الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف في كتب الأمم السابقة و عند المسلمين

اشارة

الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) في كتب الأمم السابقة وعند المسلمين

تأليف الأستاذ محمد رضا الحكيمي

ترجمة : حيدر آل حيدر

الناشر : الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع

ص: 1

اشارة

الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) في كتب الأمم السابقة وعند المسلمين

تأليف الأستاذ محمد رضا الحكيمي

ص: 2

الكتاب : الامام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) في كتب الأمم السا بقة وعند المسلمين المؤلف : الاستاذ محمد رضا الحكيمي

ترجمة : حيدر ال حيدر

الناشر : الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع

جميع حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولي

1423ه - 2003 م

حارة حريك - شارع دكاش - مقابل مدرسة الليسيه أميكال مودرن

هاتف: 01/5538863 - 03/389166 - ص.ب: 14/5680

INFO@DARALISLAMIA.COM WWW.DARALISLAMIA.COM

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المترجم

الكتاب الذي بين يديك دراسة تجمع بين منهج منظم وروح ثوري ، يفرضهما موضوع الدرس . فالكتاب يتناول بالبحث شمسا يقدر أن تشرق من المغرب .

أما كيف قدر لهذا « الشمس» ، أن يشرق من مغرب الشمس ؟ فذلك أمر يحتاج إلي بحث منظم بين مصادر المغرب المعني ، فالمعني من المغرب هنا أرض النبوات ، التي بشرت بالشمس موعدا للخلاص ، وهي تشرق من حيث تغرب الشمس الكونية في أرضها . وعلي أمل شروق الشمس كان لا بد من تفسير للانتظار فكان روحاً ثورياً يعني فيما يعنيه رفع مستوي العدة والاستعداد ، وبناء الشخصية علي أساس مقياس الإسلام.

جاء نصّ هذه الدراسة باللغة الفارسية ، وقررت بالاتفاق مع الأستاذ

المؤلف نقله إلي لغة الضاد بعد أن ولد بين نصوصها .

وقد كان تعريب هذا الكتاب أول تجربتي مع الترجمة المنظمة ، وكانت

فرصة للتعرف علي فكر وثقافة الإسلاميين من كتاب المشرق المسلم .

ص: 5

ورغم أنني لم أتفق مع الأستاذ الكاتب في بعض ما طرحه في الكتاب من تصورات ورؤي ، إلا أنني لم أسجل ذلك ، يشفع لي في ذلك أن وجهات نظره ليست بدعا من القول ، بل هي نظريات تبناها كبار من مفكري الإسلام .

والكاتب مسلم لا يتفاوض بشأن مفردات عقيدته ؛ إذ تلقاها ببرهان وعاشها في وجدان . لكنه وحدوي شأن المسلم المسؤول والمؤمن الملتزم بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ..

وثم إن ر المهدي ، ليس قضية شيعية ، إنما هو بشري رسالات السماء

وموعد مذاهب الإسلام كما سيطلع علينا بحث الأستاذ «حكيمي » في إثباته .

حيدر آل حيدر

ص: 6

الفصل الاول: الميلاد

اشارة

ص: 7

ص: 8

الميلاد

1- الميلاد

اشارة

عُرف ، بين المؤرخين والمحدثين ، أن ولادة الإمام « الحجة بن الحسن المهدي » سنة ( 200 ) أو ( 209 ) ه . وقالوا : إن المهدي (عليه السلام) وطيء بقدميه هذا العالم ليلة الجمعة ، منتصف شهر شعبان من أحد العامين المذكورين .

علي هذا الأساس ، فأصل ولادة المهدي ومجيئه إلي هذا العالم مسلمة من مسلمات التاريخ . وإذا استثنينا الأئمة الأطهار والعلماء والمؤرخين والمحدثين الشيعة ، فإن هناك العديد من المؤرخين والمحدثين الشنة قد صرحوا بهذه الواقعة أيضأ ، وتلقوها حقيقة واقعية . وقد ذكرت في الكتب التبعية ، أسماء وكتب أكثر من ( 65 ) فردا من هؤلاء العلماء . ونورد هنا خمسة نصوص من المؤرخين والعلماء .

أ. علي بن الحسين المسعودي :

في سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ( رضي الله

ص: 9

عنهم ) ، في خلافة المعتمد. وهو ابن تسع وعشرين سنة ، وهو أبو المهدي المنتظر(1).

ب - شمس الدين بن خلكان :

أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد ، ثاني عشر الأئمة الاثني عشر ، علي اعتماد الإمامية ، المعروف بالحجة ، وهو الذي تزعم الشيعة أنه المنتظر والقائم والمهدي .. كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، ولما توفي أبوه كان عمره خمس سنين ، واسم أمه « خمط » ، وقيل « نرجس » (2).

ج - الشيخ عبدالله الشبراوي :

الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ، ويلقب بالعسكري ، ولد بالمدينة لثمان خلون من ربيع الأول(3) سنة ( 232 ) ه ، وتوفي ( عليه السلام ) يوم الجمعة لثمان خلون من ربيع الأول سنة ( 260 ) ه ، وله من العمر ثمان وعشرون سنة . ويكفيه شرفا أن الإمام المهدي المنتظر من أولاده ...

ولد الإمام محمد « الحجة»، ابن الإمام الحسن الخالص ، بسر من رأي ، ليلة النصف من شعبان ، سنة (255) ه ، قبل وفاة أبيه بخمس سنين ، وكان أبوه قد أخفاه حين ولد ، وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وخوفه من

ص: 10


1- «مروج الذهب » ج 4 ص 199 ، طبع مصر سنة 1377 .
2- «تاريخ ابن خلكان » ( وفيات الأعيان ) ج 3 ص 319، طبع مصر ، مكتبة النهضة المصرية .
3- الصحيح ، ربيع الثاني .

الخلفاء ( العباسيين ) فإنهم كانوا في ذلك الوقت يتطلبون الهاشميين ، ويقصد ونهم بالحبس والقتل، ويرون إعدامهم ، وذلك لقتلهم من يعدم سلطنة الظالمين . وهو الإمام المهدي (عليه السلام) ، كما عرفوا ذلك من الأحاديث التي وصلت إليهم من الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) (1).

د- الشيخ عبدالوهاب الشعراني :

المهدي (عليه السلام) ، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، ومولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي ابن مريم (عليه السلام) (2).

ه- الشيخ سليمان القندوزي الحنفي :

المحقق عند الثقات أن ولادة القائم (عليه السلام) كانت ليلة الخامس عشر من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامراء (3)

2- طالع الميلاد

ذكر العالم السني المعروف ، الشيخ سليمان القندوزي الحنفي - الذي تقدم ذكره آنفاً - طالع الميلاد المقدس ، بعد التصريح بوقوع ولادة المهدي ، يقول :

ولادة القائم (عليه السلام) كانت ليلة الخامس عشر من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، في بلدة سامراء ، عند

ص: 11


1- « الإتحاف بحب الأشراف » ص 170 طبع مصر1316 ه : نقلا عن كتاب : « المهدي الموعود المنتظر » نجم الدين العسكري طبع بيروت (1397 ) ج 1 ص200-201
2- « اليواقيت والجواهر » ، ص 145 طبع مصر 1307 ه.
3- « ينابيع المودة » ، ص 452 نقلاً عن « المهدي الموعود ... » ج 1 ص 212 - 213.

القران الأكبر الذي كان في القوس ، وكان الطالع الدرجةالخامسة والعشرين من السرطان(1).

3- مثل إبراهيم وموسي

بعد مرور قرنين وحفنة سنين علي هجرة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وبعد أن انتهت الإمامة إلي الإمام العاشر والحادي عشر ، وشيئا فشيئا أخذ هاجس قلق عميق يخيم علي النفوس في أوساط الحكام المتسلطين علي رقاب المسلمين ، في مركز الخلافة . كان هذا القلق مرتبطة بالكثير من الأخبار والأحاديث التي جاء فيها : سوف يولد للإمام الحسن العسكري ولد يقوض أساس الحكومات ، هذا التكهن ، جاء في كتب الأمم السالفة أيضاً ، وأذيع في أوساط المسلمين بواسطة المطلعين ، كما جاء أيضاً في الأحاديث والأخبار الإسلامية ، خصوصاً الأحاديث النبوية.

في هذا الضوء ، نلاحظ أنه علي أساس بشائر كتب السلف ، وكذلك الأحاديث الإسلامية ، ذاع خبر ولادة خلف للإمام الحادي عشر ، مهشم العروش الحاكمين ، مسقط لتيجان المستكبرين ، ساحق لقوي الضلال ...

حين ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) في مدينة سامراء ، مو علي بناء المدينة - التي أنشئت بجانب أنقاض المدينة القديمة - ما يقرب من ( 35 ) عاماً ، وباعتبار بنائها بسمة العاصمة الثانية لخلافة بغداد ، أصبحت منذ ذلك الحين مقراً للخليفة العباسي .

المعتصم العباسي ، الخليفة الثامن لبني العباس ، الذي ابتدأت خلافته عام ( 218 ) ه ، هو الذي أصدر الأمر ببناء هذه المدينة ، ثم انتقل هو نفسه إلي هناك ، فصارت سامراء مركزاً للخلافة .

وضع الإمام العاشر تحت الرقابة ، وسجن في هذه المدينة لمدة عشرين

عاماً ، ثم قضي الإمام الحادي عشر حياته هناك سجيناً ، أو تحت المراقبة .

ص: 12


1- المصدر السابق ، نفس الصفحة .

حينما قرب ميلاد المهدي ، وأخذ خطره يقوي في أعين الجبابرة ، كانوا بصدد معرفة حمله ليحولوا دون مجيء هذا الوليد ، وإذا ولد ووضع قدميه في هذا العالم ، فسيعدمونه من الوجود .

ولهذا أخفيت علي الناس خصوصيات أوضاع المهدي (عليه السلام) ، وأدوار حمله ، ثم ولادته ، و .... ولم يره إلا ثلة معدودة من المقربين للإمام العسكري (عليه السلام) ، ومن تلامذته وأصحابه ، وهؤلاء أيضاً كانوا يرونه بين حين وآخر ، وليس بشكل مستمر وعادي ، كتبوا في ذلك :

السر في خفاء ولادته هو أن بني العباس لما علموا من الأخبار المروية عن النبي والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) أن المهدي ( عليه السلام ) هو الثاني عشر من الأئمة وهو الذي يملأ الأرض عدلاً ، ويفتح حصون الضلالة ويزيل دولة الجبابرة ويقتل الطواغيت ، ويملك الأرض شرقها وغربها ، أرادوا إطفاء نوره بقتله ، فلذا عينوا العيون والجواسيس والقوابل للتفتيش عن بيت والد الحجة الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) . ولكن يأبي الله إلا أن يتم نوره ، فأخفي عز وجل حمل أمه « نرجس » عن الناس . حتي نقلوا أن المعتمد بعث القوابل سرا ، وأمرهن أن يدخلن دور بني هاشم سيما دار العسكري (عليه السلام) - بلا استيذان - في أي وقت كان لتفتيش أمره ، واستعلام حاله وخبره فلم يقفن علي شيء ، وأبي الله إلا أن يجري في حجته سنة نبيه موسي ، كما أن أعداءه ركبوا سنة فرعون واتخذوا السياسة الفرعونية حيث علم أن زوال ملكه يكون بيد رجل من بني إسرائيل ، فعين المفتشين علي الحوامل ، وأخذ المواليد تحت المراقبة الشديدة فإذا كان المولود ذكراً ذبحوه ، وإن كان أنثي يستحيونها، فقتلوا ألوفاً من المواليد في طلب موسي . قال الله - عز وجل - : (.. يقتلون أبناءكم

ص: 13

ويستحيون نساءكم .. )(1) ومع ذلك جعل الله تعالي نبيه في حفظه ، وأخفي عنهم ولادته، قال الله تعالي : (و اوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ، إنّا رادّوه إليكِ وجاعلوهُ من المرسلين)(2) وقد ذكر في الروايات الكثيرة شباهته (عليه السلام) بإبراهيم وموسي ( عليهما السلام )(3) .

4- مشاهدة المهدي

علي هذا المنوال الذي ذكر ، نلحظ المهدي (عليه السلام) منذ اليوم الأول من ولادته ، أنه كان يعيش في الخفاء باستمرار ، ولم تره الجماهير بشكل عام . وكان الوضع علي هذه الصورة لكي لا يناله شر ومفسدة . كان السعي لحجب الناس عن رؤيته ، والحيلولة دون اطلاعهم علي وضعه لكي لا تشيع معلومات حوله ، وبالتالي لا تصل إلي يد البلاط العباسي .

في هذا الضوء ، فقد رآه - خلال حياة الإمام الحادي عشر ، وفي مطلع حياته بين سن الخامسة إلي السادسة من عمره - بعض مقربي الإمام وعدد من شخصيات الخواص ، وحظوا باللقاء به ، ليحصل اليقين عن هذا الطريق بولادته ووجوده ، ويطلع (عليه السلام) الأخرين في مواقع الضرورة - خصوصاً القطاع الشيعي - ويجعلهم علي بصيرة من وجود الوصي الثاني عشر . كان من بين أنصار وأصحاب الإمام الحادي عشر أفراد التمسوا منه - للباعث المذكور - أن يريهم خليفته ، وقد استجاب الإمام (عليه السلام) لهذا الطلب في بعض المواقف ، وقدم المهدي ، وعرفه لأفراد حيناً ، لجماعة حيناً آخر .

5- أربعون نفرا من الشيعة في طلب المهدي

جاء في الأثر ، أن رهطاً من الشيعة - وكانوا أربعين نفراً - قد اجتمعوا يوماً

ص: 14


1- الأعراف :141 .
2- القصص :7.
3- « منتخب الأثر » لطف الله الصافي ، انتشارات صدرا ، طهران ص 286 .

عند الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، وطلبوا منه أن يريهم ويعرفهم الحجة من بعده ، ففعل الإمام ذلك ، ورأوا هؤلاء ولدأ خرج عليهم ، مثل فلقة القمر ، وكالبدر ليلة تمامه . فقال الإمام العسكري ، هذا إمامكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، أطيعوه ، ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتي يتم له عمر ، فاقبلوا من عثمان ( بن سعيد العمري ) ، ما يقوله وانتهوا إلي أمره » (1).

في هذا الضوء ، فقد صرح الإمام الحادي عشر ضمنيا بوقوع غيبة الإمام المهدي ، وعرفه علي القطاع الشيعي ، كما أعلن عن استمرار سلالة الولاية .

6- الفيلسوف النوبختي في حضور المهدي

أبو سهل إسماعيل النوبختي ، عاش بين عام (237) ه إلي عام (311) ه ، أحد مفكري الشيعة ، وكبار متكلميها في القرن الثالث ، وقد ادرجوه في عداد فلاسفة الشيعة .

كان أبو سهل النوبختي من علماء الشيعة الكبار ، له باع في العديد من

العلوم الإسلامية ، وقد ربي جمعة من التلامذة .

قالوا : هو صاحب مدرسة فلسفية كلامية عاشت جيلاً طويلاً، وظلت آراؤه تتجاوب حقبة طويلة في أكثر جوانب الحياة الثقافية . وتخرج علي يديه عدد غير قليل من العلماء والمفكرين ، نهلوا من مدرسته ، يستفيدون منه ، ويأخذون عنه ، كانوا فيما بعد، من أعلام عصرهم في العلم والمعرفة ، وعلي رأس الحركة الفكرية في القرن الرابع الهجري (2) .

وللشاعر المعروف ، أبو عبادة البحتري ، مدائح فيه (3).

له من المؤلفات حوالي ثلاثة وثلاثين مؤلفاً ، يكاد يكون جميعها في

ص: 15


1- « منتخب الأثر » ص 355.
2- « فلاسفة الشيعة » ، ص 172 وما بعدها .
3- « فلاسفة الشيعة » ، ص 172 وما بعدها .

المواضيع الكلامية الهامة(1) .

وقد كان هذا العالم الفيلسوف والمفكر الكبير من أصحاب الإمام الحسن

العسكري (عليه السلام) . وكان حاضراً عند وفاة الإمام العسكري وقد رأي ابنه صاحب الأمر في محضر أبيه(2) .

وقد نقل أبو سهل تفاصيل هذا اللقاء ، حيث تضمن قوله :

طلب الإمام العسكري أن يؤتي له بولده حال مرضه ، وقد كان المهدي آنذاك طفلاً . فجيء بالمهدي إلي أبيه ، وأدّي السلام عليه ، فنظرت إليه وإذا هو درِيّ اللون ، وفي شعر رأسه قطط ، مفلّج الأسنان .

خاطبه الإمام الحسن (عليه السلام) بقوله : « يا سيد أهل بيته اسقني الماء فإني ذاهب إلي ربّي » فأتي له بالماء ، ثم قام الطفل بتوضئة أبيه ، بعد ذلك قال له الإمام العسكري (عليه السلام) : «بُنيّ ، أنت المهديّ ، و أنت حجة الله علي الأرض .... » (3) .

7- طلوع عابر

في ضوء ما تقدم ، فقد عاش المهدي في الخفاء ، ولم يكن لدي الجماهير بشكل عام اطلاع عنه ، ولم يره سوي ثلة قليلة ، وقد مضت حياته علي هذه الوتيرة حتي حل يوم رحيل الإمام الحادي عشر ، يعني يوم الثامن من شهر ربيع الأول عام (260 ) ه . ففي هذا اليوم كانت هناك أربعة بواعث دفعت الإمام المهدي ليعرض نفسه أمام جمع من الناس ، وأن يقف مصحراً بمشهد الأفراد الذين جاؤوا لتشييع ، ودفن الإمام الحادي عشر ، والبواعث

هي:

ص: 16


1- المصدر السابق .
2- سفينة البحار ج 1 ص 676 .
3- « منتهي الآمال » الباب 13 الفصل الخامس

1- لا بد من إمام يقيم مراسم الصلاة علي جنازة الإمام الراحل ، ولأجل رعاية هذه السنة الإلهية ، وهذا السرّ الرّباني ، تحتم علي المهدي (عليه السلام) أن يظهر ، ويقيم الصلاة علي جثمان الوالد .

2- للحيلولة دون وقوع هذا الأمر ، وهو : مجيء شخص من قبل الخليفة لأداء الصلاة علي جثمان الإمام الحادي عشر وإعلان انتهاء خط الإمامة، ووراثة الخليفة العباسي الظالم لخط الإمامة الشيعية .

3- للحيلولة دون أن يطرأ الانحراف الداخلي علي خط الإمامة ، إذ أن جعفر بن علي الهادي أخا الإمام العسكري المعروف و بجعفر الكذاب ، والذي كان بصدد ادّعاء الإمامة ، جاء ليقيم الصلاة علي جثمان الإمام الراحل ، . -كما سيأتي بحثه في الفصل التالي - .

4- لإدامة خط الإمامة الحقة ، وتثبيت الولاية الإسلامية ، وليكون معلومة لدي المؤمنين بالإمامة ، أن هناك إماماً آخر بعد الإمام العسكري وهو الإمام الثاني عشر ، وارث التركة المعنوية ، وحامل الرسالة الإسلامية ، وصاحب الولاية الدينية والدنيوية ، وهو قد ولد وينعم بالوجود والحياة .

كانت هذه البواعث سبباً لمفاجأة الجمع الذين جاؤوا لأداء المراسم بمشاهدة طفل صغير السن ولكن في نهاية الجلال والحياء كشمس وضاءة ، يخرج من خفايا الدار ، وعمه جعفر كان يستعد لإقامة الصلاة علي جثمان الفقيد الراحل ، فينحّيه جانباً ، ويقيم الصلاة علي جثمان الأب .

8- هجوم الغيوم السوداء

نعم ، أصحر المهدي بنفسه في ذلك اليوم ، حمل قدميه من داخل المنزل ووضعهما في خارجه ، ووقف جنب الجماهير ، وبين صفوفها، فأضحي ذلك اليوم يوماً مشرقاً ، لكن هذه الإشراقة الجليلة - طفل صغير يخطو خطوات الكبار ، ويدفع بجعفر الكذّاب جانباً ، ليقف هو نفسه محله ويؤم الناس مصلياً علي جثمان الفقيد الراحل - أماطت اللثام عن الخفي ، فانتشرت

ص: 17

الأخبار علي جناح السرعة ، وطرقت أسماع الجواسيس ، فأفاق سقاك البلاط العباسي علي حقيقة ، إن ذلك الشخص الذي واظبوا سنين للحيلولة دون ولادته ظهر ، وأعلن مسؤوليته عن إدامة نهج الإمامة ، وتحمل أعباء النضال ضد الظلم والظالمين .

عندما سري هذا الخبر ، صدر الأمر - بلا تردد من قبل الخليفة العباسي .

المعتمد -(1) بالهجوم علي منزل الإمام الحسن العسكري ، وتفتيشه . فزمجرت شرطة الخليفة زمجرة الرعد ، وهرعت مسرعة كالبرق .، وخيمت علي دار الإمام العسكري كقزع الغيوم السوداء ، فبحثوا بدقة في كل مكان ، ووثبوا من هذه الحجرة إلي تلك ، وأطلوا من هذه النافذة علي تلك الغرفة ، ومن تلك الغرفة إلي هذه النافذة ، ليعثروا علي المهدي ، ويجلبوه حياً عند الخليفة .

في مثل هذه الظروف طرحت مسألة غيبة الإمام الثاني عشر لأجل بقاء سلالة الإمامة الحقة ، ولأغراض ومصالح أخري . وسوف نتحدث في الفصل الثالث حول الغيبة .

ص: 18


1- أبو العباس أحمد المعتمد ، الخامس عشر من خلفاء بني العباس ، امتدت خلافته من عام 256 حتي عام 279 ه.

الفصل الثاني: الصفات والسيرة

اشارة

ص: 19

ص: 20

الصفات والسيرة

1- الصفات

جمع المحدثون المعتبرون - من الشيعة وأهل السنة - صفات وشمائل الإمام المهدي (عليه السلام) في كتبهم ، في ضوء أحاديث كثيرة جاءت عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ، والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، والأئمة الأخرين .

حنطي اللون ، أزج الحاجبين ، عيناه سوداوان جذابتان واسعتان . عريض المنكبين ، أقني الأنف ، أفرق برّاق الثنايا ، عظيم مشاش المنكبين ، قويّ في بدنه ، مشئن الكفين ، شاحب الوجنتين يميل إلي الصفرة - علي أثر قيام الليل -، علي خده الأيمن خال ، مفتول العضلات ، في رأسه ذؤابة(1) ، مربوع القامة ، غصن بان ، وقضيب ريحان ، هيوب مع هيبة ، يشق رأسه في باذخ السؤود ، نافذ النظرات ، لو صاح بين الجبال لاندكت صخورها، ويملأ نداؤه الأفاق .

ص: 21


1- وقد جاء التعبير في بعض الروايات بقوله (عليه السلام) : « يسير شعره علي منكبيه » . المهدي الموعود .. ح 1 ص 281 .

2- المقام

يري المحدثون وعلماء الإسلام أن التكامل الروحي للإمام المهدي وبلوغه مركز الإمامة في سن الصغر يتفق مع ماضي عيسي المسيح ، ويحيي بن زكريا اللذين جاء ذكرهما في القرآن الكريم ، وقالوا : بين كتفيه أثر يشبه أثر النبوة ، وهو صاحب علم وافر ، وحكمة بالغة ، ولديه تركة الأنبياء .

المهدي ابن النبي ، ومن أولاد السيدة المكرمة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) . وهو الإمام التاسع من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) .

المهدي (9) الحسن العسكري (8) علي النقي (7) محمد التقي (6) علي بن موسي الرضا (5) موسي بن جعفر (4) جعفر بن محمد الصادق (3) محمد بن علي الباقر (2) علي بن الحسين (1) الحسين بن علي . هذا هو المهدي بهذه المشخصات ، وبهذه الخصوصيات ، وعشرات الدلائل والإشراطات التي تقارن ظهوره وتسبقه وتلحقه ، لتكون مؤشرات علي واقعية قضية المهدي ، وأنه إمام جاء النص معيناً له ومن ثم فمهما قالوا ، وأي شخص يتجاوز حدوده فكلامه هراء بجانب التصديق به العقل والحكمة .

المهدي (عليه السلام) غائب الآن . وهو خليفة الحق ، والولي المطلق . هو خاتم الأولياء ، ووصيّ الأوصياء ، والمنقذ الأخير والقائد العالمي، والثوريّ الأكبر ، والمصلح الأعظم . يعتمد الكعبة منطلقاً حيث يرد ، ويأخذ راية رسول الله بيده ، ويُحيي دين الله مطبقاً أحكام الله علي أرجاء المعمورة . وهو يأتي بالسيف ليعيد الأرض التي ملئت بالظلم والجور مليئة بالرحمة والعدل .

3- السيرة

اشارة

وصلنا الكثير من الأفكار حول منهج وسلوك وسيرة المهدي (عليه السلام) من خلال الأحاديث المباركة . وقد أماطت هذه الأفكار اللثام عن مناهج المهدي العملية وسيرته : السيرة الدينية ، والأخلاقية والعملية ، والثورية وغيرها. وحيث إن مناهج المهدي العملية يمكن أن تكون لنا نماذج ومثلا عملية راقية ، يحسن بنا في هذا المجال أن نتحدث مشيرين إلي كل لون من ألوان هذه السيرة .

ص: 22

أ- سيرته الدينية

المهدي خاشع لله كخشوع النسر بجناحيه(1) ، عدلاً مباركاً ذكياً ، لا يغادر مثقال ذرة ، يعز الله به الدين ....

يكون من الله علي حذر ، لا يغتر بقرابته ، لا يضع حجراً علي حجر ، ولا يقرع أحدأ في ولايته بسوء ، إلا في حدّ(2) .

ب - سيرته الخلقية

المهدي معروف بالسكينة والوقار .

أكثر الناس علمأ وحلم ، اسمه اسم النبي وخلقه خلقه (3) .

يسري في الدنيا بسراج منير ، ويحذر فيها علي مثال الصالحين(4).

ج - سيرته العملية :

حين ظهور المهدي (عليه السلام) يعم الود والمساواة إلي الحد الذي يأخذ كل صاحب حاجة من جيب أخيه ما يحتاج دون أي غضاضة(5) ، ولا يربح مؤمن علي مؤمن في معاملة(6).

المهدي سمح بالمال ، شديد علي العمال رحيم بالمساكين(7).

علامة المهدي أن يكون شديداً علي العمال ، جواداً بالمال ، رحيماً بالمساكين(8)

ص: 23


1- المهدي الموعود ، ح 1 ص 280 ، 281 - 282 ، 266، وص 300.
2- المهدي الموعود ، ح 1 ص 280 ، 281 - 282 ، 266، وص 300.
3- المهدي الموعود ، ح 1 ص 280 ، 281 - 282 ، 266، وص 300.
4- المهدي الموعود ، ح 1 ص 280 ، 281 - 282 ، 266، وص 300.
5- الاختصاص الشيخ المفيد ص 26 .
6- وسائل الشيعة ح 12، ص 296 .
7- بحار الأنوارح 10.
8- المهدي الموعود ح 2 ص 277 ،276.

يشبه في إحسانه إلي الناس كمن يلعق أحداً عسلاً أو زبداً(1) . وما لباس القائم إلا القليل وما طعامه إلا الجشب(2) .

د- سيرته الثورية :

يبلغ رد المهدي المظالم حتي لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتي يرده(3) يضع الجزية ويدعو إلي الله تعالي بالسيف فمن أبي قتل ، ومن نازعه خُذل(4) .

إذا قام القائم (عليه السلام) سار إلي الكوفة ، فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس يدعون « البترية » عليهم السلاح فيقولون له : ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة ، فيضع فيهم السيف حتي يأتي علي آخرهم ، ثم يدخل الكوفة فيقتل بها كل منافق مرتاب ويهدم قصورها ، ويقتل مقاتليها حتي يرضي الله عزَّ وعلا(5) .

الزاني المحصن يرجمه ، ومانع الزكاة يضرب رقبته(6) .

جاء في الأثر عن زرارة بن أعين عن الباقر (عليه السلام) قال : قلت له : صالح من الصالحين سمه لي أريد القائم (عليه السلام) فقال : اسمه اسمي ، قلت : أيسير بسيرة محمد (صلي الله عليه و آله وسلم) ؟ قال : هيهات هيهات يا زرارة ما يسير بسيرته ! قلت : جعلت فداك لِمَ ؟ قال : إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) سار في أمته باللين كان يتألف الناس ، والقائم (عليه السلام) يسير بالقتل ، بذلك أمر في

ص: 24


1- المصدر السابق ج 1 ص 297 .
2- بحار الأنوارح 52 ص 359.
3- المهدي الموعود ح 1 ص 282 ، 283 .
4- بحار الأنوارح 52 ص 320.
5- الإرشاد ، المفيد ، بحار الأنوارح 52 ص 338 .
6- إكمال الدين - بحار الأنوارح 52 ص 325.

الكتاب الذي معه ، أن يسير بالقتل ولا يستيب أحداً ؛ ويلٌ لمن ناوأه »(1) . ليس شأنه إلا بالسيف ، لا يستيب أحداً ولا تأخذه في الله لومة لائم .

ه-سيرته السياسية :

حينما يأتي دور حكم المهدي (عليه السلام) ينهي دور حكم الجبارين والمستكبرين ويحول دون نفوذ المنافقين والخائنين السياسي(2) .

تضحي مدينة « مكة » قبلة المسلمين مركزاً لحركة المهدي الثورية ، يجتمع رجال نهضته الأول في هذه المدينة ويلتحقون به فيها .

يبعث بعثاً لقتال الروم فينهي نفوذ اليهود والمسيحية في العالم ، و يستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية ، فيه التوراة الذي أنزل الله علي موسي والإنجيل الذي أنزل علي عيسي . يحكم بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، ويدعو اليهود إلي التوراة فيسلم جماعة كثيرة(3) .

يقاتل ولا يصمد أمامه أي رجل قوة ونهج « سواء أكان من أهل الكتاب أم من أتباع المناهج الأخري » ، ولا يبقي أثر التطبيق أي نهج سياسي وأي لون من ألوان الحكم في العالم سوي حكم الحق ومنهج السياسة القرآنية العادلة .

ص: 25


1- الغيبة ، النعماني - بحار الأنوارح 52 ص 353 - 354.
2- المهدي الموعود ح 1 ص 252 .
3- المهدي الموعود ح 1 ص 254 ، 255 .

وفي هذا الضوء تمتد حكومة المهدي علي شرق العالم وغربه .

ينزل عيسي (عليه السلام) من السماء ، فيصلي خلف المهدي (عليه السلام) ، وينادي : « افتحوا باب بيت المقدس » فيفتخون ، وإذا بالدجال و 70,000 يهودي مسلح معه . وحيث يعلم الدجال أن عيسي قاتله يولي هاربأ حينما يراه .. فيقول عيسي : إن لي فيك ضربة لن تفوتني بها فيدركه فيقتله ، فلا يبقي شيء مما خلق الله يتواري به يهودي إلا أنطقه الله عز وجل ، لا حجر ولا شجر ولا دابة ، إلا قال : يا عبدالله . المسلم هذا يهودي فاقتله . فيطهر العالم من وجود اليهود الملوث(1) .

أجل فإذا قام القائم فلا تبقي أرض إلا نودي فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله(2) .

و - سيرته التربوية : .

إبان حكم المهدي (عليه السلام) يؤتي الناس العلم والحكمة حتي أن المرأة تقضي في بيتها بكتاب الله وسنة رسوله (صلي الله عليه و آله و سلم)(3) .

ولدي هذه الفترة تتوفر القدرة العقلية للجماهير علي مركزية ونباهة ، وتبلغ كمالها بالتأييد الإلهي ، وتظهر الحكمة في الجميع(4) .

وإذا قامت دعائم حكمه أذهب الله عز وجل العاهة عن الشيعة ، وجعل قلوبهم كزبر الحديد ، وجعل قوة الرجل

ص: 26


1- المهدي الموعود ح 2 ص 5، 7.
2- تفسير العياشي ، بحار الأنوارح 52 ص 340 .
3- بحار الأنوار ج 52 ص 352.
4- أصول الكافي ح 1 كتاب العقل ، الحديث 21.

منهم قوة أربعين رجلاً، ويكونون حكام الأرض وسنامها(1) .

ز- سيرته الاجتماعية :

حيث يأتي المهدي (عليه السلام) - وعلي أثر متاعب وحروب تقع - يسحق الظلم والعدوان ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً . ولا يبقي محل في الأرض إلا وهو مستفيض بعدله وإحسانه فينتعش بالحياة حتي النبات، وتتوفر الأحياء الأخري أيضاً علي هذا الإحسان والعدل والقسط(2) .

ويَعُمُّ الغِني والمِكنَة - زمن المهدي (عليه السلام) - كل أفراد الأمة(3) .

تبلغ عدالة المهدي حداً بحيث لا يمس الظلم أي إنسان في أي موقف وبأي شكل . وأول ما يظهر القائم من العدل أن ينادي مناديه أن يسلم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف(4) .

ح - سيرته المالية :

تجمع إليه أموال الدنيا كلها ما في بطن الأرض وظهرها ، فيقول للناس : تعالوا إلي ما قطعتم فيه الأرحام ، وسفكتم فيه الدماء ، وركبتم فيه محارم الله ، فيعطي شيئا لم يعط أحد كان قبله(5) .

ص: 27


1- بحار الأنوار ج 52 ص 317، 335.
2- بحار الأنوار ج 10، هناك الكثير من الروايات المشهورة في هذا الصدد .
3- بحار الأنوار ج 51، ص 146 .
4- الكافي ج 4 ص 427.
5- بحار الأنوار ج 51، ص 29 .

تؤتي الأرض أكلها، ولا تدّخر منها شيئاً ، والمال يومئذٍ كدوس . يقوم الرجل فيقول : يا مهدي أعطني فيقول : خذ(1) .

يقسم الأموال بين الناس بالسوية دون تفضيل لأحد علي أحد(2) .

ط. سيرته الإصلاحية :

المهدي ملبّ ، يبعثه الله غياثاً للناس فتنعم الأمة وتعيش الماشية وتخرج الأرض نباتها ، فلا تمنع السماء شيئأ من قطرها ، ولا الأرض شيئاً من نباتها وتخرج له الأرض أفالين كبدها(3) .

إبان أيامه (عليه السلام) تضع الحرب أوزارها(4) ويطفيء الله به الفتنة العمياء وتأمن الأرض(5) .

ولا يبقي في الأرض خراب إلا عمّره(6) .

أصحاب القائم يحيطون بما بين الخافقين ، ليس من شيء إلا وهو مطيع لهم ، حتي سباع الأرض وسباع الطير تطلب رضاهم في كل شيء، حتي تفخر الأرض علي الأرض وتقول مرّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم(7). وكل رجل منهم ( أي من أصحاب القائم ) يعطي قوة أربعين رجلاً ، وإن قلبه لأشدّ من زبر الحديد، ولو مروا بجبال الحديد لقطعوها . لا يكفون سيوفهم حتي يرضي الله عز وجل(8) .

ص: 28


1- كشف الغمة ، الأربلي - كفاية الطالب ، الكنجي الشافعي - بحار الأنوار ج 51، ص 88.
2- المهدي الموعود ج 1 ص 264، 277 ، 275 ، 288 ، 311، 285، 318، 287، وج 2 ص 11 .
3- المهدي الموعود ج 1 ص 264، 277 ، 275 ، 288 ، 311، 285، 318، 287، وج 2 ص 11 .
4- المهدي الموعود ج 1 ص 264، 277 ، 275 ، 288 ، 311، 285، 318، 287، وج 2 ص 11 .
5- المهدي الموعود ج 1 ص 264، 277 ، 275 ، 288 ، 311، 285، 318، 287، وج 2 ص 11 .
6- المهدي الموعود ج 1 ص 264، 277 ، 275 ، 288 ، 311، 285، 318، 287، وج 2 ص 11 .
7- بحار الأنوار ج 52 ص 327.
8- إكمال الدين ، بحار الأنوار ج 52، ص 327.

أجل ! فبعد تظاهر الفتن وانقطاع الزمن ، حيث يسود الفساد والظلم أرجاء المعمورة ، يبعث الله تعالي مصلحاً عظيماً ليحطم حصون الضلال والضياع ويضيء القلوب المظلمة بنور التوحيد والإنسانية والعدالة(1) .

ننتهي هنا لحديث الإمام علي (عليه السلام) حول المسيرة الإصلاحية للمهدي (عليه السلام) حيث نجد في « نهج البلاغة » ، شهادة الأب في حق ولده .

يَعطِفُ الهَوي علي الهُدَي ، إذا عطفوا الهُدَي علي الهوي ، ويعطف الرأي علي القرآن إذا عَطَفُوا القُرآن عَلَي الرَّأي .

ألا وفي غَدٍ - وسيأتي غدً بما لا تعرفون - ياخُذُ الوَالي مِنْ غَيرِها عُمَّالَهَا عَلَي مَسَاويء أعمَالِهَا ، وتخرج له الأرض أفَالِيذ كَبِدِهَا ، وتُلقِي إلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا، فَيُرِيكُم كيف عَدْلُ السيرة وَيُحيي مَيِّتَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ(2) .

ي - سيرته القضائية :

ما في حكمه ظلم ولا عنت(3) يحكم بالدين الخالص عن الرأي - « آراء الفقهاء وعلماء المذاهب »(4) .

يضع ميزان العدل بين الناس ، فلا يظلم أحداً أحداً(5).

يقوم بقضاء جديد ...(6) .

يحكم المهدي بقضاء داود وآل داود فيقضي بعلمه ولا يطلب من الناس

شاهداً أو بيّنة .

يقول الشيخ المفيد :

ص: 29


1- المهدي الموعود ج 1 ص 310.
2- نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح - ص 195 - 196 .
3- المهدي الموعود ج 1 ص 280 ، 283 ، 284 .
4- المهدي الموعود ج 1 ص 280 ، 283 ، 284 .
5- المهدي الموعود ج 1 ص 280 ، 283 ، 284 .
6- الغيبة ، النعماني ، بحار الأنوار ج 52، ص 349، 354 .

« إذا قام قائم آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) حكم بين الناس بحكم داود (عليه السلام) . لا يحتاج إلي بيّنة ، يلهمه الله تعالي فيحكم بعلمه ، ويخبر كل قوم بما استبطنوه ، ويعرف وليّه من عدوه بالتوسّم(1).

4- العدالة الشاملة

في ضوء المشهور تنبسط العدالة - أيام المهدي (عليه السلام) - علي كل مكان وتشمل كل شيء فتمط العالم وتستغرقه .

فلا ينحصر استغراق العدل وتطبيق العدالة بالعلاقات الإنسانية ، بل سترعي العدالة في قيم أخري ، ويُضحي تجسيد أصول العدالة في المجتمع ، والعلاقات الإنسانية كليًّها وجزئيّها عملاً مدهشاً ومثيراً .

وقد نقلنا من قبل الحديث بصدد التدليل علي رعاية أصول العدالة في حكم المهدي (عليه السلام) إذ يقول :

أول ما يظهر القائم من العدل أن ينادي مناديه أن يسلم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف .

كما روي :

أما والله ليدخُلَنَّ عليهم عدلُه جوفَ بيوتهم ، كما يدخل الْحَرّ وَالقُرً(2) .

يعني أن عدل المهدي سوف ينفذ إلي تفاصيل الحياة الفردية ، ويسودها كما يرد الحر والبرد بيوت الناس فيملأها دون إذن منهم ، ويترك آثاره علي كل شيء. فيمضي كل شيء وفق العدل والقسط ، ويتقبل جوهر العدل والقسط ، وهذه هي العدالة الشاملة والقسط الإلهي .

وقد جاء في بحث آخرلي ما يلي :

... حيث يأتي المهدي يملأ الأرض كلها بالعدل ، لا

ص: 30


1- الإرشاد ص 365 ، 366.
2- بحار الأنوار ج 52 ص 362 .

المجتمعات العامرة فيها فحسب ، بل الأرض كلها ...

فحتي قطرة الماء التي تترشح من العين لا تذهب هدراً ، وحتي ثمرة واحدة من شجرة لا تقتطف إسرافاً أو ظلماً .

فهو يملأ كل مكان بالعدالة والقسط : الخصب والموات ، الصحاري و السهول ، الغابات والسفوح ، المشارق والمغارب ...(1).

5- لماذا السيف ؟

نعم ، هذا هو الموقف : السيف . إذ يضع حدّاً لزمن الموعظة والالتماس . فمنذ سالف الأيام جاء الأنبياء ، وكانوا علي الدوام واعظين للبشر ، راسمين السبيل لهم ، طالبين منهم : أن يؤمنوا ، وأن يعملوا صالحاً .

ولاحظنا .. كم كان إصغاء البشر لتلك الأحاديث ! ، وكيف كان حدّ السيف قدراً الأنبياء والأولياء عند أبناء البشرّية ؟! إلا أنّ يوم المهدي يوم إذلال العتاة القساة . فكم تجاوز الجناة من البشر الأقوياء المتوحشين علي نواميس الباري تعالي ، وكم تعدّوا علي المحرومين والمستضعفين ، وإلي أي حدّ جعلوا الأرض تضج بالظلم والفساد ؟! فإذا جاء المهدي (عليه السلام) فسوف لا يكون الحال كذلك بَعدُ ..

فلا تعود تلك الأيام بَعدَ، حيث يعظ الأنبياء والأئمة والمصلحون ويرشدون الناس إلي السبيل ، ويطلبون منهم أن يؤمنوا ويصلحوا وأن لا يرتكبوا الظلم والذنب . ومن ثم يعكف الكثير من الأشخاص علي الجناية والفساد ، دون إصغاء لما وعظوا به ...

يقتلون الأنبياء ، ويمحقون سننهم ، ويجرّعون المصلحين مرارة السّم ، ويُزهقون أرواح الصالحين والطاهرين ، ويصنعون مشهداً كمشهد عاشوراء . إلّا أنه هيهات ، هيهات في يوم المهدي ، فهو يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً .

ص: 31


1- [البعثة ، الغدير ، عاشوراء ، و المهدي » ] ، للمؤلف ، المقدمة .

وعلي هذا المنوال يطهر جوهر الزمان ويعيد الحياة للإنسانية المحتضرة ، ويحكم القيم العليا ، ويقلع جذور الانحطاط .

فالبشرية في ماضيها لم تفلح في أداء امتحان مشرف ، فقد سحقت نوعها من أجل أهوائها وميولها الحيوانية . فلا بد إذن من انتقام . والمهدي يد الانتقام الإلهي ، المهدي عدوّ السفاكين المستكبرين والفاسدين ، ونصير المخلصين المنعطفين والمستضعفين والصالحين .

يقتل المهدي مقتلة عظيمة حتي يقول أناس : إن هذا الرجل لو كان من آل محمد لما سفك الدّماء بهذا الشكل . لكّنه من آل محمد ، يعني : آل الحق والعدالة ، وآل العصمة والإنسانية . ولهذا يقتل بغية إعادة الإنسانية المهتمة لنصابها، ومن أجل العدالة المخنوقة ، والحق المسحوق ، والعصمة المهتوكة . هو يقتل .. لكنه يقتل المفترسين ، يقتل السفاكين مصاصي دماء الشعوب ، الذين كانوا قبيل ظهوره يمارسون القتل والسفك بالآدميين ، ولا يعتنون ولا يهز إحساسهم ما يقتلون ، ولم يفكروا لحظة واحدة بالدماء التي سفكوها . فهؤلاء الجناة يقتلهم مهدي آل محمد.

فسيف المهدي يَصِلّ بالدم والموت للدمويين المنحطين ، وللمفترسين المتمدنين ، ولقوي الجبروت اللاإنسانية ، ويحمل الحياة والرحمة للإنسانية المعذبة المسحوقة .

سيف المهدي ، سيف الله ، سيف الله المنتقم .

سيف المهدي ، سيف الانتقام من كل الجناة علي طول التاريخ .

6- رحلة في الفضاء

نريد أن نطرح هنا ، وفي هذا البحث مسألة ذات علاقة ، مسألة كبيرة ..

جداً ...

أنت تعلم أن البشرية بعد آلاف السنين من العناء ، والمتابعة علي طريق التجربة واكتشاف الطبيعة والعالم ، وبعد قرون من الفكر والعمل والتجريب ،

ص: 32

وألوان المتاعب التي شاهدتها والآلام التي تجرعتها والقرابين والأموال التي قدمتها ، وبعد مجيء وسعي آلاف العلماء والمفكرين والمجربين علي طول القرون والعصور ، وتوفّرهم علي مراكز علمية، وبذلهم الجهود التي عهدوا بها إلي تلاميذهم وإلي الأجيال من بعدهم(1) . بعد كل ذلك لم يتلمس الإنسان الطريق إلي الفضاء والرحلات القضائية إلا قبل حفنة سنين . ولم يك هذا الاكتشاف إلا خطوات تمهيدية ومحدودة علي هذا الطريق .

فقبل زمننا المعاصر لم يدُر حديث حول رحلة الإنسان إلي الفضاء ولم

تُطرح إمكانية الرحلة إلي السماء بصورة جدية بين البشرية وعلمائها .

بعد جلاء هذه الأفكار نلاحظ الرواية التالية التي وردت عن الإمام محمد

الباقر (عليه السلام) حيث يمضي علي تاريخ صدورها أكثر من ( 1290 ) عاماً :

ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق فصاحبكم يركبه أما إنه سيركب السحاب ، ويرقي في الأسباب أسباب السموات ..(2) .

وقد جاء في رواية أخري - من روايات المعراج - خطاب إلي النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) كما يلي :

يا محمد هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي ، وحججي بعدك علي بريّتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك ، وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم ديني ولأعلينّ بهم كلمتي ، ولأطَهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأملكنّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخّرنّ له الرياح ، ولأذلّلنّ له السحاب الصعاب و لأرقيّنه في الأسباب(3) .

ص: 33


1- واضح أن العلماء المسلمين من الفلكيين والفيزيائيين وغيرهم دوراً كبيراً في هذا الطريق ، وكانت كتبهم مفتاحاً أساسياً لهذه الاكتشافات والعلوم . راجع بهذا الصدد كتاب « علم المسلمين » ، و مصادره ، للمؤلف نفسه .
2- بحار الأنوار ج 52 ص 321.
3- بحار الأنوار ج 52، ص 312.

جاء التعبير في نص الرواية الأولي أن المهدي يذهب إلي السموات بواسطة السحاب المثقل بالرعد والبرق أو الصاعقة . كما جاء الحديث في رواية المعراج حول السحاب . ومن المناسب جدا أن يكون سياق التعبير كنايةً عن مركبة من أشكال المراكب الفضائية الحديثة ، أو مركبة أكثر تطوراً ستستحدث فيما بعد ، أو مركبة سيأمر الإمام المهدي نفسه باستحداثها . وإذا كان النظر إلي نفس السحاب الطبيعي فأهمية خرقه للعادة واضحة جداً . التعبير ب ( أسباب السموات ) الذي ورد في كلا الروايتين يستحق الكثير من العناية . ما هي أسباب السموات ؟ فهل هي طرق لطيّ السماء ، أو أنها أدوات ووسائل متوفرة في الأرض ، ولا بد من اكتشافها ، والاستفادة منها للسفر بواسطتها إلي السماء ؟

منذ اليوم الذي قيلت فيه هذه الروايات يمضي من السنيين بين ( 1290) عاماً إلي (1400) سنة . والذي كان يسود آنذاك في وسط علماء و فلاسفة البشرية ، هو : أن السفر والرحلة إلي السماء محكومة بالاستحالة . فقد كان فلاسفة اليونان علي اعتقاد بأن السفر إلي السموات يستلزم « خرقاً والتياماً » في الأجسام الفلكية والخرق الالتيام في الأجسام السماوية محال . وقد كان هذا الاتجاه وجهة نظر علماء الفلك آنذاك ، وهم أنفسهم فلكيو نظرية بطليموس . ولا بد من القول بأن أولئك لم يعدّوا السماء شيئاً مؤهلاً للسفر من حيث الأساس .

وقد كانت مراكز الحضارة آنذاك علي هذا الوضع الذي أشرنا إليه ، فضلاً

عن بقاع من العالم نظير شبه الجزيرة العربية .

في هذا الضوء فأي علم وأية ثقافة تطرح قضية السفر إلي السماوات ، ومسألة « أدوات ووسائل السفر إلي السماوات » في ذلك الجو بصراحة ويسر ؟ وفي رواية الإمام الباقر (عليه السلام) قيل إن أكثر السماوات عامرة ، وهي محل سكني . ومن الواضح أن هذا النهج هو المعرفة الفضائية الإسلامية التي تستقي من منهج الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) . ولا علاقة لها بعلم الفلك اليوناني وغيره . فالذي كان

ص: 34

سائداً في أوساط علم الفضاء اليوناني إنما هو محدودية الأفلاك والكواكب ، وقد كان الأمر علي العكس تماماً في علم الفضاء الإسلامي ، حيث كان الحديث عن الأبعاد العظمي والكواكب التي لا تحصي والمجرات الهائلة في هذا الكون(1) وطرح مثل هذه الأفكار آنذاك لا يمكن دون الاتكاء علي علم الغيب ، والاطلاع علي الواقع العظيم لعوالم الوجود . وليس هذا العلم إلا علماً من الله حباه لهداة سبيله .

ص: 35


1- راجع بهذا الصدد كتاب « الهيئة والإسلام » للعلامة المجاهد السيد هبة الدين الشهرستاني .

ص: 36

الفصل الثالث: الغيبة

اشارة

ص: 37

ص: 38

الغيبة

1- الغيبة

اشارة

علي أثر هجوم عملاء الخلافة العباسية علي منزل الإمام العسكري (عليه السلام) والتفتيش عن ولده والإمام من بعده ، أضحي جليّاً أن هناك خطراً يهدد حياة إمام المستقبل ، وأيّ خطر !

و هذا الهجوم والبحث للحصول علي المهدي استدعي تدبيراً جدّياً للحفاظ

علي حياة وريث سلالة الإمامة والنبوّة ، ومصلح البشرية الكبير .

هناك الكثير من البحث حول قضية غيبة الإمام الثاني عشر وعللها ، إحدي العلل الظاهرية المحسوسة قضية وضوح ترقب هذا القادم من قبل. الأعداء ، وكانت داعي لوقوع الحدث الضخم « الغيبة » . عبر موازنة الملابسات - التي مرّ ذكرها آنفاً - توفّرت أرضيّة اختفاء الإمام عن الأنظار بحكم الأمر الإلهي وبقدرة وحكمة ربّانيّة .

أ- الغيبة الصغري

صُنف اختفاء الإمام الثاني عشر عن الأنظار إلي مرحلتين :

ص: 39

مرحلة قصيدة الأمد ( الغيبة الصغري ) ، ومرحلة طويلة الأمد ( الغيبة

الكبري ).

كانت المرحلة الأولي غيبة محدودة من ناحيتين : من الناحية الزمانية ،

ومن زاوية أضوائها وآثارها .

فمن الناحية الزمانية لم تدم هذه الغيبة أكثر من سبعين عاماً(1) ، ولهذه

الجهة أطلق عليها و الغيبة الصغري » .

من ناحية أضوائها وآثارها ، لم تكن هذه الغيبة غيبة في تمام الأبعاد ، إذ كانت أضواؤها وآثارها محدودة . يعني أنه برغم اختفاء الإمام (عليه السلام) طوال السبعين عاماً من هذه الغيبة إلاّ أن هذا الاختفاء وتلك الغيبة لم يكونا احتجاباً عن الجميع . بل كان هناك أفراد يلتقون الإمام بصورة من الصور . وكان نوابه الخاصّون ، ينجزون مهام الأمة فيجلبون رسائلها وأسئلتها إلي الإمام - أو يرسلونها -، ويبلّغون الأمة مواقف الإمام وإجاباته . ويفتحون الطريق أحياناً لبعض الأفراد للقاء الإمام الثاني عشر ، وهكذا كان الإمام خلال هذه المدة غائباً من جهة ، ولم يك غائباً من جهة أخري .

ب - الغيبة الكبري

بعد انتهاء مرحلة الغيبة الصغري ، بدأت الغيبة الكبري طويلة الأمد . وهي تلك الغيبة التي تستمر حتي يومنا هذا.

عبر هذه المدة المديدة من الزمن يحل علي الإنسانية أعظم اختبار ، وأكبر

ص: 40


1- من عام 260 إلي عام 329 ه. اعتبر البعض سني الغيبة الصغري من حين ولادة المهدي (عليه السالم) ، يعني : عام (255)، حيث لم يكن للمهدي (عليه السلام) عبر هذه السنين حضور وعلاقات اجتماعية بالشكل الذي يعدّ فيه غائبة بوجه عام وفي ضوء هذا الاعتبار تمتد مرحلة الغيبة الصغري (75) عاماً . كان الشيخ العظيم محمد بن محمد النعمان المفيد أحد أولئك الذين يذهبون إلي هذا الاعتبار يقول في كتابه الإرشاد ، ( ص 346) من طبعته الحديثة : « فأما القصري منهما منذ وقت مولده إلي انقطاع السفارة بينه وبين شيعته ، وعدم السفراء بالوفاة » .

عملية تقييم لإيمان وعمل الخليقة ، ليعلم خلالها - حيث تطل الشمس كل نهار من أفقها وتسطع علي أرجاء المعمورة - كيف يمضي أبناء هذه القرون والعصور حياتهم في أية نقطة من العالم كانوا ، وكيف يستثمرون وجودهم وطاقاتهم وإلي أية محصلة ينتهون ، وأي دور يلعبه الأفراد والجماعات إزاء مسؤولياتهم : الكتاب ، والمفكرون ، المصلحون ، المبلغون ، المربون ، المبتكرون ، القادة ، المقاتلون ، وسائر جماهير البشر الذين يوضعون في هذا الميدان الفسيح ، ويأتون هذا العالم ، عالم السعي والعمل، كيف ينظمون برنامج معيشتهم ، وإلي أي أعمال وممارسات وأي سلوك وأفكار يصيرون علي أثر كينونتهم ووجودهم .

2- النيابة في الغيبة

اشارة

لم يقطع ارتباط الإمام الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام) مع الأمة طوال غيبتيه الصغري والكبري بشكل تام . إذ أن مهمة السفارة والنيابة قائمة في كلتا الغيبتين ، وكانت علاقة الإمام بالأمة عامرة ، ولا تزال ، عن طريق النيابة والنواب .

وكما لحظنا غيبة الإمام الثاني عشر قد انقسمت إلي مرحلتين وكانت علي نحوين ، فالنيابة كذلك أيضا ، يعني أن لها مرحلتين ونحوين :

النيابة الخاصة في الغيبة الصغري ، والنيابة العامة في الغيبة الكبري .

النيابة الخاصة

النيابة الخاصة هي أن الإمام (عليه السلام) يتخذ أشخاصة خاصين كنواب عنه ويحددهم بالا سم والصفات ، ويساهم كل منهم في تعريف الأمة باللاحق له .

النيابة العامة

النيابة العامة هي أن الإمام (عليه السلام) يحدد ضابطا عاما يكون الشخص الذي يصدق عليه هذا الضابط العام صدقاً كاملاً نائباً للإمام ، ويحتل مركز الولاية العامة بحكم هذه النيابة ، ويكون الولي العام لشؤون الأمة الدينية والدنيوية .

ص: 41

النواب الخاضون في الغيبة الصغري

اشارة

في هذا الضوء ، فالأفراد الذين كانت لهم النيابة في عصر الغيبة الصغري وحدّدوا بالصفات والاسم يطلق علي كل منهم « نائب خاص ». والأفراد الذين كانت لهم النيابة بدءاً من شروع الغيبة الكبري ، وبلغوا مرتبة النيابة وفقاً للمقياس المحدد من قبل الأئمة أنفسهم يطلق علي كل منهم « نائب عام » .

يطلق علي «النواب الخاضون » « النواب الأربعة » ، فكان النواب الخاصون أربعة كما يفهم من التعبير الأخير ، وكانوا جميعهم من علماء الشيعة وزهّادها وكبارها .

1- عثمان بن سعيد

أول نائب خاص للمهدي (عليه السلام) هو عثمان بن سعيد الأسدي العمري . توفي كما يبدو بعد عام 260 ه، ودفن في بغداد .

كان عثمان بن سعيد أحد تلامذة وأصحاب الإمامين العاشر والحادي عشر ومن أنصارهما المعتمدين ، فقد ترعرع في ظل الإمامة ، وكان وكيلاً للإمامين العاشر والحادي عشر في حياتهما ، مدحه الإمام علي النقي (عليه السلام) ووثقه ، كما مدحه ووثقه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، وأبرز اطمئنانه به . إثر وفاة الإمام الحادي عشر وشروع الغيبة نُصب عثمان بن سعيد نائباً خاصاً من قبل الإمام المهدي (عليه السلام) ، وأضحي واسطة بين الإمام وقواعد الشيعة .

2- محمد بن عثمان

السفير والنائب الثاني هو محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، توفي عام 300 ه ، ودفن في بغداد .

هو ابن السفير الأول عثمان بن سعيد ، وقد أثني عليه الإمام الحادي عشر ووثقه أيضأ ، عهد عثمان بن سعيد حين وفاته أمر النيابة لابنه محمد بأمر الإمام الغائب ، وأضحي محمد واسطة بين الإمام وقواعد الشيعة . استمرت مدة نيابة وسفارة محمد بن عثمان حوالي «40 » عاماً .

ص: 42

3- الحسين بن روح النوبختي

السفير الثالث هو الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي توفي عام 326 ه.

كان أحد شيوخ محمد بن عثمان المعتمدين . وكان هناك عظيم آخر مورد

اعتماد محمد بن عثمان وأحد أصحابه المقربين وهو جعفر بن أحمد .

كان كلا هذين العظيمين من أهل العلم والإيمان والانقياد والطاعة .. كان

التزامهما الديني علي درجة من الكمال ، حيث كانا منقادين لإمامهما في سائر الشؤون . جاء في الأثر أن البعض كان يتصور أن جعفر بن أحمد سوف يحتل مركز نيابة الإمام الثاني عشر بعد محمد بن عثمان ، وحينما أخذ محمد بن عثمان يعالج سكرات الموت جلس جعفر بن أحمد قرب رأس الجسد المسجي ، كما جلس الشيخ أبو القاسم حسين بن روح عند انتهاء الجسد. وفي هذه الحالة التفت محمد بن عثمان إلي جعفر بن أحمد وقال : « أمرتُ أن أنصبَ أبا القاسم بن روح وصيّاً وأوكل الأمر له » .

وإذ يسمع جعفر بن أحمد هذا الخطاب ينهض من محله ، ويأخذ بيد الحسين بن روح ، ويجلسه عند رأس محمد بن عثمان ، ويجلس هو حيث تنتهي قدما المسجّي .

كما جاء في الأثر أن محمد بن عثمان حينما جمع رجال الشيعة مشايخها

خاطبهم قائلاً :

هذا أبو القاسم الحسين بن روح القائم مقامي ، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر ( عليه السلام ) ، والوكيل والثقة الأمين ، فارجعوا إليه في أموركم ، وعوّلوا عليه في مهمّاتكم ، فبذلك أمرت . وقد بلَّغت ».

4- علي بن محمد السمري

السفير الرابع هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري ، توفي عام

ص: 43

329 ه ، ودفن في بغداد علي مقربة من مثوي العالم والمحدث الكبير ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني .

تعاقب هؤلاء العظام العلماء الأتقياء ، والزهاد الواعون علي مركز النيابة

الخاصة للإمام الثاني عشر ، وكانوا يديرون شؤون الأمة ، ويمثلون واسطة . الارتباط بين الإمام وقواعد الشيعة(1).

الشيخ محمد بن يعقوب الكليني مؤلف كتاب « الكافي » الذي مر ذكره في ترجمة السمري . توفي عام 329، أو 328 ه ، وعلي هذا الأساس فقد كان الشيخ الكليني معاصرة للنواب الأربعة(2) .

النواب العامون في الغيبة الكبري

تقدمت الإشارة إلي أن العلاقة بين الإمام الحجة بن الحسن (عليه السلام) والأمة لم تنفصم في أيِّ من مرحلتي الغيبة ، ففي عصر الغيبة الصغري كانت هناك النيابة والسفارة وكان هناك أربعة متتابعون مشخصون للقيام بدور السفير الخاص والنائب المعين للإمام (عليه السلام) . وحيث انتهت مرحلة الغيبة الصغري بدأت الغيبة الكبري وأمر آخر سفير ونائب خاص « الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري » بترك الوصية وعدم طرح أي فرد بسمة النائب الخاص وإعلان شروع

ص: 44


1- منتهي الأمال ، الباب الرابع عشر ، الفصل الثامن ، كفاية الموحدين ج 3، من الطبعة ذات الأجزاء الأربعة .
2- الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ، من علماء الإسلام الكبار المعتمدين ، أسدي خدمة جليلة لرسالة الإسلام ومذهب أهل البيت (عليهم السلام). لقبه المعروف « ثقة الإسلام ، والاستخدام الجدّي لهذا اللقب يستبطن مغزي هامّاً حيث إن هذا العالم الكبير عاش في عصر الغيبة الصغري وألف كتابه العظيم « الكافي » طوال عشرين عاماً من المتابعة والتحقيق الشاقّ ، وجمعه وفق نظام وترتيب حسن جداً ، ويمكن الحدس أنه كان يتلقي بين الحين والآخر توجيهاً من قبل شخص الإمام المهدي (عليه السلام) . كتاب الكافي ، جاء في طبعته الأخيرة ضمن 8 مجلدات ، انصب الجهد في المجلدين الأولين علي بيان الموقف من العقل والعلم وإيضاح أصول العقيدة والنظرة الإلهية للعالم ، وتفصيل الموقف من مبدأ الولاية و حساسية الحكم الإسلامي ( الإمامة ) ، والأخلاق، وأوضح في ه مجلدات منه أحكام الفقه والقانون الإسلامي ، ووقع مجلد واحد منه في مسائل متفرقة .

الغيبة الكبري .

... في هذا الضوء ابتدأت المرحلة الطويلة للغيبة الكبري .

مرحلة الغيبة الكبري ، يعني مرحلة النيابة العامّة .

في عصر الغيبة الكبري والنيابة العامة - كما أشرنا ۔ وعبر العصور يقف علي رأس المجتمع الإسلامي فقيه جامع الشرائط الفتوي والقيادة ، وترجع الأمة له قائداً لها ، ويكون صاحب « الولاية التشريعية » بالنيابة عن الإمام .

في ضوء هذا الأصل التشريعي تكون مشروعية الحكم وقانونية مصوبات الدولة ولوائحها ، وإسلامية العلاقات السياسية والاجتماعية وشرعية حركة الحياة العامة منوطة بتصويب وإقرار نائب الإمام (عليه السلام) . وحينما لا يعمل نائب الإمام ولايته في نظام حكم ولا يمارس إقرارة له فهو نظام حكم طاغوتي ، إذ أن مثل هذا النظام منقطع الصلة بالله ورسالته ولا علاقة له بالرقابة والإشراف التشريعي الإلهي(1).

ينبغي التذكير هنا إلي أن مركز النيابة العامة فُوضَ من قبل الأئمة

الطاهرين (عليهم السلام) أنفسهم وخصوصا الإمام الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام) إلي العالم الواجد للشرائط ، وعلي هذا الأساس فالتمرد علي أمر مثل هذا القائد الرساليّ ونقض الحكم الصادر منه نقض لحكم الإمام وبالتالي فهو نقض لحكم الرسول ورد علي الله وأحكامه ، والموقف واضح بالنسبة لهذه الحالة . وهذا المفهوم من صلب رسالتنا وديننا ومتن أحاديث أئمتنا ( عليهم السلام ) .

ولا بد من التنبيه علي مسألة أخري في هذا المجال ، وهي أن مركز النيابة لم يكن باستهداف صيانة النظرية التشريعية وحفظها ، ونقلها جيلاً بعد جيل آخر فحسب ، بل يستهدف هذا المركز صيانة الحركة ، وخط التشيع ونقله بأمانة عبر الأجيال ، مضافاً لصيانة التشريع والرسالة الإلهية.

ص: 45


1- هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في كتاب « الحياة » الجزء الثاني الباب الثامن ، الفصل الرابع عشر .

في هذا الضوء يتحتم أن يتمتع الفرد الذي يحتل مركز الريادة في المجتمع الإسلامي بالأهلية واللياقة المنسجمة مع طبيعة الدور الذي يلعبه . وحيث يحتل الرائد مركزه في الأمة علي أساس مقاييس الأعلمية أو الأولوية - كما حددها علماء الشريعة - فلا بد أن يساهم العلماء والمجتهدون الآخرون في حراسة مركز الرائد الاجتماعي ليرفدوا وحدة القيادة وسيادة الرسالة بالحياة . ليكون لدين الله حصنه المنيع ، ولتضمن جماهير الأمة مرجعا واثقأ لها،. وتكون في منأي عن المخاطر الزمنية المختلفة ، وتصان عن فساد الجبارين ، وإضلال الجاهليين والوثنيين، وليستحيل علي قوي الفساد الشيطاني اختطاف أيتام آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) عبر ترويج الأفكار التي نصبت العداء الله والإسلام ، وإشاعة ألوان التربية الحيوانية المنحطة في أوساط أجيالنا وبيئاتنا ، وبفضل حرمة مركز الريادة الاجتماعية هذا يحال دون أن يهز أبناء المادة وعبيد الباطل بناء التربية النبويّة الشامخ ، فتنزوي كلمة الحق وتعلو كلمة الباطل .

3- الأيام ...

قضية الأيام وتداولها بين الأفراد والأمم مسألة في غاية الأهمية . الأيام وعاء الممارسات والأحداث . وحركتها بين الشعوب تمضي علي نهج خاص ، وفق الفلسفة الإلهية للتاريخ .

يقول الله تعالي في سورة آل عمران ، آية 140:

و.. وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ... ) .

كل أيام الزمن امتحان للبشرية ، غير أن أهم مراحل هذا الامتحان العظيم - كما مرت الإشارة - هي مرحلة الغيبة الكبري . وقد أتاح الله تعالي للشعوب هذه الفرصة الامتحانية ، ومنحها اختيارها لتمضي حركة الأيام في أوساطها علي هذا المنوال ، ويقام هذا الامتحان الشامل والعظيم أيضاً .

إلا أن الغيبة وأيامها - من وجهة نظر عاطفية - كانت ولا تزال واقعأ مؤلماً ، إذ أن البعد عن ذلك القدوة الشفيق والمربي المحبوب تنطوي علي فراق مغموم وهجران محرق ، فراق يلهب قلوب الكامل من بني الإنسان والمعتقد من محبّي البشر ، وتذبل فيه الجماهير المؤمنة ولهاً .

ص: 46

وقصة هذا المهجور الحبيب الذي رحل عنهم علي مضاضة الصبر والجلد ، وهم يغطون بالدموع هذا الحقل والزهر الذي لم يطل عليه ساق يلونه

فيمرع ويزهر .

حتي الآن، يستمر هذا البعد سنين طوالاً ، وأمّتنا علي اعتقاد بأن المهدي حيّ - بإذن الله - وأنه يعيش في منأيّ عن أنظار شعوب العالم ، حتي يوم حصول « الاقتضاء التام » ليصحر بإذن الله ، ويمزق حجاب الغيبة ، ويضع قدميه في الوسط الاجتماعي . وعبر ثورة ثائرة هادرة ، ومن خلال نهضة دامية شاملة يفلح في إنقاد الإنسانية المعذبة ، ويُقيم منهج التوحيد علي أرض الواقع ، ويرفع علم العدالة مرفرفة علي قمم الأرض « المعمورة ».

ص: 47

ص: 48

الفصل الرابع : في كتب المال السالفة

اشارة

ص: 49

ص: 50

في كتب المثل السالفة

في كتب السلف ( بشائر )

اشارة

منذ الأيام السالفة وقصة ظهور مصلح آخر الزمان أصل لقاعدة أساسية

رددته البشرية الماضية باستمرار .

يهدينا اليوم الواقعية هذا الأصل في حياة السلف ما نجده عبر الإنسان

القديم من آثار .

فتوريسم « Fotorism » وتعني الاعتقاد بمرحلة آخر الزمان وترقب ظهور منقذ ، تمثل أصلاً مسلماً من حيث الأساس عند الأديان السماوية كاليهودية والزرادشتية والمسيحية ( بمذاهبها الأساسية الثلاثة : الكاثوليك ، البروتستانت ، والأرثوذكس ) وحتي لدي مدّعي النبوّة ، وفي الإسلام علي وجه الخصوص وقد بُسطَ الحديث بهذا الصدد في أبحاث علم الأديان ، قسم دراسة الكتب السماوية(1) .

ص: 51


1- مجلة مجموعة الحكمة ، السنة الثالثة ، العدد 1-2 ، مقال السيد هادي الخسروشاهي .

بشائر وتنبؤات كثيرة حول المهدي ، وظهوره نجدها في ما وقع بأيدينا من الكتب المقدسة وآثار السلف الأخري ، وما وصلنا من مقولات الحكماء القدامي . وقد جمع بعض المتتبّعين قسماً من هذه البشائر والمقولات(1).

وقيل إن هناك بعض الأقوال بهذا الصدد في آثار مصر القديمة . ونشير هنا إلي مجموعة من مصادر بشائر الماضين وأبناء الزمن الداثر .

1- في أفق الزرادشتية

وردت أفكار كثيرة حول آخر الزمان ، وظهور الموعود في كتب وآثار زرادشت والزرادشتية . ومن جملة هذه الأثار :

كتاب اوستا .

كتاب زند .

كتاب رسالة جاماسب(2) .

كتاب قصة دينيك(3) .

كتاب رسالة زرادشت(4) .

طرحت الديانة الزرادشتية موعودين يطلق علي كل منهم اسم « سوشيانت ». وكان هؤلاء الموعودون ثلاثة ، أكثرهم أهمية الموعود الثالث . وقد كانوا يلقبونه ب « سوشيانت المنتصر » وسوشيانت هذا هو الموعود حيث قالوا :

إن سوشيانت المزدية بمثابة كريشناي البراهمة، وبوذا الخامس لدي البوذية ، والمسيح لدي اليهودية ، وفارقليط

ص: 52


1- راجع بهذا الصدد كتاب « بشارات العهدين »
2- من الآثار المنسوبة إلي فرديسنان ، ويشتمل هذا الأثر علي مجموعة أسئلة وأجوبة تبادلها كشتاسب الملك وجاماسب الفيلسوف ، وذهب البعض إلي أن جاماسب صهر زرادشت « دائرة المعارف الفارسية » .
3- لمؤبد منوجهر الكبير .
4- للشاعر الزرادشتي ، زرادشت بهرام بزدو .

عند العيسوية ، وبمنزلة المهدي لدي المسلمين(1) .

سوف نشير إلي أنه كلما طرق حديث « الموعود » في كل زمن ولدي كل قوم وأمة ، وفي كل أرض وبلسان أي نبي أو حكيم جاء هذا الحديث متناسباً في لغة تعبيره واصطلاحاته وأسمائه مع طبيعة الشعب الذي أثير الحديث في أوساطه . والمقصود النهائي من سائر الأسماء والتعابير والإشارات هو موعود آخر الزمان .

وهذا الموعود هو المهدي ، والمهدي الموعود . وتأتي هذه الإشارة في الفصل السادس حينما يكون الحديث حول السلف الغابر تحت عنوان « استمرار الوعد والموعود» كما نشير أيضاً حينما يكون الحديث حول بقية الله (عليه السلام) تحت عنوان « الموعود الأخير ».

2. في العرف الهندي

ورد الحديث حول المنقذ والموعود في أعراف الهنود وكتبهم أيضاً . نظير كتاب « مهابهاراتا » وكتاب « بورانه ها » . قالوا في هذا الصدد :

تذهب الأديان جميعاً إلي أنه في نهاية كل مرحلة من مراحل التاريخ يتجه البشر صوب الانحطاط المعنوي والأخلاقي ، وحيث يكونون في حال هبوط فطري وابتعاد عن المبدأ ، ويمضون في حركتهم مضي الأحجار الهابطة نحو الأسفل ، فلا يمكنهم أنفسهم أن يضعوا نهاية لهذه الحركة التنازلية والهبوط المعنوي والأخلاقي . إذن ؛ فلا بد من يوم تظهر فيه شخصية معنوية علي مستوي رفيع تستلهم مبدأ الوحي وتنتشل العالم من ظلمات الجهل والضياع والظلم والتجاوز . وقد أشير لهذه الحقائق في تعاليم كل دين إشارة رمزية منسجمة مع المعتقدات والقيم الأخري انسجاماً كاملاً .

ص: 53


1- دائرة المعارف الفارسية ، ج 1، 1373 .

فمثلا في الديانة الهندية وفي كتب بورانا ( Purana ) شرح تفصيلي حول مرحلة العصر الكالي ( Kali )، يعني : اخر مرحلة قبل ظهور أوتاراي ويشنو العاشر(1) .

« المعني بالعصر الكالي ، هو آخر الزمان ، فتعد المرحلة المعاصرة « العصر الكالي ».

3- في أفق البوذية

جاء في بعض المصادر والدراسات أن مسألة الانتظار قضية مطروحة في الديانة البوذية . ففي هذا العرف « أي العرف البوذي ، كان هناك انتظار ، والمنتظر هو « بوذا الخامس » .

واضح أن التعبير الوارد في هذه البشائر والإشارات وألوان الانتظار والموعودين يتناسب مع ثقافة شعوب كل دين جاءت في سياقه ، فمثلا في الديانة الزرادشتية «سوشيانت المنتصر » وفي العرف الهندي « اوتارا » وفي البوذية « بوذا الخامس » .

4- في الأفق اليهودي

اليهود الذين يرون أنفسهم أتباع موسي الكليم (عليه السالم) ينتظرون موعود أيضاً . فقد أشير باستمرار إلي الموعود في آثار الديانة اليهودية ... وأسفار . التوراة وكتب أخري لأنبيائهم ، تأتي الإشارة إلي بعض هذه الكتب .

وإذا أردنا الاعتماد علي الأفكار التي جاءت في كتاب « نبوءة هيلد » وحي الطفل، فسوف نضع اليد علي أفكار كثيرة بصدد ظهور الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ومقاطع من تاريخ وسيرة النبي وملابسات بعثته ، وبعض مؤشرات آخر الزمان ، والرجعة ، وإشارات الشخصية الإمام الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام) بل نضع اليد أيضاً علي إشارات حول واقعة عاشوراء(2) .

علي أية حال ، فحيث إن اليهود لم يؤمنوا بالسيد المسيح (عليه السلام) فموعودهم

ص: 54


1- المعارف الإسلامية في العالم المعاصر ، ص 245 .
2- راجع كتاب « بشارات العهدين » ص 7 وما بعدها .

لم يظهر حتي الآن ، وإذا تأملنا في مجموع التراث اليهودي المقدس نجد فيه تصويراً لملامح موعودين ثلاثة :

السيد المسيح (عليه السلام) .

الرسول الخاتم محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) .

الإمام المهدي (عليه السلام) .

في ضوء هذا الأفق يُلوَّنُ الانتظار في اليهودية بلون خاص . فحيث إن هذه الملة لم تتابع أيّاً من السيد المسيح (عليه السلام) ، والرسول محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، فلا بد أن تظل قلقة حساسة إزاء قضية الموعود ، ومفهوم الانتظار .

وعليها أن لا تمر علي كل البشائر والإشارات التي وردت في نصوصها وكتبها مرور عابر سبيل غافل .

اليهود ، لا بد أن يكونوا أشدّ انتظاراً من المنتظرين الآخرين ، وأن يعكفوا بشكل أكبر علي تأمل مفهوم الانتظار ، والاستعداد ليوم الظهور ، وأن يرفعوا اليد عن كل ألوان الظلم والخيانة التي يمارسونها بحق البشرية ، ويخشوا عواقب الظلم والعدوان . فهؤلاء لم يذعنوا لموعودهم المسيح (عليه السلام) والرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) ، إلا أنهم سوف لا ينجون من سطوة الموعود الثالث وعدله .. ولذا يرد في الروايات أن جماعة من اليهود تلتف حول « الدجال »، وتسنده ، وبظهور المهدي ونزول المسيح إلي الأرض يقتل هؤلاء قتلاً جماعياً لتعود ساحة التاريخ والإنسانية نقية من وجود هذه الجرثومة الملوثة(1).

وإليك أسماء جملة من كتب اليهودية والعهد القديم ، التي ورد فيها الحديث عن الموعود :

ص: 55


1- وهذا نموذج آخر لخبث وانحطاط هذه القومية ، فحتي في آخر الزمان لن يخضعوا للحق أيضاً . بل ينضمون لزمرة أنصار الدجال .

كتاب دانيال النبي(1).

كتاب حجّي ( حكّي ) النبي .

كتاب صفينا النبي .

كتاب أشعيا النبي .

وقد جاءت في زبور داود (عليه السلام) أيضأ أفكار بهذا الصدد كما تحدث القرآن عن الزبور ، وتثبيت مبدأ غلبة الصالحين فيه :

( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(2) .

أشير هنا إلي أن البشائر المذكورة في آثار اليهود المقدسة بأجمعها واقعيّة وصحيحة ، وقد تحقق قسم منها، والقسم الأخر سيتحقق ، إلا أن هؤلاء - يعني اليهود - لم يقبلوا منطق الحق لا من المسيح (عليه السلام) ، ولا من الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) [ رغم أن البشارة بهذين النبيين العيظمين قد وردت في كتب اليهود أنفسهم ] ، إلا أنهم سيقبلون بفعل حسام المهدي ..

ونحن علي أمل أن يستوفي أبناء الإسلام الراشدون - قبل حسام المهدي - ثمن كل ألوان القتل والخيانة والفساد والانحطاط والتدنّي الذي صنعته بد المفسدين والظالمين والخونة من هذه العملة المشؤومة المتجاوزة(3) .

وبغضّ النظر عن حقّانيّة اليهود وعدمها، وتسليمهم لمنطق الحق

ص: 56


1- قال بعض المتخصصين من ذوي الفضل والاطلاع علي كتب العهدين : «... إن هناك شواهد جازمة تثبت أن الكتاب تحرير دانيال نفسه . فالنبوءات المسطّرة آخر الكتاب تمتدّ علي طول الفترة من أيام دانيال حتي القيامة واليوم الآخر ، وجاء الحديث فيها حول الدّجال . لغة ووضع وأسلوب كتابة هذا الكتاب ينسجم بشكل كامل مع عصر دانيال .... ».
2- سورة الأنبياء : 105 .
3- يمكن أن يكون بين هؤلاء افراد طيبون يعارضون الأخرين ويسخطون علي الوان الطغيان والجناية التي يمارسونها . وواضح أن هؤلاء في منأي عما نقوله .

وعدمه ، فقد جاء بعد موسي (عليه السلام) سيدنا المسيح (عليه السلام) ونسخ دين موسي وأضحت . الديانة اليهودية ديانة منسوخة وشريعة مهملة عملياً .

وبعد السيد المسيح ظهر محمد بن عبدالله (صلي الله عليه و آله و سلم) نبينا الأكرم « النبي الذي بشر عيسي المسيح (عليه السلام) بقدومه أيضاً »(1) ونسخ الدين المسيحي أيضاً . وأضحت الديانة المسيحية ديانة منسوخة ، وشريعة ملغاة عملياً .

