حياة الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ، دراسة و تحليل

اشارة

حياة الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ، دراسة و تحليل

باقر شريف قرشي

دارالبلاغة - بيروت - لبنان

مشخصات: 2ج

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الأول

مقدمة الطبعة الثانية

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و اذا استعرض الباحث أي جانب من حياة الامام موسي(ع)فانه يجد تراثا نديا مشرقا يفيض بالخير و الجمال،و يحمل العطاء السمح،و التوجيه المشرق للأمة.

ان حياة الامام موسي بجميع ابعادها تتميز بالصلابة في الحق،و الصمود أمام الأحداث،و بالسلوك النير الذي لم يؤثر فيه أي انحراف أو التواء، و انما كان متسما بالتوازن،و منسجما مع سيرة الرسول الاعظم(ص)و هديه و اتجاهه،و التزامه بحرفية الاسلام.

و كان من بين تلك المظاهر الفذة التي تميزت بها شخصيته هو الصبر علي الأحداث الجسام،و المحن الشاقة التي لاقاها من طغاة عصره،فقد امعنوا في اضطهاده،و التنكيل به،و قد أصر هارون الرشيد علي ظلمه فعمد الي اعتقاله و زجه في ظلمات السجون،و بقي فيها حفنة من السنين يعاني الآلام و الخطوب و لم يؤثر عنه أنه ابدي أي تذمر أو شكوي أو جزع مما ألمّ به،و انما كان علي العكس من ذلك يبدي الشكر للّه،و يكثر من الحمد له علي تفرغه لعبادته،و انقطاعه لطاعته.

و اجمع المترجمون له أنه كان من اعظم الناس طاعة،و اكثرهم عبادة للّه فكانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود كما كانت لجده الامام زين العابدين من قبل حتي لقب بذي الثفنات،و قد بهر العقول بكثرة عبادته حينما كان في السجن،فكان يصوم نهاره،و ينفق ليله ساهرا في

ص: 7

عبادة اللّه،و قد أدلي الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته عليه السلام حينما كان سجينا في داره،و قد دلّ علي مدي تجرده عن الدنيا و اقباله علي اللّه،و سنذكره عند الحديث عن سجنه.

و قد بهر هارون بما رأه من تقوي الامام و كثرة عبادته فراح يبدي اعجابه قائلا:«إنه من رهبان بني هاشم!!».

و لما سجن(ع)في بيت السندي بن شاهك اقبل علي عبادة اللّه فكان في جميع أوقاته مشغولا بذكره تعالي،و كانت عائلة السندي تطل عليه فتري هذه السيرة التي تحاكي سيرة الأنبياء،فاعتنقت شقيقة السندي فكرة الامامة،و كان من آثار ذلك أن أصبح كشاجم حفيد السندي من اعلام الشيعة في عصره.

انها سيرة تملك القلوب و المشاعر فهي مترعة بجميع معاني السمو و النبل و الزهد في الدنيا و الاقبال علي اللّه.

و هناك ظاهرة أخري من ظواهر شخصيته الكريمة،و هي السخاء، فقد اتفق المؤرخون أنه كان من أندي الناس كفا،و اكثرهم عطاء للمعوزين،و كانت تضرب بصراره المثل،فكان الناس يقولون:«عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي الفقر»و كان يصل الفقراء و المحرومين في غلس الليل البهيم لئلا يعرفه أحد،و قد انفق جميع ما يملكه بسخاء علي الضعفاء و المنكوبين،و اغدق عليهم العطاء الجزيل،و انقذ الكثيرين منهم من مرارة الفقر و الحرمان.

و اجمع الرواة انه(ع)كان يملك طاقات هائلة من العلم،فكان اعلم المسلمين في عصره،و قد احتف به العلماء و الرواة فكان لا يفتي بنازلة أو حادثة الا بادروا إلي تسجيلها و تدوينها،و قد رووا عنه مختلف العلوم و الفنون خصوصا فيما يتعلق بالتشريع الاسلامي،فقد زودهم بطاقات ندية منه،

ص: 8

و يعتبر في هذا المجال هو أول من فتق باب الحلال و الحرام من أئمة أهل البيت(ع) (1).

لقد قام الامام موسي(ع)بعد أبيه الامام الصادق(ع)بادارة شئون جامعته العلمية التي تعتبر اول مؤسسة ثقافية في الاسلام،و أول معهد تخرجت منه كوكبة من كبار العلماء في طليعتهم أئمة المذاهب الاسلامية و قد قامت بدور مهم في تطوير الحياة الفكرية،و نمو الحركة العلمية في ذلك العصر،و امتدت موجاتها الي سائر العصور و هي تحمل روح الاسلام و هديه،و تبث رسالته الهادفة الي الوعي المتحرر و اليقظة الفكرية، و سنتحدث عن مدي معطياتها في غضون هذا الكتاب.

لقد كان الامام موسي(ع)من المع أئمة المسلمين في علمه،و سهره علي نشر الثقافة الاسلامية و ابراز الواقع الاسلامي و حقيقته.

و يضاف الي نزعاته الفذة التي لا تحصي حلمه و كظمه للغيظ،فكان الحلم من خصائصه و مقوماته،و قد اجمع المؤرخون أنه كان يقابل الاساءة بالاحسان،و الذنب بالعفو،شأنه في ذلك شأن جده الرسول الاعظم(ص) و قد قابل جميع ما لاقاه من سوء و أذي،و مكروه من الحاقدين عليه بالصبر و الصفح الجميل حتي لقب بالكاظم و كان ذلك من أشهر القابه.

و هكذا إذا استعرضنا نزعات الامام،و قابلياته الفذة،و ما أثر عنه في ميادين السلوك و الاخلاق،فانا نجده حافلا بكل مقومات الانسانية، و ما لها من مفاهيم بناءة خيرة،و عسي أن يلمّ هذا الكتاب ببعض جوانبها المشرقة،أو يعطي أضواء عنها.

(2) و لم تكن الشيعة تقدس أئمة أهل البيت(ع)تقديسا دينيا مجردا0.

ص: 9


1- الفقه الاسلامي مدخل لدراسة نظام المعاملات ص 160.

عن الوعي و العمق،و انما يستند في حقيقته و جوهره بل في جميع ابعاده إلي الدقة و التأمل و الإدراك حسب ما دللوا عليه،و أقاموه من الأدلة الوثيقة التي هي بعيدة كل البعد عن عنصر الجدل و النقاش...إن إيمان الشيعة بل ايمان جميع المسلمين بلزوم مودة أهل البيت انما هو مستمد من واقع الاسلام و روحه،و من صميم رسالته،فقد أوجب علي كل مسلم أن يكنّ لهم في أعماق ذاته و دخائل نفسه أعمق الود و خالص الحب،و قد نطقت بذلك آية المودة قال تعالي: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي (1)فقد أجمع المفسرون أنها نزلت في أهل البيت(ع) (2)و إلي مضمون الآية يشير الامام الشافعي بقوله:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن أنزله

و تواترت النصوص الصحيحة في لزوم مودة أهل البيت،و ان النبي حرب لمن حاربهم،و سلم لمن سالمهم،و قد قرنهم بمحكم التنزيل قال(ص):

«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي،أحدهما أعظم من الآخر،كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض،و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض،فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (3).2.

ص: 10


1- سورة الشوري:آية 23.
2- تفسير الرازي 406/7،الدر المنثور 7/7،تفسير النيسابوري،و روي أبو نعيم بسنده عن جابر قال:جاء أعرابي إلي النبي(ص)فقال يا محمد اعرض علي الاسلام،فقال تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و ان محمدا عبده و رسوله قال:تسألني عليه أجرا؟قال:-لا-الا المودة في القربي،قال:قرباي أو قرباك؟قال:قرباي،قال:هات أبايعك،فعلي من لا يحبك،و لا يحب قرباك لعنة اللّه،قال رسول اللّه(ص):آمين.
3- صحيح الترمذي 308/2،أسد الغابة 12/2.

ان حديث الثقلين قد أجمع المسلمون علي روايته،و هو من أوثق الاحاديث النبوية و أكثرها ذيوعا،و هو يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية،كما أنه من اجلي الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في أهل البيت،و في عصمتهم من الاخطاء و الاهواء لأن النبي(ص)قرنهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،فلا يفترق أحدهما عن الآخر،و من الطبيعي ان صدور أية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز،و قد نفي الرسول(ص) افتراقهما حتي يردا عليه الحوض،فدلالته علي العصمة و لزوم مودتهم ظاهرة جلية.

و قد كرر النبي(ص)هذا الحديث في غير موطن لأنه يهدف الي صيانة الامة و الحفاظ علي استقامتها و عدم انحرافها في المجالات العقائدية و غيرها إن تمسكت بأهل البيت و لم تتقدم عليهم،و لم تتأخر عنهم (1).

و قال(ص):«انما مثل أهل بيتي كسفينة نوح،من ركبها نجا، و من تخلف عنها غرق،و انما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له» (2)يقول الامام شرف الدين في مراجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه.

«و أنت تعلم أن المراد من تشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله و فروعه عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار،و من تخلف عنهم كان كمن آوي«يوم الطوفان»الي جبل ليعصمه من أمر اللّه،غير أن ذاك غرق في الماء و هذا في الحميم و العياذ باللّه.

و الوجه في تشبيههم عليهم السلام بباب حطة هو أن اللّه جعل ذلك الباب9.

ص: 11


1- حياة الامام الحسن 90/1.
2- مجمع الزوائد 168/9.

مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله و البخوع لحكمه،و بهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه،و قد حاوله ابن حجر إذ قال:-بعد أن أورد هذه الاحاديث و غيرها من أمثالها-.

«و وجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم و عظمهم شكرا لنعمة مشرفهم،و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات،و من تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم،و هلك في مفاوز الطغيان»الي ان قال:

«و بباب حطة-يعني وجه تشبيههم بباب حطة-أن اللّه جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع و الاستغفار سببا للمغفرة،و جعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها» (1).

هذه بعض النصوص الواردة في اهل البيت،و هي صريحة في دلالتها علي لزوم مودتهم،و هو أمر مجمع عليه بين المسلمين،الا ان الذي يهمنا هو أن نلمع بإيجاز الي مظاهر ذلك الولاء الخالص عند الشيعة،و هو يحمل في واقعه طابع الغلو و الافراط في الحب كما يتهمهم بذلك بعض خصومهم أو انه بعيد عن ذلك،و فيما أحسب ان الحديث عن أمثال هذه البحوث من موجبات الالفة و التقريب بين المسلمين فانها تزيل من طريقنا ما خلفته الاجيال من عوادي السوء و مغبات التفرق و الانقسام.

ان مظاهر الولاء للعترة الطاهرة عند الشيعة هي ما يلي:

أولا-إن الشيعة تأخذ معالم الدين أصولا و فروعا من أئمة أهل البيت(ع)و تجمع علي أن التعبد باقوالهم و افعالهم و تقريرهم انما هو من السنة التي يجب العمل بها عينا،و بذلك فقد بنت أطارها العقائدي علي ما أثر عن أهل البيت،و لا تتعدي في المجالات التشريعية الي غيرهم من بقية المذاهب الاسلامية،و لم يكن ذلك عن تحزب أو تعصب لأهل البيت،4.

ص: 12


1- المراجعات:ص 54.

و انما النصوص القطعية التي أثرت عن الرسول الاعظم(ص)هي التي نصت علي ذلك كحديث الثقلين و غيره من الاحاديث المتواترة التي اجمع المسلمون علي صحتها،و هي تدل بوضوح علي لزوم التمسك بالعترة الطاهرة و التعبد بما روي عنها بعد القطع أو الظن المعتبر بصحة صدوره عنهم، و قد أوضح هذه الجهة و أولادها بمزيد من البيان و الاستدلال سماحة الامام المغفور له شرف الدين في مراجعاته القيمة قال رحمه اللّه:«إن تعبدنا في الاصول بغير المذهب الاشعري،و في الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب،و لا لريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب،و لا لعدم عدالتهم و امانتهم و نزاهتهم،و جلالتهم علما و عملا.

لكن الأدلة الشرعية أخذت باعناقنا الي الأخذ بمذاهب الأئمة من أهل بيت النبوة،و موضع الرسالة،و مختلف الملائكة،و مهبط الوحي و التنزيل فانقطعنا إليهم في فروع الدين و عقائده،و أصول الفقه و قواعده و معارف السنة و الكتاب و علوم الأخلاق و السلوك و الآداب نزولا علي حكم الأدلة و البراهين،و تعبدا بسنة سيد النبيين و المرسلين صلي اللّه عليه و آله و عليهم أجمعين.

و لو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد،أو تمكنا من تحصيل نية القربة للّه سبحانه في مقام العمل علي مذهب غيرهم لقصصنا أثر الجمهور وقفونا إثرهم تأكيدا لعقد الولاء،و توثيقا لعري الإخاء،لكنها الأدلة تقطع علي المؤمن وجهته،و تحول بينه و بين ما يروم».

و أضاف لهذا قوله:

«و ما أظن أحدا يجرأ علي القول بتفضيلهم-اي أئمة المذاهب- في علم أو عمل علي أئمتنا،و هم أئمة العترة الطاهرة،و سفن نجاة الأمة و باب حطتها،و أمانها من الاختلاف في الدين،و اعلام هدايتها،و ثقل

ص: 13

رسول اللّه،و بقيته في أمته،و قد قال صلّي اللّه عليه و آله و سلم،فلا تقدموهم فتهلكوا،و لا تقصروا عنهم فتهلكوا،فانهم أعلم منكم،لكنها السياسة،و ما أدراك ما اقتضت في صدر الاسلام» (1).

و قد أيّد شيخ الازهر الشيخ سليم هذا الجانب المشرق من حديث الامام شرف الدين قال:

«بل قد يقال إن أئمتكم الاثني عشرة أولي بالاتباع من الأئمة الأربعة و غيرهم،لأن الاثني عشرة كلهم علي مذهب واحد قد محصوه و قرروه باجماعهم بخلاف الأربعة فان الاختلاف بينهم شائع في أبواب الفقه كلها، فلا تحاط موارده و لا تضبط،و من المعلوم ان ما يمحصه الشخص الواحد لا يكافئ في الضبط ما يمحصه اثنا عشر إماما،هذا كله مما لم تبق فيه وقفة لمنصف،و لا وجهة لمتعسف» (2).

و أكّد هذه الظاهرة الشيخ شلتوت شيخ الجامع الازهر،فاعلن أن الفقه الامامي من أوثق ما كتب في الفقه الاسلامي اصالة في الفكر،و عمقا في الاستدلال و قربا للواقع.

و من الطبيعي ان هذه الظاهرة التي تمسكت بها الشيعة و اعلنتها في جميع المحالات ليس فيها أي جانب من الغلو،و انما هي متسمة بالاعتدال و عدم الانحراف في جميع أبعادها.

ثانيا-ان الشيعة تجمع علي أن أئمة أهل البيت(ع)من عباد اللّه المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول،و هم بأمره يعملون،و انهم أهل الذكر و أولي الأمر و بقية اللّه،و خيرته،و حزبه،و عيبة علمه،و انهم ساسة العباد،و اركان البلاد،و أبواب الإيمان،قد عصمهم اللّه من الفتن،4.

ص: 14


1- المراجعات:ص 40-41.
2- المراجعات:ص 144.

و طهرهم من الدنس،و اذهب عنهم الرجس،و طهرهم تطهيرا،و وصفهم الامام امير المؤمنين(ع)بقوله:

«هم عيش العلم و موت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم،و ظاهرهم عن باطنهم،و صمتهم عن حكم منطقهم،لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه،هم دعائم الاسلام،و ولائج الاعتصام،بهم عاد الحق في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه،و انقطع لسانه عن منبته،عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية فان رواة العلم كثير و رعاته قليل» (1).

و وصفهم شاعر الاسلام الأكبر الكميت في احدي روائعه بقوله:

القريبين من ندي و البعيدين من الجور في عري الأحكام

و المصيبين باب ما أخطأ النا س و مرسي قواعد الاسلام

و الحماة الكفاة في الحرب إن لفّ ضرام وقوده بضرام

و الغيوث الذين إن أمحل النا س فمأوي حواضن الأيتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال سيرة طبين بالأمور الجسام

ساسة لا كمن يري رعية النا س سواء و رعية الاغنام (2)

هذه بعض نزعات أهل البيت كما وصفها شاعر العقيدة الكميت و هو معاصر لهم قد اختلط بهم،و اختبر أخلاقهم،فآمن بأنهم سلام اللّه عليهم نسخة لا ثاني لها في تاريخ الانسانية علما و سخاء و تحرجا في الدين،و قد اندفع منا ظلا في سبيلهم فنظم هاشمياته فيهم،و هي تصور الجانب الكثير من الفكرة الشيعية مع الاستدلال عليها بالآيات تارة و بالسنة أخري.

و علي أي حال فان الشيعة الامامية تبرأ من الغلو في أئمتهم،و تجمع علي ضلالة المغالين و خروجهم من الدين.ت.

ص: 15


1- نهج البلاغة محمد عبده 259/2.
2- الهاشميات.

ان حقيقة الغلو رفع الامام الي منزلة الإله المعبود،فقد قال الغلاة للامام امير المؤمنين(ع):أنت أنت،قال:و من أنا؟قالوا:الخالق الباري فاستتابهم فلم يرجعوا عن غيهم،فعمد إلي احراق بعضهم،فكانوا يقولون:و هم يساقون الي النار،إنه اللّه،و انه هو الذي يعذب بالنار (1).

هذا هو منطق الغلاة الحاد في الدين و خروج عن عبودية اللّه و ارتداد عن الاسلام،و كان موقف أئمة أهل البيت(ع)معهم موقفا صارما و عنيفا فقد حكموا بوجوب قتلهم،و حرمة الاختلاط بهم،و عزلهم عن جماهير المسلمين و قد لعن الامام موسي(ع)محمد بن بشير لما غالي فيه،و دعا عليه،و تبرأ منه (2).

ان عقيدة الشيعة في أئمة اهل البيت مستمدة من روح الاسلام و صميمه و ليس فيها-و الحمد للّه-أي غلو أو خروج عن منطق العقل،و انما هي ناصعة نقية تتسم بالاصالة و المنطق و الدليل.

ثالثا-ان الشيء البارز من مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة لأئمتها انها تقوم بدورها باحياء ذكرهم و الاشادة بفضلهم فتقيم الحفلات التأبينية علي ما أصابهم من عظيم الخطب و فادح الرزء،و يعرض فيها الي سيرتهم و مثلهم الحافلة بتقوي اللّه،و حب الصالح العام و التفاني في سبيل الحق و خدمة الأمة،كما تقوم الشيعة بزيارة تلك المراقد الطاهرة للتبرك و التقرب بها الي اللّه،فانها من أعظم مظاهر الود الذي فرضه اللّه للعترة علي جميع المسلمين.

هذه بعض مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة للأئمة عليهم السلام و ليس فيه أي شائبة للغلو أو افراط في الحب،و علي هذا الاساس المعتدل8.

ص: 16


1- التنبيه و الرد علي أهل البدع ص 14.
2- رجال الكشي:ص 298.

المعتدل من الحب نتحدث عن الامام موسي(ع)بأمانة و اخلاص شأننا في ذلك شأن الباحث الذي يخلص للحق مهما استطاع إليه سبيلا.

(3) و الشيء الذي يدعو الي التساؤل هو أنا لم نجد إماما من أئمة أهل البيت(ع)قد عاش آمنا مطمئنا في حياته بعيدا عن الخوف و الفزع و الإرهاق فقد عانوا جميعا أشد ألوان الظلم و الجور و الاضطهاد،و كانت نهاية المطاف المحزن لكل واحد منهم القتل أو السم و لعل اهم أسباب ذلك-فيما نحسب- يعود الي ما يلي:

انهم سلام اللّه عليهم بحسب مركزهم الاجتماعي،و ولايتهم العامة علي الأمة كانوا مسئولين عن رعايتها،و صيانة حقوقها،و تأمين مصالحها و كانوا لا يقرون علي كظة ظالم و لا سغب مظلوم،و كانوا ينعون علي حكام عصورهم سياستهم التي لم تحفل بالنظر للصالح العام،و انما كانت تستهدف الاثرة و الاستغلال،و ارغام الناس علي ما يكرهون فلم يؤثر عن الكثيرين منهم-امثال معاوية بن أبي سفيان و يزيد بن معاوية و مروان بن الحكم و نظرائهم من ملوك الامويين و العباسيين-أي جد في امور الرعية او اخلاص لقضاياها أو سهر علي مصالحها و انما كانوا جادين في اشاعة الظلم الاجتماعي و الجور علي العامة،و انصرفوا الي اللذة و المجون،قد حفلت قصورهم بقطاع من المغنين و المغنيات و تعاطي الخمور،و لم يعد عندهم ذكر للّه و اليوم الآخر بالرغم من ان منطق الحكم الذي كانوا يمثلونه كان حكما اسلاميا قد عهد إليه القيام بشئون الدين،و هم لا يمثلونه بقليل و لا بكثير فقد جافت سيرتهم جميع سنن الاسلام و احكامه حسب ما أجمع عليه المؤرخون.

و تميز موقف الأئمة المعصومين(ع)مع جبابرة عصورهم الحاكمين

ص: 17

بالشدة و الصرامة فلم يخلدوا معهم الي الدعة و السكون،و انما اعلنوا المقاومة و المعارضة لهم،و كانت ذات طابعين:

1-المقاومة الايجابية

و قد اختار هذا النهج الثوري الامام الحسين(ع)حينما أعلن طاغية عصره يزيد بن معاوية الكفر و الالحاد،و الخروج علي ارادة الأمة،و تصميمه علي اذلالها و استعبادها،و ارغامها علي ما تكره،فاضطر(ع)الي اعلان الثورة مع علمه(ع)بقلة الناصر و خذلان الصديق،و انه لا بد أن تتناهب السيوف و الرماح جسمه الشريف،و قد أدلي(ع)بذلك و هو في مكة المكرمة بقوله:

«و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف،و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا فيملأن مني أكراشا جوفا و اجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم» (1).

لقد أخبر أبي الضيم عما يلاقيه في كربلا من تقطيع اعضائه و أوصاله علي صعيدها و ما اولهه الي هذا المصير المشرق الذي تنتصر به مبادئه الهادفة الي تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس.

لقد قدم سيد الشهداء علي تلك التضحية الجبارة ليزيل عن جسم الأمة ذلك التخدير الذي طعمه بها الحكم الأموي،و كان لمقتله الشريف أثره الفعال في ايقاظ الجماهير و وعيها،فقد تصعدت العمليات الثورية حتي اطاحت بالحكم الأموي و أزالت جميع آثاره من العالم العربي و الاسلامي.

ص: 18


1- اللهوف:ص 33.

2-المقاومة السلبية

و أختار هذا المنهج السليم بعض الأئمة الطاهرين لعلمهم بأن المقاومة الايجابية لا تجدي في التغلب علي الاحداث نظرا للظروف السياسية القائمة التي تؤدي الي حتمية فشل الثورة،و عدم انتفاع القضية الاسلامية بها و من ثمّ اعلنوا المقاومة السلبية،و كان من مظاهرها حرمة الاتصال بالجهاز الحاكم،و حرمة الترافع الي مجالس القضاء حسب ما دونه فقهاء الامامية في كتاب القضاء،و هي طريقة مجدية ذات أثر بالغ في تحقيق الأهداف السليمة التي تنشدها أئمة أهل البيت(ع)و قد أكد هذه السياسة السلبية الامام موسي(ع)في حديثه مع صفوان الجمال،و سنذكره بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

و سلك المستر غاندي هذه السياسة النيرة في تحريره للهند فانه حرم علي الهنود التعاون و التجاوب مع الاستعمار البريطاني،و قد نجحت هذه السياسة نجاحا باهرا فقد اضطر المستعمرون الي الجلاء عن الهند،و منحها الاستقلال السياسي.

و من المؤسف ان العلويين الثوار من الحسنيين و غيرهم لم يسيروا علي وفق هذه السياسة البناءة المعتدلة التي رفع شعارها الأئمة(ع)فقد رفعوا علم الثورة علي الحكم الأموي و العباسي،و لم يكتب لثوراتهم النجاح لعدم وضعها علي خطط سليمة،فلذا منيت بالفشل،و قد جرت لهم كثيرا من المشاكل و المصاعب،و اخلدت لهم الآلام و الخطوب.

و لم يكد يخفي علي السلطات الحاكمة أمر هذه السياسة السلبية التي اعتمد عليها أئمة اهل البيت(ع)فقد كانت الاستخبارات منتشرة في جميع الاوساط و هي تنقل إليها كل بادرة أو جزئية تحدث في البلاد،فقد نقلت الي

ص: 19

هارون قصة صفوان الجمال حينما عمد الي بيع جماله التي كان يكريها له في موسم الحج استجابة لنصيحة الامام موسي(ع)فأرسل هارون خلفه و رام قتله إلا انه عدل عن ذلك، و علي أي حال فان الحكومات القائمة آنذاك قد وجهت جميع اجهزتها للعمل ضد أهل البيت و قد استخدمت معهم الوسائل التالية:

1-مقابلتهم بمزيد من العنف و الاضطهاد،و المبالغة في قهرهم و ظلمهم الي حد لا يوصف لفضاعته و مرارته،و قد أفرد أبو الفرج الاصفهاني كتابا خاصا،و هو«مقاتل الطالبيين»عرض فيه ما جري عليهم و علي سائر العلويين من المحن الشاقة و التنكيل الهائل.

2-فرض الحصار الاقتصادي عليهم اضعافا لشوكتهم،و قد عمد هارون الي تطبيق هذه السياسة علي الامام موسي،فانه حينما سافر الي يثرب اجزل العطاء لجميع أبناء الصحابة سوي الامام فانه لم يصله بما يتفق مع مكانته،فسأله المأمون عن ذلك فقال له:إن فقره أحب إلي من غناه، و لو أوصلته بما يستحق لخرج علي،و قد وضع الرصد و العيون علي من يصله بالاموال فأوجب ذلك شدة الضيق و الجهد عليه و هكذا كانت سياسة اولئك الحكام مع الائمة المعصومين متسمة بفرض الفقر و الحرمان عليهم،و قد بلغ الضيق بعموم العلويين اقصاه في أيام المتوكل،فكان من يصلهم يتعرض للسخط و الانتقام،و قد بلغت الفاقة بهم انهم كانوا لا يملكون في بيوتهم سوي عباءة واحدة فاذا رام أحد منهم أن يخرج ارتدي بها (1)و قد عمد المتوكل الي قطع جميع مواردهم الاقتصادية.

3-حجبهم عن العالم الاسلامي،و فرض الرقابة الشديدة و المطاردة المفزعة علي جميع من يتصل بهم،و قد أدي ذلك بطبيعة الحال الي ظهورن.

ص: 20


1- مقاتل الطالبين.

النزعات المختلفة بين الشيعة،و لم يكن هناك أي مجال لأئمة الهدي للعمل علي توحيد صفوف الشيعة و ازالة النزعات المذهبية الحادثة فيما بينهم (1)4-انها أسرفت الي حد بعيد في القسوة علي الشيعة فقد صبت عليهم ألوانا قاسية من العذاب الأليم،و قد تحدث الامام الباقر(ع)عن المحن الشاقة التي واجهتها الشيعة أيام الحكم الأموي قال(ع):

«و قتلت شيعتنا بكل بلدة،و قطعت الايدي و الارجل علي الظنة و التهمة و كان من يذكر بحبنا أو الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله و هدمت داره» (2).

و قد صعدت الحكومات الاموية و العباسية جميع أجهزتها الدعائية ضد الشيعة حتي أصبح حب أهل البيت عارا و منقصة،و يشار الي الشيعي بالخيبة و الخسران كما حكم بعضهم ان حب أهل البيت مروق من الدين،و خروج عن الاسلام و الي ذلك كله يشير شاعر العقيدة و الجهاد الكميت بقوله:

يشيرون بالأيدي إليّ و قولهم الا خاب هذا و المشيرون أخيب

فطائفة قد كفرتني بحبكم و طائفة قالوا مسيء و مذنب

يعيبونني (3)من خبهم و ضلالهم علي حبكم بل يسخرون و اعجب

و قالوا ترابي هواه و رأيه بذلك أدعي فيهم و ألقب (4)

و علي أي حال فان تلك الاجراءات القاسية التي اتخذتها السلطات ضد أئمة أهل البيت(ع)قد خولف بها عما أثر عن النبي(ص)في لزوم المودة لعترته،و وجوب رعايتها و تكريمها في كل شيء.ت.

ص: 21


1- عقائد الزيدية.
2- شرح النهج 15/3.
3- الخب الخديعة.
4- الهاشميات.

علي أن السلطات الحاكمة في عصورهم كانت تؤمن بأن الأئمة لم يكن لهم أي أرب في الحكم،و انما كانوا يستهدفون اشاعة العدل و المساواة، و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة العامة بين المسلمين،و لكن ذلك لم يكن يتفق مع سياستهم الهادفة الي الاثرة و الاستغلال و صرف بيت المال علي الماجنين و العابثين فلذا كانوا يحقدون علي كل من يطالب بالاصلاح الاجتماعي و العدالة الاجتماعية.

و مضافا لذلك كله فقد كان الكثيرون من اولئك الحكام يحقدون علي أئمة الهدي نظرا لاجماع المسلمين علي تكريمهم و تعظيمهم،و الاشادة بفضلهم فقد كان المنصور يعلم أن الامام الصادق كان بمعزل عن الحركات السياسة في عصره،و لم يكن يبغي الحكم و السلطان،و انه نهي العلويين عن اعلان الثورة عليه،و كان قبل ذلك قد بشره بمصير الخلافة إليه،و مع ذلك فلم يتركه و شأنه وادعا آمنا ينشر علوم جده بين المسلمين،فقد جلبه غير مرة الي عاصمته محاولا اغتياله،و لم يكن هناك أي دافع سوي الحقد عليه لعظم شخصيته و مكانته عند المسلمين،و كذلك هارون الرشيد فانه كان يعلم ان الامام موسي لم يكن يستهدف منازعته علي سلطانه،أو البغي عليه إذ لم تكن عند الإمام قوي يعتمد عليها في منازعته و الخروج عليه،و مع ذلك فقد نكل به اعظم التنكيل فزجه في ظلمات السجون،و دس إليه السم حتي قضي علي حياته و سبب ذلك هو الحسد و الحقد لما يتمتع به الامام من سمو المكانة عند جميع المسلمين.

(4) و حفل عصر الامام موسي بكثير من الازمات و الاحداث الجسام، و من بينها الثورات المتسمة بالعنف و سفك الدماء،و كان من أهمها الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الأموي،فقد اندفعت الشعوب الاسلامية بحماس بالغ الي الثورة العارمة علي ذلك الحكم الذي جهد علي اذلالها و حرمانها من

ص: 22

جميع مقومات الحياة.

و كان شعار الثورة الدعوة الي الرضا من آل محمد،و قد استجابت له الشعوب،و تعطشت له القلوب،فان آل محمد هم الركيزة الأولي للاهداف الضخام التي ينشدها المجتمع الاسلامي من العدل و الحرية و المساواة.

و التفت الجماهير حول هذه الثورة تحميها و تصونها،و تقدم في سبيلها المزيد من التضحيات،فقد آمنت أن لا سبيل لكرامتها و حمايتها من الاستغلال و الاضطهاد الا اذا آل الحكم الي العلويين قادة العدل،و حماة الحق.و الملجأ للمظلومين و المضطهدين.

و لم يظن أحد أن الثورة تحمل في اعماقها الدعوة لنبي العباس فان هذه الأسرة لم يكن لها أي عمل ايجابي في خدمة الجماهير،و لم ينالوا أي ضيم أو ارهاق من السلطة الاموية،فقد كانوا و ادعين آمنين تجزل لهم السلطات بالعطاء،و توفر لهم العيش و الثراء،مضافا الي ذلك انها لم يكن لها ماض زاهر،فقد حفل تأريخ بعضهم بالغدر و الخيانة للأمة.

و علي أي حال فقد انحرفت الثورة عن مخططاتها الاصلية،و اتجهت الي حمل الحكم لبني العباس،و قد عين العباسيون أبا مسلم الخراساني قائدا عاما للثورة،و منحوه ثقتهم،و قد امعن في سفك الدماء و اراقتها بغير حق فقد أجمع الرواة أنه كان سفاكا آثما لم يحفل بأي جريمة يقترفها،قد هانت عنده النفوس و الأرواح،فكان يأخذ البريء بالسقيم،و المقبل بالمدبر،و يقتل علي الظنة و التهمة،و كان عدد من قتله-فيما يقول المؤرخون- ستمائة ألف،الأمر الذي يدل علي أنه لا عهد له باللّه و لا باليوم الآخر.

و قد أقر العباسيون جميع خططه الارهابية،و تعزو بعض المصادر الي بني العباسيين انهم هم الذين عهدوا إليه بذلك.

و علي أي حال فان الحكم لم ينته لبني العباس الا علي بحور من الدماء

ص: 23

و جبال من جثث الضحايا و الابرياء،و حينما قبضوا علي زمام السلطة اتجهوا الي الابادة الشاملة للأمويين و من يمت إليهم فأشاعوا فيهم القتل و التنكيل، و لم يقر الامام الصادق(ع)ذلك،فقد طالب السلطة بالعفو و الصفح عنهم و بهذا نقف علي مدي الانسانية الفذة الماثلة في أهل البيت فانهم لم يخلدوا الي منطق التشفي و الانتقام من العدو مهما كانت إساءته إليهم،فقد كان شأنهم العفو و الرفق و الاحسان مع المعتدين و الظالمين لهم.

و حاول أبو سلمة أحد نقباء الدولة العباسية،و العضو الفعال في قيادة ثورتهم أن ينقل الخلافة الي العلويين،و سواء كان ذلك عن خديعة و مكر أم عن جد و اخلاص منه في الامر،فقد أوفد رسائله الي يثرب فقام رسوله فناول الامام الصادق احدي رسائله فأمر(ع)باحراقها بالنار أمامه،فطالبه الرسول بالجواب،فقال له:هو ما رأيت،و عدل الرسول الي ذي النفس الزكية و أخيه فناولهما رسائل أبي سلمة،فوجد عندهما استجابة ملحة الي طلبه،و أشار عليهما الامام الصادق بأن لا ينخدعا بذلك،فان الامر لا يتم لهما،فلم يذعنا له،و اتخذا ذلك منه حسدا لهما-فيما يقول الرواة-و لم يمض كثير من الوقت حتي أعلن العلويون ثورتهم علي المنصور،و قد التفت حولها الجماهير الهائلة.

و انبري الفقهاء،و أعلام الفكر الاسلامي الي تأييدها،الا انه لم يكتب لها النجاح،فقد تمكنت جيوش العباسيين من اخمادها و القضاء عليها، و قد عرض هذا الكتاب لبيان ذلك بصورة مفصلة.

و ما انتهت ثورة العلويين الا و رءوسهم قد حملت علي أطراف الرماح يطاف بها في الاقطار و الامصار،كما كان الحال أيام الحكم الاموي،و لم يرع المنصور آواصر الرحم التي بينه و بين العلويين،فقد جهد بعد ذلك الي قتلهم و مطاردتهم لم يستثن في ذلك الشيخ و الطفل،و انما عمهم جميعا بتعذيبه الذي لا يوصف لقسوته،حتي تمني العلويون رجوع الحكم الاموي

ص: 24

علي ما فيه من قسوة و عذاب.

و قد تركت الاجراءات القاسية التي اتخذها المنصور تجاه العلويين أعمق الحزن و أمضه في نفس الامام الصادق،و ولده الامام موسي،فقد رأوا ابناء عمومتهم ينكل بهم المنصور افظع التنكيل،و هم لا يجدون سبيلا الي نصرتهم و انقاذهم مما هم فيه.

و من بين تلك المشاكل التي حفل بها عصر الامام موسي الحركات الفكرية الهدامة كالزندقة و غيرها،فقد كانت تستهدف القضاء علي الاسلام و تقويض دعائمه،و قد امتدت الي كثير من الاقطار الاسلامية،و هي تسعي جاهدة الي العبث بفلسفة الاخلاق الاسلامية،و انكار الاديان جميعا و حمل الناس علي ارتكاب المحرمات،و العبث بالآداب العامة،و إفساد سائر النظم الاجتماعية.

و قد تصدي الامام الصادق(ع)و ولده الامام موسي الي مقاومة تلك المبادئ،و تزييفها بالادلة العلمية.

و يضاف لتلك المذاهب الهدامة مبادئ أخري دهمت العالم الاسلامي في تلك العصور و هي تدعو الي تفكيك الروابط الاجتماعية،و تفريق كلمة المسلمين،و تضليل الرأي العام في كثير من جوانب حياته العقائدية،و قد تصدي الامام موسي و أبوه الامام الصادق من قبل الي ايقاظ المسلمين و تحذيرهم منها،و قد عرض الكتاب بصورة موضوعية الي بسط الكلام في ذلك كله.

(5) و ليس في ميادين الخدمة الاجتماعية ما هو أعم نفعا و أكثر عائدة علي الامة من نشر فضائل أهل البيت(ع)و عرض سيرتهم و شئونهم،فانها تمد المجتمع بما يحتاجه من مقومات النهوض و الارتقاء...ما أحوج المسلمين

ص: 25

الي التوجيه المشرق المنبعث من رسالة أهل البيت الهادفة الي نكران الذات و التضحية في سبيل اللّه،و الانطلاق نحو العمل المثمر البناء.

إن الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون زاخر بأمواج من الفتن و الاضطراب فقد عبثت القوي الاستعمارية بمقوماتهم،و سلبتهم جميع مقدراتهم،و غذت فيهم جميع عوامل الضعف و الانحلال،حتي غدوا بأقصي مكان من الذل و الهوان،و نحن نؤمن ايمانا لا يخامره ادني شك أنه لا يمكن أن تكون للمسلمين نهضة يصلون بها الي اهدافهم السليمة ما لم يقتدوا بأئمة أهل البيت في سلوكهم و تعاليمهم فان في كل جانب منها ملتقي اصيل للوعي المتحرر و المثل العليا و الايمان الكامل بحق الأمة،و عسي أن نكون في بحثنا عن سيرة الامام موسي(ع)قد ساهمنا في مجال الخدمة الاجتماعية.

لقد نشر هذا الكتاب سنة(1378 ه-)و نفذت نسخة،و قد كثر علي الطلب و الالحاح من المعنيين بأمثال هذه البحوث،فعرضت ذلك علي المحسن الكبير الحاج محمد رشاد عجينة نجل الوجيه الحاج محمد جواد عجينة،فاستجاب حفظه اللّه مشكورا و موفقا الي القيام بطبعه،سائلا من اللّه أن يوفقه الي احياء مآثر أهل البيت(ع)و أن يمنحه المزيد من الأجر انه تعالي ولي ذلك و القادر عليه.

و تفضل علي أخي سماحة العلامة الكبير الشيخ هادي القرشي باعادة النظر في فصول الكتاب،كما تفضل سماحته بمراجعة كثير من المصادر فأفادني بما عثر عليه من البوادر التي تتعلق بحياة الامام(ع)،و قد وجدت بعد البحث الجاد أن كثيرا من الفصول التي كتبتها تحتاج الي التهذيب و التحليل كما تبدل رأيي في كثير من بحوثه،و سيجد القارئ أن هذه الطبعة بما أضيف لها غير الطبعة الأولي مضافا الي جودة الطبع و اناقته التي اشتهرت بها مطبعة الآداب.

ص: 26

و في ختام هذا التقديم أرجو من المعنيين بهذه البحوث أن يتفضلوا علينا بالنقد و التصحيح عسي أن نصل جميعا الي خدمة هذه الأمة انه تعالي ولي السداد و التوفيق.

باقر شريف القرشي النجف الأشرف /1ذي الحجة1389/ ه-

ص: 27

مقدّمة الطبعة الأولي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الامام موسي بن جعفر عليه السلام فذ من أفذاذ العقل الانساني، و من كبار أئمة المسلمين،و أحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي اضاء الحياة الفكرية في الاسلام.

الامام موسي من أئمة العترة الطاهرة الذين قرنهم الرسول الاعظم(ص) بمحكم التنزيل،و جعلهم قدوة لأولي الالباب،و سفنا للنجاة و أمنا للعباد، و جعلهم باب حطة يغفر لمن دخلها،فهم شجرة النبوة و محط الرسالة، و مختلف الملائكة،و معادن العلم،و ينابيع الحكم-كما يقول الامام امير المؤمنين- (1)و لهم في مدح اللّه غني عن مدح المادحين و وصف الواصفين،قال تعالي: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2)لقد طهرهم اللّه من الزيغ و الرجس و برأهم من الآفات كما أوضح بهم معالم الدين،و أتم بهم الحجة علي الخلق أجمعين.

لقد حاكت سيرتهم بجميع أبعادها سيرة جدهم(ص)،إيمانا باللّه، و حبا للخير و نكرانا للذات...و لو استعرضنا حياة أي إمام منهم لوجدناها مجدبة من المغريات،لم تتلوث باقذار المادة،و لم تكدر جوهرها مآثم هذه

ص: 28


1- شرح النهج 214/1
2- سورة الأحزاب،نصت المصادر التالية علي اختصاص الآية بآل البيت تفسير الرازي 783/6،تفسير ابن جرير 5/22،مسند الامام احمد بن حنبل 107/4،سنن البيهقي 150/2،صحيح مسلم 331/2، الخصائص الكبري 264/2،مشكل الآثار 334/1.

الحياة،و انما كانت طافحة بالمآثر و الفضائل،فهم جميعا في بداية حياتهم و نهايتها قدوة فذة لكل انسان نبيل يتطلع الي المثالية الكاملة،و يهفو الي الانسانية الرفيعة.

(2) إن للامام موسي(ع)سيرة ندية عطرة امتازت بأنها سلسلة جهاد متواصل و ثورة صاخبة علي أئمة الظلم و الطغيان الذين اغتصبوا الخلافة الاسلامية من أهلها بالغلبة و القوة،و أكرهوا العالم الاسلامي علي الخضوع لسياستهم الملتوية التي روعت المجتمع،و سلبته حرياته،و أفقدته الأمن و الدعة و الاستقرار.

في تلك الفترات العصبية أعلن الامام موسي مقاومته السلبية لحكومة هارون و تولي بنفسه قيادة الحزب المعارض فاصدر فتواه و حكمه بحرمة التعاون مع الاجهزة الحاكمة لأن التعاون معهم فيه دعم للظالمين،و قد حرمه الاسلام قال تعالي: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (1)و استثني من ذلك من يقوم بخدمة اجتماعية أو يسدي يدا علي الفقراء فيقضي مهامهم و شئونهم فانه لا حرج عليه في الانضمام الي السلك الحاكم،و قد سمح لعلي بن يقطين أن يتولي منصب الوزارة لهارون حينما ضمن له القيام بذلك.

إن الامام لو صانع هارون الرشيد أو تقرب إليه و جاراه-كالكثيرين من باعة الضمير-لاغدق عليه بالاموال الكثيرة و الثراء العريض،و لم يتعرض إليه بأي سوء أو مكروه،الا انه لم يخضع له،و لم يخف من جوره و بطشه فانطلق يعلن الحق،و يندد بالظلم،و يشجب الجور،و يدعو الي تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة،و قد لاقي في سبيل ذلك العناء المرهق13

ص: 29


1- سورة هود:آية 113

و الجهد الشاق،و قد تلقي تلك الآلام الجسام بالصبر الجميل و كظم الغيظ حتي عرف بهذا اللقب و اشتهر به.

(2) و لم يقتصر الامام موسي وحده علي ما لاقاه من المحن و الخطوب فقد شاركه فيها جمهور شيعته و القائلين بامامته فقد واجهوا من العناء و الجهد ما لا سبيل الي تصويره،و يعود السبب في ذلك الي ايمانهم الوثيق بالامامة و هي عنصر أساسي في كيانهم العقائدي،و تقضي هذه الفكرة بعدم شرعية الحكومات التي توالت علي المسلمين سواء أ كانت من بني أمية أم من بني العباس أم من غيرهم،فان الذين تصدوا الي الحكم لم تتوفر فيهم الصفات التي ينشدونها في الامام من العدالة،و التحرج في الدين،و العلم بما تحتاجه الامة في جميع مجالاتها القضائية و الادارية و السياسية،فلذا كانوا يعملون جاهدين علي اسقاط تلك الحكومات،و سلب ثقة الجماهير عنها،و قد واجهوا في سبيل ذلك من المعضلات السياسية القاسية ما لم تلاقه أي طائفة اسلامية.

و مما زاد الشيعة علي الإيمان بالنضال الشاق في سبيل فكرتهم أنهم رأوا أولئك الملوك الذين اختلسوا السلطة الاسلامية قد امعنوا في الظلم و الجور،و جهدوا علي ارغام الناس علي الذل و العبودية،و علي قطع كل لسان يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر.

و رأوا أولئك الملوك الذين يزعمون أنهم يمثلون ظل اللّه و عدله في الأرض ينفقون لياليهم في الطرب و المجون و السكر،و ينفقون أيامهم في البحث عن الفتيات الحسان اللاتي يجدن العزف و يثرن الغرام.

و رأوا خزينة الدولة تنفق بسخاء علي العابثين و الماجنين،و علي ما يفسد الاخلاق،و يثير الشهوات،و لم يعد ما يصرف منها علي الشؤون العامة الا النزر اليسير،و اصبحت الحياة الاقتصادية بصورة عامة يسودها

ص: 30

الفقر و الحرمان.

و رأوا أن مصالح الأمة لم توضع علي مائدة البحث قد أهملت جميع شئونها و أمورها،فقد اقبل أولئك الملوك علي اللذات و الشهوات،و تركوا امور الرعية بأيدي غلمانهم و جواريهم و نسائهم يتصرفون فيها حسب أهوائهم و ميولهم.

و رأوا شئون الدين قد أهملت،و لم يعد اي ظل للخطوط العريضة التي ينشدها الاسلام في ظل حكمه من بسط العدل،و نشر الرفاهية،و اشاعة الدعة و الاستقرار بين الناس.

و دفعتهم هذه العوامل الي الثورات الملتهبة،و هم يطالبون بتحقيق العدالة و رفع الغبن و الاسي عن الناس،و أمعنت السلطات بعد اخماد ثوراتهم في قتلهم و تنكيلهم و ارهاقهم الي حد لا يوصف لفضاعته و مرارته.

(4) و أروع ثورة اجتماعية عرفها التاريخ الاسلامي ثورة الامام امير المؤمنين رائد العدالة الكبري في الأرض،فقد كانت ثورته الصاخبة علي الظلم و الغبن تستهدف إقامة مجتمع تتهيأ فيه الفرص المتكافئة لجميع الناس علي اختلاف ميولهم و أديانهم بحيث لا يوجد فيهم محروم او عاطل.

لقد حاول الامام أن يغير مجري التأريخ،و يدفع الانسان الي التطور الاجتماعي و يحقق له المزيد من المكاسب الاجتماعية،فيوفر له الحرية و العدالة و المساواة في ضمن اطارها الاسلامي الاصيل.

لقد حاول الامام باخلاص بالغ أن يقيم علي الكرة الارضية نهضة فكرية جبارة تعني باشاعة العلم،و تطوير العمل،و اقامة مناهج تربوية تغير السلوك العام للانسان فتبث في اعماقه روح الإيمان و المحبة و التعاون في المجالات الاجتماعية،و تزيل عنه روح الانانية و الكراهة و الشر،الي غير ذلك من

ص: 31

الاهداف العريضة التي كان ينشدها الامام في ظل حكومته.

و لم تع القوي المنحرفة عن الاسلام هذه الاهداف الاجتماعية التي اعلنها الامام،فانها لم تكن بأي حال تهتم بمصلحة الأمة،و انما كانت تتطلب اقامة نفوذها و استغلالها علي حساب الضعيف و المحروم فأعلنت سخطها علي الامام،و اعلنت الحرب عليه،و قد تذرعت بدم عثمان و اتخذته وسيلة لعصيانها المسلح،فقاومها الامام و قضي علي فاولها في البصرة الا انه لم يمض قليل من الوقت حتي ناجزه معاوية و بعد صراع رهيب استطاعت جيوش الامام ان تدحر القوي الاموية الا انه من المؤسف أن الجيش الذي خف مع الامام لم يقرر حق مصيره و مصير الاجيال الصاعدة فقد خدعهم ابن العاص برفع المصاحف بأسلوب ساخر هزيل،و قد أدي ذلك الي انقلاب الجيش علي اعقابه و تفلل جميع قواعده،كما أدي الي خذلان الامام(ع) و انتصار القوي المعادية للاسلام عليه،و قد نجم من ذلك أن مني العالم الاسلامي بكثير من النكبات و الخطوب التي لا تزال آثارها باقية حتي يوم الناس هذا،و قد ألمع الي ذلك الاستاذ مالك بن نبي الجزائري في ايضاحه للمقررات التي اتخذها مؤتمر(باندونج)اذ يقول:«و لقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه-أي في تقرير المصير-في معركة صفين تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار،الاختيار الحتم بين علي و معاوية،بين المدينة و دمشق،بين الحكم الديمقراطي الخليفي،و الحكم الأسري و لقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الي القابلية للاستعمار و الي الاستعمار» (1).

لقد كانت حادثة صفين بداية الشر و بداية الانقلاب في تأريخ الأمة الاسلامية،فقد اخلدت لها الفتن،و جرت لها الويلات و الكوارث،و كان1/

ص: 32


1- الفكرة الافريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج111/

من أظهر مخلفاتها إماتة الوعي الاسلامي في النفوس و الخنوع أمام الظلم و الجور،و قد مثل ذلك بصورة مؤلمة حقا في مأساة الإمام موسي(ع) فان هارون قد زجه في ظلمات السجون في بغداد و هي زاخرة بالمسلمين و القائلين بامامته في حين لم تنبر منهم طائفة الي المطالبة باطلاق سراحه،حتي توفي غريبا في سجن السندي بن شاهك فعمد الي وضع جثمانه علي جسر الرصافة ببغداد محاولا بذلك الحط من شأنه،و لم يهبوا الي انقاذه من أيدي الشرطة،ان سبب ذلك يرجع الي الخنوع و الذل الذي خيم علي النفوس.

(5) و كان من أهم ما عني به الامام موسي(ع)نشر الثقافة الاسلامية و اشاعة المعارف العامة بين الناس،و قد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول،و تثقيف الافكار،و تقديم المسلمين في الميادين العلمية.

لقد احتف بالامام اثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء و رواة الحديث ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبري التي انارت العقل الانساني و اطلقته من عقال الجهل،و قد أفاض عليهم الامام الشيء الكثير من عاومه و معارفه التي هي مستمدة من علم جده الرسول(ص)كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه الحصيفة،و رواياته عن آبائه،و له تنسب مجموعة كثيرة من الاحكام الاسلامية بجميع أنواعها من العبادات و المعاملات،و قد دونت في موسوعات الحديث و الفقه،و نظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد الاسلامية،و تحدث الركبان بوفرة مواهبه و مقدراته العلمية و قد دان شطر كبير من المسلمين بامامته و جعلوا مودته و الأخذ بقوله فرضا من فروض الدين.

و كان اجماع المسلمين علي تكريمه و تعظيمه و تقديمه بالفضل علي سائر الهاشميين و غيرهم من اعلام العصر بل حتي علي الخلفاء،فان ذلك موجب

ص: 33

لاثارة الاحقاد عليه،و الحسد له في نفوس خصومه،فاجمعوا علي التنكيل به و حجبه عن العلماء و حرمانهم من الانتهال من نمير علومه،و بذلك فقد جنوا علي العلم جناية لا تعدلها أي جناية.

لقد اضطر العلماء اثناء حبس الامام في البصرة و في بغداد ان يتصلوا به و يأخذوا من علومه و لكن ذلك كان مع تستر و خوف بالغين من السلطة التي لم تكن تهتم بالتقدم العلمي لشعوبها.

(6) و نقدم الي المكتبة الإسلامية هذا المجهود المتواضع الذي هو صفحة من حياة الامام موسي،و مثل موجز لشخصيته العظيمة،و لا نزعم أنه قد استوعب حياته،أو ألمّ بجميع شئونه،فذاك أمر لا تسعه عشرات من أمثال هذا الكتاب،فان الباحث المتتبع يجد صورا مشرقة كثيرة من حياته،و ما أثر عنه من حكم الآراء سواء أ كانت في ميادين السلوك و الاخلاق أم في غيرها و انما أعطي صورة موجزة لبعض مثله و معارفه و تراثه،كما ذكر كوكبة من اصحابه و رواة حديثه و ابنائه مع الالماع الي شيء من تراجمهم،و اعطي دراسة عن العصر العباسي الأول و ما مر فيه من الازمات الفكرية و الاحداث الخطيرة كما عرض الي الاسباب التي أدت الي انهيار الامبراطورية الاموية،و بحث عن اعمال ملوك بني العباس المعاصرين له،و ما نشروه من الظلم و الاضطهاد تجاه العلوين،و نختلف كثيرا في هذه البحوث عن بقية المؤرخين فانا لا نقف علي نقل الاحداث،و انما ننظر إليها بدقة و شمول فنحللها،و نكشف عن ابعادها،و قد بحثنا عن ذلك كله ببحث موضوعي بعيد عن التحيز و رائدنا الاخلاص للحق راجين ان يكون ذلك خدمة للاسلام و خدمة لعلم من اعلامه النابهين و هو تعالي ولي التوفيق.

المؤلف

ص: 34

ولادته و نشأته

اشارة

ص: 35

ص: 36

و الظاهرة الفذة التي امتاز بها الاسلام علي بقية الاديان و المذاهب الاجتماعية الاخري هو أنه رفع شعار المساواة،و هدم الحواجز بين الناس، و قد تبني ذلك بصورة ايجابية فعالة،فجهز جميع طاقاته و امكانياته في تطبيقها علي مسرح الحياة،و اعتبرها عنصرا أساسيا من عناصر حضارته، و عاملا مهما في بناء تكوينه الاجتماعي.

الناس في شريعة اللّه سواسية كأسنان المشط،لا امتياز لاحد علي احد و لا تقديم لقوم علي آخرين،فهم علي صعيد واحد من ناحية حقوقهم و كرامتهم،لا تفاوت بينهم الا بالتقوي و العمل الصالح الذي يقرب الانسان من ربه،و يبعده عن عوامل الشر،و نزعات الطيش و الغرور.

بهذه المبادئ العليا التي تجمع القلوب،و توحد ما بين المشاعر و العواطف جاء الاسلام،و عليها ارتكزت دعوته،و دعا لمن يتصدي لتصديعها أن يعلو وجهه بالسيوف لئلا تكون بين المسلمين ثغرة يتصدع بها شملهم،و تتمزق بها وحدتهم.

و قد تنكر الامويون لهذه القاعدة الاساسية في الاسلام فحملوا معول الهدم علي انقاضها،لانها تتنافي مع ميولهم الجاهلية،و تتنافي مع مصالحهم الطبقية،فراحوا يعملون بقوي مسعورة الي محوها عن الحياة الاسلامية، و قد تجلي ذلك فيما عمدوا إليه من المبالغة في الذم و التقريع لمن يتزوج بأمة من العرب،و لم يقتصروا علي ذلك و انما تعدوه الي القسوة و التعذيب لمن يشذ عن ذلك،فقد علم طاغية من ولاتهم ان شخصا من بني سليم قد تزوج بأمة فأمر باحضاره،و ضربه مائة سوط،و فرق بينه و بين زوجه، و حلق رأسه و لحيته و حاجبيه» (1)و في عرفهم أنه قد اقترف بذلك جناية و سعي في الارض فسادا يستحق عليه التنكيل.4.

ص: 37


1- الاغاني 150/4.

و حرموا علي ابن الامة أن يتولي أي منصب من مناصب الدولة،أو يتقلد وظيفة من الوظائف العامة،و زعموا عدم صلاحيته لها (1)و بهذا المنطق الجاهلي احتج طاغية الامويين هشام بن عبد الملك علي زيد بن علي شهيد الشرف و الإباء فقد قال له هشام يحاجه:

«بلغني أنك تذكر الخلافة،و تتمناها،و لست أهلا لها،و أنت ابن أمة».

فانبري إليه زيد فسدد له سهما من منطقه الفياض قائلا له:

«إن الامهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات،و قد كانت أم اسماعيل أمة لام إسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه اللّه نبيا،و جعله أبا للعرب،و أخرج من صلبه خير الأنبياء محمد(ص)..» (2).

و لما تبني الامويون هذه السياسة النكراء التي تتصادم مع واقع الاسلام انبري إليها أهل البيت بالانكار و التشهير فهتفوا بما جاء به جدهم المنقذ الاعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلم من المساواة العادلة بين المسلمين،و ضربوا للناس أمثلة عملية واضحة لتأكيدها،فقد اعتق الامام زين العابدين جارية له و بعد العتق تزوج بها،و قد انتهز هذه البادرة خصمه عبد الملك فراح يندد به و يعيب عليه،فبعث له رسالة يلومه فيها،و هذا نصها:

«أما بعد،فقد بلغني تزويجك مولاتك،و قد علمت أنه كان في اكفائك من قريش من تمجد به في الصهر،و تستنجبه من الولد،فلا لنفسك نظرت،و لا علي ولدك أبقيت و السلام؟..».

و لما مثل الكتاب بين يدي الامام نظر فيه فرأي روح الجاهلية ماثلة في سطوره و حروفه،فرده(ع)بهذا الجواب الذي تمثلت فيه مبادئ5.

ص: 38


1- العقد الفريد 160/4.
2- الكامل لابن الاثير 84/5.

الاسلام و أهدافه و هذا نصه:

«أما بعد،فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي،و تزعم أنه كان في نساء قريش من أمجد به في الصهر،و استنجبه في الولد،و إنه ليس فوق رسول اللّه(ص)مرتقي في مجد،و لا مستزاد في كرم،و إنما كانت ملك يميني خرجت مني بأمر أراده اللّه عز و جل التمست فيه ثوابه ثم ارتجعتها علي سنته،و من كان زكيا في دينه فليس يخل به شيء من أمره،و قد رفع اللّه بالاسلام الخسيسة،و أتم به النقيصة،و أذهب اللوم فلا لوم علي امرئ مسلم،انما اللوم لوم الجاهلية..» (1).

هذا هو منطق الاسلام في عدله و مساواته،فالشرف الواقعي في حسابه يحوم حول طاعة اللّه،و التمسك بأهداب دينه،فمن هذب نفسه،و صانها عن الاثم و المنكر،و تحرج في دين اللّه،فهو الفذ الذي له الامتياز في الاسلام،و أما التفوق بالعنصريات و سائر الاعتبارات المادية الاخري،فانها لا تدخل في منطق الفضل و الشرف عند اللّه.

أي حزازة علي الامام حينما تزوج بأمة مسلمة بعد ما أعتقها فانه لم يجاف بذلك كتاب اللّه و سنة نبيه.

إن الاسلام بكل اعتزاز و فخر قد ساوي بين جميع المسلمين،و جعل المسلم كفؤ المسلمة و الغي جميع التفوقات التي ينظر إليها العرف الجاهلي،و قد زوج الرسول الاعظم زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة،و هو لا يدانيها في مكانتها الاجتماعية،و قصة جويبر البائس المسكين مشهورة مستفيضة،و بذلك فقد أقام الاسلام قاعدة اساسية للرابطة الزوجية تبتني علي الوحدة في الدين،و المحبة في اللّه.

و لما اتسع الاسلام في عصوره الاولي،و غزت جنوده الباسلة اكثر4.

ص: 39


1- اعيان الشيعة 480/4.

المعمورة في الدعوة الي اللّه اتسعت حركة الرقيق و جلبه اتساعا هائلا،لا يخلو في كثير من صوره-فيما نحسب-عن عدم المشروعية،و ذلك لعدم التزام السلطات الحاكمة في تلك العصور بما أثر عن الاسلام في كيفية الرق.

و علي أي حال فقد كانت أسواق يثرب تعج بالنخاسين الذين يجلبون الرقيق لبيعه،و كان شارع في بغداد يسمي شارع الرقيق (1)يعرض فيه الرقيق لبيعه.

و كان موقف أهل البيت أمام هذا الرقيق المنكوب هو الرحمة به و العطف عليه فكانوا يشترون منه حسب المستطاع،و يعتقونه لوجه اللّه،فكان احمد ابن الامام موسي(ع)يستنسخ المصحف ثم يبيعه و يشتري بثمنه الرقيق و يعتقهم لوجه اللّه،و قد اعتق الف نسمة من كد يده،و لم يكتفوا بهذا البر و انما كانوا يسدون يدا علي من اعتقوه فيمنحونه نصيبا وافرا من المال ليستغني به عما في أيدي الناس،فيتخلص بذلك في وقت واحد من رق العبودية و كابوس الفقر.

و كان الامام موسي يحفز أصحابه،و يحثهم علي اتخاذ القيان،و الزواج بهن فقد قال لهم:

«اتخذوا القيان،فان لهن فطنا و عقولا ليست لكثير من النساء..» (2)و لم يقتصر أهل البيت(ع)علي هذا الاحسان المستفيض للرقيق،و انما تعدوه الي المصاهرة،و ذلك للتدليل علي الغاء الاسلام للتفاوت،و تحطيما للاجراءات الاموية الفاسية التي اتخذت ضدهم.

و كانت أم الامام موسي من تلكم النسوة اللاتي جلبن لاسواق يثرب و قد خصها اللّه بالفضل،و عناها بالشرف،فصارت وعاء للامامة،5.

ص: 40


1- مروج الذهب 316/3.
2- الاتحاف بحب الاشراف:ص 55.

و إناء للفضيلة و الكرامة.

أما كيفية زواج أبي عبد اللّه الصادق بها فقد حدث عنها ابن عكاشة الاسدي،و نعرض حديثه بايجاز يقول:دخلت علي الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام،و كان ولده أبو عبد اللّه ماثلا بين يديه،فقدم له عنب، فالتفت إلينا يرشدنا الي آداب الأكل قائلا:

«حبة،حبة يأكله الشيخ،و الصبي الصغير،و ثلاثة و اربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع،و كله حبتين فانه يستحب..».

يقول ابن عكاشة:نظرت الي أبي عبد اللّه الصادق فرأيته قد بلغ مبالغ الرجال،فعرضت علي أبيه زواجه فقلت له:

«سيدي:لأي شيء لا تزوج أبا عبد اللّه،فقد أدرك التزويج؟!.» فأخبرني الامام عن عزمه علي ذلك،و كانت بين يديه صرة فقال لي:

«أما انه سيجيء نخاس من أهل بربر،فينزل دار ميمون فنشتري له بهذه الصرة جارية..».

و خرج القوم من ثوي الامام و مضت علي ذلك حفنة من الزمن فدخل عليه ابن عكاشة مع زمرة من إخوانه فلما استقر بهم الجلوس أخبرهم الامام بمجيء النخاس و وصول الجارية معه.و أمرهم أن يبادروا لشرائها بتلك الصرة التي رأوها من قبل،فقاموا جميعا و قلوبهم مليئة بالغبطة و السرور و لما انتهوا الي النخاس طلبوا منه عرض ما عنده من الجواري عليهم فأخبرهم أنه لم يبق عنده سوي جاريتين مريضتين احداهما أمثل من الاخري فطلبوا منه احضارهما فقام و أخرجهما إليهم فوقع نظرهم علي الماثلة للشفاء، و سامها عليهم بسبعين دينارا،فراموا منه تخفيض ثمنها فأبي،ففتحوا الصرة فإذا بها سبعون دينارا.فدفعوها له و أخذوا الجارية و جاءوا بها الي الامام،فحمد اللّه و أثني عليه و قد شمله الفرح فقال لها:

ص: 41

«ما اسمك؟» فأجابته بصوت خافت يقطر حياء:

«حميدة» (1).

و انبري الامام فمنحها وساما من الشرف و التكريم قائلا:

«حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة».

و التفت الي ولده و السرور باد عليه،فوهبه اياها (2)و تزوج بها أبو عبد اللّه فكانت من أعز نسائه،و أحبهن إليه،و آثرهن عنده.

و اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا في نسبها فقيل انها اندلسية،و تكني لؤلؤة (3)و قيل انها بربرية (4)و هي بنت صالح البربري (5)و قيل انها شقيقة صالح (6)و ذهب بعضهم الي انها رومية (7)و قيل انها من أجل بيوت العجم (8)و أهمل الكثيرون من المؤرخين نسبها و لم يتعرضوا له.7.

ص: 42


1- حميدة:يضم الحاء،و فتح الميم،و سكون الياء المثناة،و فتح الدال جاء ذلك في النفحة العنبرية(ص 15)مخطوط بمكتبة الامام كاشف الغطاء العامة،و جاء فيه أنه قيل إن اسمها نباتة.
2- أصول الكافي 476/1 بحار الأنوار 232/11.
3- مرآة العقول 451/1،معالم العترة.
4- كشف الغمة 2/3.
5- اعلام الوري،بحار الأنوار،و في المناقب 323/4،حميدة المصفاة ابنة صاعد البربري.
6- مختصر اخبار الخلفاء:ص 39.
7- تحفة الازهار و زلال الانهار للسيد ضامن بن شدقم مخطوط يوجد في قسم المخطوطات من مكتبة الامام كاشف الغطاء.
8- الانوار البهية:ص 87.

و كانت السيدة حميدة تعامل في بيتها معاملة كريمة،فكانت موضع عناية و تقدير عند جميع العلويات،كما ان الامام الصادق كان يغدق عليها بمعروفه،و قد رأي فيها وفور العقل و الكمال،و حسن الايمان،و أثني عليها ثناء عاطرا فقال فيها:

«حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب،ما زالت الأملاك تحرسها حتي أديت إلي كرامة من اللّه و للحجة من بعدي..» (1).

لقد كانت هذه السيدة طاهرة الذيل،نقية الثوب،بريئة من النقص قد أترعت نفسها بالايمان و الصلاح،و قد غذاها الامام الصادق بعلومه، حتي اصبحت في طليعة نساء عصرها علما و ورعا و ايمانا،و قد عهد إليها الامام الصادق بتفقيه نساء المسلمين و تعليمهن الاحكام الشرعية (2)و اجدر بها أن تحتل هذه المكانة،و ان تكون من المع نساء عصرها في العفة و الفقه و الكمال.

الوليد المبارك

و يمتد الزمن بعد زواج الامام بها،و العيش هادئ و الحياة البيتية حافلة بالمسرات،قد غمرتها المودة،و ترك الكلفة،و اجتناب هجر الكلام و مره.

و في فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل،و سافر الامام أبو عبد اللّه الي بيت اللّه الحرام لاداء فريضة الحج،فحملها معه و بعد الانتهاء من

ص: 43


1- بحار الأنوار 232/11،أصول الكافي 477/1،اعيان الشيعة القسم الثاني من 5/4.
2- الأنوار البهية:ص 78.

مراسيمه قفلوا راجعين الي يثرب،فلما انتهوا الي«الأبواء» (1)أحست حميدة بالطلق فأرسلت خلف الامام تخبره بالأمر لأنه قد عهد إليها أن لا تسبقه بشأن وليده،و كان أبو عبد اللّه يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه،فلما وافاه النبأ المسر قام مبادرا إليها فلم يلبث قليلا حتي وضعت حميدة سيدا من سادات المسلمين،و إماما من أئمة أهل البيت.

لقد أشرقت الدنيا بهذا المولود المبارك الذي ما ولد-في عصره- أيمن،و لا أكثر عائدة و لطفا علي الاسلام منه.

لقد ولد أبر الناس،و أعطفهم علي الفقراء،و أكثرهم عناء و محنة في سبيل اللّه و أعظمهم عبادة و خوفا من اللّه.

و بادر الامام أبو عبد اللّه فتناول وليده فأجري عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذن في أذنه اليمني،و أقام في اليسري.

لقد كانت أول صورة فتح الامام موسي عليها عينيه صورة أبيه الذي ما أظلت سماء الدنيا أسمي و لا أعظم شأنا منه بعد آبائه،و كانت أول كلمة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تنطوي علي الايمان بما له من معني.

و انطلق الامام أبو عبد اللّه عائدا الي اصحابه،و قد علت علي ثغره ابتسامة فبادره أصحابه قائلين:

«أسرك اللّه،و جعلنا فداك،يا سيدنا ما فعلت حميدة؟».1.

ص: 44


1- الأبواء:بالفتح ثم السكون،و واو و الف ممدودة،قرية من أعمال الفرع بالمدينة،و به قبر الزاكية آمنة بنت وهب أم النبي العظيم(ص) و وجه تسمية المكان بهذا الاسم-كما قيل-انه كان يكثر به الوباء،و قال ثابت اللغوي:سميت الأبواء لتبوء السيول بها،و هو حسن.معجم البلدان 92/1.

فبشرهم بمولوده المبارك،و عرفهم عظيم أمره قائلا:

«قد وهب اللّه لي غلاما،و هو خير من برأ اللّه».

أجل انه خير من برأ اللّه علما و تقوي و صلاحا،و تحرجا في الدين و أحاط الامام أصحابه علما بأن وليده من أئمة أهل البيت(ع)الذين فرض اللّه طاعتهم علي عباده قائلا لهم:

«فدونكم،فو اللّه هو صاحبكم» (1).

و كانت ولادته في«الأبواء»و قيل في يثرب (2)و هو مخالف لما عليه عامة المؤرخين،و كانت سنة ولادته(128 ه-) (3)و قيل سنة (129 ه-) (4)و ذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.

اطعام عام

و لم يطل الامام أبو عبد اللّه(ع)المكث في الأبواء فقد ارتحل عنها و اتجه الي يثرب وفور وصوله أقام تكريما لوليده فأطعم الناس من أجله اطعاما عاما ثلاثة أيام (5)و توافدت عليه جماهير شيعته تهنيه بمولوده المبارك

ص: 45


1- بحار الانوار 230/11،دلائل الامامة،
2- وفيات الاعيان 395/4.
3- تهذيب التهذيب 34/10،الطبقات الكبري 33/1،نور الأبصار ص 135،المناقب 323/4،كشف الغمة 2/3.
4- اعيان الشيعة 3/4،و جاء في تحفة الأزهار أنه ولد قبل طلوع فجر يوم الثلاثاء من صفر سنة(127 ه-)و جاء في بحر الانساب أنه ولد يوم الأحد لسبع ليال خلون من صفر،و عين هذا جاء في الدروس.
5- اعيان الشيعة 3/4.

و تشاركه في مسراته و أفراحه.

الطفولة الزاكية

و أخذ الامام موسي يتدرج في طفولته،و هو يرضع من ثدي الايمان و يتربي في حجر الاسلام،يغذيه الامام أبو عبد اللّه الصادق(ع)بعطفه و حنانه،و يفرغ عليه أشعة من روحه العظيمة،و يرشده الي العادات الشريفة،و يهديه الي السلوك النير و قد التقت به في سنه المبكر جميع عناصر التربية الاسلامية حتي بلغ في صغره من الكمال و التهذيب ما لم يبلغه أي انسان.

حب و تكريم

و قطع الامام موسي شوطا من طفولته و هو ناعم البال يستقبل الحياة كل يوم بحفاوة و تكريم،فأبوه يغدق عليه بعطفه المستفيض،و جماهير المسلمين تقابله بالعناية و التكريم،و قد قدمه الامام الصادق(ع)علي بقية ولده،و حمل له من الحب ما لا يحمله لغيره،فمن مظاهر وده أنه وهب له قطعة من أرض تسمي البسرية،كان قد اشتراها بست و عشرين الف دينار (1)و سئل عن مدي حبه له فقال:

«وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبي أحد» (2).

و تكلم الامام موسي و هو طفل بكلام أثار اعجاب أبيه فاندفع

ص: 46


1- دلائل الامامة:ص 49-50.
2- الاتحاف بحب الأشراف:ص 54.

أبوه قائلا:

«الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء،و سرورا من الأبناء،و عوضا عن الاصدقاء» (1).

و تعتقد الشيعة ان مقام الامامة كمقام النبوة بعيد عن المحاباة و الاندفاع بعاطفة الحب،سوي ما يتصل بتأييد الفضيلة و الاشادة بالايمان،و علي ضوء ذلك فالامام أبو عبد اللّه(ع)انما أعلن حبه العارم و مودته الوثيقة لولده لأنه رآه صورة صادقة عنه في مواهبه و عبقرياته،و رأي أنه الامام من بعده علي أمة جده.

صفته:

و وصف رواة الأثر ملامح صورته فقالوا:كان أسمر شديد السمرة (2)و قيل كان اسود اللون (3)و قيل أزهر اللون،ربع القامة،كث اللحية (4)و وصفه شقيق البلخي فقال:كان حسن الوجه،شديد السمرة،نحيف الجسم.

هيبته و وقاره

و حاكي الامام موسي في هيبته هيبة الأنبياء،و بدت في ملامح شكله سيماء الأئمة الطاهرين من آبائه،فما رآه أحد إلا هابه،و أكبره،و قد صور مدي هيبته و وقاره أبو نؤاس شاعر البلاط العباسي حينما التقي به في الطريق،فاندفع أبو نؤاس يقول:

ص: 47


1- بحار الانوار:237/11.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ،أخبار الدول:ص 112.
3- عمدة الطالب:ص 185 النفحة العنبرية:ص 15،و زاد فيه أنه كان رابط الجأش واسع العطاء.
4- أعيان الشيعة 9/4.

إذا أبصرتك العين من غير ريبة و عارض فيك الشك أثبتك القلب

و لو أن ركبا أمموك لقادهم نسيمك حتي يستدل بك الركب

جعلتك حسبي في أموري كلها و ما خاب من أضحي و أنت له حسب (1)

لقد كانت هذه الابيات دفعة من دفعات الروح،و يقظة من يقظات الضمير الحي،فان أبا نؤاس الذي قضي أيام حياته في اللهو و المجون،و كان يعيش علي موائد بني العباس،قد انبري الي هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان من يمدح فيه أهل البيت ينال العقوبة و السخط،فقد دفعته الي ذلك واقعية الامام و مثاليته التي لا ند لها في عصره.

و بهرت أنوار الامام شاعر المعرة أبا العلاء فانطلق في قصيدته التي رثي بها أبا أحمد حفيد الامام،يقول:

و يخال موسي جدكم لجلاله في النفس صاحب سورة الاعراف (2)

و لم يكن أبو العلاء يظن بأحد خيرا أو يمدح انسانا الا ان يختبره و يقف علي واقع أمره و قد انتهت إليه انباء الامام موسي و عرف أنه نسخة لا ثاني لها فلذا انطلق مع المادحين و الواصفين.

نقش خاتمه

أما نقش خاتمه فيدل علي مدي تعلقه باللّه و انقطاعه إليه فقد كانت صورته«الملك للّه وحده» (3).

ص: 48


1- المناقب 318/4.
2- سقط الزند.
3- أخبار الدول:(ص 112).

كنيته

أبو الحسن الاول،أبو الحسن الماضي،أبو ابراهيم،أبو علي، أبو اسماعيل.

ألقابه:

اشارة

أما القابه فتدل علي مظاهر شخصيته و نواحي عظمته،و هي كما يلي:

الصابر

لأنه صبر علي الآلام و الخطوب التي تلقاها من حكام الجور،و الفراعنة الطغاة فقد جرعوه نغب التهمام،و قابلوه بجميع الوان الإساءة و المكروه.

الزاهر لأنه زهر بأخلاقه الشريفة و كرمه المضيء الذي مثل به خلق جده الرسول(ص).

العبد الصالح

و لقب بالعبد الصالح لعبادته،و اجتهاده في الطاعة،حتي صار مضرب المثل في عبادته علي ممر العصور و الاجيال و قد عرف بهذا اللقب عند رواة الحديث فكان الراوي عنه يقول حدثني العبد الصالح.

السيد

لانه من سادات المسلمين،و إمام من أئمتهم،و قد مدحه بهذا اللقب الشاعر الشهير أبو الفتح بقوله:

أنا للسيد الشريف غلام حيثما كنت فليبلغ سلامي

و اذا كنت للشريف غلاما فأنا الحر و الزمان غلامي (1)

ص: 49


1- أخبار الدول:ص 113.
الوفي

لأنه أوفي إنسان خلق في عصره،فقد كان وفيا بارا باخوانه و شيعته و بارا حتي باعدائه و الحاقدين عليه.

الأمين

و كل ما للفظ الامانة من معني قد مثل في شخصيته العظيمة فقد كان أمينا علي شئون الدين و احكامه،و أمينا علي أمور المسلمين و قد حاز هذا اللقب كما حازه جده الرسول الاعظم من قبل،و نال به ثقة الناس جميعا.

قائد العسكر

و من ألقابه(ع)قائد الجيش و العسكر (1)،و استقرب ثقة الاسلام المحقق الشهير الشيخ عباس القمي نضّر اللّه مثواه،أن السبب في ذلك أنه عليه السلام مثّل المنصور في يوم النيروز فدخل عليه الجيش و الامراء يهنونه و يحملون له الهدايا و الألطاف الامر الذي لم يتفق لاحد من آبائه و أبنائه و بهذه المناسبة لقب بذلك (2).

الكاظم

و انما لقب بذلك لما كظمه من الغيظ عما فعل به الظالمون من التنكيل و الارهاق حتي قضي شهيدا مسموما في ظلمات السجون لم يبد لاحد آلامه و أشجانه بل قابل ذلك بالشكر للّه و الثناء عليه،و يقول ابن الاثير:«إنه عرف بهذا اللقب لصبره،و دماثة خلقه،و مقابلته الشر بالاحسان» (3).

ص: 50


1- تحفة الازهار،و زلال الانهار.
2- الكني و القاب(ج 1 ص 176).
3- مختصر تأريخ العرب:ص 209.
ذو النفس الزكية

و ذلك لصفاء ذاته التي لم تتلوث بمآثم الحياة و لا بأقذار المادة حتي سمت،و انبتلت عن النظير.

باب الحوائج

و هذا أكثر ألقابه ذكرا،و أشهرها ذيوعا و انتشارا،فقد اشتهر بين العام و الخاص أنه ما قصده مكروب أو حزين إلا فرج اللّه آلامه و أحزانه و ما استجار أحد بضريحه المقدس إلا قضيت حوائجه،و رجع إلي أهله مثلوج القلب مستريح الفكر مما ألم به من طوارق الزمن و فجائع الايام،و قد آمن بذلك جمهور شيعته بل عموم المسلمين علي اختلاف طبقاتهم و نزعاتهم، فهذا شيخ الحنابلة و عميدهم الروحي أبو علي الخلال يقول:

«ما همني أمر فقصدت قبر موسي بن جعفر الا سهل اللّه تعالي لي ما أحب..» (1).

و قال الامام الشافعي:

«قبر موسي الكاظم الترياق المجرب» (2).

و قد أثقلت كوارث الدهر و مصائب الايام كوكبة من الشعراء و الأدباء ففزعوا إليه و لاذوا بضريحه متوسلين به الي اللّه في رفع محنهم و كشف ما ألمّ بهم من البلاء و المكروه ففرج اللّه عنهم ذلك،و قد قرأنا لهم الشيء الكثير من بليغ النظم،و لو اردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلدا ضخما،و لكنا نذكر بعضهم،فمنهم الحاج محمد جواد البغدادي فقد سعي الي مثوي الامام في حاجة يطلب قضاءها و هو يقول:

يا سمي الكليم جئتك أسعي نحو مغناك قاصدا من بلادي

ص: 51


1- تأريخ بغداد:(ج 1 ص 120)الشيعة و التأريخ.
2- تحفة العالم:(ج 2 ص 20).

ليس تقضي لنا الحوائج إلا عند باب الرجاء جد الجواد

و قد شطرهما آية اللّه العظمي السيد مهدي آل بحر العلوم نوّر اللّه مثواه بقوله:

يا سمي الكليم جئتك أسعي و الهوي مركبي و حبك زادي

مسني الضر و انتحي بي فقري نحو مغناك قاصدا من بلادي

ليس تقضي لنا الحوائج إلا عند باب الحوائج المعتاد

عند بحر الندي ابن جعفر موسي عند باب الرجاء جد الجواد (1)

و خمسها الخطيب عباس البغدادي بقوله:

لم تزل للانام تحسن صنعا و تجير الذي أتاك و ترعي

و إذا ضاقت الفضا بي ذرعا يا سمي الكليم جئتك أسعي

و الهوي مركبي و حبك زادي

أنت غيث للمجدبين و لو لا فيض جدواكم الوجود اضمحلا

قسما بالذي تعالي وجلا ليس تقضي لنا الحوائج إلا

عند باب الرجاء جد الجواد

و ممن نظم في ذلك شاعر النبوغ و العبقرية المرحوم السيد عبد الباقي العمري بقوله:

لذ و استجر متوسلا إن ضاق أمرك أو تعسر

بأبي الرضا جد الجوا د محمد موسي بن جعفر (2)

لقد كان الامام موسي في حياته مفزعا و ملجأ لعموم المسلمين و كذلك كان بعد وفاته حصنا منيعا لمن استجار به لأن اللّه عز اسمه قد منحه بقضاء3.

ص: 52


1- ديوان السيد مهدي آل بحر العلوم مخطوط بمكتبة العلامة السيد صادق آل بحر العلوم
2- ديوان عبد الباقي:ص 133.

حوائج المستجيرين بضريحه و الي ذلك أشار ثابت الواعظ في قصيدته التي مدح بها يحيي بن جعفر أبا الفضل بقوله:

و في الجانب الشرقي يحيي بن جعفر و في الجانب الغربي موسي بن جعفر

فذاك الي اللّه الكريم شفيعنا و هذا الي المولي الامام المطهر (1)

لقد اعتقد أغلب المسلمين أن اللّه يكشف البلاء،و يدفع الضر بالالتجاء الي ضريح الامام(ع)و روي الخطيب البغدادي قصة كان فيها شاهد عيان فقد رأي امرأة مذهولة قد فقدت رشدها،و هامت في تيار من الهواجس و الهموم لأنها أخبرت أن ولدها قد ارتكب جريمة،و ألقت عليه السلطة المحلية القبض و أودعته في السجن،فأخذت تهرول نحو ضريح الامام مستجيرة به فرآها بعض الأوغاد ممن لا يؤمن بالامام فقال لها:

-الي أين؟ -الي موسي بن جعفر،فانه قد حبس ابني.

فقال لها بسخرية و استهزاء:

«إنه قد مات في الحبس».

فاندفعت تقول بحرارة و قد لذعها قوله:

«اللهم بحق المقتول في الحبس ان تريني القدرة».

فاستجاب اللّه دعاءها،فأطلق سراح ولدها،و أودع ابن المستهزئ في ظلمات السجون بجرم ذلك الشخص (2)و هكذا أراد اللّه أن يريها القدرة و يري ذلك الشخص كرامة الامام عنده،و أنا شخصيا قد ألمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي ففزعت إليه،و هرعت الي ضريحه بنية صادقة ففرج اللّه عني،و كشف عني ما ألمّ بي،و لا شك في هذهد.

ص: 53


1- النجوم الزاهرة.
2- تأريخ بغداد.

الظاهرة التي اختص بها الامام الا من هو مرتاب في دينه و اسلامه.

لقد آمن المسلمون بذلك منذ فجر تأريخهم،و اعتقدوا اعتقادا لا يخامره أدني شك في أن أهل البيت(ع)لهم المقام الكريم عند اللّه،و انه يستدفع بهم البلاء،و تستمطر السماء-كما قال جابر بن عبد اللّه في حديثه مع الامام علي بن الحسين(ع)-و قال الفرزدق في قصيدته العصماء التي مدح بها الامام زين العابدين:

من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجي و معتصم

يستدفع السوء و البلوي بحبهم و يسترب به الاحسان و النعم

ان قبورهم ملاذ و ملجأ للسائلين يقول الجواهري:

و الناصبين بيوتهم و قبورهم للسائلين عن الكرام دليلا

و الطامسين من الجهالة غيهبا و المطلعين من النهي قنديلا (1)

لقد منحهم اللّه بألطافه،و خصهم بالمزيد من كرماته أحياء و أمواتا.8.

ص: 54


1- ديوان الجواهري 177/3-178.

عبقريّة و نبوغ

اشارة

ص: 55

ص: 56

و قبل أن نتحدث عن الذكاء المفرط الذي اتصف به الامام موسي(ع) في سنه المبكر،نعرض الي أن العوامل التربوية التي تتكون منها الشخصية الفذة قد ظفر الامام بأروع وسائلها،و معطياتها.

لقد نص علماء التربية و غيرهم علي العوامل المؤدية الي بناء الكيان التربوي،و الي النتائج السلوكية للشخص و هي:

العوامل التربوية

1-الوراثة

و ذهب علماء الوراثة و النفس الي أن الوراثة من الاسباب الفعالة في التكوين النفسي و النمو الفكري،و ان الذكاء،و سائر الوان النضوج العقلي للشخص يستند الي الوراثة استنادا مباشرا،فالفرع لا يقتصر في مشابهته لأصله علي مظاهره الشكلية،و انما يشابهه في خواصه الذاتية،و في أدق صفاته،يقول«هكسلي»:

«إنه ما من أثر أو خاصة لكائن عضوي الا و يرجع الي الوراثة أو الي البيئة،فالتكوين الوراثي يضع الحدود لما هو محتمل،و البيئة تقرر أن هذا الاحتمال سيتحقق،فالتكوين الوراثي إذن ليس الا القدرة علي التفاعل مع أية بيئة بطريق خاص..».

و معني هذا أن جميع الآثار و الخواص التي تكون في الأجهزة الحية من الانسان ترجع الي الوراثة او الي البيئة و المحيط الذي يعيش فيه الانسان، و أكد«مندل»هذه الظاهرة الوراثية التي تسمي بالوراثة الاقترانية فقال:

«ان كثيرا من الصفات الوراثية تنتقل بدون تجزئة أو تغيير من أحد الاصلين او منهما الي الفرع».

و قرر«جنجز»ذلك بقوله:«إن كل انسان لديه قوي موروثة

ص: 57

كامنة،و لكن اظهار أية واحدة يقف علي الظروف التي تحيط بهذه القوي عند نموها..».

و قد اكتشف الاسلام هذه الظاهرة،قبل أن يكتشفها علماء الوراثة و النفس،فقد أثر عن النبي(ص)أن رجلا من الانصار أقبل إليه،فقال له:

يا رسول اللّه،هذه بنت عمي،و أنا فلان ابن فلان..حتي عد عشرة آباء له،و هي بنت فلان حتي عد عشرة آباء لها،و ليس في حسبي و لا حسبها حبشي،و انها وضعت هذا الحبشي،فأطرق رسول اللّه(ص)ثم رفع رأسه و قال له:

«إن لك تسعة و تسعين عرقا،و لها تسعة و تسعون عرقا،فاذا اشتملت اضطربت العروق،و سأل اللّه عز و جل كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه قم فانه ولدك،و لم يأتك إلا من عرق منك،أو عرق منها..» فانصرف الرجل آخذا بيد امرأته،و ولده،و في حديث آخر«تخيروا لنطفكم فان العرق دساس».

و أشار القرآن الكريم الي ما تنقله الوراثة من أدق الصفات،قال تعالي حكاية عن نبيه نوح:«رب لا تذر علي الارض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا الا فاجرا كفارا» (1)لقد دلت الآية بوضوح علي انتقال عقائد الكفر و الالحاد بالوراثة من الآباء الي أبنائهم...و قد حفلت موسوعات الحديث بالاخبار الكثيرة التي وردت عن أئمة أهل البيت(ع)و هي تدل علي واقع الوراثة و قوانينها و آثارها و مالها من الأهمية البالغة في حياة الانسان (2).

و علي ضوء قاعدة الوراثة نجزم بأن الامام موسي(ع)قد ورث منم.

ص: 58


1- سورة نوح:آية 26.
2- النظام التربوي في الاسلام.

آبائه(ع)جميع صفاتهم التي امتازوا بها علي سائر الناس من الكرم و السخاء و الحلم و الرحمة و حب الخير،و البر بالناس،و التفاني في سبيل الصالح العام.

2-الأسرة

إن الأسرة احدي العوامل الاساسية في بناء الكيان التربوي،و ايجاد عملية التطبع الاجتماعي،فلها الأثر التام في تكوين شخصية الطفل،و اكسابه العادات التي تبقي ملازمة له طوال حياته،فان الطفل مقلد للغير في عاداته و سلوكه،يقول ما ندر:

«إن الطفل في أصغر ما يلزمه من العادات،و في أهم الخصائص العقلية،و في الموقف العام الذي يقفه من الناس،و في وجهة النظر العامة التي ينظر بها الي الحياة أو العمل في كل هذه الاشياء مقلد الي حد كبير،و قد يكون التقليد أحيانا شعوريا مقصودا،و لكنه في أغلب الحالات يكون لا شعوريا،فاذا منح الطفل بتقليده الاشخاص المهذبين ظل متأثرا باخلاقهم و عواطفهم، و ان هذا التأثير في اول الامر يعتبر تقليدا،و لكنه سرعان ما يصبح عادة و العادة طبيعة ثانية،و التقليد هو أحد الطريقين اللذين تكتسب بهما الخصائص الفردية،و تتكون بهما الاخلاق الشخصية» (1).

و علي هذا الرأي فالامام كان وحيدا في خصائصه و مقوماته لأنه نشأ في أسرة هي معدن التقوي،و خزنة الحكمة و العلم،و مختلف الملائكة،و مهبط الوحي و التنزيل،و إليها تنتهي كل مكرمة و فضيلة في الاسلام.

لقد نشأ الامام موسي في احضان أبيه الامام الصادق الذي ما عرف التأريخ الانساني نظيرا له في إيمانه و تقواه و سائر نزعاته عدا آبائه الأئمة

ص: 59


1- علم النفس في الحياة.

الطاهرين،و قد قال فيه تلميذه مالك بن أنس:«ما رأت عين،و لا سمعت أذن،و لا خطر علي قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق،علما و عبادة و ورعا»و قال عمرو بن المقدام:«كنت اذا نظرت الي جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين» (1)و قال الشهيد زيد بن علي(ع):

«في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به علي خلقه،و حجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه و لا يهتدي من خالفه» (2)و قد سكب هذا الامام العظيم في نفس ولده موسي جميع مثله و نزعاته حتي صار بحكم نشأته و تربيته من أفذاذ الفكر الاسلامي و من ابرز أئمة المسلمين.

3-البيئة

و أجمع المعنيون في البحوث التربوية علي أن البيئة من أهم العوامل التي تعتمد عليها التربية فهي التي تكون في نفس الطفل الغرائز و العادات،فاذا كانت سليمة حسنت آثارها،و اذا كانت ملوثة بالجرائم و الانحراف فان النشيء حتما يصاب بعاهاتها و آفاتها.

إن الانسان لا يخضع في سلوكه لتكوينه الداخلي فحسب،و انما يخضع للعوامل الخارجية التي تتفاعل معه،و تؤثر فيه،و بذلك تطبع البيئة آثارها في دخائل الذات،و اعماق النفس،و بها تحقق درجة عالية من التكامل الاجتماعي فيما اذا حسنت.

ان استقرار البيئة الاجتماعية،و عدم اضطراب الأسرة لها دخل كبير في استقامة سلوك النشيء و وداعته و سلامته من الانحراف،و قد بحثت مؤسسة

ص: 60


1- تهذيب التهذيب 104/2.
2- المناقب 147/2.

اليونسكو في هيئة الامم المتحدة عن المؤثرات غير الطبيعية في نفسية الطفل و بعد دراسة مستفيضة قام بها الاخصائيون ادلوا بما يلي:

«مما لا شك فيه ان البيئة المستقرة سيكولوجيا،و الاسرة الموحدة التي يعيش اعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تكيف الطفل من الناحية العاطفية،و علي هذا الاساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة فرضية،أما إذا شوهت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع» (1).

و كانت البيئة التي عاش فيها الامام بيئة دينية تسودها القيم الانسانية و المثل العليا،و اما البيت الذي عاش فيه فقد كان معهدا من معاهد الفضيلة و مدرسة من مدارس الايمان و التقوي،قد غمرته المودة،و عدم الكلفة و اجتناب هجر الكلام و مره و بذلك فقد توفرت للامام جميع عناصر التربية الرفيعة.

ذكاء و نبوغ

و قسم علماء النفس الذكاء الي نوعين،الذكاء الاجتماعي،و الذكاء المجرد،و قالوا:في التفرقة بينهما،إن الذكاء الاجتماعي يتمثل في فهم الناس فهما صحيحا،و السلوك معهم بحكمة و روية،و الذكاء المجرد قوامه فهم المدركات الكلية و الرمزية التي منها فهم المذاهب العلمية و التمييز بين الصحيح منها و السقيم (2).

ص: 61


1- أثر الأسرة و المجتمع في الاحداث الذين هم دون الثالثة عشر، مؤسسة اليونسكو ص 35.
2- مجلة حياتك العدد 157/6 مقال للبروفسور«ثورندك».

و قد جمع الامام موسي في سنه المبكر بين هذين النوعين و ذلك في فهمه للناس و سلوكه معهم بالحكمة و الروية،و ادراكه لحقائق الامور،و معرفته بخفايا الأشياء التي لم يدركها كبار العلماء.

و هناك ظاهرة تملك القلوب اعجابا و دهشة و هي احاطة الامام موسي(ع) في سنه المبكر بأنواع من العلوم و المعارف مع ان المرحلة الاولي من سني حياة الانسان لا تساعده علي ذلك،و لا يمكن تعليل هذا الامر إلا بما تلتزم به الشيعة،و تجمع عليه من ان الامام في جميع مراحل حياته لا بد ان يكون أعلم أهل عصره،و اكثرهم دراية،و احاطة بجميع ما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها،و ان علمه إلهامي لا كسبي كما هو الحال في الأنبياء.

و لم يختص الامام موسي بهذه الظاهرة فقد شاركه فيها جميع أئمة أهل البيت(ع)فقد كان حفيده الجواد اصغر الأئمة سنا،و قد رجعت إليه الشيعة،و قالت:بامامته بعد وفاة أبيه الرضا(ع)و كان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين،و قد عقد له المأمون مؤتمرا علميا،و عهد الي كبار الفقهاء و العلماء ان يمتحنوه بأهم المسائل و اكثرها غموضا و تعقيدا فتقدموا إليه و سألوه فأسرع الي الجواب عنها و خاضوا معه مختلف العلوم و الفنون و قد أجاب عن كل ما سأل عنه،و خرج منهم ظافرا منتصرا قد ملك قلوبهم اعجابا به،و قد دان شطر منهم بامامته،و قد أجمع المترجمون للامام الجواد علي تدوين ذلك عنه.

و للتدليل علي مدي المقدرات العلمية الهائلة التي كان يتمتع بها الامام موسي في حال صباه نذكر بعض البوادر التي أثرت عنه في سنه المبكر.

ص: 62

مع أبي حنيفة

كان أبو حنيفة من الذاهبين الي(الجبر)و الداعين إليه،و بنص هذا الرأي علي أن الفعل الصادر من الانسان ليس مخلوقا له،و ليس صادرا منه باختياره،و انما هو مخلوق للّه،و صادر عن ارادة اللّه،و ان ارادة الانسان و قدرته لا مدخل لها في ايجاد أي فعل سواء أ كان صادرا منه باختياره أم مكرها عليه،و قد اجمعت الشيعة علي بطلان ذلك،و بعده عن الصواب و قد أثبت علماء الاصول زيفه،و قرروا بصورة وجدانية ان أي فعل اختياري لا بد أن يسبق بمقدمات ارادية و هي:

1-تصور الشيء في الذهن 2-ميل النفس له 3-الجزم بفائدته فاذا تمت هذه الجهات في أفق النفس تعلقت الارادة بالفعل،و سعي الانسان لايجاده أو الي الامر به،حسنا كان ذلك العمل او قبيحا (1)و ليس هناك أي قسر أو اجبار للانسان علي فعله.

و علي أي حال فان أبا حنيفة في طليعة الذاهبين الي«الجبر»و قد سافر

ص: 63


1- أوضح هذه الامور و أولاها بمزيد من البيان و الاستدلال الاستاذ آية اللّه العظمي السيد أبو القاسم الخوئي،في بحوثه في علم الاصول،و قد استدل بالادلة الحاسمة علي بطلان الجبر و التفويض و أثبت«الامر بين الامرين» و هو ما ذهب إليه أئمة أهل البيت و قد دونا ما أفاده في كتابنا«تقريرات آية اللّه الخوئي)في علم الاصول.

الي يثرب ليحاجج الامام الصادق(ع)الذي عرف بانه من خصوم هذه الفكرة،و لما انتهي إليها قصد دار الامام،و جلس في دهليز الدار ينتظر الأذن و بينما هو جالس اذ خرج صبي يدرج فبادره أبو حنيفة قائلا:

«أين يضع الغريب؟» فالتفت إليه الصبي،و قال له:علي رسلك،ثم جلس متأدبا،و استند الي الحائط،و اتبري إليه يجيبه عن سؤاله قائلا:

«توق شطوط الانهار،و مساقط الثمار،و أفنية المساجد،و قارعة الطريق و توار خلف الجدار،و لا تستقبل القبلة،و لا تستدبرها،وضع أين شئت»و قد بين له الاماكن التي يكره و يحرم فيها التغوط،فبهر أبو حنيفة و ذهل فانه لم يحسب أن هناك صبيا يملك هذه المقدرة العلمية،و اندفع قائلا:

-ما اسمك؟ -موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و لما عرف أبو حنيفة أن الصبي فرع من دوحة النبوة و الامامة اطمأنت نفسه،و تقدم إليه بالسؤال الذي أعده للامام الصادق قائلا:

«يا غلام ممن المعصية؟هل هي من اللّه أو من العبد؟» و انطلق الامام فأجابه:

«لا تخلو أما أن تكون من اللّه،و ليس من العبد شيء،فليس للّه أن يأخذ العبد بما لم يفعل،و أما أن تكون من العبد و من اللّه،و اللّه أقوي الشريكين،فليس للشريك القوي أن يأخذ الضعيف بذنب هما فيه سواء، و إما أن تكون من العبد،و ليست من اللّه فان شاء عفا،و ان شاء عاقب و هو المستعين..».

و حفل هذا الاستدلال بمقتضي الحصر العقلي بجميع مقومات الأدلة العلمية الوثيقة التي لا تقبل الحل أو النقض.

ص: 64

و وقف أبو حنيفة مبهورا قد ملئت الدهشة اهابه فانطلق يرفع عقيرته قائلا:

«قد استغنيت،بما سمعت!!» و خرج منهزما قد بان عليه العجز،و لم يجتمع بالامام الصادق،و قد شاع رد الامام عليه و عجزه عن جوابه في الاوساط العلمية،و قد انبري بعض الشعراء الي نظم جوابه(ع)بقوله:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها إحدي ثلاث معان حين نأتيها

اما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لالهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (1)

لقد دلت هذه البادرة علي مدي ما وصل إليه الامام موسي من العلوم و المعارف في سنه المبكر،فقد ادرك ما لا تدركه أفكار كبار العلماء،حتي لم يستطع أبو حنيفة الوقوف أمام منطقه الفياض،و لم يجد طريقا أسلم له و لا احفظ لمكانته سوي الانهزام،و عدم الخوض معه بأي مسألة من المسائل و بهذا فقد ثبت أنه كان يملك رصيدا كبيرا من العلم و الذكاء ما لا يملكه أي انسان في هذا السن عدا من خص بالامامة من آبائه و ابنائه.

حكمه علي أبي الخطاب

كان محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي الشهير بأبي الخطاب من أئمة الملحدين في العالم العربي و الاسلامي،و قد أفسد علي الناشئة الاسلامية دينها فقد ابتدع مبدءا حارب فيه جميع النظم الاسلامية،و قد ذكر اصول دعوته

ص: 65


1- أمالي المرتضي 105/1-106،بحار الانوار 1049/4

القاضي أبو حنيفة المغربي فقال:

«و زعم أن جعفر بن محمد إله-تعالي اللّه عن قوله-و استحل المحارم كلها و رخص فيها،و كان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه و قالوا يا أبا الخطاب خفف علينا فيأمرهم بتركها حتي تركوا جميع الفرائض و استحلوا جميع المحارم،و ارتكبوا المحظورات و أباح لهم أن يشهد بعضهم لبعض بالزور،و قال من عرف الامام فقد حل له كل شيء كان حرم عليه» (1).

و قد ظهرت مبادئه الهدامة علي مسرح الكوفة،كما ظهر في وقت كان الاضطراب السياسي في أوجه و الدعوة العباسية تشق طريقها في ثبات و نجاح فساعدته الظروف أن يجمع حوله من أبناء الكوفة تلاميذ يلقنهم تعاليمه،و يرسم لهم خطط الدعوة و التجمع و الظهور (2)و لما بلغت بدعه و الحاده الامام الصادق(ع)تبرأ منه،و لعنه علي رءوس الاشهاد لانه كان من أصحابه و أتباعه ثم ارتد بعد ذلك،و قد هرع عيسي الشلقاني الي الامام الصادق عليه السّلام يسأله عن رأيه في هذا الملحد الخطير،فقال(ع):

«يا عيسي،ما منعك أن تلقي ابني-يعني الامام موسي-فتسأله عن جميع ما تريد؟».

فانعطف عيسي نحو الامام و كان آنذاك صبيا في المكتب فلما رآه عليه السلام انبري إليه مجيبا قبل أن يسأله قائلا له:

«يا عيسي،ان اللّه تبارك و تعالي أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا،و أخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا،و أعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم إياه،و إن أبا الخطاب ممن أعير الايمان3.

ص: 66


1- دعائم الاسلام:ص 64.
2- حركات الشيعة:ص 73.

تم سلبه إياه..».

و أكبر عيسي جواب الامام فقام إليه و ضمه و قبل ما بين عينيه و انطلق يقول:

«بأبي أنت و أمي،ذرية بعضها من بعض،و اللّه سميع عليم!!».

ثم قفل راجعا الي الامام أبي عبد اللّه فاخبره بالعجب الذي رآه، من مواهب الامام موسي(ع)فقال له أبو عبد اللّه:

«يا عيسي:إن ابني هذا لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم..».

ثم إنه أمر باخراج ولده من المكتب،و في ذلك الوقت أيقن عيسي بامامة موسي(ع)و انه ولي عهد أبيه و خليفته علي الناس أجمعين (1)، و من بوادر ذكائه المفرط أنه جاء الي أبيه فأجلسه في حجره و كان معه لوح فقال له:يا بني اكتب«تنح عن القبيح و لا ترده»فلما رسم ذلك قال له يا بني اجزه،فاندفع فورا يقول:«و من أوليته حسنا فزده»ثم القي له الامام شطرا آخر يطلب منه اجازته و هو«ستلقي من عدوك كل كيد» فأجازه«إذا كاد العدو فلا تكده»و فرح الامام بمواهب ولده و عبقريته فضمه إليه و هو يبدي اعجابه به قائلا:(ذرية بعضها من بعض) (2)و من آيات نبوغه في طفولته ما حدث به صفوان الجمال،قال:سألت أبا عبد اللّه(ع)عن صاحب هذا الامر؟-أي عن الحجة من بعده- فقال لي:

(صاحب هذا الامر لا يلهو و لا يلعب) يقول صفوان:بينما يحدثني عن ذلك،إذ أقبل أبو الحسن موسي2.

ص: 67


1- البحار:237/11.
2- المناقب:380/2.

و هو صبي يافع و معه بهمة عناق (1)و هو يخاطبها قائلا:اسجدي لربك فأخذه أبو عبد اللّه(ع)و ضمه إليه و هو يقول له:

(بأبي أنت و أمي من لا يلهو و لا يلعب!!) (2).

نسوق هذه البوادر و هي تكشف جانبا كبيرا من نبوغه و ذكائه و كأنه بهذا الذكاء العجيب لم يمر في مرحلة من مراحل الطفولة.1.

ص: 68


1- البهمة:الواحدة من أولاد الضان.
2- البحار:236/11.

في جامعة الإمام الصّادق

اشارة

ص: 69

ص: 70

و كان من أهم ما عني به الاسلام في رسالته المشرقة نشر الوعي الثقافي و اشاعة العلم بين الناس،و من أجل ذلك جعل طلب العلم فريضة دينية يتحتم علي المسلمين القيام بها لتطوير حياتهم في المجالات الاقتصادية و السياسية و جعلهم أمة صالحة تتوفر فيهم القيادة الرشيدة لشعوب العالم و أممه.

ان الاسلام يؤمن بالعلم،و يؤمن بمقدرته الخلافة في صنع الحضارة الانسانية،و انه لا يمكن للانسان أن يصل الي أهدافه السليمة في بناء مجتمعه إلا علي أساس من الوعي العلمي القائم علي الفهم،و التعقل لحقائق الأمور و من ثمّ فقد جعل الاسلام التسلح بالعلم ضرورة فردية و اجتماعية.

و قد قام أئمة أهل البيت(ع)بدور إيجابي في بعث الحركة العلمية و تطويرها في دنيا العرب و الاسلام،بالرغم من المضايقات الشديدة التي كانوا يلاقونها من حكام عصورهم،و من أبرز الفعاليات التي بذلوها في هذا السبيل تشكيل جامعة علمية تهدف الي بسط العلم بجميع أنواعه و تهدف الي تحرير افكار المسلمين من رواسب الجهل و الجمود،و نعرض فيما يلي الي بعض شئونها.

المؤسس الأول

و المؤسس الأول لهذه الجامعة العلمية الكبري الامام امير المؤمنين الرائد الأول للعلم و التطور في الاسلام،و قد جهد علي نشر العلوم و تثقيف المسلمين و قد اتخذ جامع الكوفة مدرسة له،فكان يلقي من علي منبره خطبه الذهبية الحافلة بعلم الاقتصاد و السياسة و الادارة و الفلسفة و الحكمة،و اصول التربية الواعية الهادفة الي اقامة حسن السلوك و الاخلاق،و قد خص اصحابه و حواريه بعلومه النيرة المستمدة من علوم النبي العظيم(ص)فقد أخذوا منه علم

ص: 71

الكلام و التوحيد و علم الفقه و الشريعة و التفسير،و علوم البلاغة و غيرها،و قد أمدوا العالم الاسلامي بمؤلفاتهم و تراثهم،فكان منهم عبد اللّه بن عباس حبر الامة،و المرجع الكبير لعلوم القرآن،و منهم أبو الأسود الدؤلي الاستاذ الاول في علم النحو،و منهم أبو رافع الذي هو أول من صنف علم المغازي و السير في الاسلام (1)و هو صاحب كتاب السنن و الاحكام و القضاء (2)و كانت الصحابة تكبر هذا الكتاب،و تعظمه (3)الي كثير من أمثال هؤلاء العلماء الذين أضاءوا الحياة الفكرية في الاسلام و قام الامام الحسن(ع)ريحانة الرسول و سبطه الاول بعد أبيه بتنمية تلك المؤسسة العلمية و رعايتها،و لكنها انتقلت من الكوفة الي يثرب بعد غدر أهل العراق به و قد اتخذ(ع)الجامع النبوي معهدا له فكان يلقي به محاضراته العلمية،و قد ذكر رواة الأثر بعض اعلام تلامذته و رواة حديثه و هم:

الحسن المثني،و المسيب بن نجبة،و سويد بن غفلة،و العلا بن عبد الرحمن،و الشعبي،و هبيرة بن بركم،و الاصبغ بن نباتة،و جابر بن خلد،و أبو الجواز،و عيسي بن مأمون بن زرارة،و نفالة بن المأموم، و أبو يحيي عمير بن سعيد النخعي،و أبو مريم بن قيس الثقفي،و طحرب العجلي،و اسحاق بن يسار والد محمد بن اسحاق،و عبد الرحمن بن عوف و سفين بن الليل،و عمر بن قيس الكوفيون (4).

و قد ازدهرت يثرب في ذلك العصر فكانت من أخصب البلاد الاسلامية علما و أدبا و ثقافة.

و انبري الامام الحسين(ع)بعد وفاة أخيه الي رعاية ذلك المعهد،ر.

ص: 72


1- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام(ص 232).
2- اعيان الشيعة /1القسم الثاني(ص 34-35).
3- رجال النجاشي(ص 5).
4- حياة الامام الحسن 280/2 نقلا عن تأريخ ابن عساكر.

و تغذية طلابه بأنواع العلوم إلا أنه لم يطل معهم العهد فقد ابتلي بطاغية زمانه يزيد بن معاوية،و امتحن به امتحانا عسيرا،فقد اعلن يزيد الكفر و الالحاد فرأي(ع)أن الواجب الديني يحتم عليه أن يفدي دين جده بدمه الغالي، و أن يقدم الكواكب من ابنائه و أهل بيته ضحايا في سبيل كلمة التوحيد و انقاذ المسلمين من جور الامويين و بطشهم،و قد سجل(ع)بذلك أروع تضحية في سبيل الحق و المبدأ لم يشاهد التأريخ الانساني أسمي و لا أنبل منها.

و بعد شهادة أبي الضيم انصرف الامام ولده علي بن الحسين (1)الي العبادة فكان يصوم نهاره،و ينفق ليله متعبدا حتي صار كالشن البالي من كثرة عبادته،بالاضافة الي الاحزان الموجعة التي تنتابه في كل فترة من حياته علي ما حل بأبيه من الرزايا و الخطوب،فكانت فاجعة كربلا ماثلة امامه،و هو غارق في تيار من الآلام و الأحزان،و قد عد احد البكائين الخمس اللذين مثلوا الأسي و اللوعة في دنيا الوجود،و مع هذه الآلام المبرحة التي لم تفارقه،فقد قام(ع)بدور مهم في تزويد العلماء و الرواة بأحاديثه في مختلف العلوم و الفنون فقد روي عنه اولاده محمد و زيد و عبد اللّه و أبو سلمة بن عبد الرحمن و طاوس بن كيسان،و أبو الزناد،و عاصم بن عمر بن قتادة،و عاصم بن عبيد اللّه،و القعقاع بن حكيم،و زيد بن اسلم و الحكم بن عتيبة،و حبيب بن أبي ثابت،و أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل،و مسلم البطين،و يحيي بن سعيد الانصاري،و هشام بن عروة7.

ص: 73


1- قال الزهري:ما رأيت قرشيا افضل من علي بن الحسين،و قال أيضا ما رأيت أحدا كان افقه منه،و قال ابن وهب عن مالك لم يكن في أهل بيت رسول اللّه(ص)مثل علي بن الحسين. تهذيب التهذيب 305/7.

و علي بن زيد بن جدعان و آخرون (1).

لقد روي عنه هؤلاء الرواة مختلف العلوم.و رووا عنه«الصحيفة السجادية»التي هي انجيل آل محمد(ص)و ذلك لما حوته من الثروات الفكرية المتميزة بوضع قواعد الاخلاق،و أصول الفضائل،و علوم التوحيد و غيرها.

و رووا عنه«رسالة الحقوق»التي هي أروع رسالة ألفت في الاسلام فقد وضعت الاسس الخلاقة لحقوق الدولة علي الشعب،و حقوق الشعب علي الدولة،و حقوق المسلمين بعضهم علي بعض،كما صاغت البرامج العامة لاصول التربية و انواع السلوك و آداب التعليم،و حقوق المعلم علي المتعلمين الي غير ذلك من الحقوق التي لا غني للناس عنها في حياتهم الفردية و الاجتماعية.

و رووا عنه الحكم الصائبة و الآراء القيمة و الامثال السائرة،و بذلك فقد ساهم الامام في بناء الحياة العلمية،و تطوير الحياة الفكرية في الارض.

و قام الامام محمد الباقر(ع) (2)بعد وفاة أبيه برعاية تلك المؤسسة الدينية و تزويد علمائها و طلابها بعلوم الاسلام و آدابه،و قد ازدهرت في عصره معاهد العلم،و التف حوله العلماء ينتهلون من نمير علومه،و كان1.

ص: 74


1- تهذيب التهذيب 305/7.
2- لقب بالباقر لتبحره في العلم،و قد لقبه بذلك النبي(ص)قبل أن يولد عليه السلام كما في حديث جابر بن عبد اللّه الانصاري ان الرسول(ص) قال له:(يوشك أن تبقي حتي تلقي ولدا لي من الحسين يقال له محمد يبقر العلم بقرا فاذا لقيته فاقرأه مني السلام)جاء ذلك في الفصول المهمة لابن الصباغ(ص 193)و قريب منه جاء في عيون الاخبار لابن قتيبة 212/1.

المرجع الوحيد للعالم الاسلامي في عصره لعلوم الشريعة،و فيه يقول مالك الجهني:

إذا طلب الناس علم القرآن كانت قريش عليه عيالا

و ان فاه فيه ابن بنت النبي تلقت يداه فروعا طوالا

نجوم تهلل للمدلجين فتهدي بأنوارهن الرجالا (1)

و كان علماء عصره يتصاغرون أمامه (2)اعترافا منهم بسمو منزلته العلمية التي لا يدانيها أحد.

و روي عنه ثقاة الرواة طاقات كبيرة من فقه اهل البيت(ع)أمثال زرارة بن أعين الذي قال فيه الامام الصادق(ع):«لو لا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب» (3)و محمد بن مسلم،و قد سمع منه ثلاثين الف حديث (4)و أبو بصير،و قد قال الامام الصادق فيه و في اخوانه:«لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست» (5)و عبد الملك بن أعين،و قد دعا له الامام الصادق،فقال اللهم ان أبا الضريس كنا عنده خيرتك من خلقك،فصيره في ثقل محمد صلواتك عليه يوم القيامة» (6)و روي عنه عمر بن دينار و هو من رجال الصحاح الستة،و الاعرج و الزهري و ابو جهضم موسي بن سالم،و القاسم بن الفضل،و الاوزاعي،و ابن جريح،و الاعمش و شيبة بن نصاح،و عبد اللّه بن أبي بكر،و عمر بن حزم،و عبد اللّه7.

ص: 75


1- الاتحاف بحب الاشراف ص 52.
2- مرآة الجنان 248/1.
3- رجال الكشي ص 88.
4- رجال الكشي ص 112.
5- رجال الكشي ص 113.
6- رجال الكشي ص 117.

ابن عطاء،و بسام الصيرفي،و حرب بن سريج،و حجاج بن أرطاة، و محمد بن سوقة،و مكحول بن راشد،و معمر بن بسام (1)و غيرهم، و قد ازدهرت الحياة العلمية،و نمت في دوره جامعة أهل البيت(ع)التي أمدت العالم الاسلامي بجميع مقومات النهضة الفكرية.

في عهد الامام الصادق

و فجّر الامام الصادق(ع)ينابيع العلم و الحكمة في الارض،و فتح للناس أبوابا من العلوم لم يعهدوها من قبل،و قد ملأ الدنيا بعلمه-كما قال الجاحظ- (2)و نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان،و انتشر صيته في جميع البلدان-كما أدلي بذلك ابن حجر- (3).

و من أبرز الفعاليات التي بذلها الامام في نشر العلم و اشاعته بين الناس تنميته لجامعة أهل البيت،و مدها بعناصر الحياة و البقاء،و نظرا لدوره الايجابي في اتساعها و انطلاقها من مستوي خاص الي مستوي عال بلغت به القمة من بين المعاهد و الجامعات العلمية في جميع العصور،و لهذا فقد نسبت إليه،و أضيفت له.

لقد عملت جامعة الامام الصادق علي ايقاظ الفكر البشري،و بلورة العقلية الاسلامية،و تطوير المجتمع الانساني،و قد انتجت صفوة العلماء، و قادة المفكرين و الملهمين،و قد جهدوا علي نشر العلم بجميع أنواعه،و ببركة جهودهم نضجت الحياة الفكرية في ذلك العصر،و استحق أن يمنح و سام

ص: 76


1- تهذيب التهذيب 350/9.
2- رسائل الجاحظ للسندوبي ص 106.
3- الصواعق المحرقة ص 120.

العصر الذهبي في الاسلام.

و أدلي بعض الباحثين عن مدرسة الامام بما نصه:

«و الحقيقة ان مدرسة الامام جعفر الصادق الفكرية قد انجبت خيرة المفكرين،و صفوة الفلاسفة،و جهابذة العلماء،و اذا كانت هناك حقيقة يجب أن تقال فهي:أن الحضارة الاسلامية و الفكر العربي مدينان لهذه المدرسة الفكرية بالتطور و الرقي و الخلود،و لعميدها الصادق بالمجد العلمي و التراث الثمين».

لقد عملت مدرسة الامام علي الانطلاق الفكري،و نشر الوعي العلمي و قد جندت جمهرة كبيرة من العلماء للقيام بتثقيف المسلمين،و تهذيبهم، و تقديمهم في الميادين العلمية،و فيما يلي عرض موجز لشؤون هذا المعهد الكبير في عهد الامام الصادق(ع).

عوامل النمو و الازدهار

أما العوامل التي أدت الي نمو مدرسة الامام الصادق و انطلاقها-ففيما نحسب-هي ما يلي:

1-إن العالم الاسلامي في عهد الامام الصادق(ع)كان يرزح بالفتن و الاضطراب،و يموج بالأهواء الفاسدة و النزعات الخاصة،قد سادت فيه الأحزاب التي أدت الي تفكك المجتمع،و تفلل قطعاته،قد اشتعلت نار الحرب في جميع حواظره و أقاليمه،و ذلك بسبب انهيار الامبراطورية الأموية و قيام الدولة العباسية و قد انصرف المسلمون بسبب تلك الأحداث الجسام عن العلوم و المعارف و اتجهوا الي تلك الأحداث الرهيبة فهم ما بين مؤيد للعهد المباد و بين مؤيد للحكم الجديد،و قد انشغلوا بالدفاع عن افكارهم

ص: 77

السياسية عن طلب العلم و التوجيه الديني.

و اغتنم الامام هذه الفرصة السانحة فانبري يعمل مجدا في نشر الثقافة الاسلامية التي هي جزء من رسالة الاسلام،و قد وجد المسلمون من جديد الفرصة للرجوع الي ظلال الاسلام الذي جعل طلب العلم فريضة من فرائض الدين،و وجدوا في حفيد الرسول الأعظم القائد الموجه لبناء كيانهم الحضاري و العلمي،فاقبلوا علي مدرسته ينتهلون من نميرها.

2-ان الامام الصادق(ع)كان بمعزل عن التدخل في أي شأن من شئون الدولة الأموية و العباسية،فلم يباشر عملا ايجابيا يصطدم بأهداف احدي الدولتين،أو يمس الوتر الحساس من اهدافهم السياسية،فقد كان بمعزل عن الجميع،و قد أحبوه و تطلبوا رضاءه،و لم تراقبه السلطة المحلية أو تضيق عليه،و تمنعه من نشر علومه،و قد وجد المجال أمامه فسيحا لفتح أبواب مدرسته و تغذية طلابه بسائر الوان العلوم و المعارف،و قد سارع كبار العلماء و المحدثين و الرواة الي الانتماء لمعهده،و قد وجد(ع)بهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية الخالدة التي بلورة عقلية المجتمع الاسلامي، و أنقذته من رواسب الجهل و الجمود.

3-و كان من عوامل النمو لهذا المعهد الكبير أن الامام الصادق(ع)،هو الذي كان يتولي ادارة شئون هذا المعهد،و يقوم برعايته،و قد أجمع المسلمون علي اختلاف طوائفهم و نزعاتهم أنه من ألمع أئمة المسلمين في علمه و فقهه و مواهبه،و من الطبيعي ان لشخصية العميد الأثر التام في نجاح المدرسة و ازدهارها،و بذلك فقد توفرت جميع العوامل الحساسة لنجاح مدرسة الامام و نموها.

ص: 78

المركز العام

و اختار الامام يثرب دار الهجرة،و مهبط الوحي فجعل فيها معهده الكبير و مدرسته العظمي،و بفضل جهوده و مساعيه كانت يثرب حاظرة من حواظر العلم في الاسلام،و معهدا من معاهد العلوم.

أما محل التدريس فكان-بالطبع-الجامع النبوي فيه كان الامام يلقي محاضراته و دروسه التي خاض بها جميع الفنون،و في بعض الاحيان كان يلقي دروسه في بهو بيته،و قد ازدهرت يثرب بطلابه و استعادت نشاطها و مكانتها في توجيه المجتمع الاسلامي.

البعثات العلمية

و لما فتح الامام أبواب مدرسته أسرع الي الانتهاء إليها جميع رواد الفضيلة و العلم من شتي الاقطار الاسلامية،و ذلك للانتهال من علوم الامام و تهذيب نفوسهم بأحكام الدين،و تعاليمه،و مضافا لذلك فان الانتماء لمدرسة أهل البيت من موجبات الشرف و الفخر عند المسلمين،و تحدث الاستاذ السيد عبد العزيز الأهل عن البعثات العلمية التي التحقت بمدرسة الامام(ع)فقال:

«و أرسلت الكوفة.و البصرة،و واسط،و الحجاز،الي جعفر بن محمد افلاذ اكبادها من كل قبيلة،من بني أسد،و من غني، و مخارق،وطي،و سليم،و غطفان،و غفار،و الأزد،و خزاعة،و خثعم و مخزوم،و بني ضبة،و من قريش،و لا سيما بني الحارث بن عبد المطلب

ص: 79

و بني الحسن بن علي..و رحل جمهور من الأحرار،و ابناء الموالي من أعيان هذه الأمة من العرب،و فارس،و لا سيما مدينة قم..» (1).

لقد اشتركت البلاد الاسلامية في ارسال ابنائها و أفلاذ اكبادها الي مدرسة الامام للانتهال من نمير علومه،و اخذ احكام الدين من حفيد النبي العظيم(ص)،و قد حقق المجتمع الاسلامي بذلك نصرا رائعا في تأييد الحركة العلمية،و المساهمة في بناء كيانها.

عدد طلابها

و لما فتحت مدرسة الامام أبوابها لجميع ابناء المسلمين بادر جمهور غفير من رواد العلم الي الالتحاق بها فكان عددهم فيما ذكر الرواة اربعة اربعة آلاف طالب (2)و هو عدد ضخم لم يعهد له نظير في أي معهد علمي في ذلك العصر،و كان فيهم من كبار العلماء و المحدثين الذين اصبح بعضهم أئمة و رؤساء لبعض المذاهب الاسلامية،و قد نقلوا عن الامام من العلوم و المعارف ما سارت به الركبان،و انتشر ذكره في جميع البلدان» (3).

و قد صنف الحافظ ابو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي كتابا في اسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الامام الصادق فذكر ترجمة اربعة آلاف راو منهم (4)و قال المحقق في(المعتبر):و في زمانه انتشر عنه-اي عن الامام الصادق-من العلوم الجمة ما بهر به العقول،و روي عنه جماعة

ص: 80


1- جعفر بن محمد ص 59.
2- الارشاد،اعلام الوري،المعتبر،الأنوار،الذكري.
3- الصواعق المحرقة ص 120.
4- تاريخ الكوفة ص 40.

من الرجال ما يقارب اربعة آلاف رجل،و قال السيد محمد صادق نشأة:

«كان بيت جعفر الصادق كالجامعة يزدان علي الدوام بالعلماء،الكبار في الحديث و التفسير و الحكمة و الكلام فكان يحضر مجلس درسه في اغلب الأوقات الفان و بعض الاحيان اربعة آلاف من العلماء المشهورين،و قد الف تلاميذه من جميع الأحاديث و الدروس التي كانوا يتلقونها في مجلسه مجموعة من الكتب تعد بمثابة دائرة علمية للمذهب الشيعي أو الجعفري..» (1)و قد اتسعت بذلك الحركة العلمية في ذلك العصر،و امتدت موجاتها الي العصور الصاعدة و هي تبث النور و الهدي و الصلاح لجميع المسلمين.

فروعها:

و قفل راجعا الي وطنه اغلب من تخرج من مدرسة الامام و ظفر بثروة علمية،و حينما استقروا في أوطانهم قاموا بدور مهم في بسط الثقافة الاسلامية و تأسيس المعاهد العلمية و الاندية الدينية التي عملت علي تهذيب النفوس و رفع مستوي الاخلاق،و اعظم تلك المعاهد التي أسست هو المعهد الديني الكبير الذي أقيم في جامع الكوفة فقد التحق به من كبار المتخرجين من مدرسة الامام تسعمائة عالم كما حدثنا بذلك الحسن بن علي الوشاء (2)قال:أدركت في

ص: 81


1- الإمام الصادق و المذاهب الأربعة 62/1.
2- الحسن بن علي بن زياد الوشاء بجلي كوفي،كان من وجوه هذه الطائفة و من عيونها اختص بالامام الرضا عليه السلام،وعد من خلص أصحابه،ألف عدة كتب منها كتاب(ثواب الحج)و(المناسك) و(النوادر)و(مسائل الرضا)و غيرها جاء ذلك في التعليقات(ص 103)

هذا المسجد-يعني مسجد الكوفة-تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر ابن محمد» (1)و بذلك فقد اتسعت الحركة العلمية اتساعا هائلا حتي شملت جميع المناطق الاسلامية،و قد أدلي بذلك الاستاذ السيد مير علي الهندي بقوله:

(و لا مشاحة ان انتشار العلم في ذلك الحين قد ساعد علي فك الفكر من عقاله،فاصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الاسلامي و لا يفوتنا أن نشير الي أن الذي تزعم تلك الحركة هو حفيد (علي بن أبي طالب)المسمي بالامام(جعفر)و الملقب(بالصادق) و هو رجل رحب أفق التفكير،بعيد أغوار العقل،ملمّ كل الإلمام بعلوم عصره،و يعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الاسلام،و لم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب،بل كان يحضرها طلاب الفلسفة و المتفلسفون من الانحاء القاصية..» (2).

و قد انتهلت من نمير علومه كثير من الاسر العلمية في الكوفة و عرفت بعد ذلك بالفقه و الحديث كبيت آل حيان التغلبي،و آل أعين،و بني عطية و بيت بني دراج و غيرهم من الأسر العلمية (3)و قد احتفت به هذه الأسر اثناء اقامته بالكوفة أيام السفاح و قد استقر بقاؤه فيها سنتين،و كان منزله في بني عبد القيس،و قد ازدحمت عليه الشيعة تستفتيه،و تسأله عن احكام دينها،و يحدثنا محمد بن معروف الهلالي عن كثرة زحام الناس و اقبالهم عليه قال:

«مضيت الي الحيرة الي(جعفر بن محمد)فما كان لي فيه حيلة من8.

ص: 82


1- المجالس السنية(ج 5 ص 28).
2- جعفر بن محمد ص 59.
3- تأريخ الكوفة ص 408.

كثرة الناس فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني،و تفرق الناس عنه،و مضي يريد قبر امير المؤمنين(ع)فتبعته،و كنت اسمع كلامه و أنا معه أمشي..» و علي أي حال فان مدرسة الامام و سائر المنظمات العلمية التي تفرعت منها قد أقامت صروح العلم و الفضيلة في العالم الاسلامي.

الأخصائيون من طلابه

و تخصص الكثيرون من طلاب الامام في جملة من العلوم و الفنون فقد تخصص في الفلسفة و علم الكلام و مباحث الامامة هشام بن الحكم،و هشام ابن سالم،و مؤمن الطاق،و محمد بن عبد اللّه الطيار،و قيس الماصر،و غيرهم و تخصص في علم الفقه و اصوله و التفسير و سائر العلوم الدينية زرارة بن أعين و محمد بن مسلم،و جميل بن دراج،و بريد بن معاوية،و إسحاق بن عمار، و عبيد اللّه الحلبي و ابو بصير،و أبان بن تغلب،و الفضيل بن يسار.

و ابو حنيفة،و مالك بن أنس،و محمد بن الحسن الشيباني،و سفيان بن عيينة و يحيي بن سعيد،و سفيان الثوري،و أمثالهم،و تخصص في علم الكيمياء جابر بن حيان الكوفي و هو أشهر كيمياوي في العالم العربي-كما قال فانديك- و تخصص في حكمة الوجود و أسرار الخليقة المفضل بن عمر،كما تناول في كتابه الذي أملاه عليه الامام الصادق اغلب أبواب علم الطب فقد خاض فيه وظائف الاعضاء،و دوران الدورة الدموية،و الجراثيم المسببة للامراض و تشريح الانسان،و غيرها.

ان جامعة الامام الصادق(ع)بكل اعتزاز و فخر قد سبقت المعاهد العلمية في تأسيس الاختصاص بالدراسات العلمية.

ص: 83

تدوين العلوم

و حث الامام الصادق طلابه علي تدوين دروسه و محاضراته التي تناولت اغلب العلوم و الفنون،و ذلك خوفا عليها من الاضطراب و الضياع،و قد أكد الدعوة علي هذه الجهة في غير موطن.

روي أبو بصير قال:دخلت علي أبي عبد اللّه فقال:«ما يمنعكم من الكتابة؟!إنكم لن تحفظوا حتي تكتبوا،إنه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها».

و روي أبو بصير قال:سمعت أبا عبد اللّه يقول:«اكتبوا فانكم لا تحفظون حتي تكتبوا».

قال عاصم:«سمعت أبا بصير يقول:قال أبو عبد اللّه الصادق(ع) «اكتبوا فانكم لا تحفظون الا بالكتابة» (1).

و قد استجاب طلابه الي هذه الدعوة النيرة التي تحمل في اعماقها انارة الفكر الانساني،و اشاعة العلم و بسطه بين الناس،و قد اقبل اصحابه علي تدوين العلوم،فقد الف أبان بن تغلب.

1-كتاب معاني القرآن 2-كتاب القراءات (2)3-كتاب الفضائل 4-الاصول في الرواية 5-غريب القرآن

ص: 84


1- وسائل الشيعة،كتاب الشهادات:الباب الثامن.
2- فهرست ابن النديم:ص 308.

و ألف محمد بن علي البجلي الكوفي الشهير بمؤمن الطاق ما يلي:

1-كتاب الامامة 2-كتاب المعرفة 3-كتاب اثبات الوصية 4-كتاب الرد علي المعتزلة في امامة المفضول 5-كتاب في أمر طلحة و الزبير و عائشة 6-كتاب افعل،لا تفعل 7-المناظرة مع أبي حنيفة (1)و ألف هشام بن الحكم أبو محمد البغدادي في مختلف العلوم و الفنون و ذكر ابن النديم له سبعة عشر مؤلفا نذكرها في ترجمته عند عرض اصحاب الامام موسي(ع).

و ألف المفضل بن عمر كتاب(التوحيد)و هو من أجل الكتب الاسلامية فقد عرض فيه الي خلق الانسان و تكوينه و ما في اعضائه من الاسرار و الغرائب كما عرض فيه الي كثير من البحوث الطبية (2).

و ألف جابر بن حيان كتابا في علم الكيمياء يقع في الف ورقة تضمنت رسائل الامام التي بلغت خمسمائة رسالة (3)و كانت هذه الرسائل مصدرا خصبا لعلم الكيمياء،و استفاد منها علماء هذا الفن فائدة كبري،و قد أثني علي جابر و اكبر مجهوده جميع رجال العلم من المسلمين و المستشرقين و فيما يلي1.

ص: 85


1- فهرست ابن النديم:250،فهرست الشيخ الطوسي:121
2- علق عليه و شرحه شرحا وافيا صديقنا المغفور له الشيخ محمد الخليلي،و قد كشف ما فيه من العلوم و الاسرار و البحوث الطبية التي تتفق مع العلم الحديث و قد اسماه«أمالي الامام الصادق»يقع في جزءين.
3- الاعلام 186/1 الطبعة الأولي،مرآة الجنان 304/1.

كلمة رائعة للاستاذ عبد الرحمن بدوي أبدي اعجابه و اكباره بشخصية جابر التي هي إحدي شموع تلك المدرسة،و هذا نصها:

«لن يستطيع الباحث في تأريخ الفكر الاسلامي أن يجد شخصية أعرب و أخصب من شخصية جابر بن حيان،فهي شخصية أمعنت في الغموض،و اكتنفها السر حتي كادت ان تكون اسطورة،و تسامت في التفكير حتي ليقف المرء اليوم ذاهلا أمام ما تقدمه لنا من نظرات علمية فلسفية كلها عمق و كلها حياة،و أمام هذه الروح العامة التي تسودها روح التنوير و النزعة الانسانية التي تصبو الي اكتناه كل الأسرار،و تشعر بما يشيع فيها من قوي إلهية مبدعة فترتفع بالانسان الي مقام الألوهية،و يحدوها الأمل في التقدم المستمر الوثاب للانسانية في تطورها،و شخصية هذا حظها الروحي ستظل حية باستمرار لأنها من النماذج الحية أبدا للانسان السالك سبيله قدما نحو تحقيق(الصورة)العليا علي الأرض،و لن يستطيع البحث العلمي و الفيلولوچي و الحضاري أن يفرغ منها فراغا تاما مهما أنفق من جهد في هذا السبيل بل ستمضي في البعد كلما توغل في الطريق إليها،و سيزداد مقدارها كلما تلمس المرء نواحيها،و نحن اليوم أبعد ما نكون عن إدراكها إجمالا فضلا عن الاحاطة بخطوطها الرئيسية،و تياراتها التوجيهية..» (1).

و جابر بن حيان من أقطاب جامعة الامام،و من أعلامها النابهين الذين يعدون بحق من المؤسسين للحركة الثقافية في العالم الاسلامي و غيره.

و هناك جمع غفير من نوابغ تلاميذ الامام ألفوا في مختلف العلوم كزرارة و أبي بصير و اسماعيل بن أبي خالد و غيرهم،و قد ترجم فقيد الاسلام الشيخ آغا بزرگ نضّر اللّه مثواه في«الذريعة» (2)مأتي رجل4.

ص: 86


1- الالحاد في الاسلام ص 189.
2- الذريعة 301/6-374.

من مصنفي تلامذة الامام الصادق،و كانت تلك المؤلفات الضخمة دائرة معارف واسعة،و أصبحت مصدرا للمذهب الشيعي،و دليلا علي مدي ثروته العلمية و الفكرية.

اعتزاز و افتخار

و اعتز تلاميذ الامام بالحضور في مجلس درسه،و فخروا بذلك كثيرا و جعلوا الانتماء لمدرسته من المآثر التي تؤهلهم الي المراكز العليا في المجتمع الاسلامي،و ممن فخر بذلك أبو حنيفة فقد قال:

«لو لا السنتان لهلك النعمان» (1).

لقد اعتز أبو حنيفة بالأيام التي حضر فيها درس الامام،و جعلها من أفضل أدوار حياته العلمية،و تحدث مالك بن أنس عن استاذه الامام فقد قال فيه:

«ما رأت عين،و لا خطر علي قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق(ع)علما و عبادة و ورعا..» (2).

و تحدث عنه مرة أخري فقال:

«لقد كنت أري جعفر بن محمد،و كان كثير التبسم،فاذا ذكر عنده النبي(ص)اصفر لونه،و ما رأيته يحدث عن رسول اللّه(ص) الا علي طهارة،و لقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه الا علي ثلاث خصال:إما مصليا،و إما صامتا،و إما يقرأ القرآن،و لا يتكلم بما لا

ص: 87


1- الأعلام 186/1،التحفة الاثني عشرية ص 8.
2- التوسل و الوسيلة ص 52.

يعينه.و كان من العلماء و العباد الذين يخشون اللّه..» (1).

ان من الحق أن يعتز أبو حنيفة و مالك و أمثالهما بالانتماء لمدرسة الامام و بالحضور في مجلس أبحاثه،فانه(ع)المنبع الاصيل للعلوم التي ورثها من آبائه و من جده الرسول العظيم الذي فجر ينابيع العلم و الحكمة في الارض.

طابعها الخاص

إن جامعة الامام الصادق(ع)كان لها طابع خاص انفردت به عن بقية المؤسسات و هو الاستقلال الذاتي المتميز بعدم الارتباط بأي جهاز رسمي،فلم يكتب للسلطة أن تستخدمها في أي غرض من أغراضها السياسية إذ لم يكن لها أي سلطان عليها،فقد كانت تتمتع بالحرية الواسعة سواء في مناهجها التعليمية أو في مجالاتها الفكرية،و لم تتلق من السلطة الحاكمة أي دعم اقتصادي أو مادي،و انما كانت منفصلة عنها،و مبتعدة في سلوكها عن جميع المؤثرات الخارجية،فهي تسير بوحي من الروح الاسلامية المشرقة،و تسلك في طريق واضح بعيد عن الالتواء و الانحراف هدفها خدمة الأمة،و رائدها الحق.

و حاول المنصور أن يجلب الامام الصادق،و يكتسب وده و ثقة تلامذته و شيعته فكتب إليه:

«لم لا تخشانا كما يخشانا سائر الناس؟!».

فأجابه الامام عن خطته و سلوكه قائلا:

«ليس عندنا من الدنيا ما نخافك عليه،و ليس عندك من الآخرة ما نرجوك له..».

ص: 88


1- التوسل و الوسيلة ص 52.

لم يكن عند الامام أي شيء من حطام الدنيا حتي يخاف عليه من سلطان المنصور،و ليس عند المنصور من متع الآخرة حتي يرجوه و يتصل به،و سلك المنصور طريقا آخر فكتب الي الامام:

«إنك تصحبنا لتنصحنا».

