سرشناسه:صدر، سيدمحمدمهدي
عنوان و نام پديدآور:اخلاق اهل البيت عليهم السلام/ محمدمهدي الصدر.
مشخصات نشر:قم: دار الكتاب الاسلامي، 1414ق.= 1372.
مشخصات ظاهري:358 ص.
شابك:978-964-4650-27-7 ؛ چاپ دوم 964-465-015-8 :
يادداشت:عربي.
يادداشت:اين كتاب قبلا از روي نسخه 1390ه. ق. افست شده و در 506 ص. توسط همين ناشر منتشر گرديده است.
يادداشت:چاپ دوم: 1378.
يادداشت:چاپ سوم: 1383.
يادداشت:چاپ چهارم: 1429ق. = 2008م. = [1387].
يادداشت:كتابنامه به صورت زيرنويس.
موضوع:اخلاق اسلامي
خاندان نبوت -- اخلاق.
رده بندي كنگره:BP248/ص 4الف 3
رده بندي ديويي:297/61
شماره كتابشناسي ملي:م 74-6296
اطلاعات ركورد كتابشناسي:ركورد كامل
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 3
اخلاق اهل البيت عليهم السلام
دار الكتاب الاسلامي، 1414ق.= 1372.
ص: 4
الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السّلام علي محمد و آله الطيبين الطاهرين.
و بعد:
فإنّ علم الأخلاق هو:العلم الباحث في محاسن الأخلاق و مساوئها، و الحث علي التحلي بالأولي و التخلي عن الثانية.
و يحتل هذا العلم مكانة مرموقة،و محلا رفيعا بين العلوم،لشرف موضوعه،و سمو غايته.فهو نظامها،و واسطة عقدها،و رمز فضائلها،و مظهر جمالها،إذ العلوم بأسرها منوطة بالخلق الكريم،تزدان بجماله،و تحلو بآدابه، فإن خلت منه غدت هزيلة شوهاء،تثير السخط و التقزز.
و لا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة،و تحيطه بهالة وضّاءة من الجمال و الكمال،و شرف النفس و الضمير، و سمو العزة و الكرامة،كما تمسخه الأخلاق الذميمة،و تحطّه إلي سويّ الهمج و الوحوش.
و ليس أثر الأخلاق مقصورا علي الأفراد فحسب بل يسري إلي الأمم و الشعوب،حيث تعكس الأخلاق حياتها و خصائصها و مبلغ رقيها،أو تخلفها في مضمار الأمم.
ص: 5
و قد زخر التاريخ بأحداث و عبر دلّت علي أنّ فساد الأخلاق و تفسخها كان معولا هدّاما في تفويض صروح الحضارات،و انهيار كثير من الدول و الممالك:
و إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما و عويلا
و ناهيك في عظمة الأخلاق،أن النبي(ص)أولاها عناية كبري،و جعلها الهدف و الغاية من بعثته و رسالته،فقال:
(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
و هذا هو ما يهدف إليه علم الأخلاق،بما يرسمه من نظم و آداب،تهذّب ضمائر الناس و تقوّم أخلاقهم،و توجههم إلي السيرة الحميدة،و السلوك الأمثل.
و تختلف مناهج الأبحاث الخلقية و أساليبها باختلاف المعنيين بدراستها من القدامي و المحدثين:بين متزمت غال في فلسفته الخلقية،يجعلها جافة مرهقة عسيرة التطبيق و التنفيذ.و بين متحكم فيها بأهوائه،يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصة،و محيطه المحدود،و نزعاته و طباعه،مما يجردها من صفة الأصالة و الكمال.و هذا ما يجعل تلك المناهج مختلفة متباينة،لا تصلح أن تكون دستورا أخلاقيا خالدا للبشرية.
و الملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج أنّ أفضلها و أكملها هو:النهج الإسلامي،المستمد من القرآن الكريم،و أخلاق أهل البيت عليهم السّلام، الذي ازدان بالقصد و الاعتدال،و أصالة المبدأ،و سمو الغاية،و حكمة التوجيه، و حسن الملائمة لمختلف العصور و الأفكار.
و هو النهج الفريد الأمثل الذي يستطيع بفضل خصائصه و ميزاته أن يسمو بالناس فردا و مجتمعا،نحو التكامل الخلقي،و المثل الأخلاقية العليا،بأسلوب شيق محبب،يستهوي العقول و القلوب،و يحقق لهم ذلك بأقرب وقت،و أيسر طريق.
هو منهج يمثل سمّو آداب الوحي الإلهي،و بلاغة أهل البيت عليهم السّلام،و حكمتهم،و هم يسيرون علي ضوئه،و يستلهمون مفاهيمه،و يستقون من معينه،ليحيلوها إلي الناس حكمة بالغة،و أدبا رفيعا،و دروسا أخلاقية
ص: 6
فذة،تشع بنورها و طهورها علي النفس،فتزكّيها و تنيرها بمفاهيمها الخيّرة و توجيهها الهادف البنّاء.
من أجل ذلك تعشّقت هذا النهج،و صبوت إليه،و آثرت تخطيط هذه الرسالة و رسم أبحاثها علي ضوئه و هداه.
و لئن اهتدي به أناس و قصر عنه آخرون،فليس ذلك بقادح في حكمته و سمو تعاليمه،و إنما هو لاختلاف طباع الناس،و نزعاتهم في تقبّل مفاهيم التوجيه و التأديب،و انتفاعهم بها،كاختلاف المرضي في انتفاعهم بالأدوية الشافية،و العقاقير الناجعة:فمنهم المنتفع بها،و منهم من لا تجديه نفعا.
و مما يحز في النفس،و يبعث علي الأسي و الأسف البالغين،أنّ المسلمين بعد أن كانوا قادة الأمم،و روّادها إلي الفضائل،و مكارم الأخلاق،قد خسروا مثاليتهم لانحرافهم عن آداب الإسلام،و أخلاقه الفذّة،ما جعلهم في حالة مزرية من التخلف و التسيب الخلقيين.لذلك كان لزاما عليهم-إذا ما ابتغوا العزة و الكرامة و طيب السمعة-أن يستعيدوا ما أغفلوه من تراثهم الأخلاقي الضخم،و ينتفعوا برصيده المذخور،ليكسبوا ثقة الناس و إعجابهم من جديد، و ليكونوا كما أراد اللّه تعالي لهم: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ.
و تلك أمنية غالية،لا تنال إلا بتظافر جهود المخلصين من أعلام الأمة الإسلامية و موجهيها،علي توعية المسلمين،و حثهم علي التمسك بالأخلاق الإسلامية،و نشر مفاهيمها البنّاءة و الإهتمام بعرضها عرضا شيّقا جذابا،يغري الناس بدراستها و الإفادة منها.
و هذا ما حداني إلي تأليف هذا الكتاب،و تخطيطه علي ضوء الخصائص التالية:
(1)إن هذا الكتاب لم يستوعب علم الأخلاق،و إنما ضمّ أهمّ أبحاثه، و أبلغها أثرا في حياة الناس.و قد جهدت ما استطعت في تجنب المصطلحات العلمية و ألفاظها الغامضة،و عرضتها بأسلوب واضح مركّز،يمتع القاريء،و لا يرهقه بالغموض و الإطناب،الباعثين علي الملل و السأم.
ص: 7
(2)اختيار الأحاديث و الأخبار الواردة فيه من الكتب المعتبرة و المصادر الوثيقة لدي المحدثين و الرواة.
(3)الإهتمام بذكر محاسن الخلق الكريم،و مساويء الخلق الذميم، و بيان آثارهما الروحية و المادية في حياة الفرد أو المجتمع.
و الجدير بالذكر:أن المقياس الخلقي في تقييم الفضائل الخلقية،و تحديد واقعها هو:التوسط و الإعتدال،المبرأ من الإفراط و التفريط.فالخلق الرضيّ هو:ما كان وسطا بين المغالاة و الإهمال،كنقطة الدائرة من محيطها،فإذا انحرف عن الوسط إلي طرف الإفراط أو التفريط غدي خلقا ذميما.
فالعفة فضيلة بين رذيلتي الشر و الجمود:فإن أفرط الإنسان فيها كان جامدا خاملا،معرضا عن ضرورات الحياة و لذائذها المشروعة،و إن فرّط فيها و قصّر،كان شرها جشعا،منهمكا في اللذائذ و الشهوات.
و الشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور و الجبن:فإن أفرط الشجاع فيها كان متهورا مجازفا فيما يحسن الاحجام عنه،و إن فرّط و قصّر كان جبانا هيّابا محجما عمّا يحسن الإقدام عليه.
و السخاء فضيلة بين رذيلتي التبذير و البخل:فإن أفرط فيها كان مسرفا مبذرا سخيا علي من لا يستحق البذل و السخاء،و إن فرّط فيها و قصر كان شحيحا بخيلا فيما يجدر الجود و السخاء فيه...و هكذا دواليك.
من أجل ذلك كان كسب الفضائل،و التحلّي بها،و الثبات عليها،من الأهداف السامية التي يتباري فيها،و يتنافس عليها،ذوو النفوس الكبيرة، و الهمم العالية،و لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
و لم أر أمثال الرجال تفاوتا لدي المجد حتي عدّ ألف بواحد
و إني لأرجو اللّه عز و جل أن يتقبل مني هذا المجهود المتواضع و يثيبني عليه،بلطفه الواسع،و كرمه الجزيل،و أن يوفقني و إخواني المؤمنين للانتفاع به، و السير علي ضوئه،إنّه وليّ الهداية و التوفيق.
الكاظمية مهدي السيد علي الصدر
ص: 8
حسن الخلق هو:حالة نفسية تبعث علي حسن معاشرة الناس،و مجاملتهم بالبشاشة،و طيب القول،و لطف المداراة،كما عرّفه الإمام الصادق عليه السّلام حينما سئل عن حدّه فقال:«تلين جناحك،و تطيب كلامك،و تلقي أخاك ببشر حسن» (1).
من الأماني و الآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف،و يسعي جاهدا في كسبها و تحقيقها،أن يكون ذا شخصية جذّابة،و مكانة مرموقة،محببا لدي الناس،عزيزا عليهم.
و إنها لأمنية غالية،و هدف سامي،لا يناله إلا ذوو الفضائل و الخصائص التي تؤهلهم كفاءاتهم لبلوغها،و نيل أهدافها،كالعلم و الأريحية و الشجاعة و نحوها من الخلال الكريمة.
بيد أن جميع تلك القيم و الفضائل،لا تكون مدعاة للإعجاب و الإكبار، و سمو المنزلة،و رفعة الشأن،إلا إذا اقترنت بحسن الخلق،و ازدانت بجماله الزاهر،و نوره الوضّاء.فإذا ما تجردت منه فقدت قيمها الأصيلة،و غدت صورا شوهاء تثير السأم و التذمر.
لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل و نظام عقدها،و محور فلكها،
********
(1) الكافي للكليني.
ص: 9
و أكثرها إعدادا و تأهيلا لكسب المحامد و الأمجاد،و نيل المحبة و الإعزاز.
انظر كيف يمجد أهل البيت عليهم السّلام هذا الخلق الكريم،و يطرون المتحلين به إطراءا رائعا،و يحثون علي التمسك به بمختلف الأساليب التوجيهية المشوقة،كما تصوره النصوص التالية:
قال النبي(ص):«أفاضلكم أحسنكم أخلاقا،الموطئون أكنافا،الذين يألفون و يؤلفون و توطأ رحالهم» (1).
و قال الباقر(ع):«إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (2).
و قال الصادق(ع):«ما يقدم المؤمن علي اللّه تعالي بعمل بعد الفرائض، أحبّ إلي اللّه تعالي من أن يسع الناس بخلقه» (3).
و قال عليه السّلام:«إنّ اللّه تعالي ليعطي العبد من الثواب علي حسن الخلق،كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه،يغدو عليه و يروح» (4).
و قال النبي(ص):«إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم» (5).
و قال الصادق(ع):«إن الخلق الحسن يميث الخطيئة،كما تميث الشمس الجليد» (6).
و قال(ع):«البر و حسن الخلق يعمران الديار،و يزيدان في الأعمار» (7).
و قال(ع):«إن شئت أن تكرم فلن،و إن شئت أن تهان فاخشن» (8).
و قال النبي(ص):«إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» (9).
********
(1) الكافي.و الأكناف جمع كنف،و هو:الناحية و الجانب،و يقال«رجل موطأ الأكناف»أي كريم مضياف.
(2) عن الكافي.
(3) عن الكافي.
(4) عن الكافي.
(5) عن الكافي.
(6) عن الكافي.
(7) عن الكافي.
(8) تحف العقول.
(9) من لا يحضره الفقيه.
ص: 10
و كفي بحسن الخلق شرفا و فضلا،ان اللّه عز و جل لم يبعث رسله و أنبياءه إلي الناس إلاّ بعد أن حلاّهم بهذه السجية الكريمة،و زانهم بها،فهي رمز فضائلهم،و عنوان شخصياتهم.
و لقد كان سيد المرسلين(ص)المثل الأعلي في حسن الخلق،و غيره من كرائم الفضائل و الخلال.و استطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب و العقول، و استحق بذلك ثناء اللّه تعالي عليه بقوله عز من قائل: وَ إِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ.
قال أمير المؤمنين علي(ع)و هو يصور أخلاق رسول اللّه(ص):«كان أجود الناس كفا،و أجرأ الناس صدرا،و أصدق الناس لهجة،و أوفاهم ذمة، و ألينهم عريكة،و أكرمهم عشرة.من رآه بديهة هابه.و من خالطه فعرفه أحبّه، لم أر مثله قبله و لا بعده» (1).
و حسبنا أن نذكر ما أصابه من قريش،فقد تألبت عليه،و جرّعته ألوان الغصص،حتي اضطرته إلي مغادرة أهله و بلاده،فلما نصره اللّه عليهم،و أظفره بهم،لم يشكّوا أنّه سيثأر منهم،و ينكّل بهم،فما زاد أن قال لهم:ما تقولون إني فاعل بكم؟!قالوا:خيرا،أخ كريم و ابن أخ كريم.فقال:أقول كما قال أخي يوسف:لا تثريب عليكم اليوم،اذهبوا فأنتم الطلقاء.
و جاء عن أنس قال:كنت مع النبي(ص)،و عليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة،حتي أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال:يا محمد إحمل لي علي بعيريّ هذين من مال اللّه الذي عندك،فإنك لا تحمل لي من مالك،و لا مال أبيك.فسكت النبي(ص)ثم قال:المال مال اللّه،و أنا عبده.ثم قال:و يقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟!قال:لا.قال:
لم؟قال:لأنّك لا تكافيء بالسيئة السيئة.فضحك النبي،ثم أمر أن يحمل له علي بعير شعيرا،و علي الآخر تمرا (2).
********
(1) سفينة البحار-مادة خلق-.
(2) سفينة البحار-مادة خلق-.
ص: 11
و عن أمير المؤمنين(ع)قال:إن يهوديّا كان له علي رسول اللّه(ص) دنانير،فتقاضاه،فقال له:يا يهودي ما عندي ما أعطيك.فقال:فإني لا أفارقك يا محمد حتي تقضيني.فقال:إذن أجلس معك،فجلس معه حتي صلّي في ذلك الموضع الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الغداة،و كان أصحاب رسول اللّه يتهددونه و يتواعدونه،فنظر رسول اللّه إليهم و قال:ما الذي تصنعون به؟!فقالوا:يا رسول اللّه يهودي يحبسك!فقال:لم يبعثني ربي عز و جل بأن أظلم معاهدا و لا غيره.فلما علا النهار قال اليهودي:أشهد أن لا إله إلا اللّه، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،و شطر مالي في سبيل اللّه،أما و اللّه ما فعلت بك الذي فعلت،إلا لأنظر إلي نعتك في التوراة،فإني قرأت نعتك في التوراة:
محمد بن عبد اللّه،مولده بمكة،و مهاجره بطيبة،و ليس بفظ و لا غليظ،و لا سخّاب،و لا متزين بالفحش،و لا قول الخنا،و أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه، و أنّك رسول اللّه،و هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه،و كان اليهودي كثير المال (1).
و هكذا كان الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السّلام في مكارم أخلاقهم و سمو آدابهم.و قد حمل الرواة إلينا صورا رائعة و دروسا خالدة من سيرتهم المثالية،و أخلاقهم الفذة.
من ذلك ما ورد عن أبي محمد العسكري(ع)قال:ورد علي أمير المؤمنين (ع)أخوان له مؤمنان،أب و ابن،فقام إليهما و أكرمهما و أجلسهما في صدر مجلسه،و جلس بين يديهما،ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه،ثم جاء قنبر بطست و إبريق خشب و منديل،فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام الإبريق فغسل يد الرجل بعد أن كان الرجل يمتنع من ذلك،و تمرغ في التراب،و أقسم له أمير المؤمنين عليه السّلام أن يغسل مطمئنا،كما كان يغسل لو كان الصابّ عليه قنبر ففعل،ثم ناول الإبريق محمد بن الحنفية و قال:يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت علي يده،و لكن اللّه عز و جل يأبي أن يسوّي بين ابن و أبيه،إذا جمعهما مكان،و لكن قد صب الأب علي الأب،فليصب الابن علي
********
(1) البحار م 6 في مكارم أخلاق النبي(ص).
ص: 12
الابن،فصب محمد بن الحنفية علي الابن.
ثم قال العسكري(ع):فمن اتّبع عليا علي ذلك فهو الشيعي حقا (1).
و ورد أن الحسن و الحسين مرّا علي شيخ يتوضأ و لا يحسن،فأخذا في التنازع،يقول كل واحد منهما أنت لا تحسن الوضوء،فقالا:أيّها الشيخ كن حكما بيننا،يتوضأ كل واحد منّا،فتوضئا ثم قالا:أيّنا يحسن؟قال:كلاكما تحسنان الوضوء،و لكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن،و قد تعلّم الآن منكما،و تاب علي يديكما ببركتكما و شفقتكما علي أمة جدّكما (2).
و جني غلام للحسين عليه السّلام جناية توجب العقاب عليه،فأمر به أن يضرب،فقال:يا مولاي و الكاظمين الغيظ.قال:خلّوا عنه.فقال:يا مولاي و العافين عن الناس.قال:قد عفوت عنك.قال:يا مولاي و اللّه يحب المحسنين.قال:أنت حرّ لوجه اللّه،و لك ضعف ما كنت أعطيك (3).
و حدّث الصولي:أنه جري بين الحسين و بين محمد بن الحنفية كلام، فكتب ابن الحنفية إلي الحسين:«أما بعد يا أخي فإن أبي و أباك علي لا تفضلني فيه و لا أفضلك،و أمّك فاطمة بنت رسول اللّه،لو كان ملء الأرض ذهبا ملك أميّ ما وفت بأمّك،فإذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتي تترضاني.فإنك أحق بالفضل مني،و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته»ففعل الحسين فلم يجر بعد ذلك بينهما شيء (4).
و عن محمد بن جعفر و غيره قالوا:وقف علي علي بن الحسين(ع)رجل من أهل بيته فأسمعه و شتمه،فلم يكلمه،فلما انصرف قال لجلسائه:لقد سمعتم ما قال هذا الرجل،و أنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتي تسمعوا مني ردّي عليه.
فقالوا له:نفعل،و لقد كنّا نحب أن يقول له و يقول.فأخذ نعليه و مشي
********
(1) سفينة البحار-مادة وضع-.
(2) البحار م 10 عن عيون المحاسن ص 89.
(3) البحار م 10 ص 145 عن كشف الغمة.
(4) البحار م 10 ص 144 عن مناقب ابن شهرآشوب.
ص: 13
و هو يقول:«و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و اللّه يحب المحسنين»فعلمنا أنه لا يقول له شيئا.
قال:فخرج حتي أتي منزل الرجل،فصرخ به،فقال:قولوا له هذا علي بن الحسين.قال:فخرج متوثبا للشر،و هو لا يشّك أنّه إنما جاء مكافئا له علي بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين:يا أخي إنّك وقفت عليّ آنفا و قلت و قلت فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر اللّه منه،و إن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر اللّه لك.
قال:فقبّله الرجل بين عينيه،و قال:بل قلت فيك ما ليس فيك و أنا أحق به (1).
و ليس شيء أدل علي شرف حسن الخلق،و عظيم أثره في سمو الإنسان و إسعاده،من الحديث التالي:
عن علي بن الحسين(ع)قال:ثلاثة نفر آلوا باللات و العزي ليقتلوا محمدا (ص)،فذهب أمير المؤمنين وحده إليهم و قتل واحدا منهم و جاء بآخرين،فقال النبي(ص):قدّم إليّ أحد الرجلين،فقدّمه فقال:قل لا إله إلا اللّه،و أشهد أني رسول اللّه.فقال:لنقل جبل أبي قبيس أحبّ إليّ من أن أقول هذه الكلمة.
قال:يا علي أخره و اضرب عنقه.ثم قال:قدم الآخر،فقال:قل لا إله إلا اللّه،و أشهد أني رسول اللّه.قال:ألحقني بصاحبي.قال:يا علي أخره و اضرب عنقه.فأخره و قام أمير المؤمنين ليضرب عنقه فنزل جبرئيل علي النبي(ص) فقال:يا محمد إنّ ربك يقرئك السّلام،و يقول لا تقتله فإنه حسن الخلق سخي في قومه.فقال النبي(ص):يا علي أمسك،فإن هذا رسول ربي يخبرني أنّه حسن الخلق سخّي في قومه.فقال المشرك تحت السيف:هذا رسول ربك يخبرك؟قال:نعم.قال:و اللّه ما ملكت درهما مع أخ لي قط،و لا قطبت وجهي في الحرب،فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه،و أنك رسول اللّه.فقال رسول اللّه:
هذا ممن جرّه حسن خلقه و سخائه إلي جنات النعيم (2).
********
(1) البحار م 11 ص 17 عن إعلام الوري و إرشاد المفيد.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 210 في حسن الخلق.
ص: 14
و هو:انحراف نفساني،يسبب انقباض الإنسان و غلظته و شراسته،نقيض حسن الخلق.
من الثابت أنّ لسوء الخلق آثارا سيئة،و نتائج خطيرة،في تشويه المتصف به،و حط كرامته،مما يجعله عرضة للمقت و الإزدراء،و هدفا للنقد و الذم.
و ربما تفاقمت أعراضه و مضاعفاته،فيكون حينذاك سببا لمختلف المآسي و الأزمات الجسمية و النفسية المادية و الروحية.
و حسبك في خسة هذا الخلق و سوء آثاره،أن اللّه تعالي خاطب سيد رسله،و خاتم أنبيائه،و هو المثل الأعلي في جميع الفضائل و المكرمات قائلا: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
من أجل ذلك فقد تساند العقل و النقل علي ذمه و التحذير منه،و إليك طرفا من ذلك:
قال النبي(ص):«عليكم بحسن الخلق،فإنّ حسن الخلق في الجنة لا محالة،و إياكم و سوء الخلق،فإن سوء الخلق في النار لا محالة» (1).
و قال الصادق(ع):«إن شئت أن تكرم فلن،و إن شئت أن تهان فاخشن» (2).
و قال النبي(ص):«أبي اللّه لصاحب الخلق السييء بالتوبة،قيل:فكيف ذلك يا رسول اللّه؟قال:لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه» (3).
و قال الصادق(ع):«إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (4).
و قال(ع):«من ساء خلقه عذّب نفسه» (5).
********
(1) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق(ر ه).
(2) تحف العقول.
(3) عن الكافي.
(4) عن الكافي.
(5) عن الكافي.
ص: 15
كما تمرض الأجساد و تعتورها أعراض المرض من شحوب و هزال و ضعف، كذلك تمرض الأخلاق،و تبدو عليها سمات الاعتلال و مضاعفاته،في صور من الهزال الخلقي،و الانهيار النفسي،علي اختلاف في أبعاد المرض و درجات أعراضه الطارئة علي الأجسام و الأخلاق.
و كما تعالج الأجسام المريضة،و تسترد صحتها و نشاطها،كذلك تعالج الأخلاق المريضة،و تستأنف اعتدالها و استقامتها،متفاوتة في ذلك حسب اعراضها،و طباع ذويها،كالأجسام سواء بسواء.
و لو لا إمكان معالجة الأخلاق و تقويمها،لحبطت جهود الأنبياء في تهذيب الناس،و توجيههم و جهة الخير و الصلاح،و غدا البشر من جراء ذلك كالحيوان و أخس قيمة،و أسوأ حالا منه،حيث أمكن ترويضه،و تطوير أخلاقه،فالفرس الجموح يغدو بالترويض سلس المقاد،و البهائم الوحشية تعود داجنة أليفة.
فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الإنسان،و تقويم أخلاقه،و هو أشرف الخلق،و أسماهم كفاءة و عقلا؟؟
من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوداع الخلوق،و يغدو عبوسا شرسا منحرفا عن مثاليته الخلقية،لحدوث إحدي الأسباب التالية:
(1)-الوهن و الضعف الناجمان عن مرض الإنسان و اعتلال صحته،أو طرو أعراض الهرم و الشيخوخة عليه،مما يجعله مرهف الأعصاب عاجزا عن التصبر،و احتمال مؤونة الناس و مداراتهم.
(2)-الهموم:فإنّها تذهل اللبيب الخلوق،و تحرفه عن أخلاقه الكريمة، و طبعه الوادع.
(3)-الفقر:فإنه قد يسبب تجهم الفقير و غلظته،أنفة من هوان الفقر و ألم الحرمان،أو حزنا علي زوال نعمته السالفة،و فقد غناه.
(4)-الغني:فكثيرا ما يجمع بصاحبه نحو الزهو و التيه و الكبر و الطغيان، كما قال الشاعر:
ص: 16
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
(5)-المنصب:فقد يحدث تنمرا في الخلق،و تطاولا علي الناس،منبعثا عن ضعة النفس و ضعفها،أو لؤم الطبع و خسته.
(6)-العزلة و التزمت:فإنه قد يسبب شعورا بالخيبة و الهوان،مما يجعل المعزول عبوسا متجهما.
و حيث كان سوء الخلق من أسوأ الخصال و أخس الصفات،فجدير بمن يرغب في تهذيب نفسه،و تطهير أخلاقه،من هذا الخلق الذميم،أن يتبع النصائح التالية:
(1)-أن يتذكر مساويء سوء الخلق و أضراره الفادحة،و أنّه باعث علي سخط اللّه تعالي،و ازدراء الناس و نفرتهم،علي ما شرحناه في مطلع هذا البحث.
(2)-أن يستعرض ما أسلفناه من فضائل حسن الخلق،و مآثره الجليلة، و ما ورد في مدحه،و الحث عليه،من آثار أهل البيت عليهم السّلام.
(3)-التريض علي ضبط الأعصاب،و قمع نزوات الخلق السييء و بوادره،و ذلك بالتريّث في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل،مستهديا بقول الرسول الأعظم(ص):«أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه».يتّبع تلك النصائح من اعتلت أخلاقه،و مرضت بدوافع نفسية،أو خلقية.أما من ساء خلقه بأسباب مرضية جسمية،فعلاجه بالوسائل الطبية،و تقوية الصحة العامة،و توفير دواعي الراحة و الطمأنينة،و هدوء الأعصاب.
و هو:مطابقة القول للواقع،و هو أشرف الفضائل النفسية،و المزايا الخلقية،لخصائصه الجليلة،و آثاره الهامة في حياة الفرد و المجتمع.
فهو زينة الحديث و رواؤه،و رمز الاستقامة و الصلاح،و سبب النجاح
ص: 17
و النجاة،لذلك مجدّته الشريعة الإسلامية،و حرضت عليه،قرآنا و سنة.
قال تعالي: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (الزمر:33-34).
و قال تعالي: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ،لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ،خالِدِينَ فِيها أَبَداً. (المائدة:119).
و قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ،وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ.
(التوبة:119)
و هكذا كرّم أهل البيت عليهم السّلام هذا الخلق الرفيع،و دعوا إليه بأساليبهم البليغة الحكيمة:
قال الصادق(ع):«لا تغتروا بصلاتهم،و لا بصيامهم،فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة و الصوم حتي لو تركه استوحش،و لكن اختبروهم عند صدق الحديث،و أداء الأمانة» (1).
و قال النبي(ص):«زينة الحديث الصدق» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إلزموا الصدق فإنّه منجاة» (3).
و قال الصادق(ع):«من صدق لسانه زكي عمله» (4).
أي صار عمله ببركة الصدق زاكيا ناميا في الثواب،لأنّ اللّه تعالي«إنّما يقبل من المتقين»و الصدق من أبرز خصائص التقوي و أهم شرائطه.
من ضرورات الحياة الاجتماعية،و مقوماتها الأصلية هي:
شيوع التفاهم و التآزر بين عناصر المجتمع و أفراده،ليستطيعوا بذلك
********
(1) الكافي.
(2) الإمامة و التبصرة.
(3) كمال الدين للصدوق.
(4) الكافي.
ص: 18
النهوض بأعباء الحياة،و تحقيق غاياتها و أهدافها،و من ثم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة،و تعايش سلمي.
و تلك غايات سامية،لا تتحقق إلا بالتفاهم الصحيح،و التعاون الوثيق، و تبادل الثقة و الائتمان بين أولئك الأفراد.
و بديهي أنّ اللسان هو أداة التفاهم،و منطلق المعاني و الأفكار،و الترجمان المفسر عمّا يدور في خلد الناس من مختلف المفاهيم و الغايات،فهو يلعب دورا خطيرا في حياة المجتمع،و تجاوب مشاعره و أفكاره.
و علي صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه،فإن كان اللسان صادق اللهجة،أمينا في ترجمة خوالج النفس و أغراضها،أديّ رسالة التفاهم و التواثق،و كان رائد خير،و رسول محبة و سلام.
و إن كان متصفا بالخداع و التزوير،و خيانة الترجمة و الإعراب،غدا رائد شر،و مدعاة تناكر و تباغض بين أفراد المجتمع،و معول هدم في كيانه.
من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع،و حاجاته الملحة، و كانت له آثاره و انعكاساته في حياة الناس.
فهو نظام عقد المجتمع السعيد،و رمز خلقه الرفيع،و دليل استقامة أفراده و نبلهم،و الباعث القويّ علي طيب السمعة،و حسن الثناء و التقدير،و كسب الثقة و الائتمان من الناس.
كما له آثاره و معطياته في توفير الوقت الثمين،و كسب الراحة الجسمية و النفسية.
فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم،ارتاحوا جميعا من عناء المماكسة، و ضياع الوقت الثمين في نشدان الواقع،و تحري الصدق.
و إذا تواطأ أرباب الأعمال و الوظائف علي التزام الصدق،كان ذلك ضمانا لصيانة حقوق الناس،و استتباب أمنهم و رخائهم.
و إذا تحلي كافة الناس بالصدق،و درجوا عليه،أحرزوا منافعه الجمّة، و مغانمه الجليلة.
ص: 19
و إذا شاع الكذب في المجتمع،وهت قيمه الأخلاقية،و ساد التبرم و السخط بين أفراده،و عزّ فيه التفاهم و التعاون،و غدا عرضة للتبعثر و الانهيار.
للصدق صور و أقسام تتجلي في الأقوال و الأفعال،و إليك أبرزها؟
(1)-الصدق في الأقوال،و هو:الإخبار عن الشيء علي حقيقته من غير تزوير و تمويه.
(2)-الصدق في الأفعال،و هو:مطابقة القول للفعل،كالبر بالقسم، و الوفاء بالعهد و الوعد.
(3)-الصدق في العزم،و هو:التصميم علي أفعال الخير،فإن أنجزها كان صادق العزم،و إلا كان كاذبه.
(4)-الصدق في النيّة،و هو:تطهيرها من شوائب الرياء،و الإخلاص بها إلي اللّه تعالي وحده.
و هو:مخالفة القول للواقع.و هو من أبشع العيوب و الجرائم،و مصدر الآثام و الشرور،و داعية الفضيحة و السقوط.لذلك حرمته الشريعة الإسلامية، و نعت علي المتصفين به،و توّعدتهم في الكتاب و السنة:
قال تعالي: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (غافر:28).
و قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (الجاثية:7).
و قال تعالي: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ،وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (النحل:105).
و قال الباقر(ع):«إنّ اللّه جعل للشر أقفالا،و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب،و الكذب شرّ من الشراب» (1).
********
(1) الكافي.
ص: 20
و قال(ع):«كان علي بن الحسين يقول لولده:إتقوا الكذب،الصغير منه و الكبير،في كل جدّ و هزل،فإن الرجل إذا كذب في الصغير،إجترأ علي الكبير،أما علمتم أنّ رسول اللّه(ص)قال:ما يزال العبد يصدق حتي يكتبه اللّه صدّيقا،و ما يزال العبد يكذب حتي يكتبه اللّه كذّابا» (1).
و قال الباقر(ع):«إنّ الكذب هو خراب الإيمان» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إعتياد الكذب يورث الفقر» (3).
و قال عيسي بن مريم(ع):«من كثر كذبه ذهب بهاؤه» (4).
و قال رسول اللّه(ص)في حجة الوداع:«قد كثرت عليّ الكذّابة و ستكثر، فمن كذب عليّ متعمدا،فليتبوأ مقعده من النار،فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه علي كتاب اللّه و سنتي،فما وافق كتاب اللّه فخذوا به،و ما خالف كتاب اللّه و سنتي فلا تأخذوا به» (5).
و إنما حرمت الشريعة الإسلامية(الكذب)و أنذرت عليه بالهوان و العقاب،لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة،و مساويء جمّة،فهو:
(1)-باعث علي سوء السمعة،و سقوط الكرامة،و انعدام الوثاقة،فلا يصدّق الكذاب و إن نطق بالصدق،و لا تقبل شهادته،و لا يوثق بمواعيده و عهوده.
و من خصائصه أنّه ينسي أكاذيبه و يختلق ما يخالفها،و ربما لفق الأكاذيب العديدة المتناقضة،دعما لكذبة افتراها،فتغدو أحاديثه هذرا مقيتا،و لغوا فاضحا.
********
(1) الكافي.
(2) الكافي.
(3) الخصال للصدوق.
(4) الكافي.
(5) احتجاج الطبرسي.
ص: 21
(2)-إنه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض،و يشيع فيهم أحاسيس التوجس و التناكر.
(3)-إنه باعث علي تضييع الوقت و الجهد الثمينين،لتمييز الواقع من المزيف،و الصدق من الكذب.
(4)-و له فوق ذلك آثار روحية سيئة،و مغبة خطيرة،نوهت عنها النصوص السالفة.
الكذب انحراف خلقي له أسبابه و دواعيه،أهمها:
(1)-العادة:قد يعتاد المرء علي ممارسة الكذب بدافع الجهل،أو التأثر بالمحيط المتخلف،أو لضعف الوازع الديني،فيشبّ علي هذه العادة السيئة، و تمتد جذورها في نفسه،لذلك قال بعض الحكماء:«من استحلي رضاع الكذب عسر فطامه».
(2)-الطمع:و هو من أقوي الدوافع علي الكذب و التزوير،تحقيقا لأطماع الكذّاب،و إشباعا لنهمه.
(3)-العداء و الحسد:فطالما سوّلا لأربابهما تلفيق التهم،و تزويق الافتراءات و الأكاذيب،علي من يعادونه أو يحسدونه.و قد عاني الصلحاء و النبلاء الذين يترفعون عن الخوض في الباطل،و مقابلة الإساءة بمثلها-كثيرا من مآسي التهم و الافتراءات و الأراجيف.
للكذب صور شوهاء،تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها و آثارها السيئة،و هي:
الأولي-اليمين الكاذبة
و هي من أبشع صور الكذب،و أشدّها خطرا و إثما،فإنّها جناية مزدوجة:
ص: 22
جرأة صارخة علي المولي عز و جل بالحلف به كذبا و بهتانا،و جريمة نكراء تمحق الحقوق و تهدر الكرامات.
من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمها و التحذير منها:
قال رسول اللّه(ص):«إيّاكم و اليمين الفاجرة،فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع» (1).
و قال الصادق(ع):«اليمين الصبر الكاذبة،تورث العقب الفقر» (2).
الثانية-شهادة الزور
و هي كسابقتها جريمة خطيرة،و ظلم سافر هدّام،تبعث علي غمط الحقوق،و استلاب الأموال،و إشاعة الفوضي في المجتمع،بمساندة المجرمين علي جرائم التدليس و الابتزاز.
أنظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الأليم:
قال رسول اللّه(ص):«لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتي يتبوأ مقعده من النار،و كذلك من كتم الشهادة» (3).
و نهي القرآن الكريم عنها فقال تعالي: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ .(الحج:30)
و إنما حرمت الشريعة الإسلامية اليمين الكاذبة،و شهادة الزور،و توعدت عليهما بصنوف الوعيد و الإرهاب،لآثارهما السيئة،و أضرارهما الماحقة،في دين الإنسان و دنياه،من ذلك:
(1)-أن مقترف اليمين الكاذبة،و شهادة الزور،يسييء إلي نفسه إساءة كبري بتعريضها إلي سخط اللّه تعالي،و عقوباته التي صورتها النصوص السالفة.
(2)-و يسييء كذلك إلي من سانده و مالأه،بالحلف كذبا،و الشهادة
********
(1) الكافي.
(2) الكافي.
(3) الكافي و من لا يحضره الفقيه.
ص: 23
زورا،حيث شجّعه علي بخس حقوق الناس،و ابتزاز أموالهم،و هدر كراماتهم.
(3)-و يسييء كذلك إلي من اختلق عليه اليمين و الشهادة المزورتين، بخذلانه و إضاعة حقوقه،و إسقاط معنوياته.
(4)-و يسييء إلي المجتمع عامة بإشاعة الفوضي و الفساد فيه،و تحطيم قيمه الدينية و الأخلاقية.
(5)-و يسييء إلي الشريعة الإسلامية بتحدّيها،و مخالفة دستورها المقدس،الذي يجب اتباعه و تطبيقه علي كل مسلم.
الثالثة-خلف الوعد
الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء،و يتحلي بها النبلاء،و قد نوّه اللّه عنها في كتابه الكريم فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (مريم:54).
ذلك أنّ إسماعيل عليه السّلام وعد رجلا،فمكث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا يبارحه،وفاء بوعده.
و إنّه لمن المؤسف أن يشيع خلف الوعد بين المسلمين اليوم،متجاهلين نتائجه السيئة في إضعاف الثقة المتبادلة بينهم،و إفساد العلاقات الاجتماعية، و الإضرار بالمصالح العامة.
قال الصادق(ع):«عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له،فمن أخلف فبخلف اللّه تعالي بدأ،و لمقته تعرض،و ذلك قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (1).
و قال(ع):«إنّ رسول اللّه(ص)وعد رجلا إلي صخرة فقال:أنا لك هاهنا حتي تأتي.قال:فاشتدت الشمس عليه،فقال أصحابه:يا رسول اللّه لو أنّك تحولت إلي الظل.فقال:قد وعدته إلي هاهنا:و إن لم يجيء كان منه إلي المحشر». (2)
********
(1) الكافي.
(2) علل الشرائع.
ص: 24
الرابعة-الكذب الساخر
فقد يستحلي البعض تلفيق الأكاذيب الساخرة،للتندر علي الناس، و السخرية بهم،و هو لهو عابث خطير،ينتج الأحقاد و الآثام.
قال الصادق(ع):«من روي علي مؤمن رواية،يريد بها شينه،و هدم مروّته ليسقط من أعين الناس،أخرجه اللّه تعالي من ولايته إلي ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان» (1).
فجدير بالعاقل أن يعالج نفسه من هذا المرض الأخلاقي الخطير،و الخلق الذميم،مستهديا بالنصائح التالية:
(1)-أن يتدبر ما أسلفناه من مساويء الكذب،و سوء آثاره المادية و الأدبية علي الإنسان.
(2)-أن يستعرض فضائل الصدق و مآثره الجليلة،التي نوّهنا عنها في بحث الصدق.
(3)-أن يرتاض علي التزام الصدق،و مجانبة الكذب،و الدأب المتواصل علي ممارسة هذه الرياضة النفسية،حتي يبرأ من هذا الخلق الماحق الذميم.
لا شك أنّ الكذب رذيلة مقيتة حرمها الشرع،لمساوئها الجمة،بيد أنّ هناك ظروف طارئة تبيح الكذب و تسوغه،و ذلك فيما إذا توقفت عليه مصلحة هامة،لا تتحقق إلا به،فقد أجازته الشريعة الإسلامية حينذاك،كإنقاذ المسلم،و تخليصه من القتل أو الأسر،أو صيانة عرضه و كرامته،أو حفظ ماله المحترم،فإنّ الكذب و الحالة هذه واجب إسلامي محتم.
و هكذا إذا كان الكذب وسيلة لتحقيق غاية راجحة،و هدف إصلاحي،
********
(1) الكافي.
ص: 25
فإنه آنذاك راجح أو مباح،كالإصلاح بين الناس،أو استرضاء الزوجة و استمالتها أو مخادعة الأعداء في الحروب.
و قد صرحت النصوص بتسويغ الكذب للأغراض السالفة.
قال الصادق(ع):«كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلا في ثلاثة:
رجل كايد في حربه فهو موضوع عنه،أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي هذا يريد بذلك الإصلاح فيما بينهما،أو رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتم لهم» (1).
و هما:ضبط النفس إزاء مثيرات الغضب.و هما من أشرف السجايا،و أعز الخصال،و دليلا سمو النفس،و كرم الأخلاق،و سببا المودة و الإعزاز.
و قد مدح اللّه الحلماء و الكاظمين الغيظ،و أثني عليهم في محكم كتابه الكريم.
فقال تعالي: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (الفرقان:63).
و قال تعالي: وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ،اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت:34-35).
و قال تعالي: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران:134).
و علي هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيت عليهم السّلام:
قال الباقر(ع):«إنّ اللّه عز و جل يحب الحييّ الحليم» (2).
و سمع أمير المؤمنين(ع)رجلا يشتم قنبرا،و قد رام قنبر أن يردّ عليه،
********
(1) الكافي.
(2) الكافي.
ص: 26
فناداه أمير المؤمنين(ع):مهلا يا قنبر،دع شاتمك،مهانا،ترضي الرحمن، و تسخط الشيطان،و تعاقب عدوك،فوالذي فلق الحبة و برأ النسمة،ما أرضي المؤمن ربه بمثل الحلم،و لا أسخط الشيطان بمثل الصمت،و لا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه» (1).
و قال(ع):«أول عوض الحليم من حلمه،أن الناس أنصاره علي الجاهل». (2)
و قال الصادق(ع):«إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان،فيقولان للسفيه منهما:قلت و قلت،و أنت أهل لما قلت،ستجزي بما قلت.و يقولان للحليم منهما:صبرت و حلمت،سيغفر اللّه لك،إن أتممت ذلك.قال:فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان» (3).
و قال الصادق(ع):«ما من عبد كظم غيظا،إلا زاده اللّه عز و جل عزّا في الدنيا و الآخرة،و قد قال اللّه عز و جل: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ،وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ،وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و أثابه مكان غيظة ذلك» (4).
و قال الإمام موسي بن جعفر(ع):«إصبر علي أعداء النعم،فإنك لن تكافيء من عصي اللّه فيك،بأفضل من أن تطيع اللّه فيه» (5).
و أحضر عليه السّلام ولده يوما فقال لهم:«يا بنيّ إني موصيكم بوصية، فمن حفظها لم يضع معها،إن أتاكم آت فأسمعكم في الأذن اليمني مكروها، ثم تحوّل إلي الأذن اليسري فاعتذر و قال:لم أقل شيئا فاقبلوا عذره» (6).
و قد يحسب السفهاء أن الحلم من دلائل الضعف،و دواعي الهوان،و لكنّ العقلاء يرونه من سمات النبل،و سمو الخلق،و دواعي العزة و الكرامة.
فكلما عظم الإنسان قدرا،كرمت أخلاقه،و سمت نفسه،عن مجاراة
********
(1) مجالس الشيخ المفيد.
(2) نهج البلاغة.
(3) الكافي.
(4) الكافي.
(5) الكافي.
(6) كشف الغمة للأربلي.
ص: 27
السفهاء في جهالتهم و طيشهم،معتصما بالحلم و كرم الإغضاء،و حسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار و الثناء.
كما قيل:
و ذي سفه يخاطبني بجهل فآنف أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة و أزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
و يقال:إنّ رجلا شتم أحد الحكماء،فأمسك عنه،فقيل له في ذلك قال:
«لا أدخل حربا الغالب فيها أشرّ من المغلوب».
و من أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحلم،ما رواه الإمام الرضا(ع)، حين قال له المأمون:أنشدني أحسن ما رويت في الحلم،فقال(ع):
إذا كان دوني من بليت بجهله أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل
و إن كان مثلي في محلي من النهي أخذت بحلمي كي أجلّ عن المثل
و إن كنت أدني منه في الفضل و الحجي عرفت له حق التقدم و الفضل
فقال له المأمون.ما أحسن هذا،هذا من قاله؟فقال:بعض فتياننا (1).
و لقد كان الرسول الأعظم(ص)و الأئمة الطاهرون من أهل بيته،المثل الأعلي في الحلم،و جميل الصفح،و حسن التجاوز.
و قد زخرت أسفار السير و المناقب،بالفيض الغمر منها،و إليك نموذجا من ذلك:
قال الباقر(ع):«إن رسول اللّه(ص)أتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي،فقال لها:ما حملك علي ما صنعت؟فقالت:قلت إن كان نبيا لم يضره، و إن كان ملكا أرحت الناس منه،فعفي رسول اللّه عنها» (2).
و عفي(ص)عن جماعة كثيرة،بعد أن أباح دمهم،و أمر بقتلهم.
منهم:هبّار بن الأسود بن المطلب،و هو الذي روّع زينب بنت رسول اللّه،فألقت ذا بطنها،فأباح رسول اللّه دمه لذلك،فروي أنّه اعتذر إلي النبي
********
(1) معاني الأخبار،و عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.
(2) الكافي.
ص: 28
(ص)من سوء فعله،و قال:و كنا يا نبي اللّه أهل شرك،فهدانا اللّه بك، و أنقذنا بك من الهلكة،فاصفح عن جهلي،و عما كان يبلغك عني،فإني مقرّ بسوء فعلي،معترف بذنبي.فقال(ص):قد عفوت عنك،و قد أحسن اللّه إليك،حيث هداك إلي الإسلام.و الإسلام يجب ما قبله.
و منهم:عبد اللّه بن الزبعري،و كان يهجو النبي(ص)بمكة،و يعظم القول فيه،فهرب يوم الفتح،ثم رجع إلي رسول اللّه و اعتذر،فقبل(ص) عذره.
و منهم:وحشي قاتل حمزة سلام اللّه عليه،روي أنّه لما أسلم،قال له النبي:أ وحشي؟قال:نعم.قال:أخبرني كيف قتلت عمي؟فأخبره،فبكي (ص)و قال:غيّب وجهك عني (1).
و هكذا كان أمير المؤمنين علي(ع)أحلم الناس و أصفحهم عن المسييء:
ظفر بعبد اللّه بن الزبير،و مروان بن الحكم،و سعيد بن العاص،و هم ألدّ أعدائه،و المؤلبين عليه،فعفا عنهم،و لم يتعقبهم بسوء.
و ظفر بعمرو بن العاص،و هو أخطر عليه من جيش ذي عدّة،فأعرض عنه،و تركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءا لضربته.
و حال جند معاوية بينه و بين الماء في معركة صفين،و هم يقولون له و لا قطرة حتي تموت عطشا،فلمّا حمل عليهم،و أجلاهم عنه،سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.
و زار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل،و ودعها أكرم وداع،و سار في ركابها أميالا،و أرسل معها من يخدمها و يحفّ بها (2).
و كان الحسن بن علي(ع)علي سرّ أبيه وجده صلوات اللّه عليهم أجمعين:
فمن حلمه ما رواه المبرد،و ابن عائشة:أن شاميا رآه راكبا،فجعل
********
(1) سفينة البحار ج 1.
(2) عبقرية الإمام للعقاد بتصرف.
ص: 29
يلعنه،و الحسن لا يرد،فلما فرغ،أقبل الحسن عليه السّلام فسلم عليه، و ضحك،فقال:أيها الشيخ أظنك غريبا،و لعلك شبّهت،فلو استعتبتنا أعتبناك،و لو سألتنا أعطيناك،و لو استرشدتنا أرشدناك،و لو استحملتنا أحملناك،و إن كنت جائعا أشبعناك،و إن كنت عريانا كسوناك،و إن كنت محتاجا أغنيناك،و إن كنت طريدا آويناك،و إن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا،و كنت ضيفنا إلي وقت ارتحالك،كان أعود عليك،لأنّ لنا موضعا رحبا،و جاها عريضا،و مالا كثيرا.فلما سمع الرجل كلامه بكي،ثم قال:أشهد أنك خليفة اللّه في أرضه،اللّه أعلم حيث يجعل رسالته،و كنت أنت و أبوك أبغض خلق اللّه إليّ،و الآن أنت أحبّ خلق اللّه إليّ،و حوّل رحله إليه، و كان ضيفه إلي أن ارتحل و صار معتقدا لمحبتهم (1).
و هكذا كان الحسين بن علي عليهما السّلام:جني غلام للحسين عليه السّلام جناية توجب العقاب عليه،فأمر به أن يضرب،فقال:يا مولاي و الكاظمين الغيظ.قال:خلّوا عنه.قال:يا مولاي و العافين عن الناس.قال:
قد عفوت عنك.قال:و اللّه يحب المحسنين.قال:أنت حرّ لوجه اللّه،و لك ضعف ما كنت أعطيك (2).
و إني استقرأت سيرة أهل البيت عليهم السّلام فوجدتها نمطا فريدا،و مثلا عاليا،في دنيا السير و الأخلاق:
من ذلك ما قصّه الرواة من حلم الإمام زين العابدين(ع)،فقد كان عنده أضياف،فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور،فأقبل به الخادم مسرعا،فسقط السفود منه علي رأس ابن لعلي بن الحسين(ع)تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله،فقال علي للغلام و قد تحير الغلام و اضطرب:أنت حرّ، فإنك لم تتعمده،و أخذ في جهاز ابنه و دفنه (3).
و لقّب الإمام موسي بن جعفر عليه السّلام(بالكاظم)لوفرة حلمه،
********
(1) البحار مجلد 9 ص 95.
(2) كشف الغمة للأربلي.
(3) كشف الغمة للأربلي.
ص: 30
و تجرعه الغيظ،في مرضاة اللّه تعالي.
يحدث الراوي عن ذلك،فيقول:كان في المدينة رجل من أولاد بعض الصحابة يؤذي أبا الحسن موسي عليه السّلام و يسبّه إذا رآه،و يشتم عليا،فقال له بعض حاشيته يوما:دعنا نقتل هذا الفاجر.فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، و زجرهم،و سأل عنه فذكر أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة،فركب إليه فوجده في مزرعة له،فدخل المزرعة بحماره،فصاح به لا توطيء زرعنا،فتوطأه (ع)بالحمار حتي وصل إليه،و نزل و جلس عنده،و باسطه و ضاحكه،و قال له:
كم غرمت علي زرعك هذا؟قال:مائة دينار.قال:فكم ترجو أن تصيب؟ قال:لست أعلم الغيب.قال له:إنّما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه.قال:
أرجو أن يجييء مائتا دينار.قال:فأخرج له أبو الحسن صرّة فيها ثلاثمائة دينار و قال:هذا زرعك علي حاله،و اللّه يرزقك فيه ما ترجو.قال:فقام الرجل فقبّل رأسه،و سأله أن يصفح عن فارطه،فتبسم إليه أبو الحسن و انصرف.
قال:و راح إلي المسجد،فوجد الرجل جالسا،فلما نظر إليه،قال:اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.قال:فوثب أصحابه إليه فقالوا:ما قضيتك؟!قد كنت تقول غير هذا.قال:فقال لهم:قد سمعتم ما قلت الآن،و جعل يدعو لأبي الحسن عليه السّلام،فخاصموه و خاصمهم،فلما رجع أبو الحسن إلي داره،قال لجلسائه الذين سألوه في قتله:أيما كان خيرا ما أردتم أم ما أردت،إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم و كفيت شره (1).
و قد أحسن الفرزدق حيث يقول في مدحهم:
من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجي و معتصم
إن عدّ أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
و هو:حالة نفسية،تبعث علي هياج الإنسان،و ثورته قولا أو عملا.و هو مفتاح الشرور،و رأس الآثام،و داعية الأزمات و الأخطار.و قد تكاثرت الآثار في
********
(1) البحار مجلد 11 نقلا عن إعلام الوري للطبرسي و ارشاد المفيد.
ص: 31
ذمه و التحذير منه:
قال الصادق(ع):«الغضب مفتاح كل شر» (1).
و إنما صار الغضب مفتاحا للشرور،لما ينجم عنه من أخطار و آثام، كالاستهزاء،و التعيير،و الفحش،و الضرب،و القتل،و نحو ذلك من المساويء.
و قال الباقر(ع):«إنّ الرجل ليغضب فما يرضي أبدا حتي يدخل النار» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«و احذر الغضب،فإنه جند عظيم من جنود ابليس» (3).
و قال(ع):«الحدّة ضرب من الجنون،لأنّ صاحبها يندم،فإن لم يندم فجنونه مستحكم» (4).
و قال الصادق(ع):«سمعت أبي يقول:أتي رسول اللّه(ص)رجل بدويّ،فقال:إني أسكن البادية،فعلمني جوامع الكلام.فقال:آمرك أن لا تغضب.فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات،حتي رجع إلي نفسه،فقال:
لا أسأل عن شيء بعد هذا،ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير...» (5).
لا يحدث الغضب عفوا و اعتباطا،و إنما ينشأ عن أسباب و بواعث تجعل الإنسان مرهف الإحساس،سريع التأثر.
و لو تأملنا تلك البواعث،وجدناها مجملة علي الوجه التالي:
(1)-قد يكون منشأ الغضب إنحرافا صحيا،كاعتلال الصحة العامة، أو ضعف الجهاز العصبي،مما يسبب سرعة التهيج.
(2)-و قد يكون المنشأ نفسيا،منبعثا عن الإجهاد العقلي،أو المغالاة في
********
(1) الكافي.
(2) الكافي.
(3) نهج البلاغة.
(4) نهج البلاغة.
(5) الكافي.
ص: 32
الأنانية،أو الشعور بالإهانة،و الاستنقاص،و نحوها من الحالات النفسية،التي سرعان ما تستفز الإنسان،و تستثير غضبه.
(3)-و قد يكون المنشأ أخلاقيا،كتعود الشراسة،و سرعة التهيج،مما يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه.
للغضب أضرار جسيمة،و غوائل فادحة،تضرّ بالإنسان فردا و مجتمعا، جسميا و نفسيا،ماديا و أدبيا.فكم غضبة جرحت العواطف،و شحنت النفوس بالاضغان،و فصمت عري التحابب و التآلف بين الناس.و كم غضبة زجت أناسا في السجون،و عرضتهم للمهالك،و كم غضبة أثارت الحروب،و سفكت الدماء،فراح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.
كل ذلك سوي ما ينجم عنه من المآسي و الأزمات النفسية،التي قد تؤدي إلي موت الفجأة.
و الغضب بعد هذا يحيل الإنسان بركانا ثائرا،يتفجر غيظا و شرا،فإذا هو إنسان في واقع وحش،و وحش في صورة إنسان.
فإذا بلسانه ينطلق بالفحش و البذاء،و هتك الأعراض،و إذا بيديه تنبعثان بالضرب و التنكيل،و ربما أفضي إلي القتل،هذا مع سطوة الغاضب و سيطرته علي خصمه،و إلا انعكست غوائل الغضب علي صاحبه،فينبعث في تمزيق ثوبه،و لطم رأسه،و ربّما تعاطي أعمالا جنونية،كسبّ البهائم و ضرب الجمادات.
الغضب غريزة هامة،تلهب في الإنسان روح الحمية و الإباء،و تبعثه علي التضحية و الفداء،في سبيل أهدافه الرفيعة،و مثله العليا،كالذود عن العقيدة، و صيانة الأرواح،و الأموال،و الكرامات.و متي تجرد الإنسان من هذه الغريزة صار عرضة للهوان و الاستعباد،كما قيل:«من استغضب فلم يغضب فهو حمار».
ص: 33
فيستنتج من ذلك:أنّ الغضب المذموم ما أفرط فيه الإنسان،و خرج به عن الاعتدال،متحديا ضوابط العقل و الشرع.أما المعتدل فهو كما عرفت،من الفضائل المشرّفة،التي تعزز الإنسان،و ترفع معنوياته،كالغضب علي المنكرات،و التنمّر في ذات اللّه تعالي.
عرفنا من مطاوي هذا البحث،طرفا من بواعث الغضب و مساوئه و آثامه،و الآن أودّ أن أعرض و صفة علاجية لهذا الخلق الخطير،و هي مؤلفة من عناصر الحكمة النفسية،و التوجيه الخلقي،عسي أن يجد فيها صرعي الغضب ما يساعدهم علي مكافحته و علاجه.
و إليك العناصر الآتية:
(1)-إذا كان منشأ الغضب اعتلالا صحيا،أو هبوطا عصبيا كالمرضي و الشيوخ و نحاف البنية،فعلاجهم-و الحالة هذه-بالوسائل الطبية،و تقوية صحتهم العامة،و توفير دواعي الراحة النفسية و الجسمية لهم،كتنظيم الغذاء، و التزام النظافة،و ممارسة الرياضة الملائمة،و استنشاق الهواء الطلق،و تعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد علي الفراش.
كل ذلك مع الابتعاد و الاجتناب عن مرهقات النفس و الجسم،كالاجهاد الفكري،و السهر المضني،و الاستسلام للكئابة،و نحو ذلك من دواعي التهيج.
(2)-لا يحدث الغضب عفوا،و إنّما ينشأ عن أسباب تستثيره،أهمها:
المغالاة في الأنانية.الجدل و المراء،الاستهزاء و التعيير،المزاح الجارح.و علاجه في هذه الصور باجتناب أسبابه،و الابتعاد عن مثيراته جهد المستطاع.
(3)-تذكّر مساويء الغضب و أخطاره و آثامه،و أنها تحيق بالغاضب، و تضرّ به أكثر من المغضوب عليه،فرب أمر تافه أثار غضبة عارمة،أودت بصحة الإنسان و سعادته.
يقول بعض باحثي علم النفس:دع محاولة الاقتصاص من أعدائك، فإنك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر مما تؤذيهم...إننا حين نمقت أعداءنا
ص: 34
نتيح لهم فرصة الغلبة علينا،و إنّ أعداءنا ليرقصون طربا لو علموا كم يسببوا لنا من القلق و كم يقتصّوا منّا،إنّ مقتنا لا يؤذيهم،و إنّما يؤذينا نحن،و يحيل أيامنا و ليالينا إلي جحيم (1).
و هكذا يجدر تذكر فضائل الحلم،و آثاره الجليلة،و أنّه باعث علي إعجاب الناس و ثنائهم،و كسب عواطفهم.
و خير محفّز علي الحلم قول اللّه عز و جل: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت:34-35).
(4)-إنّ سطوة الغضب و دوافعه الإجرامية،تعرّض الغاضب لسخط اللّه تعالي و عقابه،و ربما عرّضته لسطوة من أغضبه و اقتصاصه منه في نفسه أو ماله أو عزيز عليه،قال الصادق(ع):«أوحي اللّه تعالي إلي بعض أنبيائه:إبن آدم أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي،لا أمحقك فيمن أمحق،و أرض بي منتصرا، فإنّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك» (2).
(5)-من الخير للغاضب إرجاء نزوات الغضب و بوادره،ريثما تخفّ سورته،و التروّي في أقواله و أفعاله عند احتدام الغضب،فذلك مما يخفف حدّة التوتر و التهيج،و يعيده إلي الرشد و الصواب،و لا ينال ذلك إلا بضبط النفس، و السيطرة علي الأعصاب.
قال أمير المؤمنين(ع):«إن لم تكن حليما فتحلّم،فإنّه قلّ من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم» (3).
(6)-و من علاج الغضب:الإستعاذة من الشيطان الرجيم،و جلوس الغاضب إذا كان قائما،و اضطجاعه إن كان جالسا،و الوضوء أو الغسل بالماء البارد،و مس يد الرحم إن كان مغضوبا عليه،فإنه من مهدئات الغضب.
********
(1) دع القلق و ابدأ الحياة.
(2) الكافي.
(3) نهج البلاغة.
ص: 35
و هو:احترام الناس حسب أقدارهم،و عدم الترفع عليهم.
و هو خلق كريم،و خلّة جذابة،تستهوي القلوب،و تستثير الإعجاب و التقدير،و ناهيك في فضله أن اللّه تعالي أمر حبيبه،و سيد رسله(ص) بالتواضع،فقال تعالي: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:215).
و قد أشاد أهل البيت عليهم السّلام بشرف هذا الخلق،و شوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة،و سيرتهم المثالية،و كانوا روّاد الفضائل،و منار الخلق الرفيع.
قال الصادق(ع):«إنّ في السماء ملكين موكلين بالعباد،فمن تواضع للّه رفعاه،و من تكبّر وضعاه» (1).
و قال النبي(ص):«إن أحبكم إليّ،و أقربكم مني يوم القيامة مجلسا، أحسنكم خلقا،و أشدكم تواضعا،و إن أبعدكم مني يوم القيامة،الثرثارون و هم المستكبرون» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء،طلبا لما عند اللّه،و أحسن منه تيه الفقراء علي الأغنياء إتكالا علي اللّه» (3).
و قال الصادق(ع):«من التواضع أن ترضي بالمجلس دون المجلس،و أن تسلّم علي من تلقي،و أن تترك المراء و إن كنت محقا.و لا تحب أن تحمد علي التقوي» (4).
و جدير بالذكر أن التواضع الممدوح،هو المتسم بالقصد و الاعتدال الذي لا إفراط فيه و لا تفريط،فالإسراف في التواضع داع إلي الخسّة و المهانة، و التفريط فيه باعث علي الكبر و الأنانية.
********
(1) الكافي.
(2) كتاب قرب الأسناد،و قريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق.
(3) نهج البلاغة.
(4) الكافي.
ص: 36
و علي العاقل أن يختار النهج الأوسط،المبرّأ من الخسّة و الأنانية،و ذلك:
بإعطاء كل فرد ما يستحقه من الحفاوة و التقدير،حسب منزلته و مؤهلاته.
لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين و المتعالين علي الناس بزهوهم و صلفهم،إن التواضع و الحالة هذه مدعاة للذل و الهوان،و تشجيع لهم علي الأنانية و الكبر،كما يقول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللئيم تمردا
و مما قيل في التواضع قول المعري:
يا والي المصر لا تظلمن فكم جاء مثلك ثم انصرف
تواضع إذا ما رزقت العلا فذلك مما يزيد الشرف
و في المثل:
تواضع الرجل في مرتبته،ذبّ للشماتة عند سقطته.
و قال الطغرائي:
ذريني علي أخلاقي الشوس إنني عليم بإبرام العزائم و النقض
أزيد إذا أيسرت فضل تواضع و يزهي إذا أعسرت بعضي علي بعضي
فذلك عند اليسر أكسب للثنا و هذاك عند العسر أصون للعرض
أري الغصن يعري و هو يسمو بنفسه و يوقر حملا حين يدنو من الأرض
و إليك طرفا من فضائل أهل البيت،و تواضعهم المثالي الفريد:
كان النبي(ص)أشدّ الناس تواضعا،و كان إذا دخل منزلا قعد في أدني المجلس حين يدخل،و كان في بيته في مهنة أهله،يحلب شاته،و يرقع ثوبه، و يخصف نعله،و يخدم نفسه،و يحمل بضاعته من السوق،و يجالس الفقراء، و يواكل المساكين.
و كان(ص)إذا سارّه أحد،لا ينحّي رأسه حتي يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه،و ما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتي يرسلها الآخر،و ما قعد إليه رجل قط فقام(ص)حتي يقوم،و كان يبدأ من لقيه بالسلام،و يباديء أصحابه بالمصافحة،و لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه،يكرم من يدخل عليه،و ربما
ص: 37
بسط له ثوبه،و يؤثره بالوسادة التي تحته،و يكنّي أصحابه و يدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم،و لا يقطع علي أحد حديثه،و كان يقسّم لحظاته بين أصحابه،و كان أكثر الناس تبسما،و أطيبهم نفسا (1).
و عن أبي ذر الغفاري:كان رسول اللّه(ص)يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتي يسأل،فطلبنا إليه أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه،فبنينا له دكانا من طين فكان يجلس عليها،و نجلس بجانبه.
و روي أنه(ص)كان في سفر،فأمر بإصلاح شاة،فقال رجل:يا رسول اللّه عليّ ذبحها،و قال آخر:علي سلخها،و قال آخر:عليّ طبخها،فقال(ص):
و عليّ جمع الحطب.فقالوا:يا رسول اللّه نحن نكفيك.فقال:قد علمت أنكم تكفوني،و لكن أكره أن أتميّز عليكم،فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه،و قام فجمع الحطب (2).
و روي أنه خرج رسول اللّه(ص)إلي بئر يغتسل،فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب علي رسول اللّه و ستره به حتي اغتسل،ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول اللّه(ص)الثوب،و قام يستر حذيفة،فأبي حذيفة،و قال:بأبي و أمي أنت يا رسول اللّه لا تفعل،فأبي رسول اللّه إلا أن يستره بالثوب حتي اغتسل،و قال:ما اصطحب اثنان قط،إلا و كان أحبهما إلي اللّه أرفقهما بصاحبه (3).
و هكذا كان أمير المؤمنين(ع)في سمو أخلاقه و تواضعه،قال ضرار و هو يصفه(ع):
«كان فينا كأحدنا،يدنينا إذا أتيناه،و يجيبنا إذا سألناه،و يأتينا إذا دعوناه، و ينبئنا إذا استنبأناه،و نحن و اللّه مع تقريبه إيّانا،و قربه منا،لا نكاد نكلمه هيبة له،فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم،يعظّم أهل الدين،و يقرّب المساكين،لا
********
(1) سفينة البحار المجلد الأول ص 415 بتصرف و تلخيص.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 415.
(3) سفينة البحار ج 1 ص 416:
ص: 38
يطمع القويّ في باطله،و لا ييأس الضعيف من عدله».
و قال الصادق(ع):«خرج أمير المؤمنين(ع)راكبا علي أصحابه،فمشوا خلفه،فالتفت إليهم فقال:لكم حاجة؟فقالوا:لا يا أمير المؤمنين،و لكنّا نحب أن نمشي معك.فقال لهم:انصرفوا،فإن مشي الماشي مع الراكب،مفسدة للراكب،و مذلّة للماشي» (1).
و هكذا يقص الرواة طرفا ممتعا رائعا من تواضع الأئمة الهداة عليهم السّلام،و كريم أخلاقهم.
فمن تواضع الحسين(ع):أنه مرّ بمساكين و هم يأكلون كسرا لهم علي كساء،فسلّم عليهم،فدعوه إلي طعامهم،فجلس معهم و قال:لو لا أنّه صدقة لأكلت معكم.ثم قال:قوموا إلي منزلي،فأطعمهم و كساهم و أمر لهم بدراهم (2).
و من تواضع الرضا(ع):
قال الراوي:كنت مع الرضا عليه السّلام في سفره إلي خراسان،فدعا يوما بمائدة،فجمع عليها مواليه من السودان و غيرهم،فقلت:جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة.فقال:مه،إنّ الرب تبارك و تعالي واحد،و الأم واحدة، و الأب واحد،و الجزاء بالأعمال (3).
و هو حالة تدعو إلي الإعجاب بالنفس،و التعاظم علي الغير،بالقول أو الفعل،و هو:من أخطر الأمراض الخلقية،و أشدها فتكا بالإنسان،و أدعاها إلي مقت الناس له و ازدرائهم به،و نفرتهم منه.
لذلك تواتر ذمه في الكتاب و السنة:
********
(1) محاسن البرقي.
(2) مناقب ابن شهرآشوب.
(3) الكافي.
ص: 39
قال تعالي: وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ،وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (لقمان:18).
و قال تعالي: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً،إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (الإسراء:37).
و قال تعالي: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (النحل:23).
و قال تعالي: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (الزمر:60).
و قال الصادق(ع):«إن في السماء ملكين موكلين بالعباد،فمن تواضع للّه رفعاه،و من تكبر وضعاه» (1).
و قال(ع):«ما من رجل تكبر أو تجبر،إلا لذلة وجدها في نفسه» (2).
و قال النبي(ص):«إن أحبّكم إليّ،و أقربكم مني،يوم القيامة مجلسا، أحسنكم خلقا،و أشدكم تواضعا،و إن أبعدكم مني يوم القيامة،الثرثارون، و هم المستكبرون» (3).
و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:«مرّ رسول اللّه(ص)علي جماعة فقال:علي ما اجتمعتم؟فقالوا:يا رسول اللّه هذا مجنون يصرع، فاجتمعنا عليه.فقال:ليس هذا بمجنون،و لكنه المبتلي.ثم قال:أ لا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟قالوا:بلي يا رسول اللّه،قال:«المتبختر في مشيه،الناظر في عطفيه،المحرّك جنبيه بمنكبيه،يتمني علي اللّه جنته،و هو يعصيه،الذي لا يؤمن شره،و لا يرجي خيره،فذلك المجنون و هذا المبتلي» (4).
و قال أمير المؤمنين(ع)في خطبة له:«فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس،إذ أحبط عمله الطويل،و جهده الجهيد؟و كان قد عبد اللّه ستة آلاف
********
(1) الوافي ج 3 ص 87 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 150 عن الكافي.
(3) البحار مج 15 ج 2 ص 209،عن قرب الإسناد،و قريب منه في علل الشرائع للصدوق (ره).
(4) البحار م(15)ج 3 ص 125 عن الخصال للصدوق.
ص: 40
سنة،لا يدري أمن سنيّ الدنيا،أم من سنّي الآخرة،عن كبر ساعة واحدة،فمن بعد إبليس يسلم علي اللّه بمثل معصيته،كلا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا،و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر،كما تستعيذون من طوارق الدهر،فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصة أنبيائه و رسله،و لكنه سبحانه كره إليهم التكابر،و رضي لهم التواضع» (1).
و عن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السّلام قال:«وقع بين سلمان الفارسي و بين رجل كلام و خصومة فقال له الرجل:من أنت يا سلمان؟فقال سلمان:أما أوليّ و أولك فنطفة قذرة،و أما آخري و آخرك فجيفة منتنة،فإذا كان يوم القيامة،و وضعت الموازين،فمن ثقل ميزانه فهو الكريم،و من خفّ ميزانه فهو اللئيم» (2).
و عن الصادق(ع)قال:«جاء رجل موسر إلي رسول اللّه(ص)نقيّ الثوب،فجلس إلي رسول اللّه،فجاء رجل معسر،درن الثوب،فجلس إلي جنب الموسر،فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه،فقال له رسول اللّه(ص):
أخفت أن يمسك من فقره شيء؟قال:لا.قال:فخفت أن يوسخ ثيابك؟قال:
لا.قال:فما حملك علي ما صنعت؟فقال:يا رسول اللّه إن لي قرينا يزيّن لي كل قبيح و يقبّح لي كل حسن،و قد جعلت له نصف مالي.فقال رسول اللّه (ص)للمعسر:أتقبل؟قال:لا.فقال له الرجل:لم؟قال:أخاف أن يدخلني ما دخلك».
من الواضح أنّ التكبر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة،الشائعة في الأوساط الاجتماعية،التي سرت عدواها،و طغت مضاعفاتها علي المجتمع، و غدا يعاني مساوئها الجمة.
فمن مساويء التكبر و آثاره السيئة في حياة الفرد:
********
(1) نهج البلاغة.
(2) البحار م 15 ج 3 ص 124 عن أمالي الصدوق.
ص: 41
أنه متي استبد بالإنسان،أحاط نفسه بهالة من الزهو و الخيلاء،و جنّ بحب الأنانية و الظهور،فلا يسعده إلا الملق المزيف،و الثناء الكاذب،فيتعامي آنذاك عن نقائصه و عيوبه،و لا يهتم بتهذيب نفسه،و تلافي نقائصه،ما يجعله هدفا لسهام النقد،و عرضة للمقت و الإزدراء.
هذا إلي أن المتكبر أشد الناس عتوّا و امتناعا عن الحق و العدل، و مقتضيات الشرائع و الأديان.
و من مساويء التكبر الاجتماعية:
أنه يشيع في المجتمع روح الحقد و البغضاء،و يعكّر صفو العلاقات الاجتماعية،فلا يسييء الناس و يستثير سخطهم و مقتهم،كما يستثيره المتكبر الذي يتعالي عليهم بصلفه و أنانيته.
إن الغطرسة داء يشقي الإنسان،و يجعله منبوذا يعاني مرارة العزلة و الوحشة،و يشقي كذلك المرتبطين به بصنوف الروابط و العلاقات.
الأخلاق البشرية كريمة كانت أو ذميمة،هي انعكاسات النفس علي صاحبها،و فيض نبعها،فهي تشرق و تظلم،و يحلو فيضها و يمرّ تبعا لطيبة النفس أو لؤمها،استقامتها أو انحرافها،و ما من خلق ذميم إلا و له سبب من أسباب لؤم النفس أو انحرافها.
