته المشهورة إلي الشرق، والغرب، فإنه يرجح كونه عليه السلام هو (كورش الكبير) ولا سيما أنه وصف بأنه المنفذ لمشيئة الله عزَّ وجلَّ.

وقد تبنّي هذه النظرية صاحب تفسير «الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل» حيث استند إلي كلام (أبو الكلام زاد)، وإلي وقائع حسية.

وهذه النظرية جديرة بالاهتمام فلتراجع.

ص: 68


1- الأمثل، مجلد 9، ص 326
2- م.ن

يأجوج ومأجوج من هم؟؟

يأجوج ومأجوج ظاهرة سلبية وإفسادية، ومدمرة وخطرة، وقد تعامل أهل التحقيق مع هذه الظاهرة علي توجهين:

التوجه الأول: اعتبر يأجوج ومأجوج ظاهرة بشرية، فهم من صنف البشر، وهم توالدوا وتكاثروا باعتبارهم بشراً، وهذا التوجه ومع اعتباره يأجوج ومأجوج من البشر إلا أنه انحل إلي قولين:

القول الأول: أن يأجوج ومأجوج من صنف البشر من جميع الجهات ولهذا قالوا بأن يأجوج ومأجوج هم من ولد يافث بن نوح أب الترك(1).

القول الثاني: أن يأجوج ومأجوج هم من البشر ولكن لا من جميع الجهات، ويدل عليه قول أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج»(2).

ولا ندري ما مراده عليه السلام ولهذا الكلام تأويلات عديدة سيأتي تفصيلها في البحوث الآتية.

ص: 69


1- مجمع البيان، وتفسير شبر، ومعظم التفاسير
2- البرهان في تفسير القرآن، مجلد 6، ص 286

نعم ورد عن كعب تفصيل ما في هذا المجال حيث قال في وصف يأجوج ومأجوج: «هم نادرة من ولد آدم، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء والتراب يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من طرف الآب دون الأم».

وهذا الكلام ضرب من الخيال وهو بعيد كل البعد عن الواقع اللهم إلا إذا قلنا بأن الله عزَّ وجل خلق من المخلوقات أربعة أجناس:

1- الإنسان حيث خلقه من تراب.

2- الملائكة وهم من النور.

3- الجن وهم من نار.

4- يأجوج ومأجوج وهم من ماء وتراب.

ولكن بُعد هذا القسم الأخير عن الحقيقة من أوضح الواضحات، ومن هنا فإن تفسير قول أمير المؤمنين عليه السلام بأن الناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج» بما فصله كعب لا يمكن المصير إليه.

أما كلام أمير المؤمنين عليه السلام حول أولاد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج، فإنه ظاهر في عدم كون يأجوج ومأجوج من ولد آدم، إلا أن قوله عليه السلام يوحي بأن يأجوج ومأجوج من الناس، وهنا يأخذ التأويل محله في هذا الصدد لفهم ملابسات الحديث عنه عليه السلام . فهل هم من البشر ولكن لا من آدم وحواء؟؟ أم هم، تعبير مجازي عن ظاهرة مادية أو غير ذلك؟؟ هذا ما سنلاحظه بعد حين.

التوجه الثاني: اعتبر يأجوج ومأجوج ظاهرة غير بشرية، وعمدة هذا التوجه تأويل معني يأجوج ومأجوج إلي معنيً يتطابق مع طبيعة الحركة الإفسادية ليأجوج ومأجوج وذلك انطلاقاً من ثلاث نقاط:

ص: 70

النقطة الأولي: عدم البرهنة بنحو تحقيقي وجداني علي وجود السد في عالم أضحي لا يخفي علي أهله خافية.

النقطة الثانية: حديث أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «الناس ولدم آدم ما خلا يأجوج ومأجوج»(1).

النقطة الثالثة: الروايات التي وصفت يأجوج ومأجوج، حيث أنها وصفتهم بوصفٍ لا يفهم منه بشريتهم.

لأجل ذلك كان هذا التوجه سائراً نحو تأكيد عدم بشرية يأجوج ومأجوج وبالتالي هو سائر لقول آخر.

ص: 71


1- البرهان، مجلد 6، ص 286

النظريات الواردة بشأن يأجوج ومأجوج

اشارة

ومهما يكن من شيء فإن النظريات الواردة بشأن يأجوج ومأجوج متعددة، وبعضها تتبني القول بأنهم بشر، وبعضها الآخر تتبني كونهم غير بشر، وبعض هذه النظريات تقول بأنهم - أي يأجوج ومأجوج - خرجوا من السد، وبعضها تقول لم يخرجوا، وعلي جميع الحالات فإن النظريات الواردة حول يأجوج ومأجوج هي التالية:

ص: 72

1- النظرية الأولي

وهي نظرية تقليدية تعتمد علي ما ورد في القرآن الكريم، وفي الأحاديث والروايات.

فيأجوج ومأجوج من ولد يافث بن نوح أب الترك، وهم كثرة كاثرة، وهم أصناف مختلفة، وبطشهم وفسادهم منقطع النظير ولا يتصوره أحد، وهؤلاء كانوا في عصر ذي القرنين عليه السلام ، ولما أنه عليه السلام قد صنع سداً وحجزهم فيه فإنهم يحاولون كرات ومرات تجاوز هذا السد، وسيندك السد يوماً وينهدم ويخرجون للإفساد والبطش مرة أخري، ثم يموتون بفعل دود خاص، ومن خصائص يأجوج ومأجوج

1- الكثرة الكاثرة: فهم يتوالدون ويتكاثرون، فعن النبي صلي الله عليه وآله : «يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتي ينظر إلي ألف ذكر من صلبه»(1).

2- الإفساد في الأرض: قال تعالي حكاية عن قوم المضيق الجبلي: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»(2)، وجاء في الحديث أنهم لا «يمرون بشيء إلا أكلوه... يشربون أنهار المشرق والمغرب»(3)، وجاء في

ص: 73


1- قصص الأنبياء، ص 192
2- سورة الكهف، الآية: 94
3- قصص الأنبياء، ص 192

حديث آخر: «فينشفون المياه، فيتحصن الناس في حصونهم فراراً منهم فيرمون سهامهم إلي السماء، فترجع وفيها كهيئة الدماء»(1)، وجاء في مجمع البيان:

«وفسادهم أنهم كانوا يخرجون فيقتلونهم، ويأكلون لحومهم ودوابهم. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يدعون شيئاً أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه»(2).

ومن هنا فإن فساد يأجوج ومأجوج يشمل كل من:

أ- الناس : «أنهم كانوا يخرجون فيقتلونهم» أي يقتلون الناس.

ب- الحيوانات.

ج- الأشجار والثمار.

د- المياه والأنهار.

3- ملء المساحات الجغرافية فقد جاء في الحديث أن «مقدمتهم بالشام ومؤخرتهم بخراسان»(3).

4- أنهم يحملون السلاح، وفي الحديث: «كل قد حمل السلاح»(4).

5- أنهم أصناف مختلفة، وفي الحديث «هم ثلاثة أصناف:

أ- صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر معروف.

ب- وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد.

ج- وصنف منهم يفترش إحدي أذنيه ويلتحف بالأخري»(5).

ص: 74


1- م.ن، ص 193
2- مجمع البيان، ص 387
3- م.ن
4- م.ن
5- قصص الأنبياء، ص 192

6- أنهم قادرون علي أكل أضخم الحيوانات بعد قتلها، وفي الحديث: «ولا يمرون بفيل ولا وحش، ولا حمل، ولا خنزير إلا أكلوه»(1).

7- أنهم يأكلون بعضهم بعضاً: وفي الحديث : «ومن مات منهم أكلوه»(2).

8- أنهم لا يتسني لهم دخول مكة والمدينة وبيت المقدس كما ورد(3).

9- أن موتهم يستند إلي دخول بعض أقسام الدود، وفي الحديث «فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم، فتدخل في آذانهم فيهلكون بها»(4).

والنغف هو دود يسقط من أنوف الإبل والغنم، وقيل: دود أبيض يكون في النوي»(5).

10- أنهم عندما يموتون تأكلهم الدواب وتسمن وتسكر من لحومهم(6).

وورد أن بعضهم صغير الجثة وقصير القامة، وبعضهم ضخم الجثة وطويل القامة، وهذه هي أهم خصائص يأجوج ومأجوج كما وردت في الآيات والأخبار، كما أنه لا يخفي علينا بأن يأجوج ومأجوج حجزوا بواسطة السد، أما أنهم خرجوا أم لم يخرجوا فهذا نقاشه سيأتي وفق النظريات القادمة، ووفق عنوان مستقل سيجيء.

ص: 75


1- مجمع البيان، ص 387
2- م.ن
3- تفسير الرازي، ج 21، ص 500
4- قصص الأنبياء، ص 193
5- م.ن
6- م.ن

مضافاً إلي ما ذكر فهل أن يأجوج ومأجوج أمتان مفترقتان أم متحدتان؟؟ ظاهر بعض الأحاديث والأقوال أنهما مفترقتان وفي الحديث «يأجوج أمة ومأجوج أمة»(1)، وورد في كتاب تفسير الرازي: «يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم»(2)، وبعضهم فسر يأجوج بالتتار، ومأجوج بالمغول»(3).

ولكن حتي مع القول بأنهما من أصناف مختلفة إلا أنهما كما ورد في كثير من الآراء من ولد يافث بن نوح، وأنهما من أصل واحد أي من الترك، ولا يراد بالترك هنا الأتراك المعروفين، بل الترك قبائل متعددة في بلاد نائية سيجيء الكلام عن مواضعها في عنوان مستقل.

ولا ينبغي الغفلة هنا أن يأجوج إذا كانت مغايرة لمأجوج وبالعكس فإن سيرهما واحد، وحجزها داخل السد متحد، وخروجهما متقارن، وطبيعتهما واحدة، بل حتي طريقة موتهما واحدة، ومن هنا فالكلام عن أن يأجوج متحدة مع مأجوج أم لا، لا فائدة من الإطالة به.

وعوداً علي بدء فإن النظرية الأولي حول يأجوج ومأجوج تقتصر في نظرتها لهما علي ظاهر الآيات القرآنية، وعلي تصديق ما ورد في الأحاديث دون التحليل والتشخيص، ومحاولة التطبيق.

ومن هنا قال في ظلال القرآن: «وبعد فمن يأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون؟ كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها علي وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض

ص: 76


1- م.ن
2- تفسير الرازي، ج 21، ص 500
3- التفسير الكاشف، ج 16، ص 159

الأثر الصحيح»(1)، وقال في حق اليقين علي إثر ذكر يأجوج ومأجوج وخروجهما: «فينبغي الإيمان بذلك وبخروجهم إجمالاً ولا يتفحص عن الخصوصيات»(2).

بل لا شك في أن أكثر الذين فصلوا وأسهبوا في الحديث عن يأجوج ومأجوج، وانطباقهما علي شعوب متأخرة عنا زماناً؛ قالوا في نهاية المطاف: إن هذا الكلام علي سبيل الترجيح أو الإحتمال لا علي سبيل التحقيق.

ص: 77


1- ج 16، ص 229
2- ج 2، ص 143

2- النظرية الثانية

وهي نظرية قائمة علي أساس إنطباق يأجوج ومأجوج علي قبائل المغول والتتار، وبناءً علي هذه النظرية فإن يأجوج ومأجوج قد خرجا وقد جاء الوعد الحق وذلك قبل قيام المهدي عجل الله فرجه الشريف، وقبل قيام الساعة كما لا يخفي، وهذه النظرية رجحها العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره المعروف بالتفسير الكاشف حيث نقل عن المراغي كلاماً في هذا المجال ثم أنه مال إليه في خاتمة المطاف علي نحو الترجيح لا اليقين، قال قدس سره: «قال الشيخ المراغي في تفسيره: «يأجوج هم التتر، ومأجوج المغول، وأصلهما من أب واحد يسمي (ترك) وتمتد بلادهم من التبت والصين إلي البحر المتجمد، ومنهم جنكيز خان وهلاكو» ثم نقل المراغي عن مجلة المقتطف لسنة 1888 أن سد ذي القرنين يقع وراء جيحون في عمالة بلخ واسمه الآن باب الحديد، وهو بمقربة من مدينة ترمذ، وأن العالم الألماني «سيلد برجر» ذكره في رحلته التي كانت في أوائل القرن الخامس عشر، وأيضاً ذكره المؤرخ الإسباني «كلا فيجو» في رحلته سنة 1403... (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء) ضمير جعله للسد، ودكاء أي مستوياً مع الأرض والمعني أنه متي دنا الوقت الذي يخرج منه يأجوج ومأجوج من وراء السد هيأ الله أسباب هدمه وزواله «وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» لا ريب فيه، قال الشيخ المراغي: «وقد جاء وعده تعالي بخروج جنكيز خان

ص: 78

وسلائله فعاثوا الأرض فساداً». وفي تفسير الرازي أن وعد الله هنا يوم القيامة، وفي تفسير الطبرسي أن هذا الوعد يأتي بعد قتل الدجال، أما نحن - والكلام للشيخ مغنية «قده» - فنميل إلي قول المراغي لأنه أقرب إلي قوله تعالي: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإنا نفهم منه أن يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد، ويفسدون علي الناس حياتهم، قال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(1). هذا؛ إلي أنه لو كان المراد بمجيء وعده تعالي يوم القيامة أو بعد الدجال لكان السد موجوداً الآن كما هو.. ومن الواضح أنه لو كان لبان، بخاصة وقد جعل العلم الكرة الأرضية وسكانها أشبه بالأسرة الواحدة يضمها بيت واحد... وبعد، فإن الذي قلناه عن يأجوج ومأجوج، أو نقلناه عن الغير إنما هو علي التقريب، لا علي التحقيق، لأنّا لم نجد مصدراً يُركن إليه، من أجل هذا نكتفي بما دل عليه ظاهر القرآن الكريم، وتترك التفاصيل إلي غيرنا»(2).

وقد أيّد هذا الكلام ما ورد في كتاب الأمثل حيث قال: «ثمّ أدلة تاريخية علي أن منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «مغولستان» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا علي هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجياً.

وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجماتهم، وقد تمت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة علي حضارة الأمبراطورية الرومانية.

ص: 79


1- سورة الأنبياء، الآية: 96
2- ج 16، ص 160

وقد كان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة جنكيز خان حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، ولكن موقف حكومة «مادوفارس» إزاءهم أدي إلي تغيير الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أن يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم علي تأسيس السد المعروف بسد ذي القرنين»(1).

ونلاحظ مما ورد أعلاه أن يأجوج ومأجوج هم أجداد المغول والتتار، وأن جنكيز خان متحدر منهم، كما أن هذا الكلام مبني علي أساس أن كورش الكبير هو بعينه تلك الشخصية الإلهية المعروف بذي القرنين، ولكن هذا الكلام يحتاج إلي دليل يعين عليه ولا دليل سوي حشد مجموعة من الإحتمالات احتملها أبو الكلام زاد ورجح قوله وأيده صاحب تفسير الأمثل ومن هنا قال في ظلال القرآن: وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد نتج في الفترة ما بين «اقتربت الساعة» ويومنا هذا، وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج»(2).

ومهما يكن من شيء فإن هذه النظرية تبنت كون يأجوج ومأجوج من البشر من جهة، ومن المغول والتتار أجداداً وأحفاداً من جهة أخري.

ص: 80


1- مجلد 9، ص 331 - 332
2- ج 16، 2293

3- النظرية الثالثة

اشارة

وهي نظرية قائمة علي أساس الفهم الرمزي للروايات الواردة بشأن يأجوج ومأجوج باعتبار أن هذه الروايات لا يمكن الأخذ بها صراحة من جهة اضطرابها، ومداليلها الخاطئة وما شاكل.

وهذه النظرية بالحقيقة تفسر ظاهرة يأجوج ومأجوج بالظاهرة المادية من خلال استيحاء رمزية الروايات لا الأخذ بصراحتها، والقائل بهذه النظرية الشهيد السعيد السيد محمد صادق الصدر قدس سره، فقد قال تحت عنوان يأجوج ومأجوج ما نصه: «وهذا ما ورد الإخبار عنه في القرآن الكريم، في أكثر من موضع... وتطاحنت التفاسير فيه، حتي لم تكد ترسو علي أمر مشترك .... وقد ذكر في السابق شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج، وتكلمنا عما إذا كان القرآن الكريم بضمه إلي الأخبار دالاً علي تقدم خروج يأجوج ومأجوج علي الظهور - أي ظهور المهدي «عج» - ، ولم نستطع أن نتميز ظهور القرآن في ذلك، بات الأمر محتملاً غير قابل للإثبات التاريخي، وإن كان محتملاً جداً.

وقد روينا هناك ما أخرجه مسلم، نكرر منه هذه الفقرة.

«ثم يسيرون حتي ينتهوا إلي جبل الخمرة، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلي السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة بالدم».

ص: 81

وأخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلي الله عليه وآله ، قال: «تفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون، كما قال الله تعالي: «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»(1) فيعمون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتي تصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، حتي إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه، حتي ما يذرون فيه شيئاً فيمر آخرهم علي أثرهم فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرة ماء.

ويظهرون علي الأرض، فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولننازل أهل السماء، حتي إن أحدهم ليهز حربته إلي السماء فترجع مخضبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا أهل السماء.

فبينما هم كذلك إذ بعث الله دواب كنغف الجراد، فتأخذ بأعناقهم، فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً.

فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً، فيقولون: من رجل يشتري نفسه وينظر ما فعلوا؟ فينزل منهم رجل قد وطّن نفسه علي أن يقتلوه فيجدهم موتي، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوكم، فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم، فتشكر عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط.

وأخرج الصحيحان وغيرهما بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت: إن النبي صلي الله عليه وآله استيقظ من نومه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد سفيان بيده عشرة، قالت: يا رسول الله، أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث».

ص: 82


1- سورة الأنبياء، الآية: 96

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، جوّد سفيان هذا الحديث. وأخرج أبو داود بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه: فقال رسول الله عليه السلام : لن تكون أو لن تقوم الساعة حتي يكون قبلها عشر آيات :... وعدّ منها: خروج يأجوج ومأجوج».

وينبغي أن نتكلم حول هذه الأخبار في عدة نواحي:

الناحية الأولي: أنه لا يمكننا الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار الذي يعين علينا الالتزام بالفهم (الرمزي) لها، وذلك لوجود عدة موانع عن الأخذ بصراحتها، نذكر منها ما يلي:

المانع الأول: وجود التهافت بين بعض مدلولاتها، الأمر الذي يسقطها عن قابلية الإثبات للتاريخ.

فإن الخبر الذي أخرجه مسلم ورويناه في السابق(1)، يدل علي وجود نبي الله عيسي بن مريم عليه السلام بين المسلمين عند انتشار يأجوج ومأجوج، وقد أعرضت عنه سائر الأخبار الأخري، فتكون دالة علي عدم وجوده، لأن وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها.

ص: 83


1- خبر مسلم الذي أخرجه ذكر فيه الدجال ونزول عيسي هو التالي: فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلي عيسي أني قد أخرجت عباداً لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلي الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم علي بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ثم يمر آخرهم، فيقولون: لقد كان في هذا ماء مرة. «ويحضر نبي الله عيسي وأصحابه حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، ويرغب نبي الله عيسي وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة». ثم يهبط نبي الله عيسي وأصحابه إلي الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر، إلا ملأه زهمهم ونتنهم. فيرغب نبي الله عيسي وأصحابه إلي الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يرسل الله مطراً لا يُكبُّ منه بيت قدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتي يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك... (ج 2، 1356)

كما أن ذاك الخبر دال علي أن زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح وأصحابه، وأن إزالة جثثهم كان بدعائه أيضاً، والأخبار الأخري خالية عن ذلك، ويدل خبر إبن ماجة علي أنهم يهلكون بإرادة مباشرة من الله عزَّ وجلَّ.

كما أن خبر مسلم متضمن لوجود المطر الذي يغسل الأرض من نتنهم بعد زوال جثتهم... وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأخري، واعتبرته كأنه لا حاجة إليه.

كما أن خبر مسلم دال علي أن الطير تنقل الجثث إلي حيث يشاء الله، ولكن خبر إبن ماجة دال علي أن الأغنام تأكل لحومها فتشكر عليها أي تسمن أحسن من أكلها للنباتات.

المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار علي المعجزات، بشكل يتنافي مع (قانون المعجزات) الذي تم البرهان عليه في محله.

منها: موت يأجوج ومأجوج فجأة بطريق إعجازي، وهذا غير ممكن في قانون المعجزات، فإن أسلوب الدعوة الإلهية - كما قلنا - قائم علي مقابلة السلاح بالسلاح، وتحصيل النصر بالكفاح، لا عن طريق المعجزات.

وبتعبير آخر: إن كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي مهما كان صعباً وبعيداً، لا تقوم المعجزة لتحصيله، ومن الواضح أن تربية وتأديب يأجوج أو مأجوج، أو استئصالهم إذا لم يتأدبوا أمر ممكن بالطريق الطبيعي. ومنها: إزالة آثار نتن الجثث بطريق إعجازي، بشكل وآخر، وإن اختلفت الأخبار في أسلوبه، ومن الواضح إمكان التنظيف بالطريق الطبيعي.

ص: 84

ومنها: افتراض أكل الماشية للحم، وهو أمر غريب ولا مبرر له في قانون المعجزات، ويزيد غرابة استفادتهم الصحيحة من أكل اللحم أكثر من ذلك النبات.

ومنها: ما ذكر من تصرفات يأجوج ومأجوج أنفسهم، كشربهم بحيرة طبرية حتي تجف كما في خبر مسلم، أو شربهم من النهر حتي يجف كما في خبر ابن ماجة، فإن هذا مما لم يتضح فهمه، مهما زاد عددهم وطال بقاؤهم، ومهما طالت أجسامهم كما تقول الأساطير.

ومنها: إرسالهم السهام إلي السماء لأجل غزوها ... وليس في هذا غرابة إذا كانوا أغبياء إلي هذه الدرجة ... وإنما الغرابة في أن تعود السهام مكسوة بالدم من أجل إلهامهم بأنهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء ... فإنه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات.

هذا ولكن أغلب هذه الأشياء ستصبح حقائق عند دمجها في تكوين متكامل من الفهم الرمزي، علي ما سنذكر بعد قليل، ومعه تصبح هذه الإعتراضات واردة علي الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار، لا للمقاصد الحقيقية منها.

الناحية الثانية:

في عرض أطروحة متكاملة لفهم يأجوج ومأجوج، منطلقة عن (الفهم الرمزي للأخبار).

مرّت البشرية بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام، بشكلين منفصلين من الإيديولوجية.

ص: 85

الشكل الأول: الإتجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلية، ونستطيع أن نسميه بالمادية المحضة أو الإلحاد التام.

الشكل الثاني: الإتجاه الذي يربط العالم بخالقه بشكل وآخر.

ولكل من هذين الإتجاهين فروعه وانقساماته التي تختلف باختلاف

المستوي العقلي والحضاري للمجتمع البشري.

ويمكن القول بأن تاريخ البشرية علي طوله عاش في الأعم الأغلب الإتجاه الثاني بمختلف مستوياته، نتيجة لجهود الأنبياء وتربية الصالحين، ومهما فسد المنحرفون والمصلحيون فإنهم لم يخرجوا عن الإعتراف الغامض بالخالق الحكيم، ويكفينا مثالاً علي ذلك قوله تعالي علي لسان مشركي قريش: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ زُلْفَي»(1) فهم بالرغم من تطرفهم في الكفر، مؤمنون بالخالق، ومن ثم مندرجون في الاتجاه الثاني وعلي هذا الغرار.

يقابل ذلك، الإتجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً ... والمعطي زمام القيادة الإنسانية بيد نفسه بالرغم من قصوره وتقصيره ولم يوجد علي مر التاريخ لهذا الإتجاه وجود مهم، فيما عدا الأفكار الشخصية المتفرقة في التاريخ ... ما عدا مرتين فيما نعرف:

المرة الأولي: اتجاه المادية البدائية، المتمثلة بشكل رئيسي في قبائل

يأجوج ومأجوج.

المرة الثانية: اتجاه المادية الحديثة المعاصرة بمختلف أشكالها وألوانها وقد كان المد المادي الأول خطراً وبالغ الضرر علي ذوي الإتجاه الثاني

ص: 86


1- سورة الزمر، الآية: 3

عموماً، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المتبعة لدعوات الأنبياء ولعل القسط الأهم من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي وإن كان هذا موجوداً من أولئك الملحدين البدائيين ... وإنما الأهم من أشكال الضرر هو الضرر الإجتماعي والاقتصادي وأشكال القتل والنهب الذي كان توقعه القبائل البدائية الملحدة علي المجتمع المؤمن.

ومن هنا خطط الله تعالي للقضاء الحاسم علي هذا المد الواسع، بايجاد قائد كبير ذي حركة عالمية وقدرة واسعة، وممثل لأفضل أشكال الإتجاه المؤمن، هو الإسكندر ذو القرنين(1).

وقد شكا المجتمع المتضرر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيين: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا»(2) أي أجرة، لكي تكفينا شرهم وتكسر شوكتهم. وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يعلن دعوة الله في الأرض، ويحصر نشاط ذلك المد المادي في أضيق نطاق، وأن يعيد المجتمع البشري إلي سابق عهده، من كون الإتجاه المسيطر وهو الشكل الثاني للإيديولوجية، ويبقي الإتجاه الأول اتجاهاً شخصياً متفرقاً.

وقد اتخذ تدبير ذي القرنين في هذا الصدد شكلين أساسيين:

الشكل الأول: بناء السد الموصوف في القرآن الكريم المتكون من الحديد والصفر، وهو يحتوي علي الحماية العسكرية من هجمات القبائل البدائية الملحدة.

ص: 87


1- لعل الشهيد قده يتبني مقولة أن ذا القرنين هو الاسكندر المقدوني اليوناني، ولكننا سبق وذكرنا عدم صحة ذلك لأن الإسكندر لم يكن حاملاً للمواصفات التي ذكرها القرآن عن ذي القرنين، نعم. ربما يريد بذلك اسمه دون كونه المقدوني
2- سورة الكهف، الآية: 94

الشكل الثاني: بناء السد المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم

وقوة الإرادة الكافية ضد الإنحراف والفساد.

ولعل في الإمكان مع بعض التوسع في فهم القرآن الكريم، أن نحمل السد الموصوف فيه علي السد المعنوي الذي يفصل بين الحق والباطل، وأن الحديد والصفر عبارة عن مكوناته المفاهيمية، إلا أننا نعرض كأطروحة محتملة، علي غير اليقين ... وإن كان ذلك ممكناً في لغة العرب، ولكننا سنسير بهذا الإتجاه ريثما تتم هذه الأطروحة.

«قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ»(1) مما لديكم من المال والحطام، بعد أن مكنه

الله تعالي من الملك والهداية معاً.