فأجابه الامام:

«من أراد الآخرة فلا يصحبك،و من أراد الدنيا فلا ينصحك..» و بهذا المنطق الحافل بجميع مقومات الحق اعرب الامام عن سلوكه في الابتعاد عن السلطة و عدم التعاون معها،و تحدث الاستاذ أسد حيدر عن هذا الطابع النير الذي امتازت به مدرسة الامام بقوله:

«كان طابع مدرسة الامام الصادق الذي طبعت عليه،و منهجها الذي اختصت به-من بين المدارس الاسلامية-هو استقلالها الروحي، و عدم خضوعها لنظام السلطة،و لم تفسح المجال لولاة الأمر أن يتدخلوا في شئونها،أو تكون لهم يد في توجيهها و تطبيق نظامها،لذلك لم يتسنّ لذوي السلطة استخدامها في مصالحهم الخاصة،أو تتعاون في شئون الدولة و من المستحيل ذلك-و ان بذلوا جهدهم في تحقيقه-فهي لا تزال منذ نشأتها الأولي تحارب الظالمين،و لا تركن إليهم،كما لا تربطها و إياهم روابط الالفة،و لم يحصل بينها و بينهم انسجام،و بهذا النهج الذي سارت عليه،و الطابع الذي اختصت به،أصبحت عرضة للخطر فكان النزاع بينها و بين الدولة يشتد،و العداء يتضخم،فلا الدولة تستطيع التنازل لمنهج المدرسة فتكسب ودها،و تسعد بمعاونتها،و لا المدرسة في امكانها أن تتنازل لارادة الدولة،فتؤازرها،و تسير بخدمتها،و تتعاون معها،و كيف يكون ذلك؟و هي منذ نشأتها الأولي ترتبط بالثقلين كتاب اللّه،و عترة رسوله، و هما متلازمان متكاتفان لن يفترقا في أداء واجبهما لارشاد الأمة و هدايتها،

ص: 89

فالقرآن ينهي عن معاونة الظالمين،و الركون إليهم«و لا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون اللّه من أولياء ثم لا تنصرون» (1)و سارت علي هذا المنهج المشرق جميع المؤسسات العلمية التي تخضع في مناهجها و سلوكها لمدرسة الامام(ع)كجامعة النجف الاشرف،و جامعة قم فان كلا منهما يسيران علي وفق الأهداف الاصلية التي اعلنها الامام الصادق و اتخذها شعارا و منهجا لمدرسته من عدم الارتباط و التعاون مع السلطات الحاكمة.

فزع السلطة:

و فزعت السلطات الحاكمة من مدرسة الامام،و هالها اتساع نطاقها، و كثرة المنتمين إليها و هم يحملون علوم الامام،و يحدثون الناس عنها، و ينشرون فضائله،و مناقب أهل البيت(ع)و قد أقض ذلك مضاجع المنصور و خشي علي مصالحه السياسية،و خاف أن يفتتن الناس به-علي حد قوله- فعهد الي أبي حنيفة أن يسأل الامام بأعقد المسائل و اكثرها غموضا،و لنترك أبا حنيفة يحدثنا عن ذلك قال أبو حنيفة:

(ما رأيت افقه من جعفر بن محمد،لما أقدمه المنصور بعث الي فقال يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فيهأت له أربعين مسألة،ثم بعث الي جعفر و هو بالحيرة فأحضره فدخلت عليه،و جعفر بن محمد عن يمينه،فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر

ص: 90


1- الامام الصادق و المذاهب الأربعة 15/3.

ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور فسلمت عليه،و أومأ فجلست ثم التفت إليه قائلا:

«يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة؟» قال(ع):نعم أعرفه ثم التفت إلي المنصور،و قال يا أبا حنيفة:الق علي أبي عبد اللّه مسائلك فجعلت الق عليه،فيجيبني،فيقول:أنتم تقولون:كذا،و أهل المدينة يقولون:كذا،و نحن نقول:كذا،فربما تابعنا،و ربما خالفنا،حتي أتيت علي الاربعين مسألة ما أخل منها بمسألة واحدة..» (1).

و دلت هذه البادرة علي مدي حنق السلطة و حقدها،و حذرها من الامام كما دلت علي مدي المقدرة العلمية الهائلة التي كان يتمتع بها الامام.

و قد عمد المنصور الي مكافحة مدرسة الامام،و التقليل من أهميتها، و عزل الإمام عن الأمة،فوجه نظره إلي مالك بن أنس،و أحاطه بكثير من التبجيل و التكريم ليجعله قبال الامام،و مرجعا للامة،و عهد إليه بوضع كتاب يحمل الناس بالقسر علي العمل به،و امتنع مالك من اجابته الا انه اجبره علي ذلك،و قال له:ضعه فما احد اليوم أعلم منك (2)فوضع مالك الموطأ،و أمر الرشيد عامله علي المدينة أن لا يقطع أمرا دون مالك، و كان الرشيد يجلس علي الأرض لاستماع حديثه (3).

و التزمت الدولة مالك،و سخرت جميع أجهزتها الدعائية لنشر مذهبه و حمل الناس عليه،كل ذلك لصرف الناس عن مذهب أهل البيت الذي علا أمره بسبب الامام جعفر الصادق(ع).ي.

ص: 91


1- تذكرة الحفاظ للذهبي.
2- شرح الموطأ للزرقاني 8/1.
3- مناقب مالك للزاوي.

كما بالغ الرشيد في تعظيم ابي يوسف و اكرامه لأنه تلميذ أبي حنيفة و ناشر مذهبه،و قد بلغ من مكانته عند الرشيد أنه ولاه منصب رئاسة القضاء،و لم يقلد ببلاد العراق و خراسان و الشام و مصر قاضيا الا باشارة أبي يوسف و أمره (1)و قال له الرشيد:

«يا أبا يعقوب لو جاز لي ادخالك في نسبي و مشاركتك في الخلافة المفضية إلي لكنت حقيقا به» (2).

و هكذا اخذت السلطة العباسية تسعي جاهدة الي تأسيس بعض المذاهب الاسلامية و اضفاء التكريم،و العناية البالغة علي أصحابها،و ارغام الأمة علي الأخذ بآرائها،و العمل بما تفتي به كل ذلك لصرف المسلمين عن مدرسة أهل البيت و مذهبهم،و قد فتح المنصور أبواب هذا الاضطهاد الفكري، و سار من بعده ملوك بني العباس يقتفون أثره في اخماد الوعي الديني المستمد من رسالة أهل البيت.

المناهج التعليمية:

اشارة

و تناولت محاضرات الامام و بحوثه القيمة جميع الفنون العلمية من النقلية و العقلية،و مذاهب الكلام،و الوان الآداب،و ضروب الثقافة العالية كعلم الفقه و الحديث،و علوم القرآن الكريم،و الطب،و الكيمياء،و النبات، و غيرها من العلوم التي لها الاثر التام في التقدم الاجتماعي،و من أبرز العلوم التي تناولها الامام بالبسط و التحليل الفقه الاسلامي بجميع ابوابه من العبادات و المعاملات و العقود و الايقاعات.

ص: 92


1- خطط المقريزي 144/4.
2- المكافأة لابن الداية ص 63.

و لم يقتصر الامام في بحوثه علي الناحية العلمية فقد توسع في محاضراته الي نشر الآداب الاجتماعية،و مكارم الأخلاق،و آداب السلوك و غيرها، و فيما يلي عرض موجز لبعضها:

مكارم الاخلاق

كان عليه السلام يحث أصحابه و شيعته علي التحلي بمكارم الاخلاق و محاسن الافعال ليكونوا قدوة صالحة الي المجتمع،و قد صدرت منه بهذا الصدد وصايا منها وصيته الي ولده الامام موسي،و قد جاء فيها:

«يا بني؟إنه من رضي بما قسم له استغني،و من مد يمينه الي ما في يد غيره مات فقيرا،و من لم يرض بما قسمه اللّه له اتهم اللّه في قضائه، و من استصغر زلة نفسه استكبر زلة غيره.

يا بني:من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته،و من سل سيف البغي قتل به،و من احتفر لأخيه بئرا سقط فيها،و من داخل السفهاء حقر،و من خالط العلماء وقر،و من دخل مداخل السوء أتهم.

يا بني،إياك أن تزدري بالرجال فيزدري بك،و إياك و الدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.

يا بني:قل الحق لك أو عليك.

يا بني:كن لكتاب اللّه تاليا،و للسلام فاشيا،و بالمعروف آمرا و عن المنكر ناهيا،و لمن قطعك واصلا،و لمن سكت عنك مبتدئا،و لمن سألك معطيا،و إياك و النميمة فانها تزرع الشحناء في قلوب الرجال،و إياك و التعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.

يا بني:إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه،فان للجود معادنا و للمعادن

ص: 93

أصلا،و للاصول فروعا،و للفرع ثمرا،و لا يطيب ثمر الا بفرع،و لا فرع الا بأصل و لا أصل ثابت الا بمعدن طيب.

يا بني:إذا زرت فزر الاخيار،و لا تزر الفجار فانهم صخرة لا ينفجر ماؤها و شجرة لا يخضر ورقها،و أرض لا يطيب عشبها..» (1)و قد حفلت هذه الوصية بأعمال الخير،و ألمت بمكارم الاخلاق، و احتوت علي اسس الفضائل و الآداب،و كان عليه السلام-متصلا-يزود ابناءه و أصحابه بمثل هذه النصائح القيمة و الدروس النافعة ليكونوا دعاة للاصلاح و الرشاد،و وجه(ع)رسالة الي بعض أصحابه أمرهم فيها بمكارم الأخلاق و محاسن الاعمال و قد جاء فيها:

«عليكم بحب المساكين المسلمين،فان من حقرهم و تكبر عليهم فقد زل عن دين اللّه،و اعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين القي اللّه عليه المقت فاتقوا اللّه في اخوانكم فان لهم عليكم حقا أن تحبوهم،فان اللّه أمر نبيه بحبهم فمن لم يحب من أمر اللّه بحبه فقد عصي اللّه و رسوله،و من عصي اللّه و رسوله و مات علي ذلك مات من الغاوين.

إياكم ان يبغي بعضكم علي بعض فانها ليست من خصال الصالحين، فانه من بغي صير اللّه بغيه علي نفسه،و صارت نصرة اللّه لمن بغي عليه و من نصره اللّه غلب،و أصاب الظفر من اللّه.

إياكم أن يحسد بعضكم بعضا فان الكفر أصله الحسد.

إياكم أن تعينوا علي مسلم مظلوم،يدعو اللّه عليكم،و يستجاب له فيكم،فان أبانا رسول اللّه(ص)قال:ان دعوة المظلوم مستجابة.

إياكم أن تشره نفوسكم إلي شيء مما حرم اللّه عليكم فان من انتهك ما حرم اللّه عليه حال اللّه).

ص: 94


1- الامام جعفر الصادق:ص 79-80،و قريب منه جاء في حلية الأولياء(ج 3 ص 135).

بينه و بين الجنة..» (1).

لقد دعي(ع)أصحابه بهذه الوصية الي عمل الخير و الأخذ بالقيم الرفيعة التي تبعد الانسان عن الشر،و توجهه نحو الكمال،و قد ورد منه بمثل هذا الشيء الكثير و هو يحفز فيه أصحابه الي التحلي بمكارم الاخلاق و محاسن الأعمال.

العدل:

لا شك أن العدل هو العرق النابض في جسم المجتمع،و عليه تبتني الحياة و تقام دعائم الأمن و الاستقرار في الأرض،و قد حاضر فيه الامام فوصفه بأروع معني،و أوجز لفظ فقال:

«العدل أحلي من الماء يصيبه الظمآن».

و قال:«ما أوسع العدل و إن قل..».

و قال:«اتقوا اللّه و اعدلوا فانكم تعيبون علي قوم لا يعدلون..» إن العدل هو الهدف الأسمي لجميع الشعوب الحرة التي ناضلت كثيرا و جاهدت طويلا في سبيل تحقيقه،و هو من الأهداف الرئيسية التي عملت علي تدعيمها و نشرها مدرسة الامام في المجتمع الاسلامي.

إيثار الحق:

كان الامام-دوما-يشيد بالحق إذ هو ظل اللّه في الأرض،و قد وصفه الامام لأصحابه فجعله لب الايمان و حقيقته فقال فيه:

«إن من حقيقة الايمان أن تؤثر الحق و إن ضرك علي الباطل و إن نفعك».

إن متابعة الحق و اتباعه،و تقديمه علي المصالح الخاصة من أهم الحقائق

ص: 95


1- تحف العقول:ص 76.

التي هتف بها الاسلام و عززته مدرسة الامام.

الاصلاح:

و أفضل الأعمال و أحبها عند اللّه هو الاصلاح بين الناس حتي أباح المشرع الأعظم الكذب-الذي هو من أعظم الموبقات-في سبيل الاصلاح و رفع التخاصم و اشاعة الحب و الوئام بين الناس،و قد ندب الامام أصحابه إلي ذلك و حثهم علي هذه المكرمة فقال:

«صدقة يحبها اللّه،إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا،و تقارب بينهم إذا تباعدوا..».

إن الاصلاح بمعناه الشامل هو الهدف الأقصي لأهل البيت(ع)و قد كرسوا حياتهم في سبيله و لاقوا المزيد من الاضطهاد و الجور من أجله.

الظلم:

و تسالمت عقول البشر في جميع الاجيال و الأزمان علي قبح الظلم و استهجانه لأنه منبع الفساد و مصدر الجرائم،و قد حرم الامام جميع صوره و ألوانه فقال(ع):

«العامل بالظلم،و المعين له،و الراضي به كلهم شركاء ثلاثتهم» (1)و حرم(ع)التعاون مع الظالمين و الاشتراك معهم بأي عمل ايجابي يرجع الي بسط نفوذهم و تقوية سلطانهم فقد سأله بعض أصحابه عن جواز البناء لهم و كراية النهر،فقال له:

«ما أحب أن أعقد لهم عقدة،أو وكيت لهم وكاءا،و لا مدة بقلم إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار».

و حدث(ع)أصحابه عن عظم جريمة الظلم عند اللّه فقال لهم:

ص: 96


1- الكافي:في باب الظلم.

«اتقوا الظلم،فان دعوة المظلوم تصعد الي السماء»و حدثهم عن أقبح أنواع الظلم فقال لهم:«ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونا إلا اللّه»إلي غير ذلك من الأخبار التي وردت عنه في التحذير عن الظلم و تحريم جميع أنواعه،كما بسط(ع)لأصحابه الأضرار البالغة التي تترتب عليه في كثير من محاضراته القيمة الأمر الذي دل علي مدي اهتمامه بتحقيق الأمن و السلام بين الناس.

التعاون:

و حث الامام أصحابه علي التعاون الوثيق فيما بينهم لأن ذلك يوجب اشاعة المحبة و الالفة فيما بينهم،و قد روي صفوان الجمال قال:«كنت عند أبي عبد اللّه(ع)إذ دخل عليه رجل من أهل مكة-يقال له«ميمون» فشكا إليه تعذر الكراء فالتفت إلي قائلا:

«قم فأعن أخاك».

فقمت معه فيسر اللّه كراه فرجعت الي مجلسي،فقال لي أبو عبد اللّه:

-ما صنعت في حاجة أخيك؟ -قضاها اللّه،بأبي أنت و أمي.

-اما انك إن تعن أخاك المسلم أحب إلي من طواف اسبوع في البيت».

و قال(ع)لجميل بن دراج:

«من صالح الأعمال البر بالاخوان،و السعي في حوائجهم،و ذلك مرغمة للشيطان و تزحزح عن النيران،و دخول في الجنان،يا جميل،اخبر بهذا الحديث غرر أصحابك.

-جعلت فداك و من غرر أصحابي؟

ص: 97

-هم للبارون بالاخوان في العسر و اليسر» (1).

معرفة اللّه:

إن معرفة اللّه من أهم الواجبات الاسلامية،و قد حث الامام أصحابه عليها و كشف لهم جليل آثارها فقال:

«لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه عز و جل ما مدّوا أعينهم الي ما متع اللّه به الأعداء من زهرة هذه الحياة الدنيا و نعيمها،و كانت دنياهم أقل عندهم مما يطئونه بأرجلهم،و لنعموا بمعرفة اللّه عز و جل و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنات مع أولياء اللّه،إن معرفة اللّه عز و جل أنس من كل وحشة،و صاحب من كل وحدة،و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف،و شفاء من كل سقم».

ثم إنه(ع)أخذ يبين لأصحابه ما لقيه أولياء اللّه من العناء و رهيب العذاب من أعدائه تعالي فقال:

«قد كان قبلكم قوم يقتلون و يحرقون و ينشرون بالمناشير،و تضيق عليهم الارض برحبها،فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه،من غير ترة و تروا من فعل ذلك بهم و لا أذي،بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد،فاسألوا درجاتهم،و اصبروا علي نوائب دهركم تدركوا سعيهم..» (2).

و هذا الوصف الرائع قد أحاط بحقيقة المتقين و المت بواقعهم و جهادهم و ايمانهم الوثيق باللّه.

ص: 98


1- خصال الصدوق.
2- روضة الكافي.
صفات المؤمنين:

كان عليه السلام-دوما-يلقي علي أصحابه و طلاب مدرسته أوصاف المؤمنين و المتقين ليهتدوا بهم و يتخذوهم قدوة صالحة،قال(ع):

«المؤمن له قوة في دين،و حزم في لين،و ايمان في يقين،و حرص في فقه،و نشاط في هدي،و بر في استقامة،و علم في حلم،و كيس في رفق،و سخاء في حق،و قصد في غني،و تجمل في فاقة،و عفو في مقدرة و طاعة اللّه في نصيحة،و انتهاء في شهوة،و ورع في رغبة،و حرص في جهاد،و صلاة في شغل،و صبر في شدة،في الهزاهز وقور،و في الرخاء شكور،لا يغتاب،و لا يتكبر،و لا يقطع الرحم،و ليس بواهن،و لافظ و لا غليظ،و لا يسبقه بصره،و لا يفضحه بطنه،و لا يغلبه فرجه،و لا يحسد الناس،و لا يعير (1)و لا يعير (2)،و لا يسرق،ينصر المظلوم و يرحم المسكين،نفسه منه في عناء،و الناس منه في راحة،و لا يرغب في عز الدنيا،و لا يجزع من ذلها،للناس هم قد أقبلوا عليه،و له هم قد شغله،لا يري في حكمه نقص،و لا في رأيه وهن،و لا في دينه ضياع يرشد من استشاره،و يساعد من ساعده،و يكيع (3)عن الخناء و الجهل..» (4).

و وصف عليه السلام المؤمن فقال:

ص: 99


1- بتضعيف الياء و كسرها.
2- بتضعيف الياء و فتحها.
3- يكيع:أي يجبن.
4- أصول الكافي:(ج 2 ص 209).

«لا يكون المؤمن مؤمنا حتي يكون كامل العقل،و لا يكون كامل العقل حتي تكون فيه عشر خصال،الخير منه مأمول،و الشر منه مأمون يستقل كثير الخير من نفسه،و يستكثر قليل الخير من غيره،و يستكثر قليل الشر من نفسه،و يستقل كثير الشر من غيره،و لا يتبرم بطلب الحوائج قبله،و لا يسأم من طلب العلم عمره،الذل أحب إليه من العز (1)و الفقر أحب إليه من الغني،حسبه من الدنيا القوت،و العاشرة،و ما العاشرة لا يلقي أحدا إلا قال هو خير مني و أتقي،فاذا لقي الذي هو خير منه تواضع له ليلحق به،و إذا لقي الذي هو شر منه و أدني،قال لعل شر هذا ظاهر و خيره باطن،فاذا فعل ذلك علا و ساد أهل زمانه» (2).

الورع:

كان(ع)يوصي أصحابه بالورع عن محارم اللّه:و من أقواله لهم:

«عليكم بالورع فانه لا ينال ما عند اللّه إلا بالورع» (3).

و قال عليه السلام:

«عليكم بتقوي اللّه و الورع،و الاجتهاد،و صدق الحديث،و أداء الامانة،و حسن الخلق،و حسن الجوار،و كونوا دعاة الي انفسكم بغير ألسنتكم،و كونوا زينا و لا تكونوا شيئا..» (4).

و نكتفي بهذا النزر اليسير من تعاليمه الرفيعة التي زود بها المجتمع الاسلامي،و وضع بها قواعد الاخلاق و آداب السلوك.

ص: 100


1- لعله يريد أن الذل في طاعة اللّه أحب إليه من العز في معصية اللّه
2- مجالس الشيخ الطوسي.
3- أصول الكافي:(ج 2 ص 76).
4- نفس المصدر.
في عهد الامام موسي:

و قطع الامام موسي(ع)شوطا من حياته في جامعة أبيه الكبري، و كان من أبرز العلماء النابهين،كما شارك أباه في القاء محاضراته العلمية، و سانده في تعزيزها،و تقديمها في الميادين الثقافية،و بعد انتقال أبيه الي حظيرة القدس تولي إدارة شئون هذه المدرسة الكبري،و قام بنشر العلوم و بث روح الفضيلة،و قد احتف به العلماء و الرواة لا يفارقونه و لا يفترقون عنه،يسجلون أحاديثه و أبحاثه و فتاواه،فقد روي السيد ابن طاوس (1)أن أصحاب الامام و خواصه كانوا يحضرون مجلسه و معهم في اكمامهم الواح آبنوس لطاف و أميال فاذا نطق بكلمة أو أفتي في نازلة بادروا الي تسجيل

ص: 101


1- السيد ابن طاوس:هو السيد الجليل العالم العابد رضي الدين أبو القاسم علي بن سعد الدين بن ابراهيم الحسيني،كان يسكن الحلة الفيحاء و لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه.و خشونة رجليه،و هو من أجلاء السادة و من عيونهم و كان نقيبا لهم،له مؤلفات كثيرة دلت علي سعة معارفه و علومه.و قد ذكر مناقبه و علومه بالتفصيل الحجة الثبت السيد محمد باقر الخوانساري في مؤلفه روضات الجنات(ج 3 ص 43-47)و جاء في الكني و الألقاب(ج 1 ص 338)أن السيد تولي نقابة الطالبيين و كان يجلس في قبة خضراء و الناس تقصده و قد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد و ذلك عقيب وقعة بغداد،و في ذلك يقول علي بن حمزة: فهذا علي نجل موسي بن جعفر شبيه علي نجل موسي بن جعفر فذاك بدست للامامة أخضر و هذا بدست للنقابة أخضر توفي السيد يوم الاثنين خامس ذي القعدة سنة 664 ه-.

ذلك (1)و قد روي عنه هؤلاء العلماء جميع أنواع العلوم علي اختلافها و تباعد أطرافها،و ببركة جهوده و جهود أبيه فقد عمت الحركة العلمية جميع الحواضر الاسلامية و العربية و أصبح تراثهما العلمي يتناقله العلماء جيلا بعد جيل.1.

ص: 102


1- الأنوار البهية:ص 91.

مثله العليا

اشارة

ص: 103

ص: 104

و بلغ الامام موسي(ع)في مواهبه و عبقرياته أعلي مستويات الانسانية و قيمها،فهو بحكم قابلياته و مقدراته فذ من أفذاذ العقل الانساني،و مثل رائع من أمثلة الخير و الكمال في الارض.

لقد كان الامام موضع اعتزاز و فخر للعالم الاسلامي،و ذلك لما أثر عنه من الفضائل و المآثر كسعة العلم و الحلم،و دماثة الاخلاق،و السخاء و الاحسان الي الناس،و الصمود أمام الأحداث،الي غير ذلك من نزعاته الكريمة التي يقدسها كل انسان يؤمن بالمثل العليا،و الانسانية الكريمة و نعرض فيما يلي بعض نزعاته و صفاته:

امامته:

و منحه اللّه بالإمامة،و خصه بالنيابة العامة عن جده الرسول(ص) فهو أحد أوصيائه،و خلفائه علي أمته،و الإمامة-حسب ما تراه الشيعة- كالنبوة لا يمنحها اللّه إلا للذوات الخيرة التي طهرت من الأرجاس و الآثام و انمحت عنها أفانين الظلم و الأباطيل،و هي من أسمي المناصب الالهية لا يتوج بها إلا أفضل الخلق و أكرمهم عند اللّه،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن«الإمامة»لأنها ترتبط ارتباطا ذاتيا و موضوعيا بما نحن فيه.

معني الامامة:

و حددها علماء الكلام فقالوا:«الامامة رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا لشخص انساني..»فالامام-حسب هذا التحديد-هو الزعيم العام و الرئيس المتبع الذي له السلطة الشاملة علي جميع شئون الناس الدينية و الدنيوية،

ص: 105

فالنبي(ص)أولي بالمؤمنين من أنفسهم فكذلك الامام حسب ما نص عليه النبي(ص)في خطابه بغدير خم حينما نصب الامام أمير المؤمنين(ع)خليفة و اماما علي المسلمين من بعده.

الحاجة الي الامامة:

إن الامامة قاعدة من قواعد الاسلام و أصل من أصوله،و قد اتفق المسلمون علي ضرورتها،و حتميتها لأن الشريعة الاسلامية مجموعة من الاحكام و القواعد ففيها الحدود و العقوبات،و فيها الحكم بما أنزل اللّه،و الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر،و فيها الجهاد في سبيل اللّه،و الذب عن حياض الدين،و غير ذلك من الاحكام التي لا يمكن للفرد أن يقيمها من دون امام يتولي تنفيذها،يقول ابن تيمية:

«ان ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين،بل لا قيام للدين إلا بها،و لأن اللّه أوجب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر،و نصرة المظلوم و كذلك سائر ما أوجبه اللّه من الجهاد و العدل،و اقامة الحدود،و لا تتم إلا بالقوة و الامارة..» (1).

ان المسلمين لا بد لوجودهم السياسي و الديني من امام يسوس أمرهم و يعالج قضاياهم علي ضوء كتاب اللّه،و سنة نبيه،و يسير فيهم بسيرة قوامها العدل الخالص و الحق المحض.

ان الامامة ضرورة من ضروريات الحياة الاسلامية لا يمكن الاستغناء عنها،فيها تتحقق العدالة الكبري التي ينشدها اللّه في الارض.

و من أهم الأمور الداعية إليها ايصال الناس الي معرفة اللّه و طاعته،

ص: 106


1- السياسة الشرعية ص 172-173.

و تغذية المجتمع بروح الايمان و التقوي و ابعاده عن نوازع الشر و الغرور.

الاتفاق علي وجوبها:

إن الامامة بمعناها القيادي للامة قد اتفق المسلمون علي وجوبها و ضرورتها سوي(الخوارج)فانهم قالوا:لا يلزم الناس فرض الامامة، و انما عليهم ان يتعاطوا الحق فيما بينهم (1)و قد أجمع المسلمون علي زيف ذلك و بطلانه،و قد تضافرت الأخبار علي ضرورتها فقد أثر عن النبي(ص) أنه قال:«من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»و قال(ص):

«من فارق الجماعة فمات،مات ميتة جاهلية،و من قاتل تحت راية عصبية يغضب لعصبة أو يدعو الي عصبة،أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية» (2).

و قال ابن خلدون:«إن نصب الامام واجب قد عرف وجوبه في الشرع باجماع الصحابة و التابعين،لأن أصحاب رسول اللّه(ص)عند وفاته بادروا الي بيعة أبي بكر،و تسليم النظر إليه في امورهم،و كذا في كل عصر من بعد ذلك،و لم تترك الناس فوضي في عصر من الأعصار.و استقر ذلك اجماعا دالا علي وجوب نصب الامام..» (3).

لقد أجمع المسلمون منذ فجر تأريخهم علي ضرورة الامام،و انها من الواجبات التي لا تستقيم الحياة الاسلامية بدونها.

ص: 107


1- الملل و الأهواء 87/4.
2- الحديث رواه مسلم و النسائي.
3- المقدمة ص 151.
واجبات الامام:

و أناط الاسلام بالامام جميع المسئوليات الضخمة،فأوجب عليه السهر علي مصالح المسلمين،و رعاية شئونهم،و العمل علي تطوير حياتهم، و ابعادهم عن جميع عوامل الانحطاط و التأخر،و قد ذكر المعنيون بهذه البحوث بعض الواجبات المهمة التي يجب عليه القيام بها،و هي:

1-حفظ الدين،و حراسة الاسلام،و صيانته من المستهترين بالقيم و الأخلاق.

2-حماية بيضة الإسلام،و الذب عن الحرم ليتصرف الناس في معايشهم و ينتشروا في اسفارهم،آمنين علي انفسهم و أموالهم.

3-تحصين الثغور بالعدد و وفور العدد حتي لا يظفر العدو بغرة فينتهك فيها محرم،أو يسفك فيها دم مسلم أو معاهد.

4-جهاد الكفرة المعاندين للاسلام حتي يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين قياما بحق اللّه بظهور دينه علي الدين كله.

5-تنفيذ الاحكام،و قطع الخصومات حتي لا يتعدي ظالم،و لا يضعف مظلوم.

6-اقامة الحدود لتتوقي المحارم،و تصان الأنفس و الأموال.

7-اختيار الامناء و الأكفاء،و تقليد الولايات للثقات النصحاء لتضبط الاعمال بالكفاءة،و تحفظ الأموال بالامناء.

8-جباية أموال الفيء،و الصدقات و الخراج علي ما أوجبه الشرع نصا أو اجتهادا من غير حيف و لا عسف 9-تقدير العطاء و ما يستحقه كل واحد في بيت المال من غير سرف

ص: 108

و لا تقتير،و دفعه إليهم في وقت معلوم لا تأخير فيه و لا تقديم.

10-مشارفة الامور العامة بنفسه غير معتمد علي ولاته و عماله،فقد يخون الأمين،و يغش الناصح،و قد قال تعالي: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (1).

و في الصحيحين (2)من رواية ابن عمر قال:سمعت رسول اللّه(ص) يقول:«كلكم راع،و كلكم مسئول عن رعيته،و المرأة في بيت زوجها راعية و مسئولة عن رعيتها،و الخادم في مال سيده،و هو مسئول عن رعيته،قال:فسمعت هذا من رسول اللّه(ص)و أحسبه قال:

و الرجل في مال أبيه راع و مسئول عن رعيته،فكلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته».

و أخرج الترمذي (3)من حديث عمرو بن مرة الجهني قال لمعاوية:

سمعت النبي(ص)يقول:«ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجات و المسكنة إلا أغلق اللّه أبواب السماء دون خلته (4)و حاجته و مسكنته» و يقول محمد بن يزداد وزير المأمون مخاطبا له:

من كان حارس دنيا إنه قمن أن لا ينام و كل الناس نوام

و كيف ترقد عينا من تضيقه همان من أمره نقض و ابرام (5)

و وصفت هذه الامور بانها دستور شامل لو نقلناه الي لغة العصر،/1

ص: 109


1- سورة ص:آية 26.
2- البخاري 62/9 و مسلم 213/12
3- صحيح الترمذي 73/6
4- الخلة:الحاجة و الفقر
5- مآثر الانافة في معالم الخلافة 59/1

و مصطلحاته لسامق بل لتفوق في احاطته و شموله علي ما احتوته الدساتير العالمية من واجبات الحاكمين و التزاماتهم (1).

و من يمعن النظر فيما أثر عن الامام امير المؤمنين(ع)يري أن واجبات الامام(ع)أشمل من ذلك فانها تمتد الي اقامة صروح الأخلاق و الفضيلة و بناء مجتمع يعيش في ظلال العدل و الحق و تستأصل-فيه صور الانتهازية و الوصولية،و بذور البغي و الفساد و قد تحدثنا عن ذلك بصورة مفصلة في كتابنا«نظام الحكم و الادارة في الاسلام».

صفات الامام:

و لا بد أن تتوفر في الامام جميع النزعات الخيرة،و الصفات الرفيعة، و المثل الكريمة،من العلم و التقوي،و سجاحة الرأي،و اصالة التفكير،و الدراية التامة بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها،و ذكر المعنيون بالفقه السياسي في الاسلام الشروط التي يجب أن تتوفر فيه و هي:

1-العدالة علي شروطها الجامعة،و هي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب و عدم الاصرار علي صغائرها.

2-العلم المؤدي الي الاجتهاد في النوازل و الاحكام.

3-سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.

4-سلامة الاعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة،و سرعة النهوض.

5-الرأي المفضي الي سياسة الرعية،و تدبير المصالح.

ص: 110


1- دولة القرآن ص 82.

6-الشجاعة و النجدة المؤدية الي حماية بيضة الاسلام،و جهاد العدو 7-النسب و هو أن يكون الامام من قريش.

و قد ذكر هذه الاوصاف كل من الماوردي و ابن خلدون (1)و ذكر الجويني و الايجي،و الجرجاني و الفارابي أوصافا أخر ذكرناها مفصلة في كتابنا «نظام الحكم و الادارة في الإسلام».

و تعتقد الشيعة ان الامام يجب أن يكون أفضل الناس في ملكاته و عبقرياته و انه لا بد فيه من:

1-العصمة:

إن عصمة الامام-عند الشيعة-قاعدة أساسية في الامامة،و هي من المبادئ الأولية في كيانهم العقائدي،و قد عرفها المتكلمون،فقالوا:

إنها لطف من اللّه يفيضها علي أكمل عباده،و أفضلهم عنده،و بها يمتنع من ارتكاب الآثام و الجرائم عمدا و سهوا...و قد أثارت عليهم هذه العقيدة الكثير من التهم و الطعون،و اتهمهم قوم بالغلو و الافراط في الحب.

و لكنا إذا رجعنا إلي الأدلة نجدها مؤيدة لما تذهب إليه الشيعة،و يكفينا في الاستدلال علي ذلك آية التطهير قال تعالي:«إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا» (2)و هي تدل بوضوح علي عصمة أئمة أهل البيت(ع)من الذنوب و طهارتهم من الزيغ و الرجس،و ذلك بما جاء فيها من حصر إرادة اذهاب الرجس-أي المعاصي-بكلمة انما التي هي من أقوي أدوات الحصر،و بدخول الكلام في الكلام الخبري،و تكرار لفظ

ص: 111


1- الأحكام السلطانية ص 4،المقدمة ص 135.
2- سورة الأحزاب:آية 33.

الطهارة،و كل ذلك يدل بحسب الصناعة علي الحصر و الاختصاص،كما ان ارادة اللّه باذهاب الرجس عنهم يستحيل فيها أن يتخلف المراد عن الارادة قال تعالي: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و بهذا يتم الاستدلال علي عصمتهم من كل ذنب و معصية (1)كما أن حديث الثقلين يدل علي العصمة بوضوح،فقد قرن فيه الرسول(ص)بين الكتاب و عترته،و كما ان الكتاب العزيز معصوم من الخطأ و الزلل فكذلك العترة،و الا لما صحت المقارنة و المساواة بينهما.و بعد توفر الأدلة الحاسمة علي اعتبارها في الامام فلا مساغ للانكار علي الشيعة بذلك،قال العلامة الشيخ محمد أمين زين الدين:

«و ما يصنع الشيعة إذا اضطرتهم طبيعة الاسلام ذاتها الي هذه العقيدة؟ و ما يعملون إذا قادتهم نصوص القرآن و صحاح السنة و دلائل العقل؟ ما يعملون اذا قادتهم هذه الحجج كلها قودا الي هذه النتيجة؟ و العصمة التي يشترطونها في امام المسلمين،هل تخرج به عن مصاف البشر،و تلحقه بعداد الآلهة كما يشتهي أن يقول المتقولون؟ هل العصمة في ذاتها جزء إلهي حتي اذا اشترطناها فقد قلنا في الخليفة بالحلول؟و هل للالوهية أجزاء لتعد العصمة من هذه الأجزاء،و لتستطيع هذه الفرية أن تقف علي قدم،أ لم تشترطها جمهرة المسلمين في رسالة الرسول؟ فهلا كانت لها هذه اللازمة هناك؟و هل نقدها أحد هناك بمثل هذا النقد؟العصمة شرط في رسالة الرسول لدي جمهور المسلمين و إن اختلفت فرقهم في تحديد هذا الشرط:أ هو العصمة في عهد النبوة فقط أم العصمة حتي فيما قبل هذا العهد؟4.

ص: 112


1- بسطنا البحث في دلالة الآية في الجزء الأول من حياة الامام الحسن ص 69-74.

و يقول:و شيعة أهل البيت وحدهم يقولون:الشرط في رسالة الرسول و في امامة الامام العصمة في كل أدوار الحياة من جميع أصناف الذنوب، و من جميع أنواع النقائص حتي من الخطأ و الغفلة و السهو.

و العصمة رصيد نفساني كبير يتكون من تعادل جميع القوي النفسانية، و بلوغ كل واحدة منها أقصي درجة يمكن أن يبلغها الانسان،ثم سيطرت القوة العقلية علي جميع هذه القوي و الغرائز و الركائز سيطرة كاملة حتي لا تشذ في أمر و لا تستغل دونها في عمل.

هذه الحصانة الذاتية التي يرتفع بها الانسان الأعلي عن الاتضاع في طبيعته،و يمتنع بها عن الانزلاق في ارادته،ثم عن الانحرافات و الالتواءات التي تترسب في منطقة اللاشعوري و تتحول-كما يقول العلماء النفسانيون- عقدا نفسية تتحكم في دوافع المرء و في سلوكه،و في اتجاهاته و ملكاته و تسوقه من حيث لا يريد الي النشوز عن الحق و الشرود عن العدل،هذه الحصانة الذاتية التي توقظ مشاعر الانسان الكامل فلا يغفل،و يعتلي بملكاته و اشراقه فلا ينزلق،و لا يكبو،و التي تكفل له صحته النفسية من كل وجه،هذه هي العصمة التي يشترطها مذهب أهل البيت في الرئيس الأعلي لحكومة الاسلام،و في ظني انه شرط بمنتهي الجلاء كما انه بمنتهي الحكمة..» (1)ان المنطق العلمي بجميع أبعاده يقضي بصحة ما تذهب إليه الشيعة من اعتبار العصمة في أئمة أهل البيت(ع)اما القول المعاكس له فهو بعيد عن منطق الدليل و البرهان.

و بقي هنا شيء و هو اعتقاد الشيعة بأن الامام لا بد أن يكون أعلم الناس و أفضلهم في مقدراته العلمية،و قد أوضح هذه الجهة و أولاها بمزيد من البيان و الاستدلال سماحة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر قال:5.

ص: 113


1- الاسلام ص 283-285.

«أما علمه-أي علم الإمام-فهو يتلقي المعارف و الاحكام الالهية، و جميع المعلومات من طريق النبي أو الامام من قبله،و إذا استجد شيء لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها اللّه تعالي فيه فان توجه الي شيء و شاء أن يعلمه من طريق علي وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه كل ذلك مستند الي البراهين العقلية،و لا يستند الي تلقينات المعلمين،و إن كان علمه قابلا للزيادة و الاشتداد،و لذا قال(ص):«رب زدني علما» و أضاف يقول بعد الاستدلال علي ذلك:

و يبدو واضحا هذا الأمر في تأريخ الأئمة عليهم السلام كالنبي محمد(ص) فانهم لم يتربوا علي أحد،و لم يتعلموا علي يد معلم،من مبدأ طفولتهم الي سن الرشد حتي القراءة و الكتابة،و لم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ علي تبدل استاذ في شيء من الأشياء مع ما لهم من منزلة علمية لا تجاري.و ما سئلوا عن شيء إلا أجابوا عليه في وقته،و لم تمر علي ألسنتهم كلمة«لا أدري»و لا تأجيل الجواب الي المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك في حين أنك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام و رواته و علمائه إلا ذكرت في ترجمته و تربيته و تلمذته علي غيره و أخذ الرواية أو العلم علي المعروفين و توقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر و مصر» (1).

و عرض سماحة الامام كاشف الغطاء الي صفات الإمام(ع)و قال فيما يختص في مواهبه العلمية:

«و أن يكون-أي الإمام-أفضل أهل زمانه في كل فضيلة و أعلمهم بكل علم لأن الغرض منه تكميل البشر و تزكية النفوس،و تهذيبها بالعلم و العمل الصالح«هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته4.

ص: 114


1- عقائد الإمامية ص 51-54.

و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة»و الناقص لا يكون مكملا،و الفاقد لا يكون معطيا،فالامام في الكمالات دون النبي و فوق البشر» (1).

هذا هو الرأي الصريح للشيعة في علم الامام،و ليس فيه أي غلوكما يتهمهم بذلك خصومهم.

تعيين الامام

و تجمع الشيعة علي أن تعيين الامام ليس بيد الأمة،و لا بيد أهل الحل و العقد منها،و الانتخاب في الإمامة باطل و الاختيار فيها مستحيل فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بايجاد الانسان و رغبته كذلك الامامة لأن العصمة التي هي شرط في الإمامة-عندهم-لا يعلمها إلا اللّه المطلع علي خفايا النفوس،و دخائل القلوب،فهو الذي يمنحها لمن يشاء من عباده، و يختاره لمنصب الإمامة و الخلافة.

و ما النبوة و الامامة بما هما-منصب إلهي-يجوز فيهما الترشيح و الانتخاب،فان تعيينهما من مختصاته تعالي،و قد اعلن ذلك الكتاب العزيز قال تعالي: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ» (2)و قال تعالي: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالي عَمّا يُشْرِكُونَ (3)و شأن الإمامة كشأن النبوة لا رجوع فيها الي اختيار الشعب و ارادته.

و دلتهم علي ذلك النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت(ع)و من

ص: 115


1- أصل الشيعة و أصولها ص 103 ط العرفان.
2- سورة ص:آية 26
3- سورة القصص:آية 68.

تلك النصوص ما استدل به حجة اللّه علي أرضه،و خليفته علي عباده الذي يقيم اعوجاج الحق،و يصلح ما فسد من نظام الدين مهدي هذه الأمة عجل اللّه فرجه،و ذلك عند ما سأله سعد بن عبد اللّه عن العلة التي تمنع من اختيار الناس اماما لأنفسهم فأجابه(ع)قائلا:

-يختارون مصلحا أو مفسدا؟ -بل مصلحا -فهل يجوز أن تقع خيرتهم علي المفسد بعد أن لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من إصلاح أو فساد -بلي -فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك،اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه و أنزل الكتب عليهم،و أيدهم بالوحي و العصمة،إذ هم أعلام الأمم،و أهدي إلي الاختيار،منهم مثل موسي و عيسي هل يجوز مع وفور عقلهما،و كمال علمهما إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما علي المنافق و هما يظنان أنه مؤمن.

-لا -هذا موسي كليم اللّه مع وفور عقله و كمال علمه،و نزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه،و وجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم و اخلاصهم،فوقعت خيرته علي المنافقين قال اللّه عز و جل:

«و اختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا»الي قوله:«لن نؤمن لك حتي نري اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم»فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوة واقعا علي الأفسد دون الأصلح،و هو يظن أنه الأصلح علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور،و تكن الضمائر» (1).13

ص: 116


1- بحار الانوار 127/13

إن الطاقات البشرية قاصرة عن إدراك الأصلح الذي تسعد به الأمة و انما أمر ذلك بيد اللّه تعالي العالم بخفايا الأمور.

كلمة الامام الرضا

و من أعمق الأدلة علي الإمامة،و اكثرها استيعابا و شمولا،و بيانا لمنصبها،و استحالة الانتخاب فيها حديث الامام الرضا عليه السلام مع عبد العزيز بن مسلم فقد أوضح الامام الكثير من جوانب الامامة،و فيما يلي بعض نصوص الحديث.

قال عبد العزيز بن مسلم:كنا في أيام علي بن موسي الرضا(بمرو) فاجتمعنا في مسجد جامعها فدار بين الناس أمر الإمامة،و ذكروا كثرة الاختلاف فيها.و بعد انتهاء الحديث،قمت فدخلت علي الامام الرضا عليه السلام فأخبرته بما خاض فيه الناس فتبسم(ع)ثم قال:

«يا عبد العزيز.جهل القوم،و خدعوا عن أديانهم.إن اللّه تبارك و تعالي لم يقبض نبيه(ص)حتي أكمل له الدين،و أنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء،بين فيه الحلال و الحرام.و الحدود و الاحكام و جميع ما يحتاج إليه كملا،فقال عز و جل:«ما فرطنا في الكتاب من شيء» (1)و أنزل في حجة الوداع و هي آخر عمره «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (2).

و أمر الامامة من تمام الدين،و لم يمض(ص)حتي بين لأمته معالم دينهم،و أوضح لهم سبيلهم،و تركهم علي قصد الحق،و أقام لهم عليا

ص: 117


1- سورة الأنعام:آية 38
2- سورة المائدة:آية 3

علما و اماما،و ما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه،فمن زعم أن اللّه عز و جل لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه عز و جل،و من رد كتاب اللّه تعالي فهو كافر.

هل يعرفون قدر الامامة و محلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجل قدرا،و أعظم شأنا،و أعلي مكانا،و أمنع جانبا،و أبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم،أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم.

إن الإمامة خص اللّه بها ابراهيم الخليل(ع)بعد النبوة،و الخلة مرتبة ثالثة،و فضيلة شرفه بها،و أشاد بها ذكره،فقال عز و جل:

«إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فقال الخليل سرورا بها:«و من ذريتي»قال اللّه عز و جل:«لا ينال عهدي الظالمين»فابطلت هذه الآية امامة كل ظالم الي يوم القيامة،و صارت في الصفوة،ثم اكرمه اللّه عز و جل بأن جعل ذريته أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (1)فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتي ورثها النبي(ص)قال عز و جل: إِنَّ أَوْلَي النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (2)فكانت له خاصة فقلدها عليا بأمر اللّه عز و جل علي رسم ما فرضه اللّه عز و جل فصارت له في ذريته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم و الايمان بقوله عز و جل وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ68

ص: 118


1- سورة الأنبياء:آية 72-73
2- سورة آل عمران:آية 68

فِي كِتابِ اللّهِ إِلي يَوْمِ الْبَعْثِ (1) .

فهي:في ولد علي خاصة الي يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد(ص) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟إن الإمامة هي منزلة الأنبياء،و إرث الأوصياء ان الامامة خلافة اللّه عز و جل،و خلافة الرسول و مقام أمير المؤمنين،و ميراث الحسن و الحسين عليهما السلام.

إن الإمامة زمام الدين،و نظام المسلمين و صلاح الدنيا،و عز المؤمنين إن الامامة أسس الاسلام النامي،و فرعه السامي بالامام تمام الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و توفير الفيء و الصدقات،و امضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور،و الأطراف.

الامام يحل حلال اللّه،و يحرم حرام اللّه،و يقيم حدود اللّه،و يذب عن دين اللّه،و يدعو الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة».

و يسترسل الامام(ع)في حديثه في بيان أوصاف الامام،و ما وهبه اللّه من الكمال و العبقريات،و أدلي بعد ذلك بأن الناس عاجزون عن معرفة حقيقته،و إدراك فضائله فقال:

«فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام و يمكنه اختباره؟هيهات هيهات!! ضلت العقول،و تاهت الحلوم،و حارت الألباب،و حسرت العيون، و تصاغرت العظماء،و تحيرت الحكماء،و تقاصرت الحلماء و حصرت الخطباء و جهلت الألباء،و كلت الشعراء،و عجزت الأدباء،و عييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله،فأقرت بالعجز و التقصير، و كيف يوصف له؟أو ينعت بكنهه،أو يفهم شيء من أمره،أو يوجد من يقوم مقامه،و يغني غناه،لا.و اني...

أين الاختيار من هذا؟56

ص: 119


1- سورة الروم:آية 56

أين العقول عن هذا؟ أين يوجد مثل هذا؟ ظنوا أن يوجد ذلك في غير آل الرسول(ص)،كذبتهم و اللّه أنفسهم و منتهم الباطل،فارتقوا مرتقي صعبا دحضا،تزل الي الحضيض أقدامهم.

راموا إقامة الامام بعقول جائرة.بائرة ناقصة،و آراء مضلة،فلم يزدادوا إلا بعدا«قاتلهم اللّه أني يؤفكون»لقد راموا صعبا،و قالوا إفكا «و ضلوا ضلالا بعيدا»و وقعوا في الحيرة،إذ تركوا الامام عن بصيرة «و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل و ما كانوا مستبصرين»و رغبوا عن اختيار اللّه،و اختيار رسوله الي اختيارهم،و القرآن يناديهم وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالي عَمّا يُشْرِكُونَ (1)و قال اللّه عز و جل وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (2)و قال عز و جل: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (3)و قال عز و جل: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلي قُلُوبٍ أَقْفالُها (4)أم طبع اللّه علي قلوبهم فهم لا يفقهون أم قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ، وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ4.

ص: 120


1- سورة القصص-آية 68
2- سورة الأحزاب:آية 36
3- سورة القلم:آية 36-41.
4- سورة محمد:آية 24.

لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (1) و قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا (2)بل هو فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (3).

فكيف لهم باختيار الامام؟!!و الامام عالم لا يجهل،راع لا ينكل معدن القدس و الطهارة،و النسك و الزهادة،و العلم و العبادة،مخصوص بدعوة الرسول،و هو من نسل المطهرة البتول،لا مغمز فيه في نسب، و لا يدانيه ذو حسب،فالنسب من قريش،و الذروة من هاشم،و العترة من آل الرسول(ص)و الرضا من اللّه،شرف الأشراف،و الفرع من عبد مناف،نامي العلم،كامل الحلم،مضطلع بالامامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة،قائم بأمر اللّه عز و جل،ناصح لعباد اللّه،حافظ لدين اللّه.

و تعرض(ع)بعد هذا الي علم الأنبياء و الأئمة فقال:

«إن الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم يوفقهم اللّه،و يؤتيهم من مخزون علمه.و حكمه ما لا يؤتيه غيرهم،فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم،ثم انظروا في قوله تعالي: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (4)و قوله عز و جل:

وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (5) و قوله عز و جل في طالوت إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ69

ص: 121


1- سورة الأنفال:آية 21-23
2- سورة البقرة:آية 93
3- سورة الحديد:آية 21
4- سورة يونس:آية 35
5- سورة البقرة:آية 269

وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (1) و قال عز و جل لنبيه: وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً و قال عز و جل في الأئمة من أهل بيت نبيه(ص)و عترته و ذريته أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلي ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفي بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (2)و ان العبد إذا اختاره اللّه عز و جل لأمور عباده شرح صدره لذلك،و أودع قلبه ينابيع الحكمة،و ألهمه العلم إلهاما فلم يع بعده بجواب،و لا يحيد فيه عنه الصواب،و هو معصوم،مؤيد،موفق مسدد،قد أمن الخطايا و الزلل،و العثار،يخصه اللّه بذلك ليكون حجته علي عباده و شاهده علي خلقه، ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

فهل يقدرون علي مثل هذا فيختاروه؟!أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه،تعدوا و بيت اللّه الحق،و نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون،و في كتاب اللّه الهدي و الشفاء فنبذوه،و اتبعوا أهواءهم فذمهم اللّه و مقتهم و أتعسهم،فقال عز و جل: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُديً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (3)و قال عز و جل:

فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (4) و قال عز و جل: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلي كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (5).35

ص: 122


1- سورة البقرة:آية 247
2- سورة النساء:آية 54-55
3- سورة القصص:آية 50
4- سورة محمد:آية 8
5- سورة المؤمن:آية 35

و انتهي بذلك حديث الامام(ع) (1)و هو حافل بأروع صور الاستدلال و الحجة علي ضرورة الإمامة،و استحالة الاختيار و الانتخاب فيها،و وجوب رجوع التعيين في ذلك الي اللّه تعالي وحده فهو الذي يختار لهذا المنصب الرفيع من يشاء من عباده ممن تتوفر فيه صفات الخير و الكمال،و طهارة النفس،و صفاء الذات،و عدم الانقياد و الخضوع لدواع الهوي،و نوازع الشرور و الغرور حتي يصلح لهداية الناس،و اصلاحهم،و غرس روح الثقة و الفضيلة في نفوسهم.

نصوص الامامة:

إن تعيين الامام عند الشيعة ينحصر في النص،و لا سبيل لغيره في ذلك،و عليه فيجب علي النبي(ص)أن يعين من يخلفه من بعده،و كذلك يجب علي الامام من بعده أن ينص علي الخلف الذي يجب أن يرجع إليه الناس،و قد حفلت جميع كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع بتدوين صور النصوص في ذلك فقد قال(ص)في أمير المؤمنين(يوم الدار):

«هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا» (2)و أخرج الطبراني بالاسناد الي سلمان الفارسي،قال:قال رسول اللّه(ص):إن وصي و موضع سري،و خير من أترك بعدي،و ينجز عدتي،و يقضي ديني علي بن أبي طالب (3)و أخرج أبو نعيم الحافظ في«حلية الأولياء»عن أنس قال:قال رسول اللّه(ص):يا أنس أول من يدخل عليك من

ص: 123


1- عيون أخبار الرضا 216/1-222 أصول الكافي.
2- كنز العمال 392/6 و غيره.
3- كنز العمال 154/6.

هذا الباب إمام المتقين،و سيد المسلمين،و قائد الغر المحجلين،و خاتم الوصيين،قال أنس:فجاء علي،فقام رسول اللّه(ص)مستبشرا فاعتنقه و قال له:أنت تؤدي عني،و تسمعهم صوتي،و تبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي (1).

و أخرج الطبراني في الكبير بالاسناد الي أبي أيوب الانصاري عن رسول اللّه(ص)قال:يا فاطمة.أ ما علمت أن اللّه عز و جل اطلع علي أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيا،ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحي إلي فأنكحته،و اتخذته وصيا (2).

و روي المحب الطبري بسنده عن أنس قال:قلنا لسلمان سل النبي(ص) من وصيه؟فقال سلمان:يا رسول اللّه من وصيك؟قال:يا سلمان من كان وصي موسي؟قال:يوشع بن نون قال:فان وصي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن أبي طالب (3).

و روي المحب الطبري عن بريدة قال:قال رسول اللّه(ص):لكل نبي وصي و وارث،و ان عليا وصي و وارثي (4).

و وردت نصوص نبوية متواترة رواها الفريقان في امامة السبطين و الريحانتين عليهما السلام فقد قال(ص)فيهما:«أنتما الامامان و لأمكما الشفاعة» (5)و قال(ص)و هو يشير الي الحسين:هذا إمام ابن امام أخو إمام2.

ص: 124


1- حلية الأولياء 63/1
2- كنز العمال 153/6 مجمع الزوائد 353/8
3- الرياض النضرة 178/2
4- الرياض النضرة 178/2 و في كنوز الحقائق للمناوي ص 121 انه(ص)قال:«لكل نبي وصي و وارث،و علي وصي و وارثي».
5- الاتحاف بحب الاشراف ص 129،نزهة المجالس 184/2.

أبو أئمة تسعة (1)و أخرج الصدوق في الاكمال بالاسناد الي سلمان قال:

دخلت علي النبي(ص)فاذا الحسين بن علي علي فخذه و هو يلثم فاه، و يقول:أنت سيد ابن سيد،أنت إمام بن إمام أخو إمام أبو الأئمة، و أنت حجة اللّه و ابن حجته،و أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم (2).

و استفاضت كتب الحديث بنصوص نبوية أخري تحصر الامامة في اثني عشر اماما كلهم من قريش فقد روي جابر بن سمرة قال:سمعت رسول اللّه(ص)-يوم جمعة عشية رجم الأسلمي-يقول:لا يزال الدين قائما حتي تقوم الساعة،و يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (3)و أخرج الصدوق في الاكمال بسنده الي الامام الصادق(ع)عن أبيه عن جده قال:قال رسول اللّه(ص):الأئمة اثنا عشر أولهم علي و آخرهم القائم هم خلفائي و أوصيائي (4).

و روي الحافظ أبو نعيم بسنده عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه(ص) من سره أن يحيي حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي،و ليوال وليه،و ليقتد بالأئمة من بعدي فانهم عترتي خلقوا من طينتي،و رزقوا فهما و علما،و ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي،لا أنا لهم اللّه شفاعتي» (5)./1

ص: 125


1- منهاج السنة 210/4.
2- المراجعات ص 228
3- صحيح مسلم كتاب الامارة،مسند الامام أحمد بن حنبل 89/5 صحيح البخاري 164/4
4- المراجعات ص 227
5- حلية الأولياء 86/1

و يضاف الي تلك النصوص النبوية،النصوص التي رواها الثقات و المتحرجون في دينهم عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في نص كل إمام منهم علي الامام الذي يخلفه من بعده،فقد أوصي أمير المؤمنين(ع)حينما حضرته الوفاة الي ولده الامام الحسن(ع)و قال له:«يا بني أمرني رسول اللّه أن أوصي إليك،و أن أدفع إليك كتبي و سلاحي،كما أوصي إلي رسول اللّه(ص)،و دفع إلي كتبه و سلاحه،و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الي أخيك الحسين»ثم أقبل علي الحسين فقال:«و أمرك رسول اللّه أن تدفعها إلي ابنك هذا-و أشار الي زين العابدين-ثم أخذ بيد علي بن الحسين و قال:«و أمرك رسول اللّه أن تدفعها الي ابنك محمد.فأقرئه من رسول اللّه و مني السلام» (1).

و هناك مئات أمثال هذه النصوص حفلت بها كتب الحديث و هي تدل علي لزوم النص في الامامة،و بطلان غيره و قد أخذت بها الشيعة في بناء عقيدتها في الامامة.

النص علي امامته:

اشارة

و عرف الامام الصادق(ع)شيعته بامامة ولده موسي(ع)منذ أن أشرقت الدنيا بولادته،و كان في كل مناسبة يحيطهم علما بذلك و يوصيهم بضرورة الكتمان خوفا عليهم و علي ولده من السلطة الحاكمة،و لما أخذ(ع) بعنق السبعين من سني حياته هرعت إليه طائفة من الشيعة تسأله عن الامام من بعده لتعقد له الولاء و الطاعة،و ترجع إليه في أمور دينها فأجابهم(ع) بأن الحجة من بعده ولده موسي(ع)،و فيما يلي عرض لتلك النصوص:

ص: 126


1- كشف الغمة 151،أصول الكافي.
1-المفضل بن عمر:

و المفضل بن عمر الجعفي (1)من عيون الشيعة و أعلامها البابهين،و قد سأل الامام جعفر بن محمد عليه السلام عن الحجة من بعده ليتولاه و يدين بامامته فقال(ع):

«يا مفضل،الامام من بعدي ابني موسي،الخلف المأمول المنتظر» (2)

2-يزيد بن سليط:

و يزيد بن سليط ثقة أمين من أهل الورع و العلم (3)قصد بيت اللّه الحرام و معه زمرة من أصحابه فالتقي في أثناء الطريق بالامام أبي عبد اللّه و كان معه ولده و حاشيته فبادر إلي الامام يسأله عن الحجة من بعده قائلا:

«بأبي أنتم و أمي،أنتم الأئمة المطهرون،و الموت لا يعري منه أحد فمن القائم من بعدك؟فأشار(ع)الي ولده موسي و أخذ يبين له ما تحلي به ولده من المثل العليا قائلا:

«فعنده علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم،و فيه حسن الخلق،و حسن الجوار، و هو باب من أبواب اللّه،و فيه أخري هي خير من هذا كله..».

-بأبي أنت و أمي،و ما هي!!؟ -يخرج اللّه تعالي منه غوث هذه الأمة،و غياثها،و علمها،و نورها و فهمها،و حكيمها،خير مولود و خير ناشئ،يحقن اللّه به الدماء، و يصلح به ذات البين،و يلم به الشعث،و يشعب به الصدع،و يكسو به العاري،و يشبع به الجائع،و يؤمن به الخائف،و ينزل به القطر،و يأتمر

ص: 127


1- تأتي ترجمته في كوكبة الرواة و الأصحاب.
2- البحار:(ج 11 ص 234)الارشاد.
3- تأتي ترجمته.

له العباد،خير كهل،و خير ناشئ.قوله حكم،و صمته علم يبين للناس ما يختلفون فيه..» (1).

و قد أخبر(ع)بما منح اللّه به ولده بأن جعل من ذريته مهدي آل محمد(ع)الذي بشر به النبي و الأئمة من بعده،و هو الذي يقيم الاعوجاج و يصلح ما فسد من نظام الدنيا و الدين،و لا يخرج حتي يسود الفساد و يعم الظلم و تنتشر الفوضي،و يشيع التفسخ،و تموج الأرض بالفتن و الاضطراب عجل اللّه فرجه،و جعلنا من دعاته و أنصاره.

3-داود بن كثير:

و هرع داود بن كثير،الي الامام أبي عبد اللّه يسأله عن الامام من بعده قائلا:

جعلني اللّه فداك،و قد مني للموت قبلك،إن كان كون فالي من أرجع؟ -إلي ابني موسي.

و اطمأن داود بذلك،و استراح ضميره فلم يداخله الشك و لم يتحير في معرفة الامام كما حدث بذلك بقوله:«ما شككت في موسي طرفه عين (2).

4-الفيض بن المختار:

و تشرف الفيض بزيارة الامام أبي عبد اللّه عليه السّلام فجري بينهما حديث في شأن أبي الحسن موسي،و بينما هما يتحدثان في أمره إذ دخل الامام موسي فالتفت أبو عبد اللّه الي الفيض قائلا:

«يا فيض هو صاحبك الذي سألت عنه،فقم فقر له بحقه».

ص: 128


1- البحار:(ج 11 ص 234).
2- نفس المصدر.

فاندفع الفيض يلثم يد الامام و رأسه،و يدعو اللّه له بالبقاء و الحياة، و التفت الي أبي عبد اللّه قائلا:

-جعلت فداك أ فأخبر به أحدا..؟ -نعم أهلك،و ولدك،و رفقاءك.

و بهذا نقف علي مدي التكتم الشديد من الامام و شيعته،خوفا من السلطة الجائرة،و انبري الفيض إلي خلص أصحابه فأتحفهم بهذا النبأ المسر و كان من جملتهم يونس بن ظبيان،فأراد أن يزداد يقينا فبادر الي ثوي الامام فلما انتهي إليه بادر إليه الامام أبو عبد اللّه قائلا:

«يا يونس،الأمر كما قال لك الفيض».

فانصرف يونس و هو مثلوج القلب قد غمره الفرح و السرور بهذه النعمة التي ظفر بها (1).

5-ابراهيم الكرخي:

و زار ابراهيم الكرخي الامام جعفر بن محمد(ع)و بينما هو جالس بخدمة الامام إذ أقبل أبو الحسن موسي فقام إليه ابراهيم اجلالا،فالتفت إليه أبو عبد اللّه.

«يا ابراهيم:اما إنه صاحبك من بعدي،اما ليهلكن فيه قوم، و يسعد فيه آخرون،فلعن اللّه قاتله،و ضاعف العذاب علي روحه،اما ليخرجن اللّه من صلبه خير أهل الأرض في زمانه سمي جده-يعني محمد المهدي عجل اللّه فرجه سمي النبي و شبيهه في تحطيمه للظلم و القضاء علي الظالمين- و وارث علمه،يقتله جبار بني فلان بعد عجائب طريفة حسدا له و لكن اللّه بالغ أمره و لو كره المشركون».

و أخذ يتحدث عن ولده،و ما منحه اللّه من اللطف و الكرامة قائلا:

ص: 129


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 309)البحار)ج 11 ص 234).

«يخرج اللّه من صلبه تمام اثني عشر مهديا،اختصهم اللّه بكرامته، و أحلهم دار قدسه،المقر بالثاني عشر منهم كالشاهر سيفه بين يدي رسول اللّه(ص)يذب عنه».

و لما انتهي(ع)الي هذه الفقرات من حديثه دخل عليه بعض عملاء الأمويين فقطع(ع)الحديث،و أراد ابراهيم إتمامه فلم يظفر به فرحل عن يثرب الي وطنه و لما كان العام المقبل تشرف بالمثول بين يدي الامام و هو يتحرق شوقا الي سماع بقية كلامه فأدرك عليه السلام ذلك فقال:

«يا ابراهيم:المفرج الكرب عن شيعته بعد ضنك شديد،و بلاء طويل،و جزع و خوف،فطوبي لمن أدركه،ثم قال له:حسبك يا ابراهيم».

و فرح ابراهيم بهذا الكلام من حديث الامام و انطلق يقول:

«ما رجعت بشيء أسر من هذا لقلبي،و لا أقر لعيني» (1).

6-عيسي العلوي:

و دخل عيسي بن عبد اللّه العلوي علي الامام جعفر بن محمد يسأله عن الحجة من بعده قائلا:

«إن كان كون-و لا أراني اللّه ذلك-فبمن آتم؟».

فأومأ عليه السلام الي ولده موسي فانبري عيسي قائلا:

-فان حدث بموسي حدث فبمن آتم؟.

-بولده.

-فان حدث بولده حدث،و ترك أخا كبيرا و ابنا صغيرا فبمن آتم؟.

-بولده،ثم هكذا أبدا.

-فان لم أعرفه،و لا أعرف موضعه؟.

ص: 130


1- البحار:(ج 11 ص 235).

-تقول:اللهم،إني أتولي من بقي من حججك من ولد الامام الماضي فان ذلك يجزيك..» (1).

7-معاذ بن كثير:

و قصد معاذ بن كثير (2)الامام الصادق يسأله عن الامام الذي يتولاه من بعده قائلا:

«أسأل اللّه الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها..».

-قد فعل اللّه ذلك.

-من هو جعلت فداك؟.

فأشار الي ولده موسي و هو راقد قائلا:هذا الراقد،و كان آنذاك غلاما (3).

8-منصور بن حازم:

و دخل منصور بن حازم علي الامام أبي عبد اللّه يطلب منه تعيين الامام من بعده قائلا:

-بأبي أنت و أمي إن الأنفس يغدا عليها و يراح فاذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد اللّه:فهذا هو صاحبكم،و أشار الي أبي الحسن موسي ثم وضع يده علي منكب ولده مدلا عليه،و كان عمره آنذاك خمس سنين (4).

ص: 131


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 309)البحار:(ج 11 ص 235)
2- معاذ بن كثير الكسائي الكوفي من خواص الامام أبي عبد اللّه، و من فقهاء هذه الطائفة و أحد أعلامها،جاء ذلك في التعليقات:(ص 335).
3- كشف الغمة:(ص 244)أصول الكافي:(ج 1 ص 308)البحار: (ج 11 ص 235)الارشاد:(ص 264).
4- أصول الكافي:(ج 1 ص 309).
9-سليمان بن خالد:

و حدث سليمان بن خالد قال:كنت جالسا أنا و جماعة من أصحابي عند الامام أبي عبد اللّه عليه السلام فدعا(ع)ولده موسي فلما مثل بين يديه التفت الي أصحابه قائلا:

«عليكم بهذا بعدي،فهو و اللّه صاحبكم» (1).

10-صفوان الجمال:

تقدم نص حديثه الذي استدللنا به علي ذكاء الامام و عبقريته في دور طفولته.

11-اسحاق بن جعفر:

و حدث اسحاق بن الامام الصادق قال:كنت عند أبي فسأله عمران ابن علي عن الامام من بعده قائلا:

-جعلت فداك الي من نفزع و يفزع الناس بعدك؟.

-الي صاحب الثوبين الأصفرين الطالع عليكم من الباب.

فجعل علي يتشوف و يترقب الداخل من الباب فلم يلبث أن خرج إليهم الامام موسي،و هو صبي يافع و عليه ثوبان اصفران،و عنده غديرتان (2).

12-علي بن جعفر:

و روي علي نجل الامام الصادق عليه السلام،قال:«سمعت أبي جعفر ابن محمد(ع)يقول لجماعة من خاصته و أصحابه،استوصوا بابني موسي خيرا فانه أفضل ولدي،و من اخلف بعدي،و هو القائم مقامي و الحجة للّه تعالي علي كافة خلقه» (3).

ص: 132


1- الارشاد:(ص 265)أصول الكافي:(ج 1 ص 310).
2- كشف الغمة:(ص 244)الارشاد:(ص 265)البحار.
3- كشف الغمة:(ص 244)الارشاد:(ص 266).
13-يزيد بن اسباط:

و دخل يزيد بن اسباط علي الامام أبي عبد اللّه(ع)عائدا له في مرضه الذي توفي فيه.فالتفت له الامام قائلا:

«يا يزيد أ تري هذا-و أشار لولده موسي-إذا رأيت الناس قد اختلفوا فيه،فاشهد عليّ بأني اخبرتك أن يوسف انما كان ذنبه عند اخوته حتي طرحوه في الجب،الحسد له حين اخبرهم أنه رأي أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و كذلك لا بد لهذا الغلام من أن يحسد...».

ثم استدعي بأولاده عبد اللّه و اسحاق و محمد و العباس،و موسي فقال لهم:

«هذا-و أشار لولده موسي-وصي الأوصياء،و عالم العلماء، و شهيد علي الأموات و الأحياء..» (1).

14-سلمة بن محرز:

و ندد بعض المنافقين من العجلية في عقيدة الشيعة التي تنص علي أن الامام لا بد أن يخلفه إمام،و الامام الصادق ليس له خلف ليقوم مقامه، و قد ذكر ذلك أمام سلمة بن محرز فلما سمع كلامه فزع الي الامام(ع) -و هو متألم-لينقل له حديثه و يطلب منه تعيين الامام من بعده قائلا:

«سيدي:إن رجلا من العجلية،قال لي:كم عسي أن يبقي لكم هذا الشيخ-يعني أبا عبد اللّه-إنما سنة أو سنتان حتي يموت،ثم تصيرون ليس لكم أحد تنظرون إليه..».

-فقال له أبو عبد اللّه:أ لا قلت له:هذا موسي بن جعفر قد أدرك ما يدرك الرجال...الخ (2).

ص: 133


1- البحار:(ج 11 ص 236).
2- البحار:(ج 11 ص 237).
15-زرارة بن أعين:

و روي زرارة بن اعين (1)قال:دخلت علي أبي عبد اللّه(ع)و كان عنده سيد ولده أبو الحسن موسي،و في مجلسه جثمان قد غطي بثوب فأمرني أبو عبد اللّه(ع)أن أحضر له داود الرقي،و حمران و أبا بصير،فخرجت لدعوتهم فصادفني المفضل بن عمر قاصدا نحو الامام،و رأيت الناس تتوافد علي بيت الامام:فمضيت مسرعا فدعوت القوم إليه فلما تشرفوا بمقابلته التفت(ع)الي داود الرقي فقال له:اكشف عن وجه اسماعيل،فكشف عن وجهه و إذا به جثة هامدة لا حراك فيها فقال عليه السلام لداود:

-يا داود:أ هو حي أم ميت؟ -يا سيدي:بل هو ميت.

و جعل يعرض ذلك علي جميع حضار مجلسه يشهدهم علي وفاته،و يطلب منهم الاقرار و الاعتراف بموته،و انما فعل ذلك ليفند مزاعم بعض الشيعة الذين ذهبوا الي أن اسماعيل هو الامام بعد أبيه نظرا لصلاحه و وفور علمه

ص: 134


1- زرارة بن أعين الشيباني من أقطاب الشيعة و في طليعة علمائها في الفقه و الحديث و الكلام-كما قال ابن النديم-و قد اعتز به الامام أبو عبد اللّه عليه السلام فنصبه علما للفتيا بين شيعته،و قال للفيض بن المختار:«إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس و أومأ بيده الي زرارة»و قال عليه السلام: «لو لا زرارة و نظراؤه لاندرست أحاديث أبي»و روي زرارة الكثير من فقه أهل البيت و أحاديثهم و كل ما رواه فهو صحيح مقبول،و نظرا لاتصاله الوثيق و قربه بأهل البيت فقد طعن فيه أعدائهم و مخالفوهم فاتهموه بشتي التهم و الطعون،و لم يحط ذلك من كرامته و منزلته،فقد عرف الجميع ما لزرارة من أياد بيضاء علي العلم و الدين،توفي رحمه اللّه سنة 150 ه- راجع ترجمته في النجاشي و الكشي و الفهرست و التعليقات و لسان الميزان و غيرها.

فأراد(ع)أن يثيبهم الي الرشاد،و يرجعهم الي الصواب،و يدلهم علي أن الامام من بعده ولده موسي،ثم أنه أمر بتجهيزه فغسل و أدرج في اكفانه ثم أمر المفضل بن عمر أن يحسر عن وجهه ثانيا ليراه الناس و يقطعوا بموته حتي لا يبقي مجال للشك في ذلك،و بعد هذا أراد الزيادة في التأكيد و نفي الريب فالتفت الي جميع أصحابه قائلا:

-أ هو حي أم ميت؟.

فهتفوا جميعا معترفين بموته فرفع(ع)يديه الي السماء و انطلق يقول:

«اللهم:اشهد فانه سيرتاب فيه المبطلون،يريدون إطفاء نور اللّه -و أشار لولده موسي-بأفواههم،و اللّه متم نوره و لو كره المشركون» ثم إنه أمر أن يواري الجثمان في مقره الأخير،و بعد أن وسد في ملحود قبره و أهيل عليه التراب التفت الي أصحابه ليرفع عنهم الشبه و الظنون قائلا:

«الميت،المكفن،المحنط،المدفون في هذا اللحد من هو؟.

فانبروا جميعا قائلين:إنه اسماعيل،فقال(ع):اللهم،اشهد،ثم أخذ بيد ولده موسي و هو يقول:

«هو الحق،و الحق معه و منه الي أن يرث اللّه الأرض و من عليها...» (1).

و قد فند(ع)بهذه التصريحات المتكررة الشبه التي حامت عند بعض أصحابه حول إمامة ولده إسماعيل،و قد بين لهم غير مرة أن الامامة ليست بيده و انما هي بيد اللّه تعالي فهو الذي يمنحها لمن يشاء من عباده،و قد روي أبو بصير قال:كنت عند أبي عبد اللّه(ع)فذكر أصحابه الأوصياء و ذكروا اسماعيل،فالتفت إلي الامام قائلا:

-لا و اللّه،يا أبا محمد،ما ذاك إلينا،و ما هو إلا اللّه عز و جل ينزل).

ص: 135


1- البحار:(ج 11 ص 237).

واحدا بعد واحد..» (1).

و قد صرح(ع)بأن تعيين الامام لا يرجع إليه و انما هو بيد اللّه تعالي فهو الذي يختاره من بين عباده ممن تتوفر فيه النزعات الخيرة و المواهب الكريمة و ليس لأحد-بعد ذلك-أن يختار،و قد عرف ذلك و آمن به الخواص من الشيعة كما حدث بذلك ظريف بن ناصح (2)قال:كنت مع الحسين بن زيد و معه ابنه علي إذ مر بنا أبو الحسن موسي عليه السلام فسلم و انصرف،فقلت للحسين:

«جعلت فداك يعرف موسي بقائم آل محمد(ع)؟».

-إن يكن أحد يعرفه فهو،ثم قال:و كيف لا يعرفه؟!و عنده خط علي بن أبي طالب و إملاء رسول اللّه(ص)».

فانبري إليه ولده قائلا:

-كيف لم يكن ذلك عند أبي زيد بن علي؟!.

-يا بني:إن علي بن الحسين،و محمد بن علي سيدا الناس و إماماهم فلزم-يا بني-أبوك زيد أخاه،و تأدب بأدبه،و تفقه بفقهه.

-يا أبة:ان حدث بموسي(ع)حدث يوصي الي أحد من اخوته.

-لا-و اللّه لا يوصي إلا الي ابنه..» (3).

16-بعض الشيعة:

و دخل علي الامام بعض شيعته يطلب منه أن يعين له الامام من

ص: 136


1- البحار:(ج 11 ص 227).
2- ظريف بن ناصح:كوفي نشأ ببغداد ثقة في حديثه،ألف عدة كتب منها كتاب(الديات)،و كتاب(الحدود)،و كتاب(النوادر) جاء ذلك في التعليقات ص 186.
3- زيد بن علي ص 193 نقلا عن قرب الاسناد مخطوط.

بعده فقال(ع):

«سابعكم قائمكم ألا و هو سمي صاحب التوراة-يعني موسي بن عمران عليه السلام- (1).

17-بعض أصحابه:

و تشرف بعض أصحاب الامام بمقابلته فطلب منه أن يعين له الحجة من بعده فقال(ع)له:عد الأيام فعدها من الأحد حتي بلغ السبت فقال له الامام:

-كم عددت؟.

-سبعة.

فانبري قائلا:سبت السبوت،و شمس الدهور،و نور الشهور،من لا يلهو،و لا يلعب،و هو سابعكم قائمكم،ثم أشار لولده موسي (2).

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض النصوص الواردة من الامام جعفر بن محمد(ع)في إمامة ولده أبي الحسن موسي(ع)،و هي تفيد القطع بامامته،و الامامة-كما ذكرنا-من أهم الطاف اللّه تعالي التي خص بها أئمة أهل البيت،فبها تلتقي جميع عناصر الصلاح و الكمال،و نعرض فيما يلي الي بعض مثله الأخري التي تكشف عن سر إمامته.

مواهبه العلمية:

كان الامام موسي(ع)أعلم أهل عصره بجميع أنواع العلوم العقلية و النقلية،و كان علمه إلهاميا كعلم الأنبياء و الأوصياء لا كسبيا كبقية الناس

ص: 137


1- دائرة المعارف لفريد و جدي:(ج 9 ص 594)الملل و النحل
2- نفس المصدر.

و قد أقام المتكلمون من الشيعة علي ذلك سيلا من الأدلة لا تقبل الجدل و الشك و شهد للامام موسي(ع)بوفور علمه أبوه الامام جعفر بن محمد فقال في حقه لعيسي:

«إن ابني هذا لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم» و قال فيه:

«و عنده علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم».

و يكفي للتدليل علي سعة علومه رواية العلماء عنه جميع الفنون من علوم الدين و غيرها مما ملأوا به الكتب،و ألفوا المؤلفات الكثيرة،حتي عرف بين الرواة بالعالم،و قال الشيخ المفيد:

و قد روي الناس عن أبي الحسن موسي فأكثروا،و كان أفقه أهل زمانه (1).

عبادته و تقواه:

اشارة

نشأ الامام موسي في بيت القداسة و التقوي،و ترعرع في معهد العبادة و الطاعة،بالاضافة الي أنه ورث من آبائه حب اللّه و الايمان به و الاخلاص له فقد قدموا نفوسهم قرابين في سبيله،و بذلوا جميع إمكانياتهم في نشر دينه و القضاء علي كلمة الشرك و الضلال؟فأهل البيت أساس التقوي و معدن الايمان و العقيدة،فلولاهم ما عبد اللّه عابد و لا وحده موحد.و ما حقت فريضة،و لا أقيمت سنة،و لا ساغت في الاسلام شريعة.

لقد رأي الامام(ع)جميع صور التقوي ماثلة في بيته،فكان أبوه

ص: 138


1- الارشاد:ص 272.

الامام الصادق(ع)لا يخلو-كما يقول مالك-من خصال ثلاث:إ ما صائما و اما قائما،و اما ذاكرا،و كان يطعم الفقراء و يكسوهم حتي لم يبق لعياله شيء من طعام و كسوة (1)بذل كل ذلك بسخاء في سبيل اللّه و التقرب إليه.

رأي الامام موسي ذلك من أبيه فتطبع عليه و صار من مقومات ذاته و من عناصر شخصيته،و حدث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه (2)حتي لقب بالعبد الصالح،و بزين المجتهدين إذ لم تر عين انسان نظيرا له قط في الطاعة و العبادة،و نعرض انموذجا من مظاهر طاعته و عبادته:

انموذجا من مظاهر طاعته و عبادته:
أ-صلاته:

إن أجمل الساعات و أثمنها عند الامام(ع)هي الساعات التي يخلو بها مع اللّه عز اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره و عواطفه و قد حدث الرواة أنه إذا وقف بين يدي اللّه تعالي مصليا أو مناجيا أو داعيا ارسل ما في عينيه من دموع،و خفق قلبه،و اضطرب موجدة و خوفا منه،و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة فكان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح،ثم يعقب حتي تطلع الشمس،و يخر للّه ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء و التمجيد حتي يقرب زوال الشمس (3)،من مظاهر طاعته انه دخل مسجد النبي(ص)في أول الليل فسجد سجدة واحدة و هو يقول بنبرات تقطر إخلاصا و خوفا منه:

«عظم الذنب عندي،فليحسن العفو من عندك،يا أهل التقوي، و يا أهل المغفرة».

ص: 139


1- صفوة الصفوة:(ج 2 ص 98).
2- جوهرة الكلام:ص 139.
3- كشف الغمة:ص 276.

و جعل يردد هذه الكلمات بانابة و خشوع و بكاء حتي أصبح الصبح (1)و لما أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون تفرغ للطاعة و العبادة حتي بهر بذلك العقول و حير الألباب،فقد شكر اللّه علي تفرغه لطاعته قائلا:

«اللهم،إني طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك،و قد استجبت مني فلك الحمد علي ذلك..» (2).

لقد ضرب الامام الرقم القياسي للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته و اقباله علي اللّه،فقد هامت نفسه بحبه تعالي،و انطبع في قلبه الايمان العميق.

و حدث الشيباني (3)عن مدي عبادته،فقال:

كانت لأبي الحسن موسي(ع)في بضع عشر سنه سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس الي وقت الزوال (4)،و قد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلي للانابة و الايمان،و ذلك حينما أودعه في سجن).

ص: 140


1- وفيات الأعيان:(ج 4 ص 293)و كنز اللغة:ص 766،
2- وفيات الأعيان(ج 4 ص 293)المناقب(ج 2 ص 379)
3- الشيباني:هو أبو عبد اللّه محمد بن الحسن مولي لبني شيبان حضر مجلس أبي حنيفة سنين،و تفقه علي أبي يوسف،و صنف الكتب الكثيرة و نشر علم أبي حنيفة و قال الشافعي:حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير و قال أيضا:ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن.توفي بالري سنة 187 ه- و هو ابن ثمان و خمسين سنة جاء ذلك في طبقات الفقهاء:ص 114.
4- البحار:(ج 11 ص 298).

الربيع (1)فكان يطل من أعلي القصر فيري ثوبا مطروحا في مكان خاصا:

ص: 141


1- الربيع بن يونس كان حاجبا للمنصور ثم صار وزيرا له بعد أبي أيوب،و كان المنصور كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه قال له يوما: ويحك،يا ربيع ما أطيب الدنيا لو لا الموت،فقال له الربيع:ما طابت الدنيا إلا بالموت،قال له:و كيف ذلك؟فأجابه لو لا الموت لم تقعد هذا المقعد،فقال له:صدقت،و قال له المنصور:لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة بنومة،و يقال إن الربيع لم يكن له أب يعرف،و ان بعض الهاشميين وفد علي المنصور فجعل يحدثه و يقول له:كان أبي رحمه اللّه، و كان،و كان،و أكثر من الترحم عليه،فقال له الربيع:كم تترحم علي أبيك بحضرة أمير المؤمنين؟فقال له الهاشمي:أنت معذور لأنك لا تعرف مقدار الآباء فخجل،أشد الخجل،و من أبدع الصدف التي اتفقت للربيع مع المنصور انه لما دخل المدينة قال له:ابغني رجلا عاقلا عالما ليوقفني علي دورها فقد بعد عهدي بديار قومي،فالتمس له الربيع فتي من أعلم الناس و أعقلهم،فكان لا يبتدئ بالاخبار عن شيء حتي يسأله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة و أجود بيان و أوفي معني،فأعجب المنصور به فأمر له بمال فتأخر عنه،و دعته الضرورة الي استنجازه،فاجتاز المنصور و معه الفتي ببيت عاتكة الأموية،فقال له:يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص بن محمد الانصاري: يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدي و به الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود و انني قسما إليك مع الصدود لأميل ففكر المنصور في قوله،و قال إنه لم يخالف عادته بابتداء الاخبار دون الاستخبار إلا لأمر و أقبل يردد القصيدة و يتصفحها بيتا فبيتا حتي انتهي الي قوله فيها:

من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب من ذلك و يقول للربيع:

-ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!.

-يا أمير المؤمنين:ما ذاك بثوب،و إنما هو موسي بن جعفر،له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فبهر هارون و انطلق يبدي إعجابه.

-اما إن هذا من رهبان بني هاشم!! و التفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الامام و عزوفه عن الدنيا طالبا أن يطلق سراحه و لا يضيق عليه قائلا:

-يا أمير المؤمنين:ما لك قد ضيقت عليه في الحبس!!؟ فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة و الرأفة قائلا:

«هيهات:لا بد من ذلك!.» (1).

إن هارون يعلم مآثر الامام و زهده،و لكن حرصه علي الدنيا و حبه للملك هو الذي أعماه لأن يضيق علي الامام،و سنوضح ذلك بمزيد من البيان عند التعرض لما لاقاه الامام منه من الخطوب الهائلة و المحن السود.

و روت شقيقة السندي بن شاهك-حينما سجن الامام في بيت أخيها- عن عبادة الامام فقالت:

«إنه إذا صلي العتمة حمد اللّه و مجده و دعاه الي أن يزول الليل،ثم).

ص: 142


1- و أراك تفعل ما تقول و بعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل فقال المنصور للربيع:هل أوصلت الي الرجل ما أمرنا له به،فقال له:تأخر عنه لعلة فقال:عجله له مضاعفا،و هذا الطف تعريض من الفتي و أحسن فهم من المنصور،توفي الربيع سنة 170 ه- جاء ذلك في وفيات الأعيان:(ج 1 ص 231-233)ط بولاق.

يقوم،و يصلي حتي يطلع الصبح،فيصلي الصبح،ثم يذكر اللّه حتي تطلع الشمس،ثم يقعد الي ارتفاع الضحي،ثم يرقد و يستيقظ قبل الزوال،ثم يتوضأ و يصلي حتي يصلي العصر،ثم يذكر اللّه حتي يصلي المغرب،ثم يصلي ما بين المغرب و العتمة،فكان هذا دأبه الي أن مات» (1)،و هذه البوادر التي نقلت دلت علي شغف الامام بالعبادة و إقباله علي اللّه و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة،و لكثرة سجوده فقد كانت له ثفنات كثفنات البعير،و كان له غلام يقص اللحم من جبينه و عرنين أنفه،و قد ألمع الي ذلك بعض الشعراء بقوله:

طالت لطول سجود منه ثفنته فقرحت جبهة منه و عرنينا

رأي فراغته في السجن منيته و نعمة شكر الباري بها حينا (2)

ب-صومه:

أنفق الامام أغلب أيام حياته في طاعة اللّه فكان يصوم في النهار و يقوم مصليا في الليل،خصوصا لما سجنه هارون فانه لم يبارح العبادة الاستحبابية بجميع أنواعها من صوم و غيره،و هو يشكر اللّه و يحمده علي هذا الفراغ الذي قضاه في عبادته.

ج-حجه:

و ما من شيء يحبه اللّه و ندب إليه إلا فعله الامام عن رغبة و اخلاص فمن ذلك أنه حج بيت اللّه ماشيا علي قدميه،و النجائب تقاد بين يديه، و قد حج معه أخوه علي بن جعفر و جميع عياله أربع مرات،و حدث علي ابن جعفر عن الوقت الذي قطعوا به طريقهم فقال:كانت السفرة(الاولي) ستا و عشرين يوما،و(الثانية)كانت خمسا و عشرين يوما،و(الثالثة)

ص: 143


1- تأريخ أبي الفداء:(ج 2 ص 12).
2- الأنوار البهية:ص 93.

كانت أربعا و عشرين يوما،و(و الرابعة)كانت إحدي و عشرين يوما (1)و كان في أغلب أسفاره الي بيت اللّه يتنكب الطريق،و ينفرد عن الناس،قد تعلق قلبه و فكره باللّه تعالي،و قد حج عليه السلام مرة فلم يصبح معه أحدا،و جرت له قصة مع شقيق البلخي (2)أجمع علي ذكرها أغلب2)

ص: 144


1- البحار:(ج 11 ص 261).
2- شقيق البلخي من كبار العباد و الزهاد في العالم الاسلامي كان في بداية أمره من المرابين فتاب الي اللّه توبة نصوحة فتصدق بأمواله البالغة ثلاثمائة الف درهم.و كانت له ثلاثمائة قرية فتصدق بها حتي أنه لما استشهد في غزوة(كولان)لم يكن يملك كفنا يلف به،و قد لبس ثياب الصوف الخشنة عشرين سنة،و قال:عملت في القرآن عشرين سنة حتي ميزت الدنيا من الآخرة في حرفين،و هو قوله تعالي: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها،وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقي و كان يقول:ثلاث خصال هي تاج للزهد:(الأولي)أن يميل علي الهوي و لا يميل مع الهوي، و(الثانية)ينقطع الزهد الي الزهد بقلبه،و(الثالثة)أن يذكر كلما خلي بنفسه كيف مدخله في قبره و كيف مخرجه،و يذكر الجوع و العطش و العري و طول القيامة،و الحساب،و الصراط،و طول الحساب،و الفضيحة البادية،فاذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور،فاذا كان ذلك كان من محبي الزهاد،و من أحبهم كان معهم،و قال:من أراد أن يعرف معرفة باللّه فلينظر الي ما وعده اللّه،و وعده الناس بأيهما قلبه أوثق،و قال لبعض أصحابه اتق الأغنياء فانك متي ما عقدت قلبك معهم،و طمعت فيهم فقد اتخذتهم ربا من دون اللّه عز و جل،جاء ذلك في حلية الأولياء:«ج 8 ص 59-71»،و قد ذكر له صاحب الحلية الشيء الكثير من الكلمات الحكمية و الوصايا الرفيعة،و جاء في لسان الميزان(ج 3 ص 151-152)

من ترجم للامام،و هذا نصها:

خرج شقيق حاجا بيت اللّه الحرام سنة 149 ه- أو سنة 146،فنزل القادسية،و لما استقر به المكان أخذ يشرف علي الحجاج،و ينظر الي استعدادهم و بينما هو مشغول بالنظر الي الحجيج إذ وقع بصره-كما يقول- علي شاب حسن الوجه،شديد السمرة،نحيف الجسم،فوق ثيابه ثوب من صوف،قد جلس وحده،منفردا عن الناس،بعيدا عن شئونهم، لم يختلط معهم،فدار في خلده،أن هذا الفتي من الصوفية يريد أن يكون عبثا ثقيلا علي الحاج حيث لا متاع عنده،و لم يصحب معه ما يحتاج إليه المسافر من المتاع اللازم،فصمم شقيق علي أن يمضي إليه،و يوبخه ليرتدع عما هو فيه،و يثيب الي الصواب فلما دنا منه انبري إليه الفتي قبل أن يفتح معه الحديث قائلا له بنبرات تقطر لطفا:

«يا شقيق:اجتنبوا كثيرا من الظن،إن بعض الظن إثم!!».

و لم يتكلم بأكثر من هذا.ثم إنه تركه و انصرف عنه،فبهر شقيق و بقي حائر الفكر مذهول اللب،من أمر الفتي الذي نطق باسمه،و عرف دخائل نفسه،و قد داخله الشيء الكثير من الاكبار له،و اطمأن بأنه من عباد اللّه الصالحين،و قد ندم علي ما فرط في أمره،فصمم علي الالتحاق به ليعفو عنه،و يحله من خطيئته،فجد في طلبه فلم يدركه،فلما نزلت القوافل بوادي(فضة)نظر شقيق و اذا بصاحبه واقف يصلي و أعضاؤه تضطرب خوفا من اللّه،و دموعه تتبلور علي خديه،فصبر حتي فرغ من صلاته،فالتفت إليه الفتي قبل أن يسأله قائلا له:

«يا شقيق:اتل،و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدي»-.

ص: 145

ثم إنه تركه و انصرف عنه،و هام شقيق في تيار من الهواجس و الأفكار،و أخذ يقول:يا للّه!يا للعجب!!إنه تكلم بما انطوت عليه نفسي مرتين.

إنه من الابدال.

إنه من المنيبين المهتدين،و أخذ يطيل التفكير في شأنه،و سارت القافلة تطوي البيداء،فلما انتهت الي(الأبواء)خرج شقيق يتجول فيها فوقع نظره علي الفتي فبادر إليه،و اذا به واقف علي بئر يستقي منها،و بيده ركوة قد سقطت في البئر فرمق السماء بطرفه،و جعل يخاطب اللّه بمنتهي الخضوع و الايمان قائلا:

أنت شربي إذا ظمئت من الما ء و قوتي إذا أردت الطعاما

«إلهي:و سيدي،مالي سواك فلا تعدمنيها..».

و لم يزد علي ذلك حتي ارتفع الماء فورا،الي رأس البئر و الركوة طافية عليه،فمد يده فتناولها ثم توضأ منها،و صلي أربع ركعات،ثم مال الي كثيب من الرمل فتناول منه قبضة و جعلها في الركوة فحركها و شرب منه،فسلم عليه شقيق و قال له:

-اطعمني،مما رزقك اللّه.

-يا شقيق:لم تزل نعم اللّه علي ظاهرة و باطنة،فاحسن ظنك بربك ثم ناوله الركوة فشرب منها،فاذا فيها سويق و سكر،فما شرب شقيق -كما يقول-شرابا قط ألذ و لا أطيب منه،و بقي أياما و هو لا يشتهي الطعام و الشراب،ثم إنه مضي عنه،فلم يجتمع به إلا بمكة،فرآه الي جانب(قبة الشراب)في غلس الليل البهيم و هو قائم يصلي بخشوع و أنين و بكاء،فلم يزل كذلك حتي انبثق نور الفجر،ثم انه قام الي(حاشية المطاف)فركع ركعتي الفجر،و صلي صلاة الصبح مع الناس،ثم انعطف

ص: 146

نحو البيت،فطاف فيه بعد شروق الشمس،و بعد الفراغ من الطواف صلي صلاة الطواف،ثم خرج من البيت فتبعه شقيق يريد السلام عليه و التشرف بمقابلته،و إذا بالخدم و الموالي قد طافوا حوله و أحاطوا به يمينا و شمالا، و انكبت عليه جماهير الناس تلثم يديه و أطرافه فتعجب شقيق من ذلك و بادر الي من حوله يسأله عن اسم صاحبه فقيل له:«هذا موسي الكاظم».

فعند ذلك آمن شقيق و تيقن بأن تلك الكرامة جديرة بالامام (1)و نظم بعض الشعراء هذه البادرة بقوله:

سل شقيق البلخي عنه بما عاين منه و ما الذي كان أبصر

قال:لما حججت عاينت شخصا شاحب اللون ناحل الجسم أسمر

سائرا وحده و ليس له زاد فما زلت دائما أتفكر

و توهمت أنه يسأل الناس و لم أدر انه الحج الأكبر

ثم عاينته و نحن نزول دون قيد علي الكثيب الأحمر

يضع الرمل في الاناء و يشربه فناديته و عقلي محير

اسقني شربة فلما سقاني منه عاينته سويقا و سكر

فسألت الحجيج من يك هذا قيل هذا الامام موسي بن جعفر (2)

لقد دلت قصة شقيق علي بعض كرامات الامام و ما اتصف به من الايمان و العلم بما انطوت عليه النفوس.قب

ص: 147


1- اخبار الدول:ص 112،جوهرة الكلام:(ص 140-141) مختار صفوة الصفوة:ص 153،جامع كرامات الأولياء:(ج 2 ص 229) نور الأبصار:ص 135،مثير الغرام،معالم العترة،المناقب،البحار، كشف الغمة،و غيرها.
2- مطالب السئول:ص 84،البحار:(ج 11 ص 55)المناقب
د-تلاوته للقرآن:

كان الذكر الحكيم رفيق الامام في خلواته،و صاحبه في وحشته و كان يتلوه بامعان و تدبر،و كان من أحسن الناس صوتا به،فاذا قرأ يحزن، و يبكي السامعون لتلاوته (1).

و حدث حفص عن كيفية تلاوته للقرآن فقال:و كانت قراءته حزنا فاذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا (2)بهذه الكيفية كان يتلو آيات الذكر الحكيم فكان يمعن في تعاليمه و يمعن في آدابه،و يتبصر في أوامره و نواهيه و أحكامه

ه-بكاؤه من خشية اللّه:

و كان الامام موسي عليه السلام أكثر الناس خشية و أعظمهم خوفا من اللّه فكان كجده امير المؤمنين(ع)في مظاهر خوفه و خشيته من اللّه و قد حدث الرواة عن مدي خوفه من اللّه فقالوا:إنه كان يبكي من خشية اللّه حتي تخضل كريمته الشريفة،من دموع عينيه (3).

و-عتقه للعبيد:

و من مظاهر طاعة الامام(ع)عطفه و احسانه علي الرقيق فقد أعتق منه الف مملوك (4)كل ذلك لوجه اللّه،و ابتغاء مرضاته، و التقرب إليه.

ص: 148


1- المناقب:(ج 2 ص 379).
2- البحار:(ج 11 ص 265).
3- كشف الغمة:(ص 247).
4- الدر النظيم في مناقب الأئمة ليوسف بن حاتم الشامي مخطوط نفيس في مكتبة الامام الحكيم العامة.
زهده:

كان الامام في طليعة الزاهدين في الدنيا و المعرضين عن نعيمها و زخارفها فقد اتجه الي اللّه و رغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم و الكرامة، و قد حدثنا عن مدي زهده ابراهيم بن عبد الحميد فقال:دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي فيه،فاذا ليس في البيت شيء سوي خصفة،و سيف معلق،و مصحف (1)،لقد كان عيشه زهيدا،و بيته بسيطا فلم يحتو علي شيء حتي من الأمتعة البسيطة التي تضمها بيوت الفقراء الأمر الذي دل علي تجرده من الدنيا،و إعراضه عنها.علي أنه كانت تجبي له الأموال الطائلة،و الحقوق الشرعية من العالم الشيعي،بالاضافة الي أنه كان يملك البسرية و غيرها من الأراضي الزراعية التي تدر عليه بالأموال الخطيرة،و قد أنفق جميع ذلك بسخاء علي البائسين و المحرومين في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته،و كان(ع) دوما يتلو علي أصحابه سيرة أبي ذر الصحابي العظيم الذي ضرب المثل الأعلي لنكران الذات و التجرد عن الدنيا و الزهد في ملاذها،فقال(ع):

«رحم اللّه أبا ذر.فلقد كان يقول:جزي اللّه الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير،أتغذي بأحدهما،و أتعشي بالآخر،و بعد شملتي الصوف ائتزر باحدهما و أتردي بالأخري..» (2).

و هكذا كان عليه السلام قد وضع نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة النبي(ص)يشيد بذكراهم،و يتلو سيرتهم الوضاءة علي أصحابه لتكون لهم قدوة حسنة في هذه الحياة.

ص: 149


1- البحار:(ج 11 ص 265).
2- أصول الكافي:(ج 2 ص 134).
جوده و سخاؤه:

و الامام موسي(ع)من أرقي أمثلة التكامل الانساني في مواهبه،و من تلك المواهب الكريمة الماثلة فيه أنه كان ندي الكف،مبسوط اليدين بالعطاء و مما لا شبهة فيه أن السخاء انما ينم عن طيب النفس،إذا كان بداعي الخير و الاحسان لا بدواع أخري كحب الظهور و ذيوع الاسم فان ذلك لا يعد من السخاء بل يباينه بكل ما للتباين من معني.

لقد تجلي الكرم الواقعي،و السخاء الحقيقي في الامام فكان مضرب المثل للكرم و المعروف،فقد فزع إليه البائسون و المحرومون لينقذهم من كابوس الفقر و جحيم البؤس و قد أجمع المؤرخون أنه أنفق عليه السلام جميع ما عنده عليهم كل ذلك في سبيل اللّه لم يبتغ من أحد جزاء أو شكورا،و كان(ع) في صلاته يتطلب الكتمان و عدم الذيوع لئلا يشاهد علي الآخذ ذلة الحاجة و كان يلتمس في ذلك وجه اللّه و رضاه،و لهذا كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل الطبقة الضعيفة ببره و إحسانه و هي لا تعلم من أي جهة تصلها تلك المبرة،و كان يوصلهم بصراره التي تتراوح ما بين المائتي دينار الي الاربعمائة دينار (1)و كان يضرب المثل بتلك الصرار فكان أهله يقولون:

«عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي القلة و الفقر!!» (2).

و بلغ من عطفه المستفيض أنه إذا بلغه عن شخص يؤذيه و يسيء إليه بعث له بصرة فيها الف دينار (3)،و قد قامت هباته السرية و صلاته الخفية

ص: 150


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28)كنز اللغة:ص 766.
2- عمدة الطالب:ص 185.
3- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 27).

باعاشة فقراء يثرب،فكانوا جميعا يرتعون بنعمته و يعيشون من عطاياه، و قد ذكر المؤرخون جمهرة كبيرة ممن أغدق عليهم الامام ببره،نقتصر منهم علي ما يلي:

1-محمد البكري:

و كانت لمحمد بن عبد اللّه البكري ديون علي جماعة من أهالي يثرب فقدم إليهم ليستحصل ديونه منهم فبقي مدة يطالبهم،و يلح عليهم فلم يظفر بشيء من ديونه فعنّ له أن يتشرف بمقابلة الامام،و يشكو له الحاجة و الفقر،فمضي إليه و كان(ع)في بعض ضياعه(بنقمي) (1)،و لما وصل الي محل الامام خرج عليه السلام و كان بخدمته غلام معه منسف (2)فيه قديد (3)مجزع (4)فأكلوا منه جميعا و بعد الفراغ من تناول الطعام سأله الامام عن حاله فأخبره بقصته و ضيق حاله،فقام عليه السلام فدخل البيت ثم خرج فأمر غلامه بالانصراف لئن يراه فيكون ذل علي السائل ثم أعطاه صرة فيها ثلاثمائة دينار-لعلها اكثر من ديونه-فأخذها محمد و انصرف شاكرا للامام و داعيا له بالخير (5).).

ص: 151


1- نقمي:بالتحريك و القصر من النقمة و هي العقوبة،موضع من اعراض المدينة كان لآل أبي طالب،جاء ذلك في معجم البلدان:(ج 8 ص 310).
2- المنسف:بالكسر يستعمل في تصفية الحب و غربلته.
3- القديد:اللحم المشرر الذي قطع و شرر كما في تاج العروس: (ج 2 ص 461).
4- المجزع:كل شيء اجتمع فيه سواد و بياض.
5- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28).

2-غلام زنجي:

و خرج الامام من يثرب مع حاشيته و بعض أولاده الي ضياعه الواقعة بساية (1)و قبل الانتهاء إليها استراحوا في بعض المناطق المجاورة لها،و كان الوقت آنذاك شديد البرد،فبينما هم جلوس إذ خرج إليهم عبد زنجي فصيح اللسان و هو يحمل علي رأسه قدرا يفور،فوقف أمام غلمان الامام و قال لهم:

-أين سيدكم؟.

-هو ذاك-و أشاروا الي أبي الحسن- -أبو من يكني؟.

-أبو الحسن.

فوقف بين يديه و هو يتضرع قائلا له:

-يا سيدي:هذه عصيدة أهديتها إليك.

فقبل الامام هديته و أمره بأن يضعها عند الغلمان فوضعها عندهم ثم انصرف فلم يلبث إلا قليلا حتي أقبل و معه حزمة من الحطب فوقف قبال الامام و قال له:

-يا سيدي:هذا حطب أهديته إليك.

فقبل عليه السلام هديته و أمره أن يلتمس له قبسا من النار،فمضي قليلا ثم جاء بالنار فأمر الامام بكتابة اسمه و اسم مولاه و بعد تسجيله أمر بعض ولده بالاحتفاظ به عند الحاجة،ثم أنهم رحلوا الي ضياعهم فمكثوا فيها أياما،و بعدها اتجهوا الي بيت اللّه الحرام،فاعتمر(ع)فيه،و بعد فراغه أمر صاعدا أن يفتش عن مالك العبد و قال له:

«إذا علمت موضعه فاعلمني حتي أمشي إليه،فاني اكره أن أدعوهع.

ص: 152


1- ساية:واد من حدود الحجاز فيه مزارع.

و الحاجة لي».

فمضي ففتش عن الرجل حتي ظفر به،فعرفه و عرف أنه ممن يدين بالامامة،و بعد السلام عليه سأله الرجل عن قدوم الامام فأنكر عليه صاعد ذلك،ثم سأله عن سبب مجيئه فأخبره بأن له حوائج دعته الي السفر،فلم يقتنع الرجل بذلك و غلب علي ظنه تشريف الامام الي مكة،ثم ودعه صاعد و قفل راجعا الي الامام،فتبعه الرجل و سار علي أثره فالتفت صاعد فرآه يسير خلفه فكلما أراد التخلي عنه فلم يتمكن فسارا معا حتي أقبلا الي الامام فلما مثلا عنده أخذ(ع)يؤنب صاعدا علي اخبار الرجل بقدومه فاعتذر له بأنه لم يخبره و لكنه تبعه بغير اختيار منه،و بعد ما استقر الرجل التفت عليه السلام إليه قائلا:

-غلامك فلان تبيعه؟.

-جعلت فداك،الغلام لك و الضيعة و جميع ما أملك.

-اما الضيعة فلا أحب أن أسلبكها..».

و جعل الرجل يتضرع الي الامام و يتوسل إليه ليقبلهما منه،و الامام ممتنع من إجابته،و أخيرا اشتري(ع)الغلام مع الضيعة بألف دينار فأعتق الغلام،و وهب له الضيعة،كل ذلك ليجازي الاحسان بالاحسان و يقابل المعروف بالمعروف،و قد وسع اللّه علي العبد ببركة الامام حتي اصبح أبناؤه من أثرياء مكة و صرافيها (1).

3-عيسي بن محمد:

و حدث عيسي بن محمد القرطي قال:زرعت بطيخا و قثاء و قرعا (2)ة.

ص: 153


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 29-30)البداية و النهاية: (ج 10 ص 183).
2- القرع:نوع من اليقطين،الواحدة قرعة.

في موضع بالجوانية (1)علي بئر يقال لها أم عضام،فلما قرب الخير و استوي الزرع بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله،و كنت قد غرمت عليه مع ثمن جملين مائة و عشرين دينارا،فبينما أنا جالس إذ طلع علي الامام موسي بن جعفر(ع)فسلم ثم قال لي:

-كيف حالك؟.

-أصبحت كالصريم (2)بغتني الجراد،فأكل زرعي.

-كم غرمت فيه؟ -مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين.

فالتفت(ع)لعرفة،و قال له:زن لابن المغيث مائة و خمسين دينارا ثم قال لعيسي:فربحك ثلاثون دينارا مع الجملين (3).

4-فقير:

و دخل علي الامام فقير يسأله العطاء فأراد(ع)اختباره ليكرمه علي مقدار معرفته فقال له:

-لو جعل لك التمني في الدنيا ما كنت تتمني؟.

-كنت أتمني أن ارزق التقية في ديني و قضاء حقوق اخواني.

فاستحسن(ع)جوابه و أمر بأن يعطي الف دينار (4).و قد حفلت كتب التأريخ بذكر الكثير من بره و احسانه علي البائسين فقد أغدق عليهم منف.

ص: 154


1- الجوانية:بالفتح و تشديد ثانيه:و كسر النون و ياء مشددة: موضع أو قرية قرب المدينة،جاء ذلك في معجم البلدان(ج 2 ص 175) طبع بيروت.
2- الصريم:الأرض المحصود زرعها.
3- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 29)و كشف الغمة:(ص 243).
4- الوسائل:باب الأمر بالمعروف.

جوده و معروفه ما أغناهم به عن الحاجة و السؤال.

و من آيات كرمه(ع)أنه أولم وليمة في مناسبة لبعض أولاده فأطعم أهالي يثرب اطعاما شاملا ثلاثة أيام،فعابه علي ذلك بعض حساده، فقال(ع):

«ما آتي اللّه نبيا من أنبيائه شيئا إلا و قد آتي محمدا(ص)و زاده ما لم يؤتهم قال تعالي لسليمان بن داود:«هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب (1)(2)،و كان(ع)يقول:

«من موجبات المغفرة إطعام الطعام» (3).

و كان(ع)لا يري للمال قيمة سوي ما يرد به جوع جائع أو يكسو به عاريا،و قد تلقي هذه الصفة الرفيعة من آبائه الذين ضربوا أسمي الأمثلة للجود و السخاء و المعروف.

حلمه:

و اهتم الاسلام اهتماما بالغا في تركيز الحلم في نفوس المسلمين،و جعله عادة لهم،و قد أثرت عن النبي و أئمة الهدي طائفة كبيرة من الأخبار تحث علي التحلي به فقد قال النبي(ص):«اللهم اغنني بالعلم،و زيني بالحلم» و قال(ص):«ما أعز اللّه بجهل قط،و لا أذل بحلم قط»و قال الامام أمير المؤمنين«ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك،و لكن الخير أن يكثر علمك و حلمك»و قال الامام زين العابدين:«إنّه ليعجبني الرجل أن

ص: 155


1- سورة ص آية 39.
2- فروع الكافي:باب الولائم.
3- الوسائل.

يدركه حلمه عند غضبه»و قال الامام الصادق:«كفي بالحلم ناصرا» (1).

و كانت هذه الظاهرة من أبرز صفات الامام موسي(ع)فقد كان مضرب المثل في حلمه و كظمه للغيظ،و كان يعفو عمن أساء إليه،و يصفح عمن اعتدي عليه،و لم يكتف بذلك و انما كان يحسن لهم و يغدق عليهم بالمعروف ليمحو بذلك روح الشر و الانانية من نفوسهم،و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من حلمه فقد رووا أن شخصا من احفاد عمر بن الخطاب كان يسيء للامام،و يكيل السب و الشتم لجده امير المؤمنين(ع)فأراد بعض شيعة الامام اغتياله فنهاهم(ع)عن ذلك و رأي أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه فقيل انه يزرع في بعض نواحي المدينة،فركب(ع)بغلته و مضي إليه متنكرا،فوجده في مزرعته فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا،فلم يعتن الامام إذ لم يجد طريقا يسلكه غير ذلك،و لما انتهي إليه جلس الي جنبه و أخذ يلاطفه و يحدثه بأطيب الحديث،و قال له بلطف و لين:

-كم غرمت في زرعك هذا؟.

-مائة دينار.

-كم ترجو أن تصيب منه؟، -أنا لا أعلم الغيب!!.

-انما قلت لك:كم ترجو أن يجيئك منه؟.

-أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار؟.

فأعطاه(ع)ثلاثمائة دينار،و قال:هذه لك و زرعك علي حاله فتغير العمري،و خجل من نفسه علي ما فرط من قبل في حق الامام،و تركه(ع)م.

ص: 156


1- النظام التربوي في الاسلام.

و مضي الي الجامع النبوي،فوجد العمري قد سبقه،فلما رأي الامام مقبلا قام إليه تكريما و انطلق يهتف:

«اللّه أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء».

فبادر إليه اصحابه منكرين عليه هذا الانقلاب،فأخذ يخاصمهم،و يتلو عليهم مناقب الامام و مآثره،و يدعو له،فالتفت(ع)إلي أصحابه قائلا:

«أيما كان خيرا؟ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟» (1).

لقد كان موقف الامام مع جميع مناوئيه و مبغضيه موقف اللطف و الاحسان فقد وضع نصب عينيه قوله تعالي: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ و بذلك فقد أعطي لأصحابه درسا رائعا لكيفية النصح و الارشاد و بين لهم أن الدعوة و التبشير لا بد أن يبتنيان علي الحق الرفيع،و يرتكزان علي سعة الصدر و الحلم،و إذا لم يحفها ذلك فانها لا تكاد تجدي في ميادين الاصلاح.

و من آيات حلمه(ع)أنه اجتاز علي جماعة من حساده و أعدائه، و كان فيهم ابن هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام و يدعيها فمضي الرجل الي الامام و تعلق بزمام بغلته فادعاها له فعرف الامام غايته فنزل عن بغلته و أعطاها له (2).لقد أقام(ع)بذلك أسمي مثل للانسانية الفذة و الحلم الرفيع.

و كان(ع)يوصي أبناءه بالتحلي بهذه الصفة الرفيعة و يأمرهم بالصفح عمن أساء إليهم فقد جمعهم و أوصاهم بذلك فقال:

«يا بني:إني أوصيكم بوصية من حفظها انتفع بها،اذا أتاكم آت).

ص: 157


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28-29)كشف الغمة:(ص 247).
2- البحار:(ج 11 ص 277).

فأسمع أحدكم في الاذن اليمني مكروها ثم تحول إلي اليسري فاعتذر لكم، و قال:إني لم أقل شيئا فاقبلوا عذره.. (1).

و بهذه الوصية نقف علي مدي حلمه و سعة خلقه و يترتب علي ذلك كثير من الفوائد الاجتماعية،فان قبول عذر المسيء و عدم مقابلته بالمثل من أهم الوسائل الداعية للتآلف و المحبة و جمع الكلمة،و ازالة البغضاء بين الناس.

ارشاده و توجيهه:

إن إرشاد الناس الي الحق و هدايتهم الي الصواب من أهم الأمور الاصلاحية التي كان الامام يعني بها،فقد قام بدور مهم في انقاذ جماعة ممن أغرتهم الدنيا و جرفتهم بتياراتها.و ببركة ارشاده و وعظه لهم تركوا ما هم فيه من الغي و الضلال و صاروا من عيون المؤمنين.و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة له في هذا المجال فقد رووا قصته مع بشر الحافي،فقد كان في بداية أمره فيما يقول الرواة يتعاطي الشراب و يقضي لياليه و أيامه في المجون و الدعارة فاجتاز الامام عليه السلام علي داره ببغداد فسمع الملاهي و أصوات الغناء و القصب تعلو من داره،و خرجت منها جارية و بيدها قمامة فرمت بها في الطريق،فالتفت الامام إليها قائلا:

«يا جارية:صاحب هذه الدار حر أم عبد؟.

«حر».

«صدقت،لو كان عبدا لخاف من مولاه».

و دخلت الجارية الدار،و كان بشر علي مائدة السكر،فقال لها:

ما أبطأك؟فنقلت له ما دار بينها و بين الامام فخرج بشر مسرعا حتي

ص: 158


1- الفصول المهمة لابن الصباغ:220.

لحق الامام فتاب علي يده،و اعتذر منه و بكي (1)و بعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه و اتصل باللّه عن معرفة و ايمان حتي فاق أهل عصره في الورع و الزهد،و قال فيه ابراهيم الحربي:

«ما أخرجت بغداد أتم عقلا،و لا أحفظ للسانه،من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل» (2).

و قد أعرض عن زينة الحياة الدنيا،و رضي بالقناعة،و قال فيها:

لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغناء لكان ذلك يجزي،ثم أنشأ يقول:

أفادتني القناعة أي عز و لا عز أعز من القناعة

فخذ منها لنفسك رأس مال و صير بعدها التقوي بضاعة

تحز حالين تغني عن بخيل و تسعد في الجنان بصبر ساعه

و كان يتذمر من أهل عصره،و يكره الاختلاط بهم و ذلك لفقدان المؤمنين و الاخيار،و كثرة الأشرار و المنحرفين،لذلك ابتعد عن الاجتماع بكثير من الناس حتي أن المأمون تشفع بأحمد بن حنبل في أن يأذن له في زيارته فأبي و لم يجبه (3)،و من شعره في تذمره من أهل زمانه قوله:

ذهب الرجال المرتجي لفعالهم و المنكرون لكل أمر منكر

و بقيت في خلف يزين بعضهم بعضا ليدفع معور عن معور (4)).

ص: 159


1- الكني و الألقاب:(ج 2 ص 150)نقلا عن منهاج الكرامة للعلامة،و ذكر المناوي هذه البادرة في الكواكب الدرية:ص 208 إلا أنه لم يصرح باسم الامام موسي.
2- تأريخ بغداد:(ج 7 ص 73).
3- الكواكب الدرية:(ج 1 ص 208).
4- تأريخ بغداد:(ج 7 ص 77).

و تجرد عن الدنيا،و انقطع الي اللّه حتي صار من أقطاب العارفين كل ذلك ببركة وعظ الامام و إرشاده له (1).

و ممن أرشدهم الامام الي طريق الحق:الحسن بن عبد اللّه فقد كان شخصية مرموقة عند الملوك زاهدا في الدنيا يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر لا تأخذه في اللّه لومة لائم،فاجتمع بالامام فقال(ع)له:

-يا أبا علي،ما أحب الي ما أنت عليه،و أسرني به،إلا أنه ليست لك معرفة فاطلب المعرفة.

-و ما المعرفة؟.

-تفقه و اطلب الحديث.

فذهب الرجل فكتب الحديث عن مالك و عن فقهاء أهل المدينة، و عرضه علي الامام فلم يرض(ع)،و أرشده الي فقه أهل البيت و أخذ الأحكام منهم،و الاعتراف لهم بالامامة فانصاع الرجل لذلك و اهتدي (2)لقد كان عليه السلام يدعو الناس الي فعل الخير و يدلهم علي العمل الصالح و يحذرهم لقاء اللّه و اليوم الآخر،فقد سمع رجلا يتمني الموت فانبري(ع) له قائلا:

-هل بينك و بين اللّه قرابة يحابيك لها؟.

-لا -فأنت إذن تتمني هلاك الأبد (3).).

ص: 160


1- توفي بشر سنة 227 ه- و دفن في بغداد،و له جامع يقع بجانب مسجد الامام الاعظم،و اما القبر المشهور بقبر شيخ بشار فانه ليس بقبر بشر الحافي كما توهم بعضهم بل هو لبشار المعروف بالزهد.
2- المناقب:(ج 3 ص 407)ط النجف.
3- الاتحاف بحب الأشراف:(ص 55).

لقد عني الامام بارشاد المسلمين الي فعل التقوي و عمل الخير،و سنذكر بعض نصائحه الرفيعة،و ارشاداته القيمة الحافلة بالنصح و التوجيه عند عرض تراثه العلمي و الأدبي.

احسانه الي الناس:

و كان الامام بارا بالمسلمين محسنا لهم فما قصده احد في حاجة إلا قام بقضائها،فلا ينصرف منه إلا و هو ناعم الفكر مثلوج القلب،و كان(ع) يري أن إدخال الغبطة علي الناس و قضاء حوائجهم من أهم أفعال الخير فلذا لم يتوان قط في إجابة المضطر،و رفع الظلم عن المظلوم،و قد أباح لعلي بن يقطين الدخول في حكومة هارون و جعل(كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان)مبررا له،و قد فزع إليه جماعة من المنكوبين فكشف آلامهم و ملأ قلوبهم رجاء و رحمة.

و من هؤلاء الذين أغاثهم الامام(ع)شخص من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري فلم يتمكن من أدائها،و خاف علي نعمته أن تسلب منه،فأخذ يطيل الفكر فيما يعمل،فسأل عن حاكم الري، فأخبر أنه من الشيعة،فطوت نيته علي السفر الي الامام ليستجير به فسافر الي يثرب فلما انتهي إليها تشرف بمقابلة الامام فشكا إليه حاله و ضيق مجاله،فزوده عليه السلام برسالة الي والي الري جاء فيها بعد البسملة:

«اعلم أن للّه تحت عرشه ظلا لا يسكنه إلا من أسدي الي أخيه معروفا،أو نفس عنه كربة،أو أدخل علي قلبه سرورا،و هذا أخوك و السلام..».

ص: 161

و أخذ الرسالة،و بعد أدائه لفريضة الحج،اتجه الي وطنه،فلما وصل،مضي الي الحاكم ليلا،فطرق عليه باب بيته فخرج غلامه، فقال له:

-من أنت؟.

-رسول الصابر موسي؟.

فهرع الي مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلا له، فعانقه و قبّل ما بين عينيه،و جعل يكرر ذلك،و يسأله بلهفة عن حال الامام،ثم إنه ناوله رسالة الامام فقبلها و قام لها تكريما،فلما قرأها استدعي بأمواله و ثيابه فقاسمه في جميعها و أعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة و هو يقول له:

-يا أخي هل سررتك؟.

-أي و اللّه و زدت علي ذلك!!.

ثم استدعي السجل فشطب علي جميع الديون التي عليه و أعطاه براءة منها،و خرج الرجل و قد طار قلبه فرحا و سرورا،و رأي أن يجازيه علي إحسانه و معروفه فيمضي الي بيت اللّه الحرام فيدعو له،و يخبر الامام بما أسداه إليه من البر و المعروف،و لما أقبل موسم الحج مضي إليه ثم اتجه الي يثرب فواجه الامام و أخبره بحديثه،فسر(ع)بذلك سرورا بالغا، فقال له الرجل:

-يا مولاي:هل سرك ذلك؟.

-أي،و اللّه!!لقد سرني،و سر أمير المؤمنين.و اللّه لقد سر جدي رسول اللّه(ص)،و لقد سر اللّه تعالي..».

و قد دل ذلك علي اهتمامه البالغ بشئون المسلمين و رغبته الملحة في قضاء حوائج الناس و بذلك ينتهي بنا الحديث عن ذكر بعض مثل الامام و صفاته.

ص: 162

أقوال و آراء

ص: 163

ص: 164

و ظاهرة أخري من حياة الامام موسي(ع)ربما تكون أعمق،و اكثر شمولا من غيرها و هي اجماع معظم المسلمين علي اختلاف ميولهم و مذاهبهم علي اجلاله و تعظيمه،و انه في مقدمة القافلة من أئمة المسلمين في علمه و تقواه و زهده و تحرجه في الدين،و انه ممن طبق العالم شذي و عبيرا بسيرته و سلوكه و رسوخ يقينه،و قد سجل كبار العلماء و المؤلفين و غيرهم انطباعاتهم و احاسيسهم و هي مليئة بالاكبار و التعظيم له.و فيما يلي عرض لذلك:

1-الامام الصادق:

و أشاد الامام الصادق عليه السلام بفضل ولده،و بيّن للمسلمين ما مثل فيه من المواهب و العبقريات،فقال:

«ولدي موسي شبيه عيسي بن مريم» (1).

و قال:«و فيه علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم،و فيه حسن الخلق،و الجوار، و هو باب من أبواب اللّه».

و أثرت عنه كثير من الاخبار و هي تشيد بفضل الامام موسي(ع) و تعرب عن مآثره و مواهبه.

2-هارون الرشيد:

و اعترف هارون الرشيد-الذي هو خصم الامام و أعدي أعدائه- بمواهب الامام و مناقبه،و أنه أحق بالخلافة من غيره،و قد صرح بذلك حينما سأله ولده المأمون عن اكباره و تقديره له،فقال له:

«يا بني:هذا إمام الناس و حجة اللّه علي خلقه،و خليفته علي عباده،أنا إمام الجماعة في الظاهر و الغلبة و القهر،و انه و اللّه لأحق بمقام رسول اللّه(ص)مني و من الخلق جميعا،و و اللّه لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه فان الملك عقيم»و أضاف الي ذلك قوله:«يا بني).

ص: 165


1- دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي:(ج 9 ص 594).

هذا وارث علم النبيين هذا موسي بن جعفر إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» (1).

3-ابن الساعي:

«اما الامام الكاظم فهو صاحب الشأن العظيم،و الفخر الجسيم، كثير التهجد،الجاد في الاجتهاد،المشهود له بالكرامات،المشهور بالعبادات المواظب علي الطاعات،يبيت الليل ساجدا،و قائما و يقطع النهار متصدقا و صائما،و لفرط حلمه،و تجاوزه عن المعتدين عليه كان كاظما،يجازي المسيء باحسانه إليه،و يقابل الجاني بعفوه عنه،و لكثرة عبادته يسمي بالعبد الصالح،و يعرف بالعراق بباب الحوائج الي اللّه لنجح المتوسلين الي اللّه تعالي به،كراماته تحار منها العقول،و تقضي بان له قدم صدق عند اللّه لا تزول» (2).

4-عبد اللّه بن أسعد اليافي:

«الامام موسي كان صالحا عابدا،جوادا حليما،كبير القدر،و هو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الامامية،و كان يدعا بالعبد الصالح لعبادته و اجتهاده،و كان سخيا كريما،كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها الف دينار» (3).

5-ابن الجوزي:

«موسي بن جعفر كان يدعا العبد الصالح،و كان حليما و كريما إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال» (4).2.

ص: 166


1- ينابيع المودة:(ج 3 ص 32).
2- مختصر أخبار الخلفاء:ص 39.
3- مرآة الجنان:(ج 1 ص 394).
4- مختار صفوة الصفوة:ص 152.

6-أبو حاتم:

«موسي بن جعفر ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين» (1).

7-القرماني:

«موسي هو الامام الكبير الأوحد،الحجة الساهر ليله قائما،القاطع نهاره صائما،المسمي لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين كاظما،و هو المعروف بباب الحوائج لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط» (2).

8-محمد بن احمد الذهبي:

«كان موسي من أجواد الحكماء،و من العباد الأتقياء،و له مشهد معروف ببغداد..» (3).

9-خير الدين الزركلي:

«موسي بن جعفر الصادق بن الباقر،أبو الحسن سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية،كان من سادات بني هاشم،و من أعبد أهل زمانه، و أحد كبار العلماء الأجواد..» (4).

10-الحسن بن عبد اللّه البخشي:

«هو الامام الكبير القدر،و الكثير الخير،كان رضي اللّه عنه يسهر ليله و يصوم نهاره،و سمي كاظما لفرط تجاوزه عن المعتدين،و هو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج،لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط و كانت له كرامات ظاهرة و مناقب باهرة،تسنم ذروة الشرف و علاها و سما).

ص: 167


1- تهذيب التهذيب:(ج 10 ص 34).
2- أخبار الدول:112.
3- ميزان الاعتدال:(ج 3 ص 209).
4- الأعلام:(ج 3 ص 108).

أوج المزايا فبلغ أعلاها..» (1).

11-احمد بن عبد اللّه الخزرجي:

«موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي،أبو الحسن الكاظم:المدني،روي عن أبيه،و عنه ابنه علي الرضا و أخواه علي و محمد ابنا جعفر بن محمد،و طائفة،قال أبو حاتم،ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين و قال يحيي بن الحسين انه اذا بلغه عن رجل يؤذيه،يبعث إليه بصرة فيها الف دينار،و حبسه المهدي ثم أطلقه..» (2).

12-ابن حجر العسقلاني:

«موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي المعروف بالكاظم صدوق عابد من الطبقة السابعة..» (3).

13-السيد علي فكري:

«قال بعض أهل العلم:الكاظم هو الامام الكبير القدر الأوحد الحجة الحبر،جمع من الفقه و الدين بما لا مزيد عليه..» (4).

14-الدكتور زكي مبارك:

«كان موسي بن جعفر سيدا من سادات بني هاشم،و اماما مقدما في العلم و الدين..» (5).).

ص: 168


1- النور الجلي في نسب النبي:ص 97،مخطوط نفيس توجد نسخة منه بخط المؤلف بمكتبة الاستاذ الشيخ علي الخاقاني.
2- خلاصة تهذيب الكمال:(ص 334).
3- التقريب:(ص 366).
4- احسن القصص:(ج 4 ص 293).
5- شرح زهر الآداب:(ج 1 ص 132).

15-علي بن محمد المالكي الشهير بابن الصباغ:

«و أما مناقبه،و كراماته الظاهرة،و فضائله و صفاته الباهرة تشهد له بأنه اقترع (1)قبة الشرف و علاها،و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها و ذللت له كواهل السيادة فامتطاها،و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها فاصطفاها..» (2).

16-الفضل بن الحسن الطبرسي:

«قد اشتهر بين الناس أن أبا الحسن موسي كان أجل ولد الصادق شأنا،و أعلاهم في الدين مكانا،و أفصحهم لسانا،و كان أعبد أهل زمانه و أعلمهم و أفقههم..» (3).

17-محمد أمين غالب:

«و كان العلويون يقتدون بالرجل العظيم الامام موسي الكاظم،المشهور بالتقوي،و كثرة العبادة حتي سماه المسلمون«العبد الصالح»و كان يلقب أيضا بالرجل الصالح تشبيها له بصاحب موسي بن عمران،المذكور في القرآن،و كان كريما سخيا..» (4).

18-ابن معية:

«الامام موسي الكاظم و يلقب بأبي الحسن،و أبي ابراهيم،و أمه أم ولد و كان عظيم الفضل جليل القدر حبسه الهادي ثم أطلقه لمنام رآه،).

ص: 169


1- اقترع:أي اختار.
2- الفصول المهمة:(ص 214).
3- أعلام الوري في أعلام الهدي:(ص 178).
4- تأريخ العلويين:(ص 157-158).

ثم حبسه الرشيد و مضي في حبسه شهيدا» (1).

19-السيد كاظم اليماني:

«موسي الكاظم و هو خامس سبط و سابع إمام سمي الكاظم لكظمه الغيظ و حلمه،و كان يخرج بالليل،و في كمه صرر من دراهم فيعطي من أراد بره،و كان يضرب المثل بصبر موسي و سيرته،و كان إذا صلي العشاء لم يزل يحمد اللّه و يدعو الي نصف الليل،و اذا صلي الصبح ذكر اللّه تعالي الي طلوع الشمس،و كان هذا دأبه..» (2).

20-محمد بن علي بن شهر اشوب:

«و كان الامام أجل الناس شأنا،و أعلاهم في الدين مكانا،و أسخاهم بنانا،و أفصحهم لسانا،و أشجعهم جنانا،قد خص بشرف الولاية و حاز إرث النبوة،و تبوأ محل الخلافة،سليل النبوة و عقيد الخلافة» (3).

21-السيد ضامن بن شدقم:

«السيد الكريم،و الامام الحليم،و سمي الكليم و الصابر الكظيم،صاحب العسكر ذو الشرف الأنور،و النور الأزهر و المجد الأظهر،و النسب الاطهر الصالح الأمين،الصابر الصائم،القائم،الحاكم علي المحكوم،الشهيد المسموم المشهود له بالكرامات،المجدّ في العبادات،المواظب علي الطاعات المقيم ليله راكعا و ساجدا،الصائم نهاره،و في سبيل اللّه مجاهدا،المجازي المسيء باحسانه،الكاظم غيظه،المنتشر حلمه و امتنانه،قائد الجيش،المدفون بمقابر قريش،الامام بالحق أبي ابراهيم،و أبي الحسن الامام موسي الكاظم).

ص: 170


1- سبك الذهب في سبك النسب،مخطوط توجد منه نسخة بمكتبة الامام كاشف الغطاء العامة.
2- النفحة العنبرية في أنساب خير البرية:(ص 15).
3- المناقب:(ج 2 ص 383).

ابن الامام جعفر الصادق..» (1).

22-علي بن محمد الصوفي:

«كان موسي عظيم الفضل رابط الجأش،واسع العطاء،و قيل ان أهله كانوا يقولون:عجبا لمن جاءته صرار موسي فشكا القلة..» (2).

23-محمد الصبان:

«أما موسي الكاظم فكان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان من أعبد أهل زمانه و من أكابر العلماء الأسخياء..» (3).

24-احمد بن حجر الهيثمي:

«موسي الكاظم:هو وارث أبيه علما و معرفة و كمالا و فضلا سمي الكاظم لكثرة تجاوزه و حلمه،و كان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان أعبد اهل زمانه،و أعلمهم و أسخاهم» (4).

25-احمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح:

«كان موسي بن جعفر عليه السلام من أشد الناس عبادة،و كان قد روي عن أبيه» (5).

26-عبد الوهاب الشعراني:

«موسي الكاظم أحد الأئمة الاثني عشر،و هو ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،كان يكني بالعبد الصالح لكثرة عبادته و اجتهاده و قيامه بالليل،و كان اذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه).

ص: 171


1- تحفة الأزهار و زلال الأنهار.
2- المجدي:مخطوط نفيس بمكتبة الامام كاشف الغطاء.
3- اسعاف الراغبين المطبوع علي هامش نور الأبصار:(ص 213).
4- الصواعق المحرقة:(ص 121).
5- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 145).

بمال...» (1).

27-النبهاني:

«موسي الكاظم أحد أعيان أكابر الأئمة من ساداتنا آل البيت هداة الاسلام رضي اللّه عنهم أجمعين،و نفعنا ببركتهم و أماتنا علي حبهم و حب جدهم الأعظم..» (2).

28-محمد بن طلحة الشافعي:

«موسي بن جعفر الكاظم(ع)هو الامام الكبير القدر،العظيم الشأن الكبير،المجتهد الجاد في الاجتهاد،المشهور بالكرامات،يبيت الليل ساجدا و قائما،و يقطع النهار متصدقا و صائما،و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين عليه،دعي كاظما،كان يجازي المسيء باحسانه إليه،و يقابل الجاني بعفوه عنه،و لكثرة عبادته كان يسمي بالعبد الصالح،و يعرف بالعراق بباب الحوائج الي اللّه لنجح مطالب المتوسلين الي اللّه تعالي به، كراماته تحار منها العقول،و تقضي بأن له عند اللّه تعالي قدم صدق لا تزل و لا تزول» (3).

29-الشيخ المفيد:

«كان أبو الحسن موسي أعبد أهل زمانه،و أفقههم و أسخاهم كفا و أكرمهم نفسا،و كان أوصل الناس لأهله و رحمه،و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين و الورق،و الأدقة و التمور فيوصل إليهم ذلك و لا يعلمون من أي جهة هو» (4).).

ص: 172


1- الطبقات الكبري:(ص 33).
2- جامع كرامات الأولياء:(ج 2 ص 229).
3- مطالب السئول(ص 83).طبع ايران.
4- الارشاد:(ص 271).

30-حفص:

«ما رأيت أحدا أشد خوفا علي نفسه من موسي بن جعفر،و لا أرجي للناس منه» (1).

31-الشبلنجي:

«قال بعض أهل العلم:الكاظم هو الامام الكبير القدر الأوحد الحجة الحبر الساهر ليله قائما،القاطع نهاره صائما المسمي،لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين كاظما،و هو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج الي اللّه و ذلك لنجح المتوسلين به..» (2).

32-علي بن عيسي الأربلي:

«مناقب الكاظم(ع)و فضائله و معجزاته الظاهرة،و دلائله و صفاته الباهرة،و مخائله تشهد أنه اقترع قمة الشرف و علاها و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها،و ذللت له كواهل السيادة فركبها و امتطاها،و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها و اصطفاها:

تركت و الحسن تأخذه تصطفي منه و تنتجب

فانتقت منه أحاسنه و استزادت فضل ما تهب

طالت أصوله فسمت الي أعلي رتب الجلال،و طابت فروعه فعلت الي حيث لا ينال،يأتيه المجد من كل أطرافه،و يكاد الشرف يقطر من أعطافه،«أتاه المجد من هنا و هنا،و كان له بمجتمع السيول»السحاب الماطر قطرة من كرمه،و العباب الزاخر نغبة (3)من نغبه و اللباب الفاخر من عد منة.

ص: 173


1- البحار:(ج 11 ص 265)
2- نور الأبصار:(ص 135).
3- النغبة:بالضم،الجرعة.

عبيده و خدمه كأن الشعري (1)علقت في يمينه،و لا كرامة للشعر العبور و كأن الرياض أشبهت خلايقه،و لا نعمي لعين الروض الممطور و هو عليه السلام غرة في وجه الزمان،و ما الغرور و الحجول (2)و هو أضوأ من الشمس و القمر،و هذا جهد ما يقال بل هو و اللّه أعلي مكانة من هذه الأوصاف و أسمي و أشرف عرقا من هذه النعوت و أنمي،فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره أو ترقي همة البليغ الي نعت فخاره،أو تجري جياد الأقلام في حلبات صفاته،أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته،كاظم الغيظ،و صائم القيظ،عنصره كريم،و مجده حادث و قديم،و خلق سؤدده و سيم،و هو بكل ما يوصف به زعيم،الآباء عظام و الأبناء كرام و الدين متين و الحق ظاهر مبين،و الكاظم في أمر اللّه قوي أمين،و جوهر فضله غال ثمين، و واصفه لا يكذب و لا يمين،قد تلقي راية الامامة باليمين فسما(ع)الي الخيرات منقطع القرين،و أنا أحلف علي ذلك فيه و في آبائه باليمين،كم له من فضيلة جليلة،و منقبة بعلو شأنه كفيلة،و هي إن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة،و مهما عد من المزايا و المفاخر فهي فيهم صادقة و في غيرهم مستحيلة إليهم ينسب العظماء و عنهم يأخذ العلماء و منهم يتعلم الكرماء،و هم الهداة الي اللّه تعالي،فبهداهم اقتده..» (3).

33-الخطيب البغدادي:

«و كان الامام موسي سخيا كريما،و كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها الف دينار،و كان يصر الصرر ثلاثمائة دينار و أربعمائة).

ص: 174


1- الشعري:بالكسر،الكوكب الذي يطلع في الجوزاء و طلوعه في شدة الحر.
2- الحجول:يوم مضيء مشرق بالسرور.
3- كشف الغمة:(ص 255).

و مائتين ثم يقسمها بالمدينة،و كانت صرر موسي بن جعفر إذا جاءت الانسان استغني..» (1).

34-الدكتور محمد يوسف موسي:

«و نستطيع أن نذكر أن أول من كتب في الفقه هو الامام موسي الكاظم الذي مات سجينا عام 183 ه- و كان ما كتبه إجابة عن مسائل وجهت إليه تحت اسم(الحلال و الحرام) (2).

35-الشيخ سليمان المعروف بخواجة كلان:

«موسي الكاظم و هو وارثه-أي وارث أبيه جعفر بن محمد-علما و معرفة و كمالا و فضلا،سمي الكاظم لكثرة تجاوزه و حلمه،و كان عند أهل العراق معروفا بباب قضاء الحوائج،و كان أعبد أهل زمانه و أعلمهم و أسخاهم..» (3).