فمن أسباب التكبر:مغالاة الإنسان في تقييم نفسه،و تثمين مزاياها و فضائلها،و الإفراط في الإعجاب و الزهو بها،فلا يتكبر المتكبر إلا إذا آنس من نفسه علما وافرا،أو منصبا رفيعا،أو ثراءا ضخما،أو جاها عريضا،و نحو ذلك من مثيرات الأنانية و التكبر.
و قد ينشأ التكبر من بواعث العداء أو الحسد أو المباهاة،مما يدفع المتصفين بهذه الخلال علي تحدي الأماثل و النبلاء،و بخس كراماتهم،و التطاول عليهم، بصنوف الإزدراءات الفعلية أو القولية،كما يتجلي ذلك في تصرفات المتنافسين و المتحاسدين في المحافل و الندوات.
ص: 42
و هكذا تتفاوت درجات التكبر و أبعاده بتفاوت أعراضه شدّة و ضعفا.
فالدرجة الأولي:و هي التي كمن التكبر في صاحبها،فعالجه بالتواضع، و لم تظهر عليه أعراضه و مساوئه.
و الدرجة الثانية:و هي التي نما التكبر فيها،و تجلت أعراضه بالاستعلاء علي الناس،و التقدم عليهم في المحافل،و التبختر في المشي.
و الدرجة الثالثة:و هي التي طغي التكبر فيها،و تفاقمت مضاعفاته فجن صاحبها بجنون العظمة،و الإفراط في حب الجاه و الظهور،فطفق يلهج في محاسنه و فضائله،و استنقاص غيره و استصغاره.و هذه أسوأ درجات التكبر، و أشدها صلفا و عتوّا:
و ينقسم التكبر باعتبار مصاديقه إلي ثلاثة أنواع:
(1)-التكبر علي اللّه عز و جل:
و ذلك بالامتناع عن الإيمان به،و الاستكبار عن طاعته و عبادته.و هو أفحش أنواع الكفر،و أبشع أنواع التكبر،كما كان عليه فرعون و نمرود و أضرابهما من طغاة الكفر و جبابرة الإلحاد.
(2)-التكبر علي الأنبياء:
و ذلك بالترفع عن تصديقهم و الإذعان لهم،و هو دون الأول و قريب منه.
(3)-التكبر علي الناس:
و ذلك بازدرائهم و التعالي عليهم بالأقوال و الأفعال،و من هذا النوع التكبر علي العلماء المخلصين،و الترفع عن مسائلتهم و الانتفاع بعلومهم و إرشادهم،مما يفضي بالمستكبرين إلي الخسران و الجهل بحقائق الدين،و أحكام الشريعة الغراء.
ص: 43
و حيث كان التكبر هوسا أخلاقيا خطيرا ماحقا،فجدير بكل عاقل أن يأخذ حذره منه،و أن يجتهد-إذا ما داخلته أعراضه-في علاج نفسه،و تطهيرها من مثالبه،و إليك مجملا من النصائح العلاجية:
(1)-أن يعرف المتكبر واقعه و ما يتصف به من ألوان الضعف و العجز:
فأوله نطفة قذرة،و آخره جيفة منتنة،و هو بينهما عاجز واهن،يرهقه الجوع و الظمأ،و يعتوره السقم و المرض،و ينتابه الفقر و الضر،و يدركه الموت و البلي،لا يقوي علي جلب المنافع و ردّ المكاره،فحقيق بمن اتصف بهذا الوهن،أن ينبذ الأنانية و التكبر،مستهديا بالآية الكريمة تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص:83).
فأفضل الناس أحسنهم أخلاقا،و أكثرهم نفعا،و أشدّهم تقوي و صلاحا.
(2)-أن يتذكر مآثر التواضع و محاسنه،و مساويء التكبر و آثامه،و ما ترادف في مدح الأول و ذم الثاني من دلائل العقل و النقل،قال بزرجمهر:«وجدنا التواضع مع الجهل و البخل،أحمد عند العقلاء من الكبر مع الأدب و السخاء، فأنبل بحسنة غطّت علي سيئتين،و أقبح بسيئة غطّت علي حسنتين» (1).
(3)-أن يروض نفسه علي التواضع،و التخلق بأخلاق المتواضعين، لتخفيف حدة التكبر في نفسه،و إليك أمثلة في ذلك:
أ-جدير بالعاقل عند احتدام الجدل و النقاش في المساجلات العلمية أن يذعن لمناظره بالحق إذا ما ظهر عليه بحجته،متفاديا نوازع المكابرة و العناد.
ب-أن يتفادي منافسة الأقران في السبق إلي دخول المحافل،و التصدر في المجالس.
ج-أن يخالط الفقراء و البؤساء،و يبدأهم بالسلام،و يؤاكلهم علي المائدة،و يجيب دعوتهم،متأسيا بأهل البيت عليهم أفضل الصلاة و السّلام.
********
(1) محاضرات الأدباء للراغب.
ص: 44
و هي:من الاكتفاء من المال بقدر الحاجة و الكفاف،و عدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك.
و هي:صفة كريمة،تعرب عن عزة النفس،و شرف الوجدان،و كرم الأخلاق.
و إليك بعض ما أثر عن فضائلها من النصوص:
قال الباقر(ع):«من قنع بما رزقه اللّه فهو من أغني الناس» (1).
إنما صار القانع من أغني الناس،لأن حقيقة الغني هي:عدم الحاجة إلي الناس،و القانع راض و مكتف بما رزقه اللّه،لا يحتاج و لا يسأل سوي اللّه.
قيل:لما مات جالينوس وجد في حيبه رقعة مكتوب فيها:«ما أكلته مقتصدا فلجسمك،و ما تصدقت به فلروحك،و ما خلفته فلغيرك،و المحسن حيّ و إن نقل إلي دار البلي،و المسييء ميت و إن بقي في دار الدنيا،و القناعة تستر الخلّة،و التدبير يكثّر القليل،و ليس لابن آدم أنفع من التوكل علي اللّه سبحانه» (2).
و شكي رجل إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه يطلب فيصيب،و لا يقنع، و تنازعه نفسه إلي ما هو أكثر منه،و قال:علمني شيئا أنتفع به.فقال أبو عبد اللّه (ع):«إن كان ما يكفيك يغنيك،فأدني ما فيها يغنيك و إن كان ما يكفيك لا يغنيك،فكل ما فيها لا يغنيك» (3).
و قال الباقر(ع):«إيّاك أن يطمح بصرك إلي من هو فوقك فكفي بما قال اللّه تعالي لنبيه(ص) وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ و قال: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلي ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، فإن دخلك من ذلك شيء،فاذكر عيش رسول اللّه(ص)،فإنما كان قوته الشعير،و حلواه التمر، و وقوده السعف إذا وجده» (4).
********
(1) الوافي ج 3 ص 79 عن الكافي.
(2) كشكول البهائي،طبع ايران ص 371.
(3) الوافي ج 3 ص 79 عن الكافي.
(4) الوافي الجزء 3 ص 78 عن الكافي.
ص: 45
للقناعة أهمية كبري،و أثر بالغ في حياة الإنسان،و تحقيق رخائه النفسي و الجسمي،فهي تحرره من عبودية المادة،و استرقاق الحرص و الطمع،و عنائهما المرهق،و هوانهما المذل،و تنفخ فيه روح العزة،و الكرامة،و الإباء،و العفة، و الترفع عن الدنايا،و استدرار عطف اللئام.
و القانع بالكفاف أسعد حياة،و أرخي بالا،و أكثر دعة و استقرارا،من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه و حرصه،و الذي لا ينفك عن القلق و المتاعب و الهموم.
و القناعة بعد هذا تمدّ صاحبها بيقظة روحية،و بصيرة نافذة،و تحفزّه علي التأهب للآخرة،بالأعمال الصالحة،و توفير بواعث السعادة فيها.
و من طريف ما أثر في القناعة:
أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقاسي الضر بين أخصاص البصرة، و أصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي.
ذكروا أن سليمان بن علي العباسي،وجه إليه من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلي رسول سليمان خبزا يابسا،و قال:كل فما عندي غيره،و ما دمت أجده فلا حاجة لي إلي سليمان.فقال الرسول:فما أبلغه؟فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة و في غني غير أني لست ذا مال
و الفقر في النفس لا في المال فاعرفه و مثل ذاك الغني في النفس لا المال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه و لا يزيدك فيه حول محتال (1)
و في كشكول البهائي«أنه ارسل عثمان بن عفان مع عبد له كيسا من الدراهم إلي أبي ذر و قال له:إن قبل هذا فأنت حرّ،فأتي الغلام بالكيس إلي أبي ذر،و ألح عليه في قبوله،فلم يقبل،فقال له:أقبله فإنّ فيه عتقي.فقال:نعم و لكن فيه رقي» (2).
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 426 بتصرف.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 483.
ص: 46
«و كان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان،و كان متقشفا، زاهدا،لا يقتني شيئا،و لا يأوي إلي منزل،دعاه الإسكندر إلي مجلسه.فقال للرسول قل له:ان الذي منعك من المسير إلينا،هو الذي منعنا من المسير إليك،منعك استغناؤك عنّا بسلطانك،و منعني استغنائي عنك بقناعتي» (1).
و كتب المنصور العباسي إلي أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام:لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟فأجابه:ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه،و لا عندك من الآخرة ما نرجوك له،و لا أنت في نعمة فنهنيك بها،و لا في نقمة فنعزيك بها.
فكتب المنصور:تصحبنا لتنصحنا.فقال أبو عبد اللّه(ع):«من يطلب الدنيا لا ينصحك،و من يطلب الآخرة لا يصحبك» (2).
و ما أحلي قول أبي فراس الحمداني في القناعة:
إنّ الغني هو الغني بنفسه و لو أنّه عار المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا فإذا قنعت فكل شيء كاف
الحرص:هو الإفراط في حب المال،و الاستكثار منه،دون أن يكتفي بقدر محدود.و هو من الصفات الذميمة،و الخصال السيئة،الباعثة علي ألوان المساويء و الآثام،و حسب الحريص ذما أنه كلما ازداد حرصا ازداد غباءا و غما.
و إليك بعض ما ورد في ذمه:
قال الباقر(ع):«مثل الحريص علي الدنيا،مثل دوده القز كلما ازدادت من القز علي نفسها لفا،كان أبعد لها من الخروج،حتي تموت غما» (3).
لذلك قال الشاعر:
يفني البخيل بجمع المال مدته و للحوادث و الأيام ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهدمها و غيرها بالذي تبنيه ينتفع
********
(1) سفينة البحار ج 2 ص 451.
(2) كشكول البهائي.
(3) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
ص: 47
و قال الصادق(ع):«إن فيما نزل به الوحي من السماء:لو أن لابن آدم واديين،يسيلان ذهبا و فضة،لابتغي لهما ثالثا،يا بن آدم إنما بطنك بحر من البحور،و واد من الأودية،لا يملأه شيء إلا التراب» (1).
و قال(ع):«ما ذئبان ضاريان،في غنم قد فارقها رعاؤها أحدهما في أولها و الآخر في آخرها،بأفسد فيها من حب المال«الدنيا خ ل»و الشرف في دين المسلم» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع)في ضمن وصيته لولده الحسن عليه السّلام:
«و اعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك،و لن تعدو أجلك،و أنك في سبيل من كان قبلك،فخفض في الطلب،و أجمل في المكتسب،فإنه رب طلب،قد جر إلي حرب،فليس كل طالب بمرزوق،و لا كل مجمل بمحروم» (3).
و قال الحسن بن علي عليهما السّلام:
«هلاك الناس في ثلاث:الكبر.و الحرص.و الحسد.
فالكبر هلاك الدين و به لعن ابليس...
و الحرص عدو النفس،و به أخرج آدم من الجنة.
و الحسد رائد السوء و منه قتل قابيل هابيل» (4).
و بديهي أنه متي استبد الحرص بالإنسان،استرقه،و سبب له العناء و الشقاء،فلا يهم الحريص،و لا يشبع جشعه إلا استكثار الأموال و اكتنازها، دون أن ينتهي إلي حد محدود،فكلما أدرك مأربا طمح إلي آخر،و هكذا يلج به الحرص،و تستعبده الأطماع،حتي يوافيه الموت فيغدو ضحية الغناء و الخسران.
و الحريص أشد الناس جهدا في المال،و أقلهم انتفاعا و استمتاعا به،
********
(1) الوافي ج 3 ص 154 عن من لا يحضره الفقيه للصدوق(ره).
(2) مرآه العقول في شرح الكافي للمجلسي(ره)ج 2 عن الكافي.ص 303.
(3) نهج البلاغة.
(4) كشف الغمة.
ص: 48
يشقي بكسبه و ادخاره،و سرعان ما يفارقه بالموت،فيهنأ به الوارث،من حيث شقي هو به،و حرم من لذته.
و الحرص بعد هذا و ذاك،كثيرا ما يزج بصاحبه في مزالق الشبهات و المحرمات و التورط في آثامها،و مشاكلها الأخروية،كما يعيق صاحبه عن أعمال الخير،و كسب المثوبات كصلة الأرحام و إعانة البؤساء و المعوزين،و في ذلك ضرر بالغ،و حرمان جسيم.
و بعد أن عرفنا مساويء الحرص يحسن بنا أن نعرض مجملا من وسائل علاجه و نصائحه و هي:
1-أن يتذكر الحريص مساويء الحرص،و غوائله الدينية و الدنيوية و أن الدنيا في حلالها حساب،و في حرامها عقاب،و في الشبهات عتاب.
2-أن يتأمل ما أسلفناه من فضائل القناعة،و محاسنها،مستجليا سيرة العظماء الأفذاذ،من الأنبياء و الأوصياء و الأولياء،في زهدهم في الحياة، و قناعتهم باليسير منها.
3-ترك النظر و التطلع إلي من يفوقه ثراءا،و تمتعا بزخارف الحياة و النظر إلي من دونه فيهما فذلك من دواعي القناعة و كبح جماح الحرص.
4-الاقتصاد المعاشي،فإنه من أهم العوامل،في تخفيف حدة الحرص، إذ الإسراف في الإنفاق يستلزم وفرة المال،و الإفراط في كسبه و الحرص عليه.
قال الصادق عليه السّلام:«ضمنت لمن أقتصد أن لا يفتقر» (1).
الكرم ضد البخل،و هو:بذل المال أو الطعام أو أي نفع مشروع،عن طيب نفس.
********
(1) البحار مج 15 ج 2 ص 199 عن الخصال للصدوق(ره).
ص: 49
و هو من أشرف السجايا،و أعزّ المواهب،و أخلد المآثر.و ناهيك في فضله أنّ كل نفيس جليل يوصف بالكرم،و يعزي إليه،قال تعالي: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (الواقعة:77). وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (الدخان:17). وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (الدخان:26).
لذلك أشاد أهل البيت عليهم السّلام بالكرم و الكرماء،و نوّهوا عنهما أبلغ تنويه:
قال الباقر(ع):«شاب سخيّ مرهق في الذنوب،أحبّ إلي اللّه من شيخ عابد بخيل» (1).
و قال الصادق(ع):«أتي رجل النبي(ص)فقال:يا رسول اللّه أيّ الناس أفضلهم إيمانا؟فقال:أبسطهم كفا» (2).
و عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):
«السخيّ قريب من اللّه،قريب من الناس،قريب من الجنة.و البخيل بعيد من اللّه،بعيد من الناس،قريب من النار» (3).
و قال الباقر(ع):«أنفق و أيقن بالخلف من اللّه،فإنه لم يبخل عبد و لا أمة بنفقة فيما يرضي اللّه،إلا أنفق أضعافها فيما يسخط اللّه» (4).
لا يسعد المجتمع،و لا يتذوق حلاوة الطمأنينة و السّلام،و مفاهيم الدعة و الرخاء،إلا باستشعار أفراده روح التعاطف و التراحم،و تجاوبهم في المشاعر و الأحاسيس،في سراء الحياة و ضرائها،و بذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص،يشد بعضه بعضا.
و للتعاطف صور زاهرة،تشع بالجمال و الروعة و البهاء،و لا ريب أن
********
(1) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي و الفقيه.
(2) الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة و التبصرة.
(4) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي.
ص: 50
أسماها شأنا،و أكثرها جمالا و جلالا،و أخلدها ذكرا هي:عطف الموسرين، وجودهم علي البؤساء و المعوزين،بما يخفف عنهم آلام الفاقة و لوعة الحرمان.
و بتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل(مبدأ التعاطف و التراحم)يستشعر المعوزون إزاء ذوي العطف عليهم،و المحسنين إليهم،مشاعر الصفاء و الوئام و الودّ،مما يسعد المجتمع،و يشيع فيه التجاوب،و التلاحم و الرخاء.
و بإغفاله يشقي المجتمع،و تسوده نوازع الحسد،و الحقد،و البغضاء، و الكيد.فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة،تزهق النفوس،و تمحق الأموال،و تهدد الكرامات.
من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلامية إلي السخاء و البذل و العطف علي البؤساء و المحرومين،و استنكرت علي المجتمع أن يراهم يتضورون سغبا و حرمانا،دون أن يتحسس بمشاعرهم،و ينبري لنجدتهم و إغاثتهم.و اعتبرت الموسرين القادرين و المتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام،و قد قال رسول اللّه(ص):«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1).
و قال(ص):«ما آمن بي من بات شبعانا و جاره جائع،و ما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة» (2).
و إنما حرّض الإسلام أتباعه علي الأريحية و السخاء،ليكونوا مثلا عاليا في تعاطفهم و مواساتهم،و لينعموا بحياة كريمة،و تعايش سلمي،و لأن الكرم صمام أمن المجتمع،و ضمان صفائه و ازدهاره.
تتفاوت فضيلة الكرم،بتفاوت مواطنه و مجالاته.فأسمي فضائل الكرم، و أشرف بواعثه و مجالاته،ما كان استجابة لأمر اللّه تعالي،و تنفيذا لشرعه المطاع، و فرائضه المقدسة،كالزكاة،و الخمس،و نحوهما.
و هذا هو مقياس الكرم و السخاء في عرف الشريعة الإسلامية،كما قال
********
(1) عن الكافي.
(2) عن الكافي.
ص: 51
النبي(ص):«من أدي ما افترض اللّه عليه،فهو أسخي الناس» (1).
و أفضل مصاديق البر و السخاء بعد ذلك،و أجدرها-عيال الرجل و أهل بيته،فإنهم فضلا عن وجوب الإنفاق عليهم،و ضرورته شرعا و عرفا،أولي بالمعروف و الإحسان،و أحق بالرعاية و اللطف.
و قد يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل،فيغدقون نوالهم و سخاءهم علي الأباعد و الغرباء،طلبا للسمعة و المباهاة،و يتصفون بالشح و التقتير علي أهلهم و عوائلهم،مما يجعلهم في ضنك و احتياج مريرين،و هم ألصق الناس بهم و أحناهم عليهم،و ذلك من لؤم النفس،و غباء الوعي.
لذلك أوصي أهل البيت(ع)بالعطف علي العيال،و الترفيه عنهم بمقتضيات العيش و لوازم الحياة:
قال الإمام الرضا(ع):«ينبغي للرجل أن يوسع علي عياله،لئلا يتمنوا موته» (2).
و قال الإمام موسي بن جعفر(ع):«إنّ عيال الرجل أسراؤه،فمن أنعم اللّه عليه نعمة فليوسع علي أسرائه،فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة» (3).
و الأرحام بعد هذا و ذاك،أحق الناس بالبر،و أحراهم بالصلة و النوال،لأواصرهم الرحمية،و تساندهم في الشدائد و الأزمات.
و من الخطأ الفاضح،حرمانهم من تلك العواطف،و إسباغها علي الأباعد و الغرباء،و يعتبر ذلك ازدراءا صارخا،يستثير سخطهم و نفارهم،و يحرم جافيهم من عطفهم و مساندتهم.
و هكذا يجدر بالكريم،تقديم الأقرب الأفضل،من مسحقي الصلة و النوال:كالأصدقاء و الجيران،و ذوي الفضل و الصلاح،فإنهم أولي بالعطف من غيرهم.
********
(1) الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي و الفقيه.
(3) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي و الفقيه.
ص: 52
و تختلف بواعث الكرم،باختلاف الكرماء،و دواعي أريحيتهم،فأسمي البواعث غاية،و أحمدها عاقبة،ما كان في سبيل اللّه،و ابتغاء رضوانه،و كسب مثوبته.
و قد يكون الباعث رغبة في الثناء،و كسب المحامد و الأمجاد،و هنا يغدو الكريم تاجرا مساوما بأريحيته و سخائه.
و قد يكون الباعث رغبة في نفع مأمول،أو رهبة من ضرر مخوف،يحفزان علي التكرم و الإحسان.
و يلعب الحب دورا كبيرا في بعث المحب و تشجيعه علي الأريحية و السخاء.
استمالة لمحبوبه.و استدرارا لعطفه.
و الجدير بالذكر أن الكرم لا يجمل وقعه،و لا تحلو ثماره،إلا إذا تنزه عن المنّ،و صفي من شوائب التسويف و المطل،و خلا من مظاهر التضخيم و التنويه،كما قال الصادق(ع):«رأيت المعروف لا يصلح إلا بثلاث خصال:
تصغيره،و ستره،و تعجيله.فإنك إذا صغرّته عظّمته عند من تصنعه إليه،و إذا سترته تممّته،و إذا عجّلته هنيته،و إن كان غير ذلك محقته و نكدته» (1).
و هو:أسمي درجات الكرم،و أرفع مفاهيمه،و لا يتحلي بهذه الصفة المثالية النادرة،إلا الذين تحلوا بالأريحية،و بلغوا قمة السخاء،فجادوا بالعطاء، و هم بأمس الحاجة إليه،و آثروا بالنوال،و هم في ضنك من الحياة،و قد أشاد القرآن بفضلهم قائلا: وَ يُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (الحشر:9).
و سئل الصادق(ع):أي الصدقة أفضل؟قال:جهد المقل،أما سمعت اللّه تعالي يقول: وَ يُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (2).
********
(1) البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل الشرائع للصدوق(ره).
(2) الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه.
ص: 53
و لقد كان النبي(ص)المثل الأعلي في عظمة الإيثار،و سمو الأريحية.
قال جابر بن عبد اللّه:ما سئل رسول اللّه(ص)شيئا فقال لا.
و قال الصادق(ع):«إن رسول اللّه أقبل إلي الجعرانة،فقسم فيها الأموال،و جعل الناس يسألونه فيعطيهم،حتي ألجأوه إلي شجرة فأخذت برده، و خدشت ظهره،حتي جلوه عنها،و هم يسألونه،فقال:أيها الناس ردوا علي بردي،و اللّه لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته بينكم،ثم ما ألفيتموني جبانا و لا بخيلا...» (1).
و قد كان(ص)يؤثر علي نفسه البؤساء و المعوزين،فيجود عليهم بماله و قوته،و يظل طاويا،و ربما شد حجر المجاعة علي بطنه مواساة لهم.
قال الباقر(ع):«ما شبع النبي من خبز بر ثلاثة أيام متوالية،منذ بعثه اللّه إلي أن قبضه» (2).
و هكذا كان أهل بيته عليهم السّلام في كرمهم و إيثارهم:
قال الصادق(ع):«كان عليّ أشبه الناس برسول اللّه،كان يأكل الخبز و الزيت،و يطعم الناس الخبز و اللحم» (3).
و في علي و أهل بيته الطاهرين،نزلت الآية الكريمة:
وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلي حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (الدهر:8-9).
فقد أجمع أولياء أهل البيت علي نزولها في علي و فاطمة و الحسن و الحسين..و قد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم،و إليك ما ذكره الزمخشري في تفسير السورة من الكشاف.
قال:«و عن ابن عباس أنّ الحسن و الحسين مرضا،فعادهما رسول اللّه في
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع.و الجعرانة موضع بين مكة و الطائف.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي.
(3) البحار م 9 ص 538 عن الكافي.
ص: 54
ناس معه،فقالوا:يا أبا الحسن لو نذرت علي ولديك،فنذر علي و فاطمة و فضة جارية لهما،إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا،و ما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير،فطحنت فاطمة صاعا،و اختبزت خمسة أقراص علي عددهم،فوضعوها بين أيديهم ليفطروا،فوقف عليهم سائل فقال:السّلام عليكم أهل بيت محمد،مسكين من مساكين المسلمين،أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة،فآثروه،و باتوا و لم يذوقوا إلا الماء،و أصبحوا صياما،فلما أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه،و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.
فلما أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلي رسول اللّه،فلما أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع،قال:ما أشدّ ما يسوؤني ما أري بكم،و قام فانطلق معهم فرأي فاطمة في محرابها،قد التصق بطنها بظهرها،و غارت عيناها،فساءه ذلك،فنزل جبرائيل و قال:خذها يا محمد هنّاك اللّه في أهل بيتك،فأقرأه السورة» (1).
و قد زخرت أسفار السير بإيثارهم،و أريحيتهم،بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.
و هو:الإمساك عما يحسن السخاء فيه،و هو ضد الكرم.
و البخل من السجايا الذميمة،و الخلال الخسيسة،الموجبة لهوان صاحبها و مقته و ازدرائه،و قد عابها الإسلام،و حذّر المسلمين منها تحذيرا رهيبا.
قال تعالي: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ،وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ (محمد:
38).
و قال تعالي: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ،وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ
********
(1) عن الكلمة الغراء-للمرحوم آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نقل بتصرف و تلخيص.
ص: 55
اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (النساء:37).
و قال تعالي: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران:180).
و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام:«أن أمير المؤمنين سمع رجلا يقول:إنّ الشحيح أغدر من الظالم.فقال:كذبت إن الظالم قد يتوب و يستغفر،و يردّ الظلامة عن أهلها،و الشحيح إذا شحّ منع الزكاة،و الصدقة، و صلة الرحم،و قري الضيف،و النفقة في سبيل اللّه تعالي،و أبواب البر،و حرام علي الجنة أن يدخلها شحيح» (1).
و عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام قال:«قال رسول اللّه (ص):السخي قريب من اللّه،قريب من الناس،قريب من الجنة،و البخيل بعيد من اللّه،بعيد من الناس،قريب من النار» (2).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:«عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب،و يفوته الغني الذي إيّاه طلب،فيعيش في الدنيا عيش الفقراء و يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء» (3).
و سنعرض أخبارا أخري في مطاوي هذا البحث.
البخل سجية خسيسة،و خلق لئيم باعث علي المساويء الجمة،و الأخطار الجسيمة في دنيا الإنسان و أخراه.
أما خطره الأخروي:فقد أعربت عنه أقوال أهل البيت عليهم السّلام و لخّصه أمير المؤمنين(ع)في كلمته السالفة حيث قال:«و الشحيح إذا شحّ منع الزكاة،و الصدقة،و صلة الرحم،و قري الضيف،و النفقة في سبيل اللّه،
********
(1) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة و التبصرة.
(3) نهج البلاغة.
ص: 56
و أبواب البر،و حرام علي الجنة أن يدخلها شحيح».
و أما خطره الدنيوي فإنه داعية للمقت و الإزدراء،لدي القريب و البعيد و ربما تمني موت البخيل أقربهم إليه،و أحبهم له،لحرمانه من نواله و طمعا في تراثه.
و البخيل بعد هذا أشدّ الناس عناء و شقاءا،يكدح في جمع المال و الثراء، و لا يستمتع به،و سرعان ما يخلّفه للوارث،فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، و يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
و البخل-و إن كان ذميما مقيتا-بيد أنّه يتفاوت ذمّه،و تتفاقم مساوئه، باختلاف صوره و أبعاده:
فأقبح صوره و أشدّها إثما،هو البخل بالفرائض المالية،التي أوجبها اللّه تعالي علي المسلمين،تنظيما لحياتهم الاقتصادية،و إنعاشا لمعوزيهم.
و هكذا تختلف معائب البخل،باختلاف الأشخاص و الحالات:فبخل الأغنياء أقبح من بخل الفقراء،و الشحّ علي العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو الأضياف أبشع و أذمّ منه علي غيرهم،و التقتير و التضييق في ضرورات الحياة من طعام و ملابس،أسوأ منه في مجالات الترف و البذخ أعاذنا اللّه من جميع صوره و مثالبه.
و حيث كان البخل من النزعات الخسيسة،و الخلال الماحقة،فجدير بالعاقل علاجه و مكافحته،و إليك بعض النصائح العلاجية له:
1-أن يستعرض ما أسلفناه من محاسن الكرم،و مساويء البخل،فذلك يخفف من سورة البخل.و إن لم يجد ذلك،كان علي الشحيح أن يخادع نفسه بتشويقها إلي السخاء،رغبة في الثناء و السمعة،فإذا ما أنس بالبذل،و ارتاح إليه،هذّب نفسه بالإخلاص،و حبب إليها البذل في سبيل اللّه عز و جل.
ص: 57
2-للبخل أسباب و دوافع،و علاجه منوط بعلاجها،و بدرء الأسباب تزول المسببات.
و أقوي دوافع الشحّ خوف الفقر،و هذا الخوف من نزعات الشيطان، و إيحائه المثّبط عن السخاء،و قد عالج القرآن الكريم ذلك بأسلوبه البديع الحكيم،فقرّر:أن الإمساك لا يجدي البخيل نفعا،و إنما ينعكس عليه إفلاسا و حرمانا،فقال تعالي: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ،وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ،وَ اللّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ (محمد:
38).
و قرر كذلك أن ما يسديه المرء من عوارف السخاء،لا تضيع هدرا،بل تعود مخلوفة علي المسدي،من الرزاق الكريم،قال عز و جل: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ،وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ (سبأ:39).
و هكذا يضاعف القرآن تشويقه إلي السخاء،مؤكدا أن المنفق في سبيل اللّه هو كالمقرض للّه عز و جل،و أنه تعالي بلطفه الواسع يردّ عليه القرض أضعافا مضاعفة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ،وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ،وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة:261).
أما الذين استرقهم البخل،و لم يجدهم الإغراء و التشويق إلي السخاء، يوجّه القرآن إليهم تهديدا رهيبا،يملأ النفس و يهزّ المشاعر:
وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمي عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ،فَتُكْوي بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة:34- 35).
و من دواعي البخل:إهتمام الآباء بمستقبل أبنائهم من بعدهم،فيضنون بالمال توفيرا لأولادهم،و ليكون ذخيرة لهم،تقيهم العوز و الفاقة.
و هذه غريزة عاطفية راسخة في الإنسان،لا تضرّه و لا تجحف به،ما دامت سويّة معتدلة،بعيدة عن الإفراط و المغالاة.
ص: 58
بيد أنه لا يليق بالعاقل،أن يسرف فيها،و ينجرف بتيارها،مضحيا بمصالحه الدنيوية و الدينية في سبيل أبنائه.
و قد حذّر القرآن الكريم الآباء من سطوة تلك العاطفة،و سيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا بحب أبنائهم،و يقترفوا في سبيلهم ما يخالف الدين و الضمير:
وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ،وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ،وَ أَنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (الأنفال:
29).
و أعظم ما قاله أمير المؤمنين(ع)في كتاب له:«أما بعد،فإن الذي في يديك من الدنيا.قد كان له أهل قبلك،و هو صائر إلي أهل بعدك،و إنما أنت جامع لأحد رجلين:رجل عمل فيما جمعته بطاعة اللّه،فسعد بما شقيت به،أو رجل عمل فيه بمعصية اللّه،فشقي بما جمعت له،و ليس أحد هذين أهلا أن تؤثره علي نفسك،و تحمل له علي ظهرك،فأرجو لمن مضي رحمة اللّه،و لمن بقيّ رزق اللّه» (1).
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه تعالي: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ (البقرة:167)قال:«هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة اللّه بخلا،ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة اللّه،أو في معصية اللّه، فإن عمل فيه بطاعة اللّه،رآه في ميزان غيره فرآه حسرة،و قد كان المال له،و إن كان عمل به في معصية اللّه،قوّاه بذلك المال حتي عمل به في معصية اللّه» (2).
***
و هناك فئة تعشق المال لذاته،و تهيهم بحبه،دون أن تتخذه وسيلة إلي سعادة دينية أو دنيوية،و إنما تجد أنسها و متعتها في اكتناز المال فحسب،و من ثم تبخل به أشد البخل.
و هذا هوس نفسي،يشقي أربابه،و يوردهم المهالك،ليس المال غاية، و إنما هو ذريعة لمآرب المعاش أو المعاد،فإذا انتفت الذريعتان غدا المال تافها عديم النفع.
********
(1) نهج البلاغة.
(2) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي و الفقيه.
ص: 59
و كيف يكدح المرء في جمع المال و اكتنازه؟!ثم سرعان ما يغنمه الوارث.
و يتمتع به.فيكون له المهني و للمورث الوزر و العناء.
و قد استنكر القرآن الكريم هذا الهوس،و أنذر أربابه إنذارا رهيبا: كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَ لا تَحَاضُّونَ عَلي طَعامِ الْمِسْكِينِ، وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا، وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا، كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ،يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّي لَهُ الذِّكْري، يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (الفجر:17-26).
و قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، اَلَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلاّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ، اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَي الْأَفْئِدَةِ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (الهمزة).
و أبلغ ما أثر في هذا المجال،كلمة أمير المؤمنين(ع)،و هي في القمة من الحكمة و سمو المعني،قال(ع):«إنما الدنيا فناء،و عناء،و غير،و عبر:
فمن فنائها:أنك تري الدهر موترا قوسه،مفوقا نبله،لا تخطيء سهامه.
و لا تشفي جراحه.يرمي الصحيح بالسقم،و الحيّ بالموت.
و من عنائها:أنّ المرء يجمع ما لا يأكل،و يبني ما لا يسكن،ثم يخرج إلي اللّه لا مالا حمل،و لا بناءا نقل.
و من غيرها:أنك تري المغبوط مرحوما،و المرحوم مغبوطا،ليس بينهم إلا نعيم زلّ،و بؤس نزل.
و من عبرها:أن المرء يشرف علي أمله،فيتخطفه أجله،فلا أمل مدروك، و لا مؤمّل متروك» (1).
و هي:الامتناع و الترفع عمّا لا يحل أو لا يجمل،من شهوات البطن و الجنس،و التحرر من استرقاقها المذل.
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 467.
ص: 60
و هي من أنبل السجايا،و أرفع الخصائص،الدالة علي سمو الإيمان، و شرف النفس،و عزّ الكرامة،و قد أشادت بفضلها الآثار:
قال الباقر(ع):«ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفة بطن و فرج» (1).
و قال رجل للباقر(ع):«إني ضعيف العمل،قليل الصلاة قليل الصيام، و لكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا،و لا أنكح إلا حلالا.فقال له:و أيّ جهاد أفضل من عفة بطن و فرج» (2).
و قال رسول اللّه(ص):«أكثر ما تلج به أمتي النار،الأجوفان البطن و الفرج» (3).
ليس المراد بالعفة،حرمان النفس من أشواقها،و رغائبها المشروعة،في المطعم و الجنس،و إنما الغرض منها،هو القصد و الاعتدال في تعاطيها و ممارستها،إذ كل إفراط أو تفريط مضر بالإنسان،و داع إلي شقائه و بؤسه:
فالإفراط في شهوات البطن و الجنس،يفضيان به إلي المخاطر الجسيمة، و الأضرار الماحقة،التي سنذكرها في بحث(الشره).
و التفريط فيها كذلك،باعث علي الحرمان من متع الحياة،و لذائذها المشروعة،و موجب لهزال الجسد،و ضعف طاقاته و معنوياته.
من الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام و الجنس،لاختلاف حاجات الأفراد و طاقاتهم،فاعتدال في شخص قد يعتبر إفراطا أو تفريطا في آخر.
و الاعتدال النسبي في المأكل هو:أن ينال كل فرد ما يقيم إوده و يسدّ
********
(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 184 عن محاسن البرقي و قريب منه في الكافي.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 183 عن الكافي.
ص: 61
حاجته من الطعام،متوقيا الجشع المقيت،و الامتلاء المرهق.
و خبر مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين،و هو يحدث إبنه الحسن (ع):«يا بني أ لا أعلمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟فقال:بلي يا أمير المؤمنين.قال:لا تجلس علي الطعام إلا و أنت جائع،و لا تقم عن الطعام إلا و أنت تشتهيه،و جوّد المضغ،و إذا نمت فأعرض نفسك علي الخلاء،فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب».
و قال:إنّ في القرآن لآية تجمع الطب كله: كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا (الأعراف:31) (1).
و الاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبية نداء الغريزة،كلما اقتضتها الرغبة الصادقة،و الحاجة المحفزة عليه.
لا ريب أنّ العفة،هي من أنبل السجايا،و أرفع الفضائل،المعربة عن سمو الإيمان،و شرف النفس،و الباعثة علي سعادة المجتمع و الفرد.
و هي الخلّة المشرّفة التي تزين الإنسان،و تسمو به عن مزريات الشره و الجشع،و تصونه عن التملق للئام،استدرارا لعطفهم و نوالهم،و تحفّزه علي كسب وسائل العيش و رغائب الحياة،بطرقها المشروعة،و أساليبها العفيفة.
و هو:الإفراط في شهوات المأكل و الجنس،ضدّ(العفة).
و هو:من النزعات الخسيسة،الدالة علي ضعف النفس،و جشع الطبع، و استعباد الغرائز،و قد نددت به الشريعة الإسلامية و حذّرت منه أشدّ التحذير.
قال الصادق(ع):«كل داء من التخمة،ما خلا الحمّي فإنها ترد ورودا» (2).
********
(1) سفينة البحار م 2 ص 79 من دعوات الراوندي.
(2) الوافي ج 11 ص 67 عن الكافي.
ص: 62
و قال(ع):«إن البطن إذا شبع طغي» (1).
و قال(ع):«إن اللّه يبغض كثرة الأكل» (2).
و قال أبو الحسن(ع):«لو أن الناس قصدوا في المطعم،لاستقامت أبدانهم» (3).
و عن الصادق عن أبيه قال:قال أمير المؤمنين(ع):«من أراد البقاء و لا بقاء،فليخفف الرداء،و ليباكر الغذاء،و ليقل مجامعة النساء» (4).
من أراد البقاء أي طول العمر،فليخفف الرداء أي يخفف ظهره من ثقل الدين.
و أكل أمير المؤمنين(ع)من تمر دقل،ثم شرب عليه الماء،و ضرب يده علي بطنه و قال:من أدخله بطنه النار فأبعده اللّه.ثم تمثل:
و إنك مهما تعط بطنك سؤله و فرجك نالا منتهي الذم أجمعا (5)
الشره مفتاح الشهوات،و مصدر المهالك،و حسب الشره ذمّا،أن تسترقه الشهوات العارمة،و تعرّضه لصنوف المساويء،المعنوية و المادية.
و لعل أقوي العوامل في تخلف الأمم،استبداد الشره بهم،و افتتانهم بزخارف الحياة،و مفاتن الترف و البذخ،مما يفضي بهم إلي الضعف و الانحلال.
و لشره الأكل آثارا سيئة و مساويء عديدة:
فقد أثبت الطب«أن الكثير من الأمراض و الكثير من الخطوط و التجعدات التي تشوه القسمات الحلوة في النساء و الرجال،و الكثير من الشحم المتراكم، و العيون الغائرة،و القوي المنهكة،و النفوس المريضة كلّها تعزي إلي التخمة
********
(1) الوافي ج 11 ص 67 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 11 ص 67 عن الكافي.
(3) البحار م 14 ص 876 عن المحاسن للبرقي(ره).
(4) البحار م 14 ص 545 عن طب الأئمة.
(5) سفينة البحار م 1 ص 27.
ص: 63
المتواصلة،و الطعام الدسم المترف».
و أثبت كذلك أن الشره يرهق المعدة و يسبب ألوان المآسي الصحية كتصلب الشرايين،و الذبحة الصدرية،و ارتفاع ضغط الدم،و البول السكري.
و هكذا يفعل الشره الجنسي في إضعاف الصحة العامة،و تلاشي الطاقة العصبية،و اضمحلال الحيوية و النشاط،مما يعرض المسرفين للمخاطر.
أما شره الأكل فعلاجه:
1-أن يتذكر الشره ما أسلفناه من محاسن العفّة،و فضائلها.
2-أن يتدبر مساويء الشره،و غوائله الماحقة.
3-أن يروض نفسه علي الاعتدال في الطعام،و مجانبة الشره جاهدا في ذلك،حتي يزيل الجشع.فإن دستور الصحة الوقائي و العلاجي هو الاعتدال في الأكل و عدم الإسراف فيه،كما لخّصته الآية الكريمة كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا (الأعراف:31).
و قد أوضحنا واقع الاعتدال في بحث(العفة).
و أمّا الشره الجنسي فعلاجه:
1-أن يتذكر المرء أخطار الإسراف الجنسي،و مفاسده الماديّة و المعنوية.
2-أن يكافح مثيرات الغريزة،كالنظر إلي الجمال النسوي،و اختلاط الجنسين،و سروح الفكر في التخيل.و أحلام اليقظة،و نحوها من المثيرات.
3-أن يمارس ضبط الغريزة و كفها عن الإفراط الجنسي،و تحري الاعتدال فيها،و قد مرّ بيانه في بحث العفة.
الأمانة هي:أداء ما ائتمن عليه الإنسان من الحقوق،و هي ضد (الخيانة).
ص: 64
و هي من أنبل الخصال،و أشرف الفضائل،و أعزّ المآثر،بها يحرز المرء الثقة و الإعجاب،و ينال النجاح و الفوز.
و كفاها شرفا أن اللّه تعالي مدح المتحلين بها،فقال: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (المؤمنون:8.المعارج:32).
و ضدها الخيانة،و هي:غمط الحقوق و اغتصابها،و هي من أرذل الصفات،و أبشع المذام،و أدعاها إلي سقوط الكرامة،و الفشل و الإخفاق.
لذلك جاءت الآيات و الأخبار حاثة علي التحلي بالأمانة،و التحذير من الخيانة،و إليك طرفا منها:
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي أَهْلِها،وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ،إِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ (النساء:58).
و قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ،وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الأنفال:27).
قال الصادق(ع):«لا تغتروا بصلاتهم و لا بصيامهم،فإن الرجل ربما لهج بالصلاة و الصوم،حتي لو تركه استوحش،و لكن اختبروهم عند صدق الحديث،و أداء الأمانة» (1).
و عنه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):«ليس منّا من أخلف الأمانة».
و قال:قال رسول اللّه(ص):«أداء الأمانة يجلب الرزق،و الخيانة تجلب الفقر» (2).
و قال الصادق(ع):«اتقوا اللّه،و عليكم بأداء الأمانة إلي من ائتمنكم، فلو أن قاتل علي بن أبي طالب إئتمنني علي أمانة لأديتها إليه» (3).
و قال رسول اللّه(ص):«لا تزال أمتي بخير،ما لم يتخاونوا،و أدّوا الأمانة،و آتوا الزكاة،فإذا لم يفعلوا ذلك،ابتلوا بالقحط و السنين» (4).
********
(1) الوافي ج 3 ص 82 عن الكافي.
(2) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي.
(3) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي و التهذيب.
(4) عن ثواب الأعمال للصدوق(ره).
ص: 65
تلعب الأمانة دورا خطيرا،في حياة الأمم و الأفراد،فهي نظام أعمالهم، و قوام شؤونهم،و عنوان نبلهم و استقامتهم،و سبيل رقيهم الماديّ و الأدبي.
و بديهي أنّ من تحلي بالأمانة،كان مثار التقدير و الإعجاب،و حاز ثقة الناس و اعتزازهم و ائتمانهم،و شاركهم في أموالهم و مغانمهم.
و يصدق ذلك علي الأمم عامة،فإن حياتها لا تسمو و لا تزدهر،إلا في محيط تسوده الثقة و الأمانة.
و بها ملك العرب أزمّة الاقتصاد،و مقاليد الصناعة و التجارة،و جني الأرباح الوفيرة،و لكنّ المسلمين وا أسفاه!تجاهلوها،و هي عنوان مبادئهم،و رمز كرامتهم،فباؤوا بالخيبة و الإخفاق.
من أجل ذلك كانت الخيانة من أهم أسباب سقوط الفرد و إخفاقه في مجالات الحياة،كما هي العامل الخطير في إضعاف ثقة الناس بعضهم ببعض، و شيوع التناكر و التخاوف بينهم،مما تسبب تسبب المجتمع،و فصم روابطه، و إفساد مصالحه،و بعثرة طاقاته.
و للخيانة صور تختلف بشاعتها و جرائمها باختلاف آثارها،فأسوأها نكرا هي الخيانة العلمية التي يقترفها الخائنون المتلاعبون بحقائق العلم المقدسة، و يشوّهونها بالدس و التحريف.
و من صورها إفشاء أسرار المسلمين،التي يحرصون علي كتمانها،فاشاعتها و الحالة هذه جريمة نكراء،تعرضهم للأخطار و المآسي.
و من صورها البشعة:خيانة الودائع و الأمانات،التي أؤتمن عليها المرء، فمصادرتها جريمة مضاعفة من الخيانة و السرقة و الاغتصاب.
و للخيانة بعد هذا صورا عديدة كريهة،تثير الفزع و التقزز،و تضر بالناس فردا و مجتمعا،ماديّا و أدبيا،كالخداع و الغش و التطفيف بالوزن أو الكيل، و نحوها من مفاهيم التدليس و التلبيس.
ص: 66
كان العصر الجاهلي مسرحا للمآسي و الأرزاء،في مختلف مجالاته و نواحيه الفكرية و المادية.
و كان من أبشع مآسيه،ذلك التسيب الخلقي،و الفوضي المدّمرة،مما صيّرهم يمارسون طباع الضواري،و شريعة الغاب و التناكر و التناحر،و الفتك و السلب،و التشدق بالثأر و الانتقام.
فلما أشرق فجر الإسلام،و أطل بأنواره علي البشرية،استطاع بمبادئه الخالدة،و دستوره الفذّ أن يطبّ تلك المآسي،و يحسم تلك الأرزاء،فأنشأ من ذلك القطيع الجاهلي، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ (1)عقيدة و شريعة،و علما و أخلاقا.فأحلّ الإيمان محل الكفر،و النظام محل الفوضي،و العلم محل الجهل، و السّلام محل الحرب،و الرحمة محل الانتقام.
فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية،و خلفتها المباديء الإسلامية الجديدة، و راح النبي(ص)يبني و ينشأ أمة مثالية تبذ الأمم نظاما،و أخلاقا و كمالا.
و كلما سار المسلمون أشواطا تحت راية القرآن،و قيادة الرسول الأعظم (ص)،توغلوا في معارج الكمال،و حلقوا في آفاق المكارم،حتي حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع و المباديء الأخري،و أصبحت أواصر العقيدة أقوي من أواصر النسب،و وشائج الإيمان تسمو علي و شائج القومية و القبلية، و غدا المسلمون أمة واحدة،مرصوصة الصف،شامخة الصرح،خفّاقة اللواء، لا تفرقهم النعرات و الفوارق.
يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي،وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ، لِتَعارَفُوا،إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (2) .
********
(1) آل عمران:110.
(2) الحجرات:13.
ص: 67
و طفق القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركزا علي ذلك بآياته العديدة و أساليبه الحكيمة الفذّة.
فمرة شرّع التآخي ليكون قانونا للمسلمين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ،فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ،وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (1).
و أخري يؤكد عليه محذرا من عوامل الفرقة،و مذكرا نعمة التآلف و التآخي الإسلامي،بعد طول التناكر و التناحر الجاهليين، وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا،وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً،فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ،فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (2).
و هكذا جهد الإسلام في تعزيز التآخي الروحي و حماه من نوازع الفرقة و الانقسام بما شرّعه من دستور الروابط الاجتماعية في نظامه الخالد.
و إليك نموذجا من ذلك:
1-تسامي بشعور المسلمين و عواطفهم،أن تسترقها النعرات العصبية، و نزعاتها المفرّقة،و وّجهها نحو الهدف الأسمي من طاعة اللّه تعالي و رضاه:
فالحب و البغض،و العطاء و المنع،و النصر و الخذلان،كل ذلك يجب أن يكون للّه عز و جل،و بذلك تتوثق عري المؤاخاة،و تتلاشي النزعات المفرقة،و يغدو المسلمون كالبنيان المرصوص،يشدّ بعضه بعضا.
و إليك قبسا من آثار هذا البيت عليهم السّلام في هذا المقام:
عن الباقر(ع):قال رسول اللّه(ص):«ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه،من أعظم شعب الإيمان،ألا و من أحبّ في اللّه،و أبغض في اللّه،و أعطي في اللّه، و منع في اللّه،فهو من أصفياء اللّه» (3).
و قال الصادق(ع):«إنّ المتحابين في اللّه يوم القيامة،علي منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم،و نور أجسادهم،و نور منابرهم،كل شيء حتي يعرفوا
********
(1) الحجرات:10.
(2) آل عمران:103.
(3) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي.
ص: 68
به،فيقال هؤلاء المتحابون في اللّه» (1).
و قال علي بن الحسين(ع):«إذا جمع اللّه عز و جل الأولين و الآخرين،قام مناد ينادي بصوت يسمع الناس،فيقول:أين المتحابون في اللّه؟قال:فيقوم عنق من الناس،فيقال لهم:اذهبوا إلي الجنة بغير حساب.
قال:فتلقاهم الملائكة فيقولون:إلي أين؟فيقولون:إلي الجنة بغير حساب.
قال:فيقولون:فأي ضرب أنتم من الناس؟فيقولون:نحن المتحابون في اللّه.
فيقولون:و أيّ شيء كانت أعمالكم؟قالوا:كنّا نحبّ في اللّه،و نبغض في اللّه.
قال:فيقولون:نعم أجر العاملين» (2).
و قال الصادق(ع):«كل من لم يحب علي الدين،و لم يبغض علي الدين فلا دين له» (3).
و عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا،فانظر إلي قلبك،فإن كان يحب أهل طاعة اللّه،و يبغض أهل معصيته،ففيك خير،و اللّه يحبك،و إن كان يبغض أهل طاعة اللّه و يحب أهل معصيته،فليس فيك خير،و اللّه يبغضك،و المرء مع من أحب» (4).
2-رغب المسلمين فيما يؤلفهم،و يحقق لهم العزة و الرخاء،كالتواصي بالحق،و التعاون علي البر،و التناصر علي العدل،و التكافل في مجالات الحياة الاقتصادية،فهم في عرف الشريعة أسرة واحدة،يسعدها و يشقيها ما يسعد أفرادها و يشقيهم.
دستورها مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَي الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (5).
********
(1) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
(5) الفتح:29.
ص: 69
و شعارها قول الرسول الأعظم(ص):«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1).
3-حذّر المسلمين مما يبعث علي الفرقة و العداء،و الفحش و البذاء و الاغتياب،و النميمة و الخيانة و الغش،و نحوها من مثيرات الفتن و الضغائن، و مبدأهم في ذلك قول النبي(ص):
«المؤمن من أمنه الناس علي أموالهم و دمائهم،و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه،و المهاجر من هجر السيئات» (2).
4-أتاح الفرص لإنماء العلاقات الودّية بين المسلمين،كالحث علي التزاور،و ارتياد المحافل الدينية،و شهود المجتمعات الإسلامية،كصلاة الجماعة و مناسك الحج،و نحو ذلك.
هي:مناصرة المرء قومه،أو أسرته،أو وطنه،فيما يخالف الشرع،و ينافي الحق و العدل.
و هي:من أخطر النزعات و أفتكها في تسيب المسلمين،و تفريق شملهم، و إضعاف طاقاتهم،الروحية و المادية،و قد حاربها الإسلام،و حذّر المسلمين من شرورها.
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية،بعثه اللّه تعالي يوم القيامة مع أعراب الجاهلية» (3).
و قال الصادق(ع):«من تعصّب عصبّه اللّه بعصابة من نار» (4).
و قال النبي(ص):«إن اللّه تبارك و تعالي قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية،و تفاخرها بآبائها،ألا إن الناس من آدم،و آدم من تراب،و أكرمهم
********
(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(2) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
ص: 70
عند اللّه أتقاهم» (1).
و قال الباقر(ع):جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه(ص)ينتسبون و يفتخرون،و فيهم سلمان.فقال عمر:ما نسبك أنت يا سلمان و ما أصلك؟ فقال:أنا سلمان بن عبد اللّه،كنت ضالا فهداني اللّه بمحمد،و كنت عائلا فأغناني اللّه بمحمد،و كنت مملوكا فأعتقني اللّه بمحمد،فهذا حسبي و نسبي يا عمر.
ثم خرج رسول اللّه(ص)،فذكر له سلمان ما قال عمر و ما أجابه،فقال رسول اللّه:«يا معشر قريش إن حسب المرء دينه،و مروءته خلقه،و أصله عقله،قال اللّه تعالي: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي،وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا،إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ.
ثم أقبل علي سلمان فقال له:«إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوي اللّه عز و جل،فمن كنت أتقي منه فأنت أفضل منه» (2).
و عن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السّلام قال:«وقع بين سلمان الفارسي رضي اللّه عنه،و بين رجل كلام و خصومة،فقال له الرجل:من أنت يا سلمان؟فقال سلمان:أمّا أولي و أولك فنطفة قذرة،و أمّا آخري و آخرك فجيفة منتنة،فإذا كان يوم القيامة،و وضعت الموازين،فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، و من خفّ ميزانه فهو اللئيم» (3).
و أصدق شاهد علي واقعية الإسلام،و استنكاره النعرات العصبية المفرّقة، و جعله الإيمان و التقي مقياسا للتفاضل،أنّ أبا لهب-و هو من صميم العرب، و عمّ النبي-صرح القرآن بثلبه و عذابه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ، ما أَغْني عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ، سَيَصْلي ناراً ذاتَ لَهَبٍ و ذلك بكفره و محاربته للّه و رسوله.
و كان سلمان فارسيّا،بعيدا عن الأحساب العربية،و قد منحه الرسول
********
(1) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 95 أمالي أبي علي الشيخ الطوسي.
(3) سفينة البحار ج 2 ص 348 عن آمالي الصدوق(ره).
ص: 71
الأعظم(ص)و ساما خالدا في الشرف و العزة،فقال:«سلمان منّا أهل البيت».
و ما ذلك إلاّ لسمو إيمانه،و عظم إخلاصه،و تفانيه في اللّه و رسوله.
لا ريب أنّ العصبية الذميمة التي نهي الإسلام عنها هي:التناصر علي الباطل،و التعاون علي الظلم،و التفاخر بالقيم الجاهلية.
أما التعصب للحق،و الدفاع عنه،و التناصر علي تحقيق المصالح الإسلامية العامة،كالدفاع عن الدين،و حماية الوطن الإسلامي الكبير،و صيانة كرامات المسلمين و أنفسهم و أموالهم،فهو التعصّب المحمود الباعث علي توحيد الأهداف و الجهود،و تحقيق العزة و المنعة للمسلمين،و قد قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام:«إنّ العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يري الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين،و ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه،و لكن من العصبية أن يعين قومه علي الظلم» (1).
من استقرأ التاريخ الإسلامي،و تتبع العلل و الأسباب،في هبوط المسلمين،علم أنّ النزعات العصبية،هي المعول الهدّام،و السبب الأول في تناكر المسلمين،و تمزيق شملهم،و تفتيت طاقاتهم،مما أدي بهم إلي هذا المصير القاتم.
فقد ذلّ المسلمون و هانوا،حينما تفشّت فيهم النعرات المفرّقة،فانفصمت بينهم عري التحابب،و وهت فيهم أواصر الإخاء،فأصبحوا مثالا للتخلف و التبعثر و الهوان،بعد أن كانوا رمزا للتفوق و التماسك و الفخار،كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالي حيث قال:
وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا،وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ،فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً،وَ كُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (2) .
********
(1) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(2) آل عمران:103.
ص: 72
العدل ضد الظلم،و هو مناعة نفسية،تردع صاحبها عن الظلم،و تحّفزه علي العدل،و أداء الحقوق و الواجبات.
و هو سيد الفضائل،و رمز المفاخر،و قوام المجتمع المتحضر،و سبيل السعادة و السّلام.
و قد مجّده الإسلام،و عني بتركيزه و التشويق إليه في القرآن و السنة:
قال تعالي: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ (1).
و قال سبحانه: وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبي (2).
و قال عز و جل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي أَهْلِها،وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (3).
و قال الصادق(ع):«العدل أحلي من الشهد،و ألين من الزبد،و أطيب ريحا من المسك» (4).
و قال الراوي لعلي بن الحسين(ع):أخبرني بجميع شرائع الدين؟قال:
«قول الحق،و الحكم بالعدل،و الوفاء بالعهد» (5).
و قال الرضا(ع):«استعمال العدل و الإحسان مؤذن بدوام النعمة» (6).
للعدل صور مشرقة تشع بالجمال و الجلال،و إليك أهمها:
1-عدل الإنسان مع اللّه عز و جل،و هو أزهي صور العدل،و أسمي
********
(1) النحل:90.
(2) الأنعام:152.
(3) النساء:58.
(4) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي،و هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
(5) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن خصال الصدوق(ره).
(6) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن عيون أخبار الرضا.
ص: 73
مفاهيمه،و عنوان مصاديقه،و كيف يستطيع الإنسان أن يؤدي واجب العدل للمنعم الأعظم،الذي لا تحصي نعماؤه،و لا تعّد آلاؤه؟!
و إذا كان عدل المكافأة يقدّر بمعيار النعم،و شرف المنعم،فمن المستحيل تحقيق العدل نحو واجب الوجود،و الغني المطلق عن سائر الخلق،إلا بما يستطيعه قصور الإنسان،و توفيق المولي عز و جل له.
و جماع العدل مع اللّه تعالي يتلخص في الإيمان به،و توحيده،و الإخلاص له،و تصديق سفرائه و حججه علي العباد،و الاستجابة لمقتضيات ذلك من التوله بحبّه و التشرف بعبادته،و الدأب علي طاعته،و مجافاة عصيانه.
2-عدل الإنسان مع المجتمع:
و ذلك برعاية حقوق أفراده،و كفّ الأذي و الإساءة عنهم،و سياستهم بكرم الأخلاق،و حسن المداراة و حبّ الخير لهم،و العطف علي بؤسائهم و معوزيهم،و نحو ذلك من محققات العدل الاجتماعي.
و قد لخّص اللّه تعالي واقع العدل العام في آية من كتابه المجيد: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ،وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبي،وَ يَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).
و قد رسم أمير المؤمنين عليه السّلام منهاج العدل الاجتماعي بإيجاز و بلاغة،فقال لابنه:
«يا بنيّ اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك،فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك،و أكره له ما تكره لها،و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم،و أحسن كما تحب أن يحسن إليك،و أستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك،و أرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك،و لا تقل ما لا تعلم و إن قلّ ما تعلم،و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك».
أوصي عليه السّلام ابنه الكريم أن يكون عادلا فيما بينه و بين الناس كالميزان،ثم أوضح له صور العدل و طرائقه إيجابا و سلبا.
********
(1) النمل:90.
ص: 74
3-عدل البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات،الذين رحلوا عن الحياة، و خلّفوا لهم المال و الثراء،و حرموا من متعه و لذائذه،و لم يكسبوا في رحلتهم الأبدية،إلا أذرعا من أثواب البلي،و أشبارا ضيقة من بطون الأرض.
فمن العدل أن يستشعر الأحياء نحو أسلافهم بمشاعر الوفاء و العطف و حسن المكافأة،و ذلك بتنفيذ وصاياهم،و تسديد ديونهم،و إسداء الخيرات و المبرات إليهم،و طلب الغفران و الرضا و الرحمة من اللّه عز و جل لهم.
قال الصادق(ع):«إنّ الميّت ليفرح بالترحم عليه،و الاستغفار له،كما يفرح الحي بالهدية تهدي إليه».
و قال(ع):«من عمل من المسلمين عن ميت عملا صالحا،أضعف اللّه له أجره،و نفع اللّه به الميت» (1).
4-عدل الحكام.
و حيث كان الحكام ساسة الرعية،و ولاة أمر الأمة،فهم أجدر الناس بالعدل،و أولاهم بالتحلي به،و كان عدلهم أسمي مفاهيم العدل،و أروعها مجالا و بهاء،و أبلغها أثرا في حياة الناس.
بعد لهم يستتب الأمن،و يسود السّلام،و يشيع الرخاء،و تسعد الرعية.
و بجورهم تنتكس تلك الفضائل،و الأماني إلي نقائضها،و تغدو الأمة آنذاك في قلق و حيرة و ضنك و شقاء.
فطرت النفوس السليمة علي حب العدل و تعشقه،و بغض الظلم و استنكاره.و قد أجمع البشر عبر الحياة،و اختلاف الشرائع و المباديء،علي تمجيد العدل و تقديسه،و التغني بفضائله و مآثره،و التفاني في سبيله.
فهو سرّ حياة الأمم،و رمز فضائلها،و قوام مجدها و سعادتها،و ضمان أمنها و رخائها،و أجل أهدافها و أمانيها في الحياة.
********
(1) هذا الخبر و سابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق.
ص: 75
و ما دالت الدول الكبري،و تلاشت الحضارات العتيدة،إلا بضياع العدل و الاستهانة بمبدئه الأصيل،و قد كان أهل البيت عليهم السّلام المثل الأعلي للعدل،و كانت أقوالهم و أفعالهم دروسا خالدة تنير للإنسانية مناهج العدل و الحق و الرشاد.
و إليك نماذج من عدلهم:
قال سوادة بن قيس للنبي(ص)في أيام مرضه:يا رسول اللّه إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك و أنت علي ناقتك العضباء،و بيدك القضيب الممشوق،فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة،فأصاب بطني،فأمره النبي أن يقتصّ منه،فقال:اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه،فقال سوادة:أ تأذن لي أن أضع فمي علي بطنك،فأذن له فقال:أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار،فقال(ص):يا سوادة بن قيس أ تعفو أم تقتص؟فقال:بل أعفو يا رسول اللّه.فقال:اللهم أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (1).
و قال أبو سعيد الخدري:جاء أعرابي إلي النبي(ص)يتقاضاه دينا كان عليه،فاشتدّ عليه حتي قال له:أحرّج عليك إلا قضيتني،فانتهره أصحابه و قالوا:ويحك،تدري من تكلم؟!!قال:إني أطلب حقي.فقال النبي(ص):
هلا مع صاحب الحق كنتم،ثم أرسل إلي خولة بنت قيس فقال لها:إن كان عندك تمر فأقرضينا،حتي يأتي تمرنا فنقضيك.فقالت:نعم بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه.قال:فأقرضته فقضي الأعرابي و أطعمه.فقال:أوفيت أوفي اللّه لك؟فقال(ص):«أولئك خيار الناس،إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متتعتع».
و قيل:إن الإعرابي كان كافرا،فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع،و قال:
يا رسول اللّه ما رأيت أصبر منك (2).
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 671.
(2) فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 122 عن صحيح ابن ماجه.
ص: 76
و هكذا كان أمير المؤمنين علي(ع):
قال الصادق(ع)لما وليّ علي صعد المنبر فحمد اللّه،و أثني عليه،ثم قال:
إني لا أرزؤكم من فيئكم درهما،ما قام لي عذق بيثرب،فلتصدقكم أنفسكم، أ فتروني مانعا نفسي و معطيكم؟!!قال:فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال له:
اللّه،لتجعلني و أسود بالمدينة سواء،فقال(ع):أجلس،أما كان هنا أحد يتكلم غيرك،و ما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوي (1).
و جاء في صواعق ابن حجر ص 79 قال:و أخرج ابن عساكر أن عقيلا سأل عليا عليه السّلام فقال:إني محتاج،و إني فقير فأعطني.قال:اصبر حتي يخرج عطاؤك مع المسلمين،فأعطيك معهم،فألح عليه،فقال لرجل:خذ بيده و انطلق به إلي حوانيت أهل السوق فقل له دقّ هذه الأقفال،و خذ ما في هذه الحوانيت.قال:تريد أن تتخذني سارقا؟قال:و أنت تريد أن تتخذني سارقا، أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم؟قال:لآتين معاوية.قال:أنت و ذاك.فأتي معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف،ثم قال:اصعد علي المنبر،فاذكر ما أولاك به عليّ و ما أوليتك،فصعد فحمد اللّه،و أثني عليه،ثم قال:أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا عليه السّلام علي دينه فاختار دينه،و إني أردت معاوية علي دينه فاختارني علي دينه (2).
و مشي إليه عليه السّلام ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه،و فرار كثير منهم إلي معاوية،طلبا لما في يديه من الدنيا،فقالوا:يا أمير المؤمنين إعط هذه الأموال،و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش علي الموالي و العجم،و من تخالف عليه من الناس فراره إلي معاوية،فقال لهم أمير المؤمنين(ع):«أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور،لا و اللّه ما أفعل،ما طلعت شمس،و لاح في السماء نجم،و اللّه،لو كان مالهم لي لواسيت بينهم،و كيف و إنما هي أموالهم» (3).
********
(1) البحار م 9 ص 539 عن الكافي.
(2) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 15.
(3) البحار م 9 ص 533 بتصرف.
ص: 77
و قال ابن عباس:أتيته(يعني أمير المؤمنين عليا)فوجدته يخصف نعلا،ثم ضمها إلي صاحبتها،و قال لي:قوّمها.فقلت:ليس لهما قيمة.قال:علي ذلك.قلت:كسر درهم.قال:و اللّه،لهما أحب إليّ من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حدا(حقا)أو أدفع باطلا (1).
و هو القائل:«و اللّه لئن أبيت علي حسك السعدان مسهدا،و أجرّ في الأغلال مصفدا،أحب إليّ من أن ألقي اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد،و غاصبا لشيء من الحطام،و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلي البلي قفولها،و يطول في الثري حلولها» (2).
الظلم لغة:وضع الشيء في غير موضعه،فالشرك ظلم عظيم،لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
و عرفا هو:بخس الحق،و الاعتداء علي الغير،قولا أو عملا،كالسباب، و الاغتياب،و مصادرة المال،و اجترام الضرب أو القتل،و نحو ذلك من صور الظلامات المادية أو المعنوية.
و الظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس،و قد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي و الأهوال،مما جهّم الحياة،و وسمها بطابع كئيب رهيب.
و الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام و منبع الشرور،و داعية الفساد و الدمار.
و قد تكاثرت الآيات و الأخبار بذمه و التحذير منه.
قال تعالي: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ (3).
********
(1) سفينة البحار ج 2 ص 570 بتصرف.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 606 عن النهج.
(3) الأنعام:21.
ص: 78
إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (1) .
وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ (2) .
إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (3) .
وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا (4) .
و قال تعالي: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ،إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (5).
و قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ، وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (6).
و قال أمير المؤمنين(ع):«و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها،علي أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت،و إن دنياكم لأهون عليّ من ورقة في فم جرادة،ما لعليّ و نعيم يفني و لذة لا تبقي» (7).و عن أبي بصير قال:«دخل رجلان علي أبي عبد اللّه(ع)في مداراة بينهما و معاملة،فلما أن سمع كلامهما قال:أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم،أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم.ثم قال:من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به،أما إنه إنما يحصد ابن آدم ما يزرع، و ليس يحصد أحد من المرّ حلوا،و لا من الحلوا مرا،فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما» (8).
و قال(ع):«من أكل مال أخيه ظلما و لم يرده إليه،أكل جذوة من النار يوم القيامة» (9).
********
(1) الأنعام:144.
(2) آل عمران:57.
(3) ابراهيم:22.
(4) يونس:13.
(5) ابراهيم:42.
(6) يونس:54.
(7) نهج البلاغة.
(8) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(9) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
ص: 79
و قال الصادق(ع):«من ظلم سلّط اللّه عليه من يظلمه،أو علي عقبه، أو علي عقب عقبه».
قال(الراوي):يظلم هو فيسلط علي عقبه؟فقال:إن اللّه تعالي يقول:
وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ، وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (النساء:9) (1).
و تعليلا للخبر الشريف:أن مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء إنما هو في الأبناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب،ففي مؤاخذتهم زجر عاطفي رهيب،يردع الظالم عن العدوان خشية علي أبنائه الأعزاء،و بشارة للمظلوم علي معالجة ظالمه بالانتقام،مشفوعة بثواب ظلامته في الآخرة.
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«من أصبح لا يهم بظلم غفر اللّه له ما اجترم» (2).
أي ما اجترم من الذنوب التي بينه و بين اللّه عز و جل في ذلك اليوم.
إلي كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.
يتنوع الظلم صورا نشير إليها إشارة لامحة:
1-ظلم الإنسان نفسه:
و ذلك بإهمال توجيهها إلي طاعة اللّه عز و جل،و تقويمها بالخلق الكريم، و السلوك الرضي،مما يزجها في متاهات الغواية و الضلال،فتبوء آنذاك بالخيبة و الهوان.
وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (3) .
********
(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(3) الشمس:(7-10).
ص: 80
2-ظلم الإنسان عائلته:
و ذلك بإهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة،و إغفال توجيههم وجهة الخير و الصلاح،و سياستهم بالقسوة و العنف،و التقتير عليهم بضرورات الحياة و لوازم العيش الكريم،مما يوجب تسيبهم و بلبلة حياتهم،ماديا و أدبيا.
3-ظلم الإنسان ذوي قرباه:
و ذلك بجفائهم و خذلانهم في الشدائد و الأزمات،و حرمانهم من مشاعر العطف و البر،مما يبعث علي تناكرهم و تقاطعهم.
4-ظلم الإنسان للمجتمع:
و ذلك بالاستعلاء علي أفراده و بخس حقوقهم،و الاستخفاف بكراماتهم، و عدم الاهتمام بشؤونهم و مصالحهم.و نحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع و ضعف طاقاته.
و أبشع المظالم الاجتماعية،ظلم الضعفاء،الذين لا يستطيعون صد العدوان عنهم،و لا يملكون إلاّ الشكاة و الضراعة إلي العدل الرحيم في أساهم، و ظلاماتهم.
فعن الباقر(ع)قال:لما حضر علي بن الحسين(ع)الوفاة،ضمني إلي صدره،ثم قال:«يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة،و بما ذكر أن أباه أوصاه به،قال:يا بني إياك و ظلم من لا يجد عليك ناصرا إلاّ اللّه تعالي» (1).
5-ظلم الحكام و المتسلطين:
و ذلك باستبدادهم،و خنقهم حرية الشعوب،و امتهان كرامتها،و ابتزاز أموالها،و تسخيرها لمصالحهم الخاصة.
من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم و أشدّها نكرا،و أبلغها ضررا في كيان الأمة و مقدراتها.
********
(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
ص: 81
قال الصادق(ع):«إن اللّه تعالي أوحي إلي نبي من الأنبياء،في مملكة جبار من الجبابرة:أن إئت هذا الجبار فقل له:إني لم استعملك علي سفك الدماء،و اتخاذ الأموال،و إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين،فإني لن أدع ظلامتهم و إن كانوا كفارا» (1).
و عن الصادق عن آبائه عن النبي(ص)أنه قال:«تكلم النار يوم القيامة ثلاثة:أميرا،و قارئا،و ذا ثروة من المال.
فتقول للأمير:يا من وهب اللّه له سلطانا فلم يعدل،فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
و تقول للقاريء:يا من تزين للناس و بارز اللّه بالمعاصي فتزدرده.
و تقول للغني:يا من وهب اللّه له دنيا كثيرة واسعة فيضا،و سأله الحقير اليسير قرضا فأبي إلا بخلا فتزدرده» (2).
و ليس هذا الوعيد الرهيب مقصورا علي الجائرين فحسب،و إنما يشمل من ضلع في ركابهم،و ارتضي أعمالهم،و أسهم في جورهم،فإنه و إياهم سواسية في الإثم و العقاب،كما صرحت بذلك الآثار:
قال الصادق(ع):«العامل بالظلم،و المعين له،و الراضي به،شركاء ثلاثتهم» (3).
لذلك كانت نصرة المظلوم،و حمايته من عسف الجائرين،من أفضل الطاعات،و أعظم القربات إلي اللّه عز و جل،و كان لها وقعها الجميل،و آثارها الطيبة في حياة الإنسان المادية و الروحية.
قال الإمام الكاظم عليه السّلام لابن يقطين:«إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثا،إضمن لي أن لا تلقي أحدا من موالينا في دار الخلافة إلا بقضاء حاجته،أضمن لك أن لا يصيبك حدّ السيف أبدا،و لا يظللك سقف سجن
********
(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(2) البحار م 16 ص 209 عن الخصال للصدوق(ره).
(3) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
ص: 82
أبدا،و لا يدخل الفقر بيتك أبدا» (1).
و قال أبو الحسن(ع):«إن للّه جل و عزّ مع السلطان أولياء،يدفع بهم عن أوليائه».
و في خبر آخر:«أولئك عتقاء اللّه من النار» (2).
و قال الصادق(ع):«كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الأخوان» (3).