وكان السد الذي بناه ذو القرنين ضخماً ومهماً إلي حد يكفي لكبح جماح البدائيين الملحدين ورد عاديتهم، «فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)»(2)، فإن الإتجاهات الملحدة تكون دائبة في نشر عقيدتها واختراق السد الإيماني وقهر قوة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين، إلا أن سد ذي القرنين كان منيعاً لا يمكن لهذه الإتجاهات أن تؤثر فيه. ولكنه علي أي حال لم يستطع القضاء عليه نهائياً، بل بقي بوجوده الضعيف ومؤثراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ»(3)، ولم يكن مقدراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود، لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية، ولذا كان لا بد من الإقتصار علي كبح جماحه وكسر شوكته فقط ببناء السد ضده علي وجه الأرض أو في نفوس المؤمنين.

ص: 88


1- سورة الكهف، الآية: 95
2- سورة الكهف، الآية: 97
3- سورة الكهف، الآية: 99

ومن هنا بقي هذا الإتجاه في التاريخ، لكي يتمحض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام عن السيطرة الجديدة المادية علي البشر للمرة الثانية، ولكنها في هذه المرة ليست بدائية، ولكنها مادية (تقدمية) ومعقدة وفلسفية وذات شعارات برّاقة، وذات قوة ومنعة بحيث يصعب مجرد التفكير في منازلتها فضلاً عن القضاء عليها، وهو معني قوله في أحد الأخبار السابقة: «لا يدان

لأحد في قتالهم».

لقد خرقت السد القديم، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح

جماحهم، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستوي عصره العقلي والثقافي والعسكري، ولم يعد الآن كافياً «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(1) أي من كل جهة ينتشرون، كذلك انتشرت المادية الحديثة.

وتسيطر الحضارة المادية علي خيرات البلاد الإسلامية، في ضمن سيطرتها علي العالم كله، وتستولي علي مصادرها الطبيعية، فتشرب البحيرات والأنهار - كما أشارت الأخبار - بمعني أنها تستغلها تماماً لصالحها، وتمنع أهلها من الاستفادة منها، فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة «حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار الأحدكم اليوم».

وتأتي الأجيال المتأخرة من أتباع الحضارة المادية، فيقولون: «لقد كان بهذا المكان ماء»، فإنهم عرفوا من التاريخ أن هذه المنطقة كانت تغل لأهلها وتفيدهم، وأما الآن - وبعد سيطرة الحضارة الكافرة - فقد أصبحت الغلّات لها، وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلي أهل البلاد.

ص: 89


1- سورة الأنبياء، الآية: 96

وأما المسلمون المخلصون فينحازون عنهم ويبتعدون عن ممالأتهم والسير في طريقهم، خوفاً علي إيمانهم من الإنهيار، وعلي سلوكهم من التفسخ والإنحلال وحين يتم للحضارة المادية الملحدة بسط السيطرة علي الأرض، تتجه أطماعها إلي السماء، ومن هنا نجدهم «يقولون: هؤلاء أهل الأرض فد فرغنا منهم، ولننازل أهل السماء» وهذا - بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً، فإن الحضارات المادية بعد أن أحكمت قبضتها علي الأرض، طمعت بغزو السماء، بادئة بالأقرب من الكواكب، ومن هنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي، والسير بين الكواكب.

«فيرمون بنشابهم إلي السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة بالدم» وهذا بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً، متمثلاً بإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية، فاعجب لمثل هذا التنبؤ الصادق الذي لم يكن للنبي عليه السلام أن يصرح به في عصره، إلا بمثل هذا الرمز، طبقاً لقانون «كلم الناس علي قدر عقولهم».

ومعني كونها تعود مخضبة بالدم، هو أنها محاولات ناجحة تنتج الأثر المطلوب والتوقع... فكما أن المتوقع من القتل بالحربة أو السهم أن تتخضب بالدم، كذلك من المتوقع للمركبات أن تنتج الخبرات العلمية المطلوبة، وأن تجلب التراب من القمر مثلاً.

ولعل في التعبير بأن السهام «ترجع عليها الدم الذي أجفظ «أي فاض وغزر... فيه إشارة واضحة إلي ذلك ... بعد العلم أن السهم الإعتيادي لا يفيض منه الدم، وإنما يراد بذلك التأكيد علي نجاح الرحلات الفضائية، وسعة ما تنتجه من نتائج، من حيث العمق والإنتشار في العالم.

وحين يتم لهم ذلك ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيتهم «فيقولون: قهرنا

ص: 90

أهل الأرض وعلونا أهل السماء»، وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية لا بد أن يحكم عليها بالزوال، ويكون غرورها نذير فنائها، واندثارها... طبقاً للقانون الذي يعرب عنه قوله تعالي: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّي إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)»(1).

وكما كان للاسكندر ذي القرنين الدور الأهم في منازلة المادية الأولي ... سيكون للقائد المهدي عليه السلام الدور الأهم في منازلة المادية الحديثة، ولذا قورن الإمام المهدي عليه السلام بذي القرنين بعدد من الروايات، كما سنسمع بعد ذلك. وسيكون للمسيح عليه السلام مشاركة فعالة في هذا الصدد، تحت قيادة المهدي عليه السلام ... إلي حد يمكن أن نعبر عنه بأنه السبب المباشر لذلك، مع شيءٍ من التجوز والتعميم، ومن هنا تسبب موت يأجوج ومأجوج إلي عمله وجهوده، كما سمعنا من بعض الأخبار.

وأما أسلوب موت هؤلاء، فيمكن أن نطرح له أطروحتين:

الأطروحة الأولي: موتهم عن طريق تفشي الأمراض والأوبئة فيهم ... كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار علي المستوي (الصريح) دون الرمزي ففي خبر مسلم: فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم. وفي خبر ابن ماجة: فبينما هم كذلك إذ بعث الله دواب كنغف الجراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً، والنغف دود صغار يكون في الإبل، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة. ومن هنا يكون الأرجح كونه تعبيراً عن

ص: 91


1- سورة يونس، الآية: 24

مكونات الأمراض (الميكروبات)، ومن هنا يكون الخبر نبوءة عن هلاك الملايين الجدد عن طريق الأوبئة الفتاكة أو الحرب الجرثومية ونحوها.

الأطروحة الثانية: أن نفهم من الموت الكفر والانحراف، لا موت الأبدان، وهي المهمة الكبري التي يقوم بها المهدي والمسيح (عليهما السلام) في العالم، ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان وهو أشد من موت الأبدان «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»(1)، فإن الإيمان قاتل للكفر، وهو أفضل شكلي الحياة.

وهذا هو الذي يفسر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة، من أن موتهم جميعاً يكون سريعاً وفي زمان متقارب جداً، فإنه طبقاً - للأطروحة الثانية - نتيجة للجهود الكبيرة المركزة في السيطرة علي العالم بالعدل وتربية البشرية باتجاه الكمال، وهو - أيضاً - دليل علي النجاح الفوري الأكيد لتلك الجهود في اليوم الموعود.

وستكون مخالفات الحضارة المادية الملحدة كبيرة جداً من الناحية الصناعية والعلمية، وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العالمية العادلة، وترسيخ جذور التربية في المجتمع الشرعي، «فما يكون لهم رعي إلا لحومهم، فتشكر عليها كأحسن ما شكرت علي نبات قط» فلحومهم - طبقاً لهذه الأطروحة - مخلفاتهم(2)، ومن المعلوم أن المستوي التكتيكي الرفيع إذا اقترن بمستوي اجتماعي عادل، أنتج أضعافاً مضاعفة من النتائج، مما إذا لم يقترن بالمستوي الإجتماعي العادل.

ولم تنتج البشرية ما بين المادتين: البدائية والتقدمية!!! من جذور

ص: 92


1- سورة البقرة، الآية: 191
2- علّق السيد الشهيد في الهامش علي عبارة مخلفاتهم قائلاً: «وأوضح في الاستفادة من المخلفات ما أخرجه ابن ماجة (ج 2، ص 1359): قال رسول الله صلي الله عليه وآله : سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم واترستهم سبع سنين

وبذور وإرهاصات للتجدد والاشتعال، ومن هنا تأسف نبي الإسلام صلي الله عليه وآله أسفاً شديداً، لأنه قد «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد عشراً» من حيث أن هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدع مقدمة لوجود المادية التقدمية!!.

غير أن موقف المهدي والمسيح عليه السلام سيختلف عن موقف ذي القرنين، فلئن اكتفي ذو القرنين ببناء السد، مع الحفاظ علي وجودهم إجمالاً طبقاً للتخطيط العام، فإن المهدي عليه السلام يتخذ موقف الإستئصال التام لكل العقائد المنحرفة والكفر والضلال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً «فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً».

الناحية الثالثة:

في الفرق بين يأجوج ومأجوج والدجال(1).

فإنه قد يرد إلي الذهن: أننا بعد أن فسرنا الدجال بالحضارة المادية كيف صح لنا أن نفسر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير؟ وهل يمكن أن نعترف أنهما تعبيران عن حقيقة واحدة، مع العلم أن تعدد الأسماء والعناوين دليل علي تعدد الحقائق؟

ويمكن أن يجاب عن ذلك بعدة أجوبة يصلح كل منها تفسيراً كاملاً للموقف:

الجواب الأول: أن مفهوم الدجال ناظر إلي الحضارة المادية ككل، ومستوعب لها علي نحو المجموع، وأما مفهوم (يأجوج ومأجوج) فيقسم تلك الحضارة إلي قسمين متميزين.

ص: 93


1- الدجال أحد علامات ظهور المهدي «عج»، والسيد الشهيد «قده» فسّر الدجال فيما سبق بأنه المادية الحديثة

فإنه بالرغم من أن الحضارة المادية ككل مميزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الإتجاه الآخر بميزاته وخصائصه، ولها فروقها عن الحضارة الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية، وهذه الحضارة المادية المنظور إليها بهذا الشكل هي التي تمثل مفهوم الدجال.

وبالرغم من ذلك، فإن للحضارة المادية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي، الذي يكون في الأعم الأغلب عنيفاً وعميقاً، وهذا الإنقسام هو المعبر عنه بمفهوم (يأجوج) مرة ومفهوم (مأجوج) أخري.

وهذا الإنقسام ليس حديثاً بل هو قديم قدم المادية نفسها، فالمادية البدائية كانت منقسمة، وكان انقسامها مشوباً بالشعور القبلي، والمادية (التقدمية). منقسمة، ولكن انقسامها أيديولوجي ومصلحي معاً.

الجواب الثاني: إن مفهوم الدجال يمثل المادية الحديثة ... ولذا لم ينقل عنه قبل الإسلام أي وجود، وإنما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في السابق بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل متأخراً عنه بألف عام، وأما مفهوم (يأجوج ومأجوج) فهو يمثل الخط المادي بتاريخ الطويل، ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث، ولم يخل التاريخ المتوسط بينهما من التأثيرات والإرهاصات. وهذا يعني أن الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج هو الدجال نفسه وليس شيئاً آخر.

الجواب الثالث: إن مفهوم يأجوج ومأجوج يعني الحضارتين الماديتين بوجودهما الأصيل، وأما عنوان الدجال فلا يعني ذلك بالضبط، وإنما الظرفية إلي نقطة تأثر المسلمين بتلك الحضارة المادية، فالدجال يعبر عن عملاء تلك الحضارة في البلاد الإسلامية، وهم متصفون بنفس أوصافهم ومتخذون نفس

ص: 94

منهجهم في الحياة... وكثيراً ما مارسوا الحكم وزرعوا الشبهات، وحاولوا فك المسلمين عن دينهم وإبعادهم عن طريق ربهم.

ويؤيد ذلك إتخاذ مفهوم الدجال، الدال علي أنه مسلم بالأصل، ولكنه أصبح كافراً ومنحرفاً، يدعو الناس إلي الكفر والإنحراف، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه، باستعمال المفاهيم الإسلامية بشكل مشوه و مستغل للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة. كما يدل عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود(1)، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله : «من سمع الدجال فلينأ عنه، فوالله إن الدجال ليأتيه وهو يحب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات».

وهناك أجوبة أخري محتملة للجواب علي السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية لا حاجة إلي سردها.

وللقاريء أن يختار أيّاً من هذه الوجوه الثلاثة شيئاً ... فإن أياً منها كافٍ في تصحيح تفسيرنا للدجال وليأجوج ومأجوج معاً.

الناحية الرابعة:

طبقاً للأطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج فإن انتشارهما من ردمهما سيكون قبل عصر الظهور، وسيظهر المهدي عليه السلام وينزل المسيح عيسي ابن مريم، وهم حلبة العالم فيتم القضاء عليهم تماماً.

غير أن بعض الأخبار دال علي تأخر انتشارهما عن عصر الظهور منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك في حديث يتحدث فيه عن نزول المسيح وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود، ويقول: ويظهر المسلمون

ص: 95


1- سنن أبو داود، ج 2، ص 431

فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، فبينما هم كذلك أخرج الله يأجوج ومأجوج ... الحديث.

فإذا عرفنا أن نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر عن قيام الدولة العالمية المهدوية ... كان الحديث دالاً علي خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة.

ومنها: ما أخرجه مسلم ورويناه في السابق في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح ثم يقول: «فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلي عيسي أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلي الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون..» الحديث.

فإذا استطعنا أن نبرهن - كما سيأتي - علي تأخر نزول المسيح عليه السلام عن ظهور المهدي عليه السلام ، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح - كما قال هذا الخبر - إذن فسيكون انتشارهم بعد ظهور المهدي عليه السلام إلا أنه يمكن المناقشة في هذه الأخبار من وجهتين:

الوجه الأول: وجود الدلالات المعارضة في الأخبار لهذه الدلالة... تدل علي تقدم ظهور يأجوج ومأجوج علي الظهور.

ولعل أهم ما يدل علي ذلك: ما دل من الأخبار علي خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج، وهي عديدة وقد سمعنا بعضها، وهي دالة بوضوح علي تحصن المسلمين منهم وعجزهم عن قتالهم وسحبهم لمواشيهم معهم وهذا الخوف إنما يمكن تحققه قبل تأسيس الدولة العالمية، بل قبل ظهور المهدي عليه السلام أساساً، إذ لا معني للخوف بعد الظهور، حين يكون النصر محرزاً والأمن مستتباً ... طبقاً لقوله تعالي: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

ص: 96

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)»(1).

إذاً فيتعين أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرز بين المسلمين، سابقاً علي الظهور حين لا يكون للمسلمين قوة عليا وهيمنة.

وقد يخطر في الذهن: أن هذه الأخبار دلت علي وجود هذا الخوف بين المسلمين بالرغم من وجود المسيح عليه السلام فيهم، وأنه عليه السلام مأمور بتحصينهم ضد اعتداءات يأجوج ومأجوج، فإذا كان نزول المسيح عليه السلام بعد الظهور كما أسلفنا، إذاً فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.

والصحيح: أن هذه الرواية إنما تدل علي تقدم نزول المسيح علي الظهور، وأنه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم... ويكفينا الآن أن نعلم بوجود عدد من الأخبار دالة علي تأخر نزوله عليه السلام عن الظهور. إذاً فلا بد من الإلتزام بأن انتشار يأجوج ومأجوج سابقة علي النزول والظهور معاً، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار، وهو المطابق مع الأطروحة التي عرفناها قبل قليل.

الوجه الثاني: وجود الدلالات المعارضة من ناحية أخري. وذلك: أننا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور، وسنجدها جميعاً خالية من التعرض ليأجوج ومأجوج، وإنما سنجد العالم هو العالم الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نسبت إلي هاتين القبيلتين، يظهر المهدي عليه السلام وينزل المسيح عليه السلام فيحكمان فيه بالعدل، ومنه تكون الأخبار ككل دالة علي عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذٍ.

ص: 97


1- سورة النور، الآية: 55

وحيث علمنا من القرآن الكريم والسنة الشريفة، أنهم لا بد أن ينتشروا في يوم، إذاً فهذا واقع قبل الظهور لا محالة.

وهنا لا بد لنا أن نتنازل عما دلت عليه بعض الأخبار السابقة عن تأخر انتشار هاتين القبيلتين عن نزول المسيح، تماماً كما قلنا في الجواب السابق.

وينبغي أن نلاحظ أيضاً، أنه طبقاً للأطروحة التي فهمناها لا تكون هناك أية معارضة بين أخبار يأجوج ومأجوج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما بعد الظهور، لأن هذه الاطروحة كما تقول بتقديم انتشار يأجوج ومأجوج المادية علي الظهور، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب، وإنما هما يمثلان العالم نفسه كما نعرفه، فما عرفناه من دلالة الأخبار علي سيطرة المهدي عليه السلام علي العالم كما نعرفه يكون منسجماً مع الأطروحة كل الإنسجام.

نعم، طبقاً للأطروحة يكون عمل المهدي عليه السلام مكرساً في أول ظهوره للسيطرة علي يأجوج ومأجوج، أو المادية السابقة علي ظهوره، وهذا المفهوم لم يرد في أخبار ما بعد الظهور، وهذا يعني تحول المفهوم في هذه الأخبار وترك التعرض إلي عنوان يأجوج ومأجوج ... ولا يعني وجود الإشكال في هذه الأطروحة»(1).

وخلاصة الأمر في هذه النظرية هو ما يتمثل بالآتي:

1- هذه النظرية تنظر إلي يأجوج ومأجوج بوصفها ظاهرة مادية، وهي تنحل إلي ماديتين: مادية بدائية ومادية تقدمية حديثة.

ص: 98


1- راجع موسوعة الإمام المهدي (عج)

2- إنه ومع تبني هذه النظرية والقول بأنها تدل علي المادية العالمية فإن ما يُستغرب من الروايات حول يأجوج ومأجوج لم يعد مستغرباً.

3- إن هذه النظرية مبتنية علي الفهم الرمزي للروايات الواردة حول يأجوج ومأجوج وليست مبنية علي الفهم التقليدي.

4- إن هذه النظرية تفسر ظاهرة الدجال علي أنها مادية حديثة غير مسبوقة بينما تفسر ظاهرة يأجوج ومأجوج بوصفها ماديتين قديمة وحديثة؛ وبالتالي فإن ظاهرة الدجال هي نفسها ظاهرة يأجوج ومأجوج، وقد نفسر ظاهرة الدجال بوصفها مادية داخلية خاصة بالعالم الإسلامي، ويأجوج ومأجوج ظاهرة مادية عالمية عمومية.

5- ظاهرة يأجوج ومأجوج المادية سوف تتحقق قبل ظهور المهدي عليه السلام ، وقبل نزول المسيح عليه السلام .

ص: 99

4- النظرية الرابعة

وهذه النظرية هي نظرية تنظر إلي يأجوج ومأجوج بوصفهم كائنات غير أرضية، وبالتالي فهم كائنات فضائية لهم عالمهم الخاص وحركتهم، وهذه النظرية بالحقيقة تابعة لمبني فكري قائم بنفسه تبناه العالم المدقق المعروف ب-«عالم سبيط النيلي»، وهذا المبني الفكري قائم علي منهجية لغوية حيث تفيد نظرية العالم النيلي بأن للغة حلاً قصدياً وليست اللغة موضوعة علي سبيل الإعتباط، ومن هنا بدأ بجولة تحقيقية في القرآن الكريم بناءً علي الحل القصدي للغة، فالحل القصدي يرفض رفضاً قاطعاً أن تكون دلالة اللفظ خارجية جاءت من الإتفاق الجزافي وإنما هي ذاتية في اللفظ ومنشقة عن عناصرها الأولي وترتيبها التعاقبي. وخلافاً للإعتباط يري أن اللفظ ينطوي علي الفكرة قبل الإستعمال بعد وهو عين الفكرة ... ومن هنا اختلف الحل القصدي للغة بل تناقض مع علم اللغة السائد تناقضاً تاماً في كل شيء، فكان من الطبيعي أن تكون نتائجه وتطبيقاته علي النصوص مختلفة عما جري عليه الإعتباط قروناً طويلة.

فهو يعالج النص مستقلاً عن المتلقي ويحرم علي نفسه استعمال كافة الأدوات والوسائل الإعتباطية من تقديم وتأخير وحذف ومجاز وغير ذلك مما هو داخل في عملية إعادة بناء الجملة»(1)

ص: 100


1- الطور المهدوي، 12 - 13

ومنهج العالم النيلي له ما يبرره، ومن ذلك:

1- أن كلام الله عزَّ وجلَّ في القرآن هو لا يشابه كلام البشر، كما أن الله عزَّ وجلَّ لا يشبهه أحدٌ من خلقه.

2- أن أخذ الفاظ القرآن الكريم بطريقة اعتباطية جزافية علي حسب ما يراه أهل التفسير من دون التأمل في نفس الألفاظ والأحرف هو بعينه كقول القائل: لقد مات واضع القرآن والعياذ بالله!!! فيلزم أولاً معرفة قصد نفس القائل والواضع.

3- إنه وكما أن لكل شيء قاعدة ونظام فإن للألفاظ واللغة قاعدة ونظام.

4- إن الحرف له دخالة في تقويم الكلمة كما أن للكلمة دخالة في تقويم الجملة فلا ينبغي اعتبار الحرف بمثابة الآلة لغيره، فربما يكون له معني وقصداً بنفسه.

5- عدم اعتبار المجاز والترادف والاستعارة هي الأصل في فهم النص القرآني، بل لا بد من التثبت من نفس النص أولاً فإن أحالنا نفس النص إلي هذه الطرائق فبها وإلا فلا.

6- إن المعني يظهر من الألفاظ والأصوات وإن لم تتمثل بجملة، وبالتالي ليست الألفاظ والأصوات فارغة ومعدومة القيمة.

7- إن كلام الخالق له معني حركي وهو أصل جميع المعاني.

8- مبدأ خضوع المتلقي للنظام القرآني من حيث الحل القصدي للغة، لا أن النظام القرآني خاضع للمتلقي.

9- مبدأ قصور المتلقي عن الإحاطة بكل مقاصد القرآن من دون إعانة نفس القرآن.

ص: 101

10- مبدأ التبيين الذاتي.

وبالجملة فإن فهم القرآن الكريم عبر مبدأ الحل القصدي للغة ينتج عنه مفاهيم جديدة مغايرة لما هو متعارف، علماً بأن هذا المنهج أعني منهج الحل القصدي للغة كان موجوداً قبل تبلوره وتطبيقه علي القرآن الكريم من قبل «العالم النيلي»؛ فقد كان موجوداً سابقاً علي يد غير واحد، لكن ما تميز به «العالم النيلي» رحمه الله أنه أعطي للنظام القرآني بُعداً خاصاً من حيث القصد الحلي للغة ورفض تشبيه ما في القرآن بما في غيره حتي علي صعيد

اللغة.

وعوداً علي بدء فإنه ووفاقاً لهذا المنهج أعني القصد الحلي للغة، فإن نظرية يأجوج ومأجوج أخذت طريقها للتبلور لتعطينا نتيجة مفادها: أن يأجوج ومأجوج ظاهرة غير أرضية بل هي فضائية، وقبل أن نذكر نظرية العالم النيلي بالنص حول يأجوج ومأجوج فإننا نرشد القراء الأعزاء إلي ضرورة الوقوف علي منهج «العالم النيلي» لفهمه فهماً كافياً، لأن منهجه في التحليل والبحث القرآني له مقدماته، وطبيعته ومفرداته الخاصة ومن هنا ننصح القراء بقراءة كتابه الموسوم ب-«النظام القرآني» مقدمة في المنهج اللفظي المطبوع في مطابع الأرز؛ بيانات النشر عمان: دار أسامة، سنة 1999م، ولعله قد طبع ونشر في بعض الدور اللبنانية بشكل جديد.

ونحن هنا بدورنا ننقل نظريته رحمه الله كاملة من دون تصرف لأن التصرف بكلامه رحمه الله قد يوجب خللاً في إيصال المعني سيما وأنه شدد علي إبقاء دور الواضع للنص حتي بعد وفاته لأن المتلقي هو الذي يخضع لنظام الواضع لا العكس، وبالجملة فقد قال رحمه الله: «إن قصة ذي القرنين مختلفة عن جميع القصص القرآنية، وأكثرها غموضاً علي الإطلاق. ويكفي في ذلك أنهم اختلفوا في شخصيته علي عشرة أقوال وسبب تسميته

ص: 102

علي أحد عشر قولاً ... كما اختلفوا في ثمانية عشر لفظاً وردت في القصة رغم قصرها الشديد. وبقيت القصة إلي اليوم لغزاً محيراً عند العلماء. إذ وجدوا أن عبارات مثل «أَتْبَعَ سَبَبًا»، «سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ»، «وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ»، «لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا»، وجدوها مع القوم يأجوج ومأجوج أشياء مستعصية علي الفهم.

والذين حاولوا تفسير جميع الألفاظ، بحسب ما فهموه من غير ما نظر لأجواء السورة نفسها وأغراضها تورطوا أكثر حينما ظلَّ الكثير من الأسئلة بغير إجابة!.

قالوا إن السد الذي بناه ذو القرنين في أذربيجان.. ولم يعثر أحد في المنطقة علي ذلك السد! وقالوا ربما يكون ذلك سور الصين .. علماً أن سور الصين من حجر والمذكور في القرآن من حديد ونحاس. وتساءل الناس من هم يأجوج ومأجوج وأين يقطنون .. فافترض البعض أنهم سكان الصين، بالرغم من أنصفتهم في المأثور النبوي لا تشبه صفة بني الإنسان علي أرضنا من قريب ولا من بعيد.

وقام صاحب الميزان بإحصاء الصور المحتملة لسرد القصة بناء علي المعاني المتعددة والوجوه المختلفة للمفسرين فوجدها تبلغ أكثر من مليون صورة محتملة، واستنتج من ذلك أن أي كتاب مهما بلغ من العلم لن يتمكن من صياغة قصة غامضة علي هذا النحو لتعطي هذا العدد من الصور، مما يدل علي سماوية القرآن!!. ولا نريد مناقشة هذا الاسنتتاج بالمقارنة مع وصف القرآن لنفسه بأنه (مبين). لقد استخدمت في القصة لغة قرآنية بخلاف القصص القرآني وورود ذكر إسم أقوام مجهولين عندنا هم (يأجوج ومأجوج)، إذ لا يوجد علي الأرض قوم آذانهم طويلة تستخدم عندهم فرشاً وغطاء وبمقدورهم شرب ماء بحيرة طبرية عن آخره، كما ورد في الحديث،

ص: 103

كما لا يوجد قوم علي الأرض لا ستر لهم من الشمس ولا يوجد سور في الأرض يشبه سد ذي القرنين، مما يدل علي أن أي تفسير يحاول فك رموزها علي نطاق الأرض سيكون فاشلاً.

ولا أدري لماذا لم يتأمل المفسرون بقول الإمام علي عليه السلام [كل البشر ولد آدم إلا يأجوج ومأجوج] إذ تكفي هذه العبارات بمفردها علي التيقن من أن الرحلة كانت لخلق ليسوا من ولد آدم وبالتالي فإنها ليست رحلة أرضية.

إن الحديث يعني أنهم مجبولون من الطين ولكنهم لم يصلوا بعد إلي مرحلة الآدمية وبإمكاننا أن نفترض أنهم إذا كانوا في أرض أُخري في كوكب آخر فإن لهم طباعاً مختلفة وعلاقة بالجاذبية والمجالات المغناطيسية وأوزاناً مختلفة عنا تماماً. وبالتالي فإن لهم قدرات جسمانية تناسب كوكبهم تعتبر شديدة الوطأة بالنسبة لنا لكننا نتفوق عليهم بالقدرات العقلية وباجتياز مراحل من الآدمية.