ومنذ فجر الإسلام وحتي اليوم وإلي قيام السباعة ينفرد الإسلام علي وجه الأرض بوصفه الدين السماوي المبني علي أساس الوحي والنبوة . وكتاب الله بين الناس يبقي علي الدوام « القرآن » ، والموعود اليوم هو المهدي (عليه السلام) ، وتضحي كل البشائر والإشارات التي وصلتنا عن طريق الأنبياء وكبار السلف صادقة بحقّ المهدي (عليه السلام) ، وهي تنظر إليه وتلحظ ظهوره ، والمهدي هو المصداق الواقعي لها جميعاً ...

5- في عرف المسيحية

في عرف المسيحية أو في كتب هذا العرف المقدسة قد وصلت إلينا بشائر أوضح وأوفر بصدد موعود آخر الزمان . ومنشأ هذا الأمر يعود إلي :

أولاً ، القرب الزماني ، إذ أنه بظهور السيد المسيح (عليه السلام) اقترب أمر ظهور المهدي (عليه السلام) وفق مقياس الزمن العام .

المنشأ الأخر لهذا الأمر هو : أن حظ آثار المسيحية من التحريف أقل نسبياً مما عليه آثار الملل السابقة . ويرتبط هذا المنشأ بالزمن أيضاً ، إذ أن آثار اليهود المقدسة بدءاً من مرحلة نزولها وصدورها قطعت زمناً أكبر مما قطعته آثار المسيحية بدءأ من مرحلة نزولها وصدورها .

وقد كان هذا الأمر باعثاً لعدم إتاحة الفرصة ليد التحريف والتعمية لتلعب نفس الدور الذي لعبته في آثار اليهودية وتراثها رغم الجهد الذي بذله علماء

ص: 57


1- كما جاء ذلك في القرآن الكريم : سورة الصف آية 6 راجع أيضأ كتاب « بشارات العهدين ».

المسيحية في هذا الصدد ، وأخذهم ظاهرة التحريف بنظر الاعتبار في قبولهم وردهم للأناجيل ، وقد كان نصيب « إنجيل برنابا » القليل من التأييد .

علي أية حال ، فقد جاءت هذه البشائر أيضاً في تراث المسيحية الديني . ونشير هنا إلي بعض الكتب التي وردت فيها البشائر والإشارات حول ظهور الموعود في آخر الزمان :

إنجيل متي .

إنجيل لوقا .

إنجيل مرقس .

إنجيل برنابا .

مكاشفات يوحنا .

***

بسبب هذا الحضور في الثقافات المختلفة ، وفي عقائد وكتب الأمم والملل ، فقد جاء في إحدي زيارات الحجة بن الحسن (عليه السلام) ما يلي :

السلام علي مهدي الأمم ، وجامع الكلم .

ص: 58

الفصل الخامس : في كتب المسلمين

اشارة

ص: 59

ص: 60

في كتب المسلمين

أ- في كتب أهل السنة

في كتب أهل السنة

اشارة

لاحظنا في الفصل الرابع أن مسألة و الموعود ، قد طرحت منذ أيام الزمن السحيق ، وفي عصور ما قبل ظهور الإسلام . وقد صرح أو أشير إلي ظهور المنقذ العالمي الكبير آخر الزمان في كتب الأنبياء وما تركه الحكماء وأهل الرأي السالفون من كتابات وآثار مختلفة . وهذه العقيدة والرؤية ، كما قالوا : « لها مكانتها في أكثر النحل القديمة » .

الآن نحاول أن نري وضع هذه الرؤية في رسالة الإسلام . فهل انحصر أمر المصادر والنصوص حول و المهدي ، في مذهب واحد من المذاهب الإسلامية، أو أن الأمر ليس كذلك؟ حيث إن مصادر وجود وظهور المهدي لم تنحصر في مصادر وكتب مذهب إسلامي خاص . بل إن المصادر والروايات بصدد المهدي موجودة لدي جميع المسلمين ، ولم تك رواية واحدة أو حفنة روايات بل كانت وفرة من الروايات والنصوص المعتبرة والمسندة ؟

1- أصناف الكتب

إن المصادر والروايات الموجودة بصدد المهدوية والمهدي وظهوره ليست

ص: 61

وقفاً علي مذهب من مذاهب المسلمين ، أعني : مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بل وصلتنا مصادر وكتب جميع المذاهب الإسلامية الأخري : الحنفي ، الشافعي ، المالكي ، و ... ، وهي ضاجة بالحديث النبوي حول المهدي وظهوره . ولم يقتصر الأمر علي صنف من علماء مذاهب السنة فيعكف المحدثون وحدهم . علي سبيل المثال - علي إيراد الأحاديث والأفكار ذات العلاقة بالمهدي ، بل مختلف أصناف علماء أهل السنة عكفوا علي طرح أفكارهم ، وإيراد النصوص المتعلقة بالمهدي في دراساتهم المختلفة ، وصرحوا بمقولات ذات أهمية في هذا المجال .

يمكن أن نذكر عبر إحصائية إجمالية لأصناف كتب أهل السنة التي جاءت فيها أفكار وأحاديث وإشارات وأقوال بصدد المهدي وظهوره علي الطريقة التالية :

1 - كتب الحديث .

2 - كتب شروح الحديث .

3 - كتب التفسير .

4 - كتب التاريخ .

5 - كتب المناقب .

6 - كتب التراجم .

7 - كتب الكلام والعقائد .

8 - كتب اللغة والأدب .

9 - كتب التصوف والعرفان .

10- كتب الجغرافية والبلدان .

11 - دواوين الشعراء .

12 - دوائر المعارف والموسوعات .

2- عدد من الكتب

في ضوء الدراسات التي حررها علماؤنا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر حول « المهدي و المهدوية». لا نجد حاجة لنذكر أسماء كتب

ص: 62

إخواننا من أهل السنة . حيث إن الدراسات المذكورة قامت بذكر هذه الكتب وبصورة إحصائية . ولأجل أن لا تخلو الدراسة التي بين أيدينا من مثل هذا البحث ، ولأننا قد ذكرنا في الطبعات السابقة ل « شمس المغرب » أسماء بعض هذه الكتب ( التي يتفق أن لا نجد بعضها مدونة في الدراسات المشار إليها أعلاه ) نحاول هنا ذكر عناوين عدد من الكتب .

وفيما يلي إحصائية لعدد من كتب أهل السنة التي نقلت فيها أحاديث تتعلق بالمهدي (عليه السلام) وجري الحديث فيها حوله وثبتت قطعية قضية المهدي فيها :

1 - الرسالة - محمد بن إدريس الشافعي - توفي 204 ه

2 - مسند أحمد - أحمد بن حنبل الشيباني - توفي 261 ه

3 - صحيح البخاري - محمد بن إسماعيل البخاري - توفي 256 ه

4 - صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج النيشابوري - توفي 261 ه

5 - سنن ابن ماجة - ابن ماجة القزويني - توفي 273 ه

6 - سنن أبي داود - أبو داود السجستاني - توفي 275 ه

7 - جامع الترمذي - أبو عيسي الترمذي - توفي 279 ه

8 ۔ سنن النسائي - أحمد بن شعيب النسائي - توفي 303 ه

9 - حديث الولاية - محمد بن جرير الطبري - توفي 310 ه

10 - مستدرك الصحيحين - الحاكم النيشابوري - توفي 405 ه

11 - شعب الإيمان - أبو بكر البيهقي - توفي 458 ه

12 - الاستيعاب - ابن عبد البر القرطبي - توفي 463 ه

13 - تاريخ بغداد - أبو بكر الخطيب البغدادي - توفي 463

14 - مصابيح السنة - أبو محمد الفراء البغوي - توفي 516 ه

15 - كشف الأسرار - رشيد الدين الميدي - توفي بعد عام 520

16 - تاريخ مواليد الأئمة - أبو محمد بن الخشاب - توفي 567 ه

17 - مفاتيح الغيب - فخر الدين الرازي - توفي 606 ه

18 - جامع الأصول - مجد الدين بن الأثير - توفي 606 ه

ص: 63

19 - الفتوحات المكية - محيي الدين بن عربي - توفي 638 ه

20- عنقاء المغرب - محيي الدين بن عربي - توفي 638 ه

21- مطالب السؤول - ابن طلحة الشافعي - توفي 652 ه

22 - تذكرة خواص الأمة - سبط بن الجوزي - توفي 654 ه

23 - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد المدائني - توفي 655 ه

24 - فرائد السمطين - شيخ الإسلام الحمويئي - توفي 722 ه

25 - شرح الدائرة - صلاح الدين الصفدي - توفي 764 ه

26- فصل الخطاب - الخواجه البارساي البخاري - توفي 822 ه

27 - الفصول المهمة - ابن الصباغ المالكي - توفي 855 ه

28 - جواهر العقدين - نور الدين السمهودي - توفي 911 ه

29 - الجامع الصغير - جلال الدين السيوطي - توفي 918 ه

30 - اليواقيت والجواهر - عبدالوهاب الشعراني - توفي 973 ه

31 - الصواعق المحرقة - ابن حجر الهيثمي - توفي 974 ه

32 - روضة الأحباب - جمال الدين الشيرازي - توفي 1000 ه

33 - كنوز الحقائق - زين الدين المناوي - توفي 1031 ه

34 - السيرة الحلبية - نور الدين علي الحلبي - توفي 1044 ه

30 - إسعاف الراغبين - أبو العرفان الصبان - توفي 1206 ه

36 - ينابيع المودّة - القندوزي الحنفي - توفي 1293 ه

37 - الفتوحات الإسلامية - أحمد زيني دحلان - توفي 1304 ه

38 - المنار - الشيخ محمد عبده - توفي 1323 ه

39 - البيانات - أبو الأعلي المودودي - معاصر

40 - مذاهب الإسلاميين - الدكتور عبد الرحمن بدوي - معاصر

3- الكتب الخاصة

ما تقدم في الفقرة السابقة عبارة عن إحصائيّة لبعض كتب علماء أهل السنة - لا جميعها - وهي من الكتب التي تضمنت حديثاً وفصولاً من البحث حول المهدي (عليه السلام) . فقد عكف علماء السنة في هذه الكتب علي نقل الأحاديث

ص: 64

المتعلقة بالمهدي ، وتحدثوا حول خصائصه وسيرته وطريقة ظهوره وحكومته ، و ..

وفي هذه الكتب جري الحديث حول موضوع أن المهدي (عليه السلام) من أهل

بيت الرسول الأكرم ، ومن أبناء علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) .

كما أكّدوا علي موضوع أن المهدي (عليه السلام) قد ذكره الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) وعرّفه ، وبهذا فقد طرحت هذه القضية الخطيرة « المهدوية » من قبل رسول الإسلام ، وقد أشار أيضاً إلي خصوصيات المهدي و بَشَّرَ بظهوره آخر الزمان ، وقد أكد بالقول مرارة علي أن المهدي يأتي ليملأ الأرض بالقسط والعدل بعد أن امتلأت بالظلم والجور . وقال الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) نفسه :

« لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتي يخرج رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ... » والهدف من هذا البيان هو التأكيد علي حتمية ظهور مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) .

و بعد ما مر من بحث نزمع هنا . وفي هذه الفقرة من هذا الفصل - نوّد أن نشير إلي أن هناك مسألة أخري في التراث الثقافي الإسلامي تستحق الكثير من العناية ، وهذه المسألة هي أن علماء أهل السنة لم يقتصروا في بحثهم حول المهدي (عليه السلام) علي ذكر الأحاديث المتعلقة بالمهدي وضبط أسانيد هذه الأحاديث في كتبهم ، ومتابعة مقولات وكتابة فصول بهذا الصدد ، وإنشاء قصائد المدح والثناء في مناقب المهدي والتطلع الأمل لدولته ، نعم لم يقتصر علماء أهل السنة علي هذه الأمور ، بل قاموا - شأنهم شأن علماء التشيع - بتأليف كتب خاصة تتمحور حول المهدي وخصوصيات وضعه وسيرته . وحينما يتقدم فرد من وسطهم بنظرية سلبية حول المهدي والأحاديث المتعلقة به يتلقون وجهة نظره باعتبارها مخالفة لتعاليم وسنة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) . ولم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء مدّعي الباطل ، بل كتبوا في رده ، وأثبتوا صحة الأحاديث المتعلقة بالمهدي وأثبتوا واقعية أمره .

هذه المسألة ذات أهمية بالغة في تاريخ ثقافة المسلمين ودراساتهم ،

ص: 65

وتستحق المزيد من العناية من قبلنا نحن الشيعة ، ومن قبل أهل السنة أنفسهم أيضاً .

اتّساع دائرة هذه الدراسات - بشكلها الأعم مما جاء في الفقرة السابقة ، وما سيجيء في هذه الفقرة - تنتهي بنا بوضوح إلي إثبات قطعية أمر المهدي (عليه السلام) في الإسلام . وتوضّح أيضاً أن المهدي قد شُخّص وعُيّن بذلك الإمام الذي توفّرت فيه صفات شاخصة، والذي تسبق وتقارن وتعقب ظهوره دلائل وإرهاصات محددة .

علي هذا الأساس فكل ما قاله مذعو المهدويّة ، وما نسبه تجّار الدين ومحّرفوه ، وما صنعته أيادي عملاء السياسة الأجنبية كل هذا بأجمعه ثرثرة لا طائل تحتها . العناصر التي ادعت هذا المركز لنفسها إما أن تكون عناصر فقدت توازنها بإشفاق ، أو هم عباد الجاه والمنصب ، أو محبو الدنيا المفسدون ، أو عملاء خائنون ، أو مهرّجون هامشيّون . كما أن العناصر التي تذعن لمثل هذا الادعاء الواهي قبل أن تتحقق إرهاصاته ودلائله ، ودون أن تلوح في أفق المجتمع البشري علائم الاستقرار - إمّا أن تكون عناصر أغواها التضليل، أو بُلهَاء غمرتهم السفاهة ، أو عملاء مغرضين ...

ونحن في هذه الفقرة التي تحدثنا فيها عن دراسات علماء أهل السنة التي خصصت للبحث حول المهدي (عليه السلام) وخصوصياته ، نذكر أسماء عدد من هذه الدراسات والكتب :

1 - إبراز الوهم المكنون ،

من كلام ابن خلدون .

أحمد محمد صديق المغربي .

2- أخبار المهدي

حماد بن يعقوب .

3- الإذاعة ،

لما كان وما يكون بين يدي الساعة .

محمد صديق خان البخاري .

ص: 66

4 - الأربعين .

أبو نعيم الأصفهاني .

5- البرهان ،

في علامات مهدي آخر الزمان .

علي بن حسام الدين المتقي صاحب كتاب «كنز العمال » .

6- البيان ،

في أخبار صاحب الزمان .

أبو عبدالله محمد بن يوسف النوفلي الكنجي الشافعي .

7- الرد ،

علي من حكم وقضي : أن المهدي الموعود جاء ومضي .

ملا علي القاري الحنفي المكي .

8- العرف الوردي ،

في أخبار المهدي .

جلال الدين السيوطي .

9- العطر الوردي ،

في شرح القطر الشهدي ، في أوصاف المهدي .

محمد بن محمد البلبيسي .

10 - القطر الشهدي ،

في أوصاف المهدي (نظم ) .

شهاب الدين الحلواني .

11 - المشرب الوردي ،

في أخبار المهدي .

12 - المهدي .

شمس الدين بن القيم .

13 - الهداية الندية ،

للأمة المحمدية ، في فضل الذات المهدية .

الشيخ مصطفي البكري .

ص: 67

14 - تحديق النظر ،

في أخبار الإمام المنتظر .

محمد بن عبد العزيز بن مانع ( من علماء نجد ، القرن الرابع عشر ) .

15 - تلخيص البيان ،

في علامات مهدي آخر الزمان .

ابن كمال الباشاي الحنفي .

16 - عقد الدرر ،

في أخبار المهدي المنتظر .

يوسف بن يحيي المقدسي السلمي(1) .

17 - علامات المهدي .

جلال الدين السيوطي .

18 - فوائد الفكر ،

في المهدي المنتظر .

يوسف الكرمي المقدسي .

19 - مناقب المهدي .

الحافظ أبو نعيم الأصفهاني .

20 - نعت المهدي .

الحافظ أبو نعيم الأصفهاني .

اليس الجدول أعلاه بمستوعب لكل الكتب التي ألفها علماء أهل السنة بخصوص المهدي (عليه السلام) ، فهناك كتب أخري لم تدرج في هذا الجدول من قبيل :

القول المختصر في علامات المهدي المنتظر .

للحافظ أبي العباس أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي ( المتوفي سنة 974 ه )(2) وكتب أخري لا بدّ من تتبعها في الفهارس المحققة .

ص: 68


1- يظهر أن هذا الكتاب هو عين الكتاب الخطي في ( مكتبة الإمام الرضا (عليه السلام) بمشهد ) باسم « عقد الدرر في المهدي المنتظر » تأليف يحيي السلمي الشافعي وقد ضبط تحت رقم (184).
2- فهرست الكتب والدراسات حول المهدي (عليه السلام)/8.

4- ملاحظات حول الكتب

تدور حول الكتب التي ذكرنا - عدداً منها - مجموعة ملاحظات ينبغي الالتفات إليها :

أ. تقوم الكتب التي ألفت بخصوص المهدي (عليه السلام) علي أساس الأحاديث النبوية المباركة ، كما تعتمد الفصول التي بجت في الكتب الأخري نفس الأساس .

ب - رويت في هذه الكتب مجموعة أحاديث - ملفتة للنظر - حول المهدي .

ج - طرحت بعض الآيات القرآنية بصدد المهدي وقضاياه في بعض هذه الكتب ( وبالأخص كتب التفسير منها ) .

د - هناك كتب - من بين هذه الكتب . قد ألفت قبل ميلاد المهدي .

ه - هناك كتب - من بين هذه الكتب - قد ألقت في عصر الغيبة الصغري » .

و - توجد بين هذه الكتب ، أكثر كتب أهل السنة اعتباراً ، من قبيل ( الصحاح الستة )(1) ، ومسند أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي .

ز - الكثير من هذه الكتب ( ولعله من الممكن القول : بأن جلّها ) قد ألّف

ص: 69


1- الصحاح جمع و الصحيح ، ك ( عظام ) جمع ( عظيم ) و( كرام ) جمع ( كريم ) ، « والصحاح : الستة عنوان لستة مجاميع حديثية من كتب الحديث . وتعتبر عند أهل السنة والجماعة أوثق كتب الحديث . وهي : صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، سنن أبي داود ، سنن ابن ماجة ، سنن النسائي ، جامع الترمذي . » . يعتبر أهل السنة الأحاديث المنقولة في هذه الكتب أحاديث صحيحة وهي كلمات النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) . ويأتي اعتبارها بعد القرآن الكريم خصوصا صحيحي « البخاري ، ومسلم ، . ومؤلفو هذه الكتب أوثق علماء عالم التسنن وأكثرهم اعتباراً . ويطلق علي بعض الصحاح الستة . كما لاحظنا « سنن » جمع «سنة » من قبيل « سنن أبي داود » لاشتمالها علي حديث وسنة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) . وقد ذكرنا في الفقرة الثالثة من هذا الفسل أسماء الكتب مصحوبة بتاريخ وفيات مؤلفيها من الرقم (2) حتي (8) .

في محيط خال من أي لون من ألوان الارتباط بالتشيع ومجتمعه وجوه ، وقد عبرت عن حركة الثقافة الإسلامية السنية ، ومثلت الميراث العلمي والروائي للسنة أنفسهم .

ح - أدرجت مفاهيم وأفكار وقضايا إسلامية مختلفة حول المهدي في هذه الكتب ، كما ذكرت فيها مقولات وكلمات تلفت النظر من قبل علماء ومحدثي ومفسري أهل السنة أنفسهم .

5- أقوال علماء السنة

يحسن بنا الآن أن نورد بعض أقوال علماء أهل السنة وإخواننا في القبلة والوجهة ، وما سوف نورده نموذج لعشرات الأقوال التي ذكرها هؤلاء العلماء في كتبهم علي طول عصور ومراحل التاريخ الإسلامي .

1- ابن حجر الهيثمي الشافعي :

« أبو القاسم محمد ( الحجة ) ، وعمره عند وفاة أبيه كان خمس سنين آتاه الله الحكمة ويسمي القائم المنتظر »(1) .

2- عماد الدين بن كثير الدمشقي :

بصدد تفسير الرايات السود التي وردت في روايات المهدي ، قال ابن كثير : «هذه الرايات السود ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية . بل رايات سود تأتي صحبة المهدي »(2) .

3- ابن أبي الحديد المدائني :

قال : « قد وقع اتفاق الفرق من المسلمين جميعا علي أن الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه ، يعني : المهدي »(3) .

ص: 70


1- المهدي الموعود .. ج 1 ص 200.
2- المهدي الموعود ج 2 ص 72.
3- شرح نهج البلاغة ج 2 ص 530 ، نقلاً عن منتخب الأثر هامش ص 3- 5.

4 - صدر الدين القونيوي :

«عليكم بعد موتي بيع كل ما لدي من كتب في الطب والفلسفة ، وكذا كتب الفلسفة والفلاسفة ، وتصدقوا بثمنها علي الفقراء واحفظوا كتب التفسير والحديث والتصوف في مكتبتي ، اقرأوا في الليلة الأولي من وفاتي كلمة التوحيد ، لا إله إلا الله ، سبعين ألف مرة ، وأبلغوا سلامي المهدي (عليه السلام) »(1) .

5 - محمد بن بدر الدين الرومي :

« ... اختتم الله تعالي النبوة التشريعية بواسطة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وسوف لا يأتي بعد ذلك نبيّ حتي يوم القيامة ، كما سيختتم الله الولاية التامة والإمامة العامة بواسطة ابن النبي الصالح ، الذي يواطيء اسمه اسمه «محمد» وكنيته كنيته « أبو القاسم » . وهذا الولي هو الذي بشروا بأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ، وسيظهر فجأة .

وسيكشف الله كل البلايا والمصائب التي حلت بهذه الأمة ببركة ظهوره وحضوره ! إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً »(2) .

6- جلال الدين السيوطي :

« أخرج جلال الدين في كتاب العرف الوردي حديثا عن أحمد بن حنبل والترمذي والطبراني بأسانيدهم عن عبدالله بن الحرث بن جزء الزبيدي قال : قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : يخرج الناس من المشرق (خراسان ) فيوطئون للمهدي سلطانه ، وهم أهل الرايات السود المذكورون في الحديث وهم الذين أمر النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بمبايعة الناس مع أميرهم وهو المهدي (عليه السلام) »(3) .

7 - الشيخ عبد الحق الدهلوي :

« قد تظافرت الأحاديث البالغة حد التواتر في كون المهدي من أهل البيت

ص: 71


1- الإمام الثاني عشر هامش ص 78 ، نقلناه بتصرف .
2- الإمام الثاني عشر هامش ص 77 ، نقلناه بتصرف .
3- المهدي الموعود ج 2، ص 72.

من أولاد فاطمة »(1) .

8- الشيخ أبو العرفان الصبان :

« قد تواترت الأخبار عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بخروجه ( يعني : المهدي ) ، وأنه من أهل بيته وأنه يملا الأرض عدلاً »(2) .

9- أبو الفوز محمد أمين البغدادي :

والذي اتفق عليه العلماء أن المهدي هو القائم في آخر الوقت وأنه يملأ الأرض عدلاً ، والأحاديث فيه ، وفي ظهوره كثيرة ... »(3) .

10 - الشيخ منصور علي ناصيف :

الباب السابع : في الخليفة المهدي (رضي الله عنه) .

« اشتهر بين العلماء سلفا وخلفا أنه في آخر الزمان لا بد من ظهور رجل من أهل بيتي يسمي المهدي يسولي علي الممالك الإسلامية ، ويتبعه المسلمون ، ويعدل بينهم ، ويؤيد الدين ، وبعده يظهر الدجال ، وينزل عيسي فيقتله أو يتعاون عيسي مع المهدي علي قتله ، وقد روي أحاديث المهدي جماعة من خيار الصحابة ، وأخرجها كبار المحدثين ، كأبي داود والترمذي ، وابن ماجة ، والطبراني ، وأبي يعلي ، والبزاز والإمام أحمد والحاكم رضي الله عنهم أجمعين .... وعلي هذا أهل السنة سلفاً وخلفاً .... »(4) .

11 - الشيخ محمد عبده :

يعلم الخاص والعام أنه ورد في علامات الساعة من الأخبار أنه يخرج رجل من آل بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) يقال له المهدي ، يملأ الأرض عدلاً ، بعد أن تكون قد ملئت جوراً ، وينزل في آخر مدّته عيسي بن مريم من السماء ، فيرفع الجزية ويكسر الصليب ويقتل المسيح الدّجال ، وليس هذا مقام تحرير هذه المسألة ، وإنما اقتضت الحال أن نذكر من ضررها أنها لانتظار المسلمين لها

ص: 72


1- منتخب الأثر ، ص 3- نقلا عن حاشية صحيح الترمذي ج 2 ص 46.
2- منتخب الأثر ، ص 3- نقلا عن إسعاف الراغبين ، ب 2 ص 140 .
3- منتخب الأثر ، ص 4 - نقلاً عن سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب ص 78 .
4- منتخب الأثر ، هامش الصفحة 4 ، 5 - بقلا عن غاية المأمول ، ح 5 ، ص 632 .

و يأسهم من إعادة عدل الإسلام ومجده بدونها ، قد كانت مثار فتن عظيمة ، فقد ظهر في بلاد مختلفة وأزمنة مختلفة أناس يدعي كل واحد منهم أنه المهدي المنتظر يخرج علي أهل السلطان ويستجيب له كثير من الأغرار ، فتجري الدماء بينهم وبين جنود الحكام كالأنهار ، ثم يكون النصر والغلب للأقوياء بالجند والمال علي المنتصرين بتوهّم التأييد السماوي وخوارق العادات ، وقد ادّعي هذه الدعوي أيضاً أناس من الضعفاء أصابهم هوس الولاية والأسرار الروحية فلم يكن لها تأثير يذكر »(1)

12 - أحمد أمين المصري : « يؤمن أهل السنة بالمهدي والمهدوية أيضاً »(2) .

نضيف في خاتمة هذه الفقرة أن : الحافظ الكنجي الشافعي في كتاب « البيان في أخبار صاحب الزمان » نقل فتوي أربعة من كبار علماء المذاهب السنية الأربعة حول المهدي (عليه السلام) ، وهم :

1 - الحافظ بن حجر الهيثمي - من وجوه المذهب الشافعي

2 - ابو السرور أحمد الحنفي - من وجوه المذهب الحنفي

3- محمد بن محمد المالكي - من وجوه المذهب المالكي

4 - يحيي بن محمد الحنبلي - من وجوه المذهب الحنبلي

وقد جاء في فتوي هؤلاء النفر الأربعة : «صحة القول بظهور المهدي ، وأنه قد وردت الأحاديث الصحيحة فيه وفي صفته وصفة خروجه ، وما يظهر من الفتن قبل ذلك كخروج السفياني و ... وصرح ابن حجر بتواترها وأنه من أهل البيت » .

6- من كتاب « كفاية الموحّدين »

نقل العالم المحقق السيد إسماعيل العقيلي الطبرسي المتوفي عام 1321 هجري في كتابه العقائدي « كفاية الموحّدين » ، وفي المقالة الأولي من الفصل الثاني عشر من باب الإمامة أحاديث كثيرة حول المهدي والظهور وعلامات

ص: 73


1- تفسير المنار ح 6، ص 57.
2- راجع المهدي المنتظر والعقل ، محمد جواد مغنية ، ص 59.

الظهور من مصادر معتبرة . وإليك بعض مصادره :

صحيح البخاري - صحيح مسلم - سنن أبي داود - سنن ابن ماجة - سنن النسائي - مسند أحمد بن حنبل – الجمع بين الصحيحين ، لأبي عبدالله الأزدي الحميدي - الجمع بين الصحاح الستة ، لزرين بن معاوية العبدري - جامع الأصول ، لمجد الدين بن الأثير - فردوس الأخبار ، للديلمي - المعجم الكبير ، للطبراني - فرائد السمطين ، للحمويئي - حلبة الأولياء ، والأربعين ، لأبي نعيم - غريب الحديث ، لابن قتيبة - تفسير الثعلبي - الجرح والتعديل، للدارقطني - كفاية الطالب ، والبيان ، للكنجي الشافعي .

يقول المؤلف عند البدء بنقل الأحاديث :

« إن ما وصل من أخبار عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، والتي نقلها رواة وعلماء أهل العامة من المسلمين في صحاحهم وكتبهم المعتبرة ، يمثل كل منها نصاً صريحاً في إمامة وخلافة هذه النخبة المستخلصة من العالمين . ولا يبعد أن تكون هذه الأخبار في كثرتها وتظافرها بحجم الأخبار الواردة في « غدير خم » بحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما سيظهر ذلك قريباً . وقد روي الحافظ أبو نعيم في كتاب « حلية الأولياء » اثني عشر حديثاً بأسانيد صحيحة معتبرة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) تنصّ علي إمامة وخلافة المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) ....» .

ثم يقول في نهاية هذه المقالة من الفصل المذكور :

« إن هذه السبعين حديثا بعض الأخبار ، التي نقلها علماء العامة في كتبهم ومؤلفاتهم بطرقهم و أسانيدهم ، وهي نصّ صريح عن رسول الله في إمامة وخلافة حجة الله صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه - علي أننا لم ننقل أكثر الأخبار التي وردت في هذا الباب عن علماء العامة ... » .

ص: 74

ثم يمضي في حديثه قائلاً :

« مضافاً إلي هذه النصوص هناك الكثير من الروايات التي أوردوها في كتبهم عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، والتي تتحدث عن . أوصاف المهدي صاحب الزمان .. فقد روي الحافظ أبو نعيم في كتاب « حلية الأولياء » بسنده عن حذيفة أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال : المهدي رجل من أولادي « أو أبنائي » وجهه كالكوكب الدري ....

وروي الحسين بن مسعود الفراء البغوي عن ابن عباس عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : المهدي طاوس أهل الجنة ...

وقد ذكر ابن الأثير في « جامع الأصول » عشرة أحاديث في خصوص خروج المهدي وصفاته .

وقال الشافعي : إن الأخبار بشأن المهدي، التي وردت عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بلغت حد التواتر .

ونقل الثعلبي الأخبار الخاصة بالمهدي بخمسة طرق ...

كما روي أبو نعيم في كتاب « الأربعين »، و « العوالي » ، و « الفوائد » ما يقرب من أربعين حديثاً في باب خروج المهدي وأوصاف هذا العظيم ... »(1) .

7- تواتر أحاديث المهدي

اشارة

بلغت الأحاديث النبوية التي تدور حول المهدي (عليه السلام) في كتب وأسانيد علماء المذاهب الإسلامية حداً وافراً ، حيث يندر أن يبلغ الحديث النبوي هذا الحد في موضوع آخر . وهذا الواقع ، أعني : وفرة الأحاديث المذكورة وكثرة عدد رواتها المختلفين في أسانيد وطرق رواة أهل السنة واضح بجلاء. وهذا الواقع نفسه أضحي دافعاً لعلماء الحديث وحقاظ أهل السنة المرموقين

ص: 75


1- كفاية الموحدين ج 3 ص 281 - 297 .

ليصرّحوا - كلّ في محلّه - بتواتر أحاديث المهدي .

يقول الحافظ أبو عبدالله الكنجي الشافعي « المتوفي عام 658ه، في كتابه « البيان »:

« تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) في أمر المهدي (عليه السلام)(1) .

يقول حافظ الحديث المعروف ابن حجر العسقلاني الشافعي « المتوفي عام 852ه » والذي يدعي ب « حافظ العصر » في كتابه ( فتح الباري ) علي شرح صحيح البخاري :

تواترت الأخبار بان المهدي من هذه الأمة وأن عيسي (عليه السلام) سينزل ويصلّي خلفه(2) .

وعدا هذين المحدثين المعروفين هناك علماء آخرون صرّحوا بتواتر الأحاديث النبوية بصدد المهدي ، وقد جاءت هذه التصريحات في مصادرها ونحن بدورنا نتجاوز نقل هذه التصريحات هنا .

إلا أن الواقع المشار إليه هو الذي دفع القاضي محمد الشوكاني اليمني ليسمّي رسالته في هذا المجال ب « التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر و الدجال والمسيح » ، ويقول بهذا الصدد :

« .... وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر ، كما لا يخفي علي من له فضل اطلاع . فتقرر بجميع ما سقناه أن

الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة »(3) .

إن موضوع إسلامية وقطعية قضية المهدي بلغت حداً من التسليم والشهرة حيث طرحها علماء اللغة والاصطلاح من أهل السنة تعقيباً علي كلمة « المهدي » . ومن جملتهم جمال الدين ابن منظور الإفريقي المصري ( المتوفي عام 711 ه ) حيث يقول في كتابه اللغوي الضخم والمعتبر ( لسان العرب ) ما يلي :

ص: 76


1- منتخب الأثر ، هامش الصفحة الخامسة .
2- منتخب الأثر ، هامش الصفحة الخامسة .
3- منتخب الأثر ، هامش الصفحة الخامسة .

المهدي الذي قد هداه الله إلي الحق ، وقد استعمل في الأسماء حتي صار كالأسماء الغالبة ، وبه سمي المهدي الذي بشر به النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ، أنه يجيء في آخر الزمان(1) .

كما أن المحدّث والأديب وعالم الاصطلاح العربي المعروف مجد الدين ابن الأثير الشافعي ( المتوفي عام 606 ه ) أشار إلي هذا الموضوع في كتابه ( النهاية ) ، ومرتضي الزبيدي الحنفي ( المتوفي عام 1205 ه) في قاموسه اللغوي « تاج العروس » ، وقد عَقبَ الزبيدي علي ما أورد بالدعاء التالي :

« جعلنا الله من أنصاره »(2)

إيضاح :

في خاتمة هذا المقال نشرح الاصطلاح الروائي « المتواتر » : المتواتر ، يعني : المتوالي ، وهو اسم فاعل من مصدر « التواتر » وهو من « باب التفاعل » يعني التوالي .

المتواتر ، من مصطلحات « عالم الحديث » . والحديث الذي يبلغ حد التواتر يطلق عليه « المتواتر » .

ما هو حد التواتر ؟

الحديث الذي يرويه رواة متعددين - بين 10 - 20. راوياً - من مختلف طبقات الرواة وأجيالهم علي أن يكونوا في مواقع مختلفة ، بحيث يمتنع نسبة الكذب والغفلة لهؤلاء ، مثل هذا الحديث يبلغ حد التواتر وهو حديث

« متواتر »(3) .

ص: 77


1- لسان العرب المحيط ج 3 ص 787.
2- منتخب الأثر ، هامش الصفحة 1.
3- الحديث إما أن يكون متواتراً أو حديث آحاد . المتواتر في اللغة التوالي واحدة بعد الآخر بلا فاصلة ، وقد وردت الآية الشريفة ( ثم أرسلنا رسلنا تتري ) بهذا المعني . وفي اصطلاح علم الحديث يُعني به : « خبر جماعة - في حد ذاته وبلا ضمّ القرائن الخارجية . يمتنع اتفاقهم علي الكذب وبالنهاية يوجب العلم بمضمون الخبر ، راجع علم الحديث ، تأليف الأستاذ كاظم مدير ، طبع جامعة الفردوسي ، مشهد ، ص 144 .

علي هذا الأساس يمكن التعبير عن «التواتر » ب « الثبوت القطعي » ، والحديث المتواتر يمكن أن نطلق عليه « الحديث الثابت القطعي »، الحديث الذي يرويه عدد كبير من الرواة في الغالب ، وقد أدرج في الكثير من كتب الرواية ، ونقله المحدّثون يداً عن يد ، ضابطين له جيلاً بعد آخر ، ويضحي صدوره وثبوته عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والأئمة (عليهم السلام) يقينياً وقطعيّاً .

8- الإيمان بالمهدي

عقيدة إسلامية وليست بمذهبية

في ضوء ما. مرّ من بحث عبر هذا الفصل حتي الآن يضحي جليّاً أن موضوع « المهدي » و « الانتظار » و « الظهور » مقولات إسلامية وليست بمذهبية . وبملاحظة ما مرّ في الفصل الرابع فلا بد من القول بأن ظهور المصلح والمنقذ في آخر الزمان عقيدة أممية وليست بإسلامية فحسب ، يعني : إن أهل النحل والأديان عامة اعترفوا بهذه العقيدة ، وجري الحديث عن « الموعود » في أوساطهم منذ أيام الزمن السحيق(1).

والواقع هو أن إسلامية هذه القضية أصل واضح ، وواضح جداً . في هذا الضوء فالإيمان بالمهدي (عليه السلام) لا ينحصر بالشيعة ، بل إن أتباع المذاهب الإسلامية الأخري يشاطرون الشيعة هذا الإيمان وهذا الانتظار . ولا بد أن يكون الأمر كذلك ، إذ أن الروايات التي احتوتها كتب سائر المسلمين علي مختلف مذاهبهم ، والتي تدور حول المهدي وشأنه ومركزه ودوره وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره روايات وأحاديث نبوية علي أرفع المستويات وقد بلغت حدّ التواتر .

ولاحظنا أن جمعة من علماء ومحدّثي أهل السنة كتبوا كتباً خاصة بصدد المهدي (عليه السلام) ، وخصص الآخرون بحوثاً مستوعبة في كتبهم حول خصوصيات المهدي وعلائم ظهوره ، وعدد أصحابه وأسمائه .... .

ص: 78


1- سوف نعود إلي هذا البحث في الفصل القادم في سياق الحديث عن « الموعود » .

وترجع هذه الظاهرة واهتمام علماء جميع الفرق والمذاهب الإسلامية بموضوع المهدي والكتابة فيه إلي الواقع الذي أشرنا إليه ، وهو :

إن « المهدي » في الإسلام ظاهرة طرحها وعلمها رسول الإسلام (صلي الله عليه و آله و سلم) نفسه . شأنها في ذلك شأن أحكام الإسلام وأصوله وعقائده الأخري : كالتوحيدر، والإمامة ، والمعاد ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتولّي والتبرّي ، والقبلة والميقات و ..... علي هذا الأساس فالاعتقاد بهذا الأمر واستبصاره فريضة علي كل مسلم ، ولهذا قالوا :

« وليس في المسائل النقلية التي لا طريق لإثباتها إلا السمع ما يكون الإيمان به أولي من الإيمان بظهور المهدي (عليه السلام) ، لو لم نقل بكونه أولي من بعضها ، لأن البشارات الواردة قد بلغت مرتبة التواتر ، مع أن الأحاديث المنقولة في كثير مما اعتقده المسلمون وغيرهم لم تبلغ تلك المرتبة . بل ربما لا توجد لبعض ذلك إلَّا رواية واحدة ، ومع ذلك يُعدُّ عندهم من الأمور المسلمة فإذاً كيف يصح للمسلم المؤمن بما جاء به الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) وأخبر به أن يرتاب في ظهوره (عليه السلام) مع هذه الروايات الكثيرة ؟ »(1)

9- « مذهب المعارضة »

عند أهل السنة

يتضح في ضوء ما مر من بحث لزوم الاعتقاد ب« المهدي » و « الانتظار » و « الظهور» علي كل مسلم . فتلك الأحاديث والمصادر وكذلك آيات القرآن - الكريم التي نزلت بحق « المهدي » حسب قول مفسري أهل السنة الكبار -

ص: 79


1- منتخب الأثر ، ص 2.

كل هذا يجلِّي حقيقة أن كل مسلم يؤمن بالقرآن الكريم ، ويعتقد أنه كتاب الله . ويؤمن بمحمد (صلي الله عليه و آله و سلم) بوصفه نبياً ورسولاً من قبل الله ويتلقي تعاليمه بوصفها تعاليم إلهية ، لا بدّ له من الاعتقاد ب « المهدي » و « الانتظار » ولا بدّ له من العمل وفق « آداب الانتظار » مهيِّئاً نفسه لذلك « الظهور العظيم » .

الالتفات والتأمل في كل تلك الأحاديث النبوية بما لها من أسانيد ورواة وما جاءت فيه من كتب ومؤلفات ، والالتفات والتأمل في كل المقولات والتصريحات بما لها من ثبوت وغنيً ، كذلك الالتفات والتأمل في عدد من آيات القرآن الكريم - التي سوف نتحدث عنها في الفصل السابع والثامن - يوجب أن تكون جماهير أرجاء العالم السنّي أنصاراً ل( مذهب المعارضة ) متفاعلين مع وجود هذا الولي الإلهي العظيم ، متمتّعين بهذه النظرة الإلهية اللوجود ، أعني : الإيمان بظهور المهدي بغية تصفية قلاع الظلم العالمي ، وأن يكونوا كالشيعة ( في صف السعي الجادّ لأجل تجسيد العدالة ، والنضال ضد الظلم والظالم ، والإعراض عن أنظمة الحكم الجائرة ) ، وأن تكون لهم علاقة روحية مع هذا المنتظر يغمرها التوسل ويشفعها الطلب والالتماس .

طبيعة الأشياء تقتضي ما قلناه . ولم يكن الحال في عالم التسنّن بالغاً حد إغفال الجميع لهذا الأمر ، ففي عصرنا هذا أيضاً ، هناك إخوة من أهل قبلتنا ألفوا كتباً في هذا الصدد . وصرّح بعضهم - رغم خصوصياته - بوجود أحاديث وافرة بصدد المهدي ، كما صرح بإسلامية الإيمان بالمهدي ، من قبيل أبو الأعلي المودودي(1) ، وعبد الرحمن بدوي(2) . وقال البعض منهم إن هذه العقيدة لها حضورها في أوساط أهل السنة . والخاصة والعامة علي هذه العقيدة .

وقد نقلنا النص بهذا الاتجاه عن الشيخ محمد عبده وأحمد أمين المصري .

ص: 80


1- في كتابه البيانات .
2- في كتابه مذاهب الإسلاميين .

إبداء وجهة النظر الأخيرة يدعو للارتياح ، إذ أنها تحكي عن أن هذا المعلم الإسلامي والنبوي ليس وقفاً علي علماء ومحدثي الشيعة . بل يتمتع بحضور عقيدي في أوساط جماهير أهل السنة أيضاً .

ولا بأس هنا في الإشارة إلي حديث للدكتور طه حسين ، فهو يقول في كتابه « الأيام » : « إن الناس تنتظر المسيح » فينسب الإيمان بمبدأ « الانتظار » إلي جماهير الناس ، غير أنه انتظار للسيد المسيح (عليه السلام) .

ينبغي هنا الالتفات إلي ملاحظتين :

1- إن هناك اعتقاداً بالظهور وانتظار الظهور في وسط المجتمع المصري ، وخصوصا في محيط الدكتور طه حسين آنذاك .

2- إن هذه العقيدة قد حُرِّفت ( وعُوِّض عن المهدي بالمسيح).

ليس لنا - في ضوء الرؤية الإسلامية - ظهورٌ وانتظارٌ للمسيح منفصلٌ عن ظهور المهدي وانتظاره . فبعد أن بعث السيد المسيح (عليه السلام) وعرض رسالته علي الناس ، ثم أشرق نور الإسلام العظيم وبعث محمد المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) ونزل القرآن عليه . فايُّ انتظار لعودة السيد المسيح مرةً أخري يمكن أن نعقل وجوده في أوساط الجامعة الإسلامية ؟

جاء في الأحاديث الوافرة التي نقلها السنة والشيعة أنه بعد خروج المهدي (عليه السلام) يأتي السيد المسيح و( يصلي خلفه ) ، ويتعاون مع المهدي في قتل الدجال والقضاء علي فتنة اليهود . ولعل التحريف نشأ من هنا فطرحت المسألة بالصورة المتقدمة ، وإلا فنزول السيد المسيح (عليه السلام) من السماء ، . وحضوره بين جماهير العالم سوف يرتبط بشكل مباشر مع خروج المهدي (عليه السلام) ويشكل جانباً ثانوياً من المشهد العام للظاهرة المهدوية .

علي أية حال فالالتفات إلي موضوع « المهدي » و « الانتظار » و « الظهور » كان حظّه أوفر لدي علماء الإسلام المطّلعين الكبار وعند المحدّثين والمؤلفين

ص: 81

الواعين من أهل السنة، وواضح أن الحال يقتضي أن يُشيع هؤلاء بشكل أكبر هذا المفهوم العقيدي الإسلامي وهذا المبدأ السياسي والاجتماعي التغييري في أوساط جماهير أهل السنة ، وليتهم - كما سعوا علي طريق التأليف والتحقيق ورواية الأحاديث وضبط متونها وأسانيدها في هذا المجال ، الذي يستدعي التقدير الكبير في نفسه - ليتهم ساعون باتجاه إحياء حضور ( مذهب المعارضة ) ورفض أنظمة الحكم الطاغوتية الجائرة ، والتوجه الفكري لحكومة العدل والقسط الإلهي ، والاستعداد لظهور ( المصلح الفاطمي ) في أوساط جماهير عالم التسنن الواسعة أيضاً . بغية أن تكون هذه العقيدة كالدم الحي الدافع لمواجهة الظلم والظالم علي جميع الأرض الإسلامية ، وفي أوساط أهل القبلة جميعهم ، ولتبقي هذه العقيدة متحركة بحرارة في عمق الوجدان المسلم . كما أن الاتجاه والتماس الحقيقة العلّوية « الولاية الإلهية للمهدي » باستمرار يمثل رافداً روحياً ومناراً فكرياً وسنداً إرادياً لهؤلاء.

ص: 82

الفصل السادس: في كتب المسلمين

اشارة

ص: 83

ص: 84

في كتب المسلمين

ب - في كتب الشيعة

في كتب الشيعة

استبصرنا الأفاق المنبسطة والأبعاد الواسعة لقضية المهدي (عليه السلام) في جوٍّ خارج عن إطار ثقافة الشيعة وعقائدها ، فلاحظناها خلال الديانات القديمة ، وفي عرف الزرادشتية والهندية والبوذية واليهودية والمسيحية ...

كذلك لاحظناها عبر ميدان الثقافة الإسلامية الوسيع لأهل السنة من خلال كتبهم العامة ، وكتبهم الخاصة ، وعبر أقوال علمائهم ...

وعلي هذا المنوال لاحظنا ، أن الاعتقاد ب « المهدي » - في أرجاء الأفاق الزمانية والمكانية لرسالة الإسلام ، وثقافته، وعلي أساس أصوله العقيدية ، وعبر الكتب والمؤلفات ، وفي المساجد والمدارس ، ووسط مشايخ وأساتذة الحديث ، وفي مجالس رواية وضبط وحمل الحديث ، وكذلك في تفاسير و القرآن الكريم »(1) - في كل موقع أصل يقينيّ وإسلامي .

ومن هذا المنطلق فقد طرُحت قضية المهدي لدي جميع فرق المسلمين ، ولا تزال تطرح ، وليس هناك أي اختصاص بالتشيع - كما قلنا - .

ص: 85


1- في الفصلين القادمين سوف نتحدث حول آيات « القرآن الكريم » في هذا الصدد .

نعم لا تختص هذه العقيدة بالشيعة بأي وجه ، إلا أن للشيعة خصوصيّة بشأن هذه العقيدة . لماذا ؟ حيث إن المهدي فاطمي ، يعني : من أبناء الصديقة الكبري فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وحيث إنه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، يعني : وصي النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وخليفته الحادي عشر ، والإمام الحادي عشر للشيعة . في ضوء هذه الملاحظات فقد كانت للشيعة خصوصية بالنسبة للمهدي (عليه السلام) ولا تزال لهم . مضافاً إلي ذلك فللشيعة أحاديث كثيرة عدا الأحاديث النبوية نقلوها عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في شأن المهدي (عليه السلام) ... .

في ضوء ما ذكرنا يضحي طبيعياً أن نلتقي عبر ثقافة التشيع الفسيحة بالعديد من الكتب التي تحدثت عن المهدي وطرحت الأفكار المتعلقة به ، وبالعديد من الكتب التي اختص البحث فيها حول المهدي (عليه السلام) وخصوصياته ، بل لعل الأكثر طبيعية أن يقال :

إن ذلك موضوع كثر في شأنه تصنيف الكتب ، وتحرير الرسائل والمقالات الجامعة من عصر الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) إلي العصر الحاضر فقلّما يوجد من علماء الإمامية من لم يكن له كتاب خاص أو مقالة أو كلمة خاصة في هذا الموضوع ... » .

.(1): الملفت للنظر حقّاً أن نري البعض من علماء أهل السنة يقول : إن الاعتقاد بالمهدي واحدة من « العقائد السنّية » والمعتقدون بهذا الموضوع هم أهل السنة ، وقد ثقل هذا الاتجاه « عن الشيخ علي ناصيف استناداً لكتابه ( غاية المأمول ) ، في كتاب ( في انتظار الإمام ) الطبعة الثانية ص 18 . والدافع لهذا الاتجاه هو تلك الوفرة في أحاديث وأسانيد قضية المهدي (عليه السلام) في كتب . ومصادر أهل السنة الروائية والتفسيرية ، المصادر التي تقوم علي أساسها عقائد أهل السنة وتفاسيرها وأحكام الفقه السني بعد القرآن الكريم .

(2) لا بد من أن نشير إلي أن الأحاديث التي وردت في كتب علماء ومحدثي أهل السنة - التي أوردنا عدداً منها في الفصل السابق - قد نقل البعض منها عن الإمام علي (عليه السلام) أو غيره من الأئمة الأخرين . (3) منتخب الأثر ص 5.

ص: 86

1- أصناف الكتب

أحصينا في الفصل الأنف - الفقرة الثانية - أصناف كتب أهل السنة بصدد المهدي (عليه السلام) ، وبشكل إجمالي ذكرنا (12) عنواناً . ولأجل إيضاح أصناف كتب الشيعة نكتفي بتلك العناوين متجاوزين تكرارها، رعاية للاختصار ، وتنحصر إضافتنا هنا بأنه يمكن ضم عناوين أخري لتلك العناوين نذكر منها :

1- كتب الأدعية والزيارات .

2- كتب فلسفة التاريخ السياسي الإسلامي .

3- الكتب التي أطلت علي الأوضاع الاجتماعية القادمة [ كتب علم الإجتماع التنبؤي ](1) .

4 - الكتب والكتيبات الثورية ، التي كتبت لطرح « مذهب المعارضة » .

2- عدد من الكتب

اشارة

الكتب والرسائل الشيعية التي تدور حول المهدي والمهدوية معروفة ومتوفرة إلي حدود . فقد كتب علماء ومحدثو ومحققو القرون الماضية، كما كتب أبناء هذا العصر كتباً ورسائل ومقالات في هذا الصدد .

ومع عدم توفر إمكانية تقييم جميع هذه الدراسات في سطر واحد ، نقول : إن جهدهم موضع تقدير(2) .

في العشرين سنة الأخيرة أيضاً نشطت فعالية التأليف والتحقيق حول المهدي (عليه السلام) والمسائل المتعلقة ب « الغيبة » و « الانتظار » و « الظهور» . وقد قدم المفكرون الواعون إنتاجاً قيماً ، ودرسوا الموضوعات المشار إليها بروح

ص: 87


1- نشير هنا إلي الكتاب القيم ( تاريخ ما بعد الظهور) لمؤلفه الفاضل والمتتبع ، محمد الصدر . وقد كتب المؤلف كتابين آخرين حول موضوع المهدي (عليه السلام) : « تاريخ الغيبة الصغري » ، « وتاريخ الغيبة الكبري » .
2- لا نريد أن نثبت في هذا التعبير التوجّه الذي يذهب إلي تقدير كل شخص يمارس كل عمل باسم الدين والمذهب واحترام كل ما كتب ويكتب تحت هذا العنوان ، أبداً ! بل إن كل كتابة إسلامية مبتذلة وواطئة في أي موضوع، تمثل خيانة للمذهب والدين ، ولا يمكن غضّ النظر عنها بأي وجه من الوجوه .

التحولات الزمنية ومن خلال الثقافة الإنسانية المعاصرة ، ووضعوا هذه الدراسة في متناول القراء . ولا بد من ازدياد حجم هذا اللون من الكتب والمقالات كتابةً وتأليفاً ( - بأقلام المفكرين الواعين ، ذوي الأصالة الفكرية والمعرفة بالتحولات الزمنية ، وبمحتوي غني ومفيد - ) ، ولا بد من توسيع دائرة انتشارها ومعرفتها .

الآن نسجل أسماء عدد من كتب وآثار الشيعة في هذا الموضوع ضمن خمسة أقسام :

القسم الأول :

عدد من كتب وآثار وجوه الشيعة منذ الماضي البعيد حتي الآن :

1 - أصول الكافي (- كتاب الحجة) - ثقة الإسلام الكليني

2 - إكمال الدين - الشيخ أبو جعفر الصدوق

3 - الإرشاد - الشيخ المفيد البغدادي

4 - خمس رسائل في إثبات الحجة - الشيخ المفيد البغدادي

5 - الوجيزة في الغيبة - علم الهدي السيد المرتضي

6 - الغيبة - شيخ الطائفة الطوسي

7 - البرهان علي صحة طول - عمر الإمام صاحب الزمان - الشيخ أبو الفتح الكراجكي

8 - الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني

و - أعلام الوري - أمين الإسلام الطبرسي

10 - الملاحم والفتن - السيد ابن طاوس ( رضي الدين )

11 - الفصول النصيرية (فصل الإمامة - نصير الدين الطوسي .

12 - وسيلة الفوز والأمان (قصيدة) - الشيخ بهاء الدين العاملي

13 - المحجة فيما نزل في القائم الحجة - السيد هاشم البحراني

14 - بحار الأنوار(1) - العلامة المجلسي

ص: 88


1- المجلد 13 من الطبعة القديمة ، أو المجلد 51، 52، 53 من الطبعة الجديدة .

15 - إثبات الهداة - الشيخ الحر العاملي

16 - استقصاء الإفحام - مير حامد حسين الهندي

17 - النجم الثاقب - ميرزا حسين النوري

18 - الصحيفة المهدوية - الشيخ فضل الله النوري

19 - كفاية الموحدين (الجزء 3) - السيد إسماعيل العقيلي الطبرسي

20 - بيان الفرقان (الجزء 5) - الشيخ مجتبي القزويني الخراساني

القسم الثاني :

عدد آخر من الكتب :

1 - المهدي المنتظر والعقل - الشيخ محمد جواد مغنية

2 - المهدي المنتظر بين التصور والتصديق - الشيخ محمد حسن آل ياسين

3 - إلي مشيخة الأزهر - الشيخ عبدالله السبيتي

4 - المصلح المنتظر - الشيخ محمد رضا شمس الدين(1)

5 ۔ مكيال المكارم - السيد محمد تقي الموسوي الأصفهاني

6 - قائم آل محمد وفلسفة غيبته - الحاج ميرزا خليل الكمره اي

7 - الموعود الذي ينتظره العالم - علي الدواني

8- أمل الأمن والأمان - الشيخ لطف الله الصافي

9 - المهدي موعود الأمم - الأستاذ محمد تقي شريعتي

10 - العادل الأممي - الشيخ إبراهيم الأميني

11 - الفاتح العادل - سيد جمال الدين دين برور « ربيب الدين »

12 - التحول الأخير - الهيئة القائمية - طهران

القسم الثالث :

الكتب التي اعتمدت في أبحاثها ورواياتها بشكل عام أو غالب علي

ص: 89


1- ( الإمام المهدي أمل الشعوب ) تاليف حمن موسي الصفار ، أحد الكتيبات المفيدة والجيدة - طبع بيروت ، عام (1401ه).

مصادر وكتابات أهل السنة وعلي أساس روايات وأسانيد السنة :

1- المهدي - آية الله صدر الدين الصدر

2- منتخب الأثر - الشيخ لطف الله الصافي

3- المهدي الموعود المنتظر - الشيخ نجم الدين جعفر العسكري

4 - الإمام الثاني عشر - السيد محمد سعيد الموسوي الهندي ( حفيد صاحب «العبقات » )

- المنتظر علي ضوء حقائق العامة - محمد حسين الأديب

القسم الرابع :

الكتب والكتيبات التي انطلقت في عرضها علي أساس الدراسة الاجتماعية والسياسية المعاصرة وبروح إصلاحية وثورية :

1 - مستقبل البشرية من وجهة نظر رسالتنا - آية الله السيد محمود الطالقاني

2- ثورة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ - الشيخ مرتضي المطهري

3- الانتظار ( مذهب المعارضة ) - الدكتور علي شريعتي

4 - في انتظار الإمام - عبد الهادي الفضلي

5- علي فجر الساحل - الشيخ محمد الحكيمي

القسم الخامس :

الكتب التي اعتمدت المصادر والكتب التي أعدت قبل الإسلام ، وجمعت بشائر السلف :

1- بشارات العهدين - الدكتور محمد الصادقي

20 - المصلح المنتظر في أحاديث الأديان - محمد أمين زين الدين العاملي(1)

ص: 90


1- طبعت رسالة بعنوان ( فهرس الكتب التي ألفت حول الإمام المهدي (عليه السلام) ) وقد عرفت هذه الرسالة الكتب والرسائل والكثير من المقالات التي كتبت حول المهدي (عليه السلام) ، والموضوعات المتعلقة به ، والذي يبتغي الأطلاع علي المزيد من المصادر والكتابات يمكنه الاستعانة بهذه الرسالة .

3- استمرارية الوعد والموعود

لاحظنا في الفصل الرابع أن قضية ( الموعود ) تضرب في عمق تاريخ الأديان والبشرية . إذ كثيراً ما اتفق أن وَعَدَ الأنبياء السابقون بقدوم اللاحق الهم . وقد شوهدت هذه الظاهرة بشكل أكبر لدي مشاهير الأنبياء وكبارهم . وعن طريق هذه الوعود والبشائر علقت في ذهن كل أمة من الأمم صورة لموعود منتظر . وقد لوحظت هذه البشائر في آيات الكتاب المقدس - قبل تحريفه - .

وفي هذا الاتجاه تقع إحدي بشائر موسي الكليم (عليه السلام) ، حيث بشر بقدوم عيسي المسيح (عليه السلام) . علي هذا الأساس « كانت جماهير أرض الجليل ويهودا . نشتاق باستمرار لظهور المسيح الموعود ». وقد بعث عيسي بالرسالة وهو في و سن (30). وقد بشّر به رجل غير موسي (عليه السلام) الذي أطلق بشارته قبل قرون ، ففي حدود ثلاثة إلي أربعة أعوام قبل بعثته « بشر الناس بظهور المسيح الموعود واعظ زاهد يدعي يوحنا المعمداني ، ودعا الناس للتوبة والتعميد استعداداً لظهوره ، وعلي أساس هذه الدعوة خلق حركة علي أرض الأردن .. » .

و إذن ؛ كان عيسي المسيح (عليه السلام) نفسه موعود ، موعود اليهود وبني اسرائيل ... ومع أن جماهير الناس كانت تنتظر قدومه ، فقد كان زعماء اليهودية يعارضون فكرة انتظاره ، و « وقد كان الفريسيون والكتاب(1) يمارسون التحقير بحق أبناء ملتهم المتحمسين لقضية الظهور ، وكانوا يرون أنفسهم حماةً لنص شريعة موسي (عليه السلام) فحسب » .

وقد بشر السيد المسيح (عليه السلام) أيضاً بقدوم النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ؛ قدوم نبيّنا

بشر به النبيون والحكماء والكهان ، وكان السيد المسيح أحدهم ، وعلي هذا الأساس أضحي أتباع الشريعة المسيحية أيضا منتظرين ( موعوداً ) .

ص: 91


1- الفريسيون : [ إحدي طائفتين دينيتين هامتين لليهود ، كانتا ذاتي شأن في عهد المسيح ..] امتازوا بحرصهم الشديد علي التعاليم الدينية ... فأحدثوا حركة ونشاطأ كان له أثره في حياة الشعب عامة ... وساعدوا علي تطور اليهودية . نقلاً عن الموسوعة العربية الميسرة ، ص 1299 ، الطبعة الثانية 1972 م.

4- فارقليط

فارقليط (Paraqlit) ، تعريب للكلمة اليونانية باراكلتوس (parakletos) ، ويعني ، ( المسلّي ) ، ( الشفيع ) ، ( المريح ) .

وعد عيسي طلابه بأن أباه ( يعني الأب ، الذي هو الأقنوم الأول ) يبعث مسلياً آخر سوف يكون معهم علي الدوام ، وسوف يعلمهم كل شيء ( إنجيل يوحنا ص 14 ، 16، 26).

أراد البعض من المسيحيين الإعلان عن هذه البشارة التي تعني ظهور محمد المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) ، غير أنهم حرفوا هذه البشارة عن مسار واقعها ، فعبروا عن صاحبها ب ( روح القدس ).

« إلا أن الأخبار والآثار والكتب السماوية الأخري لموسي وعيسي - عليهما السلام - أثبتت تحقيقاً أن فارقليط ، الذي يعني المسلّي ، هو عبارة عن « خاتم النبيين » وهذه البشارة حجة علي نبوّة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) » .

وقد أشير في القرآن الكريم أيضاً إلي بشارة عيسي هذه في سورة الصف ، الآية . وشمي الرسول الأكرم في هذه الآية ب ( أحمد ) . قالوا : إن فارقليط يؤدي معني أحمد - صيغة أفعل - أيضاً . وقد تناول المفسرون كلمة أحمد بمعني - صيغة أفعل ، أو بمعني المحمود بشكل أكبر ، والذي مدحه الله تعالي بهذا الشكل ، أو الفرد الذي مدح أكثر من غيره وكان موضع تقدير ومدح

قلنا إن عدد آخر من الأنبياء السابقين بشّروا بظهور نبيّنا ، وحيث إن السيد المسيح هو آخر نبي قبل ظهور الرسول الأكرم فقد جاء ذكره في القرآن الكريم :

( وإذ قال عيسي ابن مريم : يا بني إسرائيل ! إنّي رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ، ومبشراً برسول يأتي من بعدي ، اسمه أحمد . فلما جاءهم

ص: 92

بالبينات ، قالوا : هذا سحر مبين )(1) .

هذه الآية المباركة تعلن بوضوح وصراحة عن وجود بشارة في الإنجيل . ولو لم تكن هذه البشارة موجودة في كتب المسيحيّة غير المحرفة لقال النصاري الذين عاصروا النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وكانوا في صراع حاد معه : « إن هذه الآية غير صحيحة ، وليس هناك في كتبنا مثل هذه الإشارة والبشارة » إلا أنهم لم يفعلوا ذلك حيث لم يكن في مقدورهم أن يفعلوا . وكانوا يسلكون في عداء ومعارضة المنقذ سبلاً أخري(2) .

قالوا : « إن ماني كان مدّعياً أنه المسيح الثاني ، وهو عين فارقليط الذي وعد بظهوره المسيح ، وهو يحمل للعالم الديانة المنجية »(3) .

يتضح عبر هذا القول أن مسألة « الموعود » الذي بشّر بقدومه المسيح كانت آنذاك علي حدّ من الثبوت والإقرار بها بحيث إنهم كانوا يطلقون علي هذا الموعود ( المسيح الثاني ) . وكانت هذه الشهرة والإذعان سبباً لكي يستند « ماني » علي هذا المبدأ ويستغله .

5- الإمام أبو الحسن الرضا(عليه السلام)

والاستشهاد بالإنجيل

الإمام الرضا (عليه السلام) ساهم أيضاً في البرهان علي وجود البشارة بظهور النبي الأكرم ، والإخبار بقدومه في دين عيسي وبلسانه(4) ، وذلك من خلال مناقشاته

ص: 93


1- سورة الصف :6.
2- راجع بهذا الصدد كتابي « الرحلة المدرسية » و « الهدي إلي دين المصطفي » للعلامة المجاهد و الشيخ محمد جواد البلاغي ، وراجع أيضاً كتاب « بشارات العهدين » .
3- تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي ، حنا فاخوري ، وخليل الجر ، وقد نقلنا النص مترجماً عن ترجمته الفارسية لعبد المحمد آيتي ص 763.
4- راجع بهذا الشأن : أ - مجمع البيان ، ج 9 ص 280 . ب - نور الثقلين ج 5 ص312 - 316 . ج - كشف الأسرار ج 10 ص86- 87 .

مع علماء المسيحية المعاصرين له ، اعتمادا علي الإنجيل ، الذي لم يطرأ عليه آنذاك كل التحريف ، وكان له ځفاظ أيضاً(1) .

6- الموعود الأخير

لاحظنا جيداً أن مسألة الموعود قد طرحت في كتب الأنبياء . وكان الموعود في مناسبات هو النبي اللاحق الذي وعد بظهوره وبشر به الأنبياء السابقون . وقد كان نبي الإسلام موعوداً لدي السالفين باعتباره « نبيّ آخر الزمان »، و « المنجي » ، و « الشفيع » ، و «خاتم الأنبياء » ، و « فارقليط » ، و ...

كانت هناك بشائر ترتبط جميعها بشروق نور الإسلام العظيم وظهور الطلعة المحمدية .

غير أن ألوان التلويح والبشارة التي أطلقها السلف من النبيين وغيرهم من ذوي المعرفة والحصافة كانت تنطوي علي مقولة « الموعود الأخير »، و « موعود آخر الزمان ». هذه المقولات والإشارات ، وتلك الوعود والبشائر - التي لفتنا النظر إلي البعض القليل منها في الفصل الرابع - تلحظ جميعها النهضة الإلهية في آخر الزمان ، والحركة الإنسانية لمصلح عالميّ سوف يظهر عقب انتهاء دور النبوة ، وفي طول المسيرة الإسلامية ، ومن داخل رسالة الإسلام . من هنا فحينما يقال « الموعود » فإنما يقصد منه الموعود الختامي والمنتظر الأخير .

وقد جاءت تعابير تقصد هذا الموعود في الديانات القديمة - كما مر ذكرها - وقد عبرت كل ديانة عنه بصيغة ما . كما جاءت ملامح وخصوصيات له في تراث السالفين ، وذُكر جَدُّه وتقليدُه ، وعلائم ظهوره ، ووقائع ما بعد ظهوره ، وقد أميط اللثام عن تلك الخصوصيات في رسالة الإسلام ، وحددت بصورة كاملة بالاسم والمشخصات المتميزة .

ص: 94


1- تفسير « نور الثقلين ، ج 5 ص 313، 314.

7- تثبيت المشخصات

الموعود الذي تداولوا قضيته منذ الأيام الضاربة في عمق الزمن يحصل علي لون خاص حينما يصل الإسلام . وإيضاح هذا المفهوم كما جاء تسجيله في محل آخر من كتاباتنا هو : « إن البشائر الموجودة في الآثار السابقة للإسلام ، علي نحوين ، بشائر ترتبط بمجيء رسول الإسلام ، وبشائر ترتبط بخروج الموعود في آخر الزمان ، يعني : المهدي (عليه السلام) . وتمضي القصة علي هذا النهج حتي نصل الإسلام . وفي أفق الإسلام تطرح قضية المهدي محددة الأبعاد واضحة المشخصات . ويعود ذلك إلي أن الإسلام آخر دين سماوي ، وأن الموعود النهائي العظيم ينتمي إلي هذا الدين ، من هنا لزم أن تذكر خصوصياته في هذا الدين الخاتم للرسالات الإلهية ، وتسجل في عرف هذه الملة الأخيرة ، وأن لا يكتفي ببشائر وإشارات الماضين . ولذا عُيّنت خصوصيات المهدي في رسالة الإسلام : الشمائل ، الأب ، الأم ، سلسلة النسب الواصل بالنبي ، صيغة الظهور ، أسلوب تشكيل الحكم الإلهي ، العدالة الأفاقية ، التربية الروحية ، حركة القضاء ، قضايا العمل والاقتصاد إبان فترة المهدي ، كل ذلك جميعا جاء في أمهات المصادر الإسلامية أعم من السنية والشيعية » .

علي هذا الأساس فلا بدّ من تثبيت مشخصات المهدي بدقة في رسالة الإسلام ، وتوضح ذلك الأسباب التالية :

1- حيث إن الإسلام هو آخر دين سماوي فلا بد من أن يوضّح كل . الحقائق والمستجدات الواقعية الأساسية التي يتفق وقوعها قبل قيام الساعة ، وهي علي ارتباط برسالة الدين ومهمة الهداية . وبحكم كون المهدي وظهوره أحد الحقائق الواقعية الأساسية الكبيرة لزم أن يشبع الحديث تماماً حوله في متن رسالة الدين الخاتم .

2. حيث إن المهدي رجل من أمة الإسلام ، وأحد أبناء نبي الإسلام ، والوصيّ الثاني عشر للنبي يتحتم طبيعياً أن تذكر مواصفاته وخصوصياته كلها

ص: 95

بواسطة النبي نفسه والأحد عشر وصياً قبل المهدي من خلال المناسبات المختلفة .

3- حيث إن ظهور المهدي يقع في امتداد مرحلة الإسلام ، وحيث إن أمة الإسلام - التي تتسم بكونها متابعة لأخر دين سماوي ، وسالكة نهج الدين الحق والشريعة الخاتمة . تعيش في عالم الحياة ، وينتهي الأمر بها إلي شهود ظهور المهدي ، فلا بد لهذه الأمة من معرفة دقيقة وسليمة حول « الموعود » لتنتظره علي الدوام وترعي مستلزمات الانتظار ، ولتعرفه حين الظهور ، وتلتحق بركبه مبايعةً ناصرة ، ولتنشر بقيادته دين الحق علي أرجاء العالم .

4- بحكم كون مراحل الزمن بعد ظهور الإسلام تمضي صوب مرحلة آخر الزمان ، ويقترب يوم ظهور الموعود الأخير شيئاً فشيئاً ، فمن الممكن علي الدوام أن تبرز عناصر مدّعية ، أو تطرح نفسها بصفتها الموعود - كما حصل ذلك كثيراً -، إذن فلا بدّ من تثبيت خصوصيّات الموعود بصورة سليمة ، ليكون الناس علي يقظة وبصيرة دون الوقوع في شراك خداع الخادعين ، ولكي لا يكونوا ضحية أهواء عبّاد الهوي ، ومبتدعي الأديان .

5. حيث إن أمة الإسلام تحيا في عصر الغيبة بعد مضي قرن ونصف علي ظهور الإسلام ، والمهدي الموعود إمام المسلمين الغائب ، وولي الله وصاحب الولاية والقرار ، وإن التعلق به وسيلة للتقرب إلي الله ، والتوفر علي الكمال والمعرفة ، وإنه ( أي المهدي ) يتفق له غياب طويل الأجل، تحتم أن يعرف عن طريق تثبيت خصوصياته ، لتحصل للناس معرفة به ، فيدعوا الله طالبين فرجه ، ولكي لا يسدروا عن التعلق والارتباط به ولأجل أن لا يحرموا من استلهام عطائه وروحه العلوية .

كانت هذه بعضاً من البواعث علي ذكر خصوصيات المهدي (عليه السلام) في رسالة الإسلام . وقد حصل هذا الأمر ، واستنطقت هذه الخصوصيات في عشرات الكتب . وعنونت قائمة من العلامات والمؤشرات تحت عنوان ( علامات الظهور ) كما أشير إلي الحوادث الكبري والفتن والامتحانات التي

ص: 96

تقع قبل الظهور ، وقريباً منه. وقد جمعت هذه الأفكار في كتب « الملاحم والفتن » وغيرها من المصادر ذات الارتباط .

8- في ضوء كتاب « بيان الفرقان »

اشارة

طرح استاذ العلوم الحقة ، ومعلم الإلهيات القرآنية الشيخ مجتبي القزويني الخراساني ( المتوفي عام 1386 ه) في كتابه القيم « بيان الفرقان » الجزء الخامس ، مجموعة أبحاث وأفكار حول «غيبة إمام العصر » - عجل الله تعالي فرجه الشريف - . ومن جملة الأبحاث القيمة التي إشير إليها وطرحت عبر الفصول الأخيرة من الكتاب المذكور « باب الغيبة » ، الأبحاث التالية :

1- إيضاح الفرق بين الفرج الجزئي والفرج الكلي .

2- إيضاح الفرق بين العلامات المتصلة بالظهور ، والعلامات غير المتصلة به .

3- إيضاح الفرق بين العلامات الحتمية ، والعلامات غير الحتمية .

4 - إيضاح الفرق بين علامات الظهور ، وعلامات البعث ( إشراطات الساعة ) .

5- رفض أي لون من ألوان التوقيت ، ولو علي أساس العلوم الغريبة .

6- رفع التناقض بين الغيبة الكبري ، وإمكانية رؤية الإمام لبعض الأفراد .

وخلاصة إيضاحات الأستاذ الكبير حول الأفكار المشار إليها أعلاه ما يلي:

المسألة الأولي :

تنظر بعض الأحاديث المباركة التي حددت حصول الفرج خلال أزمنة قريبة (- وفي حدود 140 عاماً علي سبيل المثال ) ، أو التي اعتبرت سقوط بني أمية ونظائرها من الوقائع مقدمة وتمهيدا لحصول الفرج ، إلي الفرج الجزئي ، يعني : حصول انفراج في حياة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) يعكفون خلاله علي تربية قواعدهم ونشر أفكارهم وتعاليمهم . كما يعني أيضاً حصول انفراج للقواعد

ص: 97

الشيعية ليأمنوا - إلي أجل - من الملاحقة والتعذيب والسجون والضغوط . ومثل هذه الروايات لا تضع في حسابها الفرج العالمي الكلي ، إذ أن الفرج الكلي لم يوقت بأي وجه من الوجوه .

المسألة الثانية :

هناك بعض من علامات الظهور التي جاء ذكرها في الأحاديث المباركة يتصل وقوعها بزمن الظهور ، أو يفصل زمن قصير بين وقوعها والظهور ، وهناك بعض آخر من العلامات يتفق وقوعها علي طول زمن الغيبة ، إلا أنها لا يتاخم وقوعها الظهور .

مثلاً ، إذا عُدَّ سقوط الخلافة العباسية جزءاً من علامات الظهور ، وكان المعني بذلك هو سقوط خلافة بغداد عام 656 ه، فهذه من العلامات غير المتصلة ، يعني : إن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أخبروا قبل قرون حينما بلغت قوة الحكم العباسي أوجها بأن هذه الخلافة العظمي والإمبراطورية الشاسعة سوف تسقط علي مرور الأيام وقبل قيام القائم (عليه السلام) ، وأن سقوطها من جملة الوقائع التي سوف يتفق وقوعها قبل ظهور المهدي . إذن فهذه الواقعة ليست جزءاً من العلامات المتصلة .

المسألة الثالثة :

بعض من علامات الظهور علامات حتميّة ، ولا ظهور دون وقوعها ، وقبل أن تقع هذه العلامات ، فادّعاء كل شخص بالمهدويّة مهما كان - ادعاء اجوف وقبوله سفاهة وحمق . وبعض من العلامات غير حتمية بمعني أنه من الممكن أن تقع وأن لا تقع .

وقد عدت خمس علامات من العلامات الحتمية في الأحاديث المباركة :

1- خروج اليماني .

2- قتل النفس الزكية بين الركن والمقام .

3- خسف في البيداء .

4- خروج السفياني .

- الصيحة السماوية .

ص: 98

ويقول أستاذنا الأكبر نفسه ما يلي :

يستفاد من روايات هذا الباب أن بعض العلامات علامات حتمية. ومن المسلم به أن (خروج السفياني )، و ( الصيحة السماوية ) من العلامات الحتمية . وقد عُدّت خمس علامات في بعض الروايات : خروج اليماني ، وقتل السيد الحسني بين الركن والمقام ، وخسف في البيداء ، وخروج السفياني ، والصيحة السماوية .

وعبر ما أوضحنا تستنبط نتيجة كبيرة لا شك ولا شبهة فيها . والنتيجة هي أنه قبل وقوع هذه العلامات الحتمية - مع قطع النظر عن الأدلة والبراهين الأخري - يكون ادّعاء المهدوية من قبل أي فرد باطل وغير قابل للإصغاء(1) .

المسألة الرابعة :

بعض العلامات التي وردت في الأحاديث المتعلقة بآخر الزمان وأخبار الملاحم والفتن لا ترتبط بالظهور ، وجزء من علامات القيامة و( أشراط الساعة ) :

جاء في هاتين الروايتين(2) أن الدجال من علامات الظهور . وجاء في روايات كثيرة أنه من علامات القيامة ، وهذا يحكي عن وقوع الخلط من قبل الرواة في ذكرهم للسفياني - الذي هو من علامات الظهور المسلمة - بصحبة ذكرهم للدجال .

المسألة الخامسة :

كل لون من ألوان التوقيت ، وتعيين زمن محدد لظهور بقية الله (عليه السلام) مخالف لأحاديث كثيرة . وقد ذهب الأئمة الطاهرون إلي أن العلم بوقت الظهور شأنه شأن علم الساعة مختص بالله تعالي ، وقد كذبوا الوقّأتين . فلم يعينوا لا

ص: 99


1- بيان الفرقان ، ج 5 ص 181 - 182 .
2- المقصود الروايتان اللتان وردتا في بيان الفرقان ج 5 ص 170 .

زمناً محدداً للغيبة ، ولا وقتاً معيّناً لحين الظهور . بل اقتصروا علي إيراد علامات لا بد للجميع من الالتفات لها ، والإعراض عن تكهنات الوقاتين . إذ أن الوقاتين يطلقون تكهنات شخصية ... وهذه التكهنات لا علاقة لها بالمشيئة الإلهية وحكمة الغيبة ومدتها وزمان الظهور :

اتضح من خلال الروايات والإيضاحات الماضية أن عمر الحجة بن الحسن (عليه السلام) طويل، ولم يعين زمن الغيبته وظهوره . بل نُهي بشدة عن تعيين وقت محدد . إذن ؛ تعيين وقت الظهور من قبل بعض الدراويش ومدّعي العلوم الغريبة يصطدم مع الوصايا والروايات(1) .

ونشير هنا - كما قال العظماء - إلي أنّه لا بد للجماهير علي الدوام من استذكار الحجة الإلهية الربانية ، آية الله وبقيته (عليه السلام) ، ولا بد لهم من الدعاء لهذا الإمام ولقرب فرج ظهوره . لا بدّ من طلب ظهوره من الله في كل وقت . ولا مجال لليأس علي الإطلاق ، فمن الممكن في كل لحظة أن تحصل المقدمات القريبة لهذا الأمر ويبلغ الفرج أجله ، ويظهر الإمام ، ومن هنا تحتم ذكر هذا الإمام علي الدوام ، وإعمار القلب ، وتحصينه بذكره ، والتماس وصوله من الله .

ولهذا أيضاً قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) :

« أقرب ما يكون العباد من الله جل ذكره وأرضي ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله جل وعز ، ولم يظهر لهم ، ولم يعلموا مكانه وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجة الله جل ذكره ولا ميثاقه ، فعندها فتوقعوا الفرج صباحاً ومساء ، فإن أشد ما يكون غضب الله علي أعدائه إذا افتقدوا حجته ، ولم يظهر لهم ، وقد علم أن أولياءه لا يرتابون ، ولو علم أنهم يرتابون ما غيّب حجته عنهم طرفة عين ، ... »(2) .