و عن محمد بن جمهور و غيره من أصحابنا قال:كان النجاشي-و هو رجل من الدهاقين-عاملا علي الأهواز و فارس،فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه (ع):إن في ديوان النجاشي عليّ خراجا،و هو ممن يدين بطاعتك،فإن رأيت أن تكتب لي إليه كتابا.قال:فكتب إليه أبو عبد اللّه:«بسم اللّه الرحمن الرحيم سر أخاك يسرك اللّه».
فلما ورد عليه الكتاب و هو في مجلسه،فلما خلا ناوله الكتاب و قال:هذا كتاب أبي عبد اللّه(ع)،فقبله و وضعه علي عينيه ثم قال:ما حاجتك؟فقال:
عليّ خراج في ديوانك.قال له:كم هو؟قال:هو عشرة آلاف درهم.
قال:فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه،ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل،ثم قال له:هل سررتك؟قال:نعم.قال:فأمر له بعشرة آلاف درهم أخري فقال له:هل سررتك؟قال:نعم جعلت فداك.فأمر له بمركب،ثم أمر له بجارية و غلام،و تخت ثياب،في كل ذلك يقول:هل سررتك؟فكلما قال:
نعم،زاده حتي فرغ،فقال له:إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا فيه حين دفعت إليّ كتاب مولاي فيه،و ارفع إليّ جميع حوائجك.قال:ففعل، و خرج الرجل فصار إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام،فحدثه بالحديث علي جهته، فجعل يستبشر بما فعله.
قال له الرجل:يا بن رسول اللّه قد سرّك ما فعل بي؟قال:إي و اللّه،لقد سرّ اللّه و رسوله (4).
********
(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 124.
(2) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.
(4) الوافي ج 10 ص 28 عن الكافي.
ص: 83
بديهي أنّ استبشاع الظلم و استنكاره،فطري في البشر،تأباه النفوس الحرّة،و تستميت في كفاحه و قمعه،و ليس شيء أضرّ بالمجتمع،و أدعي إلي تسيبه و دماره من شيوع الظلم و انتشار بوائقه فيه.
فالإغضاء عن الظلم يشجع الطغاة علي التمادي في الغيّ و الإجرام،و يحفّز الموتورين علي الثأر و الانتقام،فتشيع بذلك الفوضي،و ينتشر الفساد،و تغدو الحياة مسرحا للجرائم و الآثام،و في ذلك انحلال الأمم،و فقد أمنها و رخائها، و انهيار مجدها و سلطانها.
من العسير جدا علاج الظلم،و اجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس،بيد أن من الممكن تخفيف جماحه،و تلطيف حدته،و ذلك بالتوجيهات الآتية.
1-التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل،و جميل آثاره في حياة الأمم و الأفراد،من إشاعة السّلام،و نشر الوئام و الرخاء.
2-الاعتبار بما عرضناه من مساويء الظلم و جرائره المادية و المعنوية.
3-تقوية الوازع الديني،و ذلك بتربية الضمير و الوجدان،و تنويرهما بقيم الإيمان و مفاهيمه الهادفة الموجهة.
4-استقراء سير الطغاة و ما عانوه من غوائل الجور و عواقبه الوخيمة.
جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحجلان:أن بعض مقدّمي الأكراد حضر علي سماط بعض الأمراء،و كان علي السماط حجلتان مشويتان،فنظر الكردي إليهما و ضحك،فسأله الأمير عن ذلك،فقال:قطعت الطريق في عنفوان شبابي علي تاجر فلما أردت قتله،تضرّع فما أفاد تضرعه،فلما رآني أقتله لا محالة،التفت إلي حجلتين كانتا في الجبل،فقال:إشهدا عليه إنه قاتلي،فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه،فقال الأمير:قد شهدتا،ثم أمر بضرب عنقه (1).
********
(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 21.
ص: 84
و في سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي:أنّ عبد الملك بن مروان أرق ليلة، فاستدعي سميرا له يحدثه،فكان فيما حدّثه أن قال:يا أمير المؤمنين،كان بالموصل بومة،و بالبصرة بومة،فخطبت بومة الموصل إلي بومة البصرة بنتها لابنها،فقالت بومة البصرة:لا أفعل إلاّ أن تجعلي صداقها مائة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل:لا أقدر علي ذلك الآن،و لكن إن دام و الينا علينا،سلمه اللّه تعالي سنة واحدة فعلت ذلك،فاستيقظ عبد الملك،و جلس للمظالم، و أنصف الناس بعضهم من بعض،و تفقد أمر الولاة (1).
الإخلاص:ضد الرياء،و هو صفاء الأعمال من شوائب الرياء،و جعلها خالصة للّه تعالي.
و هو قوام الفضائل،و ملاك الطاعة،و جوهر العبادة،و مناط صحة الأعمال،و قبولها لدي المولي عز و جل.
و قد مجدّته الشريعة الإسلامية،و نوّهت عن فضله،و شوقت إليه،و باركت جهود المتحلين به في طائفة من الآيات و الأخبار:
قال تعالي: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2).
و قال سبحانه: فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (3).
و قال عز و جل: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (4).
و قال النبي(ص):«من أخلص للّه أربعين يوما،فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه» (5).
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 110.
(2) الكهف:110.
(3) الزمر(2-3).
(4) البينة:5.
(5) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لا بن فهد.
ص: 85
و قال الإمام الجواد(ع):«أفضل العبادة الإخلاص» (1).
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:قال أمير المؤمنين(ع):«الدنيا كلها جهل إلا مواضع العلم،و العلم كله جهل إلا ما عمل به،و العمل كله رياء إلا ما كان مخلصا،و الإخلاص علي خطر،حتي ينظر العبد بما يختم له» (2).
و قال النبي(ص):«يا أبا ذر لا يفقه الرجل كل الفقه،حتي يري الناس في جنب اللّه أمثال الأباعر،ثم يرجع إلي نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها» (3).
تتفاوت قيم الأعمال،بتفاوت غاياتها و البواعث المحفزة عليها،و كلما سمت الغاية،و طهرت البواعث من شوائب الغش و التدليس و النفاق،كان ذلك أزكي لها،و أدعي إلي قبولها لدي المولي عز و جل.
و ليس الباعث في عرف الشريعة الإسلامية إلاّ(النيّة)المحفزّة علي الأعمال،فمتي استهدفت الإخلاص للّه تعالي،و صفت من كدر الرياء نبلت و سعدت بشرف رضوان اللّه و قبوله،و متي شابها الخداع و الرياء،باءت بسخطه و رفضه.
لذلك كان الإخلاص حجرا أساسيا في كيان العقائد و الشرائع،و شرطا واقعيا لصحة الأعمال،إذ هو نظام عقدها،و رائدها نحو طاعة اللّه تعالي و رضاه.
و ناهيك في فضل الإخلاص أنه يحرر المرء من إغواء الشيطان و أضاليله فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
و حيث كان الإخلاص هو المنار الساطع،الذي ينير للناس مناهج الطاعة
********
(1) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد.
(2) البحار م 15 ص 85 عن الأمالي و التوحيد للصدوق.
(3) الوافي ج 14 ص 54 في وصية النبي(ص)لأبي ذر.
ص: 86
الحقة،و العبودية الصادقة،كان الشيطان ولوعا دؤوبا علي إغوائهم و تضليلهم بصنوف الأماني و الآمال الخادعة:كحب السمعة و الجاه،و كسب المحامد و الأمجاد،و تحري الأطماع المادية التي تمسخ الضمائر و تمحق الأعمال،و تذرها قفرا يبابا من مفاهيم الجمال و الكمال و حلاوة العطاء.
و قد يكون إيحاء الشيطان بالرياء هامسا خفيفا ماكرا،فيمارس الإنسان الطاعة و العبادة بدافع الإخلاص،و لو محصها و أمعن فيها وجدها مشوبة بالرياء.
و هذا من أخطر المزالق،و أشدها خفاء و خداعا،و لا يتجنبها إلا الأولياء الأفذاذ.
كما حكي عن بعضهم أنه قال:«قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد جماعة في الصف الأول،و لكنيّ تأخرت يوما لعذر،و صليت في الصف الثاني،فاعترتني خجلة من الناس،حيث رأوني في الصف الثاني،فعرفت أنّ نظر الناس إليّ في الصف الأول كان يسرني،و كان سبب استراحة قلبي.
نعوذ باللّه من سبات الغفلة،و خدع الرياء و الغرور.من أجل ذلك يحرص العارفون علي كتمان طاعاتهم و عباداتهم،خشية من تلك الشوائب الخفية.
فقد نقل:أن بعض العباد صام أربعين سنة لم يعلم به أحد من الأباعد و الأقارب،كان يأخذ غذاءه فيتصدق به في الطريق،فيظن أهله أنه أكل في السوق،و يظن أهل السوق أنه أكل في البيت.
بواعث الإخلاص و محفزاته عديدة تلخصها النقاط التالية:
1-استجلاء فضائل الإخلاص السالفة،و عظيم آثاره في دنيا العقيدة و الإيمان.
2-إن أهم بواعث الرياء و أهدافه استثارة إعجاب الناس،و كسب رضاهم،و بديهي أن رضا الناس غاية لا تدرك،و أنهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم،فضلا عن غيرهم،و أن المسعد الحق هو اللّه تعالي الذي بيده أزمة
ص: 87
الأمور،و هو علي كل شيء قدير،فحري بالعاقل أن يتجه إليه و يخلص الطاعة و العبادة له.
3-إن الرياء و الخداع سرعان ما ينكشفان للناس،و يسفران عن واقع الإنسان،مما يفضح المرائي و يعرضه للمقت و الإزدراء.
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا التحفت به فإنك عاري
فعلي المرء أن يتسم بصدق الإخلاص،و جمال الطوية،ليكون مثلا رفيعا للاستقامة و الصلاح.
فقد جاء في الآثار السالفة:«إن رجلا من بني إسرائيل قال:لأعبدن اللّه عبادة أذكر بها،فمكث مدة مبالغا في الطاعات،و جعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا:متصنع مراء،فأقبل علي نفسه و قال:قد أتعبت نفسك،و ضيعت عمرك في لا شيء،فينبغي أن تعمل للّه سبحانه،و أخلص عمله للّه،فجعل لا يمر بملأ من الناس إلاّ قالوا ورع تقي».
و هو:طلب الجاه و الرفعة في نفوس الناس،بمراءاة أعمال الخير.
و هو من أسوأ الخصال،و أفظع الجرائم،الموجبة لعناء المرائي و خسرانه و مقته،و قد تعاضدت الآيات و الأخبار علي ذمّه و التحذير منه.
قال تعالي في وصف المنافقين: يُراؤُنَ النّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً (1).
و قال تعالي: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ،فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً،وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2).
و قال سبحانه: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ (3).
********
(1) النساء:142.
(2) الكهف:110.
(3) البقرة:264.
ص: 88
و قال الصادق(ع):«كل رياء شرك،إنه من عمل للناس كان ثوابه علي الناس،و من عمل للّه كان ثوابه علي اللّه» (1).
و قال(ع):«ما من عبد يسر خيرا،إلا لم تذهب الأيام حتي يظهر اللّه له خيرا،و ما من عبد يسر شرا إلاّ لم تذهب الأيام حتي يظهر اللّه له شرا» (2).
و عنه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«سيأتي علي الناس زمان تخبث فيه سرائرهم،و تحسن فيه علانيتهم،طمعا في الدنيا،لا يريدون به ما عند ربهم، يكون دينهم رياءا،لا يخالطهم خوف،يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم» (3).
و عن موسي بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه (ص):«يؤمر برجال إلي النار،فيقول اللّه جل جلاله لمالك:قل للنار لا تحرق لهم أقداما،فقد كانوا يمشون إلي المساجد،و لا تحرق لهم وجها،فقد كانوا يسبغون الوضوء،و لا تحرق لهم أيديا،فقد كانوا يرفعونها بالدعاء،و لا تحرق لهم ألسنا،فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن.قال:فيقول لهم خازن النار:يا أشقياء ما كان حالكم؟قالوا:كنّا نعمل لغير اللّه عز و جل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممن عملتم له» (4).
ينقسم الرياء أقساما تلخصها النقاط التالية:
1-الرياء بالعقيدة:بإظهار الإيمان و إسرار الكفر،و هذا هو النفاق و هو أشدها نكرا و خطرا علي المسلمين،لخفاء كيده،و تستره بظلام النفاق.
2-الرياء بالعبادة مع صحة العقيدة.و ذلك بممارسة العبادات أمام ملأ
********
(1) الوافي ج 3 ص 137 عن الكافي.
(2) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي.
(3) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي،و دعاء الغريق:أي كدعاء المشرف علي الغرق،فإن الإخلاص و الانقطاع فيه إلي اللّه عز و جل أكثر من سائر الأدعية.
(4) البحار م 15 بحث الرياء ص 53 عن علل الشرائع و ثواب الأعمال.
ص: 89
الناس،مراءاة لهم،و نبذها في الخلوة و السر،كالتظاهر بالصلاة،و الصيام، و إطالة الركوع و السجود و التأنّي بالقراءة و الأذكار و ارتياد المساجد،و شهود الجماعة،و نحوه من صور الرياء،في صميم العبادة أو مكملاتها،و هنا يغدو المرائي أشد إثما من تارك العبادة،لاستخفافه باللّه عز و جل،و تلبيسه علي الناس.
3-الرياء بالأفعال:كالتظاهر بالخشوع،و تطويل اللحية،و وسم الجبهة بأثر السجود،و ارتداء الملابس الخشنة و نحوه من مظاهر الزهد و التقشف الزائفة.
4-الرياء بالأقوال،كالتشدق بالحكمة،و المراءاة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و التذكير بالثواب و العقاب مداجاة و خداعا.
للرياء أسباب و دواع نجملها فيما يلي:
1-حب الجاه،و هو من أهم أسباب المراءاة و دواعيه.
2-خوف النقد،و هو دافع علي المراءاة بالعبادة،و أعمال الخير،خشية من قوارص الذم و النقد.
3-الطمع،و هو من محفزات الرياء و أهدافه التي يستهدفها الطامعون، إشباعا لأطماعهم.
4-التستر:و هو باعث علي تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة، إخفاءا لجرائمهم،و تسترا عن الأعين.
و لا ريب أن تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان،و أشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس،أعاذنا اللّه منها جميعا.
و لا بد من استعراض بعض الحقائق و الكشف عنها إتماما للبحث:
ص: 90
1-إختلفت أقوال المحققين،في أفضلية إخفاء الطاعة أو إعلانها.
و مجمل القول في ذلك،إن الأعمال بالنيات،و أن لكل امريء ما نوي،فما صفا من الرياء فسواء إعلانه أو إخفاؤه،و ما شابه الرياء فسيان إظهاره أو إسراره.
و قد يرجح الإسرار أحيانا للذين لا يطيقون مدافعة الرياء لشدة بواعثه في الإعلان.كما يرجح إعلان الطاعة،إن خلصت من شوائب الرياء،و قصد به غرض صحيح كالترغيب في الخير و الحث علي الاقتداء.
2-و من استهدف الإخلاص في طاعته و عبادته،ثم اطلع الناس عليها، و سرّ باطلاعهم و اغتبط،فلا يقدح ذلك في إخلاصه،إن كان سروره نابعا عن استشعاره بلطف اللّه تعالي،و إظهار محاسنه و الستر علي مساوئه تكرما منه عز و جل.
و قد سئل الإمام الباقر عليه السّلام عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك،فقال:«لا بأس،ما من أحد إلا و هو يحب أن يظهر اللّه له في الناس الخير،إذا لم يكن صنع ذلك لذلك» (1).
3-و حيث كان الشيطان مجدا في إغواء الناس،و صدّهم عن مشاريع الخير و الطاعة،بصنوف الكيد و الإغواء،لزم الحذر و التوقي منه،فهو يسوّل للناس ترك الطاعة و نبذ العبادة،فإن عجز عن ذلك أغراهم بالرياء،و حببه إليهم،فإن أخفق في هذا و ذاك،ألقي في خلدهم أنهم مراؤون و أعمالهم مشوبة بالرياء،ليسوّل لهم نبذها و إهمالها.
فيجب و الحالة هذه طرده،و عدم الاكتراث بخدعه و وساوسه،إذ المخلص لا تضره هذه الخواطر و الأوهام.
فعن الصادق عن أبيه عليهما السّلام:إن النبي قال:«إذا أتي الشيطان أحدكم و هو في صلاته فقال:إنك مرائي،فليطل صلاته ما بدا له،ما لم يفته
********
(1) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي.
ص: 91
وقت فريضة،و إذا كان علي شيء من أمر الآخرة فليتمكث ما بدا له،و إذا كان علي شيء من أمر الدنيا فليسترح...» (1).
الرياء من السجايا الذميمة،و الخلال المقيتة،الدّالة علي ضعة النفس، و سقم الضمير،و غباء الوعي،إذ هو الوسيلة الخادعة المدجلة التي يتخذها المتلونون،و المنحرفون ذريعة لأهدافهم و مآربهم دونما خجل و استحياء من هوانها و مناقضتها لصميم الدين و الكرامة و الإباء.
و حسب المرائي ذمّا أنه اقترف جرمين عظيمين:
تحدّي اللّه عز و جل،و استخف بجلاله،بإيثار عباده عليه في الزلفي و التقرب،و مخادعة الناس و التلبس عليهم بالنفاق و الرياء.
و مثل المرائي في صفاقته و غبائه،كمن وقف أزاء ملك عظيم مظهرا له الولاء و الإخلاص،و هو رغم موقفه ذلك يخاتل الملك بمغازلة جواريه أو استهواء غلمانه.
أ ليس هذا حريا بعقاب الملك و نكاله الفادحين علي تلصصه و استهتاره.
و لا ريب أنّ المرائي أشدّ جرما و جناية من ذلك،لاستخفافه باللّه عز و جل،و مخادعة عبيده،و المرائي بعد هذا حليف الهم و العناء،يستهوي قلوب الناس،و يتملق رضاهم،و رضاهم غاية لا تنال،فيعود بعد طول المعاناة خائبا، شقيا،سليب الكرامة و الدين.
و من الثابت أنّ سوء السريرة سرعان ما ينعكس علي المرء،و يكشف واقعه،و يبوء بالفضيحة و الخسران.
و مهما تكن عند امريء من خليقة و إن خالها تخفي علي الناس تعلم
و قد أعرب النبي(ص)عن ذلك قائلا:«من أسرّ سريرة ردّأه اللّه رداءها،إن خيرا فخير،و إن شرا فشر» (2).
********
(1) البحار م 15 ص 53 عن قرب الإسناد.
(2) الوافي ج 3 ص 147 من خبر عن الكافي.
ص: 92
و بعد أن عرفنا طرفا من مساويء الرياء،يجدر بنا أن نعرض أهم النصائح الأخلاقية في علاجه و ملافاته،و قد شرحت في بحث الإخلاص طرفا من مساويء الرياء و محاسن الإخلاص فراجعه هناك.
و ذلك برعاية النصائح المجملة التالية:
1-محاكمة الشيطان،و إحباط مكائده و نزعاته المرائية،بأسلوب منطقي يقنع النفس،و يرضي الوجدان.
2-زجر الشيطان و طرد هواجسه في المراءاة طردا حاسما،و الاعتماد علي ما انطوي عليه المؤمن من حبّ الإخلاص،و مقت الرياء.
3-تجنب مجالات الرياء و مظاهره،و ذلك بإخفاء الطاعات و العبادات و سترها عن ملأ الناس،ريثما يثق الإنسان بنفسه،و يحرز فيها الإخلاص.
و من طرائف الرياء و المرائين ما قيل:
إن أعرابيا دخل المسجد،فرأي رجلا يصلي بخشوع و خضوع،فأعجبه ذلك،فقال له:نعم ما تصلي.
قال:و أنا صائم،فإن صلاة الصائم،تضعف صلاة المفطر.
فقال له الأعرابي:تفضل و احفظ ناقتي هذه،فإن لي حاجة حتي أقضيها.
فخرج لحاجته،فركب المصلي ناقته و خرج،فلما قضي الأعرابي حاجته،رجع فلم يجد الرجل و لا الناقة،و طلبه فلم يقدر عليه،فخرج و هو يقول:
صلي فأعجبني و صام فرامني منح القلوص عن المصلي الصائم
و صلي أعرابيّ فخفف صلاته،فقام إليه علي(ع)بالدرة و قال:أعدها، فلما فرغ قال:أ هذه خير أم الأولي؟قال:بل الأولي قال:و لم؟قال:لأن الأولي للّه و هذه للدّرة.
ص: 93
و هو استعظام الإنسان نفسه،لاتصافه بخلة كريمة،و مزية مشرّفة،كالعلم و المال و الجاه و العمل الصالح.
و يتميز العجب عن التكبر،بأنه استعظام النفس مجردا عن التعالي علي الغير،و التكبر هما معا.
و العجب من الصفات المقيتة،و الخلال المنفّرة،الدّالة علي ضعة النفس، و ضيق الأفق،و صفاقة الأخلاق،و قد نهت الشريعة عنه،و حذّرت منه.
قال تعالي: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقي (1).
و قال الصادق(ع):«من دخله العجب هلك» (2).
و عنه(ع)قال:«قال إبليس لعنه اللّه لجنوده:إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل،فإنه غير مقبول منه،إذا استكثر عمله،و نسي ذنبه، و دخله العجب» (3).
و قال الباقر(ع):«ثلاث هن قاصمات الظهر:رجل استكثر عمله،و نسي ذنوبه،و أعجب برأيه» (4).
و قال الصادق(ع):«أتي عالم عابدا فقال له:كيف صلاتك؟فقال:مثلي يسأل عن صلاته؟و أنا أعبد اللّه تعالي منذ كذا و كذا،قال:فكيف بكاؤك؟ قال:أبكي حتي تجري دموعي.فقال له العالم:فإن ضحكك و أنت خائف خير (أفضل خ ل)من بكائك و أنت مدل،إنّ المدّل لا يصعد من عمله شيء» (5).
و عن أحدهما عليهما السّلام،قال:«دخل رجلان المسجد أحدهما عابد و الآخر فاسق،فخرجا من المسجد و الفاسق صدّيق،و العابد فاسق،و ذلك:
********
(1) النجم:32.
(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.
(4) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.
(5) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
ص: 94
أنه يدخل العابد المسجد مدّلا بعبادته،يدّل بها،فتكون فكرته في ذلك،و تكون فكرة الفاسق في الندم علي فسقه،و يستغفر اللّه تعالي لما ذكر من الذنوب» (1).
و عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال:«قال رسول اللّه(ص):
لو لا أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب،ما خلّي اللّه بين عبده المؤمن و بين ذنب أبدا» (2).
و الجدير بالذكر:أنّ العجب الذميم هو استكثار العمل الصالح، و الإدلال به،أما السرور به مع التواضع للّه تعالي،و الشكر له علي توفيقه لطاعته،فذلك ممدوح و لا ضير فيه.
للعجب أضرار و مساويء:
1-إنه سبب الأنانية و التكبر،فمن أعجب بنفسه ازدهاه العجب،و تعالي علي الناس،و تجبّر عليهم،و ذلك يسبب مقت الناس و هوانهم له.
2-إنه يعمي صاحبه عن نقائصه و مساوئه،فلا يهتم بتجميل نفسه، و ملافاة نقائصه،مما يجعله في غمرة الجهل و التخلف.
3-إنه باعث علي استكثار الطاعة،و الإدلال بها،و تناسي الذنوب و الآثام،و في ذلك أضرار بليغة،فتناسي الذنوب يعيق عن التوبة و الإنابة إلي اللّه عز و جل منها،و يعرّض ذويها لسخطه و عقابه،و استكثار الطاعة و العبادة يكدّرها بالعجب و التعامي عن آفاتها،فلا تنال شرف الرضا و القبول من المولي عز و جل.
و حيث كان العجب و التكبر صنوان من أصل واحد،و إن اختلفا في الاتجاه،فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجردا عن التعالي،و التكبر هما
********
(1) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 3 بحث العجب عن أمالي أبي علي بن الشيخ الطوسي.
ص: 95
معا،فعلاجهما واحد،و قد أوضحناه في بحث التكبر.
و جدير بالمعجب بنفسه،أن يدرك أن جميع ما يبعثه علي الزهو و الإعجاب من صنوف الفضائل و المزايا،إنما هي نعم إلهية يسديها المولي إلي من شاء من عباده،فهي أحري بالحمد،و أجدر بالشكر من العجب و الخيلاء.
و هي إلي ذلك عرضة لصروف الأقدار،و عوادي الدهر،فما للإنسان و العجب!!
و من طريف ما نقل عن بعض الصلحاء في ملافاة خواطر العجب:
قيل:إن بعضهم خرج في جنح الظلام متجها إلي بعض المشاهد المشرفة، لأداء مراسم العبادة و الزيارة،فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجب بخروجه سحرا،و مجافاته لذة الدفء و حلاوة الكري من أجل العبادة.
فلاح له آنذاك،بائع شلغم فانبري نحوه،فسأله كم تربح في كسبك و عناء خروجك في هذا الوقت؟فأجابه:در همين أو ثلاث،فرجع إلي نفسه مخاطبا لها علام العجب؟و قيمة إسحاري لا تزيد عن درهمين أو ثلاث.
و نقل عن آخر:أنه عمل في ليلة القدر أعمالا جمة من الصلوات و الدعوات و الأوراد،استثارت عجبه،فراح يعالجه بحكمة و سداد:فقال لبعض المتعبدين:كم تتقاضي علي القيام بأعمال هذه الليلة،و هي كيت و كيت.فقال:
نصف دينار،فرجع إلي نفسه مؤنبا لها و موحيا إليها،علام العجب و قيمة أعمالي كلها نصف دينار؟
و هو:الاعتقاد بأصول الدين و ضروراته،اعتقادا ثابتا،مطابقا للواقع،لا تزعزعه الشبه،فإن لم يطابق الواقع فهو جهل مركب.
و اليقين هو غرّة الفضائل النفسية،و أعزّ المواهب الإلهيّة،و رمز الوعي و الكمال،و سبيل السعادة في الدارين.و قد أولته الشريعة اهتماما بالغا و مجّدت ذويه تمجيدا عاطرا،و إليك طرفا منه:
ص: 96
قال الصادق(ع):«إنّ الإيمان أفضل من الإسلام،و إنّ اليقين أفضل من الإيمان،و ما من شيء أعزّ من اليقين» (1).
و قال(ع):«إنّ العمل الدائم القليل علي اليقين،أفضل عند اللّه من العمل الكثير علي غير يقين» (2).
و قال الصادق(ع):«من صحة يقين المرء المسلم،أن لا يرضي الناس بسخط اللّه،و لا يلومهم علي ما لم يأته اللّه،فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص،و لا يردّه كراهية كاره،و لو أن أحدكم فرّ من رزقه كما يفر من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت».
ثم قال:«إنّ اللّه بعدله و قسطه جعل الروح و الراحة في اليقين و الرضا، و جعل الهمّ و الحزن في الشك و السخط» (3).
و عنه(ع)قال:كان أمير المؤمنين(ع)يقول:«لا يجد عبد طعم الإيمان، حتي يعلم أنّ ما أصابه،لم يكن ليخطئه،و إنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه،و إن الضار النافع هو اللّه تعالي» (4).
و سئل الإمام الرضا(ع)عن رجل يقول بالحق و يسرف علي نفسه، يشرب الخمر و يأتي الكبائر،و عن رجل دونه في اليقين و هو لا يأتي ما يأتيه،فقال (ع):أحسنهما يقينا كالنائم علي المحجة،إذا انتبه ركبها،و الأدون الذي يدخله الشك كالنائم علي غير طريق،لا يدري إذا انتبه أيّهما المحّجة» (5).
و قال الصادق(ع):إن رسول اللّه(ص)صلي بالناس الصبح،فنظر إلي شاب في المسجد و هو يخفق و يهوي برأسه،مصفرا لونه،قد نحف جسمه، و غارت عيناه في رأسه،فقال له رسول اللّه:كيف أصبحت يا فلان؟قال:
********
(1) البحار م 15 ج 2 ص 57 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 60 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.
(5) سفينة البحار ج 2 ص 734 عن فقه الرضا.
ص: 97
أصبحت يا رسول اللّه موقنا،فعجب رسول اللّه من قوله،و قال له:إن لكل يقين حقيقة،فما حقيقة يقينك؟
فقال:إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني،و أسهر ليلي،و أظمأ هواجري،فعزفت نفسي عن الدنيا و ما فيها،حتي كأني أنظر إلي عرش ربي، و قد نصب للحساب،و حشر الخلائق لذلك،و أنا فيهم،و كأني أنظر إلي أهل الجنة يتنعمون في الجنة و يتعارفون،علي الأرائك متكئون،و كأني أنظر إلي أهل النار و هم فيها معذّبون،مصطفون،و كأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.
فقال رسول اللّه(ص)لأصحابه:هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان،ثم قال له:إلزم ما أنت عليه،فقال الشاب:ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن أرزق الشهادة معك،فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر» (1).
متي ازدهرت النفس باليقين،و استنارت بشعاعه الوّهاج،عكست علي ذويها ألوانا من الجمال و الكمال النفسيين،و تسامت بهم إلي أوج روحي رفيع، يتألقون في آفاقه تألق الكواكب النيرة،و يتميزون عن الناس تميز الجواهر الفريدة من الحصا.
فمن أبرز خصائصهم و مزاياهم،أنك تجدهم دائبين في التحلي بمكارم الأخلاق،و محاسن الأفعال،و تجنب رذائلها و مساوئها،لا تخدعهم زخارف الحياة،و لا تلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم و مؤهلاتهم الروحية لنيل الدرجات الرفيعة،و السعادة المأمولة في الحياة الأخروية،فهم متفانون في طاعة اللّه عز و جل،ابتغاء رضوانه،و حسن مثوبته،متوكلون عليه،في سراء الحياة و ضرائها،لا يرجون و لا يخشون أحدا سواه،ليقينهم بحسن تدبيره و حكمة أفعاله.
********
(1) الوافي ج 3 ص 33 عن الكافي.
ص: 98
لذلك تستجاب دعواتهم،و تظهر الكرامات علي أيديهم،و ينالون شرف الحظوة و الرعاية من اللّه عز و جل.
و يحسن بي و أنا أتحدث عن اليقين أن أعرض طرفا من مفاهيم الإيمان و درجاته،و أنواعه إتماما للبحث و تنويرا للمؤمنين.
يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلا كبيرا،فمنهم المجلّي السباق في حلبة الإيمان،و منهم الواهن المتخلف،و منهم بين هذا و ذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:
قال الصادق(ع):«إن الإيمان عشر درجات،بمنزلة السلّم،يصعد منه مرقاة بعد مرقاة،فلا يقولن صاحب الإثنين لصاحب الواحد لست علي شيء، حتي ينتهي إلي العاشرة،فلا تسقط من هو دونك،فيسقطك من هو فوقك، و إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق،و لا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره،فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره» (1).
ينقسم الإيمان إلي ثلاثة أنواع:فطري،و مستودع،و كسبي.
1-فالفطري:هو ما كان هبة إلاهية،قد فطر عليه الإنسان،كما في الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام،فإنهم المثل الأعلي في قوة الإيمان،و سمو اليقين،لا تخالجهم الشكوك،و لا تعروهم الوساوس.
2-المستودع و هو:ما كان صوريّا طافيا علي اللسان،سرعان ما تزعزعه الشبه و الوساوس،كما قال الصادق(ع):«إن العبد يصبح مؤمنا،و يمسي كافرا، و يصبح كافرا،و يمسي مؤمنا،و قوم يعارون الإيمان ثم يلبسونه،و يسمون المعارين» (2).
********
(1) الوافي ج 3 ص 30 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
ص: 99
و قال(ع):«إن اللّه تعالي جبل النبيّين علي نبوتهم،فلا يرتّدون أبدا، و جبل الأوصياء علي وصاياهم فلا يرتدون أبدا،و جبل بعض المؤمنين علي الإيمان فلا يرتدون أبدا،و منهم من أعير الإيمان عارية،فإذا هو دعا و ألح في الدعاء مات علي الإيمان» (1).
و هكذا تعقب الإمام الصادق(ع)علي حديثيه السالفين بحديث ثالث بجعله مقياسا للتمييز بين الإيمان الثابت من المستودع،فيقول:إنّ الحسرة و الندامة و الويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره و لم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفع له أم ضرّ،قلت(الراوي)فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟
قال:«من كان فعله لقوله موافقا،فأثبت له الشهادة بالنجاة،و من لم يكن فعله لقوله موافقا،فإنما ذلك مستودع» (2).
3-الكسبي:و هو الإيمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه و استزاد رصيده حتي تكامل و سمي إلي مستوي رفيع،و له درجات و مراتب.
و إليك بعض الوصايا و النصائح الباعثة علي صيانة الجزء الفطري من الإيمان،و توفير الكسبي منه:
1-مصاحبة المؤمنين الأخيار،و مجانبة الشقاة و العصاة،فإن الصاحب متأثر بصاحبه و مكتسب من سلوكه و أخلاقه،كما قال الرسول الأعظم(ص):
«المرء علي دين خليله،فلينظر أحدكم من يخالل».
2-ترك النظر و الاستماع إلي كتب الضلال،و أقوال المضللين،المولعين بتسميم أفكار الناس و حرفهم عن العقيدة و الشريعة الإسلاميتين،و إفساد قيم الإيمان و مفاهيمه في نفوسهم.
3-ممارسة النظر و التفكر في مخلوقات اللّه عز و جل،و ما اتصفت به من جميل الصنع،و دقة النظام،و حكمة التدبير،الباهرة المدهشة وَ فِي الْأَرْضِ
********
(1) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
ص: 100
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (1) .
4-و من موجبات الإيمان و توفير رصيده،جهاد النفس،و ترويضها علي طاعة اللّه تعالي،و تجنب معاصيه،لتعمر النفس بمفاهيم الإيمان،و تشرق بنوره الوّضاء فهي كالماء الزلال،لا يزال شفافا رقراقا،ما لم تكدره الشوائب فيغدو آنذاك آسنا قاتما لا صفاء فيه و لا جمال.و لو لا صدأ الذنوب،و أوضار الآثام التي تنتاب القلوب و النفوس،فتجهم جمالها و تخبيء أنوارها،لاستنار الأكثرون بالإيمان،و تألقت نفوسهم بشعاعه الوّهاج. وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها» (2).
و قال الصادق(ع):«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء،فإن تاب إنمحت،و إن زاد زادت،حتي تغلب علي قلبه فلا يفلح بعدها أبدا» (3).
و هو:احتمال المكاره من غير جزع،أو بتعريف آخر هو:قسر النفس علي مقتضيات الشرع و العقل أوامرا و نواهيا،و هو دليل رجاحة العقل،و سعة الأفق،و سمو الخلق،و عظمة البطولة و الجلد،كما هو معراج طاعة اللّه تعالي و رضوانة،و سبب الظفر و النجاح،و الدرع الواقي من شماتة الأعداء و الحسّاد.
و ناهيك في شرف الصبر،و جلالة الصابرين،أن اللّه عز و جل،أشاد بهما،و باركهما في نيف و سبعين موطنا من كتابه الكريم:
بشّر الصابرين بالرضا و الحب،فقال تعالي: وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (4).
و وعدهم بالتأييد: وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (5).
********
(1) الذاريات(20-21).
(2) الشمس(7-10).
(3) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(4) آل عمران:146.
(5) الأنفال:46.
ص: 101
و منحهم الثواب الجم: إِنَّما يُوَفَّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (1).
و أغدق عليهم ألوان العناية و اللطف: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ،وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ،وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ، اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا:إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ،وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (2).
و هكذا تواترت أخبار أهل البيت عليهم السّلام في تمجيد الصبر و الصابرين:
قال الصادق(ع):«الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد،و كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان» (3).
و قال الباقر(ع):«الجنة محفوفة بالمكاره و الصبر،فمن صبر علي المكاره في الدنيا دخل الجنة،و جهنم محفوفة باللذات و الشهوات،فمن أعطي نفسه لذتها و شهوتها دخل النار» (4).
و قال(ع):«لما حضرت أبي الوفاة ضمني إلي صدره و قال:يا بني،إصبر علي الحق و إن كان مرّا،توف أجرك بغير حساب» (5).
و قال الصادق(ع):«من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له أجر ألف شهيد» (6).
و رب قائل يقول:كيف يعطي الصابر أجر ألف شهيد،و الشهداء هم أبطال الصبر علي الجهاد و الفداء؟
فالمراد:أن الصابر يستحق أجر أولئك الشهداء،و إن كانت مكافأتهم
********
(1) الزمر:10.
(2) البقرة:(155-157).
(3) الوافي:(ج 3 ص 65 عن الكافي).
(4) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(6) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي.
ص: 102
و ثوابهم علي اللّه تعالي أضعافا مضاعفة عنه.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:«من لم ينجه الصبر،أهلكه الجزع» (1).
ينقسم الصبر باعتبار ظروفه و مقتضياته أقساما أهمها:
(1)الصبر علي المكاره و النوائب،و هو أعظم أقسامه،و أجل مصاديقه الدالة علي سمو النفس،و تفتح الوعي،و رباطة الجأش،و مضاء العزيمة.
فالإنسان عرضة للمآسي و الأرزاء،تنتابه قسرا و اعتباطا،و هو لا يملك إزائها حولا و لا قوة،و خير ما يفعله الممتحن هو التذرع بالصبر،فإنه بلسم القلوب الجريحة،و عزاء النفوس المعذبة.
و لولاه لانهار الإنسان،و غدا صريع الأحزان و الآلام،من أجل ذلك حرضت الآيات و الأخبار علي التحلي بالصبر و الاعتصام به:
قال تعالي: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا:إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إن صبرت جري عليك القدر و أنت مأجور، و إن جزعت جري عليك القدر،و أنت مأزور» (3).
و مما يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود هو الصبر علي النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها و التخلص منها،كفقد عزيز،أو اغتصاب مال،أو اضطهاد عدو.
أما الاستسلام للنوائب،و الصبر عليها مع القدرة علي درئها و ملافاتها فذلك حمق يستنكره الإسلام،كالصبر علي المرض و هو قادر علي علاجه،و علي
********
(1) نهج البلاغة.
(2) البقرة(155-157).
(3) نهج البلاغة.
ص: 103
الفقر و هو يستطيع اكتساب الرزق،و علي هضم الحقوق و هو قادر علي استردادها و صيانتها.
و من الواضح أن ما يجرد المرء من فضيلة الصبر،و يخرجه عن التجلد،هو الجزع المفرط المؤدّي إلي شق الجيوب،و لطم الخدود،و الإسراف في الشكوي و التذمر.
أما الآلام النفسية،و التنفيس عنها بالبكاء،أو الشكاية من متاعب المرض و عنائه فإنّها من ضرورات العواطف الحية،و المشاعر النبيلة،كما قال(ص)عند وفاة ابنه ابراهيم:
(تدمع العين،و يحزن القلب،و لا نقول ما يسخط الرب).
و قد حكت لنا الآثار طرفا رائعا ممتعا من قصص الصابرين علي النوائب، مما يبعث علي الإعجاب و الإكبار،و حسن التأسي بأولئك الأفذاذ.
حكي أنّ كسري سخط علي بزرجمهر:فحبسه في بيت مظلم،و أمر أن يصفد بالحديد،فبقي أياما علي تلك الحال،فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر،مطمئن النفس،فقالوا له:أنت في هذه الحالة من الضيق و نراك ناعم البال.فقال:اصطنعت ستة أخلاط و عجنتها و استعملتها، فهي التي أبقتني علي ما ترون.قالوا:صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوي، فقال:نعم.
أما الخلط الأول:فالثقة باللّه عز و جل.
و أما الثاني:فكل مقدّر كائن.
و أما الثالث:فالصبر خير ما استعمله الممتحن.
و أما الرابع:فإذا لم أصبر فما ذا أصنع،و لا أعين علي نفسي بالجزع.
و أما الخامس:فقد يكون غيري أشدّ مما أنا فيه.
و أما السادس:فمن ساعة إلي ساعة فرج.
فبلغ ما قاله كسري فأطلقه و أعزّه» (1).
********
(1) سفينة البحار ج 2 ص 7.
ص: 104
و عن الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:«إن سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه:إن اللّه تبارك و تعالي قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي:سخّر لي الريح،و الإنس،و الجن،و الطير،و الوحش،و علمني منطق الطير،و آتاني من كل شيء،و مع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلي الليل،و قد أحببت أن أدخل قصري في غد،فأصعد أعلاه،و أنظر إلي ممالكي،فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلا يرد عليّ ما ينغص عليّ يومي.قالوا:فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده،و صعد إلي أعلي موضع من قصره،و وقف متكئا علي عصاه ينظر إلي ممالكه مسرورا بما أوتي،فرحا بما أعطي،إذ نظر إلي شاب حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره،فلمّا بصر به سليمان(ع) قال له:من أدخلك إلي هذا القصر،و قد أردت أن أخلو فيه اليوم،فبأذن من دخلت؟
فقال الشاب:أدخلني هذا القصر ربه،و بإذنه دخلت.
فقال:ربّه أحق به مني،فمن أنت؟
قال:أنا ملك الموت،قال:و فيما جئت؟
قال:جئت لأقبض روحك.
قال:إمض لما أمرت به،فهذا يوم سروري،و أبي اللّه أن يكون لي سرور دون لقائه.فقبض ملك الموت روحه و هو متكيء علي عصاه...» (1).
من الواضح أن النفوس مجبولة علي الجموح و الشرود من النظم الإلزامية و الضوابط المحددة لحريتها و انطلاقها في مسارح الأهواء و الشهوات،و إن كانت باعثة علي إصلاحها و إسعادها.
فهي لا تنصاع لتلك النظم،و الضوابط،إلا بالإغراء،و التشويق،أو الإنذار و الترهيب.و حيث كانت ممارسة طاعة اللّه عز و جل،و مجافاة عصيانه،
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون أخبار الرضا.
ص: 105
شاقين علي النفس كان الصبر علي الطاعة،و التصبر عن المعصية من أعظم الواجبات،و أجل القربات.
و جاءت الآيات الكريمة و أحاديث أهل البيت عليهم السّلام مشوّقة إلي الأولي و محذّرة من الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الصادق(ع):«اصبروا علي طاعة اللّه،و تصبروا عن معصيته،فإنما الدنيا ساعة،فما مضي فلست تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت فلست تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة،فكأنّك قد اغتبطت» (1).
و قال(ع):«إذا كان يوم القيامة،يقوم عنق من الناس،فيأتون باب الجنة فيضربونه،فيقال لهم:من أنتم؟فيقولون:نحن أهل الصبر.فيقال لهم:علي ما صبرتم؟فيقولون:كنّا نصبر علي طاعة اللّه،و نصبر عن معاصي اللّه،فيقول اللّه تعالي:صدقوا أدخلوهم الجنة،و هو قوله تعالي: إِنَّما يُوَفَّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (الزمر:10) (2).
و قال(ع):«الصبر صبران:فالصبر عند المصيبة،حسن جميل،و أفضل من ذلك الصبر عما حرّم اللّه عز و جل ليكون لك حاجزا» (3).
و هو:ضبط النفس عن مسولات البطر و الطغيان،و ذلك من سمات عظمة النفس،و رجاحة العقل،و بعد النظر.
فليس الصبر علي مآسي الحياة و أرزائها بأولي من الصبر علي مسراتها و أشواقها،و مفاتنها،كالجاه العريض،و الثراء الضخم،و السلطة النافذة،و نحو ذلك.حيث أن إغفال الصبر في الضراء يفضي إلي الجزع المدمّر،كما يؤدّي إهماله في السراء إلي البطر و الطغيان: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغي، أَنْ رَآهُ اسْتَغْني
********
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 65 عن الفقيه.
ص: 106
(العلق:6-7)و كلاهما ذميم مقيت.
و المراد بالصبر علي النعم هو:رعاية حقوقها،و استغلالها في مجالات العطف و الإحسان المادية،أو المعنوية:كرعاية البؤساء،و إغاثة المضطهدين، و الاهتمام بحوائج المؤمنين،و التوقي في مزالق البطر و التجبر.
و للصبر أنواع عديدة أخري:
فالصبر في الحرب:شجاعة،و ضدّه الجبن.
و الصبر عن الإنتقام:حلم،و ضده الغضب.
و الصبر عن زخارف الحياة:زهد،و ضده الحرص.
و الصبر علي كتمان الأسرار:كتمان،و ضدّه الإذاعة و النشر.
و الصبر علي شهوتي البطن و الفرج:عفة،و ضدّه الشره.
فاتضح بهذا أن الصبر نظام الفضائل،و قطبها الثابت،و أساسها المكين.
نستنتج من العرض السالف أنّ الصبر عماد الفضائل،و قطب المكارم، و رأس المفاخر.
فهو عصمة الواجد الحزين،يخفف وجده،و يلطف عناءه،و يمدّه بالسكينة و الاطمئنان.
و هو ظمان من الجزع المدمّر،و الهلع الفاضح،و لولاه لانهار المصاب، و غدا فريسة العلل و الأمراض،و عرضة لشماتة الأعداء و الحسّاد.
و هو بعد هذا و ذاك الأمل المرّجي فيما أعدّ اللّه للصابرين،من عظيم المكافآت،و جزيل الأجر و الثواب.
و إليك بعض النصائح الباعثة علي كسب الصبر و التحلي به:
1-التأمل في مآثر الصبر،و ما يفييء علي الصابرين من جميل الخصائص،و جليل العوائد و المنافع في الحياة الدنيا،و جزيل المثوبة و الأجر في الآخرة.
ص: 107
2-التفكر في مساويء الجزع،و سوء آثاره في حياة الإنسان،و أنه لا يشفي غليلا،و لا يرد قضاء،و لا يبدّل واقعا،و لا ينتج إلا بالشقاء و العناء.
يقول(دليل كارنيجي)«لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كل كتاب، و كل مجلة،و كل مقالة عالجت موضوع القلق،فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة،و أجداها خرجت بها من قراءتي الطويلة؟إنها:«إرض بما ليس منه بدّ».
3-تفهم واقع الحياة،و أنها مطبوعة علي المتاعب و الهموم:
طبعت علي كدر و أنت تريدها صفوا من الأقدار و الأكدار
فليست الحياة دار هناء و ارتياح،و إنما هي:دار اختبار و امتحان للمؤمن، فكما يرهق طلاب العلم بالامتحانات استجلاء لرصيدهم العلمي،كذلك يمتحن المؤمن اختبارا لأبعاد إيمانه و مبلغ يقينه.
قال تعالي: أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ،فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا،وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (العنكبوت:2-3).
4-الاعتبار و التأسي بما عاناه العظماء،و الأولياء،من صنوف المآسي و الأرزاء،و تجلّدهم فيها و صبرهم عليها،في ذات اللّه،و ذلك من محفزات الجلد و الصمود.
5-التسلية و الترفيه بما يخفف آلام النفس،و ينهنه عن الوجد:كتغير المناخ،و ارتياد المناظر الجميلة،و التسلّي بالقصص الممتعة،و الأحاديث الشهية النافعة.
و هو عرفان النعمة من المنعم،و حمده عليها،و استعمالها في مرضاته.و هو من خلال الكمال،و سمات الطيبة و النبل،و موجبات ازدياد النعم و استدامتها.
و الشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق،فكيف بالمنعم الخالق،الذي لا
ص: 108
تحصي نعماؤه و لا تعد آلاؤه.
و الشكر لا يجدي المولي عز و جل،لاستغنائه المطلق عن الخلق،و إنما يعود عليهم بالنفع،لأعرابه عن تقديرهم للنعم الإلهية،و استعمالها في طاعته و رضاه، و في ذلك سعادتهم و ازدهار حياتهم.
لذلك دعت الشريعة إلي التخلق بالشكر و التحلي به كتابا و سنة.
قال تعالي: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (البقرة:152).
و قال عز و جل: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ (سبأ:15).
و قال تعالي: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ،وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (ابراهيم:7).
و قال تعالي: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سبأ:13).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):
«الطاعم الشاكر له من الأجر،كأجر الصائم المحتسب،و المعافي الشاكر له من الأجر كأجر المبتلي الصابر،و المعطي الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع» (1).
و قال الصادق(ع):«من أعطي الشكر أعطي الزيادة،يقول اللّه عز و جل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (ابراهيم:7) (2).
و قال(ع):«شكر كل نعمة و إن عظمت أن تحمد اللّه عز و جل عليها» (3).
و قال(ع):«ما أنعم اللّه علي عبد بنعمة بالغة ما بلغت فحمد اللّه عليها، إلا كان حمد اللّه أفضل من تلك النعمة و أوزن» (4).
و قال الباقر(ع):«تقول ثلاث مرات إذا نظرت إلي المبتلي من غير أن تسمعه:الحمد للّه الذي عافاني مما ابتلاك به،و لو شاء فعل.قال:من قال ذلك
********
(1) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 69 عن الكافي.
ص: 109
لم يصبه ذلك البلاء أبدا» (1).
و قال الصادق(ع):«إن الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء،فيوجب اللّه له بها الجنة،ثم قال:إنه ليأخذ الإناء،فيضعه علي فيه،فيسمي ثم يشرب،فينحيه و هو يشتهيه،فيحمد اللّه،ثم يعود فيشرب،ثم ينحيه،فيحمد اللّه،ثم يعود فيشرب،ثم ينحيه فيحمد اللّه فيوجب اللّه عز و جل له بها الجنة» (2).
ينقسم الشكر إلي ثلاثة أقسام:شكر القلب.و شكر اللسان.و شكر الجوارح.ذلك أنه متي امتلأت نفس الإنسان وعيا و إدراكا بعظم نعم اللّه تعالي،و جزيل آلائه عليه،فاضت علي اللسان بالحمد و الشكر للمنعم الوهاب.
و متي تجاوبت النفس و اللسان في مشاعر الغبطة و الشكر،سري إيحاؤها إلي الجوارح،فغدت تعرب عن شكرها للمولي عز و جل بانقيادها و استجابتها لطاعته.
من أجل ذلك اختلفت صور الشكر،و تنوعت أساليبه:
أ-فشكر القلب هو:تصوّر النعمة،و أنها من اللّه تعالي.
ب-و شكر اللسان:حمد المنعم و الثناء عليه.
ج-و شكر الجوارح:إعمالها في طاعة اللّه،و التحرج بها عن معاصيه:
كاستعمال العين في مجالات التبصر و الإعتبار،و غضّها عن المحارم،و استعمال اللسان في حسن المقال،و تعففه عن الفحش،و البذاء،و استعمال اليد في المآرب المباحة،و كفّها عن الأذي و الشرور.
و هكذا يجدر الشكر علي كل نعمة من نعم اللّه تعالي،بما يلائمها من صور الشكر و مظاهره:
********
(1) البحار م 15 ج 2 ص 135 عن ثواب الأعمال للصدوق.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 131 عن الكافي.
ص: 110
فشكر المال:إنفاقه في سبل طاعة اللّه و مرضاته.
و شكر العلم:نشره و إذاعة مفاهيمه النافعة.
و شكر الجاه:مناصرة الضعفاء و المضطهدين،و إنقاذهم من ظلاماتهم.
و مهما بالغ المرء في الشكر،فإنه لن يستطيع أن يوفي النعم شكرها الحق،إذ الشكر نفسه من مظاهر نعم اللّه و توفيقه،لذلك يعجز الإنسان عن أداء واقع شكرها:كما قال الصادق(ع):«أوحي اللّه عز و جل إلي موسي(ع):يا موسي اشكرني حق شكري.فقال:يا رب و كيف أشكرك حق شكرك،و ليس من شكر أشكرك به،إلا و أنت أنعمت به عليّ.قال:يا موسي الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني» (1).
من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعم و الألطاف،و شكر مسديها و كلّما تعاظمت النعم،كانت أحق بالتقدير،و أجدر بالشكر الجزيل،حتي تتسامي إلي النعم الإلهية التي يقصر الإنسان عن تقييمها و شكرها.
فكل نظرة يسرحها الطرف،أو كلمة ينطق بها الفم،أو عضو تحركه الإرادة،أو نفس يردده المرء،كلها منح ربّانية عظيمة،لا يثمّنها إلا العاطلون منها.
و لئن وجب الشكر للمخلوق فكيف بالمنعم الخالق،الذي لا تحصي نعماؤه و لا تقدّر آلاؤه.
و الشكر بعد هذا من موجبات الزلفي و الرضا من المولي عز و جل، و مضاعفة نعمه و آلائه علي الشكور.
أما كفران النعم،فإنه من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة،و دلائل الجهل بقيم النعم و أقدارها،و ضرورة شكرها.
انظر كيف يخبر القرآن الكريم:أن كفران النعم هو سبب دمار الأمم
********
(1) الوافي ج 3 ص 68 عن الكافي.
ص: 111
و محق خيراتها: وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ،فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (النحل:112).
و سئل الصادق(ع)عن قول اللّه عز و جل: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية(سبأ:19)فقال:هؤلاء قوم كانت لهم قري متصلة،ينظر بعضهم إلي بعض،و أنهار جارية،و أموال ظاهرة،فكفروا نعم اللّه عز و جل،و غيّروا ما بأنفسهم من عافية اللّه،فغير اللّه ما بهم من نعمة،و إن اللّه لا يغير ما بقوم،حتي يغيروا ما بأنفسهم،فأرسل اللّه عليهم سيل العرم ففرق قراهم،و خرّب ديارهم،و ذهب بأموالهم،و أبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل،ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور» (1).
و قال الصادق(ع)في حديث له:
«إن قوما أفرغت عليهم النعمة و هم(أهل الثرثار)فعمدوا إلي مخ الحنطة فجعلوه خبز هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم،حتي اجتمع من ذلك جبل، فمرّ رجل علي امرأة و هي تفعل ذلك بصبيّ لها،فقال:و يحكم اتقوا اللّه لا تغيّروا ما بكم من نعمة،فقالت:كأنّك تخوفنا بالجوع،أما ما دام ثرثارنا يجري فانا لا نخاف الجوع.
قال:فأسف اللّه عز و جل،و ضعف لهم الثرثار،و حبس عنهم قطر السماء و نبت الأرض،قال فاحتاجوا إلي ما في أيديهم فأكلوه،ثم احتاجوا إلي ذلك الجبل فإنّه كان ليقسم بينهم بالميزان» (2).
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال قال النبي(ص):«أسرع الذنوب عقوبة كفران النعم» (3).
********
(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(2) البحار عن محاسن البرقي.
(3) البحار عن أمالي ابن الشيخ الطوسي
ص: 112
إليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر و التحلي به:
1-التفكر فيما أغدقه اللّه علي عباده من صنوف النعم،و ألوان الرعاية و اللطف.
2-ترك التطلع إلي المترفين و المنعمين في وسائل العيش،و زخارف الحياة، و النظر إلي البؤساء و المعوزين،و من هو دون الناظر في مستوي الحياة و المعاش، كما قال أمير المؤمنين(ع):«و أكثر أن تنظر إلي من فضّلت عليه في الرزق،فإنّ ذلك من أبواب الشكر» (1).
3-تذكر الإنسان الأمراض،و الشدائد التي أنجاه اللّه منها بلطفه،فأبدله بالسقم صحة،و بالشدة رخاءا و أمنا.
4-التأمل في محاسن الشكر،و جميل آثاره في استجلاب ودّ المنعم، و ازدياد نعمه،و آلائه،و في مساويء كفران النعم و اقتضائه مقت المنعم و زوال نعمه.
هو:الاعتماد علي اللّه تعالي في جميع الأمور،و تفويضها إليه،و الإعراض عمّا سواه.و باعثه قوة القلب و اليقين،و عدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، و تأثره بالمخاوف و الأوهام.
و التوكل هو:من دلائل الإيمان،و سمات المؤمنين و مزاياهم الرفيعة، الباعثة علي عزة نفوسهم،و ترفعهم عن استعطاف المخلوقين،و التوكل علي الخالق في كسب المنافع و درء المضار.
و قد تواترت الآيات و الآثار في مدحه و التشويق إليه:
قال تعالي: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق:3).
********
(1) نهج البلاغة.
ص: 113
و قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159).
و قال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا،هُوَ مَوْلانا وَ عَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة:51).
و قال تعالي: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ،وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ،وَ عَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران:160).
و قال الصادق(ع):«إنّ الغني و العز يجولان،فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا» (1).
و قال(ع):«أوحي اللّه إلي داود(ع):ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي،عرفت ذلك من نيّته،ثم تكيده السماوات و الأرض،و من فيهن،إلا جعلت له المخرج من بينهن.
و ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي،عرفت ذلك من نيته،إلاّ قطعت أسباب السماوات من يديه،و أسخت الأرض من تحته،و لم أبال بأيّ واد هلك» (2)
و قال(ع):«من أعطي ثلاثا،لم يمنع ثلاثا:
من أعطي الدعاء أعطي الإجابة.
و من أعطي الشكر أعطي الزيادة.
و من أعطي التوكل أعطي الكفاية.
ثم قال:أ تلوت كتاب اللّه تعالي؟: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق:3).
و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (ابراهيم:7).و قال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر:60)» (3).
و قال أمير المؤمنين في وصيته اللحسن(ع):
«و ألجيء نفسك في الأمور كلها،إلي إلهك،فإنك تلجئها إلي كهف
********
(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
ص: 114
حريز،و مانع عزيز» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال أمير المؤمنين(ع).
«كان فيما وعظ به لقمان ابنه،أن قال له:يا بني ليعتبر من قصر يقينه و ضعفت نيته في طلب الرزق،أن اللّه تبارك و تعالي خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره،و أتاه رزقه،و لم يكن له في واحدة منها كسب و لا حيلة،إن اللّه تبارك و تعالي سيرزقه في الحال الرابعة:
أما أول ذلك فإنه كان في رحم أمّه،يرزقه هناك في قرار مكين،حيث لا يؤذيه حر و لا برد.
ثم أخرجه من ذلك،و أجري له رزقا من لبن أمّه،يكفيه به،و يربيه و ينعشه،من غير حول به و لا قوة.
ثم فطم من ذلك،فأجري له رزقا من كسب أبويه،برأفة و رحمة له من قلوبهما،لا يملكان غير ذلك،حتي أنّهما يؤثرانه علي أنفسهما،في أحوال كثيرة، حتي إذا كبر و عقل،و اكتسب لنفسه،ضاق به أمره،و ظنّ الظنون بربه،و جحد الحقوق في ماله،و قتر علي نفسه و عياله،مخافة رزقه،و سوء ظن و يقين بالخلف من اللّه تبارك و تعالي في العاجل و الآجل،فبئس العبد هذا يا بني» (2).
ليس معني التوكل إغفال الأسباب و الوسائل الباعثة علي تحقيق المنافع، و درء المضار،و أن يقف المرء إزاء الأحداث و الأزمات مكتوف اليدين،سليب الإرادة و العزم.و إنما التوكل هو:الثقة باللّه عز و جل،و الركون إليه،و التوكل عليه دون غيره من سائر الخلق و الأسباب،باعتبار أنّه تعالي هو مصدر الخير، و مسبب الأسباب،و أنه وحده المصرّف لأمور العباد،و القادر علي إنجاح غاياتهم و مآربهم.
********
(1) نهج البلاغة.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق(ره).
ص: 115
و لا ينافي ذلك تذرع الإنسان بالأسباب الطبيعية،و الوسائل الظاهرية لتحقيق أهدافه و مصالحه كالتزود للسفر،و التسلح لمقاومة الأعداء و التداوي من المرض،و التحرز من الأخطار و المضار،فهذه كلها أسباب ضرورية لحماية الإنسان،و إنجاز مقاصده،و قد أبي اللّه عز و جل أن تجري الأمور إلا بأسبابها.
بيد أنه يجب أن تكون الثقة به تعالي،و التوكل عليه،في إنجاح الغايات و المآرب،دون الأسباب،و آية ذلك أنّ أعرابيا أهمل عقل بعيره متوكلا علي اللّه في حفظه،فقال النبي(ص)،له:«إعقل و توكل».
يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتا كبيرا،كتفاوتهم في درجات إيمانهم:فمنهم السباقون و المجلّون في مجالات التوكل،المنقطعون إلي اللّه تعالي، و المعرضون عمن سواه،و هم الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام،و من دار في فلكهم من الأولياء.
و من أروع صور التوكل و أسماه،ما روي عن إبراهيم عليه السّلام:«أنه لما ألقي في النار،تلقاه جبرئيل في الهواء،فقال:هل لك من حاجة؟فقال:أمّا إليك فلا،حسبي اللّه و نعم الوكيل.فاستقبله ميكائيل فقال:إن أردت أن أخمد النار فإنّ خزائن الأمطار و المياه بيدي،فقال:لا أريد.و أتاه ملك الريح فقال:
لو شئت طيرت النار.فقال:لا أريد،فقال جبرئيل:فاسأل اللّه.فقال:حسبي من سؤالي علمه بحالي» (1).
و من الناس من هو عديم التوكل،عاطل منه،لضعف إحساسه الروحي،و هزال إيمانه.و منهم بين هذا و ذاك علي تفاوت في مراقي التوكل.
الإنسان في هذه الحياة،عرضة للنوائب،و هدف للمشاكل و الأزمات،لا
********
(1) سفينة البحار ج 2 ص 683 عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.
ص: 116
ينفك عن جلادها و مقارعتها،ينتصر عليها تارة و تصرعه أخري،و كثيرا ما ترديه لقا،مهيض الجناح،كسير القلب.
فهو منها في قلق مضني،و فزع رهيب،يخشي الإخفاق،و يخاف الفقر، و يرهب المرض،و يعاني ألوان المخاوف المهددة لأمنه و رخائه.
و لئن استطاعت الحضارة الحديثة أن تخفف أعباء الحياة،بتيسيراتها الحضارية،و توفير وسائل التسلية و الترفية،فقد عجزت عن تزويد النفوس بالطمأنينة و الاستقرار،و إشعارها بالسكينة و السّلام الروحيين،فلا يزال القلق و الخوف مخيما علي النفوس،آخذا بخناقها،مما ضاعف الأمراض النفسية، و إحداث الجنون و الانتحار في أرقي الممالك المتحضرة.
و لكن الشريعة الإسلامية استطاعت بمبادئها السامية،و دستورها الخلقي الرفيع-أن تخفف قلق النفوس و مخاوفها،و تمدّها بطاقات روحية ضخمة،من الجلد و الثبات،و الثقة و الاطمئنان،بالتوكل علي اللّه،و الاعتماد عليه،و الاعتزاز بحسن تدبيره،و جميل صنعه،و جزيل آلائه،و أنّه له الخلق و الأمر و هو علي كل شيء قدير.و بهذا ترتاح النفوس،و تستبدل بالخوف أمنا،و بالقلق دعة و رخاء.
و التوكل بعد هذا من أهم عوامل عزة النفس،و سمو الكرامة،و راحة الضمير،و ذلك بترفع المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق،و اللجوء إلي الخالق،في جلب المنافع،و درء المضار.
و لعل أجدر الناس بالتوكل أرباب الأقدار و المسؤوليات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدوا منه العزم و التصميم علي مجابهة عنت الناس و إرهاقهم، و المضي قدما في تحقيق أهدافهم الإصلاحية،متخطين ما يعترضهم من أشواك و عوائق.
1-استعراض الآيات و الأخبار الناطقة بفضله و جميل أثره في كسب الطمأنينة و الرخاء.
ص: 117
و من طريف ما نظم في التوكل قول الحسين(ع):
إذا ما عضك الدهر فلا تجنح إلي خلق
و لا تسأل سوي اللّه تعالي قاسم الرزق
فلو عشت و طوفت من الغرب إلي الشرق
لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي
و مما نسب لأمير المؤمنين عليه السّلام:
رضيت بما قسم اللّه لي و فوضت أمري إلي خالقي
كما أحسن اللّه فيما مضي كذلك يحسن فيما بقي
و قال بعض الأعلام:
كن عن همومك معرضا و كل الأمور إلي القضا
فلرب أمر مسخط لك في عواقبه رضا
و لربما اتسع المضيق و ربما ضاق الفضا
اللّه عوّدك الجميل فقس علي ما قد مضي
***
2-تقوية الإيمان باللّه عز و جل،و الثقة بحسن صنعه،و حكمة تدبيره، و جزيل حنانه و لطفه،و أنه هو مصدر الخير،و مسبب الأسباب،و هو علي كل شيء قدير.
3-التنبه إلي جميل صنع اللّه تعالي،و سمو عنايته بالإنسان،في جميع أطواره و شؤونه،من لدن كان جنينا حتي آخر الحياة،و أنّ من توكل عليه كفاه، و من استنجده أنجده و أغاثه.
4-الاعتبار بتطور ظروف الحياة،و تداول الأيام بين الناس،فكم فقير صار غنيا،و غني صار فقيرا،و أمير غدا صعلوكا،و صعلوك غدا أميرا متسلطا.
و هكذا يجدر التنبه إلي عظمة القدرة الإلهية في أرزاق عبيده،و دفع الأسواء عنهم،و نحو ذلك من صور العبر و العظات الدالة علي قدرة اللّه عز و جل،و أنه وحده هو الجدير بالثقة،و التوكل و الاعتماد،دون سواه.
ص: 118
و آية حصول التوكل للمرء هي:الرضا بقضاء اللّه تعالي و قدره في المسرات و المكاره،دون تضجر و اعتراض،و تلك منزلة سامية لا ينالها إلا الأفذاذ المقربون.
و هو:تألم النفس خشية من عقاب اللّه،من جراء عصيانه و مخالفته.
و هو من خصائص الأولياء،و سمات المتقين،و الباعث المحفّز علي الاستقامة و الصلاح.و الوازع القويّ عن الشرور و الآثام.
لذلك أولته الشريعة عناية فائقة،و أثنت علي ذويه ثناءا عاطرا مشرفا.
قال تعالي: إِنَّما يَخْشَي اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (فاطر:28).
و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ،لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (الملك:12).
و قال: وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ،وَ نَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوي، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوي (النازعات:40-41).
و قال الصادق(ع):«خف اللّه كأنك تراه،و إن كنت لا تراه فإنه يراك، و إن كنت تري أنه لا يراك فقد كفرت،و إن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية،فقد جعلته من أهون الناظرين إليك» (1).
و قال(ع):«المؤمن بين مخافتين:ذنب قد مضي لا يدري ما صنع اللّه فيه،و عمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك،فهو لا يصبح إلا خائفا،و لا يصلحه إلا الخوف» (2).
و قال(ع):«لا يكون المؤمن مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا،و لا يكون خائفا راجيا حتي يكون عاملا لما يخاف و يرجو» (3).
و في مناهي النبي(ص):
********
(1) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
ص: 119
«من عرضت له فاحشة،أو شهوة فاجتنبها من مخافة اللّه عز و جل،حرّم اللّه عليه النار،و آمنه من الفزع الأكبر،و أنجز له ما وعده في كتابه،في قوله عز و جل: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (الرحمن:46)» (1).
و قال بعض الحكماء:مسكين ابن آدم،لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعا،و لو رغب في الجنة كما رغب في الدنيا لفاز بهما جميعا،و لو خاف اللّه في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا.
و دخل حكيم علي المهدي العباسي فقال له:عظني.فقال:أ ليس هذا المجلس قد جلس فيه أبوك و عمك قبلك؟قال:نعم.قال:فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها؟قال:نعم.قال:فكانت لهم أعمال تخاف عليهم الهلكة منها؟قال:نعم.قال:فانظر ما رجوت لهم فيه فآته،و ما خفت عليهم منه فاجتنبه.
لقد صورت الآيات الكريمة،و الأخبار الشريفة،أهمية الخوف،و أثره في تقويم الإنسان و توجيهه وجهة الخير و الصلاح،و تأهيله لشرف رضا اللّه تعالي و انعامه.
بيد أن الخوف كسائر السجايا الكريمة،لا تستحق الإكبار و الثناء،إلا إذا اتسمت بالقصد و الاعتدال،الذي لا إفراط فيه و لا تفريط.
فالإفراط في الخوف يجدب النفس،و يدعها يبابا من نضارة الرجاء، و رونقه البهيج،و يدع الخائف آيسا آبقا موغلا في الغواية و الضلال،و مرهقا نفسه في الطاعة و العبادة حتي يشقيها و ينهكها.
و التفريط فيه باعث علي الإهمال و التقصير،و التمرد علي طاعة اللّه تعالي و اتباع دستوره.
و بتعادل الخوف و الرجاء تنتعش النفس،و يسمو الضمير،و تتفجر
********
(1) البحار م 15 ج 2 ص 113 عن الفقيه.
ص: 120
الطاقات الروحية،للعمل الهادف البنّاء.
كما قال الصادق(ع):«أرج اللّه رجاءا لا يجرئك علي معاصيه،و خف اللّه خوفا لا يؤيسك من رحمته» (1).
قيم السجايا الكريمة بقدر ما تحقق في ذويها من مفاهيم الإنسانية الفاضلة، و قيم الخير و الصلاح،و تؤهلهم للسعادة و الرخاء.و بهذا التقييم يحتل الخوف مركز الصدارة بين السجايا الأخلاقية الكريمة،و كانت له أهمية كبري في عالم العقيدة و الإيمان،فهو الذي يلهب النفوس،و يحفّزها علي طاعة اللّه عز و جل، و يفطمها من عصيانه،و من ثم يسمو بها إلي منازل المتقين الأبرار.
و كلما تجاوبت مشاعر الخشية و الخوف في النفس،صقلتها و سمت بها إلي أوج ملائكي رفيع،يحيل الإنسان ملاكا في طيبته و مثاليته،كما صوره أمير المؤمنين(ع)و هو يقارن بين الملك و الإنسان و الحيوان،فقال:«إن اللّه عز و جل ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة،و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل،و ركّب في بني آدم كليهما.
فمن غلب عقله شهوته،فهو خير من الملائكة،و من غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم» (2).
من أجل ذلك نجد الخائف من اللّه تعالي يستسهل عناء طاعته،و يستحلي مرارتها،و يستوخم حلاوة المعاصي و الآثام،خشية من سخطه و خوفا من عقابه.
و بهذا يسعد الإنسان،و تزدهر حياته المادية و الروحية،كما انتظم الكون، و اتسقت عناصره السماوية و الأرضية،بخضوعه للّه عز و جل،و سيره علي وفق نظمه و قوانينه.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي وَ هُوَ مُؤْمِنٌ،فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
********
(1) البحار م 15 ج 2 ص 188 عن أمالي الصدوق.
(2) علل الشرائع.
ص: 121
وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:97).
و ما هذه المآسي و الأرزاء التي تعيشها البشرية اليوم من شيوع الفوضي و انتشار الجرائم،و استبداد الحيرة و القلق،و الخوف بالناس إلا لاعراضهم عن اللّه تعالي،و تنكبهم عن دستوره و شريعته.
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُري آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (الأعراف:96).
يجدر بمن ضعف فيه شعور الخوف إتباع النصائح التالية:
1-تركيز العقيدة،و تقوية الإيمان باللّه تعالي،و مفاهيم المعاد و الثواب و العقاب،و الجنة و النار،إذ الخوف من ثمرات الإيمان و انعكاساته علي النفس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ،وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً،وَ عَلي رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال:2).
2-استماع المواعظ البليغة،و الحكم الناجعة،الموجبة للخوف و الرهبة.
3-دراسة حالات الخائفين و ضراعتهم و تبتلهم إلي اللّه عز و جل،خوفا من سطوته،و خشية من عقابه.
و إليك أروع صورة للضراعة و الخوف و هي مناجاة الإمام زين العابدين(ع)في بعض أدعيته:
«و ما لي لا أبكي!!و لا أدري إلي ما يكون مصيري،و أري نفسي تخادعني، و أيامي تخاتلني،و قد خفقت عند رأسي أجنحة الموت،فما لي لا أبكي،أبكي لخروج نفسي،أبكي لظلمة قبري،أبكي لضيق لحدي،أبكي لسؤال منكر و نكير إيّاي،أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا حاملا ثقلي علي ظهري،أنظر مرة عن يميني،و أخري عن شمالي،إذ الخلائق في شأن غير شأني لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (عبس:37-41)».
ص: 122
عن الباقر(ع)قال:«خرجت امرأة بغيّ علي شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم،فقال بعضهم:لو كان العابد فلان رآها أفتنته!،و سمعت مقالتهم، فقالت:و اللّه لا أنصرف إلي منزلي،حتي أفتنه!،فمضت نحوه بالليل فدقت عليه،فقالت:آوي عندك؟فأبي عليها فقالت:إن بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي،فإن أدخلتني و إلا لحقوني،و فضحوني،فلما سمع مقالتها فتح لها،فلمّا دخلت عليه رمت بثيابها،فلما رأي جمالها و هيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها،ثم رجعت إليه نفسه،و قد كان يوقد تحت قدر له،فأقبل حتي وضع يده علي النار فقالت:أي شيء تصنع؟فقال:أحرقها لأنها عملت العمل،فخرجت حتي أتت جماعة بني إسرائيل فقالت:الحقوا فلانا فقد وضع يده علي النار،فأقبلوا فلحقوه و قد احترقت يده» (1).
و عن الصادق(ع):«إن عابدا كان في بني إسرائيل،فأضافته إمرأة من بني إسرائيل،فهمّ بها،فأقبل كلما همّ بها قرّب إصبعا من أصابعه إلي النار، فلم يزل ذلك دأبه حتي أصبح،قال لها:أخرجي لبئس الضيف كنت لي» (2).