ما هي الدلائل علي أن هؤلاء في كوكب آخر وأن رحلة ذي القرنين كانت في الفضاء؟ إن الدلائل كثيرة جداً ومن أهمها الأسلوب القرآني نفسه:

فلم يذكر القرآن سفراً أو رحلة بمثل هذه العبارة: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا».. فهذه العبارة بمفردها تدل علي السفر في الفضاء، ذلك لأنها في القرآن لم تستخدم إلّا في هذا المعني فقط:

المورد الأول: «... يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَي إِلَهِ مُوسَي ...(37)»(1).

المورد الثاني: «مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَي السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ»(2).

ص: 104


1- سورة غافر، الآيتان: 36 و 37
2- سورة الحج، الآية: 15

المورد الثالث: «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ»(1).

فهذه الموارد واضحة في معني الارتقاء إلي الفضاء، والموارد الأخري الأربعة في نفس القصة، ومجموع الموارد ولهذا اللفظ (الأسباب) هو ثمانية موارد.

وهناك مورد واحد فقط لا يصرح بالرقي إلي السماء هو قوله تعالي «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)».

وهو أيضاً للرقي إلي السماء، إذ سيأتيك البرهان في فصل جنات الطور المهدوي وعذابه إن هذا عذاب المرحلة المهدوية حيث سيحاول الكفرة الهرب من الأرض عند رؤية العلامات الكونية - لاعتقادهم بدمار الأرض - وهو الذي يفسره المقطع في سورة الرحمن «لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ» «يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)».. وفي الآيات دليل علي أن الطور المهدوي يبدأ عند محاولة البشر تجربة القيام برحلات إلي الفضاء. ولذلك قال تقطعت (بهم) ولم يقل تقطعت بينهم الأسباب، ليدل علي أن الفشل يلاحق الأسياد وعبيدهم علي حد سواء. أي تقطعت بهم جميعاً. والبراهين علي وجود عذاب دنيوي قبل القيامة كثير جداً تأتيك في محلها بإذن الله.

رأينا في الأحاديث السابقة أنهم (عليهم السلام) يشيرون إلي جهة المغرب أكثر من مرة.. لوصف كواكب وأقوام. فما هو الموجود في جهة الشمس لحظة الغروب؟. الموجود عند غروب الشمس - باتجاه الشمس - هي الكواكب الداخلية الزهرة وعطارد فمن الممكن أن نتصور أن الرحلة كانت باتجاه هذه الكواكب وبخاصة أن الرحلة تمت بثلاث مراحل: - «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي

ص: 105


1- سورة ص، الآية: 10

الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)»(1).

تبدأ القصة علي هذا النحو .. فالسفر في الفضاء شيء وقد آتاه الله من كل شيء سبباً فليكن السفر الفضائي من جملة ما آتاه.

حديث (13):

عن أمير المؤمنين في قوله تعالي «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» قال:

[وأعطيناه من كل شيء علماً وقدرة وآلة يتوصل بها إلي مراده] قصص الجزائري / ذو القرنين.

يذكر الإمام عليه السلام هنا وجود علم وآلة توصله إلي مراده. وهكذا بدأت السفرة بثلاث مراحل:

الأولي: «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا». لقد تحرك باتجاه الشمس لحظة غروبها، إذن فهو متجه نحو مدار الزهرة .. وفي كل سنة تمر الزهرة بهذا المدار حيث تصبح مع الأرض في جهة واحدة. عند الغروب أيضاً وصل إلي الزهرة لأنه لا يستغرق أي وقت يذكر. فوجد الشمس تغرب عليه في عين حمئة. أي في كرة أرضية عالية الحرارة داكنة اللون. لقد عبر الأئمة مراراً عن الكواكب بلفظ (عين) كما في النصوص الآتية:

حديث (14):

في البحار عن الصادق عليه السلام [إن من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس].

ص: 106


1- سورة الكهف، الآيات: 83 - 85

حديث (15):

فيه أيضاً عنه عليه السلام [إن من وراء عين قمركم أربعين عين قمر].

حديث (16):

[في البشارة في علامات المهدي (عج) عنهم (عليهم السلام) :

[يرون بدنا بارزاً نحو عين الشمس]. العين في اللغة لها سبعون معني.. لكن الأصل اللغوي لها هو: الشيء المكور بذاته والواضح وضوحاً كافياً(1) ولذا سميت كرة الأبصار عيناً وكرة الماء المتدفق ذاتياً من الأرض عيناً .. أما كونها حمئة: فهو أوضح لأن الزهرة مرتفعة الحرارة إذ تقدر الحرارة فيها أكثر من مائة درجة مئوية .. مقابل 70 درجة أقصي حرارة للأرض. وهي شديدة اللمعان إذا شوهدت من الأرض، لكن سطحها مظلم لكثافة الغيوم علي طول السنة. فورد ذكر هذه الظلمة في كتاب قصص الأنبياء للجزائري:

حديث (17):

الجزائري في قصص الأنبياء عن علي عليه السلام : [قال ذو القرنين إني أريد أن أسلك هذه الظلمة.. قالوا إنك تطلب أمراً ما طلبه أحد قبلك من الأنبياء والمرسلين .. قال لا بد لي من ذلك].

حينما تكون الزهرة في منطقة قريبة من الأرض، وينطلق ذو القرنين إليها فإنه يصل بطبيعة الحال إلي الجزء المظلم منها. لأنها كوكب داخلي. لاحظ الرسم.

ص: 107


1- انظر اللغة الموحّدة للمؤلف (باب العين)

صورة

الرسم (1): يمثل قطع مدار الزهرة عند الانطلاق من الأرض وقت الغروب باتجاه الشمس لاحظ أنه إذا اتجه عند الغروب إلي مطلع الشمس فإنه يتجه إلي

الزهرة.

«وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا».

الزهرة مشابهة تماماً للأرض حجماً وسنتها قريبة من سنة الأرض (227) يوماً من أيامنا. ووجد فيها قومٌ بطور يقرب من طور الأرض وخيّره الله بين العقاب والقوة وبين الاقتناع والإحسان فاختار الجمع بين الطريقتين:

«قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)».

إذن (فوجد عندها) عند العين أي الكرة الأرضية لا عند الشمس. وقوله: سوف نعذبه، يدل علي أنه وضع لهم قوانين وأنظمة وعقوبات

ص: 108

وأفهمهم أمر الدين وعين لهم مرشدين، وإذن لم يكن مسافراً بمفرده. كما أنه بقي عندهم مدة كافية ثم ذهب إلي مطلع الشمس.

وقد يقال: إذا بقي مدة طويلة فلا بد أن الشمس طلعت عليه عدة مرات؟ الجواب كلا لم تطلع الشمس وهو الذي انطلق إلي مطلعها لأن الزهرة هي الوحيدة من الكواكب السيارة التي يومها طويل جداً بدرجة غريبة .. إن يومها أطول من سنتها؟ كما في النص العلمي الآتي:

نص علمي: [ولم نكن نعرف مدة دورتها حتي عام 1962 حيث كشف الرادار أن يومها يساوي 247 يوماً من أيامنا] - دليل النجوم - ص 60 د. عبد الرحيم بدر.

ولهذا بقي في الظلمة عدة أيام مواصلاً السير كما في هذا النص:

حديث (18):

الجزائري في قصصه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال [سار ذو القرنين في الظلمة ثمانية أيام وثماني ليال ومعه أصحابه].

من الواضح أنه عليه السلام يقصد ما يساوي هذا العدد من أيام الأرض لا منأيام (الزهرة) حسب الفرض.

المرحلة الثانية: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ».

إنطلق أيضاً بالسرعة الفائقة، لكن باتجاه مطلع الشمس. إذا كان دوران الزهرة حول محورها بطيئاً جداً ويومها ما يقرب من سنة فيفترض أن يتجه إلي مغرب الشمس أيضاً ليذهب إلي الكوكب الداخلي الآخر، (عطارد) فلماذا اتجه نحو مطلع الشمس؟ الجواب أنه لو تحرك باتجاه مغرب الشمس لعاد إلي الأرض وهو لا يريد ذلك إنه يريد الانطلاق إلي عطارد.. والسبب هو أن الزهرة هي الوحيدة من السيارات التي تدور من الشرق إلي الغرب

ص: 109

مخالفة بذلك جميع أفراد المجموعة الشمسية كما في النص العلمي:

نص علمي: [... ولكن الرادار نفسه اكتشف شيئاً مذهلاً حقاً. وجد أن الزهرة تدور حول نفسها في اتجاه معاكس للكواكب الأُخري. فكل الكواكب تدور حول نفسها من الغرب إلي الشرق. أما الزهرة فتدور من الشرق إلي الغرب] الدليل ص 60.

«وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا».

تحرك إذن باتجاه مطلع الشمس ووجد هؤلاء القوم علي كوكب (عطارد). وهؤلاء ليسوا من العلم بحيث يمكن تعليمهم وليسوا أشراراً ليعاقبهم إنهم شبه عراة يمرون بطور بدائي يشبه الطور الذي مرّت به الأرض قبل الزراعة وبناء المساكن.. ولذا لم يفعل باتجاههم أي شيء: «كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)» أي كنا نتابعه خلال حركته بعلم إحاطي.

المرحلة الثالثة: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ».

سار ذو القرنين بنفس الاتجاه نحو الكواكب الداخلية، والمشرق والمغرب أمر يخص الكرات الأرضية وهو لا علاقة له بذلك، ولذا لم يذكر القرآن هذه المرة المغرب والمطلع لأنه حدد لنا اتجاهه [بنقطتين يمكن رسم مستقيم بينهما] فلاضرورة للكلام الزائد.

«وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا».

هؤلاء درجة تطورهم أدني من القوم السابقين وهم مساكين لا يحسنون حتي التعبير. فجعل تخلف اللغة دليلاً علي تدني معارفهم وهو أدق المقاييّس إطلاقاً. لم يعرف القوم من هو ذو القرنين، لذلك عرضوا عليه مطلبهم بسذاجة لمجرد أنهم رأوه بعساكر وقوة لا مثيل لها. عرضوا عليه أن يحميهم من يأجوج ومأجوج مقابل ثمن:

ص: 110

«قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)»؟

لكنه كان بين السدين فأين يريدون وضع السد الجديد؟

إن أكثر الفقرات غموضاً هو بناء السد - بالرغم من أنه ليس سداً كما سنري. ولكن بناء علي اقتراحنا السابق فإن هؤلاء القوم كانوا بين كوكبين في منطقة تعادل الجاذبية حيث هو المعبر عنه [بين السدين] وهذه هي طبيعة هذا الخلق، ذلك لأن السد في التعبير القرآني هو الحاجز المانع عن الحركة وغير المرئي - استخدم ثلاث مرات فقط، مرتان هنا في فقرات بناء السد، ومرة واحدة بالمعني الذي ذكرناه في يس:

«وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»(1).

وهذا الاستخدام الوحيد الواضح وهو الذي يفك رموز الموردين الغامضين أعلاه.

أما يأجوج ومأجوج فإنهم علي الكوكب الصغير نفسه، فهل كان يأجوج ومأجوج يهاجمون القوم منطلقين من كوكبهم؟

يبدو ذلك، ففي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام يذكر فيها أن ذا القرنين استمع في طريقه وهو بالرحلة إلي شرح مفصل من (أحد الملائكة) لعملية نشوء الزلازل، وعند التأمل فيها يظهر واضحاً الربط بين الزلازل وبين القوي المغناطيسية للكوكب - وسوف نوضح أمر هذه الرواية قريباً - ولكن الذي يهمنا منها الآن أن الكوكب قريب من الشمس والمجال المغناطيسي فيه شديد الوطأة يدل علي ذلك (إن كثافته مقاربة لكثافة الأرض رغم أن

ص: 111


1- سورة يس، الآية: 9

حجمه خمسة بالمائة منها وسرعته في المدار ضعف سرعتها تقريباً رغم أن يومه 58 يوماً من أيامنا مما يدل علي شدة المجال المغناطيسي فيه). الخطوط المغناطيسية تخرج من دائرة صغيرة في القطب الشمالي ممتدة إلي دائرة مثلها في القطب الجنوبي - وفي القطب بالذات ينعدم تأثير القوة المغناطيسية - وهذا هو المنفذ الوحيد لخروج يأجوج ومأجوج! يؤيد ذلك طبيعتهم القائمة علي سرعة الحركة:

حديث (19):

البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل في يأجوج ومأجوج قال:

[وقيل إنهما من الترك وقيل إنهما إسمان أعجميان بدلالة منع الصرف] أقول إنه ليس في القرآن ما هو أعجمي:

«وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ»(1).

فالإسم مشتق من أج أي أسرع والآخر مشتق من مج ومعناه تحدّر أو إنسلّ فالأج والمج واحد في الفعل مختلف في الصورة الأول يظهر الإسراع والآخر ينسل خفية بإسراع فهو كالفارق تماماً بين الهمز واللمز.

القاموس: [أج إذا أسرع وأصله الهمز).

ما الذي فعله ذو القرنين؟ قام أولاً بتصحيح لغوي لطلبهم. فهم أرادوا سداً لكنه أخبرهم بأنه سيجعل بينهم ردماً! فما هو الفرق بينهما؟ إن الفرق بينهم يبين صحة الفرض السابق. فالسد رغم كونه قرآنياً غير مرئي لكن صورته الذهنية هي صورة الجدار الطولي. أما الردم فهو إغلاق فتحة علوية.

القاموس [ردم الثلمة وردم الكوة إذا سدها أو أغلقها]

ص: 112


1- سورة فصلت، الآية: 44

فالكوة التي تدخل فيها الشمس تردمها ولا تسدها.

تخيل الخطوط المغناطيسية الخارجة من قطب مغناطيسي لآخر أو أنظر الرسم ستري هنا الثلمة المغناطيسية.

إذا رأيت الرسم بإمعان فإن شكل الخطوط يشبه شكل الصدفة، صدفة المحار لكن الصدفة نفسها عليها نقوش خطوط تشبه تماماً خطوط الفيض علي كرة ممغنطة، فهناك أيضاً في المحار دائرة صغيرة في الأعلي تخرج منها الخطوط علي المحارة.

إن الخطوط المغناطيسية (تنقطع) عند القطبين وفي هذه النقاط تضعف القوة ويمكنهم الإفلات منها. والطريقة الوحيدة لمنع القوم من الخروج هو توصيل الفيض ما بين الصدفين ولا يتم ذلك إلا ببناء مغناطيسي شديد الفيض فوق القطب، فاللازم إذن استخدام الأسلوب العلمي لصناعة مغناطيس يوضع علي القطب لسد الثلمة التي تبلغ ثلاثة أميال. فالمجال يسد الثلمة لكن

ص: 113

المغناطيس يوضع علي الجهتين وهو أصغر حجماً من الثلمة بكثير.

كيف تصنع المغانيط الحديثة؟ يجيب علي هذا السؤال النص العلمي الرسمي الآتي:

[... فبناء علي نظرية الدايبولات الحديثة تكون ذرة الحديد هي أفضل المواد الفيرو مغناطيسية لأنها تحتوي علي أربعة إلكترونات لا ازداوجية في الطبقة الثالثة متشابهة في اتجاه البرم. وتصنع المغانيط الحديثة من خليط الفيرات وهي عبارة عن أوكسيدات الحديد مخلوطة مع أوكسيدات مواد فيرو مغناطيسية أُخري كالنحاس، إذ يأتي بالدرجة الثانية بعد الحديد بالقابلية علي التمغنط حيث تطحن أو تقطع هذه المواد إلي قطع صغيرة أو تضغط ثم تحرق بالنار فنحصل علي مغانيط قوية ذات خصائص فريدة] - الفيزياء - كلية العلوم - جامعة بغداد.

لقد قام ذو القرنين بالعمل علي هذا النحو تماماً:

قال «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ».

قرئت زُبر الحديد - بفتح الباء - والمعني القطع العظيمة الكثيرة (القاموس). لكنهم في قوله تعالي: «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا»اختلفوا بين الفتح والضم، وخالف إبن بري الجميع بما في ذلك خالويه حينما قال:

من قرأ زُبرا بالضم فهي جمع زبُور، أي جعلوا دينهم كتباً كثيرة. ومن قال زُبرا بالفتح فهي جمع زُبرة، أي قطعة أي تقطعوا قطعاً قطعاً.

سوف ننقل خلافهم الآن إلي موضوعنا! لأنهم تركوها اعتقاداً منهم بأن السد عظيم فالقراءة بالفتح حتماً. فلو قرأناها بالضم لكان المعني آتوني قطع الحديد المقطعة قطعاً.. أي المسحوقة سحقاً. وهذا هو سبب قوله «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ»، أحتاج قوتهم لتقطيع الحديد لا لحمله.. لأنه كما يبدو من النص القرآني متوفر في المنطقة بكثرة.

ص: 114

لكن إبن منظور لا يري فرقا بين القراءتين فعنده زُبرُ وزُبرَ واحد هو الأجزاء الصغيرة. ومن هنا يتضح أن قول المفسرين قطعاً عظيمة لا مؤيد له من اللغة، فإن أرادوا وصف الكمية فهي كمية كبيرة ولا تحتاج لإيضاح إنما المقصود القرآني النوعية: آتوني القطع المقطعة من الحديد لأحرقها واخلطها بالنحاس وأصنع منها أكاسيد تكون مغانيط فريدة!.

وهذا ما فعله، فلكي لا يضطر لنقل المغناطيس العظيم هذا فقد وضع الحديد بنفس المكان وبالشكل المطلوب بحيث يساوي في فيضه المغناطيسي بين الصدفين ثم أحرقه إحراقاً شديداً ثم رمي فيه النحاس:

«حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا»، إذن فهو يعلم علاقة الفيض بحجم المغناطيس ونوعه.

أراد القرآن بقوله جعلها ناراً تأكيد عملية الإحراق في الجو لتكوين

الأكاسيد. إتفق الجميع أن القطر هو النحاس ولكن اختلفوا في نوعه:

قال جماعة: هو النحاس المصهور لقول ابن عباس [قطر ان] فجزأه إلي قطر وأن أي في أوج حرارته.

لكن صاحب القاموس وصاحب اللسان قالا: إنه نوع من النحاس ولم يحدداه إذن فهو أوكسيد النحاس الذي إسمه القديم (زنجار النحاس).

ولهذا أحرق الحديد وحده وأخر النحاس لكونه متوفراً لديه كأوكسيد جاهز فيكفي المتبقي من الحرارة لإدخاله الخليط وصهره كون درجة انصهاره أوطأ من درجة انصهار الحديد. وإذن فعلي قراءة ابن عباس يكون معني أن جاهزاً لا مصهوراً! فأين هذا من قول المفسرين إنه بني الحديد بالنحاس كما يبني الحجر بالطين وسموه سد ذي القرنين رغم تصحيحه الخطئهم اللغوي وتسميته ردماً؟

ص: 115

«فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)».

لم يقل يظهروا عليه .. لأنهم أول مرة رأوا الطريق مفتوحاً إلا هذا الشيء العجيب كحدوة الحصان .. إنها تعني لم يقدروا علي خرق المجال وهي عبارة بالغة الدقة وتخلو من التاء لهذا الرمز .. وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا»، عندئذ عرفوا أن هذا الشيء الغريب [المغناطيس] هو السبب فأرادوا تهديمه فما استطاعوا:

اللسان: نقبت خف البعير إذا تآكلت وتهرأت إذن لم يحاولوا ثقبه كما ظن المفسرون بل حاولوا تهديمه لأن الثقب لا فائدة منه فالفيض متصل في الفراغ.

«قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)».

وهذا الوعد هو يوم المهدوية - كما سنبرهن عليه لاحقاً - ولهذا السبب إقترن خروج يأجوج ومأجوج بنزول المسيح عليه السلام - لأن دك الردم عند حدوث الوعد فيتمكنون من الخروج ثانية، ولما كان نزول المسيح عليه السلام مقترناً بظهور المهدي عليه السلام ، دلّ ذلك علي أن الوعد مفردة استخدمت للإشارة لهذا اليوم كما سيأتيك في اقترانات الوعد بالألفاظ الأخري.

ادلة أُخري متفرقة من الماثور علي صحة التفسير

حديث (20):

الجزائري في (النور المبين) عن أمير المؤمنين في قوله تعالي «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» قال عليه السلام : [سخر له السحاب ومد له في الاسباب فكان عليه الليل والنهار سواء].

الحديث واضح في تمكنه من السفر في الفضاء لوجود عبارتي السحاب والأسباب واستخدامه عليه السلام مد - إشارة إلي قوله تعالي: «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَي السَّمَاءِ».

ص: 116

كانت سرعته فائقة جداً، فيتمكن من الخروج من الليل والدخول في النهار ولهذا كانا عليه سواء أي بدون مرور زمن.

حديث (21):

الجزائري أيضاً عنهم (عليهم السلام) في الإجابة عن سبب تسميته ذي القرنين قالوا (عليهم السلام) : لأنه دخل النور والظلمة].

ويحلل بالتحليل نفسه فهو يدخلهما بوقت واحد من غير انتظار لحركة الفلك لامتلاكه السرعة الفائقة، وإلا فلا معني للحديث، لأن أي فرد منا يمكنه الدخول إلي النور والظلمة. إن هذا يفك الرموز في حديث آخر حول شكل الأرض، حيث ورد في المأثور إجابة عن السؤال عن شكل الأرض أنها [علي قرني ثور].

أي: علي شكل قرني ثور فتعطي صورة الشكل المفلطح للأرض بدقة علمية أكبر وإذن فلا مكان للسخرية من هذا الحديث الشريف من قبل أولئك المتحذلقين بغير ما دراسة في نصوص وآثار دينهم. يدل عليه قولهم (عليهم السلام) عن ذي القرنين (أنه بلغ قرنيها) أي الأرض، أي بلغ جزأيها المتقابلين كقرني ثور شرقها وغربها. يدل عليه أيضاً:

حديث (22):

السمرقندي عن النبي صلي الله عليه وآله : قال: [سمي بذي القرنين لأنه طاف شرقها وغربها]. إن المثير للسخرية ليس هذا الحديث وأمثاله وإنما بقاء الأمة الكبيرة ألف سنة وأربعمائة سنة جاهلة بمعاني تلك الأحاديث.

حديث (23):

العياشي في تفسيره عن علي عليه السلام بشأن ذي القرنين:

ص: 117

[ثم رفعه الله إلي السماء الدنيا فكشط الأرض كلها حتي أبصر ما بين المشرق والمغرب]. الحديث صريح في أن رحلاته كانت في الفضاء.

كشط في اللغة - كشف «وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ» أي فرجت وكشفت.

فاستعمل عليه السلام لفظ كشط للدلالة علي نوع الحركة لارتباطه في القرآن بالسماء فقط.

حديث (24):

الراوندي في قصص الأنبياء (عليهم السلام) عن الباقر عليه السلام : [حج ذو القرنين بستمائة ألف، فسار إلي إبراهيم عليه السلام فقال إبراهيم عليه السلام بم قطعت الدهر؟]

إنّ قطع الدهر يعني (اختصار الزمن)، فهو يقطع المسافات التي لا تقطع إلّا بالدهور مثل لمح البصر. ومن الواضح أنه ليس علي الأرض مسافات تستغرق دهوراً، لأن الدهر حدد في القاموس علي أنه ثمانون سنة.

نص آخر: البيضاوي في أنوار التنزيل حول المرحلة الثالثة من الرحلة قال: [«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)» يعني طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب من الجنوب إلي الشمال].

إن هذا النص يؤكد ما قلناه من تحركه للمرة الثالثة نحو القطب الشمالي

للكوكب لسد الثلمة المغناطيسية.

علي أن في رواية الجبل المحيط تتكشف أسرار أُخري في القرآن تأتيك في محلها. وسوف نذكر الرواية فقط مع تعليق موجز.

حديث (25) رواية الجبل المحيط:

سخر قوم من المعاصرين من مثل هذه الرواية واستنكروا أن ترد في الكتب المعتبرة. ولهم الحق في ذلك إذ لم يكلفوا أنفسهم عناء التأمل والبحث:

ص: 118

في إكمال الدين وإتمام النعمة بسنده عن أمير المؤمنين علي قال:

[ثم مشي علي الظلمة ثمانية أيام وثماني ليال وأصحابه ينظرون إليه حتي انتهي إلي الجبل المحيط بالأرض كلها وهو الجبل الأعظم. وإذا بملك من الملائكة قابض علي الجبل وهو يسبح فخر ذو القرنين ساجداً فلما رفع رأسه قال له الملك: كيف قويت يابن آدم علي أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من بني آدم قبلك؟ قال: قواني عليه الذي قواك علي قبض هذا الجبل وهو محيط بالأرض كلها. قال الملك صدقت لولا هذا الجبل لانكفأت الأرض كلها وليس علي الأرض جبل أعظم منه وهو أول جبل أسسه الله ورأسه ملصق بالسماء الدُّنيا وأسفله بالأرض السابعة السُفلي وهو محيط بها كالحلقة وليس علي وجه الأرض مدينة إلّا ولها عرق إلي هذا الجبل فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أوصي إليّ فحركت العرق الذي يليها فزلزلتها].

إن الحديث يوضح المغناطيسية الأرضية ويوضح الصلة بينها وبين الزلازل فقوله: محيط بالأرض كلها: لا يعقل بأن الإمام (عج) يقصد به جبلاً مرئياً فكيف يقول ذلك ولا أحد يري هذا الجبل؟.

وإذن فهو جبل غير مرئي.

قوله: ليس علي الأرض جبل أعظم منه: فهو أعلي الجبال فعلاً وأكبرها حجماً.

قوله: وهو محيط بها كالحلقة: تصوير رائع في جميع جهاته. لأن المنظر العلوي والجانبي والمجسم كلها تظهر المغناطيسية علي شكل حلقات.

قوله: ما من مدينة إلّا ولها عرق إلي هذا الجبل! تصوير رائع آخر بالغ الدقة لرسم الخطوط المغناطيسية، التي تمر بكافة بقاع الأرض!.

ص: 119

قوله: رأسه ملصق بالسماء الدُّنيا، أي بالسماء القريبة تحديد آخر لمدي

ارتفاع الخطوط الذي يبلغ بضعة آلاف الكيلومترات.

قوله: وأسفله بالأرض السابقة السُفلي: تحديد علمي آخر فيه دقة مدهشة! فلم يكتف بالقول الأرض السابعة حتي قال السفلي ليدلل علي أنه في باطن الأرض أيضاً لأن الخطوط تدخل من القطب الشمالي إلي الجنوبي في عمق الأرض وفي أي مغناطيس آخر. وهذا ما يسمي بالقلب المغناطيسي للأرض. أنظر الرسم. علماً بأن طبقات الأرض سبع طبقات!.

قوله: وهو أول جبل أسسه الله. تحديد علمي آخر مدهش! فإن المغناطيسية كقوة طبيعية تكون مرافقة لتكون الأرض وجزء لا يتجزأ منطبيعة وجودها وكتلتها وهو قطعاً سابق علي نشوء أي تضاريس جبلية! بل فيه إشارة إلي تكون الجبال فيما بعد! حسبما أثبتت العلوم الجيولوجية.