36-النسابة أحمد بن علي:

«كان موسي الكاظم عظيم الفضل رابط الجأش،واسع العطاء لقب بالكاظم لكظمه الغيظ،و حلمه،و كان يخرج في الليل و في كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه و من أراد بره،و كان يضرب المثل بصرة موسي و كان أهله يقولون:عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» (4).

37-محمود بن وهيب القراغولي:

«موسي بن جعفر وارث أبيه علما و معرفة و كمالا،و فضلا،سمي بالكاظم لكظمه الغيظ،و كثرة تجاوزه و حلمه،و كان معروفا عند أهل).

ص: 175


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 27-28).
2- الفقه الاسلامي مدخل لدراسة نظام المعاملات فيه:(ص 160)
3- ينابيع المودة:(ص 362).
4- عمدة الطالب:(ص 185).

العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان أعبد أهل زمانه،و أعلمهم و أسخاهم..» (1).

38-محمد أمين السويدي البغدادي:

«موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر الكثير الخير،كان يقوم ليله و يصوم نهاره،و سمي الكاظم لفرط تجاوزه عن المعتدين» (2).

39-الدكتور عبد الجبار الجومرد:

«الامام الكاظم:هو موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب(ع)و كان ذا تأريخ حافل بالزهد و الورع و الكرم و دماثة الخلق،و قد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسيء إليه» (3).

40-جمال الدين الاتابكي:

«كان موسي يدعا بالعبد الصالح لعبادته،و بالكاظم لعلمه (4)ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع و عشرين و مائة،و كان سيدا عالما فاضلا سنيا جوادا ممدوحا مجاب الدعوة» (5).

هذه بعض الآراء التي دوّنها كبار العلماء في مؤلفاتهم و هي تحمل طابع التقدير و الاكبار للامام،و قد أجمعت علي اتصاف الامام بما يلي:

1-انه أعلم أهل زمانه،و أفقههم.

2-اجتهاده في العبادة و الطاعة الي حد لا يجاريه أحد.).

ص: 176


1- جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام:(ص 139).
2- سبائك الذهب:(ص 73).
3- هارون الرشيد:(ج 1 ص 177).
4- انما لقب الامام بالكاظم لكظمه للغيظ وسعة حلمه لا لعلمه، فانه لا مناسبة بين الأمرين.
5- النجوم الزاهرة(112/2).

3-انه احلم الناس و اكظمهم للغيظ،و انه يقابل الجاني و المعتدي عليه بالعفو و الاحسان.

4-انه من اجود الناس و أسخاهم و أنداهم كفا فبصرره يضرب المثل و يستغني بكرمه من يصله.

5-انه باب للحوائج عند اللّه،و قد خصه تعالي بهذه الكرامة و منحه بهذا اللطف فضمن لمن توسل به أن يقضي حاجته و مهمته و لا يرجع الي اهله الا و هو مثلوج الفؤاد ناعم الفكر.

6-انه ذو كرامات تحار منها العقول و الالباب.

7-انه أوصل الناس لأهله و رحمه.

8-انه من أفصح الناس و أبلغهم.

9-انه امام من أئمة المسلمين و من حجج اللّه علي خلقه.

10-انه بلغ القمة في تواضعه و دماثة اخلاقه.

و روي المؤرخون ما يدعم هذه الظاهرة الكريمة فيه،فقالوا أنه مر برجل من اهل السواد ذميم المنظر،فسلم عليه و نزل عنده و حادثه طويلا،ثم عرض عليه القيام بحاجته،و قضاء شئونه،و انصرف عنه،و ثقل ذلك علي بعض من صحب الامام،فأنكر عليه صنعه،و اخذ يندد بالامام قائلا له:

-يا ابن رسول اللّه أ تنزل الي هذا،ثم تسأله حوائجه،و هو إليك أحوج؟ فغاظ ذلك الامام،و انطلق يجيبه بروح الاسلام و وعيه الذي لا يفرق بين المسلمين قائلا له:

«عبد من عبيد اللّه،و أخ في كتاب اللّه،و جار في بلاد اللّه،يجمعنا و اياه خير الآباء آدم،و أفضل الاديان الاسلام،و لعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه..»

ص: 177

انه ليس من الاسلام في شيء التفرقة بين صفوف المسلمين،فهم جميعا علي صعيد واحد،و ان اكرمهم عند اللّه اتقاهم.

بهذه الروح الفواحة بالايمان و التقوي كان الامام عليه السلام يعالج النفوس المريضة التي اتزعت بالانانية،و الآفات الاجتماعية.

و هذه الصفات الماثلة في الامام هي السر في عظمته،و السر في اجماع العلماء علي اكباره و اتفاق المسلمين علي محبته.

ص: 178

من تراثه الفكري

اشارة

ص: 179

ص: 180

أما تراث الامام الفكري الذي زوّد به أصحابه و طلاب مدرسته فهو من أروع ما خلفه أئمة المسلمين من الثروات الفكرية،و من أنفس ما أبقاه علماء الاسلام من التراث العلمي،فقد تناول كثيرا من العلوم كعلم الحكمة و الكلام،و علم الفقه و التفسير و الحديث و غيرها من العلوم،و يضاف إليها حكمه و آراؤه القيمة التي تناولت آداب السلوك،و الاخلاق،و قواعد الاجتماع و هي حافلة بأروع صور الفصاحة و البلاغة البالغتين حد الاعجاز، و فيما يلي عرض موجز لبعضها:

رسالته في العقل:

اشارة

العقل هو القوة المبدعة التي منحها اللّه للانسان و شرفه و ميزه به علي بقية الموجودات،و جعله خليفة في الأرض،و قد استطاع بعقله و تفكيره أن يستخدم الكائنات،و يكشف أسرارها،و يميط الحجاب عن دقائقها، و ان يغزو الفضاء،و يصل الي الكواكب،و يكتشف ما فيها كل ذلك وصل إليه الانسان و سيصل في مستقبله القريب أو البعيد الي ما هو أعمق و أشمل من ذلك.

لقد انتهي الانسان في انطلاقه الرائع الي هذه الاكتشافات المذهلة بفضل عقله،و ادراكه،و علمه،و قد تحدث الامام موسي عن أهم آثار العقل و استدل علي فضله بالآيات الكريمة،و ذلك في حديثه الذهبي الذي زود به تلميذه هشام بن الحكم،و يعتبر هذا الحديث من أهم الثروات الفكرية التي اثرت عن الامام،و قد شرحه شرحا فلسفيا صدر المتألهين الآخوند ملا صدرا (1)و قال في تقريضه ما نصه:

ص: 181


1- الشيخ ملا صدرا هو محمد بن ابراهيم الشيرازي الحكيم المتأله

«هذا الحديث مشتمل علي بيان حقيقة العقل بالمعني المذكور-أعني المرتبة الرابعة من العقول الاربعة المذكورة في علم النفس-و محتو علي معظم صفاته و خواصه و مدائحه،و متضمن لمعارف جليلة قرآنية،و مقاصد شريفة إلهية لم يوجد نظيرها في كثير من مجلدات كتب العرفاء،و لم يعهد شبيهها في نتائج أنظار العلماء النظار ذوي دقائق الأفكار إلا منقولا عن واحد من الأئمة الأطهار أو مسندا من طريقهم أو طريق العامة الي الرسول المختار(ص)، و الحديث مشتمل علي خطابات ذكر في كل منها بابا عظيما من العلم،بعضها في العلوم الالهية و بعضها في علم السماء و العالم،و بعضها في علم الفلكيات،و بعضها في علم الأكوان و المواليد،و بعضها في علم النفس،و بعضها في تهذيب الأخلاق و تطهير النفوس من الرذائل،و بعضها في السياسات المدنية،و بعضها في المواعظ و النصائح،و بعضها في علم الزهد و ذم الدنيا،و بعضها في علم المعاد و الرجوع الي اللّه،و بعضها في مذمة الكفرة و الجهلة و سوء عاقبتهم و انقلاب نشأتهم الي نشأة البهائم و انهم صم بكم عمي لأنهم لا يعقلون.الي غير ذلك من العلوم و المعارف..».

و نقدم نص حديث الامام(ع)مشفوعا بشرح موجز اقتبسنا بعضه مما ذكره فيلسوف الاسلام الشيخ ملا صدرا في تفسيره لهذا الحديث قال عليه السلام:

«يا هشام:إن اللّه تبارك و تعالي بشّر أهل العقل و الفهم في كتابه).

ص: 182

فقال:(فبشر عبادي،الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،أولئك الذين هداهم اللّه و أولئك هم أولو الألباب) (1).

استدلّ الامام(ع)بهذه الآية الكريمة علي تقديم أهل العقول المستقيمة علي غيرهم لأن اللّه قد بشرهم بالهداية و النجاح،و قد تضمنت الآية التي استشهد بها الامام جملة من الفوائد العلمية نذكر فائدتين منها:

1-وجوب الاستدلال:

إن الانسان إذا وقف علي جملة من الأمور فيها الصحيح و الفاسد،و كان في الصحيح هدايته و في السقيم غوايته فانه يتحتم عليه أن يميز بينهما ليعرف الصحيح منها فيتبعه و الفاسد فيبتعد عنه،و من الطبيعي أن ذلك لا يحصل إلا باقامة الدليل و الحجة،و بهذا يستدل علي وجوب النظر و الاستدلال في مثل ذلك.

2-حدوث الهداية:

و دلت الآية علي حدوث الهداية و عروضها،و من المعلوم أن كل عارض لا بد له من موجد كما لا بد له من قابل،أما الموجد للهداية فهو اللّه تعالي و لذلك نسبها إليه بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ و أما القابلون لها فهم أهل العقول المستقيمة و الي ذلك أشار تعالي بقوله:

(أولئك هم أولو الألباب)و من المعلوم ان الانسان انما يقبل المعرفة و الهداية لا من جهة جسمه و أعضائه بل من جهة عقله،فلو لم يكن كامل العقل امتنع عليه حصول المعرفة و الفهم كما هو ظاهر،و قد أقام الشيخ ملا صدرا رحمه اللّه الدليل علي حدوث الهداية و علي أن فاعلها هو اللّه تعالي،و أطال الكلام في ذلك.

قال(ع):18

ص: 183


1- سورة الزمر:آية 17-18

«يا هشام ان اللّه تبارك و تعالي اكمل للناس الحجج بالعقول،و نصر النبيين بالبيان،و دلهم علي ربوبيته بالأدلة فقال: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ،وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

أفاد الامام في حديثه أن اللّه اكمل نفوس أنبيائه بالعقول الفاضلة،ليكونوا حججا علي عباده،و هداة لهم الي طريق الخير و النجاة،و لو لم يمنحهم بذلك لما صلحوا لقيادة الأمم و هدايتها فان الناقص لا يكون مكملا لغيره.

لقد نصر اللّه انبياءه ببيان الحق،و آيات الصدق،و دلهم علي ربوبيته و علمهم طريق معرفته،و توحيده بأدلة حاسمة تشهد علي وجوده،و تدل علي وحدانيته،و الآيات التي دلهم عليها من آثار خلقه،و من المعلوم- حسب ما ذكره المنطقيون-ان المعلول يدل علي العلة،و الأثر يدل علي المؤثر،و قد تضمنت الآية الكريمة التي تضمنها حديث الامام علي جملة من الآثار العظيمة التي يستدل بها علي وجود اللّه تعالي و هي:

1-خلق السماوات:

ان من أعظم آيات اللّه الباهرات خلقه للسماوات التي زينها بالكواكب التي تسبح في الفضاء،و تسير في مداراتها،و تتباعد بعضها عن بعض حسب قواعد الجاذبية.و هي مسخرة في حركاتها،و انجذابها و جذبها بأمر اللّه تعالي،يبلغ حجم الواحدة من بعض الكواكب اضعاف حجم الارض عشرات الآلاف،و بعضها اكبر من الارض عدة ملايين،و هي تسير في افلاكها و منحنياتها لا يصطدم بعضها ببعض،و هي تنادي بوجود اللّه جلت

ص: 184


1- سورة البقرة:آية 163-164.

قدرته،قال سماحة الامام المغفور له الشيخ محمد عبده:

«تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف لكل طائفة منها نظام كامل محكم،و لا يبطل نظام بعضها نظام الآخر لأن للمجموع نظاما عاما واحدا يدل علي أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه و تقديره و حكمته و تدبيره،و أقرب تلك الطوائف إلينا ما يسمونه النظام الشمسي نسبة الي شمسنا هذه التي تفيض أنوارها علي أرضنا فتكون سببا للحياة النباتية و الحيوانية،و الكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير و الأبعاد،و قد استقر كل منها في مداره،و حفظت النسبة بينه و بين الأخر بنسبة إلهية،و لو لا هذا النظام لانفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا، و هلكت العوالم بذلك فهذا النظام آية علي الرحمة الالهية كما انه آية علي الوحدانية..» (1).

إن ما اكتشفه العلم الحديث من النجوم هو بمقدار من الكثرة بحيث لو كنا نعد النجوم كلها بسرعة 1500 نجم في الدقيقة لاستغرق عدنا 700 سنة،أما نسبة الأرض إليها فهي أقل كثيرا من نقطة علي حرف في مكتبة تضم نصف مليون من الكتب من الحجم المتوسط (2).

و مما لا شبهة فيه أنها لم تكن ناشئة عن الصدفة،و هل انها المدبرة و الخالقة لهذه العوالم اذ كيف يمكن أن تفسر هذه العلميات المعقدة المنضمة بتفسير يقوم علي المصادفة و التخبط العشوائي«و كيف نستطيع أن نفسر هذا الانتظام في ظواهر الكون و العلاقات السببية و التكامل و الفرضية و التوافق و التوازن التي تنتظم بسائر الظواهر،و تمتد آثارها من عصر الي عصر،كيف يعمل هذا الكون من دون أن يكون له خالق مدبر هو الذي خلقه و أبدعه8.

ص: 185


1- تفسير المنار 60/2.
2- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 48.

و دبر سائر أموره».

يقول جون وليام كوتس:

«ان هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الاتقان و التعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة.إنه ملئ بالروائع و الأمور المعقدة التي تحتاج الي مدبر،و التي لا يمكن نسبتها الي قدر أعمي.

و لا شك ان العلوم قد ساعدتنا علي زيادة و فهم و تقدير ظواهر هذا الكون و هي بذلك تزيد من معرفتنا باللّه و من ايماننا بوجوده» (1).

2-الارض:

و من عجائب آيات اللّه خلقه لهذا الكوكب الذي نعيش عليه،فقد جعله تعالي يدور حول محوره في كل 24 ساعة مرة واحدة،و سرعة حركته (1000)ميل في الساعة،و لو كان يدور حول محوره بسرعة 100 ميل في الساعة لكان طول الليل عشرة أمثال ما عليه الآن،و كذا طول النهار، و كانت الشمس محرقة في الصيف لجميع النبات،و في الليالي الباردة كان ينجمد ما عليها من نبات و حيوان كما انها لو اقتربت الشمس من الأرض أكثر مما عليه الآن لازدادت الاشعة التي تصل إليها بدرجة تؤدي الي امتناع الحياة فوقها كما انها لو ابتعدت عنها اكثر مما عليها لحدث العكس و قلت الاشعة و ازدادت قسوة البرد بدرجة تؤدي الي امتناع الحياة عليها و لو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر أو حتي أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلاف الجوي و المائي اللذين يحيطان بها،و لصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت،و لو كان

ص: 186


1- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 48. (2)التكامل في الاسلام 66/4.

قطرها ضعف قطرها الحالي لأصبحت جاذبيتها للاجسام ضعف ما هي عليه و انخفض تبعا لذلك ارتفاع غلافها الهوائي،و زاد الضغط الجوي و هو يوجب تأثيرا بالغا علي الحياة فان مساحة المناطق الباردة تتسع اتساعا كبيرا،و تنقص مساحة الاراضي الصالحة للسكني نقصا ذريعا،و بذلك تعيش الجماعات الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية فتزداد العزلة بينها، و يتعذر السفر و الاتصال بل قد يصير ضربا من ضروب الخيال.

و لو كانت الارض في حجم الشمس لتضاعفت جاذبيتها للاجسام التي عليها الي 150 ضعفا و نقص بذلك ارتفاع الغلاف الجوي،و وصل وزن الحيوان الي زيادة 150 ضعف عن وزنه الحقيقي كما تتعذر الحياة الفكرية بصورة عامة (1).

و خص اللّه الأرض بميزة أخري بأن جعل لها غلافا غازيا كثيفا سمكه يقدر ب 800 كيلومتر،و هو يتكون من جميع العناصر الضرورية للحياة، و هو السبب في حيلولة الشهب القاتلة الي الارض كما انه السبب في ايصال حرارة الشمس بصورة معتدلة الي الارض بحيث يمكن ان تعيش علي سطحها النباتات و الحيوانات كما ان له الأثر في نقل المياه و البخار من المحيطات الي القارات و لولاه لتحولت القارات الي أرض قاحلة،و ليس لبعض الكواكب هذا الغلاف مما سبب عدم ظهور الحياة عليها فالمريخ له غلاف غازي و لكنه رقيق جدا و غير صالح للحياة لخلوه من الاوكسجين و الزهرة لها غلاف غازي و لكنه مكون من ثاني اوكسيد الكربون مما يجعله غير صالح لظهور الحياة و كذلك القمر له غلاف،و لكنه رقيق،و خال من العناصر الضرورية للحياة مثل الاوكسجين (2)./6

ص: 187


1- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 10-11
2- التكامل في الاسلام 128/6

و مما ميز اللّه به الأرض بأن جعلها غبراء اللون لتكون قابلة للانارة و الضياء،و جعلها متوسطة في الصلابة ليمكن المشي عليها،و لتقبل الزرع و الحرث،و ناهيك بما في مائها و أنهارها و جبالها و معادنها من الآيات و العجائب قال سماحة الامام المغفور له كاشف الغطاء:

«حقا إن من أعظم تلك الآيات التي نمر عليها في كل وقت و علي كل حال هذه الأرض التي نعيش عليها،و نعيش منها و نعيش بها،منها بدؤنا و إليها معادنا.(منها بدأناكم و إليها تعودون)لا نزال نمشي علي الأرض،و نثير ترابها في الحرث و النسل،و نتقلب عليها للضرع و المرع،و نزاولها في عامة شئون الحياة،و لا تزال تدر علينا بخيراتها و بركاتها و نحن ساهون لاهون،و عن آياتها معرضون غافلون عما فيها من عظيم القدرة،و باهر الصنعة،و دلائل العظمة و القوة،هذا التراب الذي قد نعده من أحقر الأشياء و أهونها و الذي هو في رأي العين شيء واحد و عنصر فرد،كم يحتوي علي عناصر لا تحصي و خواص لا تتناهي،تنثر فيه حب القمح فيعطيك أضعافا من نوعه،و تنثر فيه الفول و العدس و أمثالهما من القطانيات المختلفة في الطعوم و الخواص فتعيدها إليك مضاعفة مترادفة،و تغرس في نفس ذلك التراب نواة النخل و بذرة الكرم،و أقلام التين و التفاح و أمثالها من الفواكه فتثمر تلك الثمار الشهية المختلفة الأذواق المتغايرة الخواص،و قال رحمه اللّه:الأرض هي أم المواليد الثلاثة:الجماد،و النبات،و الحيوان،و تحوطها العناية بالروافد الثلاثة:

الماء،و الهواء و الشمس،فهي الحياة و هي الممات،و فيها الداء،و منها الدواء و قد تحصي نجوم السماء،أما نجوم الأرض فلا تحصي.

نعم لا تحصي نجوم الارض و لا معادن الارض و لا عناصر الأرض، و لا تزال الشريعة الاسلامية قرآنها و حديثها يعظم شأن الأرض و ينوه عنها صراحة و تلميحا فيقول: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلي طَعامِهِ أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (1).

ص: 188

نعم لا تحصي نجوم الارض و لا معادن الارض و لا عناصر الأرض، و لا تزال الشريعة الاسلامية قرآنها و حديثها يعظم شأن الأرض و ينوه عنها صراحة و تلميحا فيقول: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلي طَعامِهِ أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (1).

إن الأفكار الثاقبة و العقول الجبارة التي استخدمت جميع وسائل العلم الحديث لم تصل الي تحليل جميع عناصر الارض و استخراج جميع كنوزها، مع انها بعض مخلوقات اللّه بل من أبسطها فسبحانه ما أجل قدرته و أعظم صنعه..!

3-اختلاف الليل و النهار:

و من آيات اللّه تعالي اختلاف الليل و النهار،و ذكر علماء التفسير للاختلاف وجهين:(أحدهما)انه افتعال مأخوذ من خلفه يخلفه إذا ذهب الاول و جاء الثاني فيكون المراد باختلاف الليل و النهار تعاقبهما في الذهاب و المجيء(الثاني)الاختلاف في الطول و القصر و النور و الظلمة و الزيادة و النقيصة،و كما انهما يختلفان في الزمان فكذلك يختلفان في المكان فكل ساعة فرضت معينة في موضع من الأرض بأنها صبح مثلا فهي في موضع آخر ظهر،و في مكان ثالث عصر و من رابع مغرب و هلم جرا و ذلك لكروية الارض،و هذا الاختلاف من آثار النظام الشمسي الذي يدل علي وحدة اللّه و وجوده،و هناك مصالح لا تحصي ترتبت علي هذا الاختلاف كانتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب و المعيشة في النهار و طلب الراحة و النوم في الليل (2)الي غير ذلك من المصالح الحيوية التي ذكرها العلماء في

ص: 189


1- الارض و التربة الحسينية:ص 10-13.
2- تفسير الرازي:(ج 2 ص 65-66).

سر هذا الاختلاف التي تكشف عن وجوده تعالي و جميل صنعه و عظيم قدرته!.

4-جريان الفك:

و من آياته تعالي جريان الفلك في الماء فانه لو لا توسط الماء في اللطافة و الخفة لما أمكن جريان البواخر و السفن فيه،كما انه لو لا الرياح المعينة علي تحريكها الي الجهات المختلفة حسب اغراض الناس لما أمكن النفع بها،و قد جعل اللّه تلك الرياح متوسطة في الهدوء و لو كانت عاصفة لتحطمت البواخر،بالاضافة الي أن مواد السفن من الخشب و الحديد و غيرها هي من خلق اللّه تعالي و من إيجاده،و إن كانت الهيئة التركيبية من الناس (1)و جميع هذه الأمور التي المحنا إليها من فعل اللّه و من آثاره.

5-نزول الماء من السماء:

و من عظيم آيات اللّه تعالي انزاله الماء من السماء فانه من عجائب صنعه و باهر قدرته،فقد خلقه مركبا من الاوكسجين و الهيدروجين و غيرهما بنسب متفاوتة و مقادير معينة.و كل عنصر من أجزائه يختلف عن العنصر الآخر و يخالفه و جعله تعالي سببا لحياة الاجسام النامية فقال:«و جعلنا من الماء كل شيء حيا»كما جعله تعالي سببا لحياة الانسان و سببا لرزقه و معيشته فقال:

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ .

و إنما كان نزول المطر حياة للارض-كما صرحت به الآية الكريمة- لأن فيها قوة الحياة الحيوانية و النباتية،و ان كانت القوة بعيدة بالقياس الي

ص: 190


1- تفسير الرازي:(ج 2 ص 68).

الحيوانية،فاذا نزل عليها الماء ظهر فيها من العشب و الكلاء و ما شاكله من النباتات التي يعيش بها الانسان و تحيي بها دواب الأرض،أو لأنه يحصل للارض بسبب نزول المطر النبات و الازهار و الرياحين فتكسي بذلك ثوبا من الحسن و الجمال تبعث علي البهجة و المسرة لمن نظر إليها و هذا هو المراد من حياتها،و علي كل ففي ذلك آيات و شواهد علي وجود الصانع و باهر قدرته.

و لو أمعن الانسان في النبات و الزرع و ما فيهما من العجائب لآمن بقدرة اللّه و جمال صنعه و تدبيره،فان الزرع يخرج علي الحد الذي يحتاج إليه العباد في أوقات معلومة فما يخرج في موسم الربيع لا يدرك في الخريف و ما يخرج في الصيف لا يوجد في الشتاء،و مضافا الي ذلك تغاير الاشجار و الثمار فانها متغايرة بألوانها و طعمها و رائحتها مع أنها تسقي بماء واحد و تخرج من أرض واحدة،فلو نظر الانسان الي ذلك بعين البصيرة لآمن بربه و ما زاغ قلبه و ما خرج عن جادة الايمان.

6-بث الدواب في الأرض:

و من آيات اللّه العظيمة بث الحيوانات في الأرض المختلفة في أنواعها و أصنافها و أشكالها و شرفها و خستها المتباينة في أخلاقها و طبائعها و معيشتها و الانسان من جملة الحيوانات،و لكنه من أشرفها و أرقاها فهو خليفة اللّه في أرضه لأن فيه انموذجا لجميع ما في العالمين عالم الملك،و عالم الملكوت خصوصا بحسب وعيه و ادراكه،و احاطته بكثير من الحقائق و المعلومات الكلية و الجزئية فهو عالم بنفسه بل هو أكبر من العالم يقول الامام امير المؤمنين(ع):

ص: 191

أ تحسب انك جرم صغير و فيك انطوي العالم الأكبر

إن الانسان بحسب تكوينه من أعظم آيات اللّه ففيه من الاجهزة الدقيقة ما لا تحصي و لا تعد كتكوين العين التي تحتوي علي التنظيمات التلسكوبية و المكروسكوبية و هي تحتوي علي 130 مليون من مستقبلات الضوء،و هي أطراف أعصاب الابصار،و يقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا و نهارا،و تعتبر حركته حركة لا ارادية،و يمنع عنها الاتربة و الذرات كما يكسر من حدة الشمس،و جعل لها السائل المحيط بها المعروف بالدموع من أقوي المطهرات و المعقمات الي غير ذلك مما هو أبلغ دليل علي وجود اللّه و في الانسان حاسة السمع،و هي من أعجب اجهزة الانسان فان فيه التيه و قد قال فيه العالم(كورثي):

«إن التيه يشتمل علي نوع من الاقنية بين لولبية،و نصف مستديرة و ان في القسم اللولبي وحده اربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس».

ما طول تلك الأقواس؟ ما حجمها؟ كيف ركبت؟ إنها دقة تحير الالباب،فسبحان اللّه المكون و المصور،و في الانسان حاسة الشم،و هي من اعظم آيات اللّه،فان مركز هذه الحاسة منطقة محدودة من الغشاء المخاطي المبطن لتجويف الأنف،تسمي منطقة الشم،و هي خالية من الأهداب،و بها عدة خلايا شمية طويلة رقيقة تنقل الأثر الي المخ، و ذلك في جزء من الأنف،و هو المدخل الرئيسي للجهاز التنفسي الذي يتوقف عليه حياة الانسان.

و في الانسان الجهاز العظمي،و هو يتكون من 206 عظم،و يتصل

ص: 192

بعضها ببعض بالمفاصل التي تحركها العضلات،و هذه العظام مصنع الحياة في الجسم اذ انها تكون الكريات الدموية الحمراء و البيضاء و انها اساس الحياة و من عجيب أمر هذه الكريات انها في كل دقيقة من حياة الانسان يموت منها ما لا يقل عن مائة و ثمانين مليونا بسبب دفاعها عن الجسم ضد الميكروبات الوافدة،و اضافة لما تصنعه العظام من كريات الدم فانها مخزن تحفظ للجسم ما يزيد علي حاجته من الغذاء سواء كان ذلك في داخل العظام نفسها كالمواد الدهنية و الزلالية أو علي العظام نفسها كالمواد الجيرية.

اما ملاءمة العظام لما خلقت له فهذا أمر عجيب.فعظام الجمجمة التي تحمي المخ أشد صلابة من غيرها،و أكثرها سمكا لانها تحمي انسجة رقيقة و دقيقة.

الي غير ذلك مما في الانسان من الاجهزة المحيرة كالجهاز العصبي و الجهاز التناسلي،و الجهاز اللمفاوي،و الجهاز العضلي (1)و هي تدل بوضوح علي مكونها و خالقها،فانها لا يمكن ان تتكون صدفة فان حديث المصادفة اصبح من الخرافات التي لا يؤمن بها من كان له أدني تفكير و شعور.

7-تصريف الرياح:

من آيات اللّه تصريفه للرياح فانها تأتي جنوبا،و شمالا،و قبولا و دبورا،هذا هو كيفية تصريفها (2).

ص: 193


1- يراجع في هذه البحوث بصورة مستفيضة الي المصادر التالية: اللّه و العلم الحديث،أمالي الامام الصادق،اللّه يتجلي في عصر العلم،العلم يدعو للايمان.
2- تفسير الطبري 65/2.

ان الرياح:هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلي من الجو إذا سارت متوازية مع سطح الارض،و تختلف سرعة الرياح حتي تصل الي مائة كيلومتر في الساعة،و تسمي زوبعة،و إذا زادت عليها تسمي اعصارا،و قد تصل سرعتها الي 240 كيلومترا في الساعة،و هذه الرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء و توزيعه،كما انها من أهم الوسائل لتلقيح النباتات.فقد ثبت ان هناك قسما كبيرا من النبات لا يتم تلقيحه الا بالهواء،قال تعالي: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (1).

8-تسخير السحاب:

و من آياته تعالي تسخير السحاب،فقد سخره في أوقات مخصوصة لاحياء العباد و البلاد،و لو دام وجوده لعظم ضرره لأنه يستر أشعة الشمس كما يؤدي الي فساد جميع المركبات التي تتوقف علي الجفاف،و بانقطاعه يعظم الضرر لأنه يؤدي الي القحط فيهلك الانسان و الحيوان فكان تقديره بالاوقات الخاصة و الفصول المعينة لأجل الصالح العام.

ان السحاب يتكون من تكاثف البخار في الهواء،و يختلف ارتفاع السحب علي حسب نوعها،فمنها ما يكون علي سطح الأرض كالضباب، و منها ما يكون ارتفاعه بعيدا الي اكثر من 12 كيلومترا كسحاب(السيرس) الرقيق.

و عند ما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومترا في الساعة لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون،و ذلك لمقاومة الرياح لها،..

ص: 194


1- سورة الحجر:آية 22.

و كلما تناثرت النقط تشحن بالكهرباء الموجبة،و تنفصل عنها الكهرباء السالبة التي تحملها الرياح..و بعد مدة تصير مشحونة شحنا وافرا بالكهرباء، و عند ما تقترب الشحنتان بعضها من بعض بواسطة الرياح..يتم التفريغ الكهربائي،و ذلك بمرور شرارة بينهما،و يستغرق وميض البرق لحظة قصيرة و يكون شكله خطا منكسرا،و يسمع بعده الرعد و هو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء،و تخيم السحابة،و ينزل منها المطر فتأخذ منه الأرض ما قدر اللّه لها من الماء.

فانظر كيف ولدت الرياح الكهرباء بنوعيه في السحب،و سببت نزول المطر منها (1)كل ذلك بتقدير اللّه العزيز العليم،و تحدث الطنطاوي في تفسيره عن السحب و فوائدها قال:

«تعجب كيف كان السحاب ليس يرتفع عن وجه الارض في الجو اكثر من ستة عشر الف ذراع،و إن أقربه ما كان مماسا لوجه الارض نادر في بعض البلدان إذ لو كان السحاب مماسا لوجه الارض لأضر ذلك بالحيوان و النبات و أمتعة الناس.إلي أن قال:كما أنه لو كان بعيدا شديد الارتفاع في الهواء حتي لا يري لكانت الامطار و الثلوج تأتي مفاجأة و الناس و الحيوان عنها غافلون لا يتحرزون فيكون الضرر عاما» (2).

هذا بعض ما في الآية الكريمة من الشواهد و الأدلة علي وجود اللّه تعالي الذي هو المصدر لوجود هذه العوالم و قد استدل الامام(ع)بهذه الآيات لدعم حقيقة الايمان باللّه،و تحرير العقول من خرافات الشرك و فيما يلي فصل آخر من حديثه(ع)قال:).

ص: 195


1- اللّه و العلم الحديث ص 174-175.
2- تفسير الجواهر:(ج 1 ص 155).

«يا هشام:قد جعل اللّه ذلك (1)دليلا علي معرفته بأن لهم مدبرا فقال: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2)و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّي مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّي وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)و قال:

ان في اِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)و قال: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها،قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (5)و قال: وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقي بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلي بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (6)و قال: وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (7)و قال: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ،نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ4.

ص: 196


1- اسم الاشارة يرجع الي الآية المذكورة او لكلامه المتقدم.
2- سورة النحل:آية:12.
3- سورة المؤمن:آية:66.
4- قد أخذ هذا من مضمون الآية الرابعة في سورة الجاثية.
5- سورة الحديد:آية 18.
6- سورة الرعد:آية:4.
7- سورة الروم:آية:24.

اَلَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1) و قال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ،تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بهذه الآيات الكريمة علي آثار اللّه تعالي الدالة علي وجوده و وحدانيته،و قد بسطنا الكلام في بعضها،و إنما أعادها(ع)للتنبيه علي وثاقة الأدلة فانه لو أمعن بها العاقل المفكر و تدبرها لآمن بذلك و لم يبق عنده أي مجال للشك،و لذا كررها تعالي في كتابه الحكيم،ثم انه(ع) ذكر بعض الموبقات و الجرائم التي حرمها القرآن و هي:

1-الشرك باللّه.

2-عصيان الأبوين.

3-قتل الاولاد خشية إملاق.

4-الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

5-قتل النفس المحترمة.

و لو لا خوف الاطالة لبسطنا الكلام في بيان بقية الآيات التي استشهد بها الامام في حديثه،و لننتقل الي فصل آخر من كلامه،قال عليه السلام:

«يا هشام:ثم وعظ أهل العقل و رغبهم في الآخرة فقال: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (3).

استدل(ع)بالآية الكريمة علي ترغيب اللّه تعالي لعباده العقلاء في دار الخلود و النعيم و ذمه لدار الدنيا لأنها محصورة علي الاكثر في اللهو و اللعب1.

ص: 197


1- سورة الانعام:آية 151.
2- سورة الروم:آية:28.
3- سورة الانعام:آية:31.

فينبغي للعقلاء أن يزهدوا فيها و يجتنبوا شرها و حرامها،و يعملوا للدار الباقية التي أعدت للمتقين و الصالحين و لننتقل الي فصل آخر من حديثه قال(ع):

«يا هشام:ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالي: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (1)و قال: إِنّا مُنْزِلُونَ عَلي أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بهذه الآيات الكريمة علي تدميره تعالي للذين لا يعقلون من الامم السالفة التي كفرت باللّه و قد نزلت الآيات في قوم لوط حينما جحدوا اللّه و كفروا بآياته فأنزل تعالي بهم عقابه و جعل موطنهم بحيرة منتنة قبيحة المنظر و جعلها بسبيل مقيم يمر بها المارون ليلا و نهارا و لذا قال تعالي:

وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ.. (3) و قد جعلهم تعالي عبرة و موعظة للذين يعقلون،فان فيه تحذيرا لهم من مخالفة المرسلين و المصلحين فان عاقبة المخالفة و العصيان الدمار و الهلاك (4)،و قال عليه السلام:

«يا هشام:إن العقل مع العلم قال تعالي: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ،وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (5).

استدل(ع)بالآية الكريمة علي ملازمة العقل للعلم فان العقل بجميع مراتبه لا ينفك عن العلم و لا يفترق عنه،و سبب نزول الآية فيما يقوله المفسرون3.

ص: 198


1- سورة الصافات:آية:136 و 137 و 138.
2- سورة العنكبوت:آيه:33 و 34.
3- تفسير ابن كثير:(ج 4 ص 20).
4- روح المعاني:(ج 7 ص 313).
5- سورة العنكبوت:آية:43.

ان الكافرين قالوا إن اللّه كيف يضرب الأمثال بالهوام و الحشرات كالبعوض و الذباب و العنكبوت،و الامثال ينبغي ان تضرب بغير ذلك من الامور الخطيرة و هو منطق هزيل،فان التشبيه انما يكون بليغا فيما اذا كان مؤثرا في النفس فاذا قال الحكيم لمن يغتاب انسانا إنك بهذه الغيبة كأنك تأكل لحم الميتة لأنك تغتابه فان هذا يؤثر في ردعه اكثر مما يؤثر قوله:إن الغيبة حرام أو تورث العتاب و الشحناء بين الناس.

و أشار تعالي بقوله: وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ إلي أن معرفة حقيقة الاشياء و التمييز بين صحيحها و سقيمها لا يعقلها إلا من حصل له العلم و المعرفة فغير العالم لا يفقه ذلك (1)و لننتقل الي فصل آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (2)و قال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (3)و قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (4)و قال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (5)و قال: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُريً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ،بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّي ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ4.

ص: 199


1- تفسير الرازي.
2- سورة البقرة:آية:169.
3- سورة البقرة:آية:171.
4- سورة يونس:آية:42.
5- سورة الفرقان:آية:44.

لا يَعْقِلُونَ (1) و قال: وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (2).

استدل الامام(ع)بالآيات الكريمة علي ذم من لا يعقل،و نتعرض فيما يلي الي بعض معانيها ليتضح استشهاد الامام بها:

(الآية الأولي):

دلت علي ذم من يتبع أسلافه و مشايخه في الامور الدينية من غير بصيرة و لا دليل،فان الذي يحفزهم الي اتباعهم انما هو الجهل و الغباوة و التعصب،و قد نزلت الآية في اليهود حينما دعاهم رسول اللّه(ص) الي الاسلام فرفضوا ذلك،و قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيرا منا (3)و لو كانت لهم عقول مستقيمة،و نضوج فكري لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقره العقل السليم،فالعقيدة لا بد أن تؤخذ من الدليل العلمي الصحيح فانها أساس لحياة الانسان و سلوكه قال الامام الشيخ محمد عبده في تفسيره:

«لو كان للمقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية باسلوبها لتنفيرهم من التقليد فانهم في كل ملة و جيل يرغبون عن اتباع ما أنزل اللّه استئناسا بما ألفوه مما ألفوا آباءهم عليه،و حسبك بهذا شناعة إذ العاقل لا يؤثر علي ما أنزل اللّه تقليد أحد من الناس مهما كبر عقله و حسن سيره،إذ ما من عاقل إلا و هو عرضة للخطأ في فكره،و ما من مهتد إلا و يحتمل أن يضل في سيره،فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل اللّه، و لا معصوم إلا من عصم اللّه،فكيف يرغب العاقل عما أنزل اللّه الي اتباع الآباء مع دعواه الايمان بالتنزيل،علي أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجبن.

ص: 200


1- سورة الحشر:آية:13.
2- سورة البقرة:آية:43.
3- التبيان:(ج 1 ص 188)ط ايران.

أن ينفره عن التقليد قوله تعالي: وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (1).

(الآية الثانية):

متصلة بالآية الأولي،و متممة لها فانه تعالي لما حكي حالة الكفار في إصرارهم علي التقليد الأعمي عند دعوتهم الي الاسلام ضرب اللّه للسامعين مثلا عن حالهم-لئلا ينخدعوا بهم-بأنهم كالانعام و البهائم التي لا تعي دعاء الراعي لها سوي سماع الصوت منه دون أن تفهم المعني،فكذلك هؤلاء لا يتأملون دعوة الحق و لا يعونها فهم بمنزلة من لا يعقل و هذا أعظم قدح و ذم للذين لا يعقلون.

(الآية الثالثة):

حكي فيها تعالي حال بعض الكفار بأنهم في منتهي القسوة و جمود الطبع و خمود نار الذهن فانهم يستمعون الي ما يتلي عليهم من الآيات و الأدلة علي صحة دعوة النبي(ص)و لكنهم صم من ناحية إدراك المعني و تفهمه، و انه لا جدوي و لا فائدة في دعوتهم الي اعتناق هذا الدين فقد بلغوا النهاية في أمراضهم العقلية و النفسية بحيث لا يجدي معهم العلاج و النصح.

(الآية الرابعة):

خاطب اللّه فيها نبيه بأن لا يطمع في إيمان بعض الكفرة لانهم كالأنعام في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من الآيات الباهرة فهم أضل سبيلا من الأنعام لأنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها و تهتدي لمراعيها و مشاربها و تأوي الي معاطنها و مرابضها و هؤلاء لا ينقادون لربهم و خالقهم و رازقهم فلا يعرفون احسانه و نعمه بالاضافة الي أن الحيوانات لم تعطل قوة من قواها المودعة فيها بل صرفت كل قوة الي ما خلقت له،و أما الكفرة فقد عطلوا قواهم0)

ص: 201


1- المنار:(ج 1 ص 100)

العقلية فضيعوا الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها و هي معرفة اللّه و الايمان به فلذا كانوا أضل سبيلا من البهائم.

(الآية الخامسة):

احتوت علي ذم الكفرة لأن فيهم ثلاث من الصفات الذميمة و هي:

1-الجبن عن الحرب.

2-البأس الشديد فيما بينهم.

3-تشتت قلوبهم.

و علل تعالي الصفات الثلاث أو الاخيرة بعدم العقل،فان العاقل لا يكون جبانا كما انه لا يقع بأس أو خلاف بينه و بين غيره فان ذلك ينشأ من الجهل و الغباوة،و ذلك لا يتصف به المؤمنون و قد أشار(ع)إليهم بقوله:

«المؤمنون يد واحدة علي من سواهم»و ذلك لاتحاد أفكارهم و وحدة اتجاههم فلا يعقل التفرق و الانقسام بين صفوفهم.

(الآية السادسة):

نزلت في علماء اليهود فقد كانوا يقولون لاقربائهم من المسلمين:

اثبتوا علي ما انتم عليه و هم لا يؤمنون بالاسلام (1)و كان الاحري بهم أن يعتنقوا الاسلام ثم يأمرون الغير بالتمسك به.

إلي هنا ينتهي بنا الحديث في بيان الآيات التي استدل بها(ع)علي ذم من لا يعقل من الناس،و لننتقل الي فصل آخر من كلامه، قال(ع):

«يا هشام:ثم ذم اللّه الكثرة فقال: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (2)،و قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ6.

ص: 202


1- مجمع البيان:(ج 1 ص 98).
2- سورة الانعام:آية:116.

اَلسَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) و قال تعالي: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بالآيات الثلاث علي ذم اكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق و توغلوا في الباطل و غرقوا في الشهوات إلا من رحمه اللّه منهم و أخرجه من الظلمات الي النور،و نعرض فيما يلي الي مدلول الآيات -بايجاز-:

(الآية الاولي):

خاطب فيها تعالي نبيه(ص)و أراد به غيره أو ان الخطاب له و لغيره في أنه(ص)لو أطاع الجمهور من الناس و سار علي وفق أهوائهم و ميولهم لأضلوه عن دين اللّه و صرفوه عن الحق:

(الآية الثانية):

دلت بحسب مفهومها علي أن اكثر الناس يقولون.ما لا يعلمون، و انهم لا يؤمنون باللّه في قلوبهم بل انما يجري علي السنتهم من دون أن ينفذ الي اعماق نفوسهم.

(الآية الثالثة):

خاطب فيها تعالي نبيه بأنه لو سأل المشركين من هو الذي أنزل الماء من السماء الذي هو سبب رزقهم و حياتهم؟لأجابوه بأنه هو اللّه تعالي الموجد للممكنات بأسرها و مع ذلك فانهم يشركون به و يعبدون بعض مخلوقاته التي لا يتوهم منها القدرة علي ايجاد أي شيء-فالحمد للّه-علي اظهارهم الحجة و اعترافهم بأن الخالق لأصول النعم و فروعها هو اللّه تعالي فيكون3.

ص: 203


1- سورة لقمان:آية:25.
2- سورة العنكبوت:آية:63.

الحمد الذي ذكره تعالي كالحمد عند رؤية المبتلي (1)،و نعرض الي فصل آخر من كلامه قال عليه السلام:

«يا هشام:ثم مدح القلة فقال: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)و قال: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ (3)و قال: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ (4)و قال: وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (5)و قال: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (6)و قال: وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (7)و قال:و اكثرهم لا يَشْعُرُونَ .

استدل(ع)بالآيات الكريمة علي مدحه قلة المؤمنين و ندرة وجودهم و قد صرحت الاخبار الواردة عن أهل البيت(ع)بذلك فقد قال أبو عبد اللّه عليه السلام:(المؤمنة أعز من المؤمن،و المؤمن أعز من الكبريت الأحمر، فمن رأي منكم الكبريت الأحمر؟» و يعود السبب في هذه القلة الي أن الايمان الحقيقي باللّه من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الانسان،و هناك موانع كثيرة تحول دون الوصول الي هذا الايمان كانحطاط التربية و سوء البيئة و غيرهما من الحواجز التي تؤدي الي حجب الانسان عن خالقه و تماديه في الاثم.

و المراد من قوله تعالي: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ليس معناه3.

ص: 204


1- روح المعاني:(ج 6 ص 423).
2- سورة سبأ:آية:13.
3- سورة ص:آية:24.
4- سورة غافر:آية:28.
5- سورة هود:آية:40.
6- سورة الانعام:آية:37.
7- سورة المائدة:آية:103.

التلفظ بكلمة الشكر للّه،بل معناه صرف العبد جميع ما أنعم اللّه عليه فيما خلق لأجله و هذه مرتبة عظيمة لا تصدر إلا ممن عرف اللّه و اعتقد بأن جميع النعم و الخيرات صادرة منه،فيعمل علي تحصيل الخير و محاربة آفات نفسه،و حينئذ يكون من الشاكرين للّه و الشكر بهذا المعني من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل،و نعرض الي فصل آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر و حلاهم بأحسن الحلية،فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (1)و قال: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (2)و قال تعالي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (3)و قال تعالي: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمي إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (4)و قال تعالي: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (5)و قال تعالي:

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (6) و قال تعالي: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَي الْهُدي،وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ8.

ص: 205


1- سورة البقرة:آية:268.
2- سورة آل عمران:آية:6.
3- سورة آل عمران:آية:189.
4- سورة الرعد:آية 19.
5- سورة الزمر:آية:8.
6- سورة ص:آية:28.

هُديً وَ ذِكْري لِأُولِي الْأَلْبابِ (1) و قال تعالي: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْري تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (2).

استدل(ع)بالآيات الكريمة علي مدح العقلاء الكاملين و تفوقهم علي غيرهم فقد مدحهم تعالي بأحسن الصفات و أضفي عليهم أسمي النعوت، و نقدم بيانا موجزا عن مفادها حتي يتضح استشهاد الامام بها:

(الآية الاولي):

دلت علي أنه تعالي منح بعض عباده(الحكمة)و هي من أعظم المواهب و من أجل الصفات فقد قيل في تعريفها،انها العلم الذي تعظم منفعته و تجل فائدته.

و وصف تعالي من منح بها بأنه أوتي خيرا كثيرا كما أنه تعالي ذكر أنه لا يعلم معني الحكمة أو القرآن إلا أولو الألباب.

(الآية الثانية):

وصف تعالي فيها عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف:

1-الرسوخ في العلم.

2-الايمان باللّه.

3-العرفان بأن الكل من عند اللّه (3).

و حكم تعالي بأن المتصفين بهذه النعوت الشريفة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذوو الألباب.

(الآية الثالثة):

سبق الكلام في تفسيرها و بيانها.م.

ص: 206


1- سورة غافر:آية:52.
2- سورة الذاريات:آية:54.
3- أي كلا من المتشابه و المحكم.

(الآية الرابعة):

دلت علي التعجب و الانكار علي من يدعي المساواة بين العالم باحكام القرآن و بين غيره مع ان الفرق بينهما كالفرق بين الأعمي و البصير،و الحي و الميت!.

(الآية الخامسة):

دلت علي التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة اللّه و بين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي و الملذات و هو معرض عن ذكر اللّه،فكيف يكونان متساويين.

(الآية السادسة):

دلت علي أن القرآن الحكيم لما كان مشتملا علي أسرار عظيمة و معارف جليلة و آيات باهرة أنزله تعالي الي عباده ليتدبروه و يتفهموه،و لكن هذا التدبر إنما يظفر به من له تفكير سليم.

(الآية السابعة):

دلت علي أنه تعالي أورث بني إسرائيل الكتاب فجعلهم حملة له، و إنما منحهم ذلك ليكون هدي و ذكري لأولي الألباب.

(الآية الثامنة):

خاطب اللّه فيها نبيه(ص)بالاستمرار في الذكر و عدم الاعتناء بالجاهلين الذين لا يعون و لا يتدبرون دعوته فان شأنه(ص)الافاضة و نشر التعليم و بسط القوي الروحية و لم ينتفع بذلك الا المؤمنون،قال(ع):

«يا هشام:إن اللّه تعالي يقول في كتابه:«إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب» (1)-يعني عقل-و قال تعالي: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ6.

ص: 207


1- سورة ق:آية 36.

اَلْحِكْمَةَ (1) يعني الفهم و العقل».

ذكر(ع)أنه ليس المراد بالقلب الذي ذكر في الآية الاولي هو العضو الخاص الموجود في الانسان و سائر البهائم،بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية و الجزئية و يتوصل الي معرفة حقائق الأشياء و هو في الحقيقة الكيان المعنوي للانسان و أشارت الآية الثانية الي نعمته تعالي علي لقمان فقد وهبه الحكمة و هي من أفضل النعم و أجلها،و أخذ(ع) يتلو علي هشام بعض حكم لقمان و نصائحه فقال:

«يا هشام:ان لقمان قال لابنه:تواضع للحق تكن أعقل الناس و ان الكيس لدي الحق يسير،يا بني:إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوي اللّه،و حشوها الايمان،و شراعها التوكل، و قيمها العقل و دليلها العلم،و سكانها الصبر».

عرض(ع)في حديثه لبعض وصايا لقمان،فقد أوصي ولده بالتواضع للحق و هو أن لا يري الانسان لنفسه وجودا إلا بالحق و لا قوة له و لا لغيره إلا باللّه،و التواضع من أفضل الأعمال،و قد ورد عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنه قال:(من تكبر وضعه اللّه،و من تواضع للّه رفعه اللّه).

إن الانسان كلما تجرد عن الانانية و محا عن نفسه التكبر زاده اللّه شرفا و فضلا.

و شبه لقمان الدنيا بالبحر،و وجه الشبه تغير الدنيا و تغير أشكالها و صورها في كل لحظة فالكائنات التي فيها كالامواج التي تكون في البحر معرضا للزوال و الفناء،و يحتمل أن يكون وجه الشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس فكذلك الدنيا يعبر عليها الناس الي دار الآخرة و تكون1.

ص: 208


1- سورة لقمان:آية:11.

النفوس فيها كالمسافرين،و الابدان كالسفن و البواخر تنقلهم من دار الدنيا الي دار الخلود،و قد غرق عالم كبير من الناس في هذه الدنيا،و انما غرقوا لتهالكهم علي الشهوات،و إذا كانت الدنيا بحرا توجب الغرق و الهلاك، فلا نجاة منها و لا سلامة إلا بسفينة التقوي و الصلاح،و ليكن شراعها التوكل علي اللّه و الاعتماد عليه في جميع الامور،كما انه لا بد من عقل يكون قيما لتلك السفينة و ربانا لها،و العقل دليله العلم فان نسبته إليه كنسبة النور من السراج و الرؤية من البصر،و مع هذه الخصال لا بد من الصبر فان ارتقاء الانسان و قربه من ربه لا يحصل إلا بمجاهدات قوية للنفس و لننتقل الي مشهد آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:إن لكل شيء دليلا،و دليل العقل التفكر،و دليل التفكر الصمت،و لكل شيء مطية،و مطية العقل التواضع و كفي بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام:ما بعث اللّه أنبياءه و رسله الي عباده الا ليعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة،و أعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلا،و اكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة».

استدل عليه السلام في كلامه الاخير علي شرف الأنبياء و فضلهم بكمال عقولهم و قد قال النبي(ص)لأمير المؤمنين:يا علي إذا تقرب الناس الي خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه أنت بالعقل حتي تسبقهم»ان وفور العقل من أفضل ما يمنح به الانسان إذ به يتوصل الي سعادة الدنيا و الفوز في دار الآخرة.

قال عليه السلام:

«يا هشام:إن للّه علي الناس حجتين:حجة ظاهرة،و حجة باطنة فاما الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة(ع)و أما الباطنة فالعقول».

ص: 209

«يا هشام:ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره و لا يغلب الحرام صبره».

تعرض(ع)في الفقرات الاخيرة من كلامه الي بعض أحوال العقلاء من أنهم لا تمنعهم كثرة نعم اللّه عليهم من شكره تعالي كما لا تزيل صبرهم النوائب و الكوارث.

قال عليه السلام:

«يا هشام:من سلط ثلاثا علي ثلاث فكأنما أعان علي هدم عقله:

من أظلم نور تفكره بطول أمله،و محا طرائف حكمته بفضول كلامه، و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه علي هدم عقله،و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه».

تعرض(ع)في كلامه الي أن في الانسان قوتين متباينتين،و هما العقل و الهوي،و لكل واحدة منهما صفات ثلاث تضاد الصفات الأخري، فصفات العقل:التفكر و الحكمة و الاعتبار،و صفات الهوي:طول الامل و فضول الكلام،و الانغماس في الشهوات.

أما طول الامل في الدنيا فانه يمنع من التفكر في أمور الآخرة،و يحمل النفس علي الاقبال في أمور الدنيا،و هذا هو المراد من قوله(ع):«اظلم نور تفكره بطول أمله»ان طول الأمل يبدد نور الفكر بالظلمة و يحجبه عن الانطلاق في ميادين الخير.

أما فضول الكلام فانه يمحي طرائف الحكمة من النفس.

و أما الاشتغال باللذات و الانصراف الي الشهوات فانه يعمي القلب و يذهب بنور الايمان و يطفئ نور الاستبصار و الاعتبار من النفس فمن سلط هذه الخصال الشريرة علي نفسه فقد أعان علي هدم عقله،و من هدم عقله فقد أفسد دينه و دنياه.

ص: 210

قال عليه السلام:

«يا هشام:كيف يزكو (1)عند اللّه عملك و أنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك،و أطعت هواك عن غلبة عقلك.

يا هشام:الصبر علي الوحدة علامة قوة العقل،فمن عقل عن اللّه (2)اعتزل أهل الدنيا و الراغبين فيها،و رغب فيما عند اللّه،و كان اللّه آنسه في الوحشة و صاحبه في الوحدة و غناه في العيلة،و معزه من غير عشيرة.

يا هشام:نصب الحق (3)لطاعة اللّه،و لا نجاة الا بالطاعة،و الطاعة بالعلم و العلم بالتعلم،و التعلم بالعقل يعتقد (4)و لا علم إلا من عالم رباني، و معرفة العلم بالعقل.

يا هشام:قليل العمل من العالم مقبول مضاعف«و كثير العمل من أهل الهوي و الجهل مردود».

مراده(ع)أن قليل العمل من العالم مقبول و سببه أن بالعلم صفاء القلوب و طهارة النفوس و التوصل الي معرفة اللّه عز شأنه.

و فضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيرها في صفاء القلب و إزالة الحجب و الظلمة عن النفس،و هي تختلف بحسب الاشخاص فرب انسان يكفيه قليل العمل في صفاء نفسه نظرا للطافة طبعه،ورقة حجابه،و رب انسان لا يؤثرم.

ص: 211


1- يزكو:الزكاة لغة الطهارة و النماء و هي تطلق علي العين و المعني فيقال:زكي ماله-أي نما ماله-و يقال زكي عمله-أي طهر عمله،و يحتمل كلا المعنيين في المقام.
2- أي حصلت له معرفة اللّه و العلم بصفاته و أحكامه و شرائعه.
3- نصب الحق:مبني للمجهول-أي وجد الحق لطاعة اللّه.
4- يعتقد-أي يشتد و يستحكم.

العمل الطيب الذي يصدر منه في صفاء ذاته.نظرا لكثافة طبعه و كثرة الحجب علي نفسه.

قال(ع):

«يا هشام:إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة،و لم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا فلذلك ربحت تجارته.

يا هشام:إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟و ترك الدنيا من الفضل،و ترك الذنوب من الفرض».

قال(ع):

يا هشام:إن العاقل نظر الي الدنيا و الي أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة،و نظر الي الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة،فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام:إن العقلاء زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة،لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة و الآخرة طالبة و مطلوبة فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتي يستوفي منها رزقه،و من طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه و آخرته».

و توضيح الفقرات الاخيرة من حديثه(ع)قوله:«الدنيا طالبة مطلوبة»يعني أن الدنيا توصل الرزق المقدر الي من هو فيها،و بهذا الاعتبار تكون طالبة،و أما مطلوبيتها فهو سعي أبنائها و جدهم لتحصيل نعمها،و أما طلب الآخرة فهو إتيان الموت و حلول الأجل المحتوم لجميع من في الدنيا فهي تطلبهم لتنقلهم من الدنيا إليها،و أما مطلوبيتها فهو سعي أبنائها الصلحاء في تحصيل الأعمال الصالحة ليكونوا آمنين من العقاب و العتاب قال(ع):

«يا هشام:من أراد الغني بلا مال و راحة القلب من الحسد،

ص: 212

و السلامة في الدين.فليتضرع الي اللّه عز و جل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه،و من قنع بما يكفيه استغني و من لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا.

يا هشام:ان اللّه حكي عن قوم صالحين أنهم قالوا:ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب،حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود الي عماها و رداها،انه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه،و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه علي معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه و لا يكون أحد كذلك الا من كان قوله لفعله مصدقا و سره لعلانيته موافقا،لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل علي الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

أشار الامام(ع)بكلامه الاخير الي ان المؤمن اذا لم يكن قلبه مستضيئا بنور اللّه تعالي و عقله مهتديا بهدي اللّه،فانه لا يكون آمنا من الزيغ كما لا يكون آمنا من الارتداد بعد الدخول في حظيرة الاسلام،و قد أشار القرآن الكريم الي هذه الظاهرة قال تعالي:و ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلي قُلُوبِهِمْ و قال تعالي: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ و لذلك يدأب الصالحون بالسؤال من اللّه في أن لا تزيغ قلوبهم و أن لا يضلوا عن دينه فان النفوس البشرية بحسب نشأتها و خلقتها إذا لم يساعدها التوفيق لا تنجو من وساوس الشيطان و غوايته.

قال(ع):

«يا هشام كان أمير المؤمنين(ع)يقول:ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل،و ما تم عقل امرئ حتي يكون فيه خصال شتي:الكفر و الشر منه مأمونان،و الرشد و الخير منه مأمولان،و فضل ماله مبذول،و فضل قوله مكفوف،و نصيبه من الدنيا القوت،لا يشبع من العلم دهره،الذل

ص: 213

أحب إليه مع اللّه من العز مع غيره،و التواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره،و يستقل كثير المعروف من نفسه و يري الناس كلهم خيرا منه،و انه شرهم في نفسه،و هو تمام الامر).

استدل(ع)علي مقصوده بكلام جده أمير المؤمنين(ع)الذي تعرض فيه لصفات العقلاء و خصائص أفعالهم.

قال(ع):

يا هشام:إن العاقل لا يكذب و ان كان فيه هواه.

يا هشام:لا دين لمن لا مروة له،و لا مروة لمن لا عقل له،و ان أعظم الناس قدرا الذي لا يري الدنيا لنفسه خطرا.أما إن أبدانكم ليس لها ثمن الا الجنة فلا تبيعوها بغيرها».

و توضيح ما أفاده في قوله عليه السلام:«أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها»:هو أنه لا يليق أن يكون ثمنا لهذه الابدان سوي الجنة،و نقل صاحب الوافي عن استاذه إيضاحا لمقالة الامام ما نصه:

«إن الابدان في التناقص يوما فيوما و ذلك لتوجه النفس منها الي عالم آخر فان كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا و انقطاع حياته البدنية الي اللّه سبحانه و الي نعيم الجنان لكونه علي منهج الهداية و الاستقامة فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع اللّه تعالي،و لهذا خلقه اللّه عز و جل و ان كانت شقية كانت غاية سعيه و انقطاع أجله و عمره الي مقارنة الشيطان و عذاب النيران لكونه علي طريق الضلالة فكأنه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية و اللذات الحيوانية التي ستصير نيرانا محرقة و هي اليوم كامنة مستورة عن حواس أهل الدنيا و ستبرز يوم القيامة«و برزت الجحيم لمن يري»معاملة

ص: 214

مع الشيطان و خسر هنالك المبطلون» (1).

قال(ع):

«يا هشام إن أمير المؤمنين(ع)كان يقول:إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال:يجيب إذا سئل،و ينطق إذا عجز القوم عن الكلام و يشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله،فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق».

إن أمير المؤمنين(ع)قال:لا يجلس في صدر المجلس الا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهن فمن لم يكن فيه شيء فجلس فهو أحمق.

و قال الحسن بن علي(ع):إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، فقيل له:يا ابن رسول اللّه و من أهلها؟.

-الذين قصهم اللّه في كتابه و ذكرهم فقال:إنما يتذكر أولو الألباب قال:هم أولو العقول.

و قال علي بن الحسين(ع):مجالسة الصالحين داعية الي الصلاح و آداب العلماء زيادة في العقل،و طاعة ولاة العدل تمام العز،و استثمار المال تمام المروة و ارشاد المستشير قضاء النعمة،و كف الأذي من كمال العقل،و فيه راحة البدن عاجلا و آجلا.

يا هشام:ان العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه،و لا يسأل من يخاف منعه،و لا يعد ما لا يقدر عليه،و لا يرجو ما يعنف برجائه،و لا يقدم علي ما يخاف فوته بالعجز عنه».

أشار(ع)بهذه الفقرات الاخيرة الي حزم العاقل و احتياطه في أقواله و تحفظه علي شرفه و منزلته،و توقفه من الاقدام علي ما لا يثق بحصوله.ي.

ص: 215


1- الوافي.

و انتهت هذه الرسالة الرفيعة علي رواية ثقة الاسلام الشيخ الكليني (1)و قد ذكر زيادة عليها الحسن بن علي الحراني في كتابه(تحف العقول) و قد أهملها الكليني،و قد رأينا أن نقتطف منها بعض الوصايا من دون أن نعلق عليها إيثارا للاختصار و إتماما للفائدة و الي القراء ذلك، قال(ع):

«يا هشام:من كف نفسه عن أعراض الناس أقاله اللّه من عثرته يوم القيامة،و من كف غضبه عن الناس كف اللّه عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام:وجد في ذوابة (2)سيف رسول اللّه(ص)إن أعتي الناس علي اللّه من ضرب غير ضاربه و قتل غير قاتله.و من تولي غير مواليه فهو كافر بما أنزل اللّه علي نبيه محمد(ص)و من أحدث حدثا (3)أو آوي محدثا لم يقبل اللّه منه يوم القيامة صرفا و لا عدلا.

يا هشام أفضل ما يتقرب به العبد الي اللّه بعد المعرفة به الصلاة و بر الوالدين و ترك الحسد و العجب و الفخر.

يا هشام:اصلح يومك الذي هو أمامك،فانظر أي يوم هو،و اعدّ له الجواب،فانك موقوف و مسئول.و خذ موعظتك من الدهر و أهله، الي أن قال:و انظر في تصرف الدهر و أحواله،فان ما هو آت من الدنيا كما ولي منها،فاعتبر بها،و قال علي بن الحسين(ع):«إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض و مغاربها بحرها و برها و سهلهاة.

ص: 216


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 13-20)و ذكرت أيضا في الوافي (ج 1 ص 26-28).
2- الذوابة:من كل شيء أعلاه و من السيف علاقته،و من السوط طرفه.
3- الحدث:الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد و لا معروف في السنة.

و جبلها عند ولي من أولياء اللّه و اهل المعرفة بحق اللّه كفيء الظلال،ثم قال(ع):أو لا حر يدع هذه اللماظة (1)-يعني الدنيا-لأهلها فليس لأنفسكم ثمن الا الجنة فلا تبيعوها بغيرها،فانه من رضي من اللّه بالدنيا فقد رضي بالخسيس.

يا هشام:ان كل الناس يبصرون النجوم و لكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها و منازلها،و كذلك انتم تدرسون الحكمة،و لكن لا يهتدي بها منكم الا من عمل بها.

يا هشام:مكتوب في الانجيل:«طوبي للمتراحمين،أولئك هم المرحومون يوم القيامة.طوبي للمطهرة قلوبهم،أولئك هم المتقون يوم القيامة.طوبي للمتواضعين في الدنيا،أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.

يا هشام:قلة المنطق حكمة عظيمة.فعليكم بالصمت،فانه دعة حسنة و قلة وزر،و خفة من الذنوب.فحصنوا باب الحلم،فان بابه الصبر،و ان اللّه عز و جل يبغض الضحاك من غير عجب،و المشاء الي غير إرب،و يجب علي الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيته،و لا يتكبر عليهم، فاستحيوا من اللّه في سرائركم،كما تستحيون من الناس في علانيتكم،و اعلموا ان الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن،فعليكم بالعلم قبل أن يرفع و رفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.

يا هشام:تعلم من العلم ما جهلت،و علم الجاهل مما علمت،عظم العالم لعلمه،و دع منازعته،و صغر الجاهل لجهله،و لا تطرده و لكن قرّبه و علمه.ا.

ص: 217


1- اللماظة:بالضم بقية الطعام الذي يكون في الفم،و بقية الشيء القليل،و المراد بها هنا الدنيا.

يا هشام:ان كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها، و قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:«ان للّه عبادا كسرت قلوبهم خشيته فأسكتتهم عن المنطق،و انهم لفصحاء عقلاء،يستبقون الي اللّه بالأعمال الزكية،لا يستكثرون له الكثير و لا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل،يرون في أنفسهم أنهم أشرار و أنهم لأكياس و أبرار.

يا هشام:الحياء من الايمان،و الايمان في الجنة،و البذاء من الجفاء، و الجفاء في النار.

يا هشام:المتكلمون ثلاثة:فرابح،و سالم،و شاجب (1)فأما الرابح فالذاكر للّه،و أما السالم فالساكت،و أما الشاجب فالذي يخوض في الباطل،ان اللّه حرم الجنة علي كل فاحش بذي قليل الحياء لا يبالي ما قال و لا ما قيل فيه،و كان أبو ذر(رضي اللّه عنه)يقول:«يا مبتغي العلم ان هذا اللسان مفتاح خير و مفتاح شر،فاختم علي فيك كما تختم علي ذهبك و ورقك».

يا هشام:بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين،يطري أخاه اذا شاهده،و يأكله اذا غاب عنه،ان أعطي حسده،و ان أبتلي خذله، ان أسرع الخير ثوابا البر،و أسرع الشر عقوبة البغي،و ان شر عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه،و هل يكب الناس علي مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم،و من حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه.

يا هشام:لا يكون الرجل مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا،و لا يكون خائفا راجيا حتي يكون عاملا لما يخاف و يرجو.

يا هشام:قال اللّه عز و جل:و عزتي و جلالي و عظمتي و قدرتي و بهائي و علوي في مكاني لا يؤثر عبد هواي علي هواه الا جعلت الغني في نفسه،ب.

ص: 218


1- الشاجب:كثير الهذيان و الكلام،و الهالك هو الأنسب.

وهمه في آخرته،و كففت عليه في ضيعته،و ضمنت السماوات و الارض رزقه،و كنت له من وراء تجارة كل تاجر.

يا هشام:عليك بالرفق،فان الرفق يمن،و الخرق شؤم،ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر الديار و يزيد في الرزق.

يا هشام قول اللّه تعالي: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ .جرت في المؤمن و الكافر و البر و الفاجر،من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به،و ليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتي تري فضلك،فان صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء.

يا هشام:إن مثل الدنيا مثل الحية مسها لين.و في جوفها السم القاتل يحذرها الرجال ذوو العقول و يهوي إليها الصبيان بأيديهم.

يا هشام:اصبر علي طاعة اللّه،و اصبر عن معاصي اللّه،فانما الدنيا ساعة،فما مضي منها فليس تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت منها فليس تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت.

يا هشام:مثل الدنيا مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتي يقتله.

يا هشام:إياك و الكبر فانه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر،الكبر رداء اللّه فمن نازعه رداءه أكبه اللّه في النار علي وجهه.

يا هشام:ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،فان عمل حسنا استزاد منه و ان عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب إليه.

يا هشام تمثلت الدنيا للمسيح(ع)في صورة امرأة زرقاء فقال لها:

كم تزوجت؟فقالت:كثيرا،قال:فكل طلقك؟فقالت:بل كلا قتلت قال المسيح فويح لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين.

ص: 219

يا هشام:ان ضوء الجسد في عينه،فان كان البصر مضيئا استضاء الجسد كله،و ان ضوء الروح العقل،فان كان العبد عاقلا كان عالما بربه.

و اذا كان عالما بربه أبصر دينه،و اذا كان جاهلا بربه لم يقم له دين، و كما لا يقوم الجسد الا بالنفس الحية فكذلك لا يقوم الدين الا بالنية الصادقة و لا تثبت النية الصادقة الا بالعقل.

يا هشام:ان الزرع ينبت في السهل و لا ينبت في الصفا (1)فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع و لا تعمر في قلب المتكبر الجبار،لأن اللّه جعل التواضع آلة العقل،و جعل التكبر من آلة الجهل،أ لم تعلم أن من شمخ الي السقف برأسه شجبه،و من خفض رأسه استظل تحته و أكنه، و كذلك من لم يتواضع للّه خفضه اللّه و من تواضع للّه رفعه.

يا هشام:ما أقبح الفقر بعد الغني،و أقبح الخطيئة بعد النسك،و أقبح من ذلك العابد للّه ثم يترك عبادته.

يا هشام:لا خير في العيش إلا لرجلين:لمستمع واع،و عالم ناطق.

يا هشام:ما قسم بين العباد أفضل من العقل،نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل.

يا هشام:قال رسول اللّه(ص):اذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فانه يلقي الحكمة،و المؤمن قليل الكلام كثير العمل و المنافق كثير الكلام قليل العمل.

يا هشام:أوحي اللّه تعالي الي داود(ع)قل لعبادي:لا يجعلوا بيني و بينهم عالما مفتونا بالدنيا فيصدهم عن ذكري،و عن طريق محبتي و مناجاتي أولئك قطاع الطريق من عبادي،ان أدني ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي و مناجاتي من قلوبهم.د.

ص: 220


1- الصفا:الحجر الصلد.

يا هشام:من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء و ملائكة الارض، و من تكبر علي اخوانه و استطال عليهم فقد ضاد اللّه،و من ادعي ما ليس له فهو أعني لغير رشده.

يا هشام أوحي اللّه تعالي الي داود،يا داود حذر و أنذر أصحابك عن حب الشهوات فان المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني.

يا هشام:اياك و الكبر علي أوليائي و الاستطالة بعلمك فيمقتك اللّه فلا تنفعك بعد مقته دنياك و لا آخرتك،و كن في الدنيا كساكن دار ليست له إنما ينتظر الرحيل.

يا هشام:مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة،و مشاورة العاقل الناصح يمن و بركة و رشد و توفيق من اللّه،فاذا أشار عليك العاقل الناصح فاياك و الخلاف فان في ذلك العطب (1).

يا هشام:اياك و مخالطة الناس و الأنس بهم الا ان تجد منهم عاقلا و مأمونا فانس به و اهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية،و ينبغي للعاقل اذا عمل عملا أن يستحي من اللّه،و اذا تفرد له بالنعم أن يشارك في نعمه أحدا غيره،و اذا مر بك أمران لا تدري أيهما خير و أصوب،فانظر أيهما أقرب الي هواك فخالفه،فان كثير الصواب في مخالفة هواك،و اياك أن تطلب الحكمة و تضعها في الجهال.

فانبري إليه هشام قائلا:

«فان وجدت رجلا طالبا لها غير أن عقله لا يتسع لضبط ما ألقي إليه».

فتلطف له في النصيحة،فان ضاق قلبه فلا تعرض نفسك للفتنة.

ثم انه استرسل عليه السلام في حديثه فقال:و احذر رد المتكبرين،ك.

ص: 221


1- العطب:الهلاك.

فان العلم يذل علي ان يملي علي من لا يفيق،فقال هشام:فان لم أجد من يعقل السؤال عنها؟فقال(ع):فاغتنم جهله عن السؤال حتي تسلم من فتنة القول و عظيم فتنة الرد،و اعلم أن اللّه لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم و لكن رفعهم بقدر عظمته و مجده،و لم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم و لكن آمنهم بقدر كرمه و جوده،و لم يفرح المحزونين بقدر حزنهم و لكن بقدر رأفته و رحمته،فما ظنك بالرءوف الرحيم الذي يتودد الي من يؤديه بأوليائه،فكيف بمن يؤذي فيه؟و ما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب علي من يعاديه،فكيف بمن يترضاه،و يختار عداوة الخلق فيه.

يا هشام:من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه،و ما أوتي عبد علما فازداد للدنيا حبا الا ازداد من اللّه بعدا،و ازداد اللّه عليه غضبا.

يا هشام:ان العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له به،و اكثر الصواب في خلاف الهوي،و من طال أمله ساء عمله.

يا هشام:لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل!!.

يا هشام:اياك و الطمع،و عليك باليأس مما في أيدي الناس،و أمت الطمع من المخلوقين،فان الطمع مفتاح للذل،و اختلاس للعقل و اختلاق للمروات،و تدنيس للعرض،و ذهاب للعلم،و عليك بالاعتصام بربك و التوكل عليه،و جاهد نفسك لتردها عن هواها فانه واجب عليك كجهاد عدوك،فقال له هشام:

فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟.

-أقربهم إليك و أعداهم لك،و أضرهم بك و أعظمهم لك عداوة، و أخفاهم لك شخصا مع دنوه منك،و من يحرض عليك أعداءك و هو إبليس الموكل بوسواس القلوب فله فلتشتد عداوتك،و لا يكونن أصبر علي مجاهدتك لهلكتك منك علي صبرك لمجاهدته فانه أضعف منك في قوته،و أقل

ص: 222

ضررا في كثرة شره،اذا أنت اعتصمت باللّه فقد هديت الي صراط مستقيم.

يا هشام:من اكرمه اللّه بثلاث فقد لطف له،عقل يكفيه مؤونة هواه،و علم يكفيه مؤونة جهله،و غني يكفيه مخافة الفقر.

يا هشام:احذر هذه الدنيا و احذر أهلها،فان الناس فيها علي أربعة أصناف:رجل متردي معانق لهواه،و متعلم مقري كلما ازداد علما ازداد كبرا يستعلي بقراءته و علمه علي من هو دونه،و عابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته،يحب أن يعظم و بوقر،و ذي بصيرة عالم عارف بطريق الحق يحب القيام به و لكنه عاجز أو مغلوب فلا يقدر علي القيام بما يعرفه،فهو محزون مغموم بذلك و هو أمثل أهل زمانه و أوجههم عقلا» (1)الي هنا ينتهي بنا الحديث في هذه الوصية القيمة التي حوت أصول الفضائل و الآداب و قواعد السلوك و الاخلاق،و قد وضع فيها المناهج العامة لما يصلح الحياة الفردية و الاجتماعية.

رسالته في التوحيد:

و من تراثه القيم رسالته في التوحيد و هي-علي ايجازها-مدعمة بالحجج الكلامية علي وجود اللّه تعالي،و بيان صفاته الايجابية و السلبية،و قد كانت هذه الرسالة-فيما يرويه المؤرخون-جوابا عن رسالة وجهها إليه الفتح بن عبد اللّه يسأله عن ذلك فأجابه(ع)بعد البسملة بما نصه:

«الحمد للّه الملهم عباده حمده،و فاطرهم علي معرفة ربوبيته،الدال

ص: 223


1- تحف العقول:ص 390-400.

علي وجوده بخلقه،المستشهد بآياته علي قدرته (1)الممتنعة من الصفات ذاته (2)و من الأبصار رؤيته (3)و من الأوهام الاحاطة به (4)لا أمد لكونه (5)و لا غاية لبقائه (6)لا تشمله المشاعر،و لا تحجبه الحجب (7)و الحجاب بينه و بين خلقه خلقه إياهم،لامتناعه مما يمكن في ذواتهم (8)و لا مكانة:

ص: 224


1- أراد(ع)أن اللّه استشهد علي قدرته الباهرة بآياته العظيمة كخلق السماوات و الأرض و الشمس و القمر،و يعبر عنها بالآيات الافقية،و بخلق الأرواح و العقول و النفوس و ادراكاتها و تسمي بالآيات النفسية و هي تدل علي عظيم قدرته تعالي.
2- اشار(ع)الي أن صفات اللّه عين ذاته تعالي و ليست عارضة عليه كعروضها علي الممكن،و قد أقيمت الأدلة الوافرة في علم الكلام علي ذلك
3- أراد(ع)أن الأبصار تمتنع من رؤيته تعالي،و فيه ايماء لطيف الي عدم امتناع ادراك البصائر و القلوب من رؤيته،و لكنها تراه بنور المعرفة و حقيقة الايمان كما قال(ع):«و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان).
4- أراد(ع)ان اللّه يحيط بما سواه فكيف يحيط به شيء من الأوهام التي لا تتعلق الا بالمعاني الجزئية المحدودة.
5- اي انه تعالي فوق الآجال و الازمنة فلا أمد له،فان الزمان مخلوق له.
6- المراد:ان بقاء اللّه تعالي قائم بذاته لا بصفة عارضة.
7- المراد:انه تعالي لا يمكن أن تحجبه الحجب فانها مختصة بالجسمانيات الحادثة التي أفاض تعالي عليها الوجود.
8- يعني انه تعالي يمتنع عليه ما يمكن في ذوات عباده من الاحداث و الأمور الناقصة:

مما يمتنع منه (1)و لافتراق الصانع من المصنوع و الحاد من المحدود و الرب من المربوب (2)الواحد بلا تأويل عدد (3)و الخالق لا بمعني حركة (4)و البصير لا بأداة و السميع لا بتفريق آلة (5).ب.

ص: 225


1- أراد(ع)ان الصفات التي يمتنع جريانها علي ذاته تعالي هي الصفات الممكنة،و يراد بالامكان الامكان العام الشامل للامتناع،و عليه فتوصف بالامتناع في مقام حملها عليه تعالي،و في بعض النسخ«و لا مكان ذواتهم مما يمنع منه ذاته»و المراد منها ان ذوات العباد متصفة بالامكان الخاص،و يمتنع ان يتصف به تعالي لأنه واجب الوجود.
2- المراد:ان ذات الصانع تفترق عن ذات المصنوع،و وجهه كمال الصانع،و نقص المصنوع،و كذلك يفترق الحاد عن المحدود فان الحاد هو اللّه تعالي،و هو غير متناه،و المحدود هو الانسان و هو متناه.أما أدلة ذلك فقد تعرضت له كتب الحكمة و الكلام.
3- المراد:ان وحدة اللّه و وحدة صفاته ليست من باب الأعداد التي تحصل كثرتها من تكرر العدد،فوحدة علم اللّه لا ثاني لها خارجا و لا ذهنا و كذا وحدة قدرته و ارادته و سائر صفاته،فلا تدخل تلك الوحدة في باب الاعداد فان وحدة كل شيء ليست الا نفس وجوده الخاص،و اذا كان وجود اللّه لا مثل له خارجا و لا ذهنا فكذلك وحدته تكون خاصة غير داخلة في باب الاعداد.
4- يعني ان خلق اللّه و إيجاده للاشياء انما هو من باب الافاضة و الابداع لا من باب المباشرة و العمل،كما ان الحركة انما هي من عوارض الاجسام و هو منزه عنها.
5- ان اللّه لو كان مفتقرا في صفاته الي آلة للزم إمكانه،فان المفتقر للغير انما هو الممكن لا الواجب.

و الشاهد لا بمماسة (1)و الباطن لا باجتنان (2)و الظاهر البائن لا بتراخي مسافة (3)أزله نهي لمجاول الأفكار (4)و دوامه ردع لطامحات العقول (5)قد حسر كنهه نوافذ الأبصار،و قمح وجوده جوائل الأوهام (6)أول الديانة به معرفته (7)و كمال معرفته توحيده،و كمال توحيده نفي الصفاته.

ص: 226


1- المماسة:من خواص الاجسام و هو تعالي منزه عنها فلا تعرض عليه أوصافها.
2- الاجتنان:الاستتار،و المراد ان العقول لا تصل الي ادراك كنهه لا من جهة استتاره بستر أو حجاب،و انما هي قاصرة عن ادراكه و تصوره.
3- مراده ان اللّه تعالي في غاية الظهور لأن وجوده مجرد عن الحجب أو الغواشي الساترة،و انما كان تعالي بائنا لا بتراخي مسافة لأنه تعالي منزه عن الأبعاد و المسافات و الحركات فانما يتصف بها الممكن لا الواجب.
4- المراد أن أزلية اللّه ليست من الأزمنة و انما هي فوق الزمان فلا سبيل الي العقول-التي هي من الزمنيات-ان تدرك أزليته تعالي.
5- اراد(ع)أن دوام اللّه و بقاءه محيطان بالأزمان و الآباد،و العقول لا تتوصل الي ادراك ذلك.
6- المراد:ان اللّه تعالي قد قهر بوجوده أن تجول فيه الأوهام فتصل الي ادراك كنهه.
7- يعني أن اول الدين و بدايته أن يعرف الانسان أن للعالم صانعا و مدبرا،و للمعرفة مراتب و هي: 1-التصديق بوجوده تعالي. 2-تفرده بالألوهية،و نفي الشريك عنه. 3-مرتبة الاخلاص و الايمان بقدرته و صفاته المتحدة مع ذاته.

عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف.و شهادة الموصوف أنه غير الصفة و شهادتهما جميعا بالتثنية،الممتنع منه الأزل،فمن وصف اللّه فقد حده (1).

و من حده فقد عده (2)و من عده فقد أبطل أزله (3)و من قال:

كيف؟فقد استوصفه (4)و من قال:فيم فقد ضمنه،و من قال علي م؟ فقد جهله (5)و من قال:اين فقد أخلي منه (6)و من قال ما هو فقدة.

ص: 227


1- المراد:أن من وصف اللّه بصفة و لم يجعلها عين ذاته فقد جعله محدودا فان كل صفة تكون غير الذات لا بد أن تقع تحت مقولة من المقولات التسع،و لها حد خاص،و الوجود لا يعرض عليها الا بعد ان تكون لها حدود معينة،و الحال ان اللّه هو الذي يفيض الوجود علي غيره فكيف يوصف بهذه الصفة العارضة.
2- اراد(ع)أن من يحد اللّه فقد جعله من جملة المعدودات،و قد بينا استحالة ذلك بالنسبة إليه تعالي.
3- المراد:ان كل معدود مفتقر في وجوده الي غيره،و كل من كان مفتقرا الي غيره فهو مسبوق بالعدم،و من جعل اللّه في سلسلة المعدودات فقد أبطل أزليته.
4- يعني أن من قال بذلك فقد جعل للّه وصفا زائدا علي ذاته،و قد بينا امتناع ذلك.
5- ان القول بذلك مستلزم لاثبات الجسمانية للّه،و هي مستحيلة بالنسبة إليه تعالي.
6- يعني أن من قال بذلك فقد أخلي منه تعالي سائر الامكنة،و الحال أن كل ذرة من ذرات الكون لا تخلو منه تعالي و لكن لا علي وجه الحلول و قد استدل علي ذلك في علوم الحكمة.

نعته (1)و من قال:الي م؟فقد غاياه،عالم اذ لا معلوم،و خالق اذ لا مخلوق،و رب اذ لا مربوب،و كذلك يوصف ربنا،و فوق ما يصفه الواصفون (2)..» (3).

و بهذا تنتهي هذه الرسالة المنعمة بأصول التوحيد و قواعده،و قد أثر كثير منها عن الامام أمير المؤمنين(ع)و لكن أئمة أهل البيت(ع) كثيرا ما تتشابه كلماتهم في علم التوحيد فهم واضعوا قواعده و اصوله و منشؤا ادلته و براهينه،فبهم عرف هذا العلم،و منهم استمدت أصوله و قواعده.

البداء:

اشارة

و مسألة البداء من غوامض المسائل الكلامية و أكثرها تعقيدا،و قد وقع الخلاف فيه بين المسلمين،فأجمعت الشيعة علي صحته و الالتزام به، و أنكره أهل السنة و الجماعة،و قد شهروا به علي الشيعة،و عدوه-فيما يرونه-من المؤاخذات التي تواجه كيانهم العقائدي.و لعل السبب-فيما

ص: 228


1- المراد:أن كلمة(ما هو؟)تقع في السؤال عن ماهية الشيء -التي تسمي بما الحقيقية-و تقع في جوابها النعوت الكلية الذاتية المركبة من الجنس و الفصل القريبين،و الحال ان وجوده تعالي وجود بحت بلا ماهية، و كل ما لا ماهية له لا نعت له كما هو مقرر في فن الحكمة.
2- المراد:ان عقول الواصفين لا يمكن أن تدرك كنه كماله تعالي لأنه فوق عقولهم فانها من الممكنات المتناهية،و هي لا يمكن أن تحيط بكنه غير المتناهي.
3- اصول الكافي 139/1-140.

نحسب-يعود الي أنه لم يتضح لهم بصورة موضوعية معني البداء و حقيقته الذي تقول به الشيعة فأنكروه عليهم،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عنه قبل أن نعرض الي رأي الامام فيه.

المعني اللغوي:

البداء في اللغة-اسم ممدود-مشتق من البدو و هو الظهور،و هو اسم لرأي حادث متجدد يستصوبه صاحبه،و يقدمه علي رأيه الأول (1)و في الحديث«بدا للّه عز و جل أن يبتليهم»أي قضي بذلك و هو معني البداء (2).

حقيقته عند الشيعة:

و التزمت الشيعة بالبداء،و صرحت به أئمة أهل البيت(ع)فقد ورد عنهم أنه«ما عبد اللّه بشيء مثل البداء»و قد أثبت العلماء الأعلام بالأدلة الوافرة امكانه و ضرورة الالتزام به و لكن لا علي إطلاقه-كما سنوضحه- و ممن بحث عنه بصورة موضوعية و شاملة آية اللّه العظمي السيد أبو القاسم الخوئي فقد قرره في بحثه كما كتبه في(بيانه)،و نسوق نص ما كتبه في (البيان)قال ما نصه:

«ان البداء الذي تقول به الشيعة الامامية انما يقع في القضاء غير المحتوم أما المحتوم منه فلا يتخلف،و لا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء و توضيح ذلك:ان القضاء علي ثلاثة أقسام:

الأول:قضاء اللّه الذي لم يطلع عليه احدا من خلقه،و العلم المخزون الذي استأثر به نفسه.و لا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم،بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت(ع)ان البداء إنما ينشأ

ص: 229


1- الصحاح:القاموس،أساس البلاغة.
2- البداية:109/1.

من هذا العلم.

روي الشيخ الصدوق في(العيون)باسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا(ع)قال لسليمان المروزي:رويت عن أبي عبد اللّه(ع)أنه قال:ان للّه عز و جل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء،و علما علمه ملائكته و رسله فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه و روي الشيخ محمد بن الحسن الصفار في(بصائر الدرجات)باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)قال:إن للّه علمين:علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء،و علم علمه ملائكته و رسله و أنبياءه و نحن نعلمه (1).

الثاني:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بأنه سيقع حتما،و لا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء،و ان افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه.

قال الرضا(ع)لسليمان المروزي في الرواية المتقدمة عن الصدوق:

إن عليا كان يقول:العلم علمان،فعلم علمه اللّه ملائكته و رسله،فما علمه ملائكته و رسله فانه يكون،و لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله،و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو و يثبت ما يشاء (2).

و روي العياشي عن الفضيل.قال:سمعت أبا جعفر(ع)يقول:

من الامور أمور محتومة جائية لا محالة،و من الامور أمور موقوفة عند اللّهر.

ص: 230


1- و رواه الشيخ الكليني عن أبي بصير.الوافي باب البداء(ج 1 ص 113).
2- و رواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر(ع) نفس المصدر.

يقدم منها ما يشاء،و يمحو ما يشاء،و يثبت منها ما يشاء،لم يطلع علي ذلك أحدا-يعني الموقوفة-فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه،و لا نبيه،و لا ملائكته.

الثالث:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بوقوعه في الخارج الا أنه موقوف علي أن لا تتعلق مشيئة اللّه بخلافه.و هذا القسم هو الذي يقع فيه البداء«يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.للّه الامر من قبل و من بعد».

و قد استدل-سماحته-علي ان البداء الذي تقول به الشيعة:هو القسم الثالث من القضاء-بجملة من الاخبار و الروايات المأثورة عن اهل البيت(ع)و أضاف بعد ذلك إيضاحا وافيا لحقيقة البداء بقوله:

و البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو و الاثبات و الالتزام بجواز البداء لا يستلزم نسبة الجهل الي اللّه سبحانه،و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله.

فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان اللّه و قدرته في حدوثه و بقائه،و ان ارادة اللّه نافذة في الأشياء أزلا و أبدا بل و في القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الالهي و بين علم المخلوقين فعلم المخلوقين-و ان كانوا أنبياء أو أوصياء-لا يحيط بما أحاط به علمه تعالي فان بعضا منهم و ان كان عالما-بتعليم اللّه اياه-بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم اللّه المخزون الذي استأثر به لنفسه،فانه لا يعلم بمشيئة اللّه تعالي-لوجود شيء-أو عدم مشيئته الا حيث يخبره اللّه تعالي به علي نحو الحتم.

و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد الي اللّه و طلبه اجابة دعائه منه، و كفاية مهماته،و توفيقه للطاعة،و ابعاده عن المعصية،فان انكار البداء

ص: 231

و الالتزام بأن ما جري به قلم التقدير كائن لا محالة-دون استثناء-يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن اجابة دعائه.فان ما يطلبه العبد من ربه و ان كان قد جري قلم التقدير بانفاذه فهو كائن لا محالة،و لا حاجة الي الدعاء و التوسل.و إن كان قد جري القلم بخلافه لم يقع أبدا،و لم ينفعه الدعاء و لا التضرع.و اذا يئس العبد من اجابة دعائه ترك التضرع لخالقه حيث لا فائدة في ذلك.و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين(ع)انها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد (1).

و دعم السيد قوله بعد هذا بالآيات و الأخبار الواردة من الفريقين علي ضرورة البداء و لزوم القول به.

هذا هو رأي الشيعة في البداء-كما أفاده آية اللّه الخوئي-و هو صريح واضح يقضي بصحته الدليل و يعضده البرهان.

الانكار علي الشيعة:

و البداء الذي تلتزم به الشيعة-كما ذكرنا-لا يشذ عن القواعد العلمية و لا يخالف قاعدة اسلامية و لكن خصومهم قد شهروا به عليهم ففسروه بتفسير مجاف لما تراه الشيعة،و فيما يلي عرض لبعض الناقدين:

1-سليمان بن جرير و نقل الشهرستاني عن سليمان بن جرير أنه قال:ان أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم«الاولي»القول بالبداء،فاذا قالوا:انه سيكون لهم أمر و شوكة ثم لا يكون الامر علي ما اخبروه قالوا:بدا للّه تعالي فيه

ص: 232


1- البيان في تفسير القرآن:(ج 1 ص 271-276).

و قد قال فيه زرارة بن أعين شعرا:

و تلك أمارات تجيء لوقتها و مالك عما قدر اللّه مذهب

و لو لا البدا سميته غير فائت و نعت البدا نعت لمن يتقلب

و لو لا البدا ما كان ثم تصرف و كان كنار دهرها تتلهب

«الثانية»:التقية فكلما أرادوا شيئا تكلموا به فاذا قيل لهم هذا خطأ قالوا:انما قلناه تقية (1).

2-الفخر الرازي قال الرازي-عند تفسير قوله تعالي يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ :- قالت الرافضة:البداء جائز علي اللّه تعالي،و هو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده (2).

3-احمد أمين قال الدكتور احمد امين:«و رأينا بعض الشيعة يري البداء الذي أنكره اليهود،و أقدم من قال به المختار بن أبي عبيد:الذي كان يدعو لمحمد بن الحنفية.و يقول الشهرستاني:«انما صار المختار الي البداء لأنه كان يدّعي علم ما يحدث من الاحوال إما بوحي يوحي إليه،و اما برسالة من قبل الامام،فكان اذا وعد أصحابه بكون شيء و حدوث حادثة فان وافق كونه قوله جعله دليلا علي صدق دعواه،و ان لم يوافق قال:قد بدا لربكم.و كان لا يفرق بين النسخ و البداء،فاذا جاز النسخ في الاحكام جاز البداء في الأخبار»و قد اعتنق كثير من الشيعة مذهب البداء و طبقوه في كثير من مسائلهم التأريخية،و قال أحد أئمتهم:«لا يعبد اللّه بأحسن من القول بالبداء»لأنه يفتح باب التوبة في طلب العفو من اللّه،و كاني.

ص: 233


1- شرح اصول الكافي نقلا عن الرازي في خاتمة كتاب المحصل.
2- تفسير الرازي.

اليهود أقوي المعارضين في البداء» (1).

و هؤلاء الناقدون للشيعة-علي مقالتهم بالبداء-لم يكن رأيهم قريبا من الواقع و ذلك لعدم وقوفهم علي حقيقة البداء الذي تذهب إليه الشيعة.

إنكار اليهود:

و أول من انكر البداء و احاله اليهود فقد ذهبوا الي أن قلم التقدير و القضاء حينما جري علي الاشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة بعكسه و خلافه،و بسبب ذلك قالوا:يد اللّه مغلولة عن الفيض و البسط و الاخذ و العطاء لأنه قد جري فيها قلم التقدير فلا يمكن فيها التغيير و التبديل.

رأي الامام موسي:

و تحدث الامام موسي عليه السلام عن البداء في حديثه مع المعلي بن محمد،و قد سأله عن كيفية علم اللّه فأجابه(ع)بجواب عرض فيه لأهم المسائل الفلسفية و الكلامية،و هذا نصه:

قال عليه السلام:

«علم وشاء،و أراد و قدر،و قضي،و أمضي فأمضي ما قضي،و قضي ما قدر،و قدر ما أراد،فبعلمه كانت المشيئة و بمشيئته كانت الارادة، و بارادته كان التقدير،و بتقديره كان القضاء،و بقضائه كان الامضاء،و العلم يتقدم علي المشيئة،و المشيئة ثانية،و الارادة ثالثة (2)و التقدير واقع علي

ص: 234


1- فجر الاسلام:(ج 1 ص 354). اولا-العلم و هو في المقام عبارة عن تصور الشيء،و هو أول المبادئ الاختيارية للافعال. ثانيا-المشيئة. ثالثا-الارادة و هي العزم علي الفعل أو الترك. رابعا-التقدير و هو تعيين المكان و الزمان الذي يوجد فيه الفعل بعد تصوره و تصور أوصافه. خامسا-القضاء و هو ايجاب العمل. سادسا-الايجاد للشيء. و هذه المراتب بعضها مرتب علي بعض ترتبا ذاتيا كل في محله.
2- مراده:ان علم اللّه تعالي له مراتب ستة بعضها مترتب علي بعض،و هي:

القضاء بالامضاء (1)فلله تبارك و تعالي البداء فيما علم متي شاء،و فيما أراد لتقدير الاشياء (2)فاذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء،فالعلم في المعلوم قبل كونه،و المشيئة في المنشأ قبل عينه،و الارادة في المراد قبل قيامه،و التقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها و توصيلها (3)عينا و وقتا (4)و القضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات (5)ذوات الاجسام المدركاترم

ص: 235


1- مراده ان التقدير مع ترتبه و تقدمه الذاتي علي القضاء فانه واقع عليه و موجب لجعله اقتضاء خاصا لايجاد خاص،فالتقدير ينبعث منه امضاء الاقتضاء.
2- بيان لوقوع البداء في أي مرتبة من المراتب السابقة،و قد تقدم بيانها بالتفصيل.
3- مراده:ان الانواع الطبيعية و الطبائع الجسمانية موجودة في علم اللّه الأزلي،و مشيئته و ارادته الذاتيتين.
4- أشار(ع)الي تركيب الاجسام من العناصر المختلفة.
5- يعني ان الذي يتعلق القضاء بامضائه انما هو الشيء المبرم

بالحواس من ذي لون و ريح و وزن وكيل و ما دبّ و درج من إنس و جن و طير و سباع و غير ذلك مما يدرك بالحواس فلله تعالي فيه البداء مما لا عين له فاذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء و اللّه يفعل ما يشاء (1)فبالعلم علم الاشياء قبل كونها (2)و بالمشيئة عرف صفاتها و حدودها و أنشأها قبل اظهارها و بالارادة ميز أنفسها في ألوانها و صفاتها،و بالتقدير قدر أقواتها و عرف أولها و آخرها و بالقضاء أبان للناس أماكنها و دلهم عليها و بالامضاء شرح عليها و أبان أمرها و ذلك تقدير العزيز العليم».

و انتهي بذلك هذا الحديث الحافل بأروع المسائل الكلامية و أشدها غموضا،و قد اعرب فيه الامام عن المرحلة التي يقع فيها البداء من علم اللّه،و قد اوضحنا ذلك فيما سبق.

الايمان باللّه

ان النفوس اذا أترعت بروح الايمان باللّه فقد صفت من الذنوب و زكت من الزيغ،..فبالايمان تسود العدالة و المحبة،و تنتشر الفضيلة و المودة،و يقضي علي جميع أنواع الرذائل الاجتماعية من الظلم و الغبن و الاعتداء..

لقد بعث اللّه الأنبياء و الرسل الي عباده ليغرسوا في نفوسهم هذه الظاهرة

ص: 236


1- بين(ع)المرحلة التي يقع فيها البداء من علم اللّه.
2- مراده بيان الخواص التي تترتب علي المراتب الستة من علم اللّه تعالي و قد بينها(ع)في حديثه.

الكريمة،و قد تحدث الامام عنه ففضله علي جميع الأعمال و ذلك حينما سأله شخص فقال له:

-أيها العالم،اخبرني أي الأعمال أفضل عند اللّه؟.

-ما لا يقبل عمله الا به.

-و ما ذلك؟!!.

-الايمان باللّه،الذي هو أعلي الاعمال درجة،و أسناها حظا، و أشرفها منزلة.

-اخبرني عن الايمان أقول و عمل أم قول بلا عمل؟.

-الايمان عمل كله،و القول بعض ذلك العمل بفرض من اللّه،بين في كتابه،واضح نوره،ثابتة حجته،يشهد به الكتاب و يدعو إليه.

-صف لي ذلك حتي أفهمه؟.

-ان للايمان حالات و درجات و طبقات و منازل،فمنه التام المنتهي تمامه،و منه الناقص البين نقصانه،و منه الزائد الراجح زيادته.

-إن الايمان ليتم و يزيد و ينقص؟!!.

-نعم.

-و كيف ذلك؟!!.

ان اللّه تبارك و تعالي فرض الايمان علي جوارح بني آدم،و قسمه عليها و فرقه عليها فليس من جوارحهم جارحة الا و هي موكلة من الايمان بغير ما وكلت به أختها،فمنها قلبه الذي به يعقل و يفقه و يفهم،و هو أمير بدنه الذي لا تورد الجوارح،و لا تصدر الا عن رأيه و أمره،و منها يداه اللتان يبطش بهما،و رجلاه اللتان يمشي بهما و فرجه الذي ألباه و عيناه اللتان يبصر بهما،و أذناه اللتان يسمع بهما،و فرض علي القلب غير ما فرض علي اللسان،و فرض علي اللسان غير ما فرض علي العينين،و فرض علي العينين

ص: 237

غير ما فرض علي السمع،و فرض علي السمع غير ما فرض علي اليدين،و فرض علي اليدين غير ما فرض علي الرجلين،و فرض علي الرجلين غير ما فرض علي الفرج،و فرض علي الفرج غير ما فرض علي الوجه،فأما ما فرض علي القلب من الايمان فالاقرار،و المعرفة،و التصديق،و التسليم،و العقد و الرضا بأن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له،أحدا،صمدا،لم يتخذ صاحبة و لا ولدا،و ان محمدا(ص)عبده و رسوله..» (1).

العلم:

و حمل أئمة اهل البيت(ع)مشعل النهضة العلمية في العالم الاسلامي، فأسسوا في حواظره معالم الحياة الفكرية،و دعوا المسلمين دعوات جادة تحمل طابع النصح و التوجيه لهم في أن يبنوا حياتهم علي اساس من الوعي العلمي،و قد ملئت موسوعات الحديث و الفقه بما أثر عنهم من أحاديث الترغيب في طلب العلم.

و عني الامام موسي(ع)بهذه الدعوة الخلافة فأمر المسلمين بالجد علي تحصيل العلم و التفقه في الدين،و حذرهم من طلب بعض العلوم التي لا يستفيدون بها في تطوير حياتهم،فقد روي المؤرخون انه دخل مسجد النبي(ص) فرأي قوما قد طافوا برجل و هم يعظمونه و يبالغون في تكريمه فقال(ع) لبعض أصحابه:

-من هذا؟ -علامة! -و ما العلامة؟

ص: 238


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 38-39).

-أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها.

-ذاك علم لا يضر من جهله،و لا ينفع من علمه.

و التفت الي اصحابه فبين لهم العلوم النافعة التي ينبغي لهم أن ينفقوا حياتهم علي تحصيلها فقال:

«انما العلم ثلاثة:آية محكمة أو فريضة عادلة،أو سنة قائمة،و ما خلاهن فهو فضل..».

انه ليس في علم الانساب،و لا في معرفة وقائع العرب ما يبعث علي النماء الفكري،او يصنع حضارة انسانية،او يخلق تقدما و تطورا في حياة المسلمين فهو علم لا يضر من جهله،و لا ينفع من علمه،فلذا قلل الامام من أهميته،و دعا الي صرف الوقت في غيره من سائر العلوم.

و حدث الامام عليه السلام اصحابه عما ينبغي عليهم أن يعرفوه قال(ع):

«وجدت علم الناس في أربع:«اولها»أن تعرف ربك(الثانية) أن تعرف ما صنع بك«الثالثة»ان تعرف ما أراد منك«الرابعة»أن تعرف ما يخرجك عن دينك».

و أوضح هذه الفقرات الاربعة سماحة المغفور له السيد محسن الأمين قال:

«الاولي»وجوب معرفة اللّه التي هي اللطف«الثانية»معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر و العبادة«الثالثة»أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك،و ندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي اراده منك فتستحق بذلك الثواب«الرابعة»أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعته فتجتنبه» (1).4.

ص: 239


1- اعيان الشيعة 57/4.

التفقه في الدين:

اشارة

و حث الامام المسلمين علي التفقه في الدين،و معرفة الاحكام الشرعية فقال لهم:

«تفقهوا في دين اللّه،فان الفقه مفتاح البصيرة،و تمام العبادة، و السبب الي المنازل الرفيعة و الرتب الجليلة في الدين و الدنيا،و فضل الفقيه علي العابد كفضل الشمس علي الكواكب،و من لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملا..».

و سأله بعض أصحابه عما يحتاج إليه من الاحكام الشرعية قائلا:

«هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟.

فقال(ع):«ان الناس لا يسعهم أن يتركوا ما يحتاجون إليه في امور دينهم».

مجالسة العلماء:

و أمر(ع)اصحابه بملازمة العلماء و مجالستهم و ذلك للاستفادة من علومهم و آدابهم و الاقتداء بسلوكهم فقال(ع):

«محادثة العالم علي المزابل خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» (1).

فضل الفقهاء:

و أشاد(ع)بفضل الفقهاء الذين هم أعلام الدين و حملة كتاب اللّه فقال(ع)محدثا عن جده رسول اللّه(ص)في فضلهم:

«قال رسول اللّه(ص):الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا».

ص: 240


1- الزرابي:البسط و الفرش الفاخرة.

فانبري إليه احد اصحابه قائلا:

-يا رسول اللّه،ما دخولهم في الدنيا؟.

-اتباع السلطان،فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم.

العمل:

و أعلن الاسلام دعوته الاكيدة علي العمل و الكسب،قال تعالي:

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ،وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ،وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) .

ان الاسلام دعا الناس الي العمل،و حثهم عليه ليكونوا ايجابيين في حياتهم يتمتعون بالجد و النشاط ليفيدوا و يستفيدوا،و كره لهم الحياة السلبية و الانكماش عن العمل الذي يؤدي الي عرقلة الاقتصاد،و شيوع الفقر و الحاجة في البلاد.

و قد استفاضت كتب الحديث بما أثر عن النبي(ص)و أوصيائه في الحث علي العمل،و اضفاء النعوت الكريمة عليه فهو جهاد،و شرف،و عبادة و من سيرة الأنبياء.

و كان أئمة أهل البيت(ع)يزاولون العمل بأنفسهم ليقتدي بهم المسلمون،فهذا الامام جعفر الصادق(ع)كان يعمل في بعض بساتينه، فقد حدث ابو عمر الشيباني قال:رأيت أبا عبد اللّه(ع)و بيده مسحاة، و عليه ازار غليظ و العرق يتصبب منه،فقلت له:

«جعلت فداك اعطني اكفك» فقال(ع):«اني أحب أن يتأذي الرجل بحر الشمس في طلب

ص: 241


1- سورة الجمعة:آية:10

المعيشة» (1).

و كان الامام الكاظم(ع)يعمل لاعاشة عائلته،فقد روي الحسن بن علي بن أبي حمزة قال:رأيت أبا الحسن موسي يعمل في أرض له،و قد استنقعت قدماه في العرق فقلت له:

جعلت فداك،اين الرجال؟ -يا علي،عمل باليد من هو خير مني و من أبي في أرضه.

فبهر الحسن و انطلق يقول:

-من هو؟ -رسول اللّه(ص)و أمير المؤمنين و آبائي كلهم قد عملوا بأيديهم، و هو من عمل النبيين و المرسلين و الصالحين» (2).

و اعطي(ع)بذلك درسا رائعا عن الاسلام من أنه دين العمل و الجد و ان الشخص مهما علت منزلته فهو مأمور بالعمل ليكف نفسه و من يعول به عما في أيدي الناس.

التحذير من الكسل:

و نهي الاسلام عن الكسل لأنه موجب لشل الحركة الاقتصادية، و تجميد طاقات الانسان،و فساد المجتمع،و قد ورد في الأدعية المأثورة عن أئمة الهدي بالتعوذ منه،فقد جاء عنهم«اللهم اني اعوذ بك من الكسل و السأم و الفترة»و قال الامام الصادق(ع):لبعض اصحابه:«اياك و الكسل و الضجر فانهما مفتاح كل سوء..انه من كسل لم يؤد حقا،و من ضجر

ص: 242


1- العمل و حقوق العامل في الاسلام ص 135.
2- من لا يحضره الفقيه 53/3.

لم يصبر علي حق» (1).

و أوصي الامام موسي بن جعفر(ع)بعض ولده بالجد في اموره و الحذر من الكسل فقال(ع):

«إياك و الكسل و الضجر فانهما يمنعاك من حظك في الدنيا و الآخرة» لقد كان الامام(ع)يكره الكسل و البطالة،و يمقت صاحبها لأنها تؤدي الي الفقر و السقوط،و ذهاب المروءة،و من يتصف به يكون في حكم الموتي لا تفكير له و لا تدبر.

الاقتصاد:

و أوصي(ع)اصحابه بالاقتصاد،و نهاهم عن التبذير و الاسراف لأن بهما زوال النعمة فقال(ع):

«من اقتصد و قنع بقيت عليه النعمة،و من بذّر و أسرف زالت عنه النعمة».

و قال عليه السلام:

«ما عال امرئ اقتصد» ان من معالم الاقتصاد الاسلامي المنع من التبذير لأن فيه اضاعة للاموال و فسادا للاخلاق،و نشرا للميوعة و التحلل،و اثارة للحقد و الكراهية في نفوس الفقراء الذين لا يجدون السعة في المال،و قد تحدثنا عن هذه الظاهرة بصورة موضوعية و شاملة في كتابنا«العمل و حقوق العامل في الاسلام».

ص: 243


1- العمل و حقوق العامل في الاسلام ص 140

مكارم الاخلاق:

اشارة

و جاء الاسلام بمكارم الاخلاق،و اعتبرها قاعدة اساسية في رسالته المشرقة قال الرسول(ص):«انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق»فكان(ص) في اخلاقه المثل الاعلي للانسانية الكريمة،و سار من بعده أئمة الهدي يقتفون آثاره في تأسيس معالم الاخلاق و مكارم الاعمال،و ذلك بسلوكهم،و فيما أثر عنهم من الوصايا،و الارشادات لاصحابهم.

و قد عني الامام بهذه الظاهرة فكان دوما يوصي اصحابه بالتحلي بالصفات الكريمة ليكونوا بسلوكهم و هديهم قدوة صالحة للمجتمع،حتي يستطيعوا علي نشر مفاهيم الخير و الصلاح بين الناس،و نعرض الي بعض ما أثر عنه في ذلك.

للسخاء و حسن الخلق:

و حث(ع)اصحابه علي التحلي بالسخاء و حسن الخلق قال:

«السخي الحسن الخلق في كنف اللّه،لا يتخلي اللّه عنه،حتي يدخله الجنة،و ما بعث اللّه نبيا الا سخيا،و ما زال أبي يوصيني بالسخاء و حسن الخلق..».

الورع:

كان عليه السلام كثيرا ما يوصي اصحابه و شيعته بالورع عن محارم اللّه،قال:

ص: 244

«كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول:ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن».

الصبر:

و أوصي(ع)اصحابه بالتمسك بالصبر ان نزلت بهم كارثة أو حل بهم خطب فان الجزع يذهب بالاجر الذي أعده اللّه للصابرين قال(ع):

«المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها الا بالصبر و الاسترجاع عند الصدمة».

قال(ع):«ان الصبر علي البلاء أفضل من العافية عند الرخاء» قال(ع):«المصيبة للصابر واحدة و للجازع اثنتان»

الصمت:

و أوصي(ع)اصحابه بالصمت و بين لهم فوائده قال:

«ان الصمت باب من أبواب الحكمة،و ان الصمت يكسب المحبة انه دليل علي كل خير».

العفو و الاصلاح:

و حث(ع)اصحابه علي العفو و الاحسان لمن أساء إليهم،كما شجعهم علي الاصلاح بين الناس،و بين لهم عاقبة المحسنين و المصلحين و ما لهم من الاجر عند اللّه فقال:

ص: 245

«ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر علي اللّه فليقم،فلا يقوم إلا من عفا و أصلح».

قول الخير:

و أوصي(ع)اصحابه بقول الخير و اسداء المعروف الي الناس،فقد قال للفضل بن يونس:

أبلغ خيرا و قل خيرا،و لا تكن إمعة (1).

-ما الامعة؟.

-لا تقل:انا مع الناس،و انا كواحد من الناس.ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:«يا أيها الناس انما هما نجدان (2)نجد خير،و نجد شر،فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير».

قول الحق:

و امر(ع)اصحابه بقول الحق:و اظهاره و التجنب عن الباطل قال:

«اتّق اللّه،و قل الحق و ان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك،أي فلان اتق اللّه ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك،فان فيه هلاكك».

حسن الجوار:

و أوصي(ع)اصحابه بالاحسان الي الجار و الصبر علي تحمل الأذي

ص: 246


1- الإمع و الإمعة-بالكسر فالتشديد-قيل أصله إني معك.
2- النجد:الطريق الواضح المرتفع.

و المكروه منه قال(ع):

«ليس حسن الجوار كف الأذي،و لكن حسن الجوار الصبر علي الأذي».

اغاثة المستجير:

و حث(ع)أصحابه علي إغاثة المستجير و قضاء حاجته فقال:

«من قصده رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية اللّه عز و جل» (1)و قد أمرهم بقضاء حوائج الناس فقال:من أتاه اخوه المؤمن في حاجة فانما هو رحمة من اللّه تبارك و تعالي ساقها إليه،فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا،و هو موصول بولاية اللّه،و ان رده عن حاجته و هو يقدر علي قضائها سلط اللّه عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة..»و قال(ع)في فضل من لا يرد حاجة اخيه المؤمن:«ان للّه عبادا في الارض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة،و من أدخل علي مؤمن سرورا فرح اللّه قلبه يوم القيامة» (2).

زيارة الاخوان:

و أمر(ع)اصحابه بالتوادد و التآلف و زيارة بعضهم بعضا لأنها توجب المحبة و شيوع المودة،مضافا لما لها من الأجر العظيم عند اللّه،

ص: 247


1- الوسائل:باب الأمر بالمعروف.
2- نفس المصدر.

قال:

«من زار أخاه المؤمن للّه لا لغيره يطلب به ثواب اللّه،و كل اللّه عز و جل به سبعين الف ملك من حين يخرج من منزله حتي يعود إليه ينادونه ألا طبت و طابت لك الجنة،تبوأت من الجنة منزلا..».

الرضاء بقضاء اللّه:

و حث(ع)اصحابه علي الرضا بقضاء اللّه و التسليم لمشيئته و أمره قال:

«ينبغي لمن عقل عن اللّه أن لا يستبطئه في رزقه،و لا يتهمه في قضائه».

شكر النعمة:

و أوصي(ع)اصحابه باظهار نعم اللّه و شكرها قال:

«التحدث بنعم اللّه شكر،و ترك ذلك كفر،فاربطوا نعم ربكم بالشكر،و حصنوا أموالكم بالزكاة،و ادفعوا البلاء بالدعاء،فان الدعاء جنة ترد البلاء و قد أبرم إبراما..».

محاسبة النفس:

و حث(ع)اصحابه علي محاسبة نفوسهم و النظر في اعمالهم فان كانت حسنة استزادوا منها،و ان كانت سيئة طلبوا من اللّه المغفرة و الرضوان قال:

«ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،فان عمل حسنا استزاد منه،و ان عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب منه..».

الاستشارة:

و اوصي(ع)شيعته بالاستشارة في أمورهم،و عدم الاستبداد بها قال:

ص: 248

«من استشار لا يعدم عند الصواب مادحا،و عند الخطأ عاذرا..»

مساوئ الافعال:

و نهي(ع)أصحابه عن التخلق بالصفات الذميمة،و ارتكاب أي عمل غير صالح و فيما يلي ذلك:

اتباع الهوي:

قال(ع):«اتق المرتقي السهل إذا كان منحدره و عرا،إن أبي قال:لا تدع النفس و هواها،فان هواها رداها،و ترك النفس و ما تهوي اذاها،و كف النفس عما تهوي دواها».

العقوق:

قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«كن بارا و اقتصر علي الجنة، و ان كنت عاقا فظا فاقتصر علي النار».

استصغار الذنب:

قال(ع):«لا تستكثروا كثير الخير و لا تستقلوا قليل الذنوب، فان القليل من الذنوب يجتمع حتي يكون كثيرا،و خافوا في السر حتي تعطوا من انفسكم النصف».

المزاح:

قال(ع)لبعض ولده:«اياك و المزاح فانه يذهب بنور ايمانك و يستخف بمروءتك..».

ص: 249

أدعيته:

اشارة

و انقطع الامام الي اللّه فكان في جميع اوقاته يلهج بذكره تعالي، و يدعوه دعاء المنيبين،و قد حفلت كتب الأدعية بالشيء الكثير من ادعيته اما فائدة الدعاء فقد تحدث عنها بقوله:

«عليكم بالدعاء،فان الدعاء للّه و الطلب الي اللّه يرد البلاء و قد قدر و قضي و لم يبق الا امضاؤه،فاذا دعي اللّه عز و جل،و سئل صرف البلاء».

و تحدث(ع)مرة اخري عما يترتب علي الدعاء من الفوائد فقال:

«ما من بلاء يقع علي عبد مؤمن فيلهمه اللّه عز و جل الدعاء الا كان كشف ذلك البلاء وشيكا و ما من بلاء يقع علي عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلا فاذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء و التضرع الي اللّه عز و جل» (1)و نقدم عرضا موجزا لبعض أدعيته.

دعاؤه علي ظالم له:

دعا(ع)بهذا الدعاء الشريف في قنوته علي بعض ظالميه و اكبر الظن انه احد خلفاء العباسيين المعاصرين له الذين جرعوه انواع الغصص و الآلام و نحن نقدم نصه الكامل ليتضح منه ما قاساه الامام من طواغيت زمانه،«اللهم،اني و فلان ابن فلان،عبدان من عبيدك،نواصينا بيدك تعلم مستقرنا و مستودعنا و منقلبنا،و مثوانا،و سرنا،و علانيتنا تطلع علي نياتنا و تحيط بضمائرنا،علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه،و معرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نعلنه،و لا ينطوي عندك شيء من أمورنا،و لا ينستر دونك حال من أحوالنا،و لا لنا منك معقل يحصننا،و لا حرز يحرزنا،و لا مهرب

ص: 250


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 553).

لنا نفوتك به،و لا تمنع الظالم منك حصونه،و لا يجاهدك عنه جنوده، و لا يغالبك مغالب بمنعه،أنت مدركه اينما سلك و قادر عليه اينما لجأ، فمعاذ المظلوم منابك،و توكل المقهور منا عليك،و رجوعه إليك،يستغيث بك اذا خذله المغيث،و يستصرخك اذا قعد عنه النصير،و يلوذ بك اذا نفته الافنية،و يطرق بابك اذا اغلقت عنه الابواب المرتجة،و يصل إليك اذا احتجبت عنه الملوك الغفلة،تعلم ما حل به من قبل أن يشكوه إليك، و تعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له،فلك الحمد بصيرا عليما لطيفا، اللهم،و انه قد كان في سابق علمك و محكم قضائك،و جاري قدرك،و نافذ امرك،و ماضي مشيئتك في خلقك أجمعين شقيهم و سعيدهم و برهم و فاجرهم ان جعلت«لفلان ابن فلان»علي قدرة فظلمني بها و بغي علي بمكانها و استطال و تعزز بسلطانه الذي خولته اياه،و تجبر و افتخر بعلو حاله الذي نولته،و غره املاؤك،و أطغاه حلمك عنه فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه،و تعمدني بشر ضعفت عن احتماله،و لم اقدر علي الاستنصاف منه لضعفي،و لا علي الانتصار لقلتي فوكلت أمره إليك،و توكلت في شأنه عليك،و توعدته بعقوبتك،و حذرته ببطشك،و خوفته بنقمتك،فظن ان حلمك عنه من ضعف،و حسب أن إملاءك له من عجز،و لم تنهه واحدة عن اخري،و لا انزجر عن ثانية بأولي لكنه تمادي في غيه،و تتابع في ظلمه،ولج في عدوانه و استشري في طغيانه جرأة عليك يا سيدي و مولاي و تعرضا لسخطك الذي لا تحبسه عن الباغين،فها أنا يا سيدي مستضام تحت سلطانه مستذل بفنائه مبغي علي،و جل خائف،مروع مقهور قد قل صبري و ضاقت حيلتي،و تغلقت علي المذاهب الا إليك،و انسدت عني الجهات الا جهتك،و التبست علي اموري في دفع مكروهه و اشتبهت علي الآراء في ازالة ظلمه،و خذلني من استنصرته من خلقك،و اسلمني من تعلقت به

ص: 251

من عبادك،فاستشرت نصحي فأشار علي بالرغبة إليك،و استرشدت دليلي فلم يدلني الا إليك،فرجعت إليك يا مولاي صاغرا راغما مستكينا عالما انه لا فرج لي الا عندك،و لا خلاص لي الا بك انتجز وعدك في نصرتي و اجابة دعائي لأن قولك الحق الذي لا يرد و لا يبدل،و قد قلت تباركت و تعاليت «و من بغي عليه لينصرنه اللّه»و قلت جل ثناؤك،و تقدست أسماؤك:

«ادعوني استجب لكم»فأنا فاعل ما امرتني به لا منا عليك،و كيف أمن به و أنت دللتني عليه،فاستجب لي كما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد و اني لأعلم يا سيدي ان لك يوما تنتقم فيه من الظالم للمظلوم،و أتيقن ان لك وقتا تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب لأنه لا يسبقك معاند،و لا يخرج من قبضتك منابذ،و لا تخاف فوت فائت و لكن جزعي و هلعي لا يبلغان الصبر علي اناتك،و انتظار حلمك فقدرتك يا سيدي فوق كل قدرة، و سلطانك غالب كل سلطان،و معاد كل احد إليك و ان أمهلته،و رجوع كل ظالم إليك و ان انظرته،و قد أضرني-يا سيدي-حلمك عن(فلان) و طول اناتك له،و إمهالك اياه،و يكاد القنوط ان يستولي علي،لو لا الثقة بك،و اليقين بوعدك،فان كان في قضائك النافذ و قدرتك الماضية انه ينيب،او يتوب،او يرجع عن ظلمي و يكف عن مكروهي،و ينتقل عن عظيم ما ركب مني،فصل علي محمد و آله،و أوقع ذلك في قلبه قبل إزالة نعمتك التي أنعمت بها عليه،و تكدير معروفك الذي صنعته إليه، و ان كان علمك به غير ذلك من مقامه علي ظلمي،فاني أسألك يا ناصر المظلومين المبغي عليهم اجابة دعوتي فصل علي محمد و آله و خذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر و افجأه في غفلته مفاجاة مليك منتصر و اسلبه نعمته و سلطانه و افضض عنه جموعه و أعوانه و مزق ملكه كل ممزق،و فرق انصاره كل مفرق،و اعزله من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر و الاحسان،و انزع عنه سربال عزك الذي لم يجازه بالاحسان،و اقصمه

ص: 252

يا قاصم الجبابرة،و اهلكه يا مهلك القرون الخالية،و ابره يا مبير الأمم الظالمة،و اخذله يا خاذل الفرق الباغية،و ابتر عمره،و ابتز ملكه،و عف أثره،و اقطع خبره،و اطف ناره،و اظلم ناره،و كور شمسه،و ازهق نفسه،و اهشم سوقه،وجب سنامه،و ارغم أنفه،و عجل حتفه و لا تدع له جنة الا هلكتها،و لا دعامة الا قصمتها،و لا كلمة مجتمعة الا فرقتها و لا قائمة علو الا وضعتها،و لا ركنا الا وهنته،و لا سببا الا قطعته، و أرنا انصاره و جنوده عبيدا بعد العزة،و اجعلهم متفرقين بعد اجتماع الكلمة و مقنعي الرءوس بعد الظهور علي الامة،و اشف بزوال امره القلوب الوجلة و الأفئدة اللهيفة،و الأمة المتحيرة،و البرية الضائعة،و اظهر بزواله الحدود المعطلة،و السنن الداثرة،و الأحكام المهملة،و المعالم المتغيرة،و الآيات المحرفة،و المدارس المهجورة،و المحاريب المجفوة،و المشاهد المهدومة،و اشبع به الخماص السابغة،و ارو به اللهوات اللاغبة و الأكباد الضامية،و أرح به الأقدام المتعبة،و اطرقه ببلية لا اخت لها،و بساعة لا مثوي فيها،و بنكبة لا انتعاش معها،و بعثرة لا إقالة منها،و ابح حريمه،و نغص نعيمه،و أره بطشتك الكبري،و نقمتك المثلي،و قدرتك التي هي فوق قدرته،و سلطانك الذي هو أعز من سلطانه،و أغلبه لي بقوتك القوية،و محالك الشديد،و امنعني منه بمنعك،و ابتله بفقر لا يجبره،و بسوء لا يستره، وكله الي نفسه فيما تريد انك فعال لما تريد،و ابره من حولك و قوتك، وكله الي حوله و قوته و ازل مكره بمكرك،و ادفع مشيئته بمشيئتك،و اسقم جسده،و ايتم ولده و نقص اجله،و خيب امله،و ازل دولته،و اطل عولته،و اجعل شغله في بدنه،و لا تفكه من حزنه،و صير كيده في ضلال و امره الي زوال و نعمته الي انتقال وجده في سفال و سلطانه في اضمحلال،و عاقبته الي شر مآل و امته بغيظه إن أمته،و ابقه بحسرته ان أبقيته،و قني شره و همزه و لمزه

ص: 253

و سطوته و عداوته،و المحه لمحة تدمر بها عليه،فانك اشد بأسا و أشد تنكيلا..» (1).

و يلمس في هذا الدعاء الشريف مدي الخطوب الفادحة و الآلام المرهقة التي تلقاها الامام من خصمه،فانه لم يدع عليه بهذا الدعاء الا بعد أن ملأ قلبه بالحزن الشديد و الألم المرير.

دعاؤه عند الحاجة:

و كان(ع)يدعو بهذا الدعاء اذا اصابته فاقة او أعواز.

«يا اللّه:اسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي علي محمد و آل محمد و أن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك،و أن تبسط علي ما حظرت من رزقك» (2).

دعاؤه لوفاء الدين:

و شكا الي الامام بعض اصحابه الديون المتراكمة عليه فكتب(ع)له هذا الدعاء و أمره ان يدعو به.

«اللهم،اردد الي جميع خلقك مظالمهم التي قبلي صغيرها و كبيرها في يسر منك و عافية،و ما لم تبلغه قوتي،و لم تسعه ذات يدي،و لم يقو عليه بدني،و يقيني و نفسي،فأده عني من جزيل ما عندك من فضلك ثم لا تخلف علي منه شيئا تقضيه من حسناتي يا ارحم الراحمين،اشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و اشهد ان محمدا عبده و رسوله و أن الدين كما شرع و ان الاسلام كما وصف،و ان الكتاب كما انزل،و أن القول كما حدث و ان اللّه هو الحق المبين،ذكر اللّه محمدا و أهل بيته بخير،و حيا محمدا)،

ص: 254


1- مهج الدعوات:(ص 67-72.)
2- اصول الكافي:(ج 2 ص 553)،

و اهل بيته السلام..» (1).

دعاء الحجاب:

كان عليه السلام يتحجب بهذا الدعاء،و يتقي به شر من يخاف شره،و هو:

«توكلت علي الحي الذي لا يموت،و تحصنت بذي العزة و الجبروت و استعنت بذي الكبرياء و الملكوت،مولاي استسلمت إليك،فلا تسلمني و توكلت عليك فلا تخذلني،و التجأت الي ظلك البسيط فلا تطرحني أنت الطلب و إليك المهرب،تعلم ما اخفي و ما اعلن و تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور،فامسك عني اللهم ايدي الظالمين من الجن و الانس أجمعين و اشفني،و عافني يا ارحم الراحمين..» (2).

و نكتفي بهذا المقدار من ادعيته المقدسة التي تدل علي مدي انقطاعه الي اللّه و تعلقه به و ذكرت له ادعية كثيرة في(الاقبال)و(مهج الدعوات) و غيرهما مما ألف في هذا الموضوع.

وعظ و ارشاد:

كان(ع)في اغلب الأوقات يدلي بنصائحه الرفيعة،و ارشاداته القيمة الي اصحابه و الي من يمت إليه،و كان(ع)دوما يحذرهم من عذاب اللّه و عقابه و يخوفهم الدار الآخرة،و هذه بعض وصاياه.

وصيته لبعض ولده:

قال(ع):يا بني،اياك ان يراك اللّه في معصية نهاك عنها،و اياك

ص: 255


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 555).
2- مهج الدعوات:(ص 373).

ان يفقدك اللّه عند طاعة أمرك بها،و عليك بالجد،و لا تخرجن من نفسك التقصير عن عبادة اللّه،فان اللّه عز و جل لا يعبد حق عبادته،و اياك و المزاح فانه يذهب بنور ايمانك،و يستخف بمروءتك،و اياك و الكسل و الضجر فانهما يمنعانك حظك من الدنيا و الآخرة» (1).

ارشاد و توجيه:

و وجه(ع)ارشادا عاما لجميع المسلمين جاء فيه:

«كفي بالتجارب تأديبا،و بممر الايام عظة،و بأخلاق من عاشرت معرفة،و بذكر الموت حاجزا من الذنوب و المعاصي،و العجب كل العجب للمحتمين من الطعام و الشراب مخافة الداء ان نزل بهم كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار اذا اشتعلت في ابدانهم..» (2).

وصية عامة:

و أوصي(ع)عموم اصحابه بتنظيم اوقاتهم،و العمل علي تهذيب نفوسهم قال(ع):

«اجتهدوا في ان يكون زمانكم اربع ساعات:ساعة لمناجاة اللّه،و ساعة لأمر المعاش،و ساعة لمعاشرة الاخوان و الثقات الذين يعرفونكم عيوبكم،و يخلصون لكم في الباطن،و ساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم و بهذه الساعة تقدرون علي الثلاث ساعات،و لا تحدثوا انفسكم بفقر و لا بطول عمر،فانه من حدث نفسه بالفقر بخل،و من حدثها بطول العمر يحرص اجعلوا لأنفسكم حظا من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال و ما لا يثلم المروءة،و ما لا سرف فيه،و استعينوا بذلك علي أمور الدين،فانه روي

ص: 256


1- الوافي:(ج 3 ص 78).
2- الدر النظيم.

«ليس منا من ترك دنياه لدينه او ترك دينه لدنياه» (1).

الحث علي فعل الخير:

قال(ع):من استوي يوماه فهو مغبون،و من،كان آخر يوميه أشرها فهو ملعون،و من لم يعرف الزيادة علي نفسه فهو في النقصان،و من كان الي النقصان اكثر فالموت خير له من الحياة..» (2).

و بهذا مرض الموجز ينتهي بنا الكلام من بعض مواعظه و ارشاداته و ننتقل الي فصل آخر من تراثه.

مناظراته و احتجاجاته:

اشارة

و للامام(ع)مناظرات و احتجاجات بليغة مع خصومه المناوئين له كما جرت له مناظرات اخري مع بعض علماء اليهود و النصاري،و قد افلج(ع) الجميع بما أقامه من الأدلة الوافرة علي صحة مدعاه و بطلان ما ذهبوا إليه، و قد اعترفوا بالعجز و الفشل،و بغزارة علم الامام،و تفوقه عليهم و فيما يلي بعضا منها:

1-مع نفيع الانصاري:

و شرّف(ع)بلاط الملك هارون،فلما رآه حاجب البلاط قابله بالتكريم و الحفاوة و قدمه علي غيره لمقابلة هارون،و كان في مجلس الانتظار نفيع الأنصاري فلما رأي تلك الحفاوة البالغة احترق قلبه من الغيظ و ساءه تكريم الامام،فالتفت الي عبد العزيز و كان معه فقال له:

ص: 257


1- تحف العقول(ص 409)عرضنا لبيان هذا الحديث بصورة موضوعية و شاملة في كتابنا«العمل و حقوق العامل في الاسلام».
2- الاتحاف بحب الاشراف:(ص 55).

-من هذا الشيخ؟.

-أو ما تعرفه!!هذا شيخ آل أبي طالب،هذا موسي بن جعفر.

فانبري نفيع يندد بالعباسيين علي تكريمهم للامام قائلا:

ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير،أما لئن خرج لأسوأنه.

فزجره عبد العزيز و نهره قائلا:

«لا تفعل،فان هؤلاء أهل بيت لم يتعرض لهم أحد بخطاب الا وسموه -بالجواب-سمة يبقي عارها عليه أبد الدهر..».

و لما انتهي الامام من مقابلة هارون،و خرج من عنده اقبل عليه نفيع يشتد فامسك بزمام دابته و قال له:

-من أنت؟ -يا هذا،ان كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب اللّه،و ابن اسماعيل ذبيح اللّه،و ابن ابراهيم خليل اللّه،و ان كنت تريد البلد فهو الذي فرض اللّه عز و جل علي المسلمين و عليك ان كنت منهم الحج إليه، و ان كنت تريد المفاخرة فو اللّه ما رضي مشركوا قومي بمسلمي قومك أكفاء لهم حتي قالوا يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش،خل عن زمام دابتي.

و انصرف نفيع و هو لا يبصر طريقه من الخجل و العار الذي وسمه به الامام (1).

2-مع الفضل بن الربيع:

و تشرف هارون الرشيد بزيارة قبر النبي(ص)فاجتمع به الامام(ع) و بعد انتهاء المقابلة،خرج(ع)فاجتاز علي محمد الامين ابن الرشيد،فالتفت

ص: 258


1- نزهة الناظر في تنبيه الخاطر:ص 45.

محمد الي الفضل بن الربيع قائلا له:عاتب هذا،فقام الفضل الي الامام فقال له:

كيف لقيت امير المؤمنين علي هذه الدابة التي ان طلبت عليها لم تسبق و ان طلبت عليها تلحق؟ -لست احتاج ان أطلب،و لا أن اطلب،و لكنها دابة تنحط عن خيلاء الخيل،و ترتفع عن ذلة العير،و خير الامور اوسطها..» (1).

فتركه الامام و انصرف،و بدا علي الفضل الارتباك و العي و العجز.

3-مع أبي يوسف:

و امر هارون الرشيد أبا يوسف (2)ان يسأل الامام بحضرته لعله أن يبدي عليه العجز فيتخذ من ذلك وسيلة للحط من كرامته،و لما اجتمع(ع) بهم وجه إليه ابو يوسف السؤال الآتي:

-ما تقول في التظليل للمحرم؟ -لا يصلح.

-فيضرب الخباء في الأرض و يدخل البيت؟ -نعم.

-فما الفرق بين الموضعين؟ -ما تقول في الطامث ا تقضي الصلاة؟ -لا

ص: 259


1- زهر الآداب(ج 1 ص 132).
2- ابو يوسف:هو يعقوب بن ابراهيم الأنصاري،ولد سنة 113 ه-،و توفي ببغداد سنة 282 ه- و كان من اصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي و اخذ الفقه عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي ثم عن ابي حنيفة و ولي القضاء لهارون الرشيد جاء ذلك في طبقات الفقهاء:ص 113.

-ا تقضي الصوم؟ -نعم -و لم؟ -هكذا جاء -و هكذا جاء هذا فسكت أبو يوسف و لم يطق جوابا و بدا عليه الخجل و العجز فقال هارون:

-ما أراك صنعت شيئا؟ -رماني بحجر دامغ (1)، و تركهما الامام و انصرف عنهما و قد خيم عليهما الحزن و الشقاء.

4-مع أبي حنيفة:

و دخل ابو حنيفة علي الامام الصادق(ع)فقال له:

رأيت ابنك موسي يصلي و الناس يمرون بين يديه،فلم ينههم عن ذلك؟!.

فأمر أبو عبد اللّه(ع)باحضار ولده فلما مثل بين يديه قال له:

«يا بني،ان أبا حنيفة يذكر انك كنت تصلي و الناس يمرون بين يديك؟».

«نعم،يا أبت ان الذي كنت اصلي له كان اقرب إلي منهم،يقول اللّه عز و جل:«و نحن اقرب إليه من حبل الوريد».

و فرح الامام الصادق(ع)و سر سرورا بالغا بما ادلي به ولده من المنطق الرائع،فقام إليه فضمه و انطلق قائلا:

ص: 260


1- المناقب:(ج 3 ص 429).

«بأبي أنت و أمي يا مودع الاسرار!!» (1).

5-مع هارون الرشيد:

و لما اعتقل هارون الرشيد الامام موسي(ع)و بقي في السجن حفنة من السنين امر يوما باحضاره في بلاطه،فلما حضر و استقر به المجلس التفت إليه هارون و قد نخر الغيظ قلبه قائلا:

-يا موسي بن جعفر:خليفتين يجبي لهما الخراج؟!!.

-يا أمير المؤمنين،أعيذك باللّه ان تبوء باثمي و إثمك،و تقبل الباطل من أعدائنا علينا،فقد علمت انه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللّه(ص) بما علم ذلك عندك،فان رايت بقرابتك من رسول اللّه(ص)أن تأذن لي أن احدثك بحديث اخبرني به ابي عن آبائه عن جدي رسول اللّه(ص):

-قد أذنت لك.

-أخبرني ابي عن آبائه عن جدي رسول اللّه(ص)انه قال:«ان الرحم اذا مست الرحم تحركت و اضطربت»،فناولني يدك.

فرق هارون و زال غضبه فمد إليه يده و جذبه الي نفسه و عانقه طويلا ثم ادناه منه و قد اغرورقت عيناه بالدموع و التفت إليه قائلا له بنبرات تقطر عطفا:

«صدقت،و صدق جدك،لقد تحرك دمي،و اضطربت عروقي حتي غلبت علي الرقة،و فاضت عيناي،و أنا أريد أن أسألك عن اشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم اسأل عنها احدا،فان أنت اجبتني عنها خليت عنك و لم اقبل قول احد فيك،و قد بلغني انك لم تكذب قط،فاصدقني عما أسألك مما في قلبي».

-ما كان علمه عندي فاني مخبرك به،إن أنت آمنتني.

ص: 261


1- البحار:(ج 12 ص 283).

-لك الأمان،إن أنت صدقتني،و تركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

-سل عما شئت.

-لم فضلتم علينا و نحن و أنتم من شجرة واحدة،و بنو عبد المطلب و نحن و انتم واحد،فبنو العباس و انتم ولد أبي طالب،و هما عما رسول اللّه(ص)،و قرابتهما منه سواء؟ -نحن اقرب.