و هو:انتظار محبوب تمهدّت أسباب حصوله،كمن زرع بذرا في أرض طيّبة،و رعاه بالسقي و المداراة،فرجا منه النتاج و النفع.
فإن لم تتمهد الأسباب،كان الرجاء حمقا و غرورا،كمن زرع أرضا سبخة و أهمل رعايتها،و هو يرجو نتاجها.
و الرجاء:هو الجناح الثاني من الخوف،اللذان يطير بهما المؤمن إلي آفاق طاعة اللّه،و الفوز بشرف رضاه،و كرم نعمائه،إذ هو باعث علي الطاعة رغبة كما يبعث الخوف عليها رهبة و فزعا.
و لئن تساند الخوف و الرجاء،علي تهذيب المؤمن،و توجيهه و جهة الخير
********
(1) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.
(2) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.
ص: 123
و الصلاح،بيد أن الرجاء أعذب موردا،و أحلي مذاقا من الخوف،لصدوره عن الثقة باللّه،و الاطمئنان بسعة رحمته،و كرم عفوه،و جزيل ألطافه.
و بديهي أن المطيع رغبة و رجاءا،أفضل منه رهبة و خوفا،لذلك كانت تباشير الرجاء وافرة،و بواعثه جمّة و آياته مشرقة،و إليك طرفا منها:
1-النهي عن اليأس و القنوط:
قال تعالي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ،إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً،إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «الزمر:53».
و قال تعالي: وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ،إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «يوسف:87».
و قال أمير المؤمنين(ع)لرجل أخرجه الخوف إلي القنوط لكثرة ذنوبه:«أيا هذا،يأسك من رحمة اللّه أعظم من ذنوبك» (1).
و قال النبي(ص):«يبعث اللّه المقنّطين يوم القيامة،مغلّبة وجوههم، يعني غلبة السواد علي البياض،فيقال لهم:هؤلاء المقنّطون من رحمة اللّه تعالي» (2).
2-سعة رحمة اللّه و عظيم عفوه:
قال تعالي: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ (الأنعام:147).
و قال تعالي: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلي ظُلْمِهِمْ (الرعد:6).
و قال تعالي: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ،وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (النساء:48).
و قال تعالي: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ،كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الزمر:53).
********
(1) جامع السعادات ج 1 ص 246.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 451 عن نوادر الراوندي.
ص: 124
و جاء في حديث عن النبي(ص):«لو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالي،لأتي اللّه تعالي بخلق يذنبون و يستغفرون،فيغفر لهم،إنّ المؤمن مفتن توّاب،أما سمعت قول اللّه تعالي: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ (البقرة:222) الخبر» (1).
توضيح:المفتن التواب:هو من يقترف الذنوب و يسارع إلي التوبة منها.
و قال الصادق(ع):«إذا كان يوم القيامة،نشر اللّه تبارك و تعالي رحمته حتي يطمع إبليس في رحمته» (2).
و عن سليمان بن خالد قال:«قرأت علي أبي عبد اللّه(ع)هذه الآية: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً،فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (الفرقان:70).
فقال:هذه فيكم،إنه يؤتي بالمؤمن المذنب يوم القيامة،حتي يوقف بين يدي اللّه عز و جل،فيكون هو الذي يلي حسابه،فيوقفه علي سيئاته شيئا فشيئا، فيقول:عملت كذا في يوم كذا في ساعة كذا،فيقول أعرف يا ربي،حتي يوقفه علي سيئاته كلّها،كل ذلك يقول:أعرف.فيقول سترتها عليك في الدنيا، و أغفرها لك اليوم،أبدلوها لعبدي حسنات.
قال:فترفع صحيفته للناس فيقولون:سبحان اللّه!أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة،و هو قول اللّه عز و جل: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (الفرقان:70) (3).
3-حسن الظن باللّه الكريم،و هو أقوي دواعي الرجاء.
قال الرضا(ع):«أحسن الظن باللّه،فإن اللّه تعالي يقول:أنا عند ظن عبدي بي،إن خيرا فخيرا،و إن شرا فشرا» (4).
********
(1) الوافي ج 3 ص 51 عن الكافي.
(2) البحار مجلد 3 ص 274 عن أمالي الشيخ الصدوق.
(3) البحار مجلد 3 ص 274 عن محاسن البرقي.
(4) الوافي ج 3 ص 59 عن الكافي.
ص: 125
و قال الصادق(ع):«آخر عبد يؤمر به إلي النار،يلتفت،فيقول اللّه عز و جل:اعجلوه (1)،فإذا أتي به قال له:يا عبدي لم التفت؟فيقول:يا رب ما كان ظني بك هذا،فيقول اللّه عز و جل:عبدي و ما كان ظنك بي؟فيقول:يا رب كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي و تسكنني جنتك.فيقول اللّه:ملائكتي و عزتي و جلالي و آلائي و بلائي و ارتفاع مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيرا قط،و لو ظن بي ساعة من حياته خيرا ما روعته بالنار،أجيزوا له كذبه و أدخلوه الجنة.
ثم قال أبو عبد اللّه(ع):ما ظن عبد باللّه خيرا،إلا كان اللّه عند ظنه به، و لا ظن به سوءا إلا كان اللّه عند ظنه به،و ذلك قوله عز و جل: وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (فصلت:23)» (2).
4-شفاعة النبي و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام لشيعتهم و محبيهم:
عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا،فمن كانت مظلمته فيما بينه و بين اللّه عز و جل،حكمنا فيها فأجابنا،و من كانت مظلمته فيما بينه و بين الناس استوهبناها فوهبت لنا،و من كانت مظلمته فيما بينه و بيننا كنّا أحق من عفي و صفح» (3).
و أخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالإسناد إلي جرير بن عبد اللّه البجلي قال:قال رسول اللّه(ص):«ألا و من مات علي حب آل محمد مات شهيدا، ألا و من مات علي حب آل محمد مات مغفورا له،ألا و من مات علي حب آل محمد مات تائبا،ألا و من مات علي حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا و من مات علي حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير،ألا و من مات علي حب آل محمد يزفّ إلي الجنة كما تزف العروس إلي بيت زوجها، ألا و من مات علي حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلي الجنة،ألا و من مات
********
(1) أعجلوه:أي ردّوه مستعجلا.
(2) البحار م 3 ص 274 عن ثواب.الأعمال للصدوق.
(3) البحار م 3 ص 301 عن عيون أخبار الرضا عليه السّلام.
ص: 126
علي حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة،ألا و من مات علي حب آل محمد مات علي السنة و الجماعة.
ألا و من مات علي بغض آل محمد،جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه:
آيس من رحمة اللّه...».
و قد أرسله الزمخشري في تفسير آية المودة من كشافه إرسال المسلمات، رواه المؤلفون في المناقب و الفضائل مرسلا مرة و مسندا تارات (1).
و أورد ابن حجر في صواعقه ص 103 حديثا هذا لفظه:
«إن النبي(ص)خرج علي أصحابه ذات يوم،و وجهه مشرق كدائرة القمر،فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك،فقال(ص):بشارة أتتني من ربي في أخي و ابن عمي و ابنتي،بأن اللّه زوج عليا من فاطمة،و أمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبي،فحملت رقاقا(يعني صكاكا)بعدد محبي أهل بيتي، و أنشأ تحتها ملائكة من نور،دفع إلي كل ملك صكا،فإذا استوت القيامة بأهلها،نادت الملائكة في الخلائق،فلا يبقي محب لأهل البيت،إلا دفعت إليه صكا فيه فكاكه من النار،فصار أخي و ابن عمي و ابنتي فكاك رقاب رجال و نساء من أمتي من النار» (2).
و جاء في الصواعق ص 96 لا بن حجر:«أنه قال:لما أنزل اللّه تعالي إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً،رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (البينة:7-8)قال رسول اللّه(ص)لعلي:هم أنت و شيعتك،تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين،و يأتي عدوك غضابي مقمحين» (3).
5-النوائب و الأمراض كفارة لآثام المؤمن:
********
(1) الفصول المهمة للمرحوم آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين.
(2) الفصول المهمة للإمام شرف الدين ص 44.
(3) الفصول المهمة للإمام شرف الدين ص 39.
ص: 127
قال الصادق(ع):«يا مفضل إياك و الذنوب،و حذّرها شيعتنا،فو اللّه ما هي إلي أحد أسرع منها إليكم،إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان،و ما ذاك إلا بذنوبه،و إنه ليصيبه السقم،و ما ذاك إلا بذنوبه،و إنه ليحبس عنه الرزق و ما هو إلا بذنوبه،و إنه ليشدد عليه عند الموت،و ما هو إلا بذنوبه،حتي يقول من حضر:لقد غمّ بالموت.فلما رأي ما قد دخلني،قال:أ تدري لم ذاك يا مفضل؟قال:قلت لا أدري جعلت فداك.قال:ذاك و اللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة و عجّلت لكم في الدنيا» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«قال اللّه تعالي:
و عزتي و جلالي لا أخرج عبدا من الدنيا و أنا أريد أن أرحمه،حتي أستوفي منه كل خطيئة عملها،إما بسقم في جسده،و إما بضيق في رزقه،و إما بخوف في دنياه، فإن بقيت عليه بقية،شدّدت عليه عند الموت...» (2).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«ما يزال الغم و الهم بالمؤمن حتي ما يدع له ذنبا» (3).
و قال الصادق(ع):«إن المؤمن ليهوّل عليه في نومه فيغفر له ذنوبه،و إنه ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه» (4).
و مما يجدر ذكره:أن الرجاء كما أسلفنا لا يجدي و لا يثمر،إلا بعد توفر الأسباب الباعثة علي نجحه،و تحقيق أهدافه،و إلا كان هوسا و غرورا.
فمن الحمق أن يتنكّب المرء مناهج الطاعة،و يتعسف طرق الغواية و الضلال،ثم يمنّي نفسه بالرجاء،فذلك غرور باطل و خداع مغرّر.
أ لا تري عظماء الخلق و صفوتهم من الأنبياء و الأوصياء و الأولياء كيف تفانوا في طاعة اللّه عز و جل،و انهمكوا في عبادته،و هم أقرب الناس إلي كرم اللّه
********
(1) البحار م 3 ص 35 عن علل الشرائع للصدوق(ره).
(2) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
ص: 128
و أرجاهم لرحمته.
إذا فلا قيمة للرجاء،إلا بعد توفر وسائل الطاعة،و العمل للّه تعالي،كما قال الإمام الصادق(ع):«لا يكون المؤمن مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا،و لا يكون خائفا راجيا حتي يكون عاملا لما يخاف و يرجو» (1).
و قيل له(ع):إن قوما من مواليك يلمّون بالمعاصي،و يقولون نرجو.
فقال:«كذبوا ليسوا لنا بموال،أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني،من رجا شيئا عمل له،و من خاف شيئا هرب منه» (2).
يختلف الناس في طباعهم و سلوكهم اختلافا كبيرا،فمن الحكمة في إرشادهم و توجيههم،رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجيّ و التخويف فمنهم من يصلحه الرجاء،و هم:
1-العصاة النادمون علي ما فرّطوا في الآثام،فحاولوا التوبة إلي اللّه،بيد أنهم قنطوا من عفو اللّه و غفرانه،لفداحة جرائمهم،و كثرة سيئاتهم،فيعالج و الحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف اللّه،وسعة رحمته و غفرانه.
2-و هكذا يداوي بالرجاء من أنهك نفسه بالعبادة و أضرّ بها.
أما الذين يصلحهم الخوف:
فهم المردة العصاة،المنغمسون في الاثام،و المغترون بالرجاء،فعلاجهم بالتخويف و الزجر العنيف،بما يتهددهم من العقاب الأليم،و العذاب المهين.
و ما أحلي قول الشاعر:
ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري علي اليبس
و هو:انخداع الإنسان بخدعة شيطانية و رأي خاطيء،كمن ينفق المال
********
(1) الوافي ج 3 ص 58 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
ص: 129
المغصوب في وجوه البر و الإحسان،معتقدا بنفسه الصلاح،و مؤمّلا للأجر و الثواب،و هو مغرور مخدوع بذلك.
و هكذا ينخدع الكثيرون بالغرور،و تلتبس به أعمالهم،فيعتقدون صحتها و نجحها،و لو محصوها قليلا،لأدركوا ما تتسم به من غرور و بطلان.
لذلك كان الغرور من أخطر أشراك الشيطان،و أمضي أسلحته،و أخوف مكائده.
و للغرور صور و ألوان مختلفة باختلاف نزعات المغرورين و بواعث غرورهم،فمنهم المغتر بزخارف الدنيا و مباهجها الفاتنة،و منهم المغتر بالعلم أو الزعامة،أو المال،أو العبادة،و نحو ذلك من صور الغرور و ألوانه.
و سأعرض في البحث التالي أهم صور الغرور و أبرز أنواعه،معقبا علي كل نوع منها بنصائح علاجية،تجلو غبش الغرور و تخفف من حدته.
الغرور
و أكثر من يتصف بهذا الغرور هم:ضعفاء الإيمان،و المخدوعون بمباهج الدنيا و مفاتنها،فيتناسون فناءها و زوالها،و ما يعقبها من حياة أبدية خالدة، فيتذرعون إلي تبرير اغترارهم بالدنيا،و تهالكهم عليها،بزعمين فاسدين، و قياسين باطلين:
الأول:إن الدنيا نقد،و الآخرة نسيئة،و النقد خير من النسيئة.
الثاني:أن لذائذ الأولي و متعها يقينية،و لذائذ الثانية-عندهم- مشكوكة،و المتيقن خير من المشكوك.
و قد أخطأوا و ضلوا ضلالا مبينا،إذ فاتهم في زعمهم الأول أن النقد خير من النسيئة إن تعادلا في ميزان النفع،و إلا فإن رجحت النسيئة كانت أفضل و أنفع من النقد،كمن يتاجر بمبلغ عاجل من المال،ليربح أضعافه في الآجل، أو يحتمي عن شهوات و لذائذ عاجلة توخيا للصحة في الآجل المديد.
ص: 130
هذا إلي الفارق الكبير،و البون الشاسع،بين لذائذ الدنيا و الآخرة، فلذائذ الأولي فانية،منغصة بالأكدار و الهموم،و الثانية خالدة هانئة.
و هكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكهم و ارتيابهم في الحياة الأخروية، فقد أثبتها الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام و العلماء،و كثير من الأمم البدائية الأولي،و أيقنوا بها يقينا لا يخالجه الشك،فارتياب المغرورين بالآخرة و الحالة هذه،هوس يستنكره الدين و العقل.
أ لا تري كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء،و إن كذّبهم فصبيّ غر أو مغفّل بليد.
و بعد أن عرفت فساد ذينك الزعمين و بطلانهما،فاعلم أنه لم يصور واقع الدنيا،و يعرض خدعها و أمانيها المغرّرة كما صورها القرآن الكريم،و عرّفها أهل البيت عليهم السّلام،فإذا هي برق خلاّب و سراب خادع.
أنظر كيف يصور القرآن واقع الدنيا و غرورها،فيقول تعالي:
أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ،وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ،كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ،ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا،ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً،وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ (الحديد:20).
و قال تعالي: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ،فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ،مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ،حَتّي إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، وَ ازَّيَّنَتْ،وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها،أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً،فَجَعَلْناها حَصِيداً،كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ،كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24).
و قال عز و جل: فَأَمّا مَنْ طَغي، وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوي، وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ،وَ نَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوي، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوي (النازعات:37-41).
و قال الصادق(ع):«ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها،أحدهما
ص: 131
في أولها،و الآخر في آخرها،بأفسد فيها،من حب الدنيا و الشرف في دين المسلم» (1).
و قال الباقر(ع):«مثل الحريص علي الدنيا،مثل دودة القز كلّما ازدادت من القز علي نفسها لفّا،كان أبعد لها من الخروج،حتي تموت غمّا» (2).
و قال الصادق(ع):«من أصبح و أمسي،و الدنيا أكبر همّه،جعل اللّه تعالي الفقر بين عينيه،و شتت أمره،و لم ينل من الدنيا إلا ما قسم له،و من أصبح و أمسي و الآخرة أكبر همه،جعل اللّه تعالي الغني في قلبه،و جمع له أمره» (3).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إنما الدنيا فناء و عناء و غير و عبر:
فمن فنائها:أنك تري الدهر موترا قوسه،مفوقا نبله،لا تخطيء سهامه، و لا يشفي جراحه،يرمي الصحيح بالسقم،و الحي بالموت.
و من عنائها:أن المرء يجمع ما لا يأكل،و يبني ما لا يسكن،ثم يخرج إلي اللّه لا مالا حمل و لا بناءا نقل.
و من غيرها أنك تري المغبوط مرحوما،و المرحوم مغبوطا،ليس بينهم إلا نعيم زلّ،و بؤس نزل.
و من عبرها:أن المرء يشرف علي أمله،فيتخطفه أجله،فلا أملّ مدروك، و لا مؤمّل متروك» (4).
و قال الإمام موسي بن جعفر عليهما السّلام:«يا هشام،إن العقلاء زهدوا في الدنيا،و رغبوا في الآخرة،لأنهم علموا أن الدنيا طالبة و مطلوبة،و الآخرة طالبة و مطلوبة:فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا،حتي يستوفي منها رزقه،و من طلب الدنيا طلبته الآخرة،فيأتيه الموت،فيفسد عليه دنياه و آخرته» (5).
********
(1) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 154 عن الكافي.
(4) سفينة البحار ج 1 ص 467.
(5) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم.
ص: 132
تواطأ الناس بأسرهم،علي ذم الدنيا و شكايتها،لمعاناة آلامها،ففرحها مكدّر بالحزن،و راحتها منغصة بالعناء،لا تصفو لأحد،و لا يهنأ بها إنسان.
و بالرغم من تواطئهم علي ذلك تباينوا في سلوكهم و موقفهم من الحياة:
فمنهم من تعشّقها،و هام بحبها،و تكالب علي حطامها،ما صيرهم في حالة مزرية،من التنافس و التناحر.
و منهم من زهد فيها،و انزوي هاربا من مباهجها و متعها إلي الأديرة و الصوامع،ما جعلهم فلولا مبعثرة علي هامش الحياة.
و جاء الإسلام،و الناس بين هذين الاتجاهين المتعاكسين،فاستطاع بحكمته البالغة،و إصلاحه الشامل،أن يشرّع نظاما خالدا،يؤلّف بين الدين و الدنيا،و يجمع بين مآرب الحياة و أشواق الروح،بأسلوب يلائم فطرة الإنسان، و يضمن له السعادة و الرخاء.
فتراة تارة يحذّر عشّاق الحياة من خدعها و غرورها،ليحررهم من أسرها و استرقاقها،كما صورته الآثار السالفة.
و أخري يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلي لذائذها البريئة و أشواقها المرفرفة،لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة،و يصبحوا عرضة للفاقة و الهوان.
قال الصادق(ع):«ليس منّا من ترك دنياه لآخرته،و لا آخرته لدنياه» (1).
و قال العالم(ع):«إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا،و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» (2).
و بهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام،و توغل المسلمون في مدارج الكمال،و معارج الرقيّ الماديّ و الروحي.
********
(1) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه.
ص: 133
و علي ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:
1-التمتع بملاذ الحياة،و طيباتها المحللة،مستحسن لا ضير فيه،ما لم يكن مشتملا علي حرام أو تبذير،كما قال سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ،وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ،قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (الأعراف:32).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إعلموا عباد اللّه أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة،فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم،و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم،سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت،و أكلوها بأفضل ما أكلت،فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون،و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون،ثم انقلبوا عنها بالزاد المبّلغ و المتجر الرابح» (1).
2-إن التوفر علي مقتنيات الحياة و نفائسها و رغائبها،هو كالأول مستحسن محمود،إلا ما كان مختلسا من حرام،أو صارفا عن ذكر اللّه تعالي و طاعته.
أما اكتسابها إستعفافا عن الناس،أو تذرعا بها إلي مرضاة اللّه عز و جل كصلة الأرحام،و إعانة البؤساء،و إنشاء المشاريع الخيرية كالمساجد و المدارس و المستشفيات،فإنه من أفضل الطاعات و أعظم القربات،كما صرح بذلك أهل البيت عليهم السّلام:
قال الصادق(ع):«لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال،يكفّ به وجهه،و يقضي به دينه،و يصل به رحمه» (2).
و قال رجل لأبي عبد اللّه(ع):«و اللّه إنا لنطلب الدنيا و نحب أن نؤتاها.
فقال:تحب أن تصنع بها ما ذا؟قال:أعود بها علي نفسي و عيالي،و أصل بها،و أتصدق بها،و أحج،و أعتمر.فقال أبو عبد اللّه:ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة» (3).
********
(1) نهج البلاغة.
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي.
(3) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي.
ص: 134
3-إن حب البقاء في الدنيا ليس مذموما مطلقا،و إنما يختلف بالغايات و الأهداف،فمن أحبّه لغاية سامية،كالتزود من الطاعة،و استكثار الحسنات، فهو مستحسن.و من أحبّه لغاية دنيئة،كممارسة الآثام،و اقتراف الشهوات، فذلك ذميم مقيت،كما قال زين العابدين(ع):«عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك،فإذا كان عمري مرتعا للشيطان فاقبضني إليك».
و نستخلص مما أسلفناه أنّ الدنيا المذمومة هي التي تخدع الإنسان،و تصرفه عن طاعة اللّه تعالي،و التأهب للحياة الأخروية.
ما أحسن الدين و الدنيا إذا اجتمعا و أقبح الكفر و الإفلاس في الرجل
1-من أبرز مساويء الغرور أنّه يلقي حجابا حاجزا بين العقل و واقع الإنسان،فلا يتبينّ آنذاك نقائصه و مساويه،من جشع،و حرص،و تكالب علي الحياة،مما يسبب نقصه و ذمّه.
2-إن الغرور يشقي أربابه،و يدفعهم إلي معاناة الحياة،و مصارعتها، دون اقتناع بالكفاف،أو نظر لزوالها المحتوم،مما يظنيهم و يشقيهم،كما صوره الخبر الآنف الذكر:«مثل الحريص علي الدنيا مثل دودة القز،كلما ازدادت علي نفسها لفّا،كان أبعد لها من الخروج حتي تموت غما».
3-و الغرور بعد هذا و ذاك،من أقوي الصوارف و الملهيات عن التأهب للآخرة و التزود من الأعمال الصالحة،الموجبة للسعادة الأخروية،و نعيمها الخالد.
قال تعالي: فَأَمّا مَنْ طَغي، وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوي، وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ،وَ نَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوي، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوي (النازعات:37-41).
و هو كما يلي مجملا:
ص: 135
1-استعراض الآيات و النصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا و أخطاره الرهيبة.
2-إجماع الأنبياء و الأوصياء و الحكماء علي فناء الدنيا،و خلود الآخرة، فجدير بالعاقل أن يؤثر الخالد علي الفاني،و يتأهب للسعادة الأبدية و النعيم الدائم، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقي، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولي، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسي (الأعلي:16-19).
3-الإفادة من المواعظ البليغة،و الحكم الموجهة،و القصص الهادفة المعبرة عن ندم الطغاة و الجبارين،علي اغترارهم في الدنيا،و صرف أعمارهم باللهو و الفسوق.
و من أبلغ العظات و أقواها أثرا في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسن (ع):«أحي قلبك بالموعظة،و أمته بالزهادة،و قوّه باليقين،و نوّره بالحكمة، و ذلله بذكر الموت،و قرره بالفناء،و بصره فجائع الدنيا،و حذّره صولة الدهر، و فحش تقلب الليالي و الأيام،و اعرض عليه أخبار الماضين،و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين،و سر في ديارهم و آثارهم،فانظر فيما فعلوا،و عمّا انتقلوا،و أين حلّوا و نزلوا،فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة،و حلّوا ديار الغربة،و كأنك عن قليل قد صرت كأحدهم،فأصلح مثواك،و لا تبع آخرتك بدنياك» (1).
و من روائع الحكم التشبيه التالي:
«فقد شبّه الحكماء الإنسان و إنهماكه في الدنيا،و اغتراره بها،و غفلته عمّا وراءها،كشخص مدلي في بئر،و وسطه مشدود بحبل،و في أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم،متوجه إليه،منتظر لسقوطه،فاتح فاه لالتقامه،و في أعلي ذلك البئر جرذان أبيض و أسود،لا يزالان يقرضان ذلك الحبل،شيئا فشيئا،و لا يفتران عن قرضه آنا ما،و ذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان،و مشاهدته لانقراض الحبل آنا فآنا،قد أقبل علي قليل عسل،قد لطخ به جدار ذلك البئر
********
(1) نهج البلاغة في وصيته(ع)لابنه الحسن.
ص: 136
و امتزج بترابه،و اجتمع عليه زنابير كثيرة،و هو مشغول بلطعه،منهمك فيه، متلذذ بما أصاب منه،مخاصم لتلك الزنابير التي عليه،قد صرف جميع باله إلي ذلك،فهو غير ملتفت إلي ما فوقه و ما تحته.
فالبئر هو الدنيا،و الحبل هو العمر،و الثعبان الفاتح فاه هو الموت، و الجرذان هما الليل و النهار القارضان للأعمار،و العسل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدر و الآثام،و الزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها».
و من العبر البالغة في تصرم الحياة و إن طالت:ما روي أن نوحا(ع)عاش ألفين و خمسمائة عام،ثم إن ملك الموت جاءه و هو في الشمس،فقال:السّلام عليك.فردّ عليه نوح(ع)و قال له:ما حاجتك يا ملك الموت؟قال:جئت لأقبض روحك.فقال له:تدعني أ تحوّل من الشمس إلي الظل.فقال له:نعم.
فتحول نوح(ع)ثم قال:يا ملك الموت فكأنّ ما مرّ بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلي الظل!!فامض لما أمرت به.فقبض روحه(ع).
و من عبر الطغاة و الجبارين ما قاله المنصور لّما حضرته الوفاة«بعنا الآخرة بنومة».
و ردّد هارون الرشيد و هو ينتقي أكفانه عند الموت: ما أَغْني عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (الحاقة:28-29).
و قيل لعبد الملك بن مروان في مرضه:كيف تجدك يا أبا مروان؟قال:
أجدني كما قال اللّه تعالي: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادي كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (الأنعام:94).
و رأي زيتون الحكيم رجلا علي شاطيء البحر مهموما محزونا،يتلهف علي الدنيا،فقال له:يا فتي ما تلهفك علي الدنيا؟!لو كنت في غاية الغني،و أنت راكب لجة البحر،و قد انكسرت بك السفينة،و أشرفت علي الغرق،أما كانت غاية مطلوبك النجاة،و إن يفوتك كل ما بيدك.قال:نعم.
قال:و لو كنت ملكا علي الدنيا،و أحاط بك من يريد قتلك،أما كان مرادك النجاة من يده،و لو ذهب جميع ما تملك.قال:نعم.
ص: 137
قال:فأنت ذلك الغنيّ الآن،و أنت ذلك الملك،فتسلي الرجل بكلامه.
و قال بعض العارفين لرجل من الأغنياء:كيف طلبك للدنيا؟فقال:
شديد.قال:فهل أدركت منها ما تريد؟قال:لا.قال:هذه التي صرفت عمرك في طلبها لم تحصل منها علي ما تريد فكيف التي لم تطلبها!!
و لا ريب أن تلك العظات لا تنجع إلا في القلوب السليمة،و العقول الواعية،أما الذين إسترقتهم الحياة،و طبعت علي قلوبهم،فلا يجديهم أبلغ المواعظ،كما قال بعض العارفين:إذا أشرب القلب حب الدنيا لم تنجع فيه كثرة المواعظ،كما أن الجسد إذا استحكم فيه الداء،لم ينجع فيه كثرة الدواء.
و من صور الغرور و مفاتنه،الاغترار بالعلم،و اتساع المعارف،مما يثير في بعض الفضلاء الزهو و التيه،و التنافس البشع علي الجاه،و التهالك علي الأطماع، و نحوها من الخلال المقيتة،التي لا تليق بالجهّال فضلا عن العلماء.
و ربّما أفرط بعضهم في الزهو و الغرور،فجنّ بجنون العظمة،و التطاول علي الناس بالكبر و الإزدراء.
و فات المغترين بالعلم أنّ العلم ليس غاية في نفسه،و إنّما هو وسيلة لتهذيب الإنسان و تكامله،و إسعاده في الحياتين الدنيوية و الأخروية،فإذا لم يحقق العلم تلك الغايات السامية،كان جهدا ضائعا،و عناء مرهقا،و غرورا خادعا:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (الجمعة:5).
و قد أحسن الشاعر حيث يقول:
و لو أنّ أهل العلم صانوه صانهم و لو عظّموه في النفوس لعظما
و لكن أهانوه فهان و جهّموا محياه بالأطماع حتي تجهما
فالعلم كالغيث ينهلّ علي الأرض الطيبة،فيحيلها جنانا وارفة،تزخر بالخير و الجمال،و ينهلّ علي الأرض السبخة فلا يجديها نفعا.
ص: 138
و هكذا يفييء العلم علي الكرام طيبة و بهاءا،و علي اللئام خبثا و لؤما.
و كيف يغتر العالم بعلمه،و لم يكن الوحيد في مضماره،فقد عرف الناس قديما و حديثا علماء أفذاذا جلّوا في ميادين العلم،و حلقوا في آفاقه،و كانت لهم مآثرهم العلمية الخالدة.
و علي م الاغترار بالعلم،و مسؤولية العالم خطيرة،و مؤاخذته أشدّ من الجاهل،و الحجة عليه الزم،فإن لم يهتد بنور العلم،و يعمل بمقتضاه،كان العلم و بالا عليه،و غدا قدوة سيئة للناس.
انظر كيف يصور أهل البيت عليهم السّلام جرائر العلماء المنحرفين، و أخطارهم:
فعن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):
«صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي،و إذا فسدا فسدت أمتي.قيل:يا رسول اللّه و من هما؟قال:الفقهاء و الأمراء» (1).
و قال الصادق(ع):«يغفر للجاهل سبعون ذنبا،قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد» (2).
و قال النبي(ص):«يطلع قوم من أهل الجنة إلي قوم من أهل النار، فيقولون:ما أدخلكم النار و قد دخلنا الجنة لفضل تأديبكم و تعليمكم؟فيقولون:
إنا كنا نأمر بالخير و لا نفعله» (3).
فجدير بالعلماء و الفضلاء أن يكونوا قدوة حسنة للناس،و نموذجا للخلق الرفيع،و ان يتفادوا ما وسعهم مزالق الغرور،و خلاله المقيتة،و أن يستشعروا الآية الكريمة:
تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص:83).
********
(1) البحار م 1 ص 83 عن خصال الشيخ الصدوق.
(2) الوافي مجلد العقل و العلم ص 52 عن الكافي.
(3) الوافي في وصيته(ص)لأبي ذر.
ص: 139
و يعتبر الجاه و السلطة من أقوي دواعي الغرور،و أشد بواعثه،فتري المتسلطين يتيهون علي الناس زهوا و غرورا،و يستذلون كراماتهم صلفا و كبرا.
و قد عاش الناس هذه المأساة في غالب العصور،و عانوا غرور المتسلطين و تحديهم،بأسي و لوعة بالغين.
و فات هؤلاء المغرورين بمفاتن السلطة و الزعامة،إن الإسراف في الغرور و الأنانية أمر يستنكره الإسلام و يتوعد عليه بصنوف الإنذار و الوعيد،في عاجل الحياة و آجلها،كما يعرضهم لمقت الناس و غضبهم و لعنهم،و يخسرون بذلك أغلي و أخلد مآثر الحياة:حب الناس و عطفهم،و كان عليهم أن يستغلوا جاههم،و نفوذهم في استقطاب الناس،و توفير رصيدهم الشعبي،و كسب عواطف الجماهير و ودّهم.
أحسن إلي الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإحسان إنسانا
و أقوي عامل علي تخفيف حدة هذا الغرور،و قمع نزواته العارمة،هو التأمل و التفكر فيما ينتاب هؤلاء المغرورين من صروف الدهر،و سطوة الأقدار، و تنكّر الزمان.فصاحب السلطان كراكب الأسد،لا يدري أمد غضبه و افتراسه.
و قد زخر التاريخ بصنوف العبر و العظات الدالة علي ذلك:
منها:ما ذكره عبد اللّه بن عبد الرحمن صاحب الصلاة بالكوفة،قال:
دخلت إلي أمي في يوم أضحي،فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة،و ذلك في سنة 190،فإذا لها لسان و بيان،فقلت لأمي:من هذه؟قالت:خالتك عباية أم جعفر بن يحيي البرمكي.فسلمت عليها،و تحفيت بها،و قلت:أصارك الدهر إلي ما أري؟!
فقالت:نعم يا بني،إنّا كنّا في عواري ارتجعها الدهر منّا.فقلت:
فحدثيني ببعض شأنك.
فقالت:خذه جملة،لقد مضي عليّ أضحي،و علي رأسي أربعمائة وصيفة،
ص: 140
و أنا أزعم أنّ ابني عاق،و قد جئتك اليوم أطلب جلدتي شاة،اجعل إحداهما شعارا،و الأخري دثارا.
قال فرققت لها،و وهبت لها دراهم،فكادت تموت فرحا (1).
و دخل بعض الوعاظ علي الرشيد،فقال:عظني،فقال له:أتراك لو منعت شربة من ماء عند عطشك،بم كنت تشتريها؟قال:بنصف ملكي.
قال:أ تراها لو حبست عند خروجها بم كنت تشتريها؟قال:بالنصف الباقي.
قال:فلا يغرنّك ملك قيمته شربة ماء (2).
فجدير بالعاقل أن يدرك أن جميع ما يزهو به،و يدفعه علي الغرور من مال،أو علم،أو جاه،و نفوذ،إنّما هي نعم و ألطاف إلهية أسداها المنعم الأعظم،فهي أحري بالحمد،و أجدر بالشكر،منها بالغرور و الخيلاء.
ليس طلب الجاه مذموما علي الإطلاق،و إنما هو مختلف باختلاف الغايات و الأهداف،فمن طلبه لغاية مشروعة،و هدف سام نبيل،كنصرة المظلوم، و عون الضعيف،و دفع المظالم عن نفسه أو غيره،فهو الجاه المحبب المحمود.
و من توخاه للتسلط علي الناس،و التعالي عليهم،و التحكم بهم،فذلك هو الجاه الرخيص الذميم.
و قد تلتبس الغايات أحيانا في بعض صور الجاه،كالتصدي لإمامة الجماعة،و ممارسة توجيه الناس و إرشادهم،و تسنم المراكز الروحية الهامة.
فتتميز الغايات آنذاك بما يتصف به ذووها من حسن الإخلاص،و سمو الغاية،و حب الخير للناس،أو يتسمون بالأنانية،و الانتهازية،و هذا من صور الغرور الخادعة،أعاذنا اللّه منها جميعا.
********
(1) سفينة البحار م 2 ص 609.
(2) لآلي التركاني.
ص: 141
و هكذا يستثير المال كوامن الغرور،و يعكس علي أربابه صورا مقيتة من التلبيس و الخداع.
فهو يفتن الأثرياء من عشاق الجاه،و يحفزّهم علي السخاء و الأريحية، بأموال مشوبة بالحرام،و يحسبون أنهم يحسنون صنعا،و هم مخدوعون مغرورون.
و قد يتعطف بعضهم علي البؤساء و المعوزين جهرا و يشحّ عليهم سرا، كسبا للسمعة و الإطراء،و هو مغرور مفتون.
و منهم من يمتنع عن أداء الحقوق الإلهية المحتّمة عليه بخلا و شحا،مكتفيا بأداء العبادات التي لا تتطلب البذل و الإنفاق،كالصلاة و الصيام،زاعما براءة ذمته بذلك،و هو مفتون مغرور،إذ يجب أداء الفرائض الإلهية مادية و عبادية، و لكل فرض أهميته في عالم العقيدة و الشريعة.
من أجل ذلك كان المال من أخطر بواعث الغرور و مفاتنه.
فعن الصادق(ع)قال:«يقول ابليس:ما أعياني في ابن آدم فلن يعيني منه واحدة من ثلاثة:أخذ مال من غير حلّه،أو منعه،من حقه،أو وضعه في غير وجهه» (1).
و عن أمير المؤمنين(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):«إن الدينار و الدرهم أهلكا من كان قبلكم،و هما مهلكاكم» (2).
للمال محاسنه و مساوئه،و مضاره و منافعه،فهو يسعد و يشقي أربابه تبعا لوسائل كسبه و غايات إنفاقه.
فمن محاسنه:أنه الوسيلة الفعالة لتحقيق وسائل العيش،و نيل مآرب
********
(1) عن خصال الصدوق(ره).
(2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
ص: 142
الحياة،و أشواقها المادية،و السبب القوي في عزة ملاكه و استغنائهم عن لئام الناس،و الذريعة الهامة في كسب المحامد و الأمجاد،كما قال الشريف الرضي رحمه اللّه:
أشتر العزّ بما بيع فما العز بغالي
بالقصار الصفر إن شئت أو السمر الطوال
ليس بالمغبون عقلا من شري عزا بمال
إنما يدّخر المال لحاجات الرجال
و الفتي من جعل الأموال أثمان المعالي
كما أن المال من وسائل التزود للآخرة،و كسب السعادة الأبدية فيها.
و من مساويء المال:أنه باعث علي التورط في الشبهات،و اقتراف المحارم و الآثام،كاكتسابه بوسائل غير مشروعة،أو منع الحقوق الإلهية المفروضة عليه، أو إنفاقه في مجالات الغواية و المنكرات،كما أوضحت غوائله النصوص السالفة.
و هو إلي ذلك من أقوي الصوارف و الملهيات عن ذكر اللّه عز و جل، و التأهب للحياة الأخروية الخالدة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ،وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (المنافقون:9).
فليس المال مذموما إطلاقا،و إنما يختلف باختلاف وسائله و غاياته،فإن صحت و نبلت كان مدعاة للحمد و الثناء،و إن هبطت و أسفّت كان مدعاة للذم و الاستنكار.
و لما كانت النفوس مشغوفة بالمال،مولعة بجمعه و اكتنازه،فحريّ بالمؤمن الواعي المستنير،أن لا ينخدع ببريقه،و يغتر بمفاتنه،و أن يتعظ بحرمان المغرورين به،و الحريصين عليه،من كسب المثوبة في الآخرة،و إفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم و كفافهم في الدنيا،فإنهم خزّان أمناء،يكدحون و يشقون في ادخاره،ثم يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين،فيكون عليهم الوزر و لأبنائهم المهنّي و الاغتباط.
ص: 143
و قد يغتر بعضهم برفعة أنسابهم،و انحدارهم من سلالة أهل البيت(ع)، فيحسبون أنهم ناجون بزلفاهم،و إن انحرفوا عن نهجهم،و تعسفوا طرق الغواية و الضلال.
و هو غرور خادع حيث أن اللّه تعالي يكرم المطيع و لو كان عبدا حبشيا، و يهين العاصي و لو كان سيدا قرشيا.
و ما نال أهل البيت عليهم السّلام تلك المآثر الخالدة و نالوا شرف العزة و الكرامة عند اللّه عز و جل إلا باجتهادهم في طاعة اللّه،و تفانيهم في مرضاته.
فاغترار الأبناء بشرف آبائهم و عراقتهم،و هم منحرفون عن سيرتهم،من أحلام اليقظة و مفاتن الغرور.
أ رأيت جاهلا غدا عالما بفضيلة آبائه؟أو جبانا صار بطلا بشجاعة أجداده؟أو لئيما عاد سخيا معطاءا بجود أسلافه؟كلا،ما كان اللّه تعالي ليساوي بين المطيع و العاصي،و بين المجاهد و الوادع.
أنظر كيف يقص القرآن الكريم ضراعة نوح(ع)إلي ربه في استشفاع وليده الحبيب و نجاته من غمرات الطوفان الماحق،فلم يجده ذلك لكفر ابنه و غوايته: وَ نادي نُوحٌ رَبَّهُ،فَقالَ:رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ:يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ،إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ،فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (هود:45- 46).
و استمع إلي سيد المرسلين(ص)كيف يملي علي أسرته الكريمة درسا خالدا في الحث علي طاعة اللّه تعالي و تقواه،و عدم الاغترار بشرف الأنساب و الأحساب،كما جاء عن أبي جعفر(ع)أنه قال:«قام رسول اللّه(ص)علي الصفا،فقال:يا بني هاشم يا بني عبد المطلب،إني رسول اللّه إليكم،و إني شفيق عليكم،و إن لي عملي،و لكل رجل منكم عمله،لا تقولوا إن محمدا منّا، و سندخل مدخله،فلا و اللّه ما أوليائي منكم،و لا من غيركم يا بني عبد المطلب
ص: 144
إلا المتقون،ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا علي ظهوركم، و يأتي الناس يحملون الآخرة،ألا إني قد أعذرت إليكم،فيما بيني و بينكم،و فيما بيني و بين اللّه تعالي فيكم» (1).
فجدير بالعاقل أن يتوقي فتنة الغرور بشرف الأنساب،و أن يسعي جاهدا في تهذيب نفسه و توجيهها وجهة الخير و الصلاح،متمثلا قول الشاعر:
إن الفتي من يقول ها أنا ذا ليس الفتي من يقول كان أبي
و هو:تمني زوال نعمة المحسود،و انتقالها للحاسد،فإن لم يتمنّ زوالها بل تمني نظيرها،فهو غبطة،و هي ليست ذميمة.
و الحسد من أبشع الرذائل و ألأم الصفات،و أسوأ الانحرافات الخلقية أثرا و شرا،فالحسود لا ينفك عن الهم و العناء،ساخطا علي قضاء اللّه سبحانه في رعاية عبيده،و آلائه عليهم،حانقا علي المحسود،جاهدا في كيده،فلا يستطيع ذلك،فيعود و بال حسده عليه،و يرتد كيده في نحره.
ناهيك في ذم الحسد و الحساد،و خطرها البالغ،إن اللّه تعالي أمر بالاستعاذة من الحاسد،بعد الاستعاذة من شر ما خلق قائلا: وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (الفلق:5).
لذلك تكاثرت النصوص في ذمه و التحذير منه:
قال رسول اللّه(ص):«الحسد يأكل الحسنات،كما تأكل النار الحطب» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد،نفس دائم،و قلب هائم،و حزن لازم» (3).
********
(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 3 عن المجازات النبوية،و جاء في الكافي عن الصادق(ع)«يأكل الإيمان»بدل الحسنات.
(3) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن كنز الكراجكي.
ص: 145
و قال الحسن بن علي(ع):«هلاك الناس في ثلاث:الكبر،و الحرص، و الحسد.
فالكبر:هلاك الدين و به لعن إبليس.
و الحرص:عدو النفس،و به أخرج آدم من الجنة.
و الحسد:رائد السوء،و منه قتل قابيل هابيل» (1).
و قال رسول اللّه(ص)ذات يوم لأصحابه:«ألا إنه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم و هو الحسد،ليس بحالق الشعر،لكنه حالق الدين،و ينجي منه أن يكفّ الإنسان يده،و يخزن لسانه،و لا يكون ذا غمز علي أخيه المؤمن» (2).
للحسد أسباب و بواعث نجملها في النقاط التالية:
1-خبث النفس:
فهناك شذّاذ طبعوا علي الخبث و اللؤم،فنراهم يحزنون بمباهج الناس و سعادتهم،و يسرّون بشقائهم و مآسيهم،و من ثم يحسدونهم علي ما آتاهم اللّه من فضله،و إن لم يكن بينهم ترة أو عداء،و ذلك لخبثهم و لؤم طباعهم.
2-العداء:
و هو أقوي بواعث الحسد،و أشدها صرامة علي مكايدة الحسود و استلاب نعمته.
3-التنافس:
بين أرباب المصالح و الغايات المشتركة:كتحاسد أرباب المهن المتحدة و تحاسد الأبناء في الحظوة لدي آبائهم،و تحاسد بطانة الزعماء و الأمراء في الزلفي لديهم.
********
(1) عن كشف الغمة.
(2) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن مجالس الشيخ المفيد و أمالي ابن الشيخ الطوسي.
ص: 146
و هكذا تكثر بواعث الحسد بين فئات تجمعهم وحدة الأهداف و الروابط، فلا تجد تحاسدا بين متباينين هدفا و اتجاها،فالتاجر يحسد نظيره التاجر دون المهندس و الزارع.
4-الأنانية:
و قد يستحوذ الحسد علي ذويه بدافع الأثرة و الأنانية،رغبة في التفوق علي الأقران،و حبا بالتفرّد و الظهور.
5-الازدراء:
و قد ينجم الحسد عن ازدراء الحاسد للمحسود،مستكثرا نعم اللّه عليه، حاسدا له علي ذلك.
و ربما اجتمعت بواعث الحسد في شخص،فيغدو آنذاك بركانا ينفجر حسدا و بغيا،يتحدي محسوده تحديا سافرا مليئا بالحنق و اللؤم،لا يستطيع كتمان ذلك،مما يجعله شريرا مجرما خطيرا.
يختص الحسد بين الأمراض الخلقية بأنّه أشدّها ضررا،و أسوأها مغبة في دين الحاسد و دنياه.
1-فمن أضراره العاجلة في دنيا الحاسد،أنه يكدّر عليه صفو الحياة و يجعله قرين الهمّ و العناء،لتبرمه بنعم اللّه علي عباده،و هي عظيمة و فيرة، و ذلك ما يشقيه،و يتقاضاه عللا صحية و نفسية ماحقة.
كما يفجعه في أنفس ذخائر الحياة:في كرامته،و سمعته،فتراه ذميما محقّرا،منبوذا تمقته النفوس،و تنبذه الطباع.
و يفجعه كذلك في أخلاقه،فتراه لا يتحرج عن الوقيعة بمحسوده، بصنوف التهم و الأكاذيب المحرّمة في شرعة الأخلاق،و لا يألو جهدا في إثارة الفتن المفرقة بينه و بين أودّائه،و ذوي قرباه،نكاية به و إذلالا له.
و أكثر الناس استهدافا للحسد،و معاناة لشروره و أخطاره،اللامعون
ص: 147
المتفوقون من أرباب العلم و الفضائل،لما ينفسه الحساد عليهم من سمو المنزلة، و جلالة القدر،فيسعون جاهدين في ازدرائهم و استنقاصهم،و شنّ الحملات الظالمة عليهم.
و هذا هو سر ظلامة الفضلاء،و حرمانهم من عواطف التقدير و الإعزاز، و ربما طاشت سهام الحسد،فأخلفت ظن الحاسد،و عادت عليه باللوعة و الأسي،و علي المحسود بالتنويه و الإكبار كما قال أبو تمام:
و إذا أراد اللّه نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لو لا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
لو لا التخوف للعواقب لم يزل للحاسد النعمي علي المحسود
و يقول الآخر:
إصبر علي حسد الحسود فإنّ صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
2-و أما أضرار الحسد الآجلة:
فقد عرفت ما يتذرع به الحاسد من صنوف الدس و التخريب في الوقيعة بالمحسود،و هدر كرامته.و هذا ما يعرض الحاسد لسخط اللّه تعالي و عقابه، و يأكل حسناته كما تأكل النار الحطب.
هذا إلي تنمّر الحاسد،و سخطه علي مشيئة اللّه سبحانه،في إغداق نعمه علي عباده،و تلك جرأة صارخة تبوّئه السخط و الهوان.
و إليك بعض النصائح العلاجية للحسد:
1-ترك تطلع المرء إلي من فوقه سعادة و رخاء و جاها،و النظر إلي من دونه في ذلك،ليستشعر عناية اللّه تعالي به،و آلائه عليه،فتخف بذلك نوازع الحسد و ميوله الجامحة.
2-تذكّر مساويء الحسد،و غوائله الدينية و الدنيوية،و ما يعانيه الحسّاد
ص: 148
من صنوف المكاره و الأزمات.
3-مراقبة اللّه تعالي،و الإيمان بحكمة تدبيره لعباده،و الاستسلام لقضائه،متوقيا بوادره الحسد،و مقتضياته الأثيمة من ثلب المحسود و الإساءة إليه،كما قال(ص):«و ينجي منه أن يكفّ الإنسان يده،و يخزن لسانه،و لا يكون ذا غمز علي أخيه المؤمن».
و لو لم يكن في نبذ الحسد إلا استهجانه،و الترفع عن الاتصاف بمثالبه المقيتة،لوجب نبذه و مجافاته.
و جدير بالآباء أن لا يميزوا بين أبنائهم في شمول العناية و البر،فيبذروا في نفوسهم سموم الحسد،و دوافعه الأثيمة.
و هي:ذكر المؤمن المعين بما يكره،سواء أ كان ذلك في خلقه،أو خلقه، أو مختصاته.
و ليست الغيبة محصورة باللسان،بل تشمل كل ما يشعر باستنقاص الغير، قولا أو عملا،كتابة أو تصريحا.
و قد عرفها الرسول الأعظم(ص)قائلا:هل تدرون ما الغيبة؟قالوا:اللّه و رسوله أعلم.قال:«ذكرك أخاك بما يكره».
قيل له:أ رأيت إن كان في أخي ما أقول؟قال:«إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته،و إن لم يكن فيه فقد بهته».
و هي من أخسّ السجايا،و ألأم الصفات،و أخطر الجرائم و الآثام، و كفاها ذمّا أن اللّه تعالي شبّه المغتاب بآكل لحم الميتة،فقال: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً،أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (الحجرات:
12).
و قال سبحانه ناهيا عنها: لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ،وَ كانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (النساء:148).
ص: 149
و هكذا جاءت النصوص المتواترة في ذمّها،و التحذير منها:
قال رسول اللّه(ص):«الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه» (1).
و قال الصادق(ع):«من روي علي مؤمن رواية يريد بها شينه،و هدم مروته،ليسقط من أعين الناس،أخرجه اللّه عز و جل من ولايته إلي ولاية الشيطان» (2).
و قال الصادق(ع):«لا تغتب فتغتب،و لا تحفر لأخيك حفرة،فتقع فيها،فإنك كما تدين تدان» (3).
و قال الصادق(ع):«قال رسول اللّه(ص):«من أذاع فاحشة كان كمبتدئها،و من عيّر مؤمنا بشيء لا يموت حتي يركبه» (4).
و جدير بالعاقل أن يترفّع عن مجاراة المغتابين،و الاستماع إليهم،فإن المستمع للغيبة صنو المستغيب،و شريكه في الإثم.
و لا يعفيه من ذلك إلا أن يستنكر الغيبة بلسانه،أو يطور الحديث بحديث بريء،أو النفار من مجلس الاغتياب،فإن لم يستطع ذلك كله،فعليه الإنكار بقلبه،ليأمن جريرة المشاركة في الاغتياب.
قال بعض الحكماء:«إذا رأيت من يغتاب الناس،فاجهد جهدك أن لا يعرفك،فإن أشقي الناس به معارفوه».
و كما يجب التوقي من استماع الغيبة،كذلك يجدر حفظ غيبة المؤمن، و الذب عن كرامته،إذا ما ذكر بالمزريات،فعن الصادق(ع)قال:قال رسول
********
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 177 عن الكافي.
(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 187 عن ثواب الأعمال و محاسن البرقي و أمالي الصدوق.
(3) البحار م 15 كتاب العشرة ص 185 عن أمالي الصدوق.
(4) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال و محاسن البرقي.
ص: 150
اللّه(ص):«من ردّ عن عرض أخيه المسلم وجبت له الجنة ألبتّة» (1).
و جدير بالذكر أن حرمة الاغتياب مختصة بمن يعتقد الحق،فلا تسري إلي غيره من أهل الضلال.
للغيبة بواعث و دوافع أهمها ما يلي:
1-العداء أو الحسد،فإنهما أقوي دواعي الاغتياب و التشهير بالمعادي أو المحسود،نكاية به،و تشفيا منه.
2-الهزل،و هو باعث علي ثلب المستغاب،و محاكاته إثارة للضحك و المجون.
3-المباهاة:و ذلك بذكر مساويء الغير تشدقا و مباهاة بالترفع عنها و البراءة منها.
4-المجاراة:فكثيرا ما يندفع المرء علي الاغتياب مجاراة للأصدقاء و الخلطاء اللاهين بالغيبة،و خشية من نفرتهم إذا لم يحاورهم في ذلك.
من أهم الأهداف و الغايات التي حققها الإسلام.و عني بها عناية كبري، إتحاد المسلمين و تآزرهم و تآخيهم،ليكونوا المثل الأعلي في القوة و المنعة،و سمو الكرامة،و المجد.و عزّز تلك الغاية السامية بما شرّعه من نظم و آداب،لتكون دستورا خالدا للمسلمين،فحثّهم علي ما ينمّي الألفة و المودة و يوثّق العلائق الاجتماعية،و يحقق التآخي و التآزر،كحسن الخلق،و صدق الحديث،و أداء الأمانة،و الاهتمام بشؤون المسلمين،و رعاية مصالحهم العامة.و نهاهم عن كل ما يعكّر صفو القلوب،و يثير الأحقاد و الضغائن الموجبة لتناكر المسلمين، و تقاطعهم كالكذب،و الغش،و الخيانة،و السخرية.
و حيث كانت الغيبة عاملا خطيرا،و معولا هدّاما،في تقويض صرح
********
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال.
ص: 151
المجتمع،و إفساد علاقاته الوثيقة،فقد حرّمها الشرع الإسلامي،و عدّها من كبائر الآثام.
فمن مساوئها:أنها تبذر سموم البغض و الفرقة في صفوف المسلمين، فتعكر صفو المحبة،و تفصم عري الصداقة،و تقطع و شائج القرابة.
و ذلك بأن الغيبة قد تبلغ المغتاب،و تستثير حنقه علي المستغيب،فيثأر منه،و يبادله الذم و القدح،و طالما أثارت الفتن الخطيرة،و المآسي المحزنة.
هذا إلي مساوئها و آثامها الروحية التي أوضحتها الآثار،حيث صرحت أن الغيبة تنقل حسنات المستغيب يوم القيامة إلي المستغاب،فإن لم يكن له حسنات طرح عليه من سيئات المستغاب،كما جاء عن النبي(ص)أنه قال:«يؤتي بأحدكم يوم القيامة،فيوقف بين يدي اللّه تعالي،و يدفع إليه كتابه،فلا يري حسناته،فيقول:إلهي ليس هذا كتابي فإني لا أري فيه طاعتي.فيقول له:إن ربك لا يضل و لا ينسي،ذهب عملك باغتياب الناس.
ثم يؤتي بآخر و يدفع إليه كتابه،فيري فيه طاعات كثيرة،فيقول:إلهي ما هذا كتابي،فإني ما عملت هذه الطاعات،فيقول له:إن فلانا اغتابك فدفعت حسناته إليك» (1).
الغيبة المحرمة هي ما قصد بها استنقاص المؤمن و إذلاله،فإن لم يقصد بها ذلك،و توقف عليها غرض وجيه،فلا حرمة فيها.و إليك ما ذكره العلماء من الموارد المسوّغة للغيبة:
1-شكاية المتظلم لإحقاق حقه عند الحاكم،فيصح نسبة الجناية و الظلم إلي الغير في هذه الحالة.
2-نصح المستشير في أمر ما كالتزويج و الأمانة،فيحق للمستشار أن يذكر مثالب المسؤول عنه.
********
(1) جامع السعادات ج 2 ص 301
ص: 152
و يصح كذلك تحذير المؤمن من صحبة فاسق أو مضلّ،بذكر مساوئهما من الفسق و الضلال،صيانة له من شرهما و إضلالهما،و يصح جرح الشاهد إذا ما سئل عنه.
3-ردّ من أدّعي نسبا مزورا.
4-القدح في مقالة فاسدة،أو إدّعاء باطل شرعا.
5-الشهادة علي مقترفي الجرائم و المحارم.
6-ضرورة التعريف:و ذلك بذكر الألقاب المقيتة،التي يتوقف عليها تعريف أصحابها،كالأعمش و الأعرج و نحوهما.
7-النهي عن المنكر:و ذلك بذكر مساويء شخص عند من يستطيع إصلاحه و نهيه عنها.
8-غيبة المتجاهر بالفسق كشرب الخمر،و لعب القمار،بشرط الاقتصار علي ما يتجاهر به،إذ ليس لفاسق غيبة.
و لا بدّ للمرء أن يستهدف في جميع تلك الموارد السالفة،الغاية النبيلة، و القصد السليم،من بواعث الغيبة،و يتجنب البواعث غير النبيلة،كالعداء و الحسد و نحوهما.
و ذلك باتّباع النصائح التالية:
1-تذكّر ما عرضناه من مساويء الغيبة،و أخطارها الجسيمة،في دنيا الإنسان و أخراه.
2-الاهتمام بتزكية النفس،و تجميلها بالخلق الكريم،و صونها عن معائب الناس و مساوئهم،بدلا من اغتيابهم و استنقاصهم.
قيل لمحمد بن الحنفية:من أدّبك؟قال:«أدبني ربي في نفسي،فما استحسنته من أولي الألباب و البصيرة تبعتهم به فاستعملته،و ما استقبحت من الجهال اجتنبته و تركته متنفرا،فأوصلني ذلك إلي كنوز العلم» (1).
********
(1) سفينة البحار م 1 ص 324.
ص: 153
3-استبدال الغيبة بالأحاديث الممتعة،و النوادر الشيقة،و القصص الهادفة الطريفة.
4-ترويض النفس علي صون اللسان،و كفّه عن بوادر الغيبة و قوارصها، و بذلك تخف نوازع الغيبة و بواعثها العارمة.
و سبيلها بعد الندم علي اقترافها،و التوبة من آثامها،التودد إلي المستغاب، و استبراء الذمة منه،فإن صفح و عفي،و إلا كان التودد إليه،و الاعتذار منه، مكافئا لسيئة الغيبة.
هذا إذا كان المستغاب حيّا،و لم يثر الاستيهاب منه غضبه و حقده،فإن خيف ذلك،أو كان ميتا أو غائبا،فاللازم-و الحالة هذه-الأستغفار له،تكفيرا عن اغتيابه،فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:«سئل النبي(ص)ما كفارة الاغتياب؟ قال:تستغفر اللّه لمن اغتبته كلّما ذكرته» (1).
قوله(ص):«كلما ذكرته»أي كلما ذكرت المستغاب بالغيبة.
و علي ذكر الغيبة يحسن الإشارة إلي البهتان:-و هو اتّهام المؤمن،و التجني عليه،بما لم يفعله،و هو أشد إثما و أعظم جرما من الغيبة،كما قال اللّه عز و جل: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً،ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً،فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (النساء:112).
و قال رسول اللّه(ص):«من بهت مؤمنا أو مؤمنة،أو قال فيه ما ليس فيه،أقامه اللّه تعالي يوم القيامة علي تل من نار،حتي يخرج مما قاله فيه» (2).
********
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 184 عن الكافي.
(2) سفينة البحار م 1 ص 110 عن عيون أخبار الرضا(ع).
ص: 154
و هي:نقل الأحاديث التي يكره الناس إفشاؤها و نقلها من شخص إلي آخر،نكاية بالمحكي عنه و وقعية به.
و النميمة من أبشع الجرائم الخلقية،و أخطرها في حياة الفرد و المجتمع، و النمّام ألأم الناس و أخبثهم،لاتصافه بالغيبة،و الغدر،و النفاق،و الإفساد بين الناس،و التفريق بين الأحباء.
لذلك جاء ذمّه،و التنديد به في الآيات و الأخبار:
قال تبارك و تعالي: وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ، هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (القلم:10-13).
و الزنيم هو الدعيّ،فظهر من الآية الكريمة،أن النميمة من خلال الأدعياء،و سجايا اللقطاء.
و قال سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ فالهمزة النمّام و اللمزة المغتاب.
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«أ لا أنبئكم بشراركم.
قالوا:بلي يا رسول اللّه.قال:المشّاؤن بالنميمة،المفرقون بين الأحبّة،الباغون للبراء العيب» (1).
و قال الباقر(ع):«محرمة الجنة علي العيّابين المشائين بالنميمة» (2).
و قال الصادق(ع)للمنصور:«لا تقبل في ذي رحمك،و أهل الرعاية من أهل بيتك،قول من حرّم اللّه عليه الجنة،و جعل مأواه النار،فإن النمام شاهد زور،و شريك إبليس في الإغراء بين الناس،فقد قال اللّه تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (الحجرات:6) (3).
********
(1) الوافي ج 3 ص 164 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 164 عن الكافي.
(3) البحار كتاب العشرة ص 190 عن أمالي الصدوق.
ص: 155
للنميمة باعثان:
1-هتك المحكّي عنه،و الوقيعة به.
2-التودد و التزلف للمحكّي له بنم الأحاديث إليه.
تجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين:الغيبة و النم،فكل نميمة غيبة، و ليست كل غيبة نميمة،فمساوئها كالغيبة،بل أنكي منها و أشدّ،لاشنمالها علي إذاعة الأسرار،و هتك المحكّي عنه،و الوقيعة فيه،و قد تسول سفك الدماء، و استباحة الأموال،و انتهاك صنوف الحرمات،و هدر الكرامات.
و حيث كان النمّام من أخطر المفسدين،و أشدهم إساءة و شرا للناس، فلزم الحذر منه،و التوقي من كيده و إفساده،و ذلك باتّباع النصائح الآتية:
1-أن يكذب النمام،لفسقه و عدم و ثاقته،كما قال تعالي: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (الحجرات:6).
2-أن لا يظن بأخيه المؤمن سوءا،بمجرد النمّ عليه،لقوله تعالي:
اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات:12).
3-أن لا تبعثه النميمة علي التجسس و التحقق عن واقع النمّام،لقوله تعالي: وَ لا تَجَسَّسُوا (الحجرات:12).
4-أن لا ينمّ علي النمّام بحكاية نميمته،فيكون نماما و مغتابا،في آن واحد.
و قد روي عن أمير المؤمنين(ع):«أن رجلا أتاه يسعي إليه برجل.فقال:
يا هذا نحن نسأل عما قلت،فإن كنت صادقا مقتناك،و إن كنت كاذبا عاقبناك،
ص: 156
و إن شئت أن نقيلك أقلناك،قال:أقلني يا أمير المؤمنين» (1).
و عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن موسي(ع)قال:«قلت له:جعلت فداك،الرجل من إخوتي يبلغني عنه الشيء الذي أكره له،فأسأله عنه فينكر ذلك،و قد أخبرني عنه قوم ثقات.فقال لي:يا محمد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة،و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم،و لا تذيعن عليه شيئا تشينه به،و تهدم به مروته،فتكون من الذين قال اللّه عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (النور:19) (2).
و من متممات بحث النميمة(السعاية):و هي أقسي صور النميمة، و أنكاها جريرة و إثما،إذ تستهدف دمار المسعي به و هلاكه بالنمّ عليه،و السعاية فيه لدي المرهوبين،من ذوي السلطة و السطوة.
و أكثر ضحايا السعاية هم المرموقون من العظماء و الأعلام،المحسودون علي أمجادهم و فضائلهم،مما يحفّز حاسديهم علي إذلالهم،و النكاية بهم،فلا يستطيعون إلي ذلك سبيلا،فيكيدونهم بلؤم السعاية،إرضاءا لحسدهم و خبثهم،بيد أنه قد يبطل كيد السعاة،و تخفق سعايتهم،فتعود عليهم بالخزي و العقاب،و علي المسعي به بالتبجيل و الإعزاز.
لذلك كان الساعي من ألأم الناس،و أخطرهم جناية و شرا،كما جاء عن الصادق عن آبائه(ع)عن النبي(ص)قال:«شر الناس المثلث؟قيل:يا رسول اللّه و ما المثلث؟قال:الذي يسعي بأخيه إلي السلطان،فيهلك نفسه، و يهلك أخاه،و يهلك السلطان» (3).
********
(1) سفينة البحار م 2 ص 613.
(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال للصدوق.
(3) البحار م 15 كتاب العشرة ص 191 عن كتاب الإمامة و التبصرة.
ص: 157
الفحش هو:التعبير عمّا يقبح التصريح به،كألفاظ الوقاع،و آلاته مما يتلفظ به السفهاء،و يتحاشاه النبلاء،و يعبّرون عنها بالكناية و الرمز كاللمس و المس،كناية عن الجماع.
و هكذا يكنّي الأدباء عن ألفاظ و مفاهيم يتفادون التصريح بها لياقة و أدبا، كالكناية عن الزوجة بالعائلة و أم الأولاد،و عن التبول و التغوط بقضاء الحاجة، و الرمز إلي البرص و القرع بالعارض مثلا،إذ التصريح بتلك الألفاظ و المفاهيم مستهجن عند العقلاء و العارفين.
و أما السب فهو:الشتم،نحو«يا كلب،يا خنزير،يا حمار،يا خائن» و أمثاله من مصاديق الإهانة و التحقير.
و أما القذف:نحو يا منكوح،أو يا ابن الزانية،أو يا زوج الزانية،أو يا أخت الزانية.
و هذه الخصال الثلاث من أبشع مساويء اللسان،و غوائله الخطيرة،التي استنكرها الشرع و العقل،و حذّرت منها الآثار و النصوص.
أما الفحش:فقد قال رسول اللّه(ص)في ذمّه:«إنّ اللّه حرّم الجنة علي كل فحّاش بذيء،قليل الحياء،لا يبالي ما قال و لا ما قيل له،فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية،أو شرك شيطان فقيل يا رسول اللّه و في الناس شرك شيطان؟! فقال رسول اللّه(ص):أما تقرأ قول اللّه تعالي: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ (الإسراء:64) (1).
المراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال دفعهم علي كسبها بالوسائل المحرمة،و إنفاقها في مجالات الغواية و الآثام.و أما مشاركته في الأولاد:
فبمشاركته الآباء في حال الوقاع إذا لم يسموا اللّه تعالي عنده،و ولد غية أي ولد زنا.
********
(1) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
ص: 158
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):إن من شرار عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه» (1).
و قال الصادق(ع):«من خاف الناس لسانه فهو في النار» (2).
و قال(ع)لنفر من الشيعة:«معاشر الشيعة كونوا لنا زينا،و لا تكونوا علينا شينا،قولوا للناس حسنا،و احفظوا ألسنتكم،و كفوّها عن الفضول و قبيح القول» (3).
و أما السب:فعن أبي جعفر(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):سباب المؤمن فسوق،و قتاله كفر،و أكل لحمه معصية،و حرمة ماله كحرمة دمه» (4).
و عن أبي الحسن موسي(ع)في رجلين يتسابان فقال:«الباديء منهما أظلم،و وزره و وزر صاحبه عليه،ما لم يتعدّ المظلوم» (5).
و أما القذف:فقد قال الباقر(ع):«ما من إنسان يطعن في مؤمن،إلا مات بشر ميتة،و كان قمنا أن لا يرجع إلي خير» (6).
و كان للإمام الصادق(ع)صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكانا،فبينما هو يمشي معه في الحذائين،و معه غلام سندي يمشي خلفهما،إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره،فلما نظر في الرابعة قال:يا بن الفاعلة أين كنت؟!
قال الراوي:فرفع الصادق يده فصلت بها جبهة نفسه،ثم قال:سبحان اللّه تقذف أمه!!قد كنت أريتني أن لك ورعا،فإذا ليس لك ورع.فقال:
جعلت فداك إن أمه سندية مشركة.فقال:أما علمت أن لكل أمة نكاحا،تنح عني.
قال الراوي:فما رأيته يمشي معه،حتي فرّق بينهما الموت» (7).
********
(1) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن أمالي الشيخ الصدوق و أمالي ابن الشيخ الطوسي.
(4) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي و الفقيه.
(5) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(6) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(7) الوافي ج 3 ص 161 عن الكافي.
ص: 159
من الواضح أن تلك المهاترات و القوارص،تنشأ غالبا عن العداء،أو الحسد،أو الغضب،و سوء الخلق،و كثيرا ما تنشأ عن فساد التربية،و سوء الأدب،باعتياد البذاء و عدم التحرج من آثامه و مساوئه.
لا ريب أن لتلك المهاترات من الفحش،و السب،و القذف،أضرارا خطيرة و آثاما فادحة:
فمن مساوئها:أنها تجرد الإنسان من خصائص الإنسانية المهذبة، و أخلاقها الكريمة،و تسمه بالسفالة و الوحشية.
و منها:أنها داعية العداء و البغضاء،و إفساد العلاقات الاجتماعية،و إيجابها المقت و المجافاة من أفراد المجتمع.
و منها:أنها تعرض ذويها لسخط اللّه تعالي و عقابه الأليم،كما صورته النصوص السالفة.
لذلك جاء التحريض علي رعاية اللسان،و صونه عن قوارص البذاء.
قال أمير المؤمنين(ع):«اللسان سبع إن خلي عنه عقر».
و ستأتي النصوص المشعرة بذلك في بحث الكلم الطيب.
و هي:محاكاة أقوال الناس،أو أفعالهم،أو صفاتهم علي سبيل استنقاصهم،و الضحك عليهم،بألوان المحاكاة القولية و الفعلية.
و قد حرّمها الشرع لإيجابها العداء،و إثارة البغضاء،و إفساد العلاقات الوديّة بين أفراد المسلمين.
و كيف يجرأ المرء علي السخرية بالمؤمن؟!و استنقاصه،و إعابته،و كل فرد سوي المعصوم،لا يخلو من معائب و نقائص،و لا يأمن أن تجعله عوادي الزمن
ص: 160
يوما ما هدفا للسخرية و الإزدراء.
لذلك ندر القرآن الكريم بالسخرية و حذّر منها:
فقال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسي أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ،وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسي أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ،وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ،بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ،وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (الحجرات:11).
و قال تعالي: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلي أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (المطففين:29-32).
و قال الصادق(ع):«من روي علي مؤمن رواية يريد بها شينه،و هدم مروّته،ليسقط من أعين الناس،أخرجه اللّه تعالي من ولايته إلي ولاية الشيطان،فلا يقبله الشيطان» (1).
و عنه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):«لا تطلبوا عثرات المؤمنين،فإنه من تتبع عثرات المؤمنين تتّبع اللّه عثراته،و من تتبع اللّه عثراته يفضحه و لو في جوف بيته» (2).
فجدير بالعاقل أن ينبذ السخرية تحرجا من آثامها و توقيا من غوائلها،و أن يقدّر الناس علي حسب إيمانهم و صلاحهم،و حسن طويتهم غاضا عن نقائصهم و عيوبهم،كما جاء في الخبر:«إن اللّه تعالي أخفي أولياءه في عباده،فلا تستصغرن عبدا من عباد اللّه،فربما كان وليّه و أنت لا تعلم».
من استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية،و الأزمات المعكّرة لصفو المجتمع، علم أن منشأها في الأغلب بوادر اللسان،و تبادل المهاترات الباعثة علي توتر العلائق الاجتماعية،و إثارة الضغائن و الأحقاد بين أفراد المجتمع.
********
(1) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
ص: 161
من أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص و المباذل،و تعويده علي الكلم الطيب،و الحديث المهذّب النبيل،ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام و تقتضيها مصلحة الفرد و المجتمع.
فطيب الحديث،و حسن المقال،من سمات النبل و الكمال،و دواعي التقدير و الإعزاز،و عوامل الظفر و النجاح.
و قد دعت الشريعة الإسلامية إلي التحلي بأدب الحديث،و طيب القول، بصنوف الآيات و الأخبار،و ركّزت علي ذلك تركيزا متواصلا إشاعة للسلام الاجتماعي،و تعزيزا لأواصر المجتمع.
قال تعالي: وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ،إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (الإسراء:53).
و قال سبحانه: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (البقرة:83).
و قال عز و جل: وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ،اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت:34).
و قال تعالي: وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان:19).
و قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ،وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب:70-71).
و قال رجل لأبي الحسن(ع):«أوصني.فقال:«احفظ لسانك تعزّ،و لا تمكّن الناس من قيادك فتذل رقبتك» (1).
و جاء رجل إلي النبي(ص)فقال:يا رسول اللّه أوصني.قال:«احفظ لسانك.قال:يا رسول اللّه أوصني.قال:احفظ لسانك.قال:يا رسول اللّه أوصني.قال:احفظ لسانك،ويحك و هل يكبّ الناس علي مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!!» (2).
********
(1) الوافي ج 3 ص 84 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
ص: 162
و قال الصادق(ع)لعبّاد بن كثير البصري الصوفي«ويحك يا عبّاد،غرّك أن عنّ بطنك و فرجك،إنّ اللّه تعالي يقول في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ (الأحزاب:70-71).إنه لا يتقبل اللّه منك شيئا حتي تقول قولا عدلا» (1).
و قال علي بن الحسين(ع):«القول الحسن يثري المال،و ينمّي الرزق، و ينسيء في الأجل،و يحبب إلي الأهل،و يدخل الجنة» (2).
و ينسب للصادق(ع)هذا البيت:
عوّد لسانك قول الخير تحظ به إن اللسان لما عوّدت معتاد
و عن موسي بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«رحم اللّه عبدا قال خيرا فغنم،أو سكت عن سوء فسلم» (3).
و نستجلي من تلك النصوص الموجهة ضرورة التمسك بأدب الحديث، و صون اللسان عن البذاء،و تعويده علي الكلم الطيب،و القول الحسن.