فما هو المثير للسخرية في هذا الحديث المقدس؟. أهو قوله وإذا بملك قابض علي الجبل؟

نعم إنه قابض بمجمع الخطوط الكائن في القطب وهو الذي يحدد زاوية الميل المحوري لكل كوكب. وفي الأرض تتحكم هذه الزاوية بكل مصيرنا ومستقبلنا! فليست الزلازل وحدها هي بفعل القابض علي الجبل! لأن زاوية الميل هي التي تتحكم في تعرض الأرض لأشعة الشمس وبالتالي تتكوّن الرياح والأمطار.. والأنهار .. إن مصير البشر وأرزاقهم تتحكم بها زاوية الميل المحوري.

أما سر المغناطيسية فلا أحد يأمل في الوصول إليه:

نص رسمي: [.. وتجدر الإشارة إلي أن مغناطيسية الأرض معقدة جداً بالرغم من الفرض الجديد للالماني ولتر القائم علي أساس التيارات المائعة

ص: 120

في قلب الأرض إذ لا زالت الحقائق عنها هزيلة والمعروف منها أمور متضاربة تجعل الحصول علي نظريته عن أصل المغناطيسية الأرضية أمراً بعيد المنال.]!!. نظرية المجال / كلية الهندسة.

وتشير معادلات ماكسويل في الحقل المغناطيسي إلي أن فيض الحقل يعتمد علي قيمة الشكل المتجه للحقل وعلي القيمة الآنية للتمرير في المادة. وقيمة الشد تعتمد علي حركة المحور وزاوية ميله.

ولذلك كان البيضاوي في (أنوار التنزيل) وابن منظور في (لسان العرب) يحومان حول المعني من غير أن يعرفا أسراره:

البيضاوي: فلما ساوي بين الصدفين الصدف بالفتح والضم لغتان وكلاهما من (الميل) ولكن أي ميل لم يكن يدري؟ هكذا قالوا.

اللسان: والصدف منقطع الجبل المرتفع وبه قرأ «سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ»!.

والصدف غشاء الدُرّة، صدفُ الدُرّة غشاؤها.

إن عبارة (منقطع الجبل) المرتفع ليست لغوية قطعاً بل تسربت إلي المعاجم من علماء القرآن فهناك علي القطب تنقطع الخطوط الشبيهة بالجبال. ولا معني آخر لعبارته.

وعلي معني غشاء الدرة يطابق المعني بصورة أكثر دقة .. فهو يتضمن معني الخيوط ومعني الإحاطة .. فكأن المغناطيسية أشبه بغشاء يغطي الأرض كغشاء الدرة في الصدف!.

هذه خلاصة شديدة التركيز لما يتضمنه هذا الحديث من أسرار وعدا

ذلك فإن له صلة بالكثير من الآيات القرآنية ومعانيها(1).

ص: 121


1- الطور المهدوي، ص 42 وما بعدها

وإلي هنا يكون قد تم لدينا نظريات أربع حول يأجوج ومأجوج:

1- النظرية التقليدية. وهي نظرية قائمة علي الفهم التقليدي للآيات والروايات.

2- نظرية المغول والتتار. وهي نظرية تطبيقية.

3- نظرية المادية العالمية. وهي نظرية تعتمد علي الفهم الرمزي للآيات والروايات وبخاصة الروايات.

4- نظرية الكائنات الفضائية. وهي نظرية قائمة علي الحل القصدي للغة والمنهج اللفظي للقرآن.

ولنا أن نسأل أي من هذه النظريات أصح وأرجح؟؟ والجواب: إن كل نظرية قائمة علي منهجٍ معين فعلينا أولا أن نعترف بالمنهج ونتبناه حتي تعترف بالنظرية المتفرعة عنه، نعم إن النظرية الأولي مقبولة لأنها لم تعتمد التحليل ومحاولة الاسقاط علي الواقع، ولذا نجد أن النظريات الثلاث الأخيرة لم تنكر النظرية الأولي بل تبنتها بحسب مناهجها الخاصة بها، وأما النظرية الثانية فهي تحاول إسقاط الآيات والنصوص علي الواقع فيما أنه ليس من المعلوم ذلك اللهم إلا علي سبيل الإحتمال،. وأما النظرية الثالثة وإن كانت غير واقعية من ناحية توصيفية بحسب الفرض إلا أنها نظرية تضم إلي الواقع من دون منافاة معه.

أما النظرية الرابعة فهي كما نري قائمة علي منهجية صعبة التفكيك فإن قبلنا بهذه المنهجية نقبل بها وإلا فلا، إلا أنها قريبة من مجريات الأحداث العلمية الأخيرة، فضلاً عن تخطيها للعقبات التي حالت دون فهم النصوص الغربية المتحدثة عن يأجوج ومأجوج، ولكننا لا نستطيع تبني هذه النظرية بنحو عام إلا عند دراسة المنهجية التي أنتجت هذه النظرية وغيرها، ودراسة هذه المنهجية تحتاج إلي وقت طويل ليس محله الآن.

ص: 122

هل خرجوا أم لا؟؟

من اليقين بأن يأجوج ومأجوج سوف يخرجون لاعتبارين اثنين:

الأول:اندكاك السد حيث قال تعالي حكاية عن ذي القرنين عليه السلام : «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)»(1).

الثاني: صريح القرآن الكريم حيث صرح اللله عزَّ وجل بخروج يأجوج ومأجوج بقوله تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(2).

فالخروج إذن متيقن، أما السؤال الجدير بالاهتمام هو: هل أن يأجوج ومأجوج خرجوا أم لا؟؟

بالحقيقة إن الجواب عن هذا السؤال يعود إلي استنتاجات سابقة علي أساسها نعلم بخروجهم أم عدم خروجهم، ومن هنا فإن الإجابة عن الأسئلة الآتية تحدد ذلك، وهي:

1- هل يأجوج ومأجوج هم بشر أم لا؟؟

2- هل يأجوج ومأجوج هم ظاهرة مفاهيمية رُمز إليها بمصطلح يوحي بأنهم بشر؟؟

ص: 123


1- سورة الكهف، الآية:
2- سورة الأنبياء، الآية: 96

3- هل يأجوج ومأجوج هم ظاهرة غير أرضية وبالتالي هم كائنات في كواكب أخري؟؟

4- هل يأجوج ومأجوج يخرجون قبل ظهور الإمام المهدي عليه السلام أم لا؟؟

5- هل يأجوج ومأجوج يخرجون بعد ظهور المهدي عليه السلام أم لا؟؟

6- هل أن يأجوج ومأجوج يخرجون مقارنة مع نزول المسيح عليه السلام ، أما أنهم يخرجون قبل نزوله أم أنهم يخرجون بعده عليه السلام ؟؟

7- هل أن يأجوج ومأجوج هم من علامات يوم القيامة؟؟

8- هل أنهم إذا كانوا من علامات يوم القيامة أو من أشراط الساعة، فإنه لا يشترط بأشراط الساعة أن تكون قريبة من يوم القيامة؟؟

ووفقاً لهذه الأسئلة تأتي الإجابة، وعلي أي حال فإنه ووفقاً لصحة كونهم بشراً فهنا احتمالات:

الأول: بناءً علي صحة نظرية أنهم المغول والتتار فإنهم خرجوا بلا شك، ولكننا لم نسمع باندكاك سد ما حين خروج المغول والتتار مع أن لهذا السد من الأهمية بحيث لا يخفي علي الناس السماع باندكاكه، كما أن الروايات تحدثت عن موتهم فيما رأينا أنهم في نهاية المطاف قد دخلوا في الإسلام!!! فهذا الإحتمال ساقطٌ إذن.

الثاني: إذا لم تتحقق نظرية المغول والتتار فهذا يعني أنهم لم يخرجوا جزماً وذلك بالإعتماد علي أنهم بشر.

أما إذا قلنا بأنهم ظاهرة مفاهيمية بناءً علي أطروحة الشهيد السيد محمد صادق الصدر قدس سره فإنهم كمادية عالمية حديثة قد خرجوا بالمعني

ص: 124

الرمزي للكلمة، أو أن بداية خروجهم قد حلّت، وعلي أبعد التقادير سيخرجون قبل ظهور المهدي عليه السلام .

وإنما قلنا بأنهم خرجوا - بالمعني الرمزي - لأن المادية الحديثة قد غزت المسلمين وآذاقتهم الإحن والمحن كما لا يخفي، نعم ما زالت في بداية خروجها والآتي أعظم وأدهي!!

وأما بناءً علي نظرية الكائنات غير الأرضية فإنهم لم يخرجوا بعد اللهم إلا إذا قلنا بأن غزو الغربيين لنا بواسطة الإمكانات التي حصّلوها من استخدام الفضاء قد تم وهو في اتساع واطراد، لكننا لا نعلم إذا كان المراد بالكائنات الفضائية كائنات جسمانية مستقلة، أم أن المراد أمر رمزي يشير إلي نفوذ البشر في الفضاء!!!

وعلي جميع هذه التقادير فإن قضية خروج يأجوج ومأجوج تتبلور بشكل أحسن وأفضل وأجلي من خلال الوقوف علي الإجابة عن سؤال: متي يخرجون؟؟ والاحتمالات هنا ثلاثة:

الإحتمال الأول: خروجهم قبل ظهور المهدي عليه السلام ، وقبل نزول المسيح وهنا يكون احتمال خروجهم سابقاً.

أقول وإن كان هذا ضعيفاً بنظرنا.

الإحتمال الثاني: خروجهم بعد ظهور المهدي عليه السلام ، ومع نزول المسيح عليه السلام أو بعده، وهنا احتمال خروجهم سابقاً يكون ساقطاً بالكلية لماذا ؟؟ لأن الإمام المهدي عليه السلام لم يظهر بعد فكيف لنا القول بأنهم خرجوا!!!

الإحتمال الثالث: إن خروجهم قبل قيام الساعة، وهنا اليقين بعدم

خروجهم سابقاً متحققً كامل التحقق.

ص: 125

ومن هنا نعلم بأن احتمال تحقق خروج يأجوج ومأجوج في زمن مضي أو في أيامنا هذه مرهون بكونهم يخرجون قبل ظهور المهدي عليه السلام ، وإذا ما ثبت لدينا عدم بشرية يأجوج ومأجوج، وعدم كونهم من الخارجين قبل ظهور المهدي عليه السلام فإن القول بأنهم المغول والتتار يكون ساقطاً وغير صحيح كلياً، بينما القول بعدم خروجهم سابقاً غير مرهون بكون موعد خروجهم قبل ظهور المهدي عليه السلام أو بعده، فربما يكون موعد خروجهم قبل ظهور المهدي عليه السلام ولكنهم لم يخرجوا سابقاً.

ص: 126

متي يخرجون؟؟

إن معرفة موعد خروج يأجوج ومأجوج مرتبط ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بالآيات القرآنية الواردة بشأن يأجوج ومأجوج من جهة، وبالروايات الصادرة عن النبي صلي الله عليه وآله ، والمعصومين (عليهم السلام) .

وقد صرحت الآيات والروايات بثلاث حقائق:

الحقيقة الأولي: أنهم حبسوا في دائرة السد المعروف بسد يأجوج ومأجوج.

الحقيقة الثانية: أنهم باتوا فترة غير قليلة داخل السد دون قدرتهم علي تجاوزه لا من فوق ولا من تحت.

الحقيقة الثالثة: أنهم سيخرجون يوماً ما حتماً وذلك بعد اندكاك السد وانهدامه.

أما الحقيقة الأولي فواضحة من خلال قوله تعالي: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»(1)

وقد أجابهم ذو القرنين إلي طلبهم، ونفذ مطلبهم ببناء السد.

وأما الحقيقة الثانية فواضحة من خلال قوله تعالي: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ»(2) بناءً علي إحدي التفسيرات، كما يؤكد ذلك ما جاء في

ص: 127


1- سورة الكهف
2- سورة الكهف

الحديث من أن يأجوج ومأجوج يدأبون في حفر السد ليلهم ونهارهم حتي إذا تعبوا قالوا غداً نعيد الكرّة(1).

وأما الحقيقة الثالثة فتتوضح من خلال قوله تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(2).

ومهما يكن من شيء فإنه وتبعاً للآيات والروايات يتوضح لدينا موعد خروج يأجوج ومأجوج، وقبل إعطاء النتيجية لا بد من الوقوف علي ما حددته الآيات والروايات حول موعد خروج يأجوج ومأجوج، وذلك بالتالي:

1- إن موعد خروجهم هو مجيء وعد الله عزَّ وجل، واقتراب الوعد الحق، قال تعالي: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا»(3)، وقال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ... (97)»(4).

فتعبيره عزَّ وجلَّ ب- «وَعْدُ رَبِّي»، «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ»، شاهد علي موعد خروج يأجوج ومأجوج، ولكن الخلاف وقع حول المراد بمجيء وعد الله، واقتراب الوعد الحق علي ثلاثة أقوال بل أربعة.

الأول: قبل ظهور المهدي عليه السلام ، ونزول المسيح عليه السلام .

الثاني: بعد ظهور المهدي ونزول المسيح (عليهما السلام) .

الثالث: قبل قيام القيامة.

الرابع: موعد خروج يأجوج ومأجوج مطلقاً.

ص: 128


1- قصص الأنبياء، م. س
2- سورة الأنبياء، الآية: 96
3- سورة الكهف، الآية: 98
4- سورة الأنبياء، الآيتان 96 - 97

2- إن موعد خروجهم هو قريب من عهد الرسول صلي الله عليه وآله ، وهذا ما يوحي به الحديث المروي عنه صلي الله عليه وآله حيث ورد أنه عليه الصلاة والسلام استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»(1)، وعقد عشراً.

وهذا الحديث يوحي بدواً بأن موعد خروج يأجوج ومأجوج قريب من عهده صلي الله عليه وآله ، ويتبادر إلي الذهن مباشرة هجوم المغول والتتار علي البلاد الإسلامية.

ولكن هذا يختلف اختلافاً تاماً فيما لو أعملنا التحقيق.

3- إن موعد خروج يأجوج ومأجوج في عهد نزول عيسي، وفي الحديث: فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلي عيسي عليه السلام أني قد أخرجت عباداً لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلي الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم علي بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها ثم يمر آخرهم فيقولون: لقد كان في هذا ماء مرة».

«ويحضر نبي الله عيسي وأصحابه حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم. ويرغب نبي الله عيسي وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة».

ثم يهبط نبي الله عيسي وأصحابه إلي الأرض، فلا يجدون في الإرض موضع شبر، إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسي وأصحابه إلي الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله.

ثم يرسل الله مطراً لا يُكنُّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتي

ص: 129


1- م. س

يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك. فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها. ويبارك الله في الرسل حتي أن اللقمة من الإبل لتكفي ألفاً من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة، واللقمة من الغنم لتكفي الفخذ»(1).

فهنا عدة نقاط:

الأولي: حضور نبي الله عيسي عليه السلام في موعد خروج يأجوج ومأجوج.

الثانية: أن المسيح عليه السلام يحصن المؤمنين - «فحرز عبادي إلي الطور» - من أذي يأجوج ومأجوج.

الثالثة: أن يأجوج ومأجوج يموتون بدعاء عيسي عليه السلام وأصحابه «ويرغب نبي الله عيسي وأصحابه».

4- أن موعد خروجهم حين قيام الساعة، فقد قال عليه السلام : «لن تكون أولن تقوم الساعة حتي يكون قبلها عشر آيات: ... وعد منها: خروج يأجوج ومأجوج»(2).

5- أن موعد خروجهم في ظل وجود المسلمين، وزوالهم أيضاً في ظل وجود المسلمين، وفي الحديث عنه صلي الله عليه وآله : «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين»(3).

والآن وبعد عرض هذه المواعيد الخمسة لا بد من مناقشة هذه المواعيد شيئاً فشيئاً:

ص: 130


1- م. س
2- الإلهيات للسبحاني
3- م. س

1- مناقشة الموعد الأول: وهو موعد مجيء وعد الله عزَّ وجلَّ واقتراب الوعد الحق، وهنا نناقش الإحتمالات الأربعة التي ذكرناها سابقاً، ونذكرها هنا وهي:

الأول: موعد خروجهم مطلقاً، وهذا لا يفيدنا بشيء لأنه أمر يقيني.

الثاني: قبل قيام القيامة، أي الإلتزام بأن موعد خروج يأجوج ومأجوج هو موعد تحقق أشراط الساعة وعلامات القيامة، وهذا الموعد مبني علي قوله تعالي: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا»(1).

والآية غير متضمنة لتعيين ما جاء من الأشراط، لكن قال ابن عباس:

«والنبي من أشراطها، ولقد قال بعثت أنا والساعة كهاتين»(2).

وكون بعثة النبي من معالم الساعة، لا ينافي وجوده هذه الفترة الطويلة بينه وبين القيامة، وذلك لأن ما مضي من عمر الأرض والمجتمع الإنساني أزيد بكثير مما بقي منه، فيصح جعل ظهوره من معالم الساعة»(3).

هذا ومما يرجح عدم احتمال كون موعد خروج يأجوج ومأجوج من موعد دنو قيام القيامة:

أولاً: إذا كانت بعثة النبي صلي الله عليه وآله من أشراط الساعة، وقد بعث صلي الله عليه وآله منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فمن باب أولي كون موعد خروج يأجوج ومأجوج قبل دنو قيام القيامة بزمن طويل، ومن هنا فإن كون موعد خروج يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة لا ينافي خروجهم قبل ظهور المهدي عليه السلام ونزول المسيح عليه السلام أو بعد ذلك.

ص: 131


1- محمد، 18
2- الإلهيات للسبحاني، ج 4، 242
3- م. ن

ثانياً: إن قوله صلي الله عليه وآله «ويل للعرب من شر قد اقترب» يدل علي سبق خروج يأجوج ومأجوج عن موعد القيامة القريب جداً.

ثالثاً: إن وجود خوف بين المسلمين من ظاهرة يأجوج ومأجوج كما ورد في الروايات من قبيل: «تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون... فيعمون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتي تصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم»(1).

إن وجود هذا الخوف يدل دلالة واضحة علي أن هذا الخوف حاصلٌ قبل ظهور المهدي عليه السلام لأنه وبعد ظهوره عليه السلام لا يوجد ثمة خوف، لأن الله عزَّ وجل يقول: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا»(2) وذلك بعد قيام المهدي عليه السلام .

نعم يمكن كون احتمال موعد خروجهم حين قيام الساعة قوياً من خلال سياق الآيات الواردة بشأن يأجوج ومأجوج، فتعبير «شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا»، «قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ»، «حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ» من دلالات القيامة.

وذلك في قوله تعالي: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ»(3). ولكن هذا الفهم من سياق الآيات يمكن التنازل عنه لصالح القول بأن الوعد الحق هو ظهور المهدي عليه السلام من خلال القول بأن: «تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة بعد الظهور، يصوغ المجتمع البشري بشكل جديد وقويم لا قبل

ص: 132


1- م. س
2- النور، 55
3- الأنبياء، 97

للكافرين والمنحرفين به، ومعه يكون من الطبيعي أن تكون «شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا». ومن الطبيعي أيضاً أن يقولوا في ذلك المجتمع الكريم: «يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا» في عصر الغيبة الكبري: عصر الفتن والإنحراف: «فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ» فاشلين في التمحيص الإلهي.

والتوبة لا تكون مقبولة من المنحرفين الراسبين في التمحيص، بل يبادر الإمام المهدي عليه السلام لقتلهم واستئصالهم جملة وتفصيلاً علي ما سيأتي في التاريخ القديم. ومن هنا يذهبون بسرعة إلي جهنم طبقاً لقوله تعالي: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ» من أشخاص ومصالح، كانت مقدسة من عهد الفتن والإنحراف «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)»(1). والخلاصة في هذا المقام أن أرجحية عدم كون موعد خروجهم قبل قيام الساعة بقليل قائمة، ولا أقل من عدم دلالة هذا الاحتمال علي نفي الإحتمالات الآخري، وذلك لأن قرب القيامة يصدق علي أحداث ما قبل ظهور المهدي عليه السلام وما بعده.

الثالث: أي بعد ظهور المهدي ونزول المسيح(عليهما السلام) .

وهذا مما يتعارض مع أمرين اثنين علي أقل التقادير:

1- أن الروايات أظهرت بأن المسلمين خائفين وهذا لا محل له بعد قيام المهدي ونزول المسيح (عليهما السلام) وقيام الدولة العالمية الآمنة من كل خوف.

2- إن الروايات الواردة حول ما بعد ظهور المهدي عليه السلام ، ونزول المسيح عليه السلام خالية من ذكر يأجوج ومأجوج.

ص: 133


1- سورة الأنبياء، 98، راجع موسوعة المهدي (عج)

الرابع: قبل ظهور المهدي عليه السلام ونزول المسيح عليه السلام ، وهذا ما نرجحه للأمور التالية:

1- بانضمام جميع الكلام الذي سبق.

2- انتشار الخوف بين المسلمين وهذا يدل علي عدم هيمنة المسلمين وسيطرتهم، بينما نري بأن للمسلمين الأمن والاستقرار بعد قيام المهدي عليه السلام .

3- عدم تعرض الروايات المتحدثة عما بعد الظهور ليأجوج ومأجوج.

4- إن ظاهرة يأجوج ومأجوج في حال كانت ظاهرة بشرية فإن الفصل بين المصلحين والمفسدين سوف يتحقق عند ظهور المهدي عليه السلام ، وبعد ذلك سوف تكون الظواهر تكوينية لا بشرية.

وقد يقال بأنه جاء في الأخبار بأن خروج يأجوج ومأجوج يكون عند نزول المسيح عليه السلام ، وقد ظهرت الأخبار بأن نزول المسيح عليه السلام متأخر زماناً عن ظهور المهدي، فيكون خروج يأجوج ومأجوج بعد ظهور المهدي عليه السلام ، ولكن يقال للجواب عن ذلك:

أولاً: إن الروايات المتحدثة عن مرحلة ما بعد الظهور لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلي يأجوج ومأجوج مع أن ظاهرتهم لا تخفي شهرتها.

ثانياً: إن الخبر الوارد عن المسيح عليه السلام وكيفية تعامله مع يأجوج ومأجوج، مسكوت عنه في الروايات الكثيرة الباقية.

نعم ثمة روايات تتحدث عن انتشار يأجوج ومأجوج بعد الظهور، وفي الحديث: «ويظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية فبينما هم كذلك أخرج الله أهل يأجوج ومأجوج ...»(1).

ص: 134


1- م. س

ولكن كما ذكرنا فإن هذا معارض بالاخبار المتضمنة لوجود الخوف بين المسلمين وهو منتفٍ بعد قيام المهدي عليه السلام بلا شك، كما أن أحداث ما بعد الظهور لم تشر صراحة ولا حتي تلميحاً إلي ظاهرة يأجوج ومأجوج.

ومهما يكن فإن احتمال موعد خروج يأجوج ومأجوج قبل ظهور المهدي عليه السلام قويٌ جداً سيما إذا أضفنا إلي ما ذكرناه، تشبيه المهدي عليه السلام بذي القرنين عليه السلام ، وفي الحديث عن الباقر عليه السلام : «إن ذا القرنين قد خير بين السحابين، واختار الذلول، وذخر لصاحبكم الصعب. قال: قلت وما الصعب؟ قال: كل سحاب فيه رعد و برق وصاعقة وبرق فصاحبكم يركبه، أما أنه سيركب السحاب ويرقي في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع خمس عوامر واثنتان خرابان»(1)، والمراد بقوله صاحبكم المهدي عليه السلام كما ورد ذلك في بعض التفاسير.

ومما يُرجح القول بأن موعد خروج يأجوج ومأجوج هو قبل ظهور المهدي عليه السلام ، تفسير قوله تعالي: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي» بأن المراد بوعد ربي أي ظهور المهدي عليه السلام .

ولئن قلنا بأن احتمال موعد خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام القائم المهدي عليه السلام هو احتمال قوي؛ إلا أنه ليس أمراً يقينياً كما لا يخفي.

وإذا عرفنا خلاصة ما توصلنا إليه فإنه يظهر لدينا عدم منافاة ما استخلصناه من نتيجة، مع مواعيد خروج يأجوج ومأجوج الخمسة التي ذكرناها، فقول النبي عليه السلام «ويل للعرب من شر قد اقترب» لا ينافي ذلك، كما أنه لا ينافي كون ذلك في عهد المسلمين، ولا ينافي ذلك كون موعد خروجهم قبل قيام الساعة لأن ظهور المهدي عليه السلام أيضاً هو قبل قيام الساعة.

ص: 135


1- قصص الأنبياء

ما هي أوصاف يأجوج ومأجوج؟؟

إذا فهمنا ظاهرة يأجوج ومأجوج بأنها ظاهرة رمزية، فإن أوصافهم تتوافق مع ظواهر وظروف الزمان الذي تبرز فيه ظاهرتهم.

أما إذا فهمنا ظاهرتهم بوصفهم ظاهرة بشرية أو قريبة من ذلك، فقد ذكرت العديد من المواصفات، ومن ذلك:

1- أجسامهم نحيفة وقاماتهم قصيرة، وبعض الروايات وصفتهم بالعكس من ذلك أي أجسامهم ثقيلة وضخمة و قاماتهم طويلة.

2- صنف منهم يشبه شجر الأرز الموجود في لبنان وفي غيره.

3- صنف منهم طولهم وعرضهم بنفس القياس.

4- صنف منهم أذنه كبيرة بحيث أنه يجعلها فراشاً، والأذن الأخري كبيرة بحيث أنه يجعلها غطاءً.

5- هم أشد شبهاً بالبهائم.

6- فيهم ذكور وإناث ويشبهون الناس بأجسادهم ووجوههم وخلقتهم.

7- أبدانهم ناقصة جداً.

8- هم متساوون في الخلقة والطول علي قول، وقيل أن بعضهم طوله خمسة أشبار.

ص: 136

9- هم عراة، حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون.

10- عليهم وبر كوبر الإبل.

11- لكل واحد منهم أُذنان أُذن ذات شعر والأخري ذات وبر في ظاهرهما وباطنهما.

12- لهم مخالب في موضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع.

13- رزقهم من سمك البحر تقذنه عليهم السحاب.

14- ينتظرون المطر في أيامه، وكل معيشتهم قائمة علي أكل السمك

المقذون من السحاب.

15- إذا لم يأكلوا سمك أو حيتان البحر جاعوا وأكلوا كل شيءٍ أمامهم.

16- يمشون متراصين.

17- لهم رائحة نتنة جداً، ونجاستهم مؤذية.

18- لا يغلبهم شيءٌ حتي الوحوش والسباع.

19- كل واحد منهم يعرف متي يموت.

20- لا يموت الواحد منهم ذكراً أو أنثي حتي يلد أو تلد ألف ولد، فإذا ولد الواحد منهم ألف ولد برز للموت لوحده.

وهذه الأوصاف تتضمن من الغرائب والعجائب ما يدفعنا إلي القول بأن الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن للعقل البشري أن يقبله، ولذا فلا بد من التأويل وأخذ هذه الأوصاف علي أساس الفهم الرمزي والمجازي حتي ينسجم مع المعايير العقلية، وتتوافق مع أحداث المستقبل الآتية.