-و كيف ذلك؟ -لأن عبد اللّه و أبا طالب لأب و أم،و أبوكم العباس ليس هو من أم عبد اللّه و أبي طالب.

-لم ادعيتم انكم ورثتم النبي(ص)و العم يحجب ابن العم،و قبض رسول اللّه(ص)و قد توفي أبو طالب قبله،و العباس عمه حي؟ -إن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة،و يسألني عن كل باب سواها.

-لا-أو تجيب؟ -آمني.

-قد آمنتك قبل الكلام، -جاء في قول علي(ع):انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أم أنثي لأحد سهم الا الأبوين و الزوج و الزوجة،و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث،الا ان تيما و عديا،و بني أميّة قالوا:العم والد،رأيا منهم بلا حقيقة و لا أثر عن النبي(ص)ثم انه(ع)ذكر له جملة من فقهاء العصر الذين أفتوا بما أفتي به جده امير المؤمنين(ع)في هذه المسألة و أضاف(ع) الي ذلك قوله:

ص: 262

«روي قدماء العامة،عن النبي(ص)أنه قال:(علي أقضاكم) و كذلك قال عمر بن الخطاب:(علي أقضانا)و هو-أي القضاء-اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي(ص)أصحابه من القراءة و الفرائض،و العلم داخل في القضاء».

و بعد ما ادلي(ع)بهذه الحجة الدامغة طلب منه هارون الرشيد المزيد من الايضاح و البيان فقال(ع):ان النبي لم يورث من لم يهاجر،و لا اثبت له ولاية حتي يهاجر.

قال هارون:ما حجتك؟ قال(ع):قول اللّه تبارك و تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّي يُهاجِرُوا (1)،و ان عمي العباس لم يهاجر.

فتغير لون هارون و تميز من الغيظ فقال للامام:

-هل أفتيت أحدا بذلك من أعدائنا أم أخبرت به أحدا من الفقهاء؟ -لا-و ما سألني عنها أحد سواك.

فسكن غضبه و قال:

لم جوزتم للعامة و الخاصة ان ينسبوكم الي رسول اللّه(ص)و يقولوا:

لكم يا بني رسول اللّه،و أنتم بنو علي،و إنما ينسب المرء الي أبيه،و فاطمة انما هي وعاء،و النبي(ص)جدكم من قبل أمكم؟ -لو ان النبي(ص)نشر فخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه؟ -سبحان اللّه!!و لم لا أجيبه،بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك.

-لكنه لا يخطب مني و لا أزوجه.3.

ص: 263


1- سورة الأنفال آية 73.

-و لم؟ -لأنه ولدني و لم يلدك.

-أحسنت يا موسي!! -كيف قلتم:إنا ذرية النبي:و النبي لم يعقب،و انما العقب للذكر لا للأنثي،و انتم ولد بنته.

-أسألك بحق القرابة الا ما أعفيتني.

-لا-أو تخبرني عن حجتكم فيه يا ولد علي،و أنت يا موسي يعسوبهم و إمام زمانهم،و لست أعفيك.

-تأذن لي في الجواب؟ -هات.

-قال اللّه تعالي في كتابه: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسي وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيي وَ عِيسي وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ (1)من أبو عيسي يا أمير المؤمنين؟ -ليس لعيسي أب.

-انما ألحقه اللّه تعالي بذراري الأنبياء من طريق مريم،و كذلك ألحقنا بذراري النبي(ص)من قبل أمنا فاطمة(ع) و طلب هارون من الامام أن يزيد في حجته و برهانه،فأجابه الي ذلك فقال(ع):

«قال اللّه عز و جل: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَي الْكاذِبِينَ (2)فلم يدع أحد أن النبي(ص)أدخل60

ص: 264


1- سورة الأنعام:آية 84-85.
2- سورة آل عمران:آية 60

تحت الكساء عند مباهلة النصاري إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين،فكان تأويل قوله تعالي:ابناءنا الحسن و الحسين،و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب(ع)و أضاف الي هذه الحجة برهانا آخر و هو ان العلماء قد أجمعوا علي ان جبرئيل قال:يوم أحد،يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي فقال(ص)انه مني و انا منه،فقال و انا منكما» (1).

و انقطعت حجة هارون و لم يجد طريقا يسلكه،لأن الامام قد أدلي بحجج دامغة لا مجال للشك فيها،ثم ان هارون طلب منه ان يزوده برسالة موجزة تجمع اعمال الدين فكتب(ع)بعد البسملة ما نصه:

«جميع امور الأديان أربعة:امر لا اختلاف فيه،و هو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون إليها،و الأخبار المجمع عليها،و هي الغاية المعروض عليها كل شبهة،و المستنبط منها كل حادثة،و امر يحتمل الشك و الانكار،فسبيله استنصاح اهله (2)الحجة عليه مما ثبت لمنتحليه من كتاب مجمع علي تأويله او سنة عن النبي(ص)لا اختلاف فيها،او قياس تعرف العقول عدله و لا يسع خاصة الأمة و عامها الشك فيه و الانكار له،و هذان الأمران من امر التوحيد فما دونه الي أرش الخدش فما دونه فهذا المعروض الذي يعرض عليه امر الدين،فما ثبت لك برهانه اصطفيته،و ما غمض عليك صوابه نفيته،فمن أورد واحدة من هذه الثلاثة (3)فهي الحجة البالغة التي بينها اللّه في قوله لنبيه: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَه.

ص: 265


1- البحار:(ج 12 ص 274-275).
2- ورد في بعض النسخ:استيضاح أهله.
3- الظاهر ان المراد بهذه الثلاث:الكتاب و السنة و القياس الذي تعرف العقول عدله.

لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (1) يبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه،لأن اللّه عدل لا يجور،يحتج علي خلقه بما يعلمون و يدعوهم الي ما يعرفون لا الي ما يجهلون و ينكرون..».

فأجازه هارون و أكرمه (2)و انصرف الامام و قد دل خصمه-المسمي بخليفة المسلمين و أمير المؤمنين-علي امور الدين كما أوضح له منزلة أهل البيت و صحة اقوالهم و دعم ما ذهب إليه بأوثق الأدلة و البراهين.

و ذكر رواة الأثر له مناظرة أخري مع هارون،و الذي نراه انها من الموضوعات،و انها الي الخيال أقرب منها الي الواقع،و فيما يلي نصها:

حج هارون الرشيد بيت اللّه الحرام فمنعت الشرطة دخول الحجاج الي البيت حال طوافه،و بينما هو مشغول في الطواف و قد احاطت به الحرس اذ بادر اعرابي الي البيت و جعل يطوف معه فأقبل عليه الحاجب قائلا:

-تنح يا هذا عن وجه الخليفة.

-ان اللّه ساوي بين الناس في هذا الموضع،فقال:«سواء العاكف فيه و البادي».

فكف الحاجب عنه،و كلما طاف الرشيد طاف الاعرابي امامه،و نهض الرشيد الي الحجر الأسود ليقبله فسبقه الاعرابي إليه و لثمه،و صار الرشيد الي(المقام)ليصلي فيه فسبقه الاعرابي و صلي امامه فالتاع هارون و استولي عليه الغضب فأمر حاجبه باحضاره فانبري إليه قائلا:

-اجب امير المؤمنين.

-ما لي إليه حاجة فأقوم إليه،فان كانت الحاجة إليه فهو بالقيام أوليه.

ص: 266


1- سورة الأنعام:آية 149.
2- تحف العقول:ص 407-408،و رواه المفيد في الاختصاص و المجلسي في البحار بصورة أوجز من هذه.

فمضي الحاجب الي الرشيد فقال:صدق،ثم مشي إليه فلما وصل سلم عليه و قال:

-يا اعرابي أجلس؟ -ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس،إنما هو بيت اللّه نصبه لعباده فان أحببت أن تجلس فاجلس،و ان أحببت ان تنصرف فانصرف!! فجلس هارون و هو مغيظ محنق فقال له:

-ويحك!!مثلك من يزاحم الملوك؟! -نعم.و فيّ مستمع (1).

-فاني سائلك،فان عجزت آذيتك.

-سؤالك هذا سؤال متعلم؟او سؤال متعنت؟ -بل سؤال متعلم.

-اجلس مكان المسئول من السائل.و سل،و أنت مسئول.

-اخبرني ما فرضك؟ -ان الفرض واحد،و خمسة،و سبعة عشر،و اربع و ثلاثون،و اربع و تسعون،و مائة و ثلاثة و خمسون علي سبعة عشر،و من اثني عشر واحد و من اربعين واحد،و من مائتين خمس،و من الدهر كله واحد، و واحد بواحد.

فضحك الرشيد،و قال مستهزءا به:

-ويحك أسألك عن فرضك و أنت تعد علي الحساب؟!! -أ ما علمت ان الدين كله حساب،و لو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ اللّه للخلائق حسابا ثم قرأ(و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين).ه.

ص: 267


1- في مستمع:أي عندي علم يجب ان يستمع إليه.

-بين لي ما قلت:و الا امرت بقتلك بين الصفا و المروة.

فقال الحاجب:لهارون:

-هبة للّه و لهذا المقام.

فضحك الاعرابي من قوله،فغضب منه هارون و قال له:

-مم ضحكت؟ -تعجبا منكما!!اذ لا ادري من الأجهل منكما الذي يستوهب أجلا قد حضر،او الذي استعجل أجلا لم يحضر؟!! فقال الرشيد:فسر ما قلت؟ -أما قولي:الفرض واحد فدين الاسلام كله واحد و عليه خمس صلوات و هي سبعة عشر ركعة،و أربع و ثلاثون سجدة،و اربع و تسعون تكبيرة،و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة،و اما قولي:من اثني عشر واحد فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا،و أما قولي:من الاربعين واحد فمن ملك اربعين دينارا اوجب اللّه عليه دينارا،و أما قولي:من مائتين خمسة فمن ملك مائتي درهم اوجب اللّه عليه خمسة دراهم،و أما قولي:فمن الدهر كله واحد فحجة الاسلام،و أما قولي:واحد بواحد فمن أهرق دما بغير حق وجب إهراق دمه قال اللّه تعالي: اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ .

فانطلق هارون يعرب عن اعجابه بغزارة علمه قائلا له:للّه درك!! ثم انه أمر باعطائه بدرة فقال له الاعرابي:بم استوجبت هذه البدرة، بالكلام أو بالمسألة؟ -بل بالكلام.

-فاني أسألك عن مسألة فان أتيت بها كانت لك البدرة تتصدق بها في هذا الموضع الشريف،فان لم تجبني عنها اضفت الي البدرة بدرة اخري لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي.

ص: 268

فأمر هارون باحضار بدرة اخري و قال له:

-سل عما بدا لك.

-اخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟ فتغير هارون و استولي عليه الغضب فاندفع قائلا:

-ويحك مثلي من يسأل عن هذه المسألة!! -سمعت ممن سمع من رسول اللّه(ص)انه قال:من ولي أقواما وهب له من العقل كعقولهم،و أنت إمام هذه الأمة،يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك و من الفرائض إلا اجبت عنه،فهل عندك له جواب؟.

-لا-بين لي ما قلته و خذ البدرتين.

-ان اللّه لما خلق الأرض خلق دبابات الأرض من غير فرث و لا دم خلقها من التراب،و جعل رزقها و عيشها منه،فاذا فارق الجنين أمه لم تزقه،و لم ترضعه،و كان عيشها من التراب فقال هارون:و اللّه ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة.

فأخذ الاعرابي البدرتين و انصرف فتبعه بعض الناس فسأل عن اسمه فاذا هو الامام موسي بن جعفر(ع)فانعطف الي هارون فأخبره بذلك، فقال هارون:

-ينبغي ان تكون هذه الورقة من تلك الشجرة (1).

و الذي يبعثنا علي الريبة في هذه الرواية ما يلي:

1-انها احتوت علي قيام الامام بمزاحمة هارون في طوافه و صلاته و هو بعيد عن هدي الامام و سلوكه،و لم يكن هناك أي أثر ديني يترتب علي هذه العملية.).

ص: 269


1- المناقب:(ج 3 ص 427-429).

2-خفاء شخصية الامام علي هارون و عدم معرفته به طيلة هذه المناظرة التي استوعبت وقتا كبيرا مع أن هارون يعرف الامام،و لم يكد يخفي عليه امره.

3-أخذ الامام البدرتين من هارون،و هو بعيد كل البعد عما عرف به الامام من الآباء،و عدم الخضوع الي هارون و غيره من ملوك عصره.

4-ان هذه القصة بجميع ابعادها سؤالا و جوابا لا تخلو من هزال، و بعد عن المنطق فهي الي الخيال أقرب منها الي الواقع...ان كثيرا من امثال هذه الامور هي من وضع الغلاة و المفوضة،و لا نصيب لها من الصحة حسب ما اعتقد.

6-مع علماء اليهود:

و قصد وفد من علماء اليهود الامام الصادق ليحاججونه في الاسلام فلما تشرفوا بالمثول بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجة و الدليل علي نبوة رسول اللّه(ص)قائلين:

-أي معجز يدل علي نبوة محمد(ص)؟ -كتابه المهيمن،الباهر لعقول الناظرين،مع ما أعطي من الحلال و الحرام،و غيرهما مما لو ذكرناه لطال شرحه.

-كيف لنا ان نعلم هذا كما وصفت؟ فانطلق الامام موسي و كان آنذاك صبيا قائلا لهم:

-و كيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات اللّه لموسي علي ما تصفون؟ -علمنا ذلك بنقل الصادقين.

-فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقنه اللّه تعالي من غير تعليم و لا معرفة عن الناقلين.

ص: 270

فبهروا و آمنوا بقول الامام الكاظم-الذي هو المعجز بحق-و هتفوا معلنين اسلامهم قائلين:

-نشهد أن لا إله الا اللّه،و ان محمدا رسول اللّه،و أنكم الأئمة الهادون و الحجج من عند اللّه علي خلقه...

و لما أدلي الامام موسي بهذه الحجة و أسلم القوم علي يده،و ثب إليه أبو عبد اللّه فقبل ما بين عينيه و قال له:أنت القائم من بعدي،ثم انه(ع) أمر بكسوة لهم و أوصلهم فانصرفوا و هم شاكرون (1).

7-مع بريهة:

كان بريهة من أقطاب النصاري و من علمائها النابهين،و كان يطلب الحق و يبغي الهداية فاتصل بجميع الفرق الاسلامية و اخذ يحاججهم فلم يصل الي الهدف الذي يريده،فوصفت له الشيعة و وصف له هشام بن الحكم فقصده و معه مائة عالم من علماء النصاري فلما استقر به المجلس سأله عن أهم المسائل الكلامية و العقائدية فاجابه عنها هشام ثم ارتحلوا جميعا الي التشرف بمقابلة أبي عبد اللّه(ع)و قبل الالتقاء به اجتمعوا بالامام موسي فقص عليه هشام مناظراته و حديثه مع بريهة فالتفت(ع)الي بريهة قائلا:

-يا بريهة:كيف علمك بكتابك؟ -أنا به عالم.

-كيف ثقتك بتأويله؟ -ما أوثقني بعلمي به!! فأخذ(ع)يقرأ عليه الانجيل و يرتل عليه فصوله فلما سمع ذلك بريهة آمن بأن دين الاسلام حق و ان الامام من شجرة النبوة فانبري إليه قائلا:

ص: 271


1- البحار:(ج 4 ص 148).

-اياك كنت اطلب منذ خمسين سنة،أو مثلك!! ثم انه أسلم و أسلمت معه زوجته و قصدوا جميعا ابا عبد اللّه(ع)فحكي له هشام الحديث و إسلام بريهة علي يد ولده موسي فسر(ع)بذلك و التفت(ع) قائلا له:

«ذرية بعضها من بعض و اللّه سميع عليم».

و انبري بريهة الي أبي عبد اللّه قائلا:

-جعلت فداك،اني لكم التوراة و الانجيل و كتب الأنبياء؟!! -قال هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرءوها،و نقولها كما قالوها:ان اللّه لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول:لا أدري.

و لزم بريهة الامام أبا عبد اللّه و صار من خلص أصحابه و لما انتقل الامام(ع)الي دار الخلود اتصل بالامام موسي حتي توفي في عهده (1)

8-مع راهب:

كان في الشام راهب تقدسه النصاري و تعظمه،و كان يخرج لهم في السنة يوما فيعظهم،فالتقي به الامام في ذلك اليوم الذي يعظ به و قد طافت به الرهبان و عليه القوم،فلما استقر المجلس بالامام التفت إليه الراهب قائلا:

-يا هذا،أنت غريب؟ -نعم.

-منا أو علينا؟ -لست منكم.

-أنت من الامة المرحومة؟ -نعم- -أمن علمائها أم من جهالها؟

ص: 272


1- البحار:(ج 4 ص 147).

-لست من جهالها؟ فاضطرب الراهب،و تقدم الي الامام يسأله عن أعقد المسائل عنده قائلا:

-كيف طوبي،أصلها في دار عيسي عندنا،و عندكم في دار محمد(ص) و أغصانها في كل دار؟ -انها كالشمس يصل ضوؤها الي كل مكان و موضع و هي في السماء.

-ان الجنة كيف لا ينفذ طعامها و إن أكلوا منه،و كيف لا ينقص منه شيء؟ -انه كالسراج في الدنيا يقتبس منه،و لا ينقص منه شيء.

-ان في الجنة ظلا ممدودا،ما هو؟ -الوقت الذي قبل طلوع الشمس،هو الظل الممدود،ثم تلا قوله تعالي: أَ لَمْ تَرَ إِلي رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ .

-ان أهل الجنة يأكلون و يشربون كيف لا يكون لهم غائط و لا بول؟ -انهم كالجنين في بطن أمه.

-ان لأهل الجنة خدما كيف يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟ -ان الانسان اذا احتاج الي شيء عرفت اعضاؤه ذلك فتعرفه الخدم فيحققون مراده من غير أمر.

-مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟ -مفتاح الجنة قول العبد:لا إله الا اللّه.

-صدقت.

ثم انه أسلم هو و قومه (1).).

ص: 273


1- المناقب:(ج 3 ص 427).

هذه بعض احتجاجات الامام و مناظراته،و سنذكر قسما آخر منها في بعض فصول الكتاب.

نظمه الشعر:

أما نظمه للشعر فقليل جدا و قد ذكر الشيخ المفيد له أبياتا تلاها الامام الرضا(ع)علي المأمون و نسبها(ع)الي أبيه:

كن للمكاره بالعزاء مدافعا فلعل يوما لا تري ما تكره

فلربما استتر الفتي فتنافست فيه العيون و انه لمموه

و لربما خزن الأديب لسانه حذر الجواب و انه لمفوه

و لربما ابتسم الوقور من الأذي و ضميره من حره يتأوه (1)

و ذكر ذو النون المصري أنه اجتاز في أثناء سياحته علي قرية تسمي بتدصر فرأي جدارا قد كتبت عليه هذه الأبيات و هي:

أنا ابن مني و المشعرين و زمزم و مكة و البيت العتيق المعظم

و جدي النبي المصطفي و أبي الذي ولايته فرض علي كل مسلم

و أمي البتول المستضاء بنورها اذا ما عددناها عديلة مريم

و سبطا رسول اللّه عمي و والدي و أولاده الأطهار تسعة أنجم

متي تعتلق منهم بحبل ولاية تفز يوم يجزي الفائزون و تنعم

أئمة هذا الخلق بعد نبيهم فان كنت لم تعلم بذلك فاعلم

أنا العلوي الفاطمي الذي ارتمي به الخوف و الأيام بالمرء ترتمي

فضاقت بي الأرض الفضاء برحبها و لم استطع نيل السماء بسلم

فالممت بالدار التي انا كاتب عليها بشعري فاقر ان شئت و المم

ص: 274


1- الأمالي:ص 150.

و سلم لأمر اللّه في كل حالة فليس أخو الاسلام من لم يسلم

قال ذو النون فعلمت انه علوي قد هرب من السلطة و ذلك في خلافة هارون،و احتمل المجلسي ان تكون هذه الأبيات للامام الكاظم(ع)ذهب الي ذلك المكان و كتبها لاتمام الحجة علي أعدائه (1)و يبعد ذلك أن الامام لم يهرب من السلطة و لم يتخف في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيما منكرا علي هارون و علي غيره من ملوك عصره و لم يهرب من السلطة و لم يخف من جورها و سنذكر ذلك بالتفصيل.

جوامع الكلم:

و له(ع)كلمات حكمية قد تطرق فيها لبعض الشؤون الأخلاقية و الاجتماعية،زيادة علي ما ذكرناه،و قد آثرنا ذكرها من دون إيضاح او تعليق و هي:

قال(ع):لا تذهب الحشمة بينك و بين أخيك،و ابق منها،فان ذهابها ذهاب الحياء.

قال(ع):عونك للضعيف من أفضل الصدقة.

قال(ع):يعرف شدة الجور من حكم به عليه.

قال(ع):تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل.

قال(ع):لا تصلح المسألة الا في ثلاث:في دم منقطع،أو غرم مثقل،أو حاجة مدقعة.

قال(ع):المؤمن أعز من الجبل،الجبل يستفل بالمعاول،و المؤمن

ص: 275


1- البحار:(ج 11 ص 286).

لا يستفل دينه بشيء.

قال(ع):أداء الأمانة و الصدق يجلبان الرزق،و الخيانة و الكذب يجلبان الفقر و النفاق.

و سأله عبيد اللّه بن اسحاق المدائني فقال له:ان الرجل يراني فيحلف باللّه انه يحبني،أ فأحلف باللّه انه لصادق؟فقال(ع):امتحن قلبك فان تحبه فاحلف و الا فلا.

قال(ع):من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله،و خاب أمله.

قال(ع):لا خير في العيش الا لمسمع واع او عالم ناطق.

قال(ع):ان صلاحكم من صلاح سلطانكم،و ان السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم،فأحبوا له ما تحبون لانفسكم و اكرهوا له ما تكرهون لانفسكم.

قال(ع):لمحمد بن الفضل:يا محمد كذب سمعك و بصرك عن أخيك و ان شهد عندك خمسون قسامة،و قال لك قولا:فصدقه و كذبهم و لا تذيعن شيئا يشينه.

قال(ع):من دعا قبل الثناء علي اللّه و الصلاة علي النبي(ص)كان كمن رمي بسهم بلا وتر.

قال(ع):افضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج.

قال(ع):التودد الي الناس نصف العقل.

قال(ع):كثرة الهم تورث الهرم.

قال(ع):العجلة هي الخرق.

قال(ع):قلة العيال أحد اليسارين.

قال(ع):من أحزن والديه فقد عقهما.

قال(ع):الصنيعة لا تكون صنيعة الا عند ذي دين أو حسب،

ص: 276

و اللّه ينزل المعونة علي قدر المؤنة،و ينزل الصبر علي قدر المصيبة.

قال(ع):اذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتي يعرف ذلك منه.

قال(ع):المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه قال(ع):و قد حضر ميتا أنزل في قبره،ان شيئا هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله،و ان شيئا هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره.

قال(ع):اشتدت مئونة الدين و الدنيا،أما مئونة الدنيا فانك لا تمد يدك الا وجدت فاجرا قد سبقك إليها،و أما مئونة الآخرة فانك لا تجد أعوانا يعينونك عليها.

قال(ع):لا تبذل لاخوانك من نفسك ما ضرره عليك أعظم من منفعته لهم.

قال(ع):أخذ أبي بيدي،و قال يا بني:ان ابي محمد بن علي أخذ بيدي،و قال ان أبي علي بن الحسين أخذ بيدي و قال:يا بني:افعل الخير الي كل من طلبه منك فان كان من أهله فقد أصبت موضعه،و ان لم يكن له بأهل كنت أهله،و ان شتمك رجل عن يمنك ثم تحول الي يسارك و اعتذر إليك فاقبل منه.

قال(ع):ما أهان الدنيا قوم قط الا هنأهم اللّه اياها و بارك لهم فيها،و ما أعزها قوم قط إلا بغضهم اللّه اياها.

و ذكر في مجلسه بعض الجبابرة،فقال(ع):أما و اللّه لئن عز بالظلم في الدنيا ليذلن بالعدل في الآخرة.

قال(ع):من أتي الي أخيه مكروها فبنفسه بدأها.

قال(ع):من ولده الفقر أبطره الغني.

قال(ع):ما استسب اثنان الا انحط الأعلي منهما الي المرتبة السفلي.

ص: 277

قال(ع):المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه و ان لم يلده أبوه،ملعون من اتهم أخاه،ملعون من لم ينصح لأخيه،ملعون من استأسر لأخيه، ملعون من احتجب عن أخيه،ملعون من اغتاب أخاه.

قال(ع):قلة الوفاء عيب بالمروءة.

قال(ع):المعروف تلو المعروف غل لا يفكه الا مكافأة او شكر.

قال(ع):لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال.

قال(ع):قلة الشكر تزهد في اصطناع المعروف.

قال(ع):رأس السخاء أداء الأمانة.

قال(ع):من لم يكن له من نفسه واعظ تمكن منه عدوه-يعني به الشيطان-.

قال(ع):المغبون من غبن من عمره ساعة.

قال(ع):من كثر خلقه لم يعرف بشره.

قال(ع):من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينل جسيما.

قال(ع):أولي العلم بك ما لا يصلح لك العمل الا به،و أوجب العلم عليك ما أنت مسئول عن العمل به،و ألزم العلم ما دلك علي صلاح قلبك و أظهر لك فساده،و أحمد العلم عاقبة ما زاد في عقل العاقل،فلا تشغلن بعلم لا يضرك جهله،و لا تغفلن عن علم يزيد في جهلك تركه.

قال(ع):اياك ان تمنع في طاعة اللّه فتنفق مثليه في معصية اللّه.

قال(ع):من تكلم في اللّه هلك،و من طلب الرئاسة هلك،و من دخله العجب هلك.

سأله رجل عن الجواد:فقال(ع):ان لكلامك وجهين.فان كنت تسأل عن المخلوقين،فان الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه.

و البخيل من بخل بما افترض اللّه عليه،و ان كنت تعني الخالق فهو الجواد

ص: 278

ان أعطي،و هو الجواد ان منع لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك و ان منعك منعك ما ليس لك.

قال(ع):ان قوما يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفا هم الآمنون يوم القيامة.

قال(ع):فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد علي إبليس من ألف عابد،لأن العابد همه ذات نفسه فقط،و هذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد اللّه و إمائه لينقذهم من يد إبليس و مردته و لذلك هو أفضل عند اللّه من الف عابد و الف عابد قال عبد اللّه بن يحيي:كتبت الي الامام موسي في دعاء«الحمد للّه منتهي علمه»فكتب(ع)لا تقولن:منتهي علمه،فانه ليس لعلمه منتهي و لكن قل:منتهي رضاه.

قال(ع):كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون.

قال علي بن سويد السائي:سألت أبا الحسن الأول عن قول اللّه عز و جل وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فقال(ع):التوكل علي اللّه درجات:منها ان تتوكل عليه في أمورك كلها،فما فعل بك كنت عنه راضيا.تعلم أنه لا يألوك الا خيرا و فضلا،و تعلم ان الحكم في ذلك إليه، و تثق به فيها و في غيرها.

قال(ع):ان اهل الارض لمرحومون ما تحابوا و أدوا الأمانة و عملوا بالحق.

قال(ع):لا تضيع حق أخيك اتكالا علي ما بينك و بينه فانه ليس بأخ من ضيعت حقه،و لا يكونن أخوك أقوي علي قطيعتك منك علي صلته.

ص: 279

قال(ع):ان الأنبياء و أولاد الأنبياء و أتباع الأنبياء خصوا بثلاث خصال،السقم في الأبدان،و خوف السلطان و الفقر.

قال(ع)لبعض ولده:لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة اللّه و طاعته فان اللّه عز و جل لا يعبد حق عبادته.

قال(ع):ان اللّه عز و جل يقول:إني لم أغن الغني لكرامة له علي و لم أفقر الفقير لهوان به علي،و هو مما ابتليت الأغنياء بالفقراء،و لو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة.

قال(ع):اذا لم تستح فاعمل ما شئت.

و حدث العباس بن هلال الشامي قال قلت لأبي الحسن موسي:جعلت فداك ما أعجب الي الناس من يأكل الجشب،و يلبس الخشن و يتخشع؟!! فقال(ع):أ ما علمت أن يوسف نبي و ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب و يجلس في مجالس آل فرعون فيحكم،فلم يحتج الناس الي لباسه و انما احتاجوا الي قسطه،و انما يحتاج من الامام اذا قال:صدق، و اذا وعد انجز،و اذا حكم عدل،إن اللّه لم يحرم طعاما و لا شرابا من حلال،انما حرم الحرام قل او كثر،و قد قال اللّه من حرم زينة اللّه التي اخرج لعباده و الطيبات من الرزق».

قال موسي بن بكر:سألت أبا الحسن(ع)عن الكفر و الشرك أيهما أقدم فقال لي:ما عهدي بك تخاصم،فقلت:امرني هشام بن سالم ان أسألك،فقال لي:الكفر أقدم و هو الجحود قال اللّه عز و جل: إِلاّ إِبْلِيسَ أَبي وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ .

قال علي بن سويد:سألت أبا الحسن موسي(ع)عن الضعفاء-أي ضعفاء العقيدة-فكتب(ع)لي الضعيف من لم ترفع له حجة،و لم يعرف الاختلاف فاذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف.

ص: 280

قال علي بن سويد:سألت أبا الحسن عن العجب الذي يفسد العمل فقال(ع):العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه و يحسب انه يحسن صنعا،و منها أن يؤمن العبد بربه فيمن علي اللّه عز و جل،و للّه عليه فيه المن.

قال(ع):من طلب هذا الرزق من حله ليعود به علي نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه فان غلب عليه فليستدن علي اللّه و علي رسوله ما يقوت به عياله فان مات و لم يقضه كان علي الامام قضاؤه فان لم يقضه كان عليه وزره ان اللّه عز و جل يقول:انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين،الي قوله تعالي: وَ الْغارِمِينَ ،و هذا فقير مسكين مغرم.

قال(ع):قال رسول اللّه(ص):من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات و الأرض.

قال(ع):أحسن من الصدق قائله،و خير من الخير فاعله.

قال علي بن جعفر:سألت اخي موسي بن جعفر فقلت له:

-أصلحك اللّه،أ يكون المؤمن بخيلا؟ -نعم.

-أ يكون خائنا؟ -لا-و لا يكون كاذبا،ثم قال(ع):ان أبي حدثني عن آبائه عن رسول اللّه(ص)أنه قال:كل خلة يطوي المؤمن عليها ليس الكذب و الخيانة و قال(ع):سأل رجل رسول اللّه(ص)ما حق الوالد علي ولده؟ فقال(ص)لا يسميه باسمه،و لا يمشي بين يديه،و لا يجلس قبله،و لا يستسب له (1).

قال(ع):قال رسول(ص):من اصبح و هو لا يهم بظلم احده.

ص: 281


1- أي لا يعمل فعلا يصير سببا لسب الناس الي أبيه.

غفر اللّه ما اجترم (1).

قال(ع):جاء رجل الي رسول اللّه(ص)فقال له يا رسول اللّه ما حق ابني هذا؟ فقال(ص):ان تحسن اسمه و أدبه.

قال(ع):نعم المال النخل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل.

و نقتصر علي هذا المقدار من جوامع كلماته(ع)و له تراث آخر يتعلق في رد الملحدين و غيرهم و سوف نقدمه عند عرض مشاكل عصره و فيما يلي بعض المصادر التي اقتبسنا منها هذه الكلمات القيمة و هي:

1-الوسائل:لمحمد بن الحسن الحر العاملي 2-من لا يحضره الفقيه:للصدوق محمد بن علي القمي 3-المحاسن:لأبي جعفر احمد بن محمد البرقي 4-اصول الكافي:لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي 5-عيون اخبار الرضا:للصدوق محمد بن علي القمي 6-أعيان الشيعة:للسيد محسن الأمين العاملي 7-ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي 8-الاتحاف في حب الاشراف:للشبراوي 9-نور الأبصار:للشبلنجيّ 10-الاحتجاج:للطبرسي 11-قرب الاسناد:لعبد اللّه بن جعفر الحميري 12-الوافي:لمحسن القاشاني 13-تأريخ اليعقوبي:لأحمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح 14-مجموعة ورام:لورام بن أبي فراس 15-تحف العقول:للحسن بن علي 16-نزهة الناظر في تنبيه الخاطر:للحسين بن محمد الحلوانيب.

ص: 282


1- اجترم:اكتسب.

انهيار الحكم الأموي

اشارة

ص: 283

ص: 284

كان الامام موسي(ع)أيام الثورة العارمة علي الحكم الأموي في سن مبكر،فقد كان عمره الشريف-حسب ما يقول الرواة-مما يزيد علي اربع سنين،و هو دور يسمح لصاحبه أن ينقل الي دخيلة نفسه كثيرا من المشاهدات و الصور التي تمر عليه،و لا سيما اذا كانت من الاحداث الجسام فانها تؤثر-من دون شك-في دخائل ذاته،و تتفاعل معه،و تترك فيه كثيرا من الانطباعات حسب ما يقوله علماء النفس.

و قد شاهد الامام أو سمع و هو في سنه المبكر الثورة العارمة التي عمت جميع الاقالي م الاسلامية علي الحكم الأموي،فقد واكبت تلك الثورة كثيرا من الأحداث الرهيبة فجبال من جثث الضحايا و بحور من الدماء بذلت بسخاء للتخلص من ذلك الحكم الاسود القائم علي الجور و الاستغلال و التنكر لحقوق الانسان.

و لسنا بصدد البحث عن تأسيس الدولة الأموية،و بيان دوافع ايجادها فذاك أمر يحز في النفس،و يترك لهب الحزن في القلوب،فان هذه الدولة لم تتأسس الا لعزل أهل البيت(ع)و اقصائهم عن قيادة الأمة حسب ما هو معلوم من مبدأ الشوري الذي صمم لأجل هذه الغاية...و قد رافقت تلك الدولة في جميع مراحلها كثيرا من المشاكل الاجتماعية ما أثرت به علي الحياة الاسلامية العامة من اضاعة الاهداف الاصلية التي ينشدها الاسلام في ظلال حكمه من نشر العدالة و المساواة و الرفاهية و الدعة بين الناس.

لقد جمدت بصورة قطعية جميع المفاهيم الاسلامية البناءة،و ضاعت آمال الاسلام في ايجاد مجتمع متحرر من الجهل و الجمود،و البؤس و الفقر لقد تبدلت الحياة الكريمة التي سعي الاسلام الي ايجادها الي حياة قائمة تسودها النزعات الجاهلية،و يعمها الظلم و الجور و الانحراف عن القيم الانسانية.

ص: 285

و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن الاسباب التي طوت ذلك الحكم الاسود،و أزالت وجوده البغيض عن العالم الاسلامي،فان الحديث عن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا-فيما نحسب-بالبحث عن حياة الامام موسي فانها تصور لنا محنة أهل البيت(ع)في تلك الادوار الرهيبة،و ما عانوه من الظلم المرير و الجور الشديد،و ما قاسته شيعتهم من المجازر و السجون و المطاردة و التنكيل،و ما عاناه المسلمون جميعا من الاضطهاد الجماعي المتميز بسلب حرياته،و شل اقتصاده،و اشاعة البؤس و الفقر و انعدام الأمن في ربوعه الي غير ذلك من الوان الظلم و الاضطهاد،و من الطبيعي أن لذلك أثرا كبيرا في تكوين حياة الامام موسي،و انطباعها علي الحزن العميق، و الأسي الشديد...و فيما يلي عرض موجز لبعض تلك الاحداث.

اسباب الانهيار

التنكيل بأهل البيت:

و كان الشيء البارز في السياسة الأموية انها وجهت جميع أجهزتها الادارية و الاقتصادية و السياسية الي اضطهاد أهل البيت(ع)و التنكيل بهم و كان من مظاهر ذلك:

1-انها فرضت سبهم،و انتقاصهم علي جميع المسلمين،و جعلته فرضا دينيا يسألون عنه و يحاسبون عليه،فكان الخطيب يبدأ خطابه و يختمه بسب العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم،و بلغ الانحطاط الفكري و الاجتماعي أقصاه عند تلك السلطات الحاكمة،فكان الانتهازيون و باعة الضمير يتوصلون إليها بانتقاص عترة النبي(ص)و سبها،فقد روي المؤرخون ان شخصا ذميم المنظر جاء يشتد الي الحجاج و هو رافع عقيرته:

«أيها الامير ان أهلي عقوني فسموني عليا،و اني فقير بائس،و انا الي صلة الامير محتاج..».

فتضاحك الحجاج،و قال له:

ص: 286

(للطف ما توصلت به فقد وليتك موضح كذا..» (1).

إن مناصب الدولة،و أموالها تمنح بغير حساب للادعياء و الاغنياء لأنهم ينتقصون أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

و قد أثار ذلك كوامن الحقد و الغيظ في نفوس المؤمنين و المتحرجين في دينهم فاندفعوا الي اعلان سخطهم علي الأمويين،و كان من بينهم الشاعر الملهم كثير بن كثير فقد قال:

لعن اللّه من يسب عليا و حسينا من سوقة و إمام

أ يسب المطهرون جدودا و الكرام الأخوال و الأجداد

يأمن الطير و الحمام و لا يأمن آل الرسول عند المقام

طبت بيتا و طاب اهلك أهلا أهل بيت النبي و السلام

رحمة اللّه و السلام عليهم كلما قام قائم بسلام (2)

و صورت هذه الأبيات مدي الاستياء الشامل و الحزن العميق لانتقاص أهل البيت كما حكت أصدق الود و خالصه لهم.

2-و استخدمت السلطة التربية لمحاربه أهل البيت،و هي أخطر وسيلة اعتمدت عليها لدعم غرضها فقد عهدت الي معلمي الكتاتيب أن يغذوا الاطفال بروح الكراهية و العداء لآل النبي(ص)و أن يمعنوا في غرس هذه النزعة الشريرة في نفوسهم من أجل أن ينشأ جيل حاقد علي آل البيت(ع) و كان ذلك من أفتك الوسائل و أكثرها خطرا علي الاسلام،فقد باعدت بين بعض المسلمين و بين عترة النبي(ص)التي فرض اللّه مودتها في محكم6.

ص: 287


1- حياة الامام الحسن بن علي 336/2
2- شرح ابن أبي الحديد 475/3،عرضنا كلمات الاحرار الذين نقدوا الامويين علي ذلك في كتابنا حياة الامام الحسن بن علي 338/2 -346.

كتابه،و لا تزال آثار هذه الظاهرة السيئة باقية حتي يوم الناس هذا.

3-انها أقامت لجان الوضع لتضع الحديث و تنمقه في مثالب أهل البيت،و تضع أحاديث المدح و الثناء للصحابة و بني أمية،و مما وضعوه، أن النبي(ص)قال«ان آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء انما ولي اللّه» و روي أبو هريرة عميد هذه اللجنة أن الرسول(ص)قال:«ان ابا طالب في ضحضاح من نار»و هو الذي اكثر من الرواية في كفر أبي طالب مؤمن قريش و حامي الاسلام و المنلفح عن رسول اللّه(ص)في احرج المواقف و اكثرها صعوبة،و سبب ذلك التقليل من أهميته و الحط من مآثره و مناقبه.

و علي أي حال فان السلطات الأموية قد عنت بلجان الوضع،و جهدت باذاعة أخبارها المفتعلة ضد أهل البيت(ع)و ذلك لتظليل الرأي العام و صرفه عن عترة رسول اللّه(ص)و ذريته.

4-و أمعن الأمويون في قتل العترة الطاهرة فقد امتدت ايديهم الأثيمة الي تلك النفوس الزكية التي أوجب اللّه ودها علي جميع المسلمين، فقد كان لهم ضلع كبير في اغتيال الامام امير المؤمنين(ع)حسب ما حققناه (1)و اغتال معاوية سبط النبي(ص)الأول و ريحانته الامام الحسن(ع)فدس له السم علي يد زوجته جعيدة بنت الأشعث (2)و قام بعده يزيد بارتكاب أفضع جريمة هزت الضمير الانساني و ذلك بابادته للعترة الطاهرة علي صعيد كربلاء فقد أوجبت هذه المأساة الكبري التي مني بها العالم الاسلامي شعوراسن

ص: 288


1- حققنا ذلك في تقديمنا لكتاب«معاوية أمام محكمة الجزاء» تأليف العلامة الكبير الشيخ مهدي القرشي.
2- حياة الامام الحسن

عاما بالاستياء و الكراهية لبني أمية،و سببت الهاب نار الثورات العارمة ضد ذلك الحكم الجاهلي.

و قام طاغية بني مروان هشام بن عبد الملك بقتل زيد بن علي بن الحسين(ع)و أمر الرجس الخبيث بوضع رأس زيد في مجلسه و أمر جميع من يدخل عليه بأن يطأ بحذائه وجه زيد الذي هو قطعة من كبد رسول اللّه(ص).

و كتب هشام الي و الي الكوفة أن يبقي زيدا مصلوبا،و لا ينزله عن خشبته قاصدا اذلال العلويين.و التشفي منهم،و بقي جسده الطاهر مرفوعا علي أعواد المشانق تصهره الشمس،و تذروه الرياح،قد وضعوا عليه الحرس خوفا من أن يختلس و يواري في التراب،و عمدت السلطة بعد ذلك الي احراق الجثمان العظيم و ذره في الهواء (1).

و عمد الامويون الي قتل يحيي بن زيد الثائر العظيم،ففي ذمة اللّه ما لاقته عترة رسول اللّه(ص)من القتل و التنكيل و الظلم و الهوان من بني أمية التي انتهكت بذلك حرمة النبي(ص)في عترته التي هي أولي بالرعاية و العطف من كل شيء.

و علي أي حال فان ما واجهته العترة الطاهرة من صنوف الكوارث و الخطوب طيلة الحكم الأموي قد أوجب سخط الاخيار و المتحرجين في دينهم،كما أوجب التحام القوي،و انتفاضة الشعوب الاسلامية الي الثورة الكبري التي اطاحت بحكم الامويين.ية

ص: 289


1- عقائد الزيدية
اضطهاد الشيعة:

و لاقت الشيعة في عهد الامويين المزيد من الجور و الاضطهاد،فقد صبت السلطات عليهم جام غضبها،و قابلتهم بجميع الوان العنف،لأنهم القوة الواعية التي تدفع الشعوب الاسلامية الي مناهضة الجور،و مناجزة الظلم، فكانت معظم الثورات الدامية التي أذعرت السلطات الأموية تستند الي الشيعة فهم قادة النضال و دعاة العدالة الاجتماعية،و ملهمي الشعوب روح التضحية في سبيل المبدأ و العقيدة.

لقد قاموا بأحرج الظروف،و أشدها أزمة و تعقيدا بمناهضة الظلم و مكافحة الجور،و تحرير المجتمع من الذل و العبودية،و قد قاسوا في سبيل ذلك أعنف المشاكل و أشدها لوعة و مرارة،و قد تحدث عنها الامام الباقر(ع)بقوله:

«و قتلت شيعتنا بكل بلدة،و قطعت الايدي و الأرجل علي الظنة، و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره» (1).

و قد كتب معاوية الي جميع عماله و ولاته بعد عام الصلح مذكرة جاء فيها:

«..انظروا الي من قامت عليه البينة انه يحب علينا و اهل بيته فامحوه من الديوان و اسقطوا عطاءه و رزقه.و شفع ذلك بنسخة اخري:

من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به و اهدموا داره» (2).

ص: 290


1- شرح ابن ابي الحديد 15/3.
2- نفس المصدر.

لقد واجهت الشيعة من العناء و الارهاق ما لا سبيل الي تصويره،و كان من اشدهم محنة شيعة أهل الكوفة أيام معاوية فقد استعمل عليهم زياد ابن أبيه،و كان بهم عالما فاشاع فيهم القتل و الاعدام فقتلهم تحت كل حجر و مدر و قطع أيديهم و أرجلهم،و سمل عيونهم،و صلبهم علي جذوع النخل و شردهم و طردهم (1).

و قد أوجبت هذه السياسة النكراء اشاعة السخط و التذمر بين جميع المسلمين فانهم لم يألفوا هذه السياسة،و لم يعهدوها من قبل،فانهم لم يواجهوا من الحكومات السابقة مثل هذا الاضطهاد و التنكيل بأحد من المسلمين.

و قد سعت الشيعة جاهدة بعد ما حل بها من الاضطهاد و الجور إلي العمل المتواصل علي اسقاط الحكم الأموي،و فل عروشه،فنظموا صفوفهم و شكلوا المنظمات السرية التي عملت علي ايقاظ الرأي العام،و بعثه الي ساحات النضال و التضحية للتخلص من الحكم الأموي.

واقعة الحرة:

و من أهم المآسي التي رزء بها العالم الاسلامي واقعة الحرة فقد انتهكت فيها كرامة الاسلام و حرمة الرسول(ص)فقد اعلنت القيادة العسكرية بعد احتلالها ليثرب اباحة الدماء و الاعراض و الاموال،و قد أسرف الجيش الأموي في ذلك بصورة لم يعهد لها نظير في القسوة و الغلظة،فقد استباح قتل النساء و الاطفال و الابرياء،و انتهاك الأعراض،و قد لجأ المدنيون الي قبر النبي(ص)و اعتصموا به لاعتقادهم ان قداسته سوف تحميهم و تعصمهم من الاعتداء الا ان تلك الوحوش الكاسرة لم تقم وزنا لحرمة

ص: 291


1- حياة الامام الحسن بن علي 348/2

القبر و لم ترجو له وقارا،فقد عمدوا الي قتلهم و انتهاك أعراضهم في الجامع النبوي،و قد علق مؤرخ أوربي علي هذا الحادث المؤسف بقوله:

«إن تأثير هذا الحادث علي العالم الاسلامي كان هائلا مروعا،فكأن الأمويين قد أرادوا أن يوفوا ما عليهم من دين حينما عاملهم الرسول و جيشه بالرحمة و العطف فشردوا و قتلوا خيرة شباب المدينة،و رجالها الميامين كما أجبروا من تبقي منهم علي مبايعة يزيد علي أنهم خول يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم فمن امتنع عن ذلك و سمه بالكي علي رقبته.

و قد اصبحت مدينة الرسول في حكم بني أمية كالواحة في الصحراء التي تحيط من جهاتها الأربع الكآبة الموحشة،و الظلام الدامس،و لم تسترد المدينة قط عهودها الغابرة حتي أصبحت في عصر بني أمية بلدة الماضي السحيق» (1).

و قد ذعر المسلمون من هذه الحادثة النكراء التي لم ترع فيها حرمة النبي(ص)في مجاوريه الذين آووه و نصروه و قاموا بحمايته أيام محنة الاسلام و غربته،و إذا بهم تستباح دماؤهم و تنتهك أعراضهم،و تنهب أموالهم، و يرغمون علي البيعة بأنهم خول و عبيد ليزيد..و ما انتهت هذه الكارثة الاليمة إلا بموجات من السخط و التذمر،فقد اصبحت حديث الناس في أنديتهم،و كانت من أوثق الاسباب التي أدت الي التحام القوي،و تعبئة الرأي العام الي الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الأموي.

سياسة الكفر و الظلم:

و الشيء المحقق الذي لم يختلف فيه المؤرخون هو أن الامويين لم تكن لهم أي نزعة اسلامية،و انما كانوا علي نزعاتهم الجاهلية،فلم ينفث الاسلام

ص: 292


1- مختصر تأريخ العرب ص 75

الي دخائل قلوبهم،و انما جري علي السنتهم خوفا من حد السيوف و أسنة الرماح،و لما دخلوا في حظيرة هذا الدين أخذوا يكيدون له،و يترقبون الفرص للانتقام منه و لما آل أمر المسلمين الي عميد الامويين عثمان بن عفان حسب المخطط الرهيب الذي صممته الشوري،سارع أبو سفيان الزعيم الأموي الي قبر سيد الشهداء حمزة فركله برجله و قال:

«يا أبا عمارة!..إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسي في يد غلماننا يتلعبون به..».

ثم مضي مثلوج القلب،و دخل علي عثمان فقال:«اللهم،اجعل الأمر أمر جاهلية،و الملك ملك غاصبية،و اجعل أوتاد الأرض لبني أمية» (1).

لقد قال أبو سفيان كلمة الكفر:أمام عثمان،و هو خليفة المسلمين و لم يوجه له عتابا أو ينزل به عقابا.

و كانت هذه النزعة الالحادية ماثلة في معاوية،و ظل متأثرا بها طوال حياته،و قد أعرب عن هذه الظاهرة في حديثه الخطير مع المغيرة بن شعبة فقد كشف فيه جانبا كبيرا عن واقعه الجاهلي و عدم ايمانه بالاسلام.و هذا نص حديثه فيما رواه مطرف بن المغيرة قال:وفدت مع أبي المغيرة علي معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية و عقله، و يعجب بما يري منه،و أقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء و هو مغتم أشد الغم،فانتظرته ساعة.و ظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له:

-ما لي أراك مغتما منذ الليلة؟ -يا بني جئت من أخبث الناس!!/6

ص: 293


1- تأريخ ابن عساكر 407/6

-و ما ذاك؟ -خلوت بمعاوية فقلت له:إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فانك قد كبرت،و لو نظرت الي اخوانك من بني هاشم فوصلت ارحامهم،فو اللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فقال لي:

«هيهات هيهات!!ملك أخو تيم فعدل،و فعل ما فعل،فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره،الا ان يقول قائل أبو بكر.ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره الا ان يقول قائل عمر.ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه،فعمل ما عمل،و عمل به فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره،و ذكر ما فعل به،و ان أخا بني هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات«أشهد ان محمدا رسول اللّه»فأي عمل يبقي بعد هذا لا أم لك إلا دفنا دفنا» (1).

و هذه البادرة تدل بوضوح علي كفره و الحاده،و علي حقده البالغ علي النبي(ص)فقد هاله و أزعجه ذكره في كل يوم خمس مرات في الأذان و لو وجد سبيلا لمحا اسمه،و طمس معالم دينه،و لشدة بغضه للنبي(ص) انه مكث في ايام خلافته اربعين جمعة لا يصلي فيها علي النبي و قد سئل عن ذلك فقال:

«لا يمنعني من ذكره الا ان تشمخ رجال بآنافها» (2).

و تمثلت هذه الظاهرة الالحادية بجميع ابعادها في ولده يزيد فانه بعد توليته الحكم اعلن الكفر و المروق من الدين،و قد اعلن كلمة الالحاد بقوله:/2

ص: 294


1- ابن أبي الحديد 357/2.
2- حياة الامام الحسن بن علي 149/2

لعبت هاشم في الملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

و هكذا اذا استعرضنا سيرة اغلب ملوك بني أمية لوجدناها حافلة بالزندقة و الحقد علي الاسلام،و قد حاولوا جميعا محو سطوره و اطفاء نوره و لو لا فيض عارم في مبادئه و عناية فيه من اللّه للف لواؤه،و لم يبق له ذكر و لا أثر.

و قد ساس الامويون الأمة الاسلامية بسياستهم الالحادية التي لا تؤمن بالاسلام كقاعدة أساسية في ميادين الحكم و الادارة،و الاقتصاد و السياسة، فغيروا جميع المناهج الحية التي أقامها الاسلام لاصلاح المجتمع،فعطلوا الحدود،و استحلوا ما حرم اللّه،و أقاموا أحكامهم علي الشبهة،و قتلوا علي الظنة و التهمة،و نهبوا أموال المسلمين و ثرواتهم،و قد ألمع الي ذلك سديف بن ميمون (1)في دعائه عن جور الأمويين و ظلمهم بقوله:لك

ص: 295


1- سديف بن ميمون:شاعر مفلق،و أديب بارع،و خطيب مصقع،بليغ في رعايته للمناسبات،و اصابته للأهداف،قال النمري: ما كان في زمان سديف أشعر منه،و لا أطبع،و لا أقدر علي ما يريده من الشعر،كان مولي لامرأة من خزاعة،و كان لها زوج من اللهيبين، و ادعي سديف بذلك ولاء بني هاشم،و زعم المدائني أنه مولي بني العباس و شاعرهم،جاء ذلك في طبقات الشعراء(ص 39-40)و في العمدة (ص 45)أنه لما خرج محمد بن الحسن بالمدينة علي ابي جعفر المنصور قال له: إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا بعد التباعد و الشحناء و الاحن و تنقضي دولة احكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا إن الخلافة فيكم يا بني حسن فلما بلغ المنصور ذلك كتب الي عبد الصمد ان يدفنه حيا ففعل ذلك و جاء في تأريخ ابن عساكران المنصور رمي به في بئر بعد أن ضربه.

«اللهم:قد صار فيئنا دولة بعد القسمة،و امارتنا غلبة بعد المشورة و عهدنا ميراثا بعد الاختيار للامة،و اشتريت الملاهي و المعارف بسهم اليتيم و الأرملة،و حكم في أبشار المسلمين أهل الذمة،و تولي القيام بأمرهم كل فاسق محلة فلا ذائد يذود عن هلكة،و لا مشفق ينظر إليهم بعين الرحمة، و لا رادع يردع من آوي إليهم بمظلمة،و لا ذو شفقة يشبع الكبد الحري من السغب،فهم أهل ضرع و ضيعة،و حلفاء كآبة و ذلة،قد استحصد زرع الباطل،و بلغ نهايته،و استجمع طريده،و استوسق و ضرب بجرانه اللهم فأتح له يدا من الحق حاصدة تجتث سنامه،و تهشم سوقه،و تبدد شمله،و تفرق كلمته ليظهر الحق في أحسن صورته،و أتم نوره،و أعظم بركته،اللهم:و قد عرفنا من انفسنا خلالا لا تقعد بنا عن استجابة الدعوة،و أنت المتفضل علي الخلائق أجمعين،و المتولي الاحسان الي السائلين فآت لنا من أمرنا حسب كرمك وجودك،و امتنانك،فانك تقضي ما تشاء و تفعل ما تريد...» (1).

و قد ألم دعاء سديف بوصف رائع للسياسة الأموية التي انتهكت حقوق المسلمين،و كفرت بجميع القيم العليا التي جاء بها الاسلام و حاربت جميع مبادئه و مناهجه.

و علي أي حال فان الأمويين قد ساسوا الاقاليم الاسلامية بسياسة قد بنيت علي الكفر و الخروج علي ارادة الامة،و قد اعتقد المسلمون بأن في في ظفر الأمويين بالحكم انما هو فوز للقوي المعادية للاسلام،و قد جاء هذا المعني فيما كتبه فيكلسن قال:

«اعتبر المسلمون انتصار بني أمية و علي رأسهم معاوية انتصارا

ص: 296


1- طبقات الشعراء ص 37-38.

؟؟؟للأرستقراطية الوثنية،التي ناصبت الرسول و أصحابه العداء،و التي جاهدها رسول اللّه(ص)حتي قضي عليها،و صبر معه المسلمون علي جهادها و مقاومتها حتي نصرهم اللّه فقضوا عليها،و أقاموا علي انقاضها دعائم الدين الاسلامي،ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء و الضراء و أزال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء،و يستذلون الضعفاء،و يبتزون الأموال،لذلك لاندهش إذ كره المسلمون بني أمية و غطرستهم،و كبرياءهم و اثارتهم للاحقاد القديمة،و نزوعهم للروح الجاهلية..» (1).

و لم يكن يخالط المسلمين شك في أن الأمويين خصوم الاسلام و اعداؤه الذين حاولوا اخفات صوته،و اخماد ضوئه،و انهم انما دخلوا في حظيرته طمعا في الأمرة،و سعيا وراء مصالحهم الخاصة،و قد أكد ذلك العلامة«دوزي» بقوله:

«إن جمهور المسلمين كانوا يرون أن من بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الاسلام الا سعيا وراء مصالحهم الشخصية،و انهم لا حق لهم في الخلافة و لا غيرها،فقد كانت سياسة بني أمية تهدف الي جعل الخلافة ملكا كسرويا،و ليس أدل علي ذلك من قول معاوية:«؟؟ الملوك» (2).

إن من يتصفح السياسة الأموية يري أنها كانت ترمي الي بسط الالحاد و اشاعة الكفر،و فل عروش الاسلام،و ازالة وجوده،و ذلك بما صعده الأمويون من العمليات التخريبية ضده كابادة اعلامه أمثال حجر بن عدي،و عمرو ابن الحمق الخزاعي،و ميثم التمار،و رشيد الهجري،و أمثالهم من قادة الفكر في الاسلام.).

ص: 297


1- تأريخ الاسلام السياسي 398/1
2- ملوك الطوائف و نظرات في تأريخ الاسلام(ص 381).

و قد أوجبت هذه السياسة المعادية للاسلام انتفاضة الجماهير الاسلامية و اجماعها علي حرب الامويين و ازالة دولتهم و سلطانهم.

السياسة المالية:

و للاسلام اقتصاده الخلاق الذي ينعش الشعوب،و يزيد من دخلها الفردي،و يزيل عنها كايوس الفقر و الحرمان،و قد أوجب علي الدولة مراقبة الاقتصاد العام،و العمل علي زيادة الانتاج،و صرف الخزينة العامة علي المصالح الحيوية،و لم يبح ان يصرف قليل أو كثير من أموال الأمة في غير تطورها الاقتصادي و الصناعي،حسب ما هو معلوم من مخططات السياسة المالية في الاسلام.

و قد جافي الامويون هذه السياسة المشرقة،و ابتعدوا عنها،و كان أول من انحرف عنها عثمان بن عفان فقد صرف بيت المال علي بني أمية و آل أبي معيط،و خص الوجوه و الاشراف و ذوي النفوذ بالهبات الضخمة و الثراء العريض،و حرم العامة من الانفاق عليها،و قد أوجبت هذه السياسة الملتوية اخفاقه فقد سخط عليه الأخيار و المتحرجون في دينهم،و طالبوه بالعدول عنها الا انه لم يعن بهم و أصر علي تنفيذ سياسته فثار عليه المسلمون و أردوه صريعا يتخبط بدمه،و قد ارهق المسلمين في ايام حكمه و حملهم عناء شديدا،و كذلك أجهدهم بعد قتله حسب ما أجمع عليه المؤرخون.

و قد سار الامويون طيلة حكمهم علي وفق السياسة العثمانية فخصوا انفسهم و من يمت إليهم بالاموال و الثراء و حرموا الأمة ان تتمتع بالرفاهية فقد اصطفوا جميع ثرواتها و امكانياتها الاقتصادية و تركوا شبح الفقر ماثلا في كل بيت من بيوت المسلمين،و قد فزع والي مصر الي العاهل الاموي

ص: 298

سليمان بن عبد الملك شاكيا له ما يعانيه المصريون من الاضطهاد و الثقل من الضرائب التي فرضت عليهم قائلا له:

«يا أمير المؤمنين:إني ما جئتك حتي أنهكت الرعية،و جهدت فان رأيت أن ترفق بها،و تخفف من خراجها ما تقوي به علي عمارة بلادها و صلاح معايشها فافعل فانه يستدرك ذلك في العام المقبل...» و هذا منطق حق و عدل الا ان الطاغية الجبار لم يع ذلك،و اجابه بما انطوت عليه نفسه من النزعات الشريرة قائلا:

«هبلتك أمك،احلب الدر فاذا انقطع فاحلب الدم و النجا» (1)و هل هناك ظلم أفحش او أقسي من هذا الظلم؟ أي استهانة بحقوق الانسان و كرامته مثل هذه الاستهانة؟إنه يريد ان يحكم علي المجتمع بالدمار،و يسلبه حياته،و مقوماته و لما شاع هذا الظلم الفاحش اخذ العمال و الولاة يتقربون إليهم بظلم الرعية و الجور عليها،فقد روي المؤرخون ان عبيد اللّه بن الحجاب صاحب الخراج علي مصر أراد ان يتقرب الي هشام بن عبد الملك فكتب إليه إن ارض مصر تحتمل الزيادة فأمره ان يزيد في كل دينار قيراطا (2).

و هكذا أخذت البلاد الاسلامية ترزح تحت كابوس ثقيل من الفقر و الحرمان قد سلبت جميع مقوماتها،و صارت بأيدي هؤلاء الأوغاد يصرفونها بسخاء علي المجون و الدعارة و افساد الاخلاق،و لم يعد ما يصرف من تلك الاموال علي المصالح العامة.).

ص: 299


1- الجهشياري(ص 51-52).
2- تأريخ الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42).
الضرائب الاضافية:

و أمعنت السلطات الاموية في جهد الرعية و ارهاقها،فقد سلبتها جميع مقدراتها و امكانياتها الاقتصادية،و ذلك بما فرضته عليها من الضرائب التي لم يألفها المسلمون،و لم يقرها دينهم،و قد روي المؤرخون ألوانا قاسية من تلك الضرائب و كان من بينها ما يلي:

1-الرسوم علي الصناعات و الحرف (1).

2-الرسوم:علي من أراد الزواج او يكتب عرضا (2).

3-الرسوم:علي اجور البيوت (3).

4-ضريبة النيروز،و أول من سنها معاوية بن أبي سفيان،و قد بلغت عشرة ملايين درهم (4).

5-الضريبة علي من أسلم (5)و السبب في ذلك شل الحركة الاسلامية و وقف انتشارها.

و المهم في هذه الضرائب الاضافية انها لم تكن محدودة،و انما كان أمرها بيد الولاة و الجباة فهم الذين يقدرونها حسب رغباتهم و ميولهم، و تحدث«بندلي جوزه»عن شدة وطأتها و ثقلها بقوله:

ص: 300


1- تأريخ الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42).
2- الطبري 129/8،تأريخ ابن الأثير 23/5.
3- الوزراء و الكتاب(ص 24).
4- الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42)،تأريخ التمدن الاسلامي 22/2.
5- التمدن الاسلامي 21/2.

«انها كانت أشد وطأة من الخراج و الجزية لأنها لم تكن محدودة و لا مستندة الي قاعدة مقبولة بل كان مقدارها يتوقف علي رغبة العمال» (1)و سأل صاحب أخناء بمصر عمرو بن العاص ان يخبره بمقدار ما عليه من الجزية فأجابه ابن العاص:

«لو أعطيتني من الارض الي السقف ما أخبرتك ما عليك انما أنتم خزانة لنا ان كثر علينا كثرنا عليكم،و ان خفف عنا خففنا عنكم» (2).

و ليس في مفاهيم الظلم الاجتماعي اكثر من هذا الظلم و لا أشد وطأة منه علي المجتمع الانساني فالشعوب خزانة لهؤلاء الحاكمين أو بستان لهم- علي حد تعبير ابن العاص-و قال معاوية:«الأرض للّه و أنا خليفة اللّه فما آخذ من مال اللّه فهو لي و ما تركته كان جائزا لي».

إن هذه السياسة النكراء قد أثارت سخط المجتمع و الهبت العواطف و المشاعر بروح الثورة،و النضال علي قلب ذلك الحكم و ازالة وجوده و آثاره.

اصطفاء الاموال:

و جهدت الحكومات الأموية في فقر المسلمين و تجويعهم فسلكت كل طريق يؤدي الي نشر الفاقة و الحرمان بينهم،و كان من بين الوسائل التي اتخذها الأمويون الي فقر المسلمين اصطفاء أموالهم فقد كتب معاوية الي زياد بن أبيه عامله علي العراق ان يصطفي له الصفراء و البيضاء.

فأوعز زياد الي عماله بذلك و أمرهم أن لا يقسموا بين المسلمين ذهبا

ص: 301


1- الحركات الفكرية(ص 42).
2- تأريخ التمدن الاسلامي 79/4-80.

و لا فضة (1).

و كتب معاوية الي وردان عامله علي مصر«ان تزد علي كل امرئ من القبط قيراطا،فكتب إليه وردان:كيف أزيد عليهم و في عهدهم ان لا يزاد عليهم؟».

و كانت الحال كذلك في سائر الولايات الاسلامية فقد صادر احد اخوة الحجاج املاك الاهالي ببلاد اليمن (2).

لقد اتخذ الامويون مال اللّه دولا،و عباد اللّه خولا كما اخبر الصادق الامين(ص)عما تمني به أمته في ظلال الحكم الاموي الجائر،و قد أثارت هذه السياسة عليهم سخط العامة فهبوا الي اعلان الثورة و الاطاحة بحكم الظلم و الجور.

رفض الناس لاملاكهم:

و لفداحة الضرائب،و ثقلها فقد عمد المزارعون الضعفاء الي رفض اراضيهم و التخلي عنها،و التجأ بعضهم الي تسجيلها باسم احدي شخصيات العرب،او باسم احد رجال الدولة لأجل حمايتهم،و كانوا يدفعون عوض هذا التسجيل قسما من الحاصلات الزراعية (3)أما في ولاية الحجاج فقد سجل عدد كبير من الملاكين اراضيهم باسم مسلمة بن عبد الملك.

لقد لاقت الشعوب الاسلامية في تلك الأدوار المظلمة اشد الوان العسف و الاضطهاد فهي تكدح و تعطي ثمرة جهودها الي اولئك الطغاة

ص: 302


1- التمدن الاسلامي 79/4
2- تأريخ الاسلام 474/1
3- الوزراء و الكتاب(ص 118)

ليصرفونه علي المجون و الدعارة و الشهوات.

و بقي هذا الحال المرير مستمرا،حتي دور النبيل عمر بن عبد العزيز فلمس المجتمع في عهده بعض الوان الدعة و الرفاهية،فأمر بالغاء تلك الضرائب الاضافية (1)،و لما انتهي دوره عاد الشقاء الي الناس،فقد أمر يزيد بن عبد الملك بارجاع تلك الضرائب،و كتب الي عماله مذكرة جاء فيها:

«اما بعد:فان عمر كان مغرورا،فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده و أعيدوا الناس الي طبقتهم الأولي اخصبوا أم أجدبوا،أحبوا أم كرهوا حيوا أم ماتوا» (2).

و لما انتهي هذا المرسوم الملكي الي العمال أخذوا بخناق الناس و شددوا عليهم فأعادوا الضرائب الي حالتها الأولي (3).

لقد انحرف الأمويون عن القصد،و جانبوا العدل،و ابتعدوا عن الطريق القويم،و هذا هو السر في اجماع المسلمين علي بغضهم في جميع أدوار الحياة الاسلامية.

الولاة و الجباة:

و أقام الامويون ولاتهم و جباتهم من شذاذ الآفاق أمثال زياد بن أبيه،و المغيرة بن شعبة،و بسر بن أبي ارطاة،و سمرة بن جندب و خالد القسري،و الحجاج بن يوسف الثقفي،و نظرائهم من الظلمة المستبدين

ص: 303


1- الطبري 129/8
2- الادارة الاسلامية(ص 114)
3- تأريخ اليعقوبي 55/2

الذين أثبتوا في نشاطهم السياسي و الاداري انهم أعداء الانسانية،و انهم لا عهد لهم بالرحمة و الرأفة او بأي مثل كريم يمتاز به الانسان عن الحيوان السائم.

لقد سلط الامويون هؤلاء الجفاة الأوغاد علي رقاب المسلمين فامعنوا في ظلمهم،و انتهاك حرماتهم،و سلب أموالهم،يقول النمري لعبد الملك مبينا له جور عماله،و اضطهادهم لقومه حتي افتقروا و هربوا في البيداء، و ليس معهم سوي إبل مهزولة،يقول النمري:

أ خليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

إن السعاة عصوك يوم أمرتهم و اتوا دواهي لو علمت و غولا

أخذوا العرين فقطعوا حيزومه بالاصبحية قائما مغلولا (1)

حتي اذا لم يتركوا لعضامه لحما و لا لفؤاده معقولا (2)

جاءوا بصكهم و أحدر أسأرت منه السياط يراعه اجفيلا (3)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا لا يستطيع عن الديار حويلا

يدعو امير المؤمنين و دونه خرق تجر به الرياح ذيولا (4)

كهداهد كسر الرماة جناحها تدعو بقارعة الطريق هديلا

أ خليفة الرحمن ان عشيرتي أمسي سوامهم عزين فلو لا (5)

قوم علي الاسلام لما يتركوا ما عونهم و يضيعوا التهليلا (6)ة.

ص: 304


1- الحيزوم:وسط الظهر،الاصبحية جمع أصبح السياط.
2- المعقول:الادراك.
3- اشأرت:أي بقيت في الاناء بقية،الاجفيل:الخائف.
4- الخرق:الصحراء الواسعة.
5- عزين:الجماعات.
6- الماعون:الزكاة.

قطعوا اليمامة يطردون كأنهم قوم أصابوا ظالمين فتيلا

شهري ربيع ما تذوق لبونهم الا حموضا و خمة و ذبيلا (1)

و أتاهم يحيي فشد عليهم عقدا يراه المسلمون ثقيلا (2)

كتبا تركن غنيهم ذا عيلة بعد الغني و فقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون امورهم إليك أم يتربصون قليلا (3)

و قد صور النمري بهذا الشعر الجور الهائل و المظالم الفظيعة التي صبها الولاة علي قومه،و قد استمر هذا الظلم حتي في دور عمر بن عبد العزيز الذي هو أعدل ملوك بني أمية-كما يقولون-فان عماله لم يألوا جهدا في اخذ اموال الناس بغير حق يقول كعب الاشعري مخاطبا له:

إن كنت تحفظ ما يليك فانما عمال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذي تدعو له حتي تجلد بالسيوف رقاب

بأكف منصلتين اهل بصائر في وقعهن مزاجر و عقاب (4)

و كان عمر يخطب علي المنبر فانبري إليه رجل فقطع عليه خطابه و قال له:

إن الذين بعثت في أقطارها نبذوا كتابك و استحل المحرم

طلس الثياب علي منابر ارضنا كل يجور و كلهم يتظلم (5)

و أردت ان يلي الامانة منهم عدل و هيهات الأمين المسلم (6)/3

ص: 305


1- الخموض:المر المالح،
2- يحيي:احد السعادة الظالمين.
3- حياة الامام الحسن 202/2 نقلا عن طبقات الشعراء(ص 439)
4- البيان و التبيان 358/3
5- طلس الثياب:الوسخة منها.
6- البيان و التبيان 359/3

لقد بالغ الولاة و الجباة في اضطهاد المجتمع الاسلامي،و سلبه جميع مقوماته الاقتصادية،و لم يفعلوا ذلك من عند أنفسهم،و انما كان بايعاز من ملوك الأمويين،فهم كانوا يدفعونهم الي النهب،و يقاسمونهم ما يسلبونه من الناس،و قد جاء هذا المعني صريحا فيما قاله:«فان فلوتن»:

«و بدل ان يتخذ الخلفاء-اي خلفاء الأمويين-التدابير لمحاسبة الولاة،و منعهم من الظلم نجدهم يقاسمونهم في فوائدهم من الأموال التي جمعوها بتلك الطرق المفضوحة،و هذا معناه رضي الخلفاء بسوء تصرف العمال مع أهل البلاد بالاضافة الي انه دليل علي أن بعضهم كان يهمه مصالح الخزينة المركزية بالدرجة الأولي..» (1).

إن ملوك الامويين لم يحاسبوا ولاتهم و جباتهم علي ما اقترفوه من الظلم الفاحش و النهب الفظيع لأموال الأمة،فقد كان ذلك بدفع منهم،فان الوالي كلما اشتد ظلمه،و جار في حكمه ازداد قربا منهم،فزياد بن أبيه كان اقرب الناس الي معاوية حتي الصق نسبه به،و ذلك لبطشه و جوره، و فتكه الذريع بالمسلمين،و الحجاج بن يوسف الثقفي كان من اقرب الولاة الي عبد الملك و آثرهم عنده حتي فوض أمر العراق إليه يتصرف فيه حيثما يشاء،و ذلك لعنفه و اسرافه في اراقة الدماء.

و علي أي حال فان ما عاناه المسلمون من جور العمال و ظلمهم من أهم اسباب الثورة الكبري التي اطاحت بنظام الحكم الأموي،و طوت سلطانه.).

ص: 306


1- السيادة العربية(ص 28).
احتقار الشعوب:

و الشيء البارز في السياسة الأموية ازدراء الشعوب الاسلامية،فقد كان ملوك الأمويين يبالغون في الاستخفاف بحق شعوبهم،يقول الوليد بن يزيد الأموي:

فدع عنك ادكارك آل سعدي فنحن الأكثرون حصي و مالا

و نحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة و النكالا

و نوردهم حياض الخسف ذلا و ما نألوهم الا خبالا

و صور هذا الشعر مدي الاستهتار الفاحش بحق الأمة،و الاستهانة بارادتها و قيمها.

و قال عبد الملك بن مروان في خطابه الذي ألقاه في يثرب أمام أبناء المهاجرين و الانصار:

«الا و اني لا أداوي أمر هذه الأمة الا بالسيف حتي تستقيم قناتكم، و انكم تحفظون اعمال المهاجرين الأولين،و لا تعملون مثل عملهم،و انكم تأمروننا بتقوي اللّه،و تنسون ذلك من أنفسكم،و اللّه لا يأمرني أحد بتقوي اللّه بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه..» (1).

و حفل هذا المنطق القاسي الرهيب بالطغيان الفاجر علي الأمة،فقد جعل مداواتها بنشر القتل و الخوف و الارهاب لا ببسط العدل و الرفاهية بينها...

و يقول ابن العاص:«انما السواد بستان قريش»و معني هذا ان السواد ملك للامويين لا لأهله فانهم عبيد و خول لهم،لا حرية لهم و لا

ص: 307


1- نظام الحكم و الادارة في الاسلام(ص 285).

اختيار،و كان هذا منطق السياسة الأموية في جميع فتراتها لا تري هناك وجودا للأمة،و كان هذا من أهم العوامل التي ادت الي قلب الحكم الأموي و انهياره.

اضطهاد الذميين:

و قضي الاسلام في تشريعه الرائع الاصيل باحترام كافة الأديان، و ضمان كرامة ابنائها،و منحهم الحرية التامة فلهم أن يتمتعوا بجميع ما يتمتع به المسلمون من الحقوق ما داموا داخلين في ذمة الاسلام.

انه ليس من الاسلام ان يضطهد أي انسان مهما كانت ميوله و معتقداته ما لم يحدث فتنة أو فسادا في الأرض،يقول الامام امير المؤمنين(ع)رائد العدالة الكبري في عهده الدولي:«الناس صنفان اما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق».

لقد تبني الاسلام بصورة ايجابية شعار العدالة و الحرية و المساواة بين جميع الناس في ضمن اطارها الاسلامي،و لكن السياسة الاموية في جميع مخططاتها قد حملت معول الهدم علي ما تبناه الاسلام في ميادين الاصلاح الاجتماعي فعاملت الذميين معاملة قاسية لا تتفق مع روح الاسلام و هديه، فقد روي المؤرخون أن اسامة بن زيد التنوخي،القائم بأمر الخراج من قبل يزيد بن عبد الملك قد اوقع بالذميين و ارهقهم فأخذ أموالهم،و وسم أيديهم (1)و فرض عبد العزيز بن مروان الجزية علي الرهبان،و هي أول جزية أخذت منهم (2).

ص: 308


1- خطط المقريزي 395/4
2- نفس المصدر.

ان جور الأمويين و ظلمهم قد عمّ جميع المواطنين،و لم يقتصر علي المسلمين الأمر الذي أوجب شيوع الحقد و الكراهية عند جميع الناس لحكمهم.

ظلمهم للموالي:

و قضت السياسة الأموية بحرمان الموالي من جميع الحقوق الطبيعية للانسان فعاملتهم معاملة الحيوان السائم،و قابلتهم بمزيد من العنف و الاضطهاد مع دخولهم في حظيرة الاسلام الذي هتف بحقوق الانسان،و اعلن المساواة العادلة بين جميع الطبقات،هذا مع ان فيهم طبقة كبيرة من اعلام الاسلام و قادته الفكريين،و ان شطرا كبيرا من الفتوحات الاسلامية قد قام علي جهودهم و جهادهم،و من المؤسف حقا أن الامويين لم يألوا جهدا في اذلالهم و ارهاقهم،و قد روي المؤرخون الوانا بغيضة من ذلك العسف،و قد فتح عليهم باب الظلم و الجور-كسري العرب-معاوية بن أبي سفيان فقد انتهك حرماتهم و رام سفك دمائهم بغير حق فقد دعا كلا من الاحنف بن قيس التميمي،و سمرة بن جندب الهلالي و قال لهما:إني رأيت هذه الحمر -أي الموالي من الفرس-قد كثرت،و اراها قد قطعت علي السلف، و كأني انظر وثبة منهم علي العرب و السلطان،فقد رأيت ان أقتل شطرا لاقامة السوق،و عمارة الطريق فما ترون؟»فأيده سمرة،و عارضه الاحنف، و أقنعه بأن لا يفعل (1)و قد سار علي هذه الخطة الفاجرة ملوك الأمويين من بعده فهانوا الموالي و حرموهم من العطاء و الرزق و قد جاء أحد الخراسانيين الي عمر بن عبد العزيز يطالبه بالعدالة و المساواة قائلا:

ص: 309


1- العقد الفريد 270/2

«يا أمير المؤمنين عشرون الفا من الموالي يغزون بلا عطاء،و لا رزق و مثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤدون الخراج..» (1).

لقد قابلتهم السلطات الأموية بالحرمان و الاجحاف فحرمتهم من العطاء و القوت مع انهم كبقية الجنود يغزون و يفتحون،و هذا مما أوجب زيادة النقمة في صفوفهم،و اتساع نطاق العداء لهم،و انضمامهم الي كل ثورة ضدهم يقول الجاحظ في كتابه-العرب و الموالي-ان الحجاج بن يوسف لما خرج عليه عبد الرحمن بن الاشعث،و حاربه،و لقي ما لقي من قراء اهل العراق،كان اكثر من قاتله الموالي من أهل البصرة،فجمعهم بعد اطفائه تلك الثورة،و قال لهم:«انما أنتم علوج و عجم و قراؤكم اولي بكم» ثم فرقهم حيث شاء في البلاد النائية،و نقش علي يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها (2).

و بلغ من تعصبهم الأعمي انهم كانوا لا يرون الموالي أكفاء لهم فكانوا ينادونهم بأسمائهم و القابهم،و لا يكنونهم بالكني لما في الكنية من الشعور بالمساواة لهم،كما كانوا لا يسمحون لهم بالسير في الصف أمامهم أو معهم الا وراءهم،و لا يجعلون منهم قائدا علي جيش عربي،و لا يجيزون لأحد منهم ان يصلي اماما علي جنازة أحد من العرب،و إذا اطعموا أحدا من الموالي معهم-لعلمه و فضله-اجلسوه علي السفرة في طريق الخباز،لكي يعلم من يراه أنه ليس عربيا في الصميم،و إذا اقبل العربي من السوق و معه شيء فرأي مولي دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع،و كان إذا لقيه راكبا و أراد ان ينزل فعل (3).34

ص: 310


1- الطبري:134/8،ابن الأثير 19/5
2- العقد الفريد 271/2
3- ضحي الاسلام 18/1-34

لقد ذكر المؤرخون صورا كثيرة من الوان هذا الاضطهاد الجماعي للموالي الأمر الذي خولف فيه عما الزم به الاسلام من المساواة العادلة بين جميع المسلمين من دون فرق بين عربيهم و اعجميهم،و أبيضهم و أسودهم.

لقد سببت هذه التفرقة العنصرية شق كلمة المسلمين،و اشاعة الاحقاد و الاختلاف بينهم،كما سببت ان يكون الموالي في طليعة الثوار علي الحكم الأموي و سببا في تحطيم ملكهم.

خلاعة الخلفاء:

و انغمس ملوك الأمويين في الدعارة و المجون فتهالكوا علي اللذة و الشهوات و الاستهتار بالقيم الاخلاقية،و قد انتشر التسيب و التحلل في أيامهم و شاع استعمال الخمر و القمار،و قد صرفت الدولة أغلب مقدراتها علي المغنين و الماجنين و العابثين،و جلبت جميع ادوات اللهو و آلات الغناء،و فيما يلي بعض خلفائهم الماجنين:

يزيد بن عبد الملك:

و انقطع يزيد بن عبد الملك الي العقار و القيان،و كان يسمي خليع الأمويين،شغف بجاريتين من جواريه تدعي احداهما(حبابة)و الاخري (سلامة)و قطع ايام حياته في احضانهما،غنته حبابة يوما بقولها:

بين التراقي و اللهاة حرارة ما تطمئن و لا تسوغ فتبرد

فطرب حتي فقد رشده،و أخذ يطير فقالت ساخرة به:

«يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة!!».

و أخذ يقول:بلا اختيار«و اللّه لأطيرن»و انطلقت تسخر به و تهزأ

ص: 311

من الأمة التي مكنته من رقابها قائلة له:

-علي من تدع هذه الأمة؟ -عليك ثم انعطف عليها فجعل يقبل يدها،و هي تعبث به و تسخر منه.

خرج يوما يتنزه في بعض نواحي الأردن،و معه جاريته حبابة فأخذ يتعاطي معها كئوس الخمر،فلما ثملا رماها بحبة عنب فدخلت فمها، فشرقت منها فتمرضت و ماتت،و قد فقد رشده علي موت هذه المغنية فقد تركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتي أنتنت و هو يشمها و يلثم جسدها و هي جثة هامدة و يبكي عليها أمر البكاء،و قد كلمه بعض خواصه في أمرها فأذن في دفنها،و رجع الي قصره كئيبا،حزينا فسمع احدي جواريه تقول:

كفي حزنا بالهائم الصب أن يري منازل من يهوي معطلة قفري

فأخذ يبكي أمر البكاء و قد استولي عليه الحزن و الأسي،و مكث في قصره سبعة أيام لا يواجه الناس حدادا و حزنا علي هذه الفاجرة،فأشار عليه أخوه مسلمة بالخروج الي الناس لئلا يشيع عنه هذا المنكر فيزهدون فيه،فاستجاب لنصحه و خرج الي الناس (1)و هذه البادرة قد دلت علي خلاعة هذا الماجن الذي يلي به الاسلام و بأمثاله من الماجنين الذين تقلدوا زمام الحكم.

الوليد بن يزيد:

و صح عن النبي(ص)انه قال:«ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد،لهو شر علي هذه الأمة من فرعون علي قومه»و قد أيد).

ص: 312


1- ابن الأثير:(ج 5 ص 57).

الأوزاعي أنه هو الوليد بن يزيد (1)و قد تمادي هذا الطاغية الخليع في الدعارة فكان أول من حمل المغنين من البلدان،و جالس الملهين،و اظهر الشراب و الملاهي،و العزف،و قد انتشر في عصره الفساد و انعكف الناس علي تعاطي الخمر و شربها،و كان مغرما بها،و قد وصفها بأدق وصف بقوله:

و صفراء كالزعفران سباها لنا التجر من عسقلان

تريك القذاة و عرض الانا ء ستر لها دون مس البنان

لها حبب كلما صفقت تراها كلمعة برق يماني (2)

و بلغ من مجونه انه أراد ان يبني فوق البيت الحرام قبة يشرب فيها الخمور و يشرف منها علي الطواف (3)و لكن اللّه حال بينه و بين ذلك و قصم ظهره و أخذه أخذ عزيز ذي انتقام فقد ظهر عليه يزيد بن الوليد مع جماعة من أهل بيته فقتلوه و احتزوا رأسه و نصبوه بدمشق (4).

و من خلاعة هذا الماجن المستهتر ان ابن عائشة القرشي (5)غناه بقوله:ني

ص: 313


1- أمالي المرتضي:(ج 1 ص 79).
2- مروج الذهب:(ج 3 ص 147).
3- الأمالي:(ج 1 ص 89).
4- اليعقوبي:(ج 3 ص 73).
5- ابن عائشة:هو عبد الرحمن بن عبيد اللّه،و عائشة أمه هي أم محمد بنت عبد اللّه بن عبيد اللّه من تيم قريش،يكني أبا سعيد،و كانت سمية أم زياد بن أبيه إحدي جداته و في ذلك يقول: أيا أسفي علي إسعاف دهر و حظ من حظوظ بني الزواني علي اني أمت الي الليالي بعرق من سمية غير و اني جاء ذلك في طبقات الشعراء:(ص:337-338).

اني رأيت صبيحة النحر حورا نفين عزيمة الصبر

مثل الكواكب في مطالعها عند العشاء أطفن بالبدر

و خرجت ابغي الأجر محتسبا فرجعت موقورا من الوزر

فطرب حتي فقد صوابه و التفت الي ابن عائشة قائلا:

«احسنت و اللّه،بأمير المؤمنين،اعد بحق عبد شمس اعد..».

فأعادها عليه فقال له:احسنت و اللّه،بحق أمية اعد،فأعادها عليه فأخذ يتخطي آباءه واحدا بعد واحد و هو يقسم عليه بهم ليعيدها عليه فأعادها عليه مرارا و هو ثمل لا يعقل قد أفسدت الخمرة عقله و انكبّ علي ابن عائشة فجعل يقبل أطرافه و أعضاءه عضوا عضوا حتي انتهي الي عورته و بعد صراع طويل دام بينهما استطاع هذا الخليع-المسمي بأمير المؤمنين، و خليفة المسلمين-تقبيل عورة ابن عائشة بصورة مخزية تندي منها خجلا وجه الانسانية،ثم انه نزع ثيابه فألقاها عليه،و بقي مجردا بادي العورة حتي أتوه بثياب غيرها فلبسها ثم منحه الف دينار و حمله علي بغلته،و طلب منه ان يركبها علي بساطه ثم ودعه قائلا له:«قد تركتني علي أحر من جمر الغضا» (1).

هذه صورة موجزة عن دعارة ملوك الأمويين و خلاعتهم،و تماديهم في اللهو و الفساد الأمر الذي سبب اشاعة الحقد عليهم و الكراهية لحكمهم.).

ص: 314


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 148).
العصبية بين اليمنية و النزارية:

و من أهم العوامل التي أدت الي تلاشي الحكم الأموي نشوب النزاع بين اليمانية و النزارية و تصاعد العداء فيما بينهما،الأمر الذي أدي الي اضعاف الدولة،و ذلك لانضمام اليمانية الي الدولة العباسية،و قد أوجد هذا النزاع العلويون فان الكميت شاعر الاسلام الاكبر لما أنشد هاشمياته التي مدح فيها اهل البيت(ع)قصد عبد اللّه بن الحسن فطلب منه أن ينشيء شعرا يثير به حفائظ النفوس بين العرب لعل فتنة تحدث فتكون سببا لزوال دولة الامويين فاستجاب الكميت و انطلق ينظم قطعا من الشعر الحماسي الرائع يذكر فيها مناقب قومه اليمانيين و يفضلهم علي القحطانيين،و مما قاله:

لنا قمر السماء و كل نجم تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت اللّه اذ سمي نزارا و اسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات و للناس القفا و لنا الجبينا

و قد أثر شعره في القلوب تأثيرا عظيما حتي ثارت الحفائظ بين القبيلتين و شاع البغض و العداء بينهما،و انتصر للقحطانية شاعر اهل البيت دعبل الخزاعي،و اكبر الظن انه كان بين الشاعرين اتفاق علي ذلك فانهما معا من شعراء اهل البيت و كلاهما قد ضرب الرقم القياسي لاعمق الود و الولاء لهم و مما قاله دعبل في الرد علي الكميت:

أ فيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا

أ لم تحزنك أحداث الليالي يشيبن الذوائب و القرونا

أحيي الغر من سروات قومي لقد حييت عنا يا مدينا

فان يك آل إسرائيل منكم و كنتم بالأعاجم فاخرينا

ص: 315

الي ان يقول:

و ما طلب الكميت طلاب وتر و لكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار ان قومي الي نصر النبوة فاخرينا

و أخذت كل قبيلة تفتخر علي الأخري و تدلي بمناقبها و مكارمها حتي اتسع العداء و شمل سكان القري و البادية و تخربت من أجل ذلك القلوب.

و انفصمت عري الوحدة بين هاتين الأسرتين اللتين تعدان من أعظم سكان الجزيرة العربية عددا و نفوذا،و قد نتج من ذلك أن مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء الأمويين قد تعصب للنزاريين،مما سبب انحراف اليمانيين عنه و انضمامهم الي الدعوة العباسية،و بذلك فقد ضعف كيان الدولة الأموية الي أبعد الحدود (1).

نتائج الأحداث:

اشارة

إن الأحداث الرهيبة التي مني بها العالم الاسلامي من جراء الحكم الاموي الجائر في سياسته،و اقتصاده،و ادارته،قد اعقب ما يلي:

1-الثورات المحلية:

و انطلقت في اغلب الاقاليم الاسلامية عدة ثورات محلية انتقاما من السلطة و كراهية لها كثورات العلويين،و ثورات الخوارج،و هي ثورات متصلة،قد دوخت السلطة،و أضعفت كيانها الاقتصادي و العسكري، و من الطبيعي ان هذه الثورات انما حدثت نتيجة لانتشار الظلم الاجتماعي، و فقدان العدل و المساواة بين المسلمين،و لو ان الحكومات الاموية سارت

ص: 316


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 159-163).

في سياساتها الداخلية علي وفق الأهداف العليا التي ينشدها الاسلام في ظلال حكمه لما منيت بتلك الكوارث و الزعازع.

2-الدعوة الي العلويين:

و انعقدت في يثرب و الكوفة أحزاب سرية،و قد عملت بكل اجهزتها علي الدعوة للرضا من آل محمد(ص)و ارجاع الخلافة الاسلامية لأهل البيت(ع) و قد حفل منطق الدعوة بما يلي:

اولا-انها كانت تذيع بين المسلمين ما ورد في فضل العترة الطاهرة من الآيات و الاخبار التي تلزم المسلمين برعايتهم و مودتهم،و الرجوع إليهم و كان من اساليب الدعوة انهم يقولون للناس:

-هل فيكم احد يشك ان اللّه عز و جل بعث محمدا و اصطفاه؟ -لا -أ فتشكون ان اللّه أنزل عليه كتابه فيه حلاله و حرامه و شرائعه؟ -لا -أ فتظنونه خلفه عند غير عترته و اهل بيته؟ -لا -أ فتشكون ان اهل البيت معدن العلم،و أصحاب ميراث رسول اللّه(ص) الذي علمه اللّه؟ -لا (1)و قد سبب هذا الاسلوب الرائع التفاف المسلمين حول أهل البيت، و تعطشهم الي ايام حكمهم.

و كان المنصور الدوانيقي يجوب في الارياف و ينشد مديح اهل البيت

ص: 317


1- الكامل لابن الأثير(17/5)

و اكبر الظن انه قد عهد إليه القيام بهذه المهمة.

ثانيا-انها كانت تذيع ما جري علي آل النبي(ص)من النكبات و الخطوب مما يذيب لفائف القلوب،و يثير روح الحقد و الكراهية للامويين و يدفع الجماهير الي الثورة علي النظام القائم.

ثالثا-انها كانت تبشر بالأهداف الاصيلة،و المثل العليا التي تنشدها العترة الطاهرة في ظلال حكمها العادل من نشر الأمن و الدعة و الرفاهية بين الناس،و القضاء علي جميع الوان الغبن الاجتماعي،و الظلم الاجتماعي،و ان لا حكم يضمن للمسلمين كراماتهم،و يصون حقوقهم،و يحقق آمالهم الا في ظل حكم اهل البيت(ع)الذي هو امتداد لحكم الاسلام،و تطبيق لعدله و مساواته.

رابعا-انها كانت تقوم بافهام المسلمين بأن ما حل فيهم من المحن و النكبات في ظل الحكم الاموي انما هو من النتائج المباشرة لعملية فصل الخلافة عن أهل البيت الذين هم سدنة الوحي و عدلاء الذكر الحكيم،و ان الصدر الاول هم الذين فسحوا المجال بسقيفتهم الي القوي المعادية للاسلام ان تنزو علي منابر الحكم،و تستولي علي زمام السلطة فتمعن في اذلال المسلمين و ارغامهم علي ما يكرهون.

إن الصدر الاول لو تابعوا النبي(ص)فيما احتاط به لامته من جعل الخلافة في اعلام عترته،وقاية للامة من الانحراف،و صيانة لها من الزيغ و الضلال،و انطلاقا لها في ميادين التقدم الاجتماعي،لو انهم و اكبوا النبي(ص)و تابعوه لما حدثت تلك الخطوب و الرزايا في العالم الاسلامي، و ما مني بالحكم الاموي الذي اتخذ عباد اللّه خولا،و مال اللّه دولا.

لقد كانت هذه الدعوة الخلافة تشق طريقها في أجواء العالم الاسلامي و تغزو العواطف و المشاعر،فقد آمن بها المسلمون كقاعدة اساسية لتطورهم

ص: 318

الاجتماعي،و انقاذهم من جور الامويين و ظلمهم و استبدادهم.

لقد قامت الدعوة الي العلويين علي هذا الاساس من الوعي الديني و الوعي الاجتماعي،و مما يؤكد ذلك ان القاسم بن مجاشع احد قادة الدولة العباسية بعث بوصيته الي المهدي ليشهد فيها،و قد جاء في بنودها:

«شهد اللّه ان لا إله الا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط،لا إله الا هو العزيز الحكيم،ان الدين عند اللّه الاسلام،يشهد بذلك،و يشهد ان محمدا عبده و رسوله،و ان علي بن أبي طالب(ع)وصي رسول اللّه(ص) و وارث الامامة من بعده».

فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده،و نظر إليه نظرة غضب فقال له القاسم:أ ليس علي هذا كان خروجنا علي بني أمية؟فأجابه المهدي بأنهم قد عدلوا عن ذلك بعد أن استتب لهم الأمر وصفا لهم الملك.

و هذه البادرة تدل بوضوح علي ان الدعوة كان من صميمها التبشير بأن الامام امير المؤمنين(ع)وصي رسول اللّه(ص)و خليفته من بعده علي أمته،و انه مع اعلام ذريته ورثة علم النبي(ص)و سفن نجاة هذه الأمة،فلا بد ان تكون قيادة الامة لهم،و ان ترجع لهم السلطة العليا في الاسلام.

3-الاضطراب العام:

و شاع الاضطراب و انتشرت الفتن في جميع انحاء العالم الاسلامي فقد ساد عليه الخوف و الفزع من الحكم القائم،و قد وصف الشاعر الشهير الحارث ابن عبد اللّه الجعدي الحالة الراهنة في عموم البلاد بقوله:

أبيت ارعي النجوم مرتفقا (1) إذا استقلت تجري أوائلها

ص: 319


1- المرتفق:الواقف الثابت.

من فتنة اصبحت مجللة (1) قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان و العراق و من بالشام كان شجاه (2)شاغلها

فالناس منها في لون مظلمة دهماء مثلجة غياطلها

يمسي السفيه الذي يعنف بالجه ل سواء فيه و عاقلها

و الناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة عمياء تمني لها غوائلها

لا ينظر الناس في عواقبها الا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر او كصيحة حب- لي طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا أزري بوجهته فيها خطوب حمر زلازلها (3)

و قد جاء هذا الوصف رائعا دقيقا لحالة المواطنين،فقد ألم بما منوا به من الفتن و الاضطراب.و وصف حالة المجتمع شاعر آخر و هو العباس ابن الوليد بقوله:

إني اعيذكم باللّه من فتن مثل الجبال تسامي ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم فاستمسكوا بعمود الدين و ارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم إن الذئاب اذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرن بأيديكم بطونكم فثم لا حسرة تغني و لا جزع (4)

لقد انصبت الفتن علي المجتمع كالجبال-كما يقول ابن الوليد-من جراء سياسة الأمويين التي بنيت علي العسف و التنكيل بجميع المواطنين،).

ص: 320


1- مجللة:أي شاملة
2- شجاه:حزنه
3- تأريخ الطبري:(ج 9 ص 38).
4- تأريخ ابن الأثير:(ج 5 ص 105).

و كان من الطبيعي أن تحدث تلك الفتن انفجارا عاما لا تقف في وجهه أي قوة في العالم.

الثورة الكبري:

و انتفضت جميع الشعوب الاسلامية من أقصاها الي أدناها كالمارد الجبار و هي تحطم جميع القيود و الحواجز التي وضعت عليها،و هي تهتف بسقوط الحكم الأموي،و تدعوا للرضا من آل محمد(ص)و قد عجزت السلطات المحلية عن اخماد نار الثورة التي أخذت بالتوسع و الازدياد.

و نعرض فيما يلي-بإيجاز-الي بعض فصول تلك الثورة الكبري، و ما رافقته من أحداث.

مؤسسو الثورة:

و الشيء المحقق هو ان أول من صمم الثورة،و وضع مناهجها و أساليبها هم العلويون،و ذلك لما عانوه من ظلم الأمويين و جورهم،فانطلقوا يعملون جميع الوسائل لقلب الحكم الأموي،و ليس للعباسيين في بداية الأمر أي ضلع في ذلك،فقد كانوا بمعزل عن الاشتراك في أي عمل سياسي،و انما كانوا مسالمين للدولة،و مساندين لسياستها،و كان الأمويون يمنحونهم الهبات،و يوفرون لهم المزيد من العطاء لكسب و دهم،و اضعاف كيان العلويين،و كان المسلمون ينظرون إليهم نظرة عادية،و ذلك لعدم قيامهم بأي عمل ايجابي كان في صالح المجتمع الاسلامي.

و أما تبني العباسيين للثورة فانما كان بعد ما بدا الضعف و الانهيار في الحكم الأموي،و اطمئنوا بنجاح الثورة فانضموا الي العلويين،و قد اختلف

ص: 321

المؤرخون في كيفية انضمامهم الي الثورة فذهب فريق منهم الي أن أبا هاشم ابن محمد بن الحنفية الزعيم البارز في العلويين لما خشي سليمان بن عبد الملك أمره أخذ يستميله بالدعوة إليه فأجابه الي ذلك،و لما قدم عليه أظهر له الود،و قابله بمزيد من التبجيل و التكريم،و لكنه دبر قتله فدس له السم و هو في طريقه الي الحميمة التي يقطن بها العباسيون،و لما شعر بدنو أجله عهد بأمره الي محمد بن علي،و أفضي باسراره إليه،و عرفه بأسماء الدعاة في الاقطار،و ذهب بعض المؤرخين الي أن أبا هاشم لم يعهد بأمره الي محمد بن علي،و لكنه لما حل عنده و رأي ما فيه من ثقل حاله أخذ يستدرجه حتي أخبره بما عنده،و لما توفي عثر علي الملفات التي كانت فيها أسرار الدعوة و أسماء الدعاة (1).

و علي أي حال فقد تبني العباسيون منذ تلك اللحظة الأمر،و أخذوا يعملون علي تنسيق الثورة و تنظيمها.

مركز الثورة:

و انعقدت في يثرب الدعوة الي الثورة علي الحكم الأموي،و بعد اغتيال أبي هاشم انتقلت الي الحميمة ببلقاء الشام فصارت مركز الدعوة فبها كانت توضع المخططات،و تصمم المناهج الثورية و ترسل الي الدعاة في الكوفة التي هي الوطن الأم للدعوة العلوية،و ترسل أيضا الي الدعاة في خراسان التي عرفت بالنصب و العداء للامويين بسبب اضطهادهم للفرس و لميلهم الي التشيع.

و قد ارسلت الدعاة الي خراسان في زي التجار فقاموا ينشرون مساوئ الحكم الأموي،و يذكر ما حل بأهل البيت من الخطوب و النكبات،و قد

ص: 322


1- الامامة و السياسة 140/2-141

استجاب الخراسانيون للدعوة و انضموا إليها (1)و قد وصف خراسان محمد ابن علي للدعاة و أكد عليهم ببذل المزيد من النشاط فيها قائلا لهم:

«عليكم بخراسان فان هناك العدد الكثير،و الجلد الظاهر،و هناك صدور سليمة،و قلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء،و لم تتوزعها النحل، و هم جند لهم أبدان و أجسام و مناكب و كواهل و أصوات هائلة...و بعد فاني أتفاءل الي المشرق،و إلي مطلع سراج الدنيا و مصباح الخلق..» (2)و بذل الدعاة المزيد من نشاطهم في خراسان حتي تبلورت فيها الدعوة و قامت علي سوقها عبلة الذراع مفتولة الساعد فقد تفاني الخراسانيون في حمايتها و صيانتها،و اعتقدوا جازمين انها تقوم بحمايتهم من جور الأمويين و استغلالهم.

مؤتمر الأبواء:

و عقد الهاشميون مؤتمرا لهم في الأبواء تداولوا فيه شئون الدعوة، و تعيين المرشح للخلافة من بينهم،و قد حضره كل من ابراهيم الامام، و السفاح،و المنصور،و صالح بن علي،و عبد اللّه بن الحسن،و ابناه محمد و ابراهيم و محمد بن عبد اللّه بن عمرو،و غيرهم،و قام فيهم صالح بن علي خطيبا فقال:

«إنكم القوم الذين تمتد أعين الناس إليهم فقد جمعكم اللّه في هذا الموضع فاجتمعوا علي بيعة أحدكم،فتفرقوا في الآفاق،و ادعوا اللّه،لعل اللّه أن يفتح عليكم و ينصركم..»

ص: 323


1- الفخري(ص 122-123).
2- احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم(ص 293-294).

فانبري أبو جعفر المنصور فقال:

«لأي شيء تخدعون أنفسكم.و اللّه لقد علمتم ما الناس أميل أعناقا و لا أسرع إجابة منهم الي هذا الفتي-و أشار بيده الي محمد بن عبد اللّه بن الحسن-..» فانطلقوا جميعا يؤيدون مقالته قائلين:

«صدقت،إنا لنعلم هذا» و قاموا فبايعوا محمدا،و بايعه ابراهيم الامام،و المنصور و السفاح و سائر من حضر ذلك الاجتماع (1).

و لم يف العباسيون بهذه البيعة فقد خانوا بعهدهم،و نقضوا ميثاقهم فأخذوا يعملون بالخفاء لانفسهم فأفهموا الدعاة بذلك،و أوصوهم بالسر و الكتمان خوفا من انتفاضة العلويين عليهم،و عدم استجابة الناس لهم إذ لم تكن لهم أي ركيزة اجتماعية،و لم يكن لهم تأريخ ناصع،فلذا أوصوا الدعاة بالكتمان،و أمروهم بأن يدعوا الناس للرضا من آل محمد.

و علي أي حال فقد اتخذ العباسيون الدعوة الي العلويين شعارا لهم لينالوا ثقة الأمة،و يكسبوا ود أهل البيت و عطفهم.

انتخاب أبي مسلم:

و انتخب ابراهيم الامام عميد الأسرة العباسية غلامه أبا مسلم الخراساني قائدا عاما للحركة الانقلابية،و الزم الدعاة و الشيعة بطاعته فقد جاء في كتابه الذي كتبه الي من في الكوفة و خراسان من الشيعة«إني قد أمرت أبا مسلم

ص: 324


1- مقاتل الطالبيين(ص 256).

بأمري فاسمعوا له و أطيعوا،و قد أمرته علي خراسان و ما غلب عليه» (1).

و كان عمر أبي مسلم يومئذ تسعة عشر سنة حسب ما أجمع عليه المؤرخون و كان يقظا حساسا حديدي الارادة،فاتكا غادرا لم يعرف الرحمة و الرأفة و كان من أمهر السياسيين في حياكة المؤامرات و الدسائس.

و قد دهش الجميع لترشيح أبي مسلم لهذا المنصب الخطير نظرا لحداثة سنة،و قلة تجاربه،و قد أبي جمع من الدعاة طاعته،و الانصياع لأوامره الا ان ابراهيم الامام الزمهم بالسمع و الطاعة له (2)فلم يجدوا بدا بعد ذلك من متابعته (3).

وصية ابراهيم لأبي مسلم:

و أوصي ابراهيم الامام غلامه بهذه الوصية الحافلة بالإثم و المنكر و الخروج عن الدين فقد جاء فيها:

«يا عبد الرحمن،إنك منا أهل البيت فاحفظ وصيتي:انظر هذا الحي من اليمن،فأكرمهم و حل بين ظهرانيهم،فان اللّه لا يتم هذا الأمر الا بهم.و انظر هذا الحي من ربيعة،فاتهمهم في أمرهم.و انظر هذا الحي من مضر،فانهم العدو القريب الدار.فاقتل من شككت في أمره و من وقع في نفسك منه شيء.و إن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم

ص: 325


1- الطبري احداث سنة 128 ه-
2- تأريخ ابن الأثير 295/4
3- لقد قتل أبو مسلم جميع من عارض في اختياره حسب ما نص عليه المؤرخون.

بالعربية فافعل.فأيما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله..» (1).

و ان صحت هذه الوصية فانها تدل علي أن الرجل لا عهد له بالمثل الانسانية،و لا علاقة له بالاسلام الذي احتاط بالدماء و حرم سفكها بغير حق.

لقد أخذ أبو مسلم بوصية ابراهيم فأسرف في اراقة الدماء،و انتهاك الحرمات،فقتل ستمائة الف عربي بالسيف صبرا عدا من قتل في الحرب -حسب ما نص عليه المؤرخون-فأشاع الحزن و الحداد و الثكل في بلاد المسلمين،و هو أمر لا يقدم عليه من كانت له أي نزعة دينية أو انسانية

في خراسان:

و بعد أن تم ترشيح أبي مسلم زعيما للقيادة العسكرية من بني العباس توجه من فوره الي خراسان ليقود المناضلين الي ساحة الحرب للاجهاز علي الحكم الأموي،و حين وصوله التقي بالدعاة و الزعماء فخطب فيهم قائلا:

«اشعروا قلوبكم الجرأة فانها من أسباب الظفر،و اكثروا ذكر الضغائن فانها تبعث علي الاقدام،و الزموا الطاعة فانها حصن المحارب...» (2).

و أخذ ينظم الحركة تنظيما رائعا دقيقا،يصور للناس فساد الحكم الأموي و ما يسومهم به من الظلم و الارهاق،و انه سوف ينشر العدل و الدعة و الرفاهية فيما بينهم حتي استجابت له القلوب و رحبت به جماهير الخراسانيين و التفوا حوله،و بذلك فقد تكونت النواة الأولي لجيوش بني العباس.

ص: 326


1- تأريخ ابن الأثير 295/4
2- العقد الفريد 158/1

و الشيء الوحيد الذي استطاع أن يحرز به أبو مسلم النصر،و يتغلب به علي الاحداث هو استغلاله للعصبية القبلية في خراسان فقد كان اليمانيون مع خلاف مع المضريين،و اخذ أبو مسلم يغذي هذه الظاهرة العدائية، و يوقدها.فكلما أوشك شملهم ان يجتمع علي حربه أوغر صدور طائفة علي الأخري،و أثار الموتور بطلب الثأر من واتره،و بذلك فقد شغلهم عن مناجزته حتي تم له الأمر.

مع نصر بن سيار:

و لما رأي نصر بن سيار قوة أبي مسلم،و استحكام نفوذه أرسل الي العاهل الأموي مروان رسالة يستنهضه فيها الي مساعدته،و يستمد منه العون قبل أن تحترق حكومته بنار الثورة،و كتب في رسالته هذه الأبيات الحماسية:

أري خلل الرماد وميض نار و يوشك أن يكون لها ضرام

فان النار بالعيدان تذكي و ان الحرب أولها كلام

فان لم يطفئها عقلاء قوم يكون وقودها جثث و هام

أقول من التعجب:ليت شعري أ أيقاظ أمية أم نيام

فان كانوا لحينهم نياما فقل قوموا فقد حان القيام

و عجز مروان عن اجابته فكتب إليه يخبره بضعفه،و عجزه عن اخماد تلك النار بقوله:«يري الشاهد ما لا يراه الغائب».

و لما يئس نصر من نجدته استنجد بوالي العراق يزيد بن عمرو بن هبيرة،و كتب إليه رسالة،و ختمها بهذه الابيات:

أبلغ يزيد و خير القول أصدقه و قد تبينت أن لا خير في الكذب

ص: 327

بأن أرض خراسان رأيت بها بيضا اذا أفرخت حدثت بالعجب

فراخ عامين إلا انها كبرت و لم يطرن و قد سربلن بالزغب

فان يطرن و لم يحتل لهن بها يلهبن نيران حرب أيما لهب

فقال يزيد لحامل الرسالة:«قل لصاحبك:لا غلبة الا بكثرة، فليس له عندي رجل) (1).

و فكر نصر في الخروج من الأزمة،فأرسل الي كل من الكرماني و شيبان الخارجي هذه الابيات يقول:

ابلغ ربيعة في مرو،و من يمن ان اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب

و لينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا حربا،يحرق في حافاتها الحطب

ما بالكم تنشبون الحرب بينكم كأن أهل الحجا عن رأيكم عيب

و تتركون عدوا قد أحاط بكم ممن تجمع لا دين و لا حسب

لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم و لا صريح موال،ان هم نسبوا

قوم يقولون قولا ما سمعت به عن النبي و لا جاءت به الكتب

من كان يسألني عن أصل دينهم فان دينهم أن يقتل العرب (2)

و لم تجد محاولات نصر في التغلب علي الأحداث فقد أخذت الثورة تتسع،و حواضر خراسان تسقط واحدة اثر أخري،و كان أبو مسلم يطرب من النصر الذي أحرزه و ينشد:

أدركت بالحزم و الكتمان ما عجزت عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا

ما زلت أسعي بجهدي في دمائهم و القوم في غفلة بالشام قد رقدوا/4

ص: 328


1- تاريخ ابن الأثير 305/4
2- تأريخ ابن الأثير 304/4

حتي طرقتهم بالسيف فانتبهوا من نومة لم ينمها قبلهم أحد

و من رعي غنما في أرض مسبعة و نام عنها تولي رعيها الاسد (1)

و انبرت جيوش أبي مسلم تحتل المدن و الحصون،و تلحق بالعدو الخسائر الفادحة في الارواح و الاموال،و لم يستطع نصر الوقوف أمام تلك القوي الهائلة فانهزم راكبا جواده،و سلك المفازة بين الري و همذان فمات في مجاهلها كمدا (2).

و احتل أبو مسلم خراسان،و ما والاها من المدن و القري،و اتجه بعد ذلك الي تحرير العراق،و سارت جيوشه كالموج تخفق عليها الرايات السود التي هي شعار بني العباس،فقامت باحتلال العراق من دون أن تلقي أي مقاومة،و قد برزت بذلك حكومة بني العباس علي يدي أبي مسلم.

اما الحديث عن سقوط الدولة الاموية،و مقتل عاهلها مروان و ما لاقاه الامويون من صنوف الجهد و التنكيل من بني العباس فسوف نتحدث عنه عند البحث عن عهد السفاح.

ان الحديث عن العوامل التي أدت الي سقوط الدولة الاموية أمر تقتضيه ضرورة البحث عن حياة الامام موسي(ع)فقد قطع شوطا من حياته،و هو يسمع بتلك الازمات الاجتماعية التي غيرت مجري الحياة العامة فقد بلغ عمره الشريف حين سقوط الدولة الاموية احدي عشر سنة و هو دور يسمح لصاحبه أن ينقل الي دخائل نفسه كثيرا من المشاهدات و الصور التي تمر عليه.و قد رأي انحراف الثورة عن مجراها فقد كان باعثها ارجاع/2

ص: 329


1- وفيات الاعيان 282/1
2- مروج الذهب 204/2

الحكم لأهل البيت(ع)حتي تنعم الأمة بالعدل و الرفاهية و الدعة و الاستقرار و لكنها مع الاسف قد حملت الخلافة الي بني العباس،و إذا بهم يمعنون في قتل العلويين و مطاردتهم،و التنكيل بهم،و إذا ببيوت العلويين يعمها الأسي و الثكل و الحداد،و من الطبيعي ان لذلك أثرا بالغا في نفس الامام موسي(ع) فقد اترعت نفسه بالاسي الشديد و الحزن العميق.

ص: 330

في عهد السّفاح

اشارة

ص: 331

ص: 332

البيعة لأبي العباس السفاح

اشارة

و استقبلت الكوفة بيعة أبي العباس السفاح بكثير من الوجوم و القلق و الاضطراب لان الدولة الاموية لا تزال قائمة،و هي تسيطر علي أغلب الاقاليم الاسلامية،و العاهل الأموي مروان معسكر علي نهر الزاب في جيش ضخم يزيد علي مائة الف من فرسان الجزيرة و الشام و الموصل، و ليس مع الخليفة العباسي سوي خراسان و اطرافها،و الكوفة و لم تدخل البصرة و لا واسط في اطار البيعة...مضافا الي أن الدعوة للخلافة انما كانت للرضا من آل محمد،و لم يرد ذكر لبني العباس،فان الجماهير انما خاضت التيارات النضالية من أجل العلويين الذين هم الركيزة الاولي للعدل الاجتماعي،و ضمان مصالح الأمة.

و لم يدر في خلد احد ان الخلافة تؤول الي بني العباس لأن النفوس كانت مترعة بالشكوك و الريبة منهم،فان منهم من عرف بالغدر و الخيانة للامة في أدق ظروفها،و أحرج ساعاتها،كعبيد اللّه بن العباس الذي خان اللّه و رسوله بانضمامه الي معسكر معاوية في غلس الليل البهيم بعد أن قبض الرشوة،و ترك سبط النبي(ص)..و مما زاد في ارتياب المسلمين منهم انهم كانوا مسالمين للحكم الاموي في جميع فتراته،و لم يقوموا بأي عمل ايجابي في مناهضة جور الامويين و ظلمهم.

و علي أي حال فقد استقبلت الكوفة-في يوم الجمعة 12 ربيع الاول سنة 132 ه- موكب أبي العباس السفاح و هو متجه الي الجامع،و بعد اداء فريضة الصلاة ارتقي ابو العباس أعواد المنبر،و كان موعوكا فخطب الناس خطبة رائعة بليغة اثني فيها علي بني العباس،و قد جاء فيها:

«يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا،و منزل مودتنا،أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك،و لم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم،حتي أدركتم زماننا، و أتاكم اللّه بدولتنا،فأنتم أسعد الناس بنا،و اكرمهم علينا و قد زدتكم في

ص: 333

أعطياتكم مائة درهم فأنا السفاح المبيح،و الثائر المنيح...» (1).

و انبري من بعده عمه داود بن علي فخطب في الناس خطابا بليغا أثني فيه علي بني العباس و ذم فيه بني أمية،و جاء فيه:

«أيها الناس:إنا و اللّه ما خرجنا في طلب هذا الامر لنكثر لجينا و لا عقيانا (2)و لا نحفر نهرا،و لا نبني قصرا،و إنما أخرجتنا الأنفة من ابتزازهم حقنا،و الغضب لبني عمنا،و ما كرهنا من أموركم،فلقد كانت أموركم ترمضنا (3)و نحن علي فرشنا.و يشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم و استنزالهم (4)لكم و استئثارهم بفيئكم و صدقاتكم و مغانمكم عليهم،لكم ذمة اللّه تبارك و تعالي و ذمة رسوله(ص)و ذمة العباس رحمه اللّه علينا أن نحكم فيكم بما انزل اللّه،و نعمل فيكم بكتاب اللّه،و نسير في العامة و الخاصة بسيرة رسول اللّه(ص)...».

و أخذ يمني أهل الكوفة بالصلة و العطاء،و يكيل لهم الوعود،و قد اشرأبت إليه الاعناق،و اصغت إليه الاسماع،و هو يؤكد لهم ان الدولة الجديدة ستحقق لهم العدل السياسي و العدل الاجتماعي،و تسير فيهم بسياسة قوامها الحق المحض..ثم نزل ابو العباس عن المنبر و معه عمه داود بن علي حتي دخل قصر الامارة،و بقي أبو جعفر المنصور في المسجد يأخذ البيعة فيه علي الناس،فلم يزل يأخذها عليهم حتي صلي بهم العصر ثم المغرب و العشاء الي ساعة متأخرة من الليل (5)./4

ص: 334


1- في الطبري«و الثائر المبير».
2- اللجين:الفضة،العقيان:الذهب الخالص
3- ترمضنا:أي تحرقنا
4- في الطبري«و استذلالهم»
5- تأريخ ابن الاثير 325/4

و لم يطل أبو العباس الاقامة في الكوفة التي هي مقر العلويين فخرج منها و أقام بمعسكر أبي سلمة الخلال-في حمام أعين-،و بعدها أخذ في بناء(الهاشمية)لتكون عاصمة لدولته.

وقعة الزاب:

و حينما تولي ابو العباس السفاح منصب الخلافة ارسل قواته المسلحة بقيادة محمد بن عبد اللّه بن علي لقتال العاهل الاموي مروان الحمار،و سار عبد اللّه يطوي البيداء بجيشه الضخم،فالتقي بجيش العدو بالزاب قرب الموصل، و كانت رايات بني العباس تحملها الرجال علي الجمال البخت (1)و قد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف و الغرب،فلما رآها مروان ذهل و قال لمن حوله:

«أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا!!أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الابل كأنها قطع الغمام السود!!».

و بينما هو ينظر إليها،و قد طار قلبه رعبا و فزعا اذ نفرت قطع كبيرة من الغربان السود،فنزلت علي اول عسكر عبد اللّه بن علي فاتصل سوادها بسواد تلك الرايات فصارت كالليل البهيم،فازداد فزع مروان و انبري يقول:

«أ ما ترون الي السواد قد اتصل بالسواد حتي صار الكل كالسحب السود المتكاثفة!!».

و أقبل مروان علي رجل الي جانبه فقال له:بنبرات تقطر فزعا و خوفا -أ لا تعرفني من صاحب جيشهم؟».

ص: 335


1- البخت:نوع من الأبل الواحد بختي.

-عبد اللّه بن علي بن العباس بن عبد المطلب.

-ويحك أمن ولد العباس هو؟ -نعم -و اللّه لوددت أن علي بن أبي طالب مكانه في هذا الصف.

لقد ايقن مروان بالمصير المحتوم،و تمني أن يكون الفاتح الامام امير المؤمنين(ع)ليقابلهم بالعفو و الاحسان،و يصفح عنهم،و لم يفهم الرجل مقالة مروان،و دار في خلده أنه يتهم الامام بالجبن فانبري إليه قائلا:

-أ تقول هذا لعلي مع شجاعته؟ -ويحك ان عليا مع شجاعته صاحب دين،و ان الدين غير الملك، و إنا نروي عن قديمنا أنه لا شيء لعلي و لا ولده في هذا» (1).

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين،و ما عتمت جيوش الامويين ان تحطمت شر تحطيم،فانهزم مروان و ولي منكسرا مع بعض فلول جيشه حتي أتي الموصل فمنعه أهلها من الدخول إليها خوفا من نقمة الجيش العباسي المنتصر و ولي منهزما نحو حران،و لكنه لم يستطع البقاء فيها فانحدر نحو مدينة حمص و الجيش العباسي يلاحقه،و التحق بدمشق فأراد و إليها نصرته الا انه لم يستطع لضيق الوقت،فقد زحف العدو وراءه،فتوجه الي الاردن فوجدها قد رفعت اعلام بني العباس فحاد عنها،و نزل في فلسطين،و علم مروان ان دمشق قد سقطت بأيدي العباسيين فاستولي عليه الرعب،فترك مقامه في فلسطين و اتجه الي مصر فنزل في قرية(بوصير)و أقام في كنيسة كانت فيها فأدركته كتائب صالح بن علي في ليلة مظلمة،و دارت بين الفريقين معركة دامية قتل فيها مروان و انبري إليه شخص من أهل الكوفة فاحتز رأسه).

ص: 336


1- شرح ابن أبي الحديد(134/7).

و استخرج لسانه فجاءت هرة فاختطفته منه (1).

و انتهت بذلك الدولة الأموية التي حكمت بالظلم و الجور،و عاثت فسادا في الارض،فاتخذت مال اللّه دولا،و عباد اللّه خولا،و قد انتقم اللّه منهم أمرّ الانتقام و أشده فجعل ملكهم هباء و نصرهم جفاء،و كتب لهم الخزي و العار علي ممر العصور الصاعدة.

و حمل رأس مروان الي أبي العباس السفاح فلما رآه سجد و أطال السجود ثم رفع رأسه،و قال:

«الحمد للّه الذي لم يبق ثأرنا قبلك و قبل رهطك،الحمد للّه الذي أظفرنا بك،و أظهرنا عليك.ما أبالي متي طرقني الموت،و قد قتلت بالحسين(ع)ألفا من بني أمية،و أحرقت شلو هشام بابن عمي زيد كما أحرقوا شلوه.ثم تمثل:

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم و لا دماؤهم جمعا ترويني

و حول وجهه الي القبلة فسجد ثانية و تمثل:

أبي قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواطع في ايماننا تقطر الدما

اذا خالطت هام الرجال تركتها كبيض نعام في الثري قد تحطما

و التفت الي حضار مجلسه فقال لهم:اما مروان فقتلناه بأخي ابراهيم و قتلنا سائر بني أمية بحسين،و من قتل معه،و بعده من بني عمنا أبي طالب (2)،و قد رسخ بذلك ملك بني العباس و أصبح السفاح ملكا علي المسلمين في جميع أقطارهم.).

ص: 337


1- مختصر أخبار الخلفاء.
2- شرح ابن أبي الحديد(131/7).
هرب الأمويين:

و لما انهارت الدولة الأموية فزع الأمويون،و امتلأت قلوبهم بالذعر و الهلع فهام بعضهم علي وجهه في البيداء،و من الهاربين عبد اللّه و عبيد اللّه ابنا مروان،و معهما لمة من نسائهم و اصحابهم،فوافوا بلاد«النوبة»فأكرمهم عظيمها،و أرادوا اللجوء الي بلاده فأبي خوفا من سلطة العباسيين،فخرجوا خائفين حتي انتهوا الي«بجاوة»فقاتلهم عظيمها،و انصرفوا يريدون اليمن و قد اترعت نفوسهم بالجزع و الذعر فعرض لهم طريقان بينهما جبل فسلك كل واحد منهما في طريق و هما يعتقدان انهما يلتقيان بعد ساعة.

فسارا تمام اليوم فلم يلتقيا،و راما الرجوع فلم يمكنهما ذلك،فسارا أياما فلقي عبيد اللّه(منسرا)من مناسر الحبشة فقاتلهم و أخيرا قتل عبيد اللّه و استأسر أصحابه و نهب الحبشيون جميع ما عندهم من الأمتعة و تركوهم عراة حفاة حتي هلكوا من العطش فكان الرجل منهم يبول في يده و يشربه و يبول و يعجن به الرمل و يأكله حتي لحقوا عبد اللّه بن مروان و قد ناله من العناء و الشدة اكثر مما نالهم و معه عدة من حرمه و هن عراة حفاة قد تقطعت أقدامهن من المشي و شربن البول حتي تقطعت شفاههن و قد وافوا(المندب)فأقاموا به شهرا و جمع الناس لهم شيئا ثم خرجوا يريدون مكة و هم في زي الحمالين (1).

لقد صب اللّه عليهم هذا العذاب الشديد و الخوف المرهق فجعلهم من أعظم العظات و العبر لأعداء الشعوب.

ص: 338


1- اليعقوبي:(ج 3 ص 84-85)،العقد الفريد:(ج 3 ص 198-199).
الإبادة الشاملة:
اشارة

و اخذت الحكومة العباسية تطارد الأمويين و تستأصل شأفتهم بغير هوادة و لا رحمة فأشاعت فيهم القتل و أبادتهم تحت كل حجر و مدر،و فيما يلي بعض ما لاقوه من الابادة و التنكيل:

1-في البصرة:

و قام سليمان بن علي في البصرة بقتل الأمويين و التنكيل بهم،فأعدم منهم جماعة ثم أمر بهم فجروا بأرجلهم و القوا في الطرق حتي أكلتهم الكلاب،و قد اختفي كثير منهم كعمر بن معاوية فقد بقي وقتا طويلا خائفا متسترا حتي صافت به الارض فالتجأ الي سليمان بن علي فوقف علي رأسه و هو لا يعرفه فقال له و قد بدت عليه الذلة و الانكسار:

-لفظتني البلاد إليك.و دلني فضلك عليك،فاما قتلتني فاسترحت و إما رددتني سالما فأمنت.

-من أنت؟ فعرفه بنفسه فرق له و قال له:

-مرحبا بك،ما حاجتك؟ -إن الحرم اللواتي أنت أولي الناس بهن،و أقربهم إليهن قد خفن لخوفنا.

-حقن اللّه دمك و وفر مالك.

ثم آمنه و كتب بذلك الي السفاح فأقرّ أمنه (1).

ص: 339


1- الكامل:(ج 5 ص 206).
2-في مكة و المدينة:

و قتل داود بن علي جماعة منهم بمكة و المدينة،و قد انشده ابراهيم بن هرمة أبياتا يحفزه فيها علي الاستمرار في تتبعهم و القضاء عليهم قائلا:

فلا عفا اللّه عن مروان مظلمة و لا أمية بئس المجلس البادي

كانوا كعاد فأمسي اللّه أهلكهم بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذبني من هاشم أحد فيما أقول و لو أكثرت تعدادي (1)

و قد تأسف الشيخ محمد الخضري علي ما صنعه بهم داود بن علي فقال:

«حتي لم يبق منهم احدا ارضاء لشهوة الانتقام التي تمسكت في قلوب بني العباس و لم تخجلهم تلك الوحشية القاسية..» (2).

لقد تأسف الخضري علي مقتل الأمويين و لم يأسف علي ما فعلوه بعترة النبي الأعظم من القتل و السبي،و بما انزلوه بأحرار المسلمين من التنكيل و الارهاق و التعذيب و غير ذلك من الفضائع و الفضائح،و كان من المحتم ان يلاقوا ذلك،فقد كتب اللّه علي الظالمين اللعنة و الخزي،و أجري في قضائه انه لا بد أن يلاقوا مصيرهم الحافل بالخسران و سوء المصير،و لكن الخضري لا ينظر الي الواقع إلا بمنظار أسود،قد أكلت العصبية قلبه،فهام بحب اسياده الأمويين فبكي لحالهم و تألم علي مصيرهم.

3-في الحيرة:

و لما استتب الأمر الي أبي العباس أخذ يتتبع الأمويين فلم يظفر بأحد منهم حتي نفذ فيه حكم الاعدام لأجل تدعيم ملكه و سلطانه،و إرضاء لأبناء عمومته العلويين،و رعاية لعواطف اكثر المواطنين الذين نكبتهم السلطة

ص: 340


1- مختصر تأريخ الخلفاء(ص 4).
2- المحاضرات:(ص 49).

الأموية،و قد استأمنه سليمان بن هشام بن عبد الملك فآمنه فدخل عليه في الحيرة و معه جماعة من الأمويين،و بينما هم جلوس إذ دخل عليه حاجبه فقال له:

«يا أمير المؤمنين:رجل حجازي أسود،راكب علي نجيب متلثم يستأذن و لا يخبر باسمه،و يحلف أن لا يحسر اللثام عن وجهه حتي يراك!!» -هذا مولاي سديف فليدخل.

فدخل سديف،فلما رأي السفاح و حوله بنو أمية قد جلسوا علي النمارق و الكراسي تحرق قلبه من الغيظ و انبري مستأذنا منه ليتلو عليه أبياته الحماسية فأذن له فاندفع قائلا و هو مغيظ محنق:

أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس

بالصدور المقدمين قديما و الرءوس القماقم الرّواس

يا أمير المطهرين من الذم و يا رأس منتهي كل رأس

أنت مهدي هاشم و هداها كم أناس رجوك بعد إياس

لا تقيلن عبد شمس عثارا و اقطعن كل رقلة و غراس

انزلوها بحيث أنزلها اللّه بدار الهوان و الاتعاس

خوفهم أظهر التودد منهم و بهم منكم كحر المواسي

و اذكروا مصرع الحسين و زيدا و قتيلا بجانب المهراس

و الامام الذي بحران أمسي رهن قبر ذي غربة و تناسي

و ألهبت هذه الأبيات قلب السفاح فأخذ الغيظ منه مأخذا عظيما حتي بان علي سحنات وجهه فشعر بذلك بعض الأمويين فانطلق يقول:

«قتلنا و اللّه العبد» و أخذ السفاح يتحرق قلبه غيظا و موجدة،و صاح بالخراسانيين:

خذوهم،فانبري إليهم الخراسانيون بالدبابيس فضربوهم ضربا بالغا حتي

ص: 341

سقطوا علي وجوههم،و أمر السفاح ان يمد عليهم خوان الطعام،ففرش عليهم الخوان،و وضع عليهم الطعام،و جلس السفاح مع حاشيته يتناولون الغذاء و هم يسمعون أنينهم حتي هلكوا عن آخرهم و بدي الفرح علي وجه السفاح فقال:

-ما أكلت في عمري أكلة أهنأ من هذه الأكلة..».

ثم رفع الطعام عنهم،و سحبت جثثهم فرميت بالطرق فأكلت الكلاب أكثرها (1)و أطل عليهم سديف و هو مثلوج القلب ناعم الفكر فانبري قائلا:

طمعت أمية أن سيرضي هاشم عنها و يذهب زيدها و حسينها

كلا و رب محمد و إلهه حتي يبيد كفورها و خئونها (2)

و لما فرغ السفاح من قتل الأمويين،و محاهم من دنيا الوجود اندفع و هو جذلان مبتهج يقول:

بني أمية قد أفنيت جمعكم فكيف لي منكم بالأول الماضي

يطيّب النفس ان النار تجمعكم عوضتم من لظاها شر معتاض

منيتم لا أقال اللّه عثرتكم بليث غاب الي الأعداء نهاض

إن كان غيظي لفوت منكم فلقد منيت منكم بما ربي به راضي

و هكذا كانت نهاية الظالمين و اعداء الشعوب القتل و الدمار و الخزي و العار

نبش قبور الأمويين:

و تتبع العباسيون خصومهم الأمويين أحياء فأبادوهم-كما ذكرنا-و انعطفوا علي أمواتهم فنبشوا قبورهم،و أحرقوا ما تبقي من عظامهم النخرة و جري ذلك بعد ما احتلت الجيوش العباسية دمشق فأمر عبد اللّه بن علي القائد العام للقوات

ص: 342


1- مختصر أخبار الخلفاء:(ص 10).
2- العقد الفريد:(ج 3 ص 207).

المسلحة بنبش قبورهم فنبشوا قبر الطاغية معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الرماد،و نبشوا قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا فيه جمجمة و نبشوا قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد،و أخرج جسد هشام بن عبد الملك فضرب بالسياط،و صلب ثم أحرق و ذر في الهواء (1)الي هنا ينتهي بنا الحديث عن الأمويين و ما جري عليهم من الاندحار و الدمار

السفاح و العلويون:

و لم يكن من المتوقع عند احد ان يفوز العباسيون بالخلافة لأن الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الاموي انما كانت من اجل العلويين،فقد كانت هتافات المتظاهرين بالدعوة«الي الرضا من آل محمد»و كانت هذه الدعوة شعار الثوار الذين بذلوا المزيد من التضحيات في سبيلها،و كان العباسيون أنفسهم لا يحلمون بذلك فقد بايع السفاح و أخوه المنصور محمدا ذا النفس الزكية،و لكن الاقدار قد حولت الأمر عن العلويين،و حملته الي العباسيين.

و لما صفا الملك لأبي العباس جهد في ارضاء العلويين فمنحهم بالعطاء الجزيل،و قابلهم بشتي الوان التبجيل و التكريم،و قضي علي خصومهم الامويين،و كانت العلاقة فيما بينهما ظاهرا علاقة ود و صفاء،و اما في الواقع فان العلويين قد انطوت نفوسهم علي الحزن العميق،و الأسي الشديد و ذلك لمكيدة العباسيين بهم و استئثارهم بالخلافة من دون ان يأخذوا رأيهم في الأمر.

و علي أي حال فان العلويين قد وفدوا علي أبي العباس و هو في الانبار

ص: 343


1- الكامل:(ج 5 ص 205).

يهنئونه بالخلافة،و لم يفد عليه محمد و ابراهيم فرابه ذلك،و التفت الي ابيهما عبد اللّه فقال له:

-ما منعهما أن يفدا مع من وفد علي من أهل بيتهما؟ -ما كان تخلفهما لشيء يكرهه أمير المؤمنين.

فقبل السفاح العذر علي مضض و كره،و مما زاد في قلق السفاح و اضطرابه من محمد و أخيه أنه لما بني مدينة الانبار التي اتخذها عاصمة له دخلها مع أخيه أبي جعفر،و عبد اللّه بن الحسن،و هو يسير بينهما، و يطلعهما علي ما في المدينة من المصانع و القصور فظهرت من عبد اللّه فلتة فجعل يتمثل بهذين البيتين:

أ لم تر جوشنا قد صار يبني قصورا نفعها لبني نفيلة (1)

يؤمل أن يعمر عمر نوح و أمر اللّه يحدث كل ليلة (2)

فتغير وجه أبي العباس،فالتفت ابو جعفر المنصور الي عبد اللّه فقال له:

-أ تراهما ابنيك و الأمر صائر إليهما لا محالة؟ -لا و اللّه ما ذهبت،و لا أردته،و لا كانت الا كلمة جرت علي لساني لم الق لها بالا.

و قد أوحشت هذه الكلمات قلب السفاح فلما عزم العلويون علي الخروج الي يثرب اجزل لهم العطاء و بعث معهم رجلا من ثقاته فقال له:قم بانزالهم و لا تأل في الطافهم،و كلما خلوت معهم فاظهر الميل إليهم،و التحامل علينا،و علي ناحيتنا،و انهم احق بهذا الأمر منا،و احص لي ما يقولون و ما يكون منهم في مسيرهم و مقدمهم.م»

ص: 344


1- في زهر الآداب«أ لم تر حوشبا لما تبني»
2- في المقاتل«ان يعمر الف عام»

و حينما وصل عبد اللّه الي يثرب اجتمع به ولده،و سألوه عن كل صغيرة و كبيرة فأخذ يشرح لهم الحالة،و حفزهم علي الثورة،و كان ذلك الرجل حاضرا فحفظ جميع ما دار بينهم فلما عاد الي ابي العباس اطلعه علي جميع ما شاهده من بني الحسن فوغر صدره عليهم،و اشتد غضب المنصور عليهم.

و أخذ الذين يتزلفون الي السلطة يختلقون السعايات و يفتعلون الوشايات بأن العلويين يدعون الناس الي خلع بيعة السفاح،فضاق السفاح بذلك ذرعا،و كتب الي عبد اللّه كتابا شفعه بهذا البيت:

أريد حياته و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

فأجابه عبد اللّه برسالة فند فيها تلك المزاعم،و كتب في آخرها هذه الأبيات:

و كيف يريد ذاك و أنت منه بمنزلة النياط من الفؤاد

و كيف يريد ذاك و أنت منه و زندك حين يقدح من زناد

و كيف يريد ذاك و أنت منه و أنت لهاشم رأس و هاد (1)

و اطمأن بذلك ابو العباس،و سكن روعه الا ان أبا جعفر المنصور كان يحثه،و يدفعه الي الايقاع بمحمد و ابراهيم فزجره السفاح و قال له:

«من شدد نفر،و من لان تأسف،و التغافل من سجايا الكرام» (2)و سلك مع العلويين مسلك السياسي المحنك فلم يقابلهم بأذي و لا مكروه، بل كان يتظاهر بالود و العطف عليهم.1)

ص: 345


1- تأريخ اليعقوبي(97/3).
2- شذرات الذهب(159/1)

موقف الامام الصادق:

اشارة

و تميز موقف الامام الصادق(ع)بالحياد،و الالتجاء الي الدعة و السكون و عدم القيام بأي نشاط سياسي فانه كان يعلم باخفاقه،و عدم عائدته علي الأمة بأي مكسب سوي الضرر الشامل الذي يفتك بالمجتمع و يجر له كثيرا من النكبات و الخطوب.

و قد أصر الامام علي هذه الخطة السليمة في موقفه مع العلويين تارة و مع دعاة الدولة العباسية أخري،و فيما يلي إيضاح ذلك:

1-مع العلويين:

و استشف الامام الصادق(ع)من وراء الغيب أن الخلافة بعد سقوط الدولة الاموية لا بد أن تؤول الي العباسيين،و ليس للعلويين فيها أي نصيب و كان يمعن في نصحهم،و تحذيرهم من التصدي لطلب الحكم،و قد روي المؤرخون بوادر كثيرة مما أثر عنه في هذا المجال،فقد رووا أن العلويين و العباسيين أيام الحكم الاموي اجتمعوا و اتفقوا علي أن يبايعوا محمدا ذا النفس الزكية،فأرسلوا خلف الامام الصادق(ع)و عرضوا عليه ذلك فنهاهم عنه،و قال لهم:

«لا تفعلوا فان الأمر لم يأت بعد».

فغضب عبد اللّه بن الحسن و حسب ان ذلك حسد لابنه،فنظر إليه الامام نظرة رحمة و اشفاق و قال له:

«لا و اللّه،ما ذاك يحملني،و لكن هذا-و أشار الي أبي العباس السفاح-و اخوته و ابناؤهم دونكم».

ص: 346

و نهض الامام متأثرا،فتبعه عبد الصمد،و أبو جعفر المنصور فقالا له:

«يا أبا عبد اللّه أ تقول ذلك»؟ «نعم و اللّه أقوله و أعلمه» (1).