فللكلام العفيف النبيل حلاوته و وقعه في نفوس الأصدقاء و الأعداء معا، ففي الأصدقاء ينمّي الحب،و يستديم الودّ،و يمنع نزغ الشيطان،في إفساد علائق الصداقة و المودة.
و في الأعداء يلطّف مشاعر العداء،و يخفف من إساءتهم و كيدهم.
لذلك نجد العظماء يرتاضون علي ضبط ألسنتهم،و صيانتها من العثرات و الفلتات.
فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلموا:
فقال ملك الفرس:ما ندمت علي ما لم أقل مرة،و ندمت علي ما قلت مرارا.
********
(1) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن الخصال و آمالي الصدوق.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 188 عن كتاب الإمامة و التبصرة.
ص: 163
و قال قيصر:أنا علي رد ما لم أقل أقدر مني علي رد ما قلت.
و قال ملك الصين:ما لم أتكلم بكلمة ملكتها،فإذا تكلمت بها ملكتني.
و قال ملك الهند:العجب ممن يتكلم بكلمة إن رفعت ضرت،و إن لم ترفع لم تنفع (1).
و ليس شيء أدل علي غباء الإنسان،و حماقته،من الثرثرة،و فضول القول، و بذاءة اللسان.
فقد مرّ أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام،فوقف عليه و قال:«يا هذا إنك تملي علي حافظيك كتابا إلي ربك،فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك» (2).
و قال(ع):«من كثر كلامه كثر خطأه،و من كثر خطأه قلّ حياؤه،و من قلّ حياؤه قلّ ورعه،و من قلّ ورعه مات قلبه،و من مات قلبه دخل النار» (3).
و عن سليمان بن مهران قال:«دخلت علي الصادق(ع)و عنده نفر من الشيعة،فسمعته و هو يقول:معاشر الشيعة كونوا لنا زينا،و لا تكونوا علينا شيئا،قولوا للناس حسنا،و احفظوا ألسنتكم،و كفوّها عن الفضول و قبيح القول» (4).
و توقيا من بوادر اللسان و مآسيه الخطيرة،فقد حثت النصوص علي الصمت،و عفة اللسان،ليأمن المرء كبوته و عثراته المدمّرة.
قال الصادق(ع):«الصمت كنز وافر،و زين الحليم،و ستر الجاهل» (5).
و عن أبي جعفر(ع)قال:«كان أبو ذر يقول:يا مبتغي العلم إن هذا
********
(1) مجاني الأدب.
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 187 عن النهج.
(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 أمالي الصدوق.
(5) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه.
ص: 164
اللسان مفتاح خير،و مفتاح شر،فاختم علي لسانك،كما تختم علي ذهبك و ورقك» (1).
و نقل أنه اجتمع قس بن ساعدة و أكثم بن صيفي،فقال أحدهما لصاحبه:كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟فقال:هي أكثر من أن تحصر، و قد وجدت خصلة إن استعملها الإنسان سترت العيوب كلها،قال:ما هي؟ قال:حفظ اللسان.
إنّ بين الأمراض الصحية التي يعانيها الإنسان،و بين الذنوب التي يقترفها شبه قوي في نشأتهما،و سوء مغبتهما عليه.
فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء،وقاية و علاجا للأبدان،كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية،و النظم السماوية،التي شرعها اللّه تعالي لإصلاح البشر و إسعادهم.
و كما يختص كل مرض بأضرار خاصة،و آثار سيئة،تنعكس علي المريض في صور من الاختلاطات و المضاعفات المرضيّة،كذلك الذنوب فإن لكل نوع منها مغبة سيئة،و ضررا فادحا،و آثارا خطيرة،تسبب للإنسان ألوان المآسي و الشقاء.
و لئن اشتركت الأمراض و الذنوب في الإساءة و الأذي،فإن الذنوب أشدّ نكاية،و أسوأ أثرا من الأمراض،لسهولة معالجة الأجسام،و صعوبة مباشرة النفوس.
لذلك كانت الذنوب سموما مهلكة،و جراثيم فاتكة،تعيث في الإنسان فسادا،و تعرضه لصنوف الأخطار و المهالك.
أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صورا رهيبة عن غوائل الذنوب، و أخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة:
********
(1) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
ص: 165
قال تعالي: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (الإسراء:16).
و قال تعالي: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ،وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً،وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (الأنعام:6).
و قال تعالي: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُري آمَنُوا وَ اتَّقَوْا،لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ،وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (الأعراف:96).
و قال تعالي: ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلي قَوْمٍ،حَتّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ،وَ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال:53).
و قال تعالي: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ،فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ،وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (الشوري:30).
و قال تعالي: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41).
و هكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام محذّرة غوائل الذنوب، و مآسيها العامة،و أوضحت أنّ ما يعانيه الفرد و المجتمع،من ضروب الأزمات، و المحن،كشيوع المظالم،و انتشار الأمراض،و شح الأرزاق،كل ذلك ناشيء عن مقارفة الذنوب و الآثام،و إليك طرفا منها:
عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء،كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار؟!!» (1).
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:«قال رسول اللّه(ص):يقول اللّه تبارك و تعالي:يا بن آدم ما تنصفني،أتحبب إليك بالنعم،و تتمقت إليّ بالمعاصي،خيري عليك منزل،و شرّك إليّ صاعد،و لا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم و ليلة بعمل قبيح،يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك،
********
(1) البحار م 15 ج 3 ص 155 عن أمالي الصدوق.
ص: 166
و أنت لا تعلم من الموصوف،لسارعت إلي مقته» (1).
و قال الصادق(ع):«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء،فإن تاب انمحت،و إن زاد زادت،حتي تغلت علي قلبه فلا يفلح بعدها أبدا» (2).
و قال الباقر(ع):«إن العبد يسأل اللّه الحاجة،فيكون من شأنه قضاؤها إلي أجل قريب أو إلي وقت بطييء،فيذنب العبد ذنبا،فيقول اللّه تبارك و تعالي للملك:لا تقضي حاجته،و احرمه إياها،فإنه تعرّض لسخطي،و استوجب الحرمان مني» (3).
و قال الصادق(ع):«كان أبي(ع)يقول:إن اللّه قضي قضاءا حتما ألا ينعم علي العبد بنعمة فيسلبها إياه،حتي يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة» (4).
و قال الرضا(ع):«كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون» (5).
و قال رسول اللّه(ص):«إذا غضب اللّه عز و جل علي أمّة،و لم ينزل بها العذاب،غلت أسعارها،و قصرت أعمارها،و لم يربح تجارها،و لم تزك ثمارها، و لم تغزر أنهارها،و حبس عنها أمطارها،و سلّط عليها شرارها» (6).
و قال الباقر(ع):«وجدنا في كتاب رسول اللّه(ص):إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة،و إذا طفف المكيال و الميزان،أخذهم اللّه تعالي بالسنين و النقص،و إذا منعوا الزكاة،منعت الأرض بركتها من الزرع و الثمار و المعادن كلها،و إذا جاروا في الأحكام،تعاونوا علي الظلم و العدوان،و إذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوهم،و إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، و إذا لم يأمروا بالمعروف،و لم ينهوا عن المنكر،و لم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي،
********
(1) البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون أخبار الرضا للصدوق.
(2) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
(6) الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب و الفقيه.
ص: 167
سلّط اللّه عليهم شرارهم،فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم» (1).
و عن المفضل قال:قال الصادق(ع):«يا مفضل إياك و الذنوب،و حذّرها شيعتنا،فو اللّه ما هي إلي أحد أسرع منها إليكم،إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان،و ما ذاك إلا بذنوبه،و إنه ليصيبه السقم و ما ذاك إلا بذنوبه،و إنه ليحبس عنه الرزق و ما هو إلا بذنوبه،و إنه ليشدد عليه عند الموت و ما هو إلا بذنوبه،حتي يقول من حضر:لقد غمّ بالموت.
فلما رأي ما قد دخلني،قال:أ تدري لم ذاك يا مفضل؟قلت:لا أدري جعلت فداك.قال:ذاك و اللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة،و عجّلت لكم في الدنيا» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«توقوا الذنوب،فما من بلية،و لا نقص رزق، إلا بذنب،حتي الخدش،و الكبوة،و المصيبة،قال اللّه عز و جل: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ،فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ،وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (3).
و ربما لبّس الشيطان عن بعض الأغراء،بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة،لأشقت المنهمكين عليها،السادرين في اقترافها،و هم رغم ذلك في أرغد عيش و أسعد حياة.
و خفي عليهم أن اللّه عز و جل لا يعجزه الدرك،و لا يخاف الفوت،و إنما يمهل العصاة،و يؤخر عقابهم،رعاية لمصالحهم،عسي أن يثوبوا إلي الطاعة و الرشد،أو يمهلهم إشفاقا علي الأبرياء و الضعفاء ممن تضرهم معاجلة المذنبين و هم براء من الذنوب.
أو يصاير المجرمين استدراجا لهم،ليزدادوا طغيانا و إثما،فيأخذهم بالعقاب الصارم،و العذاب الأليم،كما صرحت بذلك الآيات و الروايات.
قال اللّه تعالي: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ،إِنَّما
********
(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
(2) البحار عن علل الشرائع.
(3) البحار عن الخصال.
ص: 168
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً،وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (آل عمران:178).
و قال سبحانه: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا،ما تَرَكَ عَلي ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلي أَجَلٍ مُسَمًّي (فاطر:45).
و قال الصادق(ع):«إذا أراد اللّه بعبد خيرا،فأذنب ذنبا،أتبعه بنقمة:
و يذكّره الاستغفار،و إذا أراد بعبد شرا،فأذنب ذنبا،أتبعه بنعمة،لينسيه الإستغفار،و يتمادي بها،و هو قول اللّه تعالي: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (القلم:44)بالنعم عند المعاصي» (1).
و قال الإمام موسي بن جعفر عليهما السّلام:إنّ للّه عز و جل في كل يوم و ليلة مناديا ينادي:مهلا مهلا،عباد اللّه عن معاصي اللّه،فلو لا بهائم رتّع، و صبية رضّع،و شيوخ ركّع،لصبّ عليكم العذاب صبّا،ترضّون به رضّا» (2).
و قد يختلج في الذهن أن الأنبياء و الأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب و الآثام،فكيف يؤاخذون بها،و يعانون صنوف المحن و الأرزاء؟.
و توجيه ذلك:أنّ الذنوب تختلف،و تتفاوت باختلاف الأشخاص،و مبلغ إيمانهم،و أبعاد طاعتهم و عبوديتهم للّه عز و جل.
فربّ متعة بريئة،يتعاطاها فردان:يحسبها الأول طيبة مباحة،و يحسبها الثاني جريرة و ذنبا،حيث ألهته عمّا يتعشقه من ذكر اللّه عز و جل و عبادته.
و حيث كان الأنبياء عليهم السّلام هم المثل الأعلي في الإيمان باللّه، و التفاني في طاعته،و التوله بعبادته،اعتبر ترك الأولي منهم ذنبا و تقصيرا،كما قال:«حسنات الأبرار سيئات المقربين».
هذا إلي أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام و الذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.
و قد تكون المحن و الارزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن،و جلده علي
********
(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
ص: 169
طاعة اللّه،و نافذ قدره و مشيئته،و قد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلي،و جزيل ثوابه،بصبره علي تلك المعاناة،و تفويض أمره إلي اللّه عز و جل.
لقد عرفت في البحث السابق غوائل الذنوب،و أضرارها المادية و الروحية،و التشابه بينها و بين الأمراض الجسمية في فداحتها،و سوء آثارها علي الإنسان.
فكما تجدر المسارعة إلي علاج الجسم من جراثيم الأمراض قبل استفحالها، و ضعف الجسم عن مكافحتها،كذلك تجب المبادرة إلي تصفية النفس،و تطهيرها من أوضار الذنوب،و دنس الآثام،قبل تفاقم غوائلها،و عسر تداركها.
و كما تعالج الأمراض الصحية بتجرع العقاقير الكريهة،و الاحتماء عن المطاعم الشهية الضّارة،كذلك تعالج الذنوب بمعاناة التوبة و الإنابة،و الإقلاع عن الشهوات العارمة،و الأهواء الجامحة،ليأمن التائب أخطارها و مآسيها الدنيوية و الأخروية.
لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها،و اجتيازها أطوارا ثلاثة:
فالطور الأول،هو:طور يقظة الضمير،و شعور المذنب بالأسي و الندم علي معصية اللّه تعالي،و تعرضه لسخطه و عقابه،فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلي:
الطور الثاني،و هو:طور الإنابة إلي اللّه عز و جل،و العزم الصادق علي طاعته،و نبذ عصيانه،فإذا ما أنس بذلك تحول إلي:
الطور الثالث،و هو:طور تصفية النفس من رواسب الذنوب،و تلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة علي توفير رصيد الحسنات،و تلاشي السيئات، و بذلك تتحقق التوبة الصادقة النصوح.
ص: 170
و ليست التوبة هزل عابث،و لقلقة يتشدق بها اللسان،و إنما هي:الإنابة الصادقة إلي اللّه تعالي،و مجافاة عصيانه بعزم و تصميم قويين،و المستغفر بلسانه و هو سادر في المعاصي مستهتر كذّاب،كما قال الإمام الرضا(ع):
«المستغفر من ذنب و يفعله كالمستهزيء بربه».
للتوبة فضائل جمة،و مآثر جليلة،صورها القرآن الكريم،و أعربت عنها آثار أهل البيت عليهم السّلام.
و ناهيك في فضلها أنّها بلسم الذنوب،و سفينة النجاة،و صمام الأمن من سخط اللّه تعالي و عقابه.
و قد أبت العناية الإلهية أن تهمل العصاة يتخبطون في دياجير الذنوب، و مجاهل العصيان،دون أن يسعهم بعطفه السامي،و عفوه الكريم،فشوقهم إلي الأنابة،و مهد لهم التوبة،فقال سبحانه:
وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ،كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ،أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ،ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ،فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنعام:54).
و قال تعالي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ،إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً،إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53).
و قال تعالي حاكيا: فَقُلْتُ:اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ،وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ،وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» (نوح:10-12).
و قال تعالي: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة:222).
و قال الصادق(ع):«إذا تاب العبد توبة نصوحا،أحبه اللّه تعالي فستر عليه في الدنيا و الآخرة.قال الراوي:و كيف يستر اللّه عليه؟قال:ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب،ثم يوحي اللّه إلي جوارحه اكتمي عليه ذنوبه،و يوحي
ص: 171
إلي بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب،فيلقي اللّه تعالي حين يلقاه،و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب» (1).
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
و قال(ص)في حديث آخر:«ليس شيء أحب إلي اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة» (2).
و عن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفر عليهما السّلام قال:«إن آدم قال:يا رب سلّطت عليّ الشيطان و أجريته مجري الدم مني فاجعل لي شيئا.
فقال:يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم يكتب عليه شيء،فإن عملها كتبت عليه سيئة،و من همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة،فإن هو عملها كتبت له عشرا.
قال:يا رب زدني.قال:جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له.
قال:يا رب زدني.قال:جعلت لهم التوبة حتي يبلغ النفس هذه.قال:
يا رب حسبي» (3).
و قال الصادق(ع):«العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجله اللّه سبع ساعات، فإن استغفر اللّه لم يكتب عليه،و إن مضت الساعات و لم يستغفر كتبت عليه سيئة،و إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتي يستغفر ربه فيغفر له،و إن الكافر لينساه من ساعته» (4).
و قال(ع):«ما من مؤمن يقارف في يومه و ليلته أربعين كبيرة فيقول و هو نادم:«أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم بديع السماوات و الأرض ذو
********
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون أخبار الرضا(ع).
(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي.
(4) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.
ص: 172
الجلال و الإكرام و أسأله أن يصلي علي محمد و آل محمد و أن يتوب عليّ»إلا غفرها اللّه له،و لا خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة» (1).
لا ريب في وجوب التوبة،لدلالة العقل و النقل علي وجوبها:
أما العقل:فمن بديهياته ضرورة التوقي و التحرز عن موجبات الأضرار و الأخطار الموجبة لشقاء الإنسان و هلاكه.لذلك وجب التحصن بالتوبة، و التحرز بها من غوائل الذنوب و آثارها السيئة،في عاجل الحياة و آجلها.
و أما النقل:فقد فرضتها أوامر القرآن و السنة فرضا محتّما،و شوقت إليها بألوان التشويق و التيسير.
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته،ثم قال:إن السنة لكثير،من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته.ثم قال:إن الشهر لكثير،من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته.ثم قال:إن الجمعة لكثير،من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته.ثم قال:إن يوما لكثير،من تاب قبل أن يعاين قبل اللّه توبته» (2).
و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«إنّ للّه عز و جل فضولا من رزقه ينحله من يشاء من خلقه،و اللّه باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له،و يبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له» (3).
من الناس من يهتدي بعد ضلال،و يستقيم بعد انحراف،فيتدارك آثامه بالتوبة و الإنابة،ملبيا داعي الإيمان،و نداء الضمير الحر.
********
(1) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي.
(3) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق(ره).
ص: 173
بيد أنّ الإنسان كثيرا ما تخدعه مباهج الحياة،و تسترقه بأهوائها و مغرياتها، فيقارف المعاصي من جديد،منجرفا بتيارها العرم،و هكذا يعيش صراعا عنيفا بين العقل و الشهوات،ينتصر عليها تارة،و تنتصر عليه أخري،و هكذا دواليك.
و هذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة،و مواصلة الإنابة خشية النكول عنها،فيظلّون سادرين في المعاصي و الآثام.
فعلي هؤلاء أن يعلموا أن الإنسان عرضة لأغواء الشيطان،و تسويلاته الآثمة،و لا ينجو منها إلا المعصومون من الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام،و إنّ الأجدر بهم إذا ما استزلهم بخدعه و مغرياته،أن يجددوا عهد التوبة و الإنابة بنيّة صادقة،و تصميم جازم،فإن زاغوا و انحرفوا فلا يقنطهم ذلك عن تجديدها كذلك،مستشعرين قول اللّه عز و جل:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ،إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً،إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53).
و هكذا شجّعت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام علي تجديد التوبة، و مواصلة الإنابة،إنقاذا لصرعي الآثام من الانغماس فيها،و الانجراف بها.
و تشويقا لهم علي استئناف حياة نزيهة مستقيمة.
فعن محمد بن مسلم قال:قال الباقر(ع):«يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له،فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة، أما و اللّه إنها ليست إلا لأهل الإيمان.
قلت:فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب،و عاد في التوبة.فقال:
يا محمد بن مسلم أ تري العبد المؤمن يندم علي ذنبه و يستغفر اللّه تعالي منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته!!قلت:فإنه فعل ذلك مرارا،يذنب ثم يتوب و يستغفر.
فقال:كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة،عاد اللّه عليه بالمغفرة و إنّ اللّه غفور رحيم،يقبل التوبة،و يعفو عن السيئات،فإيّاك أن تقنّط المؤمنين من رحمة اللّه تعالي» (1).
********
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
ص: 174
و عن أبي بصير قال:«قلت لأبي عبد اللّه(ع): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (التحريم:8)؟قال:هو الذنب الذي لا يعود إليه أبدا.
قلت:و أيّنا لم يعد.فقال:يا أبا محمد،إن اللّه يحب من عباده المفتن التوّاب» (1).
المراد بالمفتن التوّاب:هو من كان كثير الذنب كثير التوبة.
و لا بدع أن يحب اللّه تعالي المفتن التواب،فإن الإصرار علي مقارفة الذنوب،و عدم ملافاتها بالتوبة،دليل صارخ علي موت الضمير و تلاشي الإيمان،و الاستهتار بطاعة اللّه عز و جل،و ذلك من دواعي سخطه و عقابه.
و لا بد للتائب أن يعرف أساليب التوبة،و كيفية التخلص من تبعات الذنوب،و مسؤولياتها الخطيرة،ليكفّر عن كل جريرة بما يلائمها من الطاعة و الإنابة.
فللذنوب صور و جوانب مختلفة:
منها ما يكون بين العبد و خالقه العظيم،و هي قسمان:ترك الواجبات، و فعل المحرمات.
فترك الواجبات:كترك الصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و نحوها من الواجبات.و طريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها و تلافيها جهد المستطاع.
و أما فعل المحرمات:كالزنا و شرب الخمر و القمار و أمثالها من المحرمات، و سبيل التوبة منها بالندم علي اقترافها،و العزم الصادق علي تركها.
و من الذنوب:ما تكون جرائرها بين المرء و الناس،و هي أشدّها تبعة و مسؤولية،و أعسرها تلافيا،كغصب الأموال،و قتل النفوس البريئة المحرمة، و هتك المؤمنين بالسب و الضرب و النمّ و الاغتياب.
و التوبة منها بإرضاء الخصوم،و أداء الظلامات إلي أهلها،ما استطاع إلي
********
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
ص: 175
ذلك سبيلا،فإن عجز عن ذلك فعليه بالاستغفار،و توفير رصيد حسناته، و التضرع إلي اللّه عز و جل أن يرضيهم عنه يوم الحساب.
لا ريب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع،لدلالة القرآن و السنّة عليها:
قال تعالي: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ (الشوري:25).
و قال تعالي: غافِرِ الذَّنْبِ،وَ قابِلِ التَّوْبِ (غافر:3).
و قد عرضنا في فضائل التوبة طرفا من الآيات و الأخبار الناطقة بقبول التوبة،و فوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالي،و كريم عفوه،و جزيل آلائه.
و أصدق شاهد علي ذلك ما جاء في معرض حديث للنبي(ص)حيث قال:«لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه لخلق اللّه خلقا حتي يذنبوا ثم يستغفروا اللّه فيغفر لهم،إن المؤمن مفتن تواب،أما سمعت قول اللّه إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة:222) (1).
تتلخص النصائح الباعثة علي التوبة و المشوقة إليها فيما يلي:
1-أن يتذكر المذنب ما صوّرته الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة،من غوائل الذنوب،و مآسيها المادية و الروحية،في عاجل الحياة و آجلها،و ما توعد اللّه عليها من صنوف التأديب و ألوان العقاب.
2-أن يستعرض فضائل التوبة و مآثر التائبين،و ما حباهم اللّه به من كريم العفو،و جزيل الأجر،و سمو العناية و اللطف،و قد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.
و كفي بهاتين النصيحتين تشويقا إلي التوبة،و تحريضا عليها،و لا يرغب عنها إلا أحمق بليد،أو ضعيف الإيمان و البصيرة.
********
(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.
ص: 176
المحاسبة هي:محاسبة النفس كل يوم عمّا عملته من الطاعات و المبرات، أو اقترفته من المعاصي و الآثام،فإن رجحت كفة الطاعات علي المعاصي، و الحسنات علي السيئات،فعلي المحاسب أن يشكر اللّه تعالي علي ما وفقه إليه و شرّفه به من جميل طاعته و شرف رضاه.
و إن رجحت المعاصي،فعليه أن يؤدّب نفسه بالتأنيب و التقريع علي شذوذها و انحرافها عن طاعة اللّه تعالي.
و أما المراقبة:فهي ضبط النفس و صيانتها عن الإخلال بالواجبات و مقارفة المحرمات.
و جدير بالعاقل المستنير بالإيمان و اليقين،أن يرّوض نفسه علي المحاسبة و المراقبة فإنّها(أمّارة بالسوء):متي أهملت زاغت عن الحق،و انجرفت في الآثام و الشهوات،و أودت بصاحبها في مهاوي الشقاء و الهلاك،و متي أخذت بالتوجيه و التهذيب،أشرقت بالفضائل،و ازدهرت بالمكارم،و سمت بصاحبها نحو السعادة و الهناء، وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (الشمس:7-10).
هذا إلي أن للمحاسبة و المراقبة أهمية كبري في تأهب المؤمن،و استعداده لمواجهة حساب الآخرة،و أهواله الرهيبة،و من ثم اهتمامه بالتزوّد من أعمال البر و الخير الباعثة علي نجاته و سعادة مآبه.
لذلك طفقت النصوص تشوّق،و تحرّض علي المحاسبة و المراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الإمام الصادق(ع):«إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه،فلييأس من الناس كلهم،و لا يكون له رجاء إلا من عند اللّه تعالي، فإذا علم اللّه تعالي ذلك من قلبه لم يسأل شيئا إلا أعطاه،فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها،فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقام ألف سنة،ثم تلا
ص: 177
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج:4) (1).
و قال الإمام موسي بن جعفر(ع):«ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،فإن عمل حسنة استزاد اللّه تعالي،و إن عمل سيئة استغفر اللّه تعالي منها و تاب إليه» (2).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«إن رجلا أتي النبي(ص)فقال له:يا رسول اللّه أوصني.
فقال له رسول اللّه(ص):فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟حتي قال له ذلك ثلاثا،و في كلها يقول له الرجل:نعم يا رسول اللّه.
فقال له رسول اللّه(ص):فإني أوصيك،إذا أنت هممت بأمر فتدّبر عاقبته،فإن يك رشدا فأمضه،و إن يك غيّا فانته عنه» (3).
و قال الصادق(ع)لرجل.«إنّك قد جعلت طبيب نفسك،و بيّن لك الداء،و عرّفت آية الصحة،و دللت علي الدواء،فانظر كيف قياسك علي نفسك» (4).
و عن موسي بن جعفر(ع)عن آبائه عليهم السّلام قال:«قال أمير المؤمنين (ع):إن رسول اللّه(ص)بعث سرية،فلما رجعوا قال:مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر،و بقي عليهم الجهاد الأكبر.
قيل:يا رسول اللّه،و ما الجهاد الأكبر؟قال:جهاد النفس.ثم قال:
أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه» (5)
لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة و المراقبة بأسلوب
********
(1) الوافي الجزء الثالث ص 62 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(5) البحار م 15 ج 2 ص 40 عن معاني الأخبار و أمالي الصدوق.
ص: 178
مفصّل ربما يشق علي البعض تنفيذه،بيد أني أعرضه مجملا و ميسرا في أمرين هامين:
1-أول ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها اللّه تعالي علي الناس،كالصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و نحوها من الفرائض،فإن أداها المرء علي الوجه المطلوب،شكر اللّه تعالي علي ذلك و رجّي نفسه فيما أعد اللّه للمطيعين من كرم الثواب و جزيل الأجر.
و إن أغفلها و فرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعد اللّه العصاة و المتمردين من عباده بالعقاب الأليم،وجد في قضائها و تلافيها.
2-محاسبة النفس علي اقتراف الآثام و اجتراح المنكرات،و ذلك:بزجرها زجرا قاسيا،و تأنيبها علي ما فرط من سيئاتها،ثم الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه و التوبة الصادقة منه.
و لقد ضرب النبي(ص)أرفع مثل لمحاسبة النفس،و التحذير من صغائر الذنوب و محقراتها:
قال الصادق(ع):«إن رسول اللّه نزل بأرض قرعاء،فقال لأصحابه:
إئتونا بحطب.فقالوا:يا رسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب.قال:
فليأت كل إنسان بما قدر عليه،فجاؤوا به حتي رموا بين يديه بعضه علي بعض، فقال رسول اللّه(ص):هكذا تجتمع الذنوب.
ثم قال:إياكم و المحقرات من الذنوب،فإن لكل شيء طالبا،ألا و أنّ طالبها يكتب:
ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (ياسين:12) (1).
و كان بعض الأولياء يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة و الإكبار.
من ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة،و كان محاسبا لنفسه في أكثر أوقات ليله و نهاره،فحسب يوما ما مضي من عمره،فإذا هو ستون سنة،فحسب
********
(1) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
ص: 179
أيامها فكانت إحدي و عشرين ألف يوم و خمسمائة يوم،فقال:يا ويلتاه!!،ألقي مالكا بإحدي و عشرين ألف ذنب،ثم صعق صعقة كانت فيها نفسه (1).
و ما أحلي هذا البيت:
إذا المرء أعطي نفسه كل شهوة و لم ينهها تاقت إلي كل باطل
لو وازن الإنسان بين جميع متع الحياة و مباهجها،و بين عمره و حياته لوجد أنّ العمر أغلي و أنفس منها جميعا،و أنه لا يعدله شيء من نفائس الحياة و أشواقها الكثر،إذ من الممكن اكتسابها أو استرجاع ما نفر منها.
أما العمر فإنه الوقت المحدد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده،و تمديد أجله المقدر المحتوم وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ،فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف:34).
كما يستحيل استرداد ما تصرم من العمر،و لو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.
و حيث كان الإنسان غفولا عن قيم العمر و جلالة قدره،فهو يسرف عابثا في تضييعه و إبادته،غير آبه لما تصرم منه،و لا مغتنم فرصته السانحة.
من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت عليهم السّلام موضحة نفاسة العمر،و ضرورة استغلاله و صرفه فيما يوجب سعادة الإنسان و رخائه في حياته العاجلة و الآجلة.
قال سيد المرسلين(ص)في وصيته لأبي ذر:«يا أبا ذر،كن علي عمرك أشحّ منك علي درهمك و دينارك» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إنما الدنيا ثلاثة أيام:يوم مضي بما فيه فليس بعائد،و يوم أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه،و يوم لا تدري أنت من أهله،
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 488.
(2) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي(ص)لأبي ذر.
ص: 180
و لعلك راحل فيه.
أما اليوم الماضي فحكيم مؤدّب،و أما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودّع، و أما غد فإنما في يديك منه الأمل».
و قال(ع):«ما من يوم يمر علي ابن آدم،إلا قال له ذلك اليوم:أنا يوم جديد،و أنا عليك شهيد،فقل فيّ خيرا،و اعمل فيّ خيرا،أشهد لك به يوم القيامة،فإنك لن تراني بعد هذا أبدا» (1).
و روي أنه جاء رجل إلي علي بن الحسين عليهما السّلام يشكو إليه حاله، فقال:«مسكين ابن آدم،له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، و لو اعتبر لهانت عليه المصائب و أمر الدنيا:
فأما المصيبة الأولي:فاليوم الذي ينقص من عمره.قال:و إن ناله نقصان في ماله اغتم به،و الدهر يخلف عنه و العمر لا يردّه شيء.
و الثانية:أنه يستوفي رزقه،فإن كان حلالا حوسب عليه،و إن كان حراما عوقب.
قال:و الثالثة أعظم من ذلك.قيل:و ما هي؟قال:ما من يوم يمسي إلا و قد دنا من الآخرة مرحلة،لا يدري علي جنة أم علي نار.
و قال:أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمّه.
«قالت الحكماء ما سبقه إلي هذا أحد» (2).
و قال الصادق(ع):«إصبروا علي طاعة اللّه،و تصبروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة،فما مضي فلست تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت فلست تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد أغتبطت» (3).
و قال الباقر(ع):«لا يغرّنك الناس من نفسك،فإن الأمر يصل إليك دونهم،و لا تقطع نهارك بكذا و كذا،فإنّ معك من يحفظ عليك عملك،
********
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الفقيه.
(2) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.
(3) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
ص: 181
فأحسن فإنّي لم أر شيئا أحسن دركا،و لا أسرع طلبا،من حسنة محدثة لذنب قديم» (1).
و عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):
«بادر بأربع قبل أربع،بشبابك قبل هرمك،و صحتك قبل سقمك،و غناك قبل فقرك،و حياتك قبل موتك» (2).
و عن الباقر(ع)عن النبي(ص)قال:لا يزول قدم[قدما]عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه،حتي يسأله عن أربع خصال:عمرك فيما أفنيته، و جسدك فيما أبليته،و مالك من أين اكتسبته و أين وضعته،و عن حبنا أهل البيت؟» (3).
و قال بعض الحكماء:إنّ الإنسان مسافر،و منازله ستة.و قد قطع منها ثلاثة و بقي ثلاثة:
فالتي قطعها:-
1-من كتم العدم إلي صلب الأب و ترائب الأم.
2-رحم الأم.
3-من الرحم إلي فضاء الدنيا.
و أما التي لم يقطعها:-
فأولها القبر،و ثانيها فضاء المحشر.و ثالثها الجنة أو النار.
و نحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث،و مدة قطعها مدة عمرنا،فأيامنا فراسخ،و ساعاتنا أميال،و أنفاسنا خطوات.
فكم من شخص بقي له فراسخ،و آخر بقي له أميال،و آخر بقي له خطوات.
********
(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 165 عن كتاب كمال الدين للصدوق.
(3) البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشيخ المفيد.
ص: 182
و ما أروع قول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق و ثواني
لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت،و جلالة العمر،و أنه أعز ذخائر الحياة و أنفسها.
و حيث كان الوقت كذلك،وجب علي العاقل أن يستغله فيما يليق به، و يكافئه عزة و نفاسة،من الأعمال الصالحة،و الغايات السامية،الموجبة لسعادته و رخائه المادي و الروحي،الدنيوي و الأخروي،كما قال سيد المرسلين(ص):
«ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث:مرمّة لمعاش،أو تزوّد لمعاد،أو لذّة في غير محرم» (1).
فهذه هي الأهداف السامية،و الغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها و تحقيقها.
و حيث كان الإنسان مدفوعا بغرائزه و أهوائه إلي كسب المعاش،و نيل المتع و اللذائذ المادية،و التهالك عليها،مما يصرفه و يلهيه عن الأعمال الصالحة، و التأهب للحياة الآخرة،و توفير موجبات السعادة و الهناء فيها.لذلك جاءت الآيات و الأخبار مشوقة إلي الاهتمام بالآخرة،و التزود لها من العمل الصالح.
قال تعالي: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة:7-8).
و قال تعالي: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي،وَ هُوَ مُؤْمِنٌ،فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً،وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:97).
و قال تعالي: وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي وَ هُوَ مُؤْمِنٌ،فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ،يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (غافر:40).
و قال تعالي: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ،وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها،ثُمَّ إِلي رَبِّكُمْ
********
(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي(ص)لعلي(ع).
ص: 183
تُرْجَعُونَ (الجاثية:15).
و قال رسول اللّه(ص):«يا أبا ذر،إنّك في ممر الليل و النهار،في آجال منقوصة،و أعمال محفوظة،و الموت يأتي بغتة،و من يزرع خيرا يوشك أن يحصد خيرا،و من يزرع شرا يوشك أن يحصد ندامة،و لكل زارع مثل ما زرع» (1).
و قال قيس بن عاصم:وفدت مع جماعة من بني تميم إلي النبي(ص)، فقلت.يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها،فإنا قوم نعمّر في البرّية.
فقال رسول اللّه(ص):«يا قيس إنّ مع العز ذلا،و إنّ مع الحياة موتا، و إنّ مع الدنيا آخرة،و إنّ لكل شيء حسيبا،و علي كل شيء رقيبا،و إن لكل حسنة ثوابا،و لكل سيئة عقابا،و لكل أجل كتابا.و إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حيّ،و تدفن معه و أنت ميت،فإن كان كريما أكرمك، و إن كان لئيما أسلمك،ثم لا يحشر إلا معك،و لا تبعث إلا معه،و لا تسأل إلا عنه،فلا تجعله إلا صالحا،فإنه إن صلح أنست به،و إن فسد لم تستوحش إلا منه،و هو فعلك» (2).
و قال أمير المؤمنين(ع):«إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا، و أول يوم من أيام الآخرة،مثّل له،ماله،و ولده،و عمله،فيلتفت إلي ماله، فيقول:و اللّه إني كنت عليك حريصا شحيحا فما لي عندك؟فيقول:خذ مني كفنك.
قال:فيلتفت إلي ولده فيقول:و اللّه إني كنت لكم محبا،و إني كنت عليكم محاميا،فما لي عندكم؟فيقولون:نؤديك إلي حفرتك فنواريك فيها.
قال:فيلتفت إلي عمله فيقول:و اللّه إني كنت فيك لزاهدا،و إنك كنت عليّ لثقيلا،فما لي عندك؟فيقول:أنا قرينك في قبرك،و يوم نشرك،حتي أعرض أنا و أنت علي ربك» (3).
********
(1) الوافي في موعظة رسول اللّه(ص)لأبي ذر.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار و الخصال و آمالي الصدوق.
(3) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه.
ص: 184
قال:«فإن كان للّه وليا،أتاه أطيب الناس ريحا،و أحسنهم منظرا و أحسنهم رياشا،فقال:أبشر بروح و ريحان،و جنة نعيم،و مقدمك خير مقدم،فيقول له:من أنت؟فيقول:أنا عملك الصالح،ارتحل من الدنيا إلي الجنة...» (1).
و قال الصادق(ع):«إذا وضع الميت في قبره،مثّل له شخص،فقال له:
يا هذا،كنّا ثلاثة:كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك،و كان أهلك فخلّوك و انصرفوا عنك،و كنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك» (2).
و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:«قال رسول اللّه(ص):من أحسن فيما بقي من عمره،لم يؤاخذ بما مضي من ذنبه،و من أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول و الآخر».
و قد أحسن الشاعر بقوله:
و الناس همهم الحياة و لا أري طول الحياة يزيد غير خيال
و إذا افتقرت إلي الذخائر لم تجد ذخرا يدوم كصالح الأعمال
الإنسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون،و نمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر،بل هو أجلّها قدرا،و أرفعها شأنا،و ذلك بما حباه اللّه عز و جل،و شرّفه بصنوف الخصائص و الهبات التي ميزته علي سائر الخلق وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ،وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (الإسراء:70).
و كان من أبرز مظاهر العناية الإلهية بالإنسان،و دلائل تكريمه له:أن استخلفه في الأرض،و اصطفي من عيون نوعه و خاصتهم رسلا و أنبياء بعثهم إلي العباد بالشرائع و المباديء الموجبة لتنظيم حياتهم،و إسعادهم في عاجل الدنيا و آجل الآخرة.
********
(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي.
(2) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي.
ص: 185
و لكنّ أغلب البشر،وا أسفاه!تستعبدهم الأهواء و الشهوات،و تطغي عليهم نوازع التنكر و التمرد علي النظم الإلهية،و تشريعها الهادف البناء،فيتيهون في مجاهل العصيان،و يتعسفون طرق الغواية و الضلال،و من ثم يعانون ضروب الحيرة و القلق و الشقاء،و لو أنهم استجابوا لطاعة اللّه تعالي،و ساروا علي هدي نظمه و دساتيره،لسعدوا و فازوا فوزا عظيما، وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُري آمَنُوا وَ اتَّقَوْا، لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ،وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
أ رأيت كيف انتظم الكون،و اتّسقت عناصره،و استتب نظامه ملايين الأجيال و الأحقاب؟!بخضوعه للّه عز و جل،و سيره علي مقتضيات دساتيره و قوانينه؟!
أ رأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء،و استقامت بجريها علي وفق مشيئة اللّه تعالي،و حكمة نظامه و تدبيره؟!!
أ رأيت كيف يطبق الناس وصايا و تعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها و استغلالها علي أفضل وجه؟!
أ رأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء،و يعانون مشقة العلاج و مرارة الحمية،توخيا للبرء و الشفاء؟!
فلم لا يطيع الإنسان خالقه العظيم،و مدبره الحكيم،الخبير بدخائله و أسراره،و منافعه و مضاره؟!.
إنه يستحيل علي الإنسان أن ينال ما يصبو إليه من سعادة و سلام، و طمأنينة و رخاء،إلا بطاعة اللّه تعالي،و انتهاج شريعته و قوانينه.
انظر كيف يشوّق اللّه عز و جل،عباده إلي طاعته،و تقواه،و يحذّرهم مغبة التمرد و العصيان،و هو الغنيّ المطلق عنهم.
قال تعالي: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (الأحزاب:61).
و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ،وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (الفتح:17).
ص: 186
و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ،وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (الفتح:17).
و أما التقوي،فقد علق اللّه خير الدنيا و الآخرة،و أناط بها أعز الأماني و الآمال،و إليك بعضها:
1-المحبة من اللّه تعالي،فقال سبحانه: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة:4).
2-النجاة من الشدائد و تهيئة أسباب الارتزاق،فقال: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (الطلاق:2-3).
3-النصر و التأييد،قال تعالي: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (النحل:128).
4-صلاح الأعمال و قبولها،فقال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ، وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ (الأحزاب:70-71).
و قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
5-البشارة عند الموت،قال تعالي: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْري فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ (يونس:63-64).
6-النجاة من النار،قال تعالي: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا (مريم:72).
7-الخلود في الجنة،قال تعالي: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران:133).
فتجلي من هذا العرض،أن التقوي هي الكنز العظيم،الحاوي لصنوف الأماني و الآمال المادية و الروحية،الدينية و الدنيوية.
و الطاعة:هي الخضوع للّه عز و جل،و امتثال أوامره و نواهيه.
و التقوي:من الوقاية،و هي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، و قصرها علي ما ينفعها فيها.
و هكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام حاثة و مرغبة علي طاعة
ص: 187
اللّه تعالي و تقواه،و محذّرة من عصيانه و مخالفته.
قال الإمام الحسن الزكي(ع)في موعظته الشهيرة لجنادة:«إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا،و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا،و إذا أردت عزا بلا عشيرة،وهيبة بلا سلطان،فأخرج من ذلّ معصية اللّه إلي عز طاعة اللّه عز و جل».
و قال الصادق(ع):«إصبروا علي طاعة اللّه،و تصبّروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة،فما مضي فلست تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت فلست تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها،فكأنك قد اغتبطت» (1).
و قال(ع):«إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس،فيأتون باب الجنة فيضربونه،فيقال لهم:من أنتم؟فيقولون:نحن أهل الصبر.فيقال لهم:علي ما صبرتم؟فيقولون:كنّا نصبر علي طاعة اللّه و نصبر عن معاصي اللّه.فيقول اللّه عز و جل:صدقوا،أدخلوهم الجنة،و هو قول اللّه عز و جل: إِنَّما يُوَفَّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (الزمر:10) (2).
و قال الباقر(ع):«إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا،فانظر إلي قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة اللّه عز و جل و يبغض أهل معصيته ففيك خير،و اللّه يحبك.
و إن كان يبغض أهل طاعة اللّه،و يحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، و اللّه يبغضك،و المرء مع من أحب» (3).
و قال(ع):ما عرف اللّه من عصاه،و أنشد:
تعصي الإله و أنت تظهر حبّه هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إنّ المحب لمن أحبّ مطيع
و عن الحسن بن موسي الوّشا البغدادي قال:كنت بخراسان مع علي بن
********
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
(2) البحار م 5 ج 2 ص 49 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع و المحاسن للبرقي و الكافي.
ص: 188
موسي الرضا(ع)في مجلسه،و زيد بن موسي حاضر،و قد أقبل علي جماعة في المجلس يفتخر عليهم و يقول نحن و نحن،و أبو الحسن مقبل علي قوم يحدّثهم، فسمع مقالة زيد،فالتفت إليه.فقال:يا زيد،أغرّك قول بقالي الكوفة إنّ فاطمة أحصنت فرجها،فحرّم اللّه ذريتها علي النار،و اللّه ما ذلك إلا للحسن و الحسين، و ولد بطنها خاصة،فأمّا أن يكون موسي بن جعفر يطيع اللّه،و يصوم نهاره، و يقوم ليله،و تعصيه أنت،ثم تجيئان يوم القيامة سواء،لأنت أعزّ علي اللّه منه! إنّ علي بن الحسين كان يقول:«لمحسننا كفلان من الأجر،و لمسيئنا ضعفان من العذاب».
قال الحسن بن الوشا:ثم التفت إليّ و قال:يا حسن،كيف تقرأون هذه الآية؟ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (هود:46).
فقلت:من الناس من يقرأ(عمل غير صالح)و منهم من يقرأ(عمل غير صالح)نفاه عن أبيه.
فقال(ع):«كلا لقد كان ابنه،و لكن لمّا عصي اللّه عز و جل،نفاه اللّه عن أبيه،كذا من كان منّا و لم يطع اللّه فليس منا،و أنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت» (1).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قام رسول اللّه(ص)علي الصفا،فقال:«يا بني هاشم،يا بني عبد المطلب،إني رسول اللّه إليكم،و إنّي شفيق عليكم،و إن لي عملي،و لكل رجل منكم عمله،لا تقولوا إن محمدا منا و سندخل مدخله، فلا و اللّه ما أوليائي منكم و لا من غيركم،يا بني عبد المطلب إلا المتّقون،إلا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا علي ظهوركم،و يأتي الناس يحملون الآخرة،ألا إنّي قد أعذرت إليكم فيما بيني و بينكم،و فيما بيني و بين اللّه تعالي فيكم» (2).
و عن جابر قال:قال الباقر(ع):«يا جابر أ يكتفي من انتحل التشيع،أن
********
(1) البحار عن معاني الأخبار و عيون أخبار الرضا(ع).
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
ص: 189
يقول بحبنا أهل البيت؟!فو اللّه ما شيعتنا إلا من اتقي اللّه و أطاعه-إلي أن قال:فاتقوا اللّه و اعملوا لما عند اللّه،ليس بين اللّه و بين أحد قرابة،أحبّ العباد إلي اللّه تعالي و أكرمهم عليه أتقاهم،و أعملهم بطاعته.
يا جابر،و اللّه ما يتقرب إلي اللّه إلاّ بالطاعة،ما معني براءة من النار،و لا علي اللّه لأحد من حجة،من كان للّه مطيعا فهو لنا وليّ،و من كان للّه عاصيا فهو لنا عدو،و ما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل و الورع» (1).
و عن المفضل بن عمر قال:كنت عند أبي عبد اللّه(ع)فذكرنا الأعمال، فقلت أنا:ما أضعف عملي.فقال:«مه؟!إستغفر اللّه.ثم قال:إن قليل العمل مع التقوي خير من كثير بلا تقوي.قلت:كيف يكون كثير بلا تقوي؟ قال:نعم،مثل الرجل يطعم طعامه،و يرفق جيرانه،و يوطيء رحله،فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه،فهذا العمل بلا تقوي.و يكون الآخر ليس عنده شيء،فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه» (2).
قال الشاعر:
ليس من يقطع طريقا بطلا إنما من يتق اللّه البطل
فاتق اللّه فتقوي اللّه ما جاورت قلب امريء إلا وصل
للنظم و المباديء أهمية كبري،و أثر بالغ في حياة الأمم و الشعوب،فهي مصدر الإشعاع و التوجيه في الأمة،و مظهر رقيها أو تخلفها،و كلما سمت مباديء الأمة،و نظمها الإصلاحية،كان ذلك برهانا علي تحضّرها و ازدهارها.
و كلما هزلت و سخفت المباديء،كان دليلا علي جهل ذويها و تخلفهم.
و خير المباديء و أشرفها هو:ما ينظم حياة الإنسان فردا و مجتمعا،و يصون حريته و كرامته،و يحقق أمنه و رخاءه،و يوفر له وسائل السعادة و السّلام في مجالي الدين و الدنيا.
********
(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي.
ص: 190
و بديهي أن المباديء مهما سمت،و زخرت بجلائل المزايا و الخلال،فإنها لا تحقق أماني الأمة و آمالها،و لا تفيء عليها بالخير المأمول،إلا إذا أعتنقتها و حرصت علي حمايتها و تنفيذها في مختلف مجالاة الحياة،و إلا كانت عديمة الجدوي و النفع.
لذلك كان الثبات علي المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة و فروضها الحتمية،فهو الذي يرفع معنوياتها،و يعزز قيمتها،و يحقق أهدافها و أمانيها.
و لم تعرف البشرية في تاريخها المديد،أكمل و أفضل من المباديء الإسلامية الحائزة علي جميع الخصائص و الفضائل التي أهلتها للخلود،و بوأتها قمة الشرائع و المباديء.
فهي المباديء الوحيدة التي تلائم الفطر السليمة،و تؤلف بين القيم المادية و الروحية،و تكفل لمعتنقيها سعادة الدين و الدنيا.
ناهيك في جلالتها أنّها استطاعت أن تحقق في أقل من ربع قرن من فتوحات الإيمان،و معاجز الإصلاح،ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع و المباديء.
و أنشأت من الأمة العربية المتخلفة في جاهليتها خير أمّة أخرجت للناس، حضارة و مجدا و علما و أخلاقا.
و ما ساد المسلمون الأولون و انفردوا بحضارتهم و زعامتهم العلمية،إلا بثباتهم علي مبادئهم الخالدة،و تفانيهم في حمايتها و نصرتها.
و ما فجع المسلمون اليوم،و انتابتهم النكسات المتتالية،إلا بإغفال مبادئهم،و انحرافهم عنها.
انظر كيف يمجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين علي مبادئهم الرفيعة، المستمسكين بقيم الإيمان و مثله العليا: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا:رَبُّنَا اللّهُ،ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (فصلت:31-32).
ص: 191
و لقد كان الرسول الأعظم و أهل بيته الطاهرون،المثل الأعلي في الثبات علي المبدأ و حمايته و التضحية في سبيله،بأعزّ النفوس و الأرواح.
كان(ص)كلّما اكفهرت في وجهه أعاصير المحن،و تألبت عليه قوي الكفر و الطغيان ازداد صمودا و مضيّا علي نشر رسالته،ضاربا في سبيل اللّه أرفع الأمثال«لو وضعت الشمس في يميني،و القمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتي يظهره اللّه،أو أهلك في طلبه».
و بهذا الصمود و الشموخ انهارت قوي الشرك،و استسلمت صاغرة للنبي (ص).
و كان أمير المؤمنين(ع)علي سر رسول اللّه(ص)،و مثاليته في الثبات علي المبدأ و الاعتصام به،عرضت عليه الخلافة مشروطة بكتاب اللّه و سنة رسوله و سيرة الشيخين،فأبي معتدا بمبدئه السامي،و رأيه الأصيل قائلا:«بل علي كتاب اللّه،و سنة رسوله،و اجتهاد رأي».
و ألحّ عليه نفر من خاصته و مواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام و مساواته،و استهواهم إغراء معاوية و نواله الرخيص«يا أمير المؤمنين،إعط هذه الأموال،و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش علي الموالي و العجم،و من تخاف عليه من الناس فراره إلي معاوية».
فقال(ع)لهم و هو يعرب عن ثباته،و تمسكه بدستور الإسلام،و ترفعه عن الوسائل الاستغلالية الآثمة:«أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور؟!لا و اللّه ما أفعل ما طلعت شمس و لاح في السماء نجم،و اللّه لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم،و كيف و إنما هي أموالهم».
و هكذا سرت مثالية الإمام(ع)إلي الصفوة المختارة من أصحابه و حواريه،فكانوا نماذج فذّة،و أنماطا فريدة في الثبات علي المبدأ و التمسك بالحق،و الذود عنه،رغم معاناتها ضروب الإرهاب و التنكيل.
و قد ازدانت أسفار السير بطرائف أمجادهم،و طيب ذكراهم،مما خلّدت مآثرهم عبر القرون و الأجيال،و إليك طرفا منها:
ص: 192
قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم:أحب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلي اللّه بدمه.فقيل له:ما نعلم أحدا كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه.فبعث في طلبه فأتي به،فقال له:أنت قنبر؟ قال:نعم.قال:أبو همدان.قال:نعم.قال:مولي علي بن أبي طالب.قال:
اللّه مولاي و أمير المؤمنين علي وليّ نعمتي.
قال:إبرأ من دينه،قال:فإذا برئت من دينه تدلني علي دين غيره أفضل منه.قال:إني قاتلك،فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك.قال:صيّرت ذلك إليك.
قال:و لم؟قال:لأنّك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها،و قد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيتي تكون ذبحا،ظلما بغير حق.قال:فأمر به فذبح (1).
و روي أنّ معاوية أرسل إلي أبي الأسود الدئلي هدية منها حلواء.يريد بذلك استمالته و صرفه عن حب علي بن أبي طالب،فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء و جعلتها في فمها،فقال لها أبو الأسود:يا بنيتي ألقيه فإنّه سمّ،هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين(ع)، و يردّنا عن محبة أهل البيت.فقالت الصبية:قبّحه اللّه،يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر!تبّا لمرسله و آكله،فعالجت نفسها حتي قاءت ما أكلتها،ثم قالت:
أبا لشهد المزعفر يا بن هند نبيع عليك أحسابا(اسلاما-خ ل)و دينا
معاذ اللّه كيف يكون هذا و مولانا أمير المؤمنينا (2)
و كان رشيد الهجري من خواص أصحاب أمير المؤمنين،أتي به إلي زياد لعنه اللّه.
فقال زياد:ما قال لك خليلك أنّا فاعلون بك؟قال:تقطعون يدي و رجلي و تصلبونني.
فقال زياد:أما و اللّه لأكذبّن حديثه،خلّوا سبيله.فلما أراد أن يخرج
********
(1) البحار م 9 ص 630.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 669.
ص: 193
قال:ردّوه لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك،إنك لن تزال تبغي سوءا إن بقيت،اقطعوا يديه و رجليه و هو يتكلم،و قال:إصلبوه خنقا في عنقه (1).
و لنستمع إلي كلمات أصحاب الإمام الخالدة،و المعربة عن شدة حبهم للإمام(ع)،و ثباتهم علي موالاته،و تفانيهم في سبيله:
فهذا عمرو بن الحمق يخاطب أمير المؤمنين(ع)فيقول:«و اللّه يا أمير المؤمنين،إنّي ما أجبتك و لا بايعتك علي قرابة بيني و بينك،و لا إرادة مال تؤتينه، و لا إرادة سلطان ترفع به ذكري،و لكنّي أجبتك بخصال خمس:
إنك ابن عم رسول اللّه،و أول من آمن به،و زوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد،و وصيه،و أبو الذرية التي بقيت فينا من رسول اللّه،و أسبق الناس إلي الإسلام،و أعظم المهاجرين سهما في الجهاد.
فلو أني كلفّت نقل الجبال الرواسي،و نزح البحور الطوامي،حتي يؤتي عليّ في أمر أقوي به وليّك،و أهين به عدوك،ما رأيت أني قد أدّيت فيه كل الذي يحق عليّ من حقك.
فقال علي(ع):«اللهم نوّر قلبه بالتقي،و اهده إلي صراطك المستقيم، ليت أن في جندي مائة مثلك،فقال حجر:إذا و اللّه يا أمير المؤمنين صحّ جندك،و قلّ فيهم من يغشك» (2).
و روي أنّ أمير المؤمنين قال لحجر بن عدي الطائي:كيف بك إذا دعيت إلي البراءة مني،فما عساك أن تقول؟فقال:و اللّه يا أمير المؤمنين لو قطّعت بالسيف إربا إربا،و أضرمت لي النار و ألقيت فيها لآثرت ذلك علي البراءة منك.
فقال:«وفّقت لكل خير يا حجر،جزاك اللّه خيرا عن أهل بيت نبيك» (3).
و قال هاشم المرقال و كان علي ميسرة أمير المؤمنين بصفين:و اللّه ما أحبّ أنّ لي ما علي الأرض مما أقلت،و ما تحت السماء مما أظلّت،و إني واليت عدوا
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 522.
(2) البحار م 8 ص 475.
(3) سفينة البحار ج 1 ص 226.
ص: 194
لك أو عاديت وليا لك.
فقال له أمير المؤمنين:«اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك و المرافقة لنبيك» (1).
و روي أنّ أسودا دخل علي علي(ع)فقال:يا أمير المؤمنين إني سرقت فطّهرني.
فقال:لعلّك سرقت من غير حرز و نحّي رأسه عنه.فقال:يا أمير المؤمنين،سرقت من حرز فطهرني.فقال(ع):لعلّك سرقت غير نصاب، و نحّي رأسه عنه.فقال:يا أمير المؤمنين سرقت نصابا،فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين،فذهب و جعل يقول في الطريق:قطعني أمير المؤمنين،و إمام المتقين،و قائد العز المحجلين،و يعسوب الدين،و سيد الوصيين،و جعل يمدحه،فسمع ذلك منه الحسن و الحسين و قد استقبلا فدخلا علي أمير المؤمنين (ع)و قالا:رأينا أسودا يمدحك في الطريق،فبعث أمير المؤمنين(ع)من أعاده إلي عنده،فقال(ع):قطعتك و أنت تمدحني.فقال:يا أمير المؤمنين إنك طهرتني،و إنّ حبّك قد خالط لحمي و عظمي،فلو قطعتني إربا إربا لما ذهب حبّك من قلبي.فدعا له أمير المؤمنين(ع)،و وضع المقطوع إلي موضعه فصح و صلح كما كان» (2).
و لقد سما الحسين(ع)و أهل بيته الطاهرون و أصحابه الأكرمون إلي أوج رفيع،تنحطّ دونه الهمم و الآمال في الثبات علي المبدأ و التمسك بالحق،رغم حراجة الموقف،و معاناة أفدح الخطوب و الأهوال.
وقف الحسين(ع)يوم عاشوراء،و قد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله و قتله،فصرخ في وجوههم صرخته المدوّية،و أعلن عن إبائه و شموخه بكلماته الخالدة المجلجلة في مسمع الدهر،و التي لا تزال دستورا حيّا يقدسه الأباة و الأحرار:
********
(1) سفينة البحار ج 2 ص 716.
(2) البحار م 9 ص 557.
ص: 195
«ألا و إنّ الدعيّ ابن الدعيّ،قد ركز بين اثنتين،بين السلّة و الذلّة، و هيهات منّا الذلة،يأبي اللّه ذلك لنا و رسوله و المؤمنون،و حجور طابت و طهرت،و أنوف حميّة،و نفوس أبيّة،من أن توثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام».
و يؤكد الحسين(ع)ثباته علي المبدأ مؤثرا في سبيله القتل و الفداء علي الحياة الخانعة الذليلة«و اللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل،و لا أقر لكم إقرار العبيد».
«إني لا أري الموت إلا سعادة،و الحياة مع الظالمين إلا برما».
و هكذا اقتفي أصحاب الحسين عليهم السّلام نهجه و مثاليته في الصمود و الثبات علي المبدأ،و مفاداته بأعزّ النفوس و الأرواح.خطبهم الحسين(ع)خطبة ملؤها الحبّ و الإعجاب و الإشفاق:
«أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفي و لا خيرا من أصحابي،و لا أهل بيت أبرّ و لا أوصل و لا أفضل من أهل بيتي،فجزاكم اللّه عني خيرا،ألا و إني لأظن يوما لنا من هؤلاء الأعداء،ألا و إني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم مني ذمام،هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي،ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتي يفرّج اللّه،فإن القوم إنما يطلبوني،و لو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري».
فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال:أ نحن نخّلي عنك!!و لمّا نعذر إلي اللّه في أداء حقك،أما و اللّه حتي أطعن في صدورهم برمحي،و أضربهم بسيفي،ما ثبت قائمة في يدي،و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به،لقذفتهم بالحجارة، و اللّه لا نخليك حتي يعلم اللّه أنّا قد حفظنا عيبة رسول اللّه(ص)فيك.و اللّه لو علمت أني أقتل،ثم أحيي،ثم أقتل،ثم أحرق،ثم أذري،ثم يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك،حتي ألقي حمامي دونك،و كيف لا أفعل ذلك و إنما هي قتلة واحدة،ثم هي الكرامة العظمي التي لا انقضاء لها أبدا.
و قام إليه زهير بن القين فقال:و اللّه لوددت أني قتلت،ثم انشرت،ثم
ص: 196
قتلت،حتي أقتل هكذا ألف مرة،و أنّ اللّه جلّ و عز يدفع بذلك القتل عن نفسك و نفوس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
و تكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا،فقالوا:و اللّه لا نفارقك، و لكن أنفسنا لك الفداء،نقيك بنحورنا و جباهنا و أيدينا،فإذا نحن قتلنا،كنّا وفّينا و قضينا ما علينا (1).
و هكذا طفق أصحاب الحسين(ع)يعربون عن ثباتهم و تفانيهم في ولائه و نصرته و الذّب عنه،بأروع مفاهيم البطولة و الفداء.
و ما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، و يقتفوا آثارهم،في التمسك بالدين،و الثبات علي المبدأ،و التفاني في نصرة الحق،ليستردوا مجدهم الضائع،و عزهم السليب،و ينقذوا أنفسهم من هوان الهزائم الفاضحة و النكسات المتتالية،و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
********
(1) عن نفس المهموم للمرحوم الحجة الشيخ عباس القمي ص 121 بتصرف بسيط.
ص: 197
ص: 198
ص: 199
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع):
«الحق أوسع الأشياء في التواصف،و أضيقها في التناصف،لا يجري لأحد إلا جري عليه،و لا يجري عليه إلا جري له،و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه،لقدرته علي عباده،و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه.و لكن جعل حقه علي العباد أن يطيعوه،و جعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضلا منه، و توسعا بما هو من المزيد أهله.ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس علي بعض،فجعلها تتكافأ في وجوهها،و يوجب بعضها بعضا،و لا يستوجب بعضها إلا ببعض».
ص: 200
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السّلام علي محمد و آله الطيبين الطاهرين.
و بعد:
فإن الإنسان مدني بالطبع،لا يستغني عن أبناء جنسه،و لا يستطيع اعتزالهم و التخلف عن مسايرة ركبهم،فإنه متي انفرد عنهم أحس بالوحشة و الغربة،و استشعر الوهن و الخذلان،إزاء طواريء الأقدار و ملمات الحياة، و عجز عن تحقيق ما يصبو إليه من أماني و آمال،لا يتسني له تحقيقها إلا بالتضامن و التآزر الاجتماعيين.
فهو فرع من دوحة أسرية و شجت علي الآباء،و تفرعت عن الأبناء، فالأعمام و الأخوال،و امتدت أغصانها حتي انتضمت سائر الأقرباء و الأرحام.
و هو عنصر من عناصر المجتمع،و لبنة في كيانه،تتجاذبه أواصر شتي و صلات مختلفة:من العقيدة،و الصداقة،و الثقافة،و المهنة،و غيرها من الصلاة الكثر.
و هذا الترابط الاجتماعي،أو المجتمع المترابط،لا بد له من دستور ينظم حياته،و يوثق أواصره،و يحقق العدل الاجتماعي في ظلاله،بما يرسمه من حقوق
ص: 201
و واجبات،فردية و اجتماعية،تضمن صالح المجتمع،و تصون حقوقه و حرماته المقدسة.
و بذلك يغدو المجتمع زاهرا،سعيدا بالوئام و السّلام،و الخير و الجمال.
و بإغفال ذلك يغدو المجتمع بائسا شقيا،تسوده الفوضي،و يشيع فيه التسيب، و تنخر في كيانه عوامل التخلف و الانهيار.
و قد حوت الشريعة الإسلامية-فيما حوته من ضروب المعجزات الإصلاحية-انها جاءت بدستور أخلاقي هادف بناء،ينظم حياة الفرد و حياة المجتمع أفضل و أكمل تنظيم،بما يرسم له من حقوق و آداب اجتماعية في مختلف الحقول و المجالات،ما يحقق للمسلمين مفاهيم السّلام و الرخاء،و يكفل إسعادهم أدبيا و ماديا.
من أجل ذلك كان لزاما علي المسلم أن يستلهم ذلك الدستور،و يعرف ماله و عليه من الواجبات و الحقوق،و يعني بتطبيقه و السير علي هداه،ليكون مثلا رفيعا في جمال السيرة و حسن السلوك،و رعاية حقوق من ينتسب إليهم،و يرتبط بهم من صنوف الروابط و الصلات الاجتماعية،و ليحقق بذلك ما يهفو إليه من توقير و حب و ثناء.
و هذا ما حداني إلي وضع هذا الكتاب،الذي خططته و رسمت مفاهيمه علي ضوء القرآن الكريم،و أخلاق أهل البيت عليهم السّلام و وصاياهم الحكيمة الجليلة،و عرضت فيه طائفة من أهم الحقوق،و أبلغها أثرا في حياة الفرد و المجتمع،مبتدئا فيه بحقوق اللّه علي العباد،فحقوق رسوله الأعظم (ص)،فحقوق الأئمة المعصومين من آله عليهم السّلام.ثم استعرضت الحقوق واحدا إثر آخر،متدرجا من حقوق العلماء إلي حقوق الأساتذة و الطلاب،فالوالدين و الأولاد،و الزوجية و الرحمية،إلي الحقوق الاجتماعية الأخري التي يجدها المطالع في حقول الكتاب.
و أملي أن يجد فيه المؤمنون رائد خير،و داعية صلاح،و منار هداية.و أن يحظي بشرف قبول اللّه تعالي،و جميل رضوانه،و واسع لطفه و رحمته إنه قريب مجيب.
ص: 202
تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها،و قيم عطفهم و فضلهم علي المحسنين إليهم.
فللصديق حق معلوم،و لكنه دون حق الشقيق البار العطوف،الذي جمع بين آصرة القربي و جمال اللطف و الحنان.
و حق الشقيق دون حق الوالدين،لجلالة فضلهما علي الولد و تفوقه علي كل فضل.
و بهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهية،و تفوقها علي سائر الحقوق،فهو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان،و حباه من صنوف النعم و المواهب ما يعجز عن وصفه و تعداده، أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ،وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً (لقمان:20).
وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها (ابراهيم:34).
فكيف يستطيع الإنسان حد تلك الحقوق و عرضها،و الاضطلاع بواجب شكرها،إلا بعون اللّه تعالي و توفيقه.
فلا مناص من الإشارة إلي بعضها و التلويح عن واجباتها،و هي بعد إحراز الإيمان باللّه،و الاعتقاد بوحدانيته،و اتصافه بجميع صفات الكمال و تنزيهه عما لا يليق بجلال ألوهيته.
قال علي بن الحسين(ع):«فأما حق اللّه الأكبر فإنك تعبده،لا تشرك به شيئا،فإذا فعلت ذلك بإخلاص،جعل لك علي نفسه أن يكفيك أمر الدنيا و الآخرة،و يحفظ لك ما تحب منها» (1).
و العبادة لغة،هي غاية التذلل و الخضوع،لذلك لا يستحقها إلا المنعم
********
(1) رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين(ع).
ص: 203
الأعظم الذي له غاية الافضال و الانعام،و هو اللّه عز و جل.
و اصطلاحا هي:المواظبة علي فعل المأمور به.
و ناهيك في عظمة العبادة و جليل آثارها و خصائصها في حياة البشر:إن اللّه عز و جل جعلها الغاية الكبري من خلقهم و إيجادهم،حيث قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات:56-58).
و بديهي أن اللّه تعالي غني عن العالمين،لا تنفعه طاعة المطيعين و عبادتهم، و لا تضره معصية العصاة و تمردهم،و إنما فرض عبادته علي الناس لينتفعوا بخصائصها و آثارها العظيمة،الموجبة لتكاملهم و إسعادهم.
فمن خصائص العبادة:أنها من أقوي الأسباب و البواعث علي تركيز العقيدة و رسوخ الإيمان في المؤمن،لتذكيرها باللّه عز و جل و رجاء ثوابه،و الخوف من عقابه،و تذكيرها بالرسول الأعظم،فلا ينساه و لا ينحرف عنه.
فإذا ما أغفل المؤمن عبادة ربه نساه،و تلاشت في نفسه قيم الإيمان و مفاهيمه،و غدا عرضة للإغواء و الضلال.فالعقيدة هي الدوحة الباسقة التي يستظل المسلمون في ظلالها الوارفة الندية،و العبادة هي التي تصونها و تمدها بعوامل النمو و الازدهار.
و العبادة بعد هذا من أكبر العوامل علي التعديل و الموازنة،بين القوي المادية و الروحية،التي تتجاذب الإنسان و تصطرع في نفسه،و لا تتسني له السعادة و الهناء إلا بتعادلها.ذلك،أن طغيان القوي المادية و استفحالها يسترق الإنسان بزخارفها و سلطانها الخادع،و تجعله ميالا إلي الأثرة و الأنانية،و اقتراف الشرور و الآثام،في تحقيق أطماعه المادية.
فلا مناص-و الحالة هذه-من تخفيف جماح المادة و الحد من ضراوتها، و ذلك عن طريق تعزيز الجانب الروحي في الإنسان،و إمداده بطاقة روحية، تعصمه من الشرور و توجهه وجهة الخير و الصلاح.و هذا ما تحققه العبادة
ص: 204
بإشعاعاتها الروحية،و تذكيرها المتواصل باللّه تعالي،و الدأب علي طاعته و طلب رضاه.
و العبادة بعد هذا و ذاك:اختبار للمؤمن و استجلاء لأبعاد إيمانه.فالإيمان سر قلبي مكنون،لا يتبين إلا بما يتعاطاه المؤمن من ضروب الشعائر و العبادات، الكاشفة عن مبلغ إيمانه و طاعته للّه تعالي.
و حيث كانت العبادة تتطلب عناء و جهدا،كان أداؤها و الحفاظ عليها دليلا علي قوة الإيمان و رسوخه،و إغفالها دليلا علي ضعفه و تسيبه.
فالصلاة...كبيرة إلا علي الخاشعين.و الصيام..كف النفس عن لذائذ الطعام و الشراب و الجنس.و الحج..يتطلب البذل و المعاناة في أداء مناسكه.
و الزكاة..منح المال الذي تعتز به النفس و تحرص عليه.و الجهاد:هو الإقدام علي التضحية و الفداء في سبيل الواجب،و كلها أمور شاقة علي النفس.
من أجل ذلك كان أداء العبادة و القيام بها برهانا ساطعا علي إيمان صاحبها و طاعته للّه عز و جل.
و هي الخضوع للّه عز و جل و امتثال جميع أوامره و نواهيه.
و لا ريب أنها من أشرف المزايا،و أجل الخلال الباعثة علي سعادة المطيع و فوزه بشرف الدنيا و الآخرة،كما نوهت بها الآيات الكريمة و الأخبار الشريفة:
قال تعالي: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (الأحزاب:71).
و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ،وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (الفتح:17).
و قال الإمام الحسن الزكي(ع):«و إذا أردت عزا بلا عشيرة،و هيبة بلا سلطان،فاخرج من ذل معصية اللّه إلي عز طاعة اللّه عز و جل».
و قال الصادق(ع):«اصبروا علي طاعة اللّه،و تصبروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة،فما مضي فلست تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت فلست
ص: 205
تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت» (1).
و هو:عرفان نعمة المنعم،و شكره عليها،و استعمالها في مرضاته.
و الشكر خلة مثالية يقدسها العقل و الشرع،و يحتمها الضمير و الوجدان، إزاء المحسنين من الناس.فكيف بالمنعم الأعظم الذي لا تحصي نعماؤه،و لا تعد آلاؤه؟
من أجل ذلك حثت الشريعة علي التحلي به،في نصوص عديدة من الآيات و الروايات.
قال تعالي: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ،وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (ابراهيم:7).
و قال الصادق(ع):«من أعطي الشكر أعطي الزيادة،يقول اللّه عز و جل لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (2).
و قال رسول اللّه(ص):«الطاعم الشاكر،له من الأجر كأجر الصائم المحتسب.و المعافي الشاكر،له من الأجر كأجر المبتلي الصابر.و المعطي الشاكر، له من الأجر كأجر المحروم القانع» (3).
و هو:الاعتماد علي اللّه عز و جل في جميع الأمور،و تفويضها إليه، و الإعراض عما سواه.
و التوكل،هو من أجل خصائص المؤمنين و مزاياهم المشرفة،الموجبة لعزتهم و سمو كرامتهم و ارتياح ضمائرهم،بترفعهم عن الاتكال و الاستعانة
********
(1) الوافي،ج 2 ص 63،عن الكافي.
(2) الوافي،ج 2 ص 67،عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
ص: 206
بالمخلوقين،و لجوئهم و توكلهم علي الخلاق العظيم القدير في كسب المنافع و درء المضار.
لذلك تواترت الآيات و الآثار في تمجيد هذا الخالق،و التشويق إليه.
قال تعالي: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ،وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ،وَ عَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران:16).
و قال تعالي: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق:3).
و قال الصادق(ع):«إن الغني و العز يجولان،فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا» (1).
و قال أمير المؤمنين(ع)في وصيته للحسن(ع):«و الجيء نفسك في الأمور كلها إلي إلهك،فإنك تلجئها إلي كهف حريز،و مانع عزيز» (2).
كان نبينا الأعظم محمد(ص)،المثل الأعلي في سائر نواحي الكمال، اصطفاه اللّه من الخلق و اختاره من العباد،و حباه بأرفع الخصائص و المواهب التي حبا بها الأنبياء عليهم السّلام،و جمع فيه ما تفرق فيهم من صنوف العظمات و الأمجاد ما جعله سيدهم و خاتمهم.
و ناهيك في عظمته أنه استطاع بجهوده الجبارة و مبادئه الخالدة،أن يحقق في أقل من ربع قرن من الانتصارات الروحية و المكاسب الدينية،ما لم يستطع تحقيقه سائر الأنبياء و الشرائع في أكثر من قرون.
جاء بأكمل الشرائع الإلهية،و أشدها ملائمة لأطوار الحياة،و أكثرها تكفلا بإسعاد الإنسان ماديا و روحيا،دينا و دنيا،فأخرج الناس من ظلمة الكفر إلي نور الإسلام،و من شقاء الجاهلية إلي السعادة الأبدية.و جعل أمته أكمل الأمم دينا،
********
(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(2) نهج البلاغة(و من شاء التوسع في الأبحاث الثلاثة،الطاعة و الشكر و التوكل،فليرجع إلي القسم الأول من هذا الكتاب).