ص: 137

أين هو موقع السد ويأجوج ومأجوج؟؟

بناءً علي رمزية ومجازية ظاهرة يأجوج ومأجوج فلا يكون الحديث هنا عن موقع وموطن يأجوج ومأجوج مجدياً، وكذلك فإنه وبناءً علي القول بنظرية كون يأجوج ومأجوج من الكائنات الفضائية، وبالتالي فهم ليسوا كائنات أرضية؛ فإن الحديث عن موقع وموطن يأجوج ومأجوج أيضاً لا نفع فيه، وذلك لأن حديثنا ينصب عن الموقع والموطن الأرضي.

أما بناءً علي أن يأجوج ومأجوج من سكان الأرض وهم من جنس البشر فيصبح الحديث صحيحاً وفي إطاره الصائب.

وإذا ما عرفنا ذلك فالسؤال الوجيه الآن هو: أين يقع السد؟؟

وأين قطن يأجوج ومأجوج؟؟ وإلي أين توجه الإلهي العظيم المعروف بذي القرنين عليه السلام ؟؟

وقبل ذكر الاحتمالات الواردة في ذلك، لا بد من ذكر نقطة مهمة في البين خلاصتها: إن موقع السد، وموطن يأجوج ومأجوج، وموطن الرحلة الثالثة لذي القرنين عليه السلام ، وموطن الأقوام الذين تمت مساعدتهم من قبل ذي القرنين عليه السلام ببناء السد، إن كل هذه المواطن يجمعها موطن وموقعٍ واحد لأن أحوالهم كانت واحدة، فبناء السد مرتبط ارتباطاً عضوياً بذي القرنين عليه السلام ، وبيأجوج ومأجوج، وبالأقوام القاطنين هناك.

ص: 138

أما الاحتمالات الواردة حول موقع السد ويأجوج ومأجوج فهي الآتية:

الإحتمال الأول: قيل أن السد هو سد مأرب الذي يقع في اليمن، وهذا القول مبني علي أن ذا القرنين هو من أحد ملوك اليمن الحميريين. ولكننا لا يمكن لنا الركون إلي هذا القول لاعتبارات عدة منها:

1- أن ملوك حمير لم يتصفوا بالأوصاف القرآنية التي كان يتصف بها الإلهي المعروف بذي القرنين عليه السلام .

2- أن الأحداث التي جرت مع ذي القرنين عليه السلام حدثت بعد النبي نوح، وملوك حمير من المتأخرين زماناً.

3- أنه إذا احتملنا نظرية الوحي الإلهي لذي القرنين عليه السلام ، فإن أحداً من ملوك حمير لم يكن نبياً.

4- أن ذا القرنين أوتي من كل شيءٍ سبباً، وسار في الظلمة والنور، والتقي مع الخضرعليه السلام ، وإبراهيم عليه السلام ، وأي من ملوك حمير لم يتسني له ذلك.

5- إن سد يأجوج ومأجوج بني من الحديد والنحاس وسد مأرب من الحجارة والباطون أو (الطابوق).

6- ذو القرنين إذا كان أحد ملوك حمير بحسب الفرضية فلا يعني بالضرورة أن يكون السد هو سد «مأرب»، لأننا نعرف بأن لذي القرنين رحلات تخطت موطنه الأم.

7- إن الغاية من بناء سد مأرب هي لأجل حبس الماء ومنعها من الغور تحت الأرض، أما الغاية من بناء سد يأجوج ومأجوج فهي لمنعهم من تجاوزه وإلحاق الأذي بالبلاد والعباد.

ص: 139

الاحتمال الثاني: أن موطن يأجوج ومأجوج هذ في بلاد التبت والصين ممتداً إلي البحر المتجمد، وأن سد ذي القرنين يقع وراء جيحون في عمالة بلخ، واسمه الآن باب الحديد وهو بمقربة من مدينة ترمذ».

وصاحب هذا الاحتمال هو الشيخ المراغي، ولكن هذا الاحتمال مبني علي أن يأجوج ومأجوج هم المغول والتتار، فيأجوج هم التتار، ومأجوج هم المغول.

وهذا الإحتمال أيضاً لا يمكن الركون إليه لعدة اعتبارات منها:

1- أن الروايات تحدثت عنهم بوصفهم لا يغلبون، وبأنهم يموتون بإرادة إلهية، أو بدعاء المسيح عليه السلام ، أما المغول والتتار فقد هزموا في بعض الأحايين كما حصل مع انتصار الظاهر بيبرس و قطز(1) عليهم، كما أنهم لم يموتوا كما ورد في الأخبار باعجاز إلهي أو بدعاء المسيح عليه السلام عليهم، بل دخل جمع غفير منهم في الإسلام كما لا يخفي(2).

2- إن اندكاك السد من العلامات المهمة لاقتراب الساعة، ولكننا بالوجدان لم نسمع حين خروج المغول والتتار باند كاك سدٍ ما، وأما قول الشيخ مغنية في معرض تأييده لقول الشيخ المراغي: «أما نحن فنميل إلي قول المراغي لأنه أقرب إلي قوله تعالي: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإنا نفهم منه أن يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد، ويفسدون علي الناس حياتهم، قال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(3)، هذا، إلي أنه لو كان المراد بمجيء

ص: 140


1- من قادة المماليك
2- وذلك بفضل جهود الخواجة نصير الدين الطوسي «قده»
3- سورة الأنبياء، الآية: 96

وعدة تعالي يوم القيامة أو بعد الدجال لكان السد موجوداً الآن كما هو.. ومن الواضح أنه لو كان لبان، بخاصة وقد جعل العلم الكرة الأرضية وسكانها أشبه بالأسرة الواحدة يضمها بيت واحد»(1).

أما قوله رحمه الله فهو يحتج عليه بالعكس أيضاً، حيث أن خروج المغول والتتار لم يصاحبه ذكر لسد ما مع أن للسد شهرة لا تخفي خاصة أن الله عزَّ وجل قرنه بمجيء الوعد الحق، كما أن السد إذا كان من ناحية المغول والتتار فهو لم يعلم عنه شيئاً مثل خروجهم، بالإضافة إلي أن أوصاف المغول والتتار من ناحية الجسم، والطول، والعرض، والأذن وما شاكل لا تتطابق مع أوصاف يأجوج ومأجوج في الأخبار.

3- إن الصورة التي أعطيت ليأجوج ومأجوج هي أعظم بكثير من الصورة التي ظهر عليها المغول والتتار.

4- لم يعلم بأن المغول والتتار كانوا محجوزين داخل سد ما، وكل ما عُرف عنهم بأنهم كانوا يعيشون في تلك الأمكنة النائية حياة قبلية تقليدية عادية.

نعم هناك تشابه بين المغول والتتار وبين يأجوج ومأجوج في قضية الافساد، والقتل، والهمجية، والكثرة الكاثرة، ولكن هذا التشابه لا يوجب اتحادهما، سيما وأننا نري، وبالوجدان بأن أمريكا واسرائيل في أيامنا هذه يفعلون أكثر بكثير مما وصف به يأجوج ومأجوج فهل نقول بأن أمريكا هي يأجوج وإسرائيل هي مأجوج؟!!!

ومن المهم الإشارة إلي أن صاحب الميزان قد تبني ما هو قريب من هذا القول فقال ما نصه: «ويقرب حينئذٍ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو

ص: 141


1- م. س

أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق علي هذه الأمم المفسدة في الأرض، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلاً بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو سد داريال» أو غير هذه. وقد تسالمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الأحداب والمرتفعات في شمال الصين كانت موطناً لأمة كبيرة بدوية همجية لم تزل تزداد عدداً وتكثر سواداً فتكر علي الأمم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلي بلاد آسيا الوسطي والدنيا وبلغت إلي شمال أوروبا فمنهم من قطن في أرضٍ أغار عليها كأغلب سكنة أوروبا الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد.

وهذا أيضاً مما يؤيد ما استقر بناه آنفاً أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه»(1).

كما أن هذا الكلام موافق لما نُقل عن فاكهة الخلفاء وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه وغيرها من المصادر من أن «يأجوج ومأجوج هم الأمم الذين كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا تمتد بلادهم من التبت والصين إلي المحيط المتجمد الشمالي وتنتهي غرباً بما يلي بلاد تركستان»(2).

كما أن صاحب كتاب الأمثل أيّد هذا الكلام مع تغيير طفيف حيث قال: «ثم أدلة تاريخية علي أن منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «مغولستان» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا علي هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجياً.

ص: 142


1- راجع الميزان في تفسير القرآن
2- م. س

وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة كحركة هؤلاء الأقوام وهجماتهم، وقد تمت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة «آتيلا»، وقد قضت هذه الهجمة علي حضارة الأمبراطورية الرومانية. وقد كان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة «جنكيز خان» حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودحر العديد من المدن وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، ولكن موقف حكومة «مادوفارس» إزاءهم أدي إلي تغيير الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أن يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم علي تأسيس السد المعروف بسد ذي القرنين»(1).

ولا يخفي بأن ما قاله صاحب الأمثل مبني علي كون «كورش» الأخميني هو المعروف بذي القرنين.

ومهما يكن من شيء فإن الاحتمال الثاني مشهور جداً، فجغرافية السد، ويأجوج ومأجوج، وأقوام المضيق الجبلي، تقع في القارة الأسيوية، وأكثر ما تتمحور في نواحي الصين وتمتد إلي غيرها من البلدان.

ولكن الله عزَّ وجل أعلم بالواقع، والشهرة لا تجعل الإحتمال يقيناً.

هذا ولا يخفي علي أحد أن الناس وبمجرد أن تسمع بيأجوج ومأجوج تنصرف أذهانها إلي تلك النواحي الأسيوية كالصين واليابان وغيرهما.

ص: 143


1- مجلد 9، 316

وخلاصة القول في موقع السد ويأجوج ومأجوج أنه قيل بأن يأجوج ومأجوج كان وجودهم في القارة الأسيوية علي نحو العموم، وفي نواحي الصين علي نحو خاص.

أما السد فكذلك قيل بأنه في تلك الأماكن، أما اسم السد فتراوح بين هذه الأسماء:

1- سد مأرب، الموجود في اليمن.

2- باب الحديد، الموجود بمقربة من مدينة ترمذ.

3- سور الصين.

4- سد باب الأبواب في قارة آسيا.

5- سد داريال. الموجود في تلك النواحي أيضاً.

وقيل بأن السد موجود في ما يعرف بمثلث برمودا الذي حدثت فيه أحداث غريبة، ولكننا لا نعلم بأن مثلث برمودا له طبيعة مغايرة لطبيعة باقي الأماكن، أو أن المادية العالمية تريد أن تجعله ظاهرة عجيبة لصرف أنظار الناس عن أفعال أهلها الخسيسة ومما يؤكد ذلك السكوت عن ظاهرة مثلث برمودا في هذه الأعصار مع أنه لو صح ما قيل عنه لكان الاهتمام به أمراً ملحاً.

إشارة إلي أمين الإسلام الطبرسي قال: قيل أن السد يقع وراء دربند وخزر من ناحية أرمينية وأذربيجان»(1).

ص: 144


1- مجمع البيان

ما هي صفة السد؟؟

ورد في بناء السد وصفته أن ذا القرنين عليه السلام دل أقوام المضيق الجبلي «علي معدن الحديد والنحاس فضرب لهم في جبلين حتي فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس، قالوا: فبأي قوة نقطع هذا الحديد والنحاس.

فاستخرج لهم من تحت الأرض معدناً آخر يقال له السامور - الألماس - وهو أشد شيء بياضاً وليس شيء منه يوضع علي شيء إلا ذاب تحته، فصنع لهم منه أداة يعملون بها، وبه قطع سليمان بن داوود أساطين بيت المقدس، وصخوره جاءت بها الشياطين من تلك المعادن، فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به فأوقدوا علي الحديد النار، حتي صنعوا منه زبراً مثل الصخور فجعل حجارته من حديد ثم أذاب النحاس فجعله كالطين لتلك الحجارة ثم بني وقاس ما بين الجبلين فوجدة ثلاثة أميال، فحفروا له أساساً حتي كاد يبلغ الماء وجعل عرضه ميلاً وجعل حشوة زبر الحديد وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد فجعل طبقة من نحاس وأخري من حديد ثم ساوي الردم بطول الصدفين فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد»(1).

ص: 145


1- فصص الأنبياء، الآية: 183

وورد أن موضع السدين أي الجبلين اللذين بُني سد يأجوج ومأجوج بينهما هو بين أرمينية وأذربيجان، وحكي الطبري في تاريخه عن صفة السد: «أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع»(1).

والسؤال المطروح ها هنا هو: ما هو هذا السد الذي يمنع كل هذه

الجموع الغفيرة من تجاوزه، علماً بأن أوصافهم وأفعالهم في الروايات توحي بأنهم ممن لهم قدرة علي شرب الأنهار، وقتل الوحوش والسباع والفيلة وأكلهم.

ومن هنا فإن التفسير الرمزي للسد هو أقرب للفهم البشري، كما أن تفسير سد ذي القرنين بالصورة التي فسرها العالم النيلي هي أيضاً أقرب للعلم وللفهم.

نعم يمكن الأخذ بقول من قال بأن السد هو سد مادي حقيقي إذا ما صح ما قيل بأن مقدار ارتفاع السد مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعاً»(2).

ولكن حتي هذا المقدار يمنع الناس العاديين؛ لا بأوصاف اتصفت بها يأجوج ومأجوج.

ص: 146


1- تفسير الرازي، ج 21، 498
2- مجمع البيان، ص 389

الروايات التفرقة في يأجوج ومأجوج

نعمد هنا إلي ذكر عدة روايات متفرقة بشأن يأجوج ومأجوج وهي:

1- روي حذيفة قال: سألت النبي صلي الله عليه وآله عن يأجوج ومأجوج فقال: «يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتي ينظر إلي ألف ذكر من صلبه، كل قد حمل السلاح». قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: «هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز، - وهي شجر بالشام - وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش إحدي أذنيه ويلتحف بالأخري، ولا يمرون بفيل ولا وحش، ولا جمل، ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية»(1).

2- جاء في الحديث عن يأجوج ومأجوج وحبسهم في السد: «إنهم يدأبون في حفره نهارهم، حتي إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس، قالوا: نرجع غداً ونفتحه، ولا يستثنون فيعودون من الغد وقد استوي كما كان، حتي إذا جاء وعد الله، قالوا: غداً نفتح ونخرج إن شاء الله. فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه ويخرجون علي الناس،

ص: 147


1- مجمع البيان، ص 387

فينشفون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلي السماء فترجع وفيها كهيئة الدماء، فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم، فيدخل في آذانهم فيهلكون بها. فقال النبي صلي الله عليه وآله : والذي نفس محمد بيده! إن دواب الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكراً»(1).

3- ورد أن ذا القرنين عليه السلام حين رجع من المغرب عطف نحو أقوام المضيق الجبلي، وكان هناك «أمة يقال لها يأجوج ومأجوج أشباه البهائم يأكلون ويشربون ويتوالدون وهم ذكور وإناث وفيهم مشابهة من الناس بالوجوه والأجساد والخلقة ولكنهم قد نقصوا في الأبدان نقصاً شديداً وهم في طول الغلمان لا يتجاوزون خمسة أشبار وهم علي مقدار واحد في الخلق والصور عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون، عليهم وبر كوبر الإبل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد ولكل واحد منهم أُذنان إحداهما ذات شعر والأخري ذات و بر ظاهرهما وباطنهما ولهم مخالب في موضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وإذا نام أحدهم افترش احدي أذنيه والتحف الأخري فتسعه لحافاً، وهم يرزقون نون البحر كل عام يقذفه عليهم السحاب، فيعيشون به ويستمطرون في أيامه كما يستمطر الناس المطر في أيامه، فإذا قذفوا به اخصبوا وسمنوا وتوالدوا وأكثروا فأكلوا منه إلي الحول المقبل ولا يأكلون منه شيئاً غيره وإذا أخطأهم النون جاعوا وساحوا في البلاد فلا يدعون شيئاً أتوا عليه إلا أفسدوه وأكلوه وهم أشد فساداً من الجراد والآفات وإذا أقبلوا من أرض إلي أرض جلا أهلها عنها وليس يغلبون ولا يدفعون حتي لا يجد أحد من خلق الله موضعاً لقدمه ولا يستطيع أحد أن يدنو منهم لنجاستهم وقذارتهم فبذلك غلبوا وإذا أقبلوا إلي الأرض

ص: 148


1- م. ن، ص 389

يُسمع حسهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم، كما يُسمع حس الريح البعيدة ولهم همهمة إذا وقعوا في البلاد كهمهمة النحل إلا أنه أشد وأعلي، وإذا أقبلوا إلي الأرض حاشوا وحوشها وسباعها حتي لا يبقي فيها شيء، لأنهم يملأون ما بين أقطارها ولا يتخلف وراءهم من ساكن الأرض شيء فيه روح إلا اجتلبوه، وليس فيهم أحد إلا وعرف متي يموت وذلك من قبل أنه لا يموت منهم ذكر حتي يولد له ألف ولد ولا تموت أنثي حتي تلد ألف ولد، فإذا ولدوا الألف برزوا للموت وتركوا طلب المعيشة.

ثم أنهم أجفلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضاً أرضاً وأمة أمة وإذا توجهوا لوجه لم يعدلوا عنه أبداً. فلما أحسسته تلك الأمم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وهو نازل في ناحيتهم، قالوا له فقد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان وما أيدك به من الجنود ومن النور والظلمة، وإنّا جيران يأجوج ومأجوج وليس بيننا وبينهم سوي هذه الجبال وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الجبلين لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا ويأكلون ويفرسون الدواب، والوحوش كما يفرسها السباع ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيّات والعقارب وكل ذي روح ولا نشك أنهم يملأون الأرض ويجلون أهلها منها، ونحن نخشي كل حين أن يطلع علينا أوائلهم من هذين الجبلين، وقد آتاك الحيلة والقوة «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)»(1).

وقد بني لهم عليه السلام السد وحصنهم من يأجوج ومأجوج كما لا يخفي.

ص: 149


1- قصص الأنبياء، 182 - 183

4- عن ابن عباس قال: سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلق فقال: خلق الله ألفاً ومائتين في البر، وألفاً ومائتين في البحر، وأجناس بني آدم سبعون جنساً، والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج»(1).

5- أخرج مسلم وابن ماجة عن النواس بن سمعان عن رسول الله، حديثاً مطولاً يذكر في أوله الدجال وبعض صفاته وأفعاله. ثم يذكر نزول عيسي ابن مريم (عليهما السلام) عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.

ثم يقول - واللفظ برواية مسلم -: «فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلي عيسي أني قد أخرجت عباداً لي لا يدن لأحدٍ بقتالهم، فحرز عبادي إلي الطور.

ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم علي بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ثم يمر آخرهم فيقولون: لقد كان في هذا ماء مرة. ويحضر نبي الله عيسي وأصحابه حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم. ويرغب نبي الله عيسي وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة.

ثم يهبط نبي الله عيسي وأصحابه إلي الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسي وأصحابه إلي الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله.

ثم يرسل الله مطراً لا يُكنُّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتي يتركها كالزلقة ثم يُقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها. ويبارك الله في الرسل حتي أن اللقحة

ص: 150


1- البرهان في تفسير القرآن، مجلد 6، ص 286

من الإبل لتكفي ألفاً من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ»(1).

6- وأخرج مسلم بسند آخر عن يزيد بن جابر مثل ما ذكر في الحديث الأول وزاد: «ثم يسيرون حتي ينتهوا إلي جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون نشابهم إلي السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماء»(2).

7- أخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهصلي الله عليه وآله ، قال: «تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله تعالي: «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»(3) فيعمون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتي تصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم، حتي إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه حتي ما يذرون فيه شيئاً، فيمر آخرهم علي أثرهم فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرة ماء.

ويظهرون علي الأرض فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولننازل أهل السماء حتي إن أحدهم يهز حربته إلي السماء فترجع مخضبة بالدم فيقولون: لقد قتلنا أهل السماء.

فبينما هم كذلك إذ بعث الله دواب كنغف الجراد فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضاً.

فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً فيقولون: من رجل يشتري نفسه وينظر ما فعلوا؟ فينزل منهم رجل قد وطن نفسه علي أن يقتلوه فيجدهم

ص: 151


1- م. س
2- م. س، راجع أحداث الظهور
3- سورة الأنبياء، الآية: 96

موتي، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوكم فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم، فتشكر - أي تسمن - عليها كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط»(1).

8- أخرج الصحيحان وغيرهما بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت: إن النبي صلي الله عليه وآله استيقظ من نومه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد سفيان بيده عشرة، قلت: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبيث»(2).

ويذكر أن سفيان جوّد هذا الحديث لهذا عقد سفيان بيده عشرة إشارة إلي كيفية فعل النبي صلي الله عليه وآله .

9- عن رسول الله صلي الله عليه وآله : «لن تكون أو تقوم الساعة حتي يكون قبلها عشر آيات ... وعدّ منها: يأجوج ومأجوج»(3).

10- عن رسول الله صلي الله عليه وآله : «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم، وأترستهم سبع سنين»(4).

11- ورد: أن الخضر والإلياس يجتمعان في كل ليلة علي ذلك السد يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج»(5).

ص: 152


1- م. س
2- راجع في ظلال القرآن، م. س
3- م. س
4- م. س
5- راجع قصص الأنبياء

ملحوظة مهمة

ورد عن قتادة : «أن ذي القرنين بني السد علي إحدي وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة دون السد منهم الترك»(1).

وإذا صح عن قتادة ما ذكره فهذا يعني أن قبائل الترك القديمة والتي تحدرت منها قبائل المغول والتتار هي خارج السد، وما فعله المغول والتتار من فساد وإفساد في البلاد والعباد هو نموذج من نماذج إفساد يأجوج ومأجوج، وبالتالي فإن التشاكل بينهم وبين يأجوج ومأجوج يعطينا فكرة واضحة عن طبيعة وصفة يأجوج ومأجوج.

أما تلك المواصفات الغريبة التي اتصف بها أفراد يأجوج تبعاً لما حدثتنا عنه الأخبار والروايات فهي مبنية علي المجاز أو علي تصوير الواقع الإفسادي الفعلي ليأجوج ومأجوج من جهة تأثيرهم السلبي علي واقع الوجود، فشربهم للأنهار تعبير عن عدم إدارتهم الصالحة للموارد المائية، أو هو تعبير عن عدم السماح للناس بالاستفادة منها جراء إنهاكهم بالحروب والقتل والتدمير، وقتلهم للوحوش والسباع وأكلهم لها دلالة علي أنهم يعيشون حياة بدائية وهمجية مبنية علي كون طعامهم ورزقهم قائم علي الصيد والقنص، وغير ذلك مما قيل في مواصفاتهم؛ فإنه مبني علي التعبير عنها

ص: 153


1- حق اليقين، ج 2، ص 142

بالخصوصيات الزمانية والمكانية والتي لا تخرج عن إطار المعقول.

ومما يدل علي صحة ما قلناه أن الزمر الفاسدة في هذا العالم سيما أمريكا وإسرائيل هم يقومون بتنشيف الأنهار عبر السرقة، وبتنشيف آبار النفط عبر سحبها إلي أماكن أخري، وهم يقتلون ليس الوحوش والسباع فقط بإمكانياتهم المادية، بل هم يقتلون ويأكلون الجبال وخيرات الأراضي والبقاع، وهم أيضاً لا يقتلون الناس مرة واحدة بل يقتلونهم مئات المرات عبر قهرهم وإذلالهم وإفقارهم، وإذا كنا لا ننفي علي القنبلة الذرية قدرتها علي الفتك ببلاد واسعة دفعة واحدة وبسرعة فائقة، ويشمل هذا الفتك الناس، والنبات، والحيوان والجماد؛ فكيف ننفي عن جيش كثيف جداً قدرته علي الفتك بالناس والحيوان والنبات والماء بصورة طبيعية؟!!!

فما شهدناه في هذه الأعصار إذن لا يجعلنا نعيش غرابة الروايات المتحدثة عن يأجوج ومأجوج، وكما نعلم فإن الإشارات الزمنية البعيدة تكون قريبة من أذهان متلقيها، وما يدرينا لو كان النبي صلي الله عليه وآله يحدثنا عن يأجوج ومأجوج في هذا الزمان كيف يحدثنا عنهم؟!! وبأي طريقة تعبيرية يكون وصفه صلي الله عليه وآله لهم؟!!.

ص: 154

هل الأخبار الواردة بشأن يأجوج ومأجوج معتبرة؟؟

لقد ذكرنا عدة روايات حول يأجوج ومأجوج وهي تتحدث عن خصوصيات موجودة في يأجوج ومأجوج، فهل هذه الروايات والأخبار معتبرة؟؟

يجيب صاحب كتاب حق اليقين في معرض تعليقه علي بعض هذه الروايات قائلاً: وأكثر هذه الخصوصيات لم ترد في الأخبار المعتبرة، فينبغي الإيمان بذلك وخروجهم إجمالاً ولا يتفحص عن الخصوصيات»(1).

وذكر الشهيد السيد محمد صادق الصدر قدس سره أن إحدي الموانع التي تمنعنا من الأخذ ببعض هذه الأخبار صراحة هو «وجود التهافت بين بعض مدلولاتها، الأمر الذي يسقطها عن قابلية الإثبات التاريخي»(2)، وعلّق الشيخ محمد جواد مغنية رضوان الله عليه علي ذلك قائلاً: «لأنّا لم نجد مصدراً يُركن إليه، ومن أجل هذا نكتفي بما دل عليه ظاهر القرآن الكريم ونترك التفاصيل إلي غيرنا»(3).

ص: 155


1- حق اليقين، ج2 ، ص 143
2- م، س
3- التفسير الكاشف، ج 16، ص 160

ونحن بدورنا إذا رجعنا إلي أكثر المصادر المتحدثة عن خصوصيات يأجوج ومأجوج نجدها ساقطة عن الإعتبار لعاميتها من جهة، ولإرسال بعضها من جهة أخري، ولتعارض دلالاتها من جهة ثالثة، ولمخالفتها للمعقولات من جهة رابعة، ولضعف دلالة متونها من جهة خامسة ومن هنا نقل عن صاحب الميزان أنه هناك مليون احتمال حول يأجوج ومأجوج(1)، ونقل عن بعضهم قوله في ظاهرة يأجوج ومأجوج: «وتطاخت التفاسير فيه حتي لم يكد ترسو علي أمر مشترك»(2).

ومن هنا نري بأن أكثر العلماء حينما يمرون في بحوثهم العلمية علي ظاهرة يأجوج ومأجوج يدلون بأقوالهم في هذه المسألة علي مستويين:

المستوي الأول: يذكرون الآيات الواردة في المقام بتفسير إجمالي أو تفصيلي مع ذكر الإحتمالات من دون أخذ موقف علمي، وكذا يذكرون الروايات من دون تحقيق أو إعمال فكر إلا ما شذ وندر.

المستوي الثاني: يحاولون إسقاط الآيات والروايات علي الواقع بطريقة تطبيقية، فيصولون ويجولون بطريقة علمية وفكرية، وفي نهاية المطاف هم يرسون علي نتيجة ترجيحية احتمالية، ويصرحون صراحة بأنهم لا يرون هذا الرأي أو ذاك علي نحو الجزم واليقين.