و بالغ(ع)في نصحه لعبد اللّه في ان يعزب عن هذا الأمر،و لا يورط نفسه و ابنيه فيه،و قد قال(ع)له:

«انها-اي الخلافة-و اللّه ما هي إليك،و لا الي ابنيك،و لكنها لهؤلاء-و أشار الي بني العباس-و ان ابنيك لمقتولان» (2).

ان هذا العلم،و هذا الايحاء مستمد من علم رسول اللّه(ص)فهم اوصياؤه و ورثة علمه،و سدنة حكمته،و موطن أسراره.

لقد منح(ع)ابناء عمه بالنصيحة،و أشار عليهم بما فيه نجاتهم، و أعلمهم بأنهم لن ينالوا هذا الأمر،و لو تابعوه لجنبوا نفوسهم المهالك و المصاعب،و ما فجعوا الأمة برزاياهم،و لكنهم-رضي اللّه عنهم-لهم عذرهم-في ذلك-فقد لاقوا المزيد من الذل و الهوان من تلك السلطات المستهترة التي لم تأل جهدا في قهرهم و ارغامهم علي ما يكرهون فانطلقوا الي ساحات الجهاد أحرارا و ماتوا كراما تحت ظلال الاسنة، و سوف نعرض ذلك بمزيد من التفصيل عند البحث عن عهد الطاغية أبي جعفر المنصور.

2-مع أبي سلمة:

و لما اشرفت الدولة الأموية علي الانهيار تحت وطأة الجيوش العباسية

ص: 347


1- مقاتل الطالبيين:(ص 555).
2- نفس المصدر.

و ضرباتها المتلاحقة لها،رأي أبو سلمة الذي لقب بوزير آل محمد أن يحول الخلافة الي العلويين،و سواء أ كان ذلك عن جد و اخلاص منه أم عن مكيدة و خديعة لهم،فقد كتب الي ثلاثة منهم يعرض عليهم ما فكر به،و هم:الامام جعفر بن محمد،و عبد اللّه المحض،و عمر الاشرف بن الامام زين العابدين(ع)و سلم رسائله الي مولي من مواليهم الذين يقطنون الكوفة و أوصاه بقوله:

«اقصد أولا جعفر بن محمد الصادق(ع)فان أجاب فابطل الكتابين الآخرين،فان لم يجب فالق عبد اللّه المحض فان أجاب فابطل كتاب عمر الأشرف،و ان لم يجب فالق عمر».

و انطلق الرسول حتي اذا انتهي الي يثرب بدأ بمقابلة الامام أبي عبد اللّه الصادق(ع)فسلمه الكتاب ليلا،فتناول(ع)الكتاب بعد ما عرض عليه حديث أبي سلمة فقال(ع):

«ما أنا و أبو سلمة و هو شيعة لغيري؟» و انبري الرسول للامام قائلا له:

«اقرأ الكتاب،و اجب عليه بما تري» فقال الامام لخادمه:ادن السراج مني،فأدناه فوضع الكتاب علي النار حتي احترق،فقال له الرسول:

-أ لا تجيبه؟ -قد رأيت الجواب و تمثل(ع)ببيت للكميت:

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها و يا حاطبا في غير حبلك تحطب

فخرج الرسول من عنده،و أتي عبد اللّه بن الحسن،و دفع إليه الكتاب فقرأه و ابتهج،فلما كان الغد من ذلك اليوم ركب عبد اللّه

ص: 348

حتي أتي منزل أبي عبد اللّه الصادق(ع)فقام(ع)تكريما له و قابله بمزيد من الحفاوة و قال له:

-يا أبا محمد ما أتي بك؟ -هو أجل من أن يوصف!! -ما هو؟ -هذا كتاب أبي سلمة يدعوني الي الخلافة،و قد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان.

فتأثر(ع)منه،و قال له:

«يا أبا محمد و متي كان أهل خراسان شيعة لك أنت بعثت أبا مسلم الي خراسان،و أنت أمرتهم بلبس السواد؟هل تعرف أحدا منهم باسمه أو بصورته؟فكيف يكونون شيعة لك،و أنت لا تعرفهم،و هم لا يعرفونك؟».

فأخذ عبد اللّه يحاججه،و يجادله،فقطع(ع)حديثه،و قال له:

«قد علم اللّه أني أوجب النصح علي نفسي لكل مسلم،فكيف أدخره عنك،فلا تمن نفسك الأباطيل،فان هذه الدولة ستتم لهؤلاء-يعني بني العباس-و قد جاءني مثل هذا الكتاب الذي جاءك» (1).

لقد كشف الامام في حديثه المشرق صفحة من صفحات الغد المجهول فأنارها بعلمه،و لم يبق بها أي خفاء و التباس،من حتمية مصير الخلافة لبني العباس،و عقم المعارضة لهم،و ما انتهت حفنة من السنين حتي تحقق تنبؤه و صدقه في ذلك.

و علي أي حال فقد كان رفض الامام لدعوة أبي سلمة يحمل جانبا كبيرا من الاصالة و العمق في مجريات الأحداث،فان دعوة أبي سلمة ان).

ص: 349


1- مروج الذهب 184/3،الآداب السلطانية(ص 137).

كان جادا فيها لم تكن بداعي الايمان بحق أهل البيت،و انما كانت ناشئة عن دواع أخري من ضياع مصالحه و آماله،و إلا فلما ذا لم يراسلهم قبل هذا الوقت الحافل بالاخطار،فان الجيوش العباسية التي زحفت الي احتلال العراق لم تكن شيعة للعلويين،و انما هي شيعة لبني العباس قد صهرتهم دعوتهم،فكيف يستجيب الامام لدعوة أبي سلمة أو يسير في مجاهل هذه التيارات القاتمة المحفوفة بالمهالك و الاخطار..علي أن عبد اللّه ابن الحسن قد استجاب له،فما ذا جناه منه غير الدمار الشامل له و لأسرته و لم يخف امر هذه الدعوة علي بني العباس فقد اوجبت قلقهم و اضطرابهم و تصميمهم علي قتله،فقد روي المؤرخون ان ابا العباس و أبا جعفر المنصور قد اتفقا علي ان يخرج المنصور الي خراسان لزيارة أبي مسلم و يحدثه في امر ابي سلمة،و يطلب منه القيام باغتياله،فخرج المنصور حتي انتهي الي ابي مسلم فعرض عليه الأمر فقال له:«أ فعلها أبو سلمة؟أنا أكفيكموه»ثم دعا احد قواده«مرار بن أنس الضبي»،و قال له:

«انطلق الي الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته،و انته في ذلك الي رأي الامام»فسار مرار مع جماعة من جنده الي الكوفة،و كان ابو سلمة يسمر عند السفاح الذي تظاهر باعلان العفو و الرضا عنه،فجلس مرار مع جماعته في طريقه،فلما خرج ابو سلمة في منتصف الليل بادر الي قتله،و أشاعوا في الصباح ان الخوارج هي التي قتلته (1)و انتهي بذلك امر ابي سلمة في فجر مولد الدعوة العباسية.د.

ص: 350


1- الطبري احداث سنة 132 ه- و قتل ابو سلمة في 15 من شهر رجب و ذلك بعد هزيمة مروان بشهر واحد.
3-مع ابي مسلم:

و لما استبان لأبي مسلم واقع العباسيين و غدرهم حاول أن ينقل الأمر الي اهل البيت(ع)فكتب الي الامام الصادق رسالة جاء فيها:

«إني قد أظهرت الكلمة،و دعوت الناس عن موالاة بني أمية الي موالاة اهل البيت،فان رغبت فلا مزيد عليك..».

فكتب الامام(ع)جوابا له تمثلت فيه الحكمة و الوعي،و الادراك لحقائق الأمور،و قد جاء فيه:

«ما أنت من رجالي،و لا الزمان زماني» (1).

أجل كيف يكون أبو مسلم من رجال الامام أبي عبد اللّه الصادق(ع) الذي هو الثقل الأكبر في الاسلام؟ ان اصحاب الامام و دعاته انما هم الاخيار المتحرجون في دينهم الذين يؤثرون طاعة اللّه علي كل شيء.

كيف يرضي الامام ان يتسلم السلطة من أبي مسلم الذي استحل جميع ما حرم اللّه و سفك دماء المسلمين بغير حق؟

ندم أبي مسلم:

لقد ندم أبو مسلم في آخر الأمر علي ما اقترفه من الموبقات و الآثام و عزي جميع ما فعله الي السفاح،و قد جاء ذلك في رسالته التي رفعها الي أبي جعفر المنصور فقد جاء فيها:

«كنت اتخذت أخاك إماما،و جعلته علي الدين دليلا لقرابته،

ص: 351


1- الملل و النحل 241/1

و الوصية التي زعم انها صارت إليه،فأوطأ بي عشوة الضلالة،و أوهقني في ربقة الفتنة،و أمرني ان آخذ بالظنة،و أقتل علي التهمة،و لا أقبل المعذرة،فهتكت بأمره حرمات حتم اللّه صونها،و سفكت دماء فرض اللّه حقنها،و زويت الأمر عن أهله،و وضعته منه في غير محله،فان يعف اللّه عني فبفضل منه،و إن يعاقب فبما كسبت يداي،و ما اللّه بظلام للعبيد..» (1).

لقد كشف أبو مسلم في رسالته عن ندمه و بربرية السفاح و قسوته،و ان جميع ما فعله من سفك الدماء،و هتك الحرمات،و إذاعة الرعب،و نشر الارهاب كل ذلك مستند الي أوامر السفاح.

و ادلي ابو مسلم بتصريح آخر يقرب من ذلك رفعه الي ابي جعفر المنصور و قد جاء فيه:

«أما بعد:فاني اتخذت رجلا إماما،و دليلا علي ما افترض اللّه علي خلقه،و كان في محلة العلم نازلا،و في قرابته من رسول اللّه(ص)،قريبا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه اللّه الي خلقه،و كان كالذي ادلي بغرور،و أمرني أن اجرد السيف،و ارفع المرحمة و لا أقبل المعذرة،و لا أقيل العثرة،ففعلت توطيدا لسلطانكم،حتي عرفكم من كان يجهلكم،و أطاعكم من كان عدوكم،و أظهركم اللّه بعد الخفاء و الذل و الحقارة..» (2).

و اعرب ابو مسلم بهذا التصريح الخطير عما اتصف به السفاح من الخداع و التضليل،و عدم الايمان بالقيم الانسانية.

و قد بلغ به و خز الضمير و الندم علي ما ارتكبه من عظيم الإثم انه10

ص: 352


1- تأريخ بغداد 208/10
2- البداية و النهاية 64/10

كان لا يرجو مغفرة اللّه له فكان يدعو بعرفات:

«اللهم:إني تائب إليك مما لا أظنك ان تغفر لي» فقيل له:أ فيعظم علي اللّه غفران ذنبك؟ فقال:إني نسجت ثوب ظلم ما دامت الدولة لبني العباس،فكم من صارخة تلقني عند تفاقم الظلم فكيف يغفر لمن هذا الخلق خصماؤه (1).

لقد أفسد ابو مسلم أمر آخرته،و باع دينه في سبيل توطيد الملك لبني العباس،و قد ندم حيث لا يجديه الندم،فما كان اللّه ليتلطف بالعفو و الغفران علي من اراق بحورا من دماء الابرياء بغير حق،و اشاع في بلاد المسلمين الثكل و الحزن و الحداد.

وفاة السفاح:

و مرض السفاح مرضه الذي توفي فيه،و بقي أياما يعاني أشد الآلام و أقساها.

و لما ثقل حاله،و اشتد به المرض ارسل الي ابن أخيه عيسي بن موسي،و في رواية الي عمه عيسي بن علي،فناوله كتابا مغلقا،و كتب علي غلافه:«من عبد اللّه و وليه إلي آل رسول اللّه(ص)و الأولياء و جميع المسلمين»و أوصاه بكتمان أمره اذا خرجت نفسه حتي يقرأ الكتاب علي الناس،و لم يكن احد يدري لمن اوصي بالخلافة من بعده (2)و في ليلة الأحد الموافق:12 ذي الحجة سنة(136 ه-)توفي

ص: 353


1- الكني و الالقاب 151/2 نقلا عن ربيع الابرار.
2- تأريخ اليعقوبي:348/3

السفاح (1)و انتقل الي اللّه فسجاه عيسي بن علي بثوبه،و كتم علي الناس موته،فلما اصبح الصبح جمع رجال بني العباس،و كبار رجال الدولة فنعي إليهم السفاح،و اخرج إليهم كتاب البيعة مغلقا،ففض الكتاب أمامهم و اذا به يوصي بالخلافة لأخيه أبي جعفر،و بولاية العهد الي ابن أخيه عيسي ابن موسي بن محمد،و اخذ البيعة علي الحاضرين لأبي جعفر المنصور،ثم قام بعد ذلك بمواراته فدفن في قصره حسب وصيته (2).

و انتهت بذلك حياة السفاح الحافلة بسفك الدماء،و هتك الحرمات، و قد ختم حياته بفرض اخيه المنصور خليفة علي المسلمين،و هو من أشر خلق اللّه،و أخبث حاكم في الاسلام لؤما و انحرافا عن العدل،فقد جهد في فقر المسلمين و اشاعة الذعر و الخوف في جميع انحاء العالم الاسلامي كما سنذكره بالتفصيل.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن الامام موسي(ع)في عهد السفاح، فرأي و هو في غضون الصبا و ريعة العمر محنة المجتمع الاسلامي و شقاءه بتلك الادوار الرهيبة التي اجتازت عليه فانه لم ينتقل من جور الامويين و ظلمهم حتي وقع تحت وطأة الحكم العباسي فأخذ يعاني الجور و الاستبداد،و العسف و الارهاق،و اخذت السلطة العباسية تمعن في افقار المسلمين و نهب ثرواتهم و صرفها بسخاء علي المجون و الدعارة كما كان الحال أيام الحكم الاموي،و من الطبيعي ان لذلك أثرا كبيرا في حياة الامام موسي(ع)و انطوائها علي الحزن و الأسي./4

ص: 354


1- مروج الذهب:181/3
2- ابن الأثير:347/4

في عهد المنصور

اشارة

ص: 355

ص: 356

و لم تكن للمنصور اية سابقة من السوابق،أو مأثرة من المآثر حتي يستحق الخلافة التي هي من اعظم المراتب في الاسلام،فلم يكن يملك أي نزعة انسانية أو صفة شريفة تؤهله للقيام بشئون المسلمين،فقد اجمع المؤرخون انه تسربل باللؤم و البخل،و خسة الطبع،و دناءة النفس،و كان الغدر و الفتك من ابرز مظاهر شخصيته،و قد ساس المسلمين سياسة من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر فأشاع بينهم الخوف و الارهاق،و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية،حتي تمنوا رجوع الحكم الاموي،و عودة أيامهم علي ما فيها من قسوة و عذاب،يقول احد مخضرمي الدولتين:

يا ليت جور بني مروان دام لنا و ليت عدل بني العباس في النار

و قال الثائر العظيم محمد ذو النفس الزكية في حديثه الذي أدلي به عن جور العباسيين و ظلمهم:

«و لقد كنا نقمنا علي بني أمية ما نقمنا،فما بنو العباس الا أقل خوفا للّه منهم،و ان الحجة علي بني العباس لأوجب منها عليهم،و لقد كانت للقوم مكارم و فواضل ليست لأبي جعفر..» (1).

و قد افرط في سفك الدماء الي حد لا يوصف فقتل علي الظنة و التهمة و تنكر لجميع الناس فلم تسلم منه حتي أسرته فأباد اعلامها و قطع رءوسها، و يعزي ذلك الي حقده و طيشه،و قد وصفه الاستاذ السيد مير علي بقوله:

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء،و تعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط في حين كان خلفه لا يفتك بأحد الا بعد كثير من التروي و الامعان،و علي الجملة كان أبو جعفر سادرا في بطشه مستهترا في فتكه،و تعتبر معاملته لأولاد علي صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي،و يقول السيوطي:كان المنصور أول من أحدث ثغرة الخلاف10

ص: 357


1- الأغاني:106/10

بين العباسيين و العلويين بعد ان كانا كتلة واحدة» (1).

و وصفه ابن هبيرة (2)و هو من معاصريه بقوله:«ما رأيت رجلا في حرب او سلم أمكر،و لا أنكر،و لا اشد تيقظا من المنصور حتي لقد حاصرني في تسعة شهور و معي فرسان العرب فجهدنا كل الجهد علي أن ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدة ضبطه لعسكره،و كثرة تيقظه» (3).

و قد استطاع ببطشه و كيده أن يؤسس الدولة العباسية،و يسيطر علي جميع اجهزة الحكم سيطرة كاملة.

و كان من أقسي ما قام به من الظلم جوره البالغ علي العلويين، و معاملتهم بما لا يوصف من العنف و الاضطهاد فقد صب عليهم جام غضبه فنكل بهم أفظع التنكيل،و لم يرع فيهم أواصر الرحم،و قربهم من الرسول(ص)و قد شاهد الامام موسي(ع)ما حل باسرته من صنوف المحن و الارهاق،فكان لذلك أثره الكبير في نفسه فقد صارت موطنا للآلام و الاحزان.

لقد قطع الامام موسي(ع)عقدين من سني حياته في دور المنصور).

ص: 358


1- مختصر تأريخ العرب(ص 184).
2- ابن هبيرة:هو عمر بن سعد بن عدي الفزاري ولي العراقين ليزيد بن عبد الملك ست سنين،و كان يكني أبا المثني،و يقول الفرزدق مخاطبا لعبد الملك في أمر ابن هبيرة: أوليت العراق و رافديه فزاريا احذ يد القميص تفتق بالعراق أبو المثني و علّم قومه أكل الخبيص و المراد بقوله:«أحذ يد القميص»انه خفيف اليد كناية عن خيانته الكني و الألقاب 434/1 نقلا عن المعارف لابن قتيبة.
3- العصر العباسي(ص 68).

فرأي تلك السياسة النكراء التي تحمل شارات الموت و الفناء لجميع المواطنين ...و لا بد لنا من البحث عن مظاهر شخصية المنصور،و سياسته و اعماله فان البحث عن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام موسي لأنه يصور لنا العصر الذي عاش فيه،و ما لاقي فيه المسلمون من جهد و عناء فان لذلك أثرا في انطباعاته عن كثير من الاحداث،و فيما يلي عرض موجز للتعريف بشخصية المنصور:

مظاهر شخصية المنصور:

اشارة

اما الخصائص التي عرف بها المنصور،و كانت من مقوماته و ذاتياته فهي:

1-البخل:
اشارة

و مما لا شبهة فيه ان البخل هو المنبع الوحيد لجميع الرذائل النفسية فصاحبه قد انمحت عن اعماق نفسه جميع الوان الاريحية و النبل،و قد تحمل هذه الصفة علي التمادي في الإثم،و تلقيه في شر عظيم.

و كانت هذه النزعة الشريرة من ابرز صفات المنصور،فقد كان مضرب المثل في بخله،و قد عرض الدولة الاسلامية للمجاعة الشاملة و البؤس و الحرمان و نظرا لبخله الشديد فقد لقب بالدوانيقي.

قال ابن الأثير:إنما سمي المنصور بالدوانيقي لبخله و ذلك لما حفر الخندق بالكوفة قسط علي كل منهم دانقا و صرفه علي الحفر،و الدانق سدس الدرهم،ثم قال و في سنة 155 ه عمل المنصور للكوفة و البصرة سورا و خندقا و أمر لمن عمل بالسور و الخندق لكل واحد خمسة دراهم،فلما

ص: 359

فرغوا أمر بجمعهم و أخذ من كل واحد اربعين درهما و في ذلك يقول الشاعر يا لقومي ما لقينا من أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا و جبانا الأربعينا (1)

و لما فرغ من بناء بغداد حاسب امراء جيشه و الزمهم بما بقي عندهم حتي استوفي من بعضهم ما اقتضاه الحساب خمسة عشر درهما (2)و كان يحاسب العمال و لو كان بقدر الدانق و الحبة (3)،و اما مظاهر بخله فهي كما يلي:

أ-حرمانه لنفسه:

و قد حمله بخله و لؤمه علي حرمان نفسه من التمتع بلذائذ الحياة فكان يتحاشي النعم،و يلبس ما خشن من الثياب و ربما رقع قميصه بيده، و قد قال الامام الصادق(ع)فيه:

«الحمد للّه الذي ابتلاه بفقر نفسه في ملكه» (4).

و رأته احدي جواريه و عليه قميص مرقع فقالت ساخرة منه:

«أ خليفة و ثوب مرقوع؟» فضحك و قال لها:ويحك أ ما سمعت قول الشاعر بن هرمة:

قد يدرك الشرف الفتي و قميصه خلق و جيب قميصه مرقوع (5)

إنه لم يدرك الشرف،و انما انتهي الي قرار سحيق من الخسة و اللؤم و ضعة النفس.

ص: 360


1- الكامل.
2- الفخري:(ص 118).
3- عنوان المجد:(ص 161).
4- الفخري:(ص 115).
5- تأريخ بغداد 57/1
ب-الشح علي الأصدقاء:

و كان المنصور ضنينا بالمال علي نفسه و اصدقائه فلم يجد بشيء عليهم و لم يفكر في صلتهم،فقد كان له زميل أيام فقره و فاقته و هو الوضين بن عطاء،فاستدعاه حينما استولي علي دست الحكم فلما مثل عنده أخذ يسأله عن حاله و شئونه قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه ما مالك»؟ -الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين.

-ما عيالك؟ -ثلاث بنات و امرأة و خادم لهن.

-اربع في بيتك؟ -نعم.

و أخذ يردد ذلك عليه و يستفهم عن كمية عياله حتي اعتقد الوضين انه سيصله و يمنحه العطاء،ثم انه رفع رأسه إليه بعد تفكير طويل قائلا:

«أنت أيسر العرب،أربع مغازل يدرن في بيتك!! (1).

بهذه الكيفية المخجلة كانت نفسه الوضيعة التي تسربلت بالبخل و اللؤم فليس فيها بصيص من نور الرأفة و الرحمة.

ج-حرمان الادباء:

كانت الدولة الأموية تغدق بالأموال الطائلة علي الشعراء و الأدباء حتي ازدهر الأدب و راج سوقه و كانت الأوساط الاجتماعية تنظر الي هذه الطبقة ببالغ الاهتمام نظرا لاعتناء الدولة و احتفائها بها،و لما انتهي الدور الي المنصور بالغ في اذلالهم و تحطيمهم و حرمانهم من الصلة و الدخول عليه،فكان لا يؤذن لهم إلا بعد جهد كثير،و قد وفد عليه أبو نحيلة،فوقف بباب

ص: 361


1- عصر المأمون:(ج 1 ص 294).

بلاطه مستأذنا فلم يأذن له بالدخول و الخراسانيون و غيرهم يدخلون و يخرجون بلا عناية و هم يستهزءون به و يسخرون منه،و رآه بعض اصدقائه و هو بتلك الحالة من الذل و الهوان فقال له:

-كيف تري ما أنت فيه من هذه الدولة؟ فانبري مجيبا بهذه الأبيات التي ارتجلها و هو يصور ما هو فيه:

أكثر خلق اللّه بي لا يدري من أي خلق اللّه حين يلقي

و حلة تنشر ثم تطوي و طيلسان يشتري فيغلي

لعبد عبد او لمولي مولي يا ويح بيت المال ما ذا يلقي (1)

إن الذي دعا المنصور الي الاستهانة بهذه الطبقة المثقفة هو البخل و الشح.

و روي المؤرخون من شحه و قطيعته للشعراء:أن المؤمل بن أميل قدم علي المهدي ولي عهد المنصور فمدحه بقصيدة رائعة ملكت مشاعره فأعطاه عشرين الف درهم،و رفع صاحب البريد رسالة الي المنصور يحيطه علما بالامر،فلما انتهت إليه و علم بالحال تميز غيظا و رفع من فوره رسالة الي ولده يندد فيها بفعله و قد جاء فيها«انما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم».

و كتب الي كاتب المهدي ان يبعث إليه الشاعر فورا فطلبه الكاتب فلم يظفر به،فأخبره أنه توجه الي مدينة السلام،فبعث احد ضباط جيشه مع دورية من الشرطة و أمرهم بالقاء القبض عليه فأقاموا بجسر النهروان فلا يجتاز عليهم احد الا سألوه عن اسمه،فاجتاز عليهم المؤمل فسألوه عن اسمه فأخبرهم به،فألقوا عليه القبض فكادت روحه أن تزهق من الخوف و الذعر و جاءوا به الي الربيع حاجب المنصور فانبري الي المنصور فأخبره).

ص: 362


1- الأغاني:(ج 18 ص 148).

بالعثور عليه،فأمر بادخاله فلما مثل بين يديه التفت إليه و هو مغيظ محنق قائلا:

-أنت المؤمل بن أميل؟ -نعم اصلح اللّه أمير المؤمنين.

-هيه،أتيت غلاما غرا فخدعته!!.

-نعم أصلح اللّه أمير المؤمنين،أتيت غلاما كريما فخدعته فانخدع فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه،ثم امره بأن يتلو عليه قصيدته فانبري منشدا:

هو المهدي إلا أن فيه مشابه صورة القمر المنير

تشابه ذا و ذا فهما إذا ما أنارا مشكلان علي البصير

فهذا في الظلام سراج ليل و هذا في النهار سراج نور

و لكن فضل الرحمن هذا علي ذا بالمنابر و السرير

و بالملك العزيز فذا أمير و ما ذا بالأمير و لا الوزير

و نقص الشهر يخمد ذا و هذا منير عند نقصان الشهور

فيا بن خليفة اللّه المصفي به تعلو مفاخرة الفخور

لئن فتّ الملوك و قد توافوا إليك من السهولة و الوعور

لقد سبق الملوك أبوك حتي بقوا من بين كاب أو حسير

و جئت وراءه تجري حثيثا و ما بك حين تجري من فتور

فقال الناس ما هذان إلا بمنزلة الخليق من الجدير

لئن سبق الكبير فأهل سبق له فضل الكبير علي الصغير

و إن بلغ الصغير مدي كبير لقد خلق الصغير من الكبير

فلم يملك المنصور اعجابه بهذه المقطوعة الرائعة التي احتوت علي أجمل آيات المدح و الثناء فقال له:

ص: 363

«و اللّه لقد احسنت!!و لكن هذا لا يساوي عشرين الف درهم أين المال؟ فأجابه بالحضور،و هو يرعد من الخوف و الذعر،فأمر حاجبه بقبضها و اعطائه اربعة آلاف درهم،فامتثل الحاجب ذلك.

و دلت هذه البادرة علي ضعة نفسه و حرصه الذي ينم عن نفس لا عهد لها بالاريحية و النبل.

و روي المؤرخون من بخله انه كان في طريقه الي مكة فطلب أن يؤتي له بحاد يحدو به،فجيء له بسلم الحادي فحدا به،فطرب حتي كاد ان يسقط من الراحلة،فاجازه بنصف درهم،فأنكر عليه ذلك و قال له:

-يا أمير المؤمنين لقد حدوت بهشام بن عبد الملك فأجازني عشرة آلاف درهم!! فنظر إليه المنصور بحنق و قال له:

-ما كان له ان يعطيك من بيت المال.

و أمر حاجبه الربيع بأن يقبضها منه،فاخذ سلم يتوسل إليه و يحلف له أنه لم يبق من تلك الاموال شيء،و ما زال يتوسل بالمنصور حتي تركه و شرط عليه ان يحدو به ذهابا و إيابا بغير ثمن (1)،و يقول بشر المنجم دعاني أبو جعفر يوما عند المغرب فبعثني في بعض الأمر،فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فاذا دينار فقال:خذ هذا و احتفظ به فاخذته فهو عندي الي الساعة مخافة أن يطالبني به لأنه لم يقل خذه لك (2).

و لما اصدر المرسوم الملكي الذي يقضي بأن تلبس الرعية القلانس الطوال8.

ص: 364


1- الاغاني 110/13،تأريخ الخلفاء(ص 267).
2- الطبري:احداث سنة 158.

المفرطة اندفع الشاعر الفكهي أبو دلامة يعرض ببخل المنصور قائلا:

و كنا نرجي من إمام زيادة فزاد الامام المصطفي في القلانس

نراها علي هام الرجال كأنها دنان يهود جللت بالبرانس (1)

لقد جهد المنصور في احتكار أموال الأمة و كنزها،و عدم انفاق أي شيء منها علي المصلحة العامة مما أشاع الفقر و البؤس في جميع أنحاء البلاد.

د-مع المهدي:

كان المهدي آثر الناس عند المنصور و أقربهم إليه حتي جعله ولي عهده،و قد قابله بالجفاء علي ابسط قضية مادية،فقد حدّث واضح مولاه قال اني لواقف يوما علي رأس أبي جعفر اذ دخل عليه المهدي و عليه قباء أسود جديد فسلم و جلس،ثم قام منصرفا فاتبعه ابو جعفر ببصره لحبه له و اعجابه به،فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده،فقام و مضي لوجهه غير مكترث به،فلما نظر المنصور الي ذلك فقد صوابه، فأمر برده فاندفع إليه بشراسة و قد استولي عليه الغضب فهاجمه قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه:استقلالا للمواهب!!أم بطرا بالنعمة،أم قلة علم بالمصيبة؟كأنك جاهل بما لك و ما عليك..» (2).

لقد ساق لولده هذا اللون من العتب المر من اجل أمر زهيد لا يعني به اغلب الناس.

و روي واضح انه دخل علي المنصور فقال له:انظر ما عندك من الثياب الخلقان،فاجمعها فاذا علمت بمجيء المهدي فجئني بها قبل أن يدخل و ليكن معها رقاع،ففعلت،فدخل المهدي فوجد اباه يقدر الرقاع علي

ص: 365


1- تأريخ الخلفاء:(ص 262).
2- عصر المأمون:(ج 1 ص 93).

خروق الثياب فضحك و قال له:

يا امير المؤمنين من هاهنا يقول الناس:نظروا في الدينار و الدرهم و لم يقل الدانق لئلا يثير عواطفه،فقال له المنصور:انه لا جديد لمن لا يصلح خلقه،و هذا الشتاء قد حضر،و نحتاج الي كسوة للعيال و الولد، فقال المهدي:علي كسوة امير المؤمنين و عياله و ولده،فقال له دونك فافعل (1).

و روت جاريته خالصة قالت:دخلت علي المنصور فاذا هو يتشكي وجع ضرسه،فلما سمع حسي قال:ادخلي فدخلت،و اذا هو واضع يده علي صدغيه،فسكت ساعة،ثم قال لي:

-يا خالصة كم عندك من المال؟ -الف درهم.

-ضعي يدك علي رأسي و احلفي.

فخافت منه،و قالت:عندي عشرة آلاف دينار،فقال:احمليها إلي،فدخلت علي المهدي و الخيزران فأخبرتهما بما حدث فركلها المهدي برجله،و قال لها ما ذهب بك إليه؟ما به من وجع،و لكني سألته بالأمس مالا فتمارض،احملي إليه ما قلت له،و لما جاءه المهدي قال له:يا أبا عبد اللّه تشكو الحاجة،و هذا المال عند خالصة (2).

لقد قابل ولده المهدي بكثير من الجفاء،و هو آثر الناس عنده و سبب ذلك حرصه،و خساسة طبعه.

ه-مع الفقيه ابن السمان:

و كان الفقيه ازهر السمان صديقا للمنصور قبل أن يلي الخلافة،فلما

ص: 366


1- تأريخ الطبري.
2- الطبري:أحداث سنة 158 ه-

صارت إليه قصده،فقال له المنصور:

-ما حاجتك؟ -علي دين أربعة آلاف درهم،و داري مستهدمة،و ابني يريد البناء بأهله.

فأمر له بمبلغ من المال،و نهاه عن المجيء إليه فقال له:

-لا تأتنا طالب حاجة بعد هذا.

-افعل.

و مضت اشهر معدودة فعاد ابن السمان إليه فنظر إليه المنصور بنظرات تقطر غيظا و قال له:

-ما جاء بك؟ -لم أجئ طالب حاجة،و لكن مسلما.

-أظنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الاولي..لا تأتنا طالب حاجة، و لا مسلما و أمر له بصلة.

و خرج ابن السمان،و لكنه لم يلبث ان عاد إليه ثالثة،فقال له المنصور:

-ما جاء بك؟ -لم آت طالب حاجة،و لا مسلما،و لكن دعاء سمعته منك قبلا أحببت ان آخذه عنك.

-لا تأخذه فانه غير مستجاب،لأني قد دعوت اللّه ان يريحني من خلقتك فلم يفعل،و صرفه و لم يعطه شيئا (1).

و-مع عماله:

و قابل المنصور عماله بمزيد من الحرمان و الضيق،و قد ذكر المؤرخون

ص: 367


1- الطبري:احداث سنة 158 ه-

بوادر كثيرة من عسفه معهم،فقد رووا انه ولي رجلا عملا في ناحية فأتمه،و دخل عليه فقدم له الحساب،و قام لينصرف فقال له المنصور:

-أشركتك في أمانتي،و وليتك فيئا من فيء المسلمين فخنته.

-أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين ما صحبني من ذلك شيء الا درهم في كمي،صررته لكي اكتري به بغلا يوصلني عيالي،فادخل بيتي،و ليس معي شيء من مال اللّه،و لا مالك.

فقال له المنصور:ما أظنك الا صادقا،هلّم درهمنا فأخذه منه و وضعه تحت لبده (1).

و رفع إليه عامله زياد بن عبد اللّه الحارثي رسالة يسأله فيها الزيادة في عطائه،و كانت الرسالة في منتهي البلاغة و الفصاحة فأعجب بها المنصور، و وقع عليها:

«ان الغني و البلاغة إذا اجتمعا في رجل ابطراه،و امير المؤمنين يشفق عليك من ذلك فاكتف بالبلاغة» (2).

لقد انتهي المنصور في بخله الي حضيض من الشح و اللؤم ماله من قرار فكان به من سيئات الدنيا و مساوئ الملوك.

أسباب حرصه:

إن هذا البخل البالغ حد الافراط في نفس المنصور ناشئ عن خبث ذاته و خسة طبعه،و عدم ايمانه باللّه.

و تحدث المنصور أمام حاشيته و خواصه عن الاسباب التي دعته ان

ص: 368


1- الطبري
2- تأريخ الخلفاء:(ص 267)

يمعن في افقار الرعية،و الضيق عليها قائلا:

صدق ابن الاعرابي حيث يقول:«اجع كلبك يتبعك».

فانبري إليه أبو العباس الطوسي فرد عليه قائلا:

«يا أمير المؤمنين أخشي ان يلوح له غيرك برغيف فيتبعه و يدعك» (1)حفنة من التراب علي المنصور و علي كل حاكم يستهين بحقوق الشعب لقد جعل الطاغية الجبار اخضاع الشعب منحصرا في جوعه و فاقته لا بنشر العدل و الرفاهية بين ابنائه.

و تحدث المنصور عن الاسباب التي دعته الي احتكار الاموال الضخمة في خزائنه من دون ان ينفق منها شيئا علي المصالح العامة فقال:

«من قلّ ماله قل رجاله،و من قل رجاله قوي عليه عدوه،و من قوي عليه عدوه اتضع ملكه،و من اتضع ملكه استبيح حماه..» (2)و هكذا كانت فكرته الخاطئة مبنية علي ادخار الأموال،و عدم انفاقها علي المسلمين..انه من دون شك من ابرز من عناهم اللّه تعالي بقوله:

وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمي عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوي بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (3) .35

ص: 369


1- عصر المأمون 93/1
2- تأريخ اليعقوبي 121/3
3- سورة التوبة آية:34 و 35
استبداده:

كان المنصور في جميع ما يتعلق بمملكته مستبدا لا يستشير احدا فيما يتصرف فيه،و اذا أدلي عليه احد برأي خالفه،فقد روي المؤرخون انه احضر ابن أخيه عيسي بن موسي و أمره بقتال محمد بن عبد اللّه فقال له عيسي:

«يا أمير المؤمنين:شاور عمومتك».

فزجره قائلا له:اين قول ابراهيم بن هرمة.

تزور امرئ لا يمخض القوم سره و لا ينتجي الأذنين فيما يحاول

اذا ما أتي شيئا مضي كالذي أتي و إن قال إني فاعل فهو فاعل

ثم قال:«امض أيها الرجل فو اللّه ما يراد غيري و غيرك:و ما هو إلا أن تشخص او أشخص أنا».

بمثل هذا الاعتزاز بالنفس كان يتحكم في رقاب المسلمين و في جميع امكانياتهم،و كان يتمثل دائما بقول الهيثم بن عدي لينوه عن طغيانه و استبداده:

إن قناتي لنبع لا يؤيسها غمز الثقاف و لا دهن و لا نار

متي أجر خائنا تأمن مسارحه و إن أخف آمنا تقلق به الدار

سيروا إلي و غضوا بعض أعينكم إني لكل امرئ من جاره جار (1)

و دل ذلك علي مدي ما يحمله من طيش و غرور و استبداد بشئون المسلمين،و قد ادت هذه السياسة الملتوية الي نشر الرعب و اذاعة الفزع بين جميع الناس.

ص: 370


1- الطبري:(ج 9 ص 316).

فتكه:

اشارة

كان الفتك و الاغتيال من عوامل الاستمتاع النفسي عند المنصور فكان ألذ شيء عنده سفك الدماء،و قد تمادي في ذلك بقسوة و جفاء لم يعرف لهما نظير في تأريخ المجازر البشرية:

إنه لم يلج في دخائل نفسه بصيص من نور الرأفة و الرحمة فكان يطربه عويل اليتامي،و نوح الأيامي،و أنين الجرحي.

لقد عمد هذا الطاغية السفاك الي اغتيال جماعة من رءوس دولته، و بناة سلطانه ممن كان يحذر منهم،و يخشي بأسهم،و نعرض فيما يلي لبعضهم

1-ابو مسلم:

و لم تقم الدولة العباسية إلا علي أكتاف أبي مسلم فهو باعثها و مؤسسها و غارس بذرتها،و لو لا جهوده لم يرفع لبني العباس علم،و لم يذكر لهم اسم،و قد تنكر له المنصور فجازاه جزاء سنمار،فاستدعاه و آمنه و قابله بمزيد من الحفاوة و التكريم و انزله قصرا من قصوره و دعا رئيس حرسه عثمان بن نهيك،و شبيب بن واج،و ابو حنيفة حرب بن قيس و قال لهم:

تكونوا خلف الرواق إذا دخل علي أبو مسلم فاذا صفقت بيدي،دخلتم فقتلتموه،و اقبل ابو مسلم علي عادته فأجلس في الحجرة المجاورة،و أخبر بأن المنصور في شغل فجلس مليا ثم اذن له بالدخول فدخل و سلم عليه، فنظر إليه نظرة انتقام و غيظ،و قال له:اخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة؟

ص: 371

-كرهت اجتماعنا علي الماء فيضر ذلك بالناس.

و أخذ يعدد عليه اعماله المنكرة،و يعاتبه و أبو مسلم يعتذر عن ذلك، و لما طال عتابه له قال أبو مسلم:

-لا يقال هذا لي بعد بلائي و ما كان مني!! فصاح به المنصور يا ابن الخبيثة،و اللّه لو كانت أمة مكانك لاجزأت إنما عملت في دولتنا،و بريحنا،فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا،و ابو مسلم يعتذر منه،و لم يجد معه الاعتذار،و صفق عاليا بيده فدخل القوم عليه و بأيديهم السيوف،و شعر أبو مسلم بالموت يدنو منه فقال متوسلا بالمنصور:

-استبقني لعدوك -و أي عدو اعدي لي منك فأخذته السيوف،و هو يصيح العفو:

و أجهز عليه القوم فقتلوه،و أخذ المنصور يرتجل:

زعمت أن الدين لا يقتضي فاستوف بالكيل أبا مسلم

سقيت كأسا كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم (1)

و أمر أن ترمي جثته في نهر دجلة فالقيت فيه (2)و طويت بذلك حياة أبي مسلم غدرا علي يد المنصور،و قد خسر أبو مسلم بذلك أمر آخرته و دنياه و ذلك هو الخسران المبين./2

ص: 372


1- ابن الاثير:355/4
2- اليعقوبي:399/2
2-عبد اللّه بن علي:

و اعطي المنصور عمه عبد اللّه بن علي أمانا بأن لا يفتك به بعد ما ثار عليه،و لكنه خاس بعهده،فقد دعا ولي عهده عيسي بن موسي،و قال له:خذ إليك عبد اللّه بن علي ريثما أعود من مكة،و لا تثقل عليه، فانه عمي و أخو الحاضرين من شيوخ آل بيتك،ثم دعاه سرا و قال له:

يا عيسي إن هذا أراد أن يزيل الخلافة عني و عنك،و أنت ولي عهدي، و الخلافة صائرة إليك،فخذه و اضرب عنقه و اياك ان تخور و تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت ثم مضي الي الحج (1).

و شاور عيسي بن موسي كاتبه يونس بن أبي فروة و أخبره بالأمر، فقال له يونس:

«إن هذا الرجل قد دفع إليك عمه علنا أمام ذويه،و أوصاك سرا بقتله،فهو يريد ان يقتله علي يدك،ثم يقيدك به فيقتلك،و الرأي أن تستره في منزلك فلا تطلع علي أمره أحدا،و ترسل الي المنصور انك قد قتلته،فان طالبك به علانية دفعته علانية،و اياك أن تأتي به سرا» (2)و فعل عيسي ذلك،و شاع بين العباسيين أنه قد قتله،و لما عاد المنصور من مكة،توافد عليه بنو العباس،و كلموه في شأن عمه،فقال لهم:اني اعطيته أمامكم الي ولي عهدي،و أوصيته به و قد سألته فقال قد مات:

و دعا بعيسي فلما مثل عنده صاح به:

-لم قتلت عمي؟

ص: 373


1- الطبري:266/6
2- الطبري:

-أنت أمرتني بقتله -لم آمرك بذلك -هذا كتابك إلي فيه -لم اكتبه و لما رأي الجد من المنصور خاف علي نفسه،فقال له:هو عندي فقال:ادفعه الي أبي الأزهر المهلب بن أبي عيسي،فلم يزل عنده محبوسا ثم أمره بقتله،فدخل عليه،و معه جارية فبدأ بعبد اللّه فخنقه حتي مات ثم مده علي الفراش،و انعطف علي الجارية ليقتلها،فقالت له:

«يا عبد اللّه قتلة غير هذه القتلة؟» فأشاح بوجهه عنها،ثم أمر بها فخنقت،و وضعها معه علي الفراش و أدخلت يدها تحت جنبه،و يده تحت جنبها كالمعتنقين،ثم أمر بالبيت فهدم عليهما و أحضر القاضي ابن علام مع جماعة للاطلاع علي الأمر، و أخرجت الجثتان فدفنتا في مقرهما الاخير (1).

3-محمد بن أبي العباس:

و اتخذ المنصور طبيبا نصرانيا استعان به علي قتل من لا يحب أن يتجاهر بقتله،و كان الطبيب فظا غليظ القلب،قد اغتال جملة من الابرياء في و صفاته الطبية حسب أمر المنصور له،و ممن اغتالهم محمد بن أبي العباس فقد أوعز إليه المنصور بذلك فصنع له سما قاتلا،و انتظر علة تحدث فيه فعرضت له حرارة في بدنه،فراجعه،فأعطاه ذلك السم فلما تناوله تقطعت أمعاؤه،و هلك من فوره،فرفعت أمه شكواها الي المنصور،فأمر بضربه

ص: 374


1- مروج الذهب:230/3

ثلاثين سوطا،و سجنه أياما،ثم اطلق سراحه،و وهبه ثلاثمائة دينار.

هذه بعض اغتيالات المنصور و هي تدل علي نفس شريرة لا عهد لها بالعفو و الرحمة،فقد كان بامكانه ان يقابلهم بالاحسان،و يجعلهم تحت الرقابة إن خاف منهم الخروج علي سلطانه،و لكن ذلك بعيد عن نزعاته المترعة بالحقد و القسوة.

موبقاته:

اشارة

و حفل تأريخ هذا الطاغية السفاك بسجل من الجرائم و الموبقات،فقد تفجرت سياسته بكل ما خالف كتاب اللّه و سنة نبيه،فروع المسلمين، و اشاع الرعب و الفزع و الخوف في جميع انحاء البلاد،و قضي علي الحياة الفكرية و الاجتماعية في الاسلام،و نعرض فيما يلي الي بعض موبقاته:

1-ترويع المدنيين:

و قابل المنصور أهالي يثرب بمزيد من الاضطهاد و العنف و الجور، و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية فقطع عنهم الميرة في البر و البحر (1)و أراد بهذه الحرب الاقتصادية أن يشغلهم بالبؤس و المجاعة عن مناهضته و الانكار علي سياسته،و قد ولي عليهم رباح بن عثمان المري و كان فظا غليظ القلب تنفر منه النفوس لشراسة طبعه،و حينما ولاه المنصور جمع الناس،و نزا علي المنبر فأعلن لهم سياسته الارهابية الحاملة لشارات الموت و العذاب قائلا:

ص: 375


1- ابن الأثير:261/5

يا أهل المدينة أنا الافعي ابن الافعي،ابن عثمان بن حيان،ابن عم مسلم بن عقبة،المبيد خضراءكم،و المفني رجالكم،و اللّه لأدعها بلقعا لا ينبح فيها كلب..».

انه الطغيان الفاجر،و الاستهتار بحياة الناس،و كراماتهم،فالابادة الشاملة و اخلاء الوطن من أهله هو الشعار الذي يسوس به البلاد،و ساعد اللّه المسلمين علي هذه المحن و الخطوب التي تذيب لفائف القلوب،و تذوب النفوس لهولها أسي و حسرات.

و لم ينه هذا الوحش الكاسر هذه الكلمات القاسية حتي اندفع جمع من الأحرار الذين غامروا بحياتهم فردوا عليه بأعنف القول قائلين بلسان واحد:

«و اللّه يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا» و رفع هذا الوغد الأثيم بالفور رسالة الي العاهل العباسي يعرفه فيها بخروج أهل المدينة عن الطاعة و اصرارهم علي التمرد و العصيان،و لما انتهي إليه الكتاب كتب لأهل المدينة رسالة ملأها بالانذار و الوعيد،و أمر عامله أن يتلوها عليهم،فلما وصلت إليه،جمعهم و قرأها عليهم و قد جاء فيها:

«يا أهل المدينة،إن واليكم كتب إلي يذكر غشكم،و خلافكم و سوء رأيكم،و استمالتكم علي بيعة أمير المؤمنين،و أمير المؤمنين يقسم باللّه لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا،و ليقطعن البر و البحر عنكم،و ليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد،و بعاد الأرحام بنو (1)قعر بيوتكم يفعلون ما يؤمرون و السلام».

و اندفع جمع من الغياري و الأحرار الي معارضته قائلين:

«كذبت يا ابن المجلود حدين»م.

ص: 376


1- كذا في الأصل،و في الهامش«ينوون»و لعل الصحيح «يثورون»في قعر بيوتكم.

ثم انهم رموه بالحصا من كل جانب فولي خائفا الي مقصورته فأغلقها عليه،و اعتصم بها فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي أحد أذناب السلطة و هو يدعوه الي التنكيل بالثائرين قائلا:

«أصلح اللّه الأمير،انما يصنع هذا رعاع الناس،فاقطع أيديهم، و اجلد ظهورهم..».

و أشار عليه بعض من حضر من الهاشميين بعدم الاعتناء بمقالة هذا العبد الذي تنكر لوطنه و أبناء بلاده،و أشاروا عليه أن يرسل خلف الوجوه و الأشراف فيقرأ عليهم رسالة المنصور ليري رأيهم فيها،فاستجاب لذلك فأرسل خلفهم و قرأ عليهم كتاب المنصور،فانبري إليه حفص بن عمر بن عبد اللّه ابن عوف الزهري،و أبو عبيدة بن عبد الرحمن الأزهر فقالا له:

«كذبت و اللّه ما أمرتنا فعصيناك،و لا دعوتنا فخالفناك..» ثم التفتا الي ممثل المنصور و رسوله:

«أتبلغ أمير المؤمنين عنا؟» -ما جئت إلا لذاك.

-قل له:أما قولك:إنك تبدل المدينة و أهلها بالأمن خوفا،فان اللّه عز و جل وعدنا غير هذا،قال اللّه عز و جل:«و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا»فنحن نعبده لا نشرك به شيئا..» (1).

و هكذا عامل المنصور أهالي المدينة بهذه القسوة و الجفاء فلم يحترم جوارهم لرسول اللّه(ص)و لم يراع ما لآبائهم من الفضل في إقامة هذا الدين و تدعيم أسسه.).

ص: 377


1- اليعقوبي:(ج 3 ص 110-111).
2-الاستهانة بالكعبة:

و كفر المنصور بالاسلام،و تنكر لجميع مبادئه و أهدافه،فقد حاول نقل الكعبة المقدسة من محلها الي دار السلام،كما بني بناية ضخمة في عاصمته بغداد سماها بالقبة الخضراء استهانة بالكعبة الشريفة (1)و بذلك فقد كشف عن كفره و مروقه من الدين.

3-اختلاس الأموال:

و جهد المنصور في انهاك الرعية و اضطهادها فقد عمد الي نهب الأموال و اختلاسها،فقد روي المؤرخون انه أخذ أموال الناس حتي ما ترك عند احد فضلا،و كان مبلغ ما أخذه منهم ثمانمائة الف الف درهم (2)و هو يعادل في يومنا هذا اربعة آلاف مليون دينار حسب قيمة العملة (3)و جاء في وصيته الأخيرة الي ولده المهدي«و قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي» (4).

لقد كانت سياسته المالية مبنية علي النهب و السلب،و اصطفاء الأموال و أخذها بغير حق،و قد ترك البؤس و الفقر مخيمين علي جميع المناطق الاسلامية

ص: 378


1- الطبري:(ج 3 ص 197).
2- اليعقوبي:121/2
3- أبو جعفر المنصور(ص 416)
4- تأريخ اليعقوبي:349/2
4-التنكيل بالعلويين:

و محنة العلويين في عهد الطاغية المنصور من أقسي المحن و افجعها فقد صب عليهم جميع أنواع العذاب،و قابلهم بمزيد من العنف و الجور فأباد شيوخهم و شبابهم،و لم يرحم أحدا منهم،و كان ماحل بهم من التنكيل اضعاف ما واجهوه أيام الحكم الأموي،حتي قيل في ذلك:

تالله ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس

و صور مدي ما حل بهم من الرزايا و الخطوب شاعر العقيدة دعبل الخزاعي بقوله:

و ليس حي من الاحياء نعلمه من ذي يمان و من بكر و من مضر

الا و هم شركاء في دمائهم كما تشارك إيسار علي جزر

قتل و أسر و تحريق و منهبة فعل الغزاة بأرض الروم و الخزر

أري أمية معذورين إن قتلوا و لا أري لبني العباس من عذر

لقد واجهوا أعنف المشاكل،و أقسي الرزايا و الخطوب في سبيل تحرير المجتمع الاسلامي،و انقاذه من الجور و الاستبداد.

و اندفعوا بكل اعتزاز و فخر الي ساحات الجهاد و النضال فماتوا كراما أحرارا فأضاءوا الطريق للاحرار و المناضلين،و فتحوا لهم ابواب الكفاح و الجهاد،و رسموا لهم طريق الخلاص من حكم الذل و العبودية.

و قبل أن نتحدث عما جري عليهم في عهد المنصور نستعرض اسباب ثوراتهم و نضالهم.

ص: 379

بواعث الثورة:

اشارة

أما الاسباب التي حفزتهم الي الثورات العارمة سواء في حكم بني أمية او في حكم بني العباس فهي:

الاسباب التي حفزتهم الي الثورات
1-الشعور بالمسؤولية:

و العلويون بحكم نسبهم الوضاح يرون أنهم مسئولون عن صيانة المجتمع و دفع الويلات و الخطوب عنه،و قد كشف الامام امير المؤمنين(ع)في بعض كلماته عن السر في احجامه عن مبايعة أبي بكر بقوله:

«اللهم:انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان،و لا التماس شيء من فضول الحطام،و لكن لنرد المعالم من دينك،و نظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك،و تقام المعطلة من حدودك» (1).

لقد امتنع الامام من بيعة أبي بكر من أجل هذه الاهداف النبيلة،فكان يري نفسه مسئولا عن رعاية الأمة و اقامة الاصلاح الشامل في رحابها فلذا انطلق يعلن سخطه علي من سبقة من الخلفاء.

و قد رأي العلويون ان الشعوب الاسلامية في تلك العهود المظلمة ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم و الجور و الفقر فانطلقوا الي ساحات الجهاد و الكفاح في سبيل تحريرها،و قد وافي محمد بن ابراهيم العلوي الكوفة يسأل عن أخبار الناس،و يتحسسها،و يتأهب لأمره،و بينما هو يسير في بعض

ص: 380


1- نهج البلاغة محمد عبده:18/2

شوارع الكوفة إذ وقع بصره علي عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها،و تجمعه في كساء رث كان عليها،فلم يستطع أن يسير،و بادر يسألها عن صنعها فقالت له:

«إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي،ولي بنات لا يعدن علي أنفسهن بشيء،فأنا أتبع هذا الطريق،و أتقوته أنا و ولدي».

فجمد دمه،و انفجر بالبكاء،و قال لها:«أنت و اللّه و أشباهك تخرجوني غدا حتي يسفك دمي» (1).

لقد دفعهم هذا الشعور الفياض بالرحمة و العطف علي الفقير و المحروم الي مناجزة الظالمين،و مناهضة الطغاة الحاكمين الذين استأثروا بأموال الامة و قوتها فانبروا الي ميادين الجهاد لمكافحة ذلك الطغيان و الاستبداد.

2-الشمم و الإباء:

و فطرت نفوس العلويين علي العزة و الكرامة،و جبلت علي النبل و الشهامة و قد جهدت السلطات الجائرة في عصورهم علي اذلالهم فلم يطيقوا صبرا، و تسابقوا الي الشهادة لينعموا بالكرامة،و لما حاول يزيد بن معاوية ارغام سبط النبي(ص)و ريحانته الامام الحسين(ع)علي البيعة له،و الدخول في طاعته.فانبري(ع)الي ساحات الجهاد،و اعلن يوم الطف كلمته الخالدة التي رسم فيها الآباء بما له من معني مشرق قال(ع):

«الا و إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة،و هيهات منا الذلة،يأبي اللّه لنا ذلك،و رسوله و المؤمنون،و حجور طابت،و بطون

ص: 381


1- مقاتل الطالبيين:(ص 521)

طهرت،و أنوف حمية،و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام» (1).

و دارت هذه الكلمات النيرة مع الفلك و ارتسمت فيه فكانت درسا رائعا للمجاهدين من أبنائه،يقول زيد بن علي لما جهد الطاغية هشام في اذلاله:

«ما كره قوم حر السيوف الا ذلوا» و لما عذله جماعة عن الثورة و خوفوه القتل أجابهم:

بكرت تخوفني المنون كأنني اصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها ان المنية منهل لا بد ان أسقي بكأس المنهل (2)

و لما أمعن الأمويون علي ارغام يحيي بن زيد علي الهوان و الذل،اندفع الي الثورة،و اخذ يخاطب نفسه الكبيرة قائلا:

يا ابن زيد أ ليس قد قال زيد من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد و اتخذ في الجنان ظلا ظليلا (3)

أنت-و اللّه-يا يحيي مهجة زيد،و أنت قطعة من كبد جدك الرسول(ص)قد حملت في أعماق نفسك الكبيرة الشمم و الإباء،فأبيت ان تعيش ذليلا مضاما فترجلت الي ساحة الحرب برغبة و شوق لتموت حرا كريما.

لقد ملأ العلويون بثوراتهم المقدسة تأريخ الاسلام بالفخر و الشرف و المجد،و رسموا للشعوب الاسلامية في جميع مراحل حياتها طريق الكفاح و النضال في سبيل الحرية و الكرامة.ية

ص: 382


1- قريب من ذلك جاء في تأريخ ابن عساكر:333/4
2- الروض النضير:75/1
3- عقائد الزيدية
3-حرمانهم من حقوقهم:

و أمعنت السلطات الحاكمة في ظلم العلويين،و حرمانهم من جميع حقوقهم الطبيعية فأشاعت فيهم الحاجة و الفقر،و قد قوبلوا بالاضطهاد و الحرمان منذ وفاة النبي(ص)فقد حرموا من الخمس الذي فرضه اللّه لهم و صودرت منهم فدكا لئلا تقوي شوكتهم،و استبد القوم بشئون الخلافة و الحكم،و أعرضوا عن عترة النبي(ص)و بالغوا في الحط من شأنهم، و قد ابدي الامام امير المؤمنين حزنه العميق في خطبته«الشقشقية»علي ضياع حقه،و في«نهج البلاغة»قطع كثيرة من كلامه تهز اعماق النفوس قد اعلن فيها سخطه علي نهب تراثه و سلطانه.

و قد تشبعت بهذه الفكرة نفوس ابنائه،فجاهدوا طويلا في ارجاع هذا الحق لهم،و لما تلا دعبل الخزاعي قصيدته علي الامام الرضا(ع) و بلغ الي هذا البيت.

أري فيئهم في غيرهم متقسما و أيديهم من فيئهم صفرات

أثار ذلك احزان الامام،و جعل يقلب يده الشريفة و يقول بنبرات تقطر أسي و حزنا:

«نعم و اللّه انها لصفرات» و هكذا نجد هذا الشعور المرهف بالأسي عند أئمة اهل البيت(ع) و عند شيعتهم،فراحوا يناضلون في سبيله،و قد قدم العلويون مع شيعتهم المزيد من التضحيات حتي ملئت بهم السجون و القبور،و واجهوا اعنف المشاكل و أقساها.

هذه بعض العوامل التي حفزت العلويين علي الانتفاضة و الثورة علي

ص: 383

الحكام الظالمين من بني أمية أو بني العباس.

كلمة الامام ابن الساعي:

و تحدث الامام الفقيه ابن الساعي عن اسباب ثورات العلويين،و قد حفل حديثه بالاستدلال الوثيق علي ما ذهب إليه و هذا نصه:

«إن من يمعن النظر كل الامعان بتأريخ الاسلام يعلم علما يقينا أن كل من خرج من آل بيت النبي(ص)ما كان ذلك منه إلا عن مصيبة نابته،و ضنك مسه،و فاقة لحقته،و ذل أهانه،فان الأمويين كانوا يمنون علي الموالي و صعاليك العرب بمئات ألوف من الدنانير،و يعطونهم الاقطاع و الضيعات،و يستعملونهم علي الممالك،و يستوزرونهم،و يقترون علي الفاطميين حتي يصير الفاطمي في ضيق و محنة شديدة بحيث لا يجد ثمن جارية زنجية يصون بها عفته،و لا ثمن كسوة يستر بها بدنه،و يري أن المخازي الذين يفرطون لبني أمية،و يتمسخرون لهم في مجالسهم،و يشاركونهم في شرابهم و فسقهم و فجورهم في النعم و العز،يتقلبون في انواع الرفاهة،فهنالك يهز الجماعة الفاطمية شرفهم و نخوتهم فيخرجون لا خروجا عن الطاعة،و لا نقضا للبيعة،و لكن يقولون ان أرض اللّه واسعة فيهاجر احدهم الي ناحية من الارض فيها قوم من أمة جده(ص)فاذا وصلهم حركتهم نخوة الدين فاحترموه و أكرموه و آلفته قلوبهم و اجتمعوا عليه فمتي بلغ خبره،الأمويين قالوا خرج و رب الكعبة،و ساقوا عليه القواد و الجنود،و لا يزالون حتي يتركوه شهيدا،و كذلك بنو العباس،و ما ذاك إلا لأن اللّه تعالي اختار لآل نبيه المحنة في هذه الدار الفانية،و النعيم في الآخرة الباقية،و قد جعلهم اللّه في كل زمان مرآة حال أهل ذلك الزمان مع اللّه تعالي،فالزمان الذي

ص: 384

يكرم به أهل البيت(ع)و يحمي به لائذهم،و يؤمن خائفهم و يعطي سائلهم و يقضي به حوائجهم فحال أهله مع اللّه تعالي حسن و العكس بالعكس، و لهم رضي اللّه عنهم عند اللّه تعالي المكانة الرفيعة،و المنزلة العظيمة و بهم هدي اللّه الامة،و أزال عنها الظلمة و جدهم(ص)للناس كافة هو الرحمة.

محبتهم دين و ودهم هدي و بغضهم كفر و نصرهم تقوي (1)

و رأي الامام ابن الساعي رأي وثيق للغاية،فان حرمان العلويين من حقوقهم الطبيعية،و المبالغة في التضييق عليهم ماديا بحيث لا يجد الفرد منهم سد رمقه،و ستر بدنه كان مما حفزهم الي الثورة،و الموت تحت ظلال الأسنة أحرارا كراما.

و نعود بعد هذا العرض الموجز لاسباب ثورة العلويين الي ما عانوه من جور المنصور و ارهاقه.

التجسس علي العلويين:

كان المنصور يعلم باجماع المسلمين علي حب العلويين و ذلك لما اتصفوا به من سجاحة الخلق،و طيب الأعراق،و بسط الكف،و الغزارة في العلم الي غير ذلك من مكارم الاخلاق التي تؤهلهم الي مركز الخلافة الاسلامية و قيادة الأمة...كما كان يعلم ببغض الناس له و كراهيتهم لملكه نظرا لما اتصف به من الشح و البخل و القسوة و الجفاء و المكر و غيرها من رذائله و مساوئه مضافا الي مساوئ أسرته التي عرفت بالخيانة للامة.

لقد انفق المنصور لياليه ساهرا يفكر في البغي علي العلويين و الكيد

ص: 385


1- مختصر اخبار الخلفاء:(ص 26).

لهم،فأجمع رأيه علي أن يبعث عينا له ليقف علي أمورهم و شئونهم و يتعرف علي محمد و أخيه ابراهيم،فاختار رجلا،و كتب معه كتابا علي السنة الشيعة الي محمد يذكرون طاعتهم،و مسارعتهم و بعث بمال و الطاف،و قدم الرجل الي المدينة،فدخل علي عبد اللّه بن الحسن،فسأله عن ابنه محمد فكتم خبره و أخذ الرجل يتردد،و يلح عليه في المسألة،فانخدع عبد اللّه به،و قال له:انه في جبل جهينة،و أمره بأن يمر بعلي الذي يدعي بالأغر فهو يرشده الي مكانه،و كان للمنصور كاتب يتشيع فكتب الي عبد اللّه بن الحسن يخبره بذلك العين،و لما قدم كتابه ارتاعوا منه فبعثوا أبا هبار الي محمد و علي بن الحسن يحذرهما الرجل،فخرج أبو هبار حتي وافي محمدا في موضعه فاذا هو جالس في كهف و معه جماعة من اصحابه و ذلك العين معهم و هو أعلاهم صوتا،و أشدهم انبساطا،فلما رأي أبا هبار خافه،و عرف أن أمره قد انكشف للقوم،و قال أبو هبار لمحمد:لي إليك حاجة فقام معه فأخبره بأمر الرجل،و أشار عليه بقتله الا ان محمدا لم يستجب لذلك،و أشار عليه ثانيا بأن يوثقه و يودعه عند بعض أرحامه فاستجاب لذلك،و لما شعر الرجل بما دبر له انهزم،و تواري عنهم ففتشوا عنه فلم يظفروا به،و انطلق متواريا حتي وافي المنصور و أخبره بالامر.

و استدعي المنصور عقبة بن سلم الأزدي،و قال له:إني اريدك لأمر أنا معني به لم ازل أرتاد له رجلا عسي أن تكونه،و ان كفيتنيه رفعتك ...فقال عقبة:أرجو أن أصدق ظن امير المؤمنين في،فأمره المنصور بأن يخفي شخصه،و يستر أمره،و يلتقي به في وقت عينه له،و لما حان ذلك الوقت خف إليه،فقال له المنصور ان بني عمنا هؤلاء قد أبوا الا كيدا لملكنا،و اغتيالا له،و لهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم، و يرسلون إليهم بصدقات أموالهم،و الطاف من الطاف بلادهم،فاخرج

ص: 386

بكسي و ألطاف و عين حتي تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم تسير ناحيتهم فان كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب و اللّه بهم و أقرب،و إن كانوا علي رأيهم علمت ذلك و كنت علي حذر فأشخص حتي تلقي عبد اللّه بن الحسن متخشعا و متقشفا فان جبهك-و هو فاعل-فاصبر و عاوده حتي يأنس بك،و يلين لك ناحيته فاذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي.

و شخص عقبة الي يثرب فقدم علي عبد اللّه فناوله الكتاب فأنكره و نهره،و لم يزل يتردد عليه حتي قبل كتابه و ألطافه و أنس به فسأله عقبة الجواب،فقال:اما الكتاب فاني لا اكتب الي أحد و لكن أنت كتابي إليهم فاقرأهم السلام،و اعلمهم انني خارج (1)و عين له وقت الخروج، و رجع عقبة الي المنصور فأخبره بالأمر (2)فاضطرب اشد الاضطراب، و أخذ يمعن في التفكير فلم ير وسيلة انجع من سفره الي يثرب ليتولي بذاته قمع الحركة و القضاء علي خصومه العلويين (3).

القبض علي العلويين:

و انتظر المنصور موسم الحج فلما حل سافر هو و حاشيته الي بيت اللّه الحرام،و بعد انتهائه من مراسيمه قفل راجعا الي يثرب،و قد صحب معه عقبة بن سلم الذي كان عينا له علي العلويين،و قد اوصاه قبل سفره بقوله:

ص: 387


1- في الطبري«و اخبرهم ان ابني خارجان»
2- الكامل 370/4-371
3- الطبري 181/9

اذا لقيني بنو الحسن و فيهم عبد اللّه فأنا مكرمه و رافع محلته (1)و داع بالغداء فاذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما فانه سيصرف عنك بصره فاستدر حتي ترمز ظهره بابهام رجلك حتي يملأ عينه منك، ثم حسبك و إياك أن يراك ما دام يأكل و لما انتهي المنصور الي يثرب استقبله الحسنيون و فيهم عبد اللّه بن الحسن فقابله بالعناية و التكريم،و اجلسه الي جانبه،و دعا بالغداء فأصابوا منه ثم رفع بصره فقام عقبة،و قام بما عهد إليه المنصور،ثم وثب و جلس أمام المنصور ففزع عبد اللّه و ارتاع منه، و قال للمنصور:

«أقلني يا أمير المؤمنين أقالك اللّه» فصاح به الخبيث الدنس «لا اقالني اللّه ان أقلتك» (2)و أمر بأن يكبل بالحديد،و يزج في السجن،فكبل مع جماعة من العلويين و حبس في بيت مروان،و القيت تحته ثلاث من حقائب الأبل محشوة بالتبن،و دخل عليه جماعة بعثهم والي المدينة إليه فأخذوا يحذرونه من بطش المنصور،و نقمته،و طلبوا منه أن يخبرهم بمكان ولديه لينجو من السجن فالتفت عبد اللّه إلي الحسن بن زيد (3)قائلا له:ه

ص: 388


1- في الطبري«و رافع مجلسه»
2- الكامل 371/4
3- الحسن بن زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع)روي عن أبيه و ابن عمه عبد اللّه بن الحسن و روي عنه جماعة،و ذكره ابن حبان في الثقات ولاه المنصور المدينة خمس سنين ثم غضب عليه و حبسه الي أن أخرجه المهدي و لم يزل معه،و قال الزبير:كان الحسن فاضلا شريفا و قد مدحه علي بن هرمة بعدة قصائد،و هو والد السيدة الجليلة نفيسة توفي سنة 168 ه بطريق مكة بالحاجز-كما ذكره الخطيب-و هو ابن خمس و ثمانين سنة و صلي عليه علي بن المهدي جاء ذلك في تهذيب التهذيب(ج 2 ص 279)

يا ابن أخي،و اللّه لبليتي أعظم من بلية إبراهيم(ع)إن اللّه عز و جل أمر إبراهيم أن يذبح ابنه و هو للّه طاعة،فقال ابراهيم: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (1)و إنكم جئتموني في أن آتي بابني هذا الرجل فيقتلهما،و هو للّه جل و عز معصية،فو اللّه يا ابن أخي لقد كنت علي فراشي فما يأتيني النوم و إني علي ما تري أطيب نوما..» (2).

لقد كانت محنة عبد اللّه في ولديه من اشق المحن و أقساها فقد وقع بين مصيبتين لا منجاة له من احدهما اما ان يبقي في ظلمات السجون يعاني الآلام،و اما أن يخبر بولديه فيعرضهما للموت،و لكنه اختار أن يضحي بنفسه ليقوما باداء رسالتهما فينقذا الأمة من حكم المنصور و طغيانه.

حملهم الي العراق:

و أقام العلويون في سجن الطاغية السفاك-في يثرب-ثلاث سنين، و هم يعانون أهوال الخطوب،و أشدها محنة و قسوة،و قد أثار سجنهم سخط الاخيار و المتحرجين في دينهم،و اخذت الاندية تتحدث عن محنتهم و ما سيجري عليهم في عهد هذا الطاغية الجبار،و قد نقلت إليه الاستخبارات تذمر العامة و نيلهم منه،فقرر أن يمضي الي الحج،و يبحث عن أمر العلويين ليتخذ معهم التدابير اللازمة.

و في سنة(142 ه-)سافر الي الحج،و بعد ما قضي مناسكه رجع

ص: 389


1- سورة الصافات:آية 106
2- مقاتل الطالبيين:(ص 216)

و جعل طريقه علي الربذة فأقام فيها،و استقبله رباح واليه علي يثرب فرده إليها و أمره باشخاص العلويين إليه فقفل رياح راجعا الي يثرب،و مضي الي السجن فأخرج العلويين،و قد وضع في أيديهم الحديد،و جيء بهم الي مسجد النبي(ص)و قد ازدحم عليهم الناس،و هم ما بين باك و واجم قد اذهلهم الخطب،و جعل رياح يوسعهم شتما و قذفا،و طلب من الناس شتمهم الا انهم أخذوا يسبونه،و يشتمون المنصور.

لوعة الامام الصادق:

و فجع الامام الصادق بما حل بأهل بيته من الرزء القاصم فقد بلغ به الحزن الي واد ما له من قرار...لقد أطل عليهم حينما حملوا فأرسل ما في عينيه من دموع،و التفت الي الحسن بن زيد قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه و اللّه لا تحفظ للّه حرمة بعد هذا (1)و اللّه ما وفت الانصار و لا ابناء الانصار لرسول اللّه(ص)بما اعطوه من البيعة علي العقبة» و أخذ(ع)يذكر له قصة العقبة قائلا:«إن النبي(ص)قال لعلي:

خذ عليهم البيعة بالعقبة،فقال:كيف آخذ عليهم؟فقال(ص):علي ان يمنعوا رسول اللّه و ذريته مما يمنعون منه أنفسهم و ذراريهم».

و سكت هنيئة و نفسه الشريفة قد ذابت حزنا،ثم قال بنبرات ملؤها الأسي:

«اللهم فاشدد وطأتك علي الانصار..» (2)و روي عبد اللّه بن ابراهيم الجعفري عن خديجة بنت عمر بن علي

ص: 390


1- في الطبري«بعد هؤلاء»
2- مقاتل الطالبيين(ص 219-220)

أنهم لما أوقفوا عند باب المسجد-الباب الذي يقال له باب جبرئيل-اطلع عليهم الامام ابو عبد اللّه،و عامة ردائه مطروح بالأرض،ثم اطلع من باب المسجد،فقال:لعنكم اللّه يا معشر الانصار-ثلاثا-ما علي هذا عاهدتم رسول اللّه،و لا بايعتموه،أما و اللّه إن كنت حريصا،و لكني غلبت و ليس للقضاء مدفع،ثم قام و أخذ إحدي نعليه فأدخلها،رجله،و الأخري في يده،و عامة ردائه يجره في الأرض ثم دخل بيته فحم عشرين ليلة لم يزل يبكي فيها الليل و النهار (1).

لقد ذاب قلب الامام من الحزن،و هامت نفسه في تيار من الهواجس و الآلام،فخلد الي البكاء يخفف به لوعة المصاب و الحزن.

رسالته الي عبد اللّه:

و أرسل الامام الصادق(ع)رسالة الي عبد اللّه بن الحسن يعزيه فيها علي ما حل به من المصاب الأليم و هذا نصها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم الي الخلف الصالح و الذرية الطيبة من ولد أخيه و ابن عمه أما بعد:فلئن كنت قد تفردت أنت و أهل بيتك ممن حمل معك بما أصابكم،ما انفردت بالحزن و الغيظ و الكآبة و أليم وجع القلب دوني،و لقد نالني من ذلك من الجزع و القلق و حر المصيبة مثل ما نالك،و لكن رجعت الي ما أمر اللّه جل و عز به المتقين من الصبر و حسن العزاء حين قال لنبيه صلي اللّه عليه و آله الطيبين: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا (2)و حين يقول

ص: 391


1- بحار الأنوار:283/47
2- سورة الطور:آية 48

لنبيه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (1)و حين يقول لنبيه(ص)حين مثل بحمزة وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (2)فصبر رسول اللّه و لم يعاقب.

و حين يقول:«و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوي» (3).و حين يقول: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (4).و حين يقول: إِنَّما يُوَفَّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (5).و حين يقول لقمان لابنه: وَ اصْبِرْ عَلي ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (6)و حين يقول عن موسي و قالَ مُوسي لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (7).و حين يقول: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (8).و حين يقول: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (9)و حين يقول: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ17

ص: 392


1- سورة القلم:آية 48
2- سورة النحل:آية 126
3- سورة طه:آية 132
4- سورة البقرة:آية 156-157
5- سورة الزمر:آية 10
6- سورة لقمان:آية 17
7- سورة الأعراف:آية 128
8- سورة العصر:آية 3
9- سورة البلد:آية 17

مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ (1) و حين يقول: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (2)و حين يقول:

وَ الصّابِرِينَ وَ الصّابِراتِ (3) و حين يقول: وَ اصْبِرْ حَتّي يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (4)و أمثال ذلك من القرآن كثير.

و اعلم أي عم و ابن عم أن اللّه جل و عز لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط و لا شيء أحب إليه من الضر و الجهد و البلاء مع الصبر،و انه تبارك و تعالي لم يبال بنعيم الدنيا لعدوه ساعة قط،و لو لا ذلك ما كان اعداؤه يقتلون اولياءه و يخوفونهم،و يمنعونهم،و اعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون و لو لا ذلك لما قتل زكريا و يحيي بن زكريا ظلما و عدوانا في بغي من البغايا و لو لا ذلك ما قتل جدك علي بن أبي طالب(ع)لما قام بأمر اللّه جل و عز ظلما،و عمك الحسين بن فاطمة صلي اللّه عليهم اضطهادا و عدوانا.

و لو لا ذلك ما قال اللّه جل و عز في كتابه: وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (5)و لو لا ذلك لما قال في كتابه: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (6).

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«لو لا أن يحزن المؤمن لجعلت56

ص: 393


1- سورة البقرة:آية 155
2- سورة آل عمران:آية 146
3- سورة الأحزاب:آية 35
4- سورة يونس:آية 109
5- سورة الزخرف:آية 33
6- سورة المؤمنون:آية 55-56

للكافر عصابة من حديد فلا يصدع رأسه أبدا»و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«إن الدنيا لا تساوي عند اللّه جل و عز جناح بعوضة»و لو لا ذلك ما سقي كافرا منها شربة من ماء،و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:

«لو أن مؤمنا علي قلة جبل لابتعث اللّه له كافرا أو منافقا يؤذيه»و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«انه اذا أحب اللّه قوما او أحب عبدا صب عليه البلاء صبا فلا يخرج من غم إلا وقع في غم».

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«ما من جرعتين أحب الي اللّه عز و جل أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها، و جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء و احتساب»و لو لا ذلك لما كان أصحاب رسول اللّه(ص)يدعون علي من ظلمهم بطول العمر و صحة البدن،و كثرة المال و الولد،و لو لا ذلك ما بلغنا أن رسول اللّه(ص)كان اذا خص رجلا بالترحم عليه و الاستغفار استشهد،فعليكم يا عم و ابن عم و بني عمومتي و اخوتي بالصبر و الرضا و التسليم و التفويض الي اللّه عز و جل و الرضا بالصبر علي قضائه،و التمسك بطاعته،و النزول عند أمره،أفرغ اللّه علينا و عليكم الصبر،و ختم لنا و لكم بالأجر و السعادة،و انقذنا و إياكم من كل هلكة بحوله و قوته انه سميع قريب،و صلي اللّه علي صفوته من خلقه محمد النبي و أهل بيته..» (1).

و كانت هذه الرسالة سلوي لهم فيما عانوه من شدة المحن و الخطوب، كما انها احتوت علي مدحهم و الثناء عليهم،و لو كانوا في خروجهم علي المنصور بغير وجه مشروع لما توجع عليهم الامام،و أثني عليهم فان شأن الامامة كشأن النبوة بعيد عن المحاباة و الاندفاع بأي عاطفة من عواطف الحب).

ص: 394


1- بحار الانوار:(299/47-301)،الاقبال(ص 49 -51).

و مما يدل علي انهم كانوا علي حق أنه(ع)كان يتطلع بلهفة الي التعرف علي اخبارهم فقد روي خلاد بن عمير الكندي مولي آل حجر بن عدي قال دخلت علي أبي عبد اللّه(ع)فقال:

«هل لكم علم بآل الحسن؟» يقول خلاد:و كان قد اتصل بنا عنهم خبر،فلم نحب أن نبدأه به فقلنا له:نرجوا أن يعافيهم اللّه،فقال(ع):

«و اين هم من العافية؟» ثم بكي حتي علا صوته،و بكينا معه (1)و يضاف الي ذلك ما ورد في حقهم من المدح فقد روي خلاد عن أبيه عن فاطمة بنت الحسين(ع) قالت:سمعت أبي(ع)يقول:يقتل منك أو يصاب منك نفر بشط الفرات ما سبقهم الأولون،و لا يدركهم الآخرون،و انه لم يبق من ولدها غيرهم (2).

و علي أي حال فانهم لم يخرجوا علي حكومة المنصور إلا بوعي من روح الاسلام و هديه الذي ألزم بمناهضة الظلم،و مقاومة الجور و الطغيان.

في الربذة:

و سارت قافلة العلويين من يثرب،فلما بعدت عنها بثلاثة أميال أنزلوا عن رواحلهم،و جيء لهم بحدادين فألقوا كل رجل منهم في كبل و غل و قد ضاقت حلقتا القيد الذي كبل به عبد اللّه بن الحسن فتأوه من الألم فأقسم عليه أخوه البار علي بن الحسن ان يحولها إليه فحولت له،و بذلك

ص: 395


1- بحار الأنوار 302/47
2- بحار الأنوار 302/47

ضرب المثل الأعلي للاخاء الصادق.

و لما انتهت القافلة الي الربذة أنزل العلويون عن رواحلهم و هم مكبلون بالحديد تصهرهم الشمس،و أمر المنصور بادخال محمد بن عبد اللّه عليه (1)فلما مثل عنده قابله المنصور بالسب و الشتم و القذف،و اتهمه بامور أمسكنا عن ذكرها لفحشها،فان هذا الخبيث الدنس الذي حفل تأريخه بالعار و الخزي لم يتحرج من الاتهام و الكذب و قول الإفك.

و أمر الباغي الأثيم بتجريد محمد من ثيابه فجرد منها حتي بدت عورته و أمر جلاوزته بضربه،فعلته الجلاوزة بالسياط فضرب خمسين و مائة سوط و قد بلغ به الالم كل مبلغ،و المنصور جذل مسرور،و أصاب احدي السياط وجهه،فقال للجلاد:«اكفف عن وجهي فان له حرمة من رسول اللّه(ص)»:

فانبري المنصور الي الجلاد قائلا:

«الرأس..الرأس» فضربه ثلاثين سوطا علي رأسه،ثم دعا بساجور (2)من خشب شبيه به في طوله فشد في عنقه،و شدت به يداه،و أخرج ملببا فدخل علي اصحابه كأنه زنجي قد غيرت السياط لونه،و أسالت دمه،و أصاب سوط منها احدي عينيه فسالت،و وثب إليه مولي لابي جعفر فقال له:

الا الوثك بردائي؟فقال له بلي جزيت خيرا،فو اللّه لشفوف إزاري أشد علي من الضرب الذي نالني،فألقي عليه المولي الثوب (3).

و استدعي محمد و هو بتلك الحالة ماء فلم يسقه أحد سوي رجل من/6

ص: 396


1- البداية و النهاية 81/10
2- الساجور:خشبة تعلق بعنق الكلب
3- الطبري 179/6

أهالي خراسان فانبري إليه و سقاه الماء،و لم يلبثوا قليلا حتي اجتاز عليهم المنصور و هو في محله،فانطلق إليه عبد اللّه بن الحسن يذكره بما أسداه جده الرسول(ص)من الفضل و الاحسان علي العباس جد المنصور حينما جيء به أسيرا قائلا له:

«ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر؟» فأشاح المنصور بوجهه عنه،و قد لذعه قوله،و أمر بحمل العلويين الي العراق.

في الهاشمية:

و أخذت قافلة العلويين تطوي البيداء،و تسرع بهم الي القبور و السجون حتي انتهت الي«الهاشمية»فأمر المنصور بزجهم في سجن لا يعرف فيه الليل من النهار فأودعوا فيه،و كانوا لا يعرفون فيه وقت الصلاة لظلمته،فجزءوا القرآن الكريم خمسة أجزاء فكانوا يصلون الصلاة علي فراغ كل واحد منهم لحزبه (1).

و أمر المنصور باحضار محمد بن ابراهيم،و كان آية في جماله و بهاء وجهه،و كان الناس يذهبون الي النظر لحسنه،و لما حضر عند المنصور التفت إليه بسخرية قائلا:

-أنت المسمي بالديباج الأصفر؟ -نعم -أما و اللّه لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا من أهل بيتك.

ص: 397


1- مروج الذهب 225/3

ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت،و أدخل فيها،فبنيت عليه و هو حي (1)لقد تفجرت سياسة هذا الباغي الأثيم تجاه العلويين بجميع ألوان المنكرات و الموبقات،فلم يرع حرمة رسول اللّه(ص)في ابنائه،و عمد لي ابادتهم بصورة لم يعهد لها نظير في تأريخ المجازر البشرية.

و بلغ من قساوة جلاوزته ان عبد اللّه بن الحسن شيخ العلويين استدعي بماء فطلب بعضهم الاذن من المنصور في ذلك فسمح له فجاء إليه بماء بارد فبينما هو يشرب اذ وثب إليه أبو الأزهر فضرب الاناء برجله بشدة فألقي عبد اللّه ثناياه في الاناء (2).

و بقي العلويون في سجن المنصور و هم يعانون أهوال الخطوب و أقسي المصائب،فكانوا يتوضّئون في مواضعهم حتي اشتدت عليهم الرائحة و احتال بعض مواليهم فادخل لهم شيئا من الغالية فكانوا يدفعون بشمها الروائح الكريهة،و لكنها لم تكن تجدي شيئا،فقد ورمت أقدامهم،و سري الورم الي قلوبهم فمات اكثرهم،و أمر الطاغية بهدم السجن علي من بقي فهدم عليهم،فمات اكثرهم و فيهم عبد اللّه بن الحسن (3).

و حفلت هذه المأساة الخالدة في دنيا الاحزان بأنواع الرزايا و الخطوب فقد انتهكت فيها حرمة الرسول الاعظم(ص)في ذريته و ابنائه،فلم يرع لهم المنصور أي حرمة،و لم يراقب اللّه فيهم.

ففي سبيل اللّه تلك النفوس الزكية التي وهبت أرواحها للّه لتنقذ عباده من شر تلك الطغمة الحاكمة التي كفرت بجميع القيم الانسانية.

و قد أثارت هذه المأساة الكبري موجات من السخط علي بني العباس/3

ص: 398


1- الطبري 398/9
2- مقاتل الطالبيين(ص 243)
3- مروج الذهب 225/3

و قد اندفع.بو فراس الحمداني بعد احقاب من السنين يهجو العباسيين علي هذه الجريمة النكراء التي اقترفها جدهم المنصور،قال:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن أباهم العلم الهادي و أمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم و لا يمين و لا قربي و لا ذمم

هلا صفحتم عن الأسري بلا سبب للصافحين ببدر عن أسيركم

هلا كففتم عن الديباج سوطكم و عن بنات رسول اللّه شتمكم

ما نزهت لرسول اللّه مهجته عن السياط فهلا نزه الحرم

ما نال منهم بنو حرب و ان عظمت تلك الجرائم الا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة و كم دم لرسول اللّه عندكم

أنتم له شيعة فيما ترون و في اظفاركم من بنيه الطاهرين دم

هيهات لا قربت قربي و لا رحم يوما إذا أقصت الاخلاق و الشمم

كانت مودة سلمان له رحما و لم يكن بين نوح و ابنه رحم (1)

و في هذا الشعر أعمق الحزن علي ما أصاب العلويين من الرزايا و النكبات في عهد المنصور و سائر ملوك بني العباس الذين قطعوا أواصر الرحم و القربي و تنكروا للاحسان الذي أسداه الرسول الاعظم علي جدهم العباس فقد قابلوا ذلك بانزال أمر العقاب و أقساه بذرية النبي و عترته.

مصادرة أموال العلويين:

و لما اعتقل المنصور العلويين،و أودعهم في ظلمات السجون عهد الي عامله بمصادرة جميع اموالهم،و بيع رقيقهم (2)و صادر أموال الامام الصادق(ع)

ص: 399


1- الغدير 238/3
2- البداية و النهاية 81/10

و لما هلك المنصور ارجعها المهدي الي الامام موسي(ع).

ثورة الزكي محمد:

و كان محمد بن عبد اللّه بن الحسن من أعلام العلويين في علمه و فقهه و شجاعته و جوده،و قد جمع في برديه كل فضل موروث و مكسوب،و قد سمي بذي النفس الزكية و صريح قريش لأنه لم يجيء من أم ولد في جميع آبائه و امهاته بل جاء خالصا نقيا من قريش،و سماه الناس بالمهدي الذي بشر به النبي(ص) (1)و في ذلك يقول الشاعر:

إنا لنرجو أن يكون محمد إماما به يحيا الكتاب المنزل

به يصلح الاسلام بعد فساده و يحيا يتيم بائس و معول

و يملأ عدلا أرضنا بعد ملئها ضلالا و يأتينا الذي كنت آمل (2)

و كان يشبه جده الرسول(ص)في خلقه و أخلاقه،و أعتقد أهل المدينة أنه لو جاز أن يبعث اللّه نبيا بعد محمد(ص)لكان هو (3).

و قد رشح للخلافة باجماع الهاشميين،و كان المنصور الدوانيقي يسير بخدمته،و يسوي عليه ثيابه،و يمسك له دابته تقربا إليه كما بايعه مع أخيه السفاح مرتين،و بعد اختلاس العباسيين للحكم تألم محمد أشد الألم و اقساه و أخذ يدعو الناس لنفسه فاستجابوا له،و ظل مختفيا مع أخيه ابراهيم و دعاتهم تجوب في الاقطار للدعوة إليهم،و كان أبوهما عبد اللّه يمجد فيهما روح الثورة و يحفزهما علي النضال فقد قال لهما:

ص: 400


1- غاية الاختصار(ص 12)
2- مقاتل الطالبيين(ص 243)
3- شذرات الذهب 213/1

«إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين» (1).

و لما بلغ محمد وفاة أبيه عبد اللّه مع ابناء عمومته من العلويين في سجن المنصور،و ما حل فيهم من صنوف التنكيل و التعذيب،تواعد هو و أخوه ابراهيم علي اعلان الثورة في يوم مخصوص،فأعلن محمد الأمر في يثرب في الوقت المقرر له-علي ما قيل-و انبري الناس الي مبايعته،و استبشروا ببيعتهم له،و قام جيشه باحتلال الدوائر الرسمية،و بالاستيلاء علي بيت المال و هرعت أهالي اليمن و مكة الي بيعته و قد اجتمعت الجموع الحاشدة في يثرب تظهر له الطاعة و الانقياد،و قد قام فيهم خطيبا فقال بعد حمد اللّه و الثناء عليه:

«أما بعد:أيها الناس فانه كان من أمر هذا الطاغية عدو اللّه أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندا للّه في ملكه تصغيرا للكعبة الحرام،و إنما أخذ فرعون حين قال:أنا ربكم الأعلي، و ان أحق الناس بالقيام بهذا الدين ابناء المهاجرين و الانصار المواسين.

اللهم:انهم قد احلوا حرماتك،و حرموا حلالك،فآمنوا من أخفت، و أخافوا من آمنت اللهم فاحصهم عددا،و اقتلهم بددا،و لا تغادر منهم أحدا.

أيها الناس:اني و اللّه ما خرجت من بين أظهركم،و انتم عندي لا أهل قوة،و لا شدة،و لكن اخترتكم لنفسي،و اللّه ما جئت هذه و في الارض مصر يعبد فيه اللّه إلا و قد أخذ لي البيعة فيه» (2)./9

ص: 401


1- مقاتل الطالبيين(ص 243)
2- الطبري 219/9

و دل هذا الخطاب علي أخذ البيعة له من جميع الاقاليم الاسلامية إلا ان بعض المعلقين علي خطابه ذهب الي أن ذلك كان مكيدة من المنصور فهو الذي أوعز الي ولاته بمراسلة محمد و الاستجابة الي دعوته حتي يبادر الي اعلان الثورة قبل أن تستكمل مخططاتها ليمكن القضاء عليها في بدايتها.

و علي أي حال فان الانباء حينما وافت المنصور وجه جيشا لقتاله يقدر عدده بأربعة آلاف فارس،و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي،و سارت الجيوش،تطوي البيداء حتي انتهت الي يثرب،و حينما علم محمد بقدوم جيوش المنصور بث جيوشه في الشوارع و الأزقة،و قبل أن تندلع نيران الحرب خطب في جيشه فقال:

«أيها الناس،إنا قد جمعناكم للقتال و أخذنا عليكم المناقب،و ان هذا العدو منكم قريب،و هو في عدد كثير،و النصر من اللّه،و الأمر بيده، و انه قد بدا لي أن آذن لكم،و أفرج عنكم المناقب،فمن أحب أن يقيم أقام،و من أحب أن يضعن ضعن..» و كان هذا الخطاب خطاب مخذول لا وثوق له بالنصر،و لا أمل له في التغلب علي الأحداث نظرا لضخامة جيش العدو،و قلة من معه،و لم يرغم اصحابه علي الخوض في الحرب،كما لم يعتمد علي وسائل الخداع و التضليل و هو موقف تمثلت فيه الشهامة و النبل.

و لما سمع خطابه الانتهازيون و ذوو الاطماع تفرقوا عنه،و بقي في خلص اصحابه (1)و لم تكن لهم قدرة علي الدفاع عنه،و قد خف إليه عبد اللّه بن جعفر(2) فقال له:ام

ص: 402


1- الطبري
2- عبد اللّه بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن الامام امير المؤمنين المعروف بالافطح،قال الشيخ المفيد:كان اكبر اخوته بعد اسماعيل،و لم تكن له منزلة عند أبيه،و كان متهما في الخلاف علي أبيه فقد قيل:انه كان يخالط الحشوية،و يميل الي مذهب المرجئة،و ادعي بعد وفاة أبيه الامامة محتجا بأنه اكبر اخوته فتبعه جماعة من البسطاء،ثم رجع اكثرهم الي القول بامامة الامام موسي(ع)-كما سنوضحه-جاء ذلك في تنقيح المقال 174/2

«بأبي أنت و أمي،إنه و اللّه مالك بما رأيت طاقة،و ما معك أحد يصدق القتال،فاخرج الساعة حتي تلحق بالحسن بن معاوية بمكة فان معه جلة اصحابك..».

فانطلق محمد يجيبه بما انطوت عليه نفسه الكبيرة من الشرف و النبل قائلا:

«يا أبا جعفر،و اللّه لو خرجت لقتل اهل المدينة،و اللّه لا أرجع حتي أقتل أو اقتل،و أنت مني في سعة فاذهب حيث شئت» (1).

ان محمدا إذا ترك يثرب فان جيش المنصور سيحتلها،و يقابل المدنيين بمنتهي القسوة و الانتقام،و ينتهك جميع الحرمات،فرأي محمد أن يقيم فيها و يضحي بنفسه في سبيل أمن الناس و سلامتهم.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين،و بعد صراع رهيب بين قوي الحق و قوي البغي أصيب القائد العظيم محمد ذو النفس الزكية بجراح خطير فسقط علي الارض،و برك علي ركبتيه،فبادر إليه الاثيم حميد بن قحطبة و هو يصيح بالجند لا تقتلوه فكفوا عنه فقام الوغد بنفسه ليبوء بالإثم و الجحيم فاحتز رأسه الشريف (2).ين

ص: 403


1- الطبري 224/9
2- مقاتل الطالبيين

و انتهت بذلك صفحة من أروع صفحات الجهاد المقدس،و انطوت أعظم حركة اصلاحية في العالم الاسلامي كانت تهدف الي نشر العدل، و سيادة الامن و الدعة بين الناس.

و انهارت القوي الخيرة،و تحطمت آمال الاحرار فقد فقدوا قائدهم الاعلي الذي كان منارا لهم في طريق النضال و الجهاد.

ثورة الزكي ابراهيم:

كان ابراهيم بن عبد اللّه من قادة الفكر،و من أعلام عصره في علمه و أدبه و أخلاقه و حسن تدبيره،و قد اترعت نفسه الزكية بالايمان بحق الأمة فانطلق في ميادين الجهاد لينقذها من حكم العبودية و الذل،و يحقق في رحابها عدل الاسلام و احكام القرآن.

و الشيء الذي عرف به ابراهيم انه كان حديدي الارادة،و كان يقظا حساسا،فقد طلبه المنصور أشد الطلب،و بث عليه العيون،و قد استطاع أن يجلس علي موائد المنصور من دون أن يشعر به،و قد حدث عن ذلك بقوله:

«اضطرني الطلب بالموصل حتي جلست علي موائد المنصور،و قد قدم إليها يطلبني فلفظتني الأرض فجعلت لا أجد مساغا.و وضع الطلب و المراصد و دعا الناس الي غدائه فدخلت فيمن دخل،و اكلت فيمن أكل ثم خرجت،و قد كف الطلب».

و في هذا الاقدام دليل علي ما يحمله من القابليات الفذة التي تجعله في مصاف العظماء الذين لا يفكرون بالهزيمة،و لا تغير من عزيمتهم الاحداث الجسام،و قد اتته الأنباء المريعة بمقتل أخيه،و هو يخطب علي المنبر فجعل

ص: 404

يتمثل بهذه الأبيات:

أبا المنازل يا خير الفوارس من يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

اللّه يعلم أني لو خشيتهم و أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه و لم أسلم أخي لهم (1) حتي نموت جميعا أو نعيش معا

ثم تبلورت دموعه علي وجهه الشريف،و أخذ يؤبن أخاه و يصوغ من حزنه كلمات قائلا:

اللهم:إنك تعلم أن محمدا انما خرج غضبا لك و نفيا لهذه المسودة و ايثارا لحقك،فارحمه،و اغفر له،و اجعل الآخرة خير مرد له و منقلب في الدنيا..» (2)و رثي أخاه بهذه الابيات:

سأبكيك بالبيض الرقاق و بالقنا فان بها ما يدرك الطالب الوترا

و إنا أناس لا تفيض دموعنا علي هالك منا و لو قصم الظهرا

و لست كمن يبكي أخاه بعبرة يعصرها من ماء مقلته عصرا

و لكني أشفي فؤادي بغارة ألهب في قطري كتائبها جمرا

لقد تمثلت البطولة بما لها من معني مشرق بهذا الموقف الرائع الذي وقفه ابراهيم،فلم يوهن عزيمته مقتل أخيه العظيم،و انما زاده ايمانا و تصميما علي المضي في طريق الكفاح و النضال.

و أعلن ابراهيم في البصرة ثورته الكبري علي حكومة المنصور فاستجاب له المسلمون،و انضموا الي دعوته،و كان سفيان بن معاوية والي البصرة من المؤيدين له،و كان علي اتصال دائم معه،يطلعه علي كل ما جدّ للمنصور من رأي في أمر البصرة و ساعده في كثير من شئون الثورة.2)

ص: 405


1- في رواية«و لم يسلم أخي»
2- مقاتل الطالبيين(ص 342)

و احتل ابراهيم البصرة،و وجه دعاته الي الاهواز و فارس و واسط و المدائن فاستجابت هذه الاقطار و بايعته،و خفق علم الدولة العلوية عليها، و توالت أنباء الثورة العارمة علي المنصور فهاله ذلك و جزع جزعا شديدا، و خيم عليه الذعر،و قد دخل عليه الحجاج بن قتيبة فرآه ينكث الارض بمخصرته و ينشد:

و نصبت نفسي للرماح دريئة إن الرئيس لمثل ذاك فعول

فقال له الحجاج:ادام اللّه عزك،و نصرك اللّه علي عدوك أنت كما قال الأعشي:

و إن حربهم أوقدت بينهم فحرت لهم بعد ابرادها

وجدت صبورا علي حرها و كر الحروب و تردادها

فقال المنصور:يا حجاج إن ابراهيم قد عرف و عورة جانبي و صعوبة ناحيتي و خشونة قرني،و إنما جرأه علي المسير إلي من البصرة هذه الكور المطلة علي عسكر امير المؤمنين،و أهل السواد معه علي الخلاف و المعصية، و قد رميت كل كورة بحجرها،و كل ناحية بسهمها،و وجهت إليه الشهم النجد الميمون المظفر عيسي بن موسي في كثير من العدد و العدة،و استعنت باللّه عليه،و استكفيته إياه فانه لا حول و لا قوة لامير المؤمنين الا به.

و لما توفرت لإبراهيم الجيوش المزودة بالعدة و العدد عزم علي المسير الي حرب المنصور فأشار عليه اصحابه البصريون أن يقيم في البصرة،و يرسل الجنود فاذا انهزموا امدهم بغيرهم،و قال قوم من أهل الكوفة:إن بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك،و إن لم يروك قعدت بهم أسباب شتي، و استجاب ابراهيم لرأي الكوفيين،فتوجه بنفسه الي حرب المنصور،و لو انه أقام بالبصرة لتغلب علي الاحداث و تم له النصر.

و وجه المنصور الي حرب ابراهيم جيشا بلغ عدده خمسة عشر الفا،

ص: 406

و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي،و جعل علي مقدمته حميد بن قحطبة،و قال له لما ودعه:ان هؤلاء الخبثاء-يعني المنجمين- يزعمون انك إذا لقيت ابراهيم تجول اصحابك جولة حتي تلقاه،ثم يرجعون إليك و تكون العاقبة لك.

و سار ابراهيم بجيشه يطوي البيداء،و سمع و هو ينشد في طريقه أبيات القطامي:

أمور لو يدبرها حكيم إذن أنهي وهيب ما استطاعا

و معصية الشفيق عليك مما يزيدك مرة منه استماعا

و خير الأمر ما استقبلت منه و ليس بأن تتبعه التباعا

و لكن الأديم اذا تفري بلي و تعيبا غلب الصناعا (1)

و دل ذلك علي ندمه علي مسيره،فقد استبان له انه لو بقي بالبصرة لكان خيرا له،و توجه بجيشه الي«باخمري»و لم يتجه الي الكوفة مخافة ان تستباح الأعرض،و تقتل الاطفال،و أشار عليه قوم بالمسير الي الكوفة فانه اضمن الي نجاحه إلا انه لم يستجب لهم مخافة ما ذكرناه.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين فانهزم جيش المنصور شر هزيمة حتي انتهت طلائعها الي الكوفة فوجل المنصور و رام الهزيمة،و جعل يقول للربيع متعرضا بما أخبر به الامام الصادق(ع)من فوز العباسيين بالحكم:

«أين قول صادقهم،و كيف لم ينلها ابناؤنا فاين امارة الصبيان؟!!» و بعد ما حوصر و ضيق عليه أمر بجعل الابل و الدواب علي جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها.

و كرت جيوش المنصور راجعة بعد هزيمتها بسبب نهر لقيها فلم تقدر علي اجتيازه،فعادوا بأجمعهم،و كان أصحاب ابراهيم قد مخروا الماء ليكون/5

ص: 407


1- الكامل 18/5

قتالهم من وجه واحد،فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار،و ثبت ابراهيم في نفر من أصحابه فقاتلهم حميد بن قحطبة،و جعل يرسل بالرؤوس الي عيسي،و جاء سهم غادر فوقع في حلق ابراهيم فنحره فتنحي عن موقفه،و قال لاصحابه:انزلوني فانزلوه عن مركبه و هو يقول:«و كان أمر اللّه قدرا مقدورا»أردنا أمرا و أراد اللّه غيره.

و اجتمع عليه اصحابه و خاصته يحمونه،و يقاتلون دونه فقال حميد بن قحطبة شدوا علي تلك الجماعة حتي تزيلوهم عن موضعهم،و تعلموا ما اجتمعوا عليه،فشدوا عليهم يقاتلونهم حتي أفرجوهم عن ابراهيم فاحتزوا رأسه الشريف فأتوا به عيسي فسجد و بعث برأسه الي المنصور (1).

و بذلك انتهت اروع صفحة من صفحات الجهاد المقدس،و طويت أعظم شخصية في العالم الاسلامي كانت تروم القضاء علي الظلم و الجور و اعادة الحياة الكريمة في الاسلام.

و لما انتهي مقتل الشهيد العظيم الي المنصور الخبيث اللئيم كاد ان يطير فرحا فقد تحققت جميع آماله و أمانيه،و كان بين يديه طعام قد استطابه فقال لمن حوله:

«أراد ابراهيم أن يحرمني هذا و أشباهه» (2).

ان ثورة الزكي ابراهيم رائد الحق و العدالة لم تكن من أجل متع الحياة و لذائذها،و انما كانت لتحطيم المنكر و ابادة الظلم،و انقاذ الناس من الحكم الارهابي الذي ساد عليهم أيام المنصور.

ان تلك الثورة الخالدة كانت من أجل تحقيق المثل العليا و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة العامة بين الناس:/3

ص: 408


1- الكامل 19/5
2- مروج الذهب 224/3

و التفت المنصور و هو جذلان مسرور الي حضار مجلسه قائلا لهم:

«تالله ما رأيت أنصح من الحجاج لبني مروان؟!!».

فانبري إليه المسيب بن زهرة الضبي يظهر له أنهم أطاعوه اكثر من اطاعة الحجاج لاسياده الأمويين قائلا:

«يا أمير المؤمنين،ما سبقنا الحجاج لأمر فتخلفنا عنه،و اللّه ما خلق اللّه علي جديد الارض خلقا أعز علينا من نبينا(ص)و قد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك و فعلنا فهل نصحناك؟».

فلذع قوله المنصور فصاح به:

«اجلس لا جلست» (1).

و صفا الملك للمنصور بعد ثورة العلويين،و راح الطاغية الجبار بعد ذلك يمعن في ظلم الرعية و ارهاقها،فقد تفللت القوي الخيرة التي كان يحذرها و يخشي بأسها،و أخذ يجد في التنكيل ببقية العلويين،و استئصال شأفتهم،و نعرض فيما يلي الي بعض ما لاقوه من صنوف الارهاق الذي لا يوصف لفضاعته و قسوته.

وضعهم في الاسطوانات:

و لما خمدت ثورة العلويين جعل يطلب من بقي منهم طلبا حثيثا فمن ظفر به جعله في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص و الآجر،و ظفر بغلام من ولد الحسن و كان حسن الوجه فسلمه الي البناء و أمره أن يجعله في جوف اسطوانة و يبني عليه،و وكل به من ثقاته من يراعي ذلك فجعله البناء في جوف اسطوانة و قد دخلته رقة عليه فترك له في الاسطوانة منفذا يدخل

ص: 409


1- مروج الذهب 224/3

منها الروح،و قال للغلام:لا بأس عليك فاصبر فاني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة اذا جن الليل.

و لما جن الليل جاء البناء فأخرج العلوي،و قال له:اتق اللّه في دمي و دم العملة الذين معي،و غيب شخصك،فاني انما اخرجتك في ظلمة هذه الليلة لأني خفت أن يكون جدك رسول اللّه(ص)يوم القيامة خصمي بين يدي اللّه،و اكد عليه بأن يواري نفسه فطلب منه الغلام أن يعرف أمه بذلك لتطيب نفسها،و يقل جزعها،و هرب الغلام و لا يعلم في أي ارض اقام فيها،و انتهي البناء الي الدار الذي عينه العلوي فسمع دوبا كدوي النحل من البكاء فعرف أنها أمه فأسرها بخبر ولدها،و انصرف عنها (1).

خزانة رءوس العلويين:

و حديث الخزانة ملئ بالأسي و الشجون فقد ملأها برءوس العلويين شيوخا و شبابا و أطفالا،و أوصي ريطة زوج المهدي أن لا يفتحها المهدي و لا يطلع عليها الا بعد هلاكه،و قد دونها الطبري في تأريخه و هذا نصها:

«لما عزم المنصور علي الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي و كان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد،و عهد إليها و دفع إليها مفاتيح الخزائن،و تقدم إليها و أحلفها و وكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن،و لا تطلع عليها أحدا إلا المهدي،و لا هي الا ان يصح عندها موته،فاذا صح ذلك اجتمعت هي و المهدي و ليس معهما احد حتي يفتحا الخزانة،فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح و أخبرته أنه تقدم إليها ألا يفتحه،و لا يطلع عليه أحد حتي يصح

ص: 410


1- بحار الانوار 306/47-307،عيون اخبار الرضا 111/1

عندها موته،فلما انتهي الي المهدي موت المنصور،و ولي الخلافة فتح الباب و معه ريطة،فاذا ازج كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين،و في آذانهم رقاع فيها انسابهم،و اذا فيهم أطفال،و رجال شباب،و مشايخ عدة كثيرة،فلما رأي ذلك المهدي اإرتاع لما رأي و أمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها،و عمل فوقها دكانا (1).

لقد احتفظ المنصور بتلك الخزانة،و ادخرها(ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون)ادخرها«ليوم الفصل»يوم يعض الظالم علي يديه.

استرحام العلويين:

و أخذ العلويون يسترحمون هذا الطاغية،و يطلبون منه العفو إلا انه لم تحركه العواطف الانسانية،و لا الرحم الماسة للصفح عنهم فقد توجه الي بيت اللّه الحرام و بينما هو يسير في موكبه اذ انطلقت إليه ابنة عبد اللّه ابن الحسن فتلت عليه هذه الأبيات الرقيقة:

ارحم صغار بني يزيد انهم يتموا لفقدك لا لفقد يزيد

و ارحم كبيرا سنه متهدما في السجن بين سلاسل و قيود

و لئن أخذت بجرمنا و جزيتنا لنقتلن به بكل صعيد

ان جدت بالرحم القريبة بيننا ما جدكم من جدنا ببعيد

فلم يحرك ضميره القاسي هذا الاستعطاف الرقيق فكان جوابه لها:

«أ ذكرتنيه يا بنت عبد اللّه» ثم أمر به فأهدر في المطبق،و لفظ فيه انفاسه الأخيرة (2)

ص: 411


1- الطبري 320/6 الطبعة الأولي
2- جاء في تذكرة الخواص(ص 230)ان قول فاطمة بنت عبد اللّه«و ارحم صغار بني يزيد»انما وقع من فلتات لسانها اذ لم يكن لعبد اللّه بن الحسين ابن اسمه يزيد و لا يعرف في آل أبي طالب من اسمه يزيد الا يزيد بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر،و قد انكر عليه بنو هاشم هذا و هجروه لاجل ما سمي به.

لقد انتهي المنصور الي حضيض من اللؤم و القسوة ما له من قرار:

الإمام الصادق في ذمة الخلود:

و قاسي الامام الصادق في عهد المنصور جميع أنواع الخطوب و الآلام فرأي ما قاساه المسلمون من الجهد و البلاء،و ما عاناه العلويون من صنوف التنكيل و التعذيب،و قد كانت سلامته من المنصور اعجوبة بالرغم من تحرزه و توقيه من الاشتراك في أي ميدان من الميادين السياسية،و يدل علي ذلك حديثه المشهور:

«عزت السلامة حتي لقد خفي مطلبها فان تكن في شيء فيوشك ان تكون في الخمول،فان طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت،و السعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها».

لقد حاول المنصور ان يفتك به مرارا،و لكن اللّه رد عنه كيده، و قد احضره غير مرة و هو يتميز غيظا،و يحاول قتله،و قد دفع اللّه عنه شره،و قد ارسل إليه مرة الربيع فأنفذ إليه ولده محمد و أمره أن يأتي به علي الحالة التي هو عليها،و قال له:امض الي جعفر بن محمد فتسلق علي حائطه و لا تفتح عليه بابا فيغير بعض ما هو عليه،و لكن انزل عليه نزولا،فقام محمد بما أمر به،فوجد الامام قائما يصلي فلما فرغ من صلاته قال له:

-اجب امير المؤمنين

ص: 412

-دعني ألبس ثيابي -ليس الي ذلك من سبيل فجاء بالامام علي حالته،و ادخله عليه،فقال له المنصور بنبرات تقطر غضبا:

«يا جعفر ما تدع حسدك و بغيك و افسادك علي أهل هذا البيت من بني العباس،و ما يزيدك اللّه بذلك إلا شدة حسد،و نكد ما تبلغ به ما تقدره».

فقال له الامام:

«و اللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من هذا و لقد كنت في ولاية بني أمية و أنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا و لكم،و انهم لاحق لهم في هذا الأمر،فو اللّه ما بغيت عليهم،و لا بلغهم عني سوء،مع جفاهم الذي كان بي،و كيف يا أمير المؤمنين اصنع الآن هذا؟و أنت ابن عمي و أمس الخلق بي رحما،و اكثرهم عطاء و برا،فكيف افعل هذا؟» فأطرق المنصور برأسه ساعة الي الارض و رفع رأسه و قال له:

«أبطلت و أثمت» و أخرج إضبارة كتب،فرمي بها إليه،و قال له:هذه كتبك الي اهل خراسان تدعوهم الي نقض بيعتي و ان يبايعوك دوني.

فقال له الامام:

«و اللّه يا امير المؤمنين ما فعلت،و لا أستحل ذلك،و لا هو من مذهبي،و اني لمن يعتقد طاعتك علي كل حال،و قد بلغت من السن ما قد اضعفني عن ذلك،لو اردته فصيرني الي بعض حبوسك حتي يأتيني الموت فهو مني قريب».

فصاح به الخبيث اللئيم:لا و لا كرامة،ثم اطرق برأسه،و ضرب

ص: 413

يده الي السيف،فسل منه مقدار شبر،و أخذ بمقبضه ثم رده و قال للامام بكلمات قاسية:

«يا جعفر أ ما تستحي مع هذه الشيبة،و مع هذا النسب أن تنطق بالباطل و تشق عصا المسلمين؟تريد أن تريق الدماء،و تطرح الفتنة بين الرعية و الأولياء».

فقال له الامام:«لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت،و لا هذه كتبي و لا خطي،و لا خاتمي»ثم انتضي من السيف ذراعا،و عمد فأرجعه.

و أقبل يعاتبه و الامام يعتذر منه،ثم انتضي السيف الا شيئا يسيرا منه ثم اغمده،و اطرق برأسه الي الارض ثم رفع رأسه،و قال:أظنك صادقا و أمر الربيع أن يأتيه بالغالية فأخذ منها و وضعه علي كريمة الامام و كانت بيضاء فاسودت،و بالغ في اكرام الامام و تبجيله،و كان سبب ذلك انه رأي برهانا من ربه فعفا عنه (1).

لقد كان المنصور يحقد علي الامام أشد الحقد بسبب اجماع المسلمين علي تعظيمه،و قد خبا أمام جذوة اسمه الوهاج اسم المنصور فالعالم الإسلامي كان يتحدث بذكره،و يتناقل فضائله و علومه،و قد حاول الطاغية الجبار أن يستدرجه في موكبه فكتب إليه:

«لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟» و قد ظن ان الامام(ع)سيبادر الي اجابته شأن الكثيرين ممن أغرتهم الدنيا،و لم يعلم أن الامام(ع)يتحرج من الاتصال به،فقد وضع نصب عينيه قوله تعالي: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ،و بعد ما قرأ(ع)رسالة المنصور أجابه:

«ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه،و لا عندك من الآخرة ما نرجوك2)

ص: 414


1- بحار الأنوار 195/47-199،مهج الدعوات(ص 192)

له،و لا أنت في نعمة فنهنيك عليها،و لا تعدها نقمة فنعزيك عليها فلم نغشاك؟».

و لكن المنصور لم يع كلام الامام فقد اغرته الدنيا،و اعمي قلبه حب الملك و السلطان،فلما قرأ كتاب الامام أجابه:

«إنك تصحبنا لتنصحنا» فرد عليه الامام(ع):«من أراد الدنيا فلا ينصحك،و من أراد الآخرة فلا يصحبك».

و باء المنصور بالفشل فلم تتحقق منيته،و قد اجتمع(ع)به فوقع علي وجه المنصور بعض الذباب فدفعه بيده فعاد إليه حتي ضجر منه فالتفت الي الامام قائلا:

«يا ابا عبد اللّه،لم خلق اللّه الذباب؟» فلم يعن(ع)به و اجابه غير مكترث به قائلا:«ليذل به الجبابرة» و قد ساء المنصور ذلك،و ثقل عليه عدم اعتناء الامام به فراح يطيل التفكير في اغتياله.

و صمم الطاغية علي ان يقدم علي أخطر موبقة و أعظم جريمة في الاسلام غير حافل بالعار و النار،فدس الي الامام سما فاتكا علي يد عامله علي يثرب و لما تناوله الامام تقطعت أمعاؤه و أخذ يعاني الآلام القاسية.و الأوجاع المؤلمة،و لما شعر بدنو الأجل المحتوم منه أمر باحضار آله،و من يمت إليه و بعد اجتماعهم عنده زودهم بهذه الوصية القيمة قائلا:

«إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة» ثم انه عهد بأمره سرا الي ولده الامام موسي(ع)و أوصاه بوصاياه الخاصة،و عهد بأمره امام الناس الي خمسة أشخاص،و هم أبو جعفر المنصور،و محمد بن سليمان،و عبد اللّه،و موسي،و حميدة،و انما فعل

ص: 415

ذلك خوفا علي ولده من السلطة الكافرة كما تبين ذلك بوضوح بعد وفاته فقد كتب المنصور الي عامله يأمره بقتل وصي الامام ان كان معينا،فرد عليه عامله أنهم خمسة و هو أحدهم،فقال المنصور ليس الي قتل هؤلاء من سبيل.

و اشتد الألم بالامام فأخذ يعاني الأوجاع القاسية،و لما دنا منه الأجل المحتوم اخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم و يناجي ربه و يبتهل إليه حتي فاضت نفسه الزكية الي جنة المأوي،و سمت الي الرفيق الاعلي تلك النفس العظيمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضي من سالف الزمن-عدا آبائه-و ما هو آت حلما و علما و برا و عطفا علي جميع الناس.

لقد مات عميد الاسلام و الموجه الأول للقافلة الاسلامية الذي بذل بدوره جميع جهوده في اشعاع الفكر الانساني و بث روح العلم و الفضيلة بين الناس و كان موته من الأحداث الخطيرة التي مني بها العالم الاسلامي فلقد اهتزت جميع ارجائه لهوله.

و ارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميين و علا الصراخ و العويل من بيوت يثرب،و هرعت الناس كعرف الضبع و هم ما بين و آجم و صائح و مشدوه و نائح علي فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذا لهم و مفزعا في جميع الامور و قام الامام موسي(ع)و هو مكلوم القلب قد ذابت نفسه أسي و حسرات فأخذ في تجهيز أبيه،و هو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون فغسل الجسد الطاهر و كفنه بثوبين شطويين (1)كان يحرم فيهما،و في قميص و عمامة كانت للامام زين العابدين(ع)و لفه ببرد اشتراه الامام موسي(ع) باربعين دينارا،و بعد الفراغ من تجهيزه صلي عليه الامام موسي(ع)،ثم حمل الجثمان المقدس علي أطراف الأنامل و قد احتفت به الجماهير الحاشدة،ر.

ص: 416


1- شطويين:مفرده شطا احدي قري مصر.

و جيء به الي البقيع المقدس فدفن في مقره الأخير بجوار أبيه الباقر و جده زين العابدين(ع)،و وقف علي حافة القبر الشاعر الشهير أبو هريرة فأخذ يؤبن الامام بهذه الأبيات:

أقول و قد راحوا به يحملونه علي كاهل من حامليه و عاتق

أ تدرون ما ذا تحملون الي الثري ثبيرا ثوي من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه ترابا و قبلا كان فوق المفارق (1)

و بعد الفراغ من دفن الامام(ع)و تأبينه أقبل المسلمون يرفعون الي الامام موسي التعازي و يبدون له المواساة بمصابه الأليم و هو واقف يشكرهم علي مواساتهم و تعازيهم،ثم قفل راجعا الي ثويه،و قد احتف به أهل بيته و خلص أصحابه،و أمر(ع)بالوقت ان يوضع ضياء في المحل الذي قبض فيه أبوه جريا علي السنة،و بقي ذلك الضياء يوقد في كل يوم حتي اعتقل(ع)في العراق (2).

و تقلد الامام منصب الزعامة الكبري بعد وفاة أبيه،و كان عمره الشريف آنذاك عشرين سنة (3)و المنصور في السنة العاشرة من سلطانه،

رجوع الشيعة للامام موسي:

و لما فجع العالم الشيعي بوفاة زعيمه الروحي العظيم الامام الصادق(ع) رجع من بعده الي ولده الامام موسي،فقد بعثت جميع الاقطار التي تدين بالامامة وفودها لتعيين الامام بعد ابي عبد اللّه(ع)و جاءت تلك الوفود

ص: 417


1- اصول الكافي
2- الجواهر:كتاب الطهارة
3- صفة الصفوة

الي يثرب فالتقت بالامام موسي و آمنت بامامته و عقدت له الولاء و الطاعة فقد وجدت فيه كل ما هو ماثل في أبيه من العلم و الايمان و التقوي و الصلاح و ما ماثل ذلك من الصفات الرفيعة التي لا توجد إلا عند من عصمه اللّه من الزلل،و طهره من الرجس،و اختاره لارشاد عباده الي سواء السبيل.

و حدث هشام بن سالم أحد عيون الشيعة و وجوهها عن كيفية رجوعه و رجوع اخوانه الي الامام بعد وفاة أبيه يقول:كنت بالمدينة مع محمد بن النعمان صاحب الطاق حين وفاة الامام أبي عبد اللّه،و قد اجتمع الناس علي عبد اللّه بن جعفر ظانين أنه صاحب الأمر و القائم بعد أبيه فدخلت عليه مع أصحابي و لما استقر بنا المجلس وجهنا له السؤال الآتي:

-كم تجب الزكاة في المائتين من الدراهم؟ -خمسة دراهم.

-ففي المائة؟ -درهمان و نصف.

و تعجبوا من هذه الفتوي التي لا تمت الي الشريعة الاسلامية بصلة، فان النصاب الأول في نصاب الدراهم مائتان و ما نقص عنها فليس عليه شيء و طفق هشام يقول مستهزءا بهذه الفتوي التي لا مدرك لها:

-و اللّه ما تقول المرجئة هذا!! -و اللّه ما ادري ما تقول المرجئة؟ و خرج هشام و محمد من عنده و هما لا يبصران الطريق من الألم و الحزن لعدم ظفرهما بالامام القائم بعد أبي عبد اللّه و جعل هشام يقول:

«الي المرجئة،الي القدرية،الي المعتزلة،الي الزيدية،الي الخوارج؟!!».

و بينما كان هشام و محمد هائمين في تيار من الهواجس و الأفكار لا يعلمان

ص: 418

أي مبدأ يعتنقانه اذ اطل عليهما شيخ فأومأ الي هشام يشير إليه باتباعه،فتوهم هشام أنه من عيون المنصور و جواسيسه قد فهم حديثهما فالتفت الي صاحبه و قد استولي عليه الذعر و الارتباك و أمره بالبعد عنه ليكون وحده الذي ينال العقوبة و الجزاء،فتبع الشيخ حتي أورده علي الامام موسي بن جعفر عليه السلام،فلما دخل سكن روعه و حينما استقر به المجلس التفت إليه الامام قائلا بنبرات تفيض لطفا و حنانا:

«إلي لا الي المرجئة،و لا الي القدرية،و لا الي المعتزلة،و لا الي الزيدية..» ففرح هشام لأنه ظفر ببغيته حيث أخبره الامام بما انطوت عليه نفسه و تلك من امارة الامامة و علائمها،و وجه له هشام السؤال الآتي:

-جعلت فداك مضي أبوك؟ -نعم.

-مضي موتا؟ -نعم.

-من لنا بعده؟ -إن شاء اللّه أن يهديك هداك -جعلت فداك إن عبد اللّه أخاك يزعم أنه الامام بعد أبيه.

-عبد اللّه يريد أن لا يعبد اللّه -من لنا بعده؟ فأجابه مثل جوابه الأول،و طفق هشام يقول:

-أ فأنت هو:

لا اقول ذلك و أخطأ هشام في حديثه و التفت الي خطله فقال:

-عليك إمام؟

ص: 419

-لا فداخله من الاكبار و الاجلال ما لا يعلم به إلا اللّه،ثم قال له:

-جعلت فداك،أسألك عما كنت اسأل به أباك؟ -سل و لا تذع،فان أذعت فهو الذبح ثم وجه إليه أسئلة كثيرة فاذا به بحر لا ينزف لكثرة علمه،و فضله و انبري بعد معرفته و وثوقه بامامته قائلا:

-جعلت فداك،شيعة ابيك في ضلال فالقي إليهم هذا الأمر،و ادعوهم إليك،فقد اخذت علي الكتمان؟ -من أنست به رشدا فالق إليه،و خذ عليه الكتمان،فان اذاع فهو الذبح-و اشار بيده الي حلقه- ثم خرج و هو ناعم الفكر مسرور القلب بما ظفر به،فبادر إليه صاحبه قائلا:

-ما وراءك؟ -الهدي ثم حدثه بالأمر،و قصدا زرارة و أبا بصير و بعد الاجتماع بهما نقل لهما الحديث،فبادر زرارة و أبو بصير الي الامام و سألاه عن بعض المسائل فأجاب عنها فقطعا بامامته،و أقبلت جماهير الشيعة تتري أفواجا نحو الامام و هي تعقد له الولاء و الطاعة،و تعترف بامامته،و قد دانت الأغلبية الساحقة من الشيعة بامامته سوي أصحاب عمار الساباطي فانهم بقوا علي فكرتهم مصرين (1).

و تولي الامام(ع)بعد وفاة ابيه القيام بشئون الشيعة و بنشر المبادئ الاسلامية العليا و تزويد العلماء و الطلبة بشتي انواع العلوم و المعارف،و قد8)

ص: 420


1- المجالس:(ج 5 ص 328)

وضعت عليه الحكومة بعد ذلك الرقابة الشديدة فلم يتمكن علي الاتصال بالشيعة علنا كما لم تتمكن الشيعة علي التصريح بعقيدتها و مبدأها.

الانكار علي سياسة المنصور:

اشارة

و أخذت سياسة المنصور تتفجر بكل ما خالف كتاب اللّه و سنة نبيه فقد عمد الي قتل الابرياء،و هتك الأعراض،و سلب الأموال،و زج الأحرار في السجون،و مطاردة رجال الفكر،و استئصال ذرية النبي(ص) و قد أثار ذلك موجات من السخط عليه،فقد اندفع بعض اعلام الاسلام الي الانكار عليه،و فيما يلي عرض لبعضهم:

1-عبد اللّه بن طاوس:

و دخل عبد اللّه بن طاوس اليماني (1)علي المنصور و معه مالك بن أنس،فالتفت إليه المنصور قائلا:

-حدثني عن أبيك -حدثني أبي،ان أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه اللّه في سلطانه فادخل عليه الجور في حكمه» فالتاع المنصور و بدا عليه الغضب الهائل،و تيقن مالك بهلاك صاحبه فضم إليه ثيابه لئلا يصيبها دم عبد اللّه،و التفت المنصور الي عبد اللّه قائلا له:

ص: 421


1- عبد اللّه بن طاوس بن كيسان اليماني،كان فقيها عالما بالعلوم العربية و كان شديد البغض لآل البيت(ع)توفي في زمان المنصور،جاء ذلك في تهذيب التهذيب(ج 5 ص 267-268)

«ناولني الدواة» فلم يناولها له،فصاح به المنصور:

-لم لا تناولني الدواة؟ -أخاف أن تكتب بها معصية و لم يجد المنصور جوابا له فأمر باخراجه،فانصرف عبد اللّه،و ترك المنصور يتميز غيظا و غضبا (1).

2-سفيان الثوري:

و دخل سفيان الثوري (2)علي المنصور،فلما استقر به المجلس التفت الي المنصور بكل جرأة قائلا له:

«اتّق اللّه،فانك انما نزلت هذه المنزلة،و صرت الي هذا الموضع بسيوف المهاجرين و الأنصار،و أبناؤهم يموتون جوعا،حج عمر بن الخطاب فما انفق إلا خمسة عشر دينارا،و كان ينزل تحت الشجر».

فقال له المنصور مستهزءا به:

-إنما تريد أن أكون مثلك

ص: 422


1- شذرات الذهب(ج 2 ص 188)
2- هو شيخ الاسلام و سيد الحفاظ،قال ابو أسامة من أخبرك أنه رأي مثل سفيان فلا تصدقه،و قال ابن ذئب:ما رأيت بالعراق أحدا يشبه ثوريكم،ولد سنة 97 ه- و طلب العلم و هو حدث،و كان ابوه من علماء الكوفة،توفي في البصرة متخفيا من المهدي لأنه كان قوالا بالحق شديد الانكار،كانت وفاته في شهر شعبان سنة 161 ه-،جاء ذلك في تذكرة الحفاظ(ج 1 ص 190-192)،و قد اقتبس الكثير من علومه من الامام الصادق(ع)لأنه كان من تلامذته.

-لا تكن مثلي،و لكن كن دون ما أنت فيه،و فوق ما أنا فيه فصاح به المنصور«اخرج»فانبري إليه الثوري و هو يسدد له سهما من منطقه الفياض قائلا:

-إني لأعلم مكان رجل واحد،لو صلح صلحت الأمة كلها.

-من هو؟ -أنت يا أمير المؤمنين ثم تركه و انصرف عنه،و قد كوي قلبه بكلامه (1).

3-ابن أبي ذئب:

و دخل جماعة من كبار الفقهاء في الاسلام علي المنصور عند ما ولي الخلافة،و كان مجلسه مهيبا مفزعا،فقد جلس علي فراش قد نظم بالدر و الأحجار الكريمة،و أحاط به جمع من حراسه قد شهروا السيوف يترقبون صدور الأمر منه باعدام أي شخص كان،و لما استقر المجلس بالفقهاء رمقهم المنصور بطرفه و هو يقطر غضبا و حنقا عليهم،قائلا لهم:

«أما بعد يا معشر الفقهاء،فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشن صدره،و ضاق به ذرعه،و كنتم أحق الناس بلزوم الطاعة و النصيحة في السر و العلانية لمن استخلفه اللّه عليكم».

فانطلق إليه الزعيم الديني مالك بن أنس يظهر له الطاعة و كذب الوشاة عليهم قائلا:

«يا أمير المؤمنين،قال اللّه تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه و التفت إليهم قائلا:

ص: 423


1- المسامرات(ج 1 ص 98)

«أي الرجال أنا عندكم؟أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟» و توسل إليه مالك باللّه،و تشفع إليه بالنبي(ص)أن يعفيه عن الجواب فعفاه عنه و انبري إليه ابن سمعان الذي كان من«وعاظ السلاطين» مبينا له أنه ظل اللّه في ارضه و انه رمز العدالة و محقق السلام بين الناس قائلا له:

«أنت و اللّه خير الرجال،يا أمير المؤمنين،تحج بيت اللّه الحرام، و تجاهد العدو،و تؤمن السبل،و يأمن الضعيف بك أن يأكله القوي،و بك قوام الدين،فأنت خير الرجال و أعدل الأئمة».

و قد تزلف الي المنصور بهذا المنطق الرخيص الذي هو منطق العملاء و العبيد فانه ينم عن نفس طبع عليها الخنوع و النفاق،و التفت المنصور الي ابن أبي ذئب (1)قائلا له:

«ناشدتك اللّه،أي الرجال أنا عندك؟» فانطلق مجيبا له كالاسد الهادر لم يخفه ذلك المنظر الرهيب و لم يخش بأس تلك السلطة الجائرة،فقد كان يملك ضميرا حيا،و رصيدا قويا من الايمان و العقيدة قائلا له:

«أنت و اللّه عندي شر الرجال،استأثرت بمال اللّه و رسوله،و سهم1)

ص: 424


1- ابن ابي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن القرشي العامري المدني الفقيه قال احمد بن حنبل:كان ابن أبي ذئب افضل من مالك إلا أن مالكا أشد تنقية للرجال منه،و قال الواقدي:إنه من أورع الناس و أفضلهم،ولد سنة ثمانين،و كان قوالا بالحق لا يهاب السلطة،فقد دخل المهدي مسجد النبي(ص) فلم يبق أحد من الناس إلا قام له إجلالا و تكريما سوي ابن أبي ذئب، فقيل له:قم فهذا امير المؤمنين،قال إنما يقوم الناس لرب العالمين، توفي سنة 159 ه- جاء ذلك في تذكرة الحفاظ(ج 1 ص 179-181)

ذوي القربي و اليتامي و المساكين،و أهلكت الضعيف،و أتعبت القوي، و أمسكت أموالهم،فما حجتك غدا بين يدي اللّه:

و ما وسع المنصور أمام لسع الحق إلا أن يغضب و يصيح:

«ويحك!!ما تقول؟:أتعقل؟أنظر ما أمامك؟-و أشار الي الجلادين».

فانبري إليه مبينا له عدم اعتنائه بهم قائلا:

«نعم،قد رأيت أسيافا،و إنما هو الموت،و لا بد منه عاجله خير من آجله..».

و قام عنه،و قد حطم كيانه بهذه الصراحة التي انبعثت عن ضمير حي (1).

4-عبد الرحمن بن زياد:

و وفد عبد الرحمن بن زياد الافريقي علي المنصور فأقام بباب بلاطه شهرا لا يمكنه من الدخول عليه،ثم أذن له فلما استقر به المجلس قال له:

-ما أقدمك؟ -ظهر الجور ببلادنا فجئت لأعلمك،فاذا الجور يخرج من دارك، و رأيت أعمالا سيئة،و ظلما فاشيا ظننته لبعد البلاد منك،فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم..» فالتاع المنصور من كلامه و أمر باخراجه (2)و وفد عليه مرة اخري فقال له:

-كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟

ص: 425


1- الامامة و السياسة(ج 2 ص 185-187)
2- تأريخ بغداد(ج 10 ص 215)

-ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا الا رأيته في سلطانك -إنا لا نجد الأعوان -إن عمر بن عبد العزيز قال:إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها،فان كان برا أتوه ببرهم و ان كان فاجرا أتوه بفجورهم، فأطرق المنصور و لم يفه بشيء (1).

5-مصلح كبير:

و أعظم ناقد للمنصور قام بدوره بنقد سياسته،التي لا تتفق مع الحق و العدالة،هو مصلح كبير ضن التأريخ بالتصريح باسمه،فقد أوقف المنصور علي جرائمه،و حاسبه علي اعماله،و هذا نص حديثه،بينما كان المنصور يطوف بالبيت إذ انطلق إليه ذلك الرجل و هو يقول:

«اللهم:إني أشكو إليك ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع..» فوقعت هذه الكلمات كصاعقة علي رأس المنصور الطاغية الجبار فلما فرغ من طوافه أمر باحضاره،فلما مثل بين يديه سأله عن قوله فطلب منه الأمن و عدم التعرض له إن كشف الحقيقة و أدلي بالحق فآمنه المنصور؟ فقال له:

«إن من دخله الطمع حتي حال بين الحق و أهله هو أنت يا أمير المؤمنين -ويحك!!و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء عندي و الحلو و الحامض في قبضتي؟!! -إن اللّه استرعاك للمسلمين و أموالهم فجعلت بينك و بينهم حجابا من الجص و الآجر،و أبوابا من الحديد،و حجابا معهم الأسلحة،و أمرتهم

ص: 426


1- تأريخ الخلفاء:(ص 268)

أن لا يدخل عليك الا فلان و فلان،و لم تأمر بايصال المظلوم و لا الملهوف و لا الضعيف و لا الفقير و لا الجائع و لا العاري و ما منهم إلا و له في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم علي رعيتك يجيء لك الأموال فلا تعطيها،و تجمعها فلا تقسمها قالوا:هذا قد خان اللّه تعالي،فما لنا لا نخونه،و قد سخر لنا نفسه،فاتفقوا علي أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا،و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم الا أقصوه و نفوه حتي تسقط منزلته،و يتضع قدره،فلما اشتهر هذا عنك و عنهم عظمهم الناس و هابوهم،فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليقووا بهم علي ظلم رعيتك،ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا بهم ظلم من دونهم فامتلأت بلاد اللّه بالطمع ظلما و فسادا،و صار هؤلاء شركاؤك في سلطانك و أنت غافل فان جاء متظلم حيل بينه و بين الدخول إليك،فان أراد رفع قصته إليك وجدك قد منعت من ذلك،و جعلت رجلا ينظر في المظالم فلا يزال المظلوم يختلف إليه و هو يدافعه خوفا من بطانتك و اذا صرخ بين يديك ضرب ليكون نكالا لغيره،و أنت تنظر و لا تفكر فما بقاء الاسلام علي هذا،فان كنت يا أمير المؤمنين إنما تجمع الاموال لولدك فقد اراك اللّه في الطفل يسقط من بطن أمه و ما له في الارض مال و ما من مال إلا و دونه يد شحيحة تحتويه فلا يزال اللّه يلطف بذلك الطفل حتي يكثر ماله،و تعظم رغبة الناس إليه،و لست الذي تعطي و انما اللّه الذي يعطي من يشاء بغير حساب،و إن كنت إنما تجمع المال لتشييد الملك و تقويته فقد أراك اللّه في بني أميّة ما أغني عنهم ما جمعوه من الذهب و الفضة،و لا ما أعدوه من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد اللّه تعالي بهم ما اراد،و ان كنت انما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها،فو اللّه ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا منزلة لا تنال بخلاف

ص: 427

ما أنت عليه..» (1).

و قد كشف هذا الناقد العظيم بهذا التصريح عن جميع ما يعانيه المسلمون من الظلم و الجور الذي صبه عليهم المنصور و عملاؤه الخونة الذين نهبوا ثروات الأمة،و حجبوا عن المنصور أخبار الرعية و ما تعانيه من الضغط و الجور،فاذا فزع إليه مظلوم حالوا بينه و بين الدخول عليه، و إذا رفع عقيرته بالشكاية و الاستغاثة نكلوا به ليكون عبرة للغير،و المنصور قد حجب نفسه عن الرعية لا يهتم بصالحها و لا يفكر في رفع مستواها قد عكف علي كنز الاموال و ادخارها فلم ينفق منها شيئا علي المسلمين.

6-عمرو بن عبيد

و اجتمع بالمنصور عمرو بن عبيد (2)فقال له:بكل جرأة و إقدام -إنه ما عمل وراء بابك بشيء من كتاب اللّه و لا سنة نبيه -فما أصنع؟قد قلت لك:خاتمي بيدك،فتعال أنت و اصحابك فاكفني.

ص: 428


1- مختصر أخبار الخلفاء:(ص 17-18)
2- عمرو بن عبيد البصري شيخ المعتزلة في عصره،و أحد الزهاد المشهورين،كان جده من سبي فارس،و أبوه نساجا،ثم شرطيا للحجاج في البصرة،و اشتهر عمرو بعلمه،و زهده،و فيه قال المنصور: كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد له رسائل و خطب و كتب منها(التفسير)و الرد علي القدرية،توفي بالقرب من مكة،و رثاه المنصور،و لم يسمع بخليفة رثي من دونه سواه، جاء ذلك في الاعلام:(ج 2 ص 736).

-ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك،إن ببابك الف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق..» (1)و لم يجد الوعظ و الارشاد مع المنصور.فقد ظل متماديا في جوره و طغيانه لم يحذر من عقاب اللّه،و لم يخف من اليوم الآخر.

الامام موسي مع المنصور:

و شاهد الامام موسي(ع)جميع الرزايا و النكبات التي حلت باهل بيته و أسرته فانطوت نفسه علي الحزن العميق،و الأسي المرير،و قد صبر محتسبا كاظما للغيظ.

و لم يشترك الامام في الميادين السياسية،و لم ينضم الي الثوار من العلويين لعلمه بفشل حركتهم،و عدم نجاحها،فلذا كف عنه المنصور الاذي و المكروه،و قد طلب منه أن يمثله في يوم النوروز و ينوب عنه في قبض الهدايا و التحف التي اعتاد الوجوه و الاشراف و زعماء الجيش تقديمها الي الخليفة فقد سن ذلك معاوية بن أبي سفيان في الاسلام و سار علي منواله و خطته الملوك من بعده،و قد امتنع(ع)من اجابته قائلا:

«اني قد فتشت الاخبار عن جدي رسول اللّه(ص)فلم أجد لهذا العيد خبرا،و انه سنة للفرس قد محاها الاسلام،و معاذ اللّه ان نحي ما محاه الاسلام..».