ص: 100


1- بيان الفرقان ج 5 ص 217.
2- اصول الكافي ، كتاب الحجة ، باب نادر في حال الغيبة .

إيضاح :

المقصود من قول الإمام (عليه السلام) : « فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً» هو التحضيض علي انتظار وقوع الحدث الضخم في مثل الظروف والملابسات التي يعرضها النص ، وذلك عن طريق تحقّق العلامات الحتميّة . إذن ؛ انتظار الفرج في كل صباح ومساء لا يتنافي مع تحقّق العلامات الحتمية . فانتظروا الفرج يعني : انتظروا العلامات الحتمية ، وثم الظهور والفرج الكلّي . إذ ليس هناك فاصل زمنيٌ معتدٌّ به بين بروز أول علامة من العلامات الحتمية - التي تتعاقب علي التوالي - إلي بلوغ الفرج وخروج الإمام (عليه السلام) . وبصدد « قتل النفس الزكية » روي الشيخ المفيد عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) رواية يقول فيها :

ليس بين قيام القائم (عليه السلام) ، وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة(1) .

ومن الواضح أن الفاصل الزمني بين تحقق العلامات الحتمية والظهور أكثر من خمس عشرة ليلة ، إلا أنه ليس طويلاً بل في حدود بضعة شهور... كما يفهم من بعض الأحاديث الشريفة .

المسألة السادسة

قال علماء الإسلام العظام إن العديد من الأفراد فازوا في زمن الغيبة الكبري بلقاء الإمام الغائب (عليه السلام) . نقل الشيخ الأستاذ حديثاً في هذا الصدد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، ثم أضاف إليه إيضاحاً . وإليك خلاصة لمضمون الحديث وإيضاح الأستاذ :

كان إخوة يوسف (عليه السلام) ذوي حصافة وعقل وأبناء نبي . وقد جاؤوا يوسف (عليه السلام) ، وتحدثوا ، وتبادلوا التجارة معه وكانوا إخوة له ، ومع هذا لم يعرفوه حتي قام بنفسه في التعريف وقال : - أنا يوسفُ . فَعَرَفُوهُ بعد ذلك .

فهل ينكر الناس المتحيرون إرادة الله تعالي لستر حجته عن الأنظار ؟

ص: 101


1- الإرشاد ، ص 360 .

فقد كان يوسف (عليه السلام) مالك مصر وكان البعد الفاصل بينه وبين أبيه مسير ثمانية عشر يوماً ، ولو كان الله تعالي مريداً التعيين محل يوسف لأبيه لفعل ، إذن ، كيف ينكرون أن الله فعل مع حجته كما فعل مع يوسف ؟ فأي مانع هناك لأن يكون صاحب الأمر بين الجماهير ، ويمشي في أسواقهم ويضع قدميه علي أبسطتهم وفي الوقت ذاته لا تعرفه الناس حتي يأذَن الله له فيعرِّفَ نفسَه ، كما أذن ليوسف حينما قال له إخوته : أأنت يوسف ؟

قال : نعم أنا يوسف .

فهذه الروايات صريحة في كون ولي العصر (عليه السلام) رغم أنه يعيش بين الناس ألا أنّهم لا يعرفونه وواضح أن هذا المفهوم لا يتناقض مع مفهوم أن بعض الناس يرون شخصه المبارك عن معرفة . إذ أن المقصود من المفهوم الأول هوأن الإمام (عليه السلام) رغم كونه في أوساط الناس إلا أنهم عموماً لا يعرفونه . إذن فلا منافاة بين هذه الروايات ورؤية ثلة قليلة للإمام علي أساس مصالح ومبررات(1) .

9- في مرآة الزمن

يمكن القول بأن الكثير من علامات آخر الزمان التي جاء ذكرها في الأحاديث الشريفة تجسدت في عالم الخارج منذ سنين ولا زالت تبرز وتتحقق باستمرار . فهذه العلامات والتنبؤات الغريبة والصحيحة كثيرة ، وهي تدور حول الأحداث والأوضاع التي تظهر في لوح الزمن شارعة في بروزها قبل الظهور بزمن . وقد أخذت بالتحقق الواحدة بعد الأخري ، التأمل في هذا اللون من الأحاديث التي تتناول آخر الزمان وأوضاع الشعوب في مثل هذه الأيام ، يعني : الأيام التي تسبق الظهور ، وبالأخص الأحاديث التفصيلية ، والتي ثُبتّت في

ص: 102


1- بيان الفرقان ، ج 5 ص 167 - 168

كتب الأحاديث يميط اللثام عن أمور في غاية العظمة ، وأعني الأحاديث التي يمثل نماذجها :

1- الحديث المعروف عن سلمان المحمدي عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) حيث لزم حلقة باب الكعبة(1) .

2 - حديث أنس بن مالك عن أمير المؤمنين في براث(2)ا .

3- حديث حمران بن أعين عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)(3) .

أبانت هذه الأحاديث أحوال آخر الزمان والطريقة التي يكون عليها الناس إبانة واضحة ، قبل قرون ، وكأن الذين طرحوا هذه الأحاديث كانوا يبصرون المستقبل في مرآة تعكس صورها بجلاء وصفاء كبيرين : أسلوب حياة الناس ، أخلاقهم وتعاملهم ، الضياع والإنحراف ، السلوك والعرف ، وضع الجماهير والنساء والأطفال ، الحياة وأدواتها وعلاقاتها ، وضع الأعلام والمنشورات ، الحكومات والنظم ، وعشرات المسائل الأخري . وهذه المفردات التي يمكن عدّها من العلامات العامة للظهور تحقق الكثير منها خلال الخمسين سنة الأخيرة . وتحقق نفس وقائع هذه المفردات يحقق للإنسان البصير يقظة ، ويصيره مؤمنا بالعلامات والأحداث الأخري التي لم تقع بعد .

10- السرعة والشمول

قيدان لازمان لشخصية المهدي (عليه السلام) في مرحلة الظهور . ومع الالتفات لهذين القيدين يمكن فضح كل مدع للمهدوية . وهذان القيدان هما : الفورية والعموم ، السرعة والشمول . يعني : إن ظهور المهدي الواقعي يستلزم عمومية تجسيد حكومة التوحيد في أرجاء العالم خلال مدة زمنية قصيرة جداً . وفي غير هذه الصورة يفتقد المهدي خاصته الذاتية .

إذن مع الالتفات إلي هذين الأصلين المسلمين - اللذين جاء ذكرهما في

ص: 103


1- جامع الأخبار ، بحار الأنوار ج 52 ص 262 - 264 .
2- كشف اليقين ، بحار الأنوار ج 2 ص 217 - 219.
3- روضة الكافي ، ص 34 - 42 ، بحار الأنوار ج 52 ص 254 - 260 .

أحاديث كثيرة - نعرف أن المهدي لم يظهر بعد حينما نلاحظ أن العالم بعد ادعاء المدعين لا يزال يعاني من أنظمة حكم متعددة وفاسدة ، ويعيش في ظل عقائد و مفاهيم باطلة ويغرق في ظلام دامس وظلم وذنب وضلال .

فأي مهديين أولئك الذين جاؤوا وانقرضوا ، ولا يزال العالم يتململ في ظلم وانحراف وتجاوز وكفر وجهل وضياع وانحطاط ؟!

فالمهدي لا يقدم بغية أن ينشر دعوة ، و ينشيء فرقة ، ويضيف لتمزق الأمم ومشكلات البشرية تمزقاً ومشكلات أخري .

المهدي بقية الله ، وذخيرة ربانية ، المهدي مظهر « يا منتقم » و « يا عدل ويا حكيم ». فهو ذخيرة لنجاة البشرية ، ذخيرة حيث يقدم لينتشل الإنسانية من كل ألوان الظلم والحرمان ، والجهل والتشرنق ، والآلام والمتاعب ...

يظهر المهدي بعد امتحانات إلهية للبشر - امتحانات عقائدية وعملية ، فردية واجتماعية ، أممية ودائمية ، للأجيال والعصور في حين مقدر ، بأمر الله ، ويعرف نفسه للناس ، ويصنع بسرعة وحسم من هذا العالم ( - بفضل الإمداد الغيبي وإعانة القوي الإنسانية لأصحابه ، والقوي غير المعروفة الأخري - ) عالماً إلهيّاً. وهذه هي الفلسفة العليا لغيبة وظهور المهدي (عليه السلام) . ومع الالتفات لهذا العمق الجوهري في شخصية المهدي وهذين المؤشرين الثوريّين لظهوره ( السرعة والشمول ) صار الشيعة الاثنا عشرية واعين مؤمنين ، في مأمن من شراك المدعين . والمتاجرين ، وذوي البدع ، والمستعمرين والخونة ، الذين يمزقون صفوف الأمة ووحدتها ، وفي منجي من كل انحراف وضلال ، وكانوا علي الدوام منتظرين ظهور « الطلعة الرشيدة » ، و « الدولة الكريمة » .

11- طلوع الشمس من المغرب

جاء الحديث ضمن علامات الظهور بصدد طلوع الشمس من المغرب وقد أوضح هذا الأمر في بعض من الأحاديث كما يلي :

تركد الشمس وقت الزوال في السماء ( تظلم السماء بشدة ، وتختفي الشمس ، وكأنها غربت ) وتستمر الحالة في

ص: 104

اختفائها ساعات العصر ، ثم تظهر - ( حين وصولها إلي جانب المغرب ) - من المغرب(1) .

في ضوء هذا الإيضاح يفهم أنه بركود(2) وظلمة الشمس واختفائها ، حين الظهر ، واستمرار الحالة إلي الوقت المتاخم للغروب ، ثم ظهورها في المغرب ، والذي يبدو لنا هو أن الشمس بعد اختفائها وسط السماء عند الزوال تطلع من المغرب وقت الغروب .

وقد جاء هذا المفهوم في بعض من الروايات : « إن وجها وعلامة تظهر للناس في عين الشمس » .

وجاء في بعض من الأثر أن المهدي وهو الشمس الطالعة من مغربها »(3) .

ص: 105


1- راجع الإرشاد ص 357 و ص 359.
2- يبدو أن الركود يعني اختفاء الشمس في الظلمة الشديدة ، و إلّا فحركة الكواكب قائمة كما أشارت لها نفس الأحاديث المشار إليها حيث جاء فيها إن الشمس بعد ساعات - من المدة التي تقضيها في ظلمة الجو تصل بعد ذلك إلي المغرب - ومن المغرب تأخذ بالطلوع .
3- إكمال الدين . بحار الأنوار ج 52 ص 195 .

ص: 106

الفصل السابع : في القران الكريم

اشارة

ص: 107

ص: 108

في «القرآن الكريم »

1- المهدي في القرآن

اشارة

اتضح جلياً أن موضوع « المهدي » و « الانتظار »، و « الظهور » انسحب علي أرجاء كتب ومصادر المذاهب الإسلامية . وقد قام النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) نفسه بتعليم هذه المفاهيم . وتحدث الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة الأخرون باستمرار في هذا الصدد ، وكشفوا عن زوايا كثيرة بصدد خصوصيات الموعود وظهوره والانتظار والمنتظرين . وعلماء ورجال الفرق الإسلامية حرروا فصولاً ودبّجوا كتباً في هذا المجال علي طول تاريخ الإسلام وفي سائر أرجاء العالم الإسلامي .

في هذا الضوء ، فهل يمكن أن لا يكون لمثل هذا الموضوع جذور في كتاب الله ؟

إن موضوعاً علي هذه الأهمية البالغة - قد علمه النبي وتحدّث عنه كثيراً ، ثم ورد الكثير من الحديث والبيان حوله عن علي (عليه السلام) والأئمة الأخرين - له جذوره القرآنية قطعاً ، وقد نزلت بشأنه آيات من الكتاب ....

لقد جاء الحديث في القرآن الكريم - بالإشارة حيناً و بالتصريح حيناً آخر حول تطورات المستقبل ، وحوادث آخر الزمان ، وامتداد الصلاح علي العالم ،

ص: 109

وتحقق حكومة الصالحين . وقد اعتبر المفسرون المسلمون هذا اللون من الآيات ، ذا علاقة بالمهدي وظهور آخر الزمان . وهناك آيات أخري في القرآن الكريم أشارت إلي لحاظ بسط ولاية المهدي (عليه السلام) سلطانها - بل كانت صريحة في هذا الصدد ، وسوف نستذكرها في الفصل القادم .

إليك قارئي الكريم عشر آيات من الآيات التي تلقي الضوء علي المهدي ، وأخر الزمان ، وإطلال طلعته الرشيدة ، وقيام دولته الكريمة :

الآية الأولي :

( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(1) .

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) :

« إن الأرض يرثها عبادي الصالحون : هم أصحاب المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان » .

ويعلق الشيخ الطبرسي بعد نقل الحديث الأنف بالقول :

ويدل علي ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتي يبعث رجلاً صالحاً من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ، كما قد ملئت ظلماً وجوراً ، وقد أورد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور أخباراً كثيرة في هذا المعني حدثنا بجمعها عنه حافده أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن أحمد في شهور سنة ثمان

عشرة وخمسمائة(2) .

وقد جاء في « تفسير علي بن إبراهيم » بهذا الصدد :

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر قال : الكتب كلها ذكر

ص: 110


1- سورة الأنبياء : 105 .
2- مجمع البيان ج 7 ص 66 ، 67 .

أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . قال : القائم وأصحابه . قال : والزبور فيه ملاحم وتحميد وتمجيد ودعاء(1) .

الآية الثانية :

( ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين )(2) .

هذه الآية أيضاً تنظر من زاوية - وفق ما جاء في بعض مقاطع «نهج البلاغة » وما ورد من روايات عن الأئمة الآخرين - إلي مستضعفي الشيعة وأنصار سبيل الحق ، حيث يستحقون في نهاية المطاف وراثة الأرض وحكومة العالم . وإنما يتحقق ذلك عصر ظهور الحجة البالغة(3) . في ضوء ما نقله المحدث الكبير الشيخ الصدوق في « أماليه » من رواية عن علي (عليه السلام) أنه قال : « هي لنا أو فينا »(4) .

الآية الثالثة :

(و يا أيها الذين آمنوا ، من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلّة علي المؤمنين أعزّة علي الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ... )(5) .

جاء في تفسير علي بن إبراهيم ما يلي :

نزلت في القائم وأصحابه . الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم(6) .

الآية الرابعة :

( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ،

ص: 111


1- تفسير نور الثقلين ج 3 ص 464 .
2- سورة القصص : 5 .
3- مجمع البيان ج 7 ص 239 .
4- تفسير نور الثقلين ج 4 ص 107، 111
5- سورة المائدة : 54.
6- تفسير نور الثقلين ج 1، ص 641.

ليستخلفنّهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم . وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضي لهم ، وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً ... )(1) .

يقول الشيخ الطبرسي :

المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وروي العياشي بأسناده عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قرأ الأية وقال : هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم علي يدي رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتي يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً وروي مثل ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبدالله (عليه السلام)(2) .

ويختتم أمين الإسلام الشيخ أبو علي الطبرسي حديثه بالتعليق في هذا المجال كما يلي :

. فإن التمكين في الأرض علي الإطلاق لم يتفق فيما مضي ، فهو منتظر لأن الله عز اسمه لا يخلف وعده .

الآية الخامسة :

( هوَ الّذي أرْسَلَ رَسُولهُ بالهَدي وَدينِ الحَقِّ لِيُظهَرهُ علي الدّين كُلِّهِ ، وَلَو كَرِهَ المُشركُون )(3) .

يقول رشيد الدين الميبدي في تفسيره « كشف الأسرار » شارحة للآية :

« هو الذي أرسل رسوله » محمداً « بالهدي » بالقرآن والإيمان « ودين الحق » الإسلام ، ليظهر الله دينه أي -

ص: 112


1- سورة النور : 55 .
2- مجمع البيان ج 7 ص 152 .
3- سورة التوبة : 33.

ليعليه علي سائر الأديان ، فلا يبقي دين إلا ظهر عليه الإسلام ، وسيكون ذلك ولم يكن بعد ، ولا تقوم الساعة حتي يكون ذلك ، رُوي عن أبي سعيد قال : ذكر رسول الله بلاءً يصيب هذه الأمة حتي لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم ، فيبعث الله رجلاً من عترتي وأهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، يرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض ، لا تدع السماء من قطرها شيئاً إلا صبّته مدراراً ، ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته حتي يُتمني إحياء الأموات(1) .

الآية السادسة :

( .. لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم )(2) .

يشرح رشيد الدين الميبدي هذا المقطع من الآية بالقول :

للنصاري في هذه الدنيا خزي وذلة وعار ، فإن كانوا من أهل الذمة فعليهم الجزية ، وإن كانوا حربيين فعليهم القتل ، ولهم في تلك الدار عذاب مهين خالد في النار . قال مقاتل والكلبي : « لهم في الدنيا خزي » هو فتح القسطنطينية وعمورية ، وفيها استئصالهم وخراب نظام دولتهم . قال المصطفي (عليه السلام) : « الملحمة العظمي فتح القسطنطينية ، وخروج الدجال في سبعة أشهر » .

يقول السدّي : خزيهم بخروج المهدي وفتح القسطنطينية وخراب ديارهم ، وقتل قوم منهم وأسر آخرين . والمهدي هو الذي قال المصطفي (عليه السلام) بشأنه :

ص: 113


1- كشف الأسرار ج 24 ص 119 - 120 .
2- سورة البقرة : 114 .

لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجلاً مني(1) .

الآية السابعة :

( ... ومن قتل مظلوماً ، فقد جعلنا لوليّه سلطاناً ، فلا يسرف في القتل إنّه كان منصوراً )(2) .

يقول الحويزي في تفسير « نور الثقلين » :

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : هو الحسين بن علي (عليه السلام) قتل مظلوماً ونحن أولياؤه ، وقال النبي : المقتول الحسين (عليه السلام) ووليه القائم ، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله إنّه كان منصوراً فإنّه لا يذهب من الدنيا حتي ينتصر برجل من آل رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً(3) .

الآية الثامنة :

( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين .. )(4) .

جاء في تفسير « نور الثقلين » نقلا عن أصول الكافي ما يلي :

محمد بن يحيي عن حفص بن محمد قال : حدثني إسحق بن إبراهيم الدينوري عن عمر بن زاهر عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سأله رجل عن القائم : يسلم عليه بإمرة أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، ذاك اسم سمي الله به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لم يسمَّ به أحد قبله ولا يتسمي به بعده إلا كافر ، قلت : جعلت فداك كيف يسلم ؟ قال : يقولون : السلام عليك يا بقية الله ثم

ص: 114


1- كشف الأسرار ج 1 ص 325.
2- سورة الإسراء : 33.
3- نور الثقلين ج 3 ص 163 .
4- سورة هود : 86.

قرأ : ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ..)(1) .

نقل الشيخ الطبرسي في كتابه « الاحتجاج » عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال :

هم بقية الله يعني المهدي (عليه السلام) الذي يأتي عند انقضاء هذه الفترة . فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(2) .

ونقل الشيخ الصدوق في كتابه « إكمال الدين » حديثاً طويلاً عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) حيث يتحدث فيه الإمام (عليه السلام) بصدد القائم (عليه السلام) ، وقد جاء فيه :

عن محمد بن مسلم الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) : يقول فيه : فإذا خرج أسند ظهره إلي الكعبة واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فأول ما ينطق به هذه الآية ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين .. ) ثم يقول : أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم فلا يسلم إليه مسلم إلا قال : السلام عليك يا بقية الله في أرضه(3) .

كما جاء في الأثر عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال :

قال أبو جعفر ( عليه السلام ) :

إن العلم بكتاب الله عز وجل وسنّة نبيه ( صلي الله عليه وآله ) لينبت في قلب مهدينا كما ينبت الزرع علي أحسن نباته ، فمن بقي منكم حتي يراه فليقل : حين يراه « السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة والنبوة ومعدن العلم وموضع و الرسالة ، السلام عليكم يا بقية الله في أرضه(4) .

الآية التاسعة :

( .. يوم يأتي بعضُ آياتِ ربِّك ، لا ينفع نفساً أيمانُها لم تكن آمنت مِن قبل .. (5) .

ص: 115


1- نور الثقلين ج 2 ص 390 .
2- نور الثقلين ج 2 ص 390 .
3- نور الثقلين ج 2 ص 390 .
4- بحار الأنوار ج 52 ص 317 - 318.
5- سورة الأنعام : 158 .

يقول السيد هاشم البحراني صاحب التفسير المعروف :

قال الشيخ الصدوق نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) : الآيات : الأئمة والأية المنتظرة : القائم (عليه السلام) ، فيومئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف ، وإن آمنت بمن

تقدم من آبائه (عليهم السلام)(1) .

ويقول أيضاً :

قال أبو بصير : قال الصادق (عليه السلام) : في قول الله عز وجل : يوم يأتي بعض آيات ربك .. يعني خروج القائم المنتظر منّا ثم قال (عليه السلام) : يا أبا بصير : طوبي لشيعة قائمنا المنتظرين ظهوره في غيبته ، والمطيعين له في ظهوره ، أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(2) .

الآية العاشرة :

( فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم )(3) .

المعنيّ في هذه الآية المباركة هو : تقدير الأمور ليلة القدر في كل عام ، ويرتبط هذا المقصود بشكل مباشر بوليّ العصر (عليه السلام) ، وشهود ولايته في أوساط الأمة وحركتها وفي أرجاء عالم الكائنات . وسوف نتحدث في هذا المجال خلال الفصل القادم .

2- عدد من التفاسير

الآيات العشر آنفة الذكر ، وآيات أخر من « القرآن الكريم » فُسرت ب « المهدي الموعود » ، ومجريات حوادث آخر الزمان ، والإرهاصات المقارنة للظهور وبعده . وفي شرح و تفسير هذه الآيات استند إلي الأحاديث النبويّة ، وأقوال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة الأخرين ، وسائر علماء ومحدّثي الإسلام المبرزين . ومن الممكن أن يتعذر وجود كتاب تفسير العلماء الشيعة لم

ص: 116


1- تفسير البرهان ج 1 ص 564.
2- تفسير البرهان ج 1 ص 564.
3- سورة الدخان : 4.

يتطرق فيه بمناسبة هذه الأيات للحديث عن المهدي (عليه السلام) والقضايا المرتبطة بهذا الإمام ، ولا أجد هنا حاجة لذكر فهرست أسماء هذه التفاسير ، مع أنه يمكن الرجوع - لمزيد من الاطلاع بصدد الآيات القرآنية ذات الارتباط بالموضوع - إلي كتاب :

( المحجة فيما نزل في القائم الحجة ).

والكتاب من مؤلفات العالم الكبير السيد هاشم البحراني(1) ، صاحب التفسير القيم « البرهان » .

وقد فسرت بعض الآيات المشار إليها وآيات أخري في تفاسير أهل السنة المعتبرة بالمهدي (عليه السلام) ، وظهوره أيضاً . وإليك أسماء عدد من تفاسير علماء أهل السنة التي فسرت فيها بعض آيات القرآن العزيز بالمهدي (عليه السلام) ووقائع ظهوره ، والتي جاء فيها ذكر هذا الإمام العظيم :

1 - تفسير غرائب القرآن * النظام النيشابوري .

2 - تفسير الكشف والبيان * أبو إسحاق الثعلبي .

3 - تفسير الكشاف * جار الله الزمخشري .

4- تفسير كشف الأسرار * رشيد الدين الميبدي .

5- تفسير مفاتيح الغيب * الفخر الرازي .

6 - تفسير الدر المنثور * جلال الدين السيوطي .

7- تفسير المنار * الشيخ محمد عبده .

8- تفسير روح البيان * إسماعيل حقي .

9 - تفسير روح المعاني * شهاب الدين الألوسي .

10 - تفسير الجواهر * الطنطاوي .

ص: 117


1- السيد هاشم البحراني من علماء ومحدئي الطبقة الحادية عشرة - الثانية عشرة المتوفي عام 1107 أو 1109 من الهجرة النبوية المباركة .

ص: 118

الفصل الثامن: في سورة القدر

اشارة

ص: 119

ص: 120

في ( سورة القدر )

1- سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتي مطلع الفجر )

2- أيُّ ليلة ؟

ما هو هذا الأمر العظيم ؟

وأيّ الليالي هذه الليلة ؟

أيّ ليلة ، هذه الليلة المباركة ، التي تنزل القرآن فيها ؟ أيّ اللحظات الغالية التي تقع فيها هذه الليلة ، التي هي خير من ألف شهر ؟ الليلة التي تتنزل فيها الملائكة ، ويهبط فيها الروح ( جبرائيل )(1) ، هذه الليلة التي يؤتي فيها

ص: 121


1- ذهبت بعض الأحاديث إلي أن « الروح » في هذه الآية هو جبرائيل ، وجاء في البعض آخر أعظم من جبرائيل وسائر الملائكة .

بالأوامر والتقادير إلي الأرض ، مصمّمة معيّنة وفق حكمة وتدبير ، الليلة التي تصير كل آناتها ولحظاتها حتي يتنفس الصبح سلاماً وتحية ورحمة وسلماً وأمناً ويمناً .... أيُّ ليلة هذه ؟

أجل ، تهبط الملائكة والروح في كل عام في ليلة حين « القدر » وهي تحمل معها بإذن الله كل أمر وتقدير ... كيف يكون هذا الأمر ؟ صوب أيّ شخص تذهب هذه الملائكة ، وألي أي شخص تعهد بهذه الأوامر والمقدرات ؟

أين هو المحل الذي تهبط عنده الروح العظيمة ؟

وأي موقع مقدس ومنطلق للهدي ومستودع للنواميس تحطُّ بجانبه الملائكة وهي تحمل معها « كل أمر » ؟

تحلق الملائكة من قاعدة انطلاقها « السماء » في ليلة القدر ، ففي أي منزل مقدس ولدي أي محط ومهبط مطهر تحط وتهبط ؟

3- ليلة القدر ، ورسالة هجر

تلك الليلة التي لا بد أن تستبطن شكوي هجران ، والتي تستيقظ علي أمل الوصال واللقاء ، والتي تسكر سلاماً بنخب الظلام الأول حتي « مطلع الفجر » أي ليلة تلك ؟

تلك الليلة التي يدعوها الشاعر «حافظ القرآن »(1) مستلهماً كتاب الله ب « ليلة الوصال » التي تنطوي علي رسالة هجر وتختتم بها ، أي ليلة هدي ، تضيء القلب هذه ؟

ليلة لا بدّ أن يكون فيها العاشق المتصابر : ساعياً طالباً ، يبقي علي يقظة بلا نوم ، يتلمس اللقاء ، ويتخذ الإحياء فيها سبيلاً ليعكف علي المناجاة ، فاعلاً للخير ، موقعاً الصالحات حيث موقعها ، يصل أفضل الحاجات فيها ، ويطلب البصيرة والمعرفة ، مذاكراً للعلم(2) .

ص: 122


1- المقصود : حافظ الشيرازي ، الشاعر الإيراني المعروف .
2- قال شيخنا الصدوق فيما أملي علي المشايخ في مجلس واحد من مذهب الإمامية : « ومن أحيي هاتين الليلتين بمذاكرة العلم فهو أفضل » مفاتيح الجنان ، ص 226 - 227.

ليلة لا ينأي فيها عمل دون أن يصيب الثواب .

ليلة لا بدّ أن يستذكر فيها وجه ذلك المحبوب العزيز، والعون المشرّد عن الديار والمختفي الشاهد استذكاراً ممزوجاً بأنّات الام العاشقين ، ولا بدّ أن يلتمس فيها شهود طلعته من الرب العظيم ...

أي ليلة عزيزة هذه ؟

4- ليلة في كل عام

يفهم بوضوح من خلال آيات « سورة القدر »(1) أن هناك ليلة في كل عام أفضل من ألف شهر - قيمة وقدراً وشرفاً -(2) .

ليلة تأتي في كل عام . وهناك في كل عام ليلة واحدة تدعي ليلة القدر تأتي الملائكة بصحبة عظيمها في هذه الليلة إلي الأرض متنزلة بكل أمر وتقدير قد حُدّد من قبل الله - لعام واحد لغاية ليلة قدر العام القادم - .

الذي يفهم من خلال الأحاديث التي جاءت في تفسير هذه السورة ، وتفسير آيات مطلع سورة « الدخان » هو : إن الملائكة تجلب في ليلة القدر مقدرات عام واحد ل « ولي العصر المطلق » ، وتعرض هذه المقدرات عليه وتسلمها إيّاه ، وهذا الواقع كان علي الدوام ، ويستمر في الكون . ففي أيام النبي الأكرم كان محل المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) مهبط نزول الملائكة ليلة القدر . وهذا الأمر مورد قبول الجميع وهناك أمر آخر مورد قبول أيضاً وهو أنه بعد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) توجد «ليلة قدر » أيضاً كما جاء بوضوح في القرآن الكريم في سورتي « القدر » و « الدخان » بأن هناك ليلة «قدر» في كل عام .

يقول المفسر السني المعروف رشيد الدين الميبدي :

واختلفوا في وقتها : فقال بعضهم : إنها كانت علي عهد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ثم رفعت . وعامة الصحابة والعلماء علي

ص: 123


1- كذلك يفهم من آيات مطلع « سورة الدخان » ، التي سوف يأتي ذكرها .
2- قيام ليلة القدر والعمل فيها خير من قيام ألف شهر ليس فيه القدر . مجمع البيان ، ج 10 ص 520.

أنها باقية إلي يوم القيامة(1) .

ينقل الشيخ الطبرسي أيضاً رواية عن أبي ذر الغفاري في هذا الصدد :

جاءت الرواية عن أبي ذر ، أنه قال : قلت : يا رسول الله : ليلة القدر هي شيء تكون علي عهد الأنبياء ينزل فيها فإذا قبضوا رفعت ؟ قال : لا . بل هي إلي يوم القيامة .(2)

وصلت أحاديث متعددة بصدد هذا الموضوع العقيدي المهم وهذه القضية القرآنية العظيمة ، خضعت للدرس والتحليل والإيضاح . ومن جملة هذه الأحاديث حديث آخر نقل في كتاب « أصول الكافي ». وقد جاء علي لسان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث ما يلي :

كان علي (عليه السلام) كثيراً ما يقول [ ما ] اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وهو يقرأ « إنا أنزلناه » بتخشع وبكاء فيقولان : ما أشد رقتك لهذه السورة . فيقول رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : لما رأت عيني ووعي قلبي ، ولما يري قلب هذا من بعدي . فيقولان : وما الذي رأيت وما الذي يري ؟ قال : فيكتب لهما في التراب ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله عز وجل : ( كل أمر ) فيقولان : لا .... ». (3)

5. صاحب ليلة القدر

حينما ننتهي عبر المعرفة القرآنية إلي أن هناك « ليلة قدر » في كل عام ، فلا بد من الالتفات إذن إلي دوام حضور (صاحب ليلة القدر ) - كما جاء في

ص: 124


1- كشف الأسرار ج 10 ص 559 .
2- مجمع البيان ج 10 ص 518.
3- اصول الكافي ، كتاب الحجة ، باب في شأن ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، الحديث الخامس

الأحاديث - ، وإلاّ فإلي أيّ شخص تهبط الملائكة ؟

وإلي أي فرد تحمل كتاب المقدّرات ؟ وإلي أيّ شخص تعهد الملائكة بمجاري الأمور بإذن الله ؟

الولاية التكوينية لا تنفصل عن الولاية التشريعية . وعكس هذه القضية صادق أيضاً . إذن ، فكما جاء في القرآن الكريم من استمرار وجود « الحجة » حتي قيام الساعة ، فصاحب ليلة القدر أيضاً موجود باستمرار وهو « الحجة » . وأضحي هذا المركز بعد رحلة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) من نصيب أوضياء النبي . وهاتان الحقيقتان الكبيرتان ( يعني : وجود ليلة قدر في كل عام ، ووجود صاحب ليلة القدر في كل عصر ) يشير إليهما الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما يلي :

إن ليلة القدر في كل سنة : وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، وإن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)(1) .

والملفت للنظر حقاً هو أن علماء أهل السنة أيضاً صرّحوا بهذه الحقائق في مواقع من بحوثهم ، ومن جملتها في شرحهم ل ( حديث الثقلين ) .. وحديث الثقلين حديث متواتر ومشهور ، وقد تناقلته مئات المصادر الشيعية والسنيّة ، وأحد الحقائق الإسلامية والأحاديث النبوية المسلّمة . يقول النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) في هذا الحديث :

« إني تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله

وعترتي »(2) .

لعلماء أهل السنة ومحققيهم إيضاحات، في غاية الأهمية بصدد هذا الحديث ، نورد هنا أحد هذه الإيضاحات كنموذج :

يقول المحدث المعروف ابن حجر الهيثمي الشافعي صاحب المؤلفات الكثيرة ، ومؤلف و الصواعق المحرقة » :

ص: 125


1- المصدر السابق نفس الباب ، الحديث 2.
2- عبقات الأنوار ، مجلدات « حديث الثقلين » ، طبع أصفهان .

وفي أحاديث الحث علي التمسك بأهل البيت إشارة إلي عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به ، إلي يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ...(1) .

سوف نتحدث في الفصل القادم حول أهمية « ليلة القدر » من زاوية قانونين عظيمين حاكمين علي الكائنات وهما « قانون الوساطة في الفيض » و « قانون الإجمال والتفصيل في الخلق والتقدير ». ونقتصر علي الإشارة هنا إلي أن قضية « إدامة التقدير »، و « إدامة مجري التقدير » قضية حتمية وقانون إلهي . وحيث إن الأمر كذلك فهو غير قابل للتبديل علي الإطلاق ، وهي أمر ثابت لا يتغير ، وهاتان الحقيقتان التوأم باستمرار قائمتان علي الدوام ويستمران في الكينونة .

وقد بلغنا في هذا الصدد تعليم عن الإمام الجواد (عليه السلام) ، يحسن بنا أن نورد خلاصة هذا التعليم هنا حيث إنه بيان ولي لتلك الحقيقة وذاك الواقع الثابت :

« لقد خلق الله جل ذكره ليلة القدر أول ما خلق الدنيا ، ولقد خلق فيها أول نبي وأول وصي يكون ، ولقد قضي أن يكون في كل سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأمور ...

أما الأنبياء والرسل - صلي الله عليهم - فلا شك ولا بدّ لمن سواهم - من أول يوم خلقت فيه الأرض إلي آخر فناء الدنيا - أن تكون علي أهل الأرض حجة ينزل ذلك في تلك الليلة إلي من أحب من عباده . وايم الله لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر علي آدم ، وايم الله ما مات آدم إلاّ وله وصي وكل من بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه من بعده .. »(2) .

عبر هذا الحديث الشريف والإلهام العظيم - الذي أوردنا مقطعاً منه -

ص: 126


1- عبقات الأنوار ج 3 ص 151 ، انظر أيضأ « شرف الدين » ص 58 - 66 .
2- اصول الكافي ، باب في شأن ( إنا أنزلناه ) الحديث 7.

نلتقي بملاحظات عقيدية ومعرفية غاية في الأهمية ، تستحق مزيداً من الالتفات الشامل والعميق ، حيث تضحي معرفة واقع الوجود وماهية العالم ، وعلامات الموجودات ، وصلب قوام الحقائق دون معرفة تلك الأصول والروابط معرفة لا تتعدي فهم القشر الظاهر ، كما أشار القرآن الكريم لعلوم أولئك الذين لا يمتلكون معرفة تلك الحقائق بقوله تعالي :

( يعلمون ظاهرة من الحياة الدنيا ... )(1) .

ومن الواضح أن المعرفة الظاهرية للأشياء والعالم لا تتناقض مع الوصول الفهم خواص بعض الأجسام والفلزات والمركبات الكيمياوية والمعادن ، واكتشاف عد من المجرات والكواكب ... واختراع بعض وسائل الترفيه والحرب وعدد من الأدوات الطبية والإعلامية والسياحية . فهذه جميعها لا تزال أيضاً عند حد تلك المعرفة الظاهرية والصورية بالقياس لإدراك الحقائق . نعود إلي صلب الموضوع حيث كان الحديث حول الملاحظات التي تضمنها الحديث الشريف ، ونشير هنا إلي خمس من تلك الملاحظات :

1- ضرورة وجود نظام وتقدير في العالم ، منذ إبداع أول شيء في الكون ، وليلة القدر ، تعني : ظرف تقدير وتنظيم الأمور .

2- ضرورة وجود قوّة منفّذة ، وتظهر هذه القوة بشكل ما، مصاحبة لظرف و التقدير .

3- ضرورة وجود الحجة أثناء حركة الأشياء ، وهو نفسن منقذ المقدرات بإذن الله ، وهو خليفة الله : النبي ، أو وصي النبي .

4- ضرورة وجود واسطة في الفيض تقوم بالربط الداخلي للعالم ، وهو عبارة : عن الولي والحجة ، ووجوده متقدم علي وجود الآخرين .

5- ضرورة استمرار سنن التاريخ الإلهية ، دون وقفة وتقطّع ، حتي يوم البعث وقيام الساعة .

ص: 127


1- سورة الروم : 7.

إذن ؛ نلاحظ أن ليلة القدر والتقدير كانت منذ إبداع هذا العالم . وكانت الأمم السالفة مهتمة بهذه الليلة وقيل : إن الأمم السابقة كانت تطلب ليلة القدر ، وكانت علي علم بهذه الليلة وأهميتها (1) .

6- القرآن وليلة القدر

جاء في بعض الأحاديث : إن رجلا قال للإمام الصادق (عليه السلام) : أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام ؟ فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن .

يشير بيان الإمام الصادق (عليه السلام) آنف الذكر إلي الفلسفة الغائية لنزول الإنسان إلي الأرض . ففي هذا الضوء يضحي العالم الأرضيّ مقراً للإنسان ، ليمتحن الإنسان في هذا المقر ، ويتميّز بعلم الكامل عن الناقص ، والسعيد عن الشقي ، ليمضي الإنسان في نهاية المطاف علي نهج حركته التكاملية صوب الله . وهذا يستلزم استقرار العالم الأرضي ، واستقرار العالم الأرضي يستلزم التقدير والحكمة والتدبير والتنفيذ ، وكل ذلك يرتبط بليلة القدر وتنظيم أمور العالم وحضور الولي والحجة .

وفي ضوء كينونة هذه الأمور جميعها يلزم وجود كتاب المعرفة والعمل . إذن ، حكمة دوام العالم الأرضي هي حركة الإنسان التكاملية المرتبطة بالكتاب والحجة . وحيث إن إلغاء ليلة القدر بمنزلة تمزيق أوصال العالم الأرضي فسوف يلغي القرآن أيضاً في صورة إلغاء ليلة القدر فما دام العالم كانت ليلة القدر ، وما دامت ليلة القدر كان القرآن موجوداً ، وما داما - القرآن وليلة القدر - كان الحجة موجوداً وهو صاحب ليلة القدر وحامل علم القرآن .

علي هذا الأساس فبيان الإمام الأنف إشارة أيضاً لتلك الحكمة العميقة والسر العظيم لوجود الارتباط والتلاحم بين الهداية التكوينية والهداية التشريعية ، والارتباط المباشر بين الحجة الصامتة ( القرآن ) ، والحجة الناطقة

ص: 128


1- كشف الأسرار ج 10 ص 559.

( الإمام ) ، ويلقي هذا البيان التعليمي الضوء علي مقولة النبي المعروفة في حديث الثقلين - الأنف ذكره - حيث جاء في العديد من متون حديث الثقلين قوله : «لن يفترقا حتي يردا علي الحوض ».

في ختام هذه الفقرة هناك مفهوم عظيم آخر يستحق الإشارة . وهذا المفهوم هو العلاقة بين علم الإمام وليلة القدر من جهة وعلاقته بالقرآن الكريم من جهة أخري . فما هي العلاقة بين الأمور والمقدرات التي تطرح علي الإمام وتتحقق تنفيذيّاً علي يديه ، وبين القرآن الكريم وآياته وعلومه وأسراره ؟

تحتل هذه المسألة - من زاوية معرفة أبعاد القرآن الكريم المختلفة والوقوف علي بواطن آياته والطاقات الكامنة فيها - أهمية بالغة . ترتبط الخصوصيات الواقعية للآيات - التي أشير لها في بعض المواقع - بهذه المعرفة ، كما أن تجسيد هذه الخصوصيات أيضاً يكمن في الحصول علي علم بهذا الصدد .

ولدعم هذا المفهوم يحسن استذكاراً مسألة : إننا نلاحظ أن نزول القرآن في ليلة القدر - المشار إليها - بل عبر سورة القدر والدخان ابتدأ بالحديث عن نزول القرآن في هذه الليلة ، ثم عطف الحديث حول ليلة القدر نفسها ومضمونها والحقائق التي تنطوي عليها .

7- علي وليلة القدر

عن أحمد بن هودة ، عن إبراهيم بن إسحق ، عن عبد الله بن حماد ، عن أبي يحيي الصنعاني ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، قال :

سمعته يقول : قال لي أبي محمد : قرأ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وعنده الحسن والحسين فقال له الحسين : يا أبتاه فإن بها من فيك حلاوة ، فقال له : يابن رسول الله وابني ، اعلم أني أعلم فيها ما لا تعلم ، إنها لما أنزلت بعث إليّ جدك رسول الله

ص: 129

( صلي الله عليه وآله ) فقرأها علي ثم ضرب علي كتفي الأيمن ، وقال : يا أخي ووصيي وولي علي أمتي بعدي ، وحرب أعدائي إلي يوم يبعثون ، هذه السورة لك من بعدي ولولديك من بعدك إن جبرئيل أخي من الملائكة حدث لي أحداث أمتي في سنتها ، وإنه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوة ولها نور ساطع في قلبك وقلوب أوصيائك إلي مطلع فجر القائم(1) .

8- ليلة مباركة

ورد الحديث عن ليلة القدر في القرآن الكريم في سورة الدخان مضافاً .لطرحها في سورة القدر . ففي الآيات الأولي من سورة الدخان مضي الحديث عن نزول القرآن ليلة القدر وحول تعيين الأمور وفق حكمة :

( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين )(2) .

ففي هذه الآيات جاء الحديث أيضاً عن ليلة القدر والتقدير واليمن ، كما جاء عن نزول القرآن وهبوط الملائكة بأمر الله .

وفي الآية الرابعة أيضاً جاء التعبير عن الفعل بصيغة المضارعة ( يفرق ) حيث تدل علي الدوام والاستمرار . ويفهم من هذا أن التفريق وإقامة الأمور علي أساس الحكمة يمضي تحقيقه باستمرار في مثل هذه الليلة .

سوف نقول في الفصل القادم إن تنظيم أمور العالم علي امتداد الزمن يستلزم الإجمال والتفصيل ، يعني : تعيين جميع الأمور - في البدء - علي نحو عام ثم تأخذ جزئياتها طريقها في مسيرة التجسيد والتحقق . خذ مثلاً برنامجك السنوي ، فأنت تحدد - بدءاً - دخلك السنوي إلي جانب المهام والالتزامات

ص: 130


1- البرهان ج 4 ص 487 .
2- سورة الدخان : 3- 5 .

التي بعهدتك فتخطط لوضعك خلال العام ، ثم تمارس عملك اليومي وفق البرنامج السنوي المعين وبشكل دقيق ومنظم ، وهذه الحقيقة لازم طبيعي للتنظيم والنظام ، وذات علاقة بمبدأ تفريق الأمور ، يعني : عزل وفرز الأمور والقضايا واحدة واحدة . يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث :

... قال : « فيها يفرق كل أمر حكيم » ، فكيف يكون حكيماً إلاّ ما فرق ...(1) .

علي هذا الأساس فتوفّر أمور العالم المختلفة في حركتها علي الإحكام والتنظيم مع ما فيها من دقة واتساع هائل عبر بلايين الأجزاء والأفراد ، وبلايين القوانين ... يحصل كما يلي : بدءا يقرر برنامج دقيق ويحدد تقدير حكيم ، ثم يوضع حيّز التطبيق علي علاقة بخليفة الله في الأرض ( يعني : المنفذ والمشرف علي عملية التنفيذ ) .

يتضح علي هذا النهج أن الآيات المتقدمة أجمع ذات دلالة علي استمرار وجود « حجة الله » علي الأرض . واليوم يمثل الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام) حجة الله علي الأرض ، وواسطة الفيض والولي المطلق وبتعبير الشيخ البهائي صاحب سرّ الله في هذه الدار »(2) وهو الإمام الموعود ، وقطب حركة العالم وروحه ، وحقيقة الزمان وعدل القرآن . وهو نفسه صاحب ليلة القدر ، ومحله الرفيع مهبط الروح والملائكة في ليلة القدر ، حيث ورد في الأثر :

إن الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة ، وصاحب هذا الأمر في شغل نزول الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلي طلوعها من كل أمر سلام هي له إلي أن يطلع الفجر(3) .

ص: 131


1- البرهان ج 4 ص 487 .
2- ورد هذا التعبير في قصيدته المعروفة « وسيلة الفوز والأمان في مدح صاحب الزمان » : إمام الوري طود النهي منبع الهدي * وصاحب سر الله في هذه الدار وقد ترجمنا « 29 » بيتا من هذه القصيدة الجميلة في كتابنا « الأدب والالتزام في الإسلام » .
3- نور الثقلين ج 5 ص 641 .

9- احتجاج

تطرق الحديث في القرآن الكريم لمفهوم « الخلافة الإلهية » :

( .. إني جاعل في الأرض خليفة ... )(1) .

سوف نتحدث حول هذا المفهوم في الفصل القادم .

وهنا نذكر بأن المقصود من مجموع المصطلحات « الولي المطلق » ، « الولي الكامل » ، « ولي الزمان » ، « ولي العصر » ، « الحجة الناطقة » ، و « صاحب ليلة القدر » ... هو مفهوم « خليفة الله » في الأرض . فبعد رحلة النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ، واختتام مرحلة النبوة والأنبياء ، أضحي هذا المركز الخطير نصيباً لأوصياء النبي ، يعني : علياً وأبناءه الأحد عشر .

مع الالتفات إلي هذه المفاهيم القرآنية والإسلامية ، كيف يمكن أن يخطر في الذهن أن مثل هذا المركز وهذه العلاقة مع الله وأغوار العالم وأسرار التقدير يكون خلفاء بني العباس طرفها ، أمثال المنصور الدوانيقي ، وهارون الرشيد ، وجعفر المتوكل ، أو أن صاحب هذا المركز وطرف العلاقة هو خلفاء بني أمية أمثال يزيد بن معاوية ، والوليد بن عبد الملك ، ومروان بن الحكم ؟!

فهل يمكن أن يكون هؤلاء ورثة العهد الإلهي وخلفاء الله علي الأرض ؟

الخلافة عهد إلهي ، ولا يبلغ هذا العهد إلا الصالحين والمعصومين والطاهرين المطهرين . فهؤلاء وحدهم يمكن أن يكونوا ورثة علوم الأنبياء وحملة العهد الإلهي إذ : ( ... لا ينال عهدي الظالمين .. )(2) .

فهذا المفهوم وتلك التي تقدمت ، أعني : مسألة ليلة القدر ، والخلافة الإلهية علي الأرض ، واستمراريتها - التي تعني بتعبير آخر : استمرار بقاء القرآن وإدامة حجيّته - علي علاقة مباشرة بضرورة الإمام ، ولزوم الإمامة ، ومن هنا كانت « سورة القدر » و « سورة الدخان » من أهم أدلة استمرار ولزوم « الإمامة الحقة » و « الخلافة الإلهية » في الأرض ، وهما أعظم سند علي

ص: 132


1- سورة البقرة : 30.
2- سورة البقرة : 124.

استمرار الناموس الإلهي في عالم الأرض .

وعلي أساس هذه الرؤية القرآنية يقدم الإمام التاسع ، الجواد (عليه السلام) ، للشيعة تعليماً تربوياً وذا أهمية بالغة ، فيقول :

- «يا معشر الشيعة ! خاصموا بسورة ( إنا أنزلناه في ليلة القدر » تفلحوا(1) . فوالله إنها لحجة الله - تبارك وتعالي - علي الخلق بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)(2) ، وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية علمنا . يا معشر الشيعة : خاصموا ب ( حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ) فإنّها لولاة الأمر خاصة ، بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)(3) .

10- معيار الإنسانية

الإنسان الذي يحيا علي وجه الكرة الأرضية يشترك مع سائر الأحياء في كثير من الفعاليات ، فالأحياء تتنفس ، وتتحرك ، وتأكل ، وتنام وتتناسل ، وتسمع الأصوات ، وتري الأشياء ، ولها أحاسيسها ولذاتها كما تبلغها الام وتنالها المضار أيضاً . والإنسان الاعتيادي شأنه شأن سائر الأحياء والحيوانات في هذه الفعاليات . بل الإنسان المتوحش والضائع أكثر انحطاطاً وضعفاً في كثير من الفعاليات والخصائص المادية ( .. بل هم أضل سبيلاً .. )(4) .

متي يتجاوز الإنسان مرحلة الحيوانية ويبلغ حد الإنسانية، وبتعبير سعدي : « الأدمية » ؟ حينما يحلق الإنسان إلي مرحلة الأدمية فهو ينقذ ذاته من حضيض التكلّس المادي ويبلغ أرقي مراحل الواقعية . وما دام الإنسان مهموماً ومتعلقاً

ص: 133


1- يعني : اثبتوا لزوم الإمامة بهذه السورة ، واسألوا أولئك عن معني هذه السورة وعلي أي شخص و تهبط الملائكة وتعرض المقدرات ليلة القدر ؟
2- يعني : أن بعد رحلة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) هناك مصداق لهذه السورة أيضاً ، فاسألوا : من هو مصداقها ؟
3- سورة الدخان : 1- 3.
4- سورة الفرقان : 44.

بظواهر الحياة المادية ، وواقعاً في أسر « الشهوة والأكل والشرب والنوم »، وغير مالكٍ لمعرفة سليمة عن حقائق العالم وواقع وجوده ، فهو لا يفترق كثيراً عن الحيوانات . يفترق الإنسان ويرقي عن هذه المرحلة حينما يتجاوز عالم الحركة الظاهرية ، السمع ، البصر ، والحضور الظاهري في مرحلة هذا العالم ، ليصل إلي مرحلة العمق والرؤية الباطنية والحضور النافذ . وبتعبير آخر : أن يحلّق فوق وجوده الملكي لينال ملكوته « واقعة الوجودي ، وحقيقته الداخلية » ويحصل عليها لينتقل عن طريق بلوغ واقعه الوجودي إلي واقع وملكوت وجود الأشياء الأخري كاشفاً عنه ومستبصرة الأفقه .

ما ذكرناه مجملاً إنّما يحصل في أفق المعرفة السليمة للذات والعالم . وهذه المعرفة السليمة رهينة بمعرفة الرابط الوجودي ومعرفة ماهية واقع الأشياء. والمعرفة الثانية تكمن في استبصار « يد الله المبسوطة » في العالم ، والتعلق بها وهي تعني : « وليّ الزمان » ، والهوية الداخلية للعالم .

ولأجل الاهتداء إلي تلك المعرفة والاعتقاد بهذا الواقع أراد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أن يمتلك الناس اعتقاداً وإيماناً ب «ليلة القدر » . إذ إنّ هذا الاعتقاد والإيمان يفضي - من الناحية المعرفية والنظرية - إلي تطابق معرفة الإنسان مع الواقع والقانون الإلهي للعالم ، ويوجب - من الناحية العملية - أن يمتلك الإنسان موقفاً سليماً ونهجاً سياسياً صالحاً وقائداً إلهياً لمسيرته الاجتماعية .

روي الشيخ المفيد بأسناده عن الإمام الجواد (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال لأصحابه :

« آمنوا بليلة القدر ، فإنه ينزل فيها أمر السنة ، وإن لذلك ولاةً من بعدي : علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده »(1) .

والحديث المشهور الذي ژوي عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) يلحظ هذه المفاهيم ايضاً :

«من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية ».

ص: 134


1- الإرشاد ص 348.

الإنسان الذي لا يبصر خطّ الحركة السليمة في حياته ، سوف لا تقع فعالياتها - حركته وسكونه في الحياة - علي طريق التكامل .

الحركة التكاملية للإنسان حركة وفق الخط السليم « الوجود » و «التكليف » و « الغاية » . ولا يمكن استبصار هذا الخط الذي هو عين الصراط المستقيم دون معرفة هادي الخط والموجه إليه . والحركة بغير هذا الخط انحطاط وإفساد للعمر وتضييع للفرصة .

وبعبارة أخري : إن الحركة التكاملية حركة باتّجاه الكمال ، وخير كمال وأرقي ألوان الكمال هو الكمال المطلق ، والكمال المطلق هو الله . إذن الحركة التكاملية حركة صوب الله وعلي طريقه .

بل لا بد من القول : إنّ الحركة التكاملية وقف علي الحركة باتّجاه الله لا إله إلا الله » . وواضح أن الحركة باتجاه الله غير ممكنة دون معرفة « حجة الله » الذي يمثّل مركز « الهادي والموجه للخط » . ومن هنا وجد الإمام الرضا (عليه السلام) نفسه بوصفه حجة الله - كما جاء في حديث مشهور - أنه من شروط « لا إله إلا الله » - وأنا من شروطها .

علي هذا الأساس ، فعدم معرفة الإمام يعادل عدم معرفة خطّ الحركة التكاملية . وخصوصيّاتها . وعدم معرفة هذا الخط يستلزم أحد أمرين ، إما الركود والتكلّس ، وإما الانحراف والحركة بالاتّجاه المضاد ، وكل هذا بعدٌ ونأي عن الهدي ، وسقوط في هاوية المهلكة والجاهلية .

ولذا نجد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث « الثقلين » المشهور يعد أمرين متلازمين عامل الهداية والنجاة وهما : القرآن والعترة ، يعني : البرنامج والموجه ، الكتاب والمعلم ، فالكتاب بلا معلم ، والمعلم دون كتاب ، غير مفيد فائدة تذكر .

فكتاب الحق (.. نزّل الكتاب بالحق .. )(1) ، والمعلم الصادق

ص: 135


1- سورة البقرة : 176 .

(.. وكونوا مع الصادقين )(1) عامل الهداية التامّة المستوفية ، والتمسك والاقتداء بالاثنين معاً يفضي إلي النجاة وانتشال الإنسان من ظلمات المادة ، والجهل ، والجاهلية .

قالوا :

إن كل شخص يموت دون أن يدرك حقيقة زمانه التي يجلّيها إمام الزمان - الحاضر أو الغائب - يكون عدماً محضاً ... فالعدم المحض في كون الشخص لا يدرك حقيقة زمانه .

ومن الواضح أن الإنسان لا يصير إلي العدم المحض أبداً . فقد أبدع الإنسان للبقاء والحياة في دنيا الخلود وهو قائم بجوهر وجوده ولا سبيل للفناء والموت إليه ، وهو يموت ويفني في حدود أعراض وجوده فقط ، يعني « ببدنه » . إذن فالإنسان لا يعدم بحال . إلاّ أنه يضحي بحكم المعدوم من زاوية إضاعته لجوهر وجوده في صورة جهله بحقيقة الزمان ، كما يضحي في زمرة الضالين وأبناء الجاهلية من وجهة زاوية الهداية الإلهية والمعرفة الإسلامية .

للشيخ عباس القمي إيضاح في هذا الصدد يحسن الالتفات إليه . يقول :

« اتضح أن ليس هناك شبهة لدي علماء الإسلام في أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) قال :

« من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية »

وقد روي هذا الحديث في كتب الشيعة والسنة إلي ما تجاوز حد الاستفاضة ، بل أرسل إرسال المسلمات في بعض صحاح العامة وأكثر كتبهم ... كما تواتر لدي الشيعة : إنّ الأرض لا تخلو من « حجة الله » « أي : الإمام وخليفة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) » أبداً ، ولو خلت الأرض من حجة طرفة عين الخسفت بأهلها . وهذا المفهوم مطابق للقواعد العقلية ،

ص: 136


1- سورة التوبة : 119 .

حيث إن الممكن بحاجة إلي واسطة في الفيض لكي يفيض عليه الواجب تعالي ، وهذه الواسطة يمثلها صاحب العصمة وذو الجنية القدسية

إذن ؛ يجب علي كل مسلم يبتغي الخروج من كفر الجاهلية أن يعرف إمام زمانه ويتعامل معه بوصفه واجب الطاعة وواسطة نزول الرحمة والألطاف الإلهية . من يعتقد برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه و آله و سلم) وبإمامة الأئمة السابقين الذين أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحادي عشر منهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يجب عليه الاعتقاد بإمام الزمان ، الإمام الثاني عشر ، الخلف الصالح ، الحجة ابن الحسن العسكري (صلي الله عليه و آله و سلم) ، المهدي الموعود ، والقائم المنتظر ، والغائب عن الأنظار ، السائر في الأقطار ، الذي صرحت باسمه ووصفه وشمائله وغيبته النصوص المتواترة عن الرسول وأمير المؤمنين وسائر الأئمة السابقين (صلي الله عليه و آله و سلم) ، بل ليس هناك خلاف بين فرق المسلمين المعروفة في أن الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) أخبر بقدوم المهدي (عليه السلام) آخر الزمان ، ويواطيء اسمه اسم محمد، وسيروّج دينه ، ويملا الأرض عدلاً وقسطاً »(1) .

من هنا فلا بد من السعي - بكل حدّ ممكن - للتعرف علي حقيقة الزمان ورأس حركته ، وروح العالم ، والتعلق به ، لتضحي حياة الإنسان حياة معرفة ويقظة ، وليكون موته أيضاً موت يقظة ومعرفة وصعود ، لا موت جاهلية وسقوط ( - إذ إن الإنسان ، يموت علي الصورة التي يحيا)، ولتضحي رحلته ممراً لولوج عالم الحياة الواقعية ، العالم الذي لا سبيل للفناء والتغيير والزوال إليه ، عالم « لهي الحيوان » حياة في حياة وحيويّة في حيويّة ، وكل شيء فيه حضور وخلود ...

ص: 137


1- تتمة المنتهي ص 300-301.

ص: 138

الفصل التاسع: في ضوء العلوم العقلية

اشارة

ص: 139

ص: 140

في ضوء العلوم العقلية

1- وجهات نظر العلوم العقلية

اشارة

لاحظنا في الفصل الماضي مسائل موضوع البحث من زوايا نظر « العلوم النقلية »(1) ، وتعرفنا علي عدد من آيات القرآن الكريم في هذا المجال وبالخصوص « سورة القدر » ، وحصلنا علي بصيرة بشأن مجموعة حقائق مسندة و مفاهيم رفيعة(2) .

ونريد الآن أن نرد حقل « العلوم العقلية » لنتعرف علي وجهات نظر هذه العلوم أيضا بصدد قضية « المهدي الموعود » .

ص: 141


1- هذا التعبير اصطلاح متفق عليه في الثقافة الإسلامية إلي حدّ الشهرة . يعني : تقسيم العلوم إلي « علوم عقلية » و« علوم نقلية » وإلّا فنحن نعرف أن الكثير من أبحاث و مفاهيم « العلوم النقلية » تقع في الحيّز العقلي أيضاً وتتكيء علي الارتكاز» و« الفطرة» و« العقل » . مضافاً إلي أن قبول العلوم النقلية يبتني علي قبول أسسها وقبول هذه الأسس يرتكز علي العقل والاجتهاد والتشخيص الحرّ المستقل .
2- ينبغي لنا أن نذكر بالعرفان علماء ومؤلفي العصور والحقب المختلفة لما أسداه إلينا سعيهم المتواصل من خدمة في إيصال حقائق التراث لنا ولجيلنا ، كما نذكر بالعرفان كتّاب ومؤلفي عصرنا الراهن ، ولا بد لنا من الدعاء لأرواح أساتذتنا العظام الذين شملتنا رعايتهم ، وقبلونا في زمرة تلامذتهم دون أي انتظار منّا ، وبذلوا جهدهم في سبيل إنارتنا بمعارفهم وعلومهم .

نحن نعرف أن العلوم غير النقلية تصنّف إلي صنفين : العلوم العقلية ، والعلوم التجريبية والمخبرية ، أو العلوم العقلية ، والعلوم الحسية ، أو تنوع إلي العلوم التجريدية ، والعلوم المادية . ونوكل البحث حول «طول العمر » في ضوء العلوم التجريبية والحسية إلي الفصل القادم . ونعكف في هذا الفصل علي دراسة مسائل المهدوية من زاوية نظر مختلف اختصاصات العلوم العقلية .

أ- في ضوء العلوم القرآنية

في ضوء المعارف القرآنية الحقة ، وعلي أساس الرؤية الإسلامية تضحي الأرض - والعالم الأرضي - مركزاً للخلافة الإلهية ، والأرض علي الدوام محلّ للخلافة الإلهية . وما دامت الأرض فهي مركز لتلك الخلافة ، ولا يمكن أن يكون غير ذلك إطلاقاً - كما مرّت الإشارة إليه في الفصل الماضي - يقول القرآن الكريم :

( وإذ قال ربك للملائكة : إنّي جاعل في الأرض خليفة .. )(1) .

في صدد إيضاح المنطق القراني بحتمية وجود « خليفة الله » في الأرض ، وباتّجاه تعليم هذا الأصل الأساس علي مستوي العمل والفكر يقول الإمام الرضا (عليه السلام) :

« الإمام أمين الله في الأرض ، وحجّته علي عباده ، وخليفته في بلاده »(2) .

تستحق التعابير القرآنية والحديثية في هذا المجال المزيد من الالتفات والتأمل ، خصوصاً تعبيري « في الأرض » أو « في أرضه »، وتعبير « أمين الله ». وعبر التأمل في عبارة « في الأرض » ننتهي إلي أن الصيرورة الإنسانية للأرض تتحقق من خلال حضور خليفة الله وإلا تضحي الأرض كوكباً كسائر الكواكب الأخري . فالذي يعطي للأرض هويتها الإلهية ويقيمها محلاً لسكن الإنسان ، والذي يجعلها عشّاً تربوياً ومختبر عالم الوجود ، ومركزاً لنزول

ص: 142


1- سورة البقرة : 30.
2- عيون أخبار الرضاج 1 ص 219 طبع قم عام 1377 ه.

الفيض ، ومهبطاً للملائكة إنما هو حضور خليفة الله وصاحب السرّ الإلهي « الولاية الكلية » علي وجه هذا الكوكب .

وهذه الكيفية المشار إليها تستمر ما دامت الأرض تضم أهلاً وسكاناً ، يعني : إلي ظهور إرهاصات البعث والنشور ، وتدمير هذا العالم .

علي هذا الأساس ، فما دامت الأرض قائمة كمسكن للإنسان ، فسوف لا تخلو ، في أيّ آن ، من حجّة الله - نبيّ أو إمام - . فإذا كان هناك إنسان واحد يحيا علي وجه الأرض فهو حجة الله وخليفته . وإذا كان هناك اثنان أو أكثر فأحدهم حجة الله وخليفته - كما جاء في الآثار-(1) . وكما أشرنا لبعض هذه المفاهيم في الفصل الأنف .

ب - في الفلسفة الإلهية

لقد التفت فلاسفة الإسلام أيضاً إلي مسألة الوليّ الكامل ، وحضور خليفة الله في الأرض . وقد أقام هؤلاء هذه الحقيقة علي أسسهم الاستدلالية وبرهنوا عليها . وقدّموا إيضاحاً لها بلغتهم الفلسفية الخاصّة . أبو علي بن سينا في كتابه « الشفاء » تحدث في الفصل الذي يعود إلي الإمام والخليفة وقدّم إيضاحاً لمراحل ومستويات الإنسان الكامل الباطنيّة والأخلاقية والعملية ، يقول :

« ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية ، كاد يصير ربّاً إنسانيّاً ... وكاد أن تفوض إليه أمور عباد الله . وهو سلطان العالم الأرضي ، وخليفة الله فيه »(2) .

واضح أن المقصود من « العالم الأرضي » هو سائر الكائنات الأرضية(3) التي تقع تحت سلطنة ولاية الإمام ، كما يستفاد أيضاً من تعبير « ربّاً إنسانياً » أن المقصود هو صاحب التأثير في تربية وإعداد النوع الإنساني . وتشمل عبارة « تفوض إليه أمور » الولاية التكوينية والتشريعية أيضاً .

ص: 143


1- أصول الكافي ، كتاب الحجة .
2- الشفاء ، خاتمة بحث الإلهيات .
3- المقصود من « الأرض » هنا أبعادها الواسعة في الهيئة الإسلامية التي تقوم علي أساس تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) . وقد ذكرت نماذج لهذه التعاليم في كتب « الهيئة والإسلام » .

ج- في فلسفة السياسة

طرحت مسألة الإمام والمربي الإلهي والحاكم الإسلامي ، بشكل لائق في أبحاث فلسفة السياسة الإسلامية أيضاً . والذي يعنيني هنا هو « فلسفة السياسة » ذات الطابع الفلسفي(1) ، يعني : آراء ومتابعات ورؤي فلاسفة الإسلام الكبار حول مسألة الحكم والسياسة ، وبناء المجتمع الصالح ، والإدارة الاجتماعية السليمة .

ص: 144


1- هذا التأكيد يخصّ التصنيفات التي يتحتّم تنويعها خالصةً في ضوء المعارف الإسلامية ، ويلزم أخذ هذه التقسيمات بنظر الاعتبار بغية بصيرة نقية ل « معارف القرآن الكريم » ، فمثل بحثنا هذا « فلسفة السياسة الإسلامية » يمكن تقسيمه إلي ثلاثة أقسام : 1- فلسفة السياسة القرآنية . 2- فلسفة السياسة الفلسفية . 3- فلسفة السياسة الكلامية . المعنيّ من القسم الأول ، فلسفة النظام السياسي التي لا بداخلها طرحاً وإيضاحاً أي من وجهات نظر المدارس الفلسفية السائدة وأيّ من الأراء والاتجاهات الأخري ، والتي تستنبط بشكل مباشر خالصةً علي أساس القرآن والحديث الشريف . ويمكن إعمال هذا التفكيك وهذه القسمة الدقيقة في سائر شعب المعرفة الإسلامية الأخري ( - الأخلاقية والإلهية ، والطبيعية و.. ) ويأتي التأكيد علي هذا التفكيك والتحديد لأجل استخلاص معارف « القرآن الكريم » بمواجهة مباشرة له دون التأثر بأي مسلك فكري آخر، وتمييزها عن أي لون من التداخل والتلفيق ، الذي تسرب الثقافة المسلمين ، بدءاً من شروع الترجمة الفلسفة ما قبل الإسلام وغزو المدارس الجاهلية وطرح مذاهب العرفان والكشف غير الإسلامية . ولقد سجلت بعض اللفتات والإيضاحات في هذا المجال من خلال كتاب « علوم المسلمين » في الفصل التاسع والحادي عشر غيرر أن إشباع هذا البحث الأساسي بالتحقيق والدراسة موكول لكتاب « الشيخ مجتبي القزويني ومدرسة التفكيك » راجياً من الله تعالي أن يوفّقني لأداء هذه الخدمة الدينية والعلمية والتربوية والاجتماعية والمعرفية وأرجو « ولي الزمان » بحقه عند ربّه أن أمنح هذا التوفيق ، وأنا علي الدوام بحاجة الدعاء الإخوة وهم ذوي الهمم العالية ...

أبرز المعلم الثاني أبو نصر الفارابيّ صاحب النظريات الهامة في كتابه « آراء أهل المدينة الفاضلة » وجهات نظره في هذا المجال .

فلا يصلح كل عضو من أعضاء المدينة الفاضلة أن يرأس المدينة الفاضلة . فلا يمكن أن يكون أي شخص رئيساً للمدينة الفاضلة ؛ إذ الرئاسة تتقوّم بأمرين : الأول : أن يكون الشخص ذاته مهيّاً تكوينياً لهذا المقام . الثاني : أن يتوفر علي القدرات اللازمة لأداء هذه المهمة . ومثل هذا الإنسان هو الإنسان الكامل بالفعل ، عقل و معقول معاً . وهذا الرئيس معلم ومرشد ومدبّر أيضاً .... والناس جميعاً بحاجة إلي معلم بالفطرة ، كما يجب أن يبلغوا المراحل التكامليّة التي يستطيعون بلوغها عن طريق التربية والمران .

أقام الفارابي نظامه الاجتماعي علي أساس « العالم الأكبر » و « العالم الأصغر » ، وكان يري ضرورة وجود « المعلم » وهو عين « الإمام » لبناء هذا المجتمع ، وهذا الاتّجاه ينسجم مع إحدي عقائد الشيعة التي تذهب إلي لزوم إشراف الإمام علي الحياة الاجتماعية إشرافاً كاملاً .

وهناك شبه كبير بين نظرية الفارابي في العلاقة بين رئيس المدينة الفاضلة والله عن طريق « العقل الفعال » واعتقادات نصير الدين الطوسي بصدد « الإمام »(1) فكما أن بقاء روح وجسم العالم مرهون بوجود الإمام ، يكون بقاء المدينة أيضا رهن بقاء رئيسها .. والإمام متّصل بالعقل الإلهي ، فهو يزيل الستار عن الحقائق ، وتتجلي أمامه كل المعارف الحسية والوهمية والخيالية بصورة معقولات مطلقة ووحي إلهي بفضل « علم التأويل »(2) .

ص: 145


1- راجع بهذا الصدد تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي .
2- راجع بهذا الصدد تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي .

يري هذا الفيلسوف الكبير أن الإمام «عقل بالفعل » ، يعني إنساناً بلغت كل الإمكانات العقلية - طبعية وكسبية - في وجوده حد الكمال والمرتبة النهائية . وهو علي اتصال دائم بالعقل الفعّال ، بل هو عقل فعّال من زاوية ما(1) .

يري الفارابي أن مثل هذا الشخص هو مركز القيادة الاجتماعية ويكون الرئيس والإمام والمعلم والمربّي . ومن وجهة نظره أن مَثَلَ هذا القائد في المجتمع مثل القلب في بدن الإنسان .

واللافت للنظر هو أن هذا الفيلسوف البصير يبصر مسألة « الغيبة » أيضاً ، ويقترح أن تدار الحياة الاجتماعية في عصر غيبة الرئيس الواقعي ( الإمام ) بالطريقة التالية :

وإن اتفق أن لا يوجد مثله في وقت من الأوقات أخذت الشرائع والسنن ، التي شرعها هذا الرئيس وأمثاله - وإن كانوا توالوا في المدينة - فأثبتت(2) .

يلاحظ بجلاء في هذا النص أن غيبة رئيس المدينة الفاضلة ( الإمام ) مطروحة لدي هذا الفيلسوف كما طرحت مسألة لزوم العمل وفق أحكام وفقه الرئيس الغائب والرؤساء السابقين له . في ضوء مقولة هذا الفيلسوف أربع ملاحظات تستحق العناية :

1- احتمال وقوع غيبة رئيس المدينة « الإمام » وخلو الساحة منه .

2- هضم وقوع الغيبة وإيضاح سبيل الحل لإدارة الحياة الاجتماعية في عصر الغيبة .

3- يتفق وقوع الغيبة وفقدان رئيس المدينة الفاضلة في صورة قدوم عدد من الرؤساء الواجدين للشرائط قبله(3) ، والذين أبانوا الشرائع والقوانين كما

ص: 146


1- النص الذي نقلناه عن الشفاء يري الإمام من زواية ما أنه « العقل الفعال » حيث إن التعبير ب «سلطان العالم الأرضي »، و «رب النوع الإنساني » مُشعر بذلك .
2- آراء أهل المدينة الفاضلة ، طبع القاهرة ، عام 1368 ه ، ص 89.
3- يعدد الفارابي شروطاً وخصوصياتٍ « لرئيس المدينة الفاضلة »، وقد جاءت بأسرها منطبقة مع شروط وخصوصيات « الإمام » في المفهوم الشيعي .

اتفق وقوع ذلك في تاريخ الإمامة .

4- حينما يغيب رئيس المدينة فسوف لا تنفصم عري خطّ الرئاسة والإمامة . ولا بد من اتخاذ الشرائع والقوانين التي أبانها الرئيس الغائب والرؤساء السابقون له أساساً في إدارة المدينة الفاضلة ( المجتمع الإسلامي ) وقبول هذه الشرائع والقوانين بوصفها مقاييس وثوابت حتمية في إدارة المجتمع .

هذه المفاهيم هي عين مفاهيم الإمامة والغيبة : فبدءاً يأتي أحد عشر إماماً يوضّحون أسس وأحكام القرآن وسنّة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) ، ويعلمون الناس تعاليم وسنن ، ويتركون آثاراً توضّح القوانين والأحكام في كل واقعة ، ويربّون علماء وتلامذة وأتباعاً . ثم يأتي أمر الغيبة أيام الإمام الثاني عشر ، ويأتي هذا الأمر أيضا بعد مرحلة « الغيبة الصغري » التي أبلغ الإمام فيها الناس الكثير من التعاليم والتوجيهات بواسطة سفرائه ونوّابه الخاصّين . وفي مرحلة الغيبة الكبري تدار شؤون الأمة علي أساس تشريعات وأحكام الأئمة أنفسهم وتتخذ قوانينهم ملاكا في هذا الاتجاه .

لاحظوا أن المسألة في عصر الغيبة هي بعينها مسألة النيابة العامّة والفقاهة والاجتهاد من الزاوية التشريعية ، وهي مسألة ولاية الفقيه والإشراف العام من الزاوية التنفيذية اللتين يعمل بهما في عصر الغيبة .

د- في الفلسفة الإشراقية

طرحت مسألة الإمام والقائد الاجتماعي لدي الاتّجاه الإشراقي في الفلسفة الإسلامية ، وأصغي فيها أيضاً لموضوع « الغيبة ». الشيخ شهاب الدين الإشراقي يورد بحث القائد وأقسام القائد الاجتماعي في مطلع كتابه « حكمة الإشراق » . ويوضّح هناك علي أساس متبنّياته الإشراقية شروط الشخصية التي يمكنها أن تحتل موقع القيادة الاجتماعية . ويلحظ أيضا مسألة « الغيبة » ويجدها قضية مؤهلة للقبول والتحقق . ويقول في هذا الصدد ما يلي :

العالم ما خلا قطّ عن الحكمة ، وعن شخص قائم بها ، عنده الحجج والبينات ، وهو خليفة الله في أرضه ، وهكذا

ص: 147

يكون ما دامت السماوات والأرض ... فإذا اتفق في الوقت متوغل في التأله والبحث ، فله الرئاسة ، وهو خليفة الله ... ولا تخلو الأرض عن متوغل في التأله أبداً ... ولست أعني بهذه الرئاسة التغلّب ، بل قد يكون « الإمام » المتأله مستولياً ظاهراً مكشوفاً ، وقد يكون خفيّاً . وهو الذي سمّاه الكافّة ( القطب ) فله الرئاسة، وإن كان في غاية الخمول . وإذا كانت الرئاسة بيده كان الزمان نوريّاً ...(1) .

يطرح الفيلسوف الإشراقي بوضوح مسألة «الإمام المتأله» وحتميته لأجل قيادة وتربية المجتمع . ويري أن القيادة نصيبه وإن كان مختفياً عن العالم . ومفهوم أن « الإمام المتأله » قائد للأمة حتي في حال اختفائه يلتقي في حدود كبيرة مع رؤية الشيعة وعقائدها. ففي ضوء العقيدي الشيعي تكون القيادة الاجتماعية في عصر الغيبة لإمام العصر ، وهو ولي الأمر الواقعي . غاية ما في الأمر أن القيادة والولاية عهدت لنوّابه العامّين - زمن الغيبة - وتعمل هذه الولاية عن طريق مبدأ الولاية العامّة . ومن هنا تجد أمّتنا نفسها في نهاية الأمر تحت ولاية إمام العصر (عليه السلام) وقيمومته الشرعية ، وقد مرّ حديث مختصر بهذا الصدد في : الفصل الثالث ، وسوف نعرض أفكارا حول هذا الموضوع في الفصل الحادي عشر .

ه - في فلسفة إخوان الصفا

التفت فلاسفة « إخوان الصفا » إلي أهمية مسألة المهدي (عليه السلام) في فلسفتهم وعرضوا مسألة الغيبة والظهور والمهدوية ببيان ممتع :

يعتقد إخوان الصفا به « المهدي » ، وبعودته، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، ويفك

ص: 148


1- حكمة الإشراق ، و من مجموعة مصنفات شيخ الإشراق ، ج 2 ص 11 - 12، شرح حكمة الإشراق ص 23 - 26.

أسر الناس ، ويعلن دعوة إخوان الصفا ، ويجمع شملهم المشتت . وبظهور هذه النفس الزكية يرجع كل حق إلي صاحبه يقولون : الإمام بين الناس .

حيث إن للإمام حالتين : حالة الكشف ، وحالة الستر .

ففي حالة الكشف يظهر الأئمة بين الناس ، ولا يظهرون في حالة الستر . وليس ذلك ناشئا من الخوف . وفي حالة الستر يعرفهم أصحابهم ، ويلتقونهم كلما أرادوا . وإذا لم يكن الأمر كذلك فسوف يخلو الزمان من إمام « حجة الله علي الخلق » بينما لم يترك الله الخلق بلا حجة أبداً ، ولا يقطع الحبل الممدود بينه وبين الناس . الأئمة أوتاد الأرض . وهم خلفاء الله الحقيقيون ظهروا أم غابوا . يظهر سلطانهم في مرحلة الكشف علي الأجساد والأبدان ، وتبدو آثارهم في مرحلة الستر في الأرواح والعقول وعلي خلفاء الأجسام وسلاطين الأرض ... ومن مات ولم يعرف إمام زمانه مات كما يموت أهل الجاهلية . كما أن من مات ولم تكن في عنقه بيعة للإمام مات كما يموت أهل الجاهلية ...(1) .

و - في أبحاث العقيدة وعلم الكلام

عرّف المتكلمون وذوو الاختصاص في العلوم العقيدية وجود « المهدي » بأنه مسألة مسندة أيضاً ، وعكفوا في كتب علم الكلام والعقائد(2) علي عدة بحوث في هذا المجال ، من جملتها البحث حول تفسير الغيبة ، وفوائد وجود الإمام حال الغيبة ، وصحة طول العمر ، و...

ص: 149


1- راجع تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي ص 207 - 208 .
2- « علم الكلام » علم يسعي لإثبات العقائد والرؤية الدينية بالدليل والبرهان العقلي ، وبتعبير آخر : هو علم الاستدلال العقلي علي العقائد والأصول الشرعية ويطلق علي العالم بهذا العلم « المتكلم » ، وجمعه المتكلمون . وقد حرر في هذا الفرع من المعرفة الكثير من الكتب ، من قبيل : تجريد الاعتقاد *للخواجه نصير الدين الطوسي كشف المراد * للعلامة الحلي الباب الحادي عشر * للعلامة الحلي شرح التجريد * للملا علي القوشجي شوارق الإلهام * للملا عبد الرزاق اللاهيجي كوهر مراد « فارسي » * للملا عبد الرزاق اللاهيجي شرح الباب الحادي عشر * للفاضل المقداد النسيوري يحتاج علم الكلام بشكل ماسّ إلي بعث وتجديد ، ومن الواضح أن الكثير من دراسات العلماء والمفكرين المعاصرين القيمة لا بد من عدها في صنف دراسات « علم الكلام الجديد ».