ص: 156


1- الطور المهدوي، ص 43
2- م. س، راجع أحداث الظهور

الروايات المتفرقة في ذي القرنين

بما أن لذي القرنين عليه السلام دخالة مهمة في الولوج إلي معرفة ظاهرة يأجوج ومأجوج فلا بد من معرفة الشيء اليسير عنه، وهذا ما سنحصله من هذه الروايات والقصص المتفرقة عنه عليه السلام :

1- روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله عن ذي القرنين عليه السلام : «سخر الله له السحاب فحمله عليها ومد له في الأسباب وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء»(1).

2- عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إن ذا القرنين بعثه الله إلي قومه فضرب علي قرنه الأيمن، فأماته الله خمسمائة عام. ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فضرب علي قرنه الأيسر فأماته الله خمسمائة عام، ثم بعثه الله إليه بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها»(2).

3- سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ فقال: لا ملكاً ولا نبياً بل عبداً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصح له، فبعثه إلي قومه فضربوه علي قرنه الأيمن فغاب عنهم، ثم بعثه الثانية فضربوه علي قرنه الأيسر فغاب عنهم، ثم بعثه الثالثة فمكن الله له في الأرض،، وفيكم مثله»(3) أي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .

ص: 157


1- قصص الأنبياء للجزائري
2- م. ن
3- م. ن

4 - ورد أنه «كان ذو القرنين إذا مرّ بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فينبعث في القرية ظلمات ورعد وبرق وصواعق يهلك من خالفه»(1).

5- عن الإمام الصادق عليه السلام : «إن ذا القرنين لما انتهي إلي السد جاوزه فدخل في الظلمات، فإذا هو بملك - من الملائكة - قائم علي جبل طوله خمسمائة ذراع، فقال له الملك: ياذا القرنين أما كان خلفك مسلك؟ فقال له ذو القرنين من أنت؟ قال: أنا ملك من ملائكة الرحمان موكل بهذا الجبل فليس من جبل خلقه الله عزَّ وجل إلا وله عرق إلي هذا الجبل فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يزلزل مدينة أوحي إليّ فزلزلتها»(2).

6- عن الإمام الباقر عليه السلام : «إن الله تبارك وتعالي لم يبعث أنبياءً ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان ويوسف، وأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب، وأما داوود فملك ما بين الشامات إلي بلاد الأصطخر، وكذلك كان ملك سليمان، وأما يوسف فملك مصر وبراريها لم يجاوزها إلي غيرها»(3).

7- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان فسليمان بن داوود وذو القرنين عليه السلام، والكافران نمرود وبخت نصر، واسم ذي القرنين عبد الله بن ضحاك بن معبد»(4).

8- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إن ذا القرنين عمل صندوقاً من قوارير ثم حمل في «مسيرة ما شاء الله، ثم ركب البحر، فلما انتهي إلي

ص: 158


1- م. ن
2- م. ن
3- م. ن
4- م. ن

موضع قال لأصحابه: أدلوني، فإذا حركت الحبل فأخرجوني، فإن لم أحرك الحبل فأرسلوني إلي آخره، فأرسلوه في البحر وأرسلوا الحبل مسيرة أربعين يوماً فإذا ضارب يضرب جنب الصندوق ويقول: يا ذا القرنين إن هذا الموضع الذي أنت فيه مرّ فيه نوح زمان الطوفان، فسقط منه قدوم - آلة - فهو يهوي في قعر البحر إلي الساعة لم يبلغ قعره، فلما سمع ذلك ذو القرنين حرّك الجبل وخرج»(1).

9- أحد أصحاب الإمام علي عليه السلام قال: سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين ما كان قرناه؟ فقال لعلك تحسب قرنه ذهباً أو فضة، أو كان نبياً؟ بل كان عبداً صالحاً بعثه الله إلي أناس فدعاهم إلي الله وإلي الخير، فقام رجل منهم فضرب قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه فأحياه وبعثه إلي أُناس فقام رجل فضرب قرنه الأيمن، فمات فسماه ذا القرنين(2).

10- عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إن ذا القرنين قد خيّر بين السحابين، واختار الذلول، وذخر لصاحبكم الصعب، قال: قلت وما الصعب؟ قال: من سحاب فيه رعد و برق وصاحبكم يركبه. أما أنه سيركب السحاب ويرقي في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع، خمس عوامر واثنتان خراب»(3)، والمراد بصاحبكم المهدي عليه السلام .

11- عن عبد الله بن سليمان(4) قال: قرأت في بعض كتب الله عزَّ وجل أن ذا القرنين كان رجلاً من أهل الإسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له اسكندروس(5)، وكان له أدب وخُلق وعفة من

ص: 159


1- م. ن
2- ميزان الحكمة، ج 9، ص 419، 420
3- الطور المهدوي، ص 38
4- ورد هذا الحديث في كتاب إكمال الدين عن عبد الله بن سليمان وكان قارئاً للكتب
5- أي الإسكندر تخفيفاً

وقت ما كان فيه غلاماً إلي أن بلغ رجلاً، وكان رأي في المنام كأنه دنا من الشمس حتي أخذ بقرنيها وشرقها وغربها، فلما قصّ رؤياه علي قومه سموه ذا القرنين(1)، وبسبب هذه الرؤيا بعُدت همته وعلا صوته وعزّ في قومه، وكان أول ما أجمع علي أمره أن أسلم لله ودعا قومه إلي الإسلام، فأسلموا هيبة له، ثم أمرهم أن يبنوا له مسجداً فأجابوه إلي ذلك، فأمر أن يجعل طوله أربعمائة ذراع وعرض حائطه اثنين وعشرين ذراعاً وعلوه إلي السماء مائة ذراع، فقالوا له: ياذا القرنين كيف لك بخشب يبلغ ما بين الحائطين. قال: فاكبسوه بالتراب حتي يستوي الكبس مع حيطان المسجد، فإذا فرغتم من ذلك فرضتم علي كل رجل من المؤمنين علي قدره من الذهب والفضة، ثم قطعتموه مثل قلامة الظفر - ما سقط من طرفه - وخلطتموه مع ذلك الكبس وعملتم له خشباً من نحاس وصفائح تذيبون ذلك وأنتم متمكنون من العمل كيف شئتم علي أرض مستوية، فإذا فرغتم من ذلك دعوتم المساكين لنقل ذلك التراب، فيسارعون فيه من أجل ما فيه من الذهب والفضة.

فبنوا المسجد وأخرج المساكين ذلك التراب وقد استقل - إرتفع - السقف بما فيه واستغني المساكين، فجندهم أربعة أجناد في كل جند عشرة آلاف ثم نشرهم في البلاد، وحدث نفسه بالسير فاجتمع إليه قومه فقالوا: ننشدك بالله لا تؤثر علينا بنفسك غيرنا، فنحن أحق برؤيتك وفينا كان مسقط رأسك وهذه أموالنا وأنفسنا فأنت الحاكم فيها وهذه أمك عجوز كبيرة وهي أعظم خلق الله عليك حقاً فلا تخالفها، فقال: إن القول لقولكم وإن الرأي لرأيكم ولكنني بمنزلة المأخوذ بقلبه وسمعه وبصره، ويُقاد ويدفع من خلفه لا يدري أين يؤخذ به، ولكن هلموا معشر قومي فادخلوا هذا المسجد

ص: 160


1- هذا أحد وجوه تسميته بذلك

وأسلموا علي آخركم، ولا تخالفوا عليّ فتهلكوا، ثم دعا دهقان - رئيس أو مدبر - الإسكندرية فقال له: اعمر مسجدي وعزّ عني أمي، فلما رأي الدهقان جزع أمه وطول بكائها احتال ليعزيها بما أصاب الناس قبلها وبعدها من المصائب والبلاء فيصنع عيداً عظيماً(1)، ثم أذّن مؤذنه: أيها الناس إن الدهقان يدعوكم أن تحضروا يوم كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم أذّن مؤذنه أسرعوا واحذروا أن يحضر هذا العيد إلا رجل قد عُري من البلاء والمصائب فاحتبس الناس كلهم، فقالوا: ليس فينا أحد عُري من البلاء، ما منا أحد إلا وقد أُصيب ببلاء أو بموت حميم، فسمعت أم ذي القرنين فأعجبها، ولم تدر ما أراد الدهقان، ثم إن الدهقان أمر منادياً ينادي فقال: يا أيها الناس إن الدهقان قد أمركم أن تحضروا يوم كذا وكذا ولا يحضر إلا رجل قد ابتلي وأُصيب وفجع ولا يحضره أحد عُري من البلاء فإنه لا خير فيمن لا يصيبه البلاء، فلما فعل ذلك أحدهم قال الناس: هذا رجل قد بُخل، ثم ندم فاستحي فتدارك أمره ومحا عيبه.

فلما اجتمعوا خطبهم ثم قال: إني لم أجمعكم لما دعوتكم له ولكني جمعتكم لأكلمكم في ذي القرنين وفيما فجعنا به من فقده وفراقه، فاذكروا آدم إن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ثم ابتلاه بأن عظّم بليته وهو الخروج من الجنة، ثم ابتلي إبراهيم بالحريق وابتلي ابنه بالذبح، ويعقوب بالحزن والبكاء، ويوسف بالرق، وأيوب بالسقم، ويحيي بالذبح، وزكريا بالقتل، وعيسي بالأمر، وخلقاً من خلق الله كثيراً لا يحصيهم إلا الله عزَّ وجل فلما فرغ من هذا الكلام قال لهم: انطلقوا فعزوا أم الإسكندر لنظر كيف صبرها فأنها أعظم مصيبة في إبنها، فلما دخلوا عليها قالوا لها: هل حضرت الجمع اليوم وسمعت الكلام؟ قالت لهم: ما غاب

ص: 161


1- أي احتفال كبير

عليّ من أمركم شيء وما كان فيكم أحد أعظم مصيبة بالاسكندر مني، ولقد صبرني الله وأرضاني وربط علي قلبي، فلما رأوا حسن عزائها انصرفوا عنها وانطلق ذو القرنين يسير علي وجهه حتي أمعن في البلاد يؤم المغرب وجنوده يومئذٍ المساكين، فأوحي الله جلّ جلاله إليه: يا ذا القرنين إنك حجتي علي جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس إلي مغربها، وهذا تأويل رؤياك. فقال ذو القرنين: إلهي إنك ندبتني لأمرٍ عظيم لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الأمة بأي قوم أكاثرهم وبأي عدد أغلبهم، وبأية حيلة أكيدهم، وبأي لسان أكلمهم وكيف لي بأن أعرف لغاتهم؟ فأوحي الله تعالي إليه: أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب منك شيء، وأشد ظهرك فلا يهولك شيء، وأسخر لك النور والظلمة أجعلهما جندين من جنودك، النور يهديك والظلمة تحوطك وتحوش عليك الأمم من ورائك.

فانطلق ذو القرنين برسالة ربه عزَّ وجلَّ فمر بمغرب الشمس فلا يمر بأمة من الأمم إلا دعاهم إلي الله عزَّ وجل فإن أجابوه قبل منهم وإن لم يجيبوه أغشاهم الظلمة فأظلمت مدنهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم، وأغشت أبصارهم ودخلت علي أفواههم وأنافهم، فلا يزالون فيها متحيرين حتي يستجيبوا لله عزَّ وجل.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)» الآية التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه، ففعل بهم مع غيرهم حتي فرغ مما بينه وبين المغرب.

ثم مشي علي الظلمة ثمانية أيام وثمان ليال وأصحابه ينظرونه حتي انتهي إلي الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها، فإذا بملك من الملائكة قابض علي الجبل وهو يسبح الله، فخرّ ذو القرنين ساجداً، فلما رفع رأسه

ص: 162

قال له الملك: كيف قويت يا ابن آدم علي أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك؟ قال ذو القرنين: قواني علي ذلك الذي قواك علي قبض هذا الجبل وهو محيط بالأرض كلها. قال له الملك: صدقت، لولا هذا الجبل لانكفأت الأرض بأهلها وليس علي وجه الأرض جبل أعظم منه وهو أول جبل أسسه الله عزَّ وجل، فرأسه ملصق بالسماء الدنيا وأسفله بالأرض السابعة السفلي وهو محيط به كالحلقة، وليس علي وجه الأرض مدينة إلا ولها عرق إلي هذا الجبل، فإذا أراد الله عزَّ وجل أن يزلزل مدينة فأوحي الله إلي فحركت العرق الذي يليها فزلزلتها.

ثم رجع ذو القرنين إلي أصحابه، ثم عطف بهم نحو المشرق يستقري ما بينه وبين المشرق من الأمم، فيفعل بهم ما فعل بأمم المغرب، حتي إذا فرق ما بين المشرق والمغرب عطف نحو الروم الذي ذكره الله عزَّ وجل في كتابه، فإذا هو بأمة «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» وإذا ما بينه وبين الروم مشحون من أمة يقال لها يأجوج ومأجوج أشباه البهائم، يأكلون ويشربون ويتوالدون، وهم ذكور وإناث،وفيهم مشابهة من الناس بالوجوه والأجساد والخلقة، ولكنهم قد نقصوا في الأبدان نقصاً شديداً، وهم في طول الغلمان لا يتجاوزون خمسة أشبار، وهم علي مقدار واحد في الخلق والصور، عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون، عليهم وبر كوبر الإبل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد، ولكل واحد منهم أُذنان إحداهما ذات شعر والأخري ذات وبر ظاهرهما وباطنهما، ولهم مخالب في موضع الأظفار، وأضراس وأنياب كالسباع، وإذا نام أحدهم افترش إحدي أُذنيه والتحف بالأخري فتسعه لحافاً، وهم يرزقون نون البحر كل عام يقذفه عليهم السحاب، فيعيشون به ويستمطرون في أيامه كما يستمطر الناس المطر في أيامه، فإذا قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وتكاثروا فأكلوا منه إلي الحول المقبل ولا يأكلون

ص: 163

منه شيئاً غيره، وإذا أخطأهم النون جاعوا وساحوا في البلاد فلا يدعون شيئاً أتوا عليه إلا أفسدوه وأكلوه، وهم أشد فساداً من الجراد والآفات، وإذا أقبلوا من أرض إلي أرض جلا أهلها عنها، وليس يُغلبون ولا يُدفعون حتي لا يجد أحد من خلق الله موضعاً لقدمه، ولا يستطيع أحدٌ منهم أن يدنو منهم لنجاستهم وقذارتهم فبذلك غلبوا، وإذا أقبلوا إلي الأرض يُسمع حسهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم كما يُسمع حس الريح البعيدة، ولهم همهمة إذا وقعوا في البلاد كهمهمة النحل إلا أنه أشد وأعلي، وإذا أقبلوا إلي الأرض حاشوا وحوشها وسباعها حتي لا يبقي فيها شيء، لأنهم يملأون ما بين أقطارها ولا يتخلف وراءهم من ساكن الأرض شيء فيه روح إلا اجتلبوه، وليس فيهم أحد إلا وعرف متي يموت وذلك من قبل أنه لا يموت منهم ذكر حتي يولد له ألف ولد، ولا تموت أنثي حتي تلد ألف ولد، فإذا ولدوا الألف برزوا للموت وتركوا طلب المعيشة ثم أنهم أجفلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضاً أرضاً، وأمة أمة وإذا توجهوا لوجه لم يعدلوا عنه أبداً فلما أحست تلك الأمم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وهو نازل في ناحيتهم، قالوا له: فقد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان وما أيّدك به من الجنود ومن النور والظلمة، وإنّا جيران يأجوج ومأجوج وليس بيننا وبينهم سوي هذه الجبال، وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الجبلين، لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا، ويأكلون ويفرسون الدواب والوحوش كما يفرسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيّات والعقارب وكل ذي روح، ولا نشك أنهم يملأون الأرض ويجلون أهلها منها، ونحن نخشي كل حين أن يطلع علينا أوايلهم من هذين الجبلين، وقد آتاك الحيلة والقوة «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ

ص: 164

قَالَ انْفُخُوا حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)».

ثم أنه دلهم علي معدن الحديد والنحاس فضرب لهم في جبلين حتي فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس، قالوا: فبأي قوة نقطع هذا الحديد والنحاس؟ فاستخرج لهم من تحت الأرض معدناً آخر يقال له السامور - الألماس - وهو أشد شيء بياضاً وليس شيء منه يوضع علي شيء إلا ذاب تحته، فصنع لهم منه أداة يعملون بها، وبه قطع سليمان بن داوود أساطين بيت المقدس، وصخوره جاءت بها الشياطين من تلك المعادن، فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به، فأوقدوا علي الحديد النار، حتي صنعوا منه زبراً مثل الصخور فجعل حجارته من حديد ثم أذاب النحاس فجعله كالطين لتلك الحجارة، ثم بني وقاس ما بين الجبلين فوجده ثلاثة أميال، فحفروا له أساساً حتي كاد يبلغ الماء وجعل عرضه ميلاً، وجعل حشوة زبر الحديد وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد، فجعل طبقة من نحاس وأخري من حديد ثم ساوي الردم بطول الصدفين فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس، وحمرته سواد الحديد.

فيأجوج يأتونه في كل سنة مرة وذلك أنهم يسيحون في بلادهم، حتي إذا وقعوا إلي الردم حبسهم، فرجعوا يسيحون في بلادهم، فلا يزالون كذلك حتي تقرب الساعة، فإذا جاء أشراطها، وهو قيام القائم عجل الله فرجه فتحه الله عز وجل لهم.

فلما فرغ ذو القرنين من عمل السد انطلق علي وجهه، فبينا هو يسير إذ وقع علي الأمة العالمة الذين منهم قوم موسي «أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(1) فأقام عندهم حتي قبض ولم يكن له فيهم عمر، وكان قد بلغ السن

ص: 165


1- سورة الأعراف، الآية: 159

فأدركه الكبر، وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عزَّ وجل إلي يوم قبض خمسمائة عام»(1).

12- عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سُئل عن ذي القرنين؟ قال: «كان عبداً صالحاً واسمه عياش اختاره الله وابتعثه إلي قرن من القرون الأولي في ناحية المغرب(2) وذلك بعد طوفان نوح عليه السلام فضربوه علي قرنة الأيمن فمات منها. ثم أحياه الله تعالي بعد مائة عام ثم بعثه إلي قرن من القرون الأولي في ناحية المشرق(3) فضربوه ضربة علي قرنه الأيسر فمات منها. ثم أحياه الله تعالي بعد مائة عام وعوضه من الضربتين اللتين علي رأسه قرنين في موضع الضربتين اجوفين، وجعل عز ملكه وآية نبوته في قرنه، ثم رفعه الله إلي السماء الدنيا فكشط الأرض كلها حتي أبصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كل شيء علماً وأيده في قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد و برق ثم هبط إلي الأرض وأوحي إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فأرهبتهم منك فسار ذو القرنين إلي ناحية المغرب، فكان إذا مرَّ بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فبعث من قرنيه ظلمات ورعداً وبرقاً وصواعق تهلك من يخالفه، فدان له أهل المشرق والمغرب، فانتهي مع الشمس إلي العين الحامية فوجدها تغرب فيها ومعها سبعون ألف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب يجرونها من البحر في قطر الأرض الأيمن كما تجر السفينة علي ظهر الماء.

فلما ملك ما بين المشرق والمغرب كان له خليل من الملائكة يقال له:

ص: 166


1- إكمال الدين، ص 395 - 406
2- مغرب الأرض
3- مشرق الأرض

رفائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه، فقال له ذو القرنين أين عبادة أهل السماء من أهل الأرض؟ فقال ما في السماوات موضع قدم إلَّا وعليه ملك قائم لا يقعد أبداً أو راكع لا يسجد أبداً أو ساجد لا يرفع رأسه أبداً. فبكي ذو القرنين وقال: أحب أن أعيش حتي أبلغ من عبادة ربي ما هو أهله؟ قال رفائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عيناً تدعي عين الحياة، من شرب منها لم يمت حتي يكون هو يسأل الموت، فإن ظفرت بها تعش ما شئت، قال: وأين تلك العين هل تعرفها؟ قال: لا، غير أنا نتحدث في السماء: إن الله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان. فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة؟ قال: ما أدري، ثم صعد رفائيل، فدخل ذا القرنين حزن طويل من قول رفائيل ومما أخبره عن العين والظلمة ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما، فجمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلماءهم. فلما اجتمعوا عنده قال لهم: هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله أن الله عيناً تدعي عين الحياة من شرب منها لم يمت؟ قالوا: لا، قال: فهل وجدتم أن الله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان؟ قالو: لا. فحزن ذو القرنين وبكي إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأنبياء، فقال له: إن علم ما تريد عندي، ففرح ذو القرنين، فقال الغلام: إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمي ما في الأرض من عين أو شجر فوجدت فيه: إن الله عيناً تدعي عين الحياة بظلمة لم يطأها إنس ولا جان، ففرح ذو القرنين وقال له الغلام: إنها علي قرن الشمس - يعني مطلعها - ففرح ذو القرنين وبعث إلي مملكته فجمع أشرافهم وعلماءهم فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم.

فلما اجتمعوا تهيأوا للمسير، فسار يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال، فسار اثنتي عشرة سنة حتي انتهي إلي طرف الظلمة فإذا هي

ص: 167

ليست بظلمة ليل ولا دخان، فنزل بطرفها وعسكر عليها وجمع أهل الفضل من عسكره فقال: إني أريد أن أسلك هذه الظلمة، فقالوا: إنك تطلب أمراً ما طلبه أحد قبلك من الأنبياء والمرسلين ولا من الملوك، قال: أنه لا بدّ لي من طلبها. قالوا إنا نعلم إنك إن سلكتها ظفرت بحاجتك ولكنا نخاف هلاكك. قال: ولا بد من أن أسلكها، ثم قال: أخبروني بأبصر الدواب، قالوا الخيل الإناث البكارة.

فأصاب ستة آلاف فرس في عسكره، فانتخب من أهل العلم ستة آلاف رجل، فدفع إلي كل رجل فرساً، وكان الخضر علي مقدمته في الفي فارس فأمرهم أن يدخلوا الظلمة، وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثنتي عشرة سنة فإن رجع هو إليهم وإلّا لحقوا ببلادهم، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يري بعضنا بعضاً كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء(1) كأنها مشعلة لها ضوء، فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصابكم الضلال فارم بها إلي الأرض فإنها تصيح فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلي صوتها، فأخذها الخضر ومضي في الليلة وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين، فبينما الخضر يسير ذات يوم إذا عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه: قفوا في هذا الموضع ونزل عن فرسه فتناول الخرزة ورمي بها، فأبطأت عنه بالإجابة حتي خاف أن لا تجيبه، ثم أجابته، فخرج إلي صوتها فإذا هي العين وإذا ماؤها أشد بياضاً من اللبن واصفي من الياقوت وأحلي من العسل، فشرب منها، ثم خلع ثيابه فاغتسل فيها ولبس ثيابه، ثم رمي بالخرزة نحو أصحابه فأجابته، فخرج إلي أصحابه وركب وأمرهم بالمسير فساروا، ومرّ ذو القرنين بعده فأخطأ الوادي، فسلك تلك الظلمة أربعين يوماً، ثم خرجوا

ص: 168


1- فص من حجارة؛ أي نوع من أنواع الجواهر

بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر لكنه نور، فخرجوا إلي أرض

حمراء رملة، كانت حصاها اللؤلؤ، فإذا هو بقصر مبني علي طول فرسخ، فجاء ذو القرنين إلي الباب فعسكر عليه، ثم توجه... وحده إلي القصر، فإذا طائر وإذا حديدة طويلة، قد وضع طرفاها علي جانب القصر والطير أسود معلق في تلك الحديدة بين السماء والأرض كأنه الخطاف، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. فقال: يا ذا القرنين لا تخف واخبرني. قال: سل. قال: هل كثر في الأرض بنيان الأجر والجص؟ قال: نعم.

فانتفض الطير وامتلأ حتي ملأ الحديد ثلثيها، فخاف منه ذو القرنين، فقال: لا تخف واخبرني. قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض؟ قال: نعم. فانتفض إنتفاضة وانتفخ، فسد ما بين جداري القصر، فامتلأ ذو القرنين منه خوفاً فقال: لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس شهادة: لا إله إلا الله؟ قال: لا، فانضم ثلثه، ثم قال يا ذا القرنين لا تخف واخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس الصلاة؟ قال: لا. فانضم ثلث آخر، ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف واخبرني هل ترك الناس الغسل من الجنابة؟ قال: لا. فانضم حتي عاد إلي الحالة الأولي فإذا هو بدرجة مدرجة إلي أعلي القصر، فقال الطير: اسلك هذه الدرجة، فسلكها وهو خائف حتي استوي علي ظهرها فإذا هو بسطح ممدود مد البصر وإذا رجل شاب أبيض (مضيء) الوجه عليه ثياب بيض وإذا هو رافع رأسه إلي السماء ينظر إليها، واضع يده علي فيه، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. قال: يا ذا القرنين ما كفاك ما وراءك حتي وصلت إلي؟ قال ذو القرنين: ما لي أراك واضعاً يدك علي فيك؟ قال: أنا صاحب الصور وإن الساعة قد اقتربت وأنا أنتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ،

ص: 169

ثم ضرب بيده فتناول حجراً فرمي به إلي ذي القرنين فقال: خذها، فإن جاع جعت وإن شبع شبعت فارجع.

فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتي خرج إلي أصحابه، فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قاله له وأخبرهم بصاحب السطح، ثم قال: أعطاني هذا الحجر، فأخبروني بأمره، فوضع في إحدي الكفتين ووضع حجراً مثله في الكفة الأخري، ورفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الآخر، فوضعوا آخر فمال به حتي وضعوا ألف حجر كلها مثله ثم رفع الميزان فمال بها ولم يشتمل به الألف حجر، فقالوا أيها الملك لا علم لنا بهذا الحجر، فقال له الخضر: إني أوتيت علم هذا الحجر، فقال ذو القرنين: أخبرنا به؛ فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان ثم وضع حجراً آخر في كفة أخري ثم وضع كف تراب علي حجر ذي القرنين يزيده ثقلاً ثم رفع الميزان فاعتدل، فقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا وأنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا ألف حجر كلها مثله فمال بها وهذا قد اعتدل به وزاده تراباً؟ قال ذو القرنين: بيّن يا خضر لنا؟ قال الخضر: أيها الملك أن أمر الله نافذ في عباده وسلطانه وإن الله ابتلي العالم بالعالم وأنه ابتلاني بك وابتلاك بي. فقال ذو القرنين: يرحمك الله يا خضر إنما تقول: ابتلاني بك حين جعلت اعلم مني وجعلت تحت يدي أخبرني عن أمر هذا الحجر؟ فقال الخضر: إن أمر هذا الحجر مثل ضربه لك صاحب الصور يقول: إن مثل بني آدم مثل هذا الحجر الذي وضع، فوضع معه ألف فمال بها ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجراً مثله. فيقول: كذلك مثلك أعطاك من الملك ما أعطاك فلم ترضي حتي طلبت أمراً لم يطلبه أبداً من كان قبلك ودخلت مدخلاً لم يدخله أنس ولا جان، يقول: كذلك ابن آدم لا يشبع حتي يحثي عليه التراب.