فلم يعتن المنصور بعدم مشروعيته،و أصر علي الامام أن ينوب عنه لان في ذلك مجاراة لجنوده الفرس الذين اعتادوا علي الاحتفال بهذا اليوم، و لم يجد الامام بدا من اجابته فجلس في مكانه و دخل عليه الوجوه،الزعماء

ص: 429


1- عيون الأخبار 337/2

يهنئونه و يحملون له الهدايا و التحف،و علي رأسه شخص من قبل المنصور يسجل ما يصل إليه،و في الوقت دخل علي الامام شيخ طاعن في السن رث الهيئة و هو يحمل له هدية أثمن من الجوهر و أغلي من جميع ما قدم له فوقف قبال الامام و هو يقول.

«يا سيدي اني رجل صعلوك لا مال لي لأتحفك به،و لكني اتحفك بأبيات ثلاث قالها جدي في جدك الحسين..».

-مرحبا بك و بهديتك،اتل ما قال.

فانطلق يقول:

عجبت لمصقول علاك فرنده يوم الهياج و قد علاك غبار

و لأسهم نفذتك دون حرائر يدعون جدك و الدموع غزار

أ لا تضعضعت السهام و عاقها عن جسمك الاجلال و الاكبار

فانقلبت مسرات ذلك اليوم الي مأتم حافل بالاسي و الحزن علي سيد الشهداء(ع)و التفت إليه الامام و قد استولي عليه الشجي و الحزن قائلا له:

«قبلت هديتك،اجلس بارك اللّه فيك..» ثم انه رفع رأسه الي الخادم فقال له:امض الي المنصور و عرفه بهذا المال و ما يصنع به،فمضي الي المنصور و أخبره بمقالة الامام،فقال له جميع ما وصل فهو هدية له،فقفل راجعا الي الامام و اخبره بالامر،فوهب(ع) جميع تلك الاموال الضخمة الي الشيخ كرامة لجده الذي رثي سيد الشهداء بهذه الابيات الرقيقة (1).

و لم تصرح هذه الرواية انه(ع)في أي بلد أقام ممثلا عن المنصور، هل في يثرب أم في بغداد؟فقد أهملت هذه الجهة مضافا الي ما عرف به المنصور من البخل و الشح،و هذا مما يوجب الريبة في الرواية.4)

ص: 430


1- المناقب:(ج 2 ص 380)،البحار(ج 11 ص 264)
هلاك المنصور:

و قرر المنصور السفر الي مكة،و اعتقد أنه سيهلك في سفره،و قد هام في تيار من الهواجس و الافكار فكان يقول:«إني ولدت في شهر ذي الحجة و توليت الخلافة في ذي الحجة،و أهجس في نفسي اني أموت في ذي الحجة هذه السنة» (1)و قد عهد بأمره الي ولده المهدي،و نصبه ملكا من بعده و قد اوصاه بهذه الوصية التي كشفت جانبا كبيرا من سياسته الارهابية التي اشاعت الفقر و الخوف و السجون بين المسلمين فقد جاء فيها:

«اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف فقيرا لا يرجو الا غناك،و خائفا لا يرجو الا أمنك،و مسجونا لا يرجو الفرج الا منك فاذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية،لا تمدد لهم كل المد..و قد جمعت لك من الاموال ما لم يجمعه خليفة قبلي و جمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي و بنيت لك مدينة لم يكن في الاسلام مثلها..». (2)

انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة اصناف،و انما ترك الناس جميعا كذلك فقد روعهم بخوفه،و سلبهم الامن و الدعة،و نشر الفقر و المجاعة بينهم،و ملئ السجون بالاحرار و المصلحين.

و سار موكبه من بغداد يطوي البيداء فلما بعد عن الكوفة عرض له وجعه علي اشد ما يكون،و أخذت الهواجس تنتابه في الطريق فجعل يقول للربيع:«بادر بي الي حرم ربي و أمنه هاربا من ذنوبي».

ص: 431


1- ابن الاثير 43/5
2- تأريخ اليعقوبي 349/3

و بلغ المرحلة الاخيرة من طريقه فقال له الربيع:قد وصلنا(بئر ميمون)و قد دخلنا الحرم فقال له المنصور:(الحمد للّه فهل لك أن توصلني الي الكعبة؟»و ثقل حاله فلم يتمكن الربيع علي أن يواصل السير فاقام هناك،و منع الناس من الدخول عليه،و في فجر يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة(158)هلك الطاغية الجبار الذي اذاق الناس جميع صنوف الظلم و الخوف.

لقد انطوت تلك الصفحة الحافلة بالجور و الاثم و الموبقات،فلم يعهد المسلمون في جميع مراحل تأريخهم حاكما أظلم و لا اعنف و لا اقسي من المنصور و كان عمر الامام موسي(ع)آنذاك ثلاثين سنة،و قد قضي زهرة حياته في عهد هذا الطاغية و هو مكلوم القلب حزين النفس قد طافت به الآلام حزنا علي المسلمين و جزعا علي ما لاقاه العلويون من التنكيل و العذاب الاليم،و هنا نودعه لنلتقي به في عهد المهدي.

ص: 432

في عهد المهدي

اشارة

ص: 433

ص: 434

استقبل العالم الاسلامي حكومة المهدي بمزيد من الأفراح و المسرات و ذلك لما لاقاه في عهد المنصور من الشدة و الصرامة و الجور في الحكم فقد انتهت بموته فالمهدي ألين جانبا من أبيه فقد عرف بالسخاء و بسط الكف و عدم القسوة و الغلظة.

و حينما استقل المهدي علي دست الحكم أصدر مرسوما ملكيا بالعفو عن جميع المعتقلين و المساجين السياسيين سوي من كان في عنقه دم أو كان ذا فساد في الأرض،كما رد جميع الأموال المنقولة و غير المنقولة التي صادرها أبوه ظلما و عدوانا الي أهلها،فرد علي الإمام موسي ما صادره أبوه من أموال الإمام الصادق(ع)،و يعود السبب في جميع ذلك الي انه قد تلقي الملك علي جانب عظيم من الاستقرار و الطمأنينة بالاضافة الي ذلك فانه ظفر بثراء عريض جهد في جمعه أبوه المنصور فقتر علي نفسه و علي الأمة فلم ينعم هو و لا المجتمع بخيرات ذلك المال الكثير،و من المؤسف أن المهدي قد انفق جميع الثروات الضخمة علي اللهو و المجون و الهبات للعملاء و الماجنين،و لم تستفد الطبقة الضعيفة منها شيئا فانه لم يرفه عليها بشيء فلم يكن له هم إلا اشباع شهواته و الاسراف في البذخ و الترف و المجون.

و علي اي حال فان المهدي لا يقاس بأبيه فقد خالفه بأغلب صفاته و اعماله إلا انه ورث منه العداء العارم للعلويين و شيعتهم،فقد كان يبغضهم بغضا شديدا،لقد ورث ذلك من أبيه المنصور الذي كان يعتقد ان لا بقاء له في الحكم و السلطان إلا بالقضاء علي العلويين و شيعتهم...و نعرض فيما يلي الي بعض نزعاته و اعماله،و ما لاقاه الامام موسي(ع)في عهده.

ص: 435

[بعض نزعاته و اعماله]

خلاعته و مجونه

:

و الخلافة الاسلامية ظل اللّه في الارض فلا بد ان تمثل اهداف الاسلام و واقعه و هديه،و لا بد أن تصان من العبث و المغريات،و تنزه عن اللهو و المجون،و لكن حكام الأمويين و العباسيين لم يوثر عن الكثيرين منهم انهم قد ابتعدوا عما حرمه اللّه من المنكر و اللهو فقد حولوا الخلافة الاسلامية الي مسارح للرقص و اللذة و الفساد،و لو انهم خلعوا عن نفوسهم ثوب الخلافة لصانوا الاسلام،و حافظوا علي مثاليته.

و شاع اللهو في عهد المهدي،و انتشر المجون،و سادت الميوعة و التحلل بين الناس،فقد ذاع شعر بشار،و حفظ الناس تغزله بالنساء،و قد ضج الاشراف و الغياري من ذلك،و دخل علي المهدي يزيد بن منصور فطلب منه أن يوقف بشارا عند حده و يمنعه من الغزل المكشوف فاستدعاه المهدي و نهاه عن ذلك،و إليه يشير بشار بقوله:

قد عشت بين الريحان و الراح و ال زهر في ظل مجلس حسن

و قد ملأت البلاد ما بين فغ فور الي القيروان فاليمن (1)

بشعر تصلي له العوائق و الثب ب صلاة الغواة للوثن

ثم نهاني المهدي فانصرفت نفسي صنيع الموفق اللقن

فالحمد للّه لا شريك له ليس بباق شيء علي الزمن

و مع ذلك فقد ظل بشار يتغزل و يمجن من طريق خفي،و في ذلك يقول:

يا منظرا حسنا رأيته من وجه جارية فديته

ص: 436


1- فغفور:من ملوك الصين

بعثت إلي تسومني ثوب الشباب و قد طويته

و اللّه رب محمد ما إن غدرت و لا نويته

أمسكت عنه و ربما عرض البلاء و ما ابتغيته

إن الخليفة قد أبي و إذا أبي شيئا أبيته

و نهاني الملك الهما م عن النساء فما عصيته

بل قد وفيت و لم أضع عهدا و لا وأيا وأيته (1)

و أنا المطل علي العدي و إذا غلا الحمد اشتريته

و أميل في أنس الندي م من الحياء و ما اشتهيته

و يشوقني بيت الحبي- ب اذا غدوت و أين بيته

حال الخليفة دونه فصبرت عنه و ما قليته

و يقول أيضا:

دفنت الهوي فلست بزائر سليمي و لا صفراء ما قرقر القمري

تركت لمهدي الأنام و صالها و راعيت عهدا بيننا ليس بالختر (2)

و لو لا أمير المؤمنين محمد لقلبت فاها او لكان بها فطري

لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة فما أنا بالمزداد وقرا علي وقر (3)

لقد ضيق عليه في بادئ الامر ثم أطلق سراحه،و لكنه انجرف هو بتيار من المجون و الدعارة،و يعتبر المؤسس الاول للهو في دولة بني العباس يقول الجاحظ:

«إنه احتجب بادئ ذي بدء عن المغنين ثم قال:انما اللذة في4)

ص: 437


1- الوأي:الوعد
2- الختر:الغدر و الخديعة
3- ضحي الاسلام:(ج 1 ص 112-114)

مشاهدة السرور في الدنو ممن سرني فأما من وراء وراء فما خيرها و لذتها؟» (1)و بلغه حسن صوت ابراهيم الموصلي و جودة غنائه فقربه إليه و اعلي من شأنه (2)و لما أقبل علي المجون و اللهو ظن الناس به الظنون و اتهموه بشتي التهم و الي ذلك يشير بشار بن برد العقيلي في هجائه له:

خليفة يزني بعماته يلعب بالدف و بالصولجان

أبدلنا اللّه به غيره و دس موسي في حر الخيزران (3)

و ذكر الجاحظ أنه كان يحب القيان و سماع الغناء،و كان معجبا بجارية يقال لها:«جوهر»كان قد اشتراها و له فيها شعر (4)و كان مولعا بشرب الخمر حتي نهاه عن ذلك وزيره يعقوب بن داود قائلا له:

«أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا؟».

فلم يلتفت لنصحه و قد سمع بذلك بعض الشعراء الماجنين فحبذ له الاستمرار في شربها و عدم الاعتناء بقول وزيره قائلا:

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا و اقبل علي صهباء طيبة النشر (5)

لقد اطلق المهدي العنان لشهواته و ملذاته و مجونه حتي نشأ ولده ابراهيم و بنته علية علي ذلك،فكان ابراهيم شيخ المغنين و علية في طليعة المغنيات و العازفات في بغداد.7)

ص: 438


1- التاج:(ص 35)
2- الاغاني(ج 5 ص 5)
3- شذرات الذهب(ج 1 ص 265)
4- اخلاق الملوك:(ص 34)
5- الفخري:(ص 167)
بذخه و اسرافه:

و أسرف المهدي علي شهواته جميع ما تركه المنصور من الاموال الطائلة التي نهبها من المسلمين فقد صرفها المهدي علي الملذات و المجون و ترك المجتمع يئن من آلام الفقر و البؤس،و قد بذخ المهدي بذخا كثيرا بهر الناس به و أهم صورة لبذخه و اسرافه كانت في تزويجه لولده هارون بالسيدة زبيدة فقد احتفل احتفالا كبيرا،و انفق عليه من أموال المسلمين خمسين الف الف درهم،و قد أقام الدعوة في قصر الخلد علي ضفاف دجلة،و وجه الدعوة الي الناس قبل شهور فدعا جميع الآفاق فأقبلوا مبادرين و قد منوا انفسهم بالاموال الطائلة،فنزلوا ضيوفا عند المهدي و قد أتي بالآلات المختلفة فكان منها أوان صنعت بالذهب و الفضة و كانت الفرش و البسط ارمنية فاخرة قد ظفر بها العباسيون حينما استولوا علي مقدرات الدولة الاموية،و كانت تلك البسط من تراث الوليد بن يزيد و كان مغرما بها فكان يزين بها ارض مجلسه و حيطان قصوره.و كانت أفخر ما اهدي للخلفاء و قد قال عنها( ماركوبولو)الرحالة:لم تر عين أجمل و لا أجود منها،و أتي أيضا بالثياب المطرزات بالذهب،و بالطيب المختلف الالوان و الضروب،و بالجوهر الذي ملأ به الصناديق الكبار،و بالحلي المرتفعات الاثمان،و ملأ القصر بأجمل الوصائف و الخدم و الغلمان.

فلما كانت ليلة الزفاف،ألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار، ما لم ير مثله،و لم يقف أحد من المقومين له علي قيمة لنفاسته،و البسها بدنة امرأة هشام بن عبد الملك،و البدنة ثوب كله من الذهب.لا يدخل فيه من الغزل سوي اوقيتين،و ينسج سائره بالذهب،و زينها بالحلي حتي

ص: 439

لم تقدر علي المشي لكثرة ما عليها من الجوهر.و يقول متز:«إن هذا شيء لم يسبق إليه أكاسرة الفرس،و لا قياصرة الروم و لا ملوك الغرب».

و جاءت نساء بني هاشم فكان يدفع لكل واحدة منهن ثوب و شيء، و كيس فيه دنانير و آنية ملآي بالفضة و كان الخدم يملئون أواني الذهب بالدراهم و أواني الفضة بالدنانير ثم يدفعون ذلك الي وجوه الناس،و يردفونه بنوافح المسك و قطع العنبر (1)و ذكر الشابشتي في كتابه«الديارات»ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة و صناديق الجوهر و الحلي و التيجان و الاكاليل و قباب الفضة و الذهب و الطيب و أعطاها بدنة عبدة امرأة هشام قال:و لم ير في الاسلام مثلها،و مثل الحب الذي كان فيها،و كان في ظهرها و صدرها خطان من ياقوت أحمر و باقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله (2)و يقال أن المقومين لم يقفوا علي قيمة هذا الدر لنفاسته (3).

هذه صورة من صور البذخ و الاستهتار بأموال المسلمين التي احتاط بها الاسلام أشد الاحتياط و الزم بانفاقها علي المصالح العامة،و حرم علي ولاة الامور أن يصطفوا لانفسهم منها أي شيء.

و من بذخه و استهانته بأموال الدولة أنه اشتري فصا من ياقوت أحمر كان في غاية النفاسة بثلاثمائة الف دينار،و كانت الاموال أكياسا فلما نضد بعضها علي بعض صارت كالجبل،و لما استلمه وهبه لولده الهادي (4)1)

ص: 440


1- بين الخلفاء و الخلعاء(ص 25-26)نقلا عن الديارات«دير السوسي».
2- الديارات(ص 100)
3- تحفة العروس:(ص 36)
4- الجماهر:(ص 61)

و بهذا نقف علي مدي اسرافه و تبذيره،و من يستطيع يا تري في ذلك العصر أن يجابه الخليفة بالنقد و يقول له ان تلك الأموال ملك للامة و ليس له فيها أي نصيب،و لا حق له في التصرف بها،

نفوذ المرأة:

و المرأة بطبيعتها تدفعها تيارات العواطف الي تحقيق رغباتها،فكيف يصح لها ان تتصرف في امور المجتمع،و قد شعر بذلك المنصور و السفاح فانهما لم يدعا أي مجال للمرأة بالدخول في الشؤون السياسية،و لكن لما ولي الخلافة المهدي بدا سلطان المرأة ينفذ فان زوجه الخيزران كان لها سلطان و نفوذ قوي علي القصر،و الندماء،و الحجاب و الأطباء و غيرهم فكانت تقرب من تشاء،و تبعد من تشاء،و قد اخذت في مناكدة بختشيوع بن جورجيس الطبيب الشهير فأرغمت المهدي علي اعادته الي جنديسابور (1)و منذ ذلك اليوم أخذ نفوذ المرأة يزداد و يقوي حتي بلغ أوجه في أواسط الدولة العباسية و آخرها الأمر الذي ادي الي شيوع الاضطراب و عدم الاستقرار بين الناس.

الرشوة و الظلم:

و انشغل المهدي بلهوه و ملذاته عن رعيته فأهمل شئونها فأخذ ذئاب عماله ينهبون الاموال و يسلبون الثروات،و انتشرت الرشوة انتشارا هائلا عند جميع الموظفين خصوصا في اقليم مصر فقد كان الوالي عليه موسي بن

ص: 441


1- اخبار الحكماء للقفطي:(ص 101)

مصعب،فشدد في أخذ الخراج،و زاد علي كل فدان ضعف ما تقبل به و جعل الخراج علي اهل الاسواق و الدواب،و عمد الي الرشوة في الأحكام و الي ذلك يشير الشاعر بقوله:

لو يعلم المهدي ما ذا الذي يفعله موسي و أيوب

بأرض مصر حين حلابها لم يتهم في النصح يعقوب (1)

و قد عمد المهدي نفسه الي ظلم الناس و الاجحاف بحقوقهم،فقد أمر بجباية اسواق بغداد،و جعل الاجرة عليها (2)و قد اشتد الضغط علي المواطنين،و نال اهل الخراج من الشدة و العذاب الي حد لا سبيل الي تصويره (3)و ان رفع أحد عقيرته شاكيا أو مستغيثا فمصيره الي القبور او الي السجون.

العناية بالوضاعين:

و قرب المهدي طائفة من علماء السوء الذين لم تتهذب ضمائرهم بتعاليم الدين،فراحوا يؤيدون الظالمين و يسبغون عليهم الالقاب الحسنة،و النعوت الشريفة تقربا إليهم و طمعا في دنياهم،و قد نسوا المثل العليا التي جاء بها الاسلام فانساقوا وراء الطمع و الجشع،و تهالكوا علي المادة،و صعروا جباههم أمام الملوك و السلاطين،فأحاطوهم بهالة من التقديس و التعظيم، و أبرزوهم الي المجتمع انهم يمثلون ارادة اللّه و ان الخطأ لا يتطرق إليهم، هؤلاء هم الذين فتكوا بالاسلام و شوهوا معالمه،و قد قرب المهدي جماعة

ص: 442


1- الولاة و القضاة:(ص 125)
2- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 134)
3- الجهشياري:(ص 103)

من هؤلاء العبيد فأخذوا ينمقون الأباطيل و يلفقون الأكاذيب في مدح المهدي و الثناء عليه،و هم أمثال أبي معشر السندي الذي هو اكذب انسان تحت السماء (1)و كغياث بن ابراهيم الذي عرف هوي المهدي في الحمام و عشقه لها فحدثه عن أبي هريرة أنه قال:

«لا سبق إلا في حافر او نصل،و زاد فيه أو جناح..» فأمر له المهدي عوض افتعاله للحديث بعشرة آلاف درهم،و لما ولي عنه قال لجلسائه:

«أشهد أنه كذب علي رسول اللّه(ص)ما قال رسول اللّه ذلك، و لكنه أراد ان يتقرب إلي..» (2)و مع علمه بكذبه علي رسول اللّه(ص)فقد أوصله و أعطاه،و بذلك فقد شجع حركة وضع الحديث،و عمل علي تنميتها،و هي من أعظم الكوارث التي مني بها الاسلام فقد اوجبت الحط من شأنه،و ادخال كثير من الخرافات فيه،و سنذكر ذلك بمزيد من البيان عند عرض«مشكلات عصر الامام»

عداؤه للعلويين:

و ورث المهدي من أبيه المنصور العداء الشديد للعلويين و شيعتهم فقد أترعت نفسه بالبغضاء و الكراهية لهم،و يعود السبب في ذلك الي أن العباسيين لم يكن لهم أي حق في الحكم،فان الثورة علي الحكم الاموي انما قامت من اجل العلويين حماة العدل و الحق في الاسلام.

لقد كانت الثورة تحمل طابع التشيع و واقعه فقد اتخذه الثوار شعارا

ص: 443


1- تأريخ بغداد:(ج 6 ص 346)
2- تأريخ بغداد 193/2

لهم فناضلوا من أجله،و قد انضم العباسيون الي الدعوة علي هذا الاساس و آية ذلك ان المهدي دخل علي أبي عون و هو من اعز اصحابه و آثرهم عنده عائدا له،و طلب منه المهدي ان يعرض عليه حوائجه ليقوم بقضائها فقال له ابو عون:

-حاجتي ان ترضي عن ولدي عبد اللّه فقد طالت موجدتك عليه -يا أبا عبد اللّه انه علي غير الطريق و علي خلاف رأينا و رأيك،انه يقع في الشيخين و يسيء القول فيهما -هو و اللّه يا أمير المؤمنين علي الأمر الذي خرجنا عليه،و دعونا إليه فان كان قد بدا لكم فمرونا بما احببتم حتي نطيعكم..» (1).

و هذه البادرة تدل بوضوح علي أن الثورة علي الحكم الاموي انما كانت شيعية بجميع أبعاد هذه الكلمة،و هناك بادرة أخري تدل علي ذلك فقد بعث القاسم بن مجاشع بوصيته الي المهدي ليشهد فيها،و قد جاء فيها:

«شهد اللّه أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله الا هو العزيز الحكيم،ان الدين عند اللّه الاسلام يشهد بذلك،و يشهد أن محمدا عبده و رسوله،و ان علي بن أبي طالب وصي رسول اللّه(ص)و وارث الامامة من بعده».

فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده و لم ينظر في باقيها (2).

لقد آمن بذلك خواص بني العباس،و اعتقدوا جازمين ان الثورة انما قامت من أجل التشيع الا ان العباسيين الذين اختلسوا الحكم قد انحرفوا عنها من اجل اطماعهم،و بقائهم علي دست الحكم./6

ص: 444


1- تأريخ الطبري احداث سنة 169
2- الطبري 397/6

و علي أي حال فان المهدي كان يكن في اعماق نفسه البغض الشديد للعلويين،اما مظاهر ذلك العداء فهي:

اغداق الاموال علي انتقاص العلويين:

و سرف المهدي الاموال الضخمة علي انتقاص أهل البيت و الحط من شأنهم،و قد عرف فريق من الشعراء المرتزقين ان الوسيلة في ثرائهم انتقاصهم لأهل البيت و المبالغة في ذمهم فراحوا يلفقون الأكاذيب في هجائهم،و من جملة هؤلاء العبيد بشار بن برد المعروف بالزندقة و الالحاد فقد دخل علي المهدي و أنشده قصيدته التي يقول فيها:

يا ابن الذي ورث النبي محمدا دون الاقارب من ذوي الأرحام

الوحي بين بني البنات و بينكم قطع الخصام فلات حين خصام

ما للنساء مع الرجال فريضة نزلت بذلك سورة الانعام (1)

أني يكون و ليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام

فأجازه المهدي علي ذلك بسبعين الف درهم تشجيعا له و لغيره من باعة الضمير علي انتقاص اهل البيت،و لما سمع الامام موسي(ع)بقصيدة بشار تأثر أشد التأثر و نام ليلته قلقا متألما،و قد سمع هاتفا يتلو عليه أبياتا تعارض ابيات بشار و هي:

أني يكون و لا يكون و لم يكن للمشركين دعائم الاسلام

لبني البنات نصيبهم من جدهم و العم متروك بغير سهام

ما للطليق و للتراث و إنما سجد الطليق مخافة الصمصام

ص: 445


1- ليس في سورة الانعام ما يشير الي هذا المعني بل ليس فيها اي حكم من أحكام الميراث.

و بقي ابن شلة واقفا متلددا فيه و يمنعه ذوو الأرحام

ان ابن فاطمة المنوه باسمه حاز التراث سوي بني الأعمام (1)

و لما شاع ذلك عن المهدي أخذ الشعراء يتقربون إليه في هجاء أهل البيت فمنهم مروان بن أبي حفص فقد انشد بين يديه هذه القصيدة التي يقول فيها:

هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها

أو تدفعون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية بتراثهم فأردتم ابطالها

فلما سمع ذلك المهدي زحف عن مصلاه حتي صار علي البساط و هو لا يملك نفسه قائلا له:

-كم بيت هي؟ -مائة بيت فأمر له بمائة الف درهم،و قال له:«إنها لأول مرة أعطيها شاعر في خلافة بني العباس» (2)لقد وهب هذه الاموال الخطيرة للحط من شأن اهل البيت و التقليل من اهميتهم،و هو لم ينل مع باقي أسرته مركز الخلافة الاسلامية الا باسم العلويين و جهادهم و تضحياتهم.4)

ص: 446


1- احتجاج الطبرسي:(ص 214)،و قيل ان الابيات لمحمد بن يحيي التغلبي جاء ذلك في(الشعر في بغداد ص 110)
2- تأريخ بغداد:(ج 3 ص 144)
نكبته لوزيره يعقوب:

كان يعقوب بن داود قد احرز عند المهدي نفوذا كثيرا حتي أخلص له في الحب و شاركه في جميع اموره،و قد اعلن ذلك في ديوانه الرسمي و في ذلك يقول مسلم الخاسر:

قل للامام الذي جاءت خلافته تهدي إليه بحق غير مردود

نعم القرين علي التقوي أعنت به أخوك في اللّه يعقوب بن داود

و غلب يعقوب علي امر المهدي فكانت جميع أموره بيده يتصرف فيها حيثما شاء،و قد حقد عليه جماعة من أعدائه و حسدوه علي هذا النفوذ العظيم فأهابوا بالمهدي علي إبعاده عن منصبه فلم يقبل ذلك منهم و امتنع من إجابتهم،و جعل حساده يعملون شتي الوسائل لابعاده عن منصبه،فقد اجتاز المهدي علي جدار فرأي قد كتب عليه هذا البيت:

للّه درك يا مهدي من رجل لو لا اتخاذك يعقوب بن داود

فلم يعتن به و أمر أن يكتب تحته هذه العبارة«علي رغم الكاتب و أنفه،و تعسا لجده»،و لما يئس منه أعداؤه جعلوا يستنجدون بني أمية و يطلبون يقظتهم و في ذلك يقول بشار بن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة اللّه بين الناي و العود (1)

و لما سدت علي مناوئيه جميع الطرق سلكوا طريقا آخر تمكنوا به من زوال نعمته و انزال الكارثة به،فقد قالوا للمهدي انه يميل للعلويين و انه من أنصارهم و دعاتهم،و انه كان معهم عند قيامهم علي أبيه،و كان كاتبا

ص: 447


1- ابو الفداء:(ج 2 ص 10)

عند ابراهيم بن عبد اللّه،و قد خرج مع محمد في ثورته علي المنصور في يثرب و لما سمع المهدي بهذه النقاط تغير حاله و انقلب رأسا علي عقب و هام في تيار من الهواجس و الهموم فأراد اختباره و الوقوف علي حقيقة حاله فدعاه الي بلاطه و قد فرشه بفرش موردة كما لبس ثيابا موردة،و علي رأسه جارية جميلة،و أظهر المهدي السرور و الارتياح،و أهدي له جميع ما في ذلك المجلس من الأفرشة الثمينة مع الجارية،و طلب منه مهمة أن يقوم بها و هي أن يعدم علويا أراد التخلص منه،فأجابه يعقوب الي ذلك بعد ان اقسم له بالايمان المؤكدة ان يقوم بذلك،و انصرف يعقوب و معه العلوي فلما استقر في ثويه تكلم مع العلوي فرآه أديبا كاملا ناضجا،و توسل إليه العلوي بشتي الوسائل ان يعفو عنه و يخلي سبيله فأجابه الي ذلك و أعطاه أموالا يستعين بها علي دهره و محنته،و كانت الجارية التي أهداها له المهدي عينا عليه فمضت الي المهدي فنقلت له الحديث بكامله،فأرسل المهدي الشرطة و العيون خلف العلوي حتي قبضوا عليه و لما جاءوا به أخفاه ثم امر باحضار يعقوب فلما مثل عنده سأله عن العلوي فأخبره بانه قد نفذ فيه حكم الاعدام،فقال له المهدي:انه قد مات،فقال يعقوب:نعم،و طلب منه المهدي ان يضع يده علي رأسه،و يقسم علي ذلك،ففعل،فقال المهدي لغلام له:اخرج إلينا من في هذا البيت،فاخرج العلوي،فلما رآه يعقوب تحير،و امتنع عليه الكلام فقال له المهدي:قد حل لي دمك و لو آثرت اراقته لأرقته ثم امر بسجنه مؤبدا في المطبق (1)و صادر جميع أمواله،و بقي في سجنهري

ص: 448


1- المطبق حبس مظلم كبير بناه المنصور بين طريق البصرة و طريق باب الكوفة،و باسمه سمي الشارع الذي يقع فيه هذا السجن،و كان متين البناء قوي الاساس و كان من اهم سجون بغداد و استمر الي عهد المتوكل، جاء ذلك في(بغداد في عهد الخلافة العباسية ص 34)و جاء في الفخري (ص 221)ان المطبق كانت فيه غرف واسعة و ضيقة و آبار يسجن فيها و ان يعقوب بن داود قد دلي بحبل في بئر مظلمة لا يري فيها ضوء.

حتي آل الامر الي الرشيد فتوسط في اطلاق سراحه يحيي بن خالد البرمكي فعفا عنه،فخرج هزيل الجسم مكفوف البصر قد لبس ثوبا من الذل و الهوان (1)و دلت هذه البادرة علي مدي بغض المهدي للعلويين و شيعتهم.

مع الامام موسي:

اشارة

و لم يتعرض المهدي في بداية حكمه الي الامام بمكروه و لم ينله بسوء و قد اكتفي عن التنكيل به بوضع الرقابة الشديدة عليه،و لما شاع ذكره في الاوساط و ذاع صيته لم يملك المهدي غضبه فعمد الي اعتقاله و لكنه سرعان ما اطلق سراحه لانه قد رأي برهانا من ربه كما سنذكره،و نعرض بعض البوادر التي جرت للامام معه مع بيان اعتقاله.

استدلاله علي حرمة الخمر:

حج المهدي بيت اللّه الحرام،و بعد أدائه للمناسك قفل الي زيارة قبر النبي(ص)و قد بذل أموالا طائلة الي المدنيين،و اجتمع به الامام فلما استقر به المجلس وجه له المهدي السؤال الآتي:

-هل الخمر محرمة في كتاب اللّه؟فان الناس انما يعرفونها،و لا يعرفون التحريم.

ص: 449


1- الوزراء و الكتاب(ص 119-121)،الفخري(ص 161 -163)،و جاء في الفرج بعد الشدة:(ج 1 ص 141)ان يعقوب ابن داود قال:قد بنيت علي قبة في المطبق فمكثت فيها خمسة عشر سنة.

-بل هي محرمة في كتاب اللّه -في أي موضع هي محرمة؟ -قول اللّه عز و جل:«انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق»و أخذ(ع)يدلي عليه المراد من الآية الكريمة قائلا:

أما قوله:«ما ظهر منها»يعني الزنا المعلن،و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية،و أما قوله:«و ما بطن» يعني ما نكح الآباء،لان الناس قبل ان يبعث النبي(ص)إذا كان للرجل زوجة و مات عنها زوجها تزوجها من بعده ابنه اذا لم تكن أمه،فحرم اللّه ذلك،و اما«الاثم»فانها الخمرة بعينها و قد قال اللّه تبارك و تعالي:

في موضع آخر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فاما الاثم في كتاب اللّه،فهو الخمر و الميسر و اثمهما كبير» و لم يملك المهدي اعجابه بالامام فالتفت الي علي بن يقطين قائلا له:

-هذه و اللّه فتوي هاشمية -صدقت،و اللّه يا أمير المؤمنين،الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم اهل البيت» فلذعه هذا الكلام،فلم يملك صوابه فاندفع قائلا:«صدقت يا رافضي» (1).

تحديد فدك:

و لما اعلن المهدي رد المظالم الي اهلها دخل عليه الامام موسي(ع) فرآه مشغولا بذلك فالتفت إليه قائلا:

ص: 450


1- البحار:(ج 4 ص 48)

-ما بال مظلمتنا لا ترد:

-و ما ذاك يا أبا الحسن؟ -فدك -حدها لي -حد منها جبل أحد،و حد منها عريش مصر،و حد منها سيف البحر،و حد منها دومة الجندل.

-كل هذه حدود فدك؟ -نعم فتغير المهدي و بدا الغضب علي سحنات وجهه فقد اعلن له الامام ان جميع اقاليم المملكة الاسلامية قد اخذت منهم.

فانطلق المهدي قائلا:

«هذا كثير انظر فيه» (1)

توسعة المسجد الحرام:

و أمر المهدي بتوسعة المسجد الحرام مع الجامع النبوي و ذلك في سنة (161 ه-) (2)و قد امتنع ارباب الدور المجاورة للجامعين من بيعها علي الحكومة،فسأل المهدي فقهاء العصر عن جواز اجبارهم علي ذلك فقالوا له:لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد غصبا،و كان بمجلسه علي بن يقطين فاشار عليه ان يرفع استفتاء في المسألة الي الامام موسي(ع)فاستصوب رأيه و كتب الي عامله علي يثرب يأمره بأن يسأل الامام عن ذلك،فلما انتهي الكتاب إليه مضي الي الامام،و عرض عليه السؤال فكتب(ع)

ص: 451


1- عمدة الاخبار في مدينة المختار:(ص 316)
2- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 393)

الجواب و هذا نصه بعد البسملة:

(إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس،فالناس أولي ببنائها،و ان كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولي بفنائها».

و لما انتهي الجواب الي المهدي امر بهدم الدور و اضافتها الي ساحة المسجدين و فزع اربابها الي الامام و التمسوا منه ان يكتب لهم رسالة الي المهدي ليعوضهم عن ثمن دورهم،فأجابهم و كتب الي المهدي رسالة في ذلك فلما وصلت إليه أوصلهم و ارضاهم (1)و ليس هذا نوعا من الاستملاك الذي يعبر عنه في الوقت الحاضر بالاستملاك للمصلحة العامة كما فهمه بعض المعاصرين بل ان هذا حكم شرعي يتبع أدلته الخاصة التي نصت علي ان للجامع فناء و ان من نزل به لا حرمه لما يقيمه فيه من بناء، و نسب المحدث الحافظ أبو الخطاب،القصة للامام الصادق(ع)مع المنصور (2)و هو بعيد فان التأريخ لم يحدث عن قيام المنصور بحركة عمرانية للجامعين.

اعتقال الامام:

و لما شاع ذكر الامام و انتشر اسمه في جميع الآفاق لم يملك المهدي غيظه و حقده فخاف علي كرسيه،و اعتقد ان ملكه لا يستقر الا باعتقال الامام،فكتب الي عامله علي المدينة يأمره بارسال الامام إليه فورا،و لما وصلت الرسالة إليه توجه الي الامام و أخبره بذلك فتجهز(ع)للسفر من وقته فسار(ع)حتي انتهي الي زبالة فاستقبله أبو خالد بكآبة و حزن فنظر إليه الامام نظرة رأفة و رحمة و قال له:

-ما لي أراك منقبضا؟!! -كيف لا انقبض!!و أنت سائر الي هذا الطاغية و لا آمن عليك

ص: 452


1- البحار:(ج 4 ص 248)
2- النبراس:(ص 24)

فهدأ(ع)روعه و أخبره انه لا ضير عليه في سفره هذا،و ضرب له موعدا يجتاز فيه عليه،ثم انصرف الامام متوجها الي بغداد،فلما وصل إليها أمر المهدي باعتقاله و ايداعه في السجن،و نام المهدي تلك الليلة فرأي في منامه الامام امير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)و هو متأثر حزين فخاطبه:

«يا محمد،فهل عسيتم أن توليتم ان تفسدوا في الارض و تقطعوا أرحامكم».

فقام المهدي من نومه فزعا مرعوبا فاستدعي حاجبه الربيع فلما مثل بين يديه كان المهدي يردد الآية الكريمة،و أمره باحضار الامام موسي، فلما أقبل إليه قام فعانقه و أجلسه الي جانبه ثم قال له بعطف و لين:

«يا أبا الحسن،إني رأيت امير المؤمنين علي بن أبي طالب يقرأ علي كذا-و اشار الي الآية-أ فتؤمنني ان لا تخرج علي او علي احد من ولدي؟ -و اللّه ما فعلت ذلك،و لا هو من شأني -صدقت،يا ربيع،اعطه ثلاثة آلاف دينار و رده الي اهله الي المدينة،فقام الربيع فشايعه و أحكم امره و سرحه في الليل فما اصبح عليه الصبح إلا و هو في الطريق (1)و سارت قافلة الامام تطوي البيداء حتيه.

ص: 453


1- تأريخ بغداد(ج 13 ص 30-31)،وفيات الاعيان(ج 4 ص 493)و ذكر ابن شهرآشوب في المناقب:(ج 2 ص 264)ان المهدي استدعي حميد بن قحطبة في منتصف الليل و قال له:ان اخلاص ابيك و اخيك فينا أظهر من الشمس و حالك عندي موقوف،فقال له حميد:افديك بالمال و النفس و الأهل و الولد و الدين فقال له للّه درك،و عاهده علي ذلك و أمره بقتل الامام الكاظم في السحر بغتة،فنام المهدي فرأي في منامه عليا يشير إليه و يقرأ«فهل عسيتم»الآية،فانتبه مذعورا و نهي حميدا عما أمره،و اكرم الامام الكاظم و اعطاه.

انتهت الي«زبالة»في اليوم الذي عينه لأبي خالد و كان يترقب قدوم الامام في ذلك الوقت بفارغ الصبر فلما قدم(ع)عليه بادر إليه و هو يلثم يديه و اطرافه و الفرح باد عليه فادرك الامام سروره البالغ فقال له:

«إن لهم إلي عودة لا اتخلص منها» (1)و اشار(ع)بذلك الي ما يصنعه به هارون من اعتقاله في سجونه حتي يلفظ أنفاسه الأخيرة بها،و لم يجلب المهدي الامام الي بغداد سوي هذه المرة و قد قطع(ع)من سني حياته في دوره عشر سنين و قد قام خلال هذه المدة بنشر العلم و تغذية الناشئة العلمية بأنواع العلوم و الآداب و هذه المدة من أهم ادوار حياته التي شيد بها صروح العلم و الفضيلة و الاخلاق.

وفاة المهدي:

و اختلف المؤرخون في سبب وفاة المهدي،فقيل انه خرج الي الصيد و اخذ في مطاردة ضبي حتي دخل الي خربة فتبعه و كان باب تلك الخربة ضيقا فاصاب ظهره حتي تقطع عموده الفقري فمات في يومه،و قيل ان بعض جواريه كانت تغار من جارية كان يهواها و يخلص لها فدست لها سما في بعض المآكل فأكل المهدي منه و هو لا يعلم به،و علي اي حال فانه لما توفي جزع عليه اهله و ساد عليهم الحزن،و قد خرجت بعد موته بعض جواريه و قد لبسن المسوح حزنا و حدادا عليه،و إليهن يشير ابو العتاهية بقوله:

رحن في الوشي و اقبلن عليهن المسوح كل نطاح من الدهر له يوم نطوح لست بالباقي و لو عمرت ما عمر نوح فعلي نفسك نح ان كنت لا بد تنوح (2)الي هنا ينتهي بنا الحديث عن عصر المهدي و ما لاقاه الامام(ع)في دوره

ص: 454


1- نور الابصار:(ص 136)،البحار:(ج 11 ص 252)
2- الفخري:(ص 157)

في عهد الهادي

اشارة

ص: 455

ص: 456

استقبل موسي الهادي الدولة الاسلامية في ايام شبابها الغض،و نضارة غصنها الرطب،و في إبان قوتها الكاملة،و ثروتها الموفورة،و قد بويع له،و هو في غضارة العمر فقد كان عمره-حسب ما يقول الرواة-خمسا و عشرين سنة (1)و كان سادرا في الطيش و الغرور،و متماديا في الاثم و الفجور،و قد اراح اللّه منه العباد في بداية ملكه فلم تطل أيامه،و لو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل و أقساها،فقد كان طاغية جبارا لا يتحرج من سفك الدماء و اراقتها بغير حق،و قد أسرف في سفك دماء العلويين، فأنزل بهم العقاب الصارم،و قد اجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي(ع) الا ان اللّه قصم ظهره قبل ان يقوم بذلك،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للتحدث عنه.

نزعاته:

اشارة

و اتصف موسي الهادي بنزعات شريرة ظهرت في سلوكه و أعماله حتي نقم عليه القريب و البعيد،و بغضه الناس جميعا و قد حقدت عليه أمه الخيزران فقد بلغ بها الغيظ و الكراهية له انها هي التي قتلته...أما نزعاته فهي كما يلي

أ-غروره و طيشه:

لقد تولي الهادي الخلافة و هو في ريعان الشباب فدفعه ذلك الي التمادي في الغرور و الطيش،و من مظاهر ذلك انه كان اذا مشي مشت الشرطة بين يديه بالسيوف المشهورة و الاعمدة و القسي الموتورة (2)ليظهر بذلك أبهة الملك و السلطان،و العلو علي الناس.

ص: 457


1- خلاصة الذهب المسبوك(ص 75)
2- حضارة الاسلام في دار السلام(ص 84)
ب-لهوه و مجونه:

و كان موسي الهادي خليعا ماجنا،قد اقبل علي الدعارة و اللهو،فبذل الاموال الضخمة بسخاء علي شهواته و طربه،فقد اعطي ابراهيم الموصلي خمسين الف دينار لأنه غناه بثلاثة أبيات اطربته (1)و غناه بصوت فاطربه فوهب إليه ثلاثين الف دينار (2)و قد كلف بالغناء كلفا شديدا فصرف الكثير من خزينة الدولة علي المغنين،و قال اسحاق الموصلي:لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب (3).

و تهالك علي شرب الخمر فكان اول خليفة عباسي أغري بالخمر (4)و تبعه علي ذلك الرشيد (5)و سائر ملوك بني العباس من بعده.

ج-شراسته:

كان سيئ الخلق شرسا،يقول الجاحظ عنه:كان الهادي شكس الاخلاق صعب المرام،قليل الاغضاء،سيئ الظن،قلّ من توقاه،و عرف أخلاقه -إلا أغناه،و ما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال (6).

ص: 458


1- العصر العباسي(ص 128)
2- الاغاني 241/5
3- الاغاني 6/5
4- الجهشياري(ص 144)
5- الطبري 489/6،الاغاني 216/5
6- التاج في اخلاق الملوك(ص 35)
د-عداؤه للعلويين:

و بالغ هذا الطاغية المغرور في تنكيل العلويين و ارهاقهم فاذاع فيهم الخوف و الرعب،و قطع ما أجراه لهم المهدي من الارزاق و الاعطية،و كتب الي جميع الآفاق في طلبهم،و حملهم الي بغداد (1).

لقد قاسي العلويون في الفترة القصيرة من هذا الحكم الارهابي جميع الوان الاضطهاد و الجور،فقد امعنت السلطة في ظلمهم،و اذلالهم،و ارغامهم علي ما يكرهون،و هذا مما ادي الي انطلاقهم في ميادين الجهاد،و اعلانهم للثورة الكبري الهادفة الي انقاذ الامة من الجور و الطغيان،و هذا ما سنتحدث عنه.

كارثة فخ:

و افظع كارثة واجهها العالم الاسلامي هي مأساة(فخ)ففد ضارعت حادثة كربلاء في آلامها و شجونها،و قد تحدث الإمام الجواد عليه السلام عن مدي أثرها البالغ علي اهل البيت(ع)بقوله:

«لم يكن لنا بعد الطف مصرع اعظم من فخ» لقد انتهكت في هذه الكارثة الكبري حرمة النبي(ص)في عترته و ذريته،فقد اقترف العباسيون فيها عين ما اقترفه الامويون من الجرائم و الموبقات في مأساة كربلاء،فرفعوا رءوس العلويين علي اطراف الرماح و معها الاسري يطاف بها في الاقطار و الامصار،و تركوا الجثث الزواكي ملقاة علي أديم الارض من دون ان يخفوا الي مواراتها مبالغة منهم في التشفي

ص: 459


1- اليعقوبي 136/3

و الانتقام من آل البيت،و بذلك فقد حاكت رزية كربلاء بجميع فصولها المؤلمة.

و فيما يلي عرض موجز لبعض فصول تلك الكارثة،و بيان موقف الإمام موسي(ع)منها،و ما جري عليه:

الحسين الثائر العظيم:

اشارة

و الذي فجر الثورة علي الحكم العباسي هو الحسين بن علي،و قبل البحث عن ثورته نتحدث عن نسبه و نزعاته و صفاته:

أ-نسبه الوضاء:

أما نسبه الكريم فهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،و أمه زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) و كان يقال لزينب و زوجها علي بن الحسن«الزوج الصالح»لعبادتهما.

و لما قتل ابو جعفر المنصور اباها و اخاها،و عمومتها و بنيهم،و زوجها كانت تلبس المسوح،و لا تجعل بين جسدها،و بينها شعارا حتي لحقت باللّه عز و جل،و كانت تندب اهلها أفجع ندبة حتي يخشي عليها،و لا تذكر المنصور بسوء تحرجا من ذلك،و كراهة ان تشفي نفسها بما يؤثمها،و لا تزيد علي القول:«يا فاطر السماوات و الارض،يا عالم الغيب و الشهادة الحاكم بين عباده احكم بيننا و بين قومنا بالحق،و أنت خير الحاكمين».

و كانت ترقص ولدها الحسين في صغره و هي تتنبأ فيه ان يرفع علم الثورة علي العباسيين فكانت تقول له:

ص: 460

تعلم يا بن زيد و هند (1) كم لك بالبطحاء من معد

من خال صدق ماجد و جد (2)

ب-نشأته:

نشأ الحسين في بيت قد غمرته الآلام و الأحزان،و عمه الثكل و الحداد علي شهداء أسرته الذين أبادهم المنصور،فهو لم يشاهد في بيته سوي البكاء و الجزع،فانطوت نفسه علي حزن عميق و أسي مرير،فتحفز منذ نعومة اظفاره الي الأخذ بثأرهم،و مناجزة خصومهم.

ص: 461


1- هند:أم زينب،و هي بنت ابي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصير،و كانت قبل عبد اللّه بن الحسن زوجا الي عبد الملك بن مروان،فلما مات رجعت بميراثها منه،فقال عبد اللّه لامه فاطمة:اخطبي لي علي هند فعذلته،و قالت له: أ تطمع فيها،و أنت ترب لا مال لك،فتركها و مضي الي ابيها فخطبها منه فرحب به،و أجابه الي ذلك،و قال له:زوجتك،و لا تبرح، و دخل علي بنته فقال لها:يا بنية هذا عبد اللّه بن الحسن أتاك خاطبا فقالت له:ما قلت له؟فقال:قد زوجته،فأقرته علي ذلك،و دخل بها،و أمه لا تشعر بذلك،فأقام سبعا،و جاء الي أمه،و عليه درع الطيب و هو في غير ثيابه فقالت له أمه:يا بني من أين لك هذا؟فقال:من التي زعمت انها لا تريدني.الأغاني 209/18
2- مقاتل الطالبيين(ص 431-432)
ج-نزعاته الفذة:

و التقت بشخصية الحسين جميع الصفات الكريمة من العلم و التقوي و الورع و الصلاح،و الزهد في الدنيا،و كان من اسخياء عصره،و قد روي المؤرخون بوادر كثيرة من كرمه،و قد روي أبو الفرج عن الحسن بن هذيل، قال:

كنت اصحب الحسين بن علي صاحب فخ فقدم الي بغداد فباع ضيعة له بتسعة آلاف دينار فخرجنا فنزلنا(سوق اسد)فبسط لنا علي باب الخان،فأتي رجل معه سلة فقال له:مر الغلام يأخذ مني هذه السلة، فقال له:و ما أنت؟قال:أنا اصنع الطعام الطيب،فاذا نزل هذه القرية رجل من اهل المروءة اهديته إليه،قال:يا غلام خذ السلة منه،و عد إلينا لتأخذ سلتك،قال:ثم اقبل علينا رجل عليه ثياب رثة،فقال:

اعطوني مما رزقكم اللّه،فقال لي الحسين:ادفع إليه السلة،و قال له:

خذ ما فيها ورد الاناء،ثم اقبل،و قال:إذا رد السلة فادفع إليه خمسين دينارا،و إذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائة دينار،فقلت له:إبقاء مني عليه-جعلت فداك،بعت عينا لك،لتقضي دينا عليك فسألك سائل فاعطيته طعاما هو مقنع له،فلم ترض حتي أمرت له بخمسين دينارا،و جاءك رجل بطعام لعله يقدر فيه دينارا او دينارين،فأمرت له بمائة دينار، فقال:

يا حسن ان لنا ربا يعرف الحسنات،اذا جاء السائل فادفع إليه مائة دينار،و اذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائتي دينار،و الذي نفسي بيده إني لأخاف أن لا يقبل مني،لأن الذهب و الفضة و التراب عندي بمنزلة

ص: 462

واحدة(1).

انها نفوس كريمة تحمل نفحات من روح جدهم الرسول(ص) الذي جاء لاسعاد الناس،و رفع الشقاء عنهم.

و روي الحسن بن هذيل قال:بعت للحسين بن علي حائطا باربعين الف دينار فنثرها علي بابه،فما دخل الي اهله منها حبة،كان يعطيني كفا كفا فاذهب به الي فقراء اهل المدينة(2).

انه معدن من معادن المعروف و الاحسان،فلم ير للمال قيمة سوي ما يرد به جوع جائع او يكسو به عاريا،شأنه شأن آبائه الذين أفاضوا البر و الخير علي جميع الناس.

ما أثر عن النبي فيه:

و أثر عن النبي(ص)انه اجتاز بفخ فصلي باصحابه صلاة الجنازة ثم قال:يقتل هاهنا رجل من اهل بيتي في عصابة من المؤمنين،ينزل لهم بأكفان و حنوط من الجنة،تسبق ارواحهم أجسادهم الي الجنة(3).

و روي محمد بن اسحاق عن ابي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال:

مر النبي(ص)بفخ فنزل فصلي ركعة،فلما صلي الثانية بكي،و هو في الصلاة فلما رأي الناس النبي(ص)يبكي بكوا،فلما انصرف قال:ما يبكيكم؟قالوا:لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول اللّه،قال:نزل علي جبرئيل لما صليت الركعة الأولي،فقال:يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان،و أجر الشهيد معه اجر شهيدين(4).

ما أثر عن الامام الصادق فيه:

و روي النضر قال:اكريت جعفر بن محمد من المدينة الي مكة،فلما ارتحلنا من بطن مر،قال لي:يا نضر اذا انتهيت الي فخ فاعلمني

ص: 463


1- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
2- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
3- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
4- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)

قلت له:

-أ لست تعرفه؟ -بلي و لكن اخشي ان تغلبني عيني قال نضر:فلما انتهينا الي فخ دنوت من المحمل فاذا هو نائم فتنحنحت فلم يتنبه،فحركت المحمل فجلس،فقلت له:قد بلغت،فقال:حل محملي فحللته،ثم قال:صل القطار فوصلته،ثم تنحيت به عن الجادة فانخت بعيره فقال:ناولني الإداوة،و الركوة،فتوضأ و صلي ثم ركب فقلت:جعلت فداك،رأيتك قد صنعت شيئا أ هو من مناسك الحج؟ قال:لا و لكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق ارواحهم اجسادهم الي الجنة (1)

السبب في ثورته:

و اجمع المؤرخون علي أن السبب في ثورة الحسين العظيم يعود الي ما عاناه من الضغط الهائل و الجور الشديد،فقد استعمل موسي الهادي واليا علي يثرب عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب (2)،و كان فظا غليظ القلب شرس الاخلاق قد عرف بالنصب و العداء للامام امير المؤمنين(ع) و قد بالغ الاثيم في اذلال العلويين و ظلمهم،فألزمهم بالمثول عنده في كل يوم،و فرض عليهم الرقابة الشخصية فجعل كل واحد منهم يكفل

ص: 464


1- مقاتل الطالبيين(ص 437)
2- الكامل 74/5،و في مقاتل الطالبيين(ص 243)ان موسي الهادي ولي المدينة اسحاق بن عيسي بن علي فاستخلف عليها رجلا من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبد اللّه.

صاحبه بالحضور عنده،و قبضت شرطته علي كل من الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن،و مسلم بن جندب،و عمر بن سلام،و ادعت الشرطة انها وجدتهم علي شراب فامر بضربهم فضرب الحسن ثمانين سوطا،و ابن جندب خمسة عشر سوطا،و ابن سلام سبعة اسواط،و جعل في اعناقهم حبالا،و أمر ان يطاف بهم في شوارع يثرب ليفضحهم،فبعثت إليه الهاشمية صاحبة الراية السوداء في ايام محمد بن عبد اللّه فقالت له:لا و لا كرامة لا تشهر احدا من بني هاشم،و تشنع عليهم و أنت ظالم،فكف عن ذلك،و خلي سبيلهم.

و ولي العمري علي الطالبيين رجلا يعرف بأبي بكر بن عيسي الحائك مولي الانصار فعرضهم يوم الجمعة،و لم يأذن لهم بالانصراف الي منازلهم حتي حضر وقت الصلاة فالحوا عليه في اداء الفريضة فاذن لهم بعد جهد، و بعد ادائها حبسهم في المقصورة الي العصر لا لشيء سوي أن يتقرب الي العمري بذلك.

ثم انه عرضهم و دعا بالحسن بن محمد فلم يحضر،فقال ليحيي و الحسين ابن علي:

«لتأتياني به أو لأحبسنكما،فقد تغيب عن العرض ثلاثة أيام؟..» فرداه ردا حفيا الا انه لم يجد مع هذا الوغد حتي اضطر يحيي الي مقابلته بالمثل،فخرج مغضبا الي العمري فاخبره بالامر فأمر باحضارهما فلما مثلا عنده اخذ يتهدد و يتوعد،فضحك الحسين من منطقه الهزيل و قال له باستهزاء و سخرية:

«أنت مغضب يا ابا حفص؟!!» فثار العمري و استاء منه لأنه كناه و لم يلقبه بالولاية و الامرة قائلا:

«أ تهزأ بي و تخاطبني بكنيتي؟»

ص: 465

فانبري إليه الحسين فسدد له سهما من بليغ منطقه قائلا:

«قد كان أبو بكر و عمر و هما خير منك يخاطبان بالكني فلا ينكران ذلك،و أنت تكره الكنية و تريد المخاطبة بالولاية!!» فثار العمري و لم يملك صوابه قائلا:

«آخر قولك شر من أوله» -معاذ اللّه،يأبي اللّه لي ذلك و ما أنا منه!! -أ فانما ادخلتك علي لتفاخرني و تؤذيني؟ و غضب يحيي من اعتدائه الصارخ علي الحسين فقال له:

-ما تريد منا؟ -اريد ان تأتياني بالحسن بن محمد -لا نقدر عليه هو في بعض ما يكون فيه الناس فابعث الي آل عمر ابن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا،ثم اعرضهم رجلا رجلا فاذا لم تجد فيهم من قد غاب اكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا..

ففقد العمري صوابه و راح يحلف بطلاق زوجته و حرية مماليكه أن لا يخلي عن الحسين حتي يأتيه بالحسن في باقي يومه و ليلته فان فعل فذاك و إلا فيركب الي«سويقة» (1)فيخربها و يحرقها،و يضربه الف سوط، و ان ظفر بالحسن ليهريق دمه،فوثب إليه يحيي و هو لا يبصر طريقه من الاستياء و قد عزم علي الثورة و مناجزة تلك الحكومة قائلا:

«أنا اعطي اللّه عهدا،و كل مملوك لي حر إن ذقت الليلة نوما حتي آتيك بالحسن بن محمد،أو لا اجده فأضرب عليك بابك حتي تعلم اني قد جئتك»./5

ص: 466


1- سويقة:منزل لبني الحسن يقع بالقرب من المدينة،و هو من جملة صدقات الامام امير المؤمنين(ع)معجم البلدان 18/5

و خرجا منه و هما مغيظان قد لذعهما جفاؤه و التفت الحسين الي يحيي منددا بما اعطاه من العهد للعمري باحضار الحسن قائلا:

«بئس لعمر اللّه ما صنعت حين تحلف لتأتينه به،و أين تجد حسنا» فاخبره انه قد واري في كلامه و انه يقصد القيام بوجهه قائلا:

«لم أرد ان آتيه بالحسن و اللّه،و إلا فانا نفي من رسول اللّه(ص) و من علي(ع)،بل اردت ان دخل عيني نوم حتي اضرب عليه بابه و معي السيف إن قدرت عليه قتلته..» و التقي الحسين بالحسن فقال له:

«يا بن عمي،قد بلغك ما كان بيني و بين هذا الفاسق،فامض حيث احببت».

-لا،و اللّه،يا ابن عمي،بل أجيء معك الساعة حتي اضع يدي في يده ما كان اللّه ليطلع علي و أنا جاء الي محمد(ص)و هو خصمي و حجيجي في دمك،و لكن أقيك بنفسي لعل اللّه يقيني من النار..» و تمثل الشرف و النبل بهذه الكلمات التي تنم عن نفس لم تعرف الخيانة و الغدر،و لم يدنسها حب الحياة.

و اجتمع العلويون و من يمت إليهم من المؤمنين و الصالحين فتذاكروا ما قابلهم العمري من الصلافة فصمموا علي أن يهجموا عليه داره،فاقتحموا عليه الدار فولي الجبان هاربا بصورة مخزية ثم قال يحيي:

«هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري،و إلا و اللّه خرجت من يميني».

و هذه البادرة هي السبب في ثورة الحسين و انتفاضته فقد ألجأته السلطة الحمقاء الي القيام بوجهها فانه رأي أما أن يرضخ الي الذل و الخنوع الأمر الذي يأباه العلويون الذين رسموا الاباء و العز في دنيا العرب و الاسلام،و أما

ص: 467

الموت في سبيل الكرامة،التي هي شعار العلويين حتي قالوا:«ما كره قوم حر الجلاد إلا ذلوا».

و اختار الحسين طريق الكفاح و النضال فصمم مع الصفوة من اهل بيته علي الموت تحت ظلال الأسنة أحرارا كراما.

شهادته:

و رفع الحسين راية الثورة و اعلن الجهاد المقدس فالتحق به الطالبيون و لم يتخلف عنه إلا نفر يسير،و أقبل بموكبه الجهير الي الامام موسي يستشيره في ثورته فلما استقر به المجلس عرض فكرته علي الامام فالتفت(ع) إليه قائلا:

«انك مقتول فأحدّ الضراب،فان القوم فساق يظهرون إيمانا، و يضمرون نفاقا و شركا،فانا للّه و إنا إليه راجعون،و عند اللّه احتسبكم من عصبة».

لقد رأي الامام(ع)ان الحركة لا بد ان تفشل و يذهب العلويون ضحية العدوان الغادر،و لكن الحسين لم يجد بدا من الثورة لما ناله من الضيم و الهوان،فقام من عند الامام و جمع الناس فصلي بهم و بعد الفراغ من الصلاة قام خطيبا بين الناس فقال بعد حمد اللّه و الثناء عليه:

«أنا ابن رسول اللّه،و في حرم رسول اللّه أدعوكم الي سنة رسول اللّه(ص) (1)أيها الناس أ تطلبون آثار رسول اللّه(ص)في الحجر

ص: 468


1- ذكر الطبري في تأريخه ان الحسين قال في آخر خطابه«أدعوكم الي كتاب اللّه،و سنة نبيه.فان لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في اعناقكم»

و العود،و تضيعون بضعة منه» (1).

و لما انتهي خطابه الرائع اقبلت إليه الجماهير تبايعه علي كتاب اللّه و سنة نبيه،و الدعوة للرضا من آل محمد(ص) (2)و قيل أنه قال لمن بايعه:

«أبايعكم علي كتاب اللّه،و سنة رسول اللّه و علي ان يطاع اللّه و لا يعصي،و أدعوكم الي الرضا من آل محمد،و علي ان نعمل فيكم بكتاب اللّه و سنة نبيه(ص)و العدل في الرعية،و القسم بالسوية،و علي أن تقيموا معنا و تجاهدوا عدونا،فان نحن وفينا لكم وفيتم لنا،و إن نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم» (3).

و دل هذا الخطاب علي ما ينشده في ثورته الاصلاحية من تحقيق العدالة الاجتماعية و رفع مستوي الحياة،و تطبيق احكام القرآن،و إقامة عدل الاسلام.

و بعد ما بايعه الناس خرج قاصدا الي مكة قد احتف به أهل بيته و اصحابه البالغ عددهم زهاء ثلاثمائة رجل،و استخلف علي يثرب واليا من قبله دينار الخزاعي،و اخذ يجد في مسيره حتي انتهي الي«فخ»فعسكر فيه،و لحقته الجيوش العباسية بقيادة العباس بن محمد،و موسي بن عيسي فالتقي الجيشان يوم التروية وقت صلاة الصبح فحملت جيوش البغي و الضلال علي تلك القلة المؤمنة التي لا هدف لها إلا انقاذ المجتمع من ايدي الطغمة الحاكمة التي عاثت في الارض فسادا.

و بعد صراع رهيب بين قوي الحق و البغي قتل الحسين بسهم غادر رماه0)

ص: 469


1- المقاتل:(ص 484)
2- الطبري(ج 10 ص 25)
3- المقاتل:(ص 490)

به حماد التركي الوغد الأثيم،و استشهد اكثر اصحاب الحسين،و حزت رءوسهم (1)و حملت الي الخليفة العباسي و عمدت الجيوش العباسية التي لم تعرف الشرف و الانسانية،الي دفن اصحابهم الفجرة و تركوا الحسين و اصحابه الأحرار مجزرين كالاضاحي لا مغسلين و لا مكفنين،و أبردت برءوسهم الي موسي ابن عيسي و كان في مجلسه جماعة من العلويين في طليعتهم الامام موسي(ع) فلما رآها الامام هاله منظرها المؤلم الحزين فاندفع(ع)يؤبن الحسين و يصوغ من حزنه و لوعته كلمات قائلا:

«إنا للّه،و انا إليه راجعون،مضي و اللّه مسلما صالحا،صواما، قواما،آمرا بالمعروف،ناهيا عن المنكر،ما كان في اهل بيته مثله..» (2)لقد كان قتل الحسين من الأحداث الكبار في ذلك العصر فقد احدث صدعا في الاسلام أي صدع فانتهكت في قتله حرمة النبي(ص)التي هي احق الحرمات بالرعاية،و قد اندفع شعراء الشيعة يبكون علي مصرعه أمر البكاء،و يندبونه باشجي ندبة فممن رثاه عيسي بن عبد اللّه بقوله:

فلأبكين علي الحسين بعولة و علي الحسن (3)

و علي ابن عاتكة الذي أثووه ليس له كفن (4)

تركوا بفخ غدوة في غير منزلة الوطن7)

ص: 470


1- ذكر الطبري في تأريخه(ج 10 ص 28)ان عدد الرءوس التي احتزت كانت مائة و نيفا.
2- المقاتل:(ص 453)
3- هو الحسن بن محمد بن الحسن السبط(ع)و قد أسر في الواقعة و ضربت عنقه صبرا.
4- ابن عاتكة:هو عبد اللّه بن اسحاق بن الحسن المثني كما في الاستقصاء(ج 1 ص 67)

كانوا كراما قتلوا لا طائشين و لا جبن

غسلوا المذلة عنهم غسل الثياب من الدرن

هدي العباد بجدهم فلهم علي الناس المنن (1)

و رثاه شاعر آخر بقصيدة جاء فيها:

يا عين ابكي بدمع منك منهتن (2) فقد رأيت الذي لاقي بنو حسن

صرعي بفخ تجر الريح فوقهم أذيالها و غوادي الدلج المزن

حتي عفت أعظم لو كان شاهدها محمد ذب عنها ثم لم تهن (3)

ما ذا يقولون و الماضون قبلهم علي العداوة و البغضاء و الاحن

ما ذا يقولون:ان قال النبي لهم ما ذا صنعتم بنا في سالف الزمن

لا الناس من مضر حاموا و لا غضبوا و لا ربيعة و الاحياء من يمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرما و قد رعي الفيل حق البيت ذي الركن (4)

لقد كان مصرع الحسين الشهيد من الاحداث الجسام في الاسلام،فقد ترك ألما ممضا في نفوس المسلمين يذكرونه بكثير من الأسي و الشجون.

وصول الأسري الي الهادي:

و أرسلت رءوس الأبرار الطاهرين الي الطاغية الهادي،و معها الأسري و قد قيدوا بالحبال و السلاسل،و وضعوا في أيديهم و أرجلهم الحديد قد خيم عليهم الذل و الهوان،و أمر الطاغية الأثيم بقتلهم،فقتلوا صبرا،و صلبوا علي

ص: 471


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 248-249)
2- في معجم البلدان(منك منهمر).
3- في المعجم(ثم لم يهن)
4- مقاتل الطالبيين(ص 460)

باب الحبس (1)و كان من الأسري رجل انهكته العلة،فقال للهادي يستعطفه:

«أنا مولاك يا أمير المؤمنين» فصاح به الهادي،و قال:مولاي يخرج علي؟و كان مع موسي سكين فقال:و اللّه لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا و مكث الرجل ساعة فغلبت عليه العلة فمات حتف أنفه (2).

و وضعت رءوس العلويين بين يدي الطاغية فجعل يترنم بهذه الابيات:

بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعد ما دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله فيقبل ضيما أو يحكم قاضيا

و لكن حكم السيف فيكم مسلط فنرضي اذا ما اصبح السيف راضيا

فان قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ظلمنا و لكنا أسأنا التقاضيا (3)

و دل هذا الشعر علي غروره و طيشه،و روحه الانتقامية التي لم تألف الرحمة و الرأفة.

تهديده للامام موسي:

و لما استأصل موسي الهادي شأفة العلويين،أخذ يتوعد الاحياء منهم بالقتل و الدمار،و قد ذكر عميدهم و سيدهم الامام موسي(ع)فقال:

«و اللّه ما خرج حسين الا عن امره،و لا اتبع الا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني اللّه ان أبقيت عليه»

ص: 472


1- تأريخ الطبري 29/10
2- مقاتل الطالبيين(ص 453)
3- معجم البلدان 308/6

و أضاف يقول في تهديده:«و لو لا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر-يعني الامام الصادق(ع)-من الفضل المبرز عن أهله في دينه،و عمله و فضله،و ما بلغني من السفاح فيه من تعريضه و تفضيله،لنبشت قبره و أحرقته بالنار احراقا».

و كان في مجلسه القاضي أبو يوسف،فانبري إليه قائلا:

«نساؤه طوالق،و عتق جميع ما يملك من الرقيق،و تصدق جميع ما يملك من المال،و حبس دوابه،و عليه المشي الي بيت اللّه إن كان مذهب موسي ابن جعفر الخروج،و لا يذهب إليه،و لا مذهب أحد من ولده و لا ينبغي أن يكون هذا منهم».

و لم يزل يلطف به،حتي سكن غضبه (1)و دل هذا الموقف الكريم علي نبل أبي يوسف و شرفه.

استهزاء الامام به:

و انتهي تهديد الهادي الي الامام(ع)فخف إليه أهل بيته و أصحابه مسرعين فزعين قد استولي عليهم الرعب،فأشاروا مجمعين علي الامام ان يختفي ليسلم من شر هذا الطاغية،فتبسم(ع)لأنه قد استشف من وراء الغيب هلاك هذا الباغي و تمثل(ع)بقول كعب بن مالك (2):

ص: 473


1- بحار الأنوار 278/11
2- كعب بن مالك بن أبي كعب الخزرجي شاعر رسول اللّه(ص) و أحد السبعين الذين بايعوه بالعقبة،و شهد المشاهد كلها سوي واقعة بدر و هو القائل: و ببئر بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا و محمد و قال في مدح بني هاشم: يا هاشما ان الإله حباكم ما ليس يبلغه اللسان المفصل قوم لأصلهم السيادة كلها قدما و فرعهم النبي المرسل بيض الوجوه تري بطون اكفهم تندي اذا غبر الزمان الممحل توفي في خلافة الامام امير المؤمنين(ع)بعد أن كف بصره،معجم الشعراء(ص 342)

زعمت سخينة (1)أن ستغلب ربها و ليغلبن مغالب الغلاب

و أنشد بيتا آخر:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ابشر بطول سلامة يا مربع

و دل ذلك علي سخريته البالغة بتهديد الهادي له،فقد علم(ع)ان اللّه سيقصم ظهره قبل أن يناله بسوء و مكروه.

دعاؤه عليه:

و أقبل الامام موسي(ع)نحو القبلة،و أخذ يتضرع الي اللّه،و يتوسل إليه لينجيه من شر هذا الطاغية،و قد دعا بهذا الدعاء الجليل:

«إلهي:كم من عدو انتضي علي سيف عداوته،و شحذ لي ظبة مديته و أرهف لي شباحده،و داف لي قواتل سمومه،و سدد نحوي صوائب سهامه،و لم تنم عني عين حراسته،و أضمر أن يسومني المكروه،و يجرعني ذعاف مرارته،فنظرت الي ضعفي عن احتمال الفوادح،و عجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته،و وحدتي في كثير من ناواني،و ارصادهم

ص: 474


1- سخينة:طعام يتخذ من الدقيق كانت قريش تعير به حتي صار لقبا لها.

لي فيما لم أعمل فيه فكري في الارصاد لهم بمثله،فأيدتني بقوتك،و شددت أزري بنصرك،و فللت لي شباحده،و خذلته بعد جمع عديده و حشده، و أعليت كعبي عليه،و وجهت ما سدد إلي من مكائده إليه،و رددته،و لم يشف غليله،و لم تبرد حرارات غيظه،و قد عض علي أنامله،و أدبر موليا قد أخفقت سراياه فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين،و لآلائك من الذاكرين.

إلهي:و كم من باغ بغاني بمكائده،و نصب لي أشراك مصائده،و وكل بي تفقد رعايته،و أضبأ إلي اضباء السبع لطريدته انتظارا لانتهاز فرصته، و هو يظهر لي بشاشة الملق،و يبسط لي وجها غير طلق فلما رأيت دغل سريرته،و قبح ما انطوي عليه بشريكه في صلبه،و اصبح مجلبا إلي في بغيه اركسته لأم رأسه و أثنيت بنيانه من أساسه فصرعته في زبيته و أرديته في مهوي حفرته،و رميته بحجره و خنقته بوتره و ذكيته بمشاقصته و كبيته بخنجره و رددت كيده في نحره،و ربقته بندامته،و فتنته بحسرته فاستخدم و استخذأ و تضاءل بعد نخوته،و انقمع بعد استطالته ذليلا مأسورا في ربق حبائله التي كان يؤمل أن يراني فيها يوم سطوته و قد كدت لو لا رحمتك تحل بي ما حل بساحته فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي:و كم من حاسد شرق بحسده و شجا بغيظه،و سلقني بحد لسانه و وخزني بمؤق عينه،و جعل عرضي غرضا لمراميه،و قلدني خلالا لم يزل فيه،فناديتك يا رب مستجيرا بك،واثقا بسرعة اجابتك متوكلا علي ما لم ازل اعرفه من حسن دفاعك عالما أنه لم يضطهد من آوي الي ظل كنفك و أن لا تفزع الفوادح من لجأ الي معقل الانتصار بك،و حصنتني من باسه

ص: 475

بقدرتك فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل، صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لانعمك من الشاكرين،و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من سحائب مكروه قد جليتها،و سماء نعمة أمطرتها و جداول كرامة أجريتها،و أعين أحداث طمستها،و ناشئة رحمة نشرتها و جنة عافية ألبستها،و غوامر كربات كشفتها،و أمور جارية قدرتها إذ لم يعجزك إذ طلبتها،و لم تمتنع عليك اذ أردتها فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب، و ذي أناة لا يعجل،صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من ظن حسن حققت و من عدم املاق جبرت،و من مسكنة فادحة حولت،و من صرعة مهلكة انعشت،و من مشقة ازحت لا تسأل يا سيدي عما تفعل،و هم يسألون،و لا ينقصك ما انفقت و لقد سألت فأعطيت و لم تسأل فابتدأت و استميح باب فضلك فما أكديت،أبيت إلا انعاما و امتنانا و الا تطولا يا رب و احسانا و أبيت يا رب إلا انتهاكا لحرماتك و اجتراء علي معاصيك و تعديا لحدودك و غفلة عن وعيدك و طاعة لعدوي و عدوك لم يمنعك يا إلهي و ناصري اخلالي بالشكر عن اتمام احسانك،و لا حجزني ذلك عن ارتكاب مساخطك،اللهم:فهذا مقام عبد ذليل اعترف لك بالتوحيد و أقر علي نفسه بالتقصير في اداء حقك و شهد لك بسبوغ نعمتك عليه،و جميل عاداتك عنده و احسانك إليه،فهب لي يا إلهي و سيدي من فضلك ما أريده سببا الي رحمتك و اتخذه سلما اعرج فيه الي مرضاتك و آمن به من سخطك بعزتك و طولك و بحق محمد نبيك و الأئمة صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين،فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك

ص: 476

من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد أمسي و أصبح في كرب الموت و حشرجة الصدر و النظر الي ما تقشعر منه الجلود و تفزع إليه القلوب و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد أمسي سقيما موجعا مدنفا من انين و عويل يتقلب في غمه و لا يجد محيصا و لا يسيغ طعاما و لا يستعذب شرابا و لا يستطيع ضرا و لا نفعا و هو في حسرة و ندامة و أنا في صحة من البدن و سلامة من العيش كل ذلك منك،صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين، و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح خائفا مرعوبا مسهدا مشققا وحيدا و جاهلا هاربا طريدا او منحجزا في مضيق او مخبأة من المخابئ قد ضاقت عليه الأرض برحبها فلا يجد حيلة و لا منجا و لا مأوي و لا مهربا و أنا في أمن و امان و طمأنينة و عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و سيدي كم من عبد امسي و أصبح مغلولا مكبلا بالحديد بأيدي العداة لا يرحمونه فقيدا من بلده و ولده و اهله منقطعا عن اخوانه يتوقع كل ساعة بأية قتلة يقتل او بأي مثلة يمثل و أنا في عافية من ذلك كله فلك الحمد من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح يقاسي الحرب و مباشرة القتال بنفسه قد غشيته الاعداء من كل جانب و السيوف و الرماح و آلة الحرب

ص: 477

يتقعقع في الحديد مبلغ مجهوده و لا يعرف حيلة و لا يهتدي سبيلا و لا يجد مهربا و قد ادنف بالجراحات او متشحطا بدمه تحت السنابك و الأرجل يتمني شربة من ماء او نظرة الي أهله و ولده لا يقدر عليها و أنا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح في ظلمات البحر و عواصف الرياح و الأهوال و الأمواج يتوقع الغرق و الهلاك لا يقدر علي حيلة او مبتلي بصاعقة أو هدم او حرق او شرق او خسف او مسخ او قذف و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين إلهي و كم من عبد امسي و اصبح مسافرا شاحطا عن اهله و وطنه و ولده متحيرا في المفاوز تائها مع الوحوش و البهائم و الهوام وحيدا فريدا لا يعرف حيلة و لا يهتدي سبيلا أو متأذيا ببرد أو حر او جوع او عري أو غيره من الشدائد مما أنا منه خلو و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح فقيرا عائلا عاريا مملقا مخفقا مهجورا جائعا خائفا ضمآنا ينتظر من يعود عليه بفضل،او عبد وجيه هو أوجه مني عندك او اشد عبادة لك مغلولا مقهورا قد حمل ثقلا من تعب العناء و شدة العبودية و كلفة الرق و ثقل الضريبة او مبتلي ببلاء شديد لا قبل له به إلا بمنك عليه و انا المخدوم المنعم المعافي المكرم في عافية مما هو فيه فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

ص: 478

إلهي و سيدي و مولاي و كم من عبد امسي و اصبح شريدا طريدا متحيرا جائعا خائفا حاسرا في الصحاري و البراري احرقه الحر و البرد و هو في ضر من العيش و ظنك من الحياة و ذل من المقام ينظر الي نفسه حسرة لا يقدر علي ضر و لا نفع و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله الا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين يا مالك الراحمين مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح عليلا مريضا سقيما مدنفا علي فرش العلة و في لباسها يتقلب يمينا و شمالا لا يعرف شيئا من لذة الطعام و لا من لذة الشراب ينظر الي نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد دنا من حتفه و قد احدق به ملك الموت في اعوانه يعالج سكرات الموت و حياضه،تدور عيناه يمينا و شمالا لا ينظر الي احبائه و اودائه و اخلائه قد منع عن الكلام و حجب عن الخطاب ينظر الي نفسه حسرة فلا يستطيع لها نفعا و لا ضرا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح في مضايق الحبوس و السجون و كربها و ذلها و حديدها يتداوله اعوانها و زبانيتها فلا يدري اي حال يفعل به و اي مثلة يمثل به فهو في ضر من العيش و ضنك من الحياة ينظر الي

ص: 479

نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و أنا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد استمر عليه القضاء و احدق به البلاء و فارق أوداءه و احباءه و اخلاءه و امسي حقيرا اسيرا ذليلا في ايدي الكفار و الأعداء يتداولونه يمينا و شمالا قد حصر في المطامير و ثقل بالحديد لا يري شيئا من ضياء الدنيا و لا من روحها ينظر الي نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد اشتاق الي الدنيا للرغبة فيها الي ان خاطر بنفسه و ماله حرصا منه عليها قد ركب الفلك و كسرت به و هو في آفاق البحار و ظلمها ينظر الي نفسه حسرة لا يقدر لها علي ضر و لا نفع و أنا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد استمر عليه القضاء و احدق به البلاء و الكفار و الأعداء و اخذته الرماح و السيوف و السهام و جندل صريعا قد شربت الأرض من دمه و اكلت السباع و الطيور من لحمه و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك لا باستحقاق مني يا لا إله إلا أنت

ص: 480

سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

و عزتك يا كريم لاطلبن مما لديك و لألحن عليك و لألجأن إليك و لأمدن يدي نحوك مع جرمها إليك فبمن اعوذ يا رب و بمن ألوذ،لا احد لي إلا أنت أ فتردني و أنت معولي و عليك معتمدي و أسألك باسمك الذي وضعته علي السماء فاستقلت و علي الجبال فرست و علي الأرض فاستقرت و علي الليل فاظلم و علي النهار فاستنار ان تصلي علي محمد و آل محمد و ان تقضي لي جميع حوائجي و تغفر لي ذنوبي كلها صغيرها و كبيرها و توسع علي من الرزق ما تبلغني به شرف الدنيا و الآخرة يا ارحم الراحمين.

مولاي بك استغثت فصل علي محمد و آل محمد و اغثني و بك استجرت و اغنني بطاعتك عن طاعة عبادك و بمسألتك عن مسألة خلقك و انقلني من ذل الفقر الي عز الغني و من ذل المعاصي الي عز الطاعة فقد فضلتني علي كثير من خلقك جودا و كرما لا باستحقاق مني.

إلهي فلك الحمد علي ذلك كله صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين» (1).

و بعد فراغ الامام(ع)من دعائه الشريف التفت الي اصحابه يهدأدر

ص: 481


1- يعرف هذا الدعاء بدعاء الجوشن الصغير،و قد ذكره السيد ابن طاوس في مهج الدعوات(ص 220-427)و الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان نقلا عن الكفعمي في هامش كتاب البلد الأمين،و ذكره ابن شهر اشوب في المناقب،و قد اختلفت نسخ الدعاء في هذه المصادر

روعهم،و يفيض عليهم قبسا من علمه المستمد من علم جده الرسول(ص) قائلا:

«ليفرج روعكم فانه لا يأتي أول كتاب من العراق إلا بموت موسي الهادي».

فانبروا يطلبون منه ان يكشف لهم الحجاب قائلين:

«و ما ذاك اصلحك اللّه؟» «و حرمة صاحب هذا القبر-و أشار الي قبر النبي(ص)-قد مات موسي الهادي من يومه هذا،و اللّه إنه لحق مثل ما انكم تنطقون..» فتفرق القوم و هم ينتظرون بفارغ الصبر ورود البريد من العراق فما كان باسرع من أن وافاهم و هو يحمل لهم البشري بهلاك الطاغية،و قد نظم بعض اهل البيت هذه الكرامة التي جرت علي يد الامام بقوله:

و سارية لم تسر في الأرض تبتغي محلا و لم يقطع بها البعد قاطع (1)

سرت حيث لم تحد الركاب و لم تنخ محلا و لم يقصر لها البعد مانع

تمر وراء الليل و الليل ضارب بجثمانه فيه سمير و هاجع

تفتح أبواب السماء و دونها اذا قرع الأبواب منهن قارع

اذا وردت لم يردد اللّه وفدها علي أهلها و اللّه راء و سامع

و إني لأرجو اللّه حتي كأنما أري بجميل الظن ما هو صانع (2)8)

ص: 482


1- و سارية:اي رب سارية اخذت من السري و هو السير بالليل و المراد رب دعوة لم تجر في الأرض بل صعدت الي السماء فلم يقطعها قاطع لبعد المسافة فصعدت الي اللّه فاستجاب الدعاء و انتقم من الظالمين.
2- المناقب:(ج 2 ص 378)

هلاك موسي الهادي:

و استجاب اللّه دعاء وليه العبد الصالح فأهلك عدوه الطاغية الجبار فاراح العباد و البلاد من شره،و جوره،أما سبب وفاته فتعزوه بعض المصادر الي ؟كانت في جوفه فهلك منها (1)و صرحت اكثر المصادر أن أمه الخيزران غضبت عليه لأنه قطع نفوذها لقصة مشهورة و انها خافت منه علي ولدها هارون الذي كان أحب إليها من الدنيا و من فيها (2)فأوعزت الي جواريها بخنقه،فعمدت الجواري الي قتله و هو نائم (3)و مهما يكن من أمر فقد انطوت صفحة هذا الطاغية،و لم تطل أيامه فقد كانت خلافته سنة و بضعة اشهر،و لكنها كانت مجهدة و ثقيلة علي المسلمين فقد واجهوا فيها اعنف المشاكل و اكثرها محنة و صعوبة،فقد رءوا رءوس ابناء النبي علي الرماح يطاف بها في الأقطار و الأمصار،و اسراهم يقتلون و يصلبون،لم ترع فيهم حرمة الرسول الأعظم(ص)و لا حرمة الاسلام الذي فرض ودهم علي جميع المسلمين.

و مما زاد في محنة المسلمين و عنائهم ان موسي الهادي اقبل علي اللهو و العبث و المجون و اخذ يصرف الخزينة المركزية علي شهواته،و يهب أضخم الأموال للمغنين غير حافل بما الزم به الاسلام من الاحتياط الشديد في اموال المسلمين،و حرمة صرفها في غير صالحهم و تطورهم الاقتصادي.

لقد رأي الامام موسي(ع)تلك الأحداث الجسام،و رافق كثيرا

ص: 483


1- الطبري:(ج 10 ص 33)
2- الطبري:36/10
3- الجهشياري(ص 175)،اليعقوبي 138/3

من مآسيها فزادته عناء و جهدا،فقد رأي الحق مضاعا،و العدل مجافي و لم يكن هناك أي ظل للحياة الاسلامية،فقد خالفت السلطات الحاكمة آنذاك جميع ما أثر عن الاسلام في عالم السياسة و الاقتصاد و الادارة الي هنا ينتهي بنا الحديث في هذه«الحلقة الأولي»من هذا الكتاب و نلتقي مع القراء في«الحلقة الثانية»فنقدم لهم عرضا شاملا لبعض شئون الامام و احواله.

ص: 484

المجلد 2

اشارة

حياة الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ، دراسة و تحليل

باقر شريف قرشي

دارالبلاغة - بيروت - لبنان

مشخصات: 2ج

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الثاني

مقدمة الطبعة الثانية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إن الكاتب مهما أوتي من لباقة و براعة،و اطلاع وافر في علم النفس و الاجتماع و غيرهما مما يستطيع به تحليل الواقع النفسي،و الكشف عن ابعاد الشخصية،و اعطاء صورة حية عن عناصر تربيتها و سلوكها...فانه مهما بلغ من التفوق في هذا المجال فلا يستطيع بصورة جازمة أن يلم بواقع أئمة أهل البيت(ع)و يكشف عن ابعاد حياتهم،أو يحلل نزعاتهم،و يحيط بما لهم من ظواهر ذاتية.

لا نقول:ذلك مدفوعين بدافع الغلو أو الافراط في الحب،و انما الواقع يمليه علينا،و يقرنا عليه ما أثر عنهم من النزعات الفذة المتميزة في سلوكهم الشخصي و الاجتماعي،و الذي بلغوا به أعلي مستويات الانسانية...

فهذه ظاهرة من نزعات الامام موسي عليه السلام و هي الصبر علي المحن و الخطوب فقد بلغ بها مبلغا يستحيل علي الكاتب ان يكشف واقعها أو يلم بحقيقتها...فقد اعتقل هذا الامام العظيم في ظلمات السجون حفنة من السنين،و قد حجبته السلطة عن جميع الناس و لم تسمح لاحد بمقابلته، فلم يؤثر عنه انه ضجر أو سأم أو حن الي الأهل و الوطن،و انما اتخذ ذلك من ضروب النعم الكبري التي تستحق الشكر لأنه كان في سبيل الدفاع عن الدين،و حماية مبادئه،فعكف و هو في السجن علي عبادة اللّه صائما نهاره قائما ليله،و هو جذلان مسرور بهذه المناجاة،و بهذا الاتصال الروحي باللّه تعالي.

ص: 5

بأي تعليل وثيق يعلل به هذا الصبر؟ إنه لم يكن هناك تعليل منطقي له سوي الايمان العميق باللّه الذي بلغ به الامام أسمي مراتبه.

و ظاهرة أخري من نزعاته الكريمة و هي الصمود في وجه الظلم و الطغيان و انطلاقه في ميادين الجهاد المقدس،و هو يحمل لواء المعارضة علي حكام عصره الذين استباحوا جميع ما حرم اللّه،و استبدوا بأرزاق الأمة و حقوقها و استهانوا بكرامة الاسلام..فلم يؤثر عن الكثيرين منهم انهم قاموا بعمل ايجابي في صالح المجتمع الاسلامي أو ساهموا في بناء الحركة الفكرية و الاجتماعية أو ساروا في سياستهم علي ضوء ما يهدف إليه الاسلام في بعث التطور الاقتصادي و الثقافي و الاداري لجميع شعوب الأرض.

إن فلسفة الحكم عند اولئك الحكام كانت تهدف الي الاثرة و الاستغلال و اشباع الرغبات اما مصلحة الأمة و رفع مستواها الفكري و الاجتماعي فلم يكن يعنون به بقليل و لا بكثير،قد بنوا حكمهم علي الظلم و الجور و الاستبداد،و ارغام الناس علي ما يكرهون..و من ثمّ كانت محنة أهل البيت(ع)محنة شاقة و عسيرة فانهم بحكم دورهم القيادي للامة مسئولين عن رعايتها و صيانتها و انقاذها مما ألم بها من المحن و الخطوب،فأعلنوا معارضتهم الايجابية تارة و السلبية أخري لسياسة ملوك عصرهم،و استهدفوا بذلك جميع الوان الظلم و الاضطهاد و القهر حتي انتهت حياتهم الكريمة و هم ما بين مقتول و مسموم،كل ذلك من أجل مصلحة المسلمين،و الانطلاق بهم الي سياسة العدل الخالص و الحق المحق المحض،و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة.

اما مظاهر ذلك الصمود الفذ عند الامام موسي(ع)فقد تمثل باصراره البالغ علي شجبه لسياسة هارون،و عدم الاعتراف بشرعية خلافته،و قد أصر علي هذا الموقف المشرف حتي لفظ انفاسه الأخيرة في السجن،و قد

ص: 6

حاول يحيي البرمكي رئيس حكومة هارون أن يتوسط في أمر الامام،و يخرجه من السجن،فعرض علي الامام أن يعتذر لهارون و يطلب منه العفو حتي يخلي عن سبيله،و ينعم عليه،فأصر(ع)علي الامتناع و عدم الاستجابة له لقد تميز موقف الامام موسي(ع)بالشدة و الصرامة مع هارون و غيره من ملوك عصره فلم يصانع أي أحد منهم،و لو سائرهم لأغدقوا عليه بالأموال و الثراء العريض،و ما عاني تلك الأهوال الشديدة،و المحن الشاقة و لكنه(ع)آثر رضا اللّه و طاعته علي كل شيء،و أبي إلا أن يساير موكب الحق،و لا يشذ عما جاء به الاسلام من مقارعة الظلم و مناهضة أئمة الجور و الطغيان.

و علي أي حال فقد عرض هذا الكتاب بصورة موضوعية و شاملة لدراسة نزعات الامام و سائر احواله التي امتدت علي هامة التأريخ الاسلامي بالاشراق و الوعي و البطولات..راجيا أن اكون قد ساهمت بهذا الكتاب في خدمة هذه الأمة،و خدمة علم من أعلامها النابهين انه تعالي ولي القصد و التوفيق.

النجف الأشرف باقر شريف القرشي /29ربيع1390/2/ ه

ص: 7

ص: 8

مقدمة الطبعة الاولي

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أطل الإسلام علي عالم يرزح بالفتن و الأضاليل فغير مجري تأريخ الحياة،و طور مفاهيمها،و خلق وعيا أصيلا في ربوع العالم انطلقت بسببه الانسانية من عقال الجهل الي ميادين الحضارة و الرقي و الابداع و بناء كيانها الاجتماعي.

لقد انطلق الاسلام كالمارد الجبار فبني في ربوع ذلك المجتمع المنهار صروحا للفضيلة و أسسا للحياة الحرة الكريمة يسود فيها الوعي الأصيل و المنطق السليم،و في نفس الوقت حطم صروح الظالمين و المستبدين و قبر الأفكار السحيقة،و هدم معالم الجاهلية الرعناء و ألغي امتيازاتها و إلي ذلك البناء و الهدم يشير الحديث الشريف.

«إن اللّه بني في الإسلام بيوتا كانت خربة في الجاهلية،و هدم بيوتا كانت عامرة في الجاهلية».

إن البيوت التي أقامها الاسلام و أنشأ كيانها بعد ما كانت خربة في الجاهلية هي اعلان الحقوق الطبيعية للإنسان،و تنوير العقول و الأفكار، و ايجاد التعاون و التضامن بين أفراد ذلك المجتمع المتفكك و رفع مستوي الحياة من الناحية الاقتصادية و السياسية،و تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض.

ص: 9

و اما البيوت التي حطم كيانها الاسلام فهي بيوت الظلم و الاستغلال و الاستبداد،كما هدم الاسلام جميع خرافات الجاهلية و أوهامها كعبادة الاصنام و وأد البنات،و غير ذلك من العادات الاجتماعية التي كانت مصدر شقائهم و تأخرهم.

لقد كانت الاغلبية الساحقة من العرب تأكل القد و تشرب الرنق قال اللّه تعالي:« وَ كُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ »قال قتادة في تفسير هذه الآية:

«كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا،و أشقاه عيشا،و أبينه ضلالة،و أعراه جلودا،و أجوعه بطونا،معكومين علي رأس حجر بين الأسدين فارس و الروم،الي أن قال:حتي جاء اللّه بالاسلام فورثكم به الكتاب،و أحلكم به دار الجهاد،و وسع لكم به من الرزق» (1).

إن الحياة العامة في الجزيرة قبل فجر الدعوة الاسلامية كان يسودها الفقر و الجهل و القلق و الاضطراب حتي انطلقت حضارة الاسلام تشق طريقها في أجواء التأريخ و تصنع للانسانية جمعاء ما لم تصنعه أي حضارة أخري في العالم، فكانت تبني اسسا للحياة الكريمة قائمة علي صرح شامخ من الحق و العدل.

إن الطاقات الندية الضخمة التي فجرها الرسول العظيم صلّي اللّه عليه و آله كانت تلتقي مع الفطرة الاصيلة للانسان و تواكب وعيه المتحرر و اتجاهه السليم،و كانت تحمل طابع التوازن بكل ما لهذا اللفظ من معني،التوازن في قيادة الفرد لنفسه و التوازن بين افراد جميع المجتمع ما بين جار و قريب و ما بين حاكم و محكوم،و لم يكن المد الاسلامي مجرد دعوة تستهدف ايمانا دينيا و قيما خلقية فقد كانت دعوته الخالدة تحمل في اعماقها و جوهرها نظاما ثابتا لاقرار الحق و تحطيم المنكر و الاعتراف بالحريات و ترتيب التعامل بين).

ص: 10


1- تفسير الطبري(ج 4 ص 23).

الافراد و الجماعات في ظل نظام مستقر تؤمن به الجماهير و تلتف حوله و تحميه لانه يصون مصالحها و يحفظ مكاسبها بعد ما كانت تئن من استغلال الطغاة لها فجاء الاسلام ليقيم فيها حكما عادلا و يعطيها حقوقها المصناعة و يوفر لها الحياة الحرة الكريمة التي يسود فيها الخير و الرفاهية.

و سارت الدعوة الاسلامية بسرعة الضوء نحو شعوب العالم و هي تنير لها معالم الحياة و تقودها نحو شاطئ الامن و السلام و التحرر،و بادرت تلك الشعوب المغلوبة الي اعتناق هذه الدعوة الاصيلة التي تحقق أملها المنشود من التحرر و الراحة و الحماية من الاستغلال و الاستبداد و تمسكت بالاسلام و انطبعت مبادئه في نفوسها و اندفع المسلمون الي نشر رسالة الاسلام و التبشير بأهدافه فكانوا كما قال اللّه تعالي في حقهم:« كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ » (1)و ذلك لتمسكهم الوثيق بأهداف الاسلام و إصرارهم علي تبليغ رسالته حتي قام الاسلام بجهودهم و هو عبل الذراع شامخ الكيان يحفه النصر و الظفر.

2 و لاقي الاسلام المزيد من الأهوال و المصاعب فقد نفر في وجهه منذ فجر تأريخه الطغاة المتجبرون و النفعيون الذين تحطم كيانهم و ضاعت مصالحهم فقاموا بعدوانهم المسلح تحف بهم قوي الشرك و الالحاد لمحاربة الاسلام و زعزعة كيانه ورد الدعوة الأصيلة لمصدرها،و لكن لم تلبث أن تحطمت تلك القوي الغادرة،و فشلت جميع الاعتداءات و المؤامرات التي حيكت ضده و خرج الاسلام و هو ظافر منتصر قد باء أعداؤه و خصومه بالفشل و الخسران.

و سرت موجة الفتح الاسلامي إلي أغلب أنحاء المعمورة و انحسرت روح الشرك و طويت معالم الجاهلية و قبرت أفكارها،و دخلت قهرا0.

ص: 11


1- سورة آل عمران:آية 110.

العناصر المعادية للاسلام في حظيرته و لكنها أخذت تعمل جاهدة بكل قواها للاستيلاء علي زمام الحكم فلما ظفرت به تنكرت أشد التنكر لهذا الدين فغيرت أحكام اللّه و بدلت سنة نبيه(ص)و نهبت أموال المسلمين،و سحقت جميع المثل العليا التي جاء بها الاسلام و إليها يشير الحديث الشريف الوارد عن النبي(ص)«إن هلاك أمتي علي يد اغيلمة من قريش».

لقد ذبلت نضارة الاسلام،و تغيرت مفاهيمه حينما استولي هؤلاء الأدعياء من الامويين علي دست الحكم،وخيم علي المسلمين ظلام دامس لا بصيص فيه من النور،قد سرت المطامع،و الاهواء الخاصة في نفوس الكثيرين منهم،و استولي عليهم الخمول و الخنوع،و صدوا عن ذكر اللّه و انحرفوا عن الطريق القويم،فلم يناهضوا منكرا و لم يأمروا بمعروف.

و ثقل علي أئمة أهل البيت(ع)و من شايعهم من المؤمنين و رجال الفكر ما مني به العالم الاسلامي من الذل و العبودية فانبروا إلي ميادين الجهاد المقدس لانقاذ الامة من واقعها المرير،و قد قابلتهم الحكومات الاموية بما تملك من وسائل التنكيل و الارهاب فاراقت دماءهم،و طاردتهم،و اشاعت الفزع و الخوف فيهم.

و لم تخمد نار الثورة،و انما بقيت ملتهبة حتي اطاحت بالحكم الاموي و أزالت وجوده البغيض،و لكن من المؤسف حقا ان زعماء الثورة لم يقرروا مصير الامة،و لم يحققوا لها أهدافها،فقد حملوا الدعوة الي بني العباس ظانين أنهم سيحققون للعالم الاسلامي ما يصبوا إليه من نشر العدل و الرفاهية و الامن و الاستقرار.

و حينما صفا الملك لبني العباس ساسوا المسلمين بسياسة نكراء لا ظل فيها للعدل و الحق،فقد مثلت سياستهم بجميع مخططاتها السياسة الاموية الحاملة لشارات الفقر و الجهل و الظلم.

ص: 12

و انطلق العلويون مع شيعتهم يعملون جاهدين لمناجزة الحكم العباسي، و هم يدعون الي تأسيس دولة اسلامية تسود فيها أحكام القرآن،و عدالة الاسلام،و اندفع العباسيون الي مقابلتهم بكل قسوة و ضراوة،فنكلت بهم افظع التنكيل و أمره.

و كان الامام موسي(ع)في طليعة من ناهض حكومة هارون، و حرم التعاون معها في جميع المجالات حتي في الامور المباحة،و قد صب عليه الرشيد جام غضبه فأودعه في ظلمات السجون،و منع شيعته من الاتصال به،و قد ضيق عليه غاية التضييق،فقاسي(ع)جميع انواع الخطوب و الكوارث،و قد اعطي(ع)بصبره و موقفه المشرف درسا رائعا عن صمود العقيدة الاسلامية و صلابتها و عدم خضوعها بأي حال من الاحوال لمنطق القوة و السلطان.

3 و مرت علي المسلمين فترات مظلمة و أدوار قاسية الصقت بتأريخهم الناصع ألوانا دخيلة بعيدة كل البعد عن مفاهيم الإسلام و اتجاهاته،و كان ذلك ناشئا من دون شك من أولئك الأقزام الذين استولوا علي زمام الحكم ففرضوا سلطانهم علي المسلمين فرضا و قام نفوذهم علي السلاح و شراء الضمائر فهم كما قال الغزالي:«و أفضت الخلافة إلي قوم تولوها بغير استحقاق» (1).

و كان الأولي بالمسلمين أو بمؤرخيهم أن يجردوا هؤلاء الأدعياء من لقب(الخلافة)و لو فعلوا ذلك لصانوا الإسلام و حافظوا علي مثاليته من».

ص: 13


1- دائرة المعارف لفريد و جدي«ج 3 ص 231».

هؤلاء الذين لا يمتون لهديه بصلة و لا يلتقون مع نواميسه بطريق،و من المؤسف أن تحسب هذه الجماعات علي رصيد الإسلام فيحاسب من أجلهم و تكال له الطعون و التهم من جراء موبقاتهم مع العلم ان جرائمهم و آثامهم قد دلت علي انطباع الكفر و الفسوق في مشاعرهم و نفوسهم فكيف يصح أن يضمهم أطار الإسلام؟أو ينقد بأعمالهم؟.

إن المقياس و الميزان هي المبادئ الإسلامية فما كان من أعمال المسئولين و الحكام مرتبطا بها فهم محسوبون علي الإسلام و هو مسئول عنهم،و أما التصرفات النابية التي لا علاقة لها بالإسلام و لا تمثل هديه و واقعه فانه غير مؤاخذ بها و لا هو مسئول عنها و لا هي تمثل وجهة نظره،و كثيرون من أعداء الإسلام قد آخذوه بأعمال بعض الحكام كالوليد و المنصور و المتوكل و نظرائهم من الذين أثبتوا في اعمالهم الإدارية و السياسية أنهم اعداء الاسلام و خصومه فكيف يحاسب الاسلام أو يؤاخذ علي ما اقترفوه من عظيم الذنب و الاثم.

إن علي الباحثين في شئون الشخصيات الإسلامية أن ينظروا إلي التأريخ الإسلامي بامعان و تدبر فلا يضيفون إلي مراكزه العليا إلا الأكفاء المتوفرين بتربيتهم علي مثاليته و هديه،و اما الأدعياء الذين حملوا معول الهدم علي كيانه و حاولوا لف لوائه فيجب تجريدهم من اطار الشخصية الإسلامية و ابعادهم عن تأريخه الناصع.

ان علي كل باحث منصف أن ينظر إلي التأريخ الإسلامي نظرة عميقة فيعريه من ألوان الدعاية و الخيال ليكون فهمه له علي أساس واقعي رصين فقد ابتلي المسلمون بكثير من المؤرخين و الرواة الذين كانوا يعيشون علي موائد الملوك فافتعلوا لهم المآثر و الفضائل و أضافوا إليهم أهم النعوت و الأوصاف الأمر الذي أدي الي تشويه الواقع و ايقاع التناقض الفاحش في بحوث التأريخ

ص: 14

4 يمر العالم الإسلامي في هذا العصر بمرحلة دقيقة حاسمة من تأريخه فقد تظافرت قوي الاستعمار العالمي للاجهاز عليه و سلبه طاقاته و إمكانياته و تجريده من شخصيته و تراثه و استعباده استعبادا شاملا يسلبه حرياته و يفقده أمانيه، و المسلمون غافلون عما أحدق بهم من البلاء و الخطوب قد أخلدوا لمصالحهم الخاصة الضيقة،و انشغل الناهبون منهم بالاتجاهات الحزبية التي لا تخدم بلادهم،و انما تخدم الاستعمار و تحقق أطماعه و ألاعيبه.

لقد خرب الاستعمار جميع ما أودعه الاسلام في قلوب المسلمين من المثل العليا و المبادئ الأصيلة و الوعي السليم،و شعب أوطانهم و فرق كلمتهم حتي استحالت عقولهم الي هياكل ميتة،فقد عمل جميع الوسائل لافسادهم و النكاية بهم فدمر أرضهم بالمغريات و ملأها بالفساد و الدعارة و المجون، و حرم علي ابنائهم دراسة الاسلام علي حقيقته و واقعه،و الاطلاع علي التضحيات الضخمة التي قام بها المصلحون في العصور الأولي من نشر الثقافة و تنوير الأفكار و العمل من أجل الصالح العام،و قد جهلت جميع ذلك الناشئة الاسلامية الحديثة فقد غذاها الاستعمار بأن الدين يخالف منطق العقل و أن أحكامه تجافي الطبيعة فكانت قلوبهم موغرة علي الاسلام نافرة من أهله و دعاته، فكانوا عونا للمستعمر علي محاربة الكيان الاسلامي و الهجوم علي نظامه و عقيدته،و الأنكي من ذلك اندفاعهم الهائل مع دعاة الكفر و الالحاد و تأييدهم لتلك الافكار الرجعية المنهارة التي تتنافي مع الفطرة الانسانية و تدمر جميع المثل الرفيعة.

فعلي رجال الفكر و الغياري و المصلحين أن يقدموا للمسلمين الطاقات

ص: 15

التي فجرها النبي العظيم(ص)و أمدها بالبقاء و الحياة،و يعرفوا الجماهير بالتراث الاسلامي الذي يفي بحاجاتهم،و يضمن لهم حرياتهم و حقوقهم و يوفر لهم الراحة و الاستقرار،علي دعاة الاسلام أن يفهموا المسلمين ان الاسلام ليس ذلك الذي تلوكه الألسن من غير وعي و تفهم لمبادئه و روحه بل هو الثورة الصاخبة علي الظالمين و المستبدين و أعداء الشعوب.

انه العدالة الكبري التي تبني مجتمعا رفيعا لا تضاع فيه حقوق أفراده، و لا تهدر فيه كرامتهم.

انه النظام الوحيد الذي يحطم الاستغلال و الاحتكار و ينعم في ظلاله المحرومون و البائسون..علي دعاة الاصلاح أن يؤدوا رسالة الاسلام علي حقيقتها النازلة من رب العالمين،و يعرفوا الجماهير برجال الاسلام المخلصين الذين خدموا العالم الاسلامي و قاموا بأهم التضحيات في سبيل نشر العدالة و بسط القيم الانسانية و رفع مستوي الحياة فانه من الضرورة الملحة إفهام المسلمين بذلك و تغذية ناشئتهم بالآداب الاسلامية ليتربي بذلك جيل واع سباق لفعل الخيرات و الانطلاق في خدمة بلاده و مجتمعه.

و مما لا شبهة فيه باجماع المسلمين ان اخصب رجال الاسلام علما و أكثرهم تضحية و جهادا في سبيل اللّه هم أئمة أهل البيت عليهم السلام فهم قدوة هذه الأمة و أدلتها علي فعل الخير و قد ضمن النبي العظيم(ص)لأمته أن لا تزيغ عن طريق الحق و الصواب لو تمسكت بهم و أخذت بتعاليمهم قال(ص):

«خلفت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا».

و قد دلت مآثرهم و مناقبهم و سيرتهم علي تجردهم من مآثم هذه الحياة و إعراضهم عن زهوها و أباطيلها،فكان لهم اتجاه واحد هو خدمة الاسلام

ص: 16

و العمل في سبيل الصالح العام،و مما لا ريب فيه أن نهضة هذه الأمة و بلوغها الي ذروة الزحف المقدس يتوقف علي اقتدائها بسيرة أهل البيت(ع)و الأخذ بتعاليمهم و اتجاهاتهم.

و الامام موسي بن جعفر(ع)أحد شموع العترة الطاهرة،و من ركائز الاسلام العليا قد أدي رسالة ربه بأمانة و إخلاص و بالغ في إرشاد أمة جده(ص)و تحمل في سبيل ذلك أقسي ألوان المحن و الخطوب فأودعه الرشيد في ظلمات سجونه لأنه لم يجاره أو يصانعه بل قاومه و ازدري بسلطانه و صارحه بجوره و اختلاسه لمركز الخلافة الاسلامية-كما سنبين ذلك في بعض فصول هذا الكتاب-و بذلك كان(ع)من عمالقة المجاهدين في سبيل اللّه الناصحين لعباده.

لقد تشرفت بالبحث عن سيرة هذا الامام العظيم فذكرت في الحلقة الاولي من هذا الكتاب الادوار التي اجتازت عليه و بعض تراثه الرائع و نصائحه العليا و إرشاداته القيمة،و يتضمن البحث في الحلقة الثانية ما حدث بينه و بين هارون كما احتوي علي دراسة وافية عن سياسة هارون الرشيد،و ما أثر عنه من الاعمال المجافية لروح العدالة الاسلامية و المنافية للقيم الانسانية.

و ذكرت عصر الامام و ما حدث فيه من المشاكل و ظهور الفرق و الحركات الالحادية التي كان الغرض منها إفساد عقائد المسلمين و لف لواء الاسلام الامر الذي أوجب أن يتصدي الامام(ع)و كبار تلاميذه الي نقدها بالادلة العلمية الرصينة و انقاذ المسلمين منها.

و ذكرنا عرضا موجزا لمبدإ التشيع و ما ينشده من المثل العليا،و ما قوبل به من الاضطهاد من قبل السلطة و ما عاناه رجاله من التنكيل و الارهاق لانهم كانوا يعارضون الحكم القائم المبني علي الاستبداد السياسي،و نهب أموال الناس و التحكم في أمورهم علي غير وجه مشروع.

ص: 17

انه لم تقم ثورة اصلاحية في تلك العصور إلا رفعت الشيعة علمها،أو ساهمت بمدها بما تملك من وسائل القوة...فهم قادة الشعوب الاسلامية و روادها في طريق الكفاح و النضال من أجل التحرر من حكم العبودية و الذل و من اجل اعادة الحياة الكريمة التي ينشدها الاسلام في ظلال حكمه.

لقد قدمت الشيعة المزيد من التضحيات أيام الحكم الأموي و العباسي فصمدت في وجه الاعاصير،و عارضت بشدة و عنف سياسة أولئك الحاكمين الذين بنوا حكمهم علي الظلم و الجور،و علي سلب مقدرات الأمة و انفاقها علي شهواتهم و ملذاتهم و فجورهم،فنشروا التحلل و الميوعة و التسيب في ربوع العالم العربي و الاسلامي.

و قد عرض الكتاب بصورة موضوعية بعيدة عن التحيز الي بسط الكلام في ذلك كله،غرضنا أن نصوغ بعض فصول التأريخ الاسلامي علي الواقع المشرق الذي ينشده الاسلام،و ان نبرز واقع اولئك الملوك فانه ليس من المنطق في شيء ان تحمل سياستهم علي الصحة،و نقول انهم قد خدموا القضية الاسلامية،و ساروا بين المسلمين بسياسة نيرة قوامها العدل الخالص و الحق المحض،و هم فيما اثبت التأريخ من بوادر كثيرة أثرت عنهم سواء في ميادين سياستهم أو سلوكهم تثبت بوضوح انه لا واقع لتلك الأقاويل و ذلك الادعاء.

و عرض هذا الكتاب الي ترجمة كوكبة كبيرة من اصحاب الامام و رواة حديثه الذين حملوا مشعل النهضة العلمية و الفكرية في ذلك العصر و ألفوا في مختلف العلوم و الفنون خصوصا فيما يتعلق بالفقه الاسلامي،فقد دونوا جميع أبوابه من العبادات و المعاملات،و لهم يرجع الفضل في حفظ التراث الفقهي المأثور عن أئمة اهل البيت(ع).

و بسطنا الكلام في هذا الجزء في تراجم ابناء الامام(ع)و ما أثر من سيرتهم و سلوكهم و هديهم،و ما قام به بعضهم من الثورات المتسمة بالشدة

ص: 18

و العنف أيام حكم بني العباس.

و انهيت المطاف بأخبار الامام(ع)و ما جري عليه من الارهاق و الاضطهاد في سجن هارون مع بيان اسباب سجنه،و تفصيل حال وفاته و التحقيق في أمر ذلك الحادث العظيم.

هذا بعض ما في هذا الكتاب من بحوث،ما اردت بها إلا خدمة علم من اعلام العقيدة الاسلامية،و الكشف عن بعض ابعاد حياته و سلوكه راجيا من اللّه تعالي أن اكون قد وفقت لذلك.

و قبل انهاء هذا التقديم أري من الحق علي أن ارفع آيات الشكر الي حضرة المحسن الكبير الحاج محمد رشاد عجينة لانفاقه علي طبع هذا المجهود و غيره مما ألفته في أئمة أهل البيت عليهم السلام،سائلا من اللّه تعالي ان يوفقه لاحياء مآثرهم،و ان يتولي جزاءه عن ذلك،كما ان من الحق ان ارفع جزيل الشكر و التقدير الي سماحة العلامة الجليل أخي الشيخ هادي القرشي فاني في ظل مودته،و في ذري عطفه كتبت هذه البحوث آملا من اللّه ان يجزيه عني خير الجزاء انه تعالي ولي ذلك و القادر عليه.

المؤلف

ص: 19

عهد الرّشيد

اشارة

ص: 20

و أفضت الخلافة الي هارون،و زهرت له الدنيا،و استوسقت له الأمور،و نال من دنياه كل ما اشتهي و أراد،قد عم نفوذه علي أغلب انحاء هذه المعمورة حتي أثر عنه خطابه للسحاب«اذهبي الي حيث شئت يأتيني خراجك» (1).

و جبي له الخراج من جميع الاقاليم الاسلامية،و صارت عاصمته بغداد عروس الدنيا،و مستودع أضخم بيت للمال في العالم،و قصدها النوابغ و العباقرة و الفنانون من سائر الشعوب،و انتشر فيها الثراء الفاحش و التضخم النقدي عند التجار و الموظفين و الندماء و المطربين و المجان،و تناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت علي طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي و الفارسي،و صارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق،و أعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ،ففيها قصر الخلد الذي شبه بجنة الخلد التي وعد بها المتقون،و فيها قصر السلام الذي شبه بقوله تعالي:

« لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ »و في هذه القصور تجري من تحتها الانهار، و تموج بالحور العين كأمثال اللؤلؤ المكنون،و قد وصلت بغداد الي منتهي المجد و الفخار.

و جلس هارون علي اريكة الخلافة الاسلامية العظمي و هو السيد المطلق و الحاكم الروحي المطاع قد استولي علي جميع امكانيات الدولة و مقدرات المجتمع يهب لمن يشاء و يمنع عمن يشاء لا يسأل عما يفعل و لا يحاسب عما يبذر فهو ظل اللّه في أرضه و خليفته علي عباده-كما يقولون-.

تقمص الخلافة و هو في شرخ الشباب و عنفوانه لم يذق من عنت الأيام و محنها و لم تصقله التجارب،قد جاء إليه الملك عفوا بعد مؤامرة خطيرة اشتركت في تدبيرها أمه الخيزران و رئيس وزرائه يحيي البرمكي فدبرا/3

ص: 21


1- صبح الأعشي 270/3

اغتيال الهادي،و قد نجحا في وضع ذلك المخطط و القضاء عليه بسرعة هائلة لم يطلع عليها أي أحد من أعضاء البلاط حتي هارون لم يعلم بذلك فقد كان معتقلا قد خفيت عليه جميع الامور و بعد تنفيذ المؤامرة و القضاء علي الهادي و تركه جثة هامدة في قصره أسرع يحيي الي السجن فأقبل نحو الرشيد و كان نائما فأيقظه فاستفاق مرعوبا فقال له يحيي:«قم يا أمير المؤمنين».

فنهره الرشيد و عليه آثار الغضب قائلا له:

«كم تروعني اعجابا منك بخلافتي و أنت تعلم حالي عند هذا الرجل فان بلغه هذا فما يكون أمري عنده»؟.

فابتسم له يحيي و قال له:

«لقد مات الهادي و هذا خاتمه،و بالباب وزيره الحراني».

فنهض الرشيد و قد استولي عليه السرور فاتجه من فوره الي القصر الذي سجيت فيه جثة أخيه،فاطلع علي الأمر و أقام ليلته هناك و كانت ليلة تأريخية حفلت بأحداث خطيرة فقد خرج الرشيد فيها من سجنه و بويع له بالخلافة و بشر بغلام من جاريته الفارسية-مراجل-فسماه عبد اللّه و هو الذي عرف بالمأمون،و قالوا في تلك الليلة:«إنها ليلة الخلفاء»مات فيها خليفة و بويع خليفة،و ولد خليفة.

و عند انبلاج الصبح قام الرشيد فصلي علي جثمان أخيه و دفنه في بستان قصره (1)و توافدت وجوه بغداد و شخصياتها الي المحل المقيم فيه هارون ليبايعوه،و بعد أن غص القصر الأبيض بجماهير الناس علي اختلاف طبقاتهم انبري الي منصة الخطابة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فألقي خطابا جاء فيه:

«إن اللّه عز و جل،استأثر بخليفته موسي الهادي،و ولي بعده).

ص: 22


1- الطبري:(ج 3 ص 568).

رشيدا مرضيا أمير المؤمنين..و هو يعدكم من نفسه الرأفة بالناس و العدل و احقاق الحق بينهم،و يذود عن ارواحهم و أعراضهم من العصاة المارقين».

ثم التفت الي الجماهير فطلب منهم المبادرة الي البيعة قائلا:«قوموا الي بيعتكم،و اعطوا صفقة ايمانكم»فبادر الناس الي مبايعته و اعلان الرضا به و تم كل شيء في القصر الأبيض و عزم هارون علي مغادرة«عياباذ» و النزوح الي بغداد فأشار عليه يحيي بالتأخير حتي يهيأ لاستقباله المهرجانات الشعبية،فلم يذعن لذلك و توجه فورا الي عاصمته و أقبل بموكبه فلما قرب من بغداد استقبلته الجماهير بالهتافات و علت زغاريد النساء من شرفات القصور فكان احتفالا شعبيا رائعا،و حان موعد الصلاة فخرج الي الجامع في موكب رهيب فصلي بالناس و بايعه من لم يكن حاضرا في القصر الأبيض و لما انتهي من الصلاة و مراسيم البيعة توجه لبلاطه و في الغد عقد اجتماعا حضرته الساسة و كبار الشخصيات فاستدعي يحيي البرمكي فلما مثل أمامه قلده منصب رئاسة الوزراء و أعطاه الخاتم و قال له:

«يا أبتي،أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك و حسن تدبيرك، و قد قلدتك أمر الرعية،و أخرجته من عنقي إليك فاحكم بما تري،و استعمل من شئت،و اعزل من رأيت،فاني غير ناظر معك في شيء» (1).

و انبري بعض الشعراء فأنشد بين يديه قصيدة قال فيها:

أ لم تر أن الشمس كانت مريضة فلما ولي هارون أشرق نورها

و ألبست الدنيا جمالا بوجهه فهارون و إليها و يحيي وزيرها (2)

و تناول يحيي خاتم الوزارة و اسندت إليه جميع السلطات التنفيذية).

ص: 23


1- الطبري:(ج 3 ص 903).
2- الأغاني:(ج 5 ص 240).

و الادارية،و فوضت إليه مقدرات الدولة من دون أن يستشير أو يراجع أحدا فيما يعمله،و اعتمد عليه الرشيد و هو في مقتبل عمره فكان سندا له يغنيه عن السهر و المتاعب الفكرية و انصرف الرشيد الي التلذذ بجميع متع الحياة من العزف و الغناء و التنذر بمجالسة الظرفاء.

و أقبل يحيي علي تطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية له أو الموالية للعهد المباد،كما توجه الي تطوير البلاد و عمرانها فصرف بعض ميزانية الدولة في اصلاح الزراعة و توسيع نطاقها و بناء الجسور و القناطر و تشجيع الصناعات،و غيرها من الأعمال العمرانية التي أوجبت اتساع الحضارة و المدنية في بغداد حتي زهت الدنيا،و افتتن الناس بها،فقد تناثرت بها الحدائق الممتعة و الازهار المونقة من ورد و بهار،و ياسمين و جلنار،و غيرها كما تناثرت بها قصور العباسيين و البرامكة التي تسيطر عليها روح الترف، و يطل عليها قصر الخلد و غيره من قصور هارون،و قد وصف أحدها علي ابن الجهم بقصيدة رائعة جاء فيها:

و قبة ملك كأن النجو م توحي إليها بأسرارها

تخر الوفود لها سجدا اذا ما تجلت لأبصارها

و فوارة ثأرها في السماء فليست تقصر عن ثأرها

ترد علي المزن ما أنزلت الي الارض من صوب مدرارها

اذا أوقدت نارها بالعراق اضاء الحجاز سنا نورها

لها شرفات كأن الربيع كساها الرياض بأنوارها (1)

لقد كان ذلك التقدم الحضاري يستند الي البرامكة فهم الذين وضعوا حياة الترف و البذخ في بغداد،و طوروا الحياة الفكرية و العمرانية فيها.

و المهم الذي يعنينا البحث عنه هو أن كثيرا من المؤرخين قد أفاضوا9.

ص: 24


1- الأغاني 114/9.

علي هارون لقب خليفة المسلمين،و أمير المؤمنين،و وصفوه بأنه من اكثر الخلفاء عناية بالشؤون الاسلامية فقالوا:انه طبق احكام القرآن و دستوره علي واقع الحياة العامة،كما نعتوه بالزهد و الاعراض عن المحرمات،قال ابن خلدون:

«إنه-يعني هارون-كان يجتنب،و يبتعد عن الحرام و يتمتع بما أحل له».

و قال ابن خلكان:

«انه كان يصلي في اليوم مائة ركعة».

و بالغ بعض المؤرخين فألحقه في مصاف الاخيار و المتحرجين في دينهم من الخلفاء الراشدين إلا ان البوادر التي أثرت عنه في سياسته المالية و غيرها من شئون سياسته العامة تثبت بوضوح عكس ما ذكره الموالون له من اتصافه بالتقوي و التحرج في الدين،فقد كان طابع سياسته المالية الاستغلال و النهب لثروات المسلمين،و انفاق القسم الكثير من الخزينة العامة علي العابثين و الماجنين،و كانت لياليه حافلة بجميع الوان الطرب و اللهو،و هو ينفق أضخم الأموال علي الجواري و المطربين في حين ان الامة لم تنعم بتلك الواردات الضخمة التي كانت ترد الي بيت المال كأنها السيل،فلم تخصص الحكومة من ميزانية الدولة مقدارا يعني به علي اشاعة المعارف و العلوم، و اقصاء الجهل عن الشعوب الاسلامية،كما لم تنفق شيئا يذكر علي التطور الاقتصادي و الصناعي في البلاد.

و اذا أمعنا النظر في سياسته الاخري فنجد انه قابل العلويين و شيعتهم بكل قسوة و صرامة فقد ساسهم كما ساسهم جده المنصور بسياسة العنف و الجور و الاضطهاد،و يضاف الي ذلك عدم تورعه عما حرمه اللّه فقد أسرف في الاثم و الموبقات كما سنتحدث عنه.

و علي أي حال فما نسب إليه من التقوي و الصلاح لا يلتقي بصلة مع

ص: 25

واقع سيرته و سياسته.نعم لا شك في انه ألمع شخصية سياسية عرفها التأريخ في العالم الاسلامي و غيره،فقد استطاع بمهارته و مقدرته أن يسيطر علي أغلب بقاع العالم حتي لمع اسمه في الشرق و الغرب،و حظي بصيت عريض قل ان سجله التأريخ لغيره من الملوك و السلاطين،و لكن هذا لا يعنينا أمره،و انما يعنينا بعد سياسته بجميع مخططاتها عن المبادئ الاسلامية التي هي المعيار في الحقيقة للحكم الاسلامي،فمن طبقها من الحكام علي واقع سياسته فهو من الخلفاء الراشدين الذي يجب أن نكنّ له في أعماق نفوسنا أعظم الولاء و التقدير،و من شذ عنها فانه ليس محسوبا علي رصيد الخلافة الاسلامية،و لا يصح أن يكون ممثلا لهذا المركز الاسلامي العظيم.

و نعرض فيما يلي لدراسة موجزة لما أثر عن هارون سواء في ميادين السياسة أم في عالم السلوك و الاخلاق،و هي جميعا تتنافي مع المبادئ الاسلامية و لا تلتقي بأي منهج وثيق منها.

سياسته المالية

:

و قبل الحديث عن السياسة المالية التي انتهجها هارون نعرض الي السياسة المالية في الاسلام،لقد احتاط فيها الاسلام أشد الاحتياط فحرم علي الدولة أن تنفق أي شيء منها في غير صالح المسلمين،و تطويرهم الاقتصادي،و لم يجز بأي حال لرئيس الدولة أن يصطفي لنفسه و ذويه أي شيء منها،و قد دلتنا علي ذلك سيرة رسول اللّه(ص)فقد جاءت إليه حبيبته و وحيدته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)تبغي منه أن يمنحها وصيفا يخدمها،و يعينها علي شئون بيتها فان يديها قد مجلتا من الرحي فردها(ص)ردا حفيا،و عهد إليها بتسبيح اللّه و حمده و تكبيره،

ص: 26

و قد أعطي(ص)بذلك درسا لمن يتولي شئون المسلمين أن يحتاط في أموالهم و لا ينفق أي شيء منها في غير صالحهم.

و سار علي وفق هذه السياسة النيرة الامام أمير المؤمنين وصي رسول اللّه(ص)و باب مدينة علمه،فقد قصده أخوه عقيل و قد المت به الحاجة و الفقر و هو يحمل معه صبيته و هم شعث الشعور غبر الألوان من البؤس كأنّما سودت وجوههم بالعظلم-علي حد تعبير الامام(ع)-فرده الامام و عذله فلم ينفع معه و ألح عليه بالسؤال فكان منطق العدالة الاسلامية أنه أحمي له حديدة و أدناها من جسمه فضج من ألمها ضجيج ذي دنف، و كاد أن يحترق من ميسمها،و انصرف عنه عقيل و هو مروع حزين...كل ذلك ليري للعالم أن أموال الخزينة العامة ملك للمسلمين و ليس لزعيم الدولة أن يتصرف فيها حسب رغباته و أهوائه.

و لما وجد اصحاب الامام أثر المال في استمالة قسم كبير من الناس طلبوا منه أن يغير سياسته في توزيع المال،و أن يخص الاشراف و الوجوه بقسم منها قائلين:

«يا أمير المؤمنين اعط هذه الأموال،و فضل هؤلاء الاشراف من العرب و قريش علي الموالي،و اشتمل من تخاف خلافه من الناس».

فأجابهم الامام(ع)بمنطق العدل و الحق:

«أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور،لو كان المال لي لسويت بينهم في العطاء،فكيف و المال مال اللّه؟».

هذا هو حكم الاسلام في أموال المسلمين فهي لمجموعهم،و لا يجوز لرئيس الدولة ان يبذخ بها أو ينفقها علي رغباته و أهوائه،و تدعيم سلطانه و قد خص الاسلام صرفها بما يلي:

1-الانفاق علي المحرومين و الايتام و الأرامل و العجزة،فيجب علي

ص: 27

الدولة أن تخصص لهم من الميزانية العامة ما يوفر لهم العيش الرغيد،و تغنيهم عما في أيدي الناس.

2-القيام بتسديد النفقة علي من يقصر عمله عن اعاشته و اعاشة من يعول به فهي مسئولة بتسديد أعوازهم من بيت المال.

3-تسديد ديون المغرمين الذين لا يجدون مجالا لوفاء ديونهم شريطة أن لا يكون قد انفقوها بغير وجه مشروع.

4-الانفاق علي من لا يتمكن من الزواج لقلة ما في يده.

5-القيام بالمشاريع العامة التي توجب التطور الاقتصادي و الصناعي في البلاد،و زيادة الدخل الفردي.

6-القضاء علي البطالة،و توفير العمل للمواطنين،و تحسين أحوال معيشتهم فقد اعتبر الاسلام الفقر كارثة اجتماعية يجب القضاء عليه و ازالة شبحه.

7-الانفاق علي التعليم،و محو الامية و اشاعة العلم و المعرفة بين الناس فانه لا يمكن تطور الامة و بلوغها الي اهدافها إلا اذا ساد العلم و انتشرت المعارف في جميع أوساطها.

هذه بعض الامور التي تعني بها السياسة المالية في الاسلام،و لكن هارون و غيره من ملوك الامويين و العباسيين لم يحققوا أي شيء من ذلك علي مسرح الحياة،و انما قاموا يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع فصرفوا أموال المسلمين بسخاء علي المجون و الدعارة،و علي محاربة أهل البيت دعاة الحق و العدل في الاسلام.

و علي أي حال فان هارون في سياسته المالية قد شذ عما أثر عن الاسلام في ذلك فقد أمعن في السرف و التبذير هو و أهل بيته و وزرائه و حاشيته بينما تعيش الامة في جهد و عناء و ضيق.

ص: 28

ميزانيته العامة

:

و أضخم ميزانية للدولة الاسلامية كانت في عهد هارون فقد توفر له من المال ما لم يتوفر لاحد من ملوك المسلمين فقد روي ابن خلدون ان المحمول الي بيت المال في ايام الرشيد بلغ 7500 قنطارا في كل سنة (1)و قدر الجهشياري مجموع الواردات بما يقرب من خمسمائة مليون درهم و مائتين و أربعين الف درهم (2)هذا مع العلم ان الدينار في ذلك الوقت كانت له أهميته بالغة لا تقاس بما نحن عليه اليوم،فقد كان الكبش يباع بدرهم، و الجمل بأربعة دنانير،و التمر ستون رطلا بدرهم،و الزيت ستة عشر رطلا بدرهم،و السمن ثمانية أرطال بدرهم،و اجرة البناء الاستاذ بخمس حبات و من المعلوم في أيامهم ان الحبة كانت ثلث الدرهم،و الدانق سدس الدرهم (3)و علي هذا فميزانية دولة هارون السنوية كانت بحسب سعر الدينار العراقي الحالي «مليارين و مائتين و عشرين مليون دينارا و تسعمائة و ستين الف دينار» (4)و هي ميزانية ضخمة لم تستورد مثلها أي حكومة في العالم قبل حكومة الرشيد و كانت هذه الواردات الهائلة تجبي مما يلي:

أولا-انها تجبي من الخراج و هو مقدار من المال أو الحاصلات قد فرضت علي الاراضي التي كان يملكها المشركون قبل الفتح

ص: 29


1- المقدمة(ص 117-118).
2- الوزراء و الكتاب(ص 288).
3- هارون الرشيد لاحمد أمين(ص 88).
4- هارون الرشيد للجومرد 362/2.

ثانيا-انها تجبي من الجزية و هي ما يدفعه الذميون الي الدولة الاسلامية لقيامها بحمايتهم،كما انها في نفس الوقت تكون بدلا من الضرائب التي تؤخذ من المسلمين،و لم يكن في اخذها اي ضرر علي الذمي-كما يقول بذلك اعداء الاسلام-فانها عوض لما تقوم به الدولة من الخدمات و المصالح الاجتماعية لهم و لغيرهم.

و كان ما يدفعه الذمي من الجزية في عهد الرشيد يختلف بحسب ثرائه و يتراوح ما يؤخذ منه ما بين أربعة عشر درهم الي ثمانية دراهم،و لا يؤخذ شيء من المرأة و المعدم و الطفل (1).

ثالثا-انها تجبي من الزكاة،و هي ذات وارد خطير،و هي تجب فيما يلي:

1-تجب في النقدين الذهب و الفضة،فنصاب الذهب عشرون دينارا (2)فمن ملكها وجب عليه دفع نصف دينار،و ما زاد عليها يؤخذ من كل أربعة قيراطان و نصاب الفضة مائتا درهم،و زكاتها خمسة دراهم،و كل ما زاد اذا بلغ الاربعين كان فيه درهم بالغا ما بلغ،و ذكر فقهاء الاسلام شروطا في زكاة النقدين لا تجب الزكاة إلا مع توفرها.

2-تجبي من الانعام الثلاثة الابل و البقر و الغنم بأنواعها من عراب (3)و بخاتي (4)و بقر و جاموس و معز و ضأن،و يجب أن تتوفر فيها الشروط من بلوغ النصاب و السوم و غيرهما حسب ما ذكره الفقهاء.

3-تجبي من الغلات الاربع و هي الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب،ة.

ص: 30


1- الأحكام السلطانية(ص 175).
2- الدينار:يساوي مثقالا،و هو يساوي عشرين قيراطا.
3- العراب:النوع الاصيل من الابل.
4- البخاتي:الابل الخراسانية.

و يشترط فيها بلوغ النصاب و غيره من الشروط التي ذكرها الفقهاء.

و الزكاة فريضة اسلامية تقاتل عليها الدولة،و تحكم بردة من لم يدفعها و هي ذات وارد ضخم تفي بكثير من شئون الدولة،و حاجات الفقراء، و كان لها ديوان خاص في بغداد،و له فروع في انحاء البلاد.

هذه بعض واردات الدولة التي اسسها الاسلام لسد شئونها الاقتصادية و هي واردات ضخمة لو طبقتها الدولة الاسلامية لما اصابها أي عجز مالي و ما احتاجت الي القرض من الدول الاجنبية التي جعلتها تحت مناطق نفوذها كما ان الدول الاسلامية لو انفقت خزينتها علي مصالح المسلمين،و سارت في سياستها المالية علي وفق ما أثر عن الاسلام في ذلك لما انتشر الفقر و الحرمان في ربوع المجتمع،و ما غزتهم الافكار الالحادية و المبادئ الهزيلة التي تهدد كيانهم و تنذرهم بالويل و الدمار.

علي من ينفق بيت المال؟ إن الاموال التي جبيت لخزينة هارون قد ضربت الرقم القياسي في ضخامتها-كما ذكرنا-و من المؤسف انه لم يصرف الكثير منها علي صالح المسلمين،و انما انفقت علي التفنن في الملذات و الشهوات و تشييد القصور التي كانت تعج بالمغنيات و الماجنين كما بذلت للشعراء الذين أوقفوا نشاطهم الفكري علي المدح و الثناء،و اضافة النعوت الكريمة الهارون،و الحاقه بمصاف الخلفاء الذين احتاطوا في أمور المسلمين.

و علي أي حال فان هارون قد انفق الكثير من خزينة بيت المال علي ما يلي من شهواته:

الهبات للمغنين:

و أسرف هارون أي اسراف في هباته للمغنين،فمنحهم الثراء العريض و أغدق عليهم الأموال الطائلة التي كان الواجب أن تصرف علي صالح

ص: 31

المسلمين لا علي ما يفسد الاخلاق،و يثير الشهوات،و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من هباته لهم ما لو جمعت لكانت كتابا ضخما،و نذكر بعضها للتدليل علي تبديده لثروات الامة و هي:

1-أنشده أبو العتاهية هذه الأبيات:

بأبي من كان في قلبي له مرة حب قليل فسرق

يا بني العباس فيكم ملك شعب الاحسان منه تفترق

انما هارون خير كله مات كل الشر مذ يوم خلق

و غناه ابراهيم الموصلي بها فأعطي كل واحد منهما مائة الف درهم و مائة ثوب (1).

2-و حدث مغنيه اسحاق الموصلي قال:خرجت مع الرشيد الي الحيرة فساعة نزل بها دعا بالغداء فتغدي ثم نام فاغتنمت قائلته،فذهبت فركبت أدور في ظهر الحيرة فنظرت الي بستان فقصدته فاذا علي بابه شاب حسن الوجه فاستأذنته في الدخول فأذن لي فدخلت فاذا جنة من الجنان في أحسن تربة،و أغزرها ماء فخرجت فقلت له:لمن هذا البستان؟فقال لبعض الاشاعثة،فقلت أ يباع؟فقال.نعم و هو علي سوم،فقلت:كم بلغ؟ فقال اربعة عشر الف دينار،قلت:و ما يسمي هذا الموضع؟قال:

شماري،فقلت:

جنان شماري ليس مثلك منظر لدي رمد أعيا عليه طبيب

ترابك كافور و نورك زهرة لها ارج بعد الهد و يطيب

و لما جلس الرشيد،و أمر بالغناء غنيته إياه،فقال:ويلك!و اين شماري؟فأخبرته القصة،فأمر لي بأربعة عشر الف دينار فاشتريتها (2).5.

ص: 32


1- الاغاني 74/4 ط دار الكتب المصرية.
2- الاغاني 174/5-175.

3-غناه يحيي المكي فأطربه فقال هارون:قم يا يحيي فخذ ما في ذلك البيت،فظن يحيي أن فيه فرشا و ثيابا،فاذا فيه أكياس فيها عين و ورق،فحملت بين يديه فكانت خمسين الف درهم مع قيمة العين (1).

4-غناه يحيي بهذا البيت:

متي تلتقي الألاف و العيس كلها تصعدن من واد هبطن الي واد

و أخذ هارون يتناول اقداح المسكر الي ان أمسي،و أمر له بعشرة آلاف درهم (2).

5-غضب الرشيد علي ابراهيم الموصلي فحبسه،و جلس يوما فتذكر حسن غنائه فقال:لو كان الموصلي حاضرا لتم أمرنا و سرورنا،فقال له بعض جلسائه:يا أمير المؤمنين نجيء به فما له كبير ذنب فبعث خلفه، و لما مثل بين يديه أمره بالغناء فغناه بهذا البيت:

تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت به زينب في نسوة خفرات

فاهتز الرشيد و أمر بأن تحل عنه القيود،و يغطي بالخلع،و أمر له بثلاثين الف درهم (3).

6-غناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختارات صوته فطرب طربا ما عليه من مزيد،و استعاده عامة ليلته،و قال:

-ما رأيت صوتا يجمع السخاء و الطرب و جودة الصنعة مثل هذا الصوت؟ فقال له ابراهيم:لو وهب لك انسان مائتي الف درهم أ كنت أسر بها أو بهذا الصوت؟ قال الرشيد:و اللّه لأنا أسر بهذا الصوت مني بألفي الف./6

ص: 33


1- الاغاني 187/6.
2- الاغاني 185/6
3- الاغاني 205/6

قال ابراهيم:لم لا تهب لي مائتي الف؟ فأمر له الرشيد بالوقت بمائتي الف درهم (1).