فسر المتكلمون وعلماء العقيدة الكبار مسألة المهدوية في ضوء «قاعدة اللطف الإلهي » المعروفة في علم الكلام ، وانتهوا إلي إثبات ضرورة وجود الإمام علي أساس هذه القاعدة . وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف المعروف والمتكلم الإسلامي الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي ما يلي :

انحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ، ووجوده لطف ، وتصرفه لطف آخر وعدمه منا(1) .

وحيث ينصب جهدنا في هذه الفقرة علي نظريات علماء العقيدة نورد بشكل مضغوط حديثين العالمين منهم وهما مؤلف « كفاية الموحدين » ومؤلف « بيان الفرقان » ، ولهذين العالمين حديث حول هذا الموضوع ، خلاصته كما يلي :

لما كان المهدي (عليه السلام) آخر حجة وخليفة إلهي لزم حفظه عن الأخطار والأيدي التي تسعي للقضاء علي حياته ، وتحتم إخفاؤه في ظل الغيبة الإلهية . وحيث إن مركز الإمام بمثابة مركز النبي بعد تبليغ الرسالة (- يعني : حافظ الأحكام والسنن المبلغة ) إذن فمع اختفائه لا يترك حبل الأمة علي غاربها - رغم حرمانها من ثمار لقائه - بل لا بد من تطبيق الأمة للأحكام والسنن التي بين أيديها . نعم إذا اتفق يوماً ما

ص: 150


1- كشف المراد ص 285 .

صياع سائر أحكام الدين ومفاهيمه فسوف يظهر (عليه السلام) فوراً(1) .

عدّ الاعتقاد بقضية « المهدي » في كتب العقيدة بمثابة الاعتقاد بضروريات الإسلام ، بحكم يقينية هذه القضية في ضوء الإسلام ومصادره وعلي هدي الأحاديث النبوية الوافرة ، وذهبوا إلي أن منكر هذه المسألة منكر الضرورة من ضرورات الدين(2) .

ز- في ضوء اتجاهات الكشف والعرفان

طرح « العارفون » المسلمون من المذاهب المختلفة ، وأصحاب الكشف أيضاً قضية الاعتقاد بالمهدي الموعود ، وأكد الجميع علي عظمة موقع هذا الإمام . وانتهي البعض إلي وجود الإمام الغائب (عليه السلام) عن طريق المكاشفة ، وتحدث البعض عن « المشاهدة والرؤية ». وقد أوصل هؤلاء أفكارهم إلي الأخرين بأساليب مختلفة ، وعبروا في هذا المجال عن أفكارهم بأسلوبي النثر والشعر .

وبشكل عام هناك وفي أوساط عارفي المسلمين - أعم من الشيعي والسني وأشمل من أولئك الذين أدعوا الرؤية والمشاهدة أو الذين لم يدّعوها - نلتقي بنماذج معروفة أكد كلّ منها بطريقته علي وجود المهدي (عليه السلام) و « غيبته ، ، و « ظهوره » ، وذهبوا إلي أن هذه الموضوعات حقائق إسلامية مسلمة ، ووقائع حتمية في حركة العالم .

وإليك بعض هذه النماذج :

1- الشيخ محيي الدين بن عربي(3) .

ص: 151


1- راجع « كفاية الموحدين » ، ج 3 و بيان الفرقان ، ج 5.
2- راجع كتاب ( أنيس الموحدين ) ل محمد مهدي النراقي مع تعليقات العلامة الشهيد السيد محمد علي القاضي الطباطبائي ، طبع تبريز عام 1351 ه.ش، ص 213.
3- تحدث الشيخ محيي الدين بن عربي كثيراً في هذا المجال حديثاً رمزياً وعلي نهج الإشارة ، وحديثاً صريحاً بوضوح أيضاً . وجاءت أحاديثه في كتابه « الفتوحات المكية » وكتاباته الأخري . وله أيضاً مقطوعة شعرية في هذا المجال ، كما له كتاب خاص بعنوان « عنقاء المغرب في بيان المهدي الموعود ووزرائه « راجع و المهدي الموعود » ج 1 ص 187 .

2 - الشيخ صدر الدين القونيوي .

3 - جلال الدين الرومي(1) .

4 - شاه نعمة الله ولي(2) .

5 - الشيخ حسن العراقي .

6- الشيخ عبد الوهاب الشعراني .

7 - الشيخ فريد الدين العطار النيشابوري .

8 - الحافظ رجب البرسي .

9 - الشيخ محمود الشبستري .

10 - الشيخ أحمد جام نامقي

11 - الشيخ أبو يعقوب البادسي .

12 - الخواجه محمد بارسا .

الأسماء آنفة الذكر تشير إلي عارفين من أهل السنة والشيعة . ويلزمنا أن نقول في هذا المجال هناك في أوساط أهل السنة وخصوصاً في وسط علمائهم و محققيهم وعارفيهم وشعرائهم عناصر كثيرة تواصلوا تاريخياً وكانوا مظهرين حبهم وإخلاصهم لمقام مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) الشامخ وقد أبرزوا إعجابهم وتعلقهم عبر نصوص فنية ممتعة(3) وأنشدوا قصائد - كما أشرنا - في هذا الصدد . ذهب جمع من علماء الصوفية إلي وسم المهدي (عليه السلام) ب ( قطب الزمان ) ، و ( ولي العصر ) ، و ( خاتم الأولياء ) . وأثبتوا وجوده عن طريق

ص: 152


1- في شعره المنقول في كتاب « ينابيع المودة » المصدر السابق ص 195 .
2- لشاه نعمة الله ولي شعر معروف في المتناول ، جاء الحديث فيه عن علائم آخر الزمان وعصر ما ، قبل الظهور والعصر المتاخم للظهور .
3- نظير كلمات القاضي كمال الدين حسين الميبدي الشافعي شارح الديوان المنسوب للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ومؤلف شرح « الهداية الأثيرية » في شرح حكمة المشاء ، يقول في شرح قطعة من الديوان الواردة في الملاحم وخروج المهدي (عليه السلام) : أملا بكرم وهاب النعم أن يضيء بواصرنا بكحل جواهر ترابه ، وتشرق شمسه الوضاءة الشاملة شاخصة ، وما ذلك علي الله بعزيز ... راجع منتخب الأثر ، 332.

الكشف والشهود . وقد أورد الفيلسوف الاجتماعي العلامة ابن خلدون حديثاً في هذا الصدد ، وإليكم نصه :

وكتب المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر ، وكان بعضهم يمليه علي بعض ، ويلقنه بعضهم عن بعض وكأنه مبني علي أصول .. من الفريقين . وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي ابن العربي الحاتمي في كتاب « عنقاء مغرب » وابن قسي في كتاب « خلع النعلين » .

... وابن العربي سمّاه في كتابه عنقاء مُغرِب من تأليفه خاتم الأولياء ... وأما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلي ظهور رجل مجدد لأحكام الملّة ومراسم الحق ... فبعضهم يقول : من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيي زكريا عن أبيه أبي محمد عبدالله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور(1) .

ح - وجهة نظر يعقوب الكندي

نقل عن الفيلسوف المعروف يعقوب بن إسحاق الكندي أيضاً مقولات بصدد المهدي (عليه السلام) وقضية « الظهور »، من قبيل ما أورده ابن خلدون ناقلاً عنه الحديث التالي :

وذكر الكندي أن هذا الولي هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر ، ويجدد الإسلام ويظهر العدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلي روميه فيفتحها ويسير إلي المشرق فيفتحه ،

ص: 153


1- مقدمة ابن خلدون ص 311، 323 ، 324، 327.

ويفتح القسطنطينية ويصير له ملك الأرض فيتقوي المسلمون ويعلو الإسلام ويطهر دين الحنيفية(1) .

2- حديث حول الرؤية

أشرنا في ما مضي إلي أن العظام حسبوا مشاهدة الإمام (عليه السلام) ورؤيته قضية ممكنة ، وقالوا : (.. هناك روايات صريحة ذهبت إلي أن ولي العصر (عليه السلام) برغم وجوده بين الناس إلا أنهم لا يعرفونه ، ومن الواضح أن هذا المفهوم الروائي لا يتنافي مع مشاهدة عدة قليلة للإمام (عليه السلام) بحكم مصالح كونيّة ).

وقد تصدّي أهل الكشف والعرفان لطرح مسألة الرؤية زمن الغيبة الكبري كما صرح بذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه « لواقح الأنوار » قائلاً :

إن الشيخ حسن العراقي في ضمن سياحته اجتمع مع الإمام المهدي الحجة وسأله عن عمره فقال له : يا ولدي عمري الآن (620 ) سنة .

ويعلق الشعراني بعد أن ينقل هذه المقولة بالقول :

فقلت ذلك لسيدي علي الخواص فوافق علي عمر المهدي رضي الله عنهما(2) .

كما نلاحظ أيضا أن العالم الروحي الكبير السيد رضي الدين ابن طاوس الحسني يقول في كتابه « مهج الدعوات » :

كنت أنا بسر من رأي فسمعت سحراً دعاءه (عليه السلام) فحفظت منه . الدعاء لمن ذكره « الأحياء والأموات وأبقهم، أو قال وأحيهم في عزّنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا » وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشرين ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وستمئة (3) .

ص: 154


1- مقدمة ابن خلدون ص 325.
2- بيان الفرقان ج 5 ص 167 - 168 ، ولاحظ أيضاً ص 133 .
3- منتخب الأثر ، ص 417 .

وقد حرروا عددا من الكتب بصدد قضية الرؤية واللقاء أيضاً . وقد وردت في هذه الكتب أسماء الكثير من الأفراد الذين فاز كل منهم بنحو من الأنحاء بلقاء الإمام (عليه السلام) في عصر الغيبة الكبري ، وقد اتفق أن وقعت لهم معاجز او مهمات ، وأزيحت عنهم مشكلات وشفيت لهم أمراض كانت في بعض الأحيان أمراضاً عصية .

وقد سمعنا أنفسنا بعض هذه القضايا ، وقد وقع البعض منها في عصرنا . وكان البعض منها متوفرة علي الكثير من قرائن صدقها وشواهد واقعيتها . وقد نقل البعض منها رواة فوق الثقة وفي أرقي درجات العدالة .

3- أحوال المحظوظين

من ينل في عصر الغيبة الكبري ويحصل علي لقاء ذلك القمر المنير ، والانعطاف المتدفق ، ينل زيارة مقصد الأنقياء وقبلة الصالحين ، ذلك السر الأعظم ، فهو باليقين سعيدٌ ومحظوظ . وأي حظ أكبر من هذا ، وأي ساعة أروع وأسعد من تلك الساعة !

ولا بد من الالتفات إلي أن ما وقع وما يمكن وقوعه بهذا الاتجاه فهو في بعض المواقع «مكاشفة »، وفي مواقع أخري « مشاهدة »، وفي مواقع « رؤية » . وهذا التصنيف ينسجم في كل حالة منه مع مستوي الأفراد الروحي ، ولكل مستوي في نفسه مراحل ودرجات .

وبشكل عام يمكننا ملاحظة هذا الاتجاه، أعني : المشاهدة واللقاء والرؤية وكل ألوان اليقين الشهودي والحسي والبصري بالنسبة لوجود خليفة الله ووصي النبي المهدي (عليه السلام) - عبر خمسة آفاق :

أ- بعض عارفي أهل السنة ، وأعني بهم : الأفراد الذين أدّعوا مشاهدة المهدي ولقاءه وعدوا في أصحاب أهل السلوك والرياضة والمكاشفة والسياحة ، وعرفوا بانتمائهم لأهل السنة وفق ما لديهم من آثار وعلي أساس المشهور والمدون في كتب التاريخ والتراجم ، أمثال الشيخ حسن العراقي ، كما نقل الشيخ عبد الوهاب الشعراني .

ص: 155

ب - عدد من عارفي الشيعة ومتصوفيهم .

ج - عدد من علماء الشيعة وأعني بهم علماءنا الذين بلغوا أعلي مراحل الرقي الروحي والمعنوي عن طريق الارتباط العميق بالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والاقتداء الكامل بهؤلاء والالتزام الدقيق بالعقيدة الإسلامية وبأحكام الشريعة التفصيلية في السلوك والممارسة فكانوا بذلك أصحاب مواقع واقعية رفيعة ومن ذوي الكشف والبصيرة ، أمثال :

السيد رصي الدين بن طاوس الحسني * المتوفي عام 664 ه

جمال الدين أحمد بن فهد الحلي * المتوفي عام 841 ه

المحقق الأردبيلي « المقدس » * المتوفي عام 993 ه

السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي * المتوفي عام 1212 ه

وهؤلاء جميعا من متقدمي علمائنا .

وأمثال :

السيد موسي القزويني * المتوفي عام 1353 ه

الميرزا مهدي الأصفهاني * المتوفي عام 1365 ه

الشيخ علي أكبر الهيان * المتوفي عام 1380 ه

الشيخ مجتبي القزويني الخراساني * المتوفي عام 1386 ه

وهؤلاء جميعاً من رجال القرن الرابع عشر الهجري .

د- بعض من اعتياديّ الناس وأبناء المجتمع الإسلامي بعامة ، الذين حصل لهم لقاء بشكل ما علي أثر الدعاء والتوسل وما إلي ذلك .

ه - الأفراد الذين تيقنوا من وجود الإمام الحجة (عليه السلام) علي أثر حصول واقعة لهم من قبيل شفاء المريض ، وقضاء الحاجة ، وبلوغ الهدف وما إلي ذلك ، رغم عدم حصول لقاء الإمام (عليه السلام) لهم ، وخصوصاً أولئك الذين يعرفون الإمام (عليه السلام) ويقصدونه في دعائهم .

وجلي أن أرقي وأرفع الأفراد الذين بلغوا لقاء الإمام (عليه السلام) إبان عصر الغيبة . الكبري ونالوا شرف ذلك هم عناصر الأفق الثالث . حيث كانت عناصر هذا الأفق

ص: 156

علي الدوام من العلماء الروحيين العظام ، الذين بلغوا أرفع المقام عن طريق معرفة كنوز القرآن وعلومه ، بعيداً عن كل انحراف نظري وعملي ، مجانبين كل مدرسة واتجاه فلسفي أو عرفاني غريب ، وبمنأي عن منهج التصوف وحركة المسالك الصوفية ، بل عدّوا في عداد أولياء الله ، واحتلوا موقع القرب من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والأئمة الطاهرين بمحض الالتزام الإسلامي الدقيق والجهاد الداخلي النافذ .

4- الغيبة ستة إلهية

اشارة

عبر رحلتنا مع قضية « المهدي » في ضوء آفاق المعرفة الشاملة لاحظنا التأكيد علي حتمية وجود «الولي » في كل أفق ، وغدت الغيبة هناك كالحضور . وهذا الانسجام في وجهات النظر المختلفة بصدد هذه المسألة - بدءاً من التفسير والحديث وانتهاءً بالفلسفة وعلم الكلام - يشكل أحد الأدلة علي أن « أصل الغيبة » إحدي السنن الإلهية .

وقد كان الأمر علي هذه السنة منذ أيام الزمن السحيق ، حيث يتفق أحياناً أن ينسحب النبي من أوساط أمته وينأي عنهم ليتركهم بحال أنفسهم .

وهنا نتحدث حول ثلاثة مفاهيم : الأول ، الاختبار العظيم في عصر الغيبة الكبري ، والآخر دور وأثر الغيبة الصغري في تحولات الغيبة الكبري ، والثالث ، المواقع الخماسية للحضور والغيبة .

أ- الغيبة الكبري اختبار عظيم

أحد أبعاد « الغيبة الكبري » هو بعدها الامتحاني . وفي هذه المرحلة لا بد للإنسان المسلم أن يراقب وضعه بعناية ، ويحيي قلبه بشعلة الإيمان ، وأن لا يزعزعه طول الزمن ، حيث إن « أصل الغيبة » إنما يقع وفق حكمة إلهية ، وإن استغراقها للزمن القصير أو الطويل إنما يكون أيضاً وفق تلك الحكمة ، لتنتهي وفق المشيئة الإلهية ، وفي هذا الصدد ، حذار من أن يكون استغراق الغيبة مدة طويلة باعثاً لوسوسة الشيطان - أو شياطين البشر - في القلوب ، وقد حذرت الأحاديث بهذا الاتّجاه واعتبرت البقاء علي الإيمان تأييداً إلهياً . ولتكن سهياً

ص: 157

لهذا التأييد بغية أن تحصن جوهرك الإيماني الرفيع من براثن دعاة الضلال واختطاف أيادي الانحراف الشيطاني والإنساني .

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الأب العظيم لإمام عصور الغيبة مهدي الأمة الموعود ، يقول بصدد سنة الغيبة في النبيين وتكرارها بالنسبة لمهدي آخر الزمان ، وبصدد طول المدة ، ما يلي :

« إن ابني هو القائم من بعدي . وهو الذي يجري فيه سنن الأنبياء - عليهم السلام - بالتعمير والغيبة ، حتي تقسو قلوب لطول الأمد ، ولا يثبت علي القول به إلا من كتب الله - عزّوجل - في قلبه الإيمان ، وأيّده بروح منه »(1) .

المثير للانتباه في هذا الحديث الشريف هو قوله (عليه السلام) : « يجري فيه سنن الأنبياء - عليهم السلام - بالتعمير والغيبة » . فمن هذا السياق يستنتج أن أحد الأعراف في حياة الأنبياء هو « التعمير » يعني طول مدة حياتهم ، والعرف الأخر هو الغيبة والاختفاء عن الناس لمدة من الزمن تاركين الناس بحالهم .

وواضح أن الحديث الشريف يشير إلي أولئك الأنبياء الذين تمتعوا بأعمار طويلة ، وكانوا في حساب المعمرين أمثال نوح (عليه السلام) ، وسليمان (عليه السلام) .

يقول الفيض الكاشاني في هذا المجال ما يلي :

ولا تعجب في غيبة القائم (عليه السلام) وطولها وطول عمره (عليه السلام) بعد ما أخبر النبي والأوصياء من بعده (عليه السلام) ، فإن كثيرا منهم كانت لهم غيبات طويلة وأعمار مديدة .. وقد ذكر طرقاً من ذلك شيخنا الصدوق في كتاب « إكمال الدين وإتمام النعمة » ، من أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه » .

أجل ، فالغيبة سنة إلهية ، وكان لها واقع في حياة الأنبياء ، وقد ثبت ذلك في تاريخهم ، وهذه الظاهرة بنفسها لون من ألوان الاختبار الحكيم . فقد يتفق أحيانا أن يغادر المعلم قاعة الدرس لمدة زمنية محدودة ، ليلاحظ طبيعة سلوك تلامذته وانضباطهم ومواظبتهم أو إهمالهم في غيابه ، ليطلع بشكل أفضل علي

ص: 158


1- بحار الأنوار ج 51، ص 224.

واقعهم ، ويمارس عملية تقييم أكثر جدية لهم ، ليعطي أولئك التلاميذ - الذين يواظبون علي سعيهم الدراسي ويراعون الانضباط حال غياب المعلم كما يفعلون ذلك حال حضوره - ما يستحقونه من تقدير .

ب - دور وأثر الغيبة الصغري في تحولات الغيبة الكبري

هناك مسألة لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار في استبصار حصول حالة « الغيبة » ، والمسألة هي تهيئة الأرضية قبل حصول الغيبة ، للتمهيد لها . فمنذ عصر الإمام التاسع أخذت تتقلص إمكانية التماس المباشر مع الأئمة . وقد قضي الإمامان العاشر والحادي عشر حقبة طويلة من زمن إمامتهما وهما يعيشان حالة تشبه الغيبة تحت المراقبة ، وبين جدران السجون . وقد كان ارتباط الشيعة . المباشر إبان تلك الحقبة مع وكلاء هذين الإمامين ، وعلماء المذهب من تلامذتهما ، وفي بعير آخر قضي الإمام الثاني عشر مدة زمنية استغرقت 60- 70 سنة ( عصر الغيبة الصغري ) ، وهو في متناول الأمة ، وكان له أربعة نواب خاصين كما كان له أيضا وكلاء وسفراء آخرون(1) . وقد كان الإمام نفسه يمارس عملياً حلّ مشكلات الأمة ، وتعليمها أحكام الدين ومفاهيمه ، وكان يلتقي أحياناً مع بعض الناس بأزياء مختلفة . كما أشير في الفصل الثالث - ، وأحياناً يرافق البعض في سفرهم أو سكناهم دون أن يعرفوه(2) .

كل هذه المفردات كانت بواعث لإثارة الحسّ الداخلي لدي الأجيال بوجود الإمام ، ولتوعيتها بتكاليفها الإلهية ومبادئها العقيدية ، كما كانت باعثاً الحفظ قطاعات جماهير الشيعة ، وصيانة الوجود اللثقافي والتنظيمي لهذه الجماهير ، ومتابعة حاجات المحرومين والمستضعفين .

كما كانت مراناً تدريجياً للأمة علي غيبة الإمام والرجوع إلي النواب والعلماء الرساليين ، وحفاظاً علي قاعدة التشيع من التمزق والضياع والانحراف ، وإعداداً لأرضيّة تجسيد التقدير الرّبانيّة والسنّة الضاربة في عمق تاريخ الإنسانية : غيبة المربي والهادي .

ص: 159


1- تاريخ الغيبة الصغري ، محمد الصدر ، ص 609 - 630 - 597 .
2- تاريخ الغيبة الصغري ص 608، 542، 597 - 599 .

المؤلف : تاريخ الغيبة الصغري » بهذا الصدد عدة فصول محددة في كتابه . يقول في مطلع فصل « حياة المهدي الخاصة » ما يلي :

كان سلام الله عليه وعجل فرجه يوم وفاة أبيه حين رآه الناس يصلي علي أبيه .. صبياً بوجهه سمرة ، بشعره قطط ، بأسنانه تفليج .. ثم يصفه من رآه بعد ذلك خلال غيبته الصغري ، بأنه شاب حسن الوجه طيب الرائحة ، هيوب ، ومع هيبته متقرب إلي الناس . قال الراوي : فتكلم ، فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب من منطقة في حسن جلوسه .

وفي رواية أخري : إنه شاب أسمر لم أر قط في حسن صورته واعتدال قامته .

وفي رواية ثالثة : فتي حسن الوجه طيّب الرائحة يتبختر في مشيته ....

ونسمع من سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه ، حين شئل عن رؤيته للمهدي (عليه السلام) .. يصف عنقه في حسنه وغلظه ، فيشير بيده ، ويقول : وعنقه هكذا أو قال : ورقبته مثل هذا . وإنّما أكّد علي صفة عنقه ليدل علي صفة الرجولة فيه ، وأنه لم يبق كما عهده الناس في حياة أبيه صبيّاً صغيراً، أو غلاماً عشارياً عليه رداء تقنع به(1) .

ففي زمان العمري السفير الثاني ، حاول شخص أن يقابل المهدي (عليه السلام) فوفّر له العمري فرصة المقابلة ، فرآه شاباً من أحسن الناس وجهاً . بهيئة التجار ، وفي كُمه شيء كهيئة التجار . وكونه ( عليه السلام ) بهيئة التجار ، يدّلنا علي لباسه خلال هذه الفترة ، بل علي عمله أيضاً .. وهو التجارة ، حيث يستطيع أن يواجه الناس كتاجر من التجار

ص: 160


1- تاريخ الغيبة المغري ص 540 - 541 .

من دون أن يعرف الناس حقيقته . ولعله تاجر مستقل عن تجارة سفيره ، أو لعله يعمل في تجارة سفيره ، أو يعمل سفيره في تجارته . وقد عرفنا ممّا سبق أن هيئة الكثير من علماء الخاصة بما فيهم السفراء ووكلاؤهم وعملهم الإجتماعي الظاهر ، كان علي ذلك ، ومن هنا اتخذ قائدهم وإمامهم نفس العمل والملبس ، وهو أمر أبعد ما يكون عن لفت النظر ، وإثارة الشكوك .

ثم يوصف لباسه حال الإحرام للحج : وهو ( عليه السلام ) يحضر الموسم كل سنة ، يري الناس ويعرفهم ، ويرونه ، ولا يعرفونه ويكون في أثناء حجه متّزراً ببردة ومتشحاً بأخري ، وقد عطف بردائه علي عاتقه ، شأنه في ذلك شأن كل حاج محرم يلبس ثياب الإحرام(1) .

أجل ، فكل ذلك - كما أشرنا - يشكل تدابير لتمرين الأمة علي غيبة الإمام ، وإقامة حركة التشيع علي ساقها ، وإدامة تجسيد طريق الرسالة العقيدي الناهض في القيادة المعصومة ، وبقاء ( ولاية الله ) علي الأرض تشريعياً وتربوياً ، واستمرار وثبة ( الحماسة الخالدة ) علي طول التاريخ برفقة سبل فجر مقدس ، وأشفاق دامية .

ج - المواقع الخمسة للحضور والغياب

لا بدّ لنا في سياق هذا البحث من التذكير بأنّ « الحجة » و « الولي » يمكنه من زاوية أعمال الولاية التشريعية وحق الحاكمية الاجتماعي أن يتخذ أحد المواقع الخمسة :

1- أن يكون حاضراً وفعالاً ، كما هو الحال بالنسبة لموسي (عليه السلام) حينما عبّا بني إسرائيل مواجهاً فرعون حتي سقوطه ، وكما هو الحال بالنسبة للنبي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) إبان مرحلة السنين العشر في المدينة ، وكما هو الحال بالنسبة

ص: 161


1- تاريخ الغيبة الصغري ص 141 - 142 ، وأيضاً الغيبة الشيخ الطوسي ص 164 .

العلي (عليه السلام) في مرحلة السنين الخمس من خلافته .

2- أن يكون حاضراً غير فعال ، كما هو الحال بالنسبة لعيسي (عليه السلام) في السنين المتاخمة للبعثة ، وكما هو الأمر بالنسبة لعلي (عليه السلام) إبان مرحلة القعود في الدار لخمس وعشرين سنة .

3- أن يكون حاضراً ، وفعالاً في بعض قطاعات الحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية و...، كما هو الحال بالنسبة للأئمة الطاهرين ، مع الالتفات إلي مختلف ألوان الجهاد والصراع الخفي والمعلن ، ومع حساب معارضتهم الدائمة لأنظمة الحكم المستكبرة .

4- أن يكون غائباً غياباً قصير المدة « الغيبة الصغري » عن قومه ، مثل عدد من الأنبياء ( كالنبي صالح (عليه السلام))، وكما هو الحال بالنسبة للحجة بن الحسن (عليه السلام) إبان مرحلة « الغيبة الصغري » .

5- أن يكون غائباً غيبة مستغرقة ( الغيبة الكبري ) ، كما هو الحال بالنسبة لغيبة الإمام القائم المهدي « ولي العصر» - عجل الله تعالي فرجه الشريف - .

5- خصوصيات الأنبياء في المهدي

سيدي ! ما تفرق لدي العظماء اجتمع فيك .

يمثل الإنسان عصارة خلاصات الكائنات ، كما أن الأنبياء والأولياء نموذج الإنسان وعصارة الإنسانية ، والمهدي خلاصة الأنبياء والأولياء . من هنا فللمهدي شبه في كثير من الخصائص مع الأنبياء غير أمر « الغيبة» وقد تجلت جملة من خصوصيات الأنبياء في المهدي (عليه السلام) .

أجل ، فالمهدي ولي الله الأعظم وسره الأكبر . وهو الذخيرة الربانية ، والبقية الإلهية ، وخلاصة التجليات السالفة . فإذا كانت تركة الأنبياء السالفين له ، وإذا كانت أسرار العالم بأسرها واضحة أمامه ، وإذا كانت ودائع الأولياء .

ص: 162

بين يديه ، فكل ذلك صحيح ، وفي موقعه . ذكرت في الأحاديث سمات متميزة الأنبياء يتوفر عليها قائم آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) :

طول العمر * لدي سيدنا آدم (عليه السلام) .

طول العمر * لدي سيدنا نوح (عليه السلام) .

خفاء الولادة ، والبعد عن الناس * عند سيدنا إبراهيم (عليه السلام) .

خفاء الولادة ، والغيبة عن قومه مع الهيبة والجلال * عند سيدنا موسي (عليه السلام) .

الجمال ، الكرم ، الحضور بين الناس مع عدم معرفته(1) * لدي سيدنا يوسف (عليه السلام) .

الغيبة عن القوم * لدي سيدنا صالح (عليه السلام) .

الحكم بقضاء داود(عليه السلام)(2) * لدي سيدنا داود (عليه السلام) .

امتلاك ناصية العالم ، * لدي سيدنا سليمان (عليه السلام) .

حلول الفرج بعد الشدة(3) * عند سيدنا أيوب (عليه السلام) .

العودة لأوساط الناس بعد ( الغيبة ) علي هيئة الشباب * لدي سيدنا يونس (عليه السلام) .

الإشراقة ، تبدل أوضاعه الشخصية * عند سيدنا عيسي (عليه السلام) .

الثورة الدامية ، الخروج بالسيف، سحق الجبابرة * لدي نبينا محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) .

كما أن علوم الأنبياء والأولياء والعظام وأسرارهم الأخري لدي المهدي :

ص: 163


1- كما هو الحال بالنسبة لإخوة يوسف ، حيث كانوا يرونه ولا يعرفونه إلي أن عرف نفسه بنفسه .
2- الأحكام الداودية معروفة ، إذ إن سيدنا داود (عليه السلام) كان يحكم وفق علمه الشخصي ، ولا ينتظر بينة . او شاهداً .
3- حصل سيدنا أيوب (عليه السلام) بعد زمن طويل من المتاعب والابتلاء علي الفرج والاستقرار . والمهدي (عليه السلام) بعد أن هجم العباسيون علي بيت أبيه أجبر علي التشريد والبعد عن الأحبة والأنصار ثم غاب عن الأنظار طبقا للحكمة الإلهية ، واستمرت هذه الغيبة زمناً طويلاً . وهو (عليه السلام) كسيدنا أيوب سيحصل علي فرج واستقرار . وإن فرجه (عليه السلام) فرج لكل المؤمنين والمستضعفين وسالكي سبيل الحق .

أسماء شيث ، وعلوم هرمس ، وأذكار يونس ، و ...

في الصلوات المنسوبة للفيلسوف نصير الدين الطوسي يصف الإمام المهدي (عليه السلام) بخصوصيات آبائه أيضاً :

اللهم ؛ صل وسلّم ، وزد وبارك علي : صاحب الدعوة النبوية والصولة الحيدرية والعصمة الفاطمية ، والأناة الحسنية ، والشجاعة الحسينية ، والعبادة السجادية ، والمآثر الباقرية ، والآثار الجعفرية ، والعلوم الكاظمية ، والحجج الرضوية ، والإفاضة التقوية ، والنقاوة النقوية، والهيبة العسكرية ، والغيبة الإلهية ، القائم بالحق ، والداعي إلي الصدق المطلق ، كلمة الله ، وأمان الله ، وحجة الله ، القائم بأمر الله ، المقسط لدين الله ، الغالب الأمر الله ، والذابّ عن حرم الله ، إمام السّر والعلن ، دافع الكرب والمحن ، صاحب الجود والمنن ، الإمام بالحق ، أبي القاسم محمد بن الحسن ، صاحب العصر والزمان ، وقاطع البرهان ، وخليفة الرحمن ، وشريك القرآن ، ومظهر الإيمان ، وسيد الإنس والجان ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

الصلاة والسلام عليك يا وصي الحسن والخلف الصالح يا إمام زماننا ، أيها القائم المنتظر المهدي ، يابن رسول الله ، يابن أمير المؤمنين يا إمام المسلمين ! يا حجة الله علي خلقه ! يا سيدنا ومولانا ، إنا توجهنا واستشفعنا ، وتوسلنا بك إلي الله ، وقدمناك بين يدي حاجاتنا في الدنيا والآخرة يا وجيها عند الله اشفع لنا عند الله - عز وجل -

ذكر العلامة النوري بكلمات عميقة وجميلة للفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي في الثناء علي الإمام الغائب والتوسل به . وهي عبارة عن كلمات لطيفة ومتينة دبج بها كتاب « جنة المأوي » في مقام مدح الحجة الكبري :

ص: 164

« ... عنقاء قاف القدم ، القائم فوق مرقاة الهمم ، الاسم الأعظم الإلهي ، الحاوي للعلم الغير المتناهي ، قطب رحي الوجود ، ومركز دائرة الشهود ، كمال النشأة ومنشأ الكمال، جمال الجميع ومجمع الجمال، المترشح بالأنوار الإلهية ، المربي تحت أستار الربوبية ، مطلع الأنوار المصطفوية ، ومنبع الأسرار المرتضوية ، ناموس ناموس الله الأكبر ، وغاية نوع البشر أبي الوقت ومربي الزمان ، الذي هو للحق أمين ، وللخلق أمان ، ناظم المناظم ، الحجة القائم .. » .

نعم ، تقرأ صلوات نصير الدين الطوسي بعنوان التوسل وعلي أسلوب الختم إلا أن هناك زيارات متعددة كزيارة « الآيات الربانية » في مقام التوسل بالحجة بن الحسن (عليه السلام) . كما هناك أدعية عظيمة كدعاء « الآيات الربانية » و « العهد » في مقام المناجاة مع الله تعالي والتوجه إليه وطلب الخير المعنوي والتوفيق الشامل بواسطة مقام الولاية .

وكل هذه الأدعية والأذكار . إنما هي توسل بمقام الكبرياء الإلهية ، أما هذه الأنوار الطاهرة - عباد الله المقربون ووسائط فيضه - فهي وسائل للتقرب بساحة عظمته . إن المهم جداً في هذه المرحلة هو التوجه الكامل لأبعاد الزيارات والأدعية . والبعد الأهم فيها هو البعد المعرفي .

فما سوي الذكر والمناجاة وطلب الحاجات بقراءة خاشعة للأدعية ، وما عدا التوجه والتوسل وإبراز الأدب والحب بقراءة مؤدبة للزيارة ، فإن الأدعية والزيارات تشتمل علي أعظم الحقائق في أجمل وأسهل العبارات(1) .... ولا بد من تأمل هذه المعاني والمضامين ، وقراءتها بدقة وتأمل ، واستلهام هذه المعارف روحياً وقلبياً .

إن كمال الإنسان الواقعي في معرفة حقائق العالم ، وكيفية الوجود ، وفيضه ، ووسائط فيضه ، ومقامهم ، وكيفية وخفايا الأمور الأخري وأحوال عالم

ص: 165


1- لقد جاء سياق أكثر الأدعية بعبارة سهلة ، كما أن هناك أدعية واردة كدعاء « الجوشن الصغير » .

الأمر والخلق . ولا تنبغي الغفلة عن التعرف علي هذه الحقائق وتحصيل اليقين بها . ولا ينبغي إغفال الأدعية والزيارات ، والجهل بمضمونها العميق . ولا ينبغي الاكتفاء بقراءة سطحية لتلك الأوراق المضيئة والأسطر الروحية . إن الأدعية المأثورة تضج بنور أصفي ينابيع الحقائق العلوية ، وأطهر المعارف الأصيلة في مجالات التوحيد والولاية ، والفيض والتكوين ، والإنعام والتقدير ، وغيرها من المسائل الإلهية ، والعالم وعوامله ، كما تشع بفلسفة النفس والتربية وقضايا المجتمع والمسؤولية ، وأسس السياسة والثورة والإصلاح .

6- الوساطة في الفيض .

اشارة

يحسن بنا ۔ ونحن نواصل البحث والتحقيق حتي هذه المرحلة - أن نأتي باختصار علي الحديث حول مسألة الفيض والجود الإلهي ونهج ترشحه وسريانه .

إن إحدي أهم قضايا المعرفة علي مختلف مستوياتها، الأعم من الإسلامية ( القرآنية - الحديثية ) ، و الفلسفية ، والعرفانية هي مسألة « الفيض » و « الوساطة فيه » ومعرفة كيفية ترشح الفيض من مبدأ الوجود علي الوجودات والموجودات . لا بد للفيض - علي الدوام - من واسطة قابلة ومقربة تنقله من المبدأ الفياض إلي سائر الموجودات .

لقد طرحت مسألة الفيض والوساطة علي بساط البحث منذ أيام الزمن الغابر . ولقد أثارت الأحاديث الشريفة قضية « المخلوق الأول » .

احتل هذا البحث موقعاً أساسياً في فلسفة ما قبل الإسلام ، وبالخصوص في فلسفة أفلوطين « الأفلاطونية المحدثة » . وقد طرح لدي مدارس الفلسفة الإسلامية ، عند الفارابي وفي « فلسفة المير داماد » والاتجاهات الأخري. وقد أخذ هذا البحث بنظر الاعتبار في عرفان المسلمين - خصوصا العرفان النظري - أيضاً .

ذهب محيي الدين بن عربي إلي الاعتقاد ب « الفيض المقدس »،

ص: 166

و « الفيض الأقدس » . « فكان يري أن للوجود - الذي هو حقيقة أزلية واحدة ،(1) تجليين :

1- التجلي الذي يتم بموجبه ثبت أعيان الموجودات في عالم الغيب لتضحي «أعياناً ثابتة » .

2 - التجلي الذي تظهر بسببه تلك الأعيان الثابتة في العالم الحسي .

أطلق علي التجلي الأول مصطلح ( الفيض الأقدس ) ، واصطلح علي التجلي الثاني ( الفيض المقدس ) . »

فالفيض الإلهي - بشكل عام - ينقسم إلي نحوين :

1- فيض الخلق والتكوين .

2 - فيض الهداية والتشريع .

وهدفنا هنا الحديث باختصار حول « واسطة الفيض » وفق هذا الاتجاه العام ، فننوع موضوع البحث إلي نوعين :

أ- الوساطة في الفيض التكويني .

ب - الوساطة في الفيض التشريعي .

أ- الوساطة في الفيض التكويني

أي لون من ألوان الفيض الواصل يصدر من المبدأ الفياض عن طريق واسطة الفيض . والفيض الأعظم في الواقع هو خلق وإيجاد الواسطة نفسها. فالواسطة هي أول الخلق وعلّة لظهور المخلوقات الأخري علي سطح الوجود والفيض الإلهي يترشح علي الكائنات - علي الدوام - عن طريق وجودها وامتدادات هذا الوجود ، وكسب الفيض الصادر من المبدأ المفيض ظاهرة تحتاج إلي واسطة مؤهّلة ، وهذه الواسطة المؤهلة تكتسب الفيض حسب مستوي قابليتها ، وتوصله إلي المستفيض .

وبعبارة أخري : غني عن البيان أن عالم الوجود بأسره وجميع الكائنات التي لها تحقق علي لوح الوجود ، من المجردات والمادية أجمع، سواء

ص: 167


1- وفق اصطلاح مدرسة ابن عربي .

جزئيات الذرة والمجرات والعوالم الكونية العظمي ، تأخذ طريقها جميعاً إلي عالم الوجود بالفعل الإلهي .

والفعل الإلهي صادر عن إرادة ومشيئة ، وإن الإفاضة والإنعام مقصودان بمشيئة الغني المطلق وإرادة الجواد علي الإطلاق. بل لا بد من القول إن متعلق المشيئة هو هذا الإنعام والإفاضة .

إلا أن البحث يدور حول هذه المسألة وهي : أن الإفاضة علي الموجودات هل تتم بواسطة أو أنها تتم بلا واسطة ؟

والواقع هو أن تعلق الفيض بالموجودات الدانية والراقية يتم بواسطة ، وواسطة الفيض فيض أيضاً . بل هي حقيقة الفيض وجوهره - كما أشرنا -.

حقيقة الولاية المطلقة في هذا الفيض ، والتوسط في إيصال الفيض إلي الكائنات الأخري . فنفس الولي المطلق وعاء للمشيئة ومبدأ السريان الفيض الإلهي ، ومنبع لإفاضة الجود والوجود والإفاضات المختلفة للموجودات .

علي هذا الأساس ، فنفس الولي (نبيٌ أو إمام ) لها مركزيتها في عمق الوجود . وتمثل روح الولي - الجزء الملكوتي - جسراً لإدامة الوجود وإفاضته ، ومعبرة لتسلسل الإبداع والخلق .

و ببيان آخر : العالم ، عالم سبيّة ، وكل شيء فيه قائم علي أساس تخطيط ووفق تقدير وواسطة ومقدار ، تقدير من مقدر عليم حكيم . يحتل وجود الولي - في نفس حركة السببية والتقدير الأزلي العظيم - نقطة البدء للإفاضة ، ومبدأ الإفاضات الأخري . وفي هذا الضوء يحتل الولي موقعاً في متن الوجود وعمقه . وهو ذاته سبب جمع الإفاضات والأنعام : فوجود الولي له علّيّته بالنسبة للوجودات الأخري .

عمومية وشمول هذه الظاهرة في نظام الوجود الحكيم بلغت الحد - وهي قانون في الواقع - الذي نلاحظ فيه سيدنا آدم صفي الله (عليه السلام) أيضاً لا بد له من التذرع بواسطة يستفيض بها توبة ربه فيتلقي « كلمات » : ( فتلقي آدم من ربه

ص: 168

كلمات فتاب عليه )(1) ، واستخدام الفاء في كلمة ( فتاب ) لأجل التفريع والترتيب ، وهي إشارة للترتب والعلية التي هي محل حديثنا(2) .

ب - الوساطة في الفيض التشريعي

ينسحب التصور السابق علي ظاهرة هداية الإنسان ، وتشريع القوانين وتحديد الأحكام ، وإنارة « الصراط المستقيم » أيضاً . فظاهرة الهداية والتشريع نفسها فيض عظيم وإفاضة كبري . إذن فهذا الأمر بحاجة إلي واسطة مؤهلة . لا بد من نفوس مؤهلة تستقبل الوحي وهدي الأيات الإلهية وتبلغها وتعلمها للبشرية . والمسألة ليست علي نحو أن كل نفس مؤهلة لتلقي الوحي ، ليضحي كل فرد نبيّأ لنفسه وإماما لها . بل لا بد من مجيء واسطة فيض مؤهلة لاستقبال الوحي ، لكي تزكي النفوس ، وتعلم الكتاب والحكمة . وقد أشار القرآن الكريم لهذه المفاهيم وعد إرسال وبعث معلم الهدي إحدي النعم الإلهية ، النعم الإلهية الكبري التي عبر عنها تبارك وتعالي بقوله : ( لقد منّ الله .. )(3) .

لا يستطيع الإنسان أن يصل بنفسه إلي استجلاء حقائق الوجود ، ولا يقدر بنفسه علي إدراك معقل المعرفة الإلهية والتوحيد الرفيعين. لا يستطيع الإنسان أن يفهم قضايا الوجود والعالم دون التعاليم السماوية ، وبلا مقولات الأنبياء ، ولا يستطيع أن يشخص مستلزمات الحياة الخالدة وعدة سبيلها وأسباب الحياة فيها ، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب إطار السلوك التكاملي وأسراره وحكمته ، وأن يكشف طريق الحركة السليمة والمستقيمة . كما أن العقل وحده غير كاف لبلوغ هذا الهدف(4) . فالعقل لا يتعدي كونه مصباحأ ، لعله يطوي الطريق إذا حدد له

ص: 169


1- سورة البقرة : 37 .
2- الكلمات ، التي وردت هنا - ( وفق حقائق علم الحروف وخصوصاً ما وصل منها عن طريق الأئمة الطاهرين ) - لا بد من أن تكون أسماء ( معبرة عن ذوات تمثل باعتبار ما أسماء إلهية ) ليمكن أن تصبح منشا للإفاضة ، وسبيلاً لترشح الفيض . ومن هنا جاءت الروايات عن طريق اهل السنة والشيعة دالّة علي أن الكلمات التي تلقاها آدم وحصل عليها ، وجعلها واسطة للفيض الربوبي هي أسماء خمسة أشخاص .
3- سورة آل عمران : 164 .
4- « إن مجرد العقل غير كافٍ في الهداية إلي الصراط المستقيم » .

لكنه لا يستطيع بنفسه أن يكتشف السبيل الأصيل ، ولا يمكنه أن يضمن استقامة السبيل - إن قدر علي اكتشافه ..(1) .

من هنا كان العقل أيضاً بحاجة إلي إمداد وتوجيه . فهذا المصباح يحتاج باستمرار إلي صب الزيت فيه وإدامة فتيله .

إذن لا بد أن يصل الإمداد التشريعي بني الإنسان أيضاً ، وأن يؤخذ بيد الإنسان ، ويعاد العقل قويما في نصابه .

تتحد الواسطة في الفيض التكويني مع الواسطة في الفيض التشريعي في الخارج ، ولهما مصداق واحد : النبي ، والإمام نيابة عنه . فقد تبلورت في النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) المرتبة الكاملة للولاية والرسالة ، وفي الأئمة الطاهرين علي وأولاده تبلورت الولاية والإمامة أيضاً، والتي هي - أي الإمامة - نيابة عن ا الرسالة . فهؤلاء واسطة في الفيض التكويني :

لولا وجودهم لم تأو صورتنا * إلي الهيولي ، فلم نخرج من العدم

وواسطة في الفيض التشريعي :

بآل محمدعرف الصواب * وفي أبياتهم نزل الكتاب

7- قانون التكوين العظيم ودوامه

لاحظنا في الفقرة السابقة أن الله تعالي جعل قانون « الوساطة » وعاء

ص: 170


1- لو سلمنا جدلا أن العقل يقدر علي استيعاب مفاهيم ، ويستطيع أن يعين القواعد السلوكية لحياة الإنسان ، وأن ما يدركه العقل متكامل ومؤد للسعادة ، فنحن نعلم أن هذا الاستيعاب وهذه القدرة لا تتيسر لكل العقول ولكل الأفراد . بل يمكن أن يتوفر عدد قليل جداً من المفكرين والعباقرة علي مثل هذا الاستعداد . ونعلم أيضاً أن هذه القدرة لا تنسحب علي جميع الحقول وسائر المشكلات . إذن فلا بد أن يكون هذا النفر من أصحاب الاستعدادات الخاصة قدوة جماهير البشر ، وأمراءهم وهداتهم ، وكتابهم ، ومقنينهم . وفي مثل هذه الحالة يكون أتباع الكتاب السماوي والنبي المرسل أولي وأجدر من أتباع طائفة من الفلاسفة والمفكرين والمقنين البشريين ، الذين رغم ما لهم من مزايا كمالية ، لديهم الكثير من القصور والنقص في التشخيص وعدم المعرفة ، ويعانون من الأفكار المتناقضة والميول المتعارضة والتوجهات المتعثرة !

لإيصال الفيض ، وأقام العالم وشؤونه علي أساس قانون « العلية » المحكم . والتفتنا إلي أن الولاية ( واسطة في استلهام الفيض وبثّه ) إحدي أبرز وأهم ظواهر قانون العلية . تعمم هذه الظاهرة بشكل أكبر في المراتب اللاحقة ، وتضحي الوسائط والأسباب في سلسلة المراتب متعددة ومتكثرة ، ويرتبط الجميع بهذه الواسطة الأولي .

أحد دواعي هذا القانون : أن يكون ازدياد إفاضة الفيض عن طريقه ، إذ سوف تنعم أسباب ووسائط الفيض بالوجود ، وتتمتع بفيض الوجود وسائر ألوان الفيض الأخري .

من هنا يحدث التراكم العظيم للمفيضين والمستفيضين ، قوانين محيرة انسجاما مدهشاً ، وتنظيماً دقيقاً ، وفعالية شاملة ، وارتباطاً عميقاً .

يتمتع العالم - كما نشاهده ، والعلوم كلها شواهد علي ما نقول - بأدقّ النظم ، والنظام والتنظيم في عالم الخارج سيّان . تقتضي طبيعة تنظيم الأمور من زاوية المدة الزمنية إجمالا وتفصيلا . وليلة القدر إحدي الأسس الكبري للتنظيم والتدبير . ليلة القدر مرحلة « الإجمال » ، والظرف الزمني للسنة مرحلة « التفصيل »(1) . إذن ليلة القدر وحضور المجري والمنفذ - بالنسبة لكائنات عالم الأرض - جزء النظام الكلي للوجود . وأحد أهم أركان التقدير والحكمة والتنظيم . فهي تعين تقادير هذا العالم علي أساس الحكمة المحكمة وبشكل إجمالي عام ، ثم تتجسد تفاصيل هذا التعيين علي طول السنة .

ذات الولي وقلبه(2) ، أكبر عوامل وصول الفيض للموجودات والمخلوقات ، وكما أن الولي واسطة للفيض ، فهو مركز لتنظيم الفيوض والتقادير أيضاً . الفيوض وكل المصائر والتقادير تعرض عليه في مرحلة

ص: 171


1- مرت أفكار حول ليلة القدر ، وبعدها الوجودي في الفصل الثامن، وذكرنا في ذلك الفصل - الفقرة 8-حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) : فكيف يكون حكيماً إلا ما فرق » .
2- إذا أردنا أن نتحدث بلغة أهل العرفان يمكننا القول : « سر الولي المطلق » ، واسطة « الفيض الأقدس » ، و « قلبه » ، واسطة « الفيض المقدس » . كما نقول في مجال معرفي آخر : قالبه مربي « الصور النوعية » . وقد أشرت في قصيدة عربية نظمتها لهذه المفاهيم « المعرفية » في استبصار آثار الولاية وإليك ثلاثة أبيات منها : قالبه مصور الأنواع * وقلبه واسطة الإبداع قالبه مفيض أنواع الصور * وقلبه سر نفاذات القدر لولاه مامعني نزول الأمر * في كل عام من ليالي القدر نقلا عن « الأدب والالتزام في الإسلام » للمؤلف ص 135 - 137 .

الإجمال ، وتتحقق في مرحلة التفصيل عن طريقه وبإرادته . فالله تعالي ( .. لم يكن له ولي من الذل .. )(1) . بل له ولي من العز .

نلاحظ في هذا الضوء أن حركة «ليلة القدر » ( بمحتوياتها وبوصفها محطة سنوية فاصلة لتنظيم وتقدير الأمور ) ليست حركة عادية ، بل هي ناموس مستمر علي الدوام ، وقانون لا يعتريه أي تغير ، وهي جزء نظام التكوين والتقدير من جهتين :

1 - من جهة قانون الوساطة في الفيض .

2 - من جهة قانون الإجمال والتفصيل في تنظيم الأمور .

8- غيبة شأنية

من خلال تأمل ما مر ، وبملاحظة شؤون وسلوك الإمام في العالم ننتهي إلي النتيجة التالية : إن غيبة حجة الله ليست غيبة كلية ، بل هذه الغيبة وعده الحضور غيبة جزئية ، يعني : غيبة وعدم حضور في شأن من شؤون الولاية . وهو - ( أي الشأن ) - المعيشة مع الناس والهداية المباشرة للمجتمع البشري وتشكيل الحكومة الحقة . فالإمام في عصر الغيبة غائب في هذا الشأن من شؤون ولايته وسلوكه ومركزه ، وهو حاضر في بقية الشؤون ونافذ وفعال وبعبارة أدق : إن الغيبة بالنسبة للإمام وخليفة الله في كل الجهات والشؤون ليس لها معني ، بل لا تتصور ، إذ ستكون نظير تصور تحقق معلولات متعددة لعلة واحدة دون أن تتحقق هذه العلة وهذا الأمر ليس معقولاً وغير مقبول . وهذه الحقيقة يعني : الحضور العام للحجة في حال غيبته الخاصة ، جاءت في

ص: 172


1- سورة الإسراء : 111. قال سبحانه في سورة الإسراء ، ( ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) .

إحدي زيارات هذا الإمام العظيم بالعبارة التالية :

« السلام عليك يا حجة الله ، التي لا تخفي » .

فعدم الخفاء في حال الغيبة في هذا النص إشارة الألوان الحضور الأخري التي يمارسها الإمام .

علي أساس البحث الذي مر في « الواسطة في الفيض » ، يتلمس كل فرد في وجود كل شيء ، وفي وجوده وحركاته وحياته نفسه أثار حضور الحجة ، حضوره الواسطي . وهذه واقعية كبري من واقعيات المعرفة . وانطلاقاً من هذه « الواقعية المعرفية » اصطلاحنا علي انحصار الغيبة في جهة واحدة ب « الغيبة الشأنية » . للإمام في عصر الغيبة « غيبة شأنية » وهو حاضر في سائر الشؤون الأخري ما عدا شأناً واحداً، حيث إن هذا الحضور وهذه الشؤون ترتبط مباشرة ببقاء الكائنات وإدامة وجودها وحيث يستمر هذا الوجود ، وتوجد علة الفيض لهذا العالم بكل أرجائه ، سوف لا يكون هناك معلول بلا علته وتكون هذه العلة في علتها - بإذن الله وفضله - ذات فعلية وغني .

9- الآثار الوجودية للحجة في عصر الغيبة

اتضحت - خلال البحث السابق - أرضية معرفة آثار الحجة في عصر الغيبة ، قلنا هناك : إن ليس للإمام وحجة الله غيبة كلية ، وما كان فهو الغيبة الجزئية ، وهو حاضر علي الدوام بغية إيصال فيض الوجود وأساس النعم . علي هذا الأساس فقوانين وأصول الحجة دائمة الاستفاضة والفيض . فهو يستلهم الفيض علي الدوام ويبثه باستمرار وقد كان الجعل والتقدير الإلهي ليكون علي هذه الشاكلة .

في هذا الضوء نعرف أن أهم فائدة في وجود الحجة هي : آثار ولايته التكوينية . فلا بد أن يكون الحجة والولي من زاوية ناموس التكوين وقانون الإبداع ، وبحكم سدي ولحمة نظام الخلق الحكيم ؛ حيث إن عالم الوجود - كما أوضحنا من قبل أيضا - يقوم علي أساس الأسباب ، والوسائط ، ويرتكن لوجود الفرد الكامل في السببية والوساطة ، والذي هو نفسه واسطة الوسائط ،

ص: 173

وسبب الأسباب . إذن فتربية الجماهير ، وإدارة شؤون المجتمع ، ونشر تعاليم الإسلام في كل بقاع العالم ، وتشكيل الحكومة الحقة واحد من العديد من آثار وجوده ، وحينما لا يتسني الهذا الأثر أن يكون عملياً - لحكم متعددة - ويؤجل تجسيده ويغيب الحجة عن أنظار الناس عامةً ، تبقي آثار وجوده الأخري - وهي الأساس - مترتبة علي وجوده ، بل تساوق وتعادل هذه الآثار نفس وجوده ، وأحكام المتساويين واحدة ، فثبوت كل منهما عين ثبوت الآخر ، فما دام الحجة موجودة فالعالم موجود ، وما دام العالم موجودا فالحجة موجود . .

الخلاصة : بلوغ فيض الوجود التدريجي وتحقق مراحل الإفاضات الإشراقية ، رهن وجوده ، وهو أي - الحجة - كالمراة الصقيلة إزاء مطلع أنوار الأزلية غير المتناهية ، تعكس إطلالة الوجود علي أرواح الكائنات - في مرحلتي الوجود والبقاء - .

من هنا فآثار وجود الحجة لا ينظر إليها محصورةً في زاوية تربية المجتمعات ، والحضور في أوساط الأمة ، بل لا بد من ملاحظة وجود هذه : الحقيقة من زاوية قانون التكوين ، والعلاقات الماهوية « العلية والسببية »

أيضاً ، لتري أن للحجة حضوراً علياً ، وإن لم يكن لساخت الأرض بأهلها(1) ، وبتعبير المتكلم المعروف الشيخ عبد الجليل القزويني الرازي :

إمام العصر ، خاتم الأبرار ، المهدي بن الحسن العسكري - عليه وعلي آبائه الصلاة والسلام -... وجود

العالم رهن وجوده ، والعقل والشرع منتظر ظهوره ولقاءه ..(2) .

ما قيل حتي الآن كان إشارة للآثار الوجودية للججة الغائب من بعد الوساطة التكوينية ، أما في بعير الوساطة التشريعية ومسألة هداية وتربية البشرية فلا بد من القول : إن الغيبة من زاوية هذا البعد لها - يقيناً - آثار سلبية فلا يمكن

ص: 174


1- أصول الكافي ، كتاب الحجة ، باب أن الأرض لا تخلو من حجة ، الحديث 1 - 13 .
2- كتاب النقض ، طبع المحدث الارموي ، مقدمة الكتاب ، ص 6 .

أن يكون حرمان الإنسان من إدراك حضور المربي الأكبر والحجة البالغة أمراً بسيراً . غير أن هذا الحدث وقع وفق علل وحكم - كما مر ، وتأتي الإشارة إليه أيضا في الفصل الرابع عشر - ، فأدي إلي غيابه لكي لا تذهب آثار الهداية والتربية كلياً .

لقد وقعت غيبة الإمام الكبري في ظروف توفرت علي الإمكانات التالية :

1- كتاب الله .

2- سنة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) .

3- أحاديث وأقوال وتعاليم الأحد عشر إماماً .

4 - السيرة العملية وأسلوب حياة الأحد عشر إماماً طيلة 250 عاماً في أبعادها المختلفة : الالتزام والمسؤولية والتربية والإقدام والحماسة والإيثار ..

5 - مرحلة « 70 عاماً » الغيبة الصغري ، ومجموعة التعاليم والإرشادات التي أفاض بها الإمام الغائب طوال تلك المدة ، والتي وضعها في يد الأمة . كما أشرنا من قبل - نوابه وسفراؤه .

6 - وجود جمع من علماء وعظام الشيعة ، الذين مروا بمراحل تربوية وتعليمية في ظل مدرسة أهل البيت ، مع الواسطة القريبة جدأ لمنبع هذه التعاليم .

سمعنا عن الفيلسوف الكبير أبي نصر الفارابي وعن بعض آخر من العظام والفلاسفة أنهم قالوا : حينما يغيب رئيس المدينة الفاضلة ، لا بد من العمل بسنن وقوانين السلف . وقد حول علماء التشيع هذا النهج إلي سيرة عملية . من هنا - ومع وجود هذه التركة التربوية العظمي، التي تنسحب علي أبعاد الحياة المختلفة ، ومع وجود خط « النيابة العامة » في عصر الغيبة الكبري - نلاحظ أن الآثار الوجودية في الغيبة لا تنتفي ولا تنقطع بشكل كامل .

إذن فالمثال الذي يضربونه للإمام الغائب بالشمس الملبدة بالغيوم يصدق تماما : فالشمس شمس سواء كانت مصرحة جليّة وسواء كانت ملبدة بالغيوم ، ولها كل آثارها الوجودية ، غايته أنها حينما تتلبد بالغيوم لا يصل شعاعها الذهبي للعيون ، غير أن بقية آثارها دائمة ومستمرة .

ص: 175

ذكر أستاذنا الكبير الشيخ مجتبي القزويني الخراساني - وهو من نوادر عصره ، ومن « المحظوظين - فوائد وجود الإمام الأكبر المهدي الموعود (عليه السلام) في حال الغيبة ببيان ممتزج بوعي عيني للواقع . يحسن بنا هنا أن نصغي لحديثه ، وندع العندليب الواله يحكي مقولته :

لا يزال الإمام في حال الغيبة - التي وقعت علي أثر انحراف الناس أنفسهم - حجةً ، وحينما تبتغيه الناس بإخلاص سوف يصحر ، وهو في نفس الوقت الذي يغيب فيه عن الأنظار يقوم ب:

1- يقضي حوائج المتوجهين إليه والمتوسلين بمقامه .

2 - يمد الطالبين في حل مشكلات علوم الدين ، والوصول إلي المعرفة .

3 - تؤثر إرادته ودعاؤه في تحويل قلوب المتسلطين والمتنفذين .

4 - حيث إنه شاهد علي أعمال الأمة ، تنصرف الجماهير المؤمنة عن ارتكاب الحرام والمخالفة ، وتسلك سبيل

الصلاح والتقوي .

5- تعهد تربية وإيصال النفوس المستعدة مراتب السلم في مسيرة التكامل الروحي . ويسعف السالكين علي بصيرة ، ويحفظهم عن الوقوع في شراك الأدعياء والمشعبذين والمتلبسين برداء الدين(1) .

10- النظام التكويني والنظام الاجتماعي

أشرنا إلي أن الحضور التربوي «للحجة»، وحاكميته في أوساط المجتمع الإنساني أحد آثار وجوده . ولا بد من القول إن هناك واقعين يرتبطان بوجود الحجة وخليفة الله في الأرض :

ص: 176


1- بيان الفرقان ج 5، وانظر أيضا كفاية الموحدين ج 3 .

أ- توفر الكائنات الأرضية علي النظام .

ب - انتظام المجتمعات البشرية .

يرتبط الواقع الأول بإدامة الخلق والنظام في العالم ، ويرتبط الواقع الثاني بانتظام حياة وحركة الإنسانية .

وبتعبير آخر : يرتبط الواقع الأول با « الولاية التكوينية » ، ويرتبط الواقع الثاني ب « الولاية التشريعية » ، ومن الواضح أن الواقع الأول هو الأصل وهو المتقدم والأهم والأعم، وإذا لم يكن الواقع الثاني - الذي هو الفرع المتأخر المهم والعام - قابلا للتنفيذ والتطبيق بشكل كامل ، فالواقع الأول قائم لا يتغير . وسوي ذلك لا يمكن أن يكون أمرا آخر . علي هذا الأساس فليس للغيبة مفهوم بالنسبة لحضور الإمام في عالم الوجود - كما أشرنا في بحث « الغيبة الشانية » .

إذن فالأمر الذي يحتل الدرجة الأولي في الأهمية بالنسبة لضرورة الحجة وحتمية وجوده هو : حضوره في العالم ، وليس ظهوره في أوساط الجماهير ، وباصطلاح علماء المنطق : ضرورة الحجة أعم من غيبته وظهوره ، وليست مساوية لظهوره .

نأتي للاستشهاد بكلام إمام أهل اليقين وصي الأوصياء وقدوة الصديقين أمير المؤمنين (عليه السلام) حسن ختام للفصل وتأييدا لما جاء فيه من مقولات وتيمناً وتبركاً :

اللهم بلي ! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً . لئلا تبطل حجج الله وبيناته -(1) .

***

ص: 177


1- نهج البلاغة ، صبحي الصالح ص 497.

ص: 178

الفصل العاشر : في ضوء العلوم التجريبية

اشارة

ص: 179

ص: 180

في ضوء العلوم التجريبية

1- زوايا نظر العلوم التجريبية

اشارة

الموضوع الآخر في قضية « المهدي الموعود »، الذي لا بد أن يخضع للتحقيق هو : مسألة « طول العمر». فمن الممكن أن تكون هذه المسألة بحاجة إلي الإيضاح لدي بعض المتابعين . إذن ، لا بأس في متابعتها عبر وجهات نظر متعددة .

نريد أن نري في هذا المجال : هل هناك دليل عقلي ، أو برهان علمي ، أو قانون تجريبي عام يثبت استحالة طول العمر ، أو لا؟ كما نحاول أن نري : هل التجربة البشرية علي امتداد التاريخ الإنساني الطويل تقضي بتلك الاستحالة ؟ وهل تري أن ظاهرة التعمير اتفق أن تحققت في مورد أو لا؟

نريد أن نتعرف علي : كيفية وضع مسألة طول العمر من وجهة نظر الأدلة العقلية ، وقوانين علوم الحياة ، ومن وجهة نظر التجربة البشرية ، والواقع التاريخي ، ومن زاوية حركة قوانين ونواميس الطبيعة ، وعبر وجهات نظر المفكرين الكبار ، وإخصائيي العلوم ...؟

لنتعرف علي : أن امتداد العمر علي مساحة زمنية واسعة ، ووقوع ذلك في كل الأحوال والشروط ، وبالنسبة لكل الأشخاص : هل له حكم كلي ،

ص: 181

وقانون ضروري ، وقاعدة لا استثناء فيها ، أو أن الأمر ليس كذلك ؟ ونحاول أن نتعرف بعد ذلك علي الإجابة علي هذا الاستفهام : ما هي وكيف تكون العلاقة بين طول العمر ، والقدرة الإلهية ؟ نعكف علي إيضاح هذه المسائل خلال هذا الفصل .

أ. في علم الأحياء

يقول علماء الأحياء : إن عمر البشر ليس له حد ثابت ، ومدة معينة . ففي العالم الطبيعي وجدت مختلف أشكال العمر ، ويمكن أن توجد . يقول العالم الألماني وايزمن :

لا يمثل الموت لازماً حتمياً للقوانين الطبيعية ، وقد وجدت كل ألوان العمر في عالم الطبيعة بدءاً من العمر الأبدي حتي عمر اللحظة الواحدة .

إذن في ضوء وجهة نظر المتخصصين لا يعتبر طول عمر الإنسان بأي حجم كان خلافاً للأصول العلمية ، بل لعل العلم يؤيد ذلك . وقد ذهب العلم الحديث في تأييد مسألة طول العمر إلي الحد الذي تصدي فيه خلال العقود الأخيرة لإلغاء الحد والقيد عن حياة الإنسان ، ومن خلال اكتشاف الأسلوب السليم لصيانة خلايا الجسم لتضاف سنون طويلة علي مدة عمر الإنسان . وقد ترقي البعض وعكفوا ساعين في طريق الحصول علي العمر الخالد للبشرية ( من خلال اكتشاف هرمونات خاصة وتزريعها للإنسان ).

ب - في ضوء قوانين الطبيعة

نواميس الطبيعة وقوانينها أيضا لم تثبت بطلان طول العمر .

تنشأ الأحكام التي ترجع إلي قوانين الطبيعة من حيث الأساس في الأعم الأغلب جراء الاستقراءات الناقصة ، والمحدودة بحدود رؤية وإدراك وتجربة الأفراد، ولا تعتمد الاستقراء الشامل لكل مفردات الواقع الطبيعي الشاسعة . يقول علماء المنطق : « إن الاستقراء الناقص لا يمكن أن يكون دليلاً علي الحكم الكلي العام ». وعلي سبيل المثال : إذا لاحظنا أشجاراً في محيط حياتنا لم يكن لقاحها ورشدها بحكم عوامل خارجية ( من قبيل تدخل

ص: 182

الأشخاص ) ، فلا يمكننا بمجرد ذلك أن نقول : إن كل أشجار العالم ترشد دون عوامل خارجية . إذ إننا لم نشاهد كل أشجار العالم واجدة واحدة في كل مكان ، ولسنا مطلعين علي أوضاعها أجمع . فمن الممكن أن يكون بين ما لم نلاحظه ولم تجربه أشجار تحتاج في عملية تلقيحها إلي تدخل الملقحين والزراع . إذن يمكننا أن نصدر حكماً كلياً بصدد موضوع ما حينما نستوفي في المتابعة كل مفردات هذا الوضوع - مفرداته الاعتيادية وغير الاعتيادية - ونتعرف علي أحكام الجميع .

والحال كذلك بالنسبة لقوانين معرفة الحياة . فحتي الآن لم تكتشف كل هذه القوانين سواء منها الداخلة في علوم الحياة ومعرفتها ، أم المتعلقة بالعلاقة بين قضايا هذه العلوم والعلوم الأخري . إذ أن المسائل المجهولة في دائرة العلوم كثيرة جداً . وقوانين العلوم ومعارفها واكتشافاتها تلعب دورا في إكمال بعضها البعض الآخر ، وفي رد وإثبات قضايا بعضها البعض الآخر . فلعل حقائق وقوانين فيزيائية ، أو فلكية ، أو فضائية يؤدي اكتشافها إلي التأثير علي أسلوب حياة الإنسان ، وعلي قضايا علم الحياة ومسائله . والكشوف الجديدة التي تقلب النظريات التقليدية كثيرة الاتفاق . حياة الإنسان علي وجه الأرض لها قوانين مجهولة وافرة حتي الآن ، ومع وجود هذه القوانين المجهولة ، كيف يمكن الاعتقاد بأحكام كلية ضرورية حول مسائل الحياة المختلفة ، وفي مفردات متفاوتة تماما ؟ وكيف يمكن اعتبار ظاهرة مخالة مئة بالمئة واعتبار الأخري ممكنة مئة بالمئة ؟

ج - القوانين الطبيعية وأنواعها

تتنوع القوانين الكامنة في عالم الطبيعة إلي نوعين :

1- قوانين عامة وظاهرة .

2 - قوانين خاصة ومستترة .

يمثل القسم الأول : القوانين التي تلمس لدي الجميع ، أو لدي غالبية أفراد الصنف ، وتكتشف عبر الملاحظة والتجارب التي لا تتسم بزيادة الجهد وسعة دائرة التجريب .

ص: 183

ويمثل القسم الثاني : تلك القوانين التي تلمس لدي بعض الأفراد ضمن بعض الشروط . ويمكننا أن نضع اليد علي نماذج كثيرة لقوانين النوع الثاني في العلوم الطبيعية ، والفضائية ، والكيميائية ، وعلم النفس و... ونلمس الاختلافات المتنوعة التي توجد حتي عند أفراد الإنسان الذين ينتمون إلي جنس واحد ، مثلا : التفاوت في قوة البصر ، والتفاوت في قوة السمع ، والقدرة علي الحفظ ، وتفاوت موقع القلب ، والرئة ، والكبد والطحال، وما إلي ذلك . وكل هذه الأمور تثبت إمكانية مشاهدة مفردات متعددة في عالم الطبيعة ، تمضي علي خلاف ما هو متعارف ومألوف . فتقع ظواهر تؤدي إلي حصول استثناءات في متعارف القوانين .

د. في ضوء التجربة التأريخية

هناك واقع آخر لا بد من أخذه بنظر الاعتبار في معرفة مسالة «طول العمر » وإمكانية وقوعها، وهذا الواقع هو : ، التجربة التاريخية الطويلة للإنسانية عبر القرون والعصور . فإذا كانت مسألة العمر المديد قد اتفق وقوعها عبر تاريخ حياة البشرية - رغم قلة مصاديقها - فسوف يكون تكرار مصاديقها أو تكرار مصداق مشابه لها أمر طبيعياً ومعقولاً وقابلاً للتحقق والتصديق . يقول الفلاسفة :

أول دليل علي إمكان شيء ما وقوعه .

وغني عن البيان أن الإمكان الوقوعي يلحظ « الوقوع النوعي »، لا « الوقوع الشخصي » ، ويشكل دليلاً علي صحة إمكان النظائر والمصاديق الأخري .

وواضح أيضا أن النقل التاريخي المتواتر - والمشهور منه علي وجه الخصوص - سبب لحصول اليقين والاعتقاد . فنحن استناداٌ للنقل التاريخي نقتنع أن هناك فيلسوفاٌ عاش قبل قرون علي أرض عالمنا الإسلامي في إيران يدعي زرادشت ، أو أن هناك أسرأ باسم الأشكانية والساسانية عاشت هناك ، ونعتقد بنسبة الآثار المنسوبة إليهم بواسطة النقل التأريخي ، ونحن لم نر أولئك ولا ابتكار تلك الآثار علي أيديهم ، أو علي أيدي عمالهم وموظفيهم .

ص: 184

واقتنعنا بذلك عن طريق « النقل التاريخي » . وكل المعلومات البشرية التي تتعلق بالماضي التاريخي تحصل عن هذا السبيل نفسه(1) .

النقل التاريخي أحد الطرق المؤدية إلي حصول العلم واليقين ، وأحد أهم مصادر المعلومات البشرية ، فحتي بالنسبة لأفراد نظير الشاعر الإيراني الشهير سعدي والشاعر الإيراني المعروف حافظ ؛ فهذان موردا يقين كبير جداٌ ، وهل حصل لنا العلم بوجودهما بطريق غير طريق النقل ؟ فهل رأينا بأم أعيننا «سعدياٌ » و « حافظاً » ، وهما يعيشان في هذا العالم ، وينشدان الشعر ويكتبانه علي الورق ؟

إذن ، النقل التاريخي أحد أهم مصادر العلم والمعرفة ، حتي معارف الإنسان اليقينية في مختلف العصور ومراحل التاريخ . ونحن نجد مصادر النقل وكتب التاريخ تذكر أسماء الكثير من الأفراد « المعمرين » ، وثبتت شرحاً لنسب ، وأوضاع ، وأبناء ، ووقائع حياة هؤلاء الأفراد الذين عمرّوا مدة مديدة من الزمن(2) .

وأمثال هؤلاء كانوا بين أوساط الجماهير الاعتيادية ، كما كانوا في وسط مشاهير التاريخ نظير الأنبياء ، كما ذكر القرآن الكريم بصراحة عمر سيدنا نوح (عليه السلام) الذي امتد زمناً طويلاً. إذن ، إمكان « العمر الطويل »وتحقق ذلك في موارد عدة ، أمر له مصاديقه علي مستوي الوقوع الخارجي ، والتحقق العيني أيضا ، وهو علي مستوي النقل التاريخي أمر مسلم وقطعي .

ه- المعمرون

المعمرون ، جمع ( معمر ) ، يعني الإنسان مديد العمر ، والشخص الذي عاش حياة طويلة . وقد ذهب هذا التعبير اصطلاحأ في كتب التاريخ

ص: 185


1- بل حتي بالنسبة للوضع المعاصر، فالكثير من المعلومات تحصل عن طريق النقل . فأكثرية البشر ا الغالية اليوم تعرف ما تعرفه حول البلدان الأخري وشعوبها، وظواهر العالم ، وأوضاع وممارسات الأخرين عن طريق النقل لا أنها قد شاهدت ما تعرفه بنفسها .
2- بل ألفوا كتبا أتناولت بالخصوص أحوال هؤلاء ، وسيأتي ذكر بعض هذه الكتب .

والسيرة والأنساب(1) . وهذا دليل علي توفر مصاديق كثيرة لمفهوم هذا التعبير .

نعم ، عرفت المصادر التاريخية ، ومنابع النقل المعتبرة أشخاصا كثيرين كان لهم عمر طويل ، وعاشوا العديد من أيام الزمن ، وشاهدوا الكثير من ربيع السنين وخريفها وقد اشتهر هذا الصنف من الأشخاص بعنوان « المعمرين ».

جمع المؤرخون والمحققون الذين كانوا متصدين لإحصاء تاريخ وأحوال وأخبار البشر ، وعادوا بمعرفة تاريخية واسعة حول ماضي سلف الإنسانية وخصوصا حول القبائل والأنساب في المحيط العربي ، جمع هؤلاء نماذج كثيرة من «المعمرين » والمعدودين من مديدي الحياة . وقد تعرف المؤرخون بشكل جيد علي هؤلاء الأشخاص بأسمائهم ، وصفاتهم ، أنسابهم ، قبائلهم ، أعمارهم ، محل حياتهم ، أسفارهم ، تعامل ولقاءات هؤلاء ، وضبطوا كل هذه المفردات ، بل نقلوا وصايا وأحاديث وكلمات لهؤلاء .

وإليك عددا من المؤرخين المعتبرين الذين ذكروا بعض المعمرين في كتبهم :

1- عبدالله بن قتيبة(2) * في كتاب المعارف .

2- أحمد بن يحيي البلاذري(3) * في كتاب أنساب الأشراف .

3- محمد بن جرير الطبري(4) * في كتاب تاريخ الأمم والملوك

4- علي بن حسين المسعودي(5) * في كتاب مروج الذهب .

5 - أبو عبدالله حمزة الأصفهاني(6) * في كتاب تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء

6 - الشيخ الصدوق(7) * في كتاب إكمال الدين .

ص: 186


1- استخدمت هذه الكلمة في « القرآن الكريم » أيضا ( .. وما يعمر من معمر ..) سورة فاطر : 11 .
2- المتوفي سنة 276. ه .
3- المتوفي سنة 279 ه.
4- المتوفي سنة 310 ه.
5- المتوفي سنة 333 ه.
6- المتوفي سنة بين 350 - 360 ه.
7- المتوفي سنة 381 ه.

7 - الشيخ الطوسي(1) * في كتاب الغيبة .

8- أبو الفرج بن الجوزي(2) * في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم .

9- عز الدين بن الأثير(3) * في كتاب الكامل في التاريخ .

10- عماد الدين أبو الفداء الدمشقي(4) . * في كتاب مختصر تاريخ البشر .

كذلك هناك البعض من المؤرخين الذين دبجو كتبأ خاصة تدور حول أوضاع المعمرين ، من قبيل :

1- هشام بن محمد بن سائب الكلبي(5) ، مؤلف كتاب المعمرين(6) .

2- أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني(7) ، مؤلف كتاب و المعمرون والوصايا »(8) .

كما هناك علماء وكتاب متأخرون ومعاصرون عكفوا علي ذكر « المعمرين » اتكاء علي مصادر السالفين ، من قبيل :

1- العلامة المجلسي(9) * في كتاب بحار الأنوار ( ج 51) .

2 - السيد اسماعيل العقيلي الطبرسي(10) * في كتاب كفاية الموحدين (ج 3) .

3 - السيد محسن الأمين العاملي(11) * في كتاب البرهان علي وجود صاحب الزمان

هناك جمع من المؤلفين المعاصرين أيضاً بادروا لذكر «المعمرين » في

ص: 187


1- المتوفي عام 460 ه .
2- المتوفي عام 597 ه .
3- المتوفي عام 630 ه.
4- المتوفي عام 732 ه.
5- المؤلف المنتج كثير الآثار ، المتوفي عام 204 ه .
6- راجع « تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام » تأليف العلامة السيد حسن الصدر ص 238 .
7- المتوفي عام 250 ه.
8- طبع دار إحياء الكتب العربية القاهرة (1961)، تحقيق عبد المنعم عامر .
9- المتوفي عام 1111 ه.
10- المتوفي عام 1320 ه.
11- المتوفي عام 1371 ه .

كتبهم . ومن جملتهم ، الكاتب العراقي الفاضل ( محمد علي دخيل ) في كتابه الغني ( الإمام المهدي )(1) .

وقد عرف 223 نفراً من المعمرين في الكتاب الأخير « الإمام المهدي » - علي أساس مصادر التاريخ ومنابع النقل ، وجاء ذكر أسمائهم وصفاتهم وسني أعمارهم وخصوصياتهم(2) .

ونحن علي وعي بأن هذه الإحصائيات انطلقت من أسا من المصادر العربية ، وهي متعلقة بقطاع من البشرية القاطن في تلك الأماكن التي يسكنها العرب ، يعني المناطق التي اعتنت بشكل أكبر في ضبط التاريخ ، وكانت لها خصوصية في الالتفات لعلم الأنساب . وللعلاقات العشائرية والقبلية ، إذن ، لو انسحب الإحصاء والتحقيق علي المناطق الأخري لسكن الإنسان - سواء منها التي توفرت علي تاريخ(3) ، أم المناطق الكثيرة التي فقدت تاريخ الماضين من أسلافها - فسوف يصل عدد المعمرين إلي حد أكبر بكثير مما هو عليه الآن .

واضح أن عمر البشر - بشكله المعتاد والمالوف - له حده المعين وتقليده المحدد ، إلا أن الغاية من طرح مسألة « المعمرين » هي أن نشير إلي أن مقدار العمر له سياقان :

- السياق الاعتيادي المتعارف ، الذي كان لدي أغلب أفراد الإنسان ، ويكون .

2- السياق النادر والاستثنائي الذي وجد لدي بعض ويوجد .