ص: 170

فبكي ذو القرنين وقال: صدقت يا خضر لا جرم أني لا أُطلب أثراً في البلاد بعد مسلكي هذا. ثم انصرف راجعاً في الظلمة فبينما هم يسيرون إذ سمعوا خشخشة - أي صوتاً - تحت سنابك خيلهم فقالوا: أيها الملك ما هذا؟ فقال: خذوا منه ممن أخذ منه ندم، ومن تركه ندم. فأخذ بعض وترك بعض. فلما خرجوا من الظلمة إذ هم بالزبرجد. فندم الآخذ والتارك. ورجع ذو القرنين إلي دومة الجندل وكان صلي الله عليه وآله بها منزله. فلم يزل بها حتي قبضه الله إليه. وكان إذا حدث بهذا الحديث قال: رحم الله أخي ذا القرنين ما كان مخطئاً إذ سلك وطلب ما طلب ولو ظفر بوادي الزبرجد في ذهابه لما ترك فيه شيئاً إلا أخرجه للناس، لأنه كان راغباً ولكنه ظفر به بعد ما رجع

فقد زهد»(1).

13- ورد أن ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق علي وجهه، فبينما هو يسير وجنوده إذ مرّ علي شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتي انصرف من صلاته فقال له ذو القرنين: كيف لم يرعبك ما حضرك من جنودي؟ قال: كنت أناجي من هو أكثر جنوداً منك وأعز سلطاناً وأشد قوة، ولو صرفت وجهي إليك لم أبلغ حاجتي قبله؛ فقال ذو القرنين: هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي واستعين بك علي بعض أمري؟ قال: نعم إن ضمنت لي أربع خصال: نعيماً لا يزول، وصحة لا سقم فيها، وشباباً لا هرم فيه، وحياة لا موت فيها، فقال له ذو القرنين: وأي مخلوق يقدر علي هذه الخصال؟ فقال له الشيخ: فإني مع من يقدر عليها ويملكها وإياك. ثم مرّ برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين جاريين؟ وعن شيئين متباغضين. فقال له ذو القرنين: أما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر، وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار، وأما الشيئان المتباغضان فالموت

ص: 171


1- تفسير العياشي، ج 2، 341 - 349

والحياة. فقال: انطلق فإنك عالم. فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتي مرّ بشيخ يقلّب جماجم الموتي فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيها الشيخ لأي شيء تقلب هذه الجماجم؟ فقال: لأعرف الشريف من الوضيع، والغني من الفقير فما عرفت، وإني لأقلبها منذ عشرين سنة، فانطلق ذو القرنين وتركه فقال: ما عنيت بهذا أحداً غيري.

فبينما هو يسير إذ وقع علي الأمة العالمة من قوم موسي الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، فلما رآهم قال لهم: أيها القوم أخبروني بخبركم، فإني قد درت الأرض شرقها وغربها، وبرها وبحرها، فلم ألقَ مثلكم فأخبروني ما بال قبور موتاكم علي أبواب بيوتكم؟ قالوا: لئلا يُنسي الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا لص ولا ظنين - أي متهم - وليس فينا إلا أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم. قال: فما بالكم ليس بينكم حكام؟ - يعني قضاة - قالوا: لا نختصم. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل إنّا متواسون متراحمون. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل إلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم لا تسبون ولا تقتلون؟ قالوا: من قبل إنّا غلبنا طبايعنا - يعني بالعزم - وسسنا - أي دبّرنا - أنفسنا بالحكم. قال: فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل إنّا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً. قال: فأخبروني لم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل إنّا نقسم بالسوية.

قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا: ما قبل الذل والتواضع.

قال: فلم جعلكم الله أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قبل إنّا نتعاطي

ص: 172

الحق ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: من قبل إنّا لا نغفل عن الإستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من قبل إنّا وطنّا أنفسنا علي البلاء فعزينا أنفسنا. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل إنّا لا نتوكل علي غير الله عزَّ وجل ولا نستمطر بالأنواء والنجوم. قال: فحدثوني أيها القوم هكذا وجدتم أباء كم يفعلون؟ قالوا: وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ويواسون فقيرهم ويعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلي من أساء إليهم ويستغفرون لمسيئهم ويصلون أرحامهم ويؤدون أمانتهم ويصدقون ولا يكذبون فأصلح الله لهم بذلك أمرهم، فأقام عندهم ذو القرنين حتي قُبض وله خمسمائة عام»(1).

ص: 173


1- قصص الأنبياء، 175، 176

ذو القرنين والخضر

لقد ورد أن الخضر عليه السلام كان معاصراً لذي القرنين عليه السلام ، كما أنه عليه السلام كان معاصراً للنبي موسي عليه السلام ، وهو العالم الذي ذهب النبي موسي عليه السلام ليتعلم منه بأمرٍ من الله عزَّ وجل، والخضر عليه السلام كان عالماً بالعلم الباطني وهو حي يرزق إلي الآن كما يظهر من الأخبار، ومن هنا فلا غرابة في أن يكون الخضر عليه السلام معاصراً للنبي موسي عليه السلام ، وبنفس الوقت هو معاصر لذي القرنين عليه السلام ، وذُكر أن السر في بقاء الخضر عليه السلام حياً من عهد معاصرته لذي القرنين عليه السلام إلي عهد النبي موسي عليه السلام ، هو أنه عليه السلام قد شرب من نبع الحياة التي كان يبحث عنها معاصره عليه السلام ، وستأتي الرواية المخبرة عن ذلك.

واقتران ذكر الخضر عليه السلام والذكر العطر لذي القرنين عليه السلام مشهور و متكثر، وفي الحديث عن الإمامين الصادقين عليه السلام : «الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبين»(1).

واقتران ذكر الخضر عليه السلام مع ذي القرنين عليه السلام ليس فقط بشخصهما، بل حتي مع سد يأجوج ومأجوج، وفي الخبر: «إن الخضر والإلياس(2) يجتمعان في كل ليلة علي ذلك السد، يحجبان يأجوج ومأجوج عن

ص: 174


1- قصص الأنبياء، 338
2- راجع قصص القرآن، وكتب التفاسير للوقوف علي شخصية الإلياس عليه السلام

الخروج»(1)، وفي خبر آخر ورد أن الخضر والإلياس يجتمعان في كل موسم ويفترقان عن هذا الدعاء وهو: بسم الله ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كل نعمة فمن الله، ما شاء الله الخير كله بيد الله عزَّ وجلَّ، لا يصرف السوء إلا الله(2).

ومهما يكن من شيء فإن من القصص التي جمعت الخضر عليه السلام مع ذي القرنين عليه السلام أنه ورد بأنه قيل لذي القرنين: «إن لله في أرضه عين يقال لها عين الحياة لا يشرب منها ذو روح إلا لم يمت حتي الصيحة، فدعا ذو القرنين الخضر وكان أفضل أصحابه عنده، ودعا ثلاثمائة وستين رجلاً ودفع إلي كل واحد منهم سمكة وقال لهم: اذهبوا إلي موضع كذا وكذا فإن هناك ثلاثمائة وستين عيناً، فيغسل كل واحد سمكته في عين غير عين صاحبه، فذهبوا يغسلون وقعد الخضر يغسل، فانسابت منه السمكة في العين، وبقي الخضر متعجباً مما رأي وقال في نفسه: ما أقول لذي القرنين؟ ثم نزع ثيابه يطلب السمكة فشرب من مائها واغتمس فيه ولم يقدر علي السمكة، فرجعوا إلي ذي القرنين، فأمر ذو القرنين بقبض السمك من أصحابه. فلما انتهوا إلي الخضرلم يجدوا معه، فدعاه وقال له: ما حال السمكة؟ فأخبرة الخبر فقال له: ماذا صنعت؟ قال: اغتمست فيها فجعلت أغوص وأطلبها فلم أجدها، قال: فشربت من مائها؟ قال: نعم. قال: فطلب ذو القرنين العين فلم يجدها، فقال للخضر: كنت أنت صاحبها»(3).

ص: 175


1- قصص الأنبياء، 193
2- مهج الدعوات، ص 463
3- قصص الأنبياء، 177

ذو القرنين وإبراهيم عليه السلام

ورد أن النبي إبراهيم عليه السلام صافح الإلهي المعروف بذي القرنين، وأما كيفية لقاء النبي إبراهيم عليه السلام مع ذي القرنين مع وجود التباعد الزمني الكبير بينهما، فالجواب هو بقدرة ذي القرنين علي قطع مسافات الدهر من خلال ما أوتي من فضل الله عز وجل.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: أول اثنين تصافحا علي وجه الأرض ذو القرنين وإبراهيم الخليل عليه السلام ، استقبله إبراهيم فصافحه، وأول شجرة نبتت علي وجه الأرض النخلة»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: حج ذو القرنين في ستمائة ألف فارس، فلما دخل الحرم شيعة بعض أصحابه إلي البيت، فلما انصرف قال: رأيت رجلاً ما رأيت أكثر نوراً منه قالوا: ذاك خليل الرحمن صلوات الله عليه، قال: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة في مقدار ما يسرج دابة واحدة، ثم قال: لا. بل نمشي إلي خليل الرحمن.

فمشي ومشي معه أصحابه حتي التقيا. قال إبراهيم عليه السلام : بما قطعت الدهر؟ قال: بإحدي عشرة كلمة:

ص: 176


1- م، ن

سبحان من هو باق لا يفني.

سبحان من هو عالم لا ينسي.

سبحان من هو حافظ لا يسقط.

سبحان من هو بصير لا يرتاب.

سبحان من هو قيوم لا ينام.

سبحان من هو ملك لا يرام. (لا يُقصد بسوء).

سبحان من هو عزيز لا يضام (لا يظلم). سبحان من هو محتجب لا يُري.

سبحان من هو واسع لا يتكلف.

سبحان من هو قائم لا يلهو.

سبحان من هو دائم لا يسهو(1).

ص: 177


1- قصص الأنبياء، ص 184

الدروس المستفادة من الآيات الواردة في ذي القرنين ويأجوج ومأجوج

ثمة استفادات نستفيدها كدروس عملية من قصة يأجوج ومأجوج، ومن الآيات الواردة فيهما وفي ذي القرنين عليه السلام ، ومن هذه الدروس:

الدرس الأول: ضرورة الإستفسار وجمع الأخبار عن الماضين للإعتبار، ولتراكم التجارب الإنسانية، وللاحتذاء بالصلحاء منهم والنفور من الفسّاد، وهذا ما نستفيده من قوله تعالي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)»(1).

والسؤال المطروح هنا وإن كان من فئة خبيثة هي اليهود والعرب المشركين، إلا أن الفائدة واضحة في هذا المجال، إذ لولا سؤالهم لما استفدنا من قصة ذي القرنين شيئاً، كما أن المورد لا يخصص الوارد كما لا يخفي.

الدرس الثاني: إن طاعة الله عزَّ وجل والكون من صلحاء عباده يوجب إغداق الرحمة الإلهية علي المطيع والصالح، ومن هنا فإن صفات الصلاح والتقوي والتواضع التي كانت لذي القرنين عليه السلام ؛ منحته إغداقاً وعطاءً ربانياً حيث مكّنه الله عزَّ وجل في الأرض وأعطاه من كل شيء سبباً، فقد قال تعالي: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)»(2).

ص: 178


1- سورة الكهف، الآية: 83
2- سورة الكهف، الآية: 84

الدرس الثالث: إن الإمتثال لأمر الله عزَّ وجل بشكل مطلق هو من سمات المستظل بظل العبودية المطلقة لله عزَّ وجل، ومن هنا فإن العبد المطلق لله عزَّ وجل هو الذي يسير وفق إرادة الله جل شأنه وتعالت قدرته مهما اشتمل هذا المسير علي أنواع البلاءات، وشتي صنوف المشاق، وما سيره هذا إلا لأجل التسليم المطلق لإرادة الله عزَّ وجل وهذا مطابقٌ تمام الانطباق لقول العبد لسيده حيث قال: «ما شأن العبد فيما يريد وفيما لا يريد».

فإن اتحاد إرادة الإنسان مع الإرادة الربانية هو تمحض العبودية كما لا يخفي، وهذا ما نتلمسه من الطاعة المطلقة لله عزَّ وجل من قبل العبد الصالح المعروف بذي القرنين عليه السلام ، حيث شدّ الرحال متوجهاً إلي موضع مغرب الشمس، وموضع مشرقها، ونحو المضيق الجبلي حيث بني هناك سده المعروف، وهذه الرحلات الثلاث إنما كانت امتثالاً لأمر الله عزَّ وجل وبتسديد منه جل وعزَّ، وهذا ما دلت عليه الآيات القرآنية في غير آية من سورة الكهف، ومن ذلك قوله تعالي: «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)»(1). حيث سلك طريقه عليه السلام بأمرٍ من الله عزَّ وجل.

الدرس الرابع: إن العمل علي هداية الناس وإرشادهم، وإنقاذهم من الضلالة والزيغ لهو من أشرف الأعمال كما لا يخفي علي المتتبع للآيات والأخبار، ومن هنا قام الإلهي العظيم المعروف بذي القرنين عليه السلام بهذه المهمة الشاقة، فلما وصل إلي موطن مغرب الشمس ووجد قوماً ضالين هداهم إلي الحق اليقين، وأعمل فيهم حكم الله عزَّ وجل، فقد قال تعالي حكاية عنه:

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)»(2).

ص: 179


1- سورة الكهف، الآية: 85
2- سورة الكهف، الآية: 86

الدرس الخامس: عدم الحكم علي الناس من خلال هواه، وسلطنته التي مُنحت له، بل لا بد من الحكم علي الناس بحكم الله عزَّ وجل ومن هنا حكم ذو القرنين عليه السلام بقوم أهل موضع المغرب بحكم الله عزَّ وجل، فقد قال الله عزَّ وجل حكاية عنه: «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)»(1).

الدرس السادس: عدم الملالة من أداء التكليف الإلهي، فإن لذي القرنين عليه السلام عزيمة قوية كما ظهر عنه في الآيات الواردة بشأنه، فها هو ينتقل من منطقة إلي منطقة رغم بُعد المسير وثقل المهمة، ومن ثم يقوم بدوره الإلهي كاملاً، وهذا يفسر لنا تكرار قوله تعالي: «فَأَتْبَعَ سَبَبًا» و «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا».

الدرس السابع: زيارة الفقراء والمساكين والمستضعفين من قبل أهل المُلك والسلطنة، وأهل القوة والثراء لهو من أعظم القربات، ويحكي عن سمة التواضع والشفقة، ومن هنا فقد تعالي: «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)»(2).

الدرس الثامن: أن كل ما يفعله الإنسان، وكل ما يضمره ويظهره، وكل حركة أو ساكن منه وفيه، كل ذلك هو في دائرة مراقبة الله عزَّ وجل وعلمه، حيث قال تعالي: «كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)»(3).

الدرس التاسع: علي الإنسان الشفيق وصاحب الحس الإنساني التوجه باتجاه الأمم الضعيفة، والمظلومة، والمنكوبة، والجاهلة، ليقوي، وينصر،

ص: 180


1- سورة الكهف، الآية: 86 - 88
2- سورة الكهف، الآية: 90
3- الكهف، الآية: 91

ويساعد، ويعلم وهذا ما حصل فعلاً حينما توجه ذو القرنين عليه السلام باتجاه أقوام المضيق الجبلي فساعدهم وأعانهم، قال تعالي: «حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)»(1).

الدرس العاشر: علي الإنسان أن يتعاون مع الإنسان الآخر لحل المشاكل التي يغرق فيها، ومن هنا فعلي الإنسان المنكوب أن يذهب إلي من لديه الكفاءة، من أجل إنتشاله من نكبته، وهذا مأذون به من قبل الله عزَّ وجل فإن الإنسان يحتاج إلي خيار الناس في تأمين حاجياته من جهة، وفي مواجهة الطواريء الطارئة عليه من جهة أخري، نعم الوجه المطلق لله عزَّ وجل هو الأصل وما يأذن فيه الله عزَّ وجل فهو الجائز، ومن هنا توجه أقوام المضيق الجبلي الذين يتعرضون للأذي من قبل يأجوج ومأجوج إلي ذي القرنين طلباً للمساعدة، قال تعالي حكاية عن أقوام المضيق الجبلي: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»(2).

الدرس الحادي عشر: لا بد لأي إنسان يقع في مشكلة ما، أن يشخص المشكلة بشكل صحيح وسليم، وأن يشخص الحل أيضاً بشكل صحيح وسليم، ومن هنا فإن أقوام المضيق الجبلي شخصوا المشكلة المتمثلة بيأجوج ومأجوج، وشخصوا الحل المتمثل ببناء السد، ومن هنا قال تعالي حكاية عنهم: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)»(3).

وللأسف فإن بعض الناس يقعون في مشكلة فلا يشخصونها بشكل صحيح، فنراهم يرون أن المشكلة في مكان آخر، تماماً كما يحصل في

ص: 181


1- سورة الكهف، الآية: 93
2- سورة الكهف، الآية: 94
3- سورة الكهف، الآية: 94

أعصارنا هذه حيث أن كل مشاكل المسلمين إنما تكمن في أمريكا وإسرائيل حصراً، ولكننا نراهم يحددون مشاكلهم بصورة خاطئة فيرونها كامنة في فئة منهم، وها هم يقتلون أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في العراق وكأن حل قضية فلسطين، وحل مشكلة العالمين العربي والإسلامي لا يتحقق إلا بطمس ذكر محمد وآل محمد، ولا يتحقق إلا بقتل أتباعهم عليهم الصلاة والسلام، فإلي الله المشتكي و عليه المعول في الشدة والرخاء.

الدرس الثاني عشر: علي الذي يطلب من الآخر مساعدته في أمر ما أن يكون لائقاً في طلبه هذا، فيعرض عليه ما يقابل عمله هذا من أجر، وهذا ما فعله أقوام المضيق الجبلي مع ذي القرنين عليه السلام حيث عرضوا عليه أن يخرجوا له من أموالهم ما يقابل بناء السد وبالطبع فإنه رفض عليه السلام هذا العرض، وتقديم المقابل من قبلهم له عليه السلام يحكي عن لياقتهم من جهة، وعن طبيعة العلاقات البشرية آنذاك والقائمة علي عدم مجانية الخدمة، قال تعالي: حكاية عنهم: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا»(1).

الدرس الثالث عشر: علي الإنسان الذي أُوتي الخير الكثير من الله عزَّ وجل أن يكون عفيفاً زاهداً، وأن لا يطمع بما في أيدي الناس طالما أن الله عزَّ وجل أغناه عنهم، كما أن علي الإنسان أن يخدم الناس بطريقة مجانية إذا ما أغناه الله تعالي عن الحاجة إليهم، ومن هنا تعفف العبد الصالح عليه السلام ورفض عرضهم المالي بإحسان قائلاً: «مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ»(2).

الدرس الرابع عشر: علي الإنسان القوي، والعالم، والجدير بالثقة أن يعطي غيره فرصة في المساهمة الفعلية علي سبيل إعطاء الثقة بالنفس، وهذا

ص: 182


1- سورة الكهف، الآية: 94
2- سورة الكهف، الآية: 95

ما فعله ذو القرنين عليه السلام حيث لم يرض لأقوام المضيق الجبلي أن يبقوا خارج نطاق المواجهة التي تعنيهم حتي لو كان قادراً لوحده علي إنجاز هذا العمل، وإنما فعل ذلك لأجل إعزاز الثقة في نفوس أقوام المضيق الجبلي، ومن هنا قال تعالي حكاية عنه: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ»(1) و «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ»(2) و «قَالَ انْفُخُوا»(3)، و «آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا»(4) وغيرها من الألفاظ الدالة علي المشاركة.

الدرس الخامس عشر: علي الإنسان أن يستفيد من كامل قدراته وطاقاته، ومن كافة الإمكانات المتوافرة، ومن هنا فقد استفاد ذو القرنين عليه السلام من الطاقات البشرية لأقوام المضيق الجبلي، واستفاد أيضاً من الموارد الطبيعية الموجودة عندهم، فأمرهم باستخراج الحديد، والنحاس، والألماس وغير ذلك مما هو كامن في أرضهم الغنية بالموارد الطبيعية، وبالمواد الأولية، قال تعالي: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ»(5) وقال تعالي: «أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا»(6).

الدرس السادس عشر: علي الإنسان إذا واجه مشكلةً ما أن لا يقف مكتوف الأيدي، بل لا بد من المواجهة وذلك بالإستفادة من طاقاته وإمكاناته. قال تعالي: «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا»(7).

الدرس السابع عشر: إن الطاقات والإمكانات مهما كانت كبيرة وكثيرة فإنها لن تغني عن الإنسان شيئاً إذا لم تتوج بالتفكير البشري القادر علي

ص: 183


1- سورة الكهف، الآية: 95
2- سورة الكهف، الآية: 96
3- سورة الكهف، الآية: 96
4- سورة الكهف، الآية: 96
5- سورة الكهف، الآية: 96
6- سورة الكهف، الآية: 96
7- سورة الكهف، الآية: 95

استخدامها بشكل صحيح، ومن هنا نجد كيف أن ذا القرنين استفاد من وجود الموارد الطبيعية من أجل صنع سده الشهير، وما كانت استفادته إلا نابعة من عقله الذي استطاع الإختراع والتصنيع.

الدرس الثامن عشر: علي الإنسان إذا أراد أن يعمل عملاً أن يتقنه بشكل صحيح وسليم، وهكذا فإن ذا القرنين بني سداً متيناً حقق أغراضه ومقاصده، بل فاق تصور أقوام المضيق الجبلي، ومن هنا نجح السد حيث منع يأجوج ومأجوج من تجاوزه «فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا»(1).

الدرس التاسع عشر: إن علي المؤمن الواعي والرسالي أن لا يعتبر أفعاله

وإنجازاته مستقلة عن الإعانة الإلهية، والمدد الإلهي، بلا لا بد له من أن يعترف بأن كل ما ينجزه الإنسان إنما مرده إلي الله عزَّ وجل، ولهذا قال الله تعالي حكاية عن ذي القرنين لما انتهي من بناء السد بنجاح: «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي»(2).

الدرس العشرون: أن كل شيء ما خلا الله عزَّ وجلَّ محكوم بالزوال والإضمحلال ومن هنا قال الله عزَّ وجل حكاية عن ذي القرنين: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا»(3).

وهذه الدروس التي استفدناها من هذه الآيات المباركة هي لا تستثني أحداث خطابها كل بحسبه، ولا يخفي علينا أن السير وفق الأسباب والمسببات علي ضوء هذه الآيات حاضرٌ بقوة حيث نستفيد منها ضرورة السير وفق هذه القاعدة.

ص: 184


1- سورة الكهف، الآية: 97
2- سورة الكهف، الآية: 98
3- سورة الكهف، الآية: 98

ملحق تفسيري

اشارة

ص: 185

ص: 186

1- التفسير الكاشف ج16، 158 - 159 - 160

«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)» رجع ذو القرنين إلي بلاد ثالثة تقع شرقي البحر الأسود يسكنها الصقالبة - كما قيل - وإليها أشار سبحانه وتعالي بقوله: «حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)». المراد بالسدين هنا جبلين، وكان القوم الذين وجدهم ذو القرنين هنا لا يفهمون لغته، ولا لغة من معه، ولا هو ومن معه يفهمون لغة القوم، ولكنه فهم مطالبهم بالإشارة، أو بواسطة مترجم بدليل قوله تعالي: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)». قال الشيخ المراغي في تفسيره: «يأجوج هم التتر، ومأجوج المغول، وأصلهما من أب واحد يسمي (ترك) وتمتد بلادهم من التبت والصين إلي البحر المتجمد، ومنهم جنكيز خان وهلاكو». ثم نقل المراغي عن مجلة المقتطف لسنة 1888 أن سد ذي القرنين يقع وراء جيحون في عمالة بلخ، واسمه الآن باب الحديد، وهو بمقربة من مدينة ترمذ، وأن العالم الألماني «سيلد برجر» ذكره في رحلته التي كانت في أوائل القرن الخامس عشر، وأيضاً ذكره المؤرخ الأسباني «كلافيجو» في رحلته سنة 1403.

وبناء هذا السد أصدق مثال علي أنه قد كان في تاريخ الإنسانية تعاون وتعاطف بين الدول الغنية الكبري، والدول الضعيفة النامية»، بين الشعب

ص: 187

الذي يملك أسباب التطور، والشعب الذي لا يملكها.

وقوة الولايات المتحدة تشبه إلي حد بعيد قوة ذي القرنين من حيث أن كلاً منها لا تضارعها قوة في عصرها، ولكن الفرق بعيد جداً من حيث النتائج، فإن ذا القرنين كان بكل ما يملك من قوة ملكاً لخير البشرية وإسعادها، أما قوة الولايات المتحدة فهي لحماية الشر والصهيونية، وللسيطرة

علي المقدرات والأسواق والأفكار لمصلحة الإستعمار والرجعية بشتي صورها وأشكالها ... «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ» ضمير جعله للسد، ودكاء أي مستوياً مع الأرض، والمعني أنه متي دنا الوقت الذي يخرج منه يأجوج ومأجوج من وراء السد هيأ الله أسباب هدمه وزواله «وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» لا ريب فيه، قال الشيخ المراغي: «وقد جاء وعده تعالي بخروج جنكيز خان وسلائله فعاثوا في الأرض فساداً». وفي تفسير الرازي أن وعد الله هنا يوم القيامة، وفي تفسير الطبرسي أن هذا الوعد يأتي بعد قتل الدجال، أما نحن فنميل إلي قول المراغي لأنه أقرب إلي قوله تعالي: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإنا نفهم منه أن يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد، ويفسدون علي الناس حياتهم، قال تعالي: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)»(1). هذا، إلي أنه لو كان المراد بمجيء وعده تعالي يوم القيامة أو بعد الدجال لكان السد موجوداً الآن كما هو.. ومن الواضح أنه لو كان لبان، بخاصة وقد جعل العلم الكرة الأرضية، وسكانها أشبه بالأسرة الواحدة يضمهما بيت واحد... وبعد، فإن الذي قلناه عن يأجوج ومأجوج، أو نقلناه عن الغير إنما هو علي التقريب، لا علي التحقيق، لأنّا لم نجد مصدراً يُركن إليه، من أجل هذا نكتفي بما دلّ عليه ظاهر القرآن الكريم، ونترك التفاصيل إلي غيرنا.

ص: 188


1- سورة الأنبياء، الآية: 96

2- في ظلال القرآن ج 16، 2289 وما بعدها

إن النص لا يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه، وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن، فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود وإنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة ...

والتاريخ المعروف يعرف ملكاً اسمه الإسكندر ذو القرنين، ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن، فالإسكندر الإغريقي كان وثنيةاً، وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحد معتقد بالبعث والآخرة ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب: «الآثار الباقية عن القرون الخالية» أن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلاً باسمه فملوك حمير كانوا يلقبون بذي كذي نواس وذي يزن. وكان اسمه أبو بكر بن أفريقش. وأنه رحل بجيوشه إلي ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمرّ بتونس ومراكش وغيرهما، ثم عاد وبني مدينة افريقية فسميت القارة كلها باسمه وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس.

وقد يكون هذا القول صحيحاً. ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه ...