7-غناه دحمان الاشقر بهذه الابيات:

إذا نحن أولجنا و أنت أمامنا كفي لمطايانا برؤياك هاديا

ذكرتك بالدير يوما فأشرقت بنات الهوي حتي بلغن التراقيا

إذا ما طواك الدهر يا أم مالك فشأن المنايا القاضيات و شأنيا

فطرب و استعاد الصوت منه مرات،ثم قال له:

«تمن علي» قال دحمان:أتمني أن تهبني«الهنيء و المريء»و هما قريتان غلتهما أربعون الف دينار،فأعطاه اياهما،فقيل له:يا أمير المؤمنين ان هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما،قال:لا سبيل لاسترداد ما أعطيت،و لكن احتالوا في شرائهما منه فاشتروهما بثمن كثير (2).

8-و جلس ليلة يتسامر مع ندمائه فغناه أحدهم بقول جرير:

إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا

فطرب و أعجب بالابيات،و قال لجلسائه:من أجاز منكم هذه الابيات بمثلها فله عندي هذه البدرة،فحاولوا ذلك فلم يصنعوا شيئا، فقال له خادم علي رأسه:أنا بها لك يا أمير المؤمنين،قال له:شأنك فذهب الي(الناطفي)و أخبره بالقصة فدخل علي(عنان)فأجازته هيجت بالقول الذي قد قلته داءا بقلبي ما يزال كمينا

قد أينعت ثمراته في طيها و سقين من ماء الهوي فروينا

كذب الذين تقوّلوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هوينا16

ص: 34


1- التاج:ص 41
2- تأريخ الخلفاء:116

و جاء بها الي الرشيد،فسأله عمن قالها فأخبره بالأمر فاشتري الجارية بثلاثين الف درهم و لم يبقها عنده سوي بضعة أيام ثم وهبها لأحد خاصته (1).

هذه بعض البوادر التي ذكرها المؤرخون عن صلات هارون و منحه للمغنين الذين كانوا يمثلون العبث و المجون في عصرهم،و هي تخالف ما أثر عن الاسلام من حرمة الانفاق علي جميع الوسائل التي حرمها اللّه،كما انها تجافي الاقتصاد الاسلامي الذي الزم ولاة المسلمين و حكامهم بانفاق بيت المال علي صالح المسلمين،و تطورهم الاقتصادي،و العلمي،و تأسيس المشاريع الحيوية التي توجب ازدهار البلاد.

ان هذا الاسراف الفاحش كان تبديدا لثروات الأمة،وشلا لحركتها الاقتصادية،و هو مما حرمه الاسلام.

و من بذخه و اسرافه بأموال المسلمين ما رواه ابو الفرج قال:اهديت الي الرشيد جارية في غاية الجمال و الكمال،فخلا معها يوما و أخرج كل قينة في داره،و اصطبح فكان جميع من حضره من جواريه المغنيات و الخدمة في الشراب زهاء الفي جارية في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب و الجوهر،و اتصل الخبر بام جعفر فغلظ عليها ذلك.

فأرسلت الي علية تشكو إليها،فأرسلت إليها علية لا يهولنك هذا فو اللّه لأردنه إليك،قد عزمت أن أصنع شعرا،و أصوغ فيه لحنا، و أطرحه علي جواري،فلا تبق عندك جارية إلا بعثت بها إلي،و ألبسيهن ألوان الثياب ليأخذن الصوت مع جواري،ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية،فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا و علية قد خرجت من حجرتها،و أم جعفر من حجرتها معها زهاء الفي جارية من جواريها).

ص: 35


1- العقد الفريد:(ج 3 ص 258).

و سائر جواري القصر،عليهن غرائب اللباس،و كلهن في لحن واحد هزج صنعته علية و هو:

منفصل عني و ما قلبي عنه منفصل

يا قاطعي اليوم لمن نويت بعدي ان تصل

فطرب الرشيد و قام علي رجليه حتي استقبل أم جعفر و علية و هو علي غاية السرور و قال:لم ار كاليوم قط.يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته فكان مبلغ ما نثره يومئذ ستة آلاف الف درهم،و ما سمع بمثل ذلك اليوم قط (1).

ان هذا هو الاستهتار الفاحش بأموال المسلمين،و الخروج علي ارادة الاسلام و أحكامه التي حرمت ذلك.

هباته للشعراء

:

و أسرف هارون في الانفاق علي الشعراء فبذل لهم بسخاء الأموال الوفيرة،و منحهم الثراء العريض لأنهم قد بالغوا في الثناء عليه فأفاضوا عليه صفات المتقين و حماية الدين و الحفاظ عليه،و انه ظل اللّه في أرضه لا تقبل الأعمال عند اللّه إلا برضاه و طاعته فاذا سخط هارون علي أحد فلا تنفعه صلاته و عبادته،و جاء هذا المعني صريحا فيما نظمه منصور النمري بقوله:

أي امرئ بات من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع

إن المكارم و المعروف أودية أحلك اللّه منها حيث تتسع

إذا رفعت امرأ فاللّه يرفعه و من وضعت من الأقوام متضع

ص: 36


1- الاغاني 172/10-173

و قد اتخذ هارون هؤلاء الشعراء بوقا للدعاية و التهريج فأشاعوا بين الناس فيما نظموه ان هارون حامي الاسلام،و ممثل العدالة الاسلامية في الارض و انه قد بسط الحق في جميع انحاء البلاد،و من هؤلاء الذين نعتوه بالعدالة و حماية الدين داود بن رزين بقوله:

بهارون لاح النور في كل بلدة و قام بها في عدل سيرته النهج

إمام بذات اللّه أصبح شغله و اكثر ما يعني به الغزو و الحج

تضيق عيون الناس عن نور وجهه إذا ما بدا للناس منظره البلج (1)

و مدحه بعض الأمويين بقصيدة جاء فيها:

يا أمين اللّه اني قائل قول ذي لب و صدق و حسب

لكم الفضل علينا و لنا بكم الفضل علي كل العرب

عبد شمس كان يتلو هاشما و هما بعد لأم و لأب

فصل الارحام منا إنما عبد شمس عم عبد المطلب

فأمر له بكل بيت الف دينار و قال:لو زدتنا لزدناك (2)و قد غالي الشعراء في مدحه و أطنبوا في الثناء عليه،و بالغ هو في اكرامهم و الانعام عليهم حتي أغناهم،و من جملة صلاته لهم ما رواه الطبري قال:«دخل سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي علي الرشيد في مجلس شعره،و الشعراء يلقون أمامه قصائدهم،فقال:يا أمير المؤمنين،بالباب اعرابي من باهلة ما رأيت قط أشعر منه فاذن للاعرابي فدخل و عليه جبة خز و رداء يماني،و قد شد وسطه ثم ثناه علي عاتقه،و عمامة قد عصبها علي خديه،و أرخي لها عذبة و أنشده من غرر الشعر الجيد في مدحه و كان في مجلسه الكسائي و ابن سلم و الفضل بن الربيع،فلما انتهي قال الرشيد:اسمعك مستحسنا و أنكرك متهما عليك فان كان هذا الشعر أنت قلته من نفسك فقل لنا بيتين في هذين82

ص: 37


1- العقد الفريد:(ج 3 ص 258).
2- مروج الذهب 3:382

و أشار الي الامين و المأمون و كانا حاضرين،فقال:

هما طنباها بارك اللّه فيهما و أنت أمير المؤمنين عمودها

بنيت بعبد اللّه بعد محمد ذري قبة الاسلام فاهتز عودها

فأعطاه الرشيد مائة الف درهم (1)و دخل عليه أشجع السلمي و كان ثقيلا عليه فقال له:

«يا أمير المؤمنين،إن رأيت أن تأذن لي في إنشادك،فاني إن لم أظفر منك ببغيتي في هذا اليوم فلن أظفر بها».

قال له الرشيد:و كيف ذاك؟ قال أشجع:لاني مدحتك بشعر لا أطمع من نفسي و لا من غيري في أجود منه،فان أنا لم اهزك في هذا اليوم فقد حرمت منك ذلك الي آخر الدهر.

فقال الرشيد:هات إذن نسمع،فأنشده قصيدته الي أن بلغ الي قوله:

و علي عدوك يا ابن عم محمد رصدان ضوء الصبح و الاظلام

فاذا تنبه رعته و اذا هذي سلت عليه سيوفك الاحلام

فقال الرشيد:هذا و اللّه المدح الجيد و المعني الصحيح لا ما عللت به مسامعي هذا اليوم-و كان قد أنشده في ذلك اليوم جماعة من الشعراء-ثم أنشده قصيدته التي يقول فيها:

ملك أبوه و أمه من نبعة منها سراج الأمة الوهاج

شربا بمكة في ذرا بطحائها ماء النبوّة ليس فيه مزاج

فلما سمع هذين البيتين كاد يطير فرحا،ثم قال له:يا أشجع لقد دخلت إلي و أنت أثقل الناس علي قلبي،و انك لتخرج من عندي و أنت).

ص: 38


1- الطبري:(ج 3 ص 261).

أحب الناس إلي،فقال أشجع:

ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟ قال الرشيد:الغني فاسأل ما بدا لك.قال:الف الف درهم، قال:ادفعوا إليه (1).

و يقول الاصفهاني إن مجموع ما أخذ ابراهيم الموصلي من الرشيد كان أكثر من مائتي الف دينار (2).و قد حفلت كتب التأريخ بعطائه الوفير للشعراء و نوادر قصصهم معه،و نحن لا نشك في ان السخاء من أطيب الصفات و أرفعها و لكن اذا كانت الاموال التي ينفقها الشخص من أمواله الخاصة،و أما بذل أموال المسلمين و الاسراف في عطائها فان ذلك خيانة للّه و للمسلمين.

الاسراف في الموائد

:

و أسرف هارون إسرافا كثيرا علي موائد الطعام فكان ينفق في كل يوم عشرة آلاف درهم،و ربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لونا من الطعام (3)و حدث الاصمعي قال:دخلت علي الرشيد يوما و هو يأكل(الفالوذج) فقال ايه يا أصمعي،ما ذا قال العرب في هذا؟؟ قلت:يا أمير المؤمنين،و أين للعرب فالوذج؟؟و لكن شيئا يشبه هذا قال فيه الشماخ بن مزرد:

و لما مضت أمي تزور عيالها هجمت علي العكم الذي كان تمنع

خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة الي صاع سمن فوقها يتربع

ص: 39


1- طبقات الشعراء:ص 252
2- الأغاني:(ج 5 ص 20)
3- المستطرف ص 341

و ذيلت أمثال الأثافي كأنها رءوس رجال قطعت لا تجمع

فان كنت مصفورا فهذا دواؤه و إن كنت غرثانا فذا يوم تشبع

فضحك هارون و دفع إليه الصحن الذي كان بين يديه (1).

و دعا يوما بطباخه فلما مثل بين يديه قال له:

أ عندك من الطعام لحم جزور؟.

قال:نعم،ألوان منه قال الرشيد:احضره مع الطعام فأحضرت المائدة فأخذ الرشيد شيئا من لحم الجزور فضحك جعفر البرمكي فقال له هارون:مم تضحك؟.

قال جعفر:لا شيء يا أمير المؤمنين تذكرت كلاما بيني و بين جاريتي البارحة فقال له الرشيد:بحقي عليك لما أخبرتني به،قال جعفر:حتي تأكل هذه اللقمة،فألقاها الرشيد من فيه،فقال له جعفر:

بكم يتقوم عليك هذا الطعام من لحم الجزور؟.

قال الرشيد:بثلاثة دراهم قال جعفر:لا و اللّه،يا أمير المؤمنين بل بأربعمائة الف درهم.

قال الرشيد:و كيف ذلك يا جعفر؟؟.

قال جعفر:انك طلبت من طباخك لحم جزور قبل اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده،فقلت له:لا يخلون المطبخ من لحم الجزور، فصرنا ننحر كل يوم جزورا لأجل مطبخك لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور،فصرف من لحم الجور من ذلك اليوم الي هذا اليوم أربعمائة الف درهم،و لم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم،فضحكت لان أمير المؤمنين لم ينله من كل ذلك غير هذه اللقمة فحسب.فهي علي).

ص: 40


1- العقد الفريد:(ج 3 ص 385).

أمير المؤمنين بأربعمائة الف درهم (1).

و قدمت له مائدة كانت فيها قطع صغيرة من السمك وضعت في أوان من الذهب فاستدعي رئيس الطباخين فلما مثل بين يديه،قال له:أ لم أعهد إليك أن لا تكون قطع السمك صغيرة،فقال له:يا أمير المؤمنين هذه السنة السمك وضعتها لتكون زينة للمائدة فسأله عن ثمنها فقال:انها كلفت أربعة آلاف درهم،و كانت أطيب الفواكه تحمل إليه من الاقاليم الاسلامية،و قد أسرف العباسيون من بعده في الطعام حتي كانوا يطلبون ألوان اللحوم و الطيور من الاماكن النائية و ينفقون علي جلبها الاموال الطائلة (2)ان كل ذلك يعتبر خروجا علي نظام الاسلام و قواعده التي ألزمت رئيس الدولة بالاقتصاد و عدم الاسراف في أموال المسلمين.

الاسراف في الجواري

:

كان هارون مولعا بالجواري حريصا كل الحرص علي الاستمتاع و التلذذ بهن حتي أفرط في ذلك و خرج عن جادة العدل و الشرع،و قد روي المؤرخون كثيرا من نهمه في ذلك فقد رووا قصته مع(غادر)جارية أخيه الهادي و قد حدث بها جعفر بن قدامة (3)قال:كانت غادر من أحسن الناس

ص: 41


1- البداية و النهاية:(ج 10 ص 26).
2- ثمار القلوب:ص 428
3- جعفر بن قدامة:قال فيه الخطيب البغدادي:أحد مشايخ الكتاب و علمائهم،وافر الأدب،حسن المعرفة،و له مصنفات في صنعة الكتابة و غيرها،تأريخ بغداد(ج 7 ص 207)توفي سنة 319 كما في معجم الادباء.

وجها و غناء و كان الهادي يحبها حبا شديدا،فبينما هي تغنيه يوما إذ عرضت له فكرة فسأله من حضر من خواصه عن ذلك فقال:قد وقع في فكري اني أموت و أن أخي هارون يتزوج جاريتي بعد ان يلي الخلافة.فقيل له:

نعيذك باللّه،و يقدم الكل قبلك.فأمر باحضار هارون و عرفه ما خطر له فأجابه بما يجب من ذلك.فقال:لا أرضي حتي تحلف اني متي مت لا تتزوجها،فحلف و استوفي عليه الأيمان من الحج راجلا،و طلاق الزوجات و عتق المماليك،و تسبيل ما يملكه،ثم أحلفها بمثل ذلك فحلفت فلم يمض علي ذلك إلا شهر فمات الهادي و بويع الرشيد،فبعث الي غادر و خطبها، فقالت كيف نصنع بالايمان؟فقال:أكفر عن الكل و أحج راجلا، فأجابت و تزوجها و زاد شغفه بها حتي انه صار يضع رأسها في حجره، فتنام فلا يتحرك حتي تنتبه فبينما هي نائمة ذات يوم إذ انتبهت فزعة تبكي فسألها عن حالها،فقالت:رأيت أخاك الساعة في النوم و هو يقول لي:

أخلفت وعدي بعد ما جاورت سكان المقابر

و حلفت لي (1)... أيمانك الكذب الفواجر

و نكحت غادرة أخي صدق الذي سماك غادر

أمسيت في أهل البلا و غدوت في الحور العوائر (2)

لا يهنك الإلف الجديد و لا تدر عنك الدوائر

و لحقت بي قبل الصبا ح و صرت حيث غدوت صائر

و اللّه يا أمير المؤمنين،و كأني أسمعها و كأنما كتبتها في قلبي فما نسيت منها كلمة،فقال لها الرشيد:أضغاث أحلام،فقالت:كلا،ثم لا تزالت.

ص: 42


1- نقصان في نسخة الأصل.
2- العوائر:جمع عائرة من عارت و تعير أي ذهبت و جاءت.

تضطرب،و ترتعد حتي ماتت بين يديه (1).و دلت هذه البادرة علي مدي شرهه و مخالفته للشرع الاسلامي بحنثه الأيمان التي أعطاها لأخيه علي عدم زواجه بها كما خالف الشرع بزواجه بها و هي في عدتها،و قد حرم الاسلام ذلك و حكم بحرمة المرأة مؤبدا علي الزوج.

و بلغ من ولعه بالجواري أنه هجر جاريته(ماردة)و ندم علي ذلك حتي كاد أن يموت من شغفه بها فتكبر أن يبدأها بالصلح و تكبرت هي أيضا فصبرا علي مضض و كاد ان يتلف،ففهم ذلك وزيره الفضل بن الربيع فدعا بالعباس بن الأحنف و عرفه الامر،و قال:قل في ذلك شيئا فقال:

العاشقان كلاهما متجنب و كلاهما متعتب متغضب

صدت مهاجرة و صدّ مهاجرا و كلاهما مما يعالج متعب

إن التجارب إن تطاول منهما دبّ السلو له فعز المطلب

فبعث إليه الفضل بالأبيات فسر بها سرورا بالغا،و لم يتم الرشيد قراءتها حتي قال العباس أيضا بيتين في ذلك و هما:

لا بد للعاشق من وقفة تكون بين الوصل و الصرم

حتي إذا الهجر تمادي به راجع من يهوي علي الرغم

فاستحسن الرشيد ذلك،و قال:لأصالحنها ثم انطلق إليها فصالحها و عرفت ماردة السبب من الشعر و لم تدر من قاله:فأرسلت الي الفضل تسأله عنه فأعلمها فأمرت له بألف دينار،و أمر له الرشيد بألفي دينار (2)و تعلق هواه بجارية فأمر وزيره يحيي أن يدفع ثمنها و كان مائة الف دينار فاستكثر يحيي المال،و اعتذر عن دفعه فغضب الرشيد،فأراد يحيي ان يبين له مقدار ما يتحمله بيت المال من هذا الاسراف الذي لا مصلحة فيه و لا منفعة).

ص: 43


1- نساء الخلفاء:ص 46
2- طبقات الشعراء لابن المعتز:(ص 356-357).

للدولة،فجعل ذلك المال دراهم فبلغت نحو مليون و نصف مليون درهم فوضعها في الرواق الذي يمر به الرشيد إذا أراد الوضوء،فلما رأي ذلك الرشيد استكثره و أدرك إسرافه.و لكنه في نفس الوقت شعر بالجرأة عليه (1).

و كان يهب الأموال الجزيلة لجواريه،و يجزل لهن في العطاء،فقد روي المؤرخون أنه أوفد الحرشي الي ناحية الموصل فجبي له منها مالا عظيما من بقايا الخراج،فوافاه به،فأمر بصرفه أجمع الي بعض جواريه، فاستعظم الناس ذلك،و تحدثوا به،و اصاب ابو العتاهية من ذلك شبه الجنون فقال له خالد بن ابي الأزهر:

-ما لك يا أبا العتاهية؟ -سبحان اللّه أ يدفع هذا المال الجليل الي امرأة!! (2)ان هذه الهبات الضخمة الي جواريه قد أثارت عليه سخط الاخيار و نقمة المتحرجين في دينهم،فقد خالف بها عما الزم به الاسلام من الاحتياط الشديد في اموال المسلمين،و حرمة صرفها في غير صالحهم.

و علي أي حال فقد كان شغوفا بالجواري،و هام بهن،و كان لا يتحرج في سبيل شهواته الجنسية من الاقدام علي ما حرمه اللّه،فقد شغف بجارية لأبيه المهدي كان قد دخل بها فامتنعت عليه و قالت له:«لا أصلح لك إن أباك قد طاف بي».

و زاد غرامه بها فأرسل خلف الفقيه أبي يوسف فقال له:

إن أباك قد طاف بي».

و زاد غرامه بها فأرسل خلف الفقيه أبي يوسف فقال له:

«أ عندك شيء في هذا؟» فأفتي أبو يوسف بما خالف كتاب اللّه و سنة نبيه قائلا:/4

ص: 44


1- تأريخ الطبري:(ج 3 ص 332).
2- الاغاني 67/4

«يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئا ينبغي أن تصدق،لا تصدقها فانها ليست بمأمونة».

و قد أفتي ابو يوسف بما يوافق هوي هارون،و اعرض عما حكم به الاسلام من تصديق النساء علي فروجهن،و قد علق ابن المبارك علي هذه البادرة بقوله:

«لم أدر ممن أعجب:من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين و اموالهم يتحرج عن حرمة أبيه،أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين،او من هذا فقيه الأرض و قاضيها!!قال اهتك حرمة أبيك، و اقض شهوتك،و صيره في رقبتي..» (1)و هناك فتاوي كثيرة افتي بها أبو يوسف علي وفق رغبات هارون، و هي تخالف ما أثر عن الاسلام،و كان الرشيد يجزل له العطاء علي ذلك فقد افتاه بما يتفق مع ميوله فأمر له بمائة الف درهم (2).

و علي اي حال فان الرشيد قد اسرف في الجواري و كانت له جارية تدعي هيلانة،أقامت معه ثلاث سنين ثم ماتت فوجد عليها وجدا شديدا ثم قال يرثيها:

قد قلت لما ضمنوك الثري و جالت الحسرة في صدري

«اذهب فلا و اللّه ما سرني بعدك شيء آخر الدهر»

و رثاها العباس بن الأحنف بأربعين بيتا فأمر له الرشيد بأربعين الف درهم (3)و نظرا لولعه الشديد بالجواري فقد بالغ في اقتنائهن حتي بلغ عددهن الفي جارية5)

ص: 45


1- تأريخ الخلفاء:ص 291
2- تأريخ الخلفاء:ص 291
3- نساء الخلفاء:(ص 54-55)

علي اختلاف اجناسهن منهن الروميات و السنديات و الفارسيات (1)و قد اشتري جارية من الموصلي بستة و ثلاثين الف دينار (2)و تحدث أهل بغداد عن جارية تسمي(خنث)و تلقب بذات الخال افتتن بها الشعراء و المغنون فاشتراها بسبعين الف دينار،و ادخلها في قصره (3)و كان لا يترك جارية حسناء تعرض للبيع إلا اشتراها،و لم يحتو قصره علي جارية قيمتها أقل من عشرات الآلاف من الدراهم أو الدنانير (4)و هذه الجواري تحتاج الي النفقات الكثيرة من الحلي و الالبسة و الزينة،و من المعلوم أن تلك النفقات الضخمة لم تكن من أمواله الخاصة فقد كانت من بيت مال المسلمين الذي حرم الاسلام انفاق اي شيء منه علي مثل هذه الامور.

ولعه بالجواهر

:

و شغف هارون بالجواهر و الاحجار الثمينة شغفا كبيرا فبذل الاموال الطائلة لشرائها فاشتري خاتما بمائة الف دينار (5)و كان عنده قضيب زمرد أطول من ذراع،و علي رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته،و قد قوم الطائر وحده بمائة الف دينار (6)و من ولعه بها أنه بعث الجوهري،جد الكندي الي صاحب سرنديب لابتياع جواهر

ص: 46


1- هارون الرشيد:ص 85
2- الاغاني:(ج 5 ص 7)
3- الاغاني:(ج 15 ص 85)
4- هارون الرشيد:(ج 1 ص 264)
5- ابن الاثير:(ج 6 ص 44)
6- مطالع البدور:(ج 2 ص 138)

من ناحيته (1).

و كان ينثر الجواهر علي جواريه بغير حساب،و كانت من جملة حظاياه جارية لم ترزق امرأة من الجمال مثل ما رزقته.و كان اذا اتحفهن بشيء ردت حصتها،فكان يغتاظ من ذلك،فاتفق يوما أنه نثر عليهن جواهر لها قيم عظام فالتقطنها،و لم تمد تلك الجارية إليها يدا،ثم احضر جواهر غيرها و خيرهن،فاخترن،و قال لتلك لم لا تختارين اسوة بصويحباتك؟قالت:

ان كان لي ما اختاره فسأفعل،و أخذت بيده،و قالت له:هذا اختياري من جميع جواهر العالم،فأعجب بها و سماها خالصة (2).

و ذكر البيهقي انه اشتري للرشيد جواهر بمائتي الف دينار فوهبه لدنانير البرمكية (3)و اقتدي به ابناؤه في اقتناء الجواهر وهبتها لمن يخلصون له، فالمأمون أعطي زوجه(بوران)ليلة زفافها الف حصاة من الياقوت و بسط لها فراشا كان الحصير منه منسوجا بالذهب مكللا بالدر و الياقوت،فكان بياض الدر يشرق علي صفرة الذهب (4)و كان الامين يشرب بأقداح من بلور كللت جوانبها بالجوهر الثمين (5)و قوم الجوهر الذي سلم من النهب عند ما قتل المأمون أخاه الامين،بألف الف و مائة الف و ستة عشر الف درهم (6)هذا بالاضافة الي ما يوجد عند الحاشية و الجواري من تلك الاحجار الثمينة و قد اشتريت بالاموال الطائلة التي نهبت من بيت المال اذ لا سائل و لا محاسب8)

ص: 47


1- بين الخلفاء و الخلعاء ص 54
2- نفس المصدر
3- المحاسن و المساوئ:ص 544
4- بين الخلفاء و الخلعاء ص 57 نقلا عن عيون التواريخ.
5- المحاسن و المساوئ:ص 362
6- مطالع البدور:(ج 2 ص 138)

لهم عن تبذيرها و صرفها في غير وجهها المشروع.

إسراف زبيدة

:

و حشدت الاميرة زبيدة الاموال الطائلة لنفسها،و أطلقت العنان لملاذها في صرف أموال المسلمين و البذخ بها،فقد اشترت غلاما لعبد اللّه ابن موسي الهادي ضرابا علي العود مجيدا بثلاثمائة الف درهم (1)و أمرت ان يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب،ثم ازداد شغفها بالدر حتي انها اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها (2)و اتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبنادق اشترتها بخمسين الف دينار (3)و ارسلت يوما خلف زوجها الرشيد تريد ان تراه فلما جاء إليها غني لهما ابن جامع المغني من وراء ستار فقال:

ما رعدت رعدت و لا برقت لكنها أنشأت لنا حلقه

الماء يجري علي نظام له لو يجد الماء مخرقا خرقه

بتنا و باتت علي نمارقها حتي بدا الصبح عينه أرقه

فأمرت زبيدة خادمها أن يدفع لابن جامع،عن كل بيت مائة الف درهم،فقال الرشيد:غلبتنا بنت أبي الفضل،و سبقتنا الي كرم ضيفنا و جليسنا ثم بعث لها مقابل ما أعطت بعدد دراهمها دنانير (4).

و دخل اشجع بن عمرو السلمي علي محمد الامين،و قد أجلس للتعليم،

ص: 48


1- سيدات البلاط العباسي:ص 48
2- بين الخلفاء و الخلعاء ص 55
3- نفس المصدر ص 54
4- الاغاني:(ج 6 ص 77)

و كان عمره اربع سنين فقال فيه اشجع:

ملك أبوه و أمه من نبعة منها سراج الامة الوهاج

شربت بمكة في ربي بطحائها ماء النبوة ليس فيه مزاج

فأمرت له زبيدة بمائة الف درهم...ان هذه الاموال التي وهبت لهذا الشاعر و غيره تمثل جانبا من الاسراف و البذخ بأموال المسلمين.

هذا،و كان البؤس آخذا بخناق المواطنين و هي و زوجها يبذلان الاموال الجزيلة علي مثل هذه الامور المحرمة في الشريعة الاسلامية.

و من إسرافها أن الرشيد كان يستطيب المكث في الرقة فقالت زبيدة للشعراء:من وصف مدينة السلام بأبيات يشوق إليها أمير المؤمنين أغنيته، فقال في ذلك جماعة منهم النمري قال:

ما ذا ببغداد من طيب أفانين و من عجائب للدنيا و للدين

إذا الصبا نفحت و الليل معتكر فحرشت بين أغصان الرياحين

فاستحسنها الرشيد و قفل راجعا الي بغداد،فوهبت زبيدة للنمري جوهرة ثم دست إليه من اشتراها منه بثلاثمائة الف درهم (1)و صنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الاجناس،و صورة كل طائر من الذهب و أعينها من يواقيت و جواهر يقال انها انفقت عليها نحوا من الف الف دينار (2)و اتخذت آلة من الذهب المرصع بالجوهر،و الثوب من الوشي الرفيع يزيد ثمنه علي خمسين الف دينار (3)و قد مرضت ثلاث مرات فعالجها الطبيب بختيشوع فأعطته في كل مرة مائة الف دينار (4)و قد8)

ص: 49


1- طبقات الشعراء:ص 246
2- المستطرف:(ج 1 ص 98)
3- الاغاني:(ج 6 ص 78)
4- مطالع البدور:(ج 2 ص 138)

ذكر المؤرخون الوانا كثيرة من سرفها و بذخها في أموال المسلمين و قد جعلها الاسلام لتصرف علي الفقير و المحروم.

بذخ البرامكة

:

و أبهرت البرامكة الناس ببذخها و صلاتها الضخمة للشعراء و الادباء فكانوا لا يعرفون للمال قيمة و أهمية،فبيوت الاموال بأيديهم و امكانيات الدولة تحت تصرفهم لا رقيب عليهم و لا حسيب،فأسرفوا في الملذات و الشهوات فكانت مجالس الطرب في قصورهم اكثر منها في قصور الرشيد و أجمع لمعدات اللهو،فعندهم المغنيات اللاتي ليس مثلهن في البلاد،لا سيما (فوز و فريدة)و كان الرشيد نفسه إذا حضر مجالس البرامكة و قد زينت بالآنية المرصعة،و الخزائن المجزعة و المطارح من الوشي و الديباج،و الجواري يرفلن بالحرير و الجوهر،و يستقبلنه بالروائح التي لا يدري ما هي لطيبها خيل إليه أنه في الجنة (1).

و كانت لأم جعفر مائة وصيفة لباس كل واحدة و حليها خلاف لباس الاخري و حليها (2)و بني جعفر قصرا غرم عليه عشرين مليون درهم (3)و ذكر الدميري:أن جعفر حاز ضياع الدنيا لنفسه فكان الرشيد لا يمر بضيعة و لا بستان إلا قيل له هذا لجعفر (4).

و أنفق البرامكة الكثير من الاموال علي اصطناع المكارم و جلب

ص: 50


1- حضارة الاسلام في دار السلام ص 112
2- الجهشياري:ص 18
3- الطبري:(ج 10 ص 82)
4- حياة الحيوان:(ج 2 ص 172-173)

القلوب لهم فكانوا يهبون الاموال بغير حساب فقد طلب شخص من الفضل ابن يحيي أربعة آلاف درهم فوهبه ستة عشر الف درهم (1)و وهب لصاحب شرطته أربعة ملايين درهم (2)و قد بالغوا في العطاء فقد ذكر الخطيب البغدادي ان صلات يحيي لمن تعرض له في الطريق اذا ركب مائتا درهم فعرض له شاعر فأنشد أمامه:

يا سمي الحصور أتيحت لك من فضل ربنا جنتان

كل من مر في الطريق عليكم فله من نوالكم مائتان

مائتا درهم لمثلي قليل هي منكم للقابس العجلان

فاستحسن يحيي شعره و أمر له بعشرين الف درهم (3)و مدح أبو ثمامة الخطيب الفضل بن يحيي بقوله:

للفضل يوم الطالقان و قبله يوم أناخ به علي خاقان

ما مثل يوميه اللذين تواليا في غزوتين توالتا يومان

سد الثغور ورد ألفة هاشم بعد الشتات فشعبها متدان

عصمت حكومته جماعة هاشم من أن يجرد بينها سيفان (4)

تلك الحكومة لا التي عن لبسها عظم النبا و تفرق الحكمانب.

ص: 51


1- الجهشياري
2- الجهشياري
3- تأريخ بغداد:(ج 14 ص 129)وفيات الأعيان:(ج 2 ص 44).
4- يشير بذلك الي قصة العلوي يحيي بن عبد اللّه حينما خرج علي حكومة هارون في الديلم فندب لحربه الفضل بن يحيي فأعطاه الصلح و لم تقع الحرب بينهما و سنبين فصول القصة في غضون هذا الكتاب.

فأعطاه الفضل مائة الف درهم و خلع عليه (1)و طلب رجاء بن عبد العزيز إعانة مالية من يحيي فأعطاه سبعمائة الف درهم (2)و ذكر القالي ان احد الشعراء دخل علي الفضل بن يحيي فخرج أحد الخدم فأخبر الفضل بمولود جديد له فقال الشاعر:

و يفرح بالمولو من آل برمك بغاة الندي و الرمح و السيف و النصل

و تنبسط الآمال فيه لفضله و لا سيما ان كان من ولد الفضل

فأمر له بمائة الف درهم ثم صنع له لحنا فأمر له بمائة الف درهم اخري (3)،و غصب بعض امراء بني العباس قرية تدعي(الرغاب) فتحاكم أصحابها معه،فحكم للامير العباسي،و مضي الامير يهددهم و ينذرهم بتخليتها فاستغاثوا بجعفر فأغاثهم فاشتري القرية بعشرين الف الف درهم و أهداها لاصحابها فانبري بعض الشعراء مادحا له علي هذا الصنيع قائلا:

رد(الرغاب)ندي يديه و أهلها منها بمنزلة السماك الأعزل

قد أيقنوا بذهابها و هلاكهم و الدهر يوعدهم بيوم أعضل

فافتكها لهم و هم من دهرهم بين الجران و بين حد الكلكل

ما كان يرجي غيره لفكاكها يرجي الكريم لكل أمر معضل

و تحدث القاصي و الداني بتلك المكرمة البرمكية (4)و ضرب جعفر لنفسه دنانير ذهبية كبيرة ليهبها للناس،و قد كتب علي وجهها هذين البيتين:

و اصفر من ضرب دار الملوك يلوح علي وجهه جعفر3)

ص: 52


1- عصر المأمون:(ج 1 ص 141)
2- المستطرف:(ج 1 ص 228)
3- القالي-ذيل الأمالي:ص 99
4- الاغاني:(ج 17 ص 33)

يزيد علي مائة واحدا إذا ناله معسر ييسر (1)

و أغدقوا الأموال و وهبوها بلا حساب للشعراء و الادباء،و قد مدحهم الشعراء بأفضل النعوت و كالوا لهم المديح و الثناء،فقد مدح اشجع السلمي جعفرا بقوله:

ذهبت مكارم جعفر و فعاله في الناس مثل مذاهب الشمس

ملك تسوس له المعالي نفسه و العقل خير سياسة النفس

و اذا تراءته الملوك تراجعوا جهر الكلام بمنطق همس (2)

و قال يزيد بن خالد المعروف بابن حسيات بمدح الفضل بن يحيي:

أ لم تر أن الجود من صلب آدم تحدر حتي صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس جادت سماؤه فيا لك من طل و يا لك من وبل

و قال مسلم بن الوليد في مدح جعفر:

تداعت خطوب الدهر عن جار جعفر و أمسك أنفاس الرغائب سائله

هو البحر يغشي سرة الارض سيبه و تدرك أطراف البلاد سواحله

و لو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق اللّه سائله

و للّه سيف ما علي الأرض مثله مضاربه يحيي و أنت مقاتله

و بالغ الشعراء في مدحهم و تعظيمهم،و ذلك لما استفادوه منهم من الاموال الجزيلة و الهبات الوفيرة حتي راج سوق الشعر و الادب في ذلك العصر و إلي ذلك يشير بعض الشعراء بقوله:

ما لقينا من جود فضل بن يحيي ترك الناس كلهم شعراء

و علي اي حال،فان تلك الاموال الضخمة التي وهبتها البرامكة للشعراء و غيرهم لم تكن إلا من بيت مال المسلمين،فانهم قبل2)

ص: 53


1- الجهشياري:ص 241
2- هارون الرشيد:(ج 2 ص 242)

أن تسند إليهم الوزارة لم تكن لهم أي ثروة أو مال،فقد روي المؤرخون ان خالد بن برمك كان واليا علي طبرستان و الري و دنباوند فحاسبه المنصور و أدانه بثلاثة آلاف الف درهم،و هدده بالقتل فلم يستطع خالد أن يدفعها من ماله الخاص فاستعان بأصحابه فأمدوه ببعضها و أمدته الخيزران بقسم كبير منها ثم توسط له المهدي عند أبيه فعفاه عن الباقي (1)و لكن لما اسندت له و لأبنائه السلطة صارت ثروة الدولة العباسية بأيديهم فملكوا من القري و البساتين و المستغلات ما لا يحصي له عد،و لا يعرف له ثمن،و أصبح لهم في كل زاوية قرية عامرة،و علي كل جدول بستان مثمر،و في كل مدينة أو قصبة ملك ثمين...و بلغ ريعهم السنوي الملايين من الدنانير (2)و من الطبيعي ان هذا الثراء الفاحش الذي تولد عندهم في هذه الفترة القصيرة كان ناشئا من دون شك من استئثارهم بأموال المسلمين و نهبهم لامكانيات الدولة مستغلين نفوذهم السياسي في التلاعب ببيوت الاموال التي نجبي إليها من جميع الاقاليم الاسلامية.

و هذه البوادر التي سقناها علي سرف هارون و تبذير أسرته و وزرائه قد دلت علي خيانته العظمي للمسلمين،و استبداده في ثرواتهم،و انتهاكه لحرمة الاسلام.

رسالته لسفيان

.

و نظرا لخروج هارون عن جادة العدل،و اسرافه في أموال المسلمين فقد نقم عليه رجال الاصلاح و ابتعدوا عنه،و قد حاول أن يجتمع بسفيان

ص: 54


1- تاريخ ابن الاثير:8/6
2- الامامة و السياسة:321/2

الثوري فكتب إليه رسالة ملأها بالتملق و التودد إليه لعله يجيبه الي مقصوده فيتخذ من ذلك وسيلة لاغراء العامة،و قد جاء فيها:

«من عبد اللّه هارون أمير المؤمنين الي أخيه في اللّه سفيان بن سعيد الثوري:أما بعد،يا أخي فقد علمت أن اللّه قد آخي بين المؤمنين و قد آخيتك في اللّه مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك،و لم أقطع منها ودك،و اني منطو لك علي أفضل المحبة،و أتم الارادة،و لو لا هذه القلادة التي قلدنيها اللّه تعالي لأتيتك،-و لو حبوا-لما أجد لك في قلبي من المحبة،و انه لم يبق أحد من اخواني و اخوانك إلا زارني،و هنأني بما صرت إليه،و قد فتحت بيوت الاموال،و أعطيتهم من المواهب السنية ما فرحت به نفسي و قرت به عيني،و قد استبطأتك،و قد كتبت كتابا مني إليك اعلمك بالشوق الشديد إليك،و قد علمت يا أبا عبد اللّه،ما جاء في فضل زيارة المؤمن و مواصلته،فاذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل».

جواب سفيان

:

و لما وصلت رسالته الي سفيان رمي الكتاب،و قال لاخوانه الصالحين ليقرؤه بعضكم فاني استغفر اللّه أن أمس شيئا مسه ظالم،فلما قرءوه أمرهم بأن يكتبوا له الجواب و هذا نصه:

«من العبد الميت سفيان،الي العبد المغرور بالآمال هارون،الذي سلب حلاوة الايمان،و لذة قراءة القرآن،أما بعد:فاني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك،و قطعت ودك،و انك جعلتني شاهدا عليك باقرارك علي نفسك في كتابك بما هجمت علي بيت مال المسلمين،فأنفقته في غير حقه،و أنفذته بغير حكمه،و لم ترض بما فعلته،و أنت ناء عني

ص: 55

حين كتبت إلي تشهدني علي نفسك،فأما أنا،فاني قد شهدت عليك أنا و اخواني الذين حضروا قراءة كتابك،و سنؤدي الشهادة غدا بين يدي اللّه الحكم العدل،يا هارون،هجمت علي بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم؟،و العاملون عليها في أرض اللّه،و المجاهدون في سبيل اللّه،و ابن السبيل؟أم رضي بذلك حملة القرآن؟و أهل العلم -يعني العاملين-؟أم رضي بفعلك الأيتام و الارامل؟أم رضي بذلك خلق من رعيتك،فشد يا هارون مئزرك و أعد للمسألة جوابا،و للبلاء جلبابا، و اعلم أنك ستقف بين يدي اللّه الحكم العدل،فاتق اللّه في نفسك اذا سلبت حلاوة العلم و الزهد و لذة قراءة القرآن،و مجالسة الاخيار،و رضيت لنفسك أن تكون ظالما،و للظالمين إماما،يا هارون قعدت علي السرير و لبست الحرير،و أسبلت ستورا دون بابك،و تشبهت بالحجة برب العالمين،ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك و سترك،يظلمون الناس و لا ينصفون، و يشربون الخمر و يحدون الشارب،و يزنون و يحدون الزاني،و يسرقون و يقطعون السارق،و يقتلون و يقتلون القاتل،أ فلا كانت هذه الاحكام عليك و عليهم قبل أن يحكموا بها علي الناس،فكيف بك يا هارون غدا اذا نادي المنادي من قبل اللّه احشروا الظلمة و أعوانهم فتقدمت بين يدي اللّه و يداك مغلولتان الي عنقك،لا يفكهما إلا عدلك و إنصافك و الظالمون حولك، و أنت لهم إمام أو سائق الي النار،و كأني بك يا هارون و قد أخذت بضيق الخناق،و وردت المساق،و أنت تري حسناتك في ميزان غيرك،و سيئات غيرك في ميزانك علي سيئاتك،بلاء علي بلاء،و ظلمة فوق ظلمة،فاتق اللّه يا هارون في رعيتك،و احفظ محمدا صلّي اللّه عليه و آله و سلم في أمته،و اعلم أن هذا الامر لم يصر إليك إلا و هو صائر الي غيرك و كذلك الدنيا تفعل بأهلها واحدا بعد واحد،فمنهم من تزود زادا نفعه،و منهم من خسر دنياه

ص: 56

و آخرته،و اياك ثم اياك أن تكتب إلي بعد هذا فاني لا أجيبك و السلام» ثم بعث بالكتاب منشورا من غير طي و لا ختم (1)و قد دلت هذه الرسالة الخالدة علي مدي ايمان سفيان و جرأته و اقدامه،و انه يحمل رصيدا من الايمان و العقيدة و نكران الذات،فقد عرض علي هارون تصرفاته الكيفية في اموال المسلمين،و استبداده بثرواتهم،و انه مسئول عن تصرفاته و محاسب عليها بين يدي اللّه تعالي،كما ذكر له فساد الجهاز الرسمي لحكومته،و انه مجموعة من الخونة و المختلسين لاموال الشعب،و ان الحدود التي يقيمونها علي السارقين و المجرمين أولي أن تقام عليه و علي اعضاء حكومته فانهم منبع الفساد و مصدر الجريمة في البلاد.

إن هارون لا يصح بأي حال أن يعد من خلفاء المسلمين المحافظين علي كيان الاسلام و تعاليمه نظرا لأعماله المجافية لروح الاسلام.

كلمة ابن خلدون

:

و أفرط ابن خلدون في تقديسه لهارون،فنحي عنه الاسراف و الخيانة قال ما نصه:

«لم يكن الرجل بحيث يوقع محرما من أكبر الكبائر عند اهل الملة، و لقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف و الترف في ملابسهم و زينتهم،و سائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة،و سذاجة الدين التي لم يفارقوها» (2).

و ابن خلدون من أولئك المؤرخين الذين لم يكتبوا للتأريخ و خدمة

ص: 57


1- حياة الحيوان للدميري:188/2-189
2- تأريخ ابن خلدون:14/1

الأمة،و انما كتبوا لجهة خاصة بعيدة كل البعد عن روح الواقع،و قد القي الستار في كثير من بحوثه علي الحقيقة،و راح يخدم الدولة أو المحيط و جني بذلك علي التأريخ الاسلامي جناية لا تعدلها جناية،ان الحكم ببراءة هارون من السرف و التبذير لا يتفق بأي حال مع الحوادث التي أجمع عليها المؤرخون الدالة علي تبذيره بأموال المسلمين و نهبه لثرواتهم،و لم يوافقه علي هذا القول أحد من الكتاب حتي أحمد أمين الذي عرف بالانحراف و التحيز في كثير من بحوثه قال:

«فلسنا نتفق معه علي ما يستخلص من قوله انه كان بمنحاة من السرف و الترف،و انه كان يعيش عيشة ساذجة،و انه لم يوقع محرما،فهذا أيضا إفراط في التقديس،لا تدل عليه سيرة الرشيد،خصوصا و ان أدلته خطابية فقرب عهده من المنصور لا يستوجب ان يعيش عيشته،و قد صرح هو مرارا بأن الترف و النعيم في عصر الرشيد كان اكثر منه في عصر المنصور، و لو كان قرب العهد يكفي في الاستدلال لما رأينا الأمين-و هو قريب عهد من الرشيد يسير سيرته.

و العجب انه عقد فصولا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة و النعيم و الترف في ايام الرشيد و الامين و المأمون و تفننهم في المطعم و المشرب،و هو هو الذي وافق(المسعودي)و(الطبري)علي ما حكياه في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن،و ان المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها الف حصاة من الياقوت،و أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من،و بسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب مكللا بالدر و الياقوت الخ (1).

هل هذا ليس سرفا في الترف؟و هل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة/1

ص: 58


1- تأريخ ابن خلدون:145/1

كما يقول؟.

الحق ان ابن خلدون مخطئ في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة،و انه و قومه كانوا بمنحاة من السرف و الترف» (1).

دفاع الجومرد

:

و لم ينفرد ابن خلدون بهذا المنطق الهزيل في دفاعه عن هارون فقد شاركه في ذلك الدكتور عبد الجبار الجومرد فانه لما لم يجد مجالا للطعن في تلك الروايات التي دلت علي المزيد من إسراف هارون،اخذ يلتمس له المعاذير و المبررات قال ما نصه:«غير اننا لو درسنا الوضع الاجتماعي السائد يومئذ،و تذكرنا-ما قلناه سابقا-عن مقدار ما كانت تدر ضرائب الدولة علي الخزينة العامة من الاموال-و هي تعادل اليوم ميزانيات اكثر من عشرة دول-و ما بلغه الترف و البذخ عند الطبقات الخاصة،و ما وصل إليه ذلك التسابق في اكتساب الحمد و استمالة الرأي العام عن طريق الشعراء و الادباء و الرواة و كل ذي لسان و رأي،و هم أشبه بالصحف السيارة في هذا العهد...لو علمنا كل ذلك و أدركنا حقائقه،اذا لأعطينا هذا السخي الجواد بعض الحق إن لم يكن كله (2)و قال أيضا:«إن الرشيد أحق من غيره بالعطاء و أحوج الي المديح و الذكر الحسن من هؤلاء-أي البرامكة-جميعا،بحكم كونه خليفة،فوق سائر الناس،و هو مع ذلك سخي اليد بالفطرة،وجد المحيط الذي حوله في سورة من جنون البذخ و الانفاق،فجاراه ليحفظ توازن سمعته و لم يجد في ذلك تصنعا أو كلفة،

ص: 59


1- ضحي الاسلام:118/2-119
2- هارون الرشيد:(ج 1 ص 272).

ما دام خراج الدولة في تضخم عظيم (1)و الاستاذ الجومرد مدفوع بعاطفة جياشة تجاه هارون فقد أبي أن يدينه بانحرافه عن الطريق أو يسجل عليه أي مأخذ مما أجمع عليه المؤرخون،و أخذ يتطلب الوجوه البعيدة لتصحيح أخطائه و توجيهها بوجوه عليلة بعيدة عن واقع المنطق،اما قوله:إن ميزانية الدولة قد بلغت القمة من التضخم،و ان الاسراف عند الطبقات الخاصة قد بلغ الذروة،و انها قد اخذت في اكتساب الحمد و الثناء عن طريق الشعراء و الادباء فان هذا ليس مبررا له في صرف أموال المسلمين علي ملاذه و اغراضه التي لم يقرها الاسلام فقد ألزم بانفاق أموال الدولة علي تطوير الحالة الاقتصادية و توفير الحياة الحرة الكريمة للمواطنين.

ان تبذير الاموال الراجعة لنفس الانسان محرم في الشريعة الاسلامية فضلا عن أموال الناس فانه ضامن لها و مسئول عن صرفها في غير الوجه المشروع،و أما حاجته الي المدح و الذكر الحسن فلا يقره الشرع الاسلامي الذي أمر بالاحتياط في أموال المسلمين،و حرمة صرفها علي أي لون من الوان الدعاية الشخصية التي لا تعود علي المجتمع الاسلامي بأية ثمرة او فائدة.

و اما كون المحيط الذي كان حول هارون في سورة من جنون البذخ و الانفاق فاضطر لمجاراته ليحفظ توازن سمعته،فان ذلك غير مبرر له، و لا ينفي عنه المسئولية أمام اللّه..انه بحكم الشرع مسئول عن استبداده بأموال المسلمين،و مسئول عن تصرفات شعبه باعتباره خليفة المسلمين، و ولي أمرهم،فكان الواجب عليه أن يثيبهم الي الرشاد،و يهديهم الي سواء السبيل.

ان هذه التعليلات التي ذكرت لتصحيح اخطاء هارون في سياسته).

ص: 60


1- هارون الرشيد:(ج 1 ص 274).

المالية انما هي لون من الوان الطائفية التي هي مصيبة العالم الاسلامي في ماضيه و حاضره فقد اوجبت خفاء الحق،و تضليل الرأي العام في كثير من جوانب حياته العقائدية،و جعلت المسلمين في ذيل القافلة.

يجب علي كل من يبحث عن التأريخ الاسلامي،و يعالج قضاياه علي ضوء ما أثر عن الاسلام ان يتجرد من نزعاته التقليدية،و ان يخلص للحق ليخدم بذلك امته و مجتمعه.

ان الواجب يحتم علينا ان نبرز للمجتمع الذوات المثالية الفذة من رجال الاسلام الذين نفروا من الجور و الظلم،و رفعوا شعار العدالة،و نادوا بتطبيق المبادئ العليا التي جاء بها الاسلام،فلاقوا في سبيل ذلك اعنف المشاكل و أشدها عناء و محنة..هؤلاء الذين يجب أن يعتز بهم،و يشاد بذكرهم و تغذي الناشئة بمآثرهم..و أما الذين نهبوا و فسقوا،و استباحوا كل حرام من عرض و دم،و مال،و أشاعوا المنكر و التحلل بين المسلمين، فانه يجب ابعادهم عن المراكز العليا في الاسلام،و التدليل علي ما اقترفوه من عظيم الاثم في حق امتهم و بلادهم..و لنعد بعد هذا العرض الموجز للسياسة المالية التي سار عليها هارون الي عرض بعض اعماله الاخري التي دلت علي عدم تحرجه في الدين و انطلاقه في ميدان الشهوات التي حرمها اللّه.

ولعه بالغناء

:

و كان هارون مولعا بالغناء منذ حداثة سنه،فقد نشأ بين أحضان المغنيات و المطربات،و لشدة رغبته في ذلك فقد اجتمع في قصره عدد كبير

ص: 61

من المغنيات و العازفات،و اشتمل قصره علي مختلف الآلات الموسيقية (1)و هو الذي جعل المغنين طبقات و مراتب،فكان ابراهيم الموصلي و ابن جامع و زلزل الضارب في الطبقة الاولي،و كان زلزل يضرب و يغني الموصلي و ابن جامع،و الطبقة الثانية:اسحاق و سليم بن سلام،و عمرو الغزال، و الطبقة الثالثة:اصحاب المعازف و الطنابر،و كان يطرب للغناء (2).

و قد أمر المغنين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها،ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها..ثم أمرهم باختيار ثلاثة منها ففعلوا (3).

و عاهد ابراهيم الموصلي الهادي بأن لا يغني لاحد من بعده فلما توفي انقطع ابراهيم عن الغناء وفاء بالوعد،و لكن الرشيد أمره بأن يغني له فامتنع فرماه بالسجن و لم يطلق سراحه حتي غني في مجلسه (4).

و من ولعه بالغناء انه هام بحب ثلاث مغنيات من جواريه هن سحر و ضياء و خنث و قال فيهن الشعر،فمما قاله فيهن:

ملك الثلاث الآنسات عناني و حللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلها و أطيعهن و هن في عصيان

ما ذاك إلا أن سلطان الهوي و به قوين أعز من سلطان (5)

و قدم الي بغداد ابراهيم بن سعد الزهري،و هو من وعاظ السلاطين و علمائهم،فأكرمه الرشيد و سأله عن الغناء فأفتي علي وفق البلاط و رغبته بحليته/2

ص: 62


1- التمدن الاسلامي:118/5 و جاء فيه انه قيل ان في قصره ثلاثمائة جارية من الحسان يغنين و يعزفن.
2- التاج:ص 40-42
3- الاغاني:7/1
4- الاغاني:162/5
5- تزيين الاسواق،فوت الوفيات:391/2

و قصد ابراهيم بعض اصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري فسمعه يغني فقال له:لقد كنت حريصا علي أن أسمع منك،أما الآن فلا سمعت منك حديثا واحدا،فقال له الزهري:إذا لا أفقد شخصك،و عليّ إن حدثت حديثا في بغداد لأغني قبله،و شاعت القصة في بغداد فسمع بها الرشيد فدعا به فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي(ص)في سرقة الحلي فدعا ابراهيم بعود،فقال الرشيد:أعود المجمر؟قال:لا،و لكن عود الطرب،فتبسم الرشيد،ففهم ابراهيم بن سعيد سر تبسمه،فقال له:

يا أمير المؤمنين،لعله بلغك حديث السفيه الذي آذاني بالامس و ألجأني الي أن أحلف.

قال الرشيد:نعم،و دعا له بعود فغناه ابراهيم:

يا أم طلحة إن البين قد أفدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا

فقال له الرشيد من كان من فقهائكم يكره السماع؟.

قال ابراهيم من ربطه اللّه.

قال الرشيد:هل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شيء؟.

قال ابراهيم:لا و اللّه،إلا أن أبي أخبرني انهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بني يربوع،و هم يومئذ جلة و مالك يومئذ أقلهم في فقهه و قدره و معهم دفوف و معازف و عيدان يغنون و يلعبون و مع مالك دف مربع و هو يغنيهم.

سليما أجمعت بينا فأين لقاؤها أينا

و قد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا

تعالينا فقد طاب ل نا العيش تعالينا (1)

و هذه البادرة تكشف لنا مدي الاستهتار بأحكام الاسلام،حتي من/6

ص: 63


1- تأريخ بغداد:84/6

حملة الحديث،فقد عمد هذا الفقيه الي الفتيا بما خالف الشرع ليتوصل الي هارون و ينال من دنياه.

و بلغ من ولع هارون و شغفه بالغناء انه طلب من شقيقته علية أن تغنيه،فقالت له:و حياتك لأعملن فيك شعرا و لأصنعن فيك لحنا،و قالت من وقتها:

تفديك أختك قد حبوت بنعمة لسنا نعد لها الزمان عديلا

إلا الخلود و ذاك قربك سيدي لا زال قربك و البقاء طويلا

و حمدت ربي في اجابة دعوتي فرأيت حمدي عند ذاك قليلا

و صنعت فيه لحنا من وقتها في مقام خفيف الرمل،فطرب الرشيد عليه (1)و كانت علية في طليعة المغنيات في ذلك العصر،و قد شجعها علي ذلك إقبال أسرتها علي الملاهي و المجون و الدعارة فانجرفت معهم و هي تسحب ذيول الخيانة و الخزي،و قد عير بها الاسرة العباسية أبو فراس الحمداني بقوله:

منكم علية أم منهم و كان لكم شيخ المغنين ابراهيم أم لهم

و علي اي حال فقد انتشر الغناء في عصر هارون انتشارا هائلا حتي عد حاجة من حاجات الانسان الضرورية،فكان المغنون و المغنيات في الاماكن العامة و في الشوارع و في بيوت الأغنياء و الفقراء،و شغف الناس به حتي بلغ من رواجه و إقبال الناس عليه انه إذا غني مغن علي الجسر اجتمع عليه جمهور حاشد من الناس حتي يخاف من سقوط الجسر بهم (2)و حتي كان بعضهم ينطح العمود برأسه من حسن الغناء (3)و ارتفعت أسعار/1

ص: 64


1- سيدات البلاط العباسي:ص 28
2- الأغاني:127/18
3- ضحي الاسلام 91/1

الجواري التي تجيد الغناء فكلما كانت الجارية تحسن هذه الصناعة ازداد سومها و كان ابراهيم الموصلي هو الذي يتولي تعليمهن فاذا أتقنت واحدة منهن الغناء ارتفع ثمنها و في ذلك يقول أبو عيينة المهلبي في جارية يقال لها(أمان)و كان يهواها فأغلي مولاها السوم فقال:

قلت لما رأيت مولي أمان قد طغي سومه بها طغيانا

لا جزي اللّه الموصلي أبا إس حاق عنا خيرا و لا إحسانا

جاءنا مرسلا بوحي من الشي طان أغلي به علينا القيانا

من غناء كأنه سكرات ال حب يصبي القلوب و الآذانا (1)

و سادت الميوعة في ذلك العصر،و أسرف الناس في الخلاعة و المجون و قد شجعهم علي ذلك مليكهم هارون فقد رأوه انه لم يفارق الملذات و الغناء حتي بلغ به الحال أنه كان يستدعي أخاه ابراهيم بن المهدي فيغني له (2)و نظرا لاقباله علي الغناء فقد كانت له الدراية التامة بجميع فنونه فقد قال ابراهيم الموصلي لابن جامع المغني:«و اللّه لا أعلم أن أحدا بقي في الارض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين هارون الرشيد،فقال له ابن جامع:«حق و اللّه،انسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه» (3)و قد انطبعت هذه الروح في نفس ولده الأمين فكان مغرما بالغناء حتي في أعسر ساعاته عند ما أحيط به فقد كان يستمع الي الغناء،فحينما كانت حجارة المنجنيق تصل بساطه كانت احدي الجواري تغنيه (4).53

ص: 65


1- الاغاني:8/5-9
2- التاج:ص 37
3- الاغاني:174/6
4- التاج:ص 153

و قد ألحق انتشار الغناء اضرارا جسيمة بالمجتمع الاسلامي،فقد أدي الي فساد الاخلاق،و ميوعة المجتمع و ابتعاده عن تعاليم الاسلام التي تنشد الجد و تنهي عن العبث و المجون،و قد بلغ من تسيب الأخلاق في ذلك العصر انه لما توفي المطرب ابراهيم الموصلي أحدث حزنا عميقا و أسي مريرا في جميع الاوساط البغدادية و رثاه بعض الشعراء و بكاه أمر البكاء لفقدانه الطرب و اللهو فقال:

أصبح اللهو تحت عفر التراب ثاويا في محلة الاحباب

إذ ثوي الموصلي فانقرض الله و بخير الاخوان و الأصحاب

بكت المسمعات حزنا عليه و بكاه الهوي و صفو الشراب

و بكت آلة المجالس حتي رحم العود ضربة المضراب (1)

و رثاه شاعر آخر فقال:

تولي الموصلي فقد تولت بشاشات المزاهر و القيان

و أي بشاشة بقيت فتبقي حياة الموصلي علي الزمان

ستبكيه المزاهر و الملاهي و تسعدهن عاتقة الدنان

و كان الميت قبل هذا العصر يرثي ببكاء الخيل و السيوف و فقدان الجفان و الاضياف،أما في عصر هارون فقد أصبح يبكيه الهوي و الشراب و العود و كان ذلك ناشئا من دون شك من اضطراب الدين و فساد العقيدة في نفوس الناس حتي نشأ فيهم هذا التسيب الفظيع./5

ص: 66


1- الاغاني:47/5

شربه للخمر

:

و اندفع هارون الي شرب الخمر و الادمان عليها،و كان يدعو خواص جواريه إذا أراد الشراب (1)و ربما كان يتولي سقاية الشراب بنفسه لندمائه فقد حدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال:أرسل الي الرشيد ذات ليلة،فدخلت عليه فاذا هو جالس و بين يديه جارية عليها قميص مورد و سراويل موردة و قناع مورد كأنها ياقوتة،فلما رآني قال لي:اجلس، فجلست ثم قال لي:غن فغنيت:

تشكي الكميت الجري لما جهدته و بين لو يسطيع أن يتكلما

فقال:لمن هذا اللحن؟فقلت:لي يا أمير المؤمنين،فقال:هات لحن ابن سريج،فغنيته اياه فطرب و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا، و سقاني رطلا،ثم قال:غن،فغنيته:

هاج شوقي بعد ما شيب أصداغي بروق

موهنا و البرق من ما ذا الهوي قدما يشوق

فقال:لمن هذا الصوت؟فقلت:لي فقال:قد كنت سمعت فيه لحنا آخر،فقلت:نعم،لحن ابن محرز،فقال:هاته فغنيته فطرب، و شرب رطلا،ثم سقي الجارية رطلا،و سقاني رطلا ثم قال:غن فغنيته:

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلل و ان كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فقال لي:ليس هذا اللحن أريد،غن رمل ابن سريج فغنيته،و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا،ثم طلب من إسحاق أن يحدثه فحدثه عن أيام

ص: 67


1- التاج:ص 37

العرب و أخبارها (1)و كان يهدي لبعض أصحابه كئوس الخمر مملوءة (2)و يهدي إليه كذلك فقد روي ريق قال:كنت بين يدي الرشيد و عنده اخوه منصور و هما يشربان،فدخلت عليه(خلوب)جارية علية و معها كأسان مملوءتان و تحيتان و معها غلام يحمل عودا فغنتهما الجارية و الكأسان في أيديهما و كان غناؤها:

حيا كما اللّه خليليا إن ميتا كنت و ان حيا

إن قلت خيرا فخير لكم أو قلت غيا فغيا

فشربا الخمرة و فضا الرقعة فاذا فيها:«صنعت يا سيدي أختكما هذا اللحن اليوم،و ألقته علي الجواري،و اصطبحت فبعثت لكما به،و بعثت من شرابي إليكما و من تحياتي و أحذق جواري لتغنيكما» (3)،و سار أولاده علي ذلك فكان الأمين لا ينقطع عن الشراب،و قد وصفه وزيره الفضل ابن الربيع فقال:قد ألهاه كأسه و شغله قدحه فهو يجري في لهوه و الأيام تسرع في هلاكه،و كان يشرب بأقداح من بلور مرصعة بالجوهر (4)و كان المأمون يشرب في أول أيامه الثلاثاء و الجمعة،ثم انه أدمن علي الشراب عند خروجه الي الشام الي ان توفي (5).

و لما رأي الناس مليكهم هارون مدمنا علي شرب الخمر أدمنوا كذلك و انتشرت الخمرة عند أغلب الاوساط حتي في بيوت الفقراء فكانت لا تخلو منها،و تناولها الشعراء بالوصف الرائع بما لم توصف به من قبل حتي قدسها53

ص: 68


1- الاغاني:126/5-127
2- الأغاني
3- الاغاني:170/9-171
4- الطبري:215/10
5- التاج:ص 153

أبو نؤاس بشعره فقال:

اثن علي الخمر بآلائها و سمها أحسن أسمائها

و علق علي هذا البيت الدكتور طه حسين بقوله:«أ ليس الشطر الأول منه تسبيحا للخمر!؟،أ ليس الشطر الثاني منه تقديسا للخمر؟أ ليس في هذا البيت علي سهولته و براءته من ألفاظ المجون أشد الوان المجون؟أ ليس فيه الاستهزاء بالدين و السخرية منه،أ ليس يذكرك القرآن،أ ليس يذكرك قول اللّه تعالي:« وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْني فَادْعُوهُ بِها » (1)و قد جاهر ابو نؤاس بشربها مع اقراره بحرمتها فقال:

فان قالوا حرام قل حرام و لكن اللذاذة في الحرام

و قال:

ألا فاسقني خمرا و قل لي هي الخمر و لا تسقني سرا اذ أمكن الجهر

و لم يندفع أبو نؤاس الي الجهر بشربها و اعلان وصفها إلا لأنه رأي السلطة الحاكمة قد تهتكت،و تخلت عن المبادئ الاسلامية التي حرمتها، فقد جاء تحريمها صريحا في القرآن الكريم قال تعالي:« إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ »،و لكن هارون و غيره من ملوك العباسيين لم يعنون بتحريم الاسلام له،فعمدوا الي شربها في وضح النهار و في غلس الليل،و من المؤسف أن يعد هؤلاء الخلعاء الماجنون من أئمة المسلمين و من كبار قادتهم ثم يلتمس المعاذير لما اقترفوه من عظيم الاثم و المنكر،و قد بالغ الجو مرد في دفاعه عن هارون فنفي عنه شرب الخمر و قال انه ما شرب إلا النبيذ و ليس ذلك محرما في الاسلام (2)إن هذه التعاليل/1

ص: 69


1- حديث الاربعاء:109/2
2- هارون الرشيد:267/1

لا تدل إلا علي روح العصبية التي لا تمثل اي واقع علمي،فقد أجمع المؤرخون علي شربه للخمر و ادمانه عليها.

لعبه بالنرد

:

و لم يترك هارون اي لون من المحرمات في الاسلام إلا ارتكبه،فمن ذلك لعبه بالنرد (1)و هو من أنواع القمار الذي حرمه الاسلام،فقد حدث إسحاق الموصلي عن أبيه أنه لعب يوما مع الرشيد بالنرد في الخلعة التي كانت مع الرشيد،و الخلعة التي كانت عليه فتقامر الرشيد فلما قمره قام ابراهيم فنزع ثيابه ثم قال للرشيد:حكم النرد الوفاء به،و قد قمرت و وفيت لك، فالبس ما كان علي،فقال له الرشيد:ويلك!أنا ألبس ثيابك،فقال:

اي و اللّه اذا انصفت،و اذا لم تنصف قدرت و أمكنك،قال:ويلك! أو افتدي منك؟قال:نعم،و قال:و ما الفداء؟قال:قل أنت يا أمير المؤمنين.فانك أولي بالقول،فقال:أعطيك كل ما علي،قال:

فمر به يا أمير المؤمنين،فدعا بغير ما عليه فلبسه و نزع ما كان عليه فدفعه الي ابراهيم (2)و كان يلعب بالشطرنج اذا سافر في دجلة (3)و قد سار علي ذلك أولاده فكان ابنه الامين يلعب بالنرد مع وزيره الفضل بن الربيع (4).

ص: 70


1- النرد:لعبة وضعها احد ملوك الفرس و تعرف عند العامة بلعب الطاولة.
2- الاغاني:69/5-70
3- الاغاني:64/9
4- الفخري:ص 55

و روي المؤرخون انه كان يلعب بالصولجان (1)في الميدان،و يلعب بالنشاب في البرجاس،و يلعب بالاكرة و الطبطاب (2)و أخذ عنه ذلك ولداه فكان المأمون ينزل الي حلبة اللعب في كل يوم (3)و أمر الأمين بعد بيعته بيوم ببناء ميدان حول قصر لابي جعفر للصوالجة و اللعب (4).

لقد ساد اللهو،و عمت الدعارة،و انتشر المجون،و تدهورت الأخلاق و اقبرت الفضائل،في عهد،هارون و لو قدر أن يبقي علي اريكة الخلافة اكثر مما بقي لانحطت الدولة الاسلامية الي مستوي سحيق أقبح الانحطاط -كما قال الدكتور مصطفي جواد- (5).

إن الاعمال التي أثرت عن هارون قد دلت علي تحلله،و عدم تمسكه بأي رابطة دينية،فقد أسرف في الشهوات حتي صار بلاطه ملهي يضم جميع الوان الدعارة و المجون،فلا يكاد يخلو من حفلات الرقص و الغناء، و شرب الخمور،كما كان مسرحا للظلم و الجور و الاستبداد،و لم يعد حكم هارون يمثل أي جانب من جوانب الحكم الاسلامي،و قد أدرك الرشيد هذه الظاهرة فراح يتظاهر ببعض المظاهر الاسلامية فكان يحضر بعض الوعاظ فيلقون عليه المواعظ فيظهر البكاء من خشية اللّه كما كان يحج بيت اللّه الحرام و الغرض من ذلك التمويه علي البسطاء و السذج،و اغرائهم بأنه متحرج في دينه،و مهتم بشئون الاسلام،و انه علي عكس بني أمية الذين أهملوا48

ص: 71


1- الصولجان:كلمة فارسية معربة،قال في التهذيب:الصولجان عصا يعطف طرفها يضرب بها الكرة جاء ذلك في تاج العروس:66/2
2- بين الخلفاء و الخلعاء:ص 101
3- تأريخ بغداد لطيفور:ص 107
4- الطبري،ذكره في حوادث سنة 193
5- سيدات البلاط العباسي:ص 48

شئون الدين في حكمهم،و قد ألمع الي ذلك الاستاذ عمرو ابو النصر بقوله:

«ان العباسيين كانوا يتهمون الخلفاء الامويين بضعف الدين فكان من الحق و الحالة هذه أن يظهروا للناس بمظهر جديد فيه احترام للدين و تعزيز للعقائد الاسلامية» (1).

إن بعض الطقوس الدينية التي أعلنها هارون و غيره من ملوك العباسيين لم يكن الغرض منها إلا تضليل الرأي العام و خدعته بأن حكمهم يقوم بحماية الاسلام،و الذب عن مبادئه و أهدافه.

نعم ان قيامهم بالفتوحات العظيمة يدل بحسب ظاهره علي اهتمامهم بشئون الاسلام،و لكن التأمل يقضي بأن قيامهم بذلك ما كان الغرض منه إلا اتساع رقعة ملكهم،و بسط سلطانهم،و استبعاد الشعوب،و الاستيلاء علي مقدراتها الاقتصادية،و لو كانوا حريصين علي مصلحة الاسلام-كما يقال-لساروا بين المسلمين بسياسة الحق و العدل،و طبقوا أحكام القرآن علي واقع الحياة،و لكن لم نر شيئا من ذلك فقد حفلت كتب التأريخ بصور مخزية من لهوهم و مجونهم،و ازدرائهم بالقيم الانسانية،و استبدادهم بشئون المسلمين و ارغامهم علي الذل و العبودية،و لم يكن هناك أي ظل للحكم الاسلامي الهادف الي تطور الحياة و رفع مستوي الفكر.

موقف الامام

:

و تميز موقف الامام موسي(ع)مع حكومة هارون بالشدة و الصرامة فقد حرم التعاون معها في جميع المجالات،و قد ظهر هذا الموقف جليا في حديثه مع صفوان فقد قال له الامام:

ص: 72


1- هارون الرشيد:ص 75

«يا صفوان،كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا» فالتاع صفوان و ذابت نفسه لعلمه بأنه لم يخلد الي أي معصية فانبري للامام قائلا:

جعلت فداك أي شيء؟!! -كراؤك جمالك من هذا الطاغية-يعني هارون- -و اللّه ما أكريته أشرا،و لا بطرا،و لا للصيد و لا للهو و لكن أكريته لهذا الطريق-يعني طريق مكة-و لا أتولاه بنفسي،و لكن أبعث معه غلماني.

فقال له الامام:يا صفوان،أيقع كراك عليهم؟.

-نعم جعلت فداك.

-أ تحب بقاءهم حتي يخرج كراك؟.

-نعم فقال(ع):من أحب بقاءهم فهو منهم،و من كان منهم كان واردا للنار.

و أعرب عليه السلام في حديثه عن نقمته البالغة،و سخطه الشديد علي حكومة هارون،و هو موقف صارم منبعث من صميم العقيدة الاسلاميه التي أعلنت الحرب بغير هوادة علي الظالمين و المستبدين،و حرمت التعاون معهم بأي لون كان،و منعت من الركون إليهم بأي وجه من الوجوه،قال اللّه تعالي:« وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ »كما كشف عليه السلام بحكمه هذا عن مدي مقاومة الاسلام للظالمين،فقد حرم علي المسلمين الميل إليهم و الرغبة في بقائهم حتي لو كان ذلك مستندا الي بعض المصالح الشخصية التي ترتبط بظلمهم و جورهم فان من أحب بقاء الظالمين كان معهم و حشر في زمرتهم في نار جهنم.

ص: 73

و حذر عليه السلام في بعض أحاديثه شيعته من الدخول في سلك حكومة هارون و التلبس بأي وظيفة من وظائف دولته،فقال(ع)لزياد ابن أبي سلمة:

«يا زياد،لأن أسقط من شاهق فأتقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولي لهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم» (1).

و إنما قاوم عليه السلام حكومة هارون بهذه المقاومة الشديدة لأن في ولايته درسا للعدل و تبديلا لسنة اللّه و محوا للحق و إحياء للباطل و قتلا للاسلام فلذا حرم علي شيعته التعاون معه و استثني(ع)من ذلك ما اذا كانت الوظيفة لانقاذ المسلمين من الظلم و الجور،و قضاء حوائج المؤمنين فقد أباحها(ع) كما في حديثه مع علي بن يقطين،و هو مستثني من ولاية الجائر كما سنبينه في بعض فصول هذا الكتاب.

إن موقف الإمام من حكومة هارون موقف صريح واضح يقضي بوجوب تحطيم حكمه و إزالة ملكه،اما الوسائل المحققة لذلك فسنبين أنه كان يري ضرورة المقاومة السلبية فقط،و أما غيرها فليست من رأيه لعلمه بفشلها و عدم نجاحها و سنذكر ذلك عند التعرض لمحنة العلويين في دوره.

التنكيل بالعلويين

اشارة

:

و ورث هارون من جده المنصور البغض العارم و العداء الشديد للعلويين فقابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة و جفاء،و صب عليهم جام غضبه، و قد أقسم علي استئصالهم و قتلهم فقال:«و اللّه لأقتلنهم-اي العلويين-

ص: 74


1- المكاسب للشيخ الانصاري:باب الولاية من قبل الجائر.

و لاقتلن شيعتهم» (1).

و أرسل طائفة كبيرة منهم الي ساحات الاعدام،و دفن قسما منهم و هم أحياء،و أودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون الي غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبها عليهم،و فيما يلي عرض لبعضها:

نفيهم من بغداد:

و حينما استولي الرشيد علي دست الحكم اصدر مرسوما مليكا يقضي باخراج العلويين فورا من بغداد الي يثرب فقامت السلطة بنفيهم عنها (2)لقد كان الرشيد شديد الوطأة علي عترة النبي(ص)،و كانوا علي علم بمقته و بغضه لهم فحينما علموا بخلافته هاموا علي وجوههم في القري و الارياف متنكرين لئلا يعرفهم أحد،قد احاط بهم الرعب و الفزع، و استولي عليهم الخوف و الارهاب،و قد امعنت الشرطة في متابعتهم، و مطاردتهم،و انتشرت الاستخبارات و الأمن للتفتيش عنهم،فمن القوا القبض عليه ارسل الي القبور أو السجون أو الي بعض وزراء هارون ليرسل رأسه هدية إليه في أيام أعياده.

ففي ذمة اللّه ما عانته ذرية النبي(ص)من الارهاق و التنكيل في عهد هذا الطاغية الجبار الذي لم يرع فيهم حرمة جدهم الرسول(ص).

انتقاصهم:

و بذل هارون جميع جهوده و امكانياته لتحطيم العلويين و تشويه سمعتهم و أعطي المزيد من الاموال للشعراء الذين يهجونهم،و كان مفتاح الوصول إليه

ص: 75


1- الاغاني:225/5
2- التمدن الاسلامي:47/4

و الاتصال به و النيل من دنياه منحصرا في هذا الطريق فقد عاتب أبان بن عبد الحميد البرامكة علي تركهم ايصاله للرشيد فقالوا له:

«و ما تريد من ذلك؟».

فقال أبان:أريد أن أحظي منه بمثل ما يحظي به مروان بن أبي حفصة».

قال له الفضل:إن لذلك مذهبا و هو هجاء آل أبي طالب و ذمهم به يحظي و عليه يعطي فاسلكه حتي نفعل».

فتوقف أبان و قال:لا استحل ذلك،فقالوا له:

«فما تصنع؟لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل».

و أخيرا باع دينه و تخلي عن عقيدته،و نظم قصيدة ذمهم فيها و قد جاء فيها:

نشدت بحق اللّه من كان مسلما أعم بما قد قلته العجم و العرب

أعم رسول اللّه أقرب زلفة لديه أم ابن العم في رتبة النسب

و أيهما أولي به و بعهده و من ذا له حق التراث بما وجب

فان كان عباس أحق بنسلكم و كان علي بعد ذاك علي سبب

فأبناء عباس هم يرثونه كما العم لابن العم في الارث قد حجب

و عرض قصيدته علي الفضل فقال له:«ما يرد علي أمير المؤمنين أعجب من أبياتك»ثم مضي الي الرشيد فتلاها عليه فاعطاه و قربه إليه (1)لقد منح هارون الثراء العريض و وهب الاموال الطائلة لكل من انتقص العلويين من الشعراء،فقد انشده مروان بن أبي حفصة قصيدته التي جاء فيها:

أو ابناء عباس نجوم مضيئة إذا غاب نجم لاح آخر زاهر76

ص: 76


1- الاغاني:75/20-76

حصون بني العباس في كل مأزق صدور العوالي و السيوف البواتر

ليهنكم الملك الذي اصبحت بكم أسرته مختالة و المنابر

أبوك ولي المصطفي دون هاشم و إن رغمت من حاسديك المناخر

فأعطاه خمسة آلاف دينار و كساه خلعة و أمر له بعشرة من رقيق الروم الذين أسرهم،و أركبه علي برذون من خاص مراكبه (1).

لقد منحه هذه الاموال الضخمة لهجائه آل البيت عليهم السلام و مدحه للعباسيين و انهم أولي بالنبي من العلويين،و دخل عليه منصور النمري فأنشده قصيدته التي هجا فيها آل علي و هي:

بني حسن و قل لبني حسين عليكم بالسداد من الأمور

أميطوا عنكم كذب الأماني و أحلاما يعدن عدات زور

مننت علي ابن عبد اللّه يحيي و كان من الحتوف علي شفير

و لو جازيت ما اقترفت يداه دلفت له بقاصمة الظهور

يد لك في رقاب بني علي و من ليس بالمن الصغير

و إنك حين تبلغهم أذاة -و ان ظلموا-لمحترق الضمير

ألا للّه در بني علي و زور من مقالتهم كبير

يسمون النبي أبا و يأبي من الأحزاب سطر من سطور (2)

و لما فرغ من إنشاده قال له:ويحك ما هذا؟!!شيء كان في نفسي منذ عشرين سنة لم أقدر علي إظهاره فأظهرته بهذا البيت-و إنك حين تبلغهم أذاة-ثم قال للفضل بن الربيع:خذ بيد النميري فأدخله بيت المال ودعه يأخذ ما شاء،فأدخله الربيع بيت المال و لم يكن فيه سوي عشرين».

ص: 77


1- الطبري:473/3
2- أشار بذلك الي الآية الكريمة في سورة الاحزاب«ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول اللّه».

بدرة فاحتملها (1).

و كان منصور النمري يتظاهر بالميل لهارون و العداء للعلويين و لكنه كان يبطن الولاء لهم:فوشي به بعض خصومه الي الرشيد و أخبره بأنه يبطن التشيع و أنشده قصيدته التي يتفجع فيها لمقتل سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام،و هي:

شاء من الناس راتع هامل يعللون الناس بالباطل

تقتل ذرية النبي و ير جون جنان الخلود للقاتل

ويلك يا قاتل الحسين لقد نؤت بحمل بنوء بالحامل

أي حباء حبوت أحمد في حفرته من حرارة الثاكل

بأي وجه تلقي النبي و قد دخلت في قتله مع الداخل

هلم فاطلب غدا شفاعته أو لا فرد حوضه مع الناهل

ما الشك عندي في حال قاتله و انما الشك في الخاذل (2)

و عاذ لي أنّي أحب بني أحمد فالترب في فم العاذل

قد دنت ما دينكم عليه فما وصلت من دينكم الي طائل

دينكم جفوة النبي و ما ال جافي لآل النبي كالواصل

و عرض في قصيدته لظلامة سيدة النساء فاطمة(ع)،و طالب يمن يثأر لظلامتها يقول:

مظلومة و النبي والدها تدير أرجاء مقلة حافلذل

ص: 78


1- طبقات الشعراء:ص 246
2- هكذا ذكره ابن قتيبة في كتابه(الشعر و الشعراء)ص 285 و رواه الشريف المرتضي في أماليه هكذا: ما الشك عندي في كفر قاتله لكني قد أشك في الخاذل

أ لا مساعير يغضبون لها بسلة البيض و القنا الذابل (1)

و تلا علي هارون قوله:

آل الرسول و من يحبهم يتطامنون مخافة القتل

أمين النصاري و اليهود و هم من أمة التوحيد في أزل (2)

فتحرق الرشيد غيظا و غضبا و أمر باحضاره فورا،فتوجه الجند إليه و لكنهم وصلوه ليلة مات و دفن (3)و قال الرشيد:لقد هممت أن أنبشه ثم احرقه (4).

و خاف المسلمون في ذلك الدور المظلم من ذكر مناقب أهل البيت(ع) فلم يجرأ أحد من الشعراء علي مدحهم و رثائهم فان فاه بذلك تعرض للنقمة و العذاب فهذا ابن هرمة (5)لما مدحهم بقوله:

و مهما ألام علي حبهم فاني أحب بني فاطمة).

ص: 79


1- المساعير:جمع مسعار،و هو موقد الحرب،البيض:السيوف الذابل:الرقيق الحاد.
2- أزل:الضيق و الشدة
3- الاغاني:20/12
4- الشعر و الشعراء:ص 258
5- ابن هرمة:هو أبو اسحاق ابراهيم بن علي القرشي الفهري المدني،شاعر مفلق من الشعراء المخضرمين،قال الاصمعي ختم الشعر بابراهيم بن هرمة و هو آخر الحجج،و كان ممن اشتهر بالانقطاع للطالبيين و قد اكثر من مدائحهم و رثائهم،كان جوادا كريما و هو القائل: و يدل ضيفي في الظلام علي اشراق ناري أو نبيح كلابي جاء ذلك في الكني و الالقاب:(ج 1 ص 435-436).

بني بنت من جاء بالمحكما ت و الدين و السنة القائمة

فسئل عن قائلها فأنكر أنه قالها،و شتم قائلها و قد أنكر عليه ابنه لأنه سب نفسه و كان يعلم انه نظم البيتين فقال له:يا بني،ان ذلك خير للمرء من أن يأخذه ابن قحطبة (1)و أعرض الناس عن ذكر أهل البيت(ع) خوفا من نقمة هارون كما اندفع بعض المارقين عن الاسلام و المنحرفين عنه الي اعلان سبهم و طعنهم تقربا للرشيد فهذا مروان بن أبي حفصة تعرض لكرامة سيدة النساء فاطمة عليها السلام فوصفها بأنها كانت تطحن بالرحي و ان رسول اللّه(ص)زوجها من أمير المؤمنين(ع)و هو بائس فقير و قد رده ابن الحجاج (2)بقوله:

أ كان قولك في الزهراء فاطمة قول امرئ لهج بالنصب مفتونخف

ص: 80


1- الاغاني:109/4-110
2- ابن الحجاج:هو ابو عبد اللّه الحسين بن احمد بن الحجاج النيلي البغدادي الكاتب الموهوب في طليعة شعراء الشيعة،يقال انه في درجة امرئ القيس في شعره،كان معاصرا للسيدين الرضي و المرتضي له ديوان شعر كبير يقع في عدة مجلدات،جمع الشريف الرضي المختار من شعره و سماه «الحسن من شعر الحسين»و من شعره القصيدة الفائية المعروفة في مدح مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: يا صاحب القبة البيضاء علي النجف من زار قبرك و استشفي لديك شفي زوروا أبا الحسن الهادي فانكم تحظون بالاجر و الاقبال و الزلف زوروا لمن يسمع النجوي لديه فمن يزره بالقبر ملهوفا لديه كفي و قل سلام من اللّه السلام علي أهل السلام و أهل العلم و الشرف اني أتيتك يا مولاي تشفع لي و تسقني من رحيق شافي اللهف لأنك العروة الوثقي فمن علقت بها يداه فلن يشقي و لم يخف و القصيدة طويلة ذكر فيها سيلا من الأدلة علي إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و ختمها بقوله: بحب حيدرة الكرار مفتخري به شرفت و هذا منتهي شرفي توفي سنة 391 هجرية في شهر جمادي الثانية في اليوم السابع و العشرين و دفن بجوار مولانا الامام موسي بن جعفر عليه السلام و أوصي أن يكتب علي لوح قبره:(و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)و رثاه السيد الرضي بقوله: نعوه علي حسن ظني به فلله ما ذا نعي الناعيان رضيع ولاء له شعبة من القلب مثل رضيع اللبان و ما كنت أحسب أن الزمان يفل بضارب ذاك اللسان جاء ذلك في الكني و الالقاب:(ج 1 ص 245-247)،يوجد ديوان شعره بمكتبة الامام كاشف الغطاء العامة و قد أخذ بالصورة الفوتوغرافية علي النسخة الأصلية القديمة.

عيرتها بالرحي و الحب تطحنه لا زال زادك حبا غير مطحون

و قلت ان رسول اللّه زوجها مسكينة بنت مسكين لمسكين (1)

لقد سحق مروان بن أبي حفصة جميع المقدسات و القيم الاسلامية للتوصل الي هارون،فهاجم أعز الناس عند النبي(ص)و أحبهم إليه و هي بضعته الطاهرة سيدة النساء(ع)لينال بذلك من نعيم هارون و دنياه،اما الصفات التي حاول بها الطعن علي سيدة النساء فانها كانت من أميز صفاتها اذ ليس عليها نقص أو حزازة في طحنها الطعام لأطفالها و زوجها من دون أن تستعين بأحد فان أباها الرسول(ص)لم يشتر لها خادما يعينها علي شئونها البيتية و هي أعز ابنائه و بناته عنده،و قد أعطي(ص)بذلك درسا/2

ص: 81


1- المناقب 97/2

خلاقا لحكام المسلمين و ولاتهم في لزوم الاحتياط بأموال المسلمين و حرمة اصطفاء أي شيء منها.

و اما زواجها من الامام أمير المؤمنين(ع)و هو بائس فقير فلأنه لم يكن لها كفء سواه،و ليس الاسلام ينظر في موضوع الزواج الي المادة و الثراء و انما ينظر الي العفة و الفضيلة،و ليست متع الحياة عنده ملحوظة مطلقا في هذا الموضوع ما دام الانسان علي سلامة من دينه،و لم يكن في العالم الاسلامي منذ فجر تاريخه من يملك رصيدا من المواهب و الكمالات و العبقريات و صلابة العقيدة و قوة الايمان كما ملكه الامام أمير المؤمنين عليه السلام،فهل هناك احد ضمته سماء الأمة الاسلامية أسمي منه و أرفع حتي يزوجه النبي من بضعته العزيزة عليه،و لكن النفوس التي لم تع هدي الاسلام و تعاليمه،أخذت تنظر الي سمو الشخص من زاوية واحدة و هي الثراء و المال فراحت تحاول الطعن و الانتقاص من سيدة النساء عديلة مريم بنت عمران في قداستها و عفافها لانها تزوجت من الامام أمير المؤمنين و هو فقير لا مال عنده.

مجزرة رهيبة:

و سلبت الرحمة و انعدمت الرأفة من نفس الطاغية هارون تجاه العلويين فقد ارتكب أبشع جريمة سجلها التأريخ تجاههم و هي إعدامه لجماعة منهم في ليلة واحدة بصورة محزنة تذهب النفس لهولها أسي و حسرات،و قد حدث بفصول تلك المأساة الرهيبة الجلاد حميد بن قحطبة،فقد روي عبيد اللّه النيسابوري قال:دخلت علي حميد بن قحطبة في شهر رمضان وقت الزوال فأحضرت المائدة فدعاني حميد الي تناول الطعام فقلت له:أيها الأمير، هذا شهر رمضان،و لست بمريض،و لا بي علة توجب الافطار،و لعل

ص: 82

الأمير له عذر في ذلك فقال لي ما بي علة توجب الافطار ثم دمعت عينه و بكي،و بعد فراغه من الطعام التفت إليه عبيد اللّه مستفهما عن سر بكائه فأجابه:

أنفذ إلي هارون حينما كنت بطوس في غلس الليل فلما مثلت عنده قال لي:

كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ -أفديه بالنفس و المال فأطرق هارون برأسه ثم أذن لي بالانصراف،و بعد فترة قصيرة بعث خلفي فلما حضرت عنده قال لي:

-كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ -أفديه بالنفس و الأهل و المال فتبسم هارون ثم أذن لي بالانصراف،فلما دخلت منزلي عاودني الرسول مرة ثالثة قائلا أجب أمير المؤمنين فلما حضرت عنده قال لي:

-كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ -أفديه بالنفس و الأهل و المال و الدين فتبسم،و قال:خذ هذا السيف،و امتثل ما يأمرك به الخادم، فأخذت السيف،و قدم الخادم أمامي حتي جاء بي الي بيت مغلق فاذا فيه بئر في وسطه،و ثلاثة بيوت مغلقة،ففتح بيتا منها فاذا فيه عشرون شخصا بين شيخ و كهل و شاب،فقال لي:

«إن أمير المؤمنين،يأمرك بقتل هؤلاء،و كلهم من ولد علي و فاطمة».

فجعل يخرج لي واحدا بعد واحد و أنا أضرب عنقه حتي أتيت علي آخرهم فرمي بأجسادهم و رءوسهم في تلك البئر،ثم فتح البيت الثاني و إذا

ص: 83

فيه عشرون شخصا فقال لي:

«إن أمير المؤمنين،يأمرك بقتل هؤلاء جميعا،و كلهم من ولد علي و فاطمة».

و أخذ يخرج لي واحدا بعد واحد حتي أتيت علي آخرهم قتلا فرمي بأجسادهم و رءوسهم في تلك البئر،ثم فتح الباب الثالث و إذا فيه عشرون علويا و أمرني بقتلهم فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد حتي أعدمت منهم تسعة عشر شخصا و بقي شيخ كبير فقال لي:

«تبا لك،أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت علي جدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و قد قتلت من أولاده ستين شخصا،فارتعدت فرائصي و أصابتني هزة عنيفة فنظر إلي الخادم شزرا و نهرني،فأتيت علي ذلك الشيخ فقتلته و رميت به في ذلك البئر».

و التفت الي عبيد اللّه فقال له:

«اذا كان فعلي هذا،و قد قتلت ستين شخصا من ولد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فما ينفعني صومي و صلاتي؟و أنا لا أشك اني مخلد في النار» (1).

و هذه المجزرة ان صحت نسبتها إليه (2)فانها تدل علي انه لا عهد له باللّه و لا باليوم الآخر فقد أقدم علي هتك حرمات اللّه،و أراق دماء آل النبي(ص)بغير حق.ر.

ص: 84


1- البحار:285/11-286:عيون اخبار الرضا.
2- جاء في كل من تأريخ الطبري و النجوم الزاهرة أن حميد بن قحطبة توفي سنة(158)و ولاية الرشيد كانت سنة(170)و هو مناف لوقوع هذه الحادثة في أيام الرشيد و الاقرب ان هذه المجزرة وقعت أيام المنصور.

هدم مرقد الحسين:

و ضاق الرشيد ذرعا،و استشاط غضبا و غيظا حينما رأي جماهير المسلمين تتهافت علي زيارة مرقد ريحانة النبي(ص)و سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين(ع)فأمر باحضار سادن المرقد المطهر ابن ابي داود ليصب عليه جام عقابه و عذابه،و لما مثل عنده قال له بنبرات تقطر غضبا:

«ما الذي صيرك في الحير» (1)فقال له ابن ابي داود:إن الحسن بن راشد (2)هو الذي وضعني في ذلك الموضع،فهز الرشيد رأسه،و أمر باحضاره بالفور و هو يقول:

«ما أخلق ان يكون هذا من تخليط الحسن»و لما حضر عنده قال له:

«ما حملك علي أن صيرت هذا الرجل في الحير؟» فقال له الحسن مستعطفا:

«رحم اللّه من صيره في الحير أمرتني أمّ موسي (3)أن اصيره و ان اجري عليه في كل شهر ثلاثين درهما.

فهدأ روع الرشيد،و قال:«ردوه الي الحير،و اجروا عليه ما أجرته أم موسي» (4).

و ما لبث الرشيد أن عاد الي غيه و طغيانه فأمر بهدم المرقد العظيم و هدم الدور المجاورة له،و اقتلاع السدرة التي كانت الي جانب القبر

ص: 85


1- الحير:اسم لمدينة كربلاء المقدسة كما في معجم البلدان و الصحاح
2- الحسن بن راشد من رواة الامام الصادق(ع)و من أعلام الشيعة
3- أمّ موسي:هي أم المهدي،و هي ابنة يزيد بن منصور الحميري من ملوك اليمن.
4- الطبري:118/10

الشريف (1)كما أمر بحرث ارض كربلا ليمحو بذلك كل أثر للقبر المطهر و قد انتقم اللّه منه فانه لم يدر عليه الحول حتي هلك في خراسان (2)لقد خاب سعي الرشيد،و ظل كيده فانه و سائر ملوك الأمويين و العباسيين و غيرهم ممن نصبوا العداوة و البغضاء لسيد الشهداء(ع)قد خبا ذكرهم،و أفل مجدهم،و بقي الامام الحسين رمزا للخلود قد استوعب ذكره جميع لغات الأرض،تتهافت الملايين من المسلمين علي زيارة مرقده و اقامة عزائه.

و ستبقي تلك المراقد الزكية في كربلاء رمزا خالدا للانسانية تزداد شأنا و عظمة علي جميع مراحل التأريخ.

و سيبقي الحسين وحده علي هامة الشرف و المجد حتي يرث اللّه الأرض و من عليها

اعدام العلويين و اغتيالهم

اشارة

:

و أعدم الطاغية هارون و اغتال طائفة كبيرة من أعلام العلويين هم من خيرة المسلمين علما و ورعا و تحرجا في الدين،و نعرض فيما يلي لبعضهم

ص: 86


1- المناقب:19/2،الامالي:(ص 206)و جاء فيهما ان يحيي ابن المغيرة الرازي قال:«كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق،فسأله جرير عن خبر الناس.فقال:تركت الرشيد، و قد كرب قبر الحسين عليه السلام و أمر أن تقطع السدرة فقطعت.فرفع جرير يديه و قال اللّه اكبر جاءنا فيه حديث عن رسول اللّه(ص)أنه قال: لعن اللّه قاطع السدرة ثلاثا.فلم نقف علي معناه حتي الآن،لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتي لا يقف الناس علي قبره».
2- تأريخ كربلاء:(ص 198)

مع بيان ما جري عليهم من القتل و التنكيل.

1-عبد اللّه بن الحسن:

ابن علي بن الامام زين العابدين(ع)يكني أبا محمد،أمه بنت سعيد ابن محمد بن جبير،عهد إليه بالأمر من بعده الشهيد الحسن بن علي قتيل فخ.

قال الرشيد للفضل بن يحيي:هل سمعت بخراسان ذكرا لاحد منهم -أي من العلويين-؟ قال الفضل:لا و اللّه لقد جهدت فما ذكر أحد لي منهم إلا اني سمعت رجلا ذكر موضعا ينزل فيه عبد اللّه بن الحسن،فلما سمع الرشيد بذلك بعث خلفه فجيء به إليه فلما حضر عنده قال له:بلغني أنك تجمع الزيدية،و تدعوهم الي الخروج معك،فتوسل إليه عبد اللّه و أنكر ذلك قائلا:

«يا أمير المؤمنين،ناشدتك اللّه في دمي،فو اللّه ما أنا من هذه الطبقة،و لا لي فيهم ذكر،و ان أصحاب هذا الشأن بخلافي،انا غلام نشأت بالمدينة،و في صحاريها أسعي علي قدمي،و أتصيد بالبواشيق ما هممت بغير ذلك».

فلم يلن قلب الرشيد لاستعطافه،و أمر باعتقاله في بعض سجونه، و لم يزل العلوي محبوسا حتي ضاق صدره فبعث برسالة الي هارون ملأها بالشتم و السباب،فلما قرأها هارون تحرق من الغيظ و نقله من الحبس و دعا جعفر بن يحيي فأمره بأن يجعله عنده،و في اليوم الثاني و قد صادف عيد النيروز قدمه جعفر فضرب عنقه و غسل رأسه و جعله في منديل و أهداه الي

ص: 87

الرشيد مع جملة من الهدايا (1)و إنما قدم جعفر علي ارتكاب هذه الجريمة لعلمه أن أثمن هدية تقدم للرشيد قتل ذرية رسول اللّه(ص)فانها توجب سروره و المزيد من الثقة به.

2-العباس بن محمد:

ابن عبد اللّه بن الامام زين العابدين عليه السلام،يكني أبا الفضل، و أمه أم سلمة بنت محمد بن علي بن الحسين،دخل علي هارون فكلمه كلاما طويلا فقال هارون له:يا بن الفاعلة،فثار العباس ورد عليه بأغلظ القول و أقساه قائلا له:

«تلك أمك التي تواردها النخاسون».

و كان هذا هو منطق الأحرار الذين لا يخضعون لمنطق القوة و السلطان و لما سمع الرشيد ذلك ثار من الغضب،و أمر أن يدني منه و قام فضربه بالجرز (2)حتي قتله (3).

3-إدريس بن عبد اللّه:

ابن الحسن بن الحسن بن الامام أمير المؤمنين(ع)أمه عاتكة بنت عبد الملك بن الحرث الشاعر المعروف،حضر إدريس واقعة فخ و أفلت منها مع مولي له يقال له:راشد،فخرج حتي وصل إلي مصر فنزلها ليلا و جلس علي باب رجل من موالي بني العباس،فسمع كلامه فخرج فعرفه بنفسه بعد أن أخذ منه العهود و المواثيق أن لا يعرف شخصيته لأحد و لا يخبر السلطة المحلية به فاستجاب لقوله:و آواه تلك الليلة و قام في تكريمه

ص: 88


1- مقاتل الطالبيين:(ص 493-494)
2- الجرز:عمود من حديد
3- مقاتل الطالبيين:ص 498

علي أحسن ما يرام،و تهيأت قافلة الي افريقية فبعث معها راشدا و تخلف الرجل مع إدريس فسلك به طريقا آخر خوفا عليه من أن يؤخذ،و مضيا يجدان في الطريق حتي انتهيا الي طنجة و فاس،و أخذ إدريس يبث دعوته و ينشر أهدافه حتي استجابت له البربر،و بايعته فبلغ الرشيد ذلك فاهتم لأمره،و شكا أمره الي رئيس وزرائه يحيي البرمكي فقال له:أنا أكفيك أمره،و دعا سليمان بن جرير الجزري،و كان من متكلمي الزيدية فأوعده بالأموال الطائلة و أرشاه إذا اغتال إدريس و دفع إليه سما فاتكا فاستجابت نفسه الخبيثة الي الشر،و مضي يقطع البلاد حتي انتهي الي ادريس فأسر إليه بمذهبه و أخبره انه انهزم من السلطة نظرا لأنه من متكلمي الزيدية، فأنس به إدريس و قربه إليه،و كانت الزيدية تجتمع به فيلقي عليها المحاضرات و الدروس من مذهبهم،و لما تيقن إدريس باخلاصه أخرج إليه سليمان قارورة طيب و قال له:انه لا يوجد في هذا البلد مثلها فأخذها إدريس و شمها فتسمم بها و أقام نهارا و قد أثر فيه السم حتي لحق بالرفيق الأعلي.و قيل انه أهدي إليه سمكة مشوية مسمومة فلما تناولها توفي علي الأثر،و قال بعض شيعة بني العباس يفخر في قتله:

أ تظن يا إدريس انك مفلت كيد الخليفة أو يقيك فرار (1)

فليدركنك أو تحل ببلدة لا يهتدي فيها إليك نهار

إن السيوف إذا انتضاها سخطه طالت و تقصر دونها الأعمار (2)

ملك كأن الموت يتبع أمره حتي يقال تطيعه الأقدار

و دفن هناك و كانت له امرأة حامل فولدت له ولدا سمي بادريس فانتظروه الي ان كبر فبايعوه و بذلك تشكلت دولة لبني الحسن في المغربا»

ص: 89


1- في رواية الطبري:«أو يفيد فرار»
2- في رواية الطبري:«قصر دونها»

و عرفت دولتهم بدولة الأدارسة (1).

4-يحيي بن عبد اللّه:
اشارة

ابن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام،يكني أبا الحسن كان جليل القدر رفيع الشأن له منزلة مرموقة عند المسلمين،و نعرض فيما يلي الي بعض شئونه و أحواله:

1-صفته:

كان قصيرا حسن الوجه و الجسم،تعرف سلالة الأنبياء في وجهه و وصفه بعض عيون هارون له فقال:إنه مربوع،أسمر،حلو السمرة حسن العينين عظيم البطن.

2-منزلته العلمية:

كان من عيون أهل العلم و الفضل،روي الحديث و اكثر الرواية عن الامام جعفر الصادق(ع)و روي عن أبيه و عن أخيه محمد و عن أبان بن تغلب،روي عنه مخول بن ابراهيم،و بكار بن زياد،و يحيي بن مساور، و عمرو بن حماد،و كان مالك بن أنس إذا رآه قام عن مجلسه و أجلسه إلي جنبه.

ص: 90


1- تراجع سيرة إدريس و أخباره في تأريخ الطبري:14/9 -31 و مقاتل الطالبيين ص 487-491 طبع مصر،و نفح الطيب للمقري: 224/1-227 و الاستقصاء لدول المغرب الأقصي للسلاوي طبع مصر: 67/1.
3-نشأته:

نشأ في بيت الامام الصادق(ع)و أفاض الامام عليه الكثير من علومه و جعله أحد أوصيائه،و كان إذا حدث عن الامام الصادق يقول حدثني حبيبي جعفر بن محمد(ع)و قد شاهد النكبات القاسية و الخطوب السود التي مرت علي أسرته و أهل بيته من الظالمين و حكام الجور.

4-اشتراكه في ثورة الحسين:

كان يحيي من أبطال ثورة الشهيد صاحب واقعة فخ فقد ساهم فيها مساهمة فعالة،و ناضل مع بقية اخوانه نضالا كثيرا و جاهد جهادا طويلا في سبيل تحقيق العدل و المساواة في ربوع المجتمع الاسلامي،و إزالة حكم الظالمين من بني العباس،و لما استولت جيوش العباسيين علي الحسين و قتلوه بتلك القتلة المروعة الموجعة،اختفي يحيي و هرب مع زمرة من اخوانه الأباة يجول في البلدان و يطلب موضعا يلجأ إليه.

5-هربه الي الديلم:

و خاف يحيي علي نفسه و علي أصحابه من هارون فمضي متخفيا و متنكرا مع سبعين رجلا من أصحابه الي الديلم فلما وصل إليها استقبل باستقبال حاشد و ظهر أمره و دعا الناس الي نفسه فاستجابوا له،و نزع إليه الناس من سائر الأمصار و الأقطار،ففزع الرشيد من ذلك فزعا شديدا فترك شرب الخمر و اشتغل بالتفكير في أمره،و بينما هو مشغول في أمره إذ دخل عليه رجل فقال له:يا أمير المؤمنين نصيحة.فقال الرشيد:لهرثمة اسمع ما يقول، فأبي الرجل أن يخبر بأي شيء و قال:إنها من أسرار الخلافة فأمره أن لا يبرح من مكانه حتي يفرغ من بعض شئونه فلما فرغ استدعي به فطلب منه

ص: 91

إخلاء المجلس من كل إنسان فأمر الرشيد بانصراف من كان معه و قال له:

-هات ما عندك -علي أن تؤمنني من الأسود و الأحمر؟ -نعم و أحسن إليك -كنت في خان من خانات حلوان فاذا انا بيحيي بن عبد اللّه في دراعة صوف غليظة،و كساء صوف أحمر غليظ و معه جماعة ينزلون اذا نزل،و يرتحلون اذا رحل،و يكونون معه ناحية فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه و هم أعوانه.

قال الرشيد:أو تعرف يحيي؟ قال قديما و ذاك الذي حقق معرفتي بالأمس له.

قال:صفه لي فوصفه بجميع صفاته قال الرشيد:هو ذاك.فما سمعته يقول؟.

قال:ما سمعته يقول شيئا،غير اني رأيته،و رأيت غلاما له أعرفه لما حضر وقت الصلاة أتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه،و نزع جبة من الصوف ليغسلها،فلما كان بعد الزوال صلي صلاة ظننتها العصر،أطال في الأولتين و حذف الأخيرتين.

قال الرشيد:للّه أبوك!!لجاد ما حفظت تلك صلاة العصر و ذلك وقتها عند القوم،أحسن اللّه جزاءك و شكر سعيك،فما أنت و ما أصلك؟؟.

قال:انا رجل من أبناء هذه الدولة،و أصلي مرو،و منزلي بمدينة السلام.

و اغتم الرشيد،و طافت به أفكار مبرحة و هواجس مريرة و أخذ يطيل التفكير في ذلك فرأي أن لا وسيلة له إلا الحرب.

ص: 92

6-خروج الفضل لحربه:

و ندب هارون لحرب يحيي الفضل بن يحيي و زوده بجيش بلغ خمسين الف رجل و معهم كبار القواد و صناديد الجيش،و ولاه كور الجبال و الري و جرجان و طبرستان و قومس و دنباوند و الرويان،و أخذ معه أموالا طائلة فرقها علي زعماء الجيش و علي الشعراء،و تحرك الفضل تحف به جيوشه و معه الأموال يشتري بها الضمائر و انتهي في مسيره الي طالقان فأقام فيها، و أخذ يراسل صاحب الديلم و جعل له الف الف درهم علي أن يسهل له خروج يحيي.

7-تفرق أصحاب يحيي:

و لما سمع أصحاب يحيي بقدوم الفضل لحربه تفرقوا عنه و خذلوه»و كثر خلافهم،و انشقاقهم عليه فجعل يحيي يناجي ربه و يدعوه قائلا:

«اللهم اشكر لي إخافتي قلوب الظالمين،اللهم إن تقض لنا النصر عليهم فانما نريد إعزاز دينك،و ان تقض لهم النصر فيما تختار لأوليائك و أبناء أوليائك من كريم المآب و حسن الثواب».

و دعاه الفضل الي الصلح و عدم إراقة الدماء فلم يجد يحيي بدا من اجابته إذ لم تكن له فئة ينصرونه و لم يكن يأوي الي ركن شديد.

8-عقد الصلح:

و وقع الصلح بين يحيي و الفضل علي شروط شرطها الفضل،فكتبت الشروط و بعثت الي هارون فوقع عليها و أشهد الجماعة التي طلب يحيي شهادتهم،و جاء إليه عبد اللّه بن الامام موسي(ع)بعد ابرام الصلح فقال له:يا عم اخبرني بما لقيت؟فقال:ما كنت إلا كما قال حي

ص: 93

ابن أخطب:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه و لكنه من يخذل اللّه يخذل

فجاهد حتي أبلغ النفس عذرها و قلقل يبغي العز كل مقلقل

لقد اضطر يحيي الي الصلح و إلي الاتفاق مع خصمه لأن جيشه قد تفرق عنه و خذله الناس و لم يبق معه إلا قلة خيرة من أصحابه لا تتمكن علي حمايته و الدفاع عنه حتي اضطر الي المسالمة علي ما فيها من قذي في العين و شجي في الحلق.

9-قدومه لبغداد:

قدم يحيي الي بغداد و نفسه مترعة بالألم و الحزن لعلمه ان هارون لا يفي بعهده و وعده،و جاء الي الرشيد تحف به زمرة من أصحابه فقام إليه و عانقه و أظهر له الود الكاذب،و أمر له بالوقت بمائتي الف دينار فأخذها و أوفي بها دينا كان للحسين صاحب واقعة فخ و لم يتصرف بها و مكث في بغداد،و قد وضع عليه الرشيد العيون و الجواسيس يراقبونه و يتعرفون علي من يفد إليه من أصحابه و شيعته،و في نفس الوقت كان يدبر الحيلة في اغتياله و قتله فشعر بذلك يحيي فطلب من الفضل أن يسمح له بالوفادة لبيت اللّه الحرام فامتنع من إجابته-أولا-و لكنه توسل إليه و التمس منه ذلك فأذن له، و علم الرشيد بذلك فدعا بالفضل فلما مثل عنده قال له:

-ما خبر يحيي بن عبد اللّه؟.

-في موضعه عندي مقيم -و حياتي فأحس الفضل بذلك فقال له:و حياتك إني أطلقته سألني برحمة من رسول اللّه فرققت له.

ص: 94

قال الرشيد:أحسنت قد كان عزمي أن أخلي سبيله.

و خرج الفضل و هارون يتميز من الغضب و الغيظ و ألحقه بنظرة مريبة قائلا:«قتلني اللّه إن لم أقتلك»و لما انتهي يحيي من حجه قدم قافلا الي بغداد،و الرشيد مهتم في أمره يتحين الفرص لنقض عهده و قتله،فبعث خلفه فلما حضر عنده قال له:

يا يحيي،أينا أحسن وجها أنا أو أنت؟.

-بل أنت يا أمير المؤمنين،إنك لأنصع لونا و أحسن وجها.

-فأينا أكرم و أسخي أنا أو أنت؟.

و لم تكن هذه الأسئلة إلا دليلا علي غروره و قلة حيائه و صفاقة وجهه و تماديه في الاثم و الطيش و انبري يحيي الي جوابه قائلا له:

-و ما هذا يا أمير المؤمنين؟!!و ما تسألني عنه،أنت تجبي إليك خزائن الأرض و كنوزها،و أنا اتمحل من سنة الي سنة.

فخجل هارون من سؤاله و قال له:أينا أقرب الي رسول اللّه(ص) أنا أو أنت؟.

قال يحيي:قد أجبتك عن خطتين فاعفني عن هذه.

و إنما تنصل من الجواب لعلمه بأنه يسبب له مشكلة لا يتمكن من الخلاص منها فأصر هارون علي أن يجيبه و لم يجد يحيي بدا من ذلك فقال له:

يا أمير المؤمنين،لو عاش رسول اللّه(ص)و خطب إليك ابنتك أ كنت تزوجه؟! قال هارون:إي و اللّه.

قال يحيي:فلو عاش فخطب مني ابنتي أ كان يحل لي أن أزوجه؟.

قال الرشيد:لا.

قال يحيي:هذا جواب ما سألت.

ص: 95

فغضب الرشيد،و لم يملك جوابا لرده،و أمر باعادته الي السجن، و أخذ يطيل التفكير في أمره فعنّ له أن يجمع بينه و بين عبد اللّه بن مصعب ابن الزبير-و كان من أعدي الناس للعلويين-لعله يجد في ذلك مجالا لرميه بالخروج من الطاعة ليتخذ من ذلك مبررا في نقض عهده و قتله فجمع بينهما فانبري عبد اللّه قائلا:

«يا أمير المؤمنين،هذا دعاني الي بيعته».

قال يحيي:أتصدق هذا و تستنصحه؟و هو ابن عبد اللّه بن الزبير الذي أدخل أباك و ولده الشعب و أضرم عليهم النار حتي خلصهم أبو عبد اللّه الجدلي صاحب علي بن أبي طالب(ع)عنوة،و هو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي علي النبي(ص)في خطبته حتي التاث عليه الناس،فقال:ان له أهل بيت سوء اذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم و اشرأبوا لذكره و فرحوا بذلك،فلا أحب أن أقر أعينهم بذكره،و هو الذي فعل بعبد اللّه ابن العباس ما لا خفاء به عليك،حتي ذبحت يوما عنده بقرة فوجدت كبدها قد نقبت فقال له ابنه:يا أبة أ ما تري كبد هذه البقرة؟فقال:

يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك،ثم نفاه الي الطائف فلما حضرته الوفاة قال لعلي ابنه:يا بني،الحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، و لا تقم في بلدة لابن الزبير فيه إمرة،فاختار له صحبة يزيد بن معاوية علي صحبة عبد اللّه بن الزبير و و اللّه ان عداوة هذا لنا جميعا بمنزلة سواء، و لكنه قوي عليّ بك و ضعفت عنك فتقرب بي إليك ليظفر منك بما يريد اذ لم يقدر علي مثله منك،و ما ينبغي لك أن تسوغه ذلك فيّ.

و أخذ يحيي يلي بمنطقه الفياض علي بغض آل الزبير لبني العباس فقال عبد اللّه:ما تدعون بغيكم علينا و توثبكم في سلطاننا،فأعرض يحيي عن جوابه و قال يخاطب هارون:

ص: 96

«أ توثبنا في سلطانكم؟و من أنتم-أصلحك اللّه-عرفني فلست أعرفكم».

فرفع الرشيد رأسه الي السقف لئلا يبدو عليه الضحك و خجل ابن الزبير و لم يطق جوابا و التفت يحيي الي الرشيد قائلا:فهو الخارج مع أخي علي أبيك و القائل له:

إن الحمامة يوم الشعب من دثن (1) هاجت فؤاد محب دائم الحزن

إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا بعد التدابر و البغضاء و الإحن

حتي يثاب علي الاحسان محسننا و يأمن الخائف المأخوذ بالدمن

و تنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا بري الصناع قداح النبع بالسفن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا ان الخلافة فيكم يا بني الحسن

و أخذ يحيي يتلو بقية ما قاله عبد اللّه فتغير وجه الرشيد،و أخذ عبد اللّه يحلف له بالأيمان المغلظة انها ليست له فطلب منه يحيي أن يقسم بيمين خاص و هو-يمين البراءة من حول اللّه و قوته-فامتنع عبد اللّه من ذلك فغضب الرشيد منه و رفسه الفضل بن يحيي برجله و صاح به احلف فحلف باليمين المذكور،فما برح من موضعه حتي أصابه الجذام فتقطع و مات في اليوم الثالث.

و دلت هذه القصة علي مدي انتقام الرشيد من العلويين و محاولته بكل صورة الفتك بهم غير معتن بقرابتهم من رسول اللّه(ص)و ما لهم من الكرامة و الفضل عند اللّه.ا.

ص: 97


1- دثن الطائر تدثينا:طار و أسرع في السقوط في مواضع متقاربة و في الشجرة اتخذ فيها عشا.
10-مع الامام موسي(ع):

ذكر الشيخ الكليني رحمه اللّه أن يحيي رفع الي الامام موسي(ع) رسالة شجب فيها موقف الامام السلبي تجاهه كما ندد فيها بالامام و بأبيه الامام الصادق عليه السلام و هذا نصها:

«اما بعد:فاني أوصي نفسي بتقوي اللّه،و بها أوصيك فانها وصية اللّه في الأولين و وصيته في الآخرين،خبرني من ورد عليّ من أعوان اللّه علي دينه و نشر طاعته بما كان من تحننك مع خذلانك،و قد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد(ص)و قد احتجبتها و احتجبها أبوك من قبلك و قديما ادعيتم ما ليس لكم،و بسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم اللّه،فاستهويتم و أظللتم،و أنا محذرك ما حذرك اللّه من نفسه».

فكتب إليه الامام جوابا جاء فيه:

«من موسي عبد اللّه بن جعفر بن علي مشتركين في التذلل للّه و طاعته الي يحيي بن عبد اللّه بن الحسن،أما بعد:فاني أحذرك اللّه و نفسي، و أعلمك أليم عذابه،و شديد عقابه،و تكامل نقماته،و أوصيك و نفسي بتقوي اللّه فانها زين الكلام و تثبيت النعم.

أتاني كتابك،تذكر فيه اني مدع،و أبي من قبل،و ما سمعت ذلك مني،و ستكتب شهاداتهم،و يسألون،و لم يدع حرص الدنيا و مطاليبها لأهلها مطلبا لآخرتهم،حتي يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم، و ذكرت اني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك،و ما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغبا ضعف عن سنة و لا قلة بصيرة بحجة و لكن اللّه تبارك و تعالي خلق الناس أمشاجا،و غرائب و غرائز فاخبرني عن حرفين

ص: 98

أسألك عنهما ما العترف في بدنك؟و ما الصهلج في الانسان (1)؟ثم اكتب إلي بخبر ذلك و انا متقدم إليك أحذرك معصية الخليفة-يعني هارون- و أحثك علي بره و طاعته،و ان تطلب لنفسك أمانا قبل أن تأخذك الأظفار و يلزمك الخناق من كل مكان،فتروح الي النفس من كل مكان و لا تجده حتي يمن اللّه عليك بمنه و فضله،ورقة الخليفة أبقاه اللّه،فيؤمنك و يرحمك و يحفظ فيك أرحام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله،و السلام علي من اتبع الهدي،إنا قد أوحي إلينا ان العذاب علي من كذب و تولي» (2).

و الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها مرسلة-أولا-فقد جاء في سندها روي بعض أصحابنا،بالاضافة الي أن الكثيرين من رجال السند مجهولون فان منهم محمد بن رنجويه،و عبد اللّه بن الحكم الأرمني،و لم نعثر لهما علي ذكر في كتب الرجال التي بأيدينا،و بعد هذا فلا مجال للاعتماد علي الرواية و التشكيك في حال يحيي.

و مهما يكن من أمر فان من المتيقن ان الامام موسي عليه السلام كان يري ضرورة المقاومة السلبية لهارون و لم ير بأي حال المقاومة الايجابية لعلمه بعدم نجاحها،فانه كان يري الافضل لأبناء عمومته الثائرين عدم فتح باب الحرب مع هذا الطاغية و مع أسلافه البغاة،و ان الأنسب كان هو التبشير بمبدإ أهل البيت(ع)و ذكر مثالب الظالمين من اعدائهم فان ذلك انجح في القضاء علي خصومهم و أعدائهم.7.

ص: 99


1- العترف،و الصهلج عضوان،و هما غير معروفين عند الأطباء و لعل السؤال عنهما من باب التعجيز.
2- أصول الكافي:366/1-377.
11-نقض الأمان:

و ثقل يحيي علي هارون،فاستدعي فقهاء العصر و عرض عليهم الأمان الذي أعطاه له فأجمعوا أن لا طريق لنقضه سوي أبي البختري (1)الذي باع دينه علي هارون و باء بالخزي و الخسران فانه نظر الي الأمان و قال:هذا باطل منتقض قد شق يحيي عصا الطاعة و سفك الدماء فاقتله و دمه في عنقي فقال له:خرقه إن كان باطلا بيدك فأخذه الأثيم و بصق فيه و مزقه قطعة قطعة فوهب له الرشيد عوض فعله الف الف و ستمائة الف،و ولاه القضاء و أجمع أمره علي إعدام يحيي.

12-شهادته:

و اختلف المؤرخون في كيفية شهادته فقيل:إنه أمر باخراجه من المطبق في غلس الليل البهيم فلما مثل عنده قال لجلاوزته:خذوه و اضربوه مائة عصا.فضربوه و قد اشتد به الألم و الوجع فأخذ يتوسل لهارون و يناشده

ص: 100


1- وهب بن وهب بن كثير بن الأسود القاضي،أبو البختري القرشي المدني سكن بغداد،و ولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة،ثم ولي حريمها و صلاتها كان متهما في الحديث،قال يحيي بن معين:كان يكذب عدو اللّه،و قال عثمان بن أبي شيبة أري أنه يبعث يوم القيامة دجالا،و قال أحمد:كان يضع الحديث وضعا،و أمر البخاري بالسكوت عنه،هلك سنة مائتين من الهجرة جاء ذلك في ميزان الاعتدال:(ج 3 ص 278) و ذكر الكشي ان أبا محمد الفضل بن شاذان قال:كان ابو البختري من أكذب البرية،و لم نعلم لما ذا أمر البخاري بالسكوت عن هذا الكذاب و عدم الخوض في حديثه مع أن الواجب تنزيه الرواة عن مثل هؤلاء المنحرفين عن الاسلام الذين فرقوا كلمة المسلمين و مزقوا شملهم.

اللّه و الرحم الماسة من رسول اللّه(ص)و قرابته منه أن يعفو عنه،و هارون يقول له بعنف:ما بيني و بينك قرابة،ثم أمر برده إلي المطبق و قال لشرطته:

كم أجريتم عليه-أي من الرزق-؟.

قالوا:أربعة أرغفة و ثمانية أرطال من الماء.

قال اجعلوه علي النصف.

ثم أخرجه في الليلة الثانية،و أمر بجلده مائة عصا فجلد،ثم قال لجلاوزته:

كم أجريتم عليه؟.

قالوا:رغيفين و أربعة أرطال من الماء.

قال:اجعلوه علي النصف.

و أخرجوه في الليلة الثالثة و قد ثقل حاله و ألم به المرض فقالوا له:

هو عليل مدنف فلم يكتف بذلك و انطلق يقول لهم:

كم أجريتم عليه؟.

قالوا:رغيفين و رطلين من الماء.

قال:فاجعلوه علي النصف.

ثم أمر باخراجه فلم يبق إلا قليلا حتي انتقل الي جوار ربه،و قيل إنه بني عليه اسطوانة و هو حي،و قيل:إنه سقاه السم و أمر باخراجه الي بلاطه فجعل يكلمه و هو لا يجيبه،فقال الرشيد لجلسائه:أ لا ترون أنه لا يجيبني؟فأخرج إليهم يحيي لسانه و قد صار أسودا مثل الفحمة نظرا لتأثير السم فيه فتغير الرشيد و قال:إنه يريكم اني قد سقيته السم ثم أمر باخراجه فأخرج من عنده فما وصل الي وسط الدار حتي توفي.

و في رواية أنه لما تردت حالته أمر هارون بأن تبني عليه اسطوانة

ص: 101

(بالرافقة)و كانت وفاته سنة(177).

لقد لاقي ربه شهيدا سعيدا قد فاز برضا اللّه و باء خصمه بغضب اللّه و سخطه،و قد أحدث قتله ضجة أسي في الأوساط الاسلامية ورثته الشعراء و قد رثاه علي بن ابراهيم العلوي بقوله:

يا بقعة مات بها سيد ما مثله في الأرض من سيد

مات الهدي من بعده و الندي و سمي الموت به معتدي

فكم حيا حزت من وجهه و كم ندي يحيي به المجتدي

لا زلت غيث اللّه يا قبره عليك منه رائح مغتدي

كان لنا غيثا به نرتوي و كان كالنجم به نهتدي

فان رمانا الدهر عن قوسه و خاننا في منتهي السؤدد

فعن قريب نبتغي ثاره بالحسني الثائر المهتدي

إن ابن عبد اللّه يحيي ثوي و المجد و السؤدد في ملحد

إن هارون لم يراقب اللّه تعالي في إراقته لدماء ذرية رسول اللّه(ص) و التنكيل بهم و قد دل ذلك علي هتكه لحرمات اللّه و انحرافه عن الطريق القويم (1).

5-محمد بن يحيي:

ابن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام،أمه خديجة بنت ابراهيم التميمي،سجنه بكار بن عبد اللّه الزبيري والي يثرب من

ص: 102


1- تجد أخبار يحيي في الكامل لابن الأثير:5/6 وفيات الأعيان 158/1 طبع باريس،الجهشياري:189،تأريخ الطبري:84/10 -89،مقاتل الطالبيين طبع مصر:463-486،و قد اقتبسنا أكثرية هذه البحوث منه.

قبل هارون و ضيق عليه و أثقله بالحديد فقال محمد:

إني من القوم الذين تزيدهم قسوا و صبرا شدة الحدثان

و لم يزل محبوسا مضيقا عليه حتي أمر باخراجه من السجن فلما حضر عنده طلب منه أن يكفله أحد فلم يحصل له ذلك فوثب و أنشأ يقول:

و ما العود إلا نابت في أرومة أبي صالح العيدان أن يتفطرا (1)

بنو الصالحين الصالحون و من يكن لآباء صدق تلقهم حيث سترا (2)

فرده الي السجن فلم يزل فيه حتي انتقل الي جوار ربه (3).

6-الحسين بن عبد اللّه:

ابن اسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب(ع)أمه حمادة بنت معاوية بن عبد اللّه بن جعفر قبض عليه بكار الزبيري والي هارون علي المدينة فضربه بالسوط ضربا مبرحا فتوفي من اثر ذلك الضرب (4).

7-اسحاق بن الحسن:

ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)أمه أم ولد حبسه هارون فمات في سجنه (5).

و نظرا لما لاقاه العلويون من الجور و الاضطهاد فقد هرب الكثيرون منهم،فمن جملة الهاربين أحمد بن عيسي بن زيد بن الامام زين العابدين عليه السلام هرب إلي البصرة و كان يدعو الناس لنفسه سرا فاغتم هارون من أمره و جعل لمن جاء به أموالا طائلة فطلبته العيون و الجواسيس فلم تعثر

ص: 103


1- في رواية«تتفطرا».
2- روي«لآباء سوء تلقهم حيث سيرا».
3- مقاتل الطالبيين:(ص 495-496).
4- نفس المصدر:ص 497.
5- شرح شافية أبي فراس.

عليه،فعثروا علي صاحبه(حاضر)فحملوه الي الرشيد فلما صار بباب الكرخ رفع صوته قائلا:«أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسي ابن زيد العلوي و قد أخذني السلطان»،فمنعته الشرطة من الكلام،و جيء به مخفورا إلي الرشيد،فلما وقع نظره عليه سأله عن المكان الذي يقيم فيه احمد و عن أعوانه و أنصاره فأبي أن يخبر بأي شيء فتهدده الرشيد و توعده بالعذاب الأليم فانبري إليه و هو غير مكترث بتهديده و لا معتن بسلطانه قائلا له:

«و اللّه،لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتها عنه،و أنا شيخ قد جاوزت التسعين،أ فأختم عملي بأن أدل علي ابن رسول اللّه حتي يقتل؟.

و ثار الرشيد و فقد صوابه و اختياره فأمر بضربه فضرب ضربا مؤلما فمات تحت السياط،و أمر بصلبه فصلب في بغداد،و خفي أمر أحمد و لم يعلم له خبر بعد ذلك (1).

هذا بعض ما صبه هارون علي العلويين من المآسي و الكوارث،فلا يكاد يجف دم علوي منهم حتي يسفك دم علوي آخر.

و الخلاصة إنه أشاع فيهم القتل و التنكيل و نشر الحزن و الحداد في بيوتهمه.

ص: 104


1- اليعقوبي:154/3،و في عمدة الطالب:(ص 259)ان احمد كان عالما فقيها كبيرا زاهدا،أمه عاتكة بنت الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن الحارث الهاشمية مولده سنة(158)و وفاته سنة(240)و عمي في آخر عمره،و روي ابو الفرج في الأغاني ان اسحاق بن ابراهيم الموصلي لما نعي الي المتوكل اغتم و حزن عليه و قال:ذهب صدر عظيم من جمال الملك و بهائه و زينته،و نعي إليه بعد ذلك احمد بن عيسي فقال:تكافأت الحالتان،و بهذا نقف علي مدي تسيب الاخلاق في تلك الأدوار المظلمة التي كان يعد فيها الماجنون من جمال الملك و بهائه و زينته.

حتي هرب الكثيرون منهم فزعين تطاردهم الشرطة و العيون قد شاهدوا من الارهاب و الأذي ما لا نظير له في فظاعته و مرارته،و أما ما لاقاه الامام موسي(ع)من هذا الطاغية فقد عقدنا له فصلا خاصا تحدثنا فيه عما جري عليه من التعذيب و الارهاق.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن دور هارون و قد وقفنا بما ذكرناه علي جانب كبير من خلاعته و مجونه،و استهتاره بالقيم الاسلامية،فقد كان لا يبارح العود و الشراب و منادمة المغنين،و قد عاش عيشة طرب و لهو غارقا في اللذة و العبث و المجون.

و قد أجمع فقهاء المسلمين علي أن من يتولي منصب الخلافة الاسلامية لا بد أن تتوفر فيه جميع النزعات الخيرة من العلم و التقوي و الحريجة في الدين و الاحتياط الشديد بأموال المسلمين،و ان يكون بلاطه قاعدة اسلامية، و مركزا للحق و العدل،و مصدرا للامر بالمعروف و النهي عن المنكر في جميع انحاء البلاد،و ان تعمل الهيئة الحاكمة بجد و نشاط علي صالح المجتمع،و تطوير البلاد في مجالاتها الثقافية،و الاقتصادية فتزيل جميع عوامل التأخر و الانحطاط و تنشر الأمن و الدعة و الاستقرار،و تراقب الحياة الاقتصادية فلا تدع ظلا للبؤس و الحرمان...هذا واجب السلطة التي تضفي علي نفسها النيابة عن النبي(ص)و تدعي انها تمثل الواقع الاسلامي،و الديني،و لكنا مع الأسف الشديد لم نر في ظل اكثر الحكومات الأموية و العباسية أي جانب من الحكم الاسلامي المشرق،و لم تطبق علي واقع الحياة الاهداف العريضة التي ينشدها الاسلام...فلم نر إلا الظلم الفاحش،و الاستهانة البالغة بحق الأمة، و الاستبداد بثرواتها،و بذلها بسخاء علي ما حرم اللّه،و مطاردة القوي الواعية التي تأمر بالعدل الاجتماعي و العدل السياسي،فقد لاقت تلك القوي الخيرة التي يمثلها العلويون جميع صنوف الارهاب و التنكيل و الآلام...

ص: 105

و بعد هذا هل يصح أن يقال:ان ملوك بني أمية و بني العباس حماة الاسلام و خلفاء النبي(ص)علي أمته؟؟ و علي أي حال فان الأعمال التي أثرت عن هارون قد جافي بها الحق و العدل و كان من الضروري-فيما نحسب-الوقوف علي ذلك فانه من الأسباب التمهيدية لمعرفة محنة الامام و بلائه في ذلك الدور الرهيب الذي انعدمت فيه جميع الحريات،و قد عاني الامام و غيره من قادة الفكر أقسي الوان المحن و الخطوب.

ص: 106

عصر الإمام

اشارة

ص: 107

ص: 108

و اتسم عصر الامام(ع)بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية و العنصرية و النحل الدينية،و الاتجاهات العقائدية التي لا تمت الي الاسلام بصلة،و لا تلتقي معه بطريق،و قد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعا لا هدوء فيه و لا استقرار،حتي امتد ذلك الصراع الي اكثر العصور،و يعود السبب في ذلك الي أن الفتح الاسلامي قد نقل ثقافات الأمم و سائر علومهم الي العالم العربي و الاسلامي،بالاضافة الي أن الاسلام قد جاء بموجة عارمة من العلوم و الافكار،و دعا المسلمين في نفس الوقت الي الانطلاق و التخصص في جميع الوان المعارف،و قد أحدث ذلك انقلابا فكريا في المجتمع الاسلامي و تبلورت الأفكار بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيرا في العصور السالفة،و قد اتجهت تلك الطاقات العلمية التي تفجرت في ذلك العصر الي الجانب العقائدي من واقع الحياة فحدثت المذاهب الاسلامية و الفرق الدينية و تشعبت الامة الي طوائف وقع فيما بينها من النزاع و المخاصمات و الجدال الشيء الكثير،فكانت النوادي تعج بالمعارك الدامية و الصراع العنيف خصوصا فيما يتعلق باثبات الخالق و صفاته الإيجابية و السلبية و القضاء و القدر و مسألة خلق القرآن،و كان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة هم علماء الكلام و المتكلمون.

و قد الفت كثير من الكتب في هذا الموضوع و هي حافلة بصور كثيرة من تلك المشاجرات و الخصومات.

و كانت من أخطر الدعوات المحمومة التي اندلعت في ذلك العصر هي الدعوة الالحادية.فقد بشر بها الدخلاء الذين يحملون في قرارة نفوسهم الحقد علي الاسلام و المسلمين،و قد ثقل عليهم امتداد حكم الاسلام و انتشار سلطانه في الارض،فرأوا أن لا طول لهم الي مقابلته من طريق الحرب و القوة فأخذوا يبثون سمومهم في نفوس الناشئة الاسلامية و يلقون الشبه و الاوهام

ص: 109

في نفوس المسلمين حتي استجاب لهم جمع من المخدوعين و المغرورين،و كان موقف الامام موسي(ع)و كبار القادة و رجال الفكر من أصحابه هو التصدي لنقد تلك الافكار الوافدة بالأدلة العلمية الرصينة و بيان فسادها و بعدها عن منطق الواقع،و كانت تحمل احتجاجاتهم طابع الاخلاص للحق و الحرص علي صالح المسلمين،و قد اعترف قسم كبير من حملة تلك المبادئ بخطئهم و فساد اتجاههم،فرجعوا الي حظيرة الحق و الصواب،و قد لمعت بسبب ذلك حركة التشيع و ذاعت المقدرة العلمية لقادتها حتي دان بها قسم كبير من المسلمين،و قد ثقل ذلك الامر علي المسئولين فتصدوا لهم بالاضطهاد و التنكيل و منعوهم من الكلام في مجالات العقيدة حتي اضطر الامام موسي(ع)في أيام المهدي أن بعث الي هشام أن يكف عن الكلام نظرا لخطورة الموقف فكف هشام عن ذلك حتي مات المهدي (1).

و لا بد لنا من التحدث-و لو اجمالا-عن هذه الجهات،كما أن من الضرورة عرض بعض الأحداث الجسام التي وقعت في ذلك العصر،و معرفة سياسة الحكم القائم آنذاك،فان الاحاطة بهذه الامور مما تتوقف عليه دراسة حياة الامام(ع)كما انها تكشف لنا جانبا كبيرا عن المشاكل السياسية و الاجتماعية السائدة في ذلك العصر،و فيما نحسب أنه لا غني للباحث من الاحاطة بذلك.

الشعوبية

اشارة

:

و ذهب المستشرق«روايت م رونلدس»الي أن أهم الأحداث التي جرت في عصر الامام موسي(ع)انبثاق الحركة«الشعوبية»و اشتداد

ص: 110


1- رجال الكشي:172

التنافر بين العرب و بقية القوميات الأخري (1).

و هذا الرأي سطحي للغاية قد دل علي عدم عمق صاحبه في التأريخ الاسلامي،و عدم وقوفه علي نشأة الاحداث و تطورها في التأريخ،فان الشعوبية لم تكن وليدة ذلك العصر و انما نشأت قبله بكثير من الوقت كما سندلل عليه.

و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذا الحادث الخطير الذي هو من أعظم ما مني به العالم الاسلامي من الرزايا و الخطوب،و فيما يلي ذلك:

أ-تعريف الشعوبية:

و اختلف اللغويون في تحديدهم لهذه الكلمة ففي«اللسان»«الشعوبي الذي يصغر شأن العرب،و لا يري لهم فضلا علي غيرهم»و في«الصحاح» «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب علي العجم»ففي التحديد«الأول»:

ان الشعوبي هو الذي يحط من قيمة العرب و كرامتهم،و لا يري لهم فضلا علي غيرهم،اما التحديد«الثاني»:فيري أن الشعوبي من يساوي بين العرب و غيرهم،و قد ذهب الي هذا ابن عبد ربه في«العقد الفريد»فقال:

«ان الشعوبية هم أهل التسوية».

و اختلف الكتاب المحدثون في تحديدها فذهب العدوي الي أن الشعوبية مأخوذة من الشعوب،و هو العودة الي ماضي الشعوب،و التفاخر فيما بينها بالعصبيات الجغرافية و التأريخية،و نبذ رسالة العرب الهادفة الي خلق مجتمع جديد قوامه تقدير قيمة الشخص بعمله و خدماته (2).

و ذهب الدوري الي أن مفهوم الشعوبية معقد،و ان الحركات السرية

ص: 111


1- عقيدة الشيعة:163
2- المجتمع العربي و مناهضة الشعوبية:12

التي تتظاهر بالاسلام،و تعمل علي هدم السلطان العربي الاسلامي أو علي هدم الاسلام أو الاتجاهات التي تحاول نسف الاسلام و العرب من الداخل هي التي يمكن أن يطلق عليها اسم الشعوبية (1).

و يري كرد علي ان الشعوبية:قوم متعصبون علي العرب يفضلون عليهم العجم (2).

هذا هو مفهوم الشعوبية في اللغة،و عند المحدثين من الكتاب،و هم جميعا لم يتفقوا علي مفهوم معين لهذا اللفظ.

ب-نشأتها:

و نشأت هذه الحركة الهدامة حسب التحقيق التأريخي في عهد الخليفة الثاني حتي ذهب ضحيتها فقد اغتاله ابو لؤلؤة نتيجة للتآمر بين تلك القوي الحاقدة عليه.

أما عوامل نشأتها فترجع الي عدم قيام السلطة بمساواة الموالي مع بقية المسلمين في الحقوق و الواجبات،فقد عمد الخليفة الثاني الي الفتوي بعدم ارث أحد من الاعاجم إلا من ولد في بلاد العرب (3)و كذلك شدد عليهم في وضع الضرائب،كما عمد في سياسته المالية الي خلق الطبقية (4) في الاسلام ففضل البدريين في العطاء علي غيرهم،و المهاجرين علي الانصار، و قد استدعي ذلك الي تصنيف الناس بحسب قبائلهم و أصولهم فنشط النسابون لتدوين الانساب،و تصنيف القبائل بحسب أصولها،و قد أدي ذلك بطبيعة

ص: 112


1- الجذور التأريخية للشعوبية:ص 11
2- الاسلام و الحضارة العربية
3- الموطأ:12/2
4- العصبية القبلية:190

الحال الي حنق الموالي،و كراهيتهم للعرب و الامعان في التفتيش عن مثالبهم.