ص: 188


1- طبع النجف 1385 ه .
2- الصفحات من 161 - 214 .
3- نشير هنا إلي أن المعلومات التاريخية المرتبطة ب ( إيران القديمة ) ذكرت أيضا عددا من المعمرين ، ومع غض النظر عن التفاصيل يمكن إجمالا أن نستنتج وجود مصاديق لهذه الظاهرة في الشعب الإيراني أيضا .

إذن فطول العمر ليس له قاعدة قطعية ولا ضابط كلي ، وله مصاديق غير قابلة للنفي .

و - في الحياة المعاصرة

هناك نماذج لطول العمر في أيامنا المعاصرة ومرحلة حياتنا الحاضرة اتفق وقوعها ، نماذج لطول العمر الذي لم يقم علي أساس الميزان المألوف ، عدا ما وقع عبر التجربة والواقع التاريخي السالف ، وسوي ما ورد خلال النقل المكرر . ففي هذه الخمسين سنة الأخيرة أدرجت الصحف والمجلات الداخلية والخارجية ، مفردات كثيرة لأعمار طويلة نسبياً ، وشوهد فيها ترجمة الأشخاص معمرين وهرمين ، وشرحت أوضاعهم الحياتية ، وطبعت تصاوير هم وثبتت عدد أبنائهم وأحفادهم وأمكنة سكنهم .

ولست متوخي الاستقصاء هنا، وإلا فيمكن ذكر الكثير من النماذج المستندة . ففي بعض الكتب والرسائل التي كتبت حول موضوع المهدي (عليه السلام) ذكرت عدةً من النماذج المشار إليها أعلاه . وأقتصر هنا علي إيراد نموذج واحد فقط من كتاب « ماذا تقول الشيعة » للعالم المجاهد الشيخ ( مهدي سراج الأنصاري ) ، فقد جاء في هذا الكتاب ما يلي :

« لي جينك جيني »، الذي طبعت ونشرت صورته أغلب صحف ومجلات العالم والقطر ، قد كتب الجميع أن هذا الرجل له من العمر 252 عاما ... والأفراد الذين لديهم المجلة السنوية بارس ، ( لعام 1311 ه ش ، القسم الثاني ص 100، طبع طهران ) يمكنهم رؤية صورة هذا الرجل ، كما يمكنهم مطالعة ترجمته .

ز- العلاقة بين الموت والشيخوخة

يبدو باستمرار أن هناك علاقة حتمية بين الشيخوخة والموت ، بالشكل الذي لا بد أن يحل فيه الموت بنسبة مئة بالمئة . بمجرد وصول العمر مراحله العليا . وينشأ هذا التصور جراء الوضع المألوف والعرف والعادة ، ففي ضوء الحياة الاعتيادية للبشر تصاحب الشيخوخة . في السن المألوفة بين 80 أو 90

ص: 189

وحتي 120 عاماً - الموت ، إلا أن هذا الوضع المعتاد لا يمكن أن يكون دليلاً علي كلية هذه المصاحبة . فهناك فرق بين « الكلية » و « العمومية الغالبة » . فالكلية تعني عدم وجود مورد استثنائي واحد للقاعدة . ونحن لاحظنا في الماضي والحاضر أن ليس هناك علاقة كلية بين الشيخوخة المألوفة والموت ، بل اتفق لهذه العلاقة مفردات استثنائية ، فشيخ تعدي المألوف ولم يمت ، بل إنسان هرم يعيش سنين طويلة أخري . وقد كانت هذه المفردات المتعددة واقعا مشهوداً . كما أنه ليس هناك ارتباط قطعي وكلي بين طول العمر والشيخوخة أيضاً ، ارتباط لا استثناء فيه . وفي البحوث الحديثة أشير لهذه المسائل أيضاً ، كما نقرأ في بعض مصادر المعرفة ما يلي :

ليس هناك ضرورة لاعتبار الشيخوخة سيراً طبيعياً في كل العينات ، فعلي أثر الدراسات العميقة والشاملة نشرت جمعية علم الشيخوخة الألمانية الاتحادية تقريراً متفائلاً مفاده : أنه يمكن الآن الحيلولة دون شيخوخة الدماغ عن طريق المبادرة في الوقت المناسب .

وجاء في نفس هذا المصدر :

أعلن الدكتور مورتون « أستاذ الطب النفسي في جامعة شيكاغو » في أحد المؤتمرات أن موت الإنسان يحتل موقعاً في جسم الإنسان قبل حلول الأجل بمدة ، ولا علاقة لهذا الموضوع بسن الأشخاص بأي وجه من الوجوه .

ويحسن بنا هنا أن نشير إلي البحث الرائع والمعمق للعالم والمفكر الإسلامي الشهيد آية الله ( السيد محمد باقر الصدر ) الذي يدور حول قضايا المهدي (عليه السلام) في الرسالة الموسومة ب « بحث حول المهدي ».

طرح السيد الشهيد في هذه الرسالة فيما طرحه من أفكار أبحاثاً حول طول العمر . وناقش هذا الموضوع من زاوية نظر المنطق والفلسفة ومن وجهتي النظر العلمية والعملية ، وقد جلي إمكانية طول العمر من وجهة النظر العلمية، مضافاً الوجهة النظر الفلسفية ، كما أشار إلي نظريتي « السببية »، و « الاقتران »

ص: 190

وموقف نظريات المنطق الحديث بصدد نفي الارتباط الضروري بين الظواهر ، وإمكانية كل لون من الاستثناء والتخلف في قوانين العلم والاستقراء .

يشير العالم والمفكر الإسلامي الشهيد خلال هذه الأبحاث لمسألة دقيقة ولطيفة أيضا ، فيقول :

« لا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد، وبنائها من جديد ، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد علي ( أعمارنا الاعتيادية أضعافا مضاعفة . أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو نوح الذي نص القرآن الكريم علي أنه مكث في قومه ألف عام إلا خمسين سنة ، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد، والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي ، الذي مكث في قومه حتي الآن أكثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الوعود أن يبني العالم من جديد . فلماذا نقبل نوحاً الذي ناهز ألف عام علي أقل تقدير ، ولا نقبل المهدي ؟

ح - أسرار التغذية

الواقع أن أسرار الشيخوخة وأسباب الموت أخفي من أن يمكن حصول علم قطعي بصدد كل العوامل والموجبات ، وفي كل مواردها ومصاديقها . وما نعلمه ليس إلا بعض علل -أو شبه علل - الموت . كما أن أسباب الحياة لم تعرف بعد .

أحد الأمور المهمة ذات الارتباط بالشيخوخة والموت هي التغذية . وللتغذية أصناف وكيفيات متعددة فالإفادة من أشعة الشمس والكواكب - وخصوصا الاستفادة من أشعة الكواكب بطرق خاصة - لها آثارها العظمي في سلامة الجسم وقدرته علي البقاء .

فسوي أشعة الشمس هناك أشعة أخري ترد علينا ، معرفة أسلوب

ص: 191

الاستفادة من الأشعة في عملية بناء قوي البدن وصيانتها أمر مهم وسر كبير ، المسألة الأخري : مسألة الأدوية ومركباتها . سواء منها النباتية أم الحيوانية أو المعدنية فيكمن في بعض المعادن وطرق استخراجها فوائد مهمة . يمكن أن يعود طول العمر أحيانا إلي أسرار وأغذية ومياه توجد في الطبيعة ، فيما إذا توفر الفرد علي معرفتها .

لقد كان البشر في الماضي يقطعون المسافات في بحر مدد طويلة ، وبمشقة وأتعاب بالغة . واليوم أمكن للإنسانية أن تكتشف قوي في خلق الله وفي عالم الطبيعة وتستخدمها لطي مسافات شاسعة عبر زمن قصير جداً وبهدوء وارتياح ...

لو قيل قبل مئة عام إن هناك وسيلة نقل يمكنها أن تقل - مضافا لوزنها الثقيل - (500-600) ادمي مع حمولتهم وأثقالهم ، وعبر التحليق في الهواء ، والسير فوق الجبال والوديان والبحار ، تنقلهم في مدة قصيرة من هذا الجانب من الكرة الأرضية إلي ذاك الجانب منها ، دون أي اتصال لها في طيرانها بالأرض . فأي شخص يصدق مثل هذا القول ؟

لو تحدث قبل مئة عام بل قبل خمسين سنة عن الراديو ، والتلفزيون ، والسفر إلي الفضاء ، والتصوير في أعماق البحار ، والتقاط الصور من الكواكب الأخري ، والمكالمة مع الإنسان الراجل علي القمر من الأرض ، وتوجيه الحركة علي سطح القمر انطلاقاً من الأرض ، ونظائر هذه الأمور ، فما هو رد فعل الناس إزاء هذا الحديث ؟ أما اليوم فقد أضحت هذه الأمور - لشعوب عصرنا - أموراً عادية ولا تبعث علي الدهشة والتعجب .

لا بد لنا من أن نستفيد تجربة من خلال هذه الوقائع والاكتشافات ، ونضيف لإدراكنا سعة ، ولرؤيتنا فسحة ، ولا بد لنا من أن نهضم مفهوم اتساع اقوي العالم وأسرار الزمان ، العاقل من بني الإنسان لا يحصر أبداً أسرار العالم غير المتناهي بحدود الاختبارات والمعارف والأدوات الفعلية ، ولا يحرم نفسه من معرفة واسعة للعالم الوسيع . وأشير خلال النص الذي سأنقله عن أستاذي إلي أهمية « النور » في عملية التغذية وحفظ متانة وسلامة المزاج البشري .

ص: 192

وحينما طرحت نفس هذا المفهوم بين يدي أحد الأطباء ، أكد علي أهمية هذا المفهوم ، وقال متعجباً : كيف التفت عالم ديني بعيد عن محيط المختبرات للنور وأهميته في عملية التغذية وتأثيره علي الجسم والمزاج ، وكيف انتهي إلي هذا المفهوم ؟ أجل ، فقد تعجب هذا الطبيب . وأي أفكار وحقائق كثيرة كان يعلمها هذا العالم الروحي البعيد عن محيط المختبرات بالتأكيد، وقد كان المئات من العلماء التجريبيين والمختبريين محرومين من معرفة واستنتاج هذه الأفكار والحقائق ؛ يحرمون . وينشأ هذا الحرمان جراء ضيق الأفق والغرور الذي يطغي علي البعض ، وينتج أن يغلق هذا البعض كل باب في وجوههم ، ويحبسون أنفسهم في إطار معلوماتهم المحدودة في الغاية ، ولا بد لنا من التذكير بأن حصفاء هذه العلوم قد اعترفوا بصراحة بمحدودية وقصور العلوم التجريبية والمختبرية(1) . وتتجلي هذه المحدودية بوضوح في نفس هذه العلوم ، واكتشافاتها التي تطرح علي الدوام مسائل مستجدة ، وتنقض المعطيات السابقة وتنتهي في الطريق إلي مجاهيل أخري .

2- بيان آخر حول إمكانية « العمر الطويل »

قرر بيان مفيد آخر لإثبات إمكان « العمر الطويل » ، وهو ما ننقله عن المعلم الكبير ومتأله خراسان الأخير الشيخ ( مجتبي القزويني الخراساني ) ، إذ يقول :

وفق قواعد الفلسفة والحكمة ، فكل طبيعة تكون في عالم الوجود ، وهي قابلة للزيادة والنقصان ، لا بد أن يوجد الفرد الكامل لهذه الطبيعة ، بمقتضي أن الطبيعة تطلب كمالها الأقصي . وقد شيدت عدة مسائل فلسفية علي أساس هذه القاعدة ، ومن جملتها وجود الفرد الكامل في البشر ، الذي أطلق عليه « النبي » أو « الحكيم » .

ص: 193


1- ستاتي نماذج من هذه الاعترافات في الصفحات القادمة .

ووفق هذا القانون الفلسفي الثابت بالبرهان يكون لمزاج وقابلية الحياة والتعمير في البشر مراتب متعددة . وحياة 1000 عام أو 2000 ، ليست هي أقصي مراتب إمكان الحياة يقينا، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك أيضا .

وبغض النظر عن هذا القانون ، فطول العمر لدي البعض ليس خلافا لطبيعة الأشياء ، إذ أنه من الواضح كون حياة كل فرد تتبع صحة قواه المزاجية ، وكلما كان المزاج سليماً وأكثر قوة كانت موجبات البقاء أكبر ، وإنجاب المزاج القوي لدي الإنسان وصحته تأتي عن طريق ظواهر وجودية من قبيل النور ، والماء ، الهواء ، الأرض ، الأغذية ، الأدوية ، وما إلي ذلك ، وبقاء وصلاح المزاج في كل آن بحاجة إلي بدل ما يتحلل ، ويفتقر إلي حفظ التوازن والاعتدال ، إذن فما هو المانع إذا كان الشخص علي استعداد روحي وعلمي عال بحيث يستطيع أن يتعرف علي أسلوب إنجاب المزاج السليم والقوي وحفظه ، ويعلم الخصوصيات النافعة والضارة للمزاج ويقف علي المطلوب في بدل ما يتحلل ، فيمكنه حينئذ من حفظ مزاجه علي حد التوازن والاعتدال ، ويديم بحياته فترة أطول ؟ واليوم يجد ويسعي الكثير من العلماء للوصول إلي هذا الهدف(1) .

3- طول العمر وأقسامه

بغية إكمال الفقرات السابقة من البحث بشكل نسبي ، يتحتم التذكير بأن طول العمر لم يك لوناً واحداً ، وهنا نشير إلي أقسام طول العمر لأجل إيضاح الموضوع بشكل أكبر . تشخيص هذه الأقسام وفرز كل واحد منها عن الآخر

ص: 194


1- بيان الفرقان ، ح 5 ، من 11 - 12.

يعطي للصور الممكنة قبولا ويمنحها جاذبية . وإليك أقسام طول العمر :

1- طول العمر المحال .

2- طول العمر الممكن .

رجع القسم الثاني إلي قسمين أيضا :

1 - ممكن عادي .

2 ممكن غير عادي .

القسم الثاني يرجع إلي قسمين أيضاً :

1- غير العادي غير الفعلي .

2- غير العادي له فعلية .

يعود - القسم الثاني إلي قسمين أيضاً :

1 - له فعلية فيما مضي .

2 - له فعلية في الحال .

وإليك إيضاحاً حول هذه الأقسام :

1 - طول العمر المحال : مثل طول العمر بالنسبة إلي شخص لا علم له بالأساليب المختلفة لحفظ المزاج ، ولم تتعلق الإرادة الإلهية بذلك أيضا .

2 - طول العمر الممكن العادي : نظير طول العمر من ( 80- 120) عاماً .

3- طول العمر الممكن غير العادي الذي لا فعلية له : نظير عمر 500 عاماً في أغلب عينات أبناء البشر .

4- طول العمر الممكن غير العادي ذو الفعلية فيما مضي : نظير أعمار « المعمرين » سواء الأنبياء أم غيرهم .

5 - طول العمر الممكن غير العادي ذو الفعلية القائمة : نظير عمر الإمام الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام) .

ص: 195

إذن ليس لطول العمر قسم واحد وحكم واحد ، فالبعض من الأقسام لا يراه العقل محالا ، يعني : أن العقل لا يراه محالا ، غاية ما في الأمر أنه محال بالنظر العرفي ووفق المألوف من الأوضاع الاعتيادية ، حيث لم يتفق وقوعه بالنسبة لكل أفراد البشر أو لجمع كبير منهم . فطول العمر هذا بالرغم من أنه يبدو حسب موازين العرف والعادة والملاحظة السطحية المحدودة بعيدا ، ولعله يبدو محالا إلا أنه حسب الموازين العقلية وقوانين الإمكان ليس محالا أبداً .

4- ما هو ميزان القياس السليم ؟

المألوف في أوساط الناس من الأقسام الماضية إنما هو القسم الثاني : طول العمر الممكن العادي . وواضح أن هذا القسم لا يمكن أن يكون معيارا للحكم علي كل الأقسام ، إذ أن الفرد الخاص من أفراد الطبيعة والكلي لا يمكن أن يكون ميزانا لقياس كل أفراد تلك الطبيعة وذلك الكلي - كما يبين في علم المنطق - . علي هذا الأساس فإذا أردنا أن نصل إلي معرفة سليمة بهذا الصدد ، لا بد لنا أولا : من اكتشاف « معيار القياس » ، كما ينبغي لنا أن نفرز الأقسام موضوع البحث عن بعضها ، لنشخص حكم كل واحد منها علي استقلال . فنحن لا يمكننا أن نجد مقياسا كليا ونعتقد بقابلية علي الانطباق في كل مكان . فمثل هذا العمل ليس بسليم من وجهة نظر العقل والعلم والتجربة التاريخية . فهل نثبت هذه الكلية بحكم العقل ؟ العقل يري أن الأقسام كلها محتملة هل نستطيع ذلك الإثبات بمعونة الاستقراء ؟ فلا يستنبط عبر الاستقراء حكم كلي . هل نعتمد الواقع الخارجي وما اتفق وقوعه فيه ؟

الواقع يحكي لنا عن عشرات المعمرين ، الذين ينقضون كلهم جميعا المعيار المتعارف والميزان المألوف .

والمشكلة هي أن الدارسين لمسألة طول العمر يتناولونها بحدود ذواتهم ونسبه لها . ولا بد أن تتناول المسألة عبر تاريخ البشرية ، وتتلمس نماذج هذا التاريخ علي طول امتداده المستمر .

ص: 196

5- نوادر الطبيعة أسرار مجهولة

أشرنا قبل قليل إلي أن في الطبيعة نوادر ، فالعالم سواء أخذناه بمقياس وجود الإنسان ، أو أخذناه بمقياس هذا الكوكب أو هذه المنظومة التي بدور فيها ، أو أخذناه بمقياس الكواكب والمنظومات الشاسعة غير المتناهية الأخري فهو يحكي بكل هذه المقاييس أجمع عن عجائب رائعة وقدرات هائلة ، ويشتمل علي نماذج نادرة الوقوع . كيف يمكن للإنسان العاقل أن يرفض مالا يعلمه علي أساس أنه اكتشف وعلم ، وعلمه محدود ورؤيته محجوبة ( وما اكتشفه توأم مع مئات المجاهيل ) ؟ أو أنه لا يحتمل وقوعه علي الأقل ؟ فهل تري أن إنسان اليوم اكتشف كل أسرار الحياة الإنسانية ، وأنواع العمر ، وكل علل البقاء والصحة البدنية وطول العمر ؟، أو أنه اكتشف عوامل تاكل خلايا و الجسم وأسباب الموت جميعها ؟

وهل تري أنه لم يبق مجهول أمام العلوم ؟

مثل هذه الادعاءات تبعث علي السخرية . قلنا: إن علماء العلوم التجريبية أنفسهم لا يمتلكون مثل هذا الادعاء . فهم أنفسهم ينادون بأن المفردات التي اتخذها البشر بعنوان معايير له تتضاءل للغاية أمام حجم الواقع . فالمعلوم الواحد يغرق في آلاف المجهولات . ومع مواجهة الإنسان بكل هذه الأسرار المجهولة ، وكل علامات الاستفهام ، فكأنه لم يصل إلي علم بعد ، وهو لا يعلم شيئا . نعم :

( .. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )(1) .

نتجاوز السيارات والمجرات ونحدق في عالم الطبيعة المشهود . فهذا العالم وهذه المنظومة مع كل الاكتشافات والبحوث التي أنجزت فيه فلا تزال هناك أسرار ، ستكتشف شيئا فشيئا ، ولا يعرفها البشر حتي الآن. فمعطيات العلم والتجربة المستجدة تصل بنا إلي هذه النتيجة وهي : أنه لا يمكن خلال طيف حياة الإنسان القصيرة أن نقف علي كل زوايا هذا « الحقل » التي تمتليء

ص: 197


1- سورة الإسراء آية 85.

بالأسرار وأن نتعرف علي كل جوانبه الشاسعة غير المتناهية ، كما لا يمكن أن نمسك بزمام معرفة كل القوانين التي تحكمه .

6- مجهولات العلم

كثيرا ما اتفق، ويتفق أن تؤدي الاكتشافات المستجدة في مختلف العلوم التجريبية إلي زعزعة قوانين ونظريات وأطر علمية كان الاعتقاد بصحتها قائماً(1) ، وأفكار لم يك في حسبان أحد هاجس لنقضها تذهب أدراج الرياح . فقد أدرك العلماء الذين يتمتعون ببصائر نافذة أن تضييق دائرة الحقيقة ، والهوس العلمي يؤديان إلي تبديل العلم بجهل . وهنا يقولون :

الفيزيائي الفيلسوف لا بد له من أن يطل من وراء الفيزياء ويحلق فوقها علي هدي الحد الفاصل بين العالم المادي والروحي(2) .

وفي مقام تدبر عظمة العالم ، والتعمق في آلاف القوانين والأسرار يقول حصفاء هذا « الصنف » - أعني المختصين بالعلوم التجريبية - بصراحة وشهامة :

إن التحقيق العلمي لا ينتهي إلي معرفة الماهية الباطنية للأشياء ، ففي كل وقت نوضح خواص جسم ما بلغة الكم الفيزيائي فنحن نقوم فقط في هذه الحالة بعرض رد فعل أدوات القياس المختلفة إزاء ذلك الجسم(3) .

ص: 198


1- لا أبتغي في هذا الكتاب القيام بنقل شواهد بهذا الصدد . وأكتفي بالتذكير بأنه خلال هذه الأيام أعلن في « وسائل الإعلام » أن حجم أقمار زحل أصغر مما كان يعتقد به حتي الآن. لاحظ ! فهذا الموضوع يخضع للحس ويشاهد عبر التلسكوب ، وإذا كان وضع هذا الموضوع بالشكل المذكور فكيف سيكون حال آلاف الموضوعات الأخري التي تصل إلي ملايين السنين ، وغيرها من الموضوعات التي ليست بمتناول الحس ؟ إذن : ففي نفس الوقت الذي يتحتم فيه تثمين هذه الاكتشافات فلا ينبغي الغرور بها وأخذ نتائجها حكما كليا ، واعتبار مقولة علوم اليوم في كل المراحل وفي مختلف المسائل المقولة النهائية . فليس الأمر كذلك علي الإطلاق .
2- الفلسفة العلمية ج 2 ص 117 .
3- الفلسفة العلمية ج 2 ص 155 .

كما يقولون :

لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار أن الفيزياء والفلسفة لم يمض علي عمرهما أكثر من بضعة آلاف من السنين، ولعل أمامهما آلاف الملايين من السنين الأخري . فهذان الفرعان يضعان أقدامهما علي الطريق حديثا . ونحن لا نزال كما يقول « نيوتن » نظير الأطفال الذين يمارسون اللعب بالحصي علي ساحل بحر مترامي الأطراف ، فمحيط الحقيقة العظيم يبقي بأمواجه المتلاطمة مستتراً أمامنا ، ورغم مجاورتنا له إلا أنه خارج عن متناول أيدينا(1) .

7. عمق ومتانة الحصفاء

العلماء الكبار ، والحصفاء ذوو البصيرة النافذة لم يأسرهم الغرور الكاذب بأي وجه . فقد تعامل هؤلاء مع أسرار الطبيعة ، ونوادر الوجود ، وقوانين العالم المجهولة بمتانة وعمق وبصيرة . واحترزوا عن إطلاق مقولات الأطفال في « عدم إمكان » ، و « استحالة » الأشياء ، كما حفظوا للعلم وللتجربة حدودهما وطرقهما ، ووضعوا في حسبانهم احتمالات وإمكانات الوجود .

حديث ابن سينا في هذا الصدد معروف(2) . وقد لاحظنا وجهة نظر « نيوتن » وبعض العلماء المحدثين . فيشبه « نيوتن » صاحب كتاب « الفلسفة الطبيعية لأصول الرياضيات » ومكتشف « قانون الجاذبية العام » ، وأحد مشيدي « أصول الرياضة العالية في العصر الحديث »(3) يشبه العالم المختبري بالطفل الذي يجلس علي ساحل البحر ويعكف علي اللعب ، وتجلب نظره أحياناً حبة حصي أو حجر براق ، إلا أن بحر المعرفة المجهول يبقي ممتداً أمامه ... ثم

ص: 199


1- المصدر السابق ، ج 2 ص 264 ، يمكن أن تلاحظ أفكار كثيرة بهذا الصدد في كتب تاريخ العلوم ، وتراجم علماء العلوم التجريبية ، وعبر أقوالهم في كتب الفيزياء والفلسفة، والفلسفة العلمية .
2- الإشارات والتنبيهات ، طبع مصر ، عام 1325 ، ج 2 ص 143 .
3- عظماء الفلسفة ص 412 .

سنلاحظ أيضا نظرية اثنين من مفكري البشرية العظام ، هما ( أبو ريحان البيروني ) ، و ( نصير الدين الطوسي) .

لقد أبدي الحصفاء وجهات نظرهم في كل مرة مع غاية التحفظ والدقة . ويا ليت بعض الأدعياء وعلي أثرهم بعض الشباب يعودون لرشدهم ولا يضحوا بكل شيء من العقائد والأخلاق وغيرهما من أسسهم وأصولهم في سبيل هذا العلم الناقص والخاطيء أحيانا(1) . فيحتفظوا لمعارف اليوم بحدها ولا يكونوا ملكيين أكثر من الملك . ومن الواضح أن أولئك الذين يتقنون هذه العلوم كانوا كذلك ، وقالوا ذلك بأنفسهم ، وقد مر ذكره ، إلا أن بعض أولئك الذين يقرأون هذه العلوم كانوا أكثر ملكية .

هناك أفراد يلقون النظرة العابرة علي بعض الكتب العلمية - لعلهم وأحيانا لم يبلغوا هذا المستوي - ثم يصدرون فتاواهم حول كل شيء ، وبصدد كل عالم ، وكل إنسان ، منذ الأبد حتي الأزل ومن المتناهي إلي غير متناهي ، ويتفضلون بإبداء وجهات نظرهم !! هؤلاء الأدعياء أنفسهم يخضعون بعض الشباب الذين يجهلون أسس المعرفة وأصول البحث العلمي ، ولعلهم يغررون بهم ليستبدلوا «عدم العلم » محل « العلم » و « العلم الناقص توأم المجهولات » بدل « العلم الكامل الخالص» . وعلي هذا المنوال يرون أفكارهم واستنتاجاتهم علما وعلمية ويسمونها بالعلم والعلمية ، حتي يصلوا إلي مرحلة تصور أن كل شيء سوي ما يعرفونه خاطيء وليس بصحيح ، وليس هناك علم من حيث الأساس سوي ما عبروه بالنظرة !!

فالهوس العلمي بحد ذاته جهل ، والحالة التي أشرنا إليها أردأ انحطاطا من الهوس العلمي بالاف المراحل .

8- وجهة نظر أبو ريحان البيروني

بعد أن لاحظنا عبر الأبحاث الماضية أن طول العمر والمقدار الواقعي الحياة الإنسان لا يمكن حصره في قالب معين لكل الموارد والمصاديق ، يحسن

ص: 200


1- الفلسفة العلمية ج 2 ص 162 .

بنا أن ننقل حديث أحد أكبر علماء تاريخ العلم ، للعالم الكبير أبو ريحان البيروني إيضاح غاية الفائدة في التذكير به ، يقول :

« وقد أنكر بعض أغمار الحشوية ونوكي الدهرية ما وصف من طول أعمار الأمم الخالية ، وخاصة ما ذكر فيما وراء زمان إبراهيم (عليه السلام) واستبشعوا عظم الأجسام المحكية عنهم واستشنعوها وأخرجوها من حيز الإمكان إلي حد الامتناع ... وأخذوا بما سمعوه من أصحاب أحكام النجوم .

ثم يأتي البيروني علي تحليل الأسس السليمة لهذه المقولة فيعد العمر « 960 » و « 1000» عاما داخلا في دائرة الإمكان .

ثم يطرح وجهة النظر العلمية الذاهبة إلي تعدد أشكال الأحداث في العالم . ليستدل بذلك علي عدم إمكان إنكار ما عدا الشكل الذي نعرفه ... ثم يقول :

« وإذا كان إنكارهم كل ما لم يتفق في زمانهم أو مكانهم حتي يشاهدوه ، ولم يكن يستحيل في العقول كثير إنكارهم ، ولم يقروا بشيء غاب عنهم ، فإن الحوادث العظام غير متفقة في كل وقت ، وإذا اتفقت في قرن لم يتصل بمن بعدهم عند مضي الدهور ومرور الأحقاب إلا بالأخبار وتواترها ، بل لو دققوا هذا من فعلهم لكانوا هم السوفسطائية المحضة ، وللزمهم أن لا يصدقوا الناس في كون بلدان في الأرض غير ما هم فيه وأمثال ذلك ... وبعد هذا الحديث يعكف أبو ريحان البيروني علي الحديث عن أشكال البلوغ لدي البشر ، ونسبة عمر الإنسان لسن بلوغه .

ويذهب إلي بطلان اتخاذ هذه النسبة مقياسا جازمة لتعيين طول العمر ، فيقول :

وقد وقفت لأبي عبدالله الحسين بن إبراهيم الطبري الناتلي

ص: 201

علي مقالة في كمية العمر الطبيعي ذكر أن غايته مائة وأربعون سنة شمسية لا يمكن الزيادة عليها ، ومطلق القول ب « لا يمكن » مطالب بحجة تضطر إليها النفس وتطمئن بها ولم يقم هو علي ذلك برهانا سوي أنه قدم فقال : إن للإنسان ثلاث كمالات : أحدها بلوغه وهو وقت إمكان حدوثه مثله وهو رأس السابوع الثاني « أربعة عشر عاما » ، والكمال الثاني حين تتم له النفس الفكرية ويخرج عقله من القوة إلي الفعل وهو رأس السابوع السادس ، والكمال الثالث حين يصلح لأن يسوس نفسه إن توحد ، وخاصته إن تأهل ، وعامته إن تملك ، قال : ومجموع هذه الكمالات مائة وأربعون ، ولا يدري بأي نسبة استخرج أبو عبدالله هذه الأعداد . فإنه لا تناسب بينها ولا بين تفاضلها. بل لو سلمنا له أن عدد كمالاته ثلاثة ، ثم عدونا منها ما عدد وقلنا في آخر الأمر : إن لم نخف المطالبة بالبرهان أنها مائة سنة أو ألف أو مثله ، ثم يكن بيننا وبينه فرق. علي أنا نجد بلوغ الإنسان في دهرنا إلي الأحوال التي جعلها علما للكمالات في غير ما ذكره من السوابيع والأوقات(1) .

يستطيع الباحث الإفادة كثيرا من حديث هذا الفيلسوف الكبير ، وتعلم نكات دقيقة منه . أشير هنا إلي واحدة منها :

إن حوادث العالم - من زاوية وقوعها الخارجي ، ومن زاوية منطق التسلسل المتناسب مع كل شيء في الطبيعة - ذات أشكال وأقسام مختلفة .

مثلا : هناك أحداث تقع متوالية لحظة بعد أخري ، وهناك أحداث تقع ساعة بعد أخري، أو يوما بعد آخر ، أو شهرا

ص: 202


1- الآثار الباقية ، طبع زاخاو لايبزيك عام 1878م، ص 78 - 84.

بعد شهر ، وسنة ، أو قرنا ، وهناك أحداث تقع كل ألف عام ، أو أبعد من ذلك .

إذن فهناك حوادث يمكن أن تقع بعد فاصل زمني يبلغ قرونا ، من هنا نصل إلي أنه يمكن أن تقع أحداث في العالم ، ويكون وقوعها أدواريا . أو تتكرر بشكل عشوائي ، أو تقع مرة واحدة في حياة العالم ...

وتفصيل هذه المسألة موكول لمجالاتها من العلوم المختصة . إنما يلزم فقط أن نعرف : أن عدم استيعابنا الإمكان توفر العالم علي مئات الظواهر والوقائع المختلفة الأخري، التي لم يقف عليها الإنسان حتي من خلال تجارب أجيال كثيرة ، ناتج جراء ضيق الأفق ومحدودية الفكر .

9- وجهة نظر نصير الدين الطوسي :

يعد « نصير الدين الطوسي » الفيلسوف الكبير طول العمر قضية قابلة للتحقق أيضا ، ويعد إنكار ذلك جهلا محضأ . نشأ ذلك جراء سعة أفقه العلمي .

ننقل هنا نص كلامه ؛ بغية أن يتضح أسلوب تعامل العقول الكبري في تاريخ العلم ، ومراجع الفلسفة والرياضة العالية الذين هيمنوا علي الفكر البشري ، مع وقائع العالم الهائلة .

يقول :

فائدة : سبب حرمان الخلق عن حضور امام الزمان ليس من الله تعالي ؛ لأنه يخالف مقتضي حكمته ، ولا من الإمام الثبوت عصمته ، فيكون من رعيته ، وما لم يل سبب الغيبة لم يظهر ، والحجة بعد إزاحة العلة وكشف الحقيقة لله

ص: 203

تعالي علي الخلق ، والاستبعاد في طول عمره بعد ثبوت إمكانه ووقوعه في غيره جهل محض(1) .

10- في دائرة القدرة الإلهية

تابعنا حتي الآن السير الطبيعي للبحث حول طول العمر . ولاحظنا أن طول العمر ليس محالا بأي دليل وبأي ميزان . بل لا ينبغي عده غريبا من وجهة نظر العقل والفلسفة ، وأفق العلم الرحيب . والأن نعبر لبحث هذه المسألة في ضوء القدرة الإلهية . من الواضح والجلي أن لا شيء غير ممكن في ضوء هذه القدرة . فكل الأناس المعتقدين بالله و بمبدأ لعالم الوجود ، من أي مذهب و دين كانوا ، يعترفون «بالقدرة الإلهية المطلقة » . ويعرفون أن كل شيء تحت سلطان هذه القدرة ، ومقدار عمر الإنسان من جملة تلك الأشياء ، فالأعمار والآجال كلها بيد الله وبإرادته . فبدءاً بعمر اليوم الواحد والشهر الواحد والعام الواحد حتي الأعمار المديدة ... كل ذلك أجمع سواء أمام قدرة الله المتعال . فبالنسبة لقدرة الله الكبير والصغير عنده سيان . والكثير والقليل سيان ، والعسير واليسير سيان . ولا مجال لتصور العجز وفقد الاستطاعة في القدرة الإلهية .

علي هذا الأساس ، فيمكن الله أن يمنح شخصا 170 عاما من العمر ويحفظه خلالها ، كما يمنح شخصا 70 عاما من العمر ويصونه ويحفظه خلالها . ويمكنه أن يعطيه 1700 عاما من العمر ويؤخر أجله . فهذه الأعمار والأقل والأكثر منها تتساوي أمام قدرة الله المطلقة .

فالله قادر علي كل شيء ( .. إن الله علي كل شيء قدير ) « فكل آثار ونتائج الفضاء والأرض والمادة تخلق بإرادة إلهية واحدة » .

وواضح أن حكمة خلق العالم كانت علي هذا النحو : أن يكون للإنسان عمر محدود، وذلك لأن هذا العالم معبر وقاعة امتحان كبري . فهنا محل امتحان وعبور لمركز متابعة لائحة الأعمال وإعطاء الدرجات وإعلام النتائج ..

ص: 204


1- فصول الخواجة الطوسي ، ص 38.

علي هذا الأساس فالمدة والفرصة محدودة والأعمار قصيرة . إلا أن هناك استثناء . فقد تقتضي أحيانا تلك الحكمة العامة للعالم في بعض الموارد أن يمنح شخص أو أشخاص عمراً أطول ، نظير عمر سيدنا «نوح» (عليه السلام) في السالفين . وكل ما تتعلق به الإرادة الإلهية فهو حاصل لا محالة .

غيبة الإمام الثاني عشر ، وامتدادها الطويل ، وطول حياة الإمام حتي حين الظهور وبعده ... كل هذه حقائق - وفق الروايات المسلمة - ، وموضع إرادة الله الأزلية ، وهي حقائق واقعة .

وفق الحكمة الإلهية لا بد أن يغيب الإمام الثاني عشر « المهدي الموعود » (عليه السلام) عن الأنظار ، ويحيا سنين طوالا ، ويكون سر العالم ، ورمز بقائه وبعد أن يقضي غيبة طويلة يظهر ويملا العالم - بعدما مليء ظلماً وجوراً - عدلاً وقسطاً .

ص: 205

ص: 206

الفصل الحادي عشر : في ضوء الفلسفة التربوية والسياسية

اشارة

ص: 207

ص: 208

في ضوء الفلسفة التربوية والسياسية

1- التربية والسياسة في الإسلام

التربية والسياسة ظاهرتان ترتبط إحداهما بالأخري ، وتكمل كل منهما الأخري . التربية تهييء الأرضية، والسياسة تعمم وتبسط مفاهيم التربية ، التربية والسياسة حينما تتلاحمان في خط منسجم واحد ، وتترعرعان في تربة واحدة تفلحان وتثمران معا ، وإلا فسوف تعقمان كلتاهما وتفشلان .

في ضوء رسالة الإسلام النافذة ، لم يقتصر الأمر علي ترابط هاتين الظاهرتين ، بل تتلاحمان وتتحدان بصورة مدهشة . فالأصول التي تشكل أسس التربية الفردية هي بعينها أسس السياسة الاجتماعية ، والعكس صحيح أيضا . من هنا فإذا كانت التربية تربية إسلامية ، فسوف يصاغ الإنسان صياغة تحكي عن تجسيد حاكمية الإسلام السياسية . وإذا كانت السياسة سياسة إسلامية فسوف ينسجم المجتمع ساعياً بشكل تحكي كل مفرداته عن وحدة الجسد الاجتماعي ووحدة الممارسة .

ص: 209

2- الهداية تربية وسياسة

الواقع هو أن الدين تربية وسياسة . وبعبارة أخري ، إن الدين عامل هداية ، وللهداية ركنان :

1- التربية * 2 - السياسة

التربية تحدد الطريق والخط للإنسان ، والسياسة قيمومة علي حركة الإنسان في الخط . والحياة فرصة أغطيت للإنسان لأجل أن يسعي .

وهذه الفرصة يلفها سياقان لا يقبلان الفصل .

1- سياق الحياة الفردية . * 2- سياق الحياة الاجتماعية

وحيث كان التلاحم بين السياقين غير قابل للتفكيك ، فقد انصب اهتمام رسالة الإسلام بعمق علي هذين السياقين ، لصيانة كل منهما عن الفساد والانحطاط والضياع . إذ إن وقوع أي من السياقين في هاوية الانحطاط والفساد والضياع ، يؤدي أيضا إلي جر الأخر باتجاه الضياع والفساد والانحطاط ، فإذا فسد السياق العام للحياة الفردية فسوف يفسد سياق الحياة الاجتماعية والعكس مترتب أيضا .

من هنا عكف الإسلام علي استخدام التربية كأداة لتصحيح مسار الحياة الفردية ، واستخدم السياسة كوسيلة لتصحيح مسار الحياة الاجتماعية. وبهذا النهج وضع الفرد والمجتمع تحت صيانة غطاءين ؛ فالفرد بصفته الشخصية وضعه تحت غطاء التربية الإسلامية ، وبصفته عضوا في المجتمع وضعه تحت غطاء السياسة الإسلامية . والمجتمع بصفته الجماعية وضعه تحت غطاء السياسة الإسلامية ، وباعتباره مؤلفة من الأفراد وضعه تحت غطاء التربية الإسلامية .

في هذا الضوء تضحي التربية « القيمومة والإدارة الفردية » ، والسياسة « القيادة والإدارة الاجتماعية » متحركتين حركة متآزرة في إطار النظام الإسلامي بالشكل الذي ترفد كل منهما الأخري بغية أداء الرسالة العظمي ، ليكون الجميع تمهيدا لتقديم التفسير الكبير يعني : تفسير الحياة .

ص: 210

يقدم الإسلام تفسير للحياة مرتبطا بالإنسان ومفهوم السعادة :

« يتحرك الإنسان في مسيرة الحياة الزائلة ليحصل علي السعادة الباقية الخالدة » . هذا هو الفهم والتفسير الكبير .

وكل ما يبقي للإنسان ، فهو محصلة هذه الحركة :

( و أن ليس للإنسان إلا ما سعي ) .

3- وحدة الاتجاه في الهداية

قلنا إن الهداية تعني التربية والسياسة معا . وذلك لأنه بإحكام أصول الاثنتين يمكن تجسيد الأهداف البناءة والغايات الإصلاحية لرسالة الدين . فالإهتمام بالتربية دون السياسة ، والاهتمام بالسياسة دون التربية سوف لا يعود بعائد .

واضح أن التأثير المتبادل بين التربية والسياسة يكون إيجابياً حينما تكون التربية والسياسة منسجمتين مترافدتين . وإلا فسوف تفسد كل منهما نتائج . الأخري . كما أنه من الواضح أن التربية والسياسة يترافدان حينما يتحد مرمي كل منهما. فالمجتمع الذي يبتغي أن يكون سعيداً لا بد أن يكون هدف الأفراد ورؤيتهم ومفاهيمهم فيه متحدة مع أهداف الأمة ورؤاها ومفاهيمها. والاتحاد في هذه العناوين الثلاثة يظهر للعيان حينما تكون أسس وأصول التربية الفردية منبثقة من عين الرؤية الكونية والعقائدية التي تنطلق منها أسس وأصول السياسة الاجتماعية ، وتكون فلسفة التربية والسياسة منطلقة من تربة رسالة واحدة ، وفي هذا الضوء يرد الفرد الميدان الاجتماعي ، ويتفاعل معه بإخلاص وصدق . ويستقبل المجتمع الفرد ويستثمره في كل موقع مناسب بإخلاص وصدق ، وتضحي العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة العضو بالجسد الواحد ، كما تصبح علاقة المجتمع بالفرد علاقة الجسد الواحد بالعضو ، وفي غير هذه الصورة ، يعني : هناك حيث يترعرع الفرد في ظل رسالة وينشأ بشكل ، وحيث يدار المجتمع بشكل آخر وعلي أساس رسالة أخري عندئذ يطفو علي السطح تنافر بين الأجزاء والكل . ويصبح هذا التنافر باعثا لعدم تحقيق أي أمر بشكل

ص: 211

صحيح ، وعدم بلوغ أي هدف بسلامة ، فلا يضحي المجتمع مجتمعاً موفقاً ، ولا يصبح الفرد فردا سعيداً .

في ضوء النظام الإسلامي - الذي قام طرحه علي أساس الوحي - انصب الاهتمام بشكل كامل علي وحدة الاتجاه في التربية والسياسة . فالإسلام يستوفي كل الأبعاد المطلوبة لإدارة المجتمع البشري ، الأبعاد التربوية ( للأفراد ) ، والأبعاد السياسية ( للمجتمع ) ... وفي ظل رسالة الإسلام تنبع كل الرؤي والقيم التربوية والاجتماعية من منبع واحد، ويترافد الجميع بعضه بالبعض الآخر . فالفلسفة الإلهية والتربوية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والعلمية والعسكرية والاقتصادية والجمالية ، كل هذه الألوان تنطلق من رؤية كونية واحدة ، وتتحرك في ظل عقيدة واحدة ( - وهي تلك الرؤية الكونية الإسلامية وعقيدة التوحيد - ) .

علي هذا الأساس فللكل خط واحد ، وأرضية واحدة ويتحرك الكل باتجاه هدف واحد . فأساس كل الفلسفات التي مر ذكرنا لها واحد وهو ( عقيدة التوحيد ) . ومعلمها كلها - واحد وهو « النبي » . ومصدر الأفكار كلها واحد وهو « القرآن » . والموجه والمجسد والرقيب علي التنفيذ واحد وهو « الإمام » . والهدف من كل ألوان المعرفة والسعي علي مختلف المستويات واحد وهو « إيجاد التحرك السليم للحصول علي الكمال الرفيع والسعادة العليا » .. وهذا هو الإسلام .

4- القرآن والإمام هدي واحد

علي أساس وحدة الاتجاه في هداية الإنسان ، واعتمادا علي انسجام مختلف جوانب التعاليم الإسلامية نلاحظ أن الإسلام أناط مهمة هداية الإنسان في الاقتداء ، واتباع أصلين متحدين(1) . فترتبط كل قضايا التربية والبناء

ص: 212


1- وبتعبير آخر : أصل واحد « دين الله » ، له وجهان ، وجه صامت وهو القرآن ، ووجه ناطق وهو الإمام .

الفردي ، ومسائل السياسة والبناء الاجتماعي أجمع بهذين الأصلين ، وهذا ن الأصلان اللذان يتمتعان بوحدة كاملة والتجام تام هما : القرآن والإمام .

القرآن والإمام عنوانان لحقيقة وحدة ، حقيقة الهداية والإنقاذ .

القرآن إمام صامت ، والإمام قرآن ناطق .

وقد أكد النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث « الثقلين » المشهور علي هذا الأمر ، وترك هذين الأصلين المتحدين « القرآن والإمام » في وسط الأمة ، باعتبارهما ميراث الهدي وشاخص خط النجاة والسعادة . وأوصي مؤكداً لتتبع الأمة هذين الأصلين معا لا أن تأخذ بأحدهما وتدع الأخر(1) .

فقد صرح النبي في حديث الثقلين - الذي أوردنا نصه فيما مضي - بالقول :

« إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا . ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض » .

وأي جمال في هذا التعبير « لن يفترقا حتي يردا علي الحوض » فهذان الثقلان « لن يفترقا » حتي يرجعا بين يدي يوم القيامة عند حوض الكوثر(2) .

ص: 213


1- غير خفي أن الأخذ بأحد أصلي الهداية وترك الآخر لا يتعدي كونه خيالا . فأولئك الذين تمسكوا - بزعمهم - بالقرآن فحسب قد تركوا القرآن أيضا ، إذ إن القرآن يري أن اتباع الإمام ضرورة . وأولئك الذين تمسكوا بالإمام - بزعمهم - ويلهجون بمحبته تاركين القرآن والعمل به ، فهم قد تركوا الإمام أيضا ، إذ إن الإمام يري أن العمل بالقرآن ضرورة . وهاتان الطائفتان بغية الصعود علي أكتاف الجماهير ، وإغفالها اتخذت طائفة منهما القرآن ذريعة واتخذت الأخري ادعاء محبة الإمام ورفع شعار الإمامة دون العمل بالقرآن ، وأحكامه ، وأخلاقه ، واقتصاده ، وجهاده ، وعدالته ، وتقواه . أرادت الطائفة الأولي أن تظل بمنأي عن رقابة الإمام علي تطبيق الأحكام ، لتفعل ما تشاء باسم القرآن . وأرادت الطائفة الثانية أن تهرب من الالتزامات الدينية وخصوصيات التكاليف الإلهية ، وتبقي في خيال مريح إزاء العمل بالقرآن .
2- مر عرض بعض الأفكار حول هذا الموضوع في الفصل الثامن .

وهذا هو المعني بوحدة الهدي ، ووحدة الاتجاه . في هدي الإسلام ، وحركة القرآن .

وهذا التكييف أعمق وأحكم ألوان التوجيه والهداية ، لوجود القانون وضامن تنفيذه معا .

5- غيبة الإمام

مشكلة التربية والسياسة الأساس

مع الالتفات إلي أسس الهداية في مفهوم الإسلام الذي تتجسد فعليته ويمضي دائماً - في مصداقه السليم - عبر إشاعة التربية وتطبيق السياسة الإسلامية معا ، وهاتان الظاهرتان - التربية والسياسة - ترتبطان بوجود وحضور القرآن والإمام . يطرح هذا السؤال نفسه : كيف يكون وضع هاتين الظاهرتين في « عصر الغيبة » ؟

لقد منح الله الحكيم المتعال الرحيم الإنسان نعمة العقل عوناً منه له . وأرسل الرسل لهدايته . وقد تتابع مجيء الأنبياء واحداً بعد الأخر حتي اختتمت مرحلة النبوة ، وبعث نبينا الأكرم برسالته خاتما لرسالات الأنبياء ، وعرضت بواسطة أعظم الأنبياء سيدنا محمد المصطفي (صلي الله عليه و آله و سلم) علي البشرية أعظم ديانة . وحيث إن حياة النبي في هذا العالم لم تكن خالدة ولا بد أن يرحل ، شأنه شأن الأخرين ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ، تحتم أن يوضع حل للبشرية علي طول التاريخ ، خصوصا للأجيال التي جاءت بعد النبي ولم تره والتي تتناسل حتي يوم البعث والنشور . وبغية حفظ رسالة الإسلام التي عرضها نفسه لزم أن يحدد مركزاً لهذه المهمة . وقد تلمس النبي هذا الحل - بأمر الله - وحدد ذلك المركز . وترك ميراث الهداية في أوساط الأمة وطرحه بصراحة : القرآن والإمام ، التشريع والمنقذ - كما أشرنا .

أما الآن فالمشكلة هي : إن أحد هذين الأصلين الذي هو الحصانة التنفيذية ومفسر التشريع - في عصر الغيبة - لم يك بين يدي الأمة ، إذن ، ما هو التكليف وكيف تكون الممارسة ؟

ص: 214

6- التكليف في عصر الغيبة

تناولنا بالبحث عبر فصول الكتاب العشرة الماضية قضايا الغيبة ، وطفنا حول موضوع غيبة الإمام . وفي بداية هذا الفصل عكفنا علي بيان مفهوم الهداية ، ولاحظنا أن الهداية هي تجسيد للتربية والسياسة ، وبعبارة أخري : عملية أحكام القرآن عن طريق إيضاح الإمام المعصوم وحاكميته ورقابته . وهنا يواجهنا استفهام أساسي وفي غاية الأهمية ، استفهام لا بد من الإجابة عليه ، إجابة وجيهة ومتطابقة مع الدين والعقل ، ومنسجمة مع حركة التاريخ والإنسانية .

القرآن لائحة تعاليم لهداية الإنسان ، وبرنامج تربوي وسياسي . والإمام مرب لأبناء الأمة ومدير لحركة المجتمع . والهدف من الحركة في إطار تعاليم الدين هو ضمان سعادة الإنسان ، وواضح أن هذا الهدف تنحصر إمكانية تحقيقه في ظل تجسيد التربية الإسلامية في صفوف أبناء الأمة ، والحضور السياسي الإسلامي في وسط المجتمع فحسب . وواضح أيضا أن بقاء واستمرار رسالة الدين في المستقبل رهن بالتوفر علي فعليتها في الوقت الحاضر .

في هذا الضوء يطرح التساؤل التالي : كيف تكون الممارسة في عصر الغيبة ، وما هو التكليف ؟ ما هي الصورة التي يتحقق خلالها للدين تطبيقه ؟ كيف يتجسد هدف الإسلام العظيم ؟ فكتاب التربية والسياسة أعني : القرآن ، قائم ، إلا أن شارح الكتاب ومربي الأمة ومنفذ السياسة أعني الإمام ، غائب . إذن ما هو التكليف ؟ .

7- خمسة أسئلة ، وخمسة أجوبة

اشارة

السؤال الذي ذكر في الفقرة السابقة : «ما هو التكليف في عصر الغيبة ؟ » يرجع إلي خمسة أسئلة متداخلة عند التحليل .

ص: 215

ونعكف فيما يلي علي ذكر هذه الأسئلة وأجوبتها :

السؤال الأول :

هل التكليف في عصر الغيبة باق ؟

إيضاح : هل يتحتم مع غيبة الإمام تربية الأفراد وفق الموازين الإسلامية ، كما يتحتم إدارة شؤون المجتمع وفق السياسة الإسلامية بالشكل الذي تحقق فيه هذه السياسة حاكميتها علي الأمة ، أو لا ؟ ففي عصر الغيبة ليس هنالك تكليف بعهدة أي فرد ، ومهما حصل فليحصل وبأي شكل كان فليكن ، بقي الدين والتدين أم لم يبقيا ؟

وبعبارة أخري : هل التكليف في عصر الغيبة ساقط عن عهدة الأمة ، وليس التدين وحفظ الدين ونقله من جيل الأخر بوظيفة ومسؤولية ؟ وأن التربية والسياسة الإسلامية لغو ، فلا ضرورة لتربية الأفراد علي أساس قيم الدين ، ولا لزوم لإدارة المجتمع علي أساس تلك القيم ، فلا ضرورة التجسيد أحكام القرآن عملياً . ولا بد أن يتعامل مع القرآن بوصفه شيئا مقدسا فيوضع علي رفوف جميلة ويغلف بأغلفة رائعة وحسب ؟ فهل الأمر كذلك ، أم لا بد من التجسيد العملي للتربية الإسلامية علي مستوي الفرد ، وللسياسة الإسلامية علي مستوي المجتمع - عصر الغيبة - ، فيترعرع الفرد في ظل تربية قائمة علي أساس الدين ، وتدار شؤون المجتمع علي نفس الأساس . ولا بد من العمل وفقاً لأحكام القرآن وأن يأخذ الهدي القرآني سبيله العملي ، ويكون القرآن كتاب معرفة وعمل ؟

فما هو الطريق ؟

ص: 216

السؤال الثاني:

من هو المعلم التربوي والمدير السياسي في عصر الغيبة ؟

إيضاح : إذا كانت الإجابة علي السؤال الأول مثبتة وأن التكليف باق ، يطرح هذا التساؤل بشكل طبيعي ، فحيث إن التكليف ثابت الآن، ولا بد أن يحظي الأفراد بتربية إسلامية ، ولا بد أن يدار المجتمع الإسلامي وفق أحكام السياسة الإسلامية ، ويتحقق للهدي القرآني فعليته ، ولأحكام القرآن عمليتها ، وتبرز للوجود أمة قرآنية . فكيف يمكن تجسيد هذه التربية دون وجود القدوة والنموذج العملي ، وكيف يمكن تجسيد هذه السياسة دون زعيم وقائد ، وتظهر للعيان أمة دون إمام وموجه ؟

وبعبارة أخري : إن بقاء التكليف يعني بقاء المسؤولية الفردية وبقاء المسؤولية الاجتماعية معاً « إن هاتين المسؤوليتين غير قابلتين للتجزئة » ، علي هذا الأساس لا بد من إجراء وتجسيد برامج الدين بشكل كامل وتام . وإجراء . وتجسيد البرامج يتطلب مبرمجا وقيما علي عملية التنفيذ ، يعني يتطلب نفس الفعالية التي يتكفل الإمام مهمتها في عصر الحضور ، والآن في عصر الغيبة من هو المبرمج والقيم ؟ من هو نموذج التربية الفردية ومحور السياسة الاجتماعية ؟

السؤال الثالث :

هل النيابة عن الإمام مركز شكلي أو موقع واقعي تنظيمي ؟

إيضاح : إذا كانت الإجابة علي السؤال الثاني تذهب إلي أن سياق الإمامة والقيادة لا يخل في عصر الغيبة ، وأن المربي

ص: 217

والمدبر هو نائب الإمام ، يأتي السؤال التالي : هل النيابة أمر شكلي ولأجل ملء الفراغ الصوري فحسب ، أو أنها مهمة تنظيمية ترتبط ببناء وصيانة ونشر دين الله ؟

السؤال الرابع :

هل مركز النيابة قابل للتجزئة ؟

إيضاح : إذا كانت الإجابة علي السؤال الثالث هي أن مركز النيابة عن الإمام مركز تنظيمي واقعي وليس مركزا صوريا شكلياً ، يطرح التساؤل التالي بشكل طبيعي وهو : هل أن مهام هذا المركز - مع الأخذ بنظر الاعتبار كونه ذا مضمون تنظيمي - تنحصر بمتابعة شؤون التربية ، أم لا، وإنما تشمل متابعة شؤون التربية والسياسة معاً ، لوضوح عدم إمكانية التفكيك بين ظاهرتي التربية والسياسة ؟

وبعبارة أخري : هل تعتبر مهام نائب الإمام في عصر الغيبة - الذي ليس للمسلمين مرجع وملجاٌ ومحور غيره - هي بيان الحكام الدين فقط وتأليف وتدريس علوم الفقه ، أم أن مهمته هي السعي لحل كل مشكلات المسلمين الأعم من التربوية والفردية والسياسية والعقائدية و... ؟

فنائب الإمام لا بد أن يكون مبينا للأحكام وضامناً تنفيذياً لتطبيق هذه الأحكام ، فيدفع الأمة علي خط الدين كما يقودها علي هذا الخط ، لتستطيع الأمة أن تتحرك علي هذا الخط ، وليقتدر المسلمون علي الالتزام بإسلامهم ، وتجسيد أحكامه بشكل عملي ، وليحفظ للإسلام عزته ولقبلة المسلمين هيبتها، ويصان استقلال الأرض الإسلامية ، وحرية وشموخ المسلمين ؟

ص: 218

السؤال الخامس :

اشارة

هل طاعة أوامر نائب الإمام واجبة ؟

إيضاح : إذا كانت الإجابة علي السؤال الرابع هي أن مركز النيابة غير قابل للتجزئة ، وأن نائب الإمام نموذج للتربية الإسلامية ، ومجسد للسياسة الإسلامية أيضاً ، فيطرح علي أساس هذه الإجابة السؤال التالي :

هل وظيفة المسلمين هي الطاعة لما يصدر من النائب من أحكام ، أو لا ؟

نحن بإزاء هذه الأسئلة الخمسة ، التي وضعت بصيغتها المعمقة . ورغم أن الإجابة علي هذه الأسئلة - بحدود معينة - قد تضمنتها الإيضاحات التي تبعتها ، إلا أننا نورد الآن الإجابة علي كل منها علي التوالي :

الإجابة علي السؤال الأول :

نعم ، التكليف باق في عصر الغيبة ، في ضوء الدليل العقلي والدليل النقلي أيضاً ، وعلي أساس بناء العقلاء - كما كشف علماؤنا النقاب عن هذه الأدلة(1) .

الإجابة علي السؤال الثاني :

نائب الإمام هو المعلم التربوي والمدير السياسي في عصر الغيبة فلم يترك المسلمون في هذا العصر أيضاً بلا موجه ومشرف ، ويحتل نائب الإمام موقع الإمام - وفقا لقاعدة اللطف التي استدل بها في أبحاث الإمامة من علم الكلام - ويتعهد نائب الإمام بإحياء وتطبيق أحكام القرآن ، وحمل رايته ، وبناء المجتمع القرآني . ونائب الإمام في كل عصر هو العالم الأكبر لذلك العصر ، والنموذج الحاكي عن خط العصمة « العالم الرباني » ، والجامع لكل الشروط المطلوبة .

ص: 219


1- راجع بهذا الصدد كتاب ( تلخيص الشافي ) الشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي .
الإجابة علي السؤال الثالث :

كلا ، ليست النيابة عن الإمام بمركز شكلي ، بل مركز واقعي تنظيمي . وعلي هذا الأساس ، فلا يمكن لهذا المركز أن يكون بلا تنظيم وأصول وقواعد . بل لا بد من رعاية الأسس التنظيمية خلاله ، وأن يتجنب كل لون من الوان الهرج والضياع ، وتعدد مراكز القوي ، وتصادم الأراء - الذي يؤدي إلي إضعاف شوكة المذهب - . فكل فرد سعي وتحمل الصعاب علي طريق التحصيل والدرس الفقهي وبلغ درجة الاجتهاد ، وتوفر علي شروط الفقاهة اللازمة ، فهو فقيه ، إلا أنه ليس زعيماً وقائداً ومقيما لأحكام السياسة الإسلامية .

إذن فلا تتاح الفرصة لكل شخص أن يحتل هذا الموقع ، ويلف حوله ثلة من الأفراد، ويصرف الأموال العامة ، ويفكك التمركز في قوي المسلمين ويغرس قابلية الاستعمار فيهم .

لا يمكن أن يكون المجتمع الشيعي ضحية لحفنة سنين من قراءة الفقه وأصوله وتدريسهما علي مستوي عال ، وتدبيج رسالة عملية ، ويكون ثمن ذلك القضاء علي الوجود الاجتماعي والثقافي ، وإبادة التركة الدموية للتشيع . فالقيادة تستهدف التنظيم ، والتعبئة الجماهيرية ، وإقامة المؤسسات ، وبقاء وتصدير رسالة التشيع . وكل ما يصطدم بهذا الهدف يطرح جانباً .

الإجابة علي السؤال الرابع :

كلا ، فمركز النيابة عن الإمام غير قابل للتجزئة . ينطوي هذا المركز علي مضمون تنظيمي(1) مضافاً إلي العلم بالفقه والاجتهاد بأحكامه ، والإفتاء بها . علي هذا الأساس، لا بد أن يلتفت هذا المركز لرعاية مصالح الفرد عن طريق إشاعة التربية الإسلامية ، كما لا بد له من الالتفات لرعاية المصالح العامة عن طريق إقامة أحكام السياسة الإسلامية ، خصوصاً ونحن نعلم - كما أشرنا لذلك

ص: 220


1- كما يستفاد ذلك من روايات أهل البيت (عليهم السلام) .

مراراً . أن ليس هناك خط فاصل بين التربية « - خط الحياة الفردية » والسياسة « خط الحياة الاجتماعية » . فكل منهما يلعب دورا مصيرياً في الأخر . فإذا لم يتوفر المجتمع علي تربية إسلامية فلا يفلح ، ولا يتقدم إلي الإمام حتي مع كون النظام السياسي نظاماً إسلامياً . والعكس صحيح أيضاً .

الإجابة علي السؤال الخامس :

نعم تجب إطاعة أحكام وأوامر نائب الإمام ، قلنا : إن نائب الإمام في كل عصر هو العالم الرباني الكامل الجامع في ذلك العصر . العالم الذي يمثل النموذج الكامل بعد تحليه بالعلم والبصيرة والتقوي والالتزام .

فمثل هذا الشخص هو صاحب « الولاية الشرعية » بجعل الإمام (عليه السلام) ، ونصه . واتباعه في عصر الغيبة واجب وضروري . والتحرك في ضوء خطه حركة علي خط الدين وخط الأئمة الطاهرين . وخصومته وإهمال حكمه ، واتخاذ موقف في مواجهته ، واتخاذ جبهة في مقابلته - فضلاً عن الخروج عليه وإهانته - كل ذلك أجمع خروج عن خط الإمامة وسبيل القرآن . والخروج عن خط الإمامة والقرآن ، خروج عن خط النبوة والخروج عن خط النبوة خروج عن خط الرسالة والتوحيد .

هذا هو ديننا، وهذه هي تعاليم أئمتنا ، والذي يستنبط من الآيات والأحاديث - التي تمثل أساس رسالة الدين - هو هذا(1) .

8- إدامة خط القيادة طريق لحل المشكلة

في ضوء ما ذكرناه في هذا الفصل وما أوردناه خلال الأسئلة والأجوبة الخمسة ، يفسر بوضوح مفهوم الغيبة في ضوء فلسفة التربية والسياسة ، التي هي فلسفة الإمامة نفسها، إذ إنه من خلال طرح قضية «النيابة» يحصل التسلسل الضروري للإمامة والقيادة علي استمراره ، ويسلم حقل الهداية الدينية من

ص: 221


1- أؤكد مرة أخري علي قضية « الشروط » « وكمها وكيفها » وعلي مسألة جامعية الشروط . وكيف أن هذه الجامعية لا يجوز إغفالها في أي وقت علي الإطلاق .

التفكك والانحلال . لو لم يصدر أي حديث أو أمر من الإمام المعصوم حول مرحلة الغيبة ، وأسلوب التكليف فيها ، ومسألة القيادة والإدارة ، فسوف يكون الأمر عصياً مشكلا من زاويتي التربية والسياسة معا ، إلا أنهم لم يتركوا الأمة بلا تكليف . بل أرجع الأئمة - الهداة والقدوة الحريصون - الأمة في كل عصر لنائب الإمام ، وعهدوا له مهمة نشر الدين « التربية » وبقاء رسالته « السياسة » ودعوا أيضا لطاعته .

أعدنا إلي الذاكرة في الفصل التاسع - حين الحديث عن الآثار الوجودية للحجة (عليه السلام) ، في عصر الغيبة - أن الأمة رغم حرمانها من « حضور المربي الأكبر » إلا أن إمكانات الهداية تحت اختيارها. ومن جملتها « العالم الرباني » . ولا بد أن نضيف هنا من كون « النيابة » إحدي الآثار الرئيسية للحجة (عليه السلام) رغم كونه يعيش خلف ستار الغيبة . إذ إن الأمة تقع علي خط الرسالة وتبلغ الهدي والدين من خلال الرجوع إلي « العالم الرباني » . وواضح أن رجوع الأمة للعالم الرباني في عصر الغيبة باعتبار نيابته عن الإمام . إذن فهذا السياق الملتزم العظيم أعني : الدور الحيوي والعملاق لعلماء الشيعة الأمناء علي طول عصور الغيبة ، يشكل بنفسه أثراً من آثار وجود الحجة الإلهية البالغة وشعاعا من أشعة تلك الشمس الأزلية .

إذن يتحتم الالتفات - في ضوء ما ذكر - إلي أن الأمر الحائز علي أكبر الأهمية في استيعاب هذا الأصل الرسالي ( النيابة في عصر الغيبة ) هو ملاحظة أبعاد مهمة هذا المركز . لا بد أن نعرف أن الشخص الذي يكون علي رأس الهرم الاجتماعي في عصر الغيبة الكبري إنما هو نائب الإمام . ولا بد أن يعمل نائب الإمام وفق النهج الذي مارسه الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) . فقد كان للأئمة وضع تنظيمي في علاقتهم مع قواعدهم الشيعية . فلم يكن الأمر علي صورة مراجعة الإمام واستيضاحه بعض المسائل ثم الصدور منه . فقد كان الإمام بنفسه في كل عصر علي رأس هرم قطاع الشيعة ( رغم اتخاذ هذا الموقع شكلا سرياً في بعض الأزمنة)، ومتأهباً بكل صورة للحفاظ علي وجود التشيع ونشر تعاليمه وبسطها . وقضية السفارة في عصر الغيبة الصغري تمثل بنفسها عملا بهذا الاتجاه . يتحتم أن نري من حيث الأساس لم كانت الفاصلة الزمنية التي

ص: 222

احتلتها فترة الغيبة الصغري ؟ فقد كان ممكناً أن تكون الغيبة الكبري هي البداية ، ولم يحصل ذلك ، بغية أن تألف الأمة مبدأ القيادة النيابية ، وتدار قطاعات الشيعة ووجوداتها المركزية بالشكل الذي تقوم علي سوقها حتي شروع الغيبة الكبري . كانت الغيبة الصغري وسيلة لإعداد المجتمع الشيعي فكرياً وعملياً للولوج في الحريم الزماني الممتد للغيبة الكبري(1) . وهذا الإعداد بنفسه عمل تنظيمي في غاية العمق والمتانة(2) .

لم يك سلوك الأئمة مع قواعدهم سلوك معلم فحسب بل كان تعامل مدير ومنظم وقائد جامع أيضا ، وانسحبت قيادته علي المسائل العسكرية ، والكفاح المسلح ، رغم كونه سرياً وفي الخفاء. لا بد من أخذ هذه المفاهيم بنظر الاعتبار ، فالعالم الديني حينما يصبح نائباً للإمام فنيابته عن الإمام في كل أبعاد الولاية الظاهرية - يعني أبعادها التربوية والسياسية ، والفردية والاجتماعية - فهذه النيابة ليست إفتاء فحسب . أفهل كان مركز الإمام حتي علي المستوي الظاهري مركز إفتاء فحسب ؟!

ص: 223


1- لاحظوا الفصل التاسع فقد مرت خلاله أفكار حول هذا الموضوع .
2- جاءت في كتاب « تاريخ الغيبة الصغري » مجموعة أفكار نافعة بهذا الصدد

ص: 224

الفصل الثاني عشر : تجسيد للمقاومة لا للتسليم

اشارة

ص: 225

ص: 226

تجسيد للمقاومة لا للتسليم

1- الأساس العقيدي لمبدأ « المقاومة »

الهدف الأصيل لبعثة الأنبياء ، ونزول الكتاب من السماء هو إقامة العدل والقسط بين الناس . وتحت أساس العدل في المجتمع الإنساني نبع كل خير وفضيلة ، فإذا لم يكن عدل فلا خير ولا فضيلة هناك ، وإذا كانا فسوف لا يبقيان .

العدالة الواقعية تعني أن يكون الحكم لله لا للإنسان ، فلا يستطيع الإنسان أن يحكم علي أخيه الإنسان ، ولا ينبغي له أن يحكم . كما لا ينبغي للإنسان أن يخضع لحكم الإنسان ، ألم يقل علي (عليه السلام) :

« ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً »(1) .

ألم يقل الإمام الحسين (عليه السلام) :

« هيهات منا الذلة »

ألم يقل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) :

« خمس خصال من لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع :

ص: 227


1- نهج البلاغة الرسالة 31 وصية الإمام (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) .

الدين، والعقل، والأدب ، والحرية ، وحسن الخلق »(1) .

فقد ذهب الإمام الصادق (عليه السلام) في النص الأخير إلي أن منفعة الفرد وقيمته في المجتمع ترتهنان فيما ترتهنان بحريته . هذه هي صورة الإنسان الرفيعة في فلسفة التشيع الراقية .

أجل، فالحكم حق الله ، فكما أن الله هو المالك الأصيل ( ولله ما في السموات وما في الأرض .. )(2) كذلك فهو تعالي الحاكم الأصيل أيضا ( .. إن الحكم إلا الله .. )(3) .

وحيث إن الله تعالي منزه عن عالم الجسم والمادة، ومشابهة الخلق ، ومتعال عن معاشرتهم ، وهو القديم اللطيف السبخان ، فقد بعث الإنسان الكامل باعتباره « رسوله » ، لأجل نشر تعاليم دينه ، وإقامة حكمه في الأرض ، وأنزل الوحي مبلغاً أحكامه لنبيه ، ليستطيع تشكيل المجتمع الإلهي علي أساس هذه الأحكام ، ويجسد حاكمية الله في الأرض . في هذا الضوء ، فالنبي حاكم اجتماعي بالنيابة والخلافة الإلهية ، والإمام بعد النبي حاكم كذلك .

نعم ، الأنبياء الطاهرون والأئمة المعصومون يحكمون المجتمع الإنساني بالنيابة عن الله ، ويجرون فيه أحكام الله . ولذا كانت حكومة النبي والإمام هي عين حكم الله وحاكميته . وفي عصور الغيبة يتحتم علي العالم الرباني أن يمارس الحكم خليفة ونائباً عن الإمام ، أو يكون له الإشراف الكامل علي الحكم ، وتجري أحكام الله عن طريق تشخيصه وتحت نظره ، بوصفه عالم الشريعة ونائب الإمام .

وحيث نلاحظ تتابع الظالمين عبر التاريخ باستمرار، وإنزالهم الظلم علي رقاب بني الإنسان ، وإهانتهم للإنسانية ، وحجبهم لدين الله عن ميدان الحياة

ص: 228


1- الخصال ، الطبعة القديمة ص 142 .
2- سورة آل عمران : 109.
3- سورة الأنعام : 57 .

- لأنه حاجز دون تجاوزاتهم وعدوانهم - فيقتلون الأنبياء ، ويخمدون نداء الأئمة ، وحيث كان الأمر كذلك كانت مقاومة هؤلاء علي الدوام وظيفه كبري ، ووثبة مقدسة ، وتكليفاً رسالياً ، وواجباً إلهياً . فالله تعالي يحب العدل والقسط ، ويبغض الظلم والجور . فقد أراد الله تعالي أن لا يعد عباده ضعافاً مستضعفين ، وأن يدافع عما يعد من المستضعفين . من هنا احتل الأنبياء والأئمة وأتباعهم الحقيقيون ويحتلون مركز الصدارة في النضال العظيم ، والصراع الواقعي ضد الظلم والظالم . فهؤلاء هم الذين كانوا يحطمون الوثن ويهدمون معابده . وهؤلاء هم الذين هجموا علي قصور فرعون والفراعنة . وقاتلوا جالوت . وهؤلاء هم الذين صمدوا في وجه الجبارين عبر ملاحم نضال كبري . وهؤلاء هم الذين خلقوا عاشوراء . والأمر لا يزال كذلك : هؤلاء هم الذين يصنعون عاشوراء ويعممون فلسفة عاشوراء هذا هو الأساس العقيدي والعطاء التكليفي للمقاومة في دائرة عقيدة المذهب ونهضته .

2- ليلة القدر مؤشر مقاومة

مقاومة الظلم والظالم ، والوقوف بوجه الظالمين وناشري الجور أصل عقيدي في دائرة أهل الإيمان - كما ذكرنا - وهو أصل تكليفي أيضا ، رفض حكم الطاغوت أحد مقدمات استقرار حكم الله ، وأحد أركان التوحيد العملي

الأساس . من هنا كان النداء الناهض :

« كن للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً »

يدوي باستمرار في أذان الجماهير المؤمنة العقائدية .

تحدثنا باختصار في الفصل الثامن حول « سورة القدر » ، ومعانيها السامية ، والعلاقة الموضوعية بينها وبين مركز الولاية الكبري . ومما يستحق الكثير من التأمل والالتفات أن نلاحظ الأن : أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - حين تحليله لفلسفة الإسلام السياسية ، وأهمية حاكمية الله في بيان حول « ليلة القدر » - يقول :

ص: 229

« ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أمية »(1) .

من هنا لا يمكن للمسلمين - في ضوء الرؤية الكونية الإسلامية الشيعية - أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء مسألة الحكم فيبايعوا أي حكم كان . وحيث إن مدرسة التشيع تقوم علي أساس حكومة المعصوم والعادل ، كان التكليف إزاء قضية الحكم بمعني مؤازرة حكم العادل ، ومقاومة حكم الجائر . إن إحدي مشخصات المجتمع الشيعي(2) في عصور حكم الباطل أو الجائر هي أن يكون واقع هذا المجتمع واقعاً مجسداً للمقاومة لا للتسليم . وأول معلم ثوري . حماسي لتجسيد المقاومة هو سيدتنا الصديقة الكبري فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) .

3- تعاليم معلمي المقاومة

إن هذا التحصن والحضور الثائر في وجه الجبارين ، وهذه المقاومة المجسدة إزاء الطاغوتيين والظالمين جزء من هوية مذهبنا، وعماد من أعمدة أصل التوحيد .

حكومة الإنسان علي الإنسان عهد الله ، ولا ينال عهد الله الظالمين . من هنا كان قبول حكم الظالم نقضاً للتوحيد في مذهبنا . وعلي هذا الأساس لم يك حكم الظالم مؤهلاً للترحيب به لحظة واحدة . بغية إنارة الأفكار ونباهة الأذهان - خصوصاً أذهان المتدينين الغافلين الذين يتناولون قضية الحكم الإسلامي والسياسة الشرعية بسذاجة وسطحية - أنقل حديثاً وتعليماً عظيماً عن ثامن قدوة من معلمي المقاومة الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) . حديثاً وتعليماً لا يعثر

ص: 230


1- تفسير البرهان ج 4 ص 487 .
2- واضح أن المجتمع الإسلامي بشكله الأعم - سواء الشيعي منه أم السني - لا بد وأن يمضي علي هذا النهج ، يعني مقاوماً ، لا خاضعاً مستسلماً ، وهذا هو الإسلام . إلا أن إخواننا أبناء السنة وعلماءهم يسكتون أمام الظالمين والمستكبرين وعملاء الأجنبي الهامشيين ، كيف ، وماذا يفكر هؤلاء ؟ فهل تري أن القرآن يعتبر أمثال هؤلاء الحاكمين الخونة « أولي أمر » ؟! ولعلهم - أي إخواننا اهل السنة - لم يكونوا كذلك ، ولا يكونون بعد الآن كذلك .

علي مثيل له - من زاوية حسمه وعظمته في البعد الاجتماعي والمقاومة المسؤولة - في أي نهج ورسالة إلا في رسالة الأنبياء والأئمة .

يقول الإمام (عليه السلام) :

إن الإمامة خص الله - عز وجل - بها إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال : ( إني جاعلك للناس إماماً ) فقال الخليل ( عليه السلام ) مسروراً بها : ( ومن ذريتي ) ، قال الله تبارك وتعالي : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلي يوم القيامة(1) .

هذا هو سر شمول هذه العقيدة التقدمية الثائرة : رفض كل حكم ظالم ، و « لا » مقولة لكل جبار وجائر . فحكم أي فرد « لا رباني » يعني : غير حامل ل « عهد الله » مرفوض من وجهة نظر الفرد المسلم الشيعي ، فلا يمكن لمثل ذلك الفرد أن يتقدم ، ويحكم ، ويكون إماما للناس . من هنا، فالشيعة لا تذهب خاضعة لأي حكم إلا لولاية المعصوم وحكمه . وفي عصر غيبة المعصوم تخضع لولاية وحكم نائب المعصوم ، يعني : إن الإنسان المؤمن في عصر الغيبة لا يجوز له أن يهبط بمستواه فيلوي عنقه لحكم أي حاكم ، وسلطان أية حكومة ، ويقر حكم أي ملك أو أمير أو رئيس جمهورية ، بل لا بد له من قبول حكم يتصل بالإمام المعصوم بلون من ألوان الاتصال ، يعني : عين حاكمية الله تعالي .

وهذا الأصل العقيدي ، المشار إليه آنفا ، يقف في أعلي مراتب السمو الإنساني ، وهو أرقي وأرفع فلسفة سياسية في تاريخ البشر ، إذ إن هذه الفلسفة السياسية ترفع صوتها في النداء بأن الإنسان يحتل مركزا خاصا ويتمتع بقيمة وكرامة بحيث لا يمكنه ولا ينبغي له أن يتحمل أي حكم وحاكمية إلا حكم الله وحاكميته .

ص: 231


1- أصول الكافي ، كتاب الحجة ، « باب نادر جامع في فضل الإمام .. » .

وهذه النظرة الكونية ، وهذه العقيدة رمز أعظم افتخار لنا علي طول تاريخ حياة الإنسان في الأرض ، ونفس هذا الافتخار المدوي هو الذي يغذي وجدان المجتمع الشيعي بالحركة ، فيصنع له من كل يوم عاشوراء ، ومن كل أرض كربلاء وهو نفسه ضامن خلود تضحياتنا إلي اليوم ، وحتي ظهور العدل العالمي وبين يدي المهدي ، وهو نفسه الذي ينسكب في وعاء الشمس المشرق وينبعث صوب كل اتجاه . وهو الذي يزين كل فجر وشفق بدم الحق المتلاليء القاني ، صانع الملاحم .

4- الحضور الفكري والعملي للمقاومة

هذه المقاومة التي نتحدث عنها لا بد أن تبقي باستمرار وتظل حية فعالة . يتحتم أن يكون هذا المشعل متوقداً علي الدوام حتي حين بروز أرضية ظهور العدالة الكلية ، وتحقق القسط الإلهي في أرجاء العالم البشري . فيجب أن تتوفر ذهنية الجماهير المؤمنة وواقعها الاجتماعي علي الاستعداد الكامل ، حتي ينهض مجتمعهم للنضال ضد مستكبري العالم ، ووضع حجر الأساس لحكومة عدل المهدي (عليه السلام) ، ونصرة هذا الإمام والوقوف في صف أنصاره ( وعسي أن تكون الشهادة نصيبا بين يديه ، وقد كانت تطلع العظماء ).