ص: 207
و أوفرهم علما،و أسماهم أدبا و أخلاقا،و أرفعهم حضارة و مجدا.
و قد عاني في سبيل ذلك من ضروب الشدائد و الأهوال،ما لم يعانه أي نبي.
من أجل ذلك،فإن القلم عاجز عن تعداد أياديه،و حصر حقوقه علي المسلمين،سيما في هذه الرسالة الوجيزة،فلا بد من الإشارة إليها و التلويح عنها.
و هي،بعد الإيمان بنبوته،و تصديقه فيما جاء به من عند اللّه عز و جل، و الاعتقاد بأنه سيد الرسل،و خاتم الأنبياء:
و طاعة النبي فرض محتم علي الناس،كطاعة اللّه تعالي،إذ هو سفيره إلي العباد،و أمينه علي الوحي،و منار هدايته الوضاء.
و واقع الطاعة هو:اتباع شرعته،و تطبيق مبادئه الخالدة،التي ما سعد المسلمون و نالوا آمالهم و أمانيهم،إلا بالتمسك بها و الحفاظ عليها.و ما تخلفوا و استكانوا إلا بإغفالها و الانحراف عنها.
انظر كيف يحرض القرآن الكريم علي طاعة النبي(ص)،و يحذر مغبة عصيانه و مخالفته،حيث قال:
وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ،وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا،وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الحشر:7).
و قال تعالي: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً،أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (الأحزاب:36).
و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها،وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ،وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها،وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (النساء:13-14).
ص: 208
و قال عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ،أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ.
كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي،إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (المجادلة:20-21).
تختلف دواعي الحب و الإعجاب باختلاف نزعات المحبين و ميولهم،فمن الناس من يحب الجمال و يقدسه،و منهم من يحب البطولة و الأبطال و يمجدهم، و منهم من يحب الأريحية و يشيد بأربابها.
و قد اجتمع في النبي الأعظم(ص)كل ما يفرض المحبة و يدعو إلي الإعجاب،حيث كان نموذجا فذا،و نمطا فريدا بين الناس.لخص اللّه فيه آيات الجمال و الكمال،و أودع فيه أسرار الجاذبية،فلا يملك المرء أزاءه إلا الحب و الإجلال،و هذا ما تشهد به شخصيته المثالية،و تأريخه المجيد.
قال أمير المؤمنين(ع)و هو يصف شمائل رسول اللّه(ص):
«كان نبي اللّه أبيض اللون،مشربا حمرة،أدعج العين،سبط الشعر، كث اللحية،ذا وفرة،دقيق المسربة،كأنما عنقه إبريق فضة يجري في تراقيه الذهب،له شعر من لبته إلي سرته كقضيب خيط،و ليس في بطنه و لا صدره شعر غيره،شثن الكفين و القدمين،إذا مشي كأنه ينقلع من صخر،إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب،إذا التفت جميعا بأجمعه،ليس بالقصير و لا بالطويل،كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ،عرقه أطيب من المسك» (1).
و قال(ع)و هو يصف أخلاق الرسول(ص):
«كان أجود الناس كفا،و أجرأ الناس صدرا،و أصدق الناس لهجة، و أوفاهم ذمة،و ألينهم عريكة،و أكرمهم عشرة،من رآه بديهة هابه،و من خالطه فعرفه أحبه،لم أر مثله قبله و لا بعده» (2).
و لأجل تلك الشمائل و المآثر،أحبه الناس علي اختلاف ميولهم في الحب:
********
(1) البحار م 6 في أوصاف خلقه و شمائله.
(2) سفينة البحار م 2 ص 414.
ص: 209
أحبه الأبطال لبطولته الفذة التي لا يجاريه فيها بطل مغوار،و أحبه الكرام إذ كان المثل الأعلي في الأريحية و السخاء،و أحبه العباد لتولهه في العبادة و فنائه في ذات اللّه،و أحبه أصحابه المخلصون لمثاليته الفذة في الخلق و الخلق.
قال أمير المؤمنين(ع):«جاء رجل من الأنصار إلي النبي(ص)،فقال:
يا رسول اللّه ما أستطيع فراقك،و إني لأدخل منزلي فأذكرك،فأترك ضيعتي و أقبل حتي أنظر إليك حبا لك،فذكرت إذا كان يوم القيامة،و أدخلت الجنة، فرفعت في أعلي عليين،فكيف لي بك يا نبي اللّه؟،فنزل: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ،فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ،وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (النساء:69)فدعا النبي(ص)الرجلّ فقرأها عليه و بشره بذلك» (1).
و قال أنس:جاء رجل من أهل البادية،و كان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي(ص)،فقال:يا رسول اللّه متي قيام الساعة؟
فحضرت الصلاة،فلما قضي صلاته،قال:أين السائل عن الساعة؟
قال:أنا يا رسول اللّه.قال:فما أعددت لها؟
قال:و اللّه ما أعددت لها من كثير عمل صلاة و لا صوم،إلا أني أحب اللّه و رسوله.
فقال له النبي(ص):المرء مع من أحب.
قال أنس:فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا (2).
و عن أبي عبد اللّه(ع)،قال:كان رجل يبيع الزيت،و كان يحب رسول اللّه(ص)حبا شديدا،كان إذا أراد أن يذهب في حاجة لم يمض حتي ينظر إلي رسول اللّه(ص)،قد عرف ذلك منه،فإذا جاء تطاول له حتي ينظر إليه.حتي
********
(1) البحار م 6 في باب وجوب طاعته و حبه.
(2) البحار م 6،باب وجوب طاعته و حبه،عن علل الشرائع.
ص: 210
إذا كان ذات يوم،دخل فتطاول له رسول اللّه(ص)حتي نظر إليه ثم مضي في حاجته،فلم يكن بأسرع من أن رجع،فلما رآه رسول اللّه(ص)قد فعل ذلك،أشار إليه بيده أجلس،فجلس بين يديه،فقال:ما لك فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله قبل؟
فقال:يا رسول اللّه،و الذي بعثك بالحق نبيا،لغشي قلبي شيء من ذكرك حتي ما استطعت أن أمضي في حاجتي،و لذا رجعت إليك.فدعا له و قال له خيرا.
ثم مكث رسول اللّه(ص)أياما لا يراه،فلما فقده سأل عنه،فقيل له:يا رسول اللّه ما رأيناه منذ أيام.فانتعل رسول اللّه(ص)و انتعل معه أصحابه، فانطلق حتي أتي سوق الزيت،فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد،فسأل عنه جيرته،فقالوا:يا رسول اللّه،مات..و لقد كان عندنا أمينا صدوقا،إلا أنه قد كان فيه خصلة،قال:و ما هي؟قالوا:كان يزهق(يعنون،يتبع النساء).فقال رسول اللّه(ص):لقد كان يحبني حبا،لو كان بخاسا لغفر اللّه له (1).
قال تعالي: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ،يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب:56).
درج الناس علي إجلال العظماء و توقيرهم بما يستحقونه من صور الإجلال و التوقير،تكريما لهم و تقديرا لجهودهم و مساعيهم في سبيل أممهم.
و من هنا كان السّلام الجمهوري و التحية العسكرية فرضا علي الجنود، تبجيلا لقادتهم و إظهارا لإخلاصهم لهم.
فلا غرابة أن يكون من حقوق النبي(ص)علي أمته-و هو سيد الخلق و أشرفهم جميعا-تعظيمه و الصلاة عليه،عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه،
********
(1) الوافي ج 3،ص 143-144.الزهق:غشيان المحارم.و البخس:النقص في المكيال و الميزان.
ص: 211
و غيرهما من مواطن الدعاء.
و قد أعربت الآية الكريمة عن بالغ تكريم اللّه تعالي و ملائكته للنبي(ص) إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ، ثم وجهت الخطاب إلي المؤمنين بضرورة تعظيمه و الصلاة و السّلام عليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً.
و جاءت نصوص أهل البيت عليهم السّلام توضح خصائص و رغبات الصلاة عليه،بأسلوب شيق جذاب.
فمن ذلك ما جاء عن ابن أبي حمزة عن أبيه،قال:سألت أبا عبد اللّه(ع) عن قول اللّه عز و جل: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ،يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً. فقال:الصلاة من اللّه عز و جل رحمة،و من الملائكة تزكية،و من الناس دعاء.و أما قوله عز و جل: وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً، فإنه يعني بالتسليم له فيما ورد عنه.قال:فقلت له:فكيف نصلي علي محمد و آله؟
قال:تقولون:«صلوات اللّه و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه علي محمد و آل محمد،و السّلام عليه و عليهم و رحمة اللّه و بركاته».
قال:فقلت فما ثواب من صلي علي النبي و آله بهذه الصلاة؟
قال:الخروج من الذنوب،و اللّه كهيئة يوم ولدته أمه (1).
و قال الصادق(ع):«من صلي علي محمد و آل محمد عشرا صلّي اللّه عليه و ملائكته مائة مرة،و من صل علي محمد و آل محمد مائة صلّي اللّه عليه و ملائكته ألفا،أما تسمع قول اللّه تعالي: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ،لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَي النُّورِ،وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (2)(الأحزاب:43).
و قال الصادق(ع):كل دعاء يدعي اللّه تعالي به،محجوب عن السماء حتي يصلي علي محمد و آل محمد (3).
********
(1) البحار م 19،ص 78،عن معاني الأخبار للصدوق(ره).
(2) الوافي ج 5،ص 228،عن الكافي.
(3) الوافي ج 5،ص 227،عن الكافي.
ص: 212
و عن أحدهما عليهما السّلام قال:ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة علي محمد و آل محمد،و إن الرجل ليوضع أعماله في الميزان فيميل به،فيخرج(ص) «الصلاة عليه»فيضعها في ميزانه،فيرجح به (1).
و قال الرضا(ع):من لم يقدر علي ما يكفّر به ذنوبه،فليكثر من الصلاة علي محمد و آله،فإنها تهدم الذنوب هدما (2).
و جاء في الصواعق(ص 87)،قال:و يروي«لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء.فقالوا:و ما الصلاة البتراء؟قال:تقولون«اللهم صل علي محمد» و تمسكون.بل قولوا:اللهم صل علي محمد و آل محمد» (3).
الذين فرض اللّه مودتهم في كتابه،و جعلها أجر الرسالة،و حقا مفروضا من حقوق النبي(ص)،فقال تعالي: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي،وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً،إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (الشوري:23).
و قد اتصف أهل البيت عليهم السّلام بجميع دواعي الإعجاب و الإكبار، و بواعث الحب و الولاء،كما وصفهم الشاعر:
من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجي و معتصم
إن عدّ أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
نعم هم صفوة الخلق،و حجج العباد،و سفن النجاة،و خير من أقلته الأرض و أضلته السماء-بعد جدهم الأعظم(ص)-حسبا و نسبا و فضائل و أمجادا.
و كيف يرتضي الوجدان السليم محبة النبي(ص)دون أهل بيته
********
(1) الوافي ج 5،ص 228،عن الكافي.
(2) البحار م 19،ص 76،عن عيون أخبار الرضا و أمالي الشيخ الصدوق(ره).
(3) فضائل الخمسة،من الصحاح الستة.
ص: 213
الطاهرين،الجديرين بأصدق مفاهيم الحب و الود،إنها و لا ريب محبة زائفة تنمّ عن نفاق و لؤم،كما جاء عن عبد اللّه بن مسعود قال:كنا مع النبي(ص)في بعض أسفاره،إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري،فقال:يا محمد.فقال له النبي(ص):ما تشاء؟فقال:المرء يحب القوم و لا يعمل بأعمالهم،فقال النبي (ص):المرء مع من أحب.فقال:يا محمد،اعرض عليّ الإسلام.فقال:
إشهد أن لا إله إلا اللّه،و أني رسول اللّه،و تقيم الصلاة،و تؤتي الزكاة،و تصوم شهر رمضان،و تحج البيت.
فقال:يا محمد،تأخذ علي هذا أجرا؟فقال:لا،إلا المودة في القربي.
قال:قرباي أو قرباك؟فقال:بل قرباي.قال:هلمّ يدك حتي أبايعك،لا خير فيمن يودّك و لا يودّ قرباك (1).
و قد أجمع الإمامية أنّ المراد بالقربي في الآية الكريمة،هم الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السّلام،و وافقهم علي ذلك ثلة من أعلام غيرهم من المفسرين و المحدثين،كأحمد بن حنبل،و الطبراني،و الحاكم عن ابن عباس.كما نص عليه ابن حجر،في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، قال:لما نزلت هذه الآية قالوا:يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟قال(ص):علي و فاطمة و ابناهما (2).
انظر،كيف يحرض النبي(ص)أمته علي مودة قرباه و أهل بيته،كما يحدثنا به رواة الفريقين:
فمما ورد من طرقنا:
عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):من أحبنا أهل البيت فليحمد اللّه علي أول النعم.قيل:و ما أول النعم؟قال:طيب الولادة،و لا يحبنا إلا من طابت ولادته (3).
********
(1) البحار م 7،ص 389،عن مجالس الشيخ المفيد(ره).
(2) انظر الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء،للإمام شرف الدين(ره)ص 18.
(3) البحار م 7،ص 389،عن علل الشرائع و معاني الأخبار و أمالي الصدوق(ره).
ص: 214
و عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جده عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):حبي و حب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن،أهوالهن عظيمة:عند الوفاة،و في القبر،و عند النشور،و عند الكتاب،و عند الحساب،و عند الميزان، و عند الصراط (1).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):لو أن عبدا عبد اللّه ألف عام،ثم ذبح كما يذبح الكبش،ثم أتي اللّه ببغضنا أهل البيت،لرد اللّه عليه عمله (2).
و عن الباقر(ع)عن النبي(ص)قال:لا تزول قدم(قدما خ ل)عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه،حتي يسأل عن أربع خصال:عمرك فيما أفنيته، و جسدك فيما أبليته،و مالك من أين اكتسبته و أين وضعته،و عن حبنا أهل البيت» (3).
و عن الحكم بن عتيبة،قال:بينا أنا مع أبي جعفر(ع)،و البيت غاص بأهله،إذ أقبل شيخ يتوكأ علي عنزة له،حتي وقف علي باب البيت فقال:
السّلام عليك يا بن رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته،ثم سكت.فقال أبو جعفر:
و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته.ثم أقبل الشيخ بوجهه علي أهل البيت و قال:السّلام عليكم،ثم سكت،حتي أجابه القوم جميعا و ردّوا عليه السّلام.
ثم أقبل بوجهه علي أبي جعفر(ع)،ثم قال:يا بن رسول اللّه أدنني منك، جعلني اللّه فداك،فو اللّه إني لأحبكم و أحب من يحبكم،و و اللّه ما أحبكم و ما أحب من يحبكم لطمع في دنيا.و إني لأبغض عدوكم و أبرأ منه،و و اللّه ما أبغضه و أبرأ منه لوتر كان بيني و بينه.و اللّه إني لأحلّ حلالكم،و أحرم حرامكم،و أنتظر أمركم.فهل ترجو لي،جعلني اللّه فداك؟!
فقال أبو جعفر(ع):«إليّ...إليّ،حتي أقعده إلي جنبه.ثم قال:أيها
********
(1) البحار م 7،ص 391،عن الخصال.
(2) البحار م 7،ص 397،عن محاسن البرقي.
(3) البحار م 7،ص 389،عن مجالس الشيخ المفيد.
ص: 215
الشيخ،إن أبي علي بن الحسين(ع)،أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه،فقال له أبي:إن تمت ترد علي رسول اللّه(ص)و علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين عليهم السّلام،و يثلج قلبك،و يبرد فؤادك،و تقر عينيك، و تستقبل بالرّوح و الريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك هاهنا-و أهوي بيده إلي حلقه-و ان تعش تر ما يقر اللّه به عينك،و تكون معنا في السنام الأعلي-الخ (1).
و مما جاء من طرق إخواننا:
و أخرج ابن حنبل و الترمذي،كما في الصواعق ص 91:انه(ص)أخذ بيد الحسنين و قال:من أحبني و أحب هذين و أباهما و أمهما كان معي في درجتي يوم القيامة (2).
و أخرج الثعلبي في تفسيره الكبير،قال:قال رسول اللّه(ص):ألا من مات علي حب آل محمد مات شهيدا،ألا و من مات علي حب آل محمد مات مغفورا له،ألا و من مات علي حب آل محمد مات تائبا،ألا و من مات علي حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان،ألا و من مات علي حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير،ألا و من مات علي حب آل محمد يزف إلي الجنة كما تزف العروس إلي بيت زوجها،ألا و من مات علي حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلي الجنة،ألا و من مات علي حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة،ألا و من مات علي حب آل محمد مات علي السنة و الجماعة.ألا و من مات علي بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه-الحديث (3).
و أورد ابن حجر ص 103 من صواعقه حديثا،هذا نصه:
إن النبي خرج علي أصحابه ذات يوم،و وجهه مشرق كدائرة القمر.
********
(1) الوافي ج 3،ص 139،عن الكافي.
(2) الفصول المهمة للإمام شرف الدين،ص 41.
(3) الفصول المهمة للإمام شرف الدين،ص 42.
ص: 216
فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك،فقال(ص):بشارة اتتني من ربي في أخي و ابن عمي و ابنتي،بأن زوّج عليا من فاطمة،و أمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبي،فحملت رقاقا(يعني صكاكا)بعدد محبي أهل بيتي،و أنشأ تحتها ملائكة من نور،دفع إلي كل ملك صكا،فإذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق،فلا يبقي محب لأهل البيت إلا دفعت إليه صكا فيه فكاكه من النار،فصار أخي و ابن عمي و ابنتي فكاك رقاب رجال و نساء من أمتي من النار (1).
و جاء في مستدرك الصحيحين ج 3،ص 127،عن ابن عباس قال:نظر النبي(ص)إلي علي(ع)فقال:يا علي،أنت سيد في الدنيا و سيد في الآخرة، حبيبك حبيبي،و حبيبي حبيب اللّه،و عدوك عدوي،و عدوي عدو اللّه،و الويل لمن أبغضك بعدي (2).
و أخرج الحافظ الطبري،في كتاب الولاية،بإسناده عن علي(ع)أنه قال:
لا يحبني ثلاثة:ولد زنا،و منافق،و رجل حملت به أمه في بعض حيضها (3).
و أخرج الطبراني في الأوسط،و السيوطي في إحياء الميت،و ابن حجر في صواعقه في باب الحث علي حبهم:
قال رسول اللّه(ص):إلزموا مودتنا أهل البيت،فإنه من لقي اللّه و هو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا،و الذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا (4)إلي كثير من النصوص التي يطول عرضها في هذا المختصر.
و لا ريب أن المراد بأهل البيت عليهم السّلام،هم الأئمة الاثنا عشر المعصومون صلوات اللّه عليهم،دون سواهم،لأن هذه الخصائص الجليلة،
********
(1) الفصول المهمة،للإمام شرف الدين،ص 43.
(2) فضائل الخمسة،من الصحاح الستة ج 1،ص 200.
(3) الغدير ج 4،ص 322.
(4) المراجعات،للإمام شرف الدين،ص 22.
ص: 217
و المزايا الفذة،لا يستحقها إلا حجج اللّه تعالي علي العباد،و خلفاء رسوله الميامين.
لقد حاز الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السّلام السبق في ميادين الفضل و الكمال،و نالوا الشرف الأرفع في الأحساب و الأنساب.فهم آل رسول اللّه و أبناؤه،نشأوا في ربوع الوصي،و ترعرعوا في كنف الرسالة،و استلهموا حقائق الإسلام و مبادئه عن جدهم الأعظم،فكانوا ورثة علمه،و خزان حكمته،و حماة شريعته الغراء،و خلفاءه الميامين.
و قد جاهدوا في نصرة الدين و حماية المسلمين،جهادا منقطع النظير،وفدوا أنفسهم في سبيل اللّه تعالي،حتي استشهدوا في سبيل العقيدة و المبدأ،لا تأخذهم في اللّه لومة لائم،و لا تخدعهم زخارف الحياة.
و كم لهم من أياد و حقوق علي المسلمين،ينوء القلم بشرحها و تعدادها.
بيد أني أشير إليها إشارة خاطفة،و هي:
كما جاء في الحديث المتواتر بين الفريقين،و في الصحاح المعتبرة،قوله (ص):
«من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (1).
الإمام هو خليفة النبي(ص)،و ممثله في أمته،يبلغها عنه أحكام الشريعة،و يسعي جاهدا في تنظيم حياتها،و توفير سعادتها،و إعلاء مجدها.
و حيث كان الإمام كذلك،وجب علي كل مسلم معرفته،كما صرح بذلك
********
(1) انظر مصادر الحديث و رواته في الغدير،للحجة الأميني ج 10 ص 359-360.
ص: 218
الحديث الشريف،ليكون علي بصيرة من عقيدته و شريعته،و ليسير علي ضوء توجيهه و هداه.
فإذا أغفل المسلم معرفة إمامه،و لم يستهد به،و هو الدليل المخلص، و الرائد الأمين،ضل عن نهج الإسلام و واقعه،و مات كافرا منافقا.
و قد أشعر الحديث بضرورة وجود الإمام و وجوب معرفته مدي الحياة،لأن إضافة الإمام إلي الزمان تستلزم استمرارية الإمامة،و تجددها عبر الأزمنة و العصور.
و هكذا توالت الأحاديث النبوية المتواترة بين الفريقين،و المؤكدة علي ضرورة معرفة الأئمة الطاهرين،و الاهتداء بهم،كقوله(ص):«في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي،ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين،و انتحال المبطلين،و تأويل الجاهلين.ألا و إن أئمتكم وفدكم إلي اللّه،فانظروا من توفدون» (1).
و قال(ص)(كما جاء في صحيح مسلم):
«لا يزال الدين قائما حتي تقوم الساعة،و يكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش».
و هذا الحديث شاهد علي وجود الإمامة حتي قيام الساعة،و قصرها علي الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السّلام،دون غيرهم من ملوك الأمويين و العباسيين لزيادتهم عن هذا العدد.
معرفة الإمام لا تجدي نفعا،و لا تحقق الأماني و الآمال المعقودة عليه،إلاّ إذا اقترنت بولائه،و السير علي هداه،و متي تجردت المعرفة من ذلك غدت هزيلة جوفاء.
********
(1) المراجعات،ص 21.
ص: 219
ذلك أن الإمام هو خليفة رسول اللّه(ص)،و حامل لواء الإسلام،و رائد المسلمين نحو المثل الإسلامية العليا،يبين لهم حقائق الشريعة،و يجلو أحكامها، و يصونها من كيد الملحدين و دسهم،و يعمل جاهدا في حماية المسلمين، و نصرهم،و إسعادهم ماديا و روحيا،دينا و دنيا.
من أجل ذلك كان التخلف عن موالاة الإمام و الاهتداء به،مدعاة للزيغ و الضلال،و الانحراف عن خط الإسلام و نهجه المرسوم.كما نوه النبي(ص) عن ذلك،و أوضح للمسلمين أنّ الهدي و الفوز في ولاء الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السّلام،و أن الضلال و الشقاء في مجافاتهم و مخالفتهم.
قال(ص):«إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح،من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق» (1).
و قال(ص):«إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي:كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض،و عترتي أهل بيتي،و لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض،فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (2).
و قد أوضح أمير المؤمنين(ع)معني العترة:
فعن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:سئل أمير المؤمنين(ع)عن معني قول رسول اللّه(ص):«إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي»من العترة؟
فقال:أنا و الحسن و الحسين و الأئمة التسعة من ولد الحسين،تاسعهم مهديهم و قائمهم،لا يفارقون كتاب اللّه و لا يفارقهم،حتي يردا علي رسول اللّه (ص)حوضه (3).
و هذا الحديث يدل بوضوح أن القرآن الكريم و العترة النبوية الطاهرة،
********
(1) المراجعات،ص 17.
(2) المراجعات ص 14.
(3) سفينة البحار،عن معاني الأخبار و عيون أخبار الرضا(ع).
ص: 220
صنوان مقترنان مدي الدهر،لا ينفك أحدهما عن قرينه،و أنه كما يجب أن يكون القرآن دستورا للمسلمين و حجة عليهم،كذلك وجب أن يكون في كل عصر إمام من أهل البيت عليهم السّلام يتولي إمامة المسلمين،و يوجههم وجهة الخير و الصلاح.
و قال(ص):«من أحب أن يحيا حياتي،و يموت ميتتي،و يدخل الجنة التي وعدني ربي و هي جنة الخلد،فليتول عليا و ذريته من بعده،فإنهم لن يخرجوكم من باب هدي،و لن يدخلوكم باب ضلالة» (1).
إلي كثير من الأحاديث النبوية المحرضة علي موالاة أهل البيت عليهم السّلام و الاقتداء بهم.
قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ،فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَ الرَّسُولِ،إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ،ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59).
لقد أوجب اللّه تعالي علي المسلمين في الآية الكريمة طاعة الأئمة من آل محمد بصفتهم خلفاء رسول اللّه(ص)،و أمراء المسلمين،و قادة الفكر الإسلامي،ليستضيئوا بهداهم،و ينتفعوا بتوجيههم الهادف البناء،و لا ينحرفوا عن واقع الإسلام،و نهجه الأصيل.
فرض طاعتهم،كما فرض طاعته و طاعة رسوله،سواء بسواء،و هذا ما يشعر بخلافتهم الحقة عن رسول اللّه(ص)،و عصمتهم من الآثام لأن الطاعة المطلقة لا يستحقها إلا الإمام المعصوم،الذي فرض اللّه طاعته علي العباد.
فمن الخطأ الكبير تأويل«أولي الأمر»و حملها علي سائر أمراء المسلمين، لمخالفة الكثيرين منهم للّه تعالي و رسوله،و انحرافهم عن خط الإسلام.
يحدثنا زرارة،و هو من أجل المحدثين و الرواة،عن فضل موالاة الأئمة
********
(1) المراجعات ص 156.
ص: 221
من أهل البيت عليهم السّلام،و ضرورة طاعتهم،عن أبي جعفر(ع)،قال:
«بني الإسلام علي خمسة أشياء:علي الصلاة،و الزكاة،و الصوم،و الحج، و الولاية».قال زرارة:فقلت و أي شيء من ذلك أفضل؟قال:الولاية،لأنها مفتاحهن،و الوالي هو الدليل عليهن..
إلي أن قال:ثم قال(ع):ذروة الأمر،و سنامه،و مفتاحه،و باب الأشياء،و رضا الرحمن...الطاعة للإمام،بعد معرفته.إن اللّه عز و جل يقول:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ،وَ مَنْ تَوَلّي فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (النساء:80).
أما لو أن رجلا قام ليله،و صام نهاره،و تصدق بجميع ماله،و حج دهره،و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه،و تكون جميع أعماله بدلالته إليه،ما كان له علي اللّه حق في ثواب،و لا كان من أهل الإيمان»الخبر (1).
و قال الصادق(ع):و صل اللّه طاعة ولي أمره...بطاعة رسوله،و طاعة رسوله...بطاعته،فمن ترك طاعة ولاة الآمر لم يطع اللّه و لا رسوله (2).
قال تعالي: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال:41).
و هذا الحق فرض محتم علي المسلمين،شرعه اللّه عز و جل لأهل البيت عليهم السّلام و من يمتّ إليهم بشرف القربي و النسب.
و هو حق طبيعي يفرضه العقل و الوجدان،كما يفرضه الشرع.فقد درجت الدول علي تكريم موظفيها و العاملين في حقولها،فتمنحهم راتبا تقاعديا
********
(1) سفينة البحار ج 2،ص 691 نقل بتصرف.
(2) سفينة البحار ج 2،ص 691.
ص: 222
يتقاضوه عند كبر سنهم،و يورثونه لأبنائهم،و ذلك تقديرا لجهودهم في صالح أممهم و شعوبهم.
و قد فرض اللّه الخمس لآل محمد و ذراريهم،تكريما للنبي(ص)،و تقديرا لجهاده الجبار،و تضحياته الغالية،في سبيل أمته،و تنزيها لآله عن الصدقة و الزكاة.
و قد أوضح أمير المؤمنين(ع)مفهوم ذي القربي،فقال:نحن و اللّه الذين عني اللّه بذي القربي،الذين قرنهم اللّه بنفسه و نبيه،فقال: ما أَفاءَ اللّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُري،فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ (الحشر:7)منّا خاصة،لأنه لم يجعل لنا سهما في الصدقة،و أكرم اللّه نبيه، و أكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس (1).
و عن أبي بصير قال:قلت لأبي جعفر(ع):أصلحك اللّه،ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟قال:من أكل مال اليتيم درهما،و نحن اليتيم (2).
و قد دار الجدل و النقاش بين الإمامية و غيرهم،حول مفهوم الغنيمة،أ هي مختصة بغنائم الحرب،أم عامة لجميع الفوائد و المنافع؟و تحقيق ذلك يخرج هذا الكتاب عن موضوعه الأخلاقي،و لكن مرجع ذلك المصادر الفقهية.
من دلائل مودة الأئمة الطاهرين عليهم السّلام،و مقتضيات ولائهم، و الوفاء لهم...رعاية ذراريهم،و البرّ بهم،و الإحسان إليهم.و هم جديرون بذلك،لشرف انتمائهم إلي رسول اللّه(ص)،و انحدارهم من سلالة أبنائه المعصومين عليهم السّلام.
و قد أعرب النبي(ص)عن اغتباطه و حبه لمبجليهم و مكرميهم،كما أوضح استنكاره و سخطه علي مؤذيهم و المسيئين إليهم.
********
(1) الوافي ج 6،ص 38،عن الكافي.
(2) البحار م 20،ص 48،عن كمال الدين للصدوق،و تفسير العياشي.
ص: 223
فعن الرضا عن آبائه عن علي(ع)،قال:قال رسول اللّه(ص):أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة:المكرم لذريتي من بعدي،و القاضي لهم حوائجهم، و الساعي لهم في أمورهم عند اضطرارهم،و المحب لهم بقلبه و لسانه (1).
و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):إذا قمت المقام المحمود،تشفعت في أصحاب الكبائر من أمتي،فيشفعني اللّه فيهم.
و اللّه لا تشفعت فيمن آذي ذريتي (2).
طبع النبلاء علي تقدير العظماء و المجلّين في ميادين الفضائل و المكرمات، فيطرونهم بما يستحقونه من المدح و الثناء،تكريما لهم و تخليدا لمآثرهم.
و حيث كان الأئمة الطاهرون أرفع الناس حسبا و نسبا،و أجمعهم للفضائل،و أسبقهم في ميادين المآثر و الأمجاد،استحقوا من مواليهم و محبيهم أن يعربوا عما ينطوون عليه من عواطف الحب و الولاء،و بواعث الإعجاب و الإكبار،و ذلك بمدحهم،و نشر فضائلهم،و الإشادة بمآثرهم الخالدة،تكريما لهم،و تقديرا لجهادهم الجبّار،و تضحياتهم الغالية في خدمة الإسلام و المسلمين.
و ناهيك في فضلهم أنهم كانوا غياث المسلمين،و ملاذهم في كل خطب، لا يألون جهدا في إنقاذهم،و تحريرهم من سطوة الطغاة و الجائرين،و إمدادهم بأسمي مفاهيم العزة و الكرامة،ما وسعهم ذلك حتي استشهدوا في سبيل تلك الغاية السامية.
و الناس إزاء أهل البيت،فريقان:
فريق حاقد مبغض،ينكر فضائلهم و مثلهم الرفيعة،و يتعامي عنها،رغم جمالها و إشراقها،فهو كما قال الشاعر:
و من يك ذا فم مرّ مريض يجد مرا به الماء الزلالا
********
(1) البحار م 20،ص 57،عن عيون أخبار الرضا(ع).
(2) البحار م 20،ص 57،عن أمالي الصدوق.
ص: 224
و فريق و اله بحبهم و ولائهم،شغوف بمناقبهم،طروب لسماعها،و يلهج بترديدها و التنويه عنها،و إن عاني في سبيل ذلك ضروب الشدائد و الأهوال.
و هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين(ع)بقوله:
«لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا علي أن يبغضني ما أبغضني،و لو صببت الدنيا بجماتها علي المنافق علي أن يحبني ما أحبني،و ذلك أنه قضي فانقضي علي لسان النبي الأمي(ص)،أنه قال:يا علي لا يبغضك مؤمن،و لا يحبك منافق».
من أجل ذلك كان العارفون بفضائلهم،و المتمسكون بولائهم،يتبارون في مدحهم،و نشر مناقبهم،معربين عن حبهم الصادق و ولائهم الأصيل،دونما طلب جزاء و نوال.
و كان الأئمة عليهم السّلام،يستقبلون مادحيهم بكل حفاوة و ترحاب، شاكرين لهم عواطفهم الفياضة،و أناشيدهم العذبة،و يكافؤنهم عليها بما وسعت أيديهم من البر و النوال،و الدعاء لهم بالغفران،و جزيل الأجر و الثواب.
فقد جاء في(خزانة الأدب):حكي«صاعد»مولي الكميت،قال:
دخلت مع الكميت علي علي بن الحسين(ع)فقال:إني قد مدحتك بما أرجو أن يكون لي وسيلة عند رسول اللّه(ص)،ثم أنشده قصيدته التي أولها:
من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة و لا أحلام
فلما أتي علي آخرها،قال له:ثوابك نعجز عنه،و لكن ما عجزنا عنه فإن اللّه لا يعجز عن مكافأتك،اللهم اغفر للكميت.ثم قسط له علي نفسه و علي أهله أربعمائة ألف درهم،و قال له:خذ يا أبا المستهل.فقال له:لو وصلتني بدانق لكان شرفا لي،و لكن إن أحببت أن تحسن إليّ فادفع إليّ بعض ثيابك أتبرك بها،فقام فنزع ثيابه و دفعها إليه كلها،ثم قال:اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك و ذرية نبيك بنفسه حين ضنّ الناس،و أظهر ما كتمه غيره من الحق، فأحيه سعيدا،و أمته شهيدا،و أره الجزاء عاجلا،و أجزل له المثوبة آجلا،فإنا
ص: 225
قد عجزنا عن مكافأته.قال الكميت:ما زلت أعرف بركة دعائه (1).
و قال دعبل:دخلت علي علي بن موسي الرضا(ع)-بخراسان-فقال لي:
أنشدني شيئا مما أحدثت،فأنشدته:
مدارس آيات خلت من تلاوة و منزل وحي مقفر العرصات
حتي انتهيت إلي قولي:
إذا وتروا مدّوا إلي واتريهم أكفا عن الأوتار منقبضات
فبكي حتي أغمي عليه،و أومأ إليّ خادم كان علي رأسه:أن أسكت، فسكت فمكث ساعة ثم قال لي:أعد.فأعدت حتي انتهيت إلي هذا البيت أيضا،فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولي،و أومأ الخادم إليّ أن أسكت، فسكت.فمكث ساعة أخري،ثم قال لي:أعد.فأعدت حتي انتهيت إلي آخرها،فقال لي:أحسنت،ثلاث مرّات.ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم،مما ضرب باسمه،و لم تكن دفعت إلي أحد بعد.و أمر لي من في منزله،بحليّ كثير أخرجه إليّ الخادم،فقدمت العراق،فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها مني الشيعة،فحصل لي مائة ألف درهم،فكان أول مال اعتقدته.
قال ابن مهرويه:و حدثني حذيفة بن محمد،أن دعبلا قال له:إنه استوهب من الرضا(ع)ثوبا قد لبسه،ليجعله في أكفانه.فخلع جبّة كانت عليه،فأعطاه إياها.فبلغ أهل قم خبرها،فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم،فلم يفعل،فخرجوا عليه في طريقه،فأخذوها منه غصبا،و قالوا له:إن شئت أن تأخذ المال فافعل،و إلاّ فأنت أعلم.فقال لهم:إني و اللّه لا أعطيكم إياها طوعا،و لا تنفعكم غصبا،و أشكوكم إلي الرضا(ع).فصالحوه،علي أن يعطوه الثلاثين ألف درهم و فردكم من بطانتها،فرضي بذلك.فأعطوه فردكم فكان في أكفانه (2).
********
(1) الغدير ج 2،ص 189.
(2) الغدير ج 2،ص 350-351.
ص: 226
و كم لهذه القصص من أشباه و نظائر،يطول عرضها و تعدادها في هذا المجال المحدود.
و من حقوقهم علي مواليهم و شيعتهم،زيارة مشاهدهم المشرفة،و التسليم عليهم.فإنها من مظاهر الحب و الولاء،و مصاديق الوفاء و الإخلاص فهم سيّان،أحياءا و أمواتا.
قال الشيخ المفيد أعلي اللّه مقامه:
«إن رسول اللّه(ص)و الأئمة من عترته خاصة،لا يخفي عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا،بإعلام اللّه تعالي لهم ذلك حالا بعد حال، و يسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة العظام،بلطيفة من لطائف اللّه تعالي،بيّنهم بها من جمهور العباد،و تبلغهم المناجاة من بعد،كما جاءت به الرواية،و هذا مذهب فقهاء الإمامية كافة...
و قد قال اللّه تعالي فيما يدل علي جملته: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ،أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران:169-170).
و قال في قصة مؤمن آل فرعون: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ،قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (ياسين:26-27).
و قال رسول اللّه(ص):من سلّم عليّ عند قبري سمعته و من سلّم علي من بعيد بلغته،سلام اللّه عليهم و رحمته و بركاته.
ثم الأخبار في تفصيل ما ذكرناه،من الجمل عن أئمة آل محمد،بما وصفناه نصا و لفظا،أكثر» (1).
و قد تواترت نصوص أهل البيت عليهم السّلام،في فضل زيارة
********
(1) أوائل المقالات للشيخ المفيد(ره).
ص: 227
مشاهدهم،و ما تشتمل عليه من الخصائص الجليلة،و الثواب الجم.
فعن الوشا،قال:سمعت الرضا(ع)يقول:إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه و شيعته،و إن من تمام الوفاء بالعهد و حسن الأداء زيارة قبورهم،فمن زارهم رغبة في زيارتهم و تصديقا بما رغبوا فيه،كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة» (1).
و عن زيد الشحام قال:قلت لأبي عبد اللّه(ع):ما لمن زار واحدا منكم؟ قال:كمن زار رسول اللّه(ص) (2).
و عن أبي الحسن موسي(ع)قال:إذا كان يوم القيامة،كان علي عرش الرحمن أربعة من الأولين،و أربعة من الآخرين.فأما الأربعة الذين هم من الأولين:فنوح و إبراهيم و موسي و عيسي،و أما الأربعة من الآخرين:محمد و علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام.ثم يمد الطعام فيقعد معنا من زار قبور الأئمة، ألا إن أعلاهم درجة و أقربهم حبوة زوار قبر ولدي (3).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال أمير المؤمنين(ع):زارنا رسول اللّه،و قد أهدت لنا أم أيمن لبنا و زبدا و تمرا،قدمنا منه،فأكل،ثم قام إلي زاوية البيت فصلي ركعات،فلما كان في آخر سجوده بكي بكاءا شديدا،فلم يسأله أحد منّا إجلالا و إعظاما،فقام الحسين في الحجرة و قال له:يا أبه لقد دخلت بيتنا،فما سررنا بشيء كسرورنا بدخولك،ثم بكيت بكاءا غمّنا،فما أبكاك؟فقال:يا بني، أتاني جبرئيل آنفا،فأخبرني أنكم قتلي،و أن مصارعكم شتي.فقال:يا أبه،فما لمن يزور قبورنا علي تشتتها؟فقال:يا بني،أولئك طوائف من أمتي، يزورونكم،فيلتمسون بذلك البركة،و حقيق عليّ أن آتيهم يوم القيامة حتي أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم،و يسكنهم اللّه الجنة (4).
********
(1) البحار م 22،ص 6 عن عيون أخبار الرضا،و علل الشرائع و كامل الزيارة لابن قولوية.
(2) البحار م 22 ص 6،عن عيون أخبار الرضا،و علل الشرائع و كامل الزيارة لابن قولويه.
(3) البحار م 22،ص 8،عن الكافي.
(4) البحار م 22،ص 7 عن كامل الزيارة،و أمالي ابن الشيخ الطوسي(ره).
ص: 228
العلم...أجل الفضائل،و أشرف المزايا،و أعز ما يتحلي به الإنسان.
فهو أساس الحضارة،و مصدر أمجاد الأمم،و عنوان سموها و تفوقها في الحياة، و رائدها إلي السعادة الأبدية،و شرف الدارين.
و العلماء...هم ورثة الأنبياء،و خزّان العلم،و دعاة الحق،و أنصار الدين،يهدون الناس إلي معرفة اللّه و طاعته،و يوجهونهم وجهة الخير و الصلاح.
من أجل ذلك تظافرت الآيات و الأخبار علي تكريم العلم و العلماء، و الإشادة بمقامهما الرفيع.
قال تعالي: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الزمر:9).
و قال تعالي: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (المجادلة:11).
و قال تعالي: إِنَّما يَخْشَي اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (فاطر:28).
و قال تعالي: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ،وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (العنكبوت:43).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):من سلك طريقا يطلب فيه علما،سلك اللّه به طريقا إلي الجنة،و إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به،و انه يستغفر لطالب العلم من في السماء و من في الأرض، حتي الحوت في البحر.و فضل العالم علي العابد،كفضل القمر علي سائر النجوم ليلة البدر.و إن العلماء ورثة الأنبياء،إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما، و لكن ورثوا العلم،فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر (1).
********
(1) الوافي ج 1،ص 42،عن الكافي.
ص: 229
و قال الباقر(ع):عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد (1).
و قال الصادق(ع):إذا كان يوم القيامة،جمع اللّه عز و جل الناس في صعيد واحد،و وضعت الموازين،فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء،فيرجح مداد العلماء علي دماء الشهداء (2).
و قال الصادق(ع):إذا كان يوم القيامة،بعث اللّه عز و جل العالم و العابد،فإذا وقفا بين يدي اللّه عز و جل،قيل للعابد إنطلق إلي الجنة،و قيل للعالم قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم (3).
و قال أمير المؤمنين(ع):يا كميل،هلك خزان الأموال و هم أحياء، و العلماء باقون ما بقي الدهر،أعيانهم مفقودة،و أمثالهم في القلوب موجودة (4).
و عن أبي عبد اللّه(ع)،قال:قال رسول اللّه(ص):يجيء الرجل يوم القيامة،و له من الحسنات كالسحاب الركام،أو كالجبال الرواسي،فيقول:يا رب أنّي لي هذا و لم أعملها؟فيقول:هذا علمك الذي علّمته الناس،يعمل به من بعدك (5).
و لا غرابة أن يحظي العلماء بتلك الخصائص الجليلة،و المزايا الغر.فهم حماة الدين،و أعلام الإسلام،و حفظة آثاره الخالدة،و تراثه المدخور.يحملون للناس عبر القرون،مباديء الشريعة و أحكامها و آدابها،فتستهدي الأجيال بأنوار علومهم،و يستنيرون بتوجيههم الهادف البناء.
و بديهي أنّ تلك المنازل الرفيعة،لا ينالها إلاّ العلماء المخلصون، المجاهدون في سبيل العقيدة و الشريعة،و السائرون علي الخط الإسلامي، و المتحلون بآداب الإسلام و أخلاقه الكريمة.
********
(1) الوافي ج 1،ص 40 عن الكافي.
(2) الوافي ج 1،ص 40،عن الفقيه.
(3) البحار م 1،ص 74،عن علل الشرائع،و بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.
(4) نهج البلاغة.
(5) البحار م 1،ص 75 عن بصائر الدرجات.
ص: 230
و لهؤلاء فضل كبير،و حقوق مرعية في أعناق المسلمين،جديرة بكل عناية و اهتمام،و هي:
و هو في طليعة حقوقهم المشروعة،لتحليهم بالعلم و الفضل،و جهادهم في صيانة الشريعة الإسلامية و تعزيزها،و دأبهم علي إصلاح المجتمع الإسلامي و إرشاده.
و قد أعرب أهل البيت عليهم السّلام عن جلالة العلماء،و ضرورة تبجيلهم و توقيرهم،قولا و عملا،حتي قرروا أن النظر إليهم عبادة،و أن بغضهم مدعاة للهلاك،كما شهد بذلك الحديث الشريف:
فعن موسي بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال:قال(ص):النظر في وجه العالم حبا له عبادة (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال،قال رسول اللّه(ص):أغد عالما أو متعلما،أو أحبّ العلماء،و لا تكون رابعا فتهلك ببغضهم (2).
و هكذا كانوا عليهم السّلام يبجّلون العلماء،و يرعونهم بالحفاوة و التكريم،يحدثنا الشيخ المفيد(ره)،عن توقير الإمام الصادق(ع)لهشام بن الحكم،و كان من ألمع أصحابه و أسماهم مكانة عنده«أنه دخل عليه بمني،و هو غلام أول ما اختط عارضاه،و في مجلسه شيوخ الشيعة،كحمران بن أعين و قيس الماصر و يونس بن يعقوب و أبي جعفر الأحول و غيرهم،فرفعه علي جماعتهم،و ليس فيهم إلا من هو أكبر سنا منه.
فلما رأي أبو عبد اللّه(ع)أن ذلك الفعل كبر علي أصحابه،قال:هذا ناصرنا بقلبه و لسانه و يده» (3).
********
(1) البحار م 1،ص 64،عن نوادر الراوندي.
(2) البحار م 1،ص 59،عن خصال الصدوق(ره).
(3) سفينة البحار ج 2،ص 719.
ص: 231
و جاء عن أحمد البزنطي،قال:«بعث إليّ الرضا(ع)بحمار له،فجئت إلي صريا،فمكثت عامّة الليل معه،ثم أتيت بعشاء،ثم قال:أفرشوا له.ثم أتيت بوسادة طبرية و مرادع و كساء قياصري و ملحفة مروي،فلما أصبت من العشاء،قال لي:ما تريد أن تنام؟قلت:بلي،جعلت فداك.فطرح عليّ الملحفة و الكساء،ثم قال:بيتك اللّه في عافية.و كنا علي سطح،فلما نزل من عندي،قلت في نفسي:قد نلت من هذا الرجل كرامة ما نالها أحد قط» (1).
همة العلماء،و هدفهم الأسمي،خدمة الدين،و بث التوعية الإسلامية، و توجيه المسلمين نحو الخلق الكريم و السلوك الأمثل،و هذا ما يقتضيهم وقتا واسعا،و جهدا ضخما،يعوقهم عن اكتساب الرزق و طلب المعاش كسائر الناس.
فلا بد و الحالة هذه،للمؤمنين المعنيين بشؤون الدين،و الحريصين علي كيانه...أن يوفروا للعلماء وسائل الحياة الكريمة،و العيش اللائق،و ذلك بأداء الحقوق الشرعية إليهم،التي أمر اللّه بها،و ندب إليها،من الزكاة و الخمس، و وجوه الخيرات و المبرّات.فهم أحق الناس بها،و أهم مصاديقها،ليستطيعوا تحقيق أهدافهم،و الاضطلاع بمهامهم الدينية،دون أن يعوقهم عنها طلب المعاش.
و قد كان الغياري من المسلمين الأولين،يتطوعون بأريحية و سخاء،في رصد الأموال،و إيجاد الأوقاف،و استغلالها لصالح العلماء،و توفير معاشهم.
و كلما تجاهل الناس أقدار العلماء،و غمطوا حقوقهم،أدي ذلك إلي قلة العلماء،و هبوط الطاقات الروحية،و ضعف النشاط الديني.مما يعرض المجتمع الإسلامي لغز و المباديء الهدامة،و خطر الزيغ و الانحراف.
********
(1) سفينة البحار ج 1،ص 81.
ص: 232
لا يستغني كل واع مستنير،عن الرجوع إلي الاخصائيين في مختلف العلوم و الفنون،للإفادة من معارفهم و تجاربهم،كالأطباء و الكيمياويين و المهندسين و نحوهم من ذوي الاختصاص.
و حيث كان العلماء الروحانيون متخصصين بالعلوم الدينية،و المعارف الإسلامية،قد أوقفوا أنفسهم علي خدمة الشريعة الإسلامية،و نشر مبادئها و أحكامها،و هداية الناس و توجيههم وجهة الخير و الصلاح...فجدير بالمسلمين أن يستهدوا بهم و يجتنوا ثمرات علومهم،ليكونوا علي بصيرة من عقيدتهم و شريعتهم،و يتفادوا دعايات الغاوين و المضللين من أعداء الإسلام.
فإذا ما تنكروا للعلماء المخلصين،و استهانوا بتوجيههم و إرشادهم..
جهلوا واقع دينهم و مبادئه و أحكامه،و غدوا عرضة للزيغ و الانحراف.
انظر كيف يحرض أهل البيت عليهم السّلام علي مجالسة العلماء،و التزود من علومهم و آدابهم،في نصوص عديدة:
فعن الصادق،عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه (ص):«مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة» (1)و المراد بأهل الدين،علماء الدين العارفون بمبادئه،العاملون بأحكامه.
و جاء في حديث الرضا عن آبائه عليهم السّلام،قال:قال رسول اللّه (ص):«مجالسة العلماء عبادة» (2).
و قال لقمان لابنه:يا بني،جالس العلماء و زاحمهم بركبتيك،فإن اللّه عز و جل يحيي القلوب بنور الحكمة،كما يحيي الأرض بوابل السماء (3).
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):العلم
********
(1) البحار م 1 ص 62،عن ثواب الأعمال،و أمالي الصدوق.
(2) البحار م 1 ص 64،عن كشف الغمة.
(3) البحار م 1 ص 64،عن روضة الواعظين.
ص: 233
خزائن،و مفتاحه(مفتاحها خ ل)السؤال،فاسألوا يرحمكم اللّه،فإنه يؤجر فيه أربعة:السائل،و المعلم،و المستمع،و المحب لهم (1).
و قال الصادق(ع):إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون (2).
الأساتذة المخلصون،المتحلون بالإيمان و الخلق الكريم،لهم مكانة سامية،و فضل كبير علي المجتمع،بما يسدون إليه من جهود مشكورة في تربية أبنائهم،و تثقيفهم بالعلوم و الآداب.فهم رواد الثقافة،و دعاة العلم،و بناة الحضارة،و موجهو الجيل الجديد.
لذلك كان للأساتذة علي طلابهم حقوق جديرة بالرعاية و الاهتمام.و أول حقوقهم علي الطلاب،أن يوقروهم و يحترموهم احترام الآباء،مكافأة لهم علي تأديبهم،و تنويرهم بالعلم،و توجيههم وجهة الخير و الصلاح.كما قيل للإسكندر:إنك تعظّم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك!!!فقال:لأن أبي سبب حياتي الفانية،و مؤدبي سبب الحياة الباقية.
قم للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أ رأيت أكرم أو أجل من الذي يبني و ينشيء أنفسا و عقولا
و حسبك في فضل المعلم المخلص و أجره الجزيل،ما أعربت عنه نصوص أهل البيت عليهم السّلام:
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):يجييء الرجل يوم القيامة،و له من الحسنات كالسحاب الركام،أو كالجبال الرواسي.فيقول:يا رب أنّي لي هذا و لم أعملها؟فيقول:هذا علمك الذي علمته الناس،يعمل به من بعدك (3).
********
(1) البحار م 1 ص 62،عن صحيفة الرضا(ع)و عيون أخبار الرضا.
(2) الوافي ج 1 ص 46،عن الكافي.
(3) البحار م 1 ص 75،عن بصائر الدرجات للشيخ محمد بن الحسن الصفار.
ص: 234
و عن أبي جعفر(ع)،قال:من علّم باب هدي فله مثل أجر من عمل به و لا ينقص أولئك من أجورهم شيئا،و من علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به و لا ينقص من أوزارهم شيئا (1).
و من حقوق الأساتذة علي الطلاب:تقدير جهودهم و مكافأتهم عليها بالشكر الجزيل،و جميل الحفاوة و التكريم،و اتباع نصائحهم العلمية،كاستيعاب الدروس و إنجاز الواجبات المدرسية.
و من حقوقهم كذلك:التسامح و الإغضاء عما يبدر منهم من صرامة أو غلظة تأديبية،تهدف إلي تثقيف الطالب و تهذيب أخلاقه.
و أبلغ و أجمع ما أثر في حقوق الأساتذة المربين،قول الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع):«و حق سايسك بالعلم:التعظيم له،و التوقير لمجلسه، و حسن الاستماع إليه،و الإقبال عليه،و ان لا ترفع عليه صوتك،و لا تجيب أحدا يسأله عن شيء حتي يكون هو الذي يجيب،و لا تحدّث في مجلسه أحدا،و لا تغتاب عنده أحدا،و أن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء،و أن تستر عيوبه،و تظهر مناقبه.و لا تجالس له عدوا،و لا تعاد له وليّا.فإذا فعلت ذلك،شهد لك ملائكة اللّه بأنك قصدته،و تعلّمت علمه للّه جل اسمه،لا للناس» (2).
لطلاب العلم فضلهم و كرامتهم،باجتهادهم في تحصيل العلم،و حفظ تراثه،و نقله للأجيال الصاعدة،ليبقي الرصيد العلمي زاخرا ناميا مدي القرون و الأجيال.
من أجل ذلك،نوهت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام بفضل طلاب العلم،و شرف أقدارهم و جزيل أجرهم.
فعن أبي عبد اللّه(ع)عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه
********
(1) الوافي ج 1 ص 42،عن الكافي.
(2) رسالة الحقوق للإمام السجاد(ع).
ص: 235
(ص):«طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات» (1).
و عن أبي عبد اللّه،قال:قال رسول اللّه(ص):«من سلك طريقا يطلب فيه علما،سلك اللّه به طريقا إلي الجنة.و إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به،و انه ليستغفر لطالب العلم من في السماء و من في الأرض حتي الحوت في البحر.و فضل العالم علي العابد كفضل القمر علي سائر النجوم ليلة البدر» (2).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«طلب العلم فريضة علي كل مسلم،ألا إن اللّه يحب بغاة العلم» (3).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«العالم و المتعلم شريكان في الأجر،للعالم أجران و للمتعلم أجر،و لا خير في سوي ذلك» (4).
و من الواضح أن تلك الخصائص الرفيعة،و المزايا المشرفة،لا ينالها إلا طلاب العلم المخلصون،المتذرعون بطلبه إلي تزكية نفوسهم و تهذيب أخلاقهم، و كسب معرفة اللّه عز و جل و شرف طاعته و رضاه،فإذا ما تجردوا من تلك الخصائص و الغايات،حرموا تلك المآثر الخالدة،و لم يجنوا إلا المآرب المادية الزائلة.
و إليك مجملا من حقوق الطلاب:
1-يجدر بأولياء الطلاب و المعنيون بتربيتهم و تعليمهم،أن يختاروا لهم أساتذة أكفاء،متحلين بالإيمان و حسن الخلق،ليكونوا قدوة صالحة و نموذجا حسنا لتلامذتهم.
فالطالب شديد التأثر و المحاكاة لأساتذته و مربيه،سرعان ما تنعكس في
********
(1) البحار م 1 ص 58،عن أمالي الشيخ أبي علي بن الشيخ الطوسي.
(2) الوافي ج 1 ص 42،عن الكافي.
(3) الوافي ج 1 ص 36،عن الكافي.
(4) البحار م 1 ص 56،عن بصائر الدرجات.
ص: 236
نفسه صفاتهم و أخلاقهم،و من هنا وجب اختيار المدرسين المتصفين بالاستقامة و الصلاح.
2-و من حقوق الطلاب:أن يستشعروا من أساتذتهم اللطف و الإشفاق، فيعاملوهم معاملة الأبناء،و يتفادون جهدهم عن احتقارهم و اضطهادهم،لأن ذلك يحدث ردّ فعل سيء فيهم،يوشك أن ينفرهم من تحصيل العلم.لذلك كان من الحكمة في تهذيب الطلاب و تشجيعهم علي الدرس،مكافأة المحسن منهم بالمدح و الثناء،و زجر المقصر منهم بالتأنيب و التقريع،الذي لا يجرح العاطفة و يهدر الكرامة و يحدث ردّ فعل في الطالب.
انظر كيف يوصي الإمام زين العابدين بالمتعلمين،في رسالته الحقوقية، فيقول(ع):«و أما حق رعيتك بالعلم،فان تعلم أن اللّه عز و جل إنما جعلك قيّما لهم فيما أتاك من العلم،و فتح لك من خزائنه،فإن أحسنت في تعليم الناس و لم تخرق بهم،و لم تضجر منهم،زادك اللّه من فضله،و إن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك،كان حقا علي اللّه عز و جل أن يسلبك العلم و بهاءه،و يسقط من القلوب محلك».
3-و هكذا يجدر بالأساتذة أن يراعوا استعداد الطالب و مستواه الفكري، فيتدرجوا به في مراقي العلم حسب طاقته و مؤهلاته الفكرية،فلا يطلعونهم علي ما يسمو علي أفهامهم،و تقصر عنه مداركهم.مراعين إلي ذلك اتجاه الطالب و رغبته فيما يختار من العلوم،حيث لا يحسن قسره علي علم لا يرغب فيه،و لا يميل إليه.
4-و يحق للطلاب علي أساتذتهم أن يتعاهدوهم بالتوجيه و الإرشاد،في المجالات العلمية و غيرها من آداب السيرة و السلوك،لينشأ الطلاب نشأة مثالية، و يكونوا نموذجا رائعا في الاستقامة و الصلاح.
و ألزم النصائح و أجدرها بالاتباع،أن يعلم الطالب اللبيب أنه يجب أن تكون الغاية من طلب العلم هي-كما أشرنا إليه-تزكية النفس،و تهذيب الضمير،و التوصل إلي شرف طاعة اللّه تعالي و رضاه،و كسب السعادة الأبدية الخالدة.
ص: 237
فإن لم يستهدف الطالب تلك الغايات السامية،كان ماديا هزيل الغاية و المأرب،لم يستثمر العلم استثمارا واعيا.
و أصدق شاهد علي ذلك،الأمم المتحضرة اليوم،فإنها رغم سبقها و تفوقها في ميادين العلم و الاكتشاف،تعيش حياة مزرية من تفسخ الأخلاق، و تسيب القيم الروحية،و طغيان الشرور فيها لنزعتها المادية،و تجردها من الدين و الأخلاق،و غدت من جراء ذلك تتباري بأفتك الأسلحة للقضاء علي خصومها و منافسيها،مما صيّر العالم بركانا ينذر البشرية بالدمار و الهلاك.
هذه لمحات خاطفة من حقوق الأساتذة و الطلاب،و من شاء التوسع فيها فليرجع إلي ما كتبه علماء الأخلاق في آداب المعلمين و المتعلمين،و حقوق كل منهما علي الآخر.
كيف يستطيع هذا القلم أن يصور جلالة الأبوين،و فضلهما علي الأولاد، فهما سبب وجودهم،و عماد حياتهم،و قوام فضلهم،و نجاحهم في الحياة.
و قد جهد الوالدان ما استطاعا في رعاية أبنائهما ماديا و معنويا،و تحملا في سبيلهم أشد المتاعب و المشاق.فاضطلعت الأم بأعباء الحمل،و عناء الوضع، و مشقة الإرضاع،و جهد التربية و المداراة.
و اضطلع الأب بأعباء الجهاد،و السعي في توفير وسائل العيش لأبنائه، و تثقيفهم و تأديبهم،و إعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.
تحمل الأبوان تلك الجهود الضخمة،فرحين مغتبطين،لا يريدان من أولادهما ثناءا و لا أجرا.
و ناهيك في رأفة الوالدين و حنانهما الجم،أنهما يؤثران تفوق أولادهم عليهم في مجالات الفضل و الكمال،ليكونوا مثارا للإعجاب و مدعاة للفخر و الاعتزاز،
ص: 238
خلافا لما طبع عليه الإنسان من حب الظهور و التفوق علي غيره.
من أجل ذلك كان فضل الوالدين علي الولد عظيما و حقهما جسيما،سما علي كل فضل و حق بعد فضل اللّه عز و جل و حقه.
و هذا ما يحتم علي الأبناء النبلاء أن يقدروا فضل آبائهم و عظيم إحسانهم،فيجازونهم بما يستحقونه من حسن الوفاء،و جميل التوقير و الإجلال، و لطف البر و الإحسان،و سمو الرعاية و التكريم،أدبيا و ماديا.
أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين،و يحض علي إجلالهما و مصاحبتهما بالبر و المعروف،حيث قال: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ،حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلي وَهْنٍ،وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ،أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ.إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلي أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،فَلا تُطِعْهُما،وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً (لقمان:14-15).
و قال تعالي: وَ قَضي رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً،إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما،فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ،وَ لا تَنْهَرْهُما،وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (الإسراء:23-24).
فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين و مقامهما الرفيع،و ضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل،و البر و الإحسان اللائقين بهما،فأمرت الآية الأولي بشكرهما بعد شكر اللّه تعالي،و قرنت الثانية الإحسان إليهما بعبادته عز و جل، و هذا غاية التعزيز و التكريم.
و علي هدي القرآن وضوئه تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام:
قال الباقر(ع):«ثلاث لم يجعل اللّه تعالي فيهن رخصة:أداء الأمانة إلي البر و الفاجر،و الوفاء بالعهد للبر و الفاجر،و برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين» (1).
********
(1) الوافي ج 3 ص 93،عن الكافي.
ص: 239
و قال الصادق(ع):«إن رجلا أتي النبي(ص)،فقال:يا رسول اللّه أوصني.فقال:لا تشرك باللّه شيئا،و إن حرقت بالنار و عذبت إلا و قلبك مطمئن بالإيمان.و والديك،فأطعهما و برّهما حيين كانا أو ميتين،و إن أمراك أن تخرج من أهلك و مالك فافعل،فإن ذلك من الإيمان» (1).
و عن أبي الحسن(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«كن بارا،و اقتصر علي الجنة،و ان كنت عاقا فاقتصر علي النار» (2).
و عنه(ع)،عن آبائه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«نظر الولد إلي والديه حبا لهما عبادة» (3).
و قال الصادق(ع):«من أحب أن يخفف اللّه عز و جل عنه سكرات الموت،فليكن لقرابته وصولا،و بوالديه بارا،فإذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكرات الموت،و لم يصبه في حياته فقر أبدا» (4).
و عن أبي عبد اللّه(ع):«إن رسول اللّه(ص)أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سرّ بها و بسط ملحفته لها،فأجلسها عليها،ثم أقبل يحدثها و يضحك في وجهها.ثم قامت فذهبت،و جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها،فقيل له:يا رسول اللّه صنعت بأخته ما لم تصنع به،و هو رجل!فقال:
لأنها كانت أبرّ بوالديها منه» (5).
*** و في الوقت الذي أوصت الشريعة الإسلامية ببرّ الوالدين و الإحسان إليهما، فقد آثرت الأم بالقسط الأوفر من الرعاية و البر،نظرا لما انفرد به من جهود جبّارة و أتعاب مضنية في سبيل أبنائها،كالحمل و الرضاع،و نحوهما من وظائف الأمومة و واجباتها المرهقة.
********
(1) الوافي ج 3 ص 91-92،عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 155،عن الكافي.
(3) البحار م 16 ج 4 ص 24،عن كشف الغمة للأربلي.
(4) البحار م 16 ج 4 ص 21،عن أمالي الشيخ الصدوق،و أمالي ابن الشيخ الطوسي.
(5) الوافي ج 3 ص 92،عن الكافي.
ص: 240
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:جاء رجل إلي النبي(ص)فقال:يا رسول اللّه،من أبرّ؟قال:أمك.قال:ثم من؟قال:أمك.قال:ثم من؟قال:
أمك.قال:ثم من؟قال:أباك (1).
و عن إبراهيم بن مهزم قال:خرجت من عند أبي عبد اللّه(ع)ليلة ممسيا، فأتيت منزلي في المدينة،و كانت أمي معي.فوقع بيني و بينها كلام،فأغلظت لها.فلما كان من الغد،صليت الغداة،و أتيت أبا عبد اللّه(ع)،فلما دخلت عليه،قال لي مبتدئا:يا أبا مهزم،مالك و لخالدة؟أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته،و أنّ حجرها مهد قد غمزته،و ثديها وعاء قد شربته؟قال قلت:بلي.قال:فلا تغلظ لها (2).
و استمع إلي الإمام السجاد(ع)،و هو يوصي بالأم،معددا جهودها و فضلها علي الأبناء،بأسلوب عاطفي أخّاذ،فيقول(ع):
«و أما حق أمك:أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا، و أعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا،و وقتك بجميع جوارحها،و لم تبال أن تجوع و تطعمك،و تعطش و تسقيك،و تعري و تكسوك،و تضحي و تظلك،و تهجر النوم لأجلك،و وقتك الحرّ و البرد لتكون لها،فإنك لا تطيق شكرها إلاّ بعون اللّه و توفيقه» (3).
*** و برّ الوالدين،و إن كان له طيبته و وقعه الجميل في نفس الوالدين،بيد أنه يزداد طيبة و وقعا حسنا عند عجزهما و شدة احتياجهما إلي الرعاية و البر،كحالات المرض و الشيخوخة،و إلي هذا أشار القرآن الكريم إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما،فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما،وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ،وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
********
(1) الوافي ج 3 ص 92،عن الكافي.
(2) البحار م 16 ج 4 ص 23،عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.
(3) رسالة الحقوق للإمام السجاد(ع).
ص: 241
و قد ورد أن رجلا جاء إلي النبي(ص)،فقال:يا رسول اللّه،إن أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ما ولياني في الصغر،فهل قضيتهما حقهما؟قال:لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك،و أنت تفعل ذلك و تريد موتهما (1).
و عن إبراهيم بن شعيب قال:قلت لأبي عبد اللّه(ع):إن أبي قد كبر جدا و ضعف،فنحن نحمله إذا أراد الحاجة.فقال:«إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل،و لقّمه بيدك،فإنه جنّة لك غدا» (2).
*** و ليس البر مقصورا علي حياة الوالدين فحسب،بل هو ضروري في حياتهما و بعد وفاتهما،لانقطاعهما عن الدنيا و شدة احتياجهما إلي البر و الإحسان.
فعن الصادق(ع)قال:«ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال:صدقة أجراها في حياته و هي تجري بعد موته،و سنة هدي سنّها فهي يعمل بها بعد موته،أو ولد صالح يدعو له» (3).
من أجل ذلك فقد حرضت وصايا أهل البيت عليهم السّلام علي برّ الوالدين بعد وفاتهما،و أكدت عليه و ذلك بقضاء ديونهما المالية أو العبادية، و إسداء الخيرات و المبرات إليهما،و الاستغفار لهما،و الترحم عليهما.و اعتبرت إهمال ذلك ضربا من العقوق.
قال الباقر(ع):«إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما،ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما و لا يستغفر لهما،فيكتبه اللّه عاقا.و انه ليكون عاقا لهما في حياتهما غير بار بهما،فإذا ماتا قضي دينهما و استغفر لهما،فيكتبه اللّه تعالي بارا» (4).
و عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه
********
(1) عن شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان.
(2) الوافي ج 3 ص 92،عن الكافي.
(3) الوافي ج 13 ص 90 عن الكافي و التهذيب.
(4) الوافي ج 3 ص 93،عن الكافي.
ص: 242
(ص):«سيد الأبرار يوم القيامة،رجل برّ والديه بعد موتهما» (1).
من الواضح أن نكران الجميل و مكافأة الإحسان بالإساءة،أمران يستنكرهما العقل و الشرع،و يستهجنهما الضمير و الوجدان.و كلما عظم الجميل و الإحسان كان جحودها أشد نكرا و أفضع جريرة و إثما.و بهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين و فضاعة جرمه،حتي عدّ من الكبائر الموجبة لدخول النار.و لا غرابة فالعقوق-فضلا عن مخالفته المباديء الإنسانية،و قوانين العقل و الشرع-دال علي موت الضمير،و ضعف الإيمان،و تلاشي القيم الإنسانية في العاق.
فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة و جهودا جبّارة،في تربية الأبناء و توفير ما يبعث علي إسعادهم و ازدهار حياتهم ماديّا و أدبيا،ما يعجز الأولاد عن تثمينه و تقديره.
فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف و الألطاف و مكافأتها بالإساءة و العقوق؟
من أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلامية من عقوق الوالدين أشدّ التحذير،و أوعدت عليه بالعقاب العاجل و الآجل.
فعن أبي الحسن(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«كن بارا،و اقتصر علي الجنة.و إن كنت عاقا،فاقتصر علي النار» (2).
و قال الصادق(ع):«لو علم اللّه شيئا هو أدني من أف،لنهي عنه،و ه من أدني العقوق.و من العقوق أن ينظر الرجل إلي والديه،فيحدّ النظر إليهما» (3).
********
(1) البحار م 16 ج 4 ص 26،عن كتاب الإمامة و التبصرة لعلي بن بابويه.
(2) الوافي ج 3 ص 155،عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 155،عن الكافي.
ص: 243
و قال الباقر(ع):«إن أبي نظر إلي رجل و معه ابنه يمشي،و الابن متكيء علي ذراع الأب،قال:فما كلّمه أبي(ع)مقتا له حتي فارق الدنيا» (1).
و عن أمير المؤمنين(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«ثلاثة من الذنوب، تعجل عقوبتها و لا تؤخر إلي الآخرة:عقوق الوالدين،و البغي علي الناس، و كفر الإحسان» (2).
و للعقوق مساويء خطيرة،و آثار سيئة تنذر العاق و تتوعده بالشقاء الدنيوي و الأخروي.
فمن آثاره أن العاقّ يعقّه ابنه...جزاءا وفاقا علي عقوقه لأبيه.و قد شهد الناس صورا و أدوارا من هذه المكافأة علي مسرح الحياة.
من ذلك ما حكاه الأصمعي قال:حدثني رجل من الأعراب قال:
خرجت من الحي أطلب أعق الناس و أبرّ الناس.فكنت أطوف بالاحياء،حتي انتهيت إلي شيخ في عنقه حبل،يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة و الحرّ الشديد،و خلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوي،يضربه به،قد شق ظهره بذلك الحبل.
فقلت له:أما تتقي اللّه في هذا الشيخ الضعيف،أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتي تضربه؟
قال:أنه مع هذا أبي.
قلت:فلا جزاك اللّه خيرا.
قال:اسكت،فهكذا كان يصنع هو بأبيه،و كذا كان يصنع أبوه بجده.
فقلت:هذا أعق الناس.
********
(1) الوافي ج 3 ص 155،عن الكافي.
(2) البحار م 16 ج 4 ص 23،عن أمالي أبي علي بن الشيخ الطوسي.
ص: 244
ثم جلت أيضا حتي انتهيت إلي شاب في عنقه زبيل،فيه شيخ كأنه فرخ، فيضعه بين يديه في كل ساعة،فيزقه كما يزق الفرخ.
فقلت له:ما هذا؟
فقال:أبي،و قد خرف،فأنا أكفله.
قلت:فهذا أبرّ العرب.فرجعت و قد رأيت أعقّهم و أبرهم (1).
و من آثار العقوق:
أنه موجب لشقاء العاق،و عدم ارتياحه في الحياة،لسخط الوالدين و دعائهما عليه.
و قد جاء في الحديث النبوي:«إياكم و دعوة الوالد،فإنها أحدّ من السيف».
و من آثار العقوق:
ان العاق يشاهد أهوالا مريعة عند الوفاة،و يعاني شدائد النزع و سكرات الموت.
فعن أبي عبد اللّه(ع):«ان رسول اللّه(ص)حضر شابا عند وفاته،فقال له:قل لا إله إلاّ اللّه.قال:فاعتقل لسانه مرارا.
فقال لامرأة عند رأسه:هل لهذا أم؟
قالت:نعم،أنا أمه.
قال:أ فساخطة أنت عليه؟
قالت:نعم،ما كلمته منذ ست حجج.
قال لها:ارض عنه.قالت:رضي اللّه عنه برضاك يا رسول اللّه.
فقال له رسول اللّه:قل لا إله إلا اللّه.قال:فقالها.
فقال النبي(ص):ما تري؟
********
(1) المحاسن و المساويء،للبيهقي ج 2 ص 193.
ص: 245
فقال أري رجلا أسودا قبيح المنظر،وسخ الثياب،منتن الريح،قد وليني الساعة فأخذ بكظمي.
فقال له النبي:قل«يا من يقبل اليسير و يعفو عن الكثير،إقبل مني اليسير و اعف عني الكثير،إنك أنت الغفور الرحيم».فقالها الشاب.
فقال النبي(ص):انظر،ما ذا تري؟
قال:أري رجلا أبيض اللون،حسن الوجه،طيّب الريح،حسن الثياب قد وليني،و أري الأسود قد تولي عني.
قال:أعد.فأعاد.
قال:ما تري؟قال:لست أري الأسود،و أري الأبيض قد وليني ثم طفي علي تلك الحال» (1).
و من آثار العقوق:
انه من الذنوب الكبائر التي توعد اللّه عليها بالنار،كما صرحت بذلك الأخبار.