ص: 189

وبعد فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون؟

كل هذه أسئلة يصعب الإجابة عليها علي وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن وفي بعض الأثر الصحيح.

والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا». وهذا النص لا يحدد زماناً، ووعد الله بمعني وعده بذلك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار، وانساحوا في الأرض، ودمروا المماليك تدميراً.

وفي موضع آخر في سورة الأنبياء: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ... (97)».

وهذا النص كذلك لا يحدد زماناً معيناً لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعني اقتراب الساعة وقد وقع منذ زمن الرسول صلي الله عليه وآله فجاء في القرآن: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)» والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر. فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون، يراها البشر طويلة مديدة، وهي عند الله ومضة قصيرة.

وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فُتح في الفترة ما بين «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ويومنا هذا، وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج.

وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها حبيبة عن زينب بنت جحش - زوج النبي صلي الله عليه وآله - قالت: استيقظ الرسول صلي الله عليه وآله من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح

ص: 190

اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وحلق (بإصبعه السبابة والإبهام). قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبيث.

وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية علي يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول صلي الله عليه وآله وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.

ص: 191

الأمثل في كتاب الله المنزل مجلد 9، 316...

بعد ذكره للآيات القرآنية الواردة بشأن يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين قال صاحب الأمثل:

كيف تم بناء سد ذي القرنين؟

الآيات أعلاه تشير إلي سفرة أخري من أسفار ذي القرنين حيث تقول «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)».

أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا» الآية إشارة إلي أنه وصل إلي منطقة جبلية، وهناك وجد أُناساً (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا علي مستوي دانٍ من المدينة، حيث يعتبر الكلام أحد أوضح علائم التمدن.

البعض احتمل أن جملة «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» لا تعني أنهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوي الكلام، أي كانوا متخلفين فكرياً...

ص: 192

قد يكون كلامهم هذا قد تم عن طريق تبادل العلامات والإشارات لأنهم لا يفهمون لغة ذي القرنين، أو أنهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الإعتداد بها، وقد احتملوا أن يكون التفاهم بينهم قد تم عن طريق المترجمين أو بأسلوب الإلهام الإلهي مثل تحدث بعض الطيور مع سليمانعليه السلام . وفي كل الأحوال يمكن أن نستفيد من الآية الشريفة أن تلك المجموعة من الناس كانت ذا وضع جيد من حيث الإمكانات إلا أنهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي ...

كلمة «ردم» علي وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار،إلا أنها فيما بعد أخذت معني واسعاً بحيث شمل كل سد، بل وشمل حتي ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسرين أن كلمة «ردم» تقال للسد القوي، ووفقاً لهذا

التفسير فإن ذا القرنين قد وعدهم بأكثر مما كانوا ينتظرونه ....

«فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا».

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلي قضية فناء الدنيا وتحطم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلي التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقي معني لسد غير قابل للإختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع»...

ص: 193

الجديد في تفسير القرآن المجيد (ج4 363...)

«وجد من دونهما «وراءهما»، «قوماً لا يكادون يفقهون قولاً» لم يفهموا قوله ولا عرف لغتهم لغرابتها ولقلة فهمهم في التعبير والإشارة، والظاهر أنهم الصينيون وما وراءهم في منقطع بلاد الترك في أقصي الشرق، وقد ألهمه الله تعالي كيفية التفاهم معهم كما علم سليمان عليه السلام منطق الطير.

«قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ... (94)» أي أنهم كلموه رأساً أو بواسطة ترجمان ولكن الأول أصح بمقتضي عموم قوله تعالي: «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» ومنه تعليم اللغات علي اختلافها وكثرتها...

«إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام ...

«... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ»، فإذا اقترب مجيء الساعة وقيام القيامة،

وهو وعد ربي جلَّ وعزَّ بالبعث والنشور، أو هو خروج يأجوج ومأجوج قبيل ذلك...

ص: 194

من وحي القرآن (ج14 - 390...)

«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)» في اتجاه آخر، «حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» وقد يكون المراد بهما الجبلين لأن السد يطلق علي الجبل وعلي كل حاجز يسد طريق العبور «وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» في ما يوحي به ذلك من بساطتهم وسذاجة فهمهم،بحيث لا يعيشون العمق الفكري في مواجهتهم للمشاكل، فيحتاجون إلي الشخص الذي يدبر لهم أمورهم، ويقودهم إلي الحلول الممكنة التي كانوا يستطيعون الوصول إليها بأنفسهم لو كانوا يملكون الوعي الكامل المنطلق من حالة المعاناة الفكرية، وهذا ما واجهوه مع أولئك الذين كانوا يعيشون في الجانب الآخر من المنطقة، وراء الجبلين، فقد كان بإمكانهم أن يبحثوا عن الوسيلة التي يستطيعون أن يتخلصوا بها من ضغطهم علي واقعهم في ما يتحركون به من إفساد البلاد والعباد، إما بالمواجهة، أو بالمعاهدة، أو بغير ذلك من الأمور، ولكنهم لم يجدوا هناك إلا إقامة السد بينهم، ليكون ذلك حاجزاً طبيعياً بمنعهم من القدوم إليهم، أو الهجوم عليهم، وهكذا طرحوا المسألة علي ذي القرنين بسذاجة وطيبة وبساطة «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» فهم يغيرون علينا ويعملون فينا سلباً ونهباً، وقتلاً وتدميراً... وهكذا تم لذي القرنين ما أراده من إغلاق المنافذ التي

ص: 195

كان ينفذ منها هذا الجيش البشري - يأجوج ومأجوج - ليفسدوا البلاد ويهلكوا العباد... «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي» وقامت القيامة، وزالت الجبال وتحولت إلي هباء... «جَعَلَهُ دَكَّاءَ» فلا يبقي منه شيء، بل يتحول إلي تراب يطير مع الريح، «وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» لا ريب فيه. فهو أصدق من وعد، فلا مبدل لكلماته وهو اللطيف الخبير، وربما كان المراد من الوعد الحق، الزمن المحدد الذي يختص بهذا السد عند اقتراب الساعة، كما قد توحي به الآية الكريمة في قوله تعالي في سورة الأنبياء: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ»(1)...

ص: 196


1- سورة الأنبياء، الآيتان: 96 - 97

مجمع البيان (مجلد 6، ج 16، 379 وما بعدها)

«وَيَسْأَلُونَكَ» يا محمد «عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» أي: عن خبره وقصته، لا عن شخصه. واختلف فيه، فقيل: إنه نبي مبعوث فتح الله علي يديه الأرض، عن مجاهد، وعبد الله بن عمر. وقيل: أنه كان ملكاً عادلاً. وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام : أنه كان عبداً صالحاً، أحب الله، وأحبه الله وناصح الله وناصحه، قد أمر قومه بتقوي الله، فضربوه علي قرنه ضربة بالسيف، فغاب عنهم ما شاء الله. ثم رجع إليهم فدعاهم إلي الله، فضربوه علي قرنه الآخر بالسيف، فذلك قرناه، وفيكم مثله - يعني نفسه عليه السلام وفي سبب تسميته بذي القرنين أقوال أُخر منها: إنه سمي به لأنه كانت له ضفيرتان، عن الحسن. ومنها: إنه كان رأسه شبه القرنين تواريه العمامة، عن يعلي بن عبيد.

ومنها: إنه بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب، فسمي بذلك لاستيلائه علي قرن الشمس من مغربها، وقرنها من مطلعها، عن الزهري واختاره الزجاج.

ومنها: إنه رأي في منامه أنه دنا من الشمس حتي أخذ بقرنيها في شرقها

وغربها ، فقصّ رؤياه علي قومه، فسموه ذا القرنين، عن وهب.

ص: 197

ومنها: إنه عاش عيش قرنين، فانقرض في وقته قرنان من الناس، وهو حي.

ومنها: أنه كان كريم الطرفين من أهل بيت الشرف، من قبل أبيه وأمه، قال معاذ بن جبل: كان من أبناء الروم، واسمه الاسكندر، وهو الذي بني الإسكندرية.

«قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا» معناه: قل يا محمد سأقرأ عليكم منه خبراً وقصة «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» أي: بسطنا يده في الأرض، وملكناه حتي استولي عليها وقام بمصالحها. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخر الله له السحاب، فحمله عليها، ومدّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء. فهذا معني تمكينه في الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فيها، وذلّل له طريقها وحزونها، حتي تمكن منها أنّي شاء.

«وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» أي: فأعطيناه من كل شيءٍ علماً يتسبب به إلي إرادته، ويبلغ به إلي حاجته، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقيل: معناه وآتيناه من كل شيءٍ يستعين به الملوك علي فتح البلاد، ومحاربة الأعداء، عن الجبائي، وقيل: معناه وآتيناه من كل شيءٍ سبيلاً، كما قال سبحانه «أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ» أي: سبلها «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)» معناه فأتبع طريقاً واحداً في سلوكه، قال الزجاج: معناه فأتبع سبباً من الأسباب التي أُوتي بها، وذلك أنه أُوتي من كل شيءٍ سبباً، فأتبع من تلك الأسباب التي أُوتي سبباً في المسير إلي المغرب.

ومن قرأ «فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)» فمعناه: لحق كقوله فأتبعه الشيطان. والأصل فيه ما مرّ ذكره في الحجة(1).

ص: 198


1- يراجع ما قبل هذه الصفحات

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ» أي: موضع غروبها إنه انتهي إلي آخر العمارة

من جانب المغرب، وبلغ قوماً لم يكن وراءهم أحد إلي موضع غروب الشمس، ولم يرد بذلك أنه بلغ إلي موضع الغروب، لأنه لا يصل إليه أحد.

«وَجَدَهَا تَغْرُبُ» معناه: وجدها كأنها تغرب «فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» وإن كانت تغرب في ورائها، عن الجبائي، وأبي مسلم، والبلخي، لأن الشمس لا تزايل الفلك، ولا تدخل عين الماء، ولأنه قال «وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا». ولكن لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع، تراءي له كأن الشمس تغرب في عين، كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والعين الحمئة: هي ذات الحمأة، وهي الطين الأسود المنتن. والحامية: الحارة. وعن كعب قال: أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين.

وقوله: «وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا» معناه: ووجد عند العين ناساً. «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا» في هذا دلالة علي أن القوم كانوا كفاراً، والمعني: إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم علي الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر، لتعلمهم الهدي، وتستنقذهم من العمي.

وقيل: معناه وإما أن تعفو عنهم. واستدل من ذهب إلي أن ذو القرنين كان نبياً بهذا، قال: لأن أمر الله تعالي لا يُعلم إلا بالوحي، والوحي لا يجوز إلا علي الأنبياء. وقال الكلبي: إن الله تعالي ألهمه ولم يوح إليه. وقال ابن الأنباري: إن كان ذو القرنين نبياً، فإن الله تعالي قال له كما يقول للأنبياء، إما بتكليم، أو بوحي، وإن لم يكن نبياً، فإن معني قلنا: ألهمنا، لأن الإلهام ينوب عن الوحي. قال سبحانه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَي أُمِّ مُوسَي» أي: وألهمناها. قال قتادة: فقضي ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالي، وكان عالماً بالسياسة «قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» أي: أشرك، عن ابن عباس «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» أي: نقتله إذا لم يرجع عن الشرك «ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ» بعد قتلي إياه «فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا

ص: 199

نُكْرًا» أي: منكراً غير معهود، يعني في النار، وهو أشد من القتل في الدنيا ...

«وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا» مر معناه «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا» أي: سنقول له قولاً جميلاً، وسنأمره با يتيسر عليه، ولا نؤاخذه بما مضي من كفره. «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)» أي طريقاً آخر من الأرض، ليؤديه إلي مطلع الشمس، ويوصله إلي المشرق، «حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي: بلغ موضع ابتداء العمارة من الجانب الذي تطلع منه الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَي قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا» معناه أنه لم يكن بها جبل، ولا شجر، ولا بناء، لأن أرضهم لم يكن يثبت عليها بناء، فكانوا إذا طلعت الشمس يغورون في الماء والأسراب، وإذا غربت، تصرفوا في أمورهم، عن الحسن، وقتادة، وابن جريج.

وروي أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: لم يعلموا صنعة البيوت، وقوله «كَذَلِكَ» معناه: مثل ذلك القبيل. الذي كانوا عند مغرب الشمس، في أن حكمهم حكم أولئك. قيل: إن معناه أنه اتبع سبباً إلي مطلع الشمس، مثل ما أتبع سبباً إلي مغرب الشمس. وتم الكلام عند قوله «كَذَلِكَ». ثم ابتدأ سبحانه فقال: «كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا» أي؛ علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجيوش، والعدة وآلات السياسة. وقيل: معناه أحطنا علماً بصلاحه واستقلاله بما ملكناه، قبل أن يفعله، كما علمناه بعد أن فعله، ولم يخف علينا حاله. وفي قوله «بِمَا لَدَيْهِ»: إشارة إلي حسن الثناء عليه، والرضا بأفعاله لامتثاله أمر الله تعالي في كل أحواله «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)» معناه: ثم أتبع مسلكاً بالغاً مما يبلغه قطراً من أقطار الأرض. وهذا يقوي قول من قال: إن الأرض كروية الشكل، لأنه لم يأخذ في الطريق الذي كان قد عاد فيه، وإنما أخذ في طريق آخر...

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» ثم أخبر سبحانه عن حال ذي القرنين بعد منصرفه عن المشرق، أنه سلك طريقاً إلي أن بلغ بين السدين، ووصل إلي ما

ص: 200

بينهما، وهما الجبلان اللذان جعل الردم بينهما، وهو الحاجز بين يأجوج ومأجوج، ومن وراءهم، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقيل: أراد بالسدين الموضع الذي فيه السدان اليوم، لأنه لو كان هناك سد، لم يكن الطلبهم السد معني.

والسد: الموضع المسدود، لا المنفتح «وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» أي: خصوا بلغة كادوا لا يعرفون غيرها. قال ابن عباس: كادوا لا يفقهون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم. وإنما قال «لَا يَكَادُونَ» لأنهم فهموا بعض الأشياء عنهم، وإن كان بعد شدة، ولذلك حكي الله عنهم أنهم «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» ويجوز أن يكون الله سبحانه فهم ذا القرنين لسانهم، كما فهّم سليمان منطق الطير أو قالوا له بترجمان: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في أرضهم، وفسادهم أنهم كانوا يخرجون فيقتلونهم، ويأكلون لحومهم ودوابهم. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يدعون شيئاً أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه، عن الكلبي. وقيل: أرادوا أنهم سيفسدون في المستقبل عند خروجهم. وورد في الخبر عن حذيفة قال: «سألت رسول الله صلي الله عليه وآله عن يأجوج ومأجوج، فقال: يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتي ينظر إلي ألف ذكر من صلبه، كل قد حمل السلاح. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول الله وما الأرز؟ قال: شجر بالشام، طوال. وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم خيل، ولا حديد. وصنف منهم يفترش إحدي أذنيه، ويلتحف بالأخري، ولا يمرون بفيل، ولا وحش، ولا جمل، ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان. يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية.

ص: 201

قال وهب، ومقاتل: إنهم من ولد يافث بن نوح أبي الترك. وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت تغير فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجه. وقال قتادة: إن ذا القرنين بني السد علي إحدي وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة دون السد، منهم الترك.

وقال كعب: هم نادرة في ولد بني آدم عليه السلام ، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم. وهذا بعيد. وقوله «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا» أو خراجاً معناه: فهل نجعل لك بعضاً من أموالنا «عَلَي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» أي: حائطاً. وقيل في الفرق بين الخرج والخراج: إن الخراج إسم لما يخرج من الأرض. والخرج: اسم لما يخرج من المال. وقيل: الخراج ما يؤخذ عن الرقاب، قاله أبو عمرو. وقيل: الخراج: ما يؤخذ في كل سنة. والخراج: ما يؤخذ دفعة عن تغلب.

«قَالَ» ذو القرنين «مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ» أي: أعطاني ربي من المال، ومكني فيه من الإتساع في الدنيا، خير مما عرضتموه علي من الأجر «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» أي: برجال، فيكون معناه: بقوة الأبدان وقيل: بعمل تعملونه معي، عن الزجاج. وقيل: بآلة العمل وذلك زبر الحديد، والصفر «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا» أي سداً وحاجزاً. قال ابن عباس: الردم أشد الحجاب. وقيل: هو السد المتراكب بعضه علي بعض «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» أي: أعطوني قطع الحديد، أو جيئوا بقطع الحديد علي القراءة الأخري. وفي الكلام حذف، وهو أنهم أتوه بما طلبه منهم من زبر الحديد، ليعمل الردم في وجوه يأجوج يأجوج ومأجوج، فبناه.

«حَتَّي إِذَا سَاوَي بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» أي: سوي بين جانبي الجبل، بما جعل بينهما من الزبر. قال الأزهري: يُقال لجانبي الجبل صدفان، لتصادفهما أي: تحاذيهما

ص: 202

وتلاقيهما. وقيل: هما جبلان كل واحد منهما منعدل عن الآخر، كأنه قد صدف عنه. وقوله «قَالَ انْفُخُوا» معناه: قال ذو القرنين انفخوا النار علي الزبر. أمرهم أن يؤتي بمنافخ الحدادين، فينفخوا في نار الحديد التي أوقدت فيه.

«حَتَّي إِذَا جَعَلَهُ نَارًا» أي: حتي إذا جعل الحديد كالنار في منظره من الحمي، واللهب، فصار قطعة واحدة، لزم بعضه بعضاً.

«قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا» أي: أعطوني نحاساً مذاباً، أو صفراً مذاباً، أو حديداً مذاباً، أصبه علي السد بين الجبلين، حتي ينسد الثقب الذي فيه، ويصير جداراً مصمتاً. فكانت حجارته الحديد، وطينه النحاس الذائب، عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. قال قتادة: فهو كالبرد المحبر: طريقة سوداء، وطريقة حمراء.

«فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» معناه: فلم تمّ لم يستطع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوه. يقال: ظهرت السطح: إذا علوته «وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا» أي: ولم يستطيعوا أن ينقبوا أسفله، لكثافته وصلابته. ونفي بذلك كل عيب يكون في السد.

وقيل: إن هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك، يلي مؤخرهما البحر المحيط. وقيل: إنه وراء دربند، وخزر من ناحية أرمينية وأذربيجان. وقيل: إن مقدار ارتفاع السد مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعاً.

«قَالَ» ذو القرنين: «هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» أي: هذا السد نعمة من الله لعباده،

أنعم بها عليهم في دفع شر يأجوج ومأجوج عنهم.

«فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي» يعني: إذا جاء وقت أشراط الساعة، ووقت خروجهم

ص: 203

الذي قدره الله تعالي «جَعَلَهُ دَكَّاءَ» أي: جعل السد أرضاً مستوياً مع الأرض مدكوكاً، أو ذا دك، وإنما يكون ذلك بعد قتل عيسي بن مريم الدجال، عن ابن مسعود.

وجاء في الحديث: إنهم يدأبون في حفره نهارهم، حتي إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس، قالوا: نرجع غداً ونفتحه، ولا يستثنون فيعودون من الغد، وقد استوي كما كان، حتي إذا جاء وعد الله، قالوا: غداً نفتح ونخرج إن شاء الله. فيعودون إليه، وهو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه ويخرجون علي الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلي السماء، فترجع وفيها كهيئة الدماء، فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم، فيدخل في آذانهم فيهلكون بها. فقال النبي: والذي نفس محمد بيده! إن دواب الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكراً. وفي تفسير الكلبي: إن الخضر واليسع، يجتمعان كل ليلة علي ذلك السد، يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج «وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» أي: وكان ما وعد الله بأن يفعله لا بد من كونه، فإنه حق، إذ لا يجوز أن يخلف وعده.

«وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» أي: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد، يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم، ويكون حالهم كحال الماء يتموج باضطراب أمواجه.

وقيل: إنه أراد سائر الخلق من الجن والإنس، أي: وتركناهم يوم خروج يأجوج ومأجوج، يختلطون بعضهم ببعض، لأن ذلك علم للساعة. ثم ذكر سبحانه نفخ الصور فقال «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» لأن خروج يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة.

واختلف في الصور، فقيل: هو قرن ينفخ فيه، عن ابن عباس، وابن

ص: 204

عمر، وقيل: هو جمع صورة، فإن الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور، كما صورهم في أرحام الأمهات، ثم ينفخ فيهم الأرواح، كما نفخ وهم في أرحام أمهاتهم، عن الحسن وأبي عبيدة. وقيل: إنه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات، فالنفخة الأولي: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق التي يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، فيحشر الناس بها من قبورهم.

«فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا» أي: حشرنا الخلق يوم القيامة كلهم في صعيد واحدٍ.

هذا في سورة الكهف وفي سورة الأنبياء قال قدس سره في تفسير الآية

96 والآية 97:

«حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» أي: فتحت جهتهم. والمعني: انفرج

سد يأجوج ومأجوج بسقوط أو هدم أو كسر، وذلك من أشراط الساعة.

«وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» أي: وهم يريد يأجوج ومأجوج من كل نشز من الأرض يسرعون، عن قتادة وابن مسعود والجبائي وأبي سلم يعني أنهم يتفرقون في الأرض، فلا تري أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين. وقيل: إن قوله هم كناية عن الخلق، يخرجون من قبورهم إلي الحشر، عن مجاهد. وكان يقرأ «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ» يعني القبر. ويدل عليه قوله «فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ» إلي ربهم ينسلون.

«وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ» أي الموعود الصدق ومعناه: اقترب قيام الساعة «فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» معناه: فإذا القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي: لا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله، ينظرون إلي تلك الأهوال عن الكلبي. (مجمع البيان، مجلد 4، ج 17، ص 116 - 115).

ص: 205

تفسير الميزان (ج 13، ص 378، 381) كلام حول قصة ذي القرنين

«وهو بحث قرآني وتاريخي في فصول:

1- قصة ذي القرنين في القرآن:

لم يتعرض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته علي ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفي علي ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولي إلي المغرب حتي إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة (أو حاميه) ووجد عندها قوما، ورحلة ثانية إلي المشرق حتي إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع علي قوم لم يجعل الله لهم من دونها ستراً، ورحلة ثالثة حتي إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجاً علي أن يجعل بين القوم وبين يأجوج ومأجوج سداً فأجابهم إلي بناء السّد ووعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون وأبي أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوّة وقد أشير منها في القصة إلي الرجال وزير الحديد والمنافخ والقطر.

ص: 206

والخصوصيات والجهات الجوهريّة التي تستفاد من القصة هي أولاً أنّ صاحب القصة كان يسمي قبل نزول قصّته في القرآن بل حتي في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ» «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ».

وثانياً: أنّه كان مؤمناً بالله واليوم الآخر ومتديناً بدين الحق كما يظهر من قوله: «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» وقوله: «... مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا» الخ ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالي: «قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا» يدل علي تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي.

وثالثاً: أنه كان ممن جمع الله خير الدينا والآخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي يبلغ به مغرب الشمس ومطلعها قلم يقم له شيء وقد ذلت له الأسباب، وأما خير الآخرة فبسط العدل وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر، وهذا كله مما يدل عليه قوله تعالي: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)» مضافاً إلي ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية.

رابعاً: أنه صادف قوماً ظالمين بالمغرب فعذبهم.

وخامساً: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعدما بلغ مطلع الشمس اتبع سبباً حتي إذا بلغ بين السَّدين، ومن مشخصات ردمه مضافاً إلي كونه واقعاً في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنه ساوي بين صدفيهما وأنه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.

ص: 207

2- ذكري ذي القرنين والسد ويأجوج ومأجوج

في أخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكاً يسمي في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سداً ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلي بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين وأنه من أسلاف التبّابعة، وفيها ذكر سيره إلي المغرب والمشرق وسد يأجوج ومأجوج وسيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية.

وورد ذكر «مأجوج» و«جوج ومأجوج» في مواضع من كتب العهد العتيق ففي [الإصحاح] العاشر من صفر التكوين من التوراة.

«وهذه مواليد بني نوح: سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر ومأجوج وماداي وباوان ونوبال وماشك ونبراس».

وفي كتاب حزقيال الإصحاح الثامن والثلاثون «وكان إلي كلام الرب قائلاً: يا ابن آدم اجعل وجهك علي جوج الأرض مأجوج رئيس روش ماشك ونوبال، وتنباً عليه وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش وماشك ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلّهم لابسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف. فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخودة، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوباً كثيرين معك».

قال: «لذلك تنبأ يا ابن آدم وقل لجوج: هكذا قال السّيّد الرّبّ في ذلك اليوم عند سكني شعب إسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصي الشمال».

ص: 208

وقال في الإصحاح التاسع والثلاثين ماضياً في الحديث السابق: وأنت يا ابن آدم تنبأ علي جوج وقل: هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك ياجوج رئيس روش ماشك ونوبال وأردك وأقودك وأُصعدك من أقاصي الشمال. وآتي بك علي جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسري واسقط سهامك من يدك اليمني فتسقط علي جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحفل، علي وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل ناراً علي مأجوج وعلي الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب».

وفي رؤيا يوحنا في الإصحاح العشرين: «ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة علي يده فقبض علي التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة، وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضلّ الأمم فيما بعد حتي تتم الألف سنة، وبعد ذلك لا بد أن يحلّ زماناً يسيراً.

قال: «ثم متي تمت الألف سنة لن يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا علي عرض الأرض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وإبليس الذي كان يضلّهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهاراً وليلاً إلي أبد الآبدين».

ويستفاد منها أن «مأجوج» أو «جوج ومأجوج» أمّة أو أُمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ، وأنهم كانوا أُمماً حربية معروفة بالمغازي والغارات. ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدّوا الطّريق علي هذه الأُمم المفسدة في

ص: 209

الأرض، وأنّ السّدّ المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلاً بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصّين أو سد باب الأبواب أو سدّ «داريال» أو غير هذه.

وقد تسالمت تواريخ الأُمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الأحداب والمرتفعات في شمال الصّين كانت موطناً لأمة كبيرة بدوية همجية لم تزل تزداد عدداً وتكثر سواداً فتكر علي الأُمم المجاورة لها كالصّين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلي بلاد آسيا الوسطي والدنيا وبلغت إلي شمال أوربه فمنهم من قطن في أرض أغار عليها كأغلب سكنة أوربه الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد.

وهذا أيضاً مما يؤدي ما استقر بناه آنفاً أنّ السّد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه ...».

ص: 210

أهم المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم.

2- قصص الأنبياء للجزائري «قده».

3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل.

4- الميزان في تفسير القرآن.

5- في ظلال القرآن.

6- مجمع البيان في تفسير القرآن.

7- التفسير الكاشف.

8- مهج الدعوات.

9- ميزان الحكمة.

10- موسوعة المهدي «عج» للسيد محمد صادق الصدر «قده».

11- الطور المهدوي ل- عالم سبيط النيلي.

12- النظام القرآني.

ص: 211

13- المصباح المنير.

14- مفردات القرآن الكريم.

15- كتاب العين.

بالإضافة إلي مجلات وصحف، ومقالات وغير ذلك.

ص: 212

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.