إذا لم تك لجماعات الشيعة ( - وجماعات المسلمين في صورة انضمامهم معنا في أداء هذا الدور العظيم ) تشكيلات منظمة ، وصفوف نضال مرصوصة ، وترتيبات عسكرية ، ولم يتحلوا بهذا اللون من الخبرات والمران والاستعدادات ، فكيف يمكنهم حين بروز مقدمات الظهور ، وقدوم الأحداث والصراعات الكبري أن يساهموا في حركة المهدي (عليه السلام) وأنصاره المجلجلة ، ويكونوا جزءاً من جيشه ، ويحصلوا علي حصة في حروبه ومعاركه الواسعة ، وينهضوا لنصرة الحق المجسد؟ فعندما يظهر الإمام - في ضوء الأحاديث الشريفة - يشرع في النضال والحرب ، ويطلب مقاتلين وجيشاً ، فبالإضافة إلي ما يتحقق بالتأييد الإلهي ( لتثبيت قلوب الجماهير المستضعفة ) فهو (عليه السلام) يعكف أيضا علي ممارسة القتال المألوف ، فيقارع ، ويفتح ويعهد لقواته بإدارة

ص: 232

المناطق المفتوحة . ويتحتم علي هؤلاء أن يحتفظوا بتلك المناطق ويديروها ، وينهضوا لقتال المهاجمين . ثم ينطلق المهدي المناطق أخري ويقاتل باستمرار، وتستمر فترة حروبه زمناً ، ويستشهد بين يديه رجالي ( كما جاء في الدعاء : اللهم اجعلنا من المستشهدين بين يديه ) . هذا هو نهج المهدي (عليه السلام) .

فما هو الغرض الذي لأجله توفر بعض المؤمنين - حتي الشيوخ منهم - علي سيف وواظبوا باستمرار علي تعهده وإدامته ؟ لأجل الحرب .

علي هذا الأساس يتحتم للمقاومة . مضافا لبعدها العقيدي والفكري - أن تتوفر علي البعد الواقعي ، يعني : إن المقاومة مضافاً إلي كونها أحد الأصول العقيدية والفكرية التي يشهدها الواقع الاجتماعي ، لا بد أن يكون لها حضور أيضاً بوصفها إحدي المسؤوليات العملية والواقعية - التي تهيأت مقدماتها ۔ حضور دائم وفعال حتي اتصالها بمقدمات الظهور ، ومعارك الرجولة الواسعة في تلك الأيام ، وثم استقرار حكومة المهدي (عليه السلام) .

5- المقاومة في ضوء أبعاد التكليف

اشارة

يتحتم أن نعكف الآن علي التعرف علي أبعاد التكليف . وبغية إحكام هذا البناء العظيم ، وإيقاد هذا المشعل الحيوي البناء باستمرار ، يلزم أن نسرح النظر في مسائل عدة ، ونواجه هذه المسائل مواجهة مسؤولة . ينبغي لنا أن نشخص بصورة جيدة سبل المقاومة وأرضياتها وأبعادها ، وعواملها ونتعرف علي مستلزماتها بشكل دقيق ، ليتسني لنا الحفاظ علي حضورنا التكليفي في كل موقع ، وليكن واقع مجتمعنا توأم تجسيد المقاومة والصمود لا التسليم والخنوع . وقد حدد القرآن أربعة مؤشرات التشخيص واقع « مجتمع المؤمنين » الذي يرمي إلي إيصاله درجة « الفلاح » :

( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله ، لعلكم تفلحون )(1) .

ص: 233


1- سورة آل عمران : 200.

1- اصبروا ، 2 - صابروا ، 3- رابطوا ، 4 - واتقوا الله .

هذه العوامل الأربعة الشامخة هي سر فلاح المجتمع المؤمن ، ورمز انتصاره الخالد ، فقد رسمت هذه الآية المباركة صورة جامعة لواقع المقاومة ، في بعد بناء الشخصية ، وصياغة الأمة ، وصنع الملاحم ، والتوفر علي التقوي ، للوصول إلي درجة الفلاح - لعلكم تفلحون ،

وبغية أن نتوفر علي معرفة أكبر ، حول أبعاد المقاومة نشير - باختصار - إلي عدة أبعاد تضحي المقاومة فيها ضرورية :

1- بعد الالتزام الديني

البعد الأول من أبعاد المقاومة هو بعد الالتزام الديني ، يعني : إن كل فرد يسعي بغية أن يحرس تدينه - علي مستوي العقيدة والعمل - ، فيوطد أسس عقيدته عن طريق التأمل ، وكسب المعلومات النافعة ، والمعارف السليمة ، وإتقانها بحثا ودراسة . كما يلتزم عمليا بالتكاليف الدينية ليبقي نفسه بوصفه فرداً مؤمنا مخلصا ، ويعيش في وسط الأمة إنسانا متدينا ملتزم(1) . يتحتم لأجل تحقيق هذا الهدف العكوف علي تصحيح وإحكام الإيمان العقيدي ، وعلي تهذيب النفس وبناء الداخل علي أساس التقوي ، يعني : الإيمان والعمل .

2- البعد الرسالي

البعد الثاني ، يتمثل بتعليم الدين أسسه وتكاليفه للآخرين ، وحفظ حركة الذين في الواقع الاجتماعي . يتحتم علي المسلمين الملتزمين أن يثبوا سعيا علي طريق حفظ الدين في الوسط الاجتماعي ، ونشره في الآفاق ، وبقائه ونقله ، وعلي نهج حسن تعليمه للأبناء والأقرباء والأفراد والأوساط ، ولا ينبغي لهم أن يقعدوا دون السعي علي هذا الطريق النبوي ، لتبقي مركزية القوة الدينية باستمرار وليحفظ الوجود الجمعي للمقاومة .

ص: 234


1- مرت في الفصل التاسع حول هذا الموضوع مجموعة أفكار ، وسوف تأتي أفكار عدة تكمل هذه الأفكار والأبحاث في الفصل الثالث عشر .

3- البعد الثقافي

البعد الثالث هو حراسة الثقافة الدينية وصيانتها لدي الأفراد وفي وسط المجتمع . يلزم استخدام كل وسيلة مشروعة لتبقي الثقافة الإسلامية والأعراف الشيعية الأصيلة حية في وسط الأمة ، وتلعب باستمرار دورا خلاقاً معطاء . والمعني بالثقافة هنا أعم من الظواهر الموضوعية المألوفة ، ومن القيم الفكرية والذهنية .

4- البعد العقيدي « الأيديولوجي »

البعد الرابع هو إحياء الحضور المستمر للنظرة الكونية الدينية علي مستوي الأمة . فنظام الأفكار والمفاهيم الإسلامية لا بد أن يحيا ويحكم في الوسط باستمرار بوصفه نظاما فكرياً مقتدراً ومبرهناً في ميادين التفكير الاجتماعي . ويقع في هذا البعد تكليف ذو عمق ودقة . فيتحتم علي الدوام تربية مطلعين علي مختلف مدارس الفكر وأسس الأيديولوجيات يستنيرون في كل الحقول ، ويوضحون الموقف إزاء كل فكر واكتشاف ونظرية تبرز للوجود ، ويثبتون متانة مفردات العقيدة والفكر وصمودها . ويحرسون حقيقة الفكر الديني ، ويدافعون . عن دوره النافذ والفعال في الوسط الاجتماعي . وما أشرنا إليه آنفاً من أهمية « إعادة بناء وتجديد علم الكلام والعقيدة » يمثل مرحلة من المراحل الأساسية في هذا البعد .

لا بد أن تكون تأكيدات الإمام الصادق (عليه السلام) علي ضرورة الحوار العقيدي والفكري ، وإتقان صنعة الحوار ، وعكوف المختصين علي ممارسة الحوار ، مناراً عظيماً يهتدي به الجميع ، وخصوصا الحوزات العلمية الإسلامية . يتحتم علي الحوزات العلمية بفضلائها ذوي الفكر القادرين علي الحوار المالكين لأدوات العرض أن تقوم بتربية الناشئة فتحفظ جيل الشباب بهذا الطريق عن اختطاف أي سياق فكري وانحراف عقيدي . ولا بد أن يتقن هؤلاء أيضا أسلوب التعامل مع الشباب .

ص: 235

5 - البعد الاقتصادي

البعد الخامس هو حفظ القدرة المالية وصيانة إمكانات الاقتصاد الإسلامي فكل نهضة وثورة وإصلاح تحتاج لميزانية مالية بغية تحقيق انتشارها ، ولأجل بقائها أيضاً . والأمة أيضا تحتاج لدعم مالي في بعض المواقع . كما أن الأفراد يفتقرون في مواقع أخري لدعم مالي أيضا . وكل الأبعاد التي ذكرنا وسوف نذكرها تحتاج إلي ميزانية مالية . علي هذا الأساس يضحي حفظ وتنمية الثروات وذات النفع العام في وسط المجتمع المتدين واحداً من الوظائف واحدي المسؤوليات . كما أن نفس هذا الاقتدار الاقتصادي ، والمكنة المالية تمثل بعداً من أبعاد المقاومة وقد عد القرآن الكريم المال قياماً(1) وعصباً حياتياً .

فحفظ الدين والثقافة الدينية وسائر مظاهر الرسالة وشؤونها الأخري يفتقر للقدرة المالية والاقتصادية كما يفتقر تبليغه ونشره إليها أيضاً . فلا بد للمجتمع المؤمن من السعي الجاد للتوفر علي المكنة والاقتدار عن طريق السبل المشروعة - سواء الزراعية منها أم الصناعية ، أم غيرها من السبل - ليضع هذا التمكن والاقتدار في وقت الحاجة ، ويستخدمه في نشر رسالة الله والأهداف الإنسانية الرفيعة .

6- البعد السياسي

البعد السادس هو الحضور والمقاومة السياسية. فمع اعتزال الفعاليات السياسية ، وخسران مراكز الإدارة الاجتماعية ، فسوف تنهار كل مراكز القوة بالتدريج ، وتصل المرحلة إلي درجة تفتقد فيها الإمكانية علي تطبيق الأحكام الدينية علي المستوي الفردي ، كما تفقد القدرة علي تربية الأبناء في ضوء الثقافة الدينية ، ويحصل العجز عن مجانبة استهلاك السلع الواردة من الدول المعادية لله وللفضيلة ، وتفتقد الاستطاعة علي حفظ الشرف والناموس و ...

فإذا خسر المتدينون حضورهم السياسي والاجتماعي(2) ، فسوف تجر

ص: 236


1- قال تعالي : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً .. ) . سورة النساء : 5 .
2- خصوصا الحضور الذي حصل الآن علي أثر انتصار الثورة الإسلامية الكبري .

الوان الحضور الأخري ( .. الحضور العقيدي ، الثقافي ، العملي ، العرفي ، و... ) نحو الإنحراف ، وتعود خاوية لا مضمون لها ، ثم تعصف بها الريح فتطير . فلا يمكن أن نتصور واقعاً عملياً لتحمل الجماهير المؤمنة العقائدية مهمة المقاومة المسؤولة ، ذات العلاقة بضرورة المقاومة عامة ( وخصوصا في بعدها القرآني الثالث : « رابطوا » ) دون حضور سياسي اجتماعي فعال ، كما لا يمكن تصور وصولها إلي محصلة بذلك الاتجاه دون هذا الحضور . يتحتم علي المؤمنين أن يكونوا علي أعلي درجات الوعي واليقظة بصدد هذه المسألة ، ولا يغريهم أي إعلام مزور .

التدخل في شؤون العمل السياسي الحق ، والمشاركة السياسية بغية إدارة المجتمع علي أساس النهج السياسي الحق ، وصيانته عن الانحراف وحفظ الدين في الوسط الاجتماعي ، ونقله عبر الأجيال هو أفضل طاعة وأعظم عبادة ، وهو عمل يحتل موقعاً متميزاً علي رأس قائمة التكاليف الإلهية ، (... كونوا قوامين بالقسط .. )(1) .

7- البعد العسكري

البعد السابع هو البعد العسكري والقوة المسلحة . لقد دعا الإسلام باستمرار للعزة والاقتدار . وقد ابتدأ - نفسه - النزول إلي ميدان الحياة البشرية عزة ومنعة . كما حض الإسلام علي التوفر علي القوة القتالية والعدة العسكرية ، وهذا نداء القرآن :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل .. )(2) .

و هذا هو منطق القرآن . وقد جاءت الكثير من التعاليم والوصايا حول هذه المفاهيم ، عبر أحاديث النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) وعلي (عليه السلام) وأحاديث الأئمة (عليهم السلام)

ص: 237


1- سورة النساء : 135 .
2- سورة الأنفال : 60.

أيضا(1) . وكانت كل هذه الأضواء بغية أن يصبح المسلمون مقتدرين ، والعزة لله وللرسول وللمؤمنين ، كما أنها للمسلمين باقية ، ولأجل أن تطبق تعاليم الدين من موقع الأقتدار والعزة ، ويكون المتدين عزيزا قويا ، ويحرس دين الله وينشر بقوة ومنعة .

الشيعة الذين يعتقدون بأن الإمامة من أركان التشيع وأصوله ، كيف يمكنهم أن يفتقدوا التدريب ولا يتوفروا علي التعبئة العسكرية ، والحال أن الخصوصية اللازمة للاعتقاد بالإمامة هي الوقوف إلي جنب أصحاب الحق والعدالة ومقارعة أهل الباطل والظلم ؟!

ألم يوص الأئمة بالتوفر علي الروح القتالية والمساهمة في التدريبات العسكرية والحربية ! فالملائكة تحضر في كل موقع يجري علي أرضه تدريب عسكري(2) هذه هي تعاليم أئمتنا .

8- البعد التنظيمي

البعد الثامن من أبعاد المقاومة هو بعد التنظيم وخلق الوحدات المنظمة ، واضح بجلاء أن أي لون من ألوان الفعالية الاجتماعية ، والإعلام العقيدي ، والحضور السياسي ، والجهد العسكري في وسط الأمة ، إنما يثمر في الوقت الذي يتوفر فيه علي نظام أصولي وينخرط في تيار تشكيلات منظمة ومحكمة . فدون التنظيم وقنواته الارتباطية ، تذهب كل القوي هدراً ولا تبلغ الجهود و نتائجها الأساس ، ولا تصمد المواقف عند حدودها ، ولا تصان العقائد ، ولا تسلم المواقع . لو استثمر الإيمان العميق والإيثار المدهش الموجود في وسط الجماهير المؤمنة في سياق تنظيم محكم وتشكيلات مقتدرة ووجه بوعي ومتانة ، فكم هي النتائج التي يمكن استخلاصها منه علي طريق إصلاح المجتمعات وإشاعة الخير والفضيلة !

علي أي حال ، يتحتم أن يعتقد المجتمع المؤمن بواقع التنظيم ، ولا بد للمؤمنين من أن يقلعوا عن التشتت والتداخل العملي وسحق الطاقات ، ويعودوا

ص: 238


1- سنتحدث في الفصل القادم حول هذا الموضوع أيضا .
2- سنتحدث في الفصل القادم حول هذا الموضوع أيضا .

متوفرين علي روح التنظيم ويصنعوا في عمق وجودهم أقوي أشكال التشكيلات . فقد قام النظام الاجتماعي في الإسلام علي أساس أعمق الروابط التنظيمية ، وحتي أحكام الفقه الإسلامي التحمت باستمرار مع العلاقات التنظيمية والممارسات الاجتماعية . وإنا علي أمل في أن يعود المتدينون إلي هويتهم بعد الإهمالات السابقة ، ويتجهوا صوب خلق تشكيلات قوية وعلاقات منظمة ، حيث إن هذا الفعل مسؤولية ووظيفة ويشكل هذا الأفق بعدا من أبعاد المقاومة المسؤولة .

9- البعد الفني

البعد التاسع من أبعاد المقاومة هو البعد الفني وأساليب العرض والإعلام. وأبتغي التأكيد بشدة هنا علي هذا البعد . فلا ينبغي للمحيطات الدينية والرسالية إغفال الآثار الكبري والإمكانات الغريبة التي تكمن في الفن وقابلية العرض الفني .

البعد الفني ، في سياق أبعاد المقاومة ، بعد ذو تأثير كبير ، ولا بد أن يكون هذا البعد علي الدوام حيويا وفعالا .

لا بد من تلقي التعامل مع الفن وقضاياه بوصفه أمرا جدياً ومسؤولية تكليفية . فأسس الإعلام السليم يتحمل عبئها هذا البعد ، وقد « تبلور » القرآن الكريم نفسه بالأبعاد الفنية والأصول الجمالية . وقد التفت النبي الأكرم والأئمة الطاهرون باستمرار لهذه المفاهيم ولفتوا الأنظار إليها . فقد قام هؤلاء بإعلاء شأن الشعر الملتزم ( - يعني : الشعر الذي يتحرك علي خط المقاومة ) ، وحضوا عليه ، ودعموا وروجوا أمثال هذا الشعر قراءة وإصغاء حتي في أيام الحج وعند عرفات ومني .

وقد أبرزت القدوة الرسالية اهتماماً بالغاً بالجمال والبعد الفني والذوقي في عرض مفاهيم الرسالة . فيتحتم علي المؤمنين الرساليين أن لا يغفلوا هذا الأمر . كما لا بد لمسؤولي إدارة المجتمع الإسلامي من ضمان وتطوير أسس الفن وأساليب العرض والإعلام ، والالتفات الخاص إلي العلوم والفنون اللازمة في هذا المجال . هذا أيضا بعد من أبعاد المقاومة المسؤولة .

ص: 239

10- المعاصرة الإيجابية

البعد العاشر من أبعاد المقاومة - الذي يذكر هنا - هو بعد المعاصرة الإيجابية . إن الخصوصيات الزمنية في مقياس المجتمعات البشرية حقيقة متغيرة لها تميزها في كل عصر وجيل ، وتفصح عن مستجدات لم تك من قبل . المستجدات التي تبدو في كل عصر جديد لا تحكم بقاعدة الإدانة والرفض علي العموم . فإذا كانت مستجدات وأعراف مستحدثة ترمي إلي دثر سنن سليمة وأصالات واقعية فلا بد من تحويل هذه المستجدات نفسها ليد الإلغاء والاندثار .

إلا أن القيم والأعراف والأساليب الجديدة ليست كلها علي هذا النحو فلعل الكثير من الإمكانات والمسائل والأساليب الجديدة تساهم في دعم الأهداف المقدسة وألوان المقاومة الإلهية .

من هنا يتحتم علي الدوام الالتفات في ظل أبعاد المقاومة المسؤولة إلي الزمن وهويته المتحولة ، والدور الذي يلعبانه . فقد جاء في الروايات الإسلامية وتعاليم القدوة ، أن ربوا أبناءكم علي قيم الأعراف الجديدة ، واعرفوا الزمان ، المعني بتربية الأبناء علي أساس العرف الجديد، الجدة التي تلازم ماهية الزمن ولا تصطدم مع الأصول والمباديء . ومثل هذه المستجدات لا بد من معرفتها والالتفات إليها ، علي هذا الأساس فلا بد من الزمنية في حساب التعامل ، ولا بد من الاهتمام بالزمن المعاصر وخصوصياته ، ولكن بشكل إيجابي وعلي طريق شموخ الأصول والمباديء .

لم أتجاوز حد الاختصار في ذكر هذه الأبعاد العشرة . وعلي هذا الأساس تركت ذكر الأحاديث والآيات الضرورية لإيضاح كل من هذه الأبعاد والكشف عن علاقاتها مع التكليف الديني علي أساس القرآن والسنة، ولا بد أن تعد رسالة مستقلة بهذا الصدد . آملًا أن تقع إشاراتنا المختصرة موقع الإفادة وتزين هذه الرسالة ببركة خليفة الله في الأرض ولي العصر - عجل الله تعالي فرجه الشريف - ، وباسم هذا القدوة الربانية والمصلح العالم الكبير ، لترك آثاراً حسنة .

ص: 240

6- ضرورة الحكم الإسلامي

بعد أن ألقينا النظر علي أبعاد «المقاومة » واستوعبنا أهميتها، وبعد أن عرفنا أن مهمة حراسة « دين الله » ، وقيادة الأمة ، وحفظ الوجود الإسلامي في عصر الغيبة تقع علي كاهل « نائب الإمام » علينا أن نعرف جيدا أبعاد هذه المسؤولية الخطيرة بالنسبة لنائب الإمام وبالنسبة لمسؤوليات الجماهير وتكاليف الأمة إزاءه .

نائب الإمام حارس بالضرورة لدين الله ، ولتركة الأنبياء ، وثقافة الإسلام وحوزة المسلمين ، وعزة المؤمنين ، إبان مرحلته التاريخية ، وموظف في إيصال هذه القيم شامخة للأجيال القادمة . والأمة بدورها أيضا لابد لها من دعمه بشتي الوسائل بغية أداء تلك المسؤوليات .

من الواضح أن مثل هذه المسؤولية الباهظة لا يتسني لها أن تكون عملية إلا مع التوفر علي القوة ، ولا صيرورة للتوفر علي القوة دون التوفر علي السلطة والحاكمية .

ذكرنا قبل أن الدين نظام شامل ، وليس حفنة مواعظ وأحكام سواء أمكن تطبيقها أم لم يمكن . بل لقد استبصر التشريع الإلهي في أفقه الضمان التنفيذي الأحكامه عن طريق مركز القيادة والسلطة ، ومسؤوليات الأمة الإسلامية . لاحظنا أن الدين تربية وسياسة ؛ استهدفت التربية أن يقيم الفرد أفكاره وممارساته علي أسس أصولية خاصة . واستهدفت السياسية أن يقيم المجتمع أفكاره وممارسته علي أسس أصولية خاصة . ومن هنا تنوعت أقسام التربية السياسة : سياسة وتربية سليمة ، ساسية وتربية خاطئة . سياسة وتربية في حضيض الانحطاط ، وسياسة وتربية راقية . سياسة وتربية تبعية ، سياسة وتربية مستقلة . سياسة وتربية دينية ، سياسة وتربية غير دينية .

ومن الممكن أن تكون السياسة والتربية غير الدينية قائمة علي أساس محاربة الدين ومعاداته .

في ضوء ما ذكر ، هل يمكن ممارسة التربية والسياسة الدينية في وسط

ص: 241

الأمة دون وضع اليد علي السلطة والحاكميه ؟ فهل يتم للقادة السياسيين التطبيق التربوي والسياسي - التربية في بعدها الاجتماعي أيضا - وفق مقاييس الدين ، وهم لا شيء من زاوية القوة السياسية ، ولا يتوفرون علي أية قوة ، أيمكن لهم ذلك وهم علي هذه الحالة ؟

من الواضح أنه لا يمكن ، فالحضور الاجتماعي للدين وفعاليته في الوسط لا تتيسر إلا مع التوفر علي السلطة والاقتدار الرسالي ، والقدرة الرسالية لا مجال لها إلي الواقع دون واقعية وحضور القوة السياسية .

من هنا يضحي السعي لكسب القدرة السياسية والحضور السياسي وظيفة وتكليفاً شرعياً لحفظ حضور الدين وقدرته . ومن هنا كان الدين عين السياسة والسياسة عين الدين . ومن هنا أيضاً كانت الإمامة والقيادة من أصول العقيدة وجزءاً لا يتجزأ منها .

بعبارة أخري(1) : هل يلزم أن يكون للتربية الدينية وجود في الوسط الاجتماعي أو لا ؟ هل يتحتم تربية النائشة وفق الدين ومقاييسه أو لا ؟ وألم تكن التربية والثقافة تبعاً للحاكمية والسلطة ؟ ألم يكن هذا الشعار « الناس علي دين ملوكهم ، شعاراً له نصيب من الواقع ؟ فإذا لم يك الدين حاكماً في الوسط الاجتماعي ولم يك اتخاذ القرار في المواقف والمهام بيد القيادة الدينية فهل يمكن للفرد أن يضحي متديناً ويحافظ علي ذلك ويطبق كل التكاليف الرسالية التي بعهدته ؟

فالسلطة غير الدينية تختزل وتحذف علي الدوام أحكام الدين وأسسه ، مما يؤدي والحال هذا بالفرد - قهراً - ليرفع اليد - شيئاً فشيئاً . عن أحكامه وأسسه ، إذ لا يتسني له في كثير من المواقع إلا هذا الموقف ، نعم هناك سبيل واحد له وهو أن يهيم في الفلوات ويقضي عمره في المغارات والكهوف. وفي الصورة الأخيرة أيضاً يكون بحكم من لم يعمل وفق تكليفه الشرعي ، إذ لم يثب

ص: 242


1- مرت في الفصل الماضي أفكار تدعم هذا الحديث ، وستذكر هنا بعض الأفكار التي تؤكد ما مر يحسن ملاحظتها معاً .

في وجه شيوع الظلم واللادين ورجح الفرار علي القرار ، والنبي الأكرم يقول :

سياحة أمتي الغزو والجهاد(1) .

أجل ، واضح جيداً أن بقاء الدين والتدين والعمل وفق قيم الرسالة - حتي علي مستوي الفرد - متوقف علي فعالية الدين في الوسط الاجتماعي وتطبيق أحكامه . وفعالية الدين في المجتمع تضحي عملية حينما يكون الدين برنامجاً عملياً في المجتمع ، وإنما يحصل الأخير حينما يتوفر الدين علي سلطة وحاكمية ، يعني أن يكون القرار السياسي بيد الدين والقيادة الدينية ، أو علي الأقل أن يكون لهما إشراف دقيق علي القرار السياسي . وهذه هي الفلسفة العميقة للإمامة والنيابة في مذهبنا ، وإلا ففي غير هذه الصورة يضحي الدين تدريجاً مجرد ألفاظ ومظاهر روتينية . فيفقد حضوره الاجتماعي شيئاً فشيئا وتسلب المركزية الثقافية في وسط الأمة عن الدين والمتدينين ، وتخرج مراكز التعليم والتربية - بدءاً برياض الأطفال وانتهاء بالجامعة - عن دائرة الدين والنفوذ الديني . وحينما يكون الأمر كذلك ، تجدب التربية الدينية في الوسط ، ويحدد دور المساجد شيئا فشيئا ، وتعطل الحسينيات ، ويتراجع الدين عن مواقعه داخل محيط الأسرة أيضاً . وتفقد العوائل بالتدريج إمكانيتها علي تربية أبنائها تربية دينية ، وذلك لحصول التدافع والتضاد بين الوضع الاجتماعي العام وبين التربية الأسرية ، وينتهي هذا الصراع في نهاية المطاف بغلبة القدرة الأقوي التي تمثلها السلطة السياسية هنا، إذ إن الناشئة تدخل الميدان الاجتماعي وتخضع الثقافة النظام الحاكم بدءاً من رياض الأطفال أو المرحلة الابتدائية حتي نهاية تحصيلها الثقافي . ومن هنا ينحصر الدين حتي داخل محيط الأسرة ، وينزوي في داخل الغرف ويتململ علي مصلي وكتاب دعاء الجد والجدة ، ويثقل من موقعه الأخير - بعد مدة - لكي يدفن في المقابر . وهذه هي عاقبة الانزواء عن أداء التكاليف السياسية والاجتماعية(2) .

ص: 243


1- وسائل الشيعة ج 11، ص 10.
2- لقد رأي مجتمعنا أمثلة هذا الواقع في عهدي الملعونين المطرودين .

كان ما تقدم إشارة للمحاذير ، التي تطرأ علي البعد التربوي ، والأمر كذلك بالنسبة للبعد السياسي . إذ لو لم يكن لحاكمية الدين حضور اجتماعي فسوف ينجر المسلمون سياسياً واجتماعياً صوب الانحراف أيضاً . وهنا يطرح هذا السؤال نفسه :

هل يمكن للمسلمين أن يرحبوا بكل لون من الحكم، ويعيشوا تحت كل لون من ألوانه ؟ فيبايعوا كل حاكم ويصوّتوا بالرأي له ، ويدفعوا الضرائب الاقتصادية لكل حكومة - مهما كان لونها - ويشاركوا في الخدمة بالقوات المسلحة ، ويساهموا في تعبئة وحروب ذلك الحكم ( لمصلحة أية عقيدة وأي شخص رغم كون تلك العقيدة باطلا وإلحاداً أو نظاماً رأسمالياً مستكبراً، وضد أية عقيدة وأي شخص ، رغم كون العقيدة المحاربة حقاً ، ومهما كان عليه الأفراد من حرمان كاللاجئين الفلسطينيين) ؟ فيضحوا ويقاتلوا فيقتلوا ويقتلوا ، أيمكن للمسلمين أن يكونوا كذلك ؟ وهل يمكن للمسلمين أن يودعوا أبناءهم في مؤسسات تعليم تلك الأنظمة المذكورة ؟ وهل يمكن للمسلم أن يترك ولده ، وفلذة كبده الذي هو أمانة الله في عنقه وفرد من أفراد أمة محمد والقرآن ، بيد مدارس الأجنبي ، ومؤسسات التربية الامبريالية المزورة ، وبيد مؤسسات الصهيونية العالمية والماسونية الدولية والتبشير الصليبي وأياديها الخفية؟(1) هل يمكن للمسلم أن يقتفي في علاقاته المالية والتجارية سبط ومقررات غير إسلامية ؟ وفي مثل هذه الصورة أي حكم سوف ينطبق علي أمواله ؟ فهل يصح غسله ووضوءه وصلاته ؟ فهل يمكن أن تكون الجماهير مسلمة ويكون نظام حكمهم يعني : مركز اتخاذ القرار بشأن حياتهم ومستقبلهم - نظاماً لا إسلامياً ؟ إن هذا النسق الفكري طيف فاسد شلط علينا سنين طوالا ، ومن الممكن حتي الأن أن يكون هناك أفراد يتصورون أن رسالة الدين في منأي عن هذه المسؤوليات . ومثل هؤلاء يلحقون بالدين ضرراً أكثر من أي خصم معابر ، ويؤدون إلي هتك نواميس الله . فهؤلاء لم يعرفوا لا الإسلام ولم يدركوا مواقف الإسلام الرفيعة . هؤلاء أيضاً بعيدون عن ممارسات وأسس الأنبياء والأئمة ،

ص: 244


1- كما كان لهذه المؤسسات وعناصرها حضور في هذا البلد المظلوم إبان تسلط النظام السابق .

ولعل البعض لا يعنيه أن لا يكون بعيداً . هؤلاء لا يعرفون ماهية الدين والرسالة .

لقد جاء النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) بأصول تربوية ( لبناء الفرد ) وبأصول سياسية ( لبناء الأمة ). لقد كان (صلي الله عليه و آله و سلم) قدوة هداية ، يعني : تربية وسياسة . كما قلنا ذلك من قبل .

فلم يكن النبي معلماً ، يقدم تعاليم أخلاقية فيحد الحدود ويصرح بالقيود كما يصنع الفلاسفة والأخلاقيون . كما أنه لم يكن بصدد إيجاد حكم دون الالتفات لقضية العقيدة والتربية والسلوك والأخلاق كما يفعل السلاطين وطلاب السلطة في التاريخ ، لقد كانت رسالة النبي هي منح الرسالة حاكمية : الرسالة + الحاكمية ، والحاكمية في إطار الرسالة . وهذان الاثنان لا يقبلان الفصل . فلا يتسني لقائل أن يقول ، إننا نهتم بالرسالة ونحفظها إلا أننا لا شأن لنا بالحكم والحاكمين . فهذا خيال ساذج وسفه خطير . حيث إن الحكام لا يسمحون لتلك «السيادة» أن تحفظ الرسالة ( وبتعبير البعض : بيضة الإسلام ) . كما لا يتسني لشخص آخر أن يقول ، نحن نعطي لحكم الدين استقراره دون الالتفات للأخلاق والأحكام والالتزامات الإسلامية ، فهذه أيضا ضربة كبري ومؤامرة خطيرة .

يتحتم أن يكون الدين فعالا في الوسط الاجتماعي . وفعالية الدين في الأمة تتجسد بإجراء أحكامه ، سواء الأحكام الفردية منها « التربوية » ، أم الأحكام الاجتماعية « السياسية » . وتجسيد الأحكام يتطلب ضامنا تنفيذياً . والسلطة هي الضمانة التنفيذية. إذن، لا بد للدين من التوفر علي السلطة، والسلطة لا تتم إلا عبر الحكم ، إذن يتحتم أن تكون للدين حاكمية وتكون القوة السياسية من نصيب الدين . وبإيضاح آخر :

الدور الأساس في إدارة المجتمعات تلعبه بدءا المراكز التربوية ، بغية منح الدين إمكانية النفوذ ونقله عبر الأجيال . والسيطرة علي المراكز التربوية إنما تتيسر بالسيطرة علي مراكز القدرة السياسية فقط . وكل ذلك يكمن في التوفر علي تنظيم وتشكيلات تنظيمية . ويكمن التوفر علي تشكيلات وتنظيم في التوفي

ص: 245

علي قيادة مقتدرة وتحلي الجماهير بطاعة القيادة . الدين عين السياسة يعني : وحدتهما في ضرورة اتباع نائب الإمام عند عصر الغيبة ، يعني ما نقول : من أن غيبة الإمام يمكن جبرانها بالمتيسر مع وجود نائب الإمام ، وأن الأمة لم تنس ، ولم تترك بلا محور هداية وإنقاذ .

إن لدي أولئك خوفا مستمرة من فعالية الدين في الوسط الاجتماعي فيشيعون مفهوم « فصل الدين عن السياسة ، وهذا الفكر كفر فاضح(1) ، إذ إنهم يعلمون أن الدين حينما يفصل عن السياسة ، فسوف ينحسر عن مراكز القوة ، وحينما ينسلخ عن مراكز القوة فسوف تكون فعاليته كلا شيء.

فأنت لا تستطيع أن تربي ولدك كما تريد . لا تقدر علي حفظ شرفك . لا تستطيع أن تكتب تاريخ رسولك في مكان . لا يتسني لك الحصول علي طعام طاهر وحلال من السوق . لا تستطيع أن تجر نفسا إزاء إهانة مقدسات دينك ، لا تقدر أن تخطو خطوة ضد الظلم . ولا تستطيع أن تأمر أمراً بمعروف ، أو تنهي نهيا عن منكر ، وإلي أين المصير؟ هو ما قلت : إنه لا شيء. هؤلاء الذين يقولون إن الدين عن السياسة منفصل يريدون ذلك ، يعني يبتغون إذابة الدين وعبودية المسلمين ، يعني : يريدون محو الإسلام وشوكته وعزته وسحق حرية المسلمين ، ويبتغون حرية للفحشاء والمنكر !

وأنت أيها المسلم ، لا تبغي هذا الوضع ، فلا تترك خندقك ولا تنسحب عن الميدان ! سرح الفكر وتأمل في ما مضي ، ولا تخسر هذه العزة والمنعة !

وواضح لا بد أن تضع التقوي والعدالة والمحبة والإنصاف في رأس قائمة أعمالك ، في عين اقتدارك ومنعتك !

ص: 246


1- أعبر عن هذا الطراز من التفكير ( فصل الدين عن السياسة ) ب ( الكفر الفاضح ) لأن هذا الطراز الفكري يعني أن الله حكومة علي الفرد ، وليس له حكومة علي الأمة . ولا بد أن يدير السياسيون شؤون الأمة سواء كانت أحكامهم وبرامجهم منسجمة مع أحكام الله أو كانت علي خلافها ، وهذا كفر وشرك ، إذ يقبل الإنسان حاكميتين : حاكمية الله وحاكمية غير الله . وهذا عين الخروج عن حكم الله والخضوح لحكم الطاغوت . فالكثير من الأفراد الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة يعرفون أي شيء يقولون ولمصلحة من - كما أشرنا آنفا - والبعض يجهل ما ينتهي إليه هذا التفكير من نتائج !!

7- لا إمكان للتجزئة في القيادة

يمكن أن تكون المسألة التي أروم طرحها الآن قد اتضحت بعد التأمل بما مضي بدءاً من الفصل الحادي عشر حتي هذه الفقرة ، إلا أن التذكير بها نافع ويمكن أن يكون استذكارة لها .

القائد الرسالي لا يمكنه أن يكتفي بأداء بعض مسؤولياته ومهامه ، فمثلا : يلتزم ممارسة المهام التربوية ، ويغض النظر عن الأمور السياسية . وبعبارة أخري : يكتفي ببيان الأحكام ، ولا هم له سواء أمكن الناس تجسيد هذه الأحكام عملياً أو لم يمكنهم ، وسواء سمح للجماهير أن تجسد هذه الأحكام عملياً في نفسها ولدي أبنائها وعوائلها وأعمالها وممارساتها وغير ذلك من الأمور ، أم لم يسمح !

إذا كان القائد الديني في منأي عن هذه المسؤوليات ولم يعد ملجأ للأمة فسوف يكون في منأي عن المسؤولية وتشخيص المسؤولية ، وأجنبياً عن مركز « النيابة عن الإمام » .

الاكتفاء ببعض مسؤوليات القيادة وترك البعض الآخر سوف يؤدي - نفسه - إلي التفريط بذلك البعض الذي امتد نظر القيادة له . فالمهمة التي تنطوي علي مفردات مترابطة يعني رفع اليد فيها عن بعض هذه المفردات: رفع اليد عن كل مفردات المهمة ( لأن الأمر هنا كما يصطلح الأصوليون « أقل وأكثر ارتباطيين » ).

افترض علي سبيل المثال : أن الدين حاكم في المساجد ، وليس كذلك في المدارس ؛ ويكون حاكماً في المنابر وليس كذلك علي مفترقات الطرق ، أن يكون الدين حاكما في البيوت ، وليس كذلك في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية ؛ أن يكون الدين حاكما في الأسواق ، وليس كذلك في الثانويات والجامعات ؛ يحكم في التكايا ، ولا يحكم في المذياع والتلفزة ؛ أن يكون الدين حاكما في الكتب والنشرات الدينية ، وليس كذلك في الجرائد والمجلات وسائر ما يخرج من عالم الطباعة ؛ أن يحكم في وزارة الأوقاف ولا يحكم في

ص: 247

وزارة العدل ؛ أن يحكم الدين في الهيئات والمواكب الحسينية ، وليس كذلك في ثكنات الجيش ؛ و....

فهل يحفظ الدين بهذا السياق ، وهل يبقي الدين والتدين علي قيد الحياة ؟ وهل ما فرضنا آنفا مقبول - من وجهة نظر الإسلام - وهل يصح أن يكون الدين حاكما في بعض مرافق المجتمع الإسلامي ويراعي فيها الدين وأحكامه ، ولا يحكم في مرافق أخري ، ولا يراعي ؟

وإذا كان الأمر كذلك فسوف يبتعد الدين - شيئا فشيئا - حتي عن هذه المرافق التي يحكم فيها . ففي الماضي حينما كان المتدينون في معزل عن السياسة ، هل استطاعوا أن يكون لهم قرار تربوي ؟ وهل استطاعوا أن ينشئوا ويربوا أبناءهم - كما أمر الإسلام - ذكورا وإناثا ؟

في أفق آخر ... لو لم يك للأمة قائد واحد ولم يحكم خط واحد سياسة الحكم فسوف يخلف هذا الوضع متاعب باهظة ، إذ تحكم العقائد والمسؤوليات الدينية حكماً ، ويصدر الحاكم حكماً آخر . وفي ظل هذا المجتمع ، ماذا يصنع المسلمون الملتزمون برسالة الإسلام ؟ فسنين طوال مرت حتي الآن والتكليف الشرعي لكل مسلم(1) ، هو النضال ضد الدولة العميلة والغاصبة الجانية « إسرائيل » . فإذا كنت - أنت المسلم - عاملا في حقل التجارة ، وكنت تحت ظل حكم لم تك سياسته الاقتصادية سياسة إسلامية ، وله علاقات واسعة مع «إسرائيل » ، فماذا تصنع ؟ فهل تتعاون مع الدولة في استيراد وبيع السلع « الإسرائيلية » ، وهل تبقي مسلماً حينما تتعاون ؟

فأنت تستورد سلع بل وتبيعها ، وهذا البلد يشتري بأموالك أسلحة فيقتل إخوانك وأخواتك ويحرق مسجد الأقصي ، فهل أنت مسلم بعد ذلك ؟ ... وقد كان هذا مثلا ، فقس عليه كل شيء ! .

ص: 248


1- بل تكليف إنساني بعهدة كل إنسان .

إذا لم يك للدين اقتدار سياسي فلا قدرة له(1) ، لا قدرة بقاء ، ولا اقتداراً علي أن ينتقل عبر الأجيال - كما قلنا ذلك من قبل - فلا بد أن يحكم المجتمع المسلم خط واحد وهو خط الدين ، في هذا الضوء ينبغي للقائد الرسالي أن يكون له حضور علي المستوي التربوي والسياسي معاً . يتحتم أن يكون الخط الفكري ، التربوي ، السياسي ، الإداري ، الإقتصادي ، الفني ، العسكري - كل ذلك أجمع - في مجتمع المسلمين خطاً إسلامياً .

يتحتم أن تكون الحاكمية من نصيب الإسلام في جميع هذه الخطوط ، في نفس الوقت الذي تحترم فيه المباديء الأخري. يمكن أن تكون هناك مباديء وأفكار جاهلية في المجتمع الإسلامي ، ولكن لا يمكن أن تكون حاكمة . فالحاكمية في مجتمع المسلمين من نصيب الإسلام . وهذا شأن كل مجتمع فكري « أيديولوجي »(2) .

في هذا الضوء ننتهي بوضوح إلي أن القيادة الدينية لا تقبل التجزئة . فإذا

ص: 249


1- تحسن ملاحظة ما جاء من أفكار حول ضرورة إقامة الحكم الإسلامي في كتاب « في انتظار الإمام » .
2- ما قلناه يمثل ما ينبغي أن يكون ، لا ما هو كائن بالفعل في كل أرجاء العالم . بعبارة أخري : يتحتم في ظل مجتمع أيديولوجي أن يكون الحكم نصيبا للاتجاه الفكري الغالب في ذلك المجتمع ، وتبقي الأفكار والعقائد والأخري حرة علي مستوي الفكر والعقيدة ، إلا أننا نلاحظ أن الأمر ليس كذلك، فهناك مجتمعات ونظم عدة تطرح نفسها بصفة ثورية، وتسمها بالوقوف إلي جنب الإنسان وحقوقه ، وتسحق العقيدة والفكر المخالف تحت ظل إرهاب لا نظير له ، فتضرب علامة «×» علي الإنسان والإنسانية ، رغم كونها تمتلك إمكانية التمويه الإعلامي علي ممارساتها . فتغري أحيانا بعض الشباب الساذج باطلا وزوراً . وأحياناً تسلط بعض تلك الدول حفنة علي رقاب شعوب أخري ، ثم تنزل قواتها العسكرية علي أرض تلك الشعوب دون أي حق ، وتستجيب لحقوق وعقائد الجماهير الإنسانية بالحديد والنار !! والغريب هنا أن هؤلاء مع هذه الممارسات - كالتدخل السوفييتي في أفغانستان - يرفعون عقائرهم ونداءاتهم حينما ترفض - في ظل النظام الإسلامي - المعارضة المسلحة لأتباعهم الداخليين ! وإنه لوضع ساخر مثير للدهشة ، ومؤشر عدواني .

كان القائد قائدا فهو قائد في جميع المرافق وإلا فلا(1) . ومن هنا تتضح مسألة مهمة أخري . وهذه المسألة هي أن نائب الإمام بحق هو فرد يمكنه التوفر علي الشجاعة والبصيرة لإدارة المجتمع الإسلامي في كل مرافقه ( التربوية والسياسية ) وقيادته(2) . وفي غير هذه الصورة يمكن لشخص أن يكون فقيها وأستاذاً لعلماء البحوث العليا ، وقد حرر رسالته العملية ، إلا أنه لا يمكنه أن يكون بهذا المقدار قائداً ونائباً عن الإمام . يتحتم أن يكون القائد ونائب الإمام « عالماً ربانياً » ، يعني : يتحتم أن يكون محيطاً بتلك الجهات(3) . مضافاً الفقاهة وللتوفر علي الحياة الروحية والتقوي الداخلية ، الحياة الروحية والتقوي القلبية أمر وراء العدالة في مصطلح الفقه . لاحظوا بدقة !(4) .

8- وحدة المحاور في المجتمع الإسلامي

للنظرة الكونية الإسلامية مضمون جوهري عميق وهو وحدة هذه النظرة في كل جوانبها . ففي ضوء النظرة الكونية الإسلامية لا يلزم الإنسان - بعد تحصيله علي إيمان وعقيدة ، وتوفره علي رؤية كونية إسلامية ، وعلي مستوي من التعليم والتربية الدينية - أن يذهب لتحصيل عقيدة سياسية ، ونظام فكري سياسي

ص: 250


1- الفت النظر هنا إلي أنه يمكن هذا اليوم أن تكون القيادة و الجامعة الشاملة ، علي نهج الشوري ، وواضح أنه في عين شوروية القيادة فهي قيادة واحدة ، ولها موقف واحد، وهو : الموقف الإسلامي .
2- الفت النظر هنا إلي أنه يمكن هذا اليوم أن تكون القيادة و الجامعة الشاملة ، علي نهج الشوري ، وواضح أنه في عين شوروية القيادة فهي قيادة واحدة ، ولها موقف واحد، وهو : الموقف الإسلامي .
3- الفت النظر هنا إلي أنه يمكن هذا اليوم أن تكون القيادة و الجامعة الشاملة ، علي نهج الشوري ، وواضح أنه في عين شوروية القيادة فهي قيادة واحدة ، ولها موقف واحد، وهو : الموقف الإسلامي .
4- (4) استخدم في هذا البحث مصطلح « العالم الرباني » في تعريف ونائب الإمام ، بدلا عن « المجتهد العادل » ، وأظن أن التعبير السليم هو ما استخدمه هنا . فمفهوم « العالم » أشمل وأكثر سعة من مفهوم « المجتهد » في المرحلة الأخيرة فكما أن استخدام كلمة « الرباني » جاء لاستيفاء القيود الأربعة التي وردت في الرواية : « 1 ۔ صائنا لنفسه ، 2۔ حافظا لدينه ، 3- مخالفاً لهواه ، 4۔ مطيعا لأمر مولاه » . فقد استخدم علماؤنا الكبار مصطلح « الملكة القدسية » أيضا . وهذا الاستخدام عين ما أردناه من الحياة الروحية والقلبية ، إذ العدالة بمعني ( ترك ارتكاب الكبيرة ، وعدم الإصرار علي الصغيرة ) حينما توضع جنب المصطلح أعلاه تكون مرتبة أدني منه . علي أية حال ، فلا بد من السنخية بين النائب والمنوب عنه . وتكمن هذه السنخية في تمنع العالم بالحياة الروحية ، وكونه عالماً « ربانياً » ، ولا تكمن في حفظ المصطلحات والبحوث ، والتحقيق فيما حولها . بل لا تكمن أيضا حتي في العدالة بمعناها الاصطلاحي .

واجتماعي ، لكي يحدد موقفه الاجتماعي والسياسي ويستبصر مسؤوليته وتكليفه . فالإنسان المؤمن ، بمجرد توفره علي العقيدة الإسلامية ، يضحي صاحب عقيدة سياسية أيضا . فهو بمجرد وروده لميدان الفعالية السياسية والأجتماعية بوصفه مسلماً يكون تكليفه واضحاً ومحدداً : لا بد أن يبايع حكم الله ، وينضم إلي صف المجاهدين في سبيل الله .

فإذا كان يعيش في زمن حكم غير إسلامي فلا بد له من المواجهة والثبات إزاء هذا الحكم بمقاومة تامة . وإذا كان يعيش في زمن حكم إسلامي يتحتم عليه أن يتعاون مع هذا الحكم بإخلاص كامل .

في هذا الضوء لا وجود لمحاور متعددة في ظل مجتمع يتوفر علي نظرة كونية إسلامية . بل تتمركز كل المحاور في محور واحد : المحور العقيدي ، السياسي ، الاجتماعي ، التربوي ، العسكري ، الثوري ، و... وفي هذا الضوء يحكم الأمة باستمرار خط واحد. وتتعبأ وتستثمر كل جهود وطاقات الأفراد باتجاه واحد ولأجل هدف واحد .

إذن في ظل هذه النظرية الكونية ، والنظام العقائدي والعملي لا مجال لأي لون من ألوان الثنائية والتعدد ، وثنائية الاتّجاه . فالإنسان في عقيدته ، وفي اتخاذه للقرار ، وفي تحديده للموقف ، وفي حركته الناهضة ، وفي تضحيته وإيثاره ، وفي تعاونه وإخلاصه ، وفي كل ممارساته الفردية والاجتماعية يتحرك صوب هدف واحد وله وجهة واحدة ، بدءاً باللحظات التي يصلي فيها حتي ميادين الفعاليات الاجتماعية ، فكل أعماله علي طريق أداء التكليف الرسالي ، والله وعلي سبيل الله :

لماذا تصلي ؟

لماذا تدرس ؟ لله .

لم تعمل في حقل الطب ؟ لله .

لم ترد ميدان النضال السياسي ؟ لله .

لم تمارس مهنة التجارة وتجلب السلع وتضعها

ص: 251

في خدمة أبناء المحلة ؟ لله .

لماذا تزرع ؟ لله .

لم أصبحت صحافياً ؟ لله .

لماذا تشتغل في حقل المسرح والسينما ؟ لله.

لم أصبحت كتبياٌ ؟ لله .

لم تشتغل بجانب مشعل التنور ؟ لله .

لم تصنع الأسلحة ؟ لم تذهب إلي جبهة القتال ؟ لله .

لم تَقْتُلُ ؟ لله.

لم تُقْتَلْ ؟ لله .

و... و... و... (1) .

فهذه هي الروح وروحية الإنسان المسلم في أي موقع وعمل وفي أية خدمة ومسؤولية . وهنا يكمن سر الوحدة العميقة في وسط المجتمع المسلم . وعبر هذا النظام المنهجي تضمن كل أبعاد الروح الإنسانية ، وكل مظاهر السعي الفردي والاجتماعي ، ولا تبقي أية زاوية من زوايا النفس في الخلاء . ففي ضوء هذه الرؤية الكونية ولدي هذه التربية يتحرك الإنسان في كل موقع كان ، وبأي إمكانات علمية وعملية تمتع ، وعبر أي تحرك ثائر خلال وجوده الإنساني المحدود صوب الوجود الإلهي غير المحدود ، يتحرك حركة من الحضور الدائر في الأنية إلي الحضور الأبدي الخالد .. وبتعبير آخر : حركة من الحضور في ظل أيام الزمن الزائل إلي الحضور في ظلال الدهر الثابت .

ص: 252


1- وحينما يكون البناء علي أن كل عمل يقع لله ، فلا بد أن تؤدي كل الأعمال علي وجهها السليم ، وتخلو من كل مخالفة وخطا . وإذا كان فيتلافي - ، ويسدّ الطريق فيها علي كل أنانية ووثنية ذاتية ، ويلتزم الإنسان علي الدوام ، ليكون قلبه - في كل عمل - متجها صوب الله ، ويخلص نيته ، ليكون العمل «لله » .

الفصل الثالث عشر: الانتظار

اشارة

ص: 253

ص: 254

الانتظار ..

1- الانتظار ؟

الانتظار : لفظ عميق ، ومعنيً أدق ..

الانتظار : عقيدة ثائرة ، وثورة في عقيدة ...

الانتظار : أمل ببشري ، وبشري بأمل ...

الانتظار : صرخة مدوية ، ودوي في صراخ ...

الانتظار : فجر في حماسة ، وحماسة في فجر ...

الانتظار : آفاق في حركة ، وحركة في آفاق ...

الانتظار : فلسفة شامخة ، وعقيدة عظمي ...

الانتظار : إيمان في مقاومة ، ومقاومة في إيمان ...

الانتظار : التواضع أمام الحق ، والتكبر علي الباطل ...

الانتظار : نفي القيم الواهية والتعالي علي القدرات الوهمية ...

الانتظار : إزهاق أنظمة الحكم والحكومات ، وتزييف السلطات والحاكميات ...

الانتظار : التمرد علي الظلم والعدوان ، والتمهيد لحكومة العدل والقسط ...

الانتظار : صفعة علي صدر كل باطل ، وصليٌ الطلعة كل ظلم ...

الانتظار : شعار المقاومة ، ورعشة العصيان واليقظة ...

الانتظار : إشارة(*) علي كل كفر ، ونفاق .، وظلم ، وتجاوز ..

ص: 255

الانتظار : تفسير علي دم الفجر والشفق ، ويد باتجاه الفلق ...

الانتظار : بركان في العصور ، وصرخة في الآفاق ...

الانتظار : دم في شريان الحياة ، وقلب في صدر التاريخ ..

الانتظار : فأس إبراهيم ، عصا موسي ، سيف داود ونداء محمد ...

الانتظار : صرخة علي ، دم عاشوراء ، ومسيرة الإمامة ...

الانتظار : خط الحماسات الدامية في وعاء الشمس الذهبي ...

الانتظار : الصلابة ...

الانتظار : لا ...

ص: 256

من الممكن أن يستطيع أولئك الذين يحسنون الإدراك أن يكونوا مبشرين لفرد - ونحن لسنا سبيلا للوصول إلي حلقة شلبيه - ويمهدون الطريق لظهوره .

« نيتشه »

في طيات الظلمات والركود ، يرقبون تنفس الفجر ، ويحيون علي أمل شروق الشمس .

في جو الاختناق ، ومع تكدس الأدخنة القاتلة ، يأملون هبوب نَسَم الحياة ، والخلاص . ويبقون أحياء رجاء بزوغ فجر الأيام الذهبية للقيم الخالدة .

في مغارب مظلمة الطراز غارقة باليأس المثقل يحلون ، وطلوع الفجر الممزِّق لحُجب الآفاق بشري يغذونها في قلوبهم .

حيث تعشعش دياجي الظلم النافث دياجيره علي أرجاء المعمورة ، يجدون أنفسهم لتبقي الروح مشرقة وضاءة تتطلع لحلول يوم الأيام .

في فسحة عن العالم الآسن بالظلم والعدوان ، تمتليء نفوسهم بالسرور لإشراقة طليعة العالم المملوء بالعدل والقسط .

في عهود أنظمة حكم جبارة وسفاكة يعيشون ، ولم يطأطئوا رأساً بالتسليم حتي لحظة واحدة .

يحلون تحت سيل الضياع والفساد الجارف ، ولم ينحرفوا آناً . في السود من أيام الظلمة والظلم والذنب يقدمون أسري ، وينتظرون

ص: 257

باستمرار الطلوع الدامي لشمس الخلاص .

السيف والشهادة كانا مورد قبولهم ، وكانوا للخط حماة بشهامة .

في مواجهة جبل المشكلات المعاصرة : يحتلون موقعهم ، وهم كالجبل الراسخ في المقاومة .

في تيار الزمن المتلاطم يصمدون ، ويعدون « نعم » تعني الذلة ، فيقولون : لا ، لا .

هذا هو الانتظار ، الشعار الثائر الذي رفعه المنتظرون ، المقاومون ، رجال الصمود من أبناء التشيع ، عشاق المهدي في التاريخ ، هذا هو الانتظار ...

2- الانتظار ، آفاق مقاومة

هنا وتحت هذا السقف الشامخ ، وعلي طول تاريخ الإنسانية تحدّثوا عن العدالة كثيراً ، وما قاله المصلحون العظام والحقوقيون المخلصون كان كله حديث عن العدالة الاجتماعية ، يعني : إجراء العدالة في وسط المجتمعات البشرية وفي الحقوق الاجتماعية ، غير أن العدالة واقع عظيم آخر ، وقد كان هذا الواقع باستمرار في خانة النسيان إلاّ في تعاليم الأنبياء .

العدالة ، قبل أن تطرح علي المستوي الاجتماعي لا بد وأن تطرح علي مستوي النفس البشرية ، فكل نفس وروح لا بد أن تكون عادلة ، وإن تجلّي العدالة في ذاتها . ونحن نطلق علي هذا المستوي « العدالة الأنفسية ». العدالة الأنفسية يتسني لها أن تتجسد حينما يبتغي الإنسان العدالة لسائر موجودات العالم ، وفي كل أرجائه ، من الكائنات الحية حتي النبات الطبيعي ، والمظاهر الطبيعية الأخري ، وأن تتحرك العدالة وتجري في كل هذه الظواهر، ونحن نطلق علي هذا المستوي « العدالة الأفاقية ». إذن يتحتم السعي باستمرار التحقيق العدالة الآفاقية والأنسية ، إذ حينما يتسني للعدالة الآفاقية والأنفسية أن تتحقق فسوف يكون تحقق العدالة الاجتماعية - حيث لم تستطع البشرية رغم تقدمها أن تقترب بنفسها من هذه العدالة ، بل أصبحت بمرور الأيام أكثر نأياً عنها - أمراً مُنجَزاً ، وقد تجذرت أوتاده في الواقع .

ص: 258

وحيث إن العدالة الآفاقية والأنفسية كمال البشرية العظيم ، فالتوفر عليها أيضا أمر عسير ، تقف في طريقه باستمرار موانع كثيرة ، منها الذاتية : من الميول والرغبات ... ، ومنها الموضوعية : من قوي العدوان ، والفساد ...

وحيث كان الأمر كذلك عزّ علي البشر أن يكون موفقا للإمساك علي تلك العدالة الشاملة بأنامله ، وأن يكون هو نفسه عادلا بذلك المعني .

انحصر اقتراح العدالة المذكورة بسبل الأنبياء ، وكان ذلك الاقتراح باستمرار مواجهاً بمقاومة ، خصوصاً من قِبَل قوي الفساد والطغيان التي لا تريد للإنسان أن يكون حراً . تلك العدالة تأتي بالانعتاق والحرية ، وتقضي علي العبودية وتذهب بالقيود والأغلال ، وهذا هو ما لا يروق لقوي الطاغوت والاستعباد ، وما لا يريدونه . فهؤلاء الذين يصبون للركوب علي أكتاف المحرومين ، لا يريدون أن يكتشف الإنسان ذاته ، ويعود حراً ، ويستقيم عادلاً ، مقارعاً للظلم .

يستهدف منتظرو المهدي (عليه السلام) الآن - وعلي طول تاريخ الانتظار - الهدف الذي ذكر ، يعني : تحقق العدالة الشاملة في الآفاق وفي الذات ، العدالة التي يريدها الأنبياء ، وعلمها الأئمة الأوصياء . في هذا الضوء فانتظار هؤلاء مهما طال به الزمن ، وأيّ مقاومة استدعي ، وكلما اتسعت آفاق المقاومة في طريق هذا الهدف الكبير ، في نصابه وبمحله .

بدء بهجرة النبي صوب المدينة ، حتي ضربات سيف علي في صفين والنهروان ، وانتهاء بملحمة عاشوراء المشرقة ، وإلي كل جهاد وشهادة في طول قرون الانتظار ، كل هذا بأجمعه يزف الأمل ببلوغ الإنسان أهدافه ، وبإشراقة الشمس ، ونشر العدالة الشاملة . هذه آفاق المقاومة الواسعة في ميدان تعالي الانتظار علي طريق تحقق أهداف إبراهيم وموسي و... ومحمد وعلي و. .

3- الانتظار دعوة للحماسة والإقدام

لا ينبغي توهم انتظار الظهور ، وترقب المهدي الموعود بالشكل الذي

ص: 259

ينتهي إلي رفع اليد عن حركات التغيير والإصلاح ، وملاحم التحولات الاجتماعية الإلهية . والأمر ليس كذلك أبداً.

الانتظار دعوة إلي الرفض ، لا إلي الاستسلام ، رفض الباطل والظلم والعبودية والذلة .

الانتظار راية المقاومة الراكزة في مواجهة كل باطل وظلم وكل ظالم .

تحكي النضالات المستميتة وتنطق حمامات الدم علي طول تاريخ التشيع بوثيقة مفادها : أن ليس هناك طريق لأي مداهنة وخوار في هذا المذهب الشيعة حينما يعيشون في إطار الانتظار، يعني انتظار انتصار الحق علي الباطل ، وغلبة العدل علي الظلم ، وانتصار العلم علي الجهل، والحصافة علي السفه ، وغلبة التقوي علي الذنب ، وانتصار البصيرة علي العمي يجدون استعدادهم باستمرار للمشاركة في الحركات المقدسة الطاهرة ، ويحملون بأيديهم مشعل النضال العظيم ، وهم يستعيدون ذكريات التاريخ الدامي ، ومجد ملحمة جند التشيع المضحين .

سنقول في نفس هذا الفصل : إن الشيعة بوصفهم منتظرين ، قد صدر لهم التوجيه الملزم بإعداد سلاحهم علي الدوام . ولا بد أن يكون الأمر بذلك .

فأنت إذا كنت منتظرة لمجيء شخص ينشر العدالة والقسط ، فهذا يعني أنك مؤمن بقضية العدالة والقسط ، وكل شخص يؤمن ويعتقد بأي قضية فله التزام إزاءها أيضاً .

علي هذا الأساس ، فهذا الإنسان المؤمن المعتقد بالعدالة والقسط ، والملتزم بإجرائهما ، كيف يقعد صامتاً في ما ينصرم من سني عمره ، ويتحمل كل ألوان الظلم والعدوان ، ويضع التزامه وأهدافه الرسالية جانباً ، حتي يتحقق ظهور المهدي ، ويأتي المصلح الموعود ليجسد الالتزامات والمعتقدات بعد سنين وقرون ؟! كيف يكون الإنسان الملتزم المؤمن علي هذا النهج ؟ وكيف يحيا المجتمع المؤمن الملتزم علي هذا النهج ؟ فالذي يؤديه المصلح الموعود

ص: 260

وأنصاره إنما هو تكليفهم يوم الطهور ، ونحن ما هو تكليفنا نحن هدا اليوم ؟ وإن الم نؤده ماذا سيكون ؟

كلا ، إن السكوت والتماهل ليس مُبَرِّرأ .

الانتظار دعوة للحماسة والإقدام ، وهداية صوب الحركة والقيام . وكما قالوا : « تَجَنُّبُ الحرب ليس وسيله لقدوم الرجل العظيم » .

4- الانتظار ، اسم « القائم » ، والقيام

اشارة

كيف تسمح عناصر لنفسها أن تغض الطرف عن جزء من التعاليم الرفيعة للتشيع الصامد الدامي ، وتفسرها تفسيرا غير ملتزم ، محاولة إخفات الشعاع الإلهي لهذا الخط المقاوم ؟ .

هؤلاء ليسوا رجال ملاحم النضال ، فخير لهم أن يقولوا : « نحن لسنا أهلاً لهذه الممارسات » لا أن يقولوا : « إن هذه الممارسات ليست تكليفاً إلهياً » .

أين ومتي كان تكليف المسلم هو القعود والذلة ، في أي موقع كان تكليف المسلم القعود ، لتذهب كل القيم أدارج الرياح ، حتي دينه وشرفه ؟! .

أين كان تكليف المسلم الخضوع لسلطان الكافرين ، مع أن القرآن ينادي :

( ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا )(1) .

الأمة التي تنتظر هادياً يأتي ليسقط الظالمين ، الهادي الذي يلقب فيما يلقب ب « القائم ، والإنسان المنتظر في هذه الأمة حينما يسمع هذا الاسم - في أي وقت - يقوم وينهض . كيف جرّ البعض هذه الأمة ، بما لها من نهج شامخ ،

ص: 261


1- سورة النساء : 141 .

للقعود والرضا بالذلة ؟ والآن أيضا كيف يريد البعض أن يجرها للقعود والرظ بالذلة ؟ كيف ؟

ذكروا مفاهيم كثيرة في تفسير ظاهرة القيام حين ورود اسم القائم علي الألسن ، من جملتها أن هذا الاحترام يفضي إلي حظوة القائمين بلفتة ورعاية خاصة من الإمام القائم . غير أنه لا ينبغي إغفال الحكمة الاجتماعية ، والروح الثوري الذي ينطوي عليه القيام . استعداد الأفراد في كل وقت للقيام ، والنضال ، والجهاد علي طريق تحكيم العدالة العالمية ، وحفظ حقوق الإنسانية له أهميته المتناسبة مع الهدف .

الشيعة منتظرون . بل كل مسلم ينتظر في عصر الغيبة ، ولا بد أن يكون له مثل هذا الهدف ، ساعياً بمختلف الوسائل علي طريق تجسيده العملي ، إلي الحد الذي يتوفر فيه علي التأهب والإستعداد ، معرباً عن هذا الإستعداد حيث يذكر اسم قدوة القيام « القائم » .

فينهض هناك قائماً ليدلل علي تهيئة الشامل علي الدوام ، ويعمق هذا المفهوم في نفسه ولدي الآخرين .

هنا يحسن بنا الإصغاء إلي حديث آية الله السيد محمود الطالقاني - رحمه الله - :

من الممكن أن لا يكون هذا التحضيض علي القيام لغرض الاحترام ، وإلا فلا بد من القيام احتراماً عند ذكر اسم الجلالة ، أو اسم الرسول ، أو أولياء الله المكرمين .

بل هو تحضيض علي الاستعداد ، وتوفير مقدمات النهضة العالمية ، والوقوف علي خط المواجهة لنصرة الحق ... ، دون أي أثر للتشاؤم والعزوف عن الخدمة الاجتماعية العامة ، والتلكؤ عن القيام بالأعمال الصالحة ذات النفع العام .

إذن إلفات أنظار الجماهير لمستقبل زاهر بقيام دولة الحق ، والتبشير بتطبيقٍ شامل للعدالة الاجتماعية ، وإقامة حكومة

ص: 262

الإسلام ، وظهور شخصية إلهية بارزة تؤسس وتقود هذا الحكم والدولة ، جزء من تعاليم رسل السماء ، وأضحت في نهج التشيع - الذي قام بدور أساسي في حفظ نيم الإسلام - جزءاً من أجزاء العقيدة . وقد قدم رجال هذا النهج إيضاحاً تفصيلياً في هذا الصدد ، وحضوا أتباعهم علي انتظار ذلك اليوم ، بل اعتبروا انتظار الظهور عبادةً . لكي لا ينحرف المسلمون أتباع الحق ، علي أثر الظلم وعدوان الحكام المتجبرين ، وتسلط دول الباطل، وعلي أثر التحولات الاجتماعية الضخمة ، وهيمنة الاتّجاهات المادية سواء الشرقية أو الغربية ، وبغية حصانة معنوياتهم من التميع ، وحفظ وحدتهم الاجتماعية .

فهذه العقيدة نفسها هي التي أبقت المسلمين حتي يومنا متفائلين متطلعين فاعلين . إذ إن كل تلك الضغوط والكوارث التي حلت بالمسلمين - بدءاً من سيطرة الأسر المنحطة وانتهاءً بالحروب الصليبية ، والغزو المغولي ، وديكتاتورية الأنظمة الاستعمارية العادية - لو نزلت بساحة أي أمة فسوف لن يبقي لها أثر علي الأرض .

إلا أن الرسالة ، التي دعت نماذجها الحقة للقيام حيث يذكر اسم « القائم » باني دولة الإسلام الواقعية ، وأكدت علي جماهيرها بذلك ، لتعلن استعدادها لأداء كل المستلزمات ، وتشير لاقتدارها الدائم ، لا تموت أبداً .. (1).

ص: 263


1- راجع مجلة « الحكمة » فارسية ، العدد 21، السنة الثالثة .

5 ۔ الانتظار الأبعاد الرسالية -1

في ظل هذا الانتظار الرائع العظيم تتحرك الأبعاد الأصيلة للرسالة ، الأبعاد العقيدية والعملية أيضاً . ونشير هنا إلي الأبعاد العقيدية ، وفي الفقرة التالية نعكف علي الإشارة للأبعاد العملية .

أ- البعد التوحيدي

أحد أبعاد الانتظار الهامة ، والذي يجب الالتفات إليه باستمرار هو « البعد التوحيدي ». الانتظار بطبيعته يوجه الإنسان المنتظر نحو مبدأ العالم ، وإله الكون ، ومصدر كل ألوان الوجود . إذ إن الإنسان المنتظر يرقب سبيل الخلاص الذي سيتحقق بفعل القدرة الإلهية المطلقة . والمنتظرون يرقبون سبيل المهدي (عليه السلام) .

من هو المهدي ؟

هو عبدالله ، ووليه ، وخليفته في الأرض ، حي بقدرة الله ، وعاكفٌ علي عبادته ، ومطلٌّ علي أوضاع العالم ، وسوف يظهر يوماً بأمر الله ليقر دين الله حاكماً ، وينقذ المجتمع البشري .

لاحظوا أن التوجه في ظل فكرة المهدي ذاهب صوب الله تعالي باستمرار . وهذا هو البعد التوحيدي للانتظار . التعلق بالله والتماس الفرج منه أهم أصول هذا الإيمان ، وهذه العقيدة . لا بد للمنتظرين من التعلق دائماً بساحة الكبرياء الإلهية ، وتوجيه الفؤاد صوب الله ، طالبين الفرج والفسحة من الساحة الأزلية . وهذا النهج علمنا إياه القدوة الصالحة ، فالنبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول :

«أفضل أعمال أمتي ، انتظار الفرج من الله . عزَّ وجلَّ »(1) .

ويقول علي (عليه السلام) :

ص: 264


1- بحار الأنوار ، ج 53، ص 128 ، نقلاً عن إكمال الدين ، ج 2 ص 357 - 358 .

« أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله »(1) .

ب - بُعد النبوة

البُعد الأخر للانتظار هو التعلّق بالأنبياء ورسالتهم ، وتجديد العهد معهم ، وكذلك الارتباط مع مركز الهداية الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم). المنتظرون يرقبون سہيل رجل اجتمعت فيه صفات وآثار النبيين وحينما يظهر فسوف تري هذه الصفات والآثار فيه . فمن أحب أن يري آدم ، وشيث ، ونوحاً ، وإبراهيم ، وموسي ، وعيسي ، وداود ، وسليمان ، ويوسف ، و ... ومحمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، فيمكنه أن يراهم في المهدي .

فهو يأتي ليجسد أهداف الأنبياء ، وينشر دين الله في الآفاق ، ويحمل نداء التوحيد لكل طرف .

المهدي من أهل بيت النبي ، وابن فاطمة (عليه السلام) ، وحفيد محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) . وهو ابن علي (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) . وهو الثاني عشر من أوصياء النبي وخلفائه . وحيث يظهر فهو يحمل لواء التوحيد ، ويعمل بسنة النبي . أصحابه الأول بعدد أصحاب النبي في غزوة « بدر » ، فيكونون «313 » نفراً . أخبر النبي الأكرم عن قدومه ، وتحدّث عنه كثيراً . حيث يقوم بنشر دين جده ويحكمه في الحياة .

لاحظتم ، أن كل هذه الحقائق تلفت الأنظار صوب مبدأ النبوة ، وتؤكد مركز النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وكلها تعيد إلي الذاكرة عقيدة النبوة ورسالة الأنبياء . وقد أشير إلي هذه المفاهيم في الأحاديث الشريفة أيضاً ، وذكرت بشكل دقيق العلاقة بين مفهوم المهدي ، والغيبة ، والانتظار والنبوة ، والعلاقة الإيمانية بين منتظري المهدي والنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) . ومن جملة هذه الأحاديث ما ورد في نص الإمام الصادق (عليه السلام) الأتي :

« من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم في فسطاطه » قال الراوي : ثم مكث هنيئة ثم قال : « لا بل

ص: 265


1- بحار الأنوار ج 52 ص 131 ، نقلا عن المحاسن للبرقي. ص 262.

كمن قارع معه بسيفه ، ثم قال : لا والله إلّا كمن استشهد مع رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) »(1) . فكل هذه التعاليم توجه نحو الأصل الأساس ( النبوة ) ، وتؤكد عليه وتذكّر به .

ج- بُعد القرآن

الأمر المهم الآخر الذي لا بد لكل منتظر من أن يضعه نصب عينه هو كتاب الله « القرآن الكريم » إذ إن المهدي باعث الحياة في أحكام القرآن أجمع . الإنسان المنتظر يعيش بأعماقه هذا الهدف ، وهو : مجيء يوم تجسد فيه أحكام القرآن وتبسط حاكميتها علي أرجاء العالم، ويضحي الكتاب السماوي برنامج حياة الإنسان في الأرض ، وذلك بظهور عالمي لمهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) آخر رائد قرآني ، كما جاء التأكيد علي هذا المفهوم في أحاديث كثيرة .

في هذا الضوء ، فالارتباط بالقرآن الكريم ، والاستطلال بنوره وهداه أحد المسائل الأساسية في مبدأ الانتظار.

د- بُعد الإمامة

هذا البعد واضح بجلاء في مفهوم الانتظار . فالمهدي وصيّ الصديقين ، وخاتم الأئمة الطاهرين . ذكره الأئمة السابقون واحداً بعد الآخر . وهو ابهم ، وامتداد ذكرهم ، وإدامة خطّهم . المهدي ، هو التجسيد الحيّ المتحرك لمبدأ الإمامة ، ومحور الحركة في بحر الوجود العملاق ، وهو مشعل درب الحياة والمسؤولية .

وجود المهدي وانتظاره أضخم تأكيد علي الأصل العقيدي للإمامة والقيادة . وقد أكد القرآن علي هذا المفهوم وعلي استمراريته في سورة القدر ، كما استذكرناه في الفصل الثامن .

ص: 266


1- بحار الأنوار ج 52 ص 126 ، نقلا عن المحاسن .

وقد جاء التأكيد كثيراً في الأحاديث المباركة علي معرفة الإمام ، وخط الإمامة إبان عصر الغيبة . يقول الإمام الصادق (عليه السلام) :

واعرف إمامك فإنك إذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر »(1).

كما جاء التأكيد في أحاديث وتعاليم الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) علي اقتفاء سبيل الأئمة - في عصر الغيبة - واتباع تعاليمهم ، وعلي توليهم ( انتهاج خطهم وخط أنصارهم وعشاقهم المخلصين ) بإصرار ، والتبري من أعدائهم ، ومجانبة انتهاج خط مخالفيهم .

5- بعد العدل

اشارة

بعد العدل والقسط والتعلق به واضح أيضاً في مفهوم الانتظار . انتظار المهدي ، يعني : انتظار ظهور العدل ، العدل العالمي ، العدل في الآفاق والأنفس . المهدي تجسيد للأسماء الإلهية من قبيل الاسمين المقدسين ( يا عدل ، يا حكيم ) : فالمهدي تجسم عُلْويّ للحق ، وتجسيد رفيع للعدل .

فهو الذي يملا العالم بالعدل بعد امتلائه بالظلم ، وهو الذي يبسط العدل الإلهي في كل مكان واتجاه . وهو مظهر العدالة الشاملة . كما أشرنا في الفصل الثاني .

وبعامة فتداعي موضوع العدل والعدالة وتدويله بديهية من بديهيات مبدأ الانتظار .

الانتظار يعني ترقب درب إمام ، حيث يضع قدميه علي الدرب يملأ العالم بالعدل والقسط من بعد امتلائه بالظلم والجور .

و - بعد المعاد

المعاد ، صدور الإنسان عائداً لربه ، ليحل في عالم الخلود ، ويشرع في الحياة الواقعية . والموت بوابة هذا الدرب .

ص: 267


1- بحار الأنوار ج 52 ص 141 ، نقلا عن الغيبة ، النعماني .

من حين الاحتضار يوضع الإنسان عند مسيرة حياته الأتية ، ويبتديء عالمه الآخر . بالموت يضحي الإنسان وجودة ، وينتقل من عالم الوجود الناقص الزائل إلي عالم الوجود الكامل الخالد الخالص . يطوي براحلته المسرعة حياة هذا العالم ليضع قدمه عند محطة التحقيق في صحيفة الأعمال ، ثم يرد بعد ذلك مدينة الحياة الأبدية . مرحلة حياة الإنسان الأرضية تشبه سنة دراسية واختباراً سنوياً، ويمثل الموت اختتام جلسة الامتحان ، كما يمثل البعث والنشور يوم إعلام النتائج ومنح الدرجات ...

وبشكل عام فالأصل العقيدي الهام « المعاد » ، والرجوع المسؤول الله تعالي يحيا باستمرار في مفهوم الانتظار . وتبرز هذه الحيوية والحضور في ثلاث جهات :

الجهة الأولي : حيث إن المهدي (عليه السلام) يعاقب الظالمين - حين ظهوره - ويقدم للمتجاوزين جزاء ما عملوا ، ويعزّ المؤمنين ، ويذيق المستحقين طعم الرحمة الإلهية . فهذه الممارسات بنفسها نموذج لمشهد البعث والنشور .

الجهة الثانية : حيث يعود - حين ظهور المهدي - إلي هذا العالم جمع من الطاهرين والمنحطين ، وبتعبير القرآن الكريم ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا )(1) ، وهذا المشهد بنفسه قيامة صغري ، ومؤشر من مؤشرات القيامة الكبري .

الجهة الثالثة : حيث يعد ظهور المهدي (عليه السلام) من « أشراط الساعة »، وعلامات القيامة . فظهور المهدي (عليه السلام) أحد مؤشرات قيام الساعة وحلول يوم النشور . والمهدي آت قبل القيامة ، وما لم يأت ، ويقم أركان حكومة العدل ، فعمر الكون لا يزال غير بالغ نهايته ، ولا تقوم القيامة .

نلاحظ في هذا الضوء أن مبدأ انتظار الموعود ذو علاقات في غاية العمق مع الأصل العقيدي « المعاد ». ونلاحظ - في ضوء كل الأبعاد التي أشرنا إليها - أن الانتظار شاخص كاشف عن الأبعاد العقيدية الحقة .

ص: 268


1- سورة النمل : 83.

6- الانتظار ، الأبعاد الرسالية - 2

اشارة

أشرنا إلي أن الانتظار كما يحفظ الأبعاد العقيدية للرسالة ، فهو حافظ أيضاً لأبعادها العملية .

وهنا نشير إلي جملة من الأبعاد العملية :

أ- بعد التدين

التدين والتوفر علي التقوي من خصوصيات الإنسان المنتظر ، ولا يمكن أن نتصور الإنسان منتظرة دون هذه الخصوصية .

فالمنتظر في مرحلة الغيبة لا بد له من إجياء روح التقوي ، ومراقبة سلامة أعماله ، والمواظبة بشكل أكبر علي بناء شخصيته الدينية . ومجانبة أي لون من الانحراف ، والتساهل، والتميع . وإذا كبا يرجع مسرعاً إلي صوابه ويعود للخط السليم ، متعلقة متوسط بالإمام (عليه السلام) . يقول الإمام الصادق (عليه السلام) :

« إن لصاحب هذا الأمر غيبة فليتق الله عبد عند غيبته ، وليتمسك بدينه »(1).

ب - بعد الورع

الإنسان المنتظر لحكومة الموعود العلوية لا بد له من الورع مضافة للتدين والتقوي ، يبني ذاته ويصونها كما يحب ذلك القدوة المنتظر ، وليكن في سعيه مقترباً مما عليه منتظره وأنصاره من خصوصيات ، علّه يحشر - بلطف الله - في عداد أولئك . يقول الإمام الصادق (عليه السلام) :

« من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر ، وليعمل بالورع ، ومحاسن الأخلاق ، وهو منتظر »(2).

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث آخر :

« اتقوا الله ، واستعينوا علي ما أنتم عليه بالورع ، والاجتهاد

ص: 269


1- بحار الأنوار ج 52 ص 135 ، نقلا عن الغيبة ، النعماني .
2- بحار الأنوار ج 52، ص 140 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .

في طاعة الله ، وإن أشد ما يكون أحدكم اغتباطا بما هو فيه من الدين لوقد صار في حدّ الآخرة ، وانقطعت الدنيا عليه ، فإذا صار في ذلك الحدّ عرف أنه قد استقبل النعيم والكرامة من الله ، والبشري بالجنة ، وأمن ممن كان يخاف ، وأيقن أن الذي كان عليه هو الحق ، وأن من خالف دينه علي الباطل »(1) .