و الجدير بالذكر،أنه كما يجب علي الأبناء طاعة آبائهم و برهم و الإحسان إليهم،كذلك يجدر بالآباء أن يسوسوا أبناءهم بالحكمة،و لطف المداراة،و لا يخرقوا بهم و يضطروهم إلي العقوق و العصيان.
فعن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«يلزم الوالدين من العقوق لولدهما إذا كان الولد صالحا ما يلزم الولد لهما» (2).
و قال(ص):«لعن اللّه والدين حملا ولدهما علي عقوقهما،و رحم اللّه والدين حملا ولدهما علي برهما» (3).
********
(1) البحار م 16 ج 4 ص 23،عن أمالي أبي علي بن الشيخ الطوسي.
(2) البحار م 16 ج 4 ص 22،عن خصال الصدوق.
(3) الوافي ج 14 ص 50،عن الفقيه.
ص: 246
الأولاد الصلحاء هم زينة الحياة،و ربيع البيت،و أقمار الأسرة،و أعز آمالها و أمانيها،و أجل الذخائر و أنفسها.لذلك أثني عليهم أهل البيت و غيرهم من الحكماء و الأدباء.
عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة» (1).
و في حديث آخر،قال(ص):«من سعادة الرجل الولد الصالح» (2).
و قال أبو الحسن(ع):«إن اللّه تعالي إذا أراد بعبد خيرا لم يمته حتي يريه الخلف» (3).
و قال حكيم في ميت:«إن كان له ولد فهو حي،و إن لم يكن له ولد فهو ميت».
و فضل الولد الصالح و نفعه لوالديه لا يقتصر علي حياتهما فحسب،بل يسري حتي بعد وفاتهما و انقطاع أملهما من الحياة.
عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال:صدقة أجراها في حياته و هي تجري بعد موته،و سنّة هدي سنّها فهي يعمل بها بعد موته،أو ولد صالح يدعو له» (4).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«مرّ عيسي بن مريم بقبر يعذّب صاحبه،ثم مرّ به من قابل فإذا هو لا يعذّب.فقال:يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول و كان يعذب!.فأوحي اللّه إليه:أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا،و آوي يتيما،فلهذا غفرت له بما فعل ابنه.ثم قال رسول اللّه(ص).ميراث اللّه من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده.ثم تلا أبو عبد اللّه
********
(1) الوافي ج 12 ص 196،عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 196،عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 197،عن الفقيه.
(4) الوافي ج 13 ص 90،عن الكافي.
ص: 247
(ع)آية زكريا علي نبينا و آله و عليه السّلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ،وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (مريم:5-6) (1).
و من الواضح أن صلاح الأبناء و استقامتهم لا يتسنيان عفوا و جزافا،و إنما يستلزمان رعاية فائقة و اهتماما بالغا في إعدادهم و توجيههم وجهة الخير و الصلاح.
من أجل ذلك وجب علي الآباء تأديب أولادهم و تنشئتهم علي الاستقامة و الصلاح،ليجدوا ما يأملون فيهم من قرة عين،و حسن هدي و سلوك.
قال الإمام السجاد(ع):«و أما حق ولدك:فأن تعلم أنه منك،و مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شره.و انك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، و الدلالة له علي ربه عز و جل،و المعونة له علي طاعته.فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب علي الإحسان إليه،معاقب علي الإساءة إليه» (2).
فالآباء مسؤولون عن تهذيب أبنائهم و إعدادهم إعدادا صالحا،فإن أغفلوا ذلك أساؤوا إلي أولادهم،و عرضوهم لأخطار التخلف و التسيب الديني و الاجتماعي.
و يحسن بالآباء أن يبادروا أبناءهم بالتهذيب و التوجيه،منذ حداثتهم و نعومة أظفارهم،لسرعة استجابتهم إلي ذلك قبل تقدمهم في السن،و رسوخ العادات السيئة و الأخلاق الذميمة فيهم،فيغدون آنذاك أشد استعصاءا علي التأديب و الإصلاح.
و هكذا يجدر بالآباء أن يتحروا القصد،و الاعتدال في سلطتهم،و أساليب تأديب أبنائهم،فلا يسوسونهم بالقسوة و العنف مما يعقّدهم نفسيا،و يبعثهم علي النفرة و العقوق.و لا يتهاونوا في مؤاخذتهم علي الإساءة و التقصير،فيستخفون
********
(1) الوافي ج 12 ص 197،عن الكافي.
(2) رسالة الحقوق،للإمام علي بن الحسين(ع).
ص: 248
بهم و يتمردون عليهم،فإن«من أمن العقوبة أساء الأدب».
و خير الأساليب في ذلك هو التدرج في تأديب الأبناء و تقويمهم،و ذلك بتشجيعهم علي الإحسان،بالمدح و الثناء و حسن المكافأة،و بنصحهم علي الإساءة.فإن لم يجدهم ذلك،فبالتقريع و التأنيب،و إلا فبالعقوبة الرادعة، و التأنيب الزاجر.
و البيت هو المدرسة الأولي للطفل،يترعرع في ظلاله،و تتكامل فيه شخصيته،و تنمو فيه سجاياه،متأثرا بأخلاق أبويه و سلوكهما.فعليهما أن يكونا قدوة حسنة،و مثلا رفيعا،لتنعكس في نفسه مزاياهم و فضائلهم.
1-و أول ما يبدأ به في تهذيب الطفل،تعليمه آداب الأكل و الشرب؛ كغسل اليدين قبل الطعام و بعده،و الأكل بيمينه،و إجادة المضغ،و ترك النظر في وجوه الآكلين،و الرضا و القنوع بالمقسوم من الرزق.و نحو ذلك من الآداب.
2-و يراض الطفل علي أدب الحديث،و الكلام المهذب،و القول الحسن.و منعه عن الفحش،و البذاء،و الاغتياب،و الثرثرة،و ما إلي ذلك من مساويء اللسان و أن يحسن الإصغاء،كما يحسن الحديث،فلا يقاطع متحدثا حتي ينتهي من حديثه.
3-و أهم ما يعني به في توجيه الأولاد،غرس المفاهيم الدينية فيهم، و تنشئتهم علي العقيدة و الإيمان،بتعليمهم أصول الدين و فروعه بأسلوب يلائم مستواهم الفكري،ليكونوا علي بصيرة من عقيدتهم و شريعتهم،محصنين ضدّ الشبه المضللة من أعداء الإسلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ،عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ،لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم:6).
ص: 249
4-و علي الآباء أن يروّضوا أبناءهم علي التخلق بالأخلاق الكريمة و السجايا النبيلة:كالصدق،و الأمانة،و الصبر،و الاعتماد علي النفس.
و تحريضهم علي حسن معاشرة الناس:كتوقير الكبير،و العطف علي الصغير،و شكر المحسن،و التجاوز ما وسعهم عن المسيء،و التحنّن علي البؤساء و المعوزين.
5-و من المهم جدا منع الأبناء من معاشرة القرناء المنحرفين الأشرار، و تحبيذ مصاحبة الأخدان الصلحاء لهم،لسرعة تأثرهم بالأصدقاء،و اكتسابهم من أخلاقهم و طباعهم،كما قال النبي(ص):«المرء علي دين خليله،فلينظر أحدكم من يخالل».
و قد شهد الناس كثيرا من مآسي الشباب الذين انحرفوا عن النهج السوي،و تدهوروا في مهاوي الرذيلة و الفساد،لتأثرهم بقرناء السوء،و أخدان الشر.
6-و هكذا يحسن بالآباء أن يستطلعوا مواهب أبنائهم و كفاءاتهم، ليوجهوهم،في ميادين الحياة و طرائق المعاش،حسب استعدادهم و مؤهلاتهم الفكرية و الجسمية:من طلب العلم،أو ممارسة الصناعة،أو التجارة، ليستطيعوا الاضطلاع بأعباء الحياة،و يعيشوا عيشا كريما.
الزواج:هو الرابطة الشرعية المقدسة،و شركة الحياة بين الزوجين.
شرّعه اللّه عز و جل لحفظ النوع البشري و تكاثره،و عمران الأرض و ازدهار الحياة فيها.
و قد رغبت فيه الشريعة الإسلامية و حرّضت عليه كتابا و سنة:
قال تعالي: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامي مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ،إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (النور:32).
ص: 250
قال تعالي: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامي مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ،إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (النور:32).
و قال سبحانه: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً،لِتَسْكُنُوا إِلَيْها،وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً،إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«ما بني بناء في الإسلام أحب إلي اللّه من التزويج» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«من تزوج أحرز نصف دينه،فليتق اللّه في النصف الآخر» (2).
و قال(ص):«النكاح سنتي،فمن رغب عن سنتي،فليس مني» (3).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غدا يوم القيامة،حتي أنّ السقط يجيء محبنطئا علي باب الجنة،فيقال له أدخل،فيقول:لا حتي يدخل أبواي قبلي» (4).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب» (5).
و قال النبي(ص):«لركعتان يصليهما متزوج،أفضل من رجل عزب يقوم ليله و يصوم نهاره» (6).
و قال(ص):«رذّال موتاكم العزاب» (7).
********
(1) الوافي ج 12 ص 11،عن الفقيه.
(2) الوافي ج 12 ص 11،عن الكافي.
(3) البحار م 23 ص 51،عن مكارم الأخلاق للطبرسي.
(4) الوافي ج 12 ص 11،عن الفقيه(المحبنطيء:المغتاظ).
(5) الوافي ج 12 ص 11،عن الفقيه و الكافي.
(6) الوافي ج 12 ص 11،عن الفقيه.
(7) الوافي ج 12 ص 11،عن الفقيه.
ص: 251
و لا عجب أن تؤكد هذه النصوص علي الزواج تأكيدها الملّح،و تحرض عليه بالترغيب تارة و الترهيب أخري،لما ينطوي عليه من صنوف الخصائص و المنافع.
1-فمن خصائصه:أنه الوسيلة الوحيدة لكسب الذرية الطيبة،و الأبناء الصلحاء،و هم زينة الحياة الدنيا،و أعز ذخائرها،و ألذ متعها و أشواقها،بهم يستشعر الآباء العزة و المنعة،و امتداد الحياة،و طيب الذكر،و حسن المكافأة، و جزيل الأجر عند اللّه عز و جل،كما أوضحته النصوص السالفة في فضل الولد الصالح.
انه باعث علي عفة المتزوج و حصانته ضدّ الفجور و الآثام الجنسية،و هذا ما عناه النبي(ص)بقوله:«من تزوج أحرز نصف دينه،فليتق اللّه في النصف الآخر».
من أجل ذلك كان عقاب الزاني المحصن رجما بالحجارة حتي الموت، لتحصنّه بالزواج،و استهتاره بقدسية الأعراض و كرامتها المصونة.
أنه من دواعي رغد العيش،و سكينة النفس،و راحة الضمير و الوجدان.
ذلك أن الرجل كثيرا ما يعاني أزمات الحياة،و متاعب الكفاح في سبيل العيش، فيجد في ظلاله زوجته الحبيبة المخلصة من حسن الرعاية و لطف المؤانسة،ورقة الحنان،ما يخفف عناءه و يسري عنه الكثير من المتاعب و الهموم، وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها،وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً.
و عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة،تسرّه إذا نظر
ص: 252
إليها،و تطيعه إذا أمرها،و تحفظه إذا غاب عنها في نفسها و ماله» (1).
و من الثابت أن السعادة الزوجية لا تتحقق،و لا ينال الزوجان ما يصبوان إليه من رغد و هناء،إلا إذا أحسن كل منهما اختيار صاحبه،و شريك حياته، و اصطفاه علي ضوء القيم الأصيلة و المقاييس الثابتة،التي من شأنها أن توثق الروابط الزوجية،و تنشر السعادة و السّلام في ربوع الحياة الزوجية.كما أن سوء الاختيار كثيرا ما يعرضها للفشل و الإخفاق.
و قد عالج أهل البيت عليهم السّلام هذا الجانب الموضوعي من حياة الناس،فأوضحوا محاسن و مساويء كل من الرجل و المرأة،ليكون كل منهما علي بصيرة من اختيار زوجه و شريك حياته.
و الزوج المثالي:هو الرجل الكفوء الذي تسعد المرأة في ضلاله،و تنعم بحياة زوجية هانئة.
فليست الكفاءة كما يتوهمها غالب الناس-منوطة بالزخارف المادية فحسب،كالقصر الفخم،أو السيارة الفارهة،أو الرصيد المالي الضخم.
و ليس هي كذلك منوطة بالشهادة العالية،أو الوظيفة المرموقة،أو الحسب الرفيع.
فقد تتوفر هذه الخلال في الرجل،و هي رغم ذلك لا تحقق سعادة الزوجة و أمانيها في الحياة،كما أعربت عن ذلك زوجة معاوية،و قد سئمت في كنفه مظاهر الترف و البذخ و السلطان و الثراء،و حنّت إلي فتي أحلامها،و إن كان خلوا من كل ذلك:
لبيت تخفق الأرواح فيه أحبّ إليّ من قصر منيف
********
(1) الوافي ج 12 ص 16،عن الكافي و الفقيه.
ص: 253
و لبس عباءة و تقر عيني أحبّ إليّ من لبس الشفوف
و خرق من بني عمي نجيب أحب إليّ من علج عنيف
فالكفاءة الحقة،هي مزيج من عناصر ثلاث:التمسك بالدين،و التحلي بحسن الخلق،و القدرة علي إعالة الزوجة و رعايتها ماديا و أدبيا.و بذلك يغدو الرجل كفئا و زوجا مثاليا في عرف الإسلام.
فعن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه،فزوجوه،و إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير» (1).
و قال الصادق(ع):«الكفوء أن يكون عفيفا و عنده يسار» (2).
لذلك كان مكروها في الشريعة الإسلامية تزويج الفاسق،و شارب الخمر،و المخنث،و سيء الخلق،و نحوهم ممن لا يوثق بدينه و أخلاقه.
و الزوجة المثالية:هي المتحلية بالإيمان،و العفاف،و كرم الأصل،و جمال الخلق و الخلق،و حسن العشرة مع زوجها.
و قد صورت نصوص أهل البيت عليهم السّلام خصائص النساء، و صفاتهن الكريمة و الذميمة،لتكون علامة فارقة بين الزوجة المثالية و غيرها.
عن جابر بن عبد اللّه قال:كنّا عند النبي(ص)فقال:«إن خير نسائكم الولود،الودود،العفيفة،العزيزة في أهلها،الذليلة مع بعلها،المتبرجة مع زوجها،الحصان علي غيره،التي تسمع قوله و تطيع أمره،و إذا خلا بها بذلت له ما يريد منها،و لم تبذل كتبذل الرجل».
ثم قال:«أ لا أخبركم بشرار نسائكم؟الذليلة في أهلها،العزيزة مع بعلها،العقيم الحقود،التي لا تورع من قبيح،المتبرجة إذا غاب عنها بعلها،
********
(1) الوافي ج 12 ص 17،عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 18 عن الكافي و الفقيه و التهذيب.
ص: 254
الحصان معه إذا حضر،لا تسمع قوله،و لا تطيع أمره،و إذا خلا بها بعلها تمنعت منه،كما تمنع الصعبة من ركوبها،لا تقبل له عذرا و لا تغفر له ذنبا» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«أفضل نساء أمتي أصبحهن وجها و أقلهن مهرا» (2).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«من تزوج امرأة لا يتزوجها إلاّ لجمالها لم ير فيها ما يحب،و من تزوجها لمالها لا يتزوجها إلاّ له و كله اللّه إليه،فعليكم بذات الدين» (3).
و قام النبي(ص)خطيبا فقال:«أيها الناس،إياكم و خضراء الدمن».قيل يا رسول اللّه:و ما خضراء الدمن؟قال:«المرأة الحسناء في منبت السوء» (4).
و قد نهي الحديث عن تزوّج المرأة الوضيئة الحسناء إذا كانت من أسرة مغموزة في عفتها و نجابتها.
و الزوجان بعد هذا لا يكسبان السعادة الزوجية و الهناء العائلي،إلاّ برعاية كل منهما حقوق الآخر و أداء واجباته،جريا علي قانون الأخذ و العطاء.و بذلك ينعمان بحياة سعيدة،آمنة من مثيرات النكد و التنغيص.
و قد أولت الشريعة الإسلامية الحياة الزوجية عناية بالغة،بصفتها الخلية الأولي من خلايا المجتمع الكبير،و رعتها بالتنظيم و التوجيه،و قررت الحقوق المشتركة بين الزوجين،و الحقوق الخاصة بكل منهما علي انفراد.
فالحقوق المشتركة التي يجدر تبادلها بين الزوجين،هي:الإخلاص،
********
(1) الوافي ج 12 ص 14،عن الكافي و التهذيب.
(2) الوافي ج 12 ص 15،عن الكافي و الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 13،عن التهذيب.
(4) الوافي ج 12 ص 12،عن الكافي و الفقيه.
ص: 255
الثقة،الأمانة،التعاطف،التآزر.و هذه هي عناصر الحياة الزوجية الناجحة، و مقوماتها الأصيلة.
و أما الحقوق الخاصة فسنعرضها في مطاوي هذا البحث:
للزوج حقوق علي زوجه بحكم رعايته لها و قوامته عليها،و هي:
و هي أول متطلبات الزوج و حقوقه المفروضة علي زوجه.فهي مسؤولة عن طاعته و تلبية رغباته المشروعة،و مفاداة كل ما يسيئه و يغيظه،كالخروج من الدار بغير رضاه،و التبذير في ماله،و إهمال وظائفها المنزلية،و نحو ذلك مما يعرض الحياة الزوجية لأخطار التباغظ و الفرقة.
فعن أبي جعفر(ع)قال:جاءت امرأة إلي النبي(ص)فقالت:يا رسول اللّه،ما حق الزوج علي المرأة؟فقال لها:أن تطيعه و لا تعصيه،و لا تصدق من بيته إلاّ بإذنه،و لا تصوم طوعا إلاّ بإذنه،و لا تمنعه نفسها و إن كانت علي ظهر قتب،و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه،و إن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض،و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتي ترجع إلي بيتها.
فقالت:يا رسول اللّه من أعظم الناس حقا علي الرجل؟
قال:والده.
قالت:فمن أعظم الناس حقا علي المرأة؟
قال:زوجها...» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:إن رجلا من الأنصار علي عهد رسول اللّه (ص)،خرج في بعض حوائجه.فعهد إلي امرأته عهدا أن لا تخرج من بيتها حتي يقدم.
********
(1) الوافي ج 12 ص 114،عن الكافي و الفقيه.
ص: 256
قال:و ان أباها مرض،فبعثت المرأة إلي رسول اللّه(ص)فقالت:إن زوجي خرج و عهد إليّ أن لا أخرج من بيتي حتي يقدم،و أن أبي قد مرض، فتأمرني أن أعوده؟
فقال رسول اللّه(ص):لا،اجلسي في بيتك و أطيعي زوجك.
قال:فثقل،فأرسلت إليه ثانيا بذلك،فقالت:فتأمرني أن أعوده؟
فقال:اجلسي في بيتك و أطيعي زوجك.
قال:فمات أبوها،فبعثت إليه إن أبي قد مات،فتأمرني أن أصلي عليه؟
فقال:لا،اجلسي في بيتك و أطيعي زوجك.
قال:فدفن الرجل،فبعث إليها رسول اللّه(ص):إن اللّه تعالي قد غفر لك و لأبيك بطاعتك لزوجك (1).
و قال أبو عبد اللّه(ع):أيّما امرأة باتت و زوجها عليها ساخط في حق،لم تقبل منها صلاة حتي يرضي عنها (2).
و علي الزوجة أن تحيط زوجها بحسن العشرة،و جميل الرعاية،و لطف المداراة،و ذلك بتفقد شؤونه،و توفير وسائل راحته النفسية و الجسمية،و حسن التدبير المنزلي،و رعاية عياله،ليستشعر منها العطف و الولاء،و تغدو الزوجة بذلك حظية عند زوجها،أثيرة لديه،يبادلها الحب و الإخلاص.و تكون إلي ذلك قدوة حسنة لأبنائها،يستلهمون منها كريم الأخلاق و حسن الأدب.
و من أهم صور المداراة أن تتفادي المرأة جهدها،عن إرهاق زوجها بالتكاليف الباهضة،و المآرب التي تنوء بها إمكاناته الاقتصادية.فذلك مما يسبب إرباكه و اغتمامه،و من ثم يستثير سخطه و نفاره من زوجته.
********
(1) الوافي ج 12 ص 115،عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 114،عن الكافي و الفقيه.
ص: 257
فعن أبي إبراهيم(ع)قال:«جهاد المرأة حسن التبعل» (1).
و لا ريب أن حسن تبعل الزوجة و كرم أخلاقها،يشدّ أزر الزوج،و يرفع معنوياته،و يمده بطاقات جسمية و نفسية ضخمة،تضاعف من قدرته علي مواصلة الكفاح و الجهاد في سبيل العيش،و يزيده قوة و صلابة علي معاناة الشدائد و الأزمات،كما أن شراستها و تمردها يوهن كيانه،و يضعف طاقته،و يهرمه قبل أوان الهرم،و في التاريخ دلائل و شواهد علي ذلك.
منها:قصة الأخوة الثلاثة من بني غنّام،حينما جاءهم نفر يحكّمونهم في مشكلة أعياهم حلّها،فانتهوا إلي واحد منهم،فرأوا شيخا كبيرا،فقال لهم:
ادخلوا إلي أخي«فلان»فهو أكبر مني،فاسألوه.
فدخلوا عليه،فخرج شيخ كهل،فقال سلوا أخي الأكبر مني.
فدخلوا علي الثالث،فإذا هو في المنظر أصغر.فسألوه أولا عن حالهم،ثم أوضح مبينا لهم،فقال:
أما أخي الذي رأيتموه أولا،هو الأصغر،فإن له امرأة سوء تسوؤه و قد صبر عليها مخافة أن يبتلي ببلاء لا صبر له عليه،فهرمته.
و أما أخي الثاني فإن عنده زوجة تسوؤه و تسره،فهو متماسك الشباب.
و أما أنا،فزوجتي تسرني،و لا تسوؤني،لم يلزمني منها مكروه قط منذ صحبتني.فشبابي معها متماسك (2).
و هذه وصية بليغة لأعرابية حكيمة،توصي بها ابنتها ليلة البناء بها:«أي بنية،إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت،و عشك الذي فيه درجت،إلي وكر لم تعرفيه،و قرين لم تألفيه.فكوني له أمة يكن لك عبدا،و احفظي له خصالا عشرا:
أما الأولي و الثانية:فاصحبيه بالقناعة،و عاشريه بحسن السمع و الطاعة.
********
(1) الوافي ج 12 ص 114،عن الكافي.
(2) عن سفينة البحار ج 10 ص 133 بتصرف و اختصار.
ص: 258
و أما الثالثة و الرابعة:فالتفقد لموضع عينه و أنفه،فلا تقع عينه منك علي قبيح،و لا يشم منك إلاّ أطيب ريح.
و أما الخامسة و السادسة:فالتفقد لوقت منامه و طعامه،فإن تواتر الجوع ملهبة،و تنغيص النوم مغضبة.
و أما السابعة و الثامنة:فالاحتراس بماله،و الارعاء علي حشمه و عياله.
و ملاك الأمر في المال حسن التقدير،و في العيال حسن التدبير.
و أما التاسعة و العاشرة:فلا تعصين له أمرا،و لا تفشين له سرّا.فإنك إن خالفتيه أغرت صدره،و إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره.
ثم إياك و الفرح بين يديه إذا كان مهتما،و الكآبة بين يديه إذا كان فرحا، فإنّ الخصلة الأولي من التقصير،و الثانية من التكدير.
و كوني أشدّ الناس له إعظاما يكن أشدهم لك إكراما،و اعلمي أنك لا تصلين إلي ما تحبّين حتي تؤثري رضاه علي رضاك،و هواه علي هواك،فيما أحببت و كرهت.و اللّه يخير لك» (1).
و أهم واجبات الزوجة،صيانة شرف زوجها و سمعته،فتتفادي جهدها عمّا يسيئهما و يخدشهما،كالخلاعة و الميوعة،و إفشاء أسرار الزوج،و كشف ما يحرص علي إخفائه من صور الفاقة و العوز،فذلك مما يضعف ثقة الزوج بها و يهددها بالنفرة و الفرقة.
و هكذا أولت الشريعة الإسلامية الزوجة عناية كبري و منحتها حقوقها المادية و الأدبية،إزاء حقوق الزوج عليها.مشرعة ذلك علي أساس الحكمة و العدل،و رعاية مصلحة الزوجين،و خيرهما معا،و هي أمور:
********
(1) مختارات المنفلوطي ص 240.
ص: 259
و هي حق محتم علي الزوج،يجب أداؤه إليها،و توفير حاجاتها المعاشية، من الملبس و المطعم و المسكن،و نحو ذلك من مستلزمات الحياة حسب شأنها و عادتها.
و النفقة حق معلوم للزوجة،تتقاضاه من زوجها،و إن كانت ثرية موسرة، لا يسقط إلاّ بنشوزها و تمردها علي الزوج.و ليس له قسرها علي الخدمات المنزلية،أو إرضاع طفله،إلاّ أن تتطوع بذلك عن رغبة و إيثار.
و قد يسترق البخل بعض النفوس فتنزع إلي الشح و التقتير علي العيال، متغاضية عن أشواقهم و مآربهم.و من هنا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام محذرة من ذلك الإمساك،و مرغّبة في البر بهم،و التوسعة عليهم.
قال رسول اللّه(ص):«خيركم خيركم لنسائه،و أنا خيركم لنسائي» (1).
و قال(ص):«عيال الرجل إسراؤه،و أحب العباد إلي اللّه تعالي أحسنهم صنيعا إلي أسرائه» (2).
و قال أبو الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام:«عيال الرجل اسراؤه، فمن أنعم اللّه عليه نعمة فليوسع علي أسرائه،فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة» (3).
و هكذا أثبتت أحاديثهم عليهم السّلام و باركت جهود الكادحين،في طلب الرزق الحلال،لتموين أزواجهم و عوائلهم،و توفير وسائل العيش لهم.
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:«الكادّ علي عياله كالمجاهد في سبيل اللّه» (4).
********
(1) الوافي ج 12 ص 117،عن الفقيه.
(2) الوافي ج 12 ص 117،عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 117،عن الفقيه.
(4) الوافي ج 10 ص 18،عن الكافي و الفقيه.
ص: 260
و عن أبي جعفر(ع)قال:«من طلب الرزق في الدنيا،استعفافا عن الناس،و سعيا علي أهله،و تعطفا علي جاره،لقي اللّه عز و جل يوم القيامة و وجهه مثل القمر ليلة البدر» (1).
و الزوجة أنيسة الرجل،و شريكة حياته،تشاطره السراء و الضراء، و تواسيه في الأفراح و الأحزان.و تنفرد بجهود شاقة مضنية من تدبير المنزل، و رعاية الأسرة،و وظائف الأمومة.فعلي الرجل أن يحسن عشرتها،و يسوسها بالرفق و المداراة،تلطيفا لمشاعرها،و مكافأة لها علي جهودها.و ذلك مما يسليها، و يخفف متاعبها،و يضاعف حبّها و إخلاصها لزوجها.
و قد يستبد الصلف و الغرور ببعض الأزواج،فيحسبون أن قوة الشخصية و سمات الرجولة لا تبرز فيهم إلاّ بالتحكم بالزوجة،و التجهّم لها،و التطاول عليها بالإهانة و التحقير.و تلك خلال مقيتة،تنم عن شخصية هزيلة معقّدة، تعكر صفو الحياة الزوجية،و تنغص الهناء العائلي.
و المرأة بحكم عواطفها و وظائفها،مرهفة الإحساس،سريعة التأثر،قد تسييء إلي زوجها بكلمة نابية،أو تقريع جارح،صادرين عن ثورة نفسية، و هياج عاطفي.فعلي الرجل أن يضبط أعصابه،و يقابل إساءتها بحسن التسامح و الاغضاء،لتسير سفينة الأسرة آمنة مطمئنة،في محيط الحياة،لا تزعزعها عواصف النفرة و الخلاف.
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج،إن تركته انتفعت به،و إن أقمته كسرته» (2).
فإذا تمادت المرأة في عصيان زوجها و تمردها عليه،فعليه أن يتدرج في علاجها و تأديبها،بالنصح و الإرشاد،فإن لم يجدها ذلك أعرض عنها،و اعتزل
********
(1) الوافي ج 10 ص 18،عن الكافي و التهذيب.
(2) الوافي ج 12 ص 120،عن الكافي.
ص: 261
مضاجعتها،فإن لم يجدها ذلك ضربها ضربا تأديبيا،مبرءا من القسوة،و التشفي الحاقد وَ اللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ،وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ، وَ اضْرِبُوهُنَّ.فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً.
و الزوج بحكم قوامته علي الزوجة،و رعايته لها،مسؤول عن حمايتها و صيانتها عمّا يسيئها و يضرها أدبيا و مادّيا،و عليه أن يكون غيورا عليها،صائنا لها مما يشوه سمعتها،و يثلب كرامتها من التخلع و الاختلاط المريب،و معاشرة المريبات من النساء.
و ما أسوأ أولئك الذين يزجون أزواجهم في الندوات الخليطة،و الحفلات الداعرة،يخالطن و يراقصن من شئن من الرجال،متعامين عن أضرار ذلك الاختلاط،و أخطاره الدينية و الأخلاقية و الاجتماعية،التي تهدد كيان الأسرة، و تنذرها بالتبعثر و الانحلال.
و علي المرء أن يحمي زوجه و أسرته من دسائس الغزو الفكري،و دعاياته المضللة،التي انخدع بها أغرار المسلمين،نساءا و رجالا،و تلقفوها تلقف الببغاء،دونما وعي و تمحيص في واقعها و أهدافها.و ذلك بتعليمهم أصول الدين الإسلامي و مفاهيمه حسب مستواهم الثقافي و الفكري،تحصينا لهم من تلك الدسائس و الشرور.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً،وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ،وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم:6).
و تمخض العصر الحديث عن ضلالات و مباديء غزت الشرق الإسلامي، و سممت أفكاره و مشاعره.و كان ذلك بتخطيط و كيد من أعداء الإسلام،لإطفاء نوره الوهاج.و استجاب الأغرار و البلهاء لتلك المفاهيم الوافدة،المناقضة لدينهم و شريعتهم،و طفقوا يحاكونها،و ينادون بها كأنها من صميم مبادئهم.و انطمست
ص: 262
تلك الصورة الإسلامية التي كانت بالأمس القريب تشع بالجمال و النور و المثالية، و خلفتها صور مسيخة شوهاء يستبشعها الضمير المسلم،و يستنكرها واقع الإسلام،و غدا يستشعر الغربة و الوحشة في ربوعه و بين اتباعه و معتنقيه.
و راحت المفاهيم الجاهلية الأولي تحتل مواقعها من مشاعر المسلمين و ضمائرهم، لتحيلها قفرا يبابا من قيم الإسلام و مثله الرفيعة.
و انطلقت حناجر،و صرت أقلام أجيرة،تطالب بالمزيد من تلك الأعراف الجاهلية،لتشيع مفاهيمها الدارسة من جديد،في المحيط الإسلامي،و علي حساب المرأة المسلمة،و التغاير علي حقوقها و تحريرها و مساواتها بالرجل،و نحو ذلك من صور الدعايات المدجلة.
لقد عزّ علي دعاة التحرر أن يروا المرأة المسلمة محصنة بالصون و الحجاب، عصية الطلب،بعيدة المنال.فأغروها بالسفور و التبرج،ليستزلوها من علياء برجها و خدرها.و استجابت المرأة لتلك الدعوة الماكرة و راحت تنظي حجابها و تبرز جمالها و مفاتنها،تستهوي العيون و القلوب،دونما تحرج أو استحياء.
و ما خدعت المرأة المسلمة و غرر بها في تاريخها المديد بمثل ذلك الخداع و التلبيس،متجاهلة عما يترصدها من جراء ذلك من الأخطار و المزالق.
ليس الحجاب كما يصوره المتحللون تخلفا و رجعية،و إنما هو حشمة و حصانة،تصون المرأة من التبذل و الاسفاف،و يقيها تلصص الغواة و الداعرين،و تجنبها مزالق الفتن و الشرور.
و حسب المسلمين أن يعتبروا بما أصاب الأمم الغربية من ويلات السفور و التبرج،و اختلاط الجنسين،ما جعلها في وضع سيء و حالة مزرية،من التسيب الخلقي.و غدت تعاني ألوان المآسي الأخلاقية و الصحية و الاجتماعية.
لقد أحدث التبرج و الاختلاط في الأوساط الغربية مضاعفات أخلاقية
ص: 263
خطيرة،تثير الفزع و التقزز.فأصبحوا لا يستنكرون الرذائل الجنسية،و لا يستحيون من آثامها و معائبها.و راح الوباء الخلقي يجتاحهم و يفتك بهم فتكا ذريعا،حتي انطلقت صيحات الغياري منهم معلنة بالتذمر و الاستنكار،و منذرة بالخطر الرهيب.
فقد صور(بول بيودر)انهيار الأخلاق في بلاده حيث قال:«لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب،كالأب و البنت،و الأخ و الأخت في بعض الأقاليم الفرنسية،و في النواحي المزدحمة في المدن».
و جاء في تقرير(اللجنة الأربعة عشرية)المعنية بالفحص عن مكامن الفجور:«ان كل ما يوجد في البلاد الأمريكية من المراقص و النوادي الليلية، و مجالي الزينة،و أماكن التدريم،و حجرات التدليك،و مراكز تمويج الشعر،قد أصبح جلها مواطن للفجور و دورا للبغاء،بل هي أقبح منها و أشنع،لما يرتكب فيها من الرذائل التي لا تصلح للذكر».
و مما يخمنه القاضي(لندسي)الأمريكي:«أن خمسا و أربعين في المائة من فتيات المدارس يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها،و ترتفع هذه النسبة كثيرا في مراحل التعليم التالية».
و قال(جورج رائيلي اسكات)في كتابه(تاريخ الفحشاء)و هو يشير إلي حالة بلاده في الغالب«و قد بلغ عدد هؤلاء العاهرات غير المحترفات في هذه الأيام مبلغا لم يعهد قط فيما قبل،فأولئك يوجدن في كل طبقة من طبقات المجتمع من الدنيا و العليا...و قد أصبح تعاطي الفجور و عدم التصون بل اتخاذ الأطوار السوقية،معدودا عند فتاة العصر،من أساليب العيش المستجدة».
و قد سرت عدوي هذا التفسخ الخلقي إلي الصبية و الصبايا من أولئك الأقوام،لتأثرهم بالمحيط الفاسد و المثيرات الجنسية.
يقول الدكتور(راديت هوكو)في كتابه(القوانين الجنسية):«انه ليس من الغريب الشاذ حتي في الطبقات المثقفة المترفة،أن بنات سبع أو ثماني سنين
ص: 264
منهم،يخادن لداتهن من الصبية،و ربما تلوثن معهم بالفاحشة».
و قد جاء في تقرير طبيب من مدينة(بالتي مور):«أنه قد رفع إلي المحاكم في تلك المدينة أكثر من ألف مرافعة في مدة سنة واحدة،كلها في ارتكاب الفاحشة مع صبايا دون الثانية عشرة من العمر».
و لم تقف الفوضي الخلقية عند هذا الدرك السافل،فقد تفاقمت حتي أصبحت العلاقات الجنسية الطبيعية...لا تشبع نهمهم الجنسي،فراحوا يتمرغون في مقاذر الشذوذ الجنسي و انحرافاته النكراء.و عاد من المألوف لديهم أن يتزوج الفتي فتي مثله،بتشجيع من القانون،و مرأي و مسمع من الناس، و هم يباركون هذا العرس!!
و يقول الدكتور(هوكر):«انه لا تزال تحدث في مثل هذه المدارس و الكليات و دور التربية للممرضات،و المدارس الدينية،من تسافح الولدين من الجنس الوالد فيما بينهما،و قد تلاشي أو كاد..ميلهم الطبيعي إلي الجنس المخالف».
و الآن فلنسائل الببغاوات من دعاة التحرر و التبرج،أ هذا الذي ينشدوه لأنفسهم و أمتهم الإسلامية...أم أنهم لا يفقهون ما ينادون به و يدعون إليه؟
إن كل داعية إلي التبرج و الاختلاط هو بلا ريب،معول هدام،في كيان المجتمع الإسلامي،و رائد شر و دعارة لأمته و بلاده.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا،لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ،وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النور:19).
و كان من الطبيعي لأمة شاع فيها الفساد،و تلاشت فيها قيم الدين و الأخلاق،أن تعاني نتائج شذوذها و تفسخها،فتنهار صحتها كما انهارت أخلاقها من قبل.
و هذا ما حدث فعلا في الأوساط الغربية،حيث استهدفتها الأمراض
ص: 265
الزهرية،و كبدتها خسائر فادحة في الأرواح و الأموال.و جاءت تقارير أطباء الغرب معلنة أبعاد تلك الأمراض و مآسيها الخطيرة في أرقي تلك الأمم و أكثرها تشدقا بالحضارة و المدنية.
قال الدكتور الفرنسي(ليريد):«إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهريّ و ما يتبعها من الأمراض الكثيرة،في كل سنة.و هذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمي الدق».
و جاء في دائرة المعارف البريطانية ج 23 ص 45:«انه يعالج في المستشفيات الرسمية هناك(أي القطر الأمريكي)مائتا ألف مريض بالزهري و مائة و ستون ألف مصاب بالسيلان البني في كل سنة بالمعدل.و قد اختص بهذه الأمراض الجنسية وحدها ستمائة و خمسون مستشفي،علي أنه يفوق هذه المستشفيات الرسمية نتاج الأطباء غير الرسميين الذين يراجعهم 61%من مرضي الزهري و 89%من مرضي السيلان».
و جاء في كتاب القوانين الجنسية:
انه«يموت في أمريكا ما بين ثلاثين و أربعين ألف طفل بمرض الزهري الموروث وحده،في كل سنة.و ان الوفيات التي تقع بسبب جميع الأمراض- عدا السل-يربو عليها جملة عدد الوفيات الواقعة من مرض الزهري وحده».
و كل هذه الخسائر و المآسي تدفعها الأمم الغربية الداعرة..ضريبة من صحتها و حياتها جزاءا وفاقا،علي تفسخها و تمرغها في مقاذر الجنس و مباءته.
و كان حتما مقضيا علي تلك الأمم المتحللة أن تعاني-إلي جانب خسائرها الأخلاقية و الصحية-عللا اجتماعية خطيرة.
فقد جنت علي حياتها الأسرية و الاجتماعية،بإغفالها مباديء العفة و الوفاء،و استهتارها بشرائط الزوجية الصالحة.و طفق الزوجان منهم يهيمان في متاهات الغواية و الفساد،تنطلق الزوجة خليعة متجملة بأبهي مظاهر الجمال،
ص: 266
و بواعث الفتنة و الإغراء،و ينطلق الزوج هائما في مراتع التبذل و الإسفاف.
و سرعان ما ينزلق هذا أو تلك في مهاوي الرذيلة،حينما تستهوي بهما شخصية جذابة أروع جمالا و أشد إغراءا من شريك حياته،فيزورّ عنه طالبا صيدا جديدا،و متعة جديدة،بين فتيان الهوي و فتياته السائحات.فتزعزع بذلك كيان الأسرة،و انفرط عقدها،و وهت العلائق الزوجية،و غدت تنفصم لأتفه الأسباب.كما شهدت بذلك تقارير الخبراء.
و قد كتب القاضي(لندسي)في بلدة(دنور)سنة 1922:
«أعقب كل زواج تفريق بين الزوجين،و بازاء كل زواجين عرضت علي المحكمة قضية الطلاق.و هذه الحال لا تقتصر علي بلدة دنور،بل الحق أن جميع البلدان الأمريكية علي وجه التقريب تماثلها في ذلك قليلا أو كثيرا».
و يمضي في كتابته فيقول:«إن حوادث الطلاق و التفريق بين الزوجين لا تزال تكثر و تزداد،و ان اطردت الحال علي هذا-كما هو المرجو-فلا بد أن تكون قضايا الطلاق المرفوعة إلي المحاكم في معظم نواحي القطر علي قدر ما يمنح فيها من الامتيازات للزواج».
و هكذا توالت علي الأمم الغربية أعراض الشذوذ و اختلاطاته المقيتة فقد زهد الكثيرون منهم في الحياة الزوجية،و آثروا العزوبة إشباعا لهوسهم الجنسي و تحررا من قيود الزواج و تكاليفه.
فقد جاء في مقال نشرته جريدة(بدترويت):
«إن ما قد نشأ بيننا اليوم من قلة الزواج،و كثرة الطلاق،و تفاحش العلاقات غير المشروعة بين الرجال و النساء،يدلّ كله علي أننا راجعون القهقري إلي البهيمية.فالرغبة الطبيعية في النسل إلي التلاشي،و الجيل المولود ملقي حبله علي غاربه،و الشعور بكون تعمير الأسرة و البيت لازما لبقاء المدنية،و الحكم المستقل يكاد ينتفي من النفوس،و بخلاف ذلك أصبح الناس ينشأ فيهم الاغفال عن مآل المدنية و الحكومة و عدم النصح لهما».
و لو تحرينا مردّ تلك المآسي التي اجتاحت الغرب لرأيناه ماثلا في التبرج
ص: 267
و الخلاعة و الاختلاط،و شيوع المثيرات الجنسية،كالأفلام الداعرة و القصص الخلاعية و الأغاني المخنثة،التي مسخت القيم الأخلاقية و أشاعت الاسفاف و التهتك في المجتمع الغربي،كما شهد بذلك القوم أنفسهم.
و قد كتب(أميل بوريسي)في تقريره الذي قدمّه إلي الجلسة العامة الثانية لرابطة منع الفواحش:
«هذه الفوتوغرافات الداعرة المتهتكة تصيب أحاسيس الناس بأشدّ ما يمكن من الهيجان و الاختلال،و تحّث مشتريها البؤساء علي المعاصي و الإجرام التي تقشعر من تصورها الجلود.و إنّ أثرها السييء المهلك في الفتية و الفتيات لممّا يعجز عنه البيان.فكثير من المدارس و الكليات قد خربت حالتها الخلقية و الصحية لتأثير هذه الصور المهيجة،و لا يمكن أن يكون للفتيات علي الأخص شيء أضرّ و أفتك من هذه» (1).
*** و نستنتج من هذا العرض السالف:أنّ الشريعة الإسلامية،إنّما أمرت المرأة المسلمة بالحجاب،و نهتها عن التبرج و الاختلاط المريب،حرصا علي كرامتها و صيانتها من دوافع الإساءة و التغرير،و وقاية للمجتمع الإسلامي من المآسي و الارزاء التي حاقت بالأمم الغربية،و مسخت أخلاقها و ضمائرها و أوردتها موارد الشقاء و الهلاك.
انظر كيف أهاب الإسلام بالمرأة المسلمة أن تتحصن بالحجاب،و تتوقي به مزالق الفتن و الشرور: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ،وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ،ذلِكَ أَدْني أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ (الأحزاب:59).
هذه هي إحدي الآيات الكريمة الناطقة بوجوب الحجاب،و المحرضة عليه،بأسلوب جاد صريح،حيث خاطب اللّه عز و جل رسوله الأعظم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ،وَ بَناتِكَ،وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ...يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
********
(1) اقتبسنا تلك الأقوال المترجمة عن كتاب الحجاب،للأستاذ المودودي.
ص: 268
جَلاَبِيبِهِنَّ و ذلك بإسدال الجلباب-و هو ما تستتر به المرأة من ملحفة أو ملاءة- علي وجوههن و أبدانهن.
ثم بين سبحانه علة الحجاب و جدواه: ذلِكَ أَدْني أَنْ يُعْرَفْنَ،فَلا يُؤْذَيْنَ حيث أن الحجاب يستر محاسن المرأة و مفاتنها،و يحيطها بهالة من الحصانة و المنعة، تقيها تلصص الغواة و الداعرين و تحرشاتهم الإجرامية العابثة لصون النساء و كرامتهن.
و يمضي القرآن الكريم في تركيز مبدأ الحجاب و الحث عليه في آيات متتالية،و أساليب بلاغية فذّة:
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ،إِنِ اتَّقَيْتُنَّ،فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ،وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً. وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولي (الأحزاب:32-33).
و هنا يخاطب اللّه عز و جل،زوجات النبي(ص): يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ في الشرف و الفضل،فأنتنّ أرفع شأنا و أسمي منزلة منهن، لشرف انتمائكن لرسول اللّه(ص) إِنِ اتَّقَيْتُنَّ معصية اللّه تعالي و رسوله،و في هذا الشرط إشعار لهنّ أنّ انتسابهنّ إلي الرسول(ص)فحسب لا يوجب تفوقهن علي غيرهن من النساء،إلا بتحليهن بتقوي اللّه عز و جل،الذي هو مفتاح الفضائل،و قوام حياة الإيمان.
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ،فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فلا تخاطبن الأجانب بأسلوب ليّن رقيق يستثير نوازع القلوب المريضة بالدنس و الفجور.
وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً مستقيما مشعرا بالحشمة و الترفع و الوقار.ثم أمرهن بالاستقرار في بيوتهن،و نهاهنّ عن التبرج و إظهار المحاسن و الزينة للأجانب،كما كنّ يظهرنها النساء الجاهليات وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولي. و في ذلك ضمان لعفاف المرأة و كرامتها،و صيانتها من مزالق الخطيئة، و خوالج الشك و الارتياب.
و هكذا يواصل القرآن الكريم غرس الفضيلة و العفة في نفوس المؤمنين
ص: 269
بمثله العليا،و آدابه الرفيعة:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ،وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ،ذلِكَ أَزْكي لَهُمْ، إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ،وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ،وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها،وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلي جُيُوبِهِنَّ، وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ،أَوْ آبائِهِنَّ،أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ،أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ،أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ،أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ،أَوْ نِسائِهِنَّ،أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ،أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلي عَوْراتِ النِّساءِ.وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ (النور:30-31).
أمر اللّه تعالي في هذه الآية الكريمة النبي(ص)أن يصدع بآداب القرآن و وحي السماء،و يوجه المؤمنين علي ضوئهما توجيها هادفا بناءا.
قُلْ يا محمد لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ بأن ينقصوا من نظراتهم و تطلعاتهم نحو النساء الأجنبيات،لما في ذلك من ضروب الأخطار و الأضرار.فكم نظرة طامحة إلي الجمال أورثت حسرة طويلة،و استرقت صاحبها بأسر الحب و عناء الهيام.
و أنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما اتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه و لا عن بعضه أنت صابر
و قد تزج النظرة الآثمة في مهاوي الرذيلة و الفساد:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
ثم أمر المؤمنين بحفظ الفروج بعد أمرهم بغض الأبصار وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الآثام الجنسية أو يستروها عن الناظر المحترم،و قد أوصد اللّه تعالي بهذين الأمرين-غض الأبصار و حفظ الفروج-أخطر منافذ الشرور الخلقية و بوائقها العارمة،و حصن المؤمنين بالعفة و النزاهة ذلِكَ أَزْكي لَهُمْ أطهر لنفوسهم و أخلاقهم،و أنفع لدينهم و دنياهم.
ثم عمد إلي توعية الضمائر،و تصعيد قيمها الأخلاقية بالإيحاء النفسي بهيمنة اللّه سبحانه عليهم و رقابته لهم إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ بأبصارهم
ص: 270
و فروجهم و جميع أعمالهم.
ثم عطف اللّه تعالي علي النساء المؤمنات،فأمرهنّ بما أمر به الرجال المؤمنين من غض الأبصار و حفظ الفروج،لاتحاد الجنسين،و تساويهما في الغرائز و الميول،و انجذاب كل منهما نحو الآخر.
و خصّ النساء بتوجيهات تنظّم سلوكهن،و تذكي فيهن مشاعر الحشمة و العزة و الوقار: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحارم، إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها كالثياب أو الوجه و الكفين، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلي جُيُوبِهِنَّ و ليسدلن الخمر و المقانع علي نحورهن و صدورهن تسترا من الأجانب.
ثم رخّصهن في إبداء زينتهن للمحارم،و من يؤمن من الافتتان و الإغراء منهنّ و عليهن،لنفرة الطباع من ذلك وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ،أَوْ آبائِهِنَّ،أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ،أَوْ أَبْنائِهِنَّ،أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ،أَوْ إِخْوانِهِنَّ،أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ،أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ،أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ و هم الإماء. أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ و هم الذين يتّبعون الناس طمعا في برهم و نوالهم من لا يهفو إلي النساء،و لا حاجة له فيهن،كالبله من الرجال أو الشيوخ العاجزين الصلحاء.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلي عَوْراتِ النِّساءِ و أريد به جميع الأطفال الذين لا يعرفون عورات النساء لسذاجتهم،و ضعف غريزتهم الجنسية.
وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ للاعلام عن خلخالها أو اسماع صوته.
وَ تُوبُوا إِلَي اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور:31).
تسعدون في الدارين.
*** و هكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السّلام تحضّ علي العفاف، و غض الأبصار عن النظرة المحرمة،فضلا عن الاختلاط،سيان في ذلك الرجال و النساء.
ص: 271
قال الصادق(ع):«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم،و كم نظرة أورثت حسرة طويلة» (1).
و قال(ع):«أول النظرة لك،و الثانية عليك،و الثالثة فيها الهلاك» (2).
و قال(ع):«نهي رسول اللّه(ص)أن يدخل الرجل علي النساء إلاّ بإذن أوليائهن» (3).
و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا:«ما من أحد إلاّ و هو يصيب حظا من الزنا،فزنا العين النظر،و زنا الفم الغيبة،و زنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أم كذب» (4).
و قال الصادق(ع):«من نظر إلي امرأة فرفع بصره إلي السماء،لم يرتد إليه بصره حتي يزوجه اللّه من الحور العين» (5).
و عنه،عن أبيه عليهما السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):«كل عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين:عين بكت من خشية اللّه،و عين غضّت عن محارم اللّه،و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه» (6).
***
أجدني و أنا أتحدث عن الحقوق الزوجية منساقا إلي التحدث عن منزلة المرأة في الإسلام،و رعايته لها و عطفه عليها،ما جعلها حظّية سعيدة في ظلاله.
و لا يستطيع الباحث أن يتبين أبعاد حظوتها و سعادتها في عهده الزاهر إلا
********
(1) الوافي ج 12 ص 127،عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 127،عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 123،عن الكافي.
(4) الوافي ج 12 ص 127،عن الكافي.
(5) الوافي ج 12 ص 127،عن الفقيه.
(6) البحار م 23 ص 101 عن خصال الصدوق(ره).
ص: 272
بالمقارنة بينها و بين غيرها من النساء اللاتي سبقنها أو تخلفن عنها في التأريخ، ليستجلي عزتها و تفوقها عليهن.
و لا يستطيع أن يتبين ذلك إلا بدراسته علي ضوء المباديء السماوية الخالدة،و القيم المنطقية الأصيلة المبرئة من نوازع الهوي و الجهل و سيطرة الأعراف و التقاليد التي لا تصلح أن تكون مقياسا ثابتا و حكما عدلا في تمحيص الحقائق و تقييمها و استجلاء الواقع من المزيف منها،لتلونها بالمحيط الذي نبعت منه و الظرف الذي شاعت فيه،فطالما استسحن العرف خلالا قبيحة و استقبح سجايا كريمة،متأثرا بدوافع هذا أو ذاك.
و إنما يصلح العرف في التحكيم إذا كان مستنيرا بهدي اللّه تعالي و توجيهه السديد الحكيم،فإنه آنذاك لا يخطيء في حكمه،و لا يزيغ عن العدل و الصواب.
لقد اضطرب المعيار الاجتماعي في تقييم المرأة و تحديد منزلتها الاجتماعية في عصور الجاهلية القديمة أو الحديثة.و تأرجح بين الإفراط و التفريط،و بين التطفيف و المغالاة،دون أن يستقر علي حال رضي من القصد و الاعتدال.
فاعتبرت حينا من الدهر مخلوقا قاصرا منحطا،ثم اعتبرت شيطانا يسوّل الخطيئة و يوحي بالشر،ثم اعتبرت سيدة المجتمع تحكم بأمرها و تصرفه بمشيئتها، ثم اعتبرت عاملة كادحة في سبيل عيشها و حياتها.
و كانت المرأة في أغلب العصور تعاني الشقاء و الهوان،مهدورة الحق مسترقة للرجل،يسخرها لأغراضه كيف يشاء.
و هي في تقييم الحضارة الرومانية في تأرجح و اضطراب،بين التطفيف و المغالاة:اعتبرتها رقيقا تابعا للرجل،يتحكم فيها كما شاء.ثم غالت في قيمها فحررتها من سلطان الأب و الزوج،و منحتها الحقوق الملكية و الإرثية و حرية الطلاق،و حرية التبذل و الإسفاف،فكانت الرومانية تتزوج الرجل بعد الآخر دونما خجل أو استحياء.
ص: 273
فقد كتب«جوونيل 60-140 م»عن امرأة تقلبت في أحضان ثمانية أزواج في خمس سنوات.و ذكر القديس«جروم 340-420 م»عن امرأة تزوجت في المرة الأخيرة الثالث و العشرين من أزواجها،و كانت هي أيضا الحادية و العشرين لبعلها (1).
ثم أباحوا لها طرق الغواية و الفساد،مما سبب تفسخ المجتمع الروماني ثم سقوطه و انهياره.
و هي في عرف الحضارة اليونانية تعتبر من سقط المتاع،تباع و تشتري، و تعتبر رجسا من عمل الشيطان.
و قضت شرائع الهند القديمة(أن الوباء و الموت و الجحيم و السم و الأفاعي و النار..خير من المرأة)و كان حقها في الحياة ينتهي بانتهاء أجل زوجها الذي هو سيدها و مالكها،فإذا رأت جثمانه يحرق ألقت بنفسها في نيرانه،و إلا حاقت عليها اللعنة الأبدية.
و أما رأي التوراة في المرأة،فقد وضحه سفر الجامعة في الكلمات الآتية:
«درت أنا و قلبي لأعلم و لأبحث و لأطلب حكمة و عقلا،و لأعرف الشر أنه جهالة،و الحماقة أنها جنون،فوجدت أمرّ من الموت المرأة،التي هي شباك، و قلبها شراك،و يداها قيود»(الإصحاح 14 الفقرة 17) (2).
و كانت المرأة من وجهة نظر المسيحية-خلال العصور الوسطي-مخلوق شيطاني دنس،يجب الابتعاد عنه.
قال«ليكي»في كتاب تأريخ أخلاق أوروبا:«و كانوا يفرون من ظل النساء،و يتأثمون من قربهن و الاجتماع بهن،و كانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق و التحدث إليهن-و لو كنّ أمهات و أزواجا أو شقيقات-تحبط أعمالهم و جهودهم الروحية» (3).
********
(1) الحجاب للمودودي ص 22.
(2) مقارنة الأديان ج 3 الإسلام ص 196 بتصرف للدكتور أحمد شلبي.
(3) ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين،للسيد الندوي ص 160.
ص: 274
و هكذا كان المجتمع الغربي فيما خلا تلك العصور،يستخف بالمرأة و لا يقيم لها وزنا.(فقد عقد في فرنسا اجتماع سنة 586 م يبحث شأن المرأة و ما إذا كانت تعد إنسانا أو لا تعد إنسانا.و بعد النقاش،قرر المجتمعون أن المرأة إنسان و لكنها مخلوقة لخدمة الرجل) (1).
و في انجلترا حرّم«هنري الثامن»علي المرأة الإنجليزية قراءة الكتاب المقدس،و ظلت النساء حتي سنة 1850 م غير معدودات من المواطنين،و ظللن حتي سنة 1882 م ليس لهن حقوق شخصية،و لا حق لهن في التملك الخالص، و إنما كانت المرأة ذائبة في أبيها أو زوجها (2).
و قد لخص الأستاذ الندوي حياة المرأة في المجتمع العربي الجاهلي،حيث قال:
«و كانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن و حيف،تؤكل حقوقها و تبتز أموالها،و تحرم من إرثها،و تعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه،و تورث كما يورث المتاع أو الدابة،و كانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل،فيتمتع الرجل بحقوقه و لا تتمتع هي بحقوقها،و من المأكولات ما هو خالص للذكور و محرم علي الإناث،و كان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد.
و قد بلغت كراهة البنات إلي حدّ الوأد،و كانوا يقتلون البنات بقسوة،فقد يتأخر وأد الموؤدة لسفر الوالد و شغله،فلا يئدها إلا و قد كبرت و صارت تعقل، و كان بعضهم يلقي الأنثي من شاهق» (3).
و لما بلغت الحضارة الغربية الحديثة أوجها،نالت المرأة فيها-بعد جهاد
********
(1) مقارنة الأديان،للدكتور أحمد شلبي ج 3 ص 200.
(2) مقارنة الأديان،للدكتور أحمد شلبي ج 3 ص 200.
(3) ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين،للسيد الندوي ص 57 بتصرف.
ص: 275
شاق و تضحيات غالية-حريتها و حقوقها،و غدت تستشعر المساواة بالرجل، و تشاطره الأعمال في الدوائر و المتاجر و المصانع،و مختلف الشؤون و النشاطات الاجتماعية.
و ابتهجت المرأة الغربية بهذه المكاسب التي نالتها بالدموع و المآسي، متجاهلة واقع غبنها و خسرانها في هذا المجال.و لو أنها حاكمت و عادلت في ميزان المنطق بين المغانم التي حققتها و المغارم التي حاقت بها...لأحست بالأسي و الخيبة و الخسران.
فقد خدعها دعاة التحرر في هذه الحضارة المادية،و غرروا بها و استغلوا سذاجتها استغلالا ماكرا دنيئا.استغلوها لمضاربة الرجل،و مكايدته حينما بدأ يطالب بمضاعفة أجور العمل و تخفيف ساعاته،فاستجابت لذلك...تعمل أعمال الرجل قانعة بأجر دون أجره.
و استغلوا أنوثتها في الحقل التجاري لمضاعفة الأرباح المادية،لقدرتها علي اجتذاب الزبائن و تصريف البضائع،مستثيرين كوامن الجنس في نفوسهم فأي استغلال أنكي و أسوأ من هذا الاستغلال؟
و كان عليها بعد هذا أن تضطلع بمهامها النسوية من الحمل و الوضع و التربية و التدبير المنزلي،إلي جانب كفاحها في سبيل العيش كيلا يمسها السغب و الحرمان لنكول الرجل عن إعالتها في الغالب.
و بالرغم مما حققته المرأة الأوروبية من صنوف الإنجازات و المكاسب،فإنها تعتبر في المعيار المنطقي خاسرة مخفقة،قد خسرت إزاء تحررها دينها و أخلاقها و كرامتها،و أصبحت في حالة مزرية من التبذل و الإسفاف.كما شهد به الغربيون أنفسهم مما أوضحناه سالفا و نزيده إيضاحا في الأبحاث التالية.
و ندرك من هذا العرض السالف مبلغ التخبط و التأرجح في تقييم المرأة عبر العصور القديمة و الحديثة،دون أن تهتدي الأمم إلي القصد و الاعتدال،مما
ص: 276
أساء إلي المرأة و المجتمع الذي تعيشه إساءة بالغة.
فلما انبثق فجر الإسلام و أطل علي الدنيا بنوره الوضّاء،أسقط تلك التقاليد الجاهلية و أعرافها البالية،و أشاد للإنسانية دستورا خالدا يلائم العقول النيّرة و الفطر السليمة،و يواكب البشرية عبر الحياة.
فكان من إصلاحاته أنه صحح قيم المرأة و أعاد إليها اعتبارها،و منحها حقوقها المادية و الأدبية بأسلوب قاصد حكيم،لا إفراط فيه و لا تفريط،فتبوأت المرأة المسلمة في عهده الزاهر منزلة رفيعة لم تبلغها نساء العالم.
لقد أوضح الإسلام واقع المرأة،و مساواتها بالرجل في المفاهيم الإنسانية، و اتحادها معه في المبدأ و المعاد،و حرمة الدم و العرض و المال،و نيل الجزاء الأخروي علي الأعمال،ليسقط المزاعم الجاهلية إزاء تخلف المرأة عن الرجل في هذه المجالات.
يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي،وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا،إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات:13).
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:97).
و كان بعض الأعراب يئد البنات و يقتلهن ظلما و عدوانا،فجاء الإسلام ناعيا و مهددا علي تلك الجريمة النكراء،و منح البنت شرف الكرامة و حق الحياة وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (التكوير:8-9).
وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ،نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ،إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (الإسراء:31).
و قضت الأعراف الجاهلية أن تسوم المرأة ألوان التحكم و الافتئات،فتارة تقسرها علي التزويج ممن لا ترغب فيه،أو تعضلها من الزواج،و أخري تورث كما يورث المتاع،يتحكم بها الوارث كيف يشاء،فله أن يزوجها و يبتز مهرها، أو يعضلها حتي تفتدي نفسها منه أو تموت،فيرثها كرها و اغتصابا.و قد حررها الإسلام من ذلك الأسر الخانق و العبودية المقيتة،و منحها حرية اختيار الزوج
ص: 277
الكفؤ،فلا يصح تزويجها إلا برضاها،و حرم كذلك استيراثها قسرا و إكراها:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً،وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ (النساء:19).
و كانت التقاليد الجاهلية،و حتي الغربية منها،إلي عهد قريب تمنع المرأة حقوق الملكية،كما حرمتها الجاهلية العربية حقوق الإرث،لأن الإرث في عرفهم لا يستحقه إلاّ رجال القبيلة و حماتها المدافعون عنها بالسيف.و قد اسقط الإسلام تلك التقاليد الزائفة.و منح المرأة حقوقها الملكية و الإرثية،و قرر نصيبها من الإرث..أمّا كانت،أو بنتا،أو أختا،أو زوجة:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ (النساء:32).
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ،وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ (النساء:7).
و فرض للزوجة علي زوجها حق الإعالة،و لو كانت ثرية موسرة.
و قد عرضنا في حقوق الزوجة طرفا من وصايا أهل البيت عليهم السّلام في رعايتها و تكريمها،تعرب عن اهتمام الشريعة الإسلامية بشؤون المرأة و رفع معنوياتها.
و استطاع الإسلام بفضل مبادئه و سمو آدابه أن يجعل المرأة المسلمة قدوة مثالية لبناء الأمم،في رجاحة العقل و سمو الإيمان و كرم الأخلاق،و رفع منزلتها الاجتماعية،حتي استطاعت أن تناقش و تحاجّ الخليفة الثاني إبّان خلافته،و هو يخطب في المسلمين و ينهاهم عن المغالاة في المهور،فانبرت له امرأة من صف الناس،و قالت:ما ذاك لك.
فقاله:و لم؟
أجابت:لأن اللّه تعالي يقول: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً،أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (النساء:20).
فرجع عمر عن رأيه،و قال:أخطأ عمر و أصابت امرأة.
ص: 278
و قد سجل التاريخ صفحات مشرقة بأمجاد المرأة المسلمة و مواقفها البطولية في نصرة الإسلام،يقصّها الرواة بأسلوب رائع ممتع يستثير الإعجاب و الإكبار.
فهذه«نسيبة المازنية»كانت تخرج مع رسول اللّه(ص)في غزواته،و كان ابنها معها،فأراد أن ينهزم و يتراجع،فحملت عليه،فقالت:يا بني،إلي أين تفر عن اللّه و عن رسوله؟فردته.
فحمل عليه رجل فقتله،فأخذت سيف ابنها،فحملت علي الرجل فقتلته،فقال رسول اللّه(ص):بارك اللّه عليك يا نسيبة.
و كانت تقي رسول اللّه(ص)بصدرها و ثديها،حتي أصابتها جراحات كثيرة (1).
و حجّ معاوية سنة من سنّيه،فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون،يقال لها«دراميّة الحجون»و كانت سوداء كثيرة اللحم،فأخبر بسلامتها،فبعث إليها.فجيء بها،فقال:ما حالك يا بنة حام؟قالت:لست لحام إن عبتني،إنّما أنا امرأة من بني كنانة،ثمت من بني أبيك.
قال:صدقت،أ تدرين لم بعثت إليك؟
قالت:لا يعلم الغيب إلاّ اللّه.
قال:بعثت إليك لأسألك،علام أحببت عليا و أبغضتني،و واليته و عاديتني؟
قالت:أو تعفيني يا أمير المؤمنين.
قال:لا أعفيك.
قالت:أما إذا أبيت،فإني أحببت عليا علي عدله في الرعية،و قسمه بالسوية.و أبغضتك علي قتال من هو أولي منك بالأمر،و طلبتك ما ليس لك بحق.و واليت عليا علي ما عقد له رسول اللّه من الولاء،و علي حبه للمساكين، و إعظامه لأهل الدين،و عاديتك علي سفكك الدماء،و شقك العصا و جورك في
********
(1) عن سفينة البحار ج 2 ص 585.
ص: 279
القضاء،و حكمك بالهوي.
قال:فلذلك انتفخ بطنك.
قالت:يا هذا،بهند و اللّه يضرب المثل في ذلك لابي.
قال معاوية:يا هذه،اربعي،فإنّا لم نقل إلاّ خيرا،فرجعت و سكنت.
فقال لها:يا هذه،هل رأيت عليا؟
قالت:أي و اللّه لقد رأيته.
قال:فكيف رأيتيه.
قالت:رأيته و اللّه لم يفتنه الملك الذي فتنك،و لم تشغله النعمة التي شغلتك.
قال:هل سمعت كلامه.
قالت:نعم و اللّه،كان يجلو القلوب من العمي كما يجلو الزيت الصدأ.
قال:صدقت،فهل لك من حاجة؟
قالت:أو تفعل إذا سألتك؟قال:نعم.
قالت:تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها و راعيها.
قال:تصنعين بها ما ذا؟
قالت:أغذو بألبانها الصغار،و أستحيي بها الكبار،و أكتسب بها المكارم، و أصلح بها بين العشائر.
قال:فإن أعطيتك ذلك،فهل أحلّ عندك محل عليّ؟
قالت:ماء و لا كصدّاء،و مرعي و لا كالسعدان،و فتي و لا كمالك.
ثم قال:أما و اللّه لو كان علي حيّا ما أعطاك منها شيئا.
قالت:لا و اللّه و لا وبرة واحدة من مال المسلمين.
*** و استدعي معاوية امرأة من أهل الكوفة تسمي«الزرقاء بنت عديّ»كانت
ص: 280
تعتمد الوقوف بين الصفوف و ترفع صوتها صارخة،يا أصحاب علي،تسمعهم كلامها كالصوارم،مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل،و المدبر لأقبل، و المسالم لحارب،و الفار لكرّ،و المتزلزل لا ستقر.
فلما قدمت علي معاوية،قال لها:هل تعلمين لم بعثت إليك؟
قالت:لا يعلم الغيب إلاّ اللّه سبحانه و تعالي.
قال:أ لست الراكبة الجمل الأحمر يوم صفين،و أنت بين الصفوف توقدين نار الحرب،و تحرضين علي القتال؟
قالت:نعم.قال:فما حملك علي ذلك؟
قالت:يا أمير المؤمنين،انه قد مات الرأس،و بتر الذنب،و لن يعود ما ذهب،و الدهر ذو غير،و من تفكر أبصر،و الأمر يحدث بعده الأمر.
قال:صدقت،فهل تعرفين كلامك و تحفظين ما قلت؟
قالت:لا و اللّه و لقد أنسيته.
قال:للّه أبوك،فلقد سمعتك تقولين«أيها الناس،ارعوا و ارجعوا،إنكم أصبحتم في فتنة،غشتكم جلابيب الظلم،و جارت بكم عن قصد المحجة،فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء،لا تسمع لناعقها،و لا تسلس لقائدها.إن المصباح لا يضيء في الشمس،و إن الكواكب لا تنير مع القمر،و إنّ البغل لا يسبق الفرس،و لا يقطع الحديد إلاّ بالحديد،ألا من استرشد أرشدناه،و من سألنا أخبرناه.
أيها الناس:إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها،فصبرا يا معشر المهاجرين و الأنصار علي الغصص،فكأنكم و قد التأم شمل الشتات،و ظهرت كلمة العدل،و غلب الحق باطله،فإنه لا يستوي المحق و المبطل.أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون.فالنزال النزال،و الصبر الصبر،ألا أن خضاب النساء الحناء،و خضاب الرجاء الدماء،و الصبر خير الأمور عاقبة،أئتوا الحرب غير ناكصين،فهذا يوم له ما بعده».
ص: 281
ثم قال:يا زرقاء،أ ليس هذا قولك و تحريضك؟
قالت:لقد كان ذلك.
قال:لقد شاركت عليا في كل دم سفكه.
فقالت:أحسن اللّه بشارتك أمير المؤمنين،و أدام سلامتك،فمثلك من بشر بخير،و سرّ جليسه.
فقال معاوية:أو يسرك ذلك؟
قالت:نعم و اللّه لقد سرّني قولك،و أنّي لي بتصديق الفعل.فضحك معاوية،و قال:و اللّه لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته (1).
و هذه أم وهب ابن عبد اللّه بن خباب الكلبي،قالت لابنها يوم عاشوراء:
قم يا بني،فانصر ابن بنت رسول اللّه.
فقال:أفعل يا أماه و لا أقصرّ.
فبرز و هو يقول رجزه المشهور،ثم حمل فلم يزل يقاتل،حتي قتل منهم جماعة،فرجع إلي أمّه و امرأته،فوقف عليهما فقال:يا أماه أرضيت؟
فقالت:ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين(ع).
فقالت امرأته:باللّه،لا تفجعني في نفسك.
فقالت أمّه:يا بني،لا تقبل قولها و ارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول اللّه،فيكون غدا في القيامة شفيعا لك بين يدي اللّه.
فرجع و لم يزل يقاتل حتي قتل تسعة عشر فارسا و اثني عشر راجلا،ثم قطعت يداه.و أخذت أمه عمودا و أقبلت نحوه و هي تقول:فداك أبي و أمي، قاتل دون الطيبين-حرم رسول اللّه(ص)-.فأقبل كي يردها إلي النساء، فأخذت بجانب ثوبه«لن أعود أو أموت معك».
فقال الحسين(ع):جزيتم من أهل بيت خيرا،ارجعي إلي النساء،
********
(1) هاتان القصتان(الثانبة و الثالثة)عن قصص العرب ج 2،و قد نقلتا بتصرف و اختصار.
ص: 282
رحمك اللّه،فانصرفت.و جعل يقاتل حتي قتل رضوان اللّه عليه (1).
هذه لمحة خاطفة عن عرض تاريخي طويل زاخر بأمجاد المرأة المسلمة، و مواقفها البطولية الخالدة،اقتصرنا عليها خشية الإطالة.
و أين من هذه العقائل المصونات،نساء المسلمين اليوم،اللاتي يتشدق الكثيرات منهن بالتبرج،و نبذ التقاليد الإسلامية،و محاكاة المرأة الغربية،في تبرجها و خلاعتها.فخسرن بذلك أضخم رصيد ديني و أخلاقي تملكه المرأة المسلمة و تعتز به،و غدون عاطلات من محاسن الإسلام،و فضائله المثالية.
لقد غزت الشرق فيما غزاه من صنوف البدع و الضلالات،فكرة المساواة التامة بين الرجل و المرأة،و مشاطرتها له في مختلف نشاطاته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
و انخدع أغرار المسلمين بهذه الفكرة،و راحوا ينادون بها و يدعون إليها، جهلا منهم بزيفها و مخالفتها مباديء الفطرة و الوجدان،للفوارق العديدة بين الجنسين،و اختلاف مؤهلاتهما في مجالات الحياة.
و متي ثبتت المفارقات بين الرجل و المرأة،تجلي خطأ هذه الفكرة،و استبان ما فيها من تفريط و تضييع لخصائص كل منهما و كفاءته.
فالرجل غالبا:هو أضخم هيكلا من المرأة،و أصلب عودا،و أقوي جلدا علي معاناة الشدائد و الأهوال،كما هو أوسع أفقا،و أبعد نظرا،و أوفر خبرة في تجارب الحياة.
و المرأة غالبا:هي أجمل صورة من الرجل،و أضعف جسما و طاقة،و أرق عاطفة،و أرهف حسّا،تيسيرا لما أعدت له من وظائف الأمومة و رسالتها الإنسانية في الحياة.
و يزداد التغاير و التباين بين الجنسين فيما ينتاب الأناث خاصة،من أعراض
********
(1) نفس المهموم للشيخ عباس القمي(ره)بتصرف و تلخيص.
ص: 283
الحيض و الحمل و الإرضاع،مما يؤثر تأثيرا بالغا في حياة المرأة و حالتها الصحية.
فهي تعاني أعراضا مرضية خلال عاداتها الشهرية،تخرجها عن طورها المألوف.
قال الطبيب(جب هارد):«قلّ من النساء من لا تعتل بعلة في المحاض، و وجدنا أكثرهن يشكين الصداع و النصب و الوجع تحت السرة،و قلة الشهوة للطعام،و يصبحن شرسات الطباع،مائلات إلي البكاء.فنظرا لهذه العوارض كلها يصح القول،أن المرأة في محاضها تكون في الحق مريضة،و ينتابها هذا المرض مرة في كل شهر،و هذه التغيرات في جسم المرأة تؤثر لا محالة في قواها الذهنية و في أفعال أعضائها».