ج - بُعد الالتزام الرسالي

الالتزام الدقيق بالرسالة ، والاستقامة علي خطها أحد الأبعاد الهامة في فلسفة التشيع الرفيعة .

علي صخرة معتقدات الشيعة الصلدة ، الصخرة الدموية القائمة علي الشعار الصامد ، تتهرأ كل تفاهة ويقطع كل عرق دخيل . فالتوني والتبرّي في ثقافة التشيع يعنيان المتابعة الشغوفة للحق وقيادة الحق ، ومخالفة الخصومة مع الباطل وقيادته .

هذا الالتزام الرسالي ، والصلابة العقيدية ، والحماس الديني ، والخط الذي لا يعرف المداهنة ، كل هذه خصوصيات لأتباع الطريق الدامي للتشيع العلوي الناهض :

ومالي إلا آل أحمد شيعة *ومالي إلّا مشعب الحق مشعب(2)

هذا هو شعار الشيعة علي طول التاريخ ، في ساحات الوغي وميادين الجهاد ، وفي السجون والمحاجر ، وفي الدماء والحماسات ، وفي النداءات والصيحات . وهكذا سيكون حتي يملا هذا النداء وعاء الشمس الذهبي ، ويعود عالمياً شاملاً .

تتجلي الإنسانية ورعاية قيم الإنسان في تعاليم علي وآل علي فحسب ، والإنسان البصير بهذه التعاليم فدائي لهذا النهج ، وخصم لكل نهج آخر . حبّ

ص: 270


1- بحار الأنوار ج 52، ص 135 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .
2- « الهاشميات » ، الكميت بن زيد الأسدي ، المتوفي عام 1296 ه .

علي وآل علي حب للإنسان والإنسانية ، وخصومة علي وآل علي خصومة مع الإنسان والإنسانية .

الإنسان المنتظر لمهدي آل محمد (عليه السلام) يكون علي خطهم ، بعيداً منفصلاً بل خصماً لكل خط آخروسبيل ثاني. من هنا كان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول :

«طوبي لمن أدرك قائم أهل بيتي ، وهو مقتد به قبل قيامه ، يتولي وليّه ، و يتبرأ من عدوه ، ويتولي الأئمة الهادية من قبله ... »(1) .

د- بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد التكاليف الدينية الأساسية ، وبهذين السبيلين العمليين تقام الأحكام والفرائض الإلهية ، ويصان المجتمع الإسلامي من الانحراف ، كما أننا علي معرفة بأن سرور المهدي (عليه السلام) ورضاه في تجسيد « المعروف » وعمليته ، ومجانبة « المنكر » والنأي عنه . وعلي هذا الأساس فالإنسان المنتظر لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي إزاء هذه الممارسة .

فأكبر آمر بالمعروف ، وناهٍ عن المنكر يوم الظهور هو المهدي (عليه السلام) نفسه . إذن ، كيف لا يروم المجتمع المنتظر رضا المهدي ، ولا يقتدي به في أداء هذا التكليف ، ولا يتمثّله ؟ ففي الحديث الذي نقلناه قبل قليل قيّد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) سياق قوله : « طوبي لمن أدرك قائم أهل بيتي » بقوله : « وهو مقتدٍ به قبل قيامه »، وأهم مؤشرات هذا الاقتداء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة لتطبيق الأحكام الإلهية .

وهذا المؤشر لا بد أن يكون الدالة الأساسية للانتظار ، والسمة الواضحة للمجتمع المنتظر ...

ه - بعد الأخلاق الإسلامية

واضحٌ أن هذا البعد لا بد أن يكون له تجسيد ملموس في وسط المجتمع المنتظر . فالمجتمع المتظر لا بدَّ أن يكون مجتمعاً اسلامياً . وأبرز سمات

ص: 271


1- بحار الأنوار ج 52 عصر 130 ، نقلا عن الغيبة ، للطوسي .

التمايز بين المجتمع الإسلامي ، والمجتمعات الأخري هو خصوصية الأخلاق الإسلامية الوضاءة . الإنسان المنتظر لا بدَّ أن يتمتّع بالخلق الإسلامي ، ولا بدّ أن يكون المجتمع المنتظر انعكاساً للأخلاق الإسلامية . يقول الصادق (عليه السلام) في حديث تقدم ذكر مقطع منه :

« من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق ، وهو منتظر ، فإنْ مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه ، فجدُّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيّتها العصابة المرحومة »(1) .

كل التأكيد الذي حصل علي ضرورة كون الشيعة «زيناً » لا «شيناً » لأئمتهم تتحتم رعايته بشكل أكبر في عصر الانتظار .

فلا بدَّ للشيعة من أن يكونوا ظلاً طيباً ، ومشرفاً للأئمة الطاهرين ، عن طريق المواظبة علي رعاية قيم الإنسانية ، والتحلي بالأخلاق المحمديّة ، والاتصاف بالخصال العلويّة ، والفضائل الجعفريّة . وهذه المواظبة أكثر لزوماً لتجليل الإمام إبان مرحلة غيبته .

و - بُعد الاستعداد العسكري

الاستعداد العسكري في عصر الانتظار أمر في غاية الروعة والأهمية ، وهو مهمل أيضاً .

وهل يمكن لإنسان ينتظر نهضة كبري ، ومواجهة عالمية عظمي ، وثورة دامية ، أن يعدم أي لون من ألوان التهيؤ للمشاركة في هذه المواجهة والإسهام فيها ؟

يتحتم علي المسلم أن يتوفر علي استعداد عسكري ويعبيء نفسه باستمرار بالقدرة القتالية ، لينضمّ إلي صفوف المقاتلين مع المهدي حين تحرك طلائع الحق ، فيساهم في المعركة الفاصلة بين الحق والباطل بفعالية : وحماس .

ص: 272


1- بحار الأنوار ج 52، ص 140 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .

عن الإمام الصادق (عليه السلام) توجيه وأمر تربوي مشرق ، يدعو الإمام في هذا التوجيه القطاع المنتظر ليكون ذا قوة مسلحة علي الدوام ، ويطوي مرحلة انتظار دولة المهدي (عليه السلام) وهو مالك لعدة القتال :

« ليعدن أحدكم لخروج القائم ، ولو سهماً ، فإن الله إذا علم ذلك من نيّته ، رجوت لأن ينسيء في عمره حتي

يدركه ، ويكون من أعوانه وأنصاره »(1) .

لقد كانت جماهير الشيعة في الماضي أكثر ارتباطاً بهذا النهج إلي الحدّ الذي كان البعض منهم يحتفظ السلاح في زوايا بيته لذلك اليوم ، مهيأ بهذا الشكل للإسهام في إقرار العدالة العظمي علي أرض الإنسانية .

لاحظوا البعد الإنساني الرفيع والمتأصل لهذه السّنة :

لقد توفر علي السلاح قطاع من بني الإنسانية مدة عمرهم ، علي طول قرون وعصور ، ليلتحقوا بمنقذ البشرية وباسط أصول العدالة ، ومحطم الجبارين ، ومذلّ المستكبرين عند ظهوره ، ناهضين لإنقاذ الإنسانية المحرومة والمضطهدة .

فأيّ نبع صاف هذا ، وأي استقامة طاهرة ، وأي اعتقاد مشرق هذا ؟ سلام علي هذه العقيدة ، وتحية لهذا الاستعداد ...

خلاصة القول هي أن البعد العسكري والحضور الثوري إبّان فترة الانتظار بعد هام أيضاً ، وسوف أكرر الحديث بهذا الاتجاه ضمن هذا الفصل ذاته بمناسبة بعض فقرات البحث المقبلة .

7. الانتظار مرحلة مسؤولية كبري

عبر الملاحظة الفاحصة الأبعاد الانتظار العملية -التي ذكرناها في الفقرة السابقة - نجد أن الانتظار يعكس برامج التربية الرسالية وتتبلور فيه هذه البرامج .

ص: 273


1- بحار الأنوار ج 52، ص 366 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .

إذن ، الانتظار شاخص كاشف الأبعاد العقيدة الحقة ، وتبلور مستوف البرامج التربية الرسالية معاً . أجل ، فالغيبة حركة في غاية العمق ، والانتظار مسيرة بناءة ، وذات دور مصيري . مرحلة الانتظار والغيبة تشبه في بُعد من أبعادها خروج المعلم مدة من قاعة الدرس - كما أشرنا من قبل - ليلاحظ ماذا في يفعل تلاميذه حال غيابه ؟ وأي موقف يتخذون إزاء إرشاداته وأوامره ؟

الإنسان المنتظر الذي هو تلميذ في مدرسة الأنبياء ، ومواظب علي الحضور في قاعة درس الدين الحق لا بد له من المواظبة علي مراقبة ذاته، ساعية في بنائها علي مستوي العلم والعمل ، وليعلم أن المعلم خرج عن القاعة ، ومن الممكن أن يطل عليها في كل لحظة ، ويراه علي الحال الذي هو فيه ... فلا بد من أن يكون في وضع . وباستمرار - يجلب رضا المعلم من خلاله .

نعم فحينما نتفحص المفاهيم المذكورة ، وحينما نبصر ماهيّة الإسلام وتعاليمه وتكاليفه ، ونتأمّل الحياة والتكليف - وفق رؤي سليمة . فسوف نصل إلي هذه المحصلة وهي : إن أيام الانتظار لم تك أيام الضعف والإهمال والقعود والرضا بالظلم ، بل مرحلة الانتظار مرحلة حسّاسة تحفل بالمسؤولية والتكليف ، التكليف علي مستوي الفرد والأمة. مرحلة الانتظار مرحلة تكليف ، وأي تكليف . تكليف ضخم في حراسة دين الله علي مستوي الفرد والمجتمع .

إذا كان يوم الانتظار يوم تحلل وضعف ، وليس للإنسان فيه وظائف ومسؤولياتٍ في تلك الحدود ، فلا بد إذن من إلغاء التكليف ، وأن لا يَرِدَ في تعاليم القدوة حديث حول المحافظة علي الدين الشخصي ، ورعاية التقوي والورع، وصيانة خط الرسالة والقيادة والإمامة . في حين لم يك الأمر كذلك ، بل تبقي الأحكام الإلهية علي ما هي عليه ، وتظل دائرة « التكليف » محفوظة مصانة . وقد جاء التأكيد علي حفظ الدين وإحيائه في النفس والمجتمع .

ولا أظن أن هناك أحداً يتصور أن حفظ الدين والتمسك به يمكن أن ينفصل عن العمل بأحكام الدين وتطبيقها . مقارعة الظلم ، والأمر بالمعروف

ص: 274

والنهي عن المنكر ، والممارسة الشاملة للمسؤوليات الفردية والاجتماعية جزء من أحكام الدين الرئيسة : وأداء هذه المسؤوليات - كما ذكر - يعتمد علي السلطة والحاكمية .

أنا أعلم أن التعليم والتربية الإسلامية لم تطرح بشكلها السليم ردحاً من الزمن حتي في إطار الأسر الدينية . إلا أن الأمل في أن لا يكون الأمر كذلك في الآتية . ويعلم الدين في كل أبعاده من الزاوية الاجتماعية والسياسية والثورية . الانتظار مرحلة مسؤولية هامة وتكليف عظيم ، ولا ينبغي إغفال هذا المفهوم .

8- الانتظار صيانة الإيمان

أشرنا إلي التكليف العظيم إبان مرحلة الانتظار . وكان هناك بعدً عظيمٌ من أبعاد هذا التكليف في سني الغيبة والانتظار ، وهو حفظ الدين وحراسة حدود العقيدة ، وحرمة المعتقدات المقدسة. المجتمع المنتظر لا بد أن لا يتسامح إزاء هذا الأمر الخطير .

يتحتم أن تحفظ إشراقة الإيمان ، وهدي اليقين ، والاعتقاد بالحق ، وتوهج مفاهيم العقيدة الصادقة باستمرار ، في نفوس وقلوب الجماهير وتتعمق هذه القيم في نفوسهم وتتعمق ويترسخ الاعتقاد بها ويتجذر .

يتحتم أن تأخذ نفوس وقلوب الطلائع من الفتيان ، والشباب موقعها في كل لحظة في ظلّ إشراقة القيم العقائدية الحقة ، وأن تغمر بهذه الإشراقة المشعة .

يتحتم أن يكون الإيمان مقوماً لهويّة أولئك ، وجزءاً من أجزاء كيانهم ، بغية أن يكون الحق والتضحية علي طريق شموخ الحق ، بالتدريج ، كالدم يملأ أرجاء وجودهم بالحرارة والحيوية ، وكالروح حيث تشكل جوهرحياة أولئك(1) .

ص: 275


1- كما حصل في هذه الأيام إذ يضحي الحق والتضحية علي طريق الحق كالدم يمون وجود قطاعات واسعة من جماهيرنا ، وطلائعنا الفتية بالحيوية والحرارة بفضل أنفاس عيسي التي انطلقت من أعماق الإمام الخميني - اللهم لك الشكر ... وهذه الحالة الإلهية لا بد وأن تحفظ علي الدوام . مشرقة ثورية حتي يبلغ يوم الظهور أجله ، وتحين لحظة إصحار طلائع دولة المهدي (عليه السلام) ، فتحتل جماهيرنا . وعلي الخصوص شبابنا المقاتلون - موقعها في صفوف أنصار المهدي ، مهيئة له سبيل الجهاد والعمل في تصفية شراذم أعدائه ، ورفع راية حكم المهدي (عليه السلام) .

يتحتم السعي ليتلاحم الإيمان العقيدي مع الإيمان العملي في أعماق شخصية أولئك ، ويتجد البعد العملي بأحكام الرسالة أيضاً - العمل باستقامة - في حياة أولئك تجسيدة حاسمة منذ سني التكليف الأولي .

خلال أيام غيبة الإمام ، وعبر امتداد الانتظار زمناً طويلاً يمكن أن تردَ شبهاتٌ أذهانَ البعض ، كما يمكن أن تسعي الشياطين المتسترة والمعلنة لزلزلة الأسس العقيدية لدي البعض - خصوصاً جيل الشباب - . ولا بدَّ من مواجهة هذه الشبهات بالردّ والنقض ، وإزالتها من الأذهان والقلوب . كما تترشح علي السطح أفكار ومفاهيم - علي أثر التحولات الزمنية والتغييرات التي تطرأ علي حياة البشرية - يمكن أن تخلق ضبابية فكرية ، وتترك آثار سلبية علي وضوح الخط وإيمان القلوب ، ولا بدَّ من الاستقامة في مواجهة هذه الأفكار والمفاهيم ، وبذل الجهد الساعي لنقضها وإيضاح تهافتها .

وبعامة لا بدَّ لمراكز العلم والعقيدة ، وحراس التركة الثقافية والتربوية الإسلامية من الصمود أمام كل ألوان الغزو الفكري ، والعكوف علي رد هذه الأخطار الداهمة ، كل بحسبه .

وكل التأكيد الذي جاء في سياق الأحاديث المباركة بصدد رعاية وحفظ أيتام آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) لينظر في بعض أنحائه إلي البعد الذي نشير ، أعني : البعد العقيدي . فهؤلاء الأيتام أيتام تربية ومعني ، وهذا الحفظ - في بعض أنحائه - حفظ العقيدة وصيانة التربية الإسلامية في واقع الجماهير ، خصوصاً الفتيَة والشباب . وكل الاهتمام الذي أبرز بصدد حراسة حرمة العقيدة ، وقالوا : إن العلماء حفّاظ الدين ، والساهرون علي صيانة عقائد الأمة من الانحراف ، وحراس حرمة الدين ... كل هذا إنّما يصحّ حينما تمارس الصيانة، والحراسة بشكلها الأفضل .

ص: 276

صيانة وبسط العقيدة الدينية ، والمعرفة العقيدية والعملية الصائبة - حيث تشكل أداة لتمييز الحق من الباطل - أكثر نفعاً ، وأشد لزوماً إبّان الأيام المتاخمة للظهور - كما وَصَلَنا ذلك في الأحاديث الشريفة- . ومحصلة ذلك بروز رجال عقيدة وعمل لا يصطدمون بظاهرة التردّد والشك ، بل يضعون أيديهم علي منطق الحق ، ولا يتيهون في معمعة الأحداث ، وصخب الأفكار . أجل، فأولئك الذين توفّروا علي « عقيدة سليمة » « و « عمل صالح » سيبادرون لتصديق المهدي (عليه السلام) ، ونصرته ، وسيحصلون علي السعادة الكبري . ولذا يتحتّم صيانة وحفظ العقيدة السليمة ، والعمل الصالح في عمق وجدان الأمة حتي حين ظهور المهدي ، يعني حينما يطرق نداؤه أسماع الجميع .

وقد أشارت الأحاديث والتعاليم المباركة بشكل ملفت إلي أهمية الإيمان إبّان عصر الغيبة ، حيث أنزلت المنتظر المؤمن منزلة ومقام من سل السيف مقاتلا في صف الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) . وأكثر من ذلك فقد اعتبر النبي أولئك المنتظرين إخوة له . وقد أثني عليهم كثيراً لبصيرتهم ، وعقلهم واعتقادهم ، وإخلاصهم . وقد شبهت قلوب المنتظرين المؤمنين - في حديث الإمام الصادق الذي سوف ننقله - بالقناديل المضيئة . خاطب الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) أصحابه قائلاً :

« إنكم أصحابي . وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ، ولم پروني لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمّهاتهم ، لأحدُهم أشد بقية علي دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء ، أو كالقابض علي جمر الغضا ، أولئك مصابيح الدجي ، ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة »(1) .

وخاطب الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أبا خالد الكابلي قائلاً :

ص: 277


1- بحار الأنوار ج 52، ص 124 ، نقلاً عن بصائر الدرجات .

و يا أبا خالد ، إن أهل زمان غيبته ، القائلين بإمامته أفضل أهل كل زمان ، لأن الله تعالي ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ماصارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة ، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً ، وشيعتنا صدقاً ، والدعاة إلي دين الله سرّاً وجهراً » .

وهذه العقيدة والإيمان لا بد وأن تحيا في قلب الأمة ، وتظل باقية كذلك ، حتي زمن الظهور .

9 - الانتظار عدل وإحسان

القضية الأخري التي يتحتم أن يوليها المسلمون المنتظرون أهمية بالغة ، ويجهدوا سعيهم لتجسيدها و بسطها، هي قضية العدل والإحسان . أحد الشعارات البارزة التي رفعها القرآن الكريم هو هذا الشعار العظيم :

( إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. )(1) .

الحديث عن العدالة والقسط في الإسلام والقرآن أصل أساس ومستوعب إلي الحد الذي لا يحتاج فيه إلي إيضاح . وقد بلغ الاهتمام بهذا الأصل حيث نلتقي أيضاً عبر الكثير من أحكام الفقه والعبادات -في صورة ما - بمسألة لزوم العدالة ، من جملتها في صلاة الجماعة ، إذ يقولون : إن إمام الجماعة لا بد أن يكون عادلاً ، وهذه العدالة التي تشترط في إمام الجماعة هي لون أيضاً من ألوان مجانبة الظلم في النفس ، ومع الآخرين .

وهكذا فمنتظر و ظهور دولة الحق ، وحكومة العدل ، دينهم الإسلام وكتابهم القرآن ، وإمامهم الأول علي بن أبي طالب ( يعني : التجسيد الأعلي للعدالة والقسط ) ، وهم يمضون علي نهج انتظار إقامة حكومة العدل العالمي ، فهؤلاء لا بدَّ أن يكونوا نماذج للعدل والمطالبة به ، مجدين هذه الظاهرة ،

ص: 278


1- سورة النحل : 90.

مالئين مجتمعهم خيرأ واحسانا . ولا بد أن يكون مجتمعهم نموذجاً للعدل والقسط الذي ينادون به ، وينتظرون تجسيده الكامل وشموله العالمي .

أيصح أن يكون المجتمع الذي ينتظر حكومة العدل العالمي غير مراع للعدالة في نفسه ، وفي محيط علاقاته ومعاملاته وقوانينه وحقوقه ، أيصح أن لا يجسد هذا المجتمع مبدأ العدالة عملياً ، ولا ينعطف عليه ، وأن لا يدافع عن العدالة ويمضي في سبيلها ، أيصح أن لا يكون في هذا المجتمع شاخص مؤشر للعدالة ؟ .

كيف يمكن هذا الأمر ؟

وإذا كان ، ففي أي موقع يبرز صدق جماهير هذا المجتمع وواقعيتها في الانتظار ؟(1) .

10- الانتظار معرفة وموقف

اشارة

للمعرفة أهمية كبيرة في ظل التربية الإسلامية ولا تحد المعرفة في منطق الإسلام في إطار « المعرفة النظرية » بل يعتمد هذا المنطق كلا المعرفتين و المعرفة النظرية » و « المعرفة العملية » معاً . كل عقيدة يتوفر عليها الإنسان في أي مجال لا بد وأن تكون وفق معرفة ورؤية ، وكل ممارسة أو تحفظ يصدر عن الإنسان لا بد وأن يقوم علي أساس معرفة وتشخيص .

تتخذ هذه القضية إبان عصر الغيبة الذي يستتر فيه الإمام المعصوم ، أهمية أكبر ، مما هي عليه في الأوقات الأخري . ففي هذه الأيام تحتل قضية معرفة واستبصار العقائد والأفكار ، والمواقف والممارسات أهمية خاصة . والحصول علي هذه « المعرفة الصحيحة » هو الذي أفضل من المواظبة علي العبادات .

« عن فتوة ابنة رشيد الهجري قالت : قلت لأبي : ما أشد

ص: 279


1- نعيد الكرة في الحديث بهذا الصدد عند فقرات هذا الفصل القادمة ، وسنطرح أفكارة في هذا المجال .

اجتهادك ؟ فقال : يا بنية سيجيء قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهاد أوليهم »(1) .

تتبلور هذه المعرفة في أفق مرحلتين :

أ - الصمود والمقاومة .

ب - متابعة الخط السليم للقيادة والإمامة .

وإليك إيضاحاً مختصراً حول هاتين المرحلتين :

أ. المقاومة والصمود

حينما يستبصر الإنسان عارفاٌ الحق وسبيله فسوف يصمد علي طريقه ، ويجسد مقاومة وجهداً صبوراً ، إزاء عقبات وصعاب ومشكلات الزمن . ولا يرفع يده بأي وجه من الوجوده عن نهج الحق وسبيله . وهذه الظاهرة بنفسها فضيلة كبري . روي الإمام الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال لأصحابه :

« سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم ، قالوا ( يعني الأصحاب ) : يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأحد وحنين ، ونزل فينا القرآن ، فقال : إنكم لو تحملوا ما حملوا لم تصبروا صبرهم »(2) .

في هذا الضوء ، لا بدَّ للإنسان في عصر الغيبة من امتلاك معرفة سليمة ورؤية مشرقة ، لكي يستطيع صيانة عقيدته والاستقامة إزاء مستجدات حركة الزمن .

يتحتم علي الإنسان المنتظر أن يعرف : ما هو الانتظار ، ولأجل أي شيء ، وانتظار أي شخص ، وإلي أي أمور يمهد الظهور ؟ فإذا حصل علي معرفة سليمة بهذا الصدد ، فسوف يتمتع بفضيلة كبري ، كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله :

ص: 280


1- بحار الأنوار ج 52، ص 130 ، نقلا عن المحاسن ، للبرقي ، ص 251 .
2- بحار الأنوار ج 52، ص 131 ، نقلاً عن الغيبة ، الطوسي .

من عرف هذا الأمر ثم مات قبل أن يقوم القائم (عليه السلام) كان له أجر من قتل معه »(1) .

وعلة هذا الموقف هي : أن الإنسان يقع علي الخط الإلهي للمعرفة والتكليف ، ويكون في دائرة الولاية الإلهية من خلال معرفة قضية القيادة والإمامة . ومثل هذا الفرد ينعم بمقام القرب والكرامة في أي حال .

ب . متابعة خط القيادة المستمر

نقلنا في الفصل التاسع عن أبي نصر الفارابي أنه لا بدَّ من متابعة أحكام وسنن الأئمة السابقين - حال غيبة الإمام - ، وطيّ الطريق وفق ما قدموه من توجيهات ووصايا . وهذا المفهوم الذي يطرحه الفيلسوف الإسلامي الشيعي الكبير ، هو عين ما جاء في تعاليم الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) . فقد أكد الأئمة علي العمل وفق أحكام وسنن إسلامنا التي تلقيناها من قبلهم ، كما أكدوا علي صيانة خط عقيدتنا وسلوكنا بالصمود والصلابة والإيمان والالتزام حتي إطلالة طلائع الظهور وخروج قدوتنا المستور من غيبته . وقد طرح الإمام الصادق (عليه السلام) هذه المفاهيم في أحاديث متعددة نقلها الرواة ، فقد قال (عليه السلام) :

« ... إذا كان ذلك فتمسّكوا بالأمر الأول حتي يتبيّن لكم الأخر ...(2) إذا أصبحت وأمسيت يوماً لا تري فيه إماماً من آل محمد فأحبّ من كنت تحب ، وأبغض من كنت تبغض ، ووال من كنت توالي ، وانتظر الفرج صباحاً ومساء ...(3) كونوا علي ما أنتم عليه حتي يطلع الله لكم نجمكم ...(4) حتي يأتيكم بصاحبها ...(5) .

يعلق العلامة المجلسي علي هذه الأحاديث موضحاً :

المقصود من هذه الأخبار عدم التزلزل في الدين والتحيّر في

ص: 281


1- نفس المصدر .
2- بحار الأنوار ج 52، ص 132 - 134 ، نقلاً عن الغيبة ، للنعماني .
3- بحار الأنوار ج 52، ص 132 - 134 ، نقلاً عن الغيبة ، للنعماني .
4- بحار الأنوار ج 52، ص 132 - 134 ، نقلاً عن الغيبة ، للنعماني .
5- بحار الأنوار ج 52، ص 132 - 134 ، نقلاً عن الغيبة ، للنعماني .

العمل ، أي تمسّكوا في أصول دينكم وفروعه بما وصل إليكم من أئمتكم ، ولا تتركوا العمل ولا ترتدُّوا حتي يظهر إمامكم(1) .

والاعتقاد هو أن الإنسان المتوفر علي معرفة نظرية ، وعملية سليمة ، يقتفي أثر هذا النهج المستوعب في ميدان العمل والخطر، ويتّخذه شعاراً وراية .

11- الانتظار رياضة ومران

المنتظرون المخلصون ، والمقاييس النموذجية للشخصية الرسالية ، لا بدَّ لهم من الالتفات العميق لأمر آخر أيضاً علي مستوي تربية نفوسهم وبناء ذواتهم . وهذا الأمر هو المران علي حياة بسيطة وخشنة ، بمنأيً عن الترف والرفاه ، ليتطابقوا في حياتهم مع حياة قدوة القيام ونموذجه ، وليحصلوا علي إمكانية متابعة ابن علي في مسيرته .

وبصدد هذا المفهوم وصلتنا عبر رواياتنا تعاليم ذات أهمية بالغة . أؤكد وألفت النظر إلي أن هذه التعاليم ذات أهمية بالغة ، ولا بدَّ من أخذها بنظر الاعتبار علي مستوي الفكر والعمل . فهذه التعاليم تقول : لا بد للإنسان المنتظر من إحياء روح الورع ، والاستقامة ، والزهد والترفّع ، والإباء والرجولة ، والشهامة ، والتنظيم والنضال ، لا بدَّ أن يزرع الإنسان هذه الخصال في ذاته ، ويعني برعايتها . وبلغة اليوم أن يعِدّ فرداً ثورياً ، ويبني شخصاً فدائياً . ولا ينبغي أن تخدش كل ألوان الضعف ، والتحلّل ، والميول والارتباطات شخصية الإنسان المنتظر الصلبة

ص: 282


1- بحار الأنوار ج 52، ص 133 .

يقول الصادق ( عليه السلام ) في خطاب لأبي بصير :

ما تستعجلون بخروج القائم ؟ فوالله ما لباسه إلا الغليظ ، ولا طعامه إلا الجشب ، وما هو إلا السيف ، والموت تحت ظل السيف(1) .

أجل ، فدولة العدل العالمي لا تتشكل بيسر . ومتاعب الإنسان المسؤول في معية المهدي ( عليه السلام ) علي طريق بناء دولته العالمية سوف تكون كثيرة . إذن ، لا بد من أن يكون مستعدة ، ويتحتم أنه كان ...

ينهض أصحاب الهم والهمم بآلام المحرومين بصحبة ذلك القدوة البصير ، وينقضون علي الطغاة والمستكبرين وقواهم ، ويجتثونهم بالنضال والمقارعة والجهاد والحرب تحت ظل العون والنصرة الإلهية . ويحيا ذلك القدوة نفسه كما يعيش أكثر المحرومين حرماناً : يأكل القليل من الجشب ، ويلبس الخشن الزهيد . ويمضي علي هذا النهج حتي يقتلع الحرمان ويعيد للعالم إنسانيته .

المستقبل ليس نصيباً لأيّ من أبناء البشر ، حيث « إن الأتية بيد الله ». إلا أن الذي تصنعه أيادينا هو أن نتهيأ للمستقبل ، وبعد أنفسنا لتحقيق ما يرجوه منا .

12- الانتظار تعبئة عامة

انتهينا عبر متابعة بحوث الغيبة والانتظار إلي أن الانتظار تعبئة عامة . فنهج التشيع العلوي يريد في عصر الانتظار أتباعا مهياين مستعدين علي الدوام

ص: 283


1- بحار الأنوار ج 52، ص 354 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .

يؤمّون الخندق باستمرار .

... الاستعداد الدائم من زاوية القوة الروحية والإيمانية والقدرة البدنية والقتالية ، والمران العملي والعسكري ، والتربية الأخلاقية والاجتماعية ، والتنظيم السياسي الهادف .

... البقاء في الخندق باستمرار ، خندق الجهاد مع الأهواء النفسية ، والتحلل عن أداء المسؤولية ، والضعف في اتخاذ المواقف ، خندق النضال ضد الخنوع للإذلال ، والسيطرة الاستعمارية ، النضال ضد التجاوز والظلم والانحراف ، والجهاد ضد الخضوع للكفر واستغلال المستغلين ، وسيطرة اليهود والنصاري والملحدين ، والنضال ضد الخنوع لقوي الباطل .

هذه التعبئة العامة والدائمة تشكل الجوهر الأصيل للانتظار . ومن هنا يتحتم معرفة ماهية الانتظار ليكون الانتظار انتظاراً إسلامياً وشيعياً بناءً ، لا أن يكون مجانبة للتكليف ، وتقوقعاً . الانتظار ظاهرة عظيمة ، وحركة خطيرة فكلّنا يعلم أن ظهور المهدي الموعود وبلوغ الفرج الأعظم ، والفتح الأكبر أمر هائل جداً ، وذو أهمية بالغة ، فهو بسط العدالة علي كل الأفاق ، وبث الحق في كل النفوس . الشيعة ينتظرون هذا الأمر العظيم ، ويعدّون أنفسهم لهدف كبير كهذا .

نحن نعلم أنه قد جاء في الأحاديث والتعاليم أن انتظار الفرج فرج ، وبعض الفرج أيضاً ، بل إن أفضل الأعمال هو انتظار الفرج . علي هذا الأساس فالانتظار لا بد أن يكون - كالفرج نفسه - أمراً عظيماً وفي غاية الأهمية ليكون جزءاً من الفرج ، وليعد أفضل الأعمال ، وهو كذلك أيضاً ...

و يقينٍ أن انتظاراً له من الأهمية بحجم ما للفرج نفسه من أهمية ، وهو نفسه « أي الانتظار » يعد جزءاً ومقطعاً من الفرج الإلهي الشامل ، لا يمكن أن يكون أمراً عاديّاً ، وحالة من اللامبالاة ، وزمناً مفرغاً من كل التزام وإحساس يقظ . من هنا يتحتّم التأكيد علي معرفة مفهوم الانتظار ، وفلسفته . كما يتحتم

ص: 284

أن تحتلّ هذه الظاهرة موقعاً دراسياً في ثقافة الشيعة وهنا يطرح تساؤل كبير نفسه :

كيف يضحي مجتمع يعيش في عصر الغيبة الكبري ، ويحرم من لقاء الإمام ، وحضوره التربوي متلبّساً بسمة الكون في حالة الفرج ، يعني الحالة التي يظهر فيها إمام الحق ، فيستوعب الحق كل حقول الحياة ، وتنبسط العدالة علي الأرجاء ؟ ، كيف يكون هذا الأمر ؟.

أفترض : أن هناك ليلاً ، وهناك نور قمر يشع ، وليس هناك لا الشمس ولا إشراقتها ، وفي مثل هذه الصورة نقول : إن الليل هناك كالنهار ، ونور القمر كنور الشمس المشرقة التي تعشي الأبصار ، فمتي وأين يكون هذا التشبيه ممكناً ؟.

ومتي يكون هذا الكلام مستقيماً ؟.

والأمر علي هذا النسق في مجتمع المنتظرين فنقول : إن حال غيبة الإمام وانقطاع إشراقة نور الولاية والهدي المباشر يناظر حال الحضور والإشراقة المباشرة ، ففي ظل أي مفهوم يصح هذا القول ؟.

الجواب هو أن هذه الصورة ترتبط بشكل دقيق بوضع وحالة المنتظرين . فإذا كان المجتمع المنتظر علي الحالة التي لا بدَّ أن يكون عليها ، وكان الإنسان المنتظر صياغة رسالية ، وصنيعة مفهوم الانتظار ، كان الانتظار أيضاً بمثابة الفرج وكان أفضل عبادة .

ولا بد لنا هنا من التأكيد بالقول ، علي ضرورة عودة إخواننا أبناء السنة الهويتهم في ظل هذه الأيام ، أيام النهضة والتحرك الدامي علي خط الشهادة ، ومجانبة الحكّام الخونة الذين يتسلّطون علي أقاليم من العالم الإسلامي ، والانضمام إلي صفوف حركة الانتظار والمنتظرين .

ص: 285

لا بدّ لإخواننا من مقارعة الجبارين عملاء الأجنبي ، والنزول إلي ساحة النضال العظيم . داخلين في زمرة مستقبلي دولة مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، ليضحوا عاملين بأحاديث ووصايا النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) .

والواقع هو أن المسلمين بمستوي كونهم مسلمين وأتباع القرآن والسنة -سواء أخذوا السنة وعملوا بها في ضوء الصحاح الستة ، أم أخذوها وعملوا بها في ضوء نهج البلاغة والكتب الأربعة - من أي فرقة من فرق المسلمين كانوا ، لا بد لهم من الاعتقاد ب «المهدي الموعود » ويتحتم أن يكونوا من منتظري ظهوره ، إذ إن إشارات القرآن وبشارات النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بين أيدينا .

في هذا الضوء لا بدَّ للمسلمين الأخرين من التلاحم والانسجام ، ووحدة النداء مع شيعة آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) في التعبئة العامة ، والاستعداد الإسلامي ، والحماسة الشاملة ، وصرخة الخلاص ، وطلب الوضوح ، وأن يكون هذا التلاحم أيضاً علي مستوي ذلك البناء والتجسيد والنضج ، الذي أشرنا إليه ، يعني : لا بد أن يكون مجتمع هؤلاء أيضاً متوفراً علي حالة « تجسيد المقاومة » لا « تجسيد التسليم » .

الآن تخيّل الصورة التي كان عليها بعض رجال التشيّع الملتزمين المتعبدين، حيث كانوا يتوفرون علي سيف صارم(1) يتوسّدونه ليلاً ، ويمضون باستمرار يقظين وهم يترقبون السبيل . يكتفون من النوم بالقليل ، وينبعثون في الأسحار متعبدين ، لكيونوا علي هذه الحال ، مستعدين لإمداد دولة عدل

ص: 286


1- وواضح أن المقصود من السيف الصارم هنا ، هو السلاح الدفاعي والهجومي الذي يتناسب مع الزمن . ولا بدَّ أن يكون أفضل وأمضي ألوان السلاح في كل عصر بحسبه . فإذا كانت مقولتنا هي « حلال محمد حلال إلي يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلي يوم القيامة » ، فلا بدَّ من حراسة هذه المقولة في كل زمن . ومن المحتم أن تكون هذه الحراسة رهينة إمكانات وأدوات كل زمن بحسبه .

المهدي بالعون . واجتثاث جذور الظلم والتجاوز ، وإسقاط عروش الجبابرة وتهديم قصور الظالمين .

فلو كان سائر المسلمين الآخرين علي هذه الحال ، وكانت جماهير المليارد نسمة من أهل القبلة متلمسّة وحدتها علي طريق هذه النهضة المقدسة ، فيهبّون للهجوم ومواجهة غزو المستكبرين والمتجاوزين ، فأي شخص وأي قوة وأي جيش يمكن أن يتمتع بقدرة المقاومة أمام المسلمين ؟ ، وهل يستطيع أحد أو تستطيع قوة أن تخلق كل هذا التشتت والذلة في صفوف المسلمين وتسلب ثرواتهم بالشكل القائم فعلاً ؟.

وهل تستطيع قوة في الأرض أن تمزّق شخصية الأمة الإسلامية متعالية بزهو علي دين ومقدسات المسلمين ؟

وإذا كان الأمر كما افترضنا ، فأي فرد يستطيع أن يُسلط هؤلاء الخونة ولُعَب الأجنبي وعملاءه المنحطين باسم « الملك الفلاني » ، و « السلطان » و رئيس الجمهورية ... والأمير ... علي الجماهير القرآنية الصامدة ، وأي فرد يستطيع أن يسلب ويدمّر ثروات هذه الجماهير بواسطة هؤلاء الخونة الملوثين ؟!

أيّها المسلمون عودوا لحظة لهويتكم ! ارجعوا إلي عزكم الإلهي ! أغلقوا سجل هذا التمزق والذلة ! اسحقوا هؤلاء الخونة عملاء الأجنبي وعبيد اليهود والنصاري والملحدين ! اصدحوا بنداء « الله أكبر » وأنشدوا الحق ! واثنوا عطفكم عن التسليم والخنوع ، وحلقوا صوب ميدان الحق والعدل ! .

13- الانتظار وضد الانتظار

جلي أن معرفة مفهوم اللاانتظار والمنتظر تنجلي بعد أن استلهمنا مفهوم الانتظار والمنتظر ، وبعد أن تحددت لنا معاييرهما واستبصرنا هذه المعايير بدقة وتأمل . فلعل جماهير وأفراداً تحسب أنها تنتظره ، وأنها تتوفر علي أجر وثواب المنتظرين ، غير أنها ليست كذلك . ولعل عناصر تتصور أنها تمارس أفضل العبادات ، يعني : انتظار الفرج - كما جاء في الأحاديث المباركة - ، إلَّا أنّها ليست كذلك .

ص: 287

كيف يضحي مجتمع ما في عداد المجتمعات « المنتظرة » ، وهو لم يكن مقتفياً في اعتقاده وبصيرته ، في سلوكه وأخلاقه ، في حضوره ووثبته ، استعداده وثباته ، طهارته وزهده ، إحساسه ومعرفته ، عدله وإحسانه مقولات القدوة الصالحة ؟ .

لعل الجماهير والأفراد الذين يفتقرون للخصوصيات المشار إليها يُعَدون - مع الالتفات والتأمل في واقعية وجوهر الانتظار - في عداد أعداء نهج الانتظار والمنتظر .

حثّت الأحاديث المباركة والتعاليم الإلهية علي التحلي بالعفة ، والورع، والصلاح . كما طالبت بالصبر حين الانتظار . وطلبت أن لا تعد مرحلة الغيبة مرحلة طويلة الأمد ، إذ إنّ وعد الله حق ، ومهما استغرق من الزمن فهو واقع لا محالة .

ونهت عن الاستعجال والارتجال في مهمة تشكيل وبناء حكومة الحق .

تحلّوا بالصبر ! .

جاء الصبر في استعمالات النصوص الإسلامية - ضمن موارد كثيرة - بمعني الصبر علي الطاعة ، وعلي متاعب العبادة ، والصبر علي الإمساك عن المعصية والابتعاد عن الذنب وملذات الدنيا الرخيصة .

لا يمكن فهم الصبر في سياق التعاليم الشيعية بأنَّه صبر أمام الظلم والمنكرات . وفي هذا الضوء ، لا يتغير الموقف إزاء الصبر والتحمل في أفق قضية الانتظار ، ولزوم العبدة والتهيؤ . فكل ما هو تكليف للمنتظرين مستقر وثابت ، سواء أكان المنتظرون صابرين عصاميين، أم لم يكونوا .

لا يمكن للإنسان المنتظر تحت شعار « الصبر » ، أن يرفع اليد عن (1) لا يعني الصبر هنا الخضوع والخشوع إزاء الظلم والفساد الاجتماعي ، والقبول بسيطرة اليهود والنصاري ۔ التي رفضت بنص القرآن - ولا يعني الجمود دون خطوة باتجاه التحكّم بالمستقبل الشخصي ، وعلي خط تطبيق الأحكام الإسلامية . بل إن مفهوم الصبر يعني : تجنب الارتجال والعجل بصدد بلوغ قضية « المهدي » أجلها ، وظهوره ويناء حكمه ، وتجنب الضعف والانهيار بسبب طول مرحلة الانتظار ، فطولها حكمة ، ويومها حقّ ، ولا بدَّ أن يحل .

ص: 288

الخصوصيات العقيدية والعملية ، والاستعدادات العسكرية والثورية - التي أكدت عليها أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - ، ليعود معادياً للانتظار ، منتقلاً من حالة الحضور المسؤول إلي حالة الغياب عن المسؤولية . لا يمكن للإنسان باسم الانتظار أن يقبل الظلم - الذي عُدّت مقارعته المستمرة تكليفاً إلهياً - ، وينضوي تحت لواء الظالم وسلطانه .

أود برغبة أن أعود مرة أخري للحديث المتقدم ، فما جاء في الأحاديث المباركة من تجنب الاستعجال والارتجال في أمر المهدي ، لا يعني الصبر علي الظلم والسكوت أمام ممارسات محق دين الله ومعالمه ، والرضوخ لسلطة الجبابرة وسلطانهم علي قيم المسلمين ونواميسهم . بل تعني تلك الأحاديث عين هذا المفهوم : تجنب الارتجال بغية بلوغ أجل دولة الحق العالمي بقيادة المهدي (عليه السلام) . إذ إن العجل في هذا الأمر قد يكون باعثاً لفقدان بعض الأفراد قدرتهم علي التحمل والجلد ، فيدعون لتأسيس ذلك الحكم العالمي المهدوي ، وينهضون علي إيقاع هذه الدعوة . ولا سبيل لحصول هذا الأمر ، إذ إن تأسيس الدولة العالمية الإلهية الفريدة ، ونشر العدالة الآفاقية والأنفسية أمر يخصّ مرحلة ولي الله الأعظم ، وحسب .

كما أن العجل والارتجال يمكن أن يكونا باعثاً لفقد بعض الناس الارتباط والتعلق بحكمة الغيبة والانتظار وأسرارهما الإلهية ، ليصطدم بحالة يأس وقنوط . من هنا جاء النهي عن العجل بصدد حلول ظهور المهدي (عليه السلام) وبلوغ أجل حكمه ، وجاء النهي عن الارتجال في هذا الأمر ، وأصدروا أمرأ بالصبر . وهذا يعني أن الإنسان المنتظر لا ينبغي له أن يظهر الارتجال والجزع بصدد حلول أجل قيام دولة المهدي . وقد جاء هذا النهي عن العجل حتي في نهج البلاغة(1) من خلال خطب علي (عليه السلام) ومن هنا يتضح أن الشعوب علي عجل شديد في أمر إقامة أركان الدولة الإلهية في العالم ، واقتلاع الظلم والضلال ، وقد عبّروا بشكل واضح عن هذه الرغبة ( وغير خفي أن هذا الأمر تطلع كل إنسان حر ) حيث نتلمس آثار هذا العجل حتي في عصر الإمام الأول علي بن

ص: 289


1- نهج البلاغة ، ص 208 ، 283 و... .

أبي طالب (عليه السلام) ، إلي الحد الذي استدعي أن يمسك علي (عليه السلام) الناس بين الحين والآخر عن هذا الارتجال والإستعجال ، ويذكر بأن تشكيل تلك الحكومة آتٍ فيما بعد، وسوف يقع علي أثر تبدلات و تغييرات وأحداث وملاحم(1) .

لا يمكن القبول بأن دين الإسلام ، والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أجازوا الصبر علي الظلم ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمسلمين ، حيث إن هذا الدين يقول :

« وما أعمال البرّ كلّها ، والجهاد في سبيل الله ، عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنقطة في بحر لجيّ ، وإن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عن إمام جائر »(2) .

فهذاحديث علي (عليه السلام) ، وقد جاءت العشرات من أمثال هذا التوجيه في الإسلام . وعلي هذا الهدي هل يمكن أن نوافق علي أن المسلمين في مرحلة الغيبة والانتظار الطويل معفيّون عن مثل هذه المسؤوليات ، ويعيشون في حرمان عن مثل هذه الفضائل والثواب ؟!

14- دور القوي الجماهيرية

يحسن بنا ونحن نتحدث حول الإعداد والاستعدادات ، أن نشير بصراحة إلي أن للقوي الجماهيرية دوراً في ثورة المهدي (عليه السلام) الكبري ، وهذا الدور أساسي . صحيح أن بعض المسائل المتعلقة بالإمام الغائب جزء من قضايا ما وراء الطبيعة ، فالغيبة ، وطول العمر ، وامتلاك ميراث النبيين والغلبة علي أرجاء العالم ، كل هذه المسائل ليست بقضايا عاديّة . بل هي أمور إلهية ، والمهدي نفسه هو «غيب الله و « سر الله » فظهوره وسيطرته علي العالم وانتصاره علي شرق العالم وغربه ، يرتبط إلي حدود بذلك الجانب الإلهي

ص: 290


1- المصدر السابق .
2- نهج البلاغة ، ص 542 .

الغيبي ، كما سوف نشير ، وكل هذه المفاهيم لها واقع ، وقد بلغتنا عن طريق تعاليم الرسالات ، وهي سليمة وصائبة . ولكن لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار أن الإنسان طرف في قضية هذا الظهور ، وهذه الثورة . فيأتي المهدي لينهض في دعم وإعانة الإنسان والإنسانية ، وياخذ بيد الإنسان لبناء «عالم إنساني » . والإنسان هو الموجود الذي يتحرك في دائرة « التكليف » و « الاختيار » . وعلي هذا الأساس ففي مرحلة الظهور أيضا هناك عين هذا التكليف وهذا الاختيار . فللإنسان حضور أيضا في هذا التحول الضخم ، وهو حضور تكليفي مختار . ولذا يختار بعض الناس حين الظهور سبيل الحق ويقتفون المهدي في طريقه ، ويختار البعض الآخر سبيل الباطل ويقفون في وجه المهدي ليلاقوا الحتف والعدم .

أجل ! في يوم ظهور الحق العظيم لا يمنح الباطل والمبطلون والسوء والسيئون مهلة ، ليبقوا ويرشدوا شوكاً في بستان الإنسانية ، ويلحقوا بالإنسانية آلاماً ومتاعب ، ويحولوا دون رشد قيم الحق والفضيلة في آفاق الحياة البشرية ، فبعد ذلك اليوم لا يكون الأمر علي هذا النحو علي الإطلاق .

نعود إلي صلب الموضوع حيث قلنا إن لعنصر التكليف والاختيار فاعلية في ذلك اليوم ، وبشكل كامل . ويرد الإنسان إلي جانب المهدي ميدان الحياة ، ويبسط العدل العالمي أجنحته بقيادة المهدي ، ودعم المناضلين الصامدين من بني الإنسان ، ولا بدَّ أن يعلق هذا الأصل في الأذهان علي الدوام ليهيّيء أرضية التوفر علي الاستعداد. وما كان يفعله الشيعة العقائديون قديماً من اقتناء السلاح ، وما كان يمارسه علماء الإسلام من دفع الشباب للتدرّب علي شؤون القتال والرماية إنَّما ينطلق من مفهوم حضور ومشاركة الجماهير في دفع فعالية حكم المهدي إلي الأمام . والطريف هو هذا : أن يسعي الإنسان نفسه التحكيم الحق وبسط سلطانه . الإنسان المغترب علي طول التاريخ، والذي مزق تحت أقدام المستكبرين والجبارين يعود في ظل هدي ولطف الحق ، وتحت قيادة وتوجيه خليفة الحق إلي حالة بحيث يمارس هو نفسه بسط سلطان حكومة الحق والعدل العالمي ، ويتخذ موقعه بنفسه بين صفوف أنصار مظهر العدل

ص: 291

المطلق ، وينشر العدالة الأفاقية علي كل الأرجاء بدعم القيادة الإلهية ، وحينها يعمق القائد أصول العدالة الأنفسية ويبسطها .

ما أشرنا إليه من حضور القوي الجماهيرية في تشكيل حكم المهدي (عليه السلام) قد أخذ من تعاليم الدين وأحاديث القدوة ، وهذه الظاهرة تستحق المزيد من التأمل والعناية . فقد جاء بشكل صريح في أحاديث الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أن المهدي حين الظهور يطلب العون والنصرة من الناس . ويعود هذا إلي سبب ذي هدفين : سحب الجماهير باتّجاه طريق الحق والسعادة ، والفوز بنعمة التضحية علي طريق شموخ الحق وإقامة دعائم العدالة ، وأن تبلغ حركته ونهضته العالمية حدها الممكن ، وتؤتي ثمارها علي يد الجماهير نفسها أيضاً .

« يدعو رجلاً من أصحابه فيقول له : امض إلي أهل مكة فقل : يا أهل مكة أنا رسول فلان إليكم وهو يقول لكم : إنّا أهل بيت الرحمة ، ومعدن الرسالة والخلافة ، ونحن ذرية : محمد وسلالة النبيين ، وإنّا قد ظلمنا واضطهدنا ، وقهرنا وابتزَّ منّا حقّنا منذ قبض نبيّنا إلي يومنا هذا ، فنحن نستنصركم فانصرونا »(1) .

« يا أيها الناس إنَّا نستنصر الله ، ومن أجابنا من الناس ... »(2) .

« إنّا نستنصر الله اليوم ، وكل مسلم ... »(3) .

وقد جاء في التعاليم أن النساء يشاركن أيضا في هذه النهضة العظيمة كما نقل عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) نص يقول فيه : :

« ويجيء والله ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً فيهم خمسون امرأة يجتمعون بمكة ... »(4) .

ص: 292


1- بحار الأنوار ج 52، ص 307.
2- المصدر نفسه ج 52، ص 238 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .
3- نفس المصدر ، ص 223 ، نقلاً عن تفسير العياشي ، ج 21، ص 261.
4- نفس المصدر السابق .

والعدد المشار إليه في النص المتقدم يمثل تعداد الجماعة الأولي من أنصار المهدي (عليه السلام) ، حيث تقفو أثرهم وتنضم إلي صفوفهم جماعات من الجماهير المناصرة له نساءً ورجالاً .

15- حضور الشيعة في الميدان

لا ينبغي الاندهاش حينما نجد الشيعة يوم الظهور أقوي حضوراً وهم يؤدون دوراً أكثر جدّية ونفوذاً في ميادين النضال العظيم . فالشيعة الذين لهم اعتقاد بمبدأ الوصاية الإلهية الذي تضمنته كل رسالات الأنبياء ، والشيعة الذين يقتدون بعلي (عليه السلام) في حياة النبي وبعد حياته ، علي أساس آيات القرآن ووصايا النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) المؤكدة ، والذين تحركوا من بعد في ضوء خط الإمامة ، الشيعة الذين لم يسحبوا أيديهم عن محمد وآل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، الشيعة الذين عانوا الحرمان في كل مرحلة ، وتجرّعوا البلايا ، وخضعوا للتعذيب ، ودخلوا السجون ، وقدّموا القرابين من الشهداء ؛ الشيعة الذي صمدوا في وجه الظالمين علي طول تاريخ القرون والعصور ، ولم يداهنوا . الشيعة الذين تمزقت أحشاؤهم ألماً في سقيفة بني ساعدة ، والذين جاؤوا بأنفسهم لهجير الربذة ، وساهموا في حرب الجمل وصفين والنهروان ، والذين سفكت دماؤهم الساخنة علي أرض مرج عذراء ، ثم عبروا ساباط المدائن ، وشاركوا علي أرض الطفوف اللاهبة ، وطووا ليلة الحادي عشر من عاشوراء الحسين ، الشيعة الذين صُلبوا في كناسة الكوفة ، ثمّ أحرقت أجسادهم وذرّيت في الفضاء ، الشيعة الذين صمدوا في سجون الأمويين وصبروا أمام مجازرهم ، الشيعة الذين راقبوا جثمان قدوتهم السجين المسموم في جانب الجسر ببغداد ، الشيعة الذين مُلئت بهم سجون العباسيين ، الشيعة الذين لوّنت دماؤهم كلّ أرجاء الأرض الإسلامية من مكة إلي بلخ ، والذين كان نداؤهم علي الدوام دعوةً لحكم المعصوم ، وكان شعارهم النضال ضد الظلم والعدوان . الشيعة الذين يطلبون مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) بأرواحهم وقلوبهم وبدمائهم ونهضتهم منذ ألف عام ، فإذا كان لهؤلاء الشيعة حضور فعال في ميادين الثورة الكبري فلا موقع

ص: 293

للاستغراب . وهؤلاء الشيعة - بعد كل هذه التضحيات والمقاومة - إذا ورثوا أرجاء الأرض وحكموها أيضاً فلا موقع الاستغراب الآخرين ومفاجأتهم . فالشيعة أتباع ملتزمون فدائيون لخطّ النبوة من آدم حتي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، ولخطّ الوصاية من علي حتي المهدي ...

« وذلك والله أن لو قد قام قائمنا يجمع الله إليه شيعتنا من جميع البلدان »(1) .

« إذا قام قائمنا أذهب الله عز وجل عن شيعتنا العاهة ، وجعل قلوبهم كزبر الحديد ، وجعل قوة الرجل منهم قوة

أربعين رجلاً ، ويكونون حكّام الأرض وسنامها »(2) .

كل هذه الإيضاحات يمكن أن تكون تأكيداً علي حقيقة أن الشيعة لا بد لهم باستمرار من الالتفات إلي حضورهم العقيدي والاجتماعي ، وتنظيماتهم السياسية والعسكرية في واقع حضورهم عبر التاريخ حتي يحلّ وقت الظهور فيتخذون موقعهم ويسلكون سياقهم المناسب بحق .

16- حضور الإيرانيين في الميدان

أشير في بعض الأحاديث إلي حضور « العجم »(3) الفعال في مجتمع المهدي . ومن الواضح أن المقصود بالعجم الأمم التي هي من غير العرب ، إلا أنّ الاحتمال قوي في أن يكون الإيرانيون أجلي مصاديق هذا الاصطلاح خصوصاً مع كون الثقل الأكبر للتشيع في أرض إيران المقدسة .

وبأي حال فالشرق « شرق العالم الإسلامي » وخراسان « أرض الشمس الطالعة » وطالقان ، وإيران ، ومكة المكرمة ، والمدينة المنورة والنجف الأشرف ، والكوفة لهن دورهن الأساس في سياق ظهور الحق المطلق ، كما أن

ص: 294


1- بحار الأنوار ج 52، ص 291 ، نقلاً عن تفسير العياشي ، ج 1، ص 66.
2- بحار الأنوار ج 52 ص 317، نقلاً عن الخصال .
3- بحار الأنوار ج 52، ص 364.

القسطنطينية « اسطنبول الحالية » أيضا تمثل إحدي المراكز الهامة لفتوح المهدي وأنصاره الأولية !...

وقد ذكرت أسماء مدن وأراض أخري أيضاً في سياق حروب وفتوحات جيوش مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) الابتدائية ، مدن وأراض تكون مسرحاً لصراعات حادة وأحداث رهيبة ، ومن جملتها : أنطاكية ، دمشق ، فلسطين ، الأردن ، حمص ، وحلب . وبعد أن تحدث مواجهة ومعارك علي ساحة هذه المراكز : وبعض المواقع الأخري كأرض الصين ، ويكسب المهدي وأنصاره انتصارات كبري ويواجه فتوحات مبينة ، تتضح آثار النصر والغلبة لهذه النهضة ، ويفيق العالم شيئاً فشيئاً علي وقوع حادثة كبري وحصول القيامة الصغري ، حينئذ تعد مقدمات . فتح أرجاء العالم ، وتنسحب الثورة علي كل مكان ، لتشمل في غضون مدة قصيرة كل مكان من مشرق الشمس حتي مغربها .

17- التأييد والنصر

لقد حفّ التأييد والنصر الإلهي داعماً كل دعوات الحق علي طول التاريخ . وقد كان هذا التأييد والنصر ظاهراً حيناً ، وخفياً مستوراً في حين آخر . كما كان في مقاطع تاريخية حساسة حيناً وفي حالات أخري حيناً آخر . ولذا لمس المؤمنون بالحق المضحون علي طريقه ويلمسون آثار الحق وتأييده ، وأشعة الأمل المشرقة في النصر الإلهي .

وفي مواقع انكسر فيها أتباع الحق في المقاييس الظاهرية ، إلا أنهم لم ينكسروا في مقاييس الهدف الذي تمثل « بإعلان الحق ، والإفصاح عن الموقف الحق » و « مؤازرة الحق » وبعبارة أخري : .

ليس لأتباع الحق هدف سوي الحق . ويمر هذا الهدف في مرحلتين :

1- إعلان الحق إزاء الباطل .

2- تغليب الحق علي الباطل .

في هذا الضوء فأتباع الحق لم ينكسروا في أي وقت وفي أي ميدان .

ص: 295

فهؤلاء بلغوا حتي في موقع استشهادهم ، وسقوط الراية من أيديهم جزءاً من الهدف ألا وهو الإعلان عن الحق والوقوف إلي جانبه . فبإعلانهم لكلمة الحق يضعون الباطل موضع الإستفهام والشك ، ويخدشون علياءه الجوفاء فيزلزلون قواعده . ومن هنا فراية الحق حينما تكبو علي موقع أرض ما تعود مرة أخري الترفرف في ميدان آخر ، وتستمر علي هذا المنوال حتي يومنا هذا ... وسوف تستمر أيضاً ... فأين الانكسار الذي يواجه هذا النهج ؟

لذا نقول إن أتباع الحق وجند معركته لم ينكسروا انكساراً واقعياً في أي من المواقع . لقد سقط جسد الحسين (عليه السلام) وأصحابه علي وجه الأرض عند غروب الشمس من اليوم العاشر من محرم ، وأوريت النيران لتحرق خيامهم ، وتبعثر شمل عائلته وأطفاله في بيداء كربلاء بين أشواكها وحصاها ، ولكن هل انكسر هؤلاء ، وكيف كان هذا الانكسار ؟ فإذا كان هناك انكسار ، إذن ، فأيّ شيء كان ذلك الحق الذي أعلن عنه ؟!

إذن ! فأي شيء كانت هوية الحكم الفاسد التي فُضِحت ؟

إذن ! فأي شيء كان ذلك المسكوب في وعاء الشمس والذي لم يزل باقياً ؟

إذن ! فأي شيء كان دين الله الذي أنقذ من خطر الزوال ؟

إذن ! فأي شيء كانت تلك الثورات التي تتابعت بعد نهضة الحسين حتي يومنا ، وستستمر موجهة اللطمات للظالمين ؟

فالانكسار هو إغفال وهجر خط الرسالة وليس انكساراً أن تسفك دماء جند الحق علي الأرض ...

علي أي حال فسوف يبدو التأييد والنصر الإلهي صريحاً عند دعوة المهدي (عليه السلام) العظمي ، وسيشدّ علي قلوب المؤمنين في مجابهة قوي العالم الكبري ، وسيحيي روح النصر في النفوس .

أجل ! سيخرج علي اسم الله ، كما قال الشاعر الشيعي دعبل الخزاعي في قصيدته التائية المعروفة التي أنشدها بين يدي الإمام الرضا (عليه السلام) :

ص: 296

خروج إمام لا محالة خارج* يقوم علي اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل* ويجزي علي النعماء والنقمات(1)

قال دعبل : ثم قرأت باقي القصيدة فلما انتهيت إلي قولي :

خروج إمام لا محالة واقع * يقوم علي اسم الله والبركات

بكي الإمام الرضا بكاءً شديداً ثم قال : يا دعبل، نطق روح القدس بلسانك. أتعرف من هذا الإمام؟! قلت : لا إلا أنّي سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . فقال : إن الإمام بعدي ابني محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم ، وهو المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ... »(2) .

نعم جاء في الأحاديث الشريفة أن « المهدي منصور بالرعب ، ومؤيد بالنصر » يعني : ينفذ الرعب حين الظهور إلي قلوب المستكبرين ، وتثب قوي الغيب الخفية لنصرته ونصرة أعوانه . وسوف تؤدي هذه القوي مهمتها في محلها المناسب . وأحد نماذج ذلك - علي أساس الأحاديث الوافرة - هو سحق وإنهاء جيش « السفياني » الجرار في بيداء بين المدينة ومكة .

ولا يتنافي كل هذا الإمداد مع ضرورة حضور الجماهير في الميدان ، حيث إن المهدي (عليه السلام) يدعو الناس إلي الحق ونصرته ، ويطلب العون والدعم منهم ، كما أشرنا .

18- لا ... للاتكالية ..

مع الالتفات للأفكار والمباديء التي تقدمت في الفقرات السابقة ، وعبر المرور علي أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) يتضح بجلاء أن الأشخاص الذين يؤثرون العافية ، ويتصورون أن عجلة الحياة تمضي في حركتها القويمة بمجرد ظهور

ص: 297


1- الغدير ج 2 ص 354 .
2- الغدير ج 2 ص 355.

الإمام الثاني عشر (عليه السلام) دون أي عناء وجهاد ، وتحل كل مشكلات البشرية ، وتجتث كل القوي الشيطانية بمالها من أدوات ووسائل وجيوش . لحظة واحدة ثم يعود العالم مهيّأً مرفّهأ يملا العدل والإحسان أرجاءه ليقدم إلي السادة المحترمين ، يقعون في خطأ فاضح . وإن هؤلاء ليسوا بمنتظرين في واقع المفهوم الإسلامي وفي ثقافة التشيع . ومثل هذه النماذج التي تسرح في عافية في مراحل قبل الظهور ، وتقف علي التل في صراع الحق مع الظلم والظالمين ، وتثني عطفها لكل نهضة إسلامية وتحرك اجتماعي ، وتنسج لشخصيتها لوناً من التقديس التقليدي ، وتصورت أنها تطوي عمرها بيسر وهدوء ، وإذا حل اليوم الموعود « الظهور » فيعمر العالم بسرعة البرق ويضحي محل أمن واستقرار وعافية ، مثلها مثل الأعمي في ظلام . فكيف يمكن أن يقبل هذا اللون من التصور في إطار مدرسة عملية فعالة مجاهدة ترفع شعار الشهادة ، وتصوغ أبناءها علي نهج الزهد ، مدرسة النهضة التغييرية الشيعية ؟! .

وكيف يقبل أئمتنا مثل هذه العناصر في حساب شيعتهم ؟ ولنلاحظ الآن ما قاله هؤلاء أنفسهم :

«قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إنهم يقولون : إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفواً ، ولا يهريق محجمة دم ، فقال : كلَّا، والذي نفسي بيده لو استقامت عفواً ، لاستقامت الرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حين أدميت رباعيته وشج في وجهه . كلاَّ والذي نفسي بيده حتي نمسح نحن وأنتم العرق والعلق. ثم

مسح جبهته »(1) .

وفي حديث آخر عن الإمام الرضا (عليه السلام) أيضاً حيث جاءت روايته كما يلي :

لو قد خرج قائمنا (عليه السلام) ، لم يكن إلا العلق والعرق ، والقوم علي السروج . وما لباس القائم (عليه السلام) إلا الغليظ ، وما طعامه إلا الجشب »(2) .

ص: 298


1- بحار الأنوار ج 52، ص 358 ، 359 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .
2- بحار الأنوار ج 52، ص 358 ، 359 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني .

وقد جاء نظير هذه الأحاديث بوفرة . ولذا يتحتم علي رجال الحق أن تبني أنفسها لنصرة علي بن أبي طالب الثاني ، دون أن تصغي لكلمات الاتكاليين مؤثري العافية ، أو ضعفاء النفوس وصغار الهمم ، ودون أن يركنوا للاتكالية متناقضين مع السنة الإلهية ، وليكونوا رجال عمل وجهاد وشجاعة واقتدار وإقدام ومسؤولية .

للتوفر علي الإستعداد بما في ذلك الاستعداد العسكري والقتالي أهمية بالغة إلي الحد الذي ألفتت أنظارنا إليه متون الأدعية والزيارات ، كما علمتنا زيارة السرداب المقدس التي نقرأ فيها ما يلي :

« اللهم كما جعلت قلبي بذكره معموراً ، فاجعل سلاحي بنصرته مشهوراً » . ونقرأ في هذه الزيارة المباركة أيضاً :

« وإن حال بيني وبين لقائه الموت - الذي جعلته علي عبادك حتماً ، وأقدرت به علي خليقتك رغماً - فابعثني عند خروجه ظاهراً من حفرتي مؤتزراً كفني ، حتي أجاهد بين يديه ، في الصف الذي أثنيت علي أهله في كتابك ، فقلت : ( كأنهم بنيان مرصوص ) »(1) .

لاحظوا أن الحديث عن « السلاح المشهور » و « البنيان المرصوص» . وإذا كانت العودة من القبر - باللطف الإلهي - فهي عودة للجهاد والنضال ، والاتّزار بالكفن ، وحمل السلاح علي السواعد . وهذه الفعالية والمقاومة متوقعة ومطلوبة من مترقبي حكومة الحق ومنتظري الدولة المهدوية .

19- ملحمة كبري ، ومقتلة عظيمة

الملحمة في استعمالات العرب التقليدية تأتي بمعني « الموقعة عظيمة القتل في الحرب » والملحمة أخذت من مادة « لحمة » . وقد قيل للحرب

ص: 299


1- مفاتيح الجنان ، فصل زيارات صاحب الأمر (عليه السلام) .

الدامية كثيرة القتل ملحمة ، لبلوغ المتقاتلين في مواجهتهم حد لحمة بعضهم بعضاً .

وقد انساق الحديث في آثار السالفين ، وفي النصوص الإسلامية حول وقوع الملاحم . يعني : إن هناك ملاحم ستقع حين بروز ثورات آخر الزمان ، وعلي طول المدة الواقعة قبل الظهور والمتاخمة له . نعم الحديث حول إراقة الدماء والمجازر الكبري ، ويساق المستكبرون والظالمون فوجاً فوجاً للذبح ، فَتُلَوّنُ الدِّماء كُلَّ مكان وتمتليء بطونُ وحوش الصحراء ، وسباع الجو من الجثث المتناثرة(1) .

يسحق أعداء الحق والعدالة علي هذا المنوال ، ويذل المستكبرون الواحد بعد الآخر ويدمرون . وتلون الأرض وتجري الأنهار بدماء الظالمين والجبارين المنحطين والمزيفين من رجال الدين .

وقد علمونا ودفعونا للاستعداد لهذه المقتلة العظمي وهذا التطهير العالمي الواسع . وأي استعداد أفضل من هذا الذي حضّونا علي التماس الباري تعالي ليتحقق هذا التطهير الواسع وهذه الحرب العظمي . كما جاء في الذكر الخاص بالمهدي (عليه السلام) :

« وأقم به الحرب .. »

وقد ألفتوا أنظارنا لمفهوم الشهادة بالنسبة لقضية الاستعداد لحين الظهور ، ونصرة المهدي (عليه السلام) بغية أن ترتفع روح التضحية والإقدام ، لنرد بهما ميدان العمل . قالوا : إذا اشتشهدت - حيث إن الحرب والقتال ينطويان علي شهادة أيضاً - فلا بد أن تكون مسروراً ، إذ إنَّك سوف تكون مرفوع الرأس شأن الشهداء الذين استشهدوا بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فكل شهيد منا في ركاب المهدي (عليه السلام) له أجر شهيدين .

فكل عناصر الانحراف والكفر ، وكل أعداء العدل والفضيلة ، وكل خصوم الإنسان والإنسانية الألدَّاء ، من الذي لا بد أن يقتلهم ؟ أنت ، أنت يا

ص: 300


1- بحار الأنوار ج 52، ص 246، 251 ، 388.

منتظر الظهور ، أنت يا شيعة المهدي . نعم أنت الذي لا بد أن تقتل . ولأجل أن نستعد بشكل أفضل فقد حسبوا أجر الشهادة في هذا النضال العظيم بأجر شهيدين ، وعدّوا ثواب قتل واحد من الأعداء يعدل أجر عشرين شهيداً . فسلام علي هذا المذهب وهذه الرسالة ، المذهب والرسالة التي تقول : إن لك أجر شهيدين حينما تهب لنصرة قائد حكومة العدل العالمي . وحينما تقتل أعداءه -الذين هم أعداء الشرف والطهارة والإنسانية والعدالة والحق والفضيلة ، وورثة كل ألوان الظلم والجناية وكل ظالمي وجناة التاريخ - فلك في قتل كل واحد من هؤلاء المنحطين القذرين أجر عشرين شهيداً »(1) .

« ومن أدرك قائمنا فقُتل معه كان له أجر شهيدين ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً » .

20- عالم المنتظرين

لا بد أن يكون لنا هدف ، ليعزز بعضنا البعض الآخر في تلمس هذا الهدف .

يصل الدور الآن لنطل علي عالم المنتظرين ، والمترقبين . ومن الممكن أن تكون قدرتنا أفضل علي رسم صورة هذا العالم وملاحظة ملامحه ومؤشراته عند هذه المرحلة من البحث . المنتظرون حملة لواء الحرية والخلاص . المنتظرون دعاة حلول يوم ، ومستقبلو طلوع الشمس .

وما قيل : من « أن الحياة تمضي في قمة متعالية علي اليأس والمرارة وخطي الزمن الوئيدة » فهذه القمة المتعالية في الواقع هي حياة المنتظرين . وما قيل من : « أن الدنيا تتعطش للحكمة والأمل » فهذه الحكمة هي عين رؤية وبصيرة أتباع الحق . وهذا الأمل عين أمل الخلاص وكل ذلك أجمع إشراقة إطلالة الانتظار .

محقّ من يثيره سماع اسم « الانتظار » ، ويدفعه متشوقاً لمواجهة إطلالة

ص: 301


1- بحار الأنوار ج 52، ص 123 ، 317 ، نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي .

المنتظرين وليس مجانب للصواب . أجل ! فالمنتظرون أناس تمثل معرفة الحق كل وجودهم ، وقلوبهم كلها بصيرة ، ولحظاتهم كلها انتظار خلاص الإنسانية . أناس كل تطلعاتهم نحو طلوع صبح العدالة لتشرق أرجاء المعمورة بنور الحق ، ويملأ العدل والقسط كل موقع في العالم . حقاً إن نماذج هذا القطاع من البشر تدعو للإعجاب وتثير شوق لقائها . وحقاً نتساءل : كيف حال هؤلاء الأناس ؟

تخيل ، أنك وصلت إلي مدخل مدينة . وعند المدخل يقولون لك إن هذه المدينة مدينة المنتظرين ، وسكان هذا البلد في حال انتظار وهم يترقبون الطريق . فهنا تتساءل : ماذا ينتظر هؤلاء ، وأي شخص هم في انتظاره ؟ فيجيبون بالقول : إن عيون هؤلاء الناس ترقب رجلاً سماوياً ، لا يزال حياً مستتراً عن الأنظار ، وهو إمامهم والشاهد علي ممارساتهم وأعمالهم . يترقبون ظهور هذا الرجل السماوي ، ليقلع ظواهر الظلم والعدوان عن العالم ، ويغرس فيه روح الإصلاح والصلاح ويملأه بالعدل والفضيلة ، ويرقي بالإنسانية المهتضمة حيث مقامها الشامخ ، ويعلن عن بلوغ الأيام والعقول والأنوار والإنسانية حينها ، ويصدح بيوم الخلاص ، هؤلاء الناس يتوفرون علي مثل هذا التطلع ، ويترقبون مثل هذا الحدث ، وينتظرون قدوة كهذا ...

وحينما يطرق سمعك في مدخل المدينة هذا الحديث ، تأخذ بالهمس مع نفسك : بخ بخ ، يا سلام ، أي عظمة يتوفر عليها هذا القطاع من البشر ، وأي وضوح في الرؤية يمتلكون ، وأي حب للإنسانية به يشغفون ، وأي نفوذ في البصيرة ، ونظافة في السريرة يملكون ، وما أشد اندفاع هذه الجماعة وحماسها !...

ما أروع مجتمع هؤلاء وما ينطوي عليه من علاقات إنسانية ، وعدل في المعاملة ، وإنصاف ومروءة وعفة وفضيلة ، والتزام وتقوي ، وشرف وحرية ، وعقل ودراية ، واندفاع وثورة ، وصمود وصلابة ، وأمل ونشاط ، ونظافة ورقة ، وذوق وفن وتطلع نحو الجمال ، وارتباط مع الله ومناجاة ، كيف يكون هذا المجتمع في شجاعة وقتالية أفراده ، في مظاهرة الاجتماعية ، وفي خلقه

ص: 302

الإنساني ، وفي علمائه ومربيه وموجهيه ، في سوقه وقيمه الاقتصادية ، وفي مساجده ومدارسه ، في إدارته وسياسته ، في حكمه وحاكمية ، في قضائه وقضاته ؟ ومن هم ، ومن أي صنف هم سكان هذا البلد ؟ فيحدث نفسه ليدخل هذه المدينة مدينة المنتظرين المترقبين ، ويلقي نظرة أخري علي أوضاع سكانها ، عسي أن يتنفس الصعداء ، ويلتذّ ويشحذ بالأمل ، ويملأ أفقه شمولاً؟ وعمقاً وإيماناً قويماً ، ويتلمس بنفسه هويته الإنسانية ، ويصلي علي شموخ عظمة عرفاء العظمة ...

يتحتم أن تكون دائرة منتظري المهدي الموعود (عليه السلام) مستجيبة متطابقة مع ما أشير إليه آنفاً ، ولا بد أن يكون تجسيد التشيع المنتظر أرقي وأرفع من ذلك ، وهو كذلك ...

21- التعاون والنصرة

اشارة

لقد ألقي الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) الضوء علي ما يتحتم من تلاحم صميم في أوساط المنتظرين . المنتظرون في عصور الغيبة يحملون أصل عقيدة ، ولهم أصدق مواقف الحق . فعقائد المنتظرين تتشكل وفق خلاصة أسس الإسلام ، وأساسيات حقائق القرآن ، كما أشرنا لها مراراً . المنتظرون يدعون أنهم يتطلعون لحركة تجسد أهداف الأنبياء المقدسة ، بدءا بآدم (عليه السلام) وإبراهيم (عليه السلام) حتي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وأهداف الأئمة بدءاً بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حتي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، لتصل بالبشرية للخلاص الكبير . وواضح أن العلاقة بين أبناء هذا القطاع العقائدي ، ذي الدور الخطير ، لا بد أن تكون في غاية التلاحم والطهارة والانسجام والمتانة والعمق . نلتقي بهذا الصدد ، وبصدد السلوك الإلهي الإنساني الذي يتحتم أن يحكم قطاع المنتظرين ، نلتقي بتعاليم حية شامخة ووافرة ، ومن نماذجها :

« عن جابر ، قال : دخلنا علي أبي جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - ونحن جماعة . بعدما قضينا نسكنا ، فودعناه ، وقلنا له : أوصنا يا بن رسول الله ! فقال : « ليُعن قويُكُم ضعيفَكُم ، وَلْيَعْطِفْ غَنيّكم علي فقير كم ، ولينصيح

ص: 303

الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسرارنا ، ولا تحملوا الناس علي أعناقنا ، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه ، وإن اشتبه عليكم فقفوا عنده ، وردّوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا . فإذ كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلي غيره ، فمات منكم ميت - قبل أن يخرج قائمنا ۔ كان شهيداً . ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين ، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً »(1) .

تشكل وصية الإمام العامة - أعلاه - معياراً لألوان السلوك الثقافي والسياسي والتنظيمي للشيعة في عصر الانتظار . والنموذج السلوكي المطلوب في إطار هذه الوصية هو « التعاون ». التعاون وتقديم الدعم ، واطلاع البعض علي أوضاع البعض الآخر ، والتزاور ، والتلاحم ، وحب الخير ، وأن يقبل ذوو المكنة علي أصحاب الحاجات بتواضع وأدب ، ويساهموا في رفع حاجتهم ... هذه المفردات تشكل جزءاً من الوظائف الأولية للشيعة المنتظرين .

لا بد أن يتفقد ذوو المكنة أصحاب الحاجات ، ويستوعبوا حاجاتهم . لا بد أن ترفع الهموم من قلوب المهمومين ، ويغني ذوو الحاجة ، يتحتم أن يحب كل فرد الخير للآخر ، ويدعوه للخير والحسني والصواب . ولا بد أن يتفشي عمل الخير في الوسط ، وتدعو الأمة بأحادها بعضهم البعض لمعرفة وأداء العمل الصالح ، وأن يقدم العون في هذا السبيل . وهذه وصايا أئمتنا وقدوتنا .

ونشير هنا إلي أمرين مهمين آخرين بمناسبة ما يلزم الإنسان المنتظر من مسؤوليات ومزاج يتوفر عليه في أيام الغيبة :

ص: 304


1- بحار الأنوار ج 52، ص 123 ، نقلا عن أمالي الشيخ الطوسي .

أ- الإمساك عن اليأس ومحاربته

يلزم منتظرو حكومة التوحيد والعدل ، ومترقبو . استقرار أسس الفضيلة والحق أن يسدوا الطريق علي نفوذ اليأس لنفوسهم، وأن لا يسمحوا لسمّ اليأس الهالك أن يتفشَّي في أرواحهم ، بحكم أي عامل من العوامل ، وعلي وجه الخصوص استغراق عصر الغيبة زمناً طويلاً ، وتصاعد إمكانيات قوي مستكبري العالم الكاذبة . لا بد أن يقلع اليأس من النفوس في ضوء ذكر الله وقدرته ، والاعتقاد بصدق الوعد الإلهي ، وعهود الأنبياء والأئمة وغيرهم من عظماء التاريخ .

لاحظوا حديث الإمام علي (عليه السلام) :

« انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله ... فإن أحب الأعمال إلي الله انتظار الفرج» .

ب - الصبر والصمود

لقد وصلتنا الكثير من التعاليم والمقولات أيضاً بصدد الصبر والتحمل والجلد الذي يمثل أرضية خصبة لتجلي قدرة الروح الإنساني ، وتبلور الإيمان والإفصاح عن جوهر الوجود والاستعداد . ونكتفي هنا بحديث عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) .

« انتظار الفرج بالصبر عبادة »

وكما أشرنا فتوصية الإنسان المنتظر بالصبر تعني لزوم الأناة والجلد بالنسبة المسألة غيبة الإمام ، ورفع حالة الوسوسة والتزلزل بالنسبة لقضية مبدأ الفرج الكلي . ولا تعني بالنسبة للجماهير المسؤولة الإمساك عن اتخاذ الموقف الجسور المناسب في أي يوم كان .

22 - المساواة في الأموال ، المساواة

جاء في أحاديث وتعاليم الدين ، وعبر واقع الإسلام الحقيقي أن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) قسم الأموال بين المسلمين بالسوية :

ص: 305

« أليس كان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقسم بالسوية بين المسلمين ؟ »(1) .

وقد جاء هذا الحديث جواباً أفصح عنه الإمام علي (عليه السلام) في رد اعتراض طلحة والزبير .

جاء طلحة والزبير علياً (عليه السلام) مطالبين الإمام أن يقتلهما في العطاء علي سائر المسلمين ، كما كان يفعل معهم في خلافة الماضين . وقد أجابهم الإمام ذلك الجواب معلناً عن اقتفاء سبيل الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) . كما جاء في الأحاديث المباركة الكثيرة أنَّ علياً (عليه السلام) أيضأ كان يقسم الأموال بالسوية . وكانت هذه الظاهرة سمة وامتيازاً مشهوراً اختص به علي (عليه السلام) ، كما أن مقولة « أقسمكم بالسوية » جملة نبوية صدرت في حق إمام الإنسانية العظيم علي (عليه السلام) .

كما جاء في الأحاديث الكثيرة أيضاً أن المهدي يقسم الأموال بالسوية ، وإليك ثلاثة نماذج منها :

1- قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : « أبشركم بالمهدي ... يقسم المال صحاحاً ، فقال له رجل وما صحاحاً ؟ قال : بالسوية بين الناس »(2) .

2- قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : « ويقسم بالمال بالسوية(3)

3- « ويسوّي بين الناس حتي لا تري محتاجاً إلي الزكاة »(4) .

وهذا هو جوهر بُغيَةِ الأنبياء ، وروح رسالة الإسلام ...

23- المسجد معبد ، ومذخر سلاح

لِمَ قلنا إنه يتحتم أن يكون مجتمع الانتظار تجسيداً عملياً للمقاومة لا للتسليم ؟ قلنا ذلك لأن مجتمع الانتظار يعني مجتمع يتصل بمجتمع الظهور .

ص: 306


1- المناقب ، ابن شهر آشوب ج 2 ص 110- 111 .
2- منتخب الأثر ، ص 147 ، نقلاً عن مسند احمد ج 3، ص 37. وبحار الأنوار ج 51، ص 81، 92.
3- بحار الأنوار، ج 51، ص 84 ، نقلاً عن كشف الغمّة .
4- بحار الأنوار ، ج 52، ص 39.

والواقع العملي لمجتمع الظهور -في المحيط الإسلامي -(1) يجسد المقاومة ... لِمَ ؟ لكي يتمكن من مواكبة المهدي ونصرته عن طريق مقاومته العالية وطاقاته المهيأة . قلنا فيما مضي إن المهدي (عليه السلام) يستنصر الناس ، ويطلب من بينهم أنصاراً، وأعواناً .

ومن حيث الأساس يعتمد المنهج الإسلامي القوة والعزة ، لتعلو النفوس شامخة . وفي بعد آخر نجد أن الجماهير حينما تتدخل بشكل مباشر في تجسيد أمر ما ، فسوف تلتحم وتتعمق أواصرها معه ، كما أنها سوف تقترب من الله تعالي وتنال أجره وثوابه . وقد أكد النهج الإسلامي تأكيداً شديداً ، وحضَّ الناشئة علي رعاية سلامة الجسم ، وتطوير القابلية البدنية ، وممارسة الرماية وسباق الخيل . وقد كان النبي الأكرم والأئمة الطاهرون أنفسهم يتلمسون الفرصة للمشاركة في هذه الفعاليات الدفع الأمة وشبابها وترغيبها بهذه

الفعاليات .

كما جاء في الأحاديث المباركة أنَّ المهدي يظل محجماً عن التحرك بعد وصول «313» نفراً من أنصاره المستخلصين ، ولا يشرع في ثورته العالمية حتي يلتف حوله عشرة آلاف ممن يلتحق به لنصرته . وجاء في بعض الأحاديث الأخري أنَّ : « سبعين ألف صديق سيكونون في أصحاب المهدي وأنصاره » .

من هنا تحتم أن تتناول قضية الاستعداد ، والتدريب العسكري بشكل بالغ الجدية ، وأن تولي اهتماماً كبيراً ... كنت منذ سنين مؤمناً بضرورة تمتع الشباب المسلم وحتي طلاب الحوزات العلمية بالقابلية واللياقة البدنية المطلوبة ، وضرورة ممارستهم التدريبات العسكرية اللازمة ، ومختلف فنون الرياضة البدنية ، وأن يطلعوا علي مختلف فنون مواجهة العدو ، ويتوفروا علي السلاح ومعرفة استخدامه . وما زلت أؤكد علي هذه الضرورة حتي الآن.

فكما أنَّ مساجدنا مواقع للعبادة ومدارس للعقيدة يتحتم أن تكون أيضاً مدارس الجهاد ومعاقل للثورة . لا بد أن يكون المحراب منطلق حرب مع

ص: 307


1- سوف تحصل مقاومة أيضاً من قبل قوي وتجمعات المحيط اللاإسلامي ، وسيقفون في مواجهة المهدي (عليه السلام) . ولا بد أن تسحق هذه المقاومة وتدمر علي يد أنصار المهدي (عليه السلام) .

الشيطان وحرب مع الطاغوت الذي يمثله الاستكبار العالمي ، والظلم والتجاوز الاجتماعي ، والانحراف السلوكي ،...

يتحتم أن يحتل السلاح زاوية من المسجد ، كما تحتل كتب الأدعية والمصاحف محلاً ، وكما تحفل المكتبة بمثولها في زاوية من زوايا المسجد . ليتعلّم شباب المحلة فنون السلاح ، ويرتبطوا بالمساجد وفق تشكيلات أصولية ودقيقة . ليحملوا السلاح فور وقوع أيّ خطر دفاعاً عن كل القيم المقدسة . وحينما يفهم العدو أن الجماهير مسلحة فسوف يضعف احتمال هجومه ، وتنتهي فعالية الاستعداد المسلحة لخفض نسبة الحرب لا إلي تصعيدها .

أمتنا وشبابنا لا بدَّ لهم من الإصغاء باستمرار لهذه الآية المثيرة للاندفاع :

(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ، ولتأت طائفة أخري لم يصلوا فليصلوا معك ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، و الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ... )(1).

فهذا تعليم قرآني يأمر بإقامة الصلاة بشكل مسلح ، ويوصي بعدم إغفال السلاح ووسائل الحرب . وتمضي تعاليم الأئمة أيضا علي هذا النهج . وإذا أردنا الإصغاء لأحاديث أئمتنا فلا بد من أن نتسلح علي الدوام ، حتي لو توفرنا علي سلاح أولي بسيط . وقد أوردنا في الصفحات الماضية توجيهاً بهذا الصدد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) . كما أشرنا فيما تقدم إلي مسألة التنظيم التعبوي وإيجاد تشكيلات دقيقة ومقتدرة وأكدنا علي أهمية هذه المسألة .

يمكن للمساجد أن تكون أهم قواعد تشكيل التنظيمات ، وإيجاد مكاتب للعلاقات يطمئن بها ، وتتمتع بفعالية عالية ، خصوصاً إذا التفتنا للبعد

ص: 308


1- سورة النساء : الآية 102.

الجماهيري للمسجد والعلاقة الحميمة القائمة بين المسجد وجماهير محل المسجد .

المسجد كما قال الإمام الخميني : «خندق، ولا بد من الحفاظ علي هذا الخندق » . لنتحدث الآن عن تسليح الشباب في ضوء الرسالة والمسؤولية والالتزام والمسجد ، لا بدَّ من التأكيد الكبير علي ضرورة تعرف الشباب علي أسلوب اقتناء السلاح ، والاقتداء بسلوك وأخلاق « الفارس » ، التي جاءت في الكتب ذات العلاقة . يتحتم بدءاً التحلّي باللياقة الأخلاقية علي حمل السلاح ، ثم يأخذونه بأيديهم بعد ذلك. فأخلاقية اقتناء السلاح - وفق الموازين الإسلامية - مسألة في غاية الأهمية ، ويجب رعايتها .

24- يا لثارات الحسين

« يا لثارات الحسين » شعار يتفاعل في شرايين أبناء التشيع علي الدوام ، يا لثارات الحسين = هلمّوا للمطالبة بدم الحسين ! لقد انطلق هذا الشعار الثوري ظهيرة عاشوراء من عمق أرض كربلاء الدامية ، وصُبّ في وعاء الشمس ، فلوّن كل شيء بلون الدم القاني ، فسقي الشفق الدامي ، وملأ الفجر المستفيق ، فعمَّ الجبال والأودية ، والصحاري والغابات والأنهار والبحار ، والعامرة من الأرض والمدن ، والقري والأرياف ، وأضحي شاملاً لكلّ مكان في كلّ زمان ، فأثار فورة الدماء ، وأعطي للنهضات وجهتها .

هذا الشعار هو الذي صيّر كل أرض كربلاء ، وكل شهر محرماً ، وكل يوم عاشوراء ... وهذا الشعار نفسه سوف يحتل موقعاً علي راية ثوار مرحلة الثورة الكبري ، ثورة المهدي .

قال الإمام جعفر الصادق (ع) :

« ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد لا يشوبها شك في ذات الله ، أشد من الحجر ، لوحملوا علي الجبال لأزالوها . لا يقصدون براياتهم بلدة إلا خربوها . كأن علي خيولهم العقبان يتمسحون بسرج الإمام (عليه السلام) يطلبون بذلك البركة ،

ص: 309

ويحفون به ، يقونه بأنفسهم في الحروب ، ويكفونه ما يريد منهم . رجال لا ينامون الليل ، لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل ، يبيتون قياماً علي أطرافهم ويصبحون علي خيولهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، هم أطوع له من الأمة لسيدها ، كالمصابيح كأنَّ قلوبهم القناديل . وهم من خشية الله مشفقون . يدعون بالشهادة ، ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله ، شعارهم : يا لثارات الحسين . إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر ، يمشون إلي المولي أرسالا ، بهم ينصر الله إمام الحق »(1) .

25- رايات خراسان السوداء

منذ السالف من الأيام حيث كان الحديث يدور حول المهدي ، وفي الأحاديث الواردة عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) انساق القول عن رايات خراسان السوداء ، يعني : رايات سوداء تأتي من صوب خراسان ، وتتحرك في هذه الرايات جماهير من الناس . قيل إنَّ هؤلاء يلتحقون بأنصار المهدي ، وينتصرون له حتي إقامة دعائم حكومة العدل والقسط واستلام المهدي زمام الأمور .

وقد أفرد المحدث السنّي المعروف علاء الدين المتقي الهندي « المتوفي عام 975 » في كتابه « البرهان في علامات مهدي آخر الزمان » باباً خاصاً لهذا الموضوع ، وقد أورد في هذا الباب «26 » حديثاً عن طريق أبي داود ، ابن ماجة ، أحمد بن حنبل ، الترمذي ، الطبراني الحاكم النيشابوري ، نعيم بن حماد ، سعيد بن المسيب وغيرهم ... وقال : جاء في هذه الأحاديث علي لسان النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) والإمام علي (عليه السلام) ما يلي :

« إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ولو حبواً علي الثلج فإن فيها خليفة الله المهدي .

ص: 310


1- بحار الأنوار ج 52 ص 308.

تجيء الرايات السود من قبل المشرق كأنّ قلوبهم زبر الحديد ... رهبان في الليل فرسان في النهار »(1) .

وقد نقلنا من قبل مقالة بعض أهل السنة حيث قالوا : إنّ المقصود بالرايات السوداء « التي وردت في الأحاديث » هي رايات تأتي زمن المهدي وليس المقصود بها رايات أبي مسلم الخراساني السوداء .

26- نهضة الموطئين من المشرق

بعد الإشارة لأبعاد ظاهرة « الانتظار » العميقة ، والخصوصيات الضرورية التي يجب أن يتوفر عليها قطاع المنتظرين ، وبعد إيضاح دور قوي الجماهير في مرحلة الظهور ، وأهمية التعبئة العامة ولزوم الاستعداد والترقب ، تلزمنا الإشارة لحديث في غاية الأهمية .

فلعلَّ لدينا من أهل العلم والمتدينين من يحسب - نتيجة الضعف والسذاجة وفقدان النظرة الاجتماعية والإنسانية وتجاوز السنن الحكيمة الإلهية - أن العالم حين الظهور يغرق بكل أماكنه بالفساد والضياع ، حتي الأرض الإسلامية ، ومدن وبلدان عالم التشيع .

وفي مثل هذه الظروف يتفق وقوع الظهور العظيم . غير أن التصور وفق الأحاديث المباركة ليس كذلك .

صحيح أن عالم عصر الظهور عالم يمتليء بالظلم والجور ، إلا أن هناك في زوايا هذا العالم ، وخصوصاً في المعمورة الإسلامية والشيعية جماهير - رغم ندرتها بالقياس لجماهير أرجاء العالم وتعداد سكان كل البشرية - تعتقد بالحق وعلي بصيرة بأمره ، وتترقب سبيل المهدي ، وتمضي حياتها مهيأة للالتحاق به وإعانته ونصرته . ومن خلال ملاحظة الأحاديث والأفكار التي ذكرت في هذا الفصل نفسه ، يتّضح أنَّ هذه الجماهير المنتظرة تنتظم وتأتلف ، ولها تشكيلاتها وقوتها . ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك . يعني أن حكمة التكليف وطبيعة

ص: 311


1- البرهان ص 147 ، 152 .

الإرادة الإلهية والسنن الربانية والقوانين الاجتماعية تقتضي ذلك أيضاً. فقد جاء في عدة روايات - نقلها السنة والشيعة - أن هناك جماهير تنهض قبل الظهور وتهييء مقدمات حكم المهدي .

خصص الحافظ أبو عبدالله الكنجي الشافعي - المحدث السني المعروف - الباب الخامس من كتابه « البيان في أخبار صاحب الزمان » لهذا المفهوم ، وعنون هذا الباب ب « الباب الخامس ، في ذكر نصرة أهل المشرق للمهدي - عليه السلام » . ونقل في هذا الباب حديثاً عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) :

« يخرج أناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه »(1) .

ويعلق الحافظ الكنجي بعد نقل الحديث بالقول :

هذا حديث حسن صحيح روته الثقات والأثبات ، أخرجه الحافظ أبو عبدالله بن ماجة القزويني في سننه .

في كتب ومصادر الشيعة جاءت هذه المضامين والأحاديث أيضاً وروي عن علي (عليه السلام) قوله :

« يكون مبدأه « أي المهدي » من قبل المشرق »(2) .

وقد ذكرت الأحاديث حضور العجم « الإيرانيين » أيضاً في مرحلة حكم

ص: 312


1- البيان في أخبار صاحب الزمان ، بحار الأنوار ، ج 51، ص 87، وقد نقل هذا الحديث أيضاً في كتاب البرهان ، للمتقي الهندي ، ص 47.
2- بحار الأنوار ج 52 ص 252 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني . المراد بالمشرق الذي جاء التعبير به في أحاديث المهدي (عليه السلام) هو شرق العالم الإسلامي في مقاييس القرون الأولي للإسلام . وعلي هذا الأساس ينطبق هذا التعبير علي أرض خراسان والأقسام الشرقية حتي المقطع المركزي لإيران . ويؤيد القسم الأول أن اسم « خراسان » جاء بالتصريح في بعض الروايات . ويؤيد القسم الثاني « الانطباق علي الأقسام الشرقية » أيضاً تصريحات جاءت في بعض الأحاديث ، ومنها التعبير في حديث ب « خراسان الكوفة » « البرهان ، المتقي الهندي ، ص 150 » كما يؤيد هذا المفهوم ما جاء بصدد « الطالقان » وأنصار المهدي (عليه السلام) القادمين من طالقان . ورغم أنّ طالقان اسم أطلق علي أربع أو ثلاث مناطق وفق الجغرافية القديمة للعالم الإسلامي ، إلا أنَّ المراد منها عين طالقان المعروفة وضواحيها ، التي تقع في القطاع المركزي من الأرض الإيرانية .

المهدي (عليه السلام) - كما أشرنا من قبل - ويحكي ذلك عن حضور جماهير في الميادين المختلفة لحكم المهدي ، لتهيّيء مقدمات هذا الحكم ، كما تشكل دليلاً علي ضرورة الاستعداد لحلول تلك الأيام ..

وعلي هذا الأساس يُجاب علي الإشكال الذي طرحه بعض المفكرين الاجتماعيين السالفين ، والذي مفاده : كيف تتحقق حكومة المهدي دون توطئة وبدءاً من الصفر الساكن ؟ فهذا المستشكل لم يلاحظ بإمعان مجمل الأحاديث والأفكار المتعلقة بالظهور . فتحقق هذه الحكومة لم يك دون مقدمة وبدءاً بالصفر الساكن ، بل عبر مقدمة وتوطئة ثوار المشرق وحركة رايات خراسان والخراسانيين . إذن ، فهي تبتديء. بالمتحرك الذي تمثله : الجماهير المؤمنة البصيرة المنتظرة الناهضة ...

وهنا يمكن تصور أن المنتظرين أنفسهم قبل ظهور الحق والعدل الكامل ينهضون في محيطهم - وفق المسؤولية الرسالية - علي أثر ما يرونه من ضغوط الفساد وبعد ما يشهدونه من هتك للأحكام والنواميس . ويفلحون إلي حدود - رغم كونها محدودة بالنسبة لمستوي العالم - ولعلهم يشكلون حكماً في زاوية من العالم . وهذا الإنتصار نفسه يشكل أرضية لتجمع وانضمام الصفوف المؤمنة البصيرة المتحركة المنتظرة ، وهذه الصفوف نفسها هي التي تستجيب لنداء المهدي ، وينتهي أمرها لمرحلة دعوته ، وتشكل الوجود الأساس لورثة الأرض وللمقاومة المؤمنة .

هناك حديث رُوي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في المصادر المعتبرة يمكن أن ينطبق علي هذا المفهوم(1) والحديث هو :

عن أبي خالد الكابلي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال : «كأنّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يُعطَوْنه ،

ص: 313


1- المعني بهذا المفهوم هو المقطع الأخير من الفقرة التي بين أيدينا وهو نهضة ثوار يمسكون بزمام الأمور ، ويسلمون حكمهم وإمكاناتهم للمهدي (عليه السلام) وإلَّا فمفاهيم الاستعداد. وضرورة التهيؤ - حتي الاستعداد العسكري والقتالي - التي ذكرناها حتي الآن ، جاءت في الكثير من الأحاديث القطعية غير القابلة للتردد والشك .

ثم يطلبونه فلا يُعطونه ، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم علي عواتقهم ، فيعطون ما سألوا ، فلا يقبلونه ، حتي يقوموا ، ولا يدفعونها إلا إلي صاحبكم ، قتلاهم شهداء . أما إنّي لو أدركتُ ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر »(1) .

27- الظلم الشامل ، لا الكفر

يلزم مرة أخري أن نذكر بأن الوارد في الأحاديث المباركة هو أنَّ أرجاء العالم حين الظهور تمتليء بالظلم والجور لا بإنحراف العقيدة أو الكفر .. يعني : أنَّ الحال هناك لا يضحي بالشكل الذي لا نعثر فيه علي عقائديين متدينين في أي مكان ، وليس هناك أي شخص يصرح بكلمة الحق والعقيدة والرسالة والأحكام الإسسلامية ، بل تعثر علي جماهير مؤمنة تقول الحق والإيمان ، بل تعثر علي جماهير تؤمن بالمهدي وآبائه وتنتظر ظهوره . فقد جاء في الأحاديث المباركة : إنَّ المسلمين آخر الزمان ينقذون من الفتن والضياع بواسطة المهدي كما أنقذوا في صدر الإسلام من الشرك والضلال بواسطة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) . يدلّ هذا النص كما تدلّ أحاديث كثيرة أخري علي حياة الدين ووجود المتدينين في عصر الظهور . والمفقود هو العدالة والمساواة ، والتكامل العقلي والعلاقات الإنسانية . ويؤمّن المهدي هذه المفردات ، وينشر الدين علي ربوع الكثير من مناطق العالم الأخري بمؤازرة المؤمنين. فمؤشر مرحلة قبل الظهور هو شيوع الظلم والجور والعدوان والتجاوز . وإذا سرحنا النظر بإتقان نجد العالم الآن علي هذه الحالة ، وهو يمتليء بالظلم والجور حتي أقاليم العالم الإسلامي .

ومع أخذ هذا الواقع بنظر الاعتبار يمكن ترقب ظهور حوادث عظمي ، و بزوغ طلائع دولة الحق . ومع الالتفات لهذا الواقع نفسه لا بد من التشبث بإعداد شباب الشيعة وغيرهم من المؤمنين برسالة الحق لنصرة المهدي (عليه السلام) ، والتعلق بعمق بهذه الممارسة . إن مفهوم الاستعداد لا ينبغي أن يُغفَل عنه بعد

ص: 314


1- بحار الأنوار ج 52، ص 243 ، نقلاً عن الغيبة ، النعماني . وقد روي أيضا حديث قريب المضمون هذا الحديث عن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ، في كتاب « البيان في أخبار صاحب الزمان » للحافظ الكنجي الشافعي .

الآن في مجتمعنا ، بل لا بد أن يبقي حياً فعالاً ، ليسري إلي سائر قطاعات الامة الإسلامية الأخري .

28- أنصار مهيأون ومعركة مستمرة

أشرنا إلي وجود سياقين تربويين أساسيين في ثقافة التشيع ، يتحتم الإفادة منهما علي الدوام ، واستلهامهما والاستنارة بهما. أحد هذين السياقين هو « الدعاء » والأخر « الزيارة ». وقد استثمرت « مدرسة الدعاء والزيارة » في تخطيط البرنامج التربوي للأئمة الطاهرين بشكل عظيم علي طريق إيصال التعاليم والمعارف للأمة . فعبر نصوص الدعاء والزيارة وردت مفاهيم إسلامية بناءة وافرة . وقد أراد أئمتنا (عليهم السلام) أن تصغي جماهيرنا حين قراءة الأدعية والزيارات للمفاهيم والوصايا التي جاءت بها . وفي جو الصفاء الروحي تهضم هذه المفاهيم الخالصة ، وتصاغ الشخصية في ضوئها . نقرأ في الزيارة :

« ونصرتي لكم معدَّة ... »(1) .

كيف وأيّ شيء هي هذه النصرة ؟ فإذا كنا نحن الشيعة نقرأ ونقول بصدق : « يا قدوة الدين نحن مستعدون علي الدوام لنصرتكم » فهل أن هذا الاستعداد سوف يتحقق بمجرد الكلام ؟

وهل أن الاستعداد لفظ فحسب ، أم أنَّ الاستعداد لأجل الإمداد والعون وتهيئة وسائل النصرة والإعانة ؟

ويتوفر الاستعداد لتقديم العون في عصر الغيبة علي خصوصية أخري . وهذه الخصوصية هي الاستعداد والتهيؤ للمشاركة في النهضة الكبري ، والملحمة العظمي - التي أشرنا إليها فيما مضي -. فالعناصر التي تعشق المقام الرفيع لإمام العصر (عليه السلام) ، وتصدق في حبّها ، وترغب أن تكون صاحبة فعل وعمل لا لفظ وقول ينبغي لها أن ترحب بثورة الإسلام في إيران، حيث إنَّ

ص: 315


1- وردت في « زيارة الأربعين » ، كما جاءت في الزيارة « الأيات الربانية » بصيغة « ونصرتي معدة لكم » .

شبابنا تستعد للدفاع والحرب ببركة هذه الثورة ، ولا بد لنا من دفع شبابنا للتمتع بهذا الاستعداد والحفاظ عليه . كما نقرأ في الزيارة :

« سلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم »(1)

ماذا يعني هذا الشعار الثوري الكبير ؟ أيعني غير أنَّ جماهير الشيعة يتحتم عليها الانسجام مع كل فرد أو حركة أو حكم يتبع الحق ويسلم له ، ويقف بوجه كلّ فرد وحركة وحكم يواجه الحق ويقاتله ويقاومه ؟ أجل يتحتم علي الشيعة قتال المستكبرين والظالمين المستمر : حرب لمن حاربكم ...

فهذه تعاليم لا ينبغي إغفالها ، ولا أقل لا ينبغي إغفالها بعد الآن .

29- تحريف مفاهيم القرآن مشكلة علي طريق المهدي (عليه السلام)

استغلال كتاب الله وسوء الاستفادة منه إحدي أكبر المشكلات علي طول تاريخ الإسلام . القرآن الكريم كتاب الله العزيز ووحي السماء العظيم ، وأحد الثقلين اللذين تركهما النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) لهداية البشرية . يهتزّ وجدان كل مسلم حينما تقرأ آية منه في أي وقت . وهذه عظمة كلام الله وأثر الوحي القدسي . إلَّا أنَّ المؤسف هو أن البعض يسيئون استثمار هذه القداسة وهذا التأثير الروحي ، وينصبون القرآن ذريعة ويحرّفون مفاهيمه بغية كسب عناصر وأفراد قليلي الثقافة أو فاقديها ، ويجرون هؤلاء صوب الانحراف عن القرآن وأهدافه باسم القرآن وتفسير القرآن ، وأحياناً يجعلونهم إزاء القرآن وفي مواجهته . وتقف هذه المشكلة علي طريق الإمام الكبير المهدي الموعود أيضاً، غير أن أمثال هذه العناصر لا تستطيع أن تتقدّم بفعلها في ذلك اليوم . وتعيدهم حكومة القهر المهدوي إلي صواب السبيل ، أو تقتلعهم من الطريق اقتلاعاً .

ولا بدَّ أن يتضح أن المؤمنين المخلصين والمنتظرين الواعين سوف

ص: 316


1- الزيارة الجامعة .

يلتحقون بخليفة الله ويعبرون هذه الأمواج بسلامة علي ظهر مركب المعرفة والإيمان والعمل . من هنا تحتم أن تكون العقيدة والعمل علي الصواب وأن تكون القلوب علي الطهارة « وتحفظ هذه الطهارة وتنقل هذه العقيدة والطهارة جيلاً لجيل » لتستطيع الجماهير زمن الظهور الالتحاق بحركة الحق وداعيه .

و يتحتم علي المنتظرين في مرحلة الانتظار بناء أنفسهم والاهتمام بصياغتها ، بحيث لا يقف أمرهم علي مجانية مواجهة الإمام فحسب ، ولا علي عدم الإصغاء لتأويلات المضلين في آيات القرآن فقط ، ولا علي عدم الضعف ، والوقوف مكتوفي الأيدي في مواجهة بزوغ الفجر الأعظم(1) .

بل يلتحقون بالمهدي (عليه السلام) وكأنهم الشهاب الثاقب ويحتلون موقعهم في صفوف أنصاره ، ويصدحون بندائهم في بنيان مرصوص كأنهم ليوث البيداء ، ويكونون كالسعير في إحراق الباطل، وكالسيل الجارف في اقتلاع جذور الجور ، ويكونون كالجبل الراسخ في نصرة الحق وإعلائه .

30- الحكومة الفاطمية

الرسالة العظمي للمهدي الموعود ، أعني : المصلح الفاطمي ، والمغير الكبير ، وثائر التاريخ والعالم الأخير هي : أن يظهر للوجود عالماً إنسانياً موحداً ورشيداً . ويغمر ميدان الحياة الإنسانية بكل ألوان الأصالة الصادقة ، ويصنع عالماً يملأ العدل والقسط أرضه . علي هذا الأساس فدولة المهدي دولة عالمية ، وحكومته حكومة أرضية ، أي أعم من الحكومة العالمية . إذن العدالة التي يأتي بها المهدي لا تنحصر في العدالة الاجتماعية - كما قلنا سابقاً - بل هي عدالة حياتية تعم كل أرجاء الكوكب ، يعني : أنه يقيم العدالة في كل الظواهر والقيم، والاستثمارات ، والمنافع ، وفي كل شؤون ومقتضيات هذا الكوكب - كما أراد الله -. أجل ، فالمهدي (عليه السلام) سيقود مسيرة حياة منسجمة ،

ص: 317


1- واضح أنه في ذلك اليوم لا يقتصر الأمر علي بوار اللامبلاة ، والضعف ، والتحايل ، والتحزّب ونظائرها ، وعدم فرضها علي الأمة . بل سوف تواجه هذه المؤامرات السرية والعلنية بلا وجل بواسطة السلاح ، وسيعود الوسط الاجتماعي مطهرة من هذه العناصر ، وهذه الممارسات .

ويوجه انسجاماً متحركاً ، عميقاً وشاملاً ، مدهشاً وسارياً ، وإيقاعاً عادلاً . وبظهوره ينتهي العالم لاتباع نهج الحكم الفاطمي ، والمهدي : - وليد السيدة الكبري فاطمة الزهراء (عليها السلام) - سيحكم علي أرجاء الأقاليم البشرية . وستتجلي فيه كل خصوصيات المصلحين والأنبياء . وسيقود قافلة البشرية الكبري .... إمام فاطمي .....

31- الدولة العالمية

« والأرض ستكون موقعاً لرجل أقدر وأفضل »

إحدي الخصوصيات المشهورة لدولة « المهدي الموعود » هي عالميتها . فسوف تشمل حكومة المهدي شرق العالم وغربه ، ولا يبقي عامر من الأرض إلا وينبعث منه النداء المحمدي ، وتمتليء أرجاء العالم بالعدل والقسط ويضحي كل شيء وكل موقع في ظل هذه الحكومة تابعاً للحق ومؤازراً للعدل وقد جاء في هذا الصدد الكثير من الأحاديث عن النبي الأكرم والأئمة الطاهرين .

الآن نعكف علي نقل حديث معتبر ، إذ إن المعارف الحقة هي عين معارف القرآن والحديث الشريف ولا غير :

« يملك القائم ثلاثمائة سنة ، ويزداد تسعاً ، كما لبث أهل الكهف في كهفهم ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً ، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها، ويقتل الناس حتي لا يبقي إلا دين محمد ... »(1) .

هذا الحديث - الذي نقلنا مقطعاً منه - روي في مصادر وكتب الحديث عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) . كما أن الشيخ الجليل الفضل بن شاذان « من علماء ومحدثي القرن الثالث الهجري » نقله في كتابه « الغيبة » عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) . والعلامة النوري أيضاً صرح باعتبار هذا الحديث ، وأضاف

ص: 318


1- بحار الأنوار ج 52، ص 390.

أن الفضل بن شاذان روي حديثاً معتبر آخر بهذا المضمون نفسه(1) .

أجل ، فالأحاديث كثيرة بصدد عالمية المهدي ، وهذا الأمر يتمتع بوضوح وشهرة ، فهو (عليه السلام) يجعل من الأرض ساحة لنداء «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » . تبلغ العقول كمالها في ظل حكم المهدي ، وتحسن الأجسام وتصح الأبدان ، وتتضاعف الطاقات والقدرات ، وينسحب العدل والقسط شاملاً ، وترتفع الحاجة ويغطي الغني كل مكان . وتطبق أحكام الله في كل مكان ، ويتوفر كل فرد حتي الفتيان وأمهات البيوت علي علوم الشريعة ، وتنتعش سوح الدنيا بالعدالة في الأفاق وفي الأنفس. وتنزل بركات السماء بصورة كاملة ، وتخرج الأرض بركاتها كذلك ، وتحيا حيوانات الفيافي بأمن واستقرار ، ولا تري ضرراً من غيرها ، وتغرق في نماء الطبيعة وخصبها وجمالها . تبلغ العلاقات الإنسانية أرفع وأنزه وأرق أشكالها و... وقد كانت - هذه الظواهر معروفة منذ القدم بحيث إن شاعر العرب الشهير أبو العلاء المعري يقول بهذا الصدد شعراً :

متي يقوم إمام يستفيد لنا * فيعرف العدل أجبال وغيطان(2)

هذه الأفكار والمفاهيم حول القيام الموعود مشهورة ومعروفة . فدائرة حكم المهدي (عليه السلام) لا تقتصر علي أقاليم العالم الإسلامي ، بل لا تحد بعالم البشرية أيضاً ، إذ التعبير المعروف الذي استخدمته نصوص الأحاديث « يملأ الأرض ..» - كما أشرنا من قبل - والأرض أشمل من العالم . وبغض النظر عن كل ذلك ، فظهور ولي الله الأعظم في وسط البشرية بصفته القائد والحاكم والمعلم والملجأ والمرجع ، له آثاره المعنوية الأساسية التي وردت الإشارة إلي بعضها في الأحاديث الشريفة ، ففي يوم الظهور تتحول ماهية الزمن ويمتليء جوهر اللحظات طربة بحضور العلو الأزلي و ... وهذه نفحة من وضع العالم والزمن والإنسان في عصر الظهور الموعود والحكم الموعود ...

ص: 319


1- النجم الثاقب ص 77 .
2- حكيم المعرة ، عمر فروخ، ص 78 .

علي هذا الأساس تضحي للظهور ثلاثة ألوان من الحضور :

1- الحضور الآفاقي .

2 - الحضور الإنساني .

3- الحضور الفطري .

الحضور الآفاقي ؛ تأثير حاكمية الظهور علي كل آفاق العالم .

الحضور الإنساني ؛ استيعاب حكم المهدي لكل أبعاد حياة الإنسان علي وجه الكرة الأرضية .

الحضور الفطري ؛ تغلغل أفكار وحكم المهدي في العقول والفطر ...

من هنا كان هذا الحكم حكماً عالمياً يشمل كل الآفاق ويعم كلّ مواطن الإنسانية وأرض الفطرة .

بعد هذه المقدمة أبتغي الإشارة إلي لون من ألوان الغفلة أو الحماقة أو التآمر . لاحظوا ،...

من الممكن أن يكون هناك أحياناً مصلح إلهي لا يتحمل الضياع العقيدي والفساد الأخلاقي ، وبالم لذلة الإنسان وحرمان المحرومين ، ويعمل وفق مسؤولياته الرسالية والقرآنية الإسلامية ، فينهض ويوقظ الأمة من سباتها وينفخ في الجماهير روح الشهامة الإسلامية والاندفاع الرسالي ، ويصطدم بالظلم والظالمين ، ويسقط حكم هؤلاء ، ثم يعلي كلمة الدين في حدود نهضته وأرضه ، ويشكل حكماً إسلامياً ، ويطبق ما يترتب عليه من مسؤوليات في حدود الإمكان ، وتنهض جماعة في مؤازرته ، ويخطو الجميع خطوة إلي الأمام علي طريق خلق المحيط الإسلامي ، الغفلة هنا أو ما أسميناها بالسفاهة أو التآمر هي أن يحسب شخص أو أشخاص - ولعلهم يبدون هذا الحسبان - أن مثل هذه الممارسة تمثل تدخلاً في دائرة فعالية الإمام الغائب ، فهو الذي لا بد أن يقدم ويصلح كل مكان وكل شيء ، ونحن لسنا مكلفين بمثل هذه الأعمال .

لا بد أن يقال لمثل هؤلاء الأشخاص إذا وجدوا ، والأمل أن لا يكونوا :

1- هل يعني الإقدام علي رفع الظلم والانحراف العقيدي والأخلاقي من

ص: 320

المجتمع الصغير - في مقاييس العالم - ، والسعي لتجسيد أحكام الإسلام عملياً في وسط الأمة إصلاح كل مكان وكل شيء ؟!

2 - ألم تكن نهضة الأفراد الذين يكون من بينهم قائد كبير وفقيه عالم نهضة من خلال تشخيص المسؤولية الإسلامية ؟!

3- ألم يكن الجهاد ضد الظلم وحفظ حرمة الدين والرسالة وظيفة الإنسان المسلم في كل وقت ؟ أيقدر الإنسان المسلم علي مشاهدة محو الدين وشيوع الفساد والظلم ويجلس ساكتاً ؟!

4- ألا ينبغي للمجتمع المنتظر - في ضوء الأحاديث - الإستعداد الشامل الظهور المهدي (عليه السلام) وثورته ؟ وألا ينبغي أن تحفظ عقيدة المنتظرين وتوضع إمكاناتهم تحت اختيار المهدي ؟ وألا ينبغي أن يكون أنصار المهدي - الذين يزدادون علي 313 نفرة باستمرار - من بين الشيعة العقائديين ومن أوساط المجتمع المؤمن المنتظر المضحي ومن بين الشباب الشجاع المطلع علي فنون القتال والحرب ؟ وهل يمكن أن تحصل هذه الأمور والظواهر دون الاستعداد والتوفر علي المستلزمات الإسلامية السليمة ؟!

5 - لو أغمضنا النظر عن كل ما تقدم ، فهذه الممارسات والأعمال التغييرية والإصلاحية ، كلها جميعاً تمثل إشعال شمعة في دياجير ليل مظلم ، ويمثل ظهور المهدي إشراقة طلوع الشمس علي عالم الكائنات ، فهل أن إيقاد الشمعة في ليل دامس مقدمة للتعلق وطلب الشمس أم أنه مزاحم وحاجب لطلوع الشمس ؟

فما قالوا من كون العالم سيمتليء بالظلم والجور لا يعني : أنه لا ينبغي وجود جماعة مؤمنة وحكم إلهي حتي في زاوية من زوايا هذا العالم الفسيح ، ولا ينبغي وجود عدة معدودة من المؤمنين المضحّين الذين تهذبوا في ظل مفاهيم الإسلام والذين يلتفون حول المهدي - كما أشير لذلك - ، ولو كان الأمر غير ذلك ، إذن ، فما معني كل تلك الروايات التي تقول إن المهدي يطلب العون من الناس ، أو الأحاديث التي تحدد للشيعة ما تفعل وما تطوي من مسير ؟ فقد

ص: 321

أوردنا في ما مضي من فصول هذا الكتاب أحاديث في هذا المجال ، ونقلنا تعاليم توضح كلها أجمع سقم هذا الطراز من التفكير وابتذاله وضعفه .

ومن جملة هذه الأحاديث نقلنا حديث عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) حيث يقول : « طوبي لمن أدرك قائم أهل بيتي ، وهو مقتدٍ به قبل قيامه » ، كما جاء في الأحاديث ما مفاده : « حينما يقوم القائم فاسعوا إليه ولو حبواً علي الجليد » ، أو مفاده : «حينما يقوم القائم فسوف تلتحق الشيعة به من كل بلد » . كل هذه الآثار تفصح عن دور الشيعة الفاعل حين بزوغ طلائع الدولة الحقة . وتحتم مجانبة الضعف والتزلزل ، والسعي لنصرته وعونه .

في هذا الضوء ، أفليس من الأفضل لنا نحن - المسلمين - الآن أن نتمتع بقوة منظمة مقتدرة مجهزة وأن يكون لنا جيش عقائدي معبّأ وقوات شعبية مسلّحة فعالة واسعة ؟ أو ليس من الأفضل أن نكون قد بنيناحكماً إسلامياً ، ثم نضع كل هذه الإمكانات بين يدي نهضة آخر الزمان ، ونثب لنصرة مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، ونفصح عن استجابة تتناسب ونداء « الاستنصار » المهدوي ؟ لعل الأحاديث التي أشارت «للرايات أو الجيوش والقادة » الذين سيكونون ، ويوطئون لانتصار المهدي (عليه السلام) ، تعين الأفضلية أعلاه .

علي أي حال، فخير لتلك العناصر الغريبة عن ساحات النضال والمخاطر أن لا تسهم في زلزلة معنويات الآخرين . وما هو في مدرسة التشيع « الحياة تحت ظلال السيوف » و « هيهات منا الذلة » و « طلب معالي الأمور » ....

32- إن أمة تمضي منتظرة ظهور « المصلح » لا بد أن تكون هي نفسها صالحة .

( ... أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )

قبل سنين ، وحينما كان « شمس المغرب » كتيباً صغيراً يأخذ طريقه للطباعة في مشهد ، كتبت هناك هذه العبارة : « الأمة التي تمضي بانتظار ظهور المصلح لا بدَّ أن تكون هي نفسها صالحة ». والآن وحيث يمضي عشرون عاماً علي ذلك اليوم ، فلا تزال عبارتي عين العبارة السابقة ، وشعاري

ص: 322

الشعار نفسه ، ودعوتي عين الدعوة السابقة : « إن أمة تمضي بانتظار ظهور المصلح لا بد أن تكون هي نفسها صالحة » .

ألم يكن القرآن مصرحاً بالقول :

( .. أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(1) .

فمن هم هؤلاء العباد الصالحون ؟ فهل يأتي هؤلاء من بطون الأرض ؟ أم أنهم يهطلون من السماء ؟ كلَّا لا هذا ولا ذاك ، بل هؤلاء شيعة المهدي ، وشيعة المهدي عين شيعة آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وهم الأمة التي تنتظر ظهور المهدي ، هم المنتظرون ، الذي يقتدون بالمهدي قبل قيامه أيضاً . وهل الاقتداء بالمهدي يعني أمراً غير الصلاح والعمل الصالح ؟ وهل يمكن أن تكون الأمة المقتدية بالمهدي غير « الأمة الصالحة » ؟ إذن « إن أمة تمضي بانتظار ظهور المصلح لا بد أن تكون هي نفسها صالحة » .

لقد اتضحت هذه المفاهيم إلي حدود من خلال الفصول الأخيرة ، خصوصاً « فصل الانتظار » ، اتضح ماذا يعني الانتظار من مسؤولية عظمي والتزام ضخم ، اتضح ماذا يتطلب الانتظار من بناء ذاتي ، واستعدادات ، فقد اتضحت هذه الأفكار وبعض آخر في ضوء التعاليم الإسلامية وأحاديث النبي الأكرم والأئمة الطاهرين ، فلا حاجة بنا للتكرار .. عودوا مرة أخري لتلك الصفحات ومروا عليها مرة ثانية وثالثة من خلال نظرة فاحصة ودقيقة .

في نفس أيام طباعة الكتيب « شمس المغرب » سألني أحد الشباب الجامعيين : « ماذا تعني عبارة إن أمة تمضي بانتظار المصلح لا بد أن تكون نفسها صالحة ؟ فإذا كانت نفسها صالحة فما حاجتها للمصلح إذن ؟ » .

قلت له : إن الإجابة علي هذا السؤال تكمن في تنوين التنكير في كلمة « أمة »، فنحن لم نقل إن العالم بأسره لا بد أن يكون صالحاً ، لكي تعترض بالقول إذن فما حاجته للمصلح ؟ وواضح أن العالم المتاخم للظهور تمتليء

ص: 323


1- سورة الأنبياء : 105 .

أرجاؤه بالظلم والفساد والضياع والتجاوز والعدوان . بل نقول في مثل هذا العالم المليء بالظلم والجور والفساد والفسق والانحراف والذي غطّت كلّ أنحائه ظلمات الانحطاط والتجاوز والفجور والعدوان ، وإنسانيته تغرق في مهاوي الضياع الرهيب ، والذي تغفل جماهيره عن القدرة الإلهية والقوة الغيبية وأسرار الكون ، وتبتعد عن أحكام الأنبياء وتنحرف عن رسالة السماء ، في مثل هذا العالم وفي مثل هذه الملابسات والظروف تعد تلك الثلة المؤمنة بالله والمذعنة بالغيب نفسها أهل الرسالة والدين ، وتعتقد بأنَّ الإمام الغائب رقيب علي أعمالها وتري نفسها شيعة ذلك الإمام و « العمل الصالح » يشكل الجزء الأساس لدينها ، وهم أنفسهم منتظرون يترقبون السبيل ليل نهار ، لكي يصل الإمام وينقذ العالم من الظلم والفساد والضياع ويعيده إلي عالم الصلاح .

وتقرأ هذه الثلة باستمرار في دعائها « اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه » وتندب وتتوسل وتطلب ذلك الإمام المصلح . فمثل هذه الأمة - التي تعيش في وسط عالم الفساد والظلم والتيه الكبير - لا ينبغي لها أن تنحرف وتغرق في الفساد والتجاوز وظلم بعضها البعض الآخر ، لا ينبغي لها أن تغفل وتتيه ، وإذا كانت كذلك فهذا خلاف منطق « انتظار المصلح » . بل لا بد لمثل هذه الأمة من أن تكون نفسها صالحة وتعمل وفق رضا ذلك الإمام ، وتلتزم بالأهداف التي تعدها مقدسة ، يعني : نشر الصلاح والعدل علي كل ربوع العالم ...

مثل هذه الأمة لا بد أن تكون نفسها صالحة لتماثل المصلح ، وتصدق في ادعائها ، وليمكنها أن تقف إلي جنب المصلح حين ظهوره ، وتكون من أنصاره الأتقياء الأمناء ، وتبسط الصلاح بمعونته علي أرجاء العالم . هذه الأمة وهذه الجماعة لابد أن تكون في وسط بحر البشرية المتلاطم جزيرة تعكس الأهداف والشعارات التي تطلقها ، ويعد ذلك جوهر رسالتها الدينية ، وترقب السبيل حيث يقدم إمامها ليبسطوا هذه الشعارات بعونه وقيادته علي كل مكان من العالم .

نعم فهناك يوم ستحكم الدنيا فيه جماعة من جماهير العالم تحت قيادة وإمامة المهدي الموعود (عليه السلام) ، ويرثون الأرض ويكونوا خلفاء علي المعمورة .

ص: 324

أما من هم هؤلاء ؟ إنهم الصالحون . إن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إذن ، « فأمة تمضي في انتظار ظهور المصلح لا بد أن تكون هي نفسها صالحة » ...

والأن نمضي في طلب الشمس وإشراقتها المنبسطة ..

والشمس وضحاها ...

ص: 325

ص: 326

الفصل الرابع عشر : في التماس الشمس

اشارة

ص: 327

ص: 328

في التماس الشمس

1- ابتغاء الشمس

نقصد المشرق ، ونتّجه صوب رحم الشمس ...

نرقب محدّقين طلعة إشراقة الهداية الأزلية ، وبإيقاع حلول أيام النور نملأ نفوسنا بشرئ وسرورا ...

نعبر عبر أمواج الأثير بدلالها وقت السحر ، وتضيء الروح بلمعات تلك الشمس الوضاحة المشرقة ...

ننير القلب بنور ولاء تلك الرحمة المستفيضة ، ونمد يد الابتهال صوب آفاق الوجود ، ونطلب روح الأرواح ...

نخاف ظلمات الغارات الحالكة ، ونهرب من المهامه الدامسة ، ونودع القلب في طلب النور ...

لمعات فجر الأمل نجعلها مشعل الطريق ونحار بأفاق مطلع الأنوار الزاخرة بالنور ...

... ونمضي علي هذا المنوال لنخطو خطوة علي طريق عارفي الشمس

ص: 329

في طلبها ، حتي تكتحل عيوننا بتراب طريق طالبي الشمس وعارفيها .

يا إشراقة الهداية ، ابزغي !

ويا شمس النفوس ، هلمي !

يا منير الوجود ، أنْر !

ويا سر التجلي العظيم ، أطلَّ !

أيتها الكعبة المقصودة ، إلي العالم المشهوّ، أظهري !

ويا أيتها القبلة الموعودة ، تجلي !

يا مشعل العلم ، أفض بصيرة !

ويا مربي العقل ، أعط رؤية !

يا حامل القرآن ، إلينا !

ويا صاحب السيف ، انهض !

يا آمل الخلاص ، ثبْ!

ويا ملجأ الجميع ، صِلْ !

يا ذخيرة الله ، إلينا ، إلينا !

ويا أيتها العصمة غير المتناهية ، اصدحي !

يا شفاء الألام، هب عافية !

ويا منقذ النفوس ، أبدع حياةً !

أيها السر العظيم ، أفصح !

ويا أيها الاسم الكبير ، تنفس !

يا ساحل الخلاص ، أبد !

ويا سفينة الإنقاذ ، هلمي إلينا . صوبنا !

تعال وضمّ إليك عشاقك المهجورين ، وهب لذوي شوقك الذين خانهم الصبرُ هدوءاً واطمئناناً ! فنحن قد أثقلنا حملً يحلك به القلب ، وأخذنا نطوي الطريق في فيافي هذه الصحراء الشاسعة ، وأنت وعلامة بيتك نتلمس ...

أيتها الشمس ، لا تبخلي بالإشراق !

ويا بحر النور ، لا تحجب شعاعك المتناثر !

ص: 330

ويا ظل الحياة ، اسقنا قطرة ، من محيط الحياة المتلاطم ، الذي بين يديك !

أحسن الينا ، فإن الله يحب المحسنين ،

: يا عزيز مصر الوجود !

2- مسيح المسيحيين

اشارة

المهدي مسيح المسيحيين وموعود الموعودين . هو النجم الثاقب ، والكوكب الطالع ، هو إمام الأرض وربها . يقول القرآن الكريم :

( وأشرقت الأرض بنور ربها .. )(1)

قال العارفون في علم القرآن : « ربُّها يعني : إمامها » ، فالأرض تضيء بإطلالة الإمام القائم فيها . إذن المقصود من الرب في الآية آنفة الذكر هو و الإمام » .

هذا النور الذي يضيء الأرض صادراً من الإمام هو أحد الآثار المسببة عن وجود الإمام ، سواء أكان هذا النور الوجودي هدي شهوده (عليه السلام) أو كان هو النور الظاهري المحسوس . وقد أشرنا فيما مضي إلي أفكار في هذا الصدد ، ونورد هنا مفهوماً عملاقاً وتعليماً متيناً من تعاليم آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) المفسرين الواقعيين للقرآن . أوضح الصادق (عليه السلام) - في طيّ حديث حول معرفة الإمامة والإمام - مفاهيم جاء فيها قوله :

« إن الله - عز وجل - أوضح بأئمة الهدي ، من أهل بيت نبينا ، عن دينه . وأبلج بهم عن سبيل منهاجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه . فمن عرف من أمة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) واجب حق إمامة ، وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة إسلامه . لأن الله - تبارك وتعالي - نصب الإمام علماً الخلقه ، وجعله حجة علي أهل مواده وعالمه ، وألبسه الله

ص: 331


1- سورة الزمر: 69

تاج الوقار ، وغشاه من نور الجبار . يمد بسبب إلي السماء لا ينقطع عنه مواده ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه ، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته .. »(1) .

إيضاحان :

1- إن ما جاء في الحديث المبارك من قوله (عليه السلام) « فمن عرف من أمة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) واجب حق إمامه ، وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة إسلامه » هو إشارة لدور القيادة وأهميتها علي مستوي التربية السليمة للفرد ، وعلي مستوي رشد الأمة الرسالي أيضاً . يتسني للفرد أن يكون مسلماً بصيراً ومؤمناً واعياً ، ويتذوق طعم إيمانه بوعي حينما يخضع لتربية قائد كامل ، فيُربّي تربية سليمة . كما أن رسالة الإسلام ستعم الأرجاء ، ويمتد شعاعها المهيب بشمول حينما يقف علي رأس التحرك الاجتماعي قائد كامل عادل واع مخلص ، يعني : عين الإمامة الحقة . فعالمية الإسلام وشموله في ظل الإمامة ، وحسب .

2- ما جاء في المقطع الأخير للحديث - الذي نقلنا بعضه هنا - من « ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته »فالمعرفة هنا هي عين ما أشار إليه مطلع الحديث من قوله : « فمن عرف من أمة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) واجب حق إمامه » . ومعرفة حق الإمام الواجب ، هي معرفة مسؤولية كل مسلم إزاء الإمام . وهذه المسؤولية هي معرفة خط الإمامة ، والوقوع عليه ، والسعي وفق موازين هذا الخط ، وهذه هداية ، وهذا تعليم . وهذا هو دين الله . والعمل الصالح هو العمل الذي يؤدي وفق مقياس الدين . ومقياس الدين هو الإمام . وفي غير هذه الصورة ، تضحي الأعمال سلسلة أتعاب وجهود وحركات وسكنات . حيث لا ترتبط بالسياق العام للهداية - غير متطابقة مع « الميزان الإلهي ». ومن هنا لا تقع موقع القبول . إذ إن الفرد العامل يتابع بدقة الخط الإلهي للإمامة ، ولم يعمل وفق إرادة هذا الخط بل أدي ما أراد هو نفسه أو ما ألقي إليه من قبل حركات واتجاهات . وما هو مورد القبول إنما هو العمل الصالح، وصلاح

ص: 332


1- أصول الكافي ، ج1 ، كتاب الحجة ، « باب نادر مجامع في فضل الإمام وصفاته ، الحديث 2.

العمل بتوفره علي جوهره ، مضافاً إلي صحة ظواهره . وجوهر العمل، هو تطابق العمل مع الميزان الإلهي والإمام ميزان الأعمال .

بغية إيضاح هذا الموضوع بشكل أكبر ، ولأجل تقريبه إلي الأذهان نورد مثالاً : افترض أن هناك شخصاً ينخرط في عضوية حزب من الأحزاب. فهذا الشخص لا بد له من أداء أعماله وفعالياته وفق برنامج الحزب ووصاياه وتخطيطه وقيادته. وفي غير هذه الصورة تضحي أعماله وفعالياته بالنسبة للحزب لا قيمة لها . من هنا فلا بد للفرد المسلم من أن تقع أعماله متطابقة مع خط حزب الله ووفق وصايا قادته الإلهيين ، لكي تتوفر أعماله علي قيمة ، وتعود أعماله متحركة بالاتجاه الذي لا بد أن تتحرك به ، فتقبل ، وينتج عن ذلك تحركه باتجاه الله وتقربه إليه .

3- لقاء الأنبياء

الإنسان الضائع آخر الزمان يعود يائساً من كل الاتجاهات والقوي ، ويثب في طلب هدف الخلاص ، ويتحرك نحو كل صوب باحثا عن ملجأ معنوي وروحي ، وموئل وجداني وفطري . الإنسان الضائع آخر الزمان ، يائس من كل مكان . ويحترق شوقاً للقاء الصالحين والطاهرين ، ويعدّ الأيام عدّاً في طوفان الضياع والتجاوز علي أمل طلوع قيادة غيبية . هذا الإنسان الحائر يسرح النظر في خواطر التاريخ التي تركها المربون الإلهيون ، وحملة لواء الإنقاذ . ويمضي باستمرار متطلّعاً لسماع نداء من أفواههم ، أو رؤية طلعة منقذ من أولئك المنقذين ، فيتجمل صبراً ويتجرع ألماً . فمثل هذا الإنسان ألا يريد أن يري آدم ونوحاً وإبراهيم ؟ أفلا تبتغي البشرية في ذلك اليوم استماع نداء موسي وعيسي ومحمد ( صلي الله عليه و آله و سلم ) ؟ لم لا فهي تريد .....

وهذا النداء تستمع إليه من صخرة المهدي ، فإليك :

« إن القائم إذا خرج دخل المسجد الحرام ، فيستقبل الكعبة ، ويجعل ظهره إلي المقام ، ثم يصلي ركعتين ، ثم

ص: 333

يقوم فيقول : يا أيها الناس أنا أولي الناس بآدم ، يا أيها الناس أنا أولي الناس بإبراهيم ، يا أيها الناس أنا أولي الناس بإسماعيل ، يا أيها الناس أنا أولي الناس بمحمد ، أنا بقية آدم ، وخيرة نوح ، ومصطفي إبراهيم ، وصفوة محمد، ألا ومن حاجني في كتاب الله فأنا أولي الناس بكتاب الله ، ألا ومن حاجني في سنة رسول الله فأنا أولي الناس بسنة رسول الله ...(1) .

يا معشر الخلائق ألا من أراد أن ينظر إلي آدم وشيث فها أنا ذا آدم وشيث، ألا ومن أراد أن ينظر إلي نوح وولده سام فها أنا ذا نوح وسام ، ألا ومن أراد أن ينظر إلي إبراهيم وإسماعيل فها أنا ذا إبراهيم وإسماعيل ، ألا ومن أراد أن ينظر إلي موسي ويوشع ، فها أنا ذا موسي ويوشع، ألا ومن أراد أن ينظر إلي عيسي وشمعون فها أنا ذا عيسي وشمعون .

ألا ومن أراد أن ينظر إلي محمد وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما فها أنا ذا محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ألا ومن أراد أن ينظر إلي الحسن والحسين ( عليهما السلام ) فها أنا ذا الحسن والحسين ، ألا ومن أراد أن ينظر إلي الأئمة من ولد الحسين (عليه السلام) فها أنا ذا الأئمة ( عليهم السلام ) ، أجيبوا إلي مسألتي ، فإني أنبئكم بما تتم به ، وما لم تنبأوا به .

ومن كان يقرأ الصحف فليسمع مني ... »

ثم يبتديء بالصحف التي أنزلها الله علي آدم وشيث ونوح وإبراهيم فيقرأها ، كما يقرأ التوراة والإنجيل والزبور ، ثم القرآن الكريم(2) .

ص: 334


1- بحار الأنوار ج 52 ص 59 ج 53، ص 305 ، 315.
2- بحار الأنوار ج 53 ص 9.

4- مثل محمد (صلي الله عليه و آله)

ينهض المهدي (عليه السلام) في قلب ألوان فساد وضياع وظلمات آخر الزمان ، كما نهض جده محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) في ظلمات والجاهلية . يصحر هذا المقتدي المحمدي ، والعادل العلوي ، والمصلح الطالبي ، والناهض الفاطمي ، والثائر الحسيني ، والمربّي الجعفري ، والإمام الموسوي ، والقائد الرضوي ، والحجة العسكري ، يصحر بعصا موسي ، وخاتم سليمان .

يخرج يوم عاشوراء ، وهو يحمل راية رسول الله بيده ، ويأتزر بمئزره ويتقلد سيفه بالأخري ، ويحتل 313 نفراً من خواص أنصاره - بعدد أصحاب رسول الله في غزوة بدر - مواقعهم حوله ، وهم حكام الزمان وورثة الأرض .

كما يلتف حوله المؤمنون المقتدرون(1) ، والشباب المقاتلون(2) ويمتليء الزمن حبوراً وسروراً حتي تطرب أرواح الموتي في عالمها . وتتلهف لخصب الحياة .

وعلي هذا المنوال يخرج (عليه السلام) علي اسم الله ، ويملأ أرجاء العالم بالعدل والقسط والنور والبرهان ، والنجاة والإيمان .

5- إماطة اللثام عن سر عظيم

حيث يأتي المهدي يتجلي سر كبير ، ويتعري رمز عظيم . ويُسدل الستار عن تلك الحكمة التي أودعها الله في غياب حجته ، كما وضحت حكمة فعل الخضر (عليه السلام) مع موسي (عليه السلام) بعد انتهاء دورها(3)

قالوا في توجيهاتهم :

وجه الحكمة في غيبته ، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه

ص: 335


1- كامل الزيارات ، بحار الأنوار ج 52، ص 328.
2- قال أبو عبدالله جعفر بن محمد (عليه السلام) : بينا شبان الشيعة علي ظهور سطوحهم نيام ، إذا توافوا إلي صاحبهم في ليلة واحدة علي غير ميعاد فيصبحون جملة » - الغيبة ، النعماني . بحار الأنوار ج 2 ص 370 يستنتج من هذا الحديث أن الظهور يقع في فصل الصيف .
3- إكمال الدين ، علل الشرائع ، بحار الأنوار ج 52، ص 91 ج 51، ص 73 .

من حجج الله - تعالي ذكره -... إن هذا الأمر أمر من أمر الله ، وسر من سر الله ، وغيب من غيب الله . ومتي علمنا أنه - عز وجل - حكيم ، صدّقنا بأن أفعاله كلها حكمة . وإن كان وجهها غير منكشف لنا(1) .

6- مشرق أنوار

في ضوء ظهور المهدي يشرق الشعاع الأزلي ، وينبعث النور منبسطاً بتلألؤ القدس الأبدي . المهدي موضع الأسرار الربانية ، ومشرق الأنوار الأزلية . المهدي مظهر حقيقة الحقائق ، وهو نفسه « عصارة العصارات ». المهدي « عليه جيوب النور ، تتوقد بشعاع ضياء القدس »(2) . وهو التجلي الكامل ، والحجاب الأزلي القديم كما نقرأ في الزيارة : «السلام علي حجاب الله الأزلي القديم »(3) . وهذا الإمام الذي يمضي في غيبته شبّهوه بالشمس التي تحجبها غيوم - كما مرّ قبلُ - وقد لوحظت عدة وجوه في هذا التشبيه ، ذكر العلامة المجلسي أحدها كما يأتي :

إن نور الوجود والعلم والهداية ، يصل إلي الخلق بتوسطه (عليه السلام) إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائبة لإيجاد الخلق ، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلي غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ، والتوسل إليهم يظهر العلوم والمعارف علي الخلق ، ويكشف البلايا عنهم ، فلولاهم الاستحق الخلق - بقبائح أعمالهم - أنواع العذاب ، كما قال تعالي : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) ولقد جرّبنا مراراً لا نحصيها أنَّ عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل ، والبعد عن جناب الحق تعالي ، وانسداد أبواب الفيض لما استشفعنا بهم ، وتوسلنا بأنوارهم ، فبقدر ما يحصل

ص: 336


1- إكمال الدين ، بحار الأنوار ج 52، ص 91
2- عيون أخبار الرضا ، كفاية الأثر ، بحار الأنوار ج 51، ص 252 و 109 .
3- النجم الثاقب ، ص 35.

الأرتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت ، تنكشف تلك الأمور الصعبة. وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور

الإيمان(1) .

7- تصفية للمعسكر

من المتيقن أن أنصار الإمام الذي يشرق شعاع ضياء القدس من مشرق وجوده ، لا بد أن يكونوا طاهرين مطهرين . ولا بد أن يختلف علي معسكره المستخلصون المنتقون . وسوف يكون كذلك . من هنا يتحتم علي شيعة آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) أن يستزيدوا من فيض هذا العلم وهذه المعرفة والعقيدة ، ويشكروا الله علي ذلك ، وليبقوا علي ولائهم للأئمة ، وحبهم واتباعهم . ولا بد أن يحيوا هذا الولاء والحب في نفوسهم ، ويستحضروه علي الدوام في وجدانهم . ويجسّدوا هذا الاتّباع عملاً ، ليحصلوا علي أجر شهداء « بدر وأحد» يعني : الشهداء الذين شيدوا بناء أسس الإيمان .

أشرنا من قبل ، إلي أن الجماهير المؤمنة تخضع - أيام الغيبة - لاختبار عسير ، وتغربَلُ باستمرار ليذهب المغشوش هباءً ويمكث الخالص بقاءً . أجل ، فالغش والمغشوش يطرح علي الدوام جانباً . المؤمن بآل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) لا بد أن يسعي جاهداً باستمرار للحصول علي عقيدة صالحة ، وإيمان راسخ ، وفكر واضح ، ووعي عميق ، وعمل صالح ليتخذ موقعه في صف المخلصين المستخلصين ، ولكي لا يعود خارجاً عن صف شيعة المهدي (عليه السلام) ، فيطرد بوصفه « مغشوشاً » . فأولئك الأفراد الذين توفروا علي إيمان صحيح ، وعمل صالح أيام الغيبة ، وإن لم يدركوا الظهور فهم كالذين أدركوه وكانوا في خيمة المهدي وبين يديه .

يلزم الشيعة في عصر الانتظار السعي والثبات علي طريق معرفة العقائد الحقة ومعرفة الإمام ومركز الإمام ، وحفظ هذه العقيدة الصادقة ب « الحق الكبير » الذي تتصل به والتي بلغ بها مرحلة « البصيرة »، و « اليقين » وإيداعها

ص: 337


1- بحار الأنوار ج 52، ص 93 .

ص: 338

ص: 339

9- رمضان - عاشوراء

علي هذا المنوال لا بد من طلب الشمس ، والاتجاه صوب التماس الشمس . لا بد من إيداع سبيل الشمس في وجدان الليل ، ولا بد أن يستعدّ الجميع خصوصاً الشباب لكي تتهيأ أرضية طلوع طلائع الحق ...

ولكي تقع علائم الظهور الأساسية شيئاً فشيئاً - واحدة بعد الأخري ، ولتقع الأحداث والمشكلات قبل الظهور ، حتي يصل « رمضان العظيم » ويملأ نداء دعوة الحق العالمية كل مكان ، ثم يتنفس هلال محرم ليعلن المهدي (عليه السلام) نهضته في العاشر من محرم - يوم السبت - منطلقاً من مكة ، ويعكف علي حروب دامية كبري ، ويرفع لواء الملاحم الصادقة(1) ، ويشرع بسحق وإبادة المستكبرين وقوي الضلال العظمي ، ويختزل الصعاب ويدفع المتاعب ، ويقسم المال بين الناس بالسوية - كما مرت إشارات بهذا الصدد - ، ويضع الحرية الإنسانية واقعاً بين يدي أتباع الحق والمؤمنين به ، وبنصرة أهل الحق ومعونتهم .

تنصر الملائكة المهدي (عليه السلام) ويعينه المؤمنون أيضاً ... كما يشكل الرعب الذي يقذف في قلوب المتمردين علي أثر نهضته عاملاً مهماً من عوامل انتصاراته . فعلي أثر إشاعة أخبار ثورة المهدي وقوته وحسمه ، تتزلزل معنويات المستكبرين وجيوشهم ، فيهزمون في مواجهة هجوم جيوش المهدي . بل يهزمون أمامهم .

بهذا السياق يحل المهدي ويثب العقائديون وأهل الحق بين يديه ، فيلتفون حوله ويجتمعون إليه . ثم يعلن الإمام بعد مدة نهضته فينهض علي و اسم الله ، فيعود العالم به صادحاً بالعدل ، والقسط ، والنور ، والبرهان ، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :

يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ، ونوراً وبرهاناً ...(2) .

ص: 340


1- « تجري الملاحم علي يديه ... » ، بحار الأنوار ، ج 51 ، من 83.
2- الاحتجاج ، بحار الأنوار ج 52، ص 280 .

10- سلام علي آل ياسين

سلام علي آل ياسين ، سلام علي نداء الله ، وصنيعة آياته ، سلام علي قاريء القرآن ومبين علومه ، السلام علي صاحب الأسرار الربانية ، ودليل الإرادة الإلهية . السلام عليك أيها الميثاق المؤكد ، الميعاد المسلم ، السلام عليك أيها العَلَمُ المنصوب والعلم المصبوب ، سلام علي الرحمة الواسعة ، السلام عليك أيها الغوث ! السلام علك في الأيام ، والليالي ، السلام عليك حين تقوم وحين تقعد وحين تقرأ وتبين ! سلام عليك في الأيام المضيئة والليالي الحالكة . السلام عليك أيها الإمام المأمول والمقدم المأمول ! السلام عليك يا وصي الأوصياء الماضين ، السلام عليك يابن الأنوار الزاهرة والأعلام الباهرة .

السلام عليك يا نور الله الذي لا يُطفأ وحجته التي لا تخفي . السلام علي محيي المؤمنين ، ومبير الكافرين . السلام علي مهدي الأمم وجامع الكلم ، السلام علي القائم المنتظر والعدل المشتهر . السلام علي السيف الشاهر والقمر الزاهر . السلام علي ربيع الأنام ، ونضرة الأيام . السلام علي المهدي الذي وعد الله عز وجل به الأمم أن يجمع به الكلم ويلم به الشعث.

11- المطالب بدم شهداء التاريخ

إلي أين ذهب الهداة المهتدون ، وماذا حصل للخضارمة المنتجبين ؟ أين الشموس الساطعة والأقمار المنيرة ؟ أين أعلام الدين وقواعد العلم واليقين ؟

أين بقية الله - مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) - التي لا تخلو من العترة الهادية ؟ أين المنتظر لإقامة الأمت والعوج ؟ أين المرتجي لإزالة الجور والعدوان ؟

ص: 341

أين ذكري الأنبياء والأئمة ؟

أين المؤمل لإحياء معالم الدين وأهله ؟ أين مبيد أهل الفسوق والعصيان ؟ أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد ؟ أين معز الأولياء ومذل الأعداء ؟

أين جامع الكلمة علي التقوي ؟ أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء ؟ أين السبب المتصل بين الأرض والسماء ؟ أين صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدي ؟ أين مؤلف شمل الصلاح والرضا ؟ أين الطالب بدخول الأنبياء وأبناء الأنبياء ؟ أين الطالب بدم المقتول بكربلاء ؟ ...

أين ابن محمد المصطفي ؟ أين ابن علي المرتضي ؟ أين ابن خديجة الكبري ؟ أين ابن فاطمة الزهراء ؟ بأبي أنت وأمي ، ونفسي لك الوفاء والحمي ! يابن السادة المقربين والنجباء الطاهرين . يابن السرج المضيئة ، والأنجم الزاهرة ، والأعلام اللائحة ، يابن العلوم الكاملة ، والسنن المشهورة ، والمعالم المأثورة !يابن المعجزات الموجودة ، والدلائل المشهودة ! يابن السراط المستقيم ، والنبأ العظيم ! يابن الآيات والبينات ، والحجج البالغات ! يابن طه ويس والذاريات والعاديات ! بابن صاحب المعراج ، وحامل المنهاج ! ليت شعري أين استقر بك النوي ، وأي أرض تقلك !؟ عزيزٌ علي أن أري الخلق ولا تري ، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوي ! بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا ! بنفسي أنت من نازح ما نزح ! أنت أمنية شائق يتمني من مؤمن ومؤمنة !

بنفسي أنت من عقيد عزٍ لا يسامي ، وأثيل مجد لا يجاري ، ونصيف شرف لا يساوي ! يا كعبة العزّ والحرية ! يا عزيز مصر الوجود ، ويا خلاصة التجلي والوجود ! يا مظهر الرب . الرحمن ، ويا إمام الإخلاص والرحمة ! يا معطي العلم

ص: 342

ومربي العقل! يا محيي الروح ، وحياة النفس ! إلي متي أحار فيك يا مولاي ؟ إلي متي أبحث عنك ولا أراك ؟ إلي متي ..؟

هل يتصل يومنا منك بغده فنحظي ؟ متي ترانا ونراك ، وقد نشرت لواء النصر تُرانا أنحفُّ بك ، وأنت تؤم الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً وأبدْتَ العتاة وجحدة الحق وقطعت دابر المتكبرين واجتثت أصول الظالمين ، ونحن نقول : الحمد لله رب العالمين ؟!

12- نور الولاء والموالاة

اللهم ، ربنا ! نسألك أن تصلي علي محمد نبي رحمتك وكلمة نورك . ونسألك اللهم أن تعمر قلوبنا باليقين ، وتنور قلوبنا بالإيمان ، وأفكارنا بقرار الصلاح ، وإرادتنا بنور الهدي ، وحولنا بنور العمل الصالح ، ولساننا بالصدق ، وديننا بالمعرفة ، وعيوننا بنور البصيرة والرؤية ، وآذاننا بنور الحكمة ، وأحاسيسنا بنور حب محمد وآل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) وأتباعهم .

اللهم ، ربنا: صل علي محمد بن الحسن العسكري حجتك في أرضك وخليفتك في بلادك ! الداعي إلي سبيلك ، والقائم بقسطك ، والثائر بأمرك . ولي المؤمنين ومبير الكافرين ، ومجلّي الظلمة ومنير الحق والصادع بالحكمة، ومتخذ الصدق شعاراً كلمتك ورحمتك الواسعة ، سفينة النجاة ، وعلم الهدي ...

اللهم ، ربنا ! املا به الأرض عدلاً وقسطاً ، وانصره بنصرك ، واقصم به جبابرة الكفر ، واقتل به الكفار والمنافقين ، وجميع الملحدين حيث كانوا في مشارق

ص: 343

الأرض ومغاربها ! اللهم آمن به البلاد وافد به العباد !

اللهم ! كما جعلت قلبي بذكره معمورة فاجعل سلاحي بنصرته مشهورة !

اللهم صل علي محمد وآل محمد، وسلم علي وصي الحسن العسكري وخليفته الحجة القائم الغائب عن الخلق المنتظر لإذنك ...

اللهم صل عليه ، وقرب فرجه ، وأنجز له ما وعدته ، وأظهره ، واكشف به الغمة .

اللهم ! قدم أمامه الرعب ، وثبت به القلب ! وأقم به الحرب ! وأيده بجند من الملائكة مسومين ، وسلطه علي أعداء دينك أجمعين ! وألهمه أن لا يدع منهم ركناً إلا هدّه ولا هاماً إلا قدّه ، ولا جنداً إلّا مزقه ، ولا جوراً إلّا أباده ، ولا علماً إلّا نكّسه ، ولا قصراً إلا خرّبه ، ولا سهلاً إلّا وطئه ، ولا جبلاً إلّا صعده ، ولا كنزاً إلّا أخرجه ، يا أرحم الراحمين !

13- عهد وعقيدة

اللهم ، ربنا ! إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم ، فآمنا. والأن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله لا حبيب إلا هو وأهله . ونشهد أنّ علياً أمير المؤمنين وحجتك ، وأن الأئمة من أبنائه حججك وخلفاؤك في أرضك ...

ويا حجّة الله ، ويا مهدي آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ! نشهد أنك حجة الله ، وأنتم الأول والأخر ، وأنّ رجعتكم حق لا ريب فيها . يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً . وأن الموت حق ، وأن سؤال القبر

ص: 344

حق، وأن النشر والبعث والصراط والميزان حق جميعاً . ونشهد أن الحساب والجنة والنار حق . يا مولاي شقي من خالفكم وسعد من أطاعكم.

يا حجة الله ! اشهد علي ما أشهدتك عليه ، فأنا ولي لك ، بريء من عدوك ، فالحق ما ارتضيتموه والباطل ما سخطتموه ، والمعروف ما أمرتم به والمنكر ما نهيتم عنه ، فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له ، وبرسوله وبأمير المؤمنين وبكم يا مولاي أولكم وآخركم نصرتي معدة لكم ومودتي خالصة لكم .

مولاي ! لو تطاولت الدهور وتمادت الأعمار لم أزدد فيك إلا يقيناً ، ولك إلّا حبّاً ، وعليك إلّا متكلاً ومعتمداً ، ولظهورك إلا متوقعاً ومنتظراً ، ولجهادي بين يديك مترقباً ، فأبذل نفسي ومالي وولدي وأهلي وجميع ما خولّني ربي بين يديك ، والتصرف بين أمرك ونهيك .

مولاي ! فإن أدركت أيامك الزاهرة وأعلامك الباهرة ، فها أنا ذا عبدك المتصرف بين أمرك ونهيك ، أرجو به الشهادة بين يديك والفوز لديك .....(1) .

14. وهذا هو المهدي

هذا هو المهدي - عليه السلام - وهذه هي حتميته، ولادته وبقاؤه ، تأثيره ، ظهوره ، قيامه وثورته ، إصلاحه وتطهيره ، وإقامة حكمه ... الذي سيقع .

البعثة ، هبوط النور لعالم الطبيعة . الغدير ، إدامة حكم النور علي الأرض . عاشوراء المذبحة الرهيبة لإنقاذ حكم النور . والمهدي انفلاق النور

ص: 345


1- اقتبست هذه الفقرات بدءاً من «سلام، علي آل ياسين » حتي هذه الفقره من « أدعية و زيارات صاحب الأمر (عليه السلام) » في كتاب «مفاتيح الجنان »

في سبات الظلمة المستوعبة ، كلما ازداد العالم ظلاماً وحلكةً يضحي طلب الاستنارة أكثر إلحاحاً وحسّيةً . حينما تعم الظلمة الآفاق ، ينهض عارفو النور وطلابه ، ويعكفون علي إيقاظ المجتمع وتهيئة أنصار المهدي ، ليعود الجميع إلي البحث عن مشرق الأنوار ، وليثبوا في طلب « الطلعة الرشيدة » و « الغرة الحميدة » ، وليمدوا يد الحاجة إلي ساحة الربوبية الغنية طالبين تلك الذخيرة الإلهية وذلك المنقذ النهائي .

هذا الأمل الذي تحدثوا حوله منذ أيام الزمن القديمة ، ووعد به الأنبياء والحكماء . وقد قدم الرسول الأكرم بشري صريحة بهذا الصدد ... أجل . لقد علق انعكاس هذا التطلع في الأفاق والعصور ، ويصدح نداء قدوم هذا الموكب علي معبر البشرية .

وسيأتي اليوم الذي ستُسكب فيه أصداء هذه الواقعة العظمي في وعاء الشمس . وسيهب النسيم علي الصحاري والسهول عبر فضاء دولة تمتدُ من أقصي العالم إلي أدناه ، وستعطي عندئذ الأشجار ثمارها جنية . وستربو الورود في تلك الأيام . وستجري الأنهار والسواقي والأودية في أيام اليمن الأتية .

... وسيطرق نداء و أشهد أن لا إله إلا الله - وأشهد أن محمداً رسول الله » آذان الجماهير في الأسحار وفي المغارب وعند الزوال منطلقاً من قمم المآذن في كل بقاع العالم : وستعود فصول الأذان « حي علي الصلاة » و «حي علي خير العمل » مدوية صادحة في كل اتجاه عند الأوقات الخمسة .

. وسيعم العدل والإحسان كل مكان بشعار « إن الله يأمر بالعدل والإحسان » ، وسيظهر لعالم الوجود مجتمع « الأعلون » . وسيشع المشعل الخالد كالشمس ليغطّي أعلي قمم أرض الحياة الإنسانية .

ستتجسد حماسة المرابطين الخالدة ، وسيلون دم الشمس المتبلور ، علي طريق « تفسير الشمس » الحياة والمعمورة .

في ذلك اليوم سيُقلّل من ارتفاع جدران المساجد. وسيعم العدل والمساواة شاملين . وسيرتفع التبعيض عن المسرح . وسيغلق سجل الظلم

ص: 346

والجهل في العالم . وستعود القلوب نيّرة . والعقول كاملة ، والمعرفة واقعية ، والنفوس مسرورة . سيطهر العيش ، وستسحق الامتيازات علي أساس قيم المادة .

في ذلك اليوم ستجيء عصمة الخالدين ، وسيتوفر الإيمان علي قوامه .

في ذلك اليوم سيان في رؤية الفلوات والمعمورة من قلب المعمورة ومن قلب الفلوات .

في ذلك اليوم ستسكب قطرات النور من وعاء اللحظات في قالب الوجود الإنساني ، وسيختار الإنسان طريق الأبدية بالتزكية والتعليم والتربية والتدريس .

في ذلك اليوم سيستبدل فضاء الزمن الزائل بنموذج للذهر الثابت .

في ذلك اليوم سيكون كل مكان وكل شيء نوراً وضياءً ، وسيكون ضياء ونوراً . ستصير ذوات الأشياء نورانية وستحل روح النور في كل مكان وفي كل شيء ...

وفي ذلك اليوم سيكون كل مكان وكل شيء نورة وضياء وسيكون ضياء ونوراٌ .

اللهم . ألهم الجميع سداداً لصنع حياةٍ أخلاقية سعيدة ، ولبناء محيط إنساني نوراني . ونسألك ربنا أن تعجل فرج قائم آل محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وتخرجه من خفاء العالم حتي يتكيء علي أعتق بيت وأقدم معبد للتوحيد ، ويبلغ نداؤه الأخاذ أسماع الجماهير البشرية ، وينهي فصل الظلم والعدوان ، ويشيد بناء العدل والقسط والمعرفة واللياقة ...

اللهم أرنا الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة . اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله ...

ص: 347

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.