و هكذا أعرب الباحثون عن امتناع المساواة بين الجنسين.
قال الباحث الطبيعي الروسي(انطون نميلاف)في كتابه الذي أثبت فيه عدم المساواة الفطرية بينهما،بتجارب العلوم الطبيعية و مشاهداته:«ينبغي أن لا نخدع أنفسنا بزعم أن إقامة المساواة بين الرجل و المرأة في الحياة العملية أمر هينّ ميسور.الحق أنه لم يجتهد أحد في الدنيا لتحقيق هذه المساواة بين الصنفين مثل ما اجتهدنا في روسيا السوفيتية،و لم يوضع في العالم من القوانين السمحة البريئة من التعصب في هذا الباب مثل ما وضع عندنا،و لكن الحق أن منزلة المرأة قلّما تبدلت في الأسرة،و لا في الأسرة فحسب بل قلما تبدلت في المجتمع أيضا».
و يقول في مكان آخر:«لا يزال تصور عدم مساواة الرجل و المرأة ذلك التصور العميق راسخا لا في قلوب الطبقات ذات المستوي الذهني البسيط،بل في قلوب الطبقات السوفيتية العليا أيضا» (1).
و قال الدكتور(الكسيس كاريل)الحائز علي جائزة نوبل:«يجب أن يبذل المربون اهتماما شديدا للخصائص العضوية و العقلية في الذكر و الأنثي،كذا لوظائفهما الطبيعية،فهناك اختلافات لا تنقض بين الجنسين و لذلك فلا مناص من
********
(1) الحجاب،للمودودي ص 256.
ص: 284
أن نحسب حساب هذه الاختلافات في إنشاء عالم متمدن» (1).
و لا يعتبر تفوق الرجل علي المرأة في المجالات العملية و النظرية مقياسا عاما شاملا لجميع الرجال،فقد تبذّ المرأة الرجل و تفوقه في ذلك،و لكن هذا لا ينفي تخلفها عن أغلب الرجال.
و عزا بعضهم تخلف المرأة عن الرجال إلي التقاليد الاجتماعية،و النظم التربوية التي تكتنف حياتها.
و فاتهم أن تلك التقاليد و النظم قد تلاشت في أغلب الدول المتحللة، و انعدمت فيها الفوارق بين الجنسين،و غدت المرأة تتمتع بجميع فرص التكافؤ التي يتمتع بها الرجل.و بالرغم من ذلك فإنها تعتبر في المرتبة الثانية منه.
و من هنا ندرك امتناع المساواة المطلقة بين الرجل و المرأة،و نعتبرها ضربا من الحماقة و السخف.
فهل يسع دعاة المساواة أن يطوروا واقع الرجل و يجعلوه مشاركا للمرأة في مؤهلاتها الخاصة،و وظائفها النسوية التي يعجز عنها هو،كذلك لا يسعهم أن يسترجلوا المرأة و يمنحوها خصائص الرجل و وظائفه التي تعجز عنها هي:
إن الحكمة الإلهية قد كيفت كلاّ من الجنسين و أعدته إعدادا خاصا، يؤهله لأداء وظائفه و مهماته في الحياة،فلا مناص من تنويع الأعمال بينهما حسب كفاءتهما و مؤهلاتهما...و كلّ ميسر لما خلق له.
فوظيفة الرجل هي:ممارسة الأعمال الشاقة،و الشؤون الخارجية عن المنزل،و الكدح في توفير وسائل العيش لأسرته،و الدأب علي حمايتها و إسعادها ماديا و أدبيا،مما تنوء به المرأة و لا تستطيع اتقانه و إجادته.
و وظيفة المرأة هي:أن تكون ربة بيت و راعية منزل،و أمّا مثالية تنشيء الأكفاء من الرجال،و هي وحدها التي تستطيع أن تجعل البيت فردوسا للرجل،
********
(1) الإنسان ذلك المجهول ص 117.
ص: 285
يستشعر فيه الراحة من متاعب الحياة،و ينعم الأطفال فيه بدفء الحنان و دواعي النمو و الازدهار.
فإقحام المرأة في ميادين الرجل،و منافستها له في أعماله...تضييع لكفاءتها و مؤهلاتها،ثم هو تجميد للرجل عن ممارسة نشاطاته الحيوية التي يجيدها و لا تجيدها المرأة،و تعطيل له عن إنشاء أسرة و تكوين بيت.
و قد أحدثت منافسة المرأة للرجل في وظائفه و نشاطاته الخاصة في الجاهلية الحديثة...شرورا أخلاقية و اجتماعية و نفسية خطيرة،و كانت مضارها أكثر من نفعها أضعافا مضاعفة.
و أصبحت المرأة هناك تعاني مرارة الكفاح و مهانة الابتذال في سبيل العيش،كي لا تمسّها الفاقة لنكول الرجل عن إعالتها،مما عاقها عن أداء وظائفها الخاصة من تدبير المنزل و رعاية الأسرة و تربية الأبناء تربية صالحة.
و بتقاعس المرأة عن أداء واجبها الأصيل،و انخراطها في المجتمع الخليط، أصيبت الأسرة هناك بالتبعثر و التسيب و الشقاء،و شاع فيها التفسخ و التهتك و الانهيار الخلقي،كما شهد بذلك الباحث الطبيعي الروسي(انطون نيميلاف) في كتابه الآنف الذكر:
«الحق أن جميع العمال قد بدت فيهم أعراض الفوضي الجنسية،و هذه حالة جدّ خطرة،تهدد النظام الاشتراكي بالدمار،فيجب أن نحارب بكل ما أمكن من الطرق،لأن المحاربة في هذه الجبهة ذات مشاكل و صعوبات.و لي أن أدلكم علي آلاف من الأحداث،يعلم منها أن الإباحية الجنسية قد سرت عدواها لا في الجهال الأغرار فحسب،بل في الأفراد المثقفين من طبقة العمال» (1).
و حسبنا هذه الشهادة عظة و عبرة علي بطلان المساواة بين الجنسين، و أضرار اختلاطهما في الوظائف و الأعمال،فهل من متعظ؟!
فإقحام المرأة في ميدان أعمال الرجال خطأ فاضح،و جناية كبري علي المرأة
********
(1) الحجاب،للمودودي ص 257.
ص: 286
و المجتمع الذي تعيشه،و هدر لكرامتهما معا.
نعم...يستساغ للمرأة أن تمارس أعمالا تخصها و تليق بها،كتعليم البنات،و تطبيب النساء و توليدهن،و في حالة فقدان المرأة من يعولها،أو عجزه عن إعالتها،فإنها و الحالة هذه تستطيع مزاولة الأعمال و المكاسب التي يؤمن عليها من مفاتن المجتمع الخليط،و يؤمن عليه من فتنتها كذلك.
و لكن الإسلام،صان كرامة المرأة المعوزة،و كفل رزقها من بيت المال، دون أن يحوجها إلي تلك المعاناة،فلو أدي المسلمون زكاة أموالهم ما بقي فقير محتاجا.
فما ذا يريد دعاة المساواة؟أ يريدون إعزاز المرأة و تحريرها من الغبن الاجتماعي؟فقد حررها الإسلام و رفع منزلتها و منحها حقوقها المادية و الأدبية.
أم يريدون مخادعة المرأة و ابتذالها،لتكون قريبة من عيون الذئاب و مغازلاتهم؟
و ما ذا تريد المرأة المتحررة؟أ تريد المساواة التامة بالرجل،أم تريد حرية الخلاعة و الابتذال؟
و كلها غايات داعرة،حرمها الإسلام علي المرأة و الرجل ليقيهما مزالق الفتن و مآسي الاختلاط.
لقد حرر الإسلام المرأة من تقاليد الجاهلية و أعرافها المقيتة،و أعزها و رفع منزلتها،و قرر مساواتها بالرجل في الإنسانية و وحدة المبدأ و المعاد،و حرمة الدم و العرض و المال،و نيل الجزاء الأخروي علي الأعمال.
و حدد قيم المرأة و منزلتها من الرجل تحديدا عادلا حكيما.فهو يساوي بينها و بين الرجل فيما تقتضيه الحكمة و الصواب،و يفرّق بينهما في بعض الحقوق و بعض الواجبات و الأحكام،حيث يجدر التفريق و يحسن التمايز نظرا لاختلاف خصائصهما و مسؤولياتهما في مجالات الحياة.
و هو في هذا و ذاك يستهدف الحكمة و الصلاح،و التقييم العادل لطبائع
ص: 287
البشر و خصائصهم الأصيلة.فلم يكن في تمييزه الرجل في بعض الأحكام ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها،و إنما أراد أن يحقق العدل،و يمنح كلا منهما ما يستحقه و يلائم كفاءته و تكاليفه.
و سنبحث في المواضيع التالية أهم مواطن التفريق و التمايز بين الرجل و المرأة،لنستجلي حكمة التشريع الإسلامي و سمو مبادئه في ذلك.
الأسرة هي الخلية الأولي،التي انبثقت منها الخلايا الاجتماعية العديدة و المجتمع الصغير الذي نما و اتسع منه المجتمع العام الكبير.
و من الثابت أن كل مجتمع-و لو كان صغيرا-لا بد له من راع كفؤ يرعي شؤونه،و ينظم حياته،و يسعي جاهدا في رقيّه و ازدهاره.
لذلك كان لا بد للأسرة من راع و قيم،يسوسها بحسن التنظيم و التوجيه و يوفر لها وسائل العيش الكريم،و يحوطها بالعزة و المنعة،و تلك مهمة خطيرة تستلزم الحنكة و الدّربة،و قوة الإرادة،و وفرة التجربة في حقول الحياة.
فأي الشخصين الرجل أو المرأة أحق برعاية الأسرة و القوامة عليها؟
إنّ الرجل بحكم خصائصه و مؤهلاته أكثر خبرة و حذقا في شؤون الحياة من المرأة،و أكفأ منها علي حماية الأسرة و رعايتها أدبيا و ماديا،و أشدّ قوة و جلدا علي تحقيق وسائل العيش و مستلزمات الحياة.لذلك كان هو أحق برعاية الأسرة و القوامة عليها.و هذا ما قرره الدستور الإسلامي الخالد اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَي النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ،وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (النساء:34).
و ليس معني القوامة هو التحكم بالأسرة و سياستها بالقسوة و العنف،فذلك مناف لأخلاق الإسلام و آدابه.و القوامة الحقة هي التي ترتكز علي التفاهم و التآزر و التجاوب الفكري و العاطفي بين راعي الأسرة و رعيته.
وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ،وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (البقرة:228).
ص: 288
أما المرأة فإنها بحكم أنوثتها،رقيقة العاطفة،مرهفة الحس،سريعة التأثر،تتغلب عواطفها علي عقلها و مشاعرها.و ذلك ما يؤهلها لأداء رسالة الأمومة،و وظائفها المستلزمة لتلك الخلال،و يقصيها عن مركز القيادة في الأسرة الذي يتطلب الحنكة،و اتزان العواطف،و قوة الجلد و الحزم،المتوفرة في الرجل، و هذا ما يؤثره عليها في رعاية الأسرة و القوامة عليها.
هذا إلي أن المرأة السويّة بحكم أنوثتها تستخف بالزوج المائع الرخو، و تكبره إذا كان ذا شخصية قوية جذّابة،تستشعر في ظلال رجولته مفاهيم العزة و المنعة،و ترتاح إلي حسن رعايته و تدبيره.
و هكذا قضت حكمة التشريع الإسلامي أن تؤثر الرجل علي المرأة، بضعف نصيبها من الإرث،مما حسبه المغفلون انتقاصا لكرامة المرأة و بخسا لحقوقها.
لا...لم يكن الإسلام ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها،و هو الذي أعزها و منحها حقوقها الأدبية و المادية،و إنما ضاعف نصيب الرجل عليها في الإرث تحقيقا للعدل و الإنصاف،و نظرا لتكاليفه و مسؤولياته الجسمية.
فالرجل مكلف بالإنفاق علي زوجته و أسرته و توفير ما تحتاجه من طعام و كساء و سكن،و تعليم و تطبيب،و المرأة معفوة من كل ذلك.و كذلك هو مسؤول عن حماية الإسلام و الجهاد في نصرته،و المرأة غير مكلفة به.و الرجل مكلف بالإسهام في دية العاقلة و نحوها من الالتزامات الاجتماعية،و المرأة معفاة منها.
و علي ضوء هذه الموازنة بين الجهد و الجزاء،نجد أن من العدل و الإنصاف تفوّق الرجل علي المرأة في الإرث،و أنها أسعد حالا،و أوفر نصيبا منه،لتكاليفه الأسرية و الاجتماعية،التي هي غير مسؤولة عنها.و هذا ما شرعه الإسلام لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (النساء:11)علي أن تفضيل الرجل علي المرأة في
ص: 289
الإرث لا يعمّ حقوقها الملكية،و أموالها المكتسبة،فإنها و الرجل سيان،و لا يحق له أن يبتز فلسا واحدا منها إلا برضاها و إذنها.
و هكذا تجلت حكمة التشريع الإسلامي في تقييم شهادة المرأة،و اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد.و قد أراد الإسلام بهذا الإجراء أن يصون شهادة المرأة عن التزوير و الافتراء،ليحفظ حقوق المتخاصمين عن البخس و الضياع.
فالمرأة سرعان ما تستبد بها عواطفها الجيّاشة،و شعورها المرهف،و انفعالها السريع،فتزيغ عن العدل،و تتناسي الحق و الواجب،متأثرة بنوازعها نحو أحد المتداعيين،قريبا لها أو عزيزا عليها،و تفاديا من ذلك،قرن الإسلام بين المرأتين في الشهادة،لتكون إحداهما مذكرة للأخري و رادعة لها عن الزيغ و الممالاة وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ،فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ،أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْري (البقرة:
282).
هذا إلي أن الطب الحديث قد اكتشف أن بعض النساء إبان عادتهن الشهرية،قد تضعف طاقاتهن الذهنية و يغدون آنذاك مظنة للنسيان،كما أوضحته التقارير السالفة،في بحث المساواة (1).
و هذا ما يؤيد ضرورة اقتران امرأتين في الشهادة،إذ باقترانهما و تذكير إحداهما للأخري يتجلي الحق و يتضح الواقع.
و ما فتيء أعداء الإسلام يشنون الحملات الظالمة علي الدين الإسلامي و شريعته الغراء،في صور من النقد اللاذع،و التنديد الرخيص،الكاشف عن
********
(1) انظر ص 486 من هذا الكتاب(قول الطبيب جب هارد).
ص: 290
حقدهم و كيدهم للإسلام.
فمن ذلك تشنيعهم علي الإسلام بإباحته تعدد الزوجات،و أنها علي زعمهم اضرار بالزوجة و إرباك لحياتها.
و قد جهل الناقدون أو تجاهلوا أنّ الإسلام لم يكن المشرع الأول لذلك، فقد شريعته الأديان السماوية و القوانين الوضعية قبل الإسلام بآماد و قرون مديدة.
«فلا حجر علي تعدد الزوجات في شريعة قديمة سبقت قبل التوراة و الإنجيل،و لا حجر علي تعدد الزوجات في التوراة أو في الإنجيل،بل هو مباح مأثور عن الأنبياء أنفسهم،من عهد إبراهيم الخليل إلي عهد الميلاد.و لم يرد في الإنجيل نص واحد يحرم ما أباحه العهد القديم للآباء و الأنبياء،و لمن دونهم من الخاصة و العامة.و ما ورد في الإنجيل يشير إلي الإباحة في جميع الحالات، و الاستثناء في حالة واحدة،و هي:حالة الأسقف حين لا يطيق الرهبانية فيقنع بزوجة واحدة اكتفاء بأهون الشرور...
و قال(و ستر مارك)العالم الثقة في تاريخ الزواج:أنّ تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلي القرن السابع عشر،و كان يتكرر كثيرا في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة و الدولة...
فالإسلام لم يأت ببدعة فيما أباح من تعدد الزوجات،و إنما الجديد الذي أتي به:أنه أصلح ما أفسدته الفوضي من هذه الإباحة،المطلقة من كل قيد،و انه حسب حساب الضرورات التي لا يغفل عنها الشارع الحكيم،فلم يحرم أمرا قد تدعو إليه الضرورة الحازبة.و يجوز أن تكون إباحته خير من تحريمه في بعض ظروف الأسرة،أو بعض الظروف الاجتماعية العامة» (1).
إنّ الذين استنكروا إباحة تعدد الزوجات في التشريع الإسلامي،قد مارسوه فعلا بطرق الغواية و العلاقات الأثيمة بالخليلات و العشيقات،و تجاهلوا
********
(1) عن كتاب حقائق الإسلام،للأستاذ العقاد،بتصرف.
ص: 291
واقعهم السيء و تحللهم من القيم الأخلاقية،كأنما يحلو لهم أن يتنكبوا النهج السوي المشروع،و يتعسفوا الطرق الموبوءة بالفساد.
و لو أنهم فكروا و أمعنوا النظر بتجرد و إنصاف في حكمة ذلك التشريع الإسلامي،لأيقنوا أنه العلاج الوحيد لحل المشاكل و الأزمات التي قد تنتاب الفرد و تنتاب المجتمع و يصلحها إصلاحا فريدا لا بديل له و لا محيص عنه.
و نستطيع أن نستجلي أهداف الشريعة الإسلامية في تعدد الزوجات علي ضوء المبررات التالية:
1-قد تمرض الزوجة جسميا أو عقليا،و تعجز آنذاك عن أداء رسالتها الزوجية،و لا تستطيع تلبية رغبات الزوج،و رعاية الأسرة و الأبناء،مما يفضي بهم إلي القلق و التسيب.
و لا ريب أنها أزمة خانقة تستدعي العلاج الحاسم الحكيم،و هو لا يخلو من فروض ثلاثة:
أ-إما أن يترك الزوج هملا يعاني مرارة الحرمان من حقوقه الزوجية، و يغدو عرضة للتردي في مهاوي الرذيلة و الإثم،و تترك الأسرة كذلك نهبا للفوضي و التبعثر.و هذا إجحاف بالزوج و الأسرة،و إهدار لحقوقهما معا.
ب-و اما أن يتخلص الزوج من زوجته المريضة بالطلاق،و التخلي عنها، و يدعها تقاسي شدائد المرض و وحشة النبذ و الانفراد،و هذا ما يأباه الوجدان لمنافاته مباديء الإنسانية و سجايا النبل و الوفاء.
ج-و إما أن يتسري الزوج علي زوجه المريضة،متخذا زوجة أخري تلبي رغباته،و تلمّ شعث الأسرة،و تحيط الأولي بحسن الرعاية و اللطف،و هذا هو أفضل الحلول و أقربها إلي الرشد و الصواب.
2-و قد تكون الزوجة عقيمة محرومة من نعمة النسل و الإنجاب،فما ذا يصنع الزوج و الحالة هذه،أ يظل محروما من الأبناء يتحرق شوقا إليهم،و تلهفا
ص: 292
عليهم مستجيبا لغريزة الأبوة و وخزها الملح في النفس.فإن هو صبر علي ذلك الحرمان آثرا هوي زوجته علي هواه،فذلك نبل و تضحية و إيثار.أو يتسري عليها بأخري تنجب له أبناء يملؤون فراغه النفسي،و يكونون له قرة عين و سلوة فؤاد.و هذا هو منطق الفطرة و الغريزة الذي لا يحيد عنه إلا نفر قليل من الناس.
3-و النساء-في الغالب-أوفر عددا و أكثر نفوسا من الرجال،و ذلك لأمرين:
أ-ان الرجال أكثر تعرضا لأخطار العمل و أحداث الوفاة من النساء، لممارستهم الأعمال الشاقة الخطيرة،المؤدية إلي ذلك،كالمعامل و المناجم و المطافي و نحوها،مما يسبب تلفهم و قلتهم عن النساء.
أضف إلي ذلك،أن الرجال أضعف مناعة من النساء و أكثر إصابة بعدوي الأوبئة و الأمراض،مما يجعلهم أقل عددا منهن«و يعزو علماء الحياة ذلك إلي ما تتميز به المرأة علي الرجل بدنيا.و إلي أن الأمراض كلها تقريبا تهلك من الرجال أكثر مما تهلك من النساء،و لذا فإن في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر (7,700,000 أرملة)،و يتنبأ مكتب التعداد الأمريكي بأن هذه الفئة سيرتفع عددها في أمريكا بمعدل مليونين كل 10 سنين.
و ان الدكتورة(ماريون لانجر)العاملة الاجتماعية المتخصصة في استشارات الزواج تقول:أنّ لدي المجتمع حلّين ممكنين فقط لتغطية النقص المتزايد في الرجال أما تعدد الزوجات،أو إيجاد طريقة ما لإطالة أعمار الرجال...» (1).
فإنها تفني أعدادا ضخمة من الرجال و تسبب هبوط نسبتهم عن النساء هبوطا مريعا.فقد كان المصابون في الحرب العالمية الأولي(واحدا و عشرين
********
(1) الإسلام و العلم الحديث،عن مجلة المختار(عدد فبراير 1958.
ص: 293
مليون نسمة)بين قتيل و جريح.و كانت ضحايا الحرب العالمية الثانية(خمسين مليون نسمة).
و قد أحدث ذلك فراغا كبيرا في صفوف الرجال و أثار أزمة عالمية تستدعي العلاج الحاسم الناجع.
أما الأمم الغربية،فقد وقفت إزاء هذه الأزمة موقف العاجز الحائر في علاجها و ملافاتها...لمنعها تعدد الزوجات،فرحت تعالجه عن طريق الفساد الخلقي،مما دنسها و أشاع فيها البغاء و كثرة اللقطاء،و عمتها الفوضي الأخلاقية.
و أما الإسلام،فقد عالج ذلك علاجا فذا فريدا يلائم الفطر البشرية، و مقتضيات الظروف و الحالات.حيث أباح التعدد وقاية للفرد و المجتمع من تلك المآسي التي عانتها الأمم المحرّمة له، فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ،فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (النساء:3).
و حين شرع الإسلام التعدد لم يطلقه ارسالا و جزافا،فقد اشترط فيه العدل و المساواة بين الأزواج صيانة لحقوق المرأة و كرامتها.
بيد أن ذلك العدل مشروط في مستلزمات الحياة الماديّة،كالمطعم و الملبس و المسكن،و نحوها من المآرب الحسيّة المتاحة للإنسان،و الداخلة في نطاق وسعه و قدرته.
أما النواحي الوجدانية و العاطفية،كالحب و الميل النفسي،فإنها خارجة عن طوق الإنسان،و لا يستطيع العدل فيها و المساواة،لوهنه إزاء سلطانها الآسر، وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ (النساء:129).
و قد يعترض البعض أنّ المرأة الغربية قادرة علي ممارسة الأعمال و كسب المعاش،فهي غنية عن الزواج.
و هو زعم باطل يكذبه واقع الفطرة الإنسانية و غرائزها الراسخة في النفس.فحاجة المرأة إلي الرجل ليست مقصورة علي المآرب المادية فحسب، و إنما هي حاجة نفسية ملحة تستكمل به كيانها و تشعر بوجودها كحاجة الرجل إليها علي سواء.
ص: 294
4-و من مبررات التعدد أنه قد يتصف بعض الرجال بطاقة جنسية عارمة،تتطلب المزيد من التنفيس و الإفضاء و تستدعي الأزواج،فإن تيسر له ذلك،و إلاّ نفسّ عن طاقته بالدعارة و الفساد،كما حدث ذلك في الأمم التي حرمت التعدد المشروع،فابتلت بالتعدد الموبوء من الخليلات و العشيقات.
و هكذا انطلقت حناجر لاغية،تتشدق بانتقاد الإسلام علي تشريع الطلاق،بأنه يهدد كيان المرأة و سعادتها،فتغدو بنزوة من نزوات الرجل و لوثة من لوثاته الغاضبة،طريدة كسيرة القلب مهدورة الكيان.
و هذا من صور التجني و التشنيع علي الإسلام،إذ لم يكن هو المشرع الأول للطلاق،و لا المقنن الوحيد له،و إنّما كان شائعا في أغلب الأمم و من أقدم العصور.و كان آنذاك بأسلوب فوضوي يهدر حقوق الزوجة و كرامتها،و يجعلها طريدة شريدة هائمة حيث تشاء.
فقد شاع عند اليونانيين دون قيد أو شرط،و أباحه الرومانيون دينيا و مدنيا بعد أن حرمته الأجيال الأولي منهم.
و حينما جاءت الشريعة الموسوية قلّصت من نطاق الطلاق و أباحته في حالات ثلاث:الزنا و العقم و العيب الخلقي و الخلقي.
و أما الشريعة المسيحية فقد حرمته إلاّ في حالتين:اقتراف أحد الزوجين أو كلاهما جريمة الفسق،أو في حالة العقم.
و هذا ما دفع الأمم الغربية الحديثة،بضغط الحاجة الملحة إلي تقنين الطلاق المدني و جعله قانونا ثابتا،و إن خالف دينها و شريعتها.
و لما أطل الإسلام بعهده الزاهر و تشريعه الكافل،أقرّ الطلاق و أحاطه بشروط من التدابير الوقائية و العلاجية،لتقليصه و ملافاة أزماته و مشاكله.
فهو أبغض الحلال إلي اللّه عز و جل،و لكن الضرورة تبيح المحذور، فهناك حالات يتسع الخلاف فيها بين الزوجين و يشتد الخصام و تغدو الحياة
ص: 295
الزوجية آتونا مستعرا بالشحناء و البغضاء،مما يتعذر فيها التفاهم و الوفاق.
و هنا يعالج الإسلام هذه الحالة المتوترة و الجو المكفهر المحموم بحكمة و تدرج بالغين،فهو«لا يسرع إلي رباط الزوجية المقدس فيفصمه لأول وهلة، و لأول بادرة من خلاف،انه يشد علي هذا الرباط بقوة،و يستمسك به في استماتة،فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة و اليأس.
انه يهتف بالرجال وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ،فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ،فَعَسي أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (النساء:19)،فيميل بهم إلي التريث و المصابرة حتي في حالة الكراهية.
فإن تجاوز الأمر مسألة الكره و الحب،إلي النشوز و النفور،فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام،بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون و توفيق يحاوله الخيّرون وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما،فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ،وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها،إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما.إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (النساء:35) وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً،فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً،وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ (النساء:128).فإن لم تجد هذه الوساطة فالأمر إذن جدّ،و هناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة،و إمساك الزوجين علي هذا الوضع محاولة فاشلة،و يزيدها الضغط فشلا.و من الحكمة التسليم بالواقع و إنهاء هذه الحياة-علي كره من الإسلام-فإن أبغض الحلال إلي اللّه الطلاق.
و لعل هذه التفرقة تثير في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة فكثيرا ما نري حسنات الشيء عند ما نحرمه،و الفرصة لم تضع، اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ، فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ (البقرة:229)و هناك فترة العدة في حال الدخول بالزوجة،و عليه أن ينفق عليها في هذه الفترة و لا يقتر.و في خلالها يجوز له-إن كان قد ندم-أن يراجع زوجه،و أن يستأنفا حياتهما بلا أي إجراء جديد.
فإن تركت مدة العدة تمضي دون مراجعة،ففي استطاعتهما أن يستأنفا هذه الحياة متي رغبا.و لكن بعقد جديد.
ص: 296
و تلك هي التجربة الأولي و هي تكشف لكلا الزوجين عن حقيقة عواطفهما،و عن جدية الأسباب التي انفصلا بسببها،فإذا تكررت هذه الأسباب،أو جدّ سواها،و اندفع الزوج إلي الطلاق مرة أخري،فعندئذ لا تبقي سوي فرصة واحدة،هي الثالثة.
فإذا كانت الثالثة،فالعلة إذن عميقة و المحاولة غير مجدية،و من الخير له و لها أن يجرب كل منهما طريقه،و من الخير كذلك أن يتلقي الزوج-إن كان عابثا-نتيجة عبثه أو تسرعه فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (البقرة:230) (1).
فما ذا ينقم الثرثارون علي الإسلام بتشريع الطلاق؟أ يريدون إلغاءه و تحريمه،لتشيع المآسي في المجتمع الإسلامي،التي عاشتها الأمم الكاثوليكية، التي حرمت الطلاق و حرمت تعدد الزوجات،مما اضطرهم إلي اتخاذ العشيقات و الأخدان،و تعسف مسالك الغواية و الآثام الخلقية؟
الأقرباء:هم الأسرة التي ينتمي إليها الإنسان،و الدوحة التي تفرع منها و هم ألصق الناس نسبا به،و أشدهم عطفا عليه،و أسرعهم إلي نجدته و مواساته.
و قد وصفهم أمير المؤمنين(ع)فقال:«يا أيها الناس أنه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته؟و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم،و هم أعظم الناس حيطة من ورائه،و ألّمهم لشعثه،و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به» (2).
********
(1) نقل بتصرف و اختصار عن كتاب السّلام العالمي،لسيد قطب ص 64-67.
(2) نهج البلاغة.
ص: 297
و أفضل الأقرباء و أجدرهم بالإعجاب و الثناءهم:المتحابون المتعاطفون المتآزرون علي تحقيق أهدافهم و مصالحهم.
و كلما استشعر الأرحام و تبادلوا مشاعر التضامن و التعاطف كانوا أعز قدرا، و أمنع جانبا،و أشد قوة علي مجابهة الأعداء و معاناة الشدائد و الأزمات.
من أجل ذلك أولت الشريعة الإسلامية شؤون الأسرة عناية بالغة، و رعتها بالتنظيم و التوجيه لمكانتها الاجتماعية و أثرها في إصلاح المجتمع الإسلامي و ازدهار حياته.
و في طليعة المباديء الخلقية التي فرضتها الشريعة و أكدت عليها صلة الأرحام،و هم(المتحدون في النسب)و إن تباعدت أواصر القربي بينهم و ذلك بالتودد إليهم و العطف عليهم و إسداء العون المادي لهم و دفع المكاره و الشرور عنهم و مواساتهم في الأفراح و الأحزان.
و إليك طرفا من نصوص أهل البيت(ع)في صلة الأرحام و رعايتهم:
عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):
«أوصي الشاهد من أمتي و الغائب منهم و من في أصلاب الرجال و أرحام النساء إلي يوم القيامة أن يصل الرحم و إن كان منه علي مسيرة سنة فإنّ ذلك من الدين» (1).
و عن علي بن الحسين(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):-
«من سره أن يمد اللّه في عمره،و أن يبسط في رزقه،فليصل رحمه،فإنّ الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول:يا رب صل من وصلني و اقطع من قطعني» (2).
********
(1) الوافي ج 3 ص 93 عن الكافي.
(2) البحار،كتاب العشرة ص 27 عن عيون أخبار الرضا و صحيفة الرضا(ع).
ص: 298
و عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه(ص):-
«من ضمن لي واحدة ضمنت له أربعة:يصل رحمه،فيحبه اللّه تعالي، و يوسع عليه رزقه،و يزيد في عمره،و يدخله الجنة التي وعده» (1).
و قال أبو عبد اللّه(ع):«ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم، حتي أنّ الرجل يكون أجله ثلاث سنين،فيكون وصولا للرحم،فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا و ثلاثين سنة فيكون قاطعا للرحم فينقصه اللّه تعالي ثلاثين سنة،و يجعل أجله إلي ثلاث سنين» (2).
و قال(ع):
«صل رحمك و لو بشربة من ماء،و أفضل ما يوصل به الرحم كف الأذي عنها.و صلة الرحم منسأة في الأجل محبة في الأهل» (3).
و قال(ع):-
«إن صلة الرحم و البر ليهونان الحساب،و يعصمان من الذنوب،فصلوا أرحامكم،و برّوا بأخوانكم و لو بحسن السّلام و ردّ الجواب» (4).
و قال أبو جعفر(ع):-
«صلة الأرحام تزّكي الأعمال،و تنمي الأموال،و تدفع البلوي،و تيسر الحساب،و تنسيء في الأجل» (5).
و عن أبي عبد اللّه(ع):«أن رجلا أتي النبي(ص)فقال:يا رسول اللّه أهل بيتي أبوا إلا توثبا عليّ و قطيعة لي و شتيمة فأرفضهم؟
قال(ص):إذا يرفضكم اللّه جميعا.
قال:فكيف أصنع؟
********
(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
ص: 299
قال(ص):تصل من قطعك،و تعطي من حرمك،و تعفو عمن ظلمك، فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من اللّه عليهم ظهيرا» (1).
و قد أحسن بعض الشعراء المتقدمين حيث قال:
و إن الذي بيني و بين بني أبي و بين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
و إن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم و إن هم هووا عني هويت لهم رشدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنيّ و إن قلّ مالي لم أكلفهم رفدا
و لا غرابة أن نلمس في هذه النصوص قوة التركيز و التأكيد علي صلة الرحم،و ذلك لما تنطوي عليه من جليل الخصائص و المنافع.
فالأسرة الرحمية تضم عناصر و أفرادا متفاوتين حالا و أقدارا،فيهم الغني و الفقير،و القوي و الضعيف،و الوجيه و الخامل،و هي بأسرها فردا و جماعة لا تستطيع أن تنال أماني العزة و المنعة و الرخاء،و تجابه مشاكل الحياة و مناوأة الأعداء بجلد و ثبات إلا بالتضامن و التعاطف اللذين يشدان أزرها و يجعلانها جبهة متراصة لا تزعزعها أعاصير المشاكل و الأحداث،و لا يستطيع مكابدتها الأعداء و الحساد.
و قد جسد أكثم بن صيفي هذا الواقع في حكمته الشهيرة حيث:
«دعي أبناءه عند موته،فاستدعي أضمامة من السهام،فتقدم إلي كل واحد منهم أن يكسرها فلم يقدر أحد علي كسرها.
ثم بددها فتقدم إليهم أن يكسروها فاستسهلوا كسرها،فقال:
كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم عن كسرها مجتمعة،فإنكم إن تفرقتم سهل كسركم و أنشد:
كونوا جميعا يا بني إذا اعتري خطب و لا تتفرقوا آحادا
********
(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
ص: 300
تأبي القداح إذا اجتمعن تكسرا و إذا افترقن تكسرت أفرادا
هذا إلي ما في صلة الرحم من جليل الخصائص و الآثار التي أوضحتها النصوص السالفة.
فهي:
مدعاة لحب الأقرباء و عطفهم و إيثارهم و موجبة لطيلة العمر،و وفرة المال، و زكاة الأعمال الصالحة و نحوها في الرصيد الأخروي،و منجاة من صروف الأقدار و البلايا.
و هي:
فعل ما يسخط الرحم و يؤذيه قولا أو فعلا،كسبّه و اغتيابه و هجره و قطع الصلات المادية و حرمانه من مشاعر العطف و الحنان.
و تعتبر الشريعة الإسلامية قطيعة الرحم جرما كبيرا و إثما ماحقا توعد عليها الكتاب و السنة.
قال تعالي: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (محمد:22).
و قال سبحانه: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ،وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ،وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (البقرة:27).
و قال رسول اللّه(ص):«أربعة أسرع شيء عقوبة:رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إساءة،و رجل لا تبغي عليه و هو يبغي عليك،و رجل عاهدته علي أمر فوفيت له و غدر بك،و رجل و صل قرابته فقطعوه» (1).
و عن أبي جعفر(ع)قال:في كتاب علي(ع)«ثلاث خصال لا يموت
********
(1) الوافي ج 47 من وصية النبي(ص)لعلي(ع).
ص: 301
صاحبهن أبدا حتي يري و بالهن:البغي،و قطيعة الرحم،و اليمين الكاذبة يبارز اللّه بها.
و إن أعجل الطاعات ثوابا لصلة الرحم،و إن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنموا أموالهم و يثرون،و إن اليمين الكاذبة و قطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها،و تثقل الرحم،و إن ثقل الرحم انقطاع النسل» (1).
و عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قلت له:
«إن أخوتي و بني عمي قد ضيقوا عليّ الدار و ألجأوني منها إلي بيت و لو تكلمت أخذت ما في أيديهم.
قال:فقال لي:اصبر فإن اللّه سيجعل لك فرجا.
قال:فانصرفت،و وقع الوباء سنة(131 ه)فماتوا و اللّه كلهم فما بقي منهم أحد.
قال:فخرجت فلما دخلت عليه قال:
ما حال أهل بيتك؟
قال:قلت:قد ماتوا و اللّه كلهم فما بقي منهم أحد.
فقال:هو بما صنعوا بك و بعقوقهم إياك و قطع رحمهم بتروا،أ تحب أنهم بقوا و أنهم ضيقوا عليك،قال:قلت أي و اللّه» (2).
و في خبر شعيب العقرقوفي في دخول يعقوب المغزلي علي موسي بن جعفر (ع)و قوله(ع)له:يا يعقوب قدمت أمس و وقع بينك و بين أخيك شرفي موضع كذا و كذا حتي شتم بعضكم بعضا،و ليس هذا ديني و لا دين آبائي و لا نأمر بهذا أحدا من الناس،فاتق اللّه وحده لا شريك له،فإنكما ستفترقان بموت،أما إن أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلي أهله،و ستندم أنت علي ما كان منك، و ذلك أنكما تقاطعتما فبتر اللّه أعماركما.
********
(1) الوافي ج 3 ص 156 عن الكافي.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي.
ص: 302
فقال له الرجل:فأنا جعلت فداك متي أجلي؟
فقال(ع):أما إن أجلك قد حضر،حتي وصلت عمتك بما وصلتها به في منزل كذا و كذا فزيد في أجلك عشرون.
قال شعيب:فأخبرني الرجل و لقيته حاجا أن أخاه لم يصل إلي أهله حتي دفنه في الطريق» (1).
و نستنتج من هذه النصوص أن لقطيعة الرحم مغبة سيئة و آثارا خطيرة تنذر القاطع و تعاجله بالفناء،و قصف الأعمار،و محق الديار،و الخسران المبين في دينه و دنياه.
الإنسان مدني بالطبع،لا يستطيع اعتزال الناس و الانفراد عنهم،لأن اعتزالهم باعث علي استشعار الغربة و الوحشة و الإحساس بالوهن و الخذلان إزاء طواريء الأحداث و ملمات الزمان.
من أجل ذلك كان الإنسان توّاقا إلي اتخاذ الخلان و الأصدقاء،ليكونوا له سندا و سلوانا،يسرون عنه الهموم و يخففون عنه المتاعب،و يشاطرونه السراء و الضراء.
و قد تضافرت دلائل العقل و النقل علي فضل الأصدقاء و الترغيب فيهم، و إليك طرفا منها:
قال أمير المؤمنين(ع)في حديث له:«عليك بأخوان الصدق،فأكثر من اكتسابهم،فإنهم عدة عند الرخاء،و جنة عند البلاء» (2).
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي.
(2) البحار كتاب العشرة ص 51 عن أمالي الشيخ الصدوق.
ص: 303
و قال الصادق(ع):«لقد عظمت منزلة الصديق حتي أن أهل النار يستغيثون به و يدعونه قبل القريب الحميم».
قال اللّه سبحانه مخبرا عنهم: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (1)(الشعراء:100-101).
و قال بعض الحكماء:
إن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا،زينة في الرخاء،و عدة في الشدة،و معونة علي خير المعاش و المعاد.
و قيل لحكيم:أيما أحب إليك،أخوك أم صديقك؟
فقال:إنما أحب أخي إذا كان صديقا لي.
قد يحسب الناس أن الصديق هو من يحسن مجاملتهم و يظهر البشاشة و التودد إليهم،و يعتبرونه خلا وفيا و صديقا حميما،فإذا اختبروه في واقعة أسفر عن صديق مزيف،و خل مخادع عاطل من خلال الصداقة الحقة و واقعها الأصيل.
و من هنا كثرت شكايات الأدباء قديما و حديثا من تنكر الأصدقاء و جفائهم و خذلانهم رغم ما يكنونه لهم من حب و إخلاص.
و أغلب الظن أن سبب تلك المأساة أمران:
الأول:الجهل بواقع الصداقة و الأصدقاء و عدم التمييز بين خصائص و خلال الواقعيين من المزيفين منهم.
الثاني:اتصاف أغلب الأصدقاء بنقاط الضعف الشائعة في الأوساط الاجتماعية من التلون و الخداع و عدم الوفاء التي سرعان ما يكشفهما محك الاختبار.و قد أوضح أمير المؤمنين(ع)واقع الأصدقاء و ابعاد صداقتهم فيما رواه أبو جعفر الباقر(ع)فقال:
********
(1) البحار كتاب العشرة ص 51 عن أمالي ابن الشيخ الطوسي.
ص: 304
«قام رجل بالبصرة إلي أمير المؤمنين(ع)فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الأخوان.
فقال(ع):الأخوان صنفان:أخوان الثقة،و أخوان المكاشرة.
فأما أخوان الثقة:فهم الكف و الجناح،و الأهل و المال،فإذا كنت من أخيك علي حد الثقة،فابذل له مالك،و بدنك،و صاف من صافاه و عاد من عاداه،و اكتم سره و عيبه،و اظهر منه الحسن،و اعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر.
و أما أخوان المكاشرة:فإنك تصيب لذتك منهم،فلا تقطعن ذلك منهم، و لا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم،و ابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه،و حلاوة اللسان» (1).
و قال الصادق(ع):«لا تكون الصداقة إلا بحدودها،فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلي الصداقة،و من لم يكن فيه شيء منها،فلا تنسبه إلي شيء من الصداقة:
فأولها:أن تكون سريرته و علانيته لك واحدة.
و الثانية:أن يري زينك زينه و شينك شينه.
و الثالثة:أن لا تغيره عليك ولاية و لا مال.
و الرابعة:أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته.
و الخامسة:و هي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات» (2).
و قال بعض الحكماء:المودات ثلاث:
مودة في اللّه عز و جل لغير رغبة و لا رهبة،فهي التي لا يشوبها غدر و لا خيانة.
و مودة مقارنة و معاشرة،و مودة رغبة أو رهبة.
و هي:شر المودات،و أسرعها انتقاضا.
********
(1) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي.
ص: 305
و قال مهيار الديلمي:
ما أنا من صبغة أيامكم و لا الذي ان قلبوه انقلبا
و لا ابن وجهين ألّم حاضرا من الصديق و ألوم الغيبا
قلبي للأخوان شطوا أو دنوا و للهوي ساعف دهر أو نبا
من عاذري من متلاش كلما أذنب يوما و عذرت أذنبا
يضحك في وجهي ملء فمه و إن أغب و ذكر اسمي قطبا
يطير لي حمامة فإن رأي خصاصة دب ورائي عقربا
ما أكثر الناس و ما أقلهم و ما أقل في القليل النجبا
للصديق أثر بالغ في حياة صديقه و تكييفه فكريا و أخلاقيا،لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثر و الانفعال بالقرناء و الأخلاء،ما يحفزه علي محاكاتهم و الاقتباس من طباعهم و نزعاتهم.
من أجل ذلك كان التجاوب قويا بين الأصدقاء،و كانت صفاتهم سريعة العدوي و الانتقال،تنشر مفاهيم الخير.و الصلاح تارة،و مفاهيم الشر و الفساد أخري،تبعا لخصائصهم و طبائعهم الكريمة أو الذميمة،و إن كانت عدوي الرذائل أسرع انتقالا و أكثر شيوعا من عدوي الفضائل.
فالصديق الصالح:رائد خير،و داعية هدي،يهدي إلي الرشد و الصلاح.
و الصديق الفاسد:رائد شر،و داعية ضلال،يقود إلي الغي و الفساد.
و كم انحرف أشخاص كانوا مثاليين هديا و سلوكا،و ضلوا في متاهات الغواية و الفساد،لتأثرهم بالقرناء و الأخلاّء المنحرفين.
و هذا ما يحتم علي كل عاقل أن يتحفظ في اختيار الأصدقاء،و يصطفي منهم من تحلي بالخلق المرضي و السمعة الطيبة و السلوك الحميد.
و أهم تلك الخلال و ألزمها فيه هي:
ص: 306
1-أن يكون عاقلا لبيبا مبرءا من الحمق.فإن الأحمق ذميم العشرة مقيت الصحبة،مجحف بالصديق،و ربما أراد نفعه فأضره و أساء إليه لسوء تصرفه و فرط حماقته،كما وصفه أمير المؤمنين(ع)في حديث له فقال:
«و أما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير و لا يرجي لصرف السوء عنك و لو أجهد نفسه،و ربما أراد منفعتك فضرك،فموته خير من حياته و سكوته خير من نطقه،و بعده خير من قربه» (1).
2-أن يكون الصديق متحليا بالإيمان و الصلاح و حسن الخلق،فإن لم يتحل بذلك كان تافها منحرفا يوشك أن يغوي أخلاءه بضلاله و انحرافه.
انظر كيف يصور القرآن ندم النادمين علي مخادنة الغاوين و المضللين و أسفهم و لوعتهم علي ذلك:
وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلي يَدَيْهِ يَقُولُ:يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يا وَيْلَتي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (الفرقان:27-29).
و عن الصادق(ع)عن آبائه قال:قال رسول اللّه(ص):
«المرء علي دين خليله،فلينظر أحدكم من يخالل» (2).
و عن أبي جعفر(ع)عن أبيه عن جده(ع)قال:
قال أمير المؤمنين(ع):«مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، و مجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار،و مجالسة الأبرار للفجار تلحق الأبرار بالفجار،فمن اشتبه عليكم أمره،و لم تعرفوا دينه،فانظروا إلي خلطائه،فإن كانوا أهل دين اللّه،فهو علي دين اللّه،و إن كانوا علي غير دين اللّه فلا حظ له من دين اللّه،ان رسول اللّه(ص)كان يقول:
«من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يواخين كافرا،و لا يخالطن فاجرا،
********
(1) البحار.كتاب العشرة.ص 56 عن الكافي.
(2) البحار.كتاب العشرة.ص 52 عن أمالي أبي علي بن الشيخ الطوسي.
ص: 307
و من آخي كافرا،أو خالط فاجرا كان كافرا فاجرا» (1).
و هكذا يحذر أهل البيت عليهم السّلام من مخادنة أنماط من الرجال اتسموا بأخلاق ذميمة و سجايا هابطة باعثة علي النفرة و سوء الخلة.
و عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال:قال لي أبي علي بن الحسين (ع):
«يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم،و لا تحادثهم،و لا ترافقهم،فقلت:يا ابه من هم عرفنيهم.قال:
إياك و مصاحبة الكذّاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد و يبعد لك القريب.
و إياك و مصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.
و إياك و مصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.
و إياك و مصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
و إياك و مصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب اللّه عز و جل في ثلاث مواضع...الخبر» (2).
و قال أبو العتاهية:
أصحب ذو العقل و أهل الدين فالمرء منسوب إلي القرين
و قال أبو نؤاس:
و لقد نهزت مع الغواة بدلوهم و اسمت سرح اللهو حيث أساموا
و بلغت ما بلغ امرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام
3-أن يكون بين الصديقين تجاوب عاطفي و رغبة متبادلة في الحب و المؤاخاة،فذلك أثبت للمودة و أوثق لعري الإخاء،فإن تلاشت في أحدهما نوازع الحب و الخلة وهت علاقة الصداقة و غدا المجفو منها الحريص علي توثيقها
********
(1) البحار.كتاب العشرة.ص 53 عن كتاب صفات الشيعة للصدوق.
(2) الوافي ج 3 ص 105 عن الكافي.
ص: 308
عرضة للنقد و الازدراء.
قال أمير المؤمنين(ع):«زهدك في راغب فيك نقصان عقل(حظ) و رغبتك في زاهد فيك ذل نفس» (1).
و قال الشهيد الأول رحمه اللّه:
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا و إن كثرت أوصافه و نعوته
و من صدّ عنا حسبه الصدّ و القلا و من فاتنا يكفيه أنّا نفوته
و قال الطغرائي:
جامل أخاك إذا استربت بودّه و انظر به عقب الزمان العائد
فإن استمر به الفساد فخلّه فالعضو يقطع للفساد الزائد
و قد تلتبس مظاهر الحب في الاخلاء خاصة و الناس عامة،و تخفي سماته و علائمه،و يغدو المرء آنذاك في شك و ارتياب من ودّهم أو قلاهم،و قد وضع أهل البيت عليهم السّلام مقاييس نفسية تستكشف دخائل الحب و البغض في النفوس و تجلوا أسرارها الخفية.
قال الراوي:سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّه(ع)فقال:الرجل يقول أودك،فكيف أعلم أنه يودني؟
فقال(ع):امتحن قلبك،فإن كنت توده فإنه يودك» (2).
و قال(ع)في موطن آخر:
«انظر قلبك،فإن أنكر صاحبك،فاعلم أنه أحدث» (3)يعني قد أحدث ما يوجب النفرة و ضعف المودة.
و عن أبي جعفر(ع)قال:
********
(1) نهج البلاغة.
(2) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي.
ص: 309
«لما احتضر أمير المؤمنين(ع)جمع بنيه،حسنا و حسينا و ابن الحنفية و الأصاغر فوصّاهم،و كان في آخر وصيته:-يا بنيّ عاشروا الناس عشرة،إن غبتم حنّوا إليكم،و إن فقدتم بكوا عليكم،يا بنيّ إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة،و تتناجي بها،و كذلك هي في البغض،فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه،و إذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه» (1).
اختلف العقلاء في أيّهما أرجح و أفضل،الإكثار من الأصدقاء أو الإقلال منهم.
ففضل بعضهم الإكثار منهم و التوفر عليهم،لما يؤمل فيهم من جمال المؤانسة و حسن المؤازرة و التأييد.
و رجح آخرون الإقلال منهم،لما ينجم عن استكثارهم من ضروب المشاكل المؤدية إلي التباغض و العداء،كما قال ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإنّ الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
و الحق أنّ قيم الأصدقاء ليست منوطة بالقلة أو الكثرة،و إنما هي فيما يتحلون به من صفات النبل و الإخلاص و الوفاء،التي لا تجتمع إلاّ في المثاليين منهم،و هم فئة قليلة نادرة تتألق في دنيا الأصدقاء تألق اللآليء بين الحصا.
و صديق مخلص و فيّ خير من ألف صديق عديم الإخلاص و الوفاء،كما قال الإسكندر:المستكثر من الأخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، و المقلّ من الأخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر.
و بعد أن أوضح أهل البيت عليهم السّلام فضل الأصدقاء الأوفياء،
********
(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
ص: 310
رسموا لهم سياسة و آدابا و قرروا حقوق بعضهم علي بعض،ليوثقوا أواصر الصداقة بين المؤمنين،و من ثم لتكون باعثا علي تعاطفهم و تساندهم.و إليك طرفا من تلك الحقوق:
قد يقع الصديق في أزمة اقتصادية خانقة،و يعاني مرارة الفاقة و الحرمان و يغدو بأمّس الحاجة إلي النجدة و الرعاية المادية،فمن حقه علي أصدقائه النبلاء أن ينبروا لإسعافه،و التخفيف من أزمته بما تجود به أريحيتهم و سخاؤهم،و ذلك من ألزم حقوق الأصدقاء و أبرز سمات النبل و الوفاء فيهم، و قد مدح اللّه أقواما تحلوا بالإيثار و حسن المواساة فقال تعالي:
وَ يُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (الحشر:9).
و قال الإمام موسي بن جعفر(ع)لرجل من خاصته:
«يا عاصم كيف أنتم في التواصل و التواسي؟
قلت:علي أفضل ما كان عليه أحد.
قال(ع):أ يأتي أحدكم إلي دكان أخيه أو منزله عند الضائقة فيستخرج كيسه و يأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه؟قال:لا.
قال(ع):«فلستم علي ما أحب في التواصل» (1).
و عن أبي إسماعيل قال:قلت لأبي جعفر(ع):«جعلت فداك،إن الشيعة عندنا كثير،فقال(ع):
فهل يعطف الغني علي الفقير؟و هل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ و يتواسون.فقلت:لا.
فقال عليه السّلام:
ليس هؤلاء شيعة،الشيعة من يفعل هذا» (2).
********
(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.
(2) البحار كتاب العشرة ص 71 عن الكافي.
ص: 311
و قال أبو تمام:
أولي البرية حقا أن تراعيه عند السرور الذي أساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
و قال الواقدي:
كان لي صديقان:أحدهما هاشمي،و كنا كنفس واحدة،فنالتني ضيقة شديدة و حضر العيد،فقالت امرأتي:أما نحن في أنفسنا فنصبر علي البؤس و الشدة،و أما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم،لأنهم يرون صبيان الجيران و قد تزينوا في عيدهم،و أصلحوا ثيابهم،و هم علي هذه الحال من الثياب الرثّة!فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم!فكتبت إلي صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ،فوجه إليّ كيسا مختوما،ذكر أن فيه ألف درهم،فما استقر قراري حتي كتب إليّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلي صاحبي،فوجهت إليه الكيس بحاله،و خرجت إلي المسجد فأقمت فيه ليلي مستحيا من امرأتي.
فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني،و لم تعنفني عليه.
فبينما أنا كذلك إذ وافي صديقي الهاشمي و معه الكيس كهيئته،فقال لي:
أصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك؟
فعرفته الخبر علي وجهه،فقال:إنك وجهت إلي و ما أملك علي الأرض إلا ما بعثت به إليك،و كتبت إلي صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيسي! فتواسينا الألف أثلاثا!
ثم نمي الخبر إلي المأمون فدعاني،فشرحت له الخبر،فأمر لنا بسبعة آلاف دينار،لكل واحد ألفا دينار و للمرأة ألف دينار! (1)
و هكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد و الارزاء ما تسبب إرهاقه و بلبلة حياته،و يغدو آنذاك مفتقرا إلي النجدة و المساندة لإغاثته و تفريج كربه.
********
(1) قصص العرب ج 1 ص 290.
ص: 312
فحقيق علي أصدقائه الأوفياء أن يسارعوا إلي نصرته و الذب عنه،لسانا و جاها،لإنقاذه من أعاصير الشدائد و الأزمات،و مواساته في ظرفه الحالك.
هذا هو مقياس الحب الصادق و العلامة الفارقة بين الصديق المخلص من المزيف.
قال أمير المؤمنين(ع):
«لا يكون الصديق صديقا حتي يحفظ أخاه في ثلاث:في نكبته،و غيبته، و وفاته» (1).
و قال الشريف الرضي:
يعرّفك الأخوان كل بنفسه و خير أخ من عرّفتك الشدائد
***
و الأصدقاء مهما حسنت أخلاقهم،و قوت علائق الودّ بينهم فإنهم عرضة للخطأ و التقصير،لعدم عصمتهم عن ذلك.فإذا ما بدرت من أحدهم هناة و هفوة في قول أو فعل،كخلف وعد،أو كلمة جارحة أو تخلف عن مواساة في فرح أو حزن و نحو ذلك من صور التقصير.
فعلي الصديق إذا ما كان واثقا بحبهم و إخلاصهم أن يتغاصي عن إساءتهم و يصفح عن زللهم حرصا علي صداقتهم و استبقاءا لودّهم،إذ المبالغة في نقدهم و ملاحاتهم،باعثة علي نفرتهم و الحرمان منهم.
و من ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفي المرء نبلا أن تعدّ معائبه
انظر كيف يوصي أمير المؤمنين(ع)ابنه الحسن(ع)بمداراة الصديق المخلص و التسامح معه و الحفاظ عليه:
«احمل نفسك من أخيك عند صرفه علي الصلة،و عند صدوده علي اللطف و المقاربة،و عند جموده علي البذل،و عند تباعده علي الدنو،و عند شدته
********
(1) نهج البلاغة.
ص: 313
علي اللين،و عند جرمه علي العذر،حتي كأنك له عبد،و كأنه ذو نعمة عليك.
و إياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله،لا تتخذّن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك،و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة،و تجرع الغيظ.فإني لم أر جرعة أحلي منها عاقبة و لا ألذّ مغبّة،و لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك،و خذ علي عدوك بالفضل فإنه أحلي الظفرين، و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما،و من ظن بك خيرا فصدق ظنّه.و لا تضيعن حق أخيك اتكالا علي ما بينك و بينه.فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه» (1).
و قال الإمام الحسن(ع)لبعض ولده:
«يا بني لا تواخي أحدا حتي تعرف موارده و مصادره،فإذا استبطنت الخبرة و رضيت العشرة فآخه علي إقالة العثرة،و المواساة في العشرة» (2).
و قال أبو فراس الحمداني:
لم أواخذك بالجفاء لأني واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل و قبيح الصديق غير قبيح
و قال بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة و مجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا علي القذي ظمئت و أي الناس تصفو مشاربه
و قال ابو العلاء المعري:
من عاش غير مداج من يعاشره أساء عشرة أصحاب و أخدان
كم صاحب يتمني لو نعيت له و إن تشكيت راعاني و فدّاني
و من أروع صور مداراة الأصدقاء و أجملها وقعا في النفوس:الإعضاء عن
********
(1) نهج البلاغة.في وصيته لابنه الحسن(ع).
(2) تحف العقول.
ص: 314
إساءتهم و الصفح عن مسيئهم.
و لذلك مظاهر و أساليب رائعة:
1-أن يتناسي الصديق الإساءة و يتجاهلها ثقة بصديقه،و حسن ظن به، و اعتزازا بإخائه،و هذا ما يبعث المسيء علي إكبار صديقه و ودّه و الحرص علي صداقته.
2-أن يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه،دونما تشدد أو تعنت في قبولها.فذلك من سمات كرم الأخلاق و طهارة الضمير و الوجدان.
3-أن يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق،استجلابا لودّه،فترك العتاب قد يشعر بإغفاله و عدم الاكتراث به،أو يوهمه بحنق الصديق عليه و إضمار الكيد له.
و لكن العتاب لا يجدي نفعا و لا يستميل الصديق إلا إذا كان عاطفيا رقيقا كاشفا عن حب العاتب و رغبته في استعطاف صديقه و إستدامة وده.إذ العشرة فيه و الإفراط منه يحدثان رد فعل سيء يضاعف نفار الصديق و يفصم عري الود و الإخاء.
لذلك حثت الشريعة الإسلامية علي الصفح و التسامح عن المسيء و حسن مداراة الأصدقاء خاصة و الناس عامة.
قال تعالي: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ،وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ،وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران:159).
و قال سبحانه: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا،وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (حم السجدة:34-35).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):«أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» (1).
********
(1) الوافي.ج 3 ص 86 عن الكافي.
ص: 315
و قال(ص):«أعقل الناس أشدهم مداراة للناس» (1).
و الجدير بالذكر أن من أقوي عوامل ازدهار الصداقة و توثيق أواصر الحب و الإخلاص بين الأصدقاء،هو أن يتفادي كل منهم جهده عن تصديق النمامين و الوشاة المغرمين بغرس بذور البغضاء و الفرقة بين الأحباب و تفريق شملهم، و فصم عري الإخاء بينهم.و هؤلاء هم شرار الخلق كما وصفهم رسول اللّه(ص) حيث قال:
«أ لا أنبئكم بشراركم؟قالوا:بلي يا رسول اللّه.قال:المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة،الباغون للبراء المعايب» (2).
***
و من الحكمة أن يكون العاقل معتدلا في محبة الأصدقاء و الثقة بهم و الركون إليهم دون إسراف أو مغالاة،فلا يصح الإفراط في الاطمئنان إليهم و اطلاعهم علي ما يخشي إفشاءه من أسراره و خفاياه.
فقد يرتد الصديق و يغدو عدوا لدودا،فيكون آنذاك أشد خطرا و أعظم ضررا من الخصوم و الأعداء.
و قد حذرت وصايا أهل البيت عليهم السّلام و أقوال الحكماء و الأدباء نظما و نثرا من ذلك:
قال أمير المؤمنين(ع):«أحبب حبيبك هونا ما،عسي أن يكون بغيضك يوما ما،و ابغض بغيضك هونا ما،عسي أن يكون حبيبك يوما ما» (3).
و قال الصادق(ع)لبعض أصحابه:
«لا تطلع صديقك من سرك إلا علي ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك فإن
********
(1) معاني الأخبار للصدوق.
(2) البحار كتاب العشرة ص 191 عن الكافي.
(3) نهج البلاغة.
ص: 316
الصديق قد يكون عدوك يوما ما» (1).
قال المعري:
خف من توّد كما تخاف معاديا و تمار فيمن ليس فيه تمار
فالرزء يبعثه القريب و ما دري مضر بما تجني يدا أنمار
و قال أبو العتاهية:
ليخل امرؤ دون الثقات بنفسه فما كل موثوق به ناصح الحب
لقد جهد الإسلام في حث المسلمين و ترغيبهم في التآزر و التعاطف، ليجعلهم أمة مثالية في اتحادها و تعاضدها علي تحقيق أهدافها،و دفع الأزمات و الأخطار عنها.
و دأب علي غرس تلك المفاهيم السامية في نفوس المسلمين ليزدادوا قوة و منعة و تجاوبا في أحاسيس الود و مشاعر الإخاء.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ،وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَي الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الفتح:29).
وَ تَعاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَ التَّقْوي،وَ لا تَعاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ (المائدة:2).
و كان من ذلك تحريض المسلمين علي حسن الجوار و رعاية الجار،لينشيء من المتجاورين جماعة متراصة متعاطفة تتبادل اللطف و الإحسان،و تتعاون علي كسب المنافع و دريء المضار،ليستشعروا بذلك الدعة و الرخاء و القوة علي معاناة المشاكل و الأحداث.
و لقد أوصي القرآن الكريم برعاية الجار و الإحسان إليه فقال:
وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبي
********
(1) البحار،كتاب العشرة ص 49 عن أمالي الصدوق.
ص: 317
وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبي،وَ الْجارِ الْجُنُبِ،وَ الصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (النساء:36).
و المراد-بالجار ذي القربي-الجار القريب دارا أو نسبا-و الجار الجنب-هو البعيد جوارا أو نسبا.
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«قال رسول اللّه(ص):كل أربعين دارا جيران من بين يديه و من خلفه،و عن يمينه و عن شماله» (1).
و-الصاحب بالجنب-الرفيق في السفر،أو الزميل في التعلم،أو في الحرفة.
و-ابن السبيل-المسافر أو الضيف.
-و ما ملكت أيمانكم-الأهل و الخدم.
و ناهيك في حرمة الجار و ضرورة رعايته قول النبي(ص)فيه:«ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه» (2).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):
«حسن الجوار يعمر الديار،و ينسيء في الأعمار» (3).
و قال الصادق(ع):«ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره» (4).
و عن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع،و ما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة» (5).
و قال الصادق(ع):«إن يعقوب لما ذهب منه بنيامين نادي يا رب أما ترحمني،أذهبت عيني،و أذهبت ابني.فأوحي اللّه تعالي إليه:لو أمتهما لأحييتهما لك حتي أجمع بينك و بينهما،و لكن تذكر الشاة التي ذبحتها و شويتها و أكلت،
********
(1) الوافي،ج 3 ص 97 عن الكافي.
(2) الوافي،ج 3 ص 96 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
ص: 318
و فلان إلي جانبك صائم لم تنله منها شيئا» (1).
و في رواية أخري قال:«و كان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة من منزله علي فرسخ،ألا من أراد الغداء فليأت إلي يعقوب.و إذا أمسي نادي:ألا من أراد العشاء فليأت إلي يعقوب» (2).
و خلاصتها أن يساس الجار باللطف و حسن المداراة كابتدائه بالسلام و عيادته في المرض،و تهنئته في الأفراح،و تعزيته في المصائب،و عدم التطلع إلي حرمه،و الاغضاء عن هفواته،و كف الأذي عنه،و إعانته ماديا إذا كان معوزا، و إعارة ما يستعيره من الأدوات المنزلية،و نصحه إذا ما زاغ و انحرف عن الخط المستقيم.
و من طريف ما يحكي في حسن الجوار:
«إن رجلا كان جارا لأبي دلف ببغداد،فأدركته حاجة،و ركبه دين فادح حتي احتاج إلي بيع داره،فساوموه فيها،فسمي لهم ألف دينار،فقالوا له:إن دارك تساوي خمسمائة دينار.فقال:أبيع داري بخمسمائة،و جوار أبي دلف بخمسمائة،فبلغ أبا دلف الخبر،فأمر بقضاء دينه و وصله،و قال:لا تنتقل من جوارنا.فانظر كيف صار الجوار يباع كما تباع العقار».
كان المجتمع الإسلامي إبّان رقيه و ازدهاره،نموذجا فذا و نمطا مثاليا بين المجتمعات العالمية المتحضرة،بخصائصه الرفيعة،و مزاياه الغر التي بوأته قمم المفاخر و الأمجاد،و أنشأت من أفراده أسرة إسلامية مرصوصة الصف،خفّاقة
********
(1) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
ص: 319
اللواء،مرنهوبة الجانب،مرهوبة بالفضائل و المكرمات.
لقد كان فذا في عقيدته التي حوت أسرار التوحيد و أوضحت خصائص الألوهية و صفاتها الحقة،و جلّت واقع النبوة و الأنبياء،و فصلت حقائق المعاد، و ما يجيش به من صور النعيم و العذاب.
حوت كل ذلك،و صورته تصويرا رائعا يستهوي العقول و القلوب و يقنع الضمائر حتي باركها اللّه و اصطفاها بين العقائد و الأديان.
وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (آل عمران:85).
و كان فذا في شريعته الغراء،تلك التي تكاملت بها شرائع السماء و بلغت قمة الوحي الإلهي ما جعلها الشريعة الخالدة عبر الحياة،و الدستور الأمثل للبشرية جمعاء.
و كان فذا في أخلاقه،فقد ازدهرت في ربوعه القيم الأخلاقية و تكاملت حتي أصبحت طابعا مميزا للمسلم الحق كما وصفه الرسول الأعظم(ص)بقوله:
«المؤمن من أمنه الناس علي أموالهم و دمائهم،و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه،و المهاجر من هجر السيئات» (1).
و كان مثلا رفيعا في آدابه الاجتماعية:
قال أمير المؤمنين(ع):«يا بني اجعل نفسك ميزانا بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك،و أكره له ما تكره لها،و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم،و أحسن كما تحب أن يحسن إليك،و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك،و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك،و لا تقل ما لا تعلم،و إن قلّ ما تعلم،و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك» (2).
و كان فريدا في تآخيه:فقد أعلن مبدأ المؤاخاة و حققه بين أفراده بأسلوب
********
(1) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
(2) نهج البلاغة،من وصيته لابنه الحسن(ع).
ص: 320
لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع و المباديء إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات:10) و أصبح المجتمع أسرة واحدة تستشعر روح الإخاء،و تتجاوب في عواطفها و مشاعرها،و كان ذلك من أعظم منجزات الإسلام و فتوحاته الإصلاحية.
و كان مثاليا في أريحته و تكافله:فالمسلم معني بشؤون المجتمع و الاهتمام بمصالحه و العطف علي بؤسائه و معوزيه.
فعن أبي عبد اللّه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» (1).
و عنه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«الخلق عيال اللّه،و أحب الخلق إلي اللّه من نفع عيال اللّه،و أدخل علي بيت سرورا» (2).
للفرد قيمته و منزلته في المجتمع،بصفته لبنة في كيانه،و غصنا من أغصان دوحته،و بمقدار ما يسعد الفرد،و ينال حقوقه الاجتماعية يسعد المجتمع،و تشيع فيه دواعي الطمأنينة و الرخاء،و بشقائه و حرمانه يشقي المجتمع و تسوده عوامل البلبلة و التخلف.
لذلك كان حتما مقضيا علي المجتمع رعاية مصالح الفرد،و صيانة كرامته و منحه الحقوق الاجتماعية المشروعة،ليستشعر العزة و السكينة و الرخاء في إطار أسرته الاجتماعية،و إليك أهم تلك الحقوق:
و هو حق طبيعي مقدس يجب رعايته و صيانته،و يعتبر الإسلام هدره و الاعتداء عليه جناية نكراء و جرما عظيما يتوعد عليه بالنار: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها،وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (النساء:93).
********
(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
ص: 321
و لم يكتف الإسلام بإنذار السفاكين،و وعيدهم بالعقاب الأخروي،فقد شرع القصاص من القاتل عمدا،و الدية عليه خطأ،حماية لدماء المسلمين، و حسما لأحداث القتل و جرائمه وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة:129).
و ليس للإنسان أن يفرط في حياته و يزهقها بالانتحار،و إنما يجب عليه حفظها و صيانتها من الأضرار و المهالك وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ (البقرة:195).
و قد بالغ الإسلام في قدسية الأرواح و حمايتها،حتي حرّم قتل الجنين و إجهاضه تخلصا منه،و فرض الدية علي قاتله.
لقد شرف اللّه المؤمن و حباه بصنوف التوقير و الإعزاز،و ألوان الدعم و التأييد.فحفظ كرامته،و صان عرضه،و حرّم ماله و دمه،و ضمن حقوقه، و والي عليه ألطافه،حتي أعلن في كتابه الكريم عنايته بالمؤمن و رعايته له في الحياة العاجلة و الآجلة: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ،وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (حم السجدة:30-31).
اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْري فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ (يونس:63-64).
إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (غافر:51).
و حرّم الإسلام بعد هذا كل ما يبعث علي استهانة المؤمن و خدش كرامته و تلويث سمعته باغتيابه و التجسس عليه،و السخرية منه ليطهر المجتمع الإسلامي من عوامل التباغض و الفرقة.و ليشع في ربوعه مفاهيم العزة و الكرامة.
ص: 322
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ،إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ،وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً،أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (الحجرات:12).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسي أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسي أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ،وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ،بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (الحجرات:11).
و هكذا حرص الإسلام علي إعزاز المؤمن و حماية شرفه و كرامته حتي بعد وفاته،فجعل حرمته ميتا كحرمته حيا،و فرض علي المسلمين تجهيزه بعد الممات و تغسيله و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه،و حرم كلما يثلب كرامته كالمثلة به و نبش قبره،و استغابته و الطعن فيه.
و قد جهد الإسلام في حماية المسلمين و ضمان كرامتهم فردا و مجتمعا ماديا و أدبيا:
فشرع الحدود و الديات صيانة لأرواحهم و أموالهم و حرماتهم،و ردعا للمجرمين العابثين بأمن المجتمع و مقدراته.
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ،لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة:129).
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً،أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ (المائدة:33).
و بالغ الإسلام في عقوبة الزاني لاستهتاره بقدسية أعراض الناس، و انتهاكه صميم كرامتهم و شرفهم.
اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ،وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ (النور:2).
و قرر الحد الصارم علي السارق حسما لأجرامه و حرصا علي أمن المسلمين و اطمئنانهم.
ص: 323
وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ (المائدة:38).
و هكذا أعلن أهل البيت عليهم السّلام شرف المؤمن و عزته،و أحاطوه بهالة من التوقير و الإجلال و ألوان الحصانة و الصيانة:
فعن أبي جعفر(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر،و أكل لحمه معصية،و حرمة ماله كحرمة دمه» (1).
و عن أبي عبد اللّه(ع)قال:
قال رسول اللّه(ص):«قال اللّه عز و جل:من أهان لي وليا،فقد أرصد لمحاربتي.و ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه،و إنه ليتقرب إلي بالنافلة حتي أحبه،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به،و بصره الذي يبصر به،و لسانه الذي ينطق به،و يده التي يبطش بها،إن دعاني أجبته،و إن سألني أعطيته،و ما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت عبدي المؤمن،يكره الموت و أنا أكره مساءته» (2).
و عنه(ع)قال:
قال رسول اللّه(ص):«يا معشر من أسلم بلسانه،و لم يخلص الإيمان إلي قلبه،لا تذموا المسلمين،و لا تتبعوا عوراتهم،فإنه من يتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته،و من يتبع اللّه عورته يفضحه و لو في بيته» (3).
و عنه عليه السّلام قال:
قال رسول اللّه(ص):«من أذاع فاحشة كان كمبتدئها و من عيّر مؤمنا بشيء لم يمت حتي يركبه» (4).
********
(1) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي.
(3) البحار كتاب العشرة ص 177 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
ص: 324
و الحرية هي:انعتاق الإنسان و تحرره من أسر الرق و الطغيان،و تمتعه بحقوقه المشروعة.و هي من أقدس الحقوق و أجلها خطرا،و أبلغها أثرا في حياة الناس.
لذلك أقر الإسلام هذا الحق و حرص علي حمايته و سيادته في المجتمع الإسلامي.
و ليست الحرية كما يفهمها الأغرار هي التحلل من جميع النظم و الضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع،و إصلاحه و صيانة حقوقه و حرماته،فتلك هي حرية الغاب و الوحوش الباعثة علي فساده و تسيبه.و إنما الحرية الحقة هي:
التمتع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين و لا تجحف بهم.
و إليك طرفا من الحريات:
فمن حق المسلم أن يكون حرا طليقا في عقيدته و ممارسة عباداته،و أحكام شريعته.فلا يجوز قسره علي نبذها أو مخالفة دستورها،و يعتبر ذلك عدوانا صارخا علي أقدس الحريات،و أجلها خطرا في دنيا الإسلام و المسلمين،و علي المسلم أن يكون صلبا في عقيدته،صامدا إزاء حملات التضليل التي يشنها أعداء الإسلام،لإغواء المسلمين و إضعاف طاقاتهم و معنوياتهم.
و من حق المسلم الرشيد أن يكون حرا في تصرفاته،و ممارسة شؤون