و انتهج عثمان هذه السياسة فكتب الي ولاته بالعراق أن يفضلوا العرب علي الموالي (1)و قد أدت هذه السياسة التي لا تحمل أي طابع من التوازن الي خلق كثير من المصاعب و الفتن بين المسلمين،فقد فرقت بين صفوفهم، و أدت الي شيوع البغضاء و الكراهية بين كثير منهم.

ج-تطورها:

و تطورت الحركة الشعوبية تطورا هائلا أيام الحكم الأموي و العباسي فقد حدثت النعرات البغيضة بين المسلمين،و أخذ العرب يفخرون علي بقية القوميات الأخري،و يشيدون بذكر مآثرهم،فكانوا يقولون:ان لهم صفات خلقية امتازوا بها.فهم أكرم الناس للضيف و أنجدهم للملهوف،و أكثرهم عونا للمستغيث،يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق الذي ينزل بساحته،و لهم في نفس الوقت حسن البديهة و قول الأمثال السائرة و الابداع في الكلام،و هم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه و يسمي آباءه،مضافا الي ذلك نشأة الاسلام فيهم و انتشاره علي أيديهم فهم الناشرون له و الحاملون لدعوته،و هذه أهم الأدلة التي اعتمد عليها العرب في امتيازهم و تقدمهم علي غيرهم.

و ثقلت هذه العصبية المتطرفة من قبل العرب علي بقية شعوب الامبراطورية الاسلامية فغالوا مثل مغالات العرب و راحوا يحطون من شأنهم و يذكرون مساوئهم و يعدون مثالبهم من و أدهم الولد خشية املاق،و اعتماد حالتهم الاقتصادية علي الغزو و السلب،و يزرون عليهم جدب الأرض و بساطة العيش كما راحوا في الوقت نفسه يذكرون عظمة السلطان عند الرومان،

ص: 113


1- الطبري 63/5.

و حكمة الهند،و منطق اليونان و فلسفتهم،و صناعة الصين و فنونها،و ترف فارس و حضارتها،و العرب أقل الأمم شأنا في ذلك فليس لهم فخر يذكر و لا مجد يباهي به،و أما تمشدقهم و فخرهم بالاسلام فليس هو دين العرب وحدهم بل هو دين الناس جميعا و الاسلام نفسه قد حارب النزعات الجاهلية و قبر افكارها و حطم امتيازاتها و اعتبر المسلمين جميعا صفا واحدا لا امتياز لأحد منهم علي أحد،و جعل المقياس في التفوق و الفضل التقوي و العمل الصالح،قال تعالي:« إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ».

و قد ألفت كتب كثيرة في ذكر مثالبهم و الازدراء بهم فقد كتب في ذلك أبو عبيدة معمر بن المثني عدة كتب منها:«لصوص العرب» و«ادعياء العرب»و«فضائل الفرس»،و كتب الهيثم بن عدي جملة كتب في هذا الموضوع منها كتاب:«المثالب الكبير»و كتاب«مثالب ربيعة»و اسماء بغايا قريش في الجاهلية و اسماء من ولدن،و ألف سعيد بن حميد البختكان كتاب«انتصاف العجم من العرب»و كتاب«فضل العجم علي العرب و افتخارها» (1).

لقد شاعت الحزازات و انتشر التنافر بين المسلمين في ذلك العصر فكان شعراء الموالي الذين أصلهم من فارس يعتزون بقوميتهم و يبالغون في الحط من كرامة العرب فهذا أبو نواس الذي كان فارسيا من ناحية أمه راح يهجو العرب و يقول فيهم:

عاج الشقي علي رسم يسائله و عجت أسأل عن خمارة البلد

يبكي علي طلل الماضنين من أسد لا در درك!!قل من بنو أسد؟

و من تميم؟و من قيس و لفهما؟ ليس الأعاريب عند اللّه من أحد

و تحدث مرة أخري في شعره عن ظاهرة من ظواهر العرب و هي3.

ص: 114


1- فهرست ابن النديم:ص 123.

شيوع التفاخر و التنافر بين أفراد قبائلهم فلا يكاد يجتمع عربيان من قبيلتين إلا حدث بينهما التشاجر و التفاخر فكل واحد منهما يعتز بقبيلته و أسرته،و لا يوجد ذلك مطلقا عند أبناء فارس،يقول ابو نواس:

نادمتهم أرتاض في آدابهم فالفرس عادي سكرهم محسوم

متوقرين كلامهم ما بينهم و مزمرين خفاؤهم سفهوم

و لفارس الأحرار أنفس انفس و فخارهم في عشرة معدوم

و اذا أنادم عصبة عربية بدرت الي ذكر الفخار تميم

وعدت الي قيس و عدت قوسها سبيت تميم و جمعهم مهزوم

و بنو الأعاجم لا أحاذر منهم شرا فمنطق شربهم مزموم

لا يبذخون علي النديم اذا انتشوا و لهم اذا العرب اعتدت تسليم

و جميعهم لي-حين أقعد بينهم- بتذلل و تهيب موسوم

لقد أوجب ذلك شيوع التنافر بين العرب و بقية القوميات الأخري و تعصب كل فريق لقوميته،و كان في طليعة الشعوبيين الذين يواصلون هجاء العرب بشار بن برد،فقد كان لا يفتأ عن ذكر انتقاصهم و الحط من كرامتهم فقد دخل أعرابي علي مجزأة بن ثور السدوسي-بالبصرة-و بشار كان حاضرا في مجلسه و عليه بزة الشعراء فقال الأعرابي يسأل عن بشار:

-من الرجل؟.

-شاعر.

-أ مولي هو أم أعرابي؟.

-بل مولي.

-ما للموالي و الشعر!!.

فغضب بشار و سكت برهة و التفت إلي مجزأة قائلا له:

-أ تأذن لي يا أبا ثور أن أقول؟.

ص: 115

-قل ما شئت يا أبا معاذ.

فاندفع بشار قائلا:

خليلي لا أنام علي اقتسار و لا آبي علي مول و جار

سأخبر فاخر الأعراب عني و عنه حين تأذن بالفخار

أ حين كسيت بعد العري خزا و ناديت الكرام علي العقار

تقاخر يا ابن راعية و راع بني الأحرار حسبك من خسار

و كنت اذا ظمئت الي قراح شركت الكلب في ولغ الأطار

تريد بخطبة كسر الموالي و ينسيك المكارم صيد فار

و تغدو للقنافذ تدريها و لم تعقل بدراج الديار

و تتشح الشمال للابسيها و ترعي الظأن بالبلد القفار (1)

و بلغت الحركة الشعوبية أوجها في أيام المهدي و بلغت الذروة في عهد هارون،و ذلك لنفوذ البرامكة و قبضهم علي أزمة الدولة.

و مهما يكن من أمر فان هذه النزعة قد أولدت العداء بين المسلمين و فرقت صفوفهم و انطلق شعراء ذلك العصر و الأدباء من العرب أو من الموالي يهجو بعضهم بعضا و يسب كل فريق منهم الفريق الآخر،فهذا الخزيمي كان يقول:

أبا الصغد بأس إذ تعيرني جمل (2) سناها و من أخلاق جارتي الجهل

فان تفخري يا جمل،أو تتجملي فلا فخر إلا فوقه الدين و العقل

أري الناس شرعا في الحياة و لا أري لقبر علي قبر علاء و لا فضل

و ما ضرني إن لم تلدني يحابر و لم تشتمل جرم علي و لا عكل (3)ية

ص: 116


1- بشار بن برد شعره و أخباره لأحمد حسنين القرني:ص 56
2- يكني بجمل عن العرب
3- يحابر،و جرم،و عكل:أسماء قبائل عربية

اذا أنت لم تحم القديم بحادث من المجد لم ينفعك ما كان من قبل (1)

و الحديث عن الشعوبية حديث مؤلم،فان هذه النزعة و غيرها من النزعات الفاسدة تدعو الي تفريق الصفوف و تصديع الشمل،و اشاعة العداء و البغضاء بين المسلمين.

د-موقف الاسلام منها:

و تميز موقف الاسلام بالشدة و الصرامة لكل نزعة فاسدة توجب تصديع شمل المسلمين و اشاعة التنافر فيما بينهم،فقد أعلن الاسلام منذ بزوغ نوره أن المسلمين يد واحدة،و ان رابطة الدين أقوي من رابطة النسب،و قد شجب النبي(ص)جميع النعرات الشعوبية و القومية،فقد هزأ بعض المنافقين من أذان بلال الحبشي لأنه لم يكن يستطيع النطق بالشين،فكان يبدلها سينا،و كان يقول اشهد أن لا إله إلا اللّه،فانطلق بلال الي رسول اللّه(ص) فأخبره بسخرية القوم و استهزائهم به،فساء ذلك رسول اللّه(ص)و انبري يقول:

«إن سين بلال شين عند اللّه» و قال(ص):منددا بهؤلاء المنافقين:

«ان سين بلال خير من شينكم» و كان النبي(ص)جالسا مع سلمان الفارسي،و بلال الحبشي و صهيب الرومي،و عمار،و خباب،و غيرهم من ضعفاء المؤمنين فأقبل عليه الأقرع ابن حابس التميمي،و عيينة بن حصين الفزاري و غيرهم من مشايخ العرب فالتفتوا الي رسول اللّه(ص)فقالوا له:

«يا رسول اللّه لو نحيت هؤلاء عنك حتي نخلوا بك فان وفود العرب

ص: 117


1- ضحي الاسلام:66/1.

تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء أ لا عبد،فاذا انصرفنا فعد الي مجالستهم..».

فأنزل اللّه تعالي علي نبيه هذه الآية الكريمة وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ» (1).

فدنا رسول اللّه(ص)منهم،و أقبل عليهم يحادثهم،و لم يعن بأولئك المنافقين (2).

و أخذ بعض المؤلفة قلوبهم يفخرون بأنسابهم،و يذكرون أيام آبائهم في الجاهلية أمام سلمان الفارسي،و قد تكرر ذلك منهم في غير مجلس، فقام سلمان،و اخبر النبي(ص)بذلك،فانبري(ص)الي مسجده و هو فزع قد علاه الأسي و الذهول فأعلن أمام الناس قوله الشهير:

«سلمان منا أهل البيت» و قال(ص)«الصدقة حرام علي سلمان» و قد شجب(ص)جميع الوان التفرقة بين المسلمين،فقال(ص):

«لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي»و قال اللّه تعالي في كتابه الكريم:

يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ .

و طبق هذه السياسة النيرة وصي النبي(ص)و باب مدينة علمه الامام أمير المؤمنين(ع)فانه حينما تسلم زمام السلطة ساوي بين جميع المسلمين في العطاء و غيره،فعاملهم معاملة واحدة،من دون تمييز فيما بينهم،فهم جميعا عنده بمنزلة سواء،و قد أدلي(ع)بهذه المساواة في دستوره الدولي/7

ص: 118


1- سورة الأنعام:آية 52
2- مجمع البيان:305/7

الذي أعلن فيه حقوق الانسان،قال(ع)لمالك:«الناس صنفان:اما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق»و وفدت عليه سيدة قرشية تطلب منه زيادة مرتبها،فرأت علي باب الجامع امرأة عجوز فسألتها عن معاشها فأجابتها بأنها تتقاضي من بيت المال،و كان ما تنقاضاه بقدر ما تأخذه تلك السيدة فساءها ذلك،و تمسكت بالعجوز.و جعلت تصيح:هل من العدل و الانصاف أن يساوي علي بيني و بين هذه الفارسية؟و دخلت الجامع و هي ترفع عقيرتها بذلك،فلما انتهت الي أمير المؤمنين قالت له بعنف:

كيف تساوي بيني و بين هذه الأمة؟ فرمقها الامام(ع)بطرفه،و أخذ قبضة من التراب،و جعل يقلبها بيده،و هو يقول:

«لم يكن بعض هذا التراب أفضل من بعض» و تلا قوله تعالي: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ .

و قد أثارت عليه هذه السياسة أحقاد العرب و اضغان قريش،فانبري إليه بعض أصحابه،فطلبوا منه ان يغير سياسته قائلين:«يا أمير المؤمنين:

اعط هذه الاموال،و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش علي الموالي و العجم».

فلذعه هذا المنطق الرخيص،و قال لهم:

«أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟!!» إن تفضيل العرب علي العجم جور و اعتداء علي حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة و العدالة في الأرض.

و قد ادت هذه السياسة العادلة الي تكتل القوي الباغية و تضافرها علي مناجزته،و قد نص علي ذلك المدائني بقوله:«إن من أهم الاسباب في

ص: 119

تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب كان اتباعه لمبدإ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا علي مشروف،و لا عربيا علي عجمي و لا يصانع الرؤساء و القبائل» (1).

و كانت هذه السياسة النيرة امتدادا لرسالة النبي(ص)و اتباعا لمنهجه ....و قد رأي العجم و الموالي هذا العدل المشرق الذي سار عليه أمير المؤمنين(ع)فتمسكوا به،و اتخذوه قدوة فذة،و طالبوا حكام المسلمين بالاقتداء به،و تطبيق منهجه،و قد لاقوا صنوف الارهاق و التنكيل من أولئك الحكام الطغاة الذين ساسوا الامة بسياسة نكراء لا ظل فيها للعدل و الحق.

مخاريق احمد امين:

و احمد امين من اولئك الحاقدين علي الشيعة،فقد قال:ان التشيع كان مأوي للشعوبية و ستارا لهم (2).

حفنة من التراب علي أحمد أمين و غيره من الذين لا يكتبون للحق، و لا للتأريخ،و لا لصالح الأمة،و انما يكتبون وفق أهداف معينة يمليها عليهم الاستعمار ليفرق بذلك صفوف المسلمين و يستبد بثرواتهم،و يجعلهم تحت مناطق نفوذه.

إن الشيعة تستمد تعاليمها من أئمة أهل البيت(ع)الذين ناهضوا جميع الحركات الهدامة،و وقفوا من الشعوبية و غيرها موقفا حاسما يتسم بالشدة و الصلابة،فقد دعا الامام أمير المؤمنين(ع)ان يعلي بالسيوف وجه كل من يدعو الي عنصرية تشتت جمع المسلمين.

هل يستطيع أحمد أمين و غيره من الذين يقولون بمقالته أن يدللوا علي

ص: 120


1- شرح ابن أبي الحديد:180/1
2- ضحي الاسلام:63/1

أن الشيعة كانت مأوي للشعوبية و غيرها من النزعات الهدامة؟ إن الشيعة بكل اعتزاز و فخر قد رفعت منار العدالة الاسلامية،و أنارت التأريخ الاسلامي بكفاحها المشرق البطولي،و لو لا تضحياتها الجبارة و مواقفها الكريمة امام الطغاة و الظالمين لما بقي للاسلام اسم و لا رسم...فهي مأوي للاسلام و الحق و العدل،و مأوي لكل حركة اجتماعية تهدف الي بسط العدل و القضاء علي الظلم.

و علي أي حال فان الشعوبية،و سائر الشعارات الاخري لا تتفق مع الواقع الشيعي المستمد من صميم الاسلام و جوهره...ان هذه الاتهامات التي الصقت بالشيعة لم يكن القصد منها إلا خلق ثغرة بين صفوف المسلمين تستهدف اذلالهم و اضعافهم و ابعادهم عن واقع دينهم الذي ينشد لهم العزة و الكرامة و الاستقلال.

ان المسلمين في أمس الحاجة في هذا العصر الي جمع الكلمة،و توحيد الصفوف،و نبذ الخلافات و النعرات فأمامهم الاستعمار الامريكي،و حليفته اسرائيل التي تكيد للعرب و المسلمين في وضح النهار و غلس الليل،و تعمل جاهدة علي محاربة الاسلام،و الاستيلاء علي الوطن العربي و اجلاء أهله عنه،و اقامة وطن اسرائيلي مكانه..و من المؤسف غفلة المسلمين عن الخطر العظيم و البلاء المحدق بهم.

إن اسرائيل تمدها امريكا و سائر دول الغرب بجميع الاسلحة الفتاكة و تزودها بجميع المعونات الاقتصادية و العسكرية لابادة العرب و استئصال شأفتهم حتي تستولي علي البترول العربي و سائر المعادن الاخري....

فيجب علي كل كاتب ان يوجه جهده الفكري الي ايقاظ المسلمين و تحذيرهم من هذا البلاء العظيم.

و علي أي حال فقد خرجنا عن قصد الجادة،و لكن الظروف المؤلمة

ص: 121

و ما تعانيه هذه الامة من الويلات و النكبات،قد دفعتنا الي الخروج عن هذا الموضوع،و لنعد بعد هذا الي عرض بعض مشاكل عصر الامام عليه السلام،و هي:

الالحاد و الزندقة

اشارة

:

و ظهرت الحركة الالحادية في العصر العباسي الأول،و انتشرت فيه المبادئ الشاذة الداعية الي الفوضي و التفسخ،و قد اعتنقها جمع من البسطاء الذين تلونهم الدعاية كيفما شاءت،فانطلقوا بغير وعي و لا هدي معهم، و لكن أئمة اهل البيت(ع)مع اعلام تلاميذهم من قادة الفكر الاسلامي قد تصدوا الي مناهضة ذلك الغزو العقائدي،و تزييف الافكار الوافدة، ورد شبهات الملحدين،و انقاذ المسلمين منها.

لقد بذل الامام الصادق(ع)جميع جهوده في انقاذ الوطن الاسلامي من الملحدين و المضللين،و عمل معه في ميدان هذا الجهاد المقدس ولده الامام موسي(ع)،كما قام معهما جماعة من تلامذتهما ممن تسلحوا بالمناهج العقلية،و عرفوا بقوة البيان،و حسن الرأي،و نفاذ البصيرة،و قوة الحجة فعقدوا المجالس و المناظرات في الاماكن العامة،و في بيوت الوزراء و الملوك و خاضوا مع الملحدين في المباحث الكلامية،و قد اثبتوا بقوة البرهان و الدليل زيف تلك العقائد حتي ان جماعة من اعلام الدهريين قد رجعوا عن افكارهم و ثابوا الي طريق الحق و الصواب...كما ان الحكومات المحلية قد قامت بدورها باضطهاد الملحدين و تنكيلهم،و لكن بمزيد الأسف كانت الحملة علي الابرياء اكثر منها علي الزنادقة،و قد اتخذت تهمة الالحاد وسيلة الي زج الابرياء في السجون،و لا بد لنا من الحديث-و لو اجمالا-عن هذا

ص: 122

الموضوع الخطير الذي هو من أهم الاحداث التي جرت في العصر العباسي.

أ-منشأ الالحاد:

الالحاد ظاهرة نفسية من أخطر الأمراض الاجتماعية،و أشدها فتكا بحضارة الانسان و تقدمه،و هو يدعو الي انكار الخالق العظيم،و جحود البعث،و تكذيب الرسل..و الاعتقاد بأن الانسان لا يخضع لقوة اخري و ان حياته و جميع شئونه انما هي من تدبيره و صنعه.

و ينشأ هذا الداء من ثورة عنيفة في النفس تفصل يقظة الاحساس عن العقيدة و الايمان باللّه،و هي اما ان تكون منبعثة من شهوات النفس أو من مرض الحرمان العالق بها (1).

إن الانسان اذا اصيب بهذا الداء الخطير فان الحواجز النفسية التي تصده عن ارتكاب الاثم و المنكر تنهار انهيارا كليا،و تنمحي عن النفس جميع النزعات الخيرة،و يسدر الانسان في تيارات قاتمة من الظلمة و التمرد و الي ذلك يشير الذكر الحكيم بقوله:« وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُماتِ ».

إن النفس اذا تمادت في الأثم فانها تنطلق بغير هوادة في ميادين سحيقة من الرذائل،لا يعوقها عنها أي قانون في العالم،و من ثمّ كانت التربية الدينية ضرورة اجتماعية لأنها تعني بتهذيب الضمير و توجيه الانسان الوجهة الصالحة،و تغرس في اعماق النفس جميع النزعات الفذة التي تبعثه علي الايمان باللّه و اليوم الآخر،و تصده عن ارتكاب الجرائم و الموبقات...

و لما انعدمت هذه التربية واجهت الانسانية سيلا من المشاكل في ميادين

ص: 123


1- حقيقة النفس و امراضها.

السلوك و الاخلاق،و انعدام الروابط الاجتماعية و غيرها من القيم الانسانية.

و علي أي حال فان الالحاد و سائر النزعات الشريرة تشكل خطرا هائلا علي المجتمع الانساني،و تنذر بالدمار الشامل لجميع مقومات الحياة.

ب-أنواع الالحاد:

للالحاد ضروب متنوعة كإنكار الخالق تعالي،و جحود احدي صفاته الثبوتية أو السلبية،و عدم الايمان بالانبياء و الرسل،و انكار البعث و النشور و العنوان الجامع لها هو انكار احدي ضروريات الدين.

و اخطر انواع الالحاد جحود اللّه تعالي و هذا هو الالحاد الغربي الذي عبر عنه«نيتشه»بقوله:«لقد مات اللّه» (1)و عليه ترتكز الفكرة الماركسية كما اوضحناه في بعض مؤلفاتنا (2)اما الالحاد في العصور الاسلامية الأولي فانه كان متجها الي التشكيك في احدي صفات اللّه و جحود الاسلام كما سنبينه.

ج-في العصر الأموي:

و ظهرت بوادر الزندقة في العصر الأموي،فقد أعلن بعض ملوك الامويين كلمة الكفر،و المروق من الدين فهذا يزيد بن معاوية حينما قتل سبط الرسول(ص)و ريحانته سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين(ع) جعل يتمثل بقول ابن الزبعري:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

ص: 124


1- من تأريخ الالحاد في الاسلام
2- عرضنا ذلك بصورة موضوعية في كتابنا«العمل و حقوق العامل في الاسلام»،و في«نظام الحكم و الادارة في الاسلام».

و قد ورث هذه النزعة الالحادية من آبائه نجده أبو سفيان قال أمام عثمان بن عفان مخاطبا لفتيان بني أمية:«تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة بأيدي الصبيان فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة و لا نار»و لم يوجه له عثمان عتابا،و لم ينزل به عقابا.

و كانت هذه الظاهرة ماثلة عند اغلب ملوكهم فهذا الوليد حينما استفتح بكتاب اللّه العزيز،و خرجت الآية«و خاب كل جبار عنيد»غضب و عمد الي جعل الكتاب العظيم غرضا لسهامه حتي مزقه،و هو يقول:

تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد

اذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

و هذا يدل بوضوح علي كفره و ارتداده عن الدين،و قد تغذي اكثرهم بهذه النزعة الالحادية،فقد عمدوا الي جعل المربين لابنائهم من الزنادقة فكان عبد الصمد بن عبد الأعلي مربي الوليد و مؤدبه زنديقا (1)،و كان الجعد بن درهم (2)زنديقا،و هو مربي آخر ملوك الامويين،مروان بن محمد (3)و يري ابن النديم:ان الجعد قد أدخل مروان و ولده في الزندقة (4)و نص الدوري أن الجعد كان في طليعة من بشر في المانوية في عصره (5).

و من أبرز الزنادقة في العصر الأموي يونس بن أبي فروة،و عمارة بن حمزة،و المطيع بن إياس،و مخضرمو الدولتين الأموية و العباسية،و هم26

ص: 125


1- الاغاني
2- نسب مروان الي مربيه فقيل له:«مروان الجعدي»
3- الاغاني
4- الفهرست:ص 472
5- الجذور التأريخية للشعوبية:ص 26

الحمادون الثلاث حماد عجرد،و حماد الزبرقان،و حماد الراوية (1).

لقد تكونت جذور الفكرة الالحادية أيام الحكم الاموي الذي كان مصدرا لجميع الحركات الهدامة في الاسلام.

د-في العصر العباسي:

و ظهرت الدعوة الالحادية سافرة في العصر العباسي الأول،و نشطت جميع المبادئ الهدامة،و يري«فلهوزن»ان هناك صلة وثيقة بين الدعوة العباسية و الزنادقة،و يقول:إن العباسيين في ذلك الوقت جمعوا الزنادقة حولهم،و لم ينبذوهم إلا فيما بعد (2)و قد انطلقت الدعوة الي المانوية، و المزدكية،و الخرمية و الزرادشتية،و قد حملت الخرمية راية الثورة المسلحة و انتشرت دعوتها في فارس،و كانت تدعو الي شيوعية مزدك (3)و نعرض فيما يلي الي بعض تلك المبادئ الوافدة:

المانوية

:

و أكثر المبادئ الالحادية انتشارا في ذلك العصر:الفكرة«المانوية» و هي فكرة قديمة أسسها ماني بن فاتك الفارسي الحكيم،و قد ولد سنة«215 أو 216 م»و قد ظهر في زمن شابور،و قتله بهرام،و كان يقول:بنبوة المسيح،و ينكر نبوة موسي،و زعم أن العالم مصنوع مركب من اصلين قديمين:النور و الظلمة،و انهما أزليان،و أنكر وجود شيء إلا من أصل

ص: 126


1- الامالي:134/1
2- الدولة العربية:ص 489
3- الجذور التأريخية للشعوبية:ص 41

قديم (1).

و قد ذهبت المانوية الي التناسخ استنادا الي ما ذكره ماني في بعض كتبه حيث قال:(إن الأرواح التي تفارق الاجسام نوعان:أرواح الصديقين و أهل الضلالة،اما أرواح الصديقين اذا فارقت الاجساد أسرت في عمود الصبح الي النور الذي فوق الفلك فبقيت في ذلك العالم علي السرور الدائم و أما أرواح أهل الظلال إذا فارقت الأجساد،و أرادت اللحوق بالنور الأعلي ردت منعكسة الي السفل فتتناسخ في أجسام الحيوانات الي أن تصفوا من شوائب الظلمة ثم تلتحق بالنور العالي (2).

و قد فرض ماني علي أصحابه العشر في الأموال كلها،و الصلوات الأربع في اليوم و الليلة و الدعاء الي الحق،و ترك الكذب و القتل و السرقة و الزنا و السحر و عبادة الأوثان،و ان يأتي علي ذي روح،كما انه عد وجود الانسان جناية جناها أهله و يجب انقراضه (3)كما انه يري ان ما يصدر عن الانسان من خير فمصدره إله الخير،و ما يصدر منه من شر فمصدره إلي الشر،و قد صور بعض أفكاره أبو نؤاس في هجائه لأبان،أحد أقطاب هذه الفكرة بقوله:

جالست يوما(أبانا) لا در در(أبان)

و نحن حضر رواق الأ مير بالنهروان

حتي إذا ما صلاة (4)الأ ولي دنيت لأذان

فقام ثم به ذو فصاحة و بيانبح

ص: 127


1- الملل و النحل:224/1
2- الفرق بين الفرق:ص 271
3- الملل و النحل:228/1
4- أراد بالصلاة الأولي صلاة الصبح

و كلما قال قلنا (1) الي انقضاء الأذان

فقال (2):كيف شهدتم بذا بغير عيان؟

لا أشهد-الدهر-حتي تعاين العينان

فقلت:(سبحان ربي!!) فقال:(سبحان ماني)

فقلت:(عيسي رسول اللّه) فقال:من شيطان

فقلت:موسي نجي ال مهيمن المنان

فقال:ربك ذو مق لة إذا و لسان؟

أنفسه خلقته أم من؟فقمت مكاني

عن كافر يتمري (3) بالكفر بالرحمن (4)

و قامت المانوية ببث الحركات الالحادية في العصر العباسي،و كان من أعلامها ابن المقفع،فقد قام بترجمة كتب ماني،و ابن ديصان،و مرقيون من الفارسية الي العربية (5)كما وضع كتابا ببشر بالمانوية،و يحمل فيه علي المبادئ الاسلامية،و قد افتتحه باسم النور الرحمن الرحيم،و قال المهدي:

ما وجدت كتاب زندقة قط إلا و أصله ابن المقفع (6)و اجتاز علي بيت نار للمجوس فتمثل:

يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدي و بك الفؤاد موكل94

ص: 128


1- المراد أنه كلما قال المؤذن:قولا رددناه بعده.
2- أي قال أبان:كيف شهدتم بقول المؤذن أشهد أن لا إله إلا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و لستم شهود عيان.
3- يتمري بالكفر:أي يتزين به.
4- أبو نواس قصة حياته لعبد الرحمن صدقي:ص 63.
5- الاغاني:87/12
6- معجم الادباء15/،الامالي 93/1-94

إني لأمنحك الصدود و انني قسما إليك مع الصدود لأميل (1)

و نسب إليه قلة الاحترام للقرآن و محاولته لمعارضته (2)و شكك «فرنشيكو جبرييلي»في نسبة ذلك إليه (3)،و ان قتله لم يكن سببه الاتهام بالزندقة،و انما كان من اجل كتابته للأمان لعبد اللّه بن علي علي المنصور،و الذي لم يجد فيه المنصور ثغرة ينفذ منها لنقض ذلك العهد مما أثار غضب المنصور فأمر بقتله (4).

و علي أي حال فان المانوية كانت من اكثر المبادئ التي دهمت المسلمين في ذلك العصر.

المزدكية

:

من المبادئ التي انتشرت في العصر العباسي الأول«المزدكية»و هي نوع من انواع الشيوعية تدعو الي التحلل من جميع القيم الاجتماعية،و قد نص الشهرستاني علي بعض مبادئها فقال:«إن مزدك أحل النساء،و أباح الأموال،و جعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء و النار و الكلاء» (5)و قال الطبري:«قال مزدك و أصحابه إن اللّه جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي،و لكن الناس تظالموا فيها و زعموا أنهم

ص: 129


1- الامالي 94/1
2- من تأريخ الالحاد في الاسلام:ص 43
3- مجلة الدراسات الشرقية 1932/13،و ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي،و نشره في كتابه الالحاد في الاسلام ص 40-64
4- الجهشياري:ص 110
5- الملل و النحل 229/1

يأخذون للفقراء من الأغنياء،و يردون من المكثرين علي المقلين،و ان من كان عنده فضل من الأموال و النساء و الأمتعة فليس هو بأولي من غيره، فافترس السفلة ذلك و اغتنموه (1).

و اعتنق هذه المبادئ الحاقدون علي القيم الاسلامية،فراحوا ينشرونها بين المسلمين،و اعتنقها خلق من الناس إرضاء لشهواتهم،و فجورهم فكانت نتيجة ذلك ان شاع الفسق و المنكر بين اوساط الناس،كما سنذكره.

الزرادشتية

:

من المبادئ الالحادية التي ظهرت في العصر العباسي«الزرادشتية» و هي تقول بوجود إلهين،إله للخير،و إله للشر،و قد تحدث عن بعض مبادئهم الخربوطلي يقول:و جوهر مبادئ زرادشت ان في العالم حوادث كثيرة متنوعة فمنها الخير،و منها الشر،و هذه الحوادث لا توجد نفسها بل لا بد لها من أصل تستند عليه.و يري زرادشت استحالة نسبة الخير و الشر إلي أصل واحد.و لهذا كان من الضروري عنده لتفسير ما يجري في العالم الايمان بوجود قوتين متضادتين مختلفتين،فواحدة طاهرة و مقدسة، تفيض عنها الحياة و العناصر الطيبة،و الاخري خبيثة دنسة،تصدر عنها الآفات و الهلاك و التدمير،و كل ما ينزل بالانسان من شر و بلاء.فالأولي تسمي«اهريمان»و معناه إله الشر أو الشيطان،الثانية«مزاد»و معناه إله الخير و النور (2).

و يري زرادشت ان الروح لا تفني،و انها تنعم أو تشقي بلذائذ الحياة

ص: 130


1- تأريخ الطبري 88/2
2- المجوس و المجوسية:ص 149

و ان محنتها ثلاثة أيام بعد الموت،و بعد ذلك تحملها الرياح حتي تصل الي الصراط و تحاكم هناك ثلاثة أيام و الارواح الخيرة تمضي الي الجنة و الأرواح الشريرة تساق الي النار.

و قد راجت الزرادشتية في العصر العباسي الأول،و اعتنقها خلق من البسطاء المغرر بهم،و قد عملت علي محاربة القيم الاسلامية،و تفكيك الروابط الاجتماعية،و تحلل المسلمين من الخلق و الآداب الاسلامية.

و علي أي حال فان هذه المبادئ التي انتشرت في العصر العباسي تكشف لنا بوضوح عن الفراغ العقائدي،و ضحالة التفكير،و سيادة الجهل، و عدم احاطة المسلمين بواقع دينهم الذي يدعو الي اليقظة الفكرية،و التحرر من جميع رواسب الجهل و الجمود.

و قد ظهرت البدع و الاضاليل في ذلك العصر بصورة تدعو الي الدهشة و الاستغراب فقد حدثت الراوندية التي زعمت ان المنصور الدوانيقي ربهم الذي يطعمهم و يسقيهم (1)كما ظهرت بدعة المقنع الخراساني الذي نادي بتناسخ الأرواح و ادعي الألوهية،فزعم أن اللّه خلق آدم فتحول في صورته،و من بعده الي صورة نوح ثم الي ابراهيم،و منه الي صورة الأنبياء ثم في صورة النبي محمد(ص)ثم تحول الي صورة الامام علي بن أبي طالب(ع)و من بعده الي أولاده ثم الي صورة أبي مسلم الخراساني،و انتقل من بعده إليه، و طلب من أنصاره أن يعبدوه و يسجدوا له (2)و قد اسقط عن أتباعه الصلاة و الصوم و الزكاة،و أباح لهم النساء (3).

و كان المقنع ماهرا في الهندسة،فقد اظهر للناس قمرا يطلع و يراه/1

ص: 131


1- الطبري 147/6
2- الطبري 367/6
3- وفيات الأعيان 453/1

الناس علي مسيرة شهر ثم يأفل،و قد أغري الناس بذلك،و يقول ابو العلاء المعري عن زيف ذلك القمر:

افق انما البدر المقنع رأسه ضلال و غي مثل بدر المقنع

و علي أي حال فان هذه الحركات الهدامة قد أدت الي تفكك المجتمع الاسلامي و اضطراب الحركة الفكرية فيه.

دعاة الالحاد

:

و استندت الدعوة الي الالحاد،و سائر المبادئ الهدامة-في ذلك العصر- الي جماعة كانوا مغمورين في انسابهم،و مصابين بعاهات نفسية،و كان من أشهرهم يزدان بن باذان الذي عرف بالكفر و الزندقة،سافر الي بيت اللّه الحرام أيام موسم الحج فنظر الي الناس يهرولون في الطواف،فقال:«ما أشبههم ببقر تدوس في البيدر»و أثار ذلك موجات من الغضب و الاستياء في نفوس الاخيار و المتحرجين في دينهم،فقد اندفع العلاء بن الحداد يخاطب الخليفة موسي الهادي،و يحفزه علي قتله،يقول له:

أيا أمين اللّه في خلقه و وارث الكعبة و المنبر

ما ذا تري في رجل كافر يشبه الكعبة بالبيدر

و يجعل الناس إذا ما سعوا حمرا تدوس البر و الدوسر

فأمر موسي الهادي بقتله و صلبه (1).

و منهم بشار بن برد فقد تمادي في الدعوة الي الكفر،و كان يدعو الي عبادة النار و قد أعلن ذلك بقوله:

إبليس أفضل من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الأشرار

ص: 132


1- الطبري 15/10

النار عنصره و آدم طينة و الطين لا يسمو سمو النار

و الأرض مظلمة و النار مشرقة و النار معبودة مذ كانت النار (1)

و بقي مصرا علي عقيدته،و قتل من أجلها (2).

و منهم صالح بن عبد القدوس،و كان من كبار الزنادقة،و حكم عليه المهدي بالاعدام،فأعلن توبته،و كاد المهدي ان يطلق سراحه إلا انه سمعه ينشد:

ما يبلغ الاعداء من جاهل يا مبلغ الجاهل من نفسه

و الشيخ لا يترك أخلاقه حتي يواري في ثري رمسه

فلما سمع المهدي البيت الأخير أمر بقتله،و قال له:أنت لا تدع أخلاقك حتي تموت (3).

و من اعلامهم الحمادون الثلاثة:حماد عجرد،و حماد الراوية،و حماد الزبارقان،و منهم ابن المقفع،و يونس بن أبي فروة،و مطيع بن إياس، و عبد الكريم بن أبي العوجاء،و علي بن الخليل،و يحيي بن زياد الحارثي، و قد أثبت المترجمون لهم بوادر كثيرة من بدعهم و أضاليلهم دلت علي كفرهم و مروقهم من الدين (4).

و علي أي حال فقد عمد هؤلاء الملحدون الي افساد المجتمع الاسلامي و اشاعة الفوضي و التحلل بين المسلمين،كما عمدوا الي تشويه الاسلام،و ذلك بافتعال الاخبار الكاذبة التي تحط من كرامة الاسلام،و قد اعترف عبد الكريم ابن أبي العوجاء بذلك فقد صرح قبل أن ينفذ فيه حكم الاعدام فقال:ني

ص: 133


1- الاغاني 24/3
2- أبو الفداء ذكره في حوادث سنة(166 ه)
3- تأريخ الخلفاء:ص 275
4- أمالي المرتضي،الأغاني

«لئن قتلتموني فلقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوب» و عملوا علي افساد الأدب العربي و تشويهه،و قد قام بذلك خلف الأحمر،و حماد الراوية،و يقول عنه السيد المرتضي:«إن حماد مشهور بالكذب في الرواية،و عمل الشعر و اضافته إلي الشعراء المتقدمين و دسه في أشعارهم حتي أن كثيرا من الرواة قالوا:قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلا يقدر علي صنعته،فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم..» (1).

و هكذا استهدفوا افساد الدين و اللغة و سائر مقومات الأمة العربية و الاسلامية،و وقف المد الاسلامي من الانتشار في ربوع العالم.

اضطهاد الملحدين

:

و قامت السلطات الحاكمة في العصر العباسي باضطهاد الزنادقة اضطهادا رسميا في السنوات الاخيرة من خلافة المهدي،و إبان خلافة الهادي القصيرة الأجل ففي سنة(163 ه)بدأت حملة المهدي علي الزنادقة بأن أمر عبد الجبار المحتسب الذي لقبه صاحب(الأغاني)بلقب(صاحب الزنادقة)بالقبض علي كل الزنادقة الموجودين داخل البلاد،فقبض علي من استطاع القبض عليه،و جيء بهم مخفورين الي الخليفة الذي كان مقيما آنذاك في(دابق) فأمر بقتل بعضهم و التنكيل بالبعض الآخر حتي بلغ الاضطهاد غايته ما بين سنة 166 ه إلي سنة 170 ه و كان يقوم بتعذيبهم قضاة مخصوصون أشهرهم عبد الجبار الذي ذكرناه آنفا،و عمر الكلوزي الذي عين في هذه الوظيفة سنة 167 ه ثم محمد بن عيسي الذي خلف عمر.

ص: 134


1- الامالي 132/1

لقد قام المهدي بحملة واسعة النطاق ضد الزنادقة،فأنشأ ديوانا خاصا بهم،و قد اجتهدت سلطات الأمن و المباحث في التفتيش عنهم فمن ظفروا به نفذوا فيه حكم الاعدام إلا أن يعلن التوبة و يثوب الي الرشاد،و لم يكتف المهدي بذلك،و انما قام بنفسه يجوب في الأقطار للتفتيش عنهم،فرحل الي بلاد الشام،و أقام بها يبحث عنهم،فعلم أن جماعة منهم قد هربوا من العراق الي حلب فأمر بالقاء القبض عليهم،و سوقهم الي المحاكم،و بعد القاء القبض عليهم ثبت اتهامهم بالزندقة فأمر باعدامهم جميعا (1).

لقد امعن المهدي في تتبع الزنادقة،و قتلهم يقول السيوطي:«وجد المهدي في تتبع الزنادقة و إبادتهم،و البحث عنهم في الآفاق،و القتل علي التهمة» (2)و لما حضرته الوفاة عهد الي ولده الهادي في قتلهم،و قد أوصاه بهذه الوصية:

«يا بني،إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة-اي الزنادقة- فانها فرقة تدعوا الناس الي ظاهر حسن كاجتناب الفواحش،و الزهد في الدنيا،و العمل للآخرة،ثم تخرجها الي تحريم اللحم،و مس الماء الطهور و ترك قتل الهوام تحرجا و تحوبا،ثم تخرجها من هذا الي عبادة اثنين:

أحدهما النور،و الآخر الظلمة،ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات و البنات و الاغتسال بالبول،و سرقة الاطفال من الطريق،لتنقذهم من ضلال الظلمة الي هداية النور فارفع فيها الخشب،و جرد فيها السيف،و تقرب بأمرها الي اللّه الذي لا شريك له.فاني رأيت جدك العباس في المنام قلدني سيفين، و أمرني بقتل اصحاب الاثنين..» (3)/6

ص: 135


1- الاغاني 67/6
2- تأريخ الخلفاء:ص 273
3- الطبري 388/6

و قد نفذ الهادي وصية أبيه فأشاع القتل و الاعدام في الزنادقة،و سار من بعده الرشيد و سائر ملوك بني العباس فلم يتركوا مجالا للأوكار التخريبية أن تعمل في افساد المسلمين و قضوا علي جميع دعاة الالحاد و الزندقة.

لقد كان الخلفاء يستخدمون جميع الوسائل لمحاربة الزندقة و القضاء علي هذه الروح الخبيثة،فاذا قبضوا علي الزنديق طلبوا منه أن يبصق علي صورة ماني أو يذبح طائرا اسمه(التذرج)،اما البصق علي صورة ماني فالمقصود منه تحقير مبتدع الفكرة المانوية و هو دليل في نفس الوقت علي رجوع الزنديق عن فكرته،و المقصود من ذبح الطائر أن ذبح الحيوان الحي كان محرما عند المانوية أما الحكمة في ذبح الطائر(تذرج)فلا تكشف عنها المصادر التي بأيدينا كما يقول الاستاذ جورج فيدا (1).

و مهما يكن من أمر فان الحملة التي شنها الخلفاء علي الزنادقة كانت شديدة للغاية،و لكن بمزيد الأسف ان العقاب الصارم كان علي الأبرياء اكثر منه علي الزنادقة الحقيقيين كما سنبينه.

الاسراف في الاتهام

:

و لم يكن كل هؤلاء الذين اتهموا بالالحاد و المروق عن الدين زنادقة حقيقين بل كان بعضهم يتهم بالزندقة لأسباب سياسية،فقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء علي خصومهم من الهاشميين،و علي هذا النحو أتهم أحد أبناء داود بن علي،و يعقوب بن الفضل،و أتي بهما الي المهدي و لما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما فلم يستطع ذلك

ص: 136


1- الالحاد في الاسلام:ص 28-29 نقلا عن مجلة الدراسات الشرقية 173/14-229

و انما حبسهما و أشار الي ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولي الخلافة.

و تعدي الاتهام بالزندقة الي جميع من لا يرضي بحكم الخلفاء او لا يري جواز الصلاة خلفهم فهذا شريك بن عبد اللّه القاضي،كان لا يري الصلاة خلف المهدي فأمر به فأحضر عنده فقال له:-في جملة كلامه-يا بن الزانية،فقال شريك:مه يا أمير المؤمنين فلقد كانت صوامة قوامة.

فقال له المهدي:يا زنديق،لأقتلنك،فضحك شريك،و قال:

يا أمير المؤمنين،إن للزنادقة علامات يعرفون بها:شربهم القهوات،و اتخاذهم القينات،فأطرق المهدي و لم يطق جوابا (1).

و دلت هذه البادرة علي مدي اسرافهم باطلاق الزندقة علي كل من يكرهونه و لا يرضون عنه كما دل جواب شريك علي أن المدار في الزندقة هو شرب الخمر و اتخاذ القينات.فعلي هذا يطلق الزنديق علي كل ماجن خليع،و بهذا الاعتبار ألقي القبض علي آدم حفيد عمر بن عبد العزيز،فقد أتهم بالزندقة لأنه كان خليعا ماجنا مسرفا في الشراب و جرت علي لسانه أبيات-و هو سكران-فيها مساس للدين قال فيها:

اسقني واسق خليلي في مدي الليل الطويل

لونها أصفر صاف و هي كالمسك الفتيل

في لسان المرء منها مثل طعم الزنجبيل

ريحها ينفح منها ساطعا من رأس ميل

من ينل منها ثلاثا ينس منهاج السبيل

فمتي ما نال خمسا تركته كالقتيل

ليس يدري حين ذاكم ما دبير من قبيل

إن سمعي عن كلام اللائمي فيها ثقيل10

ص: 137


1- ابن كثير:53/10

لشديد الوقر إني غير مطواع ذليل

قل لمن يلحاك فيها من فقيه أو نبيل

أنت دعها و ارج أخري من رحيق السلسبيل

تعطش اليوم و تسقي في غد نعت الطلول

من أجل ذلك أخذه المهدي و رماه بالزندقة،و ضربه ثلاثمائة سوطا علي أن يقر بذلك،و هو ينفي عنه التهمة و يقول:و اللّه،ما أشركت باللّه طرفة عين،و متي رأيت قرشيا تزندق؟و لكنه طرب غلبني و شعر طفح علي قلبي،و أنا فتي من فتيان قريش أشرب النبيذ،و أقول ما قلت علي سبيل المجون،ثم هجر الشراب بعد ذلك و كره أن يري الخمر و يقول:

شربت فلما قيل ليس بنازع نزعت و ثوبي من أذي اللؤم طاهر (1)

لقد اتهم آدم بالزندقة و هو لم يكن زنديقا،و انما غلبه الشعر بقول فيه هجر،و لم يقتصر الخلفاء علي ذلك فقد أطلقوا لفظ الزنديق علي كل من يناقش أحاديث الصحابة أو يردها (2)و الغرض من ذلك الحكم علي الشيعة بالمروق عن الاسلام ليستحلوا بذلك إراقة دمائهم،يقول عبد الرحمن بدوي:ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الي جنب مع الانتساب الي مذهب الرافضة كما لاحظ ذلك الاستاذ(فيدا) (3).

لقد كان الانتساب لمذهب التشيع في تلك الفترات المظلمة من أهم الجرائم،فان هذه التهمة في نظر المسئولين فوق جريمة الالحاد،فان المتهم بالكفر و الالحاد تقبل توبته و يعفي عنه،اما المتهم بالولاء لأهل البيت(ع) فانه يحكم عليه بالكفر و المروق عن الدين مع ايمانه باللّه و رسوله و إقامتهام

ص: 138


1- الأغاني:60/1-61
2- تأريخ بغداد:7/14
3- من تأريخ الالحاد في الاسلام

لفرائض الاسلام.

و مهما يكن من أمر فقد اتخذ خلفاء بني العباس الاتهام بالزندقة في كثير من الاحيان وسيلة للحكم بالاعدام علي الشيعة و زجهم في غياهب السجون و انما تعسفوا في ذلك لأن الشيعة قد أعلنت الحرب بغير هوادة علي كل ظالم جائر،و قدمت المزيد من التضحيات للقضاء علي الظالمين،و اعتبرت اولئك الحاكمين من أئمة الظلم و الضلال فانبرت الي مناجزتهم و بذلت جميع القوي لتحطيم عروشهم،و سنذكر ذلك مشفوعا بالتفصيل عما قريب.

احتجاجات الأئمة معهم

:

و تميز رد أئمة اهل البيت(ع)علي الملحدين بالمنطق العلمي و الأدلة الحاسمة التي تثبت اصالة العقيدة الاسلامية بجميع مناحي تشريعاتها،و زيف اضاليل الملحدين،و بطلان معتقداتهم،و كان تأثير تلك الاحتجاجات في نفوسهم أقوي من جميع الوسائل التي استخدمتها الحكومات المحلية لقمعهم، فقد التجأت بعد أن أعوزها المنطق الي قوة الحديد و النار و الزج في السجون الي قهرهم و ابادتهم،و لكن هذا سلاح العاجزين فان المبادئ لا يمكن أن ترد أو تقهر إلا بالوسائل العلمية و يستحيل أن تغلب بغير ذلك.

و قد اعتمد أئمة أهل البيت(ع)في احتجاجاتهم علي الوسائل العلمية الحافلة بجميع أساليب الاقناع،و التي لم تدع مجالا للشك أو الريبة في بطلان معتقدات خصومهم،و قد اعترف كثيرون منهم بضلال ما هم فيه،و ثابوا الي طريق الحق و الصواب كما ادلي بعضهم بان الأئمة سادة البشر،و ان الانسانية الكاملة لا يصح اطلاقها إلا عليهم،و قد اعترف بذلك ابن المقفع و عبد الكريم بن أبي العوجاء حينما كانا يلاحظان طواف المسلمين حول الكعبة

ص: 139

فقال ابن المقفع لاصحابه:«ليس واحد من هؤلاء-و اشار الي من في البيت الحرام-يستحق اسم الانسانية إلا هذا-و اشار الي الامام جعفر بن محمد(ع)-اما الباقي فرعاع و بهائم».

و بادر ابن أبي العوجاء الي الامام الصادق(ع)فقال له:

«رحمك اللّه أيها الشيخ،أي شيء نقوله نحن:؟و أي شيء يقولونه هم؟ما نؤمن به،و ما به يؤمنون واحد».

فاجابه الامام(ع):

«اني لما تقول:ان يكون كما يقولون:هم يقولون بالمعاد و الوعيد،و ان للسماء إلها و بها عمرانا،بينما تزعمون أن السماء خراب،و ليس بها أحد».

قال عبد الكريم:

«لو كان الأمر كما تقول:فما منع اللّه من الظهور لجميع خلقه، و دعاهم الي عبادته حتي لا يصبح اثنان منهم علي خلاف؟لما ذا اختفي عنهم و مع ذلك أرسل إليهم رسلا؟لو كان قد ظهر بذاته لكان ذلك أسهل الي الاعتقاد به».

فأجابه الامام:

«كيف اختفي من أظهر قدرته في نفسك أنت و في نمائك؟»، و أخذ الامام(ع)يدلي عليه بالحجج و البراهين علي وجود اللّه،و انهزم ابن أبي العوجاء مهرولا الي اصحابه،و هو يقول لهم:«ما هذا ببشر!!و ان كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا و يتروح اذا شاء باطنا فهو هذا -و اشار الي الامام(ع) (1).

و لا بد لنا من وقفة قصيرة الي ذكر بعض الاحتجاجات التي أثرت عنهم،و فيما يلي ذلك:69

ص: 140


1- من تأريخ الالحاد في الاسلام:ص 68-69

احتجاجات الامام الصادق

:

و حفلت كتب الكلام و الحديث بالشيء الكثير مما أثر عن الامام الصادق في هذا المجال،و هو مدعم بأوثق الأدلة علي صحة العقيدة الاسلامية،و زيف معتقدات خصومها،و نشير فيما يلي بعضها:

1-دخل ابن ابي العوجاء علي الامام الصادق(ع)فقال له الامام:

-يا بن أبي العوجاء أنت مصنوع أم غير مصنوع؟ -لست بمصنوع.

-لو كنت مصنوعا كيف كنت؟ فتحير ابن ابي العوجاء،و لم يطق جوابا،و خرج منهزما يتعثر في خطاه (1).

2-دخل ابو شاكر الديصاني،و كان زنديقا علي الامام الصادق(ع) فقال له:

-يا جعفر بن محمد دلني علي معبودي؟ فقال ابو عبد اللّه:اجلس،و اقبل غلام في كفه بيضة،فأمر(ع) الغلام أن يناوله البيضة،فناولها اياه،فقال(ع):

«يا ديصاني،هذا حصن مكنون له جلد غليظ،و تحت الجلد الغليظ جلد رقيق،و تحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة،و فضة ذائبة،فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة،و لا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة،فهي علي حالها لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن اصلاحها،و لا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن افسادها،لا يدري للذكر خلقت أم للانثي،

ص: 141


1- احتجاج الطبرسي،بحار الانوار.

تنفلق عن مثل الوان الطواويس،أ تري له مدبرا...»و اطرق الديصاني برأسه للارض يفكر في قول الامام،و لم يلبث أن رفع رأسه و هو يقول:

«اشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له،و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،و انك امام،و حجة اللّه علي خلقه،و أنا تائب مما كنت فيه (1).

3-و حدث هشام بن الحكم قال:كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللّه(ع)علم،فخرج الي المدينة ليناظره،فلم يصادفه بها،و قيل هو بمكة فخرج الي مكة،و نحن مع أبي عبد اللّه(ع)فانتهي إليه-و هو في الطواف-فدنا و سلم،فقال له ابو عبد اللّه:

-ما اسمك؟ -عبد الملك.

-ما كنيتك؟ -أبو عبد اللّه.

-من ذا الملك الذي أنت عبده،امن ملوك الأرض،أم من ملوك السماء؟و اخبرني عن ابنك اعبد آله السماء.أمّ عبد آله الأرض؟ فسكت الزنديق(و لم يطق جوابا،فقال له أبو عبد اللّه:قل:

فتحير الزنديق،و لم يدر ما يقول:فرمقه الامام(ع)بطرفه،و قال له:

اذا فرغت من الطواف فائتنا،و لما فرغ(ع)من الطواف أقبل الزنديق فقال(ع)له:

-أتعلم ان للأرض تحتا و فوقا؟ -نعم.

-دخلت تحتها.

-لا.ج.

ص: 142


1- الاحتجاج.

-هل تدري ما تحتها؟ -لا ادري إلا اني أظن أن ليس تحتها شيء.

-الظن عجز ما لم تستيقن،ثم قال(ع)له:

-صعدت الي السماء؟ -لا.

-أ فتدري ما فيها؟ -لا.

-اتيت المشرق و المغرب،فنظرت ما خلفهما؟ -لا.

-العجب لك!لم تبلغ المشرق و المغرب،و لم تنزل تحت الأرض، و لم تصعد الي السماء،و لم تخبر ما هناك،فتعرف ما خلفهن،و أنت جاحد مما فيهن،و هل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ ما كلمني بهذا غيرك.

-فانت من ذلك في شك،فلعل هو،و لعل ليس هو.

-لعل ذلك.

-أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة علي من يعلم،و لا حجة للجاهل علي العالم،يا اخا أهل مصر،تفهم عني،أ ما تري الشمس و القمر، و الليل و النهار يلجان،و لا يستبقان،يذهبان و يرجعان قد اضطرا،ليس لهما مكان الا مكانهما،فان كانا يقدران علي أن يذهبا فلم يرجعا؟و إن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا،و النهار ليلا؟اضطرا و اللّه يا أخا أهل مصر،إن الذي تذهبون إليه و تظنون من الدهر،فان كان هو يذهبهم فلم يردهم؟و ان كان يردهم فلم يذهب بهم؟أ ما تري السماء مرفوعة،و الأرض مرفوعة،لا تسقط السماء علي الأرض،و لا تنحدر

ص: 143

الارض فوق ما تحتها،أمسكها و اللّه خالقها و مدبرها..» و وجم المصري،و لم يطق جوابا،و فكر في ابعاد كلام الامام فرأي فيه الهداية و الحق فثاب الي الرشاد و اعلن اسلامه و ايمانه (1).

4-و قصد احد الزنادقة الامام(ع)فقال له:

-أ رأيت اللّه حين عبدته؟ -ما كنت أعبد شيئا لم أره -كيف رأيته؟ -لم تره الابصار بمشاهدة العيان،و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان لا يدرك بالحواس،و لا يقاس بالناس،معروف بغير تشبيه(2).

5-وفد بعض الزنادقة علي الامام(ع)فسأله عن مسائل كثيرة، و مما سأله قال:

-كيف يعبد اللّه الخلق،و لم يروه -رأته القلوب بنور الايمان،و أثبتته العقول بيقظتها اثبات العيان و أبصرته الابصار بما رأته من حسن التركيب،و أحكام التأليف،ثم الرسل و آياتها و الكتب و محكماتها،و اقتصرت العلماء علي ما رأت من عظمته دون رؤيته(3).

و قد أقام(ع)في هذه المناظرة سيلا من الأدلة علي وجود اللّه و وحدانيته،و قد أثر عنه في هذا المجال الشيء الكثير،و ذكره يستدعي الاطالة و الخروج عن الموضوع فنكتفي بهذا النزر اليسير منه

ص: 144


1- احتجاج الطبري
2- احتجاج الطبري
3- احتجاج الطبري

الامام موسي

اشارة

:

و قام الامام موسي(ع)بدوره في الدفاع عن العقيدة الاسلامية، و ابطال شبه الملحدين و زيف أفكارهم،و نعرض فيما يلي الي بعض المسائل الكلامية التي سئل عنها.

1-ابطاله لحركة اللّه:

جاء في بعض الروايات من طرق العامة أن اللّه سبحانه ينزل في الثلث الأخير من الليل فينادي في السماء:

«هل من داع؟هل من مستغفر».

و المجسمون يحملون هذه الاخبار علي ظواهرها من دون تأويل أو نظر في سندها،و اثبتوا ان اللّه تعالي له جسم،و قد عرض ذلك علي الامام(ع) فبين فساد ذلك،قال(ع):

«إن اللّه لا ينزل،و لا يحتاج الي أن ينزل،انما منظره في القرب و البعد سواء (1)لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد،و لم يحتج الي

ص: 145


1- المراد:انه تعالي منزه عن الحركة و الانتقال لأن الذي يتصف بالحركة هو الممكن فان نسبته الي الامكنة ليست نسبة واحدة،فاذا حضر في مكان غاب عنه الآخر،و اذا قرب من شيء بعد عن الشيء الآخر،و اذا تعلق له غرض بمكان لا بد له من الحركة و الانتقال إليه لايجاد غرضه،و جميع ذلك بالنسبة إليه تعالي محال،فان نسبته الي جميع الامكنة و الامكانيات نسبة واحدة،و ليس شيء منها أقرب إليه من شيء آخر فلذا لم يحتج الي الحركة،فان منظره في القرب و البعد سواء.

شيء بل يحتاج إليه و هو ذو الطول (1)لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

أما قول الواصفين:إنه ينزل تبارك و تعالي فانما يقول بذلك من ينسبه الي نقص أو زيادة (2)و كل متحرك يحتاج إلي من يحركه أو يتحرك به (3)ه.

ص: 146


1- ان كل شيء محتاج الي اللّه تعالي فهو الذي يفيض عليه الوجود و لو احتاج تعالي الي شيء لزم افتقار الشيء الي ما يفتقر إليه من حيثية واحدة و ذلك محال لاستلزامه الدور المجمع علي بطلانه.
2- أشار عليه السلام الي المفاسد التي تترتب علي القول بنزوله تعالي من السماء فان ذلك يستلزم الحركة،و كل من يتحرك سواء أ كانت الحركة في الأين أم في غيره فانها توجب الخروج من النقص الي الكمال أو الي الزيادة و هي الخروج من القوة الي الفعل،و كل ما يوصف بنقص أو زيادة ففي ذاته امكان للانفعال من غيره،و لازمه تركب الذات من القوة و الفعل -حسب ما نص عليه الفلاسفة-و كل مركب فهو ممكن الوجود محتاج الي غيره»و لازمه أن يكون تعالي ممكن الوجود،و هو محال حسب ما دلل عليه في البحوث الفلسفية.
3- اشار عليه السلام الي حجة اخري علي بطلان من زعم بنزوله تعالي من السماء فان ذلك يلزم منه الحركة،و كل متحرك لا بد له من محرك سواء أ كان مباينا له كالحركات النفسية و هي المعبر عنها بقوله:«من يحركه» أم مقارنا له كالحركات الطبيعية،و قد عبر عنها(ع)بقوله«او يتحرك به» و الحركة صفة حادثة،و هي باعتبارها وصفا تحتاج الي قابل،و باعتبار حدوثها تحتاج الي فاعل،و لا بد أن يكون فاعلها غير القابل اذ لا يعقل ان يكون ذلك،فكل متحرك يحتاج الي محرك يغايره و المغاير أيضا يحتاج الي محرك و هكذا فيلزم منه التسلسل المجمع علي بطلانه.

فمن ظن باللّه الظنون فقد هلك (1)فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له علي حد تحدونه بنقص او زيادة أو تحريك أو تحرك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود،فان اللّه جل و عز عن صفة الواصفين و نعت الناعتين، و توهم المتوهمين،و توكل علي العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم،و تقلبك في الساجدين...» (2).

و تحدث عليه السلام مع أصحابه عن نفي الحركة عن اللّه تعالي فقال:

«لا اقول:إنه قائم فأزيله عن مكانه،و لا أحدّه بمكان يكون فيه و لا احده أن يتحرك في شيء من الاركان و الجوارح،و لا أحده بلفظ شق فم،و لكن كما قال اللّه تبارك و تعالي:« كُنْ فَيَكُونُ »بمشيئته من غير تردد في نفس،صمدا فردا،لم يحتج إلي شريك يذكر له ملكه،و لا يفتح له أبواب علمه» (3).

اراد(ع)انه لا يصف اللّه تعالي بالقيام بالمعني الذي يقول به اللغويون كي يلزم زواله عن المكان الذي كان به قبل قيامه،و أيضا لا يصفه بالكون في مكان ليلزم منه كونه جسما محدودا،و لا يصفه أيضا بالحركة بكله او بالحركة التي تكون للجوارح فان ذلك يلزم منه التغيير و الحاجة الي الغير تعالي اللّه عن جميع ذلك،و بين(ع)كيفية صنعه للاشياء بأن ذلك ليس بلفظ شق فم اللافظ عند تكلمه بل انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:

كن فيكون،و هو تعالي يفعل ما يريد بنفس مشيئته من غير استعمال آلة/1

ص: 147


1- حذر عليه السلام من الظنون الفاسدة فانها توجب الهلكة و المروق من الدين فانه تعالي منزه عن تلك الآراء الفاسدة التي يعرف زيغها من كان له ادني المام من العلم و المعرفة.
2- اصول الكافي 125/1
3- أصول الكافي:125/1

أو جارحة،و من غير تردد و تفكر،لا يفتقر في ايجاده للاشياء الي شريك يعينه و لا وزير يدبر له أمره،و يستعين به أو يذكر له ملكه و سلطانه.

2-نفي الجسم عن اللّه:

و مما قال به الملحدون في ذلك العصر:إن اللّه تعالي له جسم كبقية الموجودات،و قد قال بذلك هشام بن الحكم:قبل هدايته و رجوعه الي طريق الحق،و قد عرض قوله علي الامام موسي(ع)فقال في الرد عليه:

«اي فحش أو خنا أعظم من قول من يصف خالق الاشياء بجسم أو صورة،أو بخلقة (1)أو بتحديد،أو أعضاء،تعالي اللّه عن ذلك علوا كبيرا» (2).

و ذكر الشهرستاني ان هشام بن الحكم له مقالات في التشبيه،و وافقه علي ذلك هشام بن سالم الجواليقي،و مما قالوه:ان اللّه تعالي طوله سبعة أشبار بشبر نفسه،و انه في مكان مخصوص،وجهة مخصوصة،و انه تعالي علي صورة انسان أعلاه مجوف،و أسفله مصمت،و هو ساطع يتلألأ،له حواس خمس،و رجل و أنف و أذن و عين،و له وفرة سوداء لكنه ليس بلحم و لا دم (3)و طعن جملة من المحققين في نسبة ذلك إلي هشام نظرا لوثاقته و علمه و انه في طليعة رجال الاسلام فكيف تصح نسبة ذلك إليه إلا أنه لا مانع من ذلك فانه كان في بداية امره قبل ان يتعرف بالامام قد جرفته الافكار الالحادية.و بعد اتصاله بالامام(ع)ثاب الي طريق الحق

ص: 148


1- في بعض النسخ بخلقه
2- أصول الكافي:105/1
3- الملل و النحل

و الصواب و صار من اعلام الفكر الاسلامي،و سنوضح ذلك عند التحدث عن ترجمته.

و عرض عبد الرحمن علي الامام(ع)قولا لهشام في التجسيم،و هو (ان اللّه جسم ليس كمثله شيء،عالم سميع،بصير قادر متكلم،ناطق، و الكلام و القدرة و العلم تجري مجري واحد ليس شيء منها مخلوقا)فرد الامام عليه ذلك بقوله:

«قاتله اللّه،أ ما علم ان الجسم محدود،و الكلام غير المتكلم،معاذ اللّه!!و أبرأ الي اللّه من هذا القول،لا جسم،و لا صورة،و لا تحديد و كل شيء سواه مخلوق،انما تكون الاشياء بارادته و مشيئته من غير كلام و لا تردد في نفس،و لا نطق بلسان» (1).

و من جملة الأمور التي سئل عنها(ع)فيما يتعلق بصفات اللّه انه سئل عن جسم اللّه و صورته فأجاب(ع)«سبحان من ليس كمثله شيء لا جسم و لا صورة» (2).

3-معني اللّه:

و انتشرت الاضاليل في ذلك العصر و سادت البدع،و قد وجهت الاسئلة الكثيرة الي الامام(ع)فيما يتعلق بذات اللّه و صفاته،و من الاسئلة التي وجهت إليه هو ما«معني اللّه؟»فأجاب(ع):«استولي علي ما دقّ و جل» (3).

و هذا التفسير الذي أدلي به الامام تفسير للشيء بما يلازمه فان معني

ص: 149


1- أصول الكافي:106/1
2- نفس المصدر:ص 104
3- نفس المصدر:ص 115

الإلهية يلزمه الاستيلاء علي جميع الاشياء جليلها و دقيقها،و حاضرها و غائبها و كل شيء فيها،و روي في المحاسن أنه سئل عن معني قول اللّه:

«الرحمن علي العرش استوي»فقال(ع)استولي علي ما دق و جل (1).

4-علمه تعالي:

و رفع الي الامام سؤال عن علم اللّه تعالي جاء فيه(هل ان اللّه كان يعلم الاشياء،قبل أن خلق الاشياء و كونها،لو انه لم يعلم ذلك حتي خلقها و أراد خلقها و تكوينها،فعلم ما خلق عند ما خلق و ما كون عند ما كون).

فأجاب(ع):

«لم يزل اللّه عالما بالاشياء قبل أن يخلق الاشياء كعلمه بالاشياء بعد ما علم خلق الاشياء» (2).

و كتب إليه محمد بن حمزة رسالة يسأله فيها عن علم اللّه و هذا نصها:

«إن مواليك اختلفوا في العلم،فقال بعضهم:لم يزل اللّه عالما قبل فعل الاشياء،و قال بعضهم:لا نقول:لم يزل اللّه عالما لأن معني يعلم يفعل فان أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الازل معه شيئا،فان رأيت جعلني اللّه فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه و لا أجوزه»فكتب(ع)إليه:

«لم يزل اللّه عالما تبارك و تعالي ذكره» (3)و كان جوابه(ع)عن هذه المسألة مجملا نظرا لقصر فهم السائل عن ادراك الجواب فان هذه المسألة من أشكل المسائل الفلسفية و قد وقع الاختلاف

ص: 150


1- الاحتجاج للطبرسي
2- أصول الكافي:107/1
3- أصول الكافي:107/1

فيها بين أعاظم الفلاسفة القدامي فالمشائيون تبعا لمعلمهم ارسطاطاليس ذهبوا إلي أن علمه تعاني بالاشياء متقدم عليها،و الاشراقيون تبعا لمعلمهم افلاطون ذهبوا إلي أن علم اللّه عز اسمه بالاشياء مقارن لايجاد الشيء و قد استدل الفريقان بأدلة كثيرة فيها لون من الغموض و الابهام و حيث ان السائل لم يفقه امثال هذه البحوث فلذا اجمل(ع)في جوابه.

5-إرادة اللّه:

و سأل صفوان بن يحيي الامام عن الارادة هل هي من اللّه أو من الخلق؟فأجابه عليه السلام:

«الارادة من الخلق الضمير،و ما يبدوا لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللّه تعالي فاراداته احداثه لا غير لانه لا يروي،و لا يهم و لا يفكر و هذه الصفات منفية عنه،و هي صفات الخلق،فارادة اللّه الفعل لا غير ذلك،يقول له:كن فيكون بلا لفظ و لا نطق و لا لسان و لا همة و لا تفكر،و لا كيف لذلك كما انه لا كيف له» (1).

و إيضاح كلامه(ع)ان ارادة الانسان عبارة عن كيفية نفسانية تحدث عقيب تصوره للشيء الملائم له،و التصديق بثبوته و نفعه تصديقا علميا او ظنيا،فاذا بلغ الشيء في قرارة النفس حد الرجحان حصل العزم لايجاده و اما ارادة اللّه تعالي فليست صفة حادثة علي ذاته الكريمة لاستحالة حدوث صفة او كيفية في ذاته و ليست الارادة بالنسبة له إلا احداثه الشيء لا غير لتعاليه سبحانه عن الروية و الفكر.

6-مشيئة اللّه:

قال علي بن ابراهيم:سمعت أبا الحسن موسي(ع)يقول:لا يكون

ص: 151


1- أصول الكافي:127/1

شيء إلا ما شاء اللّه و أراد،و قدر،و قضي،فقلت له:ما معني شاء؟ قال(ع):ابتداء الفعل.

قلت:ما معني قدر؟.

قال(ع):تقدير الشيء من طوله و عرضه.

قلت:ما معني قضي؟ قال(ع)اذا قضي أمضاه،فذلك الذي لا مرد له (1).

و إيضاح كلامه(ع)-علي وجه الاجمال أن للانسان أفعالا اختيارية منها مشيئته و إرادته و تقديره و إمضائه و حيث أنه تعالي عد الموجودات الخارجية من افعال نفسه و صادرة عن علمه و قدرته فلا بد أن تكون مسبوقة بالمشيئة و الارادة و التقدير و القضاء،و المشيئة و الارادة لا بد من تحققهما في ايجاد الفعل الاختياري،فالمعني القائم في النفس من حيث ارتباطه بالفاعل يسمي مشيئة،و من حيث ارتباطه بالفعل يسمي ارادة،و التقدير تعيين مقدار الفعل،و القضاء هو الحكم الاخير الذي لا واسطة بينه و بين الفعل و اذا تعلق قضاؤه تعالي بشيء أمضاه و هو الذي لا مرد له.

7-الارادة التكوينية و التشريعية

:

قال(ع):ان للّه إرادتين و مشيئتين:ارادة حتم و ارادة عزم، ينهي و هو يشاء،و يأمر و هو لا يشاء،أو رأيت أنه نهي آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة،و شاء ذلك،و لو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة اللّه تعالي،و أمر ابراهيم أن يذبح اسحاق و لم يشأ أن يذبحه و لو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة اللّه تعالي (2).

ص: 152


1- أصول الكافي:150/1
2- نفس المصدر ص 151

و بيان مراده(ع)ان الارادة تنقسم الي الارادة التكوينية الحقيقية و الي الارادة التشريعية الاعتبارية،فارادة الانسان التي تتعلق بفعل نفسه ارادة تكوينية تؤثر في اعضائه الي ايجاد الفعل و يستحيل معها تخلف الأعضاء عن المطاوعة الا لمانع،و اما الارادة التي تتعلق بفعل الغير كما اذ امر بشيء أو نهي عنه فان هذه الارادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر ايجاد الفعل او تركه من الغير بل تتوقف علي الارادة التكوينية له.

و اما ارادة اللّه تعالي التكوينية فهي التي تتعلق بالشيء،و لا بد من ايجاده و يستحيل فيها التخلف،و اما ارادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث انه حسن و صالح،و اما نهي اللّه لآدم عن الأكل و قد شاء ذلك و أمره تعالي لإبراهيم بالذبح لإسحاق و قد شاء ذلك فان النهي و الامر فيهما تشريعيان،كما ان المراد بالمشيئة هي المشيئة التكوينية،و قد صرحت الرواية بأن ابراهيم قد امر بذبح ولده اسحاق دون اسماعيل،و هو مخالف لما تضافرت به الاخبار الواردة عن ائمة الهدي(ع)بأن الذي جعل قربانا للبيت الحرام هو اسماعيل دون اسحاق.

و نكتفي بهذا المقدار من رده علي الملحدين و تفنيده لشبههم،و له تراث آخر يتعلق في النبوة و الامامة ذكره المجلسي في بحاره،كما دونه الكليني في أصول الكافي،و التعرض له يستدعي مجلدا ضخما،لذا نكتفي بما ذكرناه للاستدل ال علي سهره(ع)علي رد الشبه و تفنيد الاضاليل التي دهمت المسلمين.

و علي اي حال فان عصر الامام قد غزته موجة من الالحاد فجرها المعادون للاسلام و الحاقدون علي انتصاراته،فرأوا أن لا وسيلة لهم لمقاومته إلا باشاعة المبادئ الهدامة بين المسلمين ليضعف بذلك الجانب العقائدي، و لكن لم تلبث أن تلاشت تلك الافكار،و قبرت تلك الأضاليل و البدع

ص: 153

بواسطة المساعي الحميدة التي بذلها أئمة اهل البيت(ع)و قادة الفكر من تلامذتهم،فقد انطلقوا بحماس بالغ يعملون لصيانة الاسلام و حمايته من شبه الملحدين و المضللين.

إن تلك الموجات الالحادية التي انتشرت في ذلك العصر تدل علي أن المجتمع كان يعيش عيشة متحللة يسودها الخلاف المذهبي،و الشك في العقيدة الاسلامية،و مما لا شك فيه ان لاحتجاجات الأئمة(ع)الأثر الفعال في ارجاع المسلمين الي طريق الحق و الصواب،الي هنا ينتهي بنا الحديث عن الغزو العقائدي الذي مني به المسلمون،و لعله من أهم أحداث ذلك العصر.

تسيب الاخلاق

:

كان العصر العباسي في أغلب ادواره عصر لهو و مجون قد أقبل الناس فيه علي الطرب و الغناء،و اندفعوا الي الاستمتاع بجميع انواع المحرمات من الادمان علي شرب الخمر،و استعمال الميسر،و منادمة الجواري،و الغلمان و غيرها مما حرمه اللّه،و قد شجعهم علي ذلك الجهاز الحاكم فانه قد غرق في المنكر و الاثم،و دفع الناس الي ذلك اللهو و انا لنتخذ المقياس في فساد الاخلاق من شعراء ذلك العصر،فانهم يمثلون المجتمع في جميع اتجاهاته و ميوله تمثيلا صحيحا،فقد كان شعرهم لا يصور جدا و لا نشاطا في الحياة العامة،و لا يصور أي واقع للحياة الفكرية،و انما كان شعرهم في وصف العقار و القيان،و البعث الي اللذة و الشهوات،و كان ما أثر عنهم في هذا المجال وصمة في تراث الادب العربي،و فيما يلي هذه البادرة التي تدل علي ذلك:

اجتمع شعراء البلاط العباسي،فقالوا:ابن نقضي هذه الليلة سهرتنا

ص: 154

فأخذ كل واحد يدعوهم الي بيته،فاقترح ابو نواس ان تكون هذه الدعوة شعرا لا نثرا و ان تذهب الجماعة الي احسنهم نظما في ذلك،فقال داود بن رزين الواسطي:

قوموا لمنزل لهو و ظل بيت كنين

فيه من الورد و النر جس و الياسمين

و ريح مسك ذكي و فائح المرزجون (1)

و قنية ذات غنج و ذات عقل رصين

تشدوا بكل طريف من محكم(ابن رزين)

و قال أبو نواس:

لا بل الي ثقاتي قوموا بنا لحياتي

قوموا نلذ جميعا بقول هاك و هاتي

...و ذكر لونا من الخلاعة ننزه الكتاب عن ذكره.

و قال الخليع:

الي(الخليع)فقوموا الي شراب الخليع

الي شراب لذيذ و أكل جدي رضيع

و نيل أحوي رخيم بالخندريس صريع (2)

في روضة جادها صو ب غاديات الربيع

قوموا تنالوا وشيكا منال كل رفيعة.

ص: 155


1- المرزجون:نبت طيب الرائحة.و الكلمة فارسية.
2- الخندريس:الخمرة القديمة.

و قال الرقاشي:

للّه در عقار حلت ببيت(الرقاشي)

عذراء ذات احمرار إني بها لا أحاشي

و قال عمرو الوارق:

عوجوا الي بيت(عمرو) الي سماع و خمر

و ناشجات علينا تطاع في كل أمر

هناك أحلي و أشهي من صيد باز و صقر

هذا و ليس عليكم أولي و لا وقت عصر

و قال الحسين الخياط:

قضت عنان علينا بأن نزور(حسينا)

و أن نقر لديه باللهو و القصف عينا

فما رأينا كظرف(الح سين)فيما رأينا

و قالت عنان:

مهلا أفديك مهلا (عنان)أحري و أولي

بأن تنال لديها أشهي النعيم و أحلي

لا تطمعوا في سواي من البرية كلا

يا إخوتي خبروني أجاز حكمي أم لا؟!

و مضي كل واحد ينظم أبياتا فيها ترغيب علي اللذة و حث علي اللهو و المجون.فاقترح ابو نواس الذهاب الي حانة خمار،فقال:

ص: 156

ألا قوموا الي الكرخ إلي منزل خمار

الي صهباء كالمسك الي جونة عطار

و بستان به نخل له زهر باشجار

فان احببتم لهوا أتيناكم بمزمار (1)

إن هذا اللون من الأدب المكشوف قد دل علي انتشار الميوعة و فساد الاخلاق و التحلل من الرواسب الدينية التي تحرم ذلك.

إن سمة الحياة في ذلك العصر يمثلها الشعراء،فقد استأثرت عواطفهم و أحاسيسهم باللهو و المجون،و تعلقت قلوبهم بالخمر فعكفوا علي وصفها و الثناء عليها،و قد كرس ابو نواس مجهوده الفكري علي«وصف الأكواب و الكؤوس و الدنان و السقاة و الخمارين و الندمان و الكروم،و لم يفته أن يذكر اصناف الخمور،و طريقة صنعها،و لم ينس أن يفرق بين هذه و تلك في الطعم و اللون و الرائحة،و لم يقصر في بيان النشوة،و دبيبها في الاعضاء و سورتها في الرءوس،و لم يكن بيانه بيان الذي يتعمد ذلك لغرض فني فحسب بل كان بيان الذي تمكن من نفسه الحب،فجعله يلتفت الي كل ما يتصل بها و ينظر الي ما لا يراه سواه،و يحس فيها بما لم يحس به احد.

و قد وصل حبه الي الخمر الي حد العبادة و التقديس،و قد شاعت خمرياته،و افتتن الناس بها،و كان الجاحظ معجبا اعجابا شديدا بهذه الابيات:

و دار ندامي عطلوها و أدلجوا بها اثر منهم جديد و دارس

مساحب من جر الزقاق علي الثري و اضغاث ريحان جني و يابس

حبست بها صحبي فجددت عهدهم و اني علي أمثال تلك لحابس48

ص: 157


1- حديث الأربعاء:46/2-48

أقمنا بها يوما و يوما و ثالثا و يوما له يوم الترحل خامس

تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بألوان التصاوير فارس

قرارتها كسري و في جنباتها فهي تدريها بالقسي الفوارس

فللخمر ما زرت عليه جيوبها و للماء ما دارت عليه القلانس (1)

و قد ذكر في مطلعها حنينه و حبه للخمر،و قد اقترن شرب الخمر مع الغناء و الرقص في ذلك العصر و كانت الأميرات و سيدات الطبقة الراقية في بغداد يشتركن في حفلات موسيقية خاصة (2)،كما انتشرت الدور الخاصة التي أعدت للخمر و الغناء و ضرب الدفوف و الطبول،كما كانت البساتين في ضواحي بغداد تعج بحانات الخمر التي يختلف إليها الشعراء و الشباب و الفتيات و قد وصف مطيع بن إياس في بعض شعره حانة بستان صباح (3)التي كان يتعاطي فيها الخمر،كما استحالت الأديرة إلي حانات شرب،و ميادين الي الغزل و المجون،و قد وصف ابو نواس راهباتها و خمرها بقوله:

يا دير حنة من ذات الاكيراح من يصح عنك فاني لست بالصاحي

رأيت فيك ظباء لا قرون لها يلعبن منا بألباب و أرواح (4)

و قد تحولت بغداد بل جميع انحاء العراق الي دور للهو و العبث و المجون و انساب الناس وراء الشهوات،و نبذوا القيم الاسلامية التي تحرم ذلك، و أدي ذلك الي انحطاط الاخلاق،و انغماس الناس في الاثم و المنكر، و الفساد،و امتد الفجور الي الغزل بالغلمان،و قد افرط ابو نواس و امثاله22

ص: 158


1- ابن المعتز ص 206
2- مختصر تاريخ العرب:ص 391-392
3- الاغاني 321/13
4- الديارات النصرانية في الاسلام لحبيب زيات ص 22

من الشعراء في ذلك،الامر الذي ادي الي انحلال الاخلاق و شيوع الخلاعة و الابتذال.

و مما لا شبهة فيه ان سياسة الحكم العباسي الاول هي المسئولة عن هذه الموجة من التحلل و الفجور،فان اولئك الملوك قد أسهموا في ايجاد هذا العبث و اللهو،و اشاعة المنكر و الفساد فلم تكن هناك سوءة إلا و تضاف إليهم،و لا استهانة بالعرف الاجتماعي او القيم الاسلامية الا و هم سببها و اصلها.

بؤس و شقاء

:

كانت الاكثرية الساحقة في البلاد الاسلامية تعاني الفقر و الحرمان، و ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم و البؤس،فالاموال قد تكدست عند طبقة خاصة من المغنين و الماجنين،و قد تفننوا في جميع انواع الملذات،كما اسرفوا في الشهوات،اما عامة الناس فقد استولي عليها الجوع و الفقر بسبب ظلم الولاة و جورهم في اخذ الخراج،و قد صور اضطهاد المجتمع و سوء الحياة الاقتصادية الشاعر الاجتماعي الكبير ابو العتاهية،بقصيدته التي وجهها الي عاهل بغداد،و قد جاء فيها:

من مبلغ عني الامام نصائحا متواليه

إني أري الأسعار أسعار الرعية غاليه

و أري المكاسب نزرة و اري الضرورة فاشيه

و اري غموم الدهر رائحة تمر و غاديه

و اري اليتامي في البيوت الخاليه

من بين راج لم يزل يسمو إليك و راجيه

ص: 159

يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عاليه

يرجون رفدك كي يروا مما لقوه العافية

من مصيبات جوّع تمسي و تصبح طاويه

من للبطون الجائعات و للجسوم العارية

ألقيت أخبارا إليك من الرعية شافيه

هذه هي الحالة الاجتماعية السائدة في عصر هارون،الملايين من الشعب تعري و تجوع،بينما قد زخرت خزائن بغداد بأموال المواطنين،غير انها لم تكن إلا للخلفاء و أبنائهم و وزرائهم و المقربين عندهم من الظلمة و الماجنين و المخنثين،و اما الذين لا يمرغون جباههم علي أعتاب الولاة فهم في فقر و بؤس،و لندع الحديث الي ابي العتاهية يصور لنا بوضوح ما يتمناه في ذلك العصر الذهبي الذي اصطلح المؤرخون علي تسميته بذلك،فيقول:

رغيف خبز يابس تأكله في زاويه

و غرفة ضيقة نفسك فيها خاليه

أو مسجد بمعزل عن الوري في ناحيه

خير من الساعات في فيء القصور العالية

فهذه وصية مخبرة بحاليه

طوبي لمن يسمعها تلك لعمري كافيه

فاسمع لنصح مشفق يدعي ابا العتاهية

إن هذا اليأس و التشاؤم،و هذه الآلام التي رددها شاعر المجتمع العباسي كانت من نتائج فساد الحكم القائم و من مساوئ سلطانهم،فقد قضت سياستهم الملتوية باشاعة الحرمان و الفقر بين الناس،و نشر الثروة عند طبقة خاصة أسرفت في التفنن في أنواع الملذات،فكانوا يزينون مجالسهم

ص: 160

بالفرش الفاخر و المتاع الثمين،و يلبسون الحيطان بالوشي و الديباج،و يغرسون الزهور في جنانهم حتي كانوا يجلبون لها الرياحين من بلاد الهند،و اخذوا يمعنون في ابتكار أساليب المتع،حتي إذا ما ملّوا من واحدة منها مالوا الي أخري و حتي(كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء)كما يقول الاصفهاني.و كانت نتيجة ذلك انتشار الاعواز و الفقر عند طبقات الشعب.

و مهما يكن من أمر،فان الحكومات العباسية في العصر الاول قد نهبت أموال الشعوب الاسلامية و أشاعت الحاجة في البلاد و صرفت الخزينة المركزية علي الدعارة و اللهو و فساد الاخلاق،و قد ايقنت الجماهير بفساد تلك السلطات و عدم شرعية حكمها،كما آمنت بالعلويين و اعتقدت بأنهم دعاة العدل الاجتماعي و مأوي المظلومين و المضطهدين.

سياسة الحكم العباسي

:

كان الحكم العباسي في اكثر أدواره قائما علي الظلم و الجور فلا ظل فيه للعدل السياسي و العدل الاجتماعي،فقد نهج العباسيون في حكمهم منهجا فرديا خالصا،قد تسلموا جميع السلطات الادارية و القضائية،و لم يكن ثمة مجلس اداري أو استشاري تعالج فيه شئون الرعية،و سائر مصالحها،و وسائل تطورها و تقدمها،فقد كان طابع الحكم استبداديا،يحكم الخليفة بحسب رأيه و هواه فهو ظل اللّه في الأرض-كما يقولون-و اذا بهذا الظل يمعن في الاستبداد و نهب الاموال،و مصادرة الحريات،و ارغام الناس علي ما يكرهون.

لقد كان الحكم العباسي في اكثر فترات تأريخه يضارع الحكم الأموي في مادته و صورته،يقول«ليثفي ديللا فيدا»:إن النظام الاداري الذي

ص: 161

جري عليه العباسيون هو في جوهره نظام الامويين (1).

و قد أجحفت الدوائر الرسمية في حقوق العامة في حين كانت؟؟ الوجوه و الرؤساء و ذوي النفوذ،يقول أمين الريحاني:«و كانت الدوائر تدور كلها لا علي الباغين-الظالمين و السفاحين-بل علي الاهالي المساكين،علي اولئك الذين يدفعون الضرائب و يلبون الدعوة للجهاد (2)علي هؤلاء كان الظلم و الجور فقد هان أمرهم عند اولئك الحكام الذين استأثروا في توزيع الخير و الشر علي من يحبون و يكرهون،فأنفقوا أموال الشعوب الاسلامية البائسة علي شهواتهم و علي من يسير في ركابهم فقد يعجب احدهم ببيت من الغناء فيهب الثراء العريض،و قد يكره،كلمة من مصلح فيهدر الدم و يصادر الأموال،فقد كان المعتضد العباسي إذا غضب علي قائد امر بالقائه في حفرة و ردم عليه (3)،و عرف الكثيرون منهم بالبطش و البغي و سفك الدماء.

و وصف العتابي حالة الحكم القائم عند ما سئل:لم لا تتقرب بأدبك الي السلطان؟فقال:«إني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء و يرمي من السور في غير شيء،و لا أدري أي الرجلين أكون!!» (4).

و دعي محمد بن الحارث الي الواثق في يوم لم يكن يدعي فيه فقال:

«داخلني فزع شديد،و خفت أن يكون ساع قد سعي بي،أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي فتقدمت بما أراد» (5)./3

ص: 162


1- العصر العباسي الأول ص 45.
2- النكبات
3- تأريخ الاسلام 18/3
4- المستطرف:112/1
5- الاغاني:215/3

و لما قتل المأمون وزيره الفضل بن سهل،عرض الوزارة علي أحمد ابن أبي خالد فأبي أن يقبلها و قال:«لم أر أحدا تعرض للوزارة و سلمت حاله» (1).و السبب في ذلك أن الحكم لم يكن جاريا علي قانون أو دستور معين،بل كان كيفيا حسب ما يتفق مع ميول الخليفة،فهو يوزع الموت و الحياة علي من كره و أحب.

و كانت الأحكام بالاعدام تصدر من البلاط بالجملة بمجرد الوشاية، من غير أن يطمئن أو يوثق بقول المخبر بذلك.فقد وشي برجل يقال له (الفضيل بن عمران)الي ابي جعفر المنصور،و كان كاتبا لابنه جعفر و وليا لأمره،فقد وشي به أنه يعبث بجعفر،فبعث المنصور برجلين، و أمرهما بقتل الفضيل حيث وجداه،و كتب الي جعفر يعلمه ما أمرهما به و قال للرجلين:لا تدفعا الكتاب الي جعفر حتي تفرغا من قتله.فلما انتهيا إليه ضربا عنقه،و كان الفضيل عفيفا صالحا،فقيل للمنصور إنه أبرأ الناس مما رمي به،و قد عجلت عليه،فندم علي ذلك،و وجه رسولا،و جعل له عشرة آلاف درهم إن ادركه قبل أن يقتل،فقدم الرسول فوجده جثة هامدة،فاستنكر جعفر ذلك،و قال لمولاه:

«ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل،عفيف،دين،مسلم بلا جرم و لا جناية؟!!» فأجابه سويد:

«هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء،و هو أعلم بما يصنع».

و هكذا كانت ارواح الناس و دماؤهم يتصرفون فيها حسب ما شاءوا، فالملك يفعل ما يصنع فهو ظل اللّه في الارض لا يسأل عن ذنب و لا جرم.

لقد كانت البلاد الاسلامية أيام الحكم العباسي ترزح تحت كابوس5.

ص: 163


1- طيفور:ص 215.

ثقيل من الظلم و الجور،فقد عمد العباسيون الي استعمال العنف في تنفيذ خططهم،و لأول مرة في تأريخ الاسلام صار النطع الي جانب كرسي الخلافة،و اتخذ منه و من الجلاد اداة لتوطيد الوصول الي العرش،كما يقول فيلب حتي.

علي هذا الاساس كان الحكم العباسي في اكثر ادواره و عهوده،فلم يخضع لمنطق الحق و العدل،و انما كان خاضعا للاهواء و العواطف،فالغلمان و النساء و العابثون من الندماء كان لهم الضلع الكبير في ادارة شئون الحكم و توزيع الهبات و الارزاق،أو الحرمان،و لم يكن ذلك كله مستندا الي شريعة اللّه،و انما كان مبعثه الرغبات الشخصية التي هي أبعد ما تكون عن منطق العدل.

الفرق الاسلامية

:

و لعل من أهم ما حفل به العصر العباسي الاول من الأحداث، حدوث المذاهب الاسلامية،و تشعب المسلمين الي عدة طوائف،و فرق، قد اختلفت فيما بينها في أصول الدين و فروعه،و في كل شيء.

و الشيء المحقق ان السلطات العباسية في عصورها الاولي هي التي أحدثت المذاهب الاسلامية،و غذتها و نمتها،و حملت الناس بالقهر و القوة علي اعتناقها،و فيما نحسب ان السبب في ذلك ابعاد المسلمين عن أئمة اهل البيت الذين يمثلون واقع الاسلام و اتجاهاته الثورية في القضاء علي الظلم الاجتماعي،و الغبن الاجتماعي،و انقاذ الناس من الجور السياسي،و الاستبداد السياسي.

لقد اندفع العلويون في العصر الاموي الي ساحات الجهاد المقدس

ص: 164

لصيانة المجتمع من عنف الامويين و بطشهم،و اعادة المبادئ الكريمة التي ينشدها الاسلام و يؤمن بضرورة توفيرها علي جميع المواطنين،و هي تتركز علي بسط العدالة و الحرية و المساواة،و نشر الدعة و الاستقرار،و الايمان الكامل بحق الفرد،و توفير اسباب معيشته و رزقه و أمنه،و اعتبر ذلك قاعدة اساسية لتطور المجتمع،و انطلاقه في آفاق من الحياة الحرة الكريمة.

من أجا هذه المبادئ العليا هب العلويون الي ميادين الكفاح و النضال فلاقوا أعنف المشاكل و اكثرها صعوبة و تعقيدا،فتقطعت أوصالهم و اريقت دماؤهم،و ارتفعت اجسامهم علي اعواد المشانق،و قد آمنت الجماهير بأن العلويين حماة هذه الامة و قادتها و ولاة أمرها،و انه لا يمكن بأي حال ان تتوفر للمجتمع اسباب معيشته و رخائه الا في ظل حكمهم،و قد التفوا حولهم،فكانت هتافات الثوار و المتظاهرين الدعوة الي«الرضا من آل محمد» و قد قضت الثورة العارمة التي اندلعت في جميع انحاء البلاد علي الحكم الاموي حتي اطاحت به،و ازالت جميع آثاره،و لكن العباسيين قد اختلسوا الحكم من أهله،و حينما استتب لهم الامر عملوا جاهدين علي ابادة العلويين و شيعتهم الذين هم مصدر القوي الواعية في الاسلام.

و كان المخطط الرهيب الذي اتخذته الحكومة العباسية لتصفية الشيعة و سائر القوي المعارضة لهم يحتوي علي ما يلي:

أولا-احداث المذاهب الاسلامية،و فصم عري الوحدة بين المسلمين و اشغالهم بالناحية العقائدية من حياتهم عن النظر في أي شأن من الشؤون السياسية،و قد عجت النوادي في بغداد و الكوفة و البصرة و يثرب و سائر انحاء العالم الاسلامي بالمناظرات الكلامية،و الاحتجاجات الفلسفية،و كلها تحوم حول الاطار العقائدي في الاسلام و قد وجهت الحياة العلمية في تلك العصور الي هذه الناحية الخاصة،و لم تتجه الي اي جانب من جوانب

ص: 165

الحياة السياسية التي يعيشها المسلمون.

ثانيا-عزل أئمة اهل البيت(ع)عن القافلة الاسلامية،و فرض الرقابة عليهم،و منع الاتصال بهم،و عدم أخذ معالم الدين منهم.

و قد شعر العباسيون بحاجة الناس الي التفقه في شئون دينهم فعهد المنصور الدوانيقي الي الامام مالك-احد رؤساء المذاهب الأربعة-بأن يضع كتابا في الفقه يحمل الناس علي العمل به قهرا فامتنع مالك من ذلك أولا،ثم اجابه أخيرا بعد الضغط فوضع الموطأ (1).

و قد ساندت الحكومات العباسية بقية أئمة المذاهب و نشرت فقههم، و حملت الناس علي العمل به كما أغدقت عليهم الأموال الطائلة،و كرمتهم تكريما هائلا،فكان الرشيد يأمر عامله علي المدينة بأن لا يقطع أمرا دون أن يأخذ رأي مالك،كما كان يجلس علي الأرض لاستماع حديثه (2)، و أمر بأن يهتف في ايام الحج أن لا يفتي إلا مالك،و قد ازدحم الناس عليه و كثرت عليه الوفود من سائر الأقاليم الاسلامية،لاستماع حديثه و اخذ الاحكام الشرعية منه و كان لا يدنو إليه أحد لما احيط به من التقدير الرسمي، فقد احتف به غلمان من السود غلاظ شداد يأتمرون بأمره و ينكلون بمن شاء أن ينكل به،و قد حدث اسماعيل الفزاري قال:«دخلت علي مالك و سألته أن يحدثني فحدثني اثني عشر حديثا ثم أمسك،فقلت له:زدني أكرمك اللّه،و كان له سودان قيام علي رأسه،فأشار إليهم فأخرجوني من داره» (3).

ان العناية البالغة التي أولتها الحكومة العباسية لمالك و غيره من أئمة/2

ص: 166


1- شرح الموطأ للزرقاني 8/1
2- مناقب مالك للزاوي.
3- شرح الانتقاء:42/2

المذاهب تدل بوضوح علي أن الغرض من ذلك هو إضعاف كيان أئمة اهل البيت(ع)و القضاء علي الشيعة الذين هم من أقوي الجبهات المعادية للحكم العباسي،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للحديث عن الطائفة الشيعية التي حملت لواء الاصلاح و ثارت في وجه الطغاة و المستبدين،و حفل تاريخها بالمآثر و المفاخر،و خدمة المسلمين و فيما يلي ذلك.

معني الشيعة

:

الشيعة في اللغة:الاتباع و الانصار،و غلب علي كل من يتولي الامام أمير المؤمنين(ع)و أهل بيته.قال الفيروزآبادي:شيعة الرجل-بالكسر- أتباعه و أنصاره.و قد غلب هذا الاسم علي كل من يتولي عليا و أهل بيته(ع) حتي صار اسما خاصا لهم» (1).

و قال ابن منظور الافريقي:«أصل الشيعة الفرقة من الناس،و يقع علي الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث بلفظ واحد و معني واحد، و قد غلب هذا الاسم علي من يتولي عليا و أهل بيته(رضوان اللّه عليهم أجمعين)حتي صار اسما خاصا لهم،فاذا قيل:فلان من الشيعة عرف انه منهم» (2).و قد أجمع اللغويون علي تفسير الشيعة بما ذكرناه.

ص: 167


1- القاموس:47/3
2- لسان العرب:55/10

نشأتها

:

و الشيء المحقق ان الشيعة قد تكونت في عهد الرسول الأعظم(ص) فهو أول من وضع هذه البذرة الطيبة و نماها و تعاهدها بالسقي و العناية- قال الامام كاشف الغطاء(قدس اللّه مثواه):إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الاسلام-هو نفس صاحب الشريعة الاسلامية-يعني ان بذرة التشيع وضعت مع بذرة الاسلام جنبا الي جنب و سواء بسواء،و لم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي و العناية،حتي نمت و أزهرت في حياته،ثم أثمرت بعد وفاته،و شاهدي علي ذلك نفس أحاديثه الشريفة.لا من طرق الشيعة و رواة الامامية حتي يقال:انهم ساقطون لأنهم يقولون بالرجعة، او ان راويهم(يجر النار الي قرصه)بل من نفس احاديث علماء السنة و أعلامهم،و من طرقهم الوثيقة...ثم ذكر(رحمه اللّه)ما رواه السيوطي في كتاب(الدر المنثور)في تفسير قوله تعالي:« أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ »قال:أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه،قال:كنا عند النبي(ص)فأقبل علي(ع)فقال النبي(ص):«و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة»...و ذكر(رحمه اللّه)جملة من الاخبار المعتمد عليها المؤيدة لما ذكره» (1).و قال ابو حاتم الرازي:

ان اول اسم ظهر في الاسلام هو الشيعة،و كان هذا لقب أربعة من الصحابة هم:أبو ذر،و سلمان،و عمار،و المقداد،حتي آن أوان صفين،فاشتهر بين موالي علي(رضي اللّه عنه)» (2).

ص: 168


1- أصل الشيعة و أصولها-طبع بيروت-ص 87-88.
2- روضات الجنات ص 88،نقلا عن كتاب الزينة.

هذه الفكرة قد نشأت منذ فجر التأريخ،أنشأها النبي(ص)و اعتنقها كبار الصحابة الذين آمنوا بالاسلام،و أبلوا في سبيله بلاء حسنا،و هم:

كأبي ذر و سلمان و عمار و المقداد..و اشباههم من أعلام الاسلام.

و أكد أصالة هذا الرأي جميع البحاث من مؤلفي الشيعة،يقول المرحوم الشيخ المظفري:

«إن الدعوة الي التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الاعظم محمد(ص)صارخا بكلمة لا إله إلا اللّه.فانه لما نزل عليه قوله تعالي:

« وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »جمع بني هاشم و أنذرهم قائلا:«أيكم يؤازرني ليكون أخي و وارثي و وصي و خليفتي فيكم من بعدي؟»فلم يجبه أحد الي ما أراد غير المرتضي،فقال لهم الرسول:هذا أخي و وارثي و وزيري و وصي و خليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له و أطيعوا».

و اضاف المظفري بعد ذلك يقول:

«فكانت الدعوة الي التشيع لأبي الحسن من صاحب الرسالة تمشي معه جنبا لجنب مع الدعوة للشهادتين،و من ثم كان أبو ذر الغفاري من شيعة علي» (1).

إنا اذا نظرنا الي الواقع نظرة مجردة من جميع الميول و العواطف، و متسمة بالتحقيق العلمي نجد واقعية هذا القول و اصالته و عمقه،و يدعم ذلك ما يلي:

1-ان الرسول الاعظم(ص)ترك لامته من بعده المبادئ العظيمة التي تتطور بها حياتهم الفردية و الاجتماعية،و خلف لها أعظم تراث لم تجد له الانسانية مثيلا في جميع فترات تأريخها..فقد اعلن حقوق الانسان، و جاء بالاهداف العريضة التي تحقق أمن الانسان و رخائه و سعادته. 9

ص: 169


1- تاريخ الشيعة:ص 9

و النبي(ص)الحريص علي اداء رسالته،و بقائها و استمرارها كان لا بد له ان يقيم من بعده من يحمي مبادئه،و يصون رسالته،و يعمل علي نشرها بين جميع شعوب الارض،و من الطبيعي ان ذلك ضرورة حتمية لكل صاحب دعوة و رسالة.

2-و هناك ضرورة تلزم النبي(ص)بأن يعهد بالأمر من بعده، و هي ان هناك قوي حاقدة علي الاسلام تكيد له في وضح النهار و في غلس الليل،و تسعي جاهدة لاطفاء نوره و اخماد ضوئه،و هي فئات المنافقين الذين ذمهم القرآن الكريم و حذر منهم الرسول العظيم(ص)،و يمثل هذه القوي الغادرة أبو سفيان،و أكثر بني أمية،فكيف يترك النبي(ص) أمر الخلافة من بعده و يجعل الأمر فوضي،فان معني ذلك أن يمكن قوي البغي و الشر أن تنقض علي اهدافه و تطوي مبادئه و رسالته،و من المستحيل أن يصدر من النبي(ص)ذلك.

و مضافا لذلك فان الجزيرة العربية لم تألف الدعوة الي النظام و الاستقرار التي عنت بهما رسالة الاسلام ففيها التطور الهائل في عالم الاقتصاد و السياسة و الادارة،و سائر التنظيمات الاخري،التي تعني بالأمن العام،و الحفاظ علي الاستقرار السياسي،و التوازن العام في حياة الجماعة و الفرد،و لم تع الجزيرة بصورة جازمة هذا التطور الهائل،و لا الابعاد الحقيقية لرسالة الاسلام، و نهضته الجبارة،فكان من المحتم أن ينصب الرسول(ص)قائما من بعده لتستمر رسالته في فعالياتها و معطياتها.

و شيء آخر بالغ الخطورة يلزم الرسول الاعظم(ص)بنصب خليفة من بعده و هو الوضع الخارجي فالروم و الفرس،و غيرهما من دول العالم كانت تشعر بخوف بالغ من تقدم الاسلام و انتشاره،و تعطش شعوبها الي اعتناقه لينقذها من الجور و الظلم و يحميها من الاستبداد و الاستغلال...

ص: 170

و كانت تلك الدول تتربص بالاسلام الدوائر،و تستعد بزج جميع قواها العسكرية للقضاء عليه،و من الطبيعي أن جميع ذلك يعلمه النبي(ص)و لم يغب عنه،فكيف يهمل أمر الخلافة من بعده،و هي بمنزلة العمود الفقري لأمته.

إن الفوضي الداخلية،و الخطر الخارجي يحتمان علي النبي(ص)أن يعني أشد العناية بأمر الخلافة،و ان يوليها المزيد من اهتمامه،و القول بانه(ص)قد أهمل ذلك لا يحمل أي طابع من التحقيق العلمي،كما انه بعيد كل البعد عن منطق القيادة الواعية الحكيمة الماثلة في شخصية الرسول(ص) التي لم تجد لها الانسانية مثيلا في وعيها و ادراكها لحقائق الامور.

و لا أحسب أن هناك شخصا يتجرد من رواسب العصبية و التقليد و ينظر الي الواقع بدقة و عمق يشك في أن النبي(ص)قد أهمل امر الخلافة،و انه لم يجعلها من جوهر الامور التي عني بها أشد العناية و الاهتمام.

3-و اذا لاحظنا سير الاحداث التي أثرت عن النبي(ص)نجد أنه قد عين الرائد،و دلل علي القائد الذي يتحمل مسئولية القيادة الفكرية و السياسية من بعده،و انه-بصورة جازمة-قد تبني هذه الجهة بشكل ايجابي،و فرغ من اعدادها،و ذلك للحفاظ علي مستقبل دعوته،و حماية مكاسبها الاجتماعية من الانهيار و الاضمحلال.

لقد اختار الرسول الاعظم(ص)للمرجعية العامة و القيادة الزمنية الامام أمير المؤمنين عليه السلام-كما سندلل عليه-و لم يكن هذا الاختيار بدوافع الاثرة،و حب القرابة،فان ذلك بعيد اشد البعد عن منطق النبوة التي لا تخضع لغير الحق و العدل و صالح الامة...و إنما رشح الرسول(ص) الامام(ع)لهذا المنصب الخطير لما تتوفر فيه من القابليات الفذة و النزعات الكريمة،و القدرة الفائقة علي تحمل المسئوليات الضخمة،فقد كان الامام ألصق

ص: 171

الناس برسول اللّه،و أكثرهم ادراكا و وعيا لاهدافه و مبادئه،و اشبههم به في التزامه بحرفية الاسلام،و قد صحب النبي(ص)منذ طفولته اليافعة، و غذاه(ص)بعلومه و نمي ملكاته.و قد اعرب(ع)عن ذلك بقوله:

«و قد علمتم موضعي من رسول اللّه(ص)بالقرابة القريبة.و المنزلة الحضيضة.وضعني في حجره.و أنا ولد يضمني الي صدره.و يكنفني في فراشه،و يمسني جسده.و يشمني عرفه.و كان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه.

و ما وجد لي كذبة في قول.و لا خطلة في فعل...و قد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه.يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما.و يأمرني بالاقتداء به.و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري.

و لم يجمع يومئذ بيت واحد في الاسلام غير رسول اللّه و خديجة.و أنا ثالثهما أري نور الوحي و الرسالة و أشم ريح النبوة..» ان هذه المسيرة الكبري التي قطعها الامام مع النبي.و تعاهده(ص) له بالرعاية و العطف.و خوض الامام معه في ميادين الكفاح.و ميادين التجربة العلمية لنجاح الدعوة الاسلامية.و معرفته بأساليبها و فلسفتها.و ما يتمتع به من المواهب و العبقريات كل ذلك يوجب ترشيحه لمنصب الخلافة تقديما للافضل علي غيره و ضمانا لصالح الامة.

4-أما الاحداث التي أثرت عن النبي(ص)في ترشيحه و تعيينه للامام خليفة من بعده فقد بلغت من الكثرة ما وضعت لها كتب خاصة كا(لوصية)للمسعودي و(الالفين)للعلامة و(تلخيص الشافي) للشيخ الطوسي و غيرها و قد دون العلامة الحلي في كتابه ما يربو علي ثلاثين كتاب ألفت في وصية النبي(ص)للامام (1)و قد تمسك المتكلمون من الشيعة علي ذلك بسيل من الأدلة و نشير الي بعضها:-4

ص: 172


1- اثبات الوصية:ص 3-4

أولا-استدلت الشيعة علي ما ذهبت إليه بحديث المنزلة فقد قال(ص) لعلي:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا انه لا نبي بعدي) (1).

و يري الشيخ المفيد أن هذا الحديث نص علي امامة الامام«لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حكم له بالفضل علي الجماعة و النصرة و الوزارة و الخلافة في حياته و بعد وفاته و الامامة له بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسي في حياته.و إيجاب جميعها لامير المؤمنين إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا و أوجبه بلفظة بعد له من بعد وفاته بتقدير ما كان يجب لهارون من موسي لو بقي بعد أخيه فلم يستثنه النبي(ص)فبقي لامير المؤمنين بعموم ما حكم له من المنازل..» (2).

ثانيا-ان من أوثق الأدلة و أكثرها وضوحا،و استيعابا للموقف الذي تذهب إليه الشيعة حديث غدير خم،فقد نصب النبي(ص)في ذلك اليوم الخالد الامام أمير المؤمنين(ع)علما من بعده و طلب من المسلمين ان يبايعوه بالامرة،و قد أخذ(ص)بيده عليا و هو يخاطب الناس قائلا:«هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له و أطيعوا» (3).

و حديث الغدير من الأدلة الحاسمة التي لا تقبل الجدل و النقاش،و هو جزء من رسالة الاسلام-فمن انكره فقد انكر الاسلام-كما يقول العلائلي-.

ثالثا-ان هناك كوكبة من الاخبار تدل علي ما تذهب إليه الشيعة70

ص: 173


1- مسند الامام احمد بن حنبل 179/1،حلية الاولياء 195/7، تأريخ بغداد 324/1،خصائص النسائي ص 14،أسد الغابة 46/4، صحيح الترمذي 301/2،تأريخ الطبري 368/2،كنز العمال 154/3،مجمع الزوائد 109/9.
2- النكت الاعتقادية:ص 51
3- تلخيص الشافي 56/2-70

كقوله(ص):أمام المسلمين،و قد أخذ بيد علي(ع)«ان هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا» (1)و هناك العشرات من امثال هذا الحديث،و هي تدل بوضوح علي أنه(ص)قد فرغ من تعيين الامام(ع) و جعله خليفة علي المسلمين من بعده.

رابعا-إن الاحداث الخطيرة التي رافقت وفاة الرسول الاعظم(ص) تدل علي انه كان يسعي في آخر لحظة من حياته لتعزيز خلافة الامام و دعمها بجميع الوسائل،و يتضح ذلك مما يلي:

1-تجهيزه(ص)لجيش أسامة-و هو في الساعة الأخيرة من حياته- و الزامه للمسلمين و فيهم كبار الصحابة بالالتحاق الفوري و السريع بالجيش، و أمره(ص)بمغادرتهم يثرب بأسرع وقت،و من الظاهر ان غرضه من ذلك اخلاء عاصمته من الحزب الطامع بالخلافة،و لكن القوم تثاقلوا،و لم يخضعوا للأوامر المشددة،و راحوا يلتمسون لهم المعاذير.

2-استدعاء النبي(ص)بالدواة و الكتف ليكتب للامة كتابا لن تضل من بعده في جميع مراحل اجيالها الصاعدة،و علم الطامعون بالحكم قصده من تعزيزه لخلافة الامام،فأثاروا نزاعا حادا،و اتهموا النبي(ص)بالهجر فأفسدوا عليه الامر،و حالوا بينه و بين قصده،فزجرهم(ص)و أمرهم بمغادرة بيته،و التفت الي الحاضرين،فأوصاهم بأهل بيته خيرا،و من البديهي انه(ص)أراد بهذه العملية تدعيم بيعة الغدير،و توثيقها،و لكن القوم قد حجبوه عن ذلك.

خامسا-احتجاج العترة الطاهرة علي ابي بكر،و امتناعها عن بيعته و خصوصا الموقف الايجابي الذي وقفته سيدة النساء فاطمة(ع)من ابي بكر و احتجاجها الرائع عليه،و وصيتها بأن يدفنها الامام في غلس الليل البهيم/2

ص: 174


1- تأريخ الطبري 63/2،الكامل 22/2

و لا يعلم أي أحد من أعضاء حكومة أبي بكر،كل ذلك يدل بوضوح لا خفاء فيه علي قيام النبي(ص)بنصب الامام خليفة من بعده.

إن الاحتجاجات الصارخة التي صدرت من سيدة النساء(ع)و العترة الطاهرة و من اعلام الاسلام و قادة نضاله كعمار بن ياسر و ابي ذر و سلمان الفارسي و المقداد من أوثق الأدلة علي ما ذكرناه..و فيما أحسب ان خصوص احتجاج بضعة النبي(ص)و ريحانته،و موقفها المتسم بالشدة و العنف مع أبي بكر قد ركز الفكرة الشيعية،و أمدها بالاصالة و البقاء،فقد اتخذت الشيعة من ذلك أدلة وثيقة علي ما يذهبون إليه من أحقية أهل البيت(ع) بالخلافة.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن تأسيس الشيعة،و انها حسب هذا العرض الموجز من الأدلة قد نشأت في عهد صاحب الرسالة(ص)فهو اول من غرس بذرتها،و نمي أصولها.

اطارها العقائدي

:

و تدين الشيعة بجميع ما أثر عن الاسلام في الاصول العقائدية سواء فيما يتعلق بصفات اللّه الايجابية و السلبية أو فيما يتعلق بالقضاء و القدر،و غير ذلك مما عرضته كتبهم الكلامية،كما انها تلتزم بالامامة.و هي عندهم من أصول الدين التي يجب الاعتقاد بها،و اشترطوا في الامام أن يكون معصوما و أن يكون أعلم أهل زمانه،و قد حققنا ذلك بصورة موضوعية في الجزء الاول من هذا الكتاب.

اما الناحية التشريعية فانها تأخذ فروع الدين و مسأله عن أئمة اهل البيت(ع)فجميع ما أثر عنهم بعد القطع أو الظن بصدوره من

ص: 175

السنة التي يجب التعبد بها،و هي احدي الادلة الاربعة التي يرجع إليها الفقيه الشيعي في استنباط الحكم الشرعي.

إن الاطار العقائدي في اصول الدين و فروعه عند الشيعة مقتبس من واقع الاسلام و مما أثر عن أئمة اهل البيت الذين فرض اللّه مودتهم،و جعلهم الرسول(ص)عدلاء للذكر الحكيم.

الولاء لأهل البيت

:

ان من أوليات مبادئ الشيعة الحب العميق لاهل البيت(ع)فهم يكنون لهم خالص الحب و الولاء امتثالا لامر اللّه،قال تعالي:« قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي » (1)فقد حصر تعالي أجر رسالة نبيه العظيم في مودة قرباه،و قد تواتر عن النبي(ص)ان حبهم علامة الايمان،و ان بغضهم علامة النفاق،و ان من احبهم فقد احب اللّه و رسوله و من أبغضهم فقد ابغض اللّه و رسوله،و قد ضمن(ص)لمن تمسك بهم أن لا يزيغ عن طريق الحق و الصواب كما في حديث الثقلين،و قد شبههم صلي اللّه عليه و آله بسفينة نوح فقال(ص):«مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق و هوي»من اجل ذلك كان الولاء لأئمة اهل البيت(ع)و القول بامامتهم أمر جوهري عند الشيعة و من صميم عقيدتهم،و جعلوا الحاقد عليهم و المنكر لفضائلهم كالمنكر لاحدي ضروريات الاسلام الثابتة«بل هو علي التحقيق منكر للرسالة و إن أقر في ظاهر الحال بالشهادتين».

اما مظاهر ذلك الحب عند الشيعة فلا غلو فيه،و انما تقتصر علي وجوب

ص: 176


1- سورة الشوري:آية 23.

الاخذ بما أثر عنهم من الاحكام الشرعية و الآداب الاجتماعية،و قد اوضحنا ذلك بالتفصيل في مقدمتنا للجزء الاول من هذا الكتاب.

الثورة علي الظلم

:

و حفل تأريخ الشيعة بالنضال المرير،و الثورات الصاخبة علي حكام الظلم و الجور فقد انطلقوا الي ساحات الجهاد المشرق منذ فجر تأريخهم، و رفعوا شعار العدالة الاسلامية،و طالبوا الحكام بتحقيقها علي مسرح الحياة كما ناهضوا الظلم الاجتماعي بجميع أشكاله و ألوانه،فكانت-بحق-الينبوع الفياض الذي جرت منه الثورة ضد الطغاة و المستبدين.

لقد انطلقت الدعوة الاولي الي الاصلاح الشامل من رجال الشيعة في تلك الفترات العصيبة التي ساد فيها الارهاب رعم فيها الجور،فمن تكلم بالاصلاح او دعا إليه،سيق الي السجون،و لكن أئمة الشيعة و اعلامهم اندفعوا الي ميدان الشرف و التضحية،فنددوا بأعمال الظالمين و شجبوا تصرفاتهم و قاموا بثورات صاخبة سجلها لهم التاريخ بمداد من الشرف و النور،و قد غذاهم بروح الثورة و التضحية في سبيل اللّه الامام أمير المؤمنين(ع)زعيم العدالة الانسانية في الأرض،فهو أول زعيم مسلم ثار في وجه الطغاة و هتف بالعدالة و المساواة،و قد خلق في الفترة القصيرة-التي حكم فيها-وعيا أصيلا و ثورة في نفوس شيعته علي كل ظالم مستبد.فقد ثار حجر بن عدي و زمرته الصالحة في وجه معاوية،و ثار غيرهم من صلحاء هذه الطائفة مطالبين بالعدل الاسلامي و تطبيق أحكام القرآن،و كان أول شهيد من أئمتهم سيد الشهداء الامام الحسين(ع)،فقد نقم علي الظلم السائد في عصره و ثار في وجه الطاغية المستبد يزيد بن معاوية،و قد غير(ع)بثورته مجري

ص: 177

التأريخ و لقن الظالمين درسا رائعا خلاقا لا ينسي الي يوم الدين،و قام من بعده أحفاده و أحفاد أخيه الحسن(ع)بثورات متصلة أذهلت الظالمين و شتت شمل المستبدين و نورت الرأي العام و غذته بروح الثورة علي كل جائر مستبد.

إن الشيعة تري أن الحكم إذا لم يكن بيد أئمة أهل البيت(ع)فان الأمة تعاني الظلم و الطغيان،و لا يمكن بأي حال أن تسود فيها العدالة و المساواة إلا في ظل حكمهم يقول الوردي:

«الشيعة أول من حمل الثورة الفكرية في الاسلام ضد الطغيان و في نظرياتها تكمن روح الثورة،و إن عقيدة الامامة التي آمن بها الشيعة حملتهم علي انتقاد الطبقة الحاكمة و معارضتها في جميع مراحل تاريخهم و جعلتهم يرون كل حكومة غاصبة ظالمة مهما كان نوعها إلا إذا تولي أمرها امام معصوم،لذلك كانوا في ثورة مستمرة لا يهدءون و لا يفترون» (1).

لقد أراد رجال الشيعة بثوراتهم المتصلة تطبيق العدالة الاجتماعية و القضاء علي جميع أفانين الظلم و ألوان الفساد،فلذا قدموا المزيد من التضحيات في سبيل تحقيق هذه الغاية النبيلة التي تهدف الي إزالة الحكم الفاسد من البلاد.

و انطلاقا مع هذا المبدأ الثوري،فقد حرم أئمة الشيعة التعاون مع حكام الجور و الدخول في وظائف الدولة،فقد قال الامام الصادق(ع) لأصحابه:

«ما أحب أن أعقد لهم-أي للظلمة-عقدة أو وكيت لهم وكاءا و لا مدة بقلم.إن الظلمة و أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتي يحكم اللّه بين العباد».3.

ص: 178


1- وعاظ السلاطين:ص 293.

و قال الامام موسي(ع)لزياد بن أبي سلمة:

«يا زياد لإن أسقط من شاهق فاتقطع قطعة قطعة،أحب إلي من أن أتولي لهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم».

و قد حرم الأئمة(ع)المرافعة الي حكام الدول الجائرة و أفتوا ان ما يقضي به القضاة من أحكام فهي غير نافذة.و كما حذر الامام الصادق(ع) الفقهاء من الاتصال بأولئك الظالمين،فقد قال(ع):

«الفقهاء امناء الرسل،فاذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا الي السلاطين فاتهموهم» (1).

و قد استجابت الطبقة الخيرة في الاسلام الي نداء اهل البيت(ع) فامتنعوا من الاتصال بالحكام،و قابلوا كل من يتوظف بالاستهانة و التحقير فهذا اسماعيل بن ابراهيم القرشي لما ولي القضاء كتب إليه ابن المبارك هذه الابيات و هو يشجب فيها قبوله للقضاء:

يا جاعل العلم له بازيا يصطاد أموال المساكين

تحتال للدنيا و لذاتها بحيلة تذهب بالدين

فصرت مجنونا بها بعد ما كنت دواء للمجانين

أين رواياتك فيما مضي عن ابن عون و ابن سيرين

أين رواياتك في سردها في ترك أبواب السلاطين

إن قلت اكرهت فذا باطل زل حمار العلم في الطين (2)

لقد قدمت الشيعة جميع الخدمات القيمة للاسلام و المسلمين،و رفعت منار العدالة في الارض،و انها اكثر الفرق الاسلامية انطلاقا في ميادين الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق و العدل./1

ص: 179


1- حلية الأولياء:194/3
2- تهذيب التهذيب:278/1

جرأة و اقدام

:

و ملكت قادة الشيعة و اعلامها رصيدا قويا من الجرأة و الاقدام،فلم يتهيبوا من السلطة و لم يخضعوا لجور الحكم و قسوته فقد اندفعوا بكل بسالة و شجاعة الي اعلان كلمة اللّه،و شجب المنكر.

فهذا عبد اللّه بن عفيف الأزدي الأعمي الذي ذهب بصره و نور اللّه قلبه بالايمان،قد ثار في وجه الطاغية عبيد اللّه بن زياد حينما خطب بعد مقتل سيد الشهداء فاظهر السب و الشتم للامام الحسين(ع)،فرد عليه عبد اللّه بمقالته الخالدة التي ستدور مع الفلك،ثم ترسم فيه قائلا له امام الجماهير الحاشدة في جامع الكوفة:

«انما الكذاب أنت و ابوك و من استعملك و ابوه يا عبد بني علاج، أ تقتلون ابناء النبيين و تصعدون علي منابر المسلمين،اين ابناء المهاجرين و الأنصار لينتقموا منك و من طاغيتك اللعين ابن اللعين-مشيرا الي يزيد و أبيه معاوية-علي لسان النبي الأمين».

و بهذا المنطق العظيم يقضي علي الظلم و يزال كابوس الشقاء و الجور من المجتمع،و تتحقق الاهداف العريضة للأمة و قد ظل زعماء الشيعة يشجبون جميع أعمال الولاة و الملوك في كثير من مراحل التأريخ،فهذا الكميت بن زيد الأسدي قابل بالهجاء المقذع ساسية الأمويين،و قارن بينهم و بين العلويين فقال:

ساسة،لا كمن يري رعية الناس سواء و رعية الأغنام

لا كعبد المليك،أو كوليد أو سليمان بعد أو كهشام

و هجا مرة أخري هشاما و بني مروان،فقال:

ص: 180

مصيب علي الأعداء يوم ركوبها بما قال فيها مخطئ حين ينزل

كلام النبيين الهداة كلامنا و أفعال أهل الجاهلية نفعل

و خاطب الأمويين بهذا القول الجريء:

فقل لبني أمية حيث كانوا و ان خفت المهند و القطيعا

أجاع اللّه من أشبعتموه و أشبع من بجوركم أجيعا

و اضطهده الأمويون،فسجنوه و عذبوه و نكلوا به،و لكنه ازداد تصلبا لعقيدته و ايمانا بمبدئه.

و ظهر شاعر آخر في ذلك العصر هو الفرزدق،فانتقد الامويين و جاهر في ذمهم،و دافع عن عقيدته بكل جرأة و اقدام،و من أهم مواقفه المشرفة التي لا يزال ذكرها نديا عاطرا علي ممر العصور و الأجيال مدحه للامام زين العابدين عليه السلام،و انتقاصه لهشام بن عبد الملك الذي تجاهل عن معرفة الامام،فقال له أمام الجمع الحاشد:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم

و ليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت و العجم

و تعرض علي هذه الجرأة لسخط الأمويين و نقمتهم،و لكنه لم يعتن بذلك،فانطلق يذكر معايبهم،فقال في هجاء هشام بن عبد الملك عند ما سجنه.

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد و عين له حولاء باد عيوبها

و تسلط أدباء الشيعة و شعراؤهم علي انتقاص الظالمين و هجائهم،فهذا دعبل الخزاعي قد شهر ببني العباس و فضح أعمالهم،و هجاهم بعدد من قصائده التي زعزع بها كيانهم،و سبب سخط الجماهير عليهم.فقد هجا

ص: 181

الرشيد،و الأمين،و المأمون،و المعتصم،و ابراهيم بن المهدي و قد هجا المعتصم بهذا القول الموجع.

و قام إمام لم يكن ذا هداية فليس له عقل،و ليس له لب

ملوك بني العباس في الكتب سبعة و لم يأتنا عن ثامن لهم كتب

كذلك اهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا و ثامنهم كلب و اني لأعلي كلبهم عنك رفعة لأنك ذو ذنب و ليس له ذنب

و هكذا اندفع دعبل بوحي من عقيدته الي مخاصمة الظالمين و النقمة عليهم،فقد هجا بني العباس و ندد بهم،حتي ظل مشردا عن وطنه يطارده الرعب و الخوف،و قد قال كلمته الشهيرة:«إني أحمل خشبتي علي كتفي منذ أربعين سنة،و لست اجد احدا يصلبني عليها».

إن تاريخ الشيعة حافل بالبطولات و التمرد علي الظلم،و النقمة علي الغبن الاجتماعي،و المطالبة بحقوق الجماهير،و الدفاع عن مصالح البؤساء و الضعفاء الذين سلبتهم تلك الدول الجائرة حقوقهم.

التنكيل بالشيعة

:

و لما كانت الشيعة أقوي المنظمات التي تطالب المسئولين بالعدالة الاجتماعية و القيم الانسانية،تعرضت للنقمة البالغة من قبل الولاة و الملوك،فاستعملوا معهم جميع أساليب القهر و البطش،و حرموهم من الحياة و الحرية،فأودعوهم في غياهب السجون و الطوامير،و طاردوهم و نكلوا بهم أمر التنكيل و أفضعه فقطعوا ايديهم و ارجلهم،و سملوا أعينهم،و صلبوهم علي جذوع النخل (1)

ص: 182


1- شرح ابن أبي الحديد:15/3

و قد انفتح عليهم باب الظلم و الجور من أيام معاوية،فقد رفع مذكرة الي جميع عماله و ولاته جاء فيها:

«انظروا الي من قامت عليه البينة انه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان،و أسقطوا عنه عطاءه و رزقه»ثم شفع ذلك بنسخة أخري جاء فيها:«و من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم-يعني العلويين-فنكلوا به و اهدموا داره» (1).

و تحدث الامام الباقر(ع)عن المحن و الخطوب التي صبها الظالمون علي شيعتهم،فقال:«و قتلت شيعتنا بكل بلدة.و قطعت الأيدي و الأرجل علي الظنة،و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله او هدمت داره» (2).

لقد لاقت الشيعة في تلك الادوار المظلمة من المشكلات السياسية و المعضلات الاجتماعية الشيء الكثير،الذي لا سبيل الي تصويره في فضاعته و مرارته.و قد نسب الي بعض أئمة الشيعة شعر ذكر فيه الكوارث التي حلت بهم،فقال:

نحن بنو المصطفي ذو و محن يجرعها في الأنام كاظمنا

عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلي و آخرنا

يفرح هذا الوري بعيدهم و نحن أعيادنا مآتمنا

إن الأعياد الاسلامية التي يفرح بها جميع المسلمين،قد جعلوها مآتما لهم نظرا لما لحقهم من الهوان،فان التهمة بالتشيع في ذلك العصر كانت من أهم الجرائم التي تستوجب الارهاق و التنكيل،بل كان مجرد الاتصال بالشيعة او السلام عليهم موجبا للقتل و التنكيل.فهذا ابراهيم بن هرثمة لما/3

ص: 183


1- حياة الحسن بن علي:306/2-307
2- شرح ابن ابي الحديد:15/3

دخل المدينة أتاه رجل من العلويين فسلم عليه،فقال له ابراهيم:«تنح عني لا تشط بدمي» (1).و قد أشار منصور النمري في بعض قصائده الي الأذي و الجور الذي لحق الشيعة بقوله:

آل النبي،و من يحبهم يتطامنون مخافة القتل

أمن النصاري و اليهود و هم عن أمة التوحيد في عزل

و كان الفضل بن دكين يتشيع،فجاء إليه ولده و هو يبكي،فقال له:مالك؟فقال:يا أبتي!إن الناس يقولون إنك تتشيع،فأنشأ يقول:

و ما زال كتمانيك حتي كأنني يرجع جواب السائلين لأعجم

لأسلم من قول الوشاة و تسلمي سلمت و هل حي علي الناس يسلم (2)

إن بكاء ولده انما كان من الخوف الذي داخله من هذه التهمة التي تستوجب البطش و النقمة من المسئولين،فقد كان كل من يتهم بالولاء لأهل البيت(ع)معرضا للمحنة و البلاء.فهذا عبد اللّه بن عامر الشاعر الشهير المعروف ب(العبلي)يشير في بعض قصائده الي ما لاقاه من الارهاق في سبيل محبته للامام علي و أبنائه(ع)بقوله:

شردوا بي عند امتداحي عليا و رأوا ذاك فيّ داءا دويا

فو ربي ما أبرح الدهر حتي تختلي مهجتي بحبي عليا

و بنيه لحب احمد اني كنت أحببتهم بحبي النبيا

حب دين لا حب دنيا و شر الحب حب يكون دنيويا12

ص: 184


1- تاريخ بغداد:127/6
2- تاريخ بغداد:351/12

صاغني اللّه في الذوابة منهم لا ذميما و لا سنيدا دعيا

و قال الطغرائي:

حب اليهود لآل موسي ظاهر و ولاؤهم لبني أخيه بادي

و إمامهم من نسل هارون الأولي بهم اهتدوا و لكل قوم هاد

و كذا النصاري يكرمون محبة لنبيهم نجرا من الاعواد

و متي تولي آل احمد مسلم قتلوه أو وصموه بالالحاد

هذا هو الداء العضال لمثله ضلت عقول حواضر و بواد

لم يحفظوا حق النبي محمد في آله و اللّه بالمرصاد

و قال شاعر آخر:

إن اليهود بحبها لنبيها أمنت معرة دهرها الخوان

و ذو و الصليب بحب عيسي اصبحوا يمشون زهوا في قري نجران

و المؤمنون بحب آل محمد يرمون في الآفاق بالنيران

و اتخذت السلطات جميع التدابير ضد من يمدح العلويين أو يذكرهم بخير كما عمدت الي ارهاق العلويين.فقد صدر مرسوم ملكي من بغداد الي مصر جاء فيه:أن لا يقبل علوي ضيعة،و لا يركب فرسا،و لا يسافر من الفسطاط الي طرف من أطرافها،و ان يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد،و إن كان بين علوي و بين أحد من سائر الناس خصومة فلا يقبل قول العلوي و يقبل قول خصمه دون بينة (1).و كانوا يسفرون بين آونة و أخري من أطراف البلاد الي العاصمة ليكونوا تحت الرقابة،و قد أمر الرشيد عامله علي المدينة أن يضمن العلويون بعضهم بعضا،و يعرضوا في98

ص: 185


1- الولاة و القضاة للكندي:198

كل يوم علي السلطة المحلية،فمن غاب عوقب (1).

و هكذا اتخذ الجائرون جميع الوسائل للتنكيل بالعلويين و شيعتهم حتي بلغ بهم الحقد أن من يذكر أئمة أهل البيت(ع)نال العقوبة و البطش.

فقد ذكر المقريزي:أن يزيد بن عبد اللّه أمير مصر،أمر بضرب جندي تأديبا لشيء صدر منه،و كان عقابه بسيطا،فلما أحس الجندي بألم السوط أقسم علي الأمير بحق الحسن و الحسين(ع)أن يعفو عنه،فأمر الأمير بضربه ثلاثين سوطا جزاء لهذا القسم.و كتب الي المتوكل في بغداد يخبره بأمر الجندي،فأمره المتوكل أن يضربه مائة سوط و أن يحمله الي بغداد (2)و ألقي بعض الشعراء عند المتوكل قصيدة نال فيها من العلويين و شيعتهم فأمر ان ينثر علي رأسه ثلاثة آلاف دينار،و ان تلتقط له،و عقد له علي امارة البحرين و اليمامة،و خلع عليه اربع خلع (3).

لقد كانت محنة الشيعة في تلك العهود شاقة و عسيرة فقد لاقت اعنف المشاكل السياسة و الاجتماعية،و منيت بالحرمان من جميع الحقوق الطبيعية، و لا نحسب أن هناك طائفة واجهت من الاضطهاد و الجور كما واجهته الشيعة،فقد امعن حكام الامويين و العباسيين في اذلالهم،و ارغامهم علي ما يكرهون./7

ص: 186


1- الامام الصادق و المذاهب الأربعة:117/1
2- تاريخ بغداد:153/4
3- ابن الأثير 38/7

الصمود الرائع

اشارة

:

و صمدت الشيعة في وجه الاعاصير،و وقفت تجاهد عن مبادئها، و تنافح عن رسالتها غير معتنية بجور الحكام و ارهابهم،و قامت بما يلي من الاعمال الرائعة:

أ-الدعاية السرية:

و عملت الشيعة تحت الخفاء باستمرار لمكافحة جور العباسيين و ظلمهم فقد قامت بدعاية واسعة النطاق ضد خصومهم.و كانت تعرض الي ظلمهم و طغيانهم و احتقارهم للرعية،و استبدادهم بشئونها،و غير ذلك مما يوغر الصدور و يشيع الكراهية و البغضاء للحكم القائم آنذاك،و قد استطاعت الدعاية الشيعية في العصر الأموي ان تخلق شعورا جماعيا ضد ذلك الحكم حتي اطاحت به،و في العصر العباسي عملت علي تجريد حكم العباسيين من المشروعية، و ان جميع من ينضم إليه او يتعاون معه فهو آثم و غير متحرج في دينه، و قد ايقظت تلك الحملات الرأي العام،و فتحت باب الثورات المتصلة ضد اولئك الحكام الطغاة،و جردتهم من ثقة الجماهير بهم.

ب-تشكيل الخلايا:

و انشأت الشيعة في عصورها الأولي احزابا سرية،و قد استطاعت تلك الاحزاب ان تشكل الخلايا و المنظمات،و كان علي رأس كل منظمة و خلية رئيس يشرف عليها يسمي«الداعي» (1)و قد كان لها دور خطير

ص: 187


1- العقيدة و الشريعة في الاسلام:ص 177

في المجتمع الدولي آنذاك،فقد استطاعت أن تقيم حكما يحمل طابع التشيع في بعض الاقاليم الاسلامية،فقد تأسست لهم دولة في المغرب اقامها عبيد اللّه المهدي سنة(296 ه)و امتدت رقعتها الي صقلية و جنوب ايطاليا كما اقاموا دولة في مصر علي يد القائد العظيم جوهر الصقلي سنة(358 ه) كما اسسوا دولة(الموت النزارية في فارس)سنة(483 ه)علي يد الحسن ابن الصباح،و أسسوا لهم دولة في البحرين علي يد الحسن الاهوازي، و حمدان بن الاشعث،و ابي سعيد الجنابي بن مهرويه سنة(270 ه).

و قد أقامت الدولة الفاطمية في مصر جامع الأزهر،و هو أول مؤسسة شيعية علمية في ذلك العصر،كما اقامت القلاع و الحصون المنيعة في ديار الشام.

و مرد ذلك النجاح السياسي الخطير يرجع الي المنظمات السرية التي أنشئوها في عصورهم الأولي،كما كانت لهم سجلات تحتوي علي اسماء الدعاة للشيعة،و قد عمد محمد بن عبد اللّه الي احراقه بالنار حينما احس بالخذلان و عدم النصر (1)و كذلك كانت هناك سجلات خاصة سرية باسماء الشيعة عند بعض اصحاب الأئمة (2)و قد جهدت السلطات الحاكمة آنذاك علي العثور عليها فلم تتمكن.

و علي أي حال فان تلك الخلايا قد قامت بدور مهم ضد الحكم القائم، و بلورة العقلية الاجتماعية،و فتحت الطريق امام الثوار،و المناضلين لتحرير بلادهم من الذل و الجور،كما عملت علي نشر التشيع في جميع الاقاليم الاسلامية حتي أصبح قوة كبيرة،و صار من العسير ارغام معتنقيه و اخضاعهم الي رغبات السلطة،الأمر الذي ألجأ المأمون الي أن يعقد ولايةشي

ص: 188


1- عمدة الطالب:ص 82
2- رجال النجاشي

العهد للامام الرضا عليه السلام.

ج-المناظرات

و بالرغم من كثرة الرقابة،و الضغط الهائل علي الشيعة فقد انطلق اعلامها الي عقد المناظرات و الاحتجاجات مع أئمة المذاهب الاسلامية و قادتها للتدليل علي ما تذهب إليه الشيعة في المسائل الكلامية.و من أهمها الامامة بجميع خطوطها،و كانت تلك المناظرات تعقد في الاماكن العامة،و عند يحيي البرمكي،و ربما عقدت في بلاط هارون،و كان يستمع لها و يبدي اعجابه بها،و كان يقوم بتلك المناظرات كل من هشام بن الحكم،و هشام ابن سالم،و مؤمن الطاق،و قد انتشر مبدأ أهل البيت(ع)ببركة الحجج القوية و البراهين الحاسمة التي أقامها هؤلاء الاعلام علي صحة عقيدتهم.

إن الشيعة من اكثر الفرق الاسلامية انطلاقا في ميادين البحوث الكلامية فقد تركزت اصول عقائدهم علي المنطق و البحث الموضوعي المجرد،و قد نعتهم(كرادفوا)بأنهم أصحاب الفكر الحر (1).

و علي أي حال فقد اقام اعلام الشيعة سيلا من الاحتجاجات الرائعة علي صحة ما يذهبون إليه في مجالاتهم العقائدية،و قد ادت الي انتشار التشيع و ذيوع افكاره بين المسلمين.

د-الكتابة علي الجدران:

و نظرا للمحن الشاقة و الخطوب العسيرة التي واجهتها الشيعة في تلك الظروف السود،فقد كانوا لا يجدون سبيلا لبث آلامهم و أحزانهم،فان المراقبة الشديدة و التتبع البالغ لهم قد منعهم من عرض خطوبهم،فالتجأ بعضهم

ص: 189


1- الحضارة الاسلامية 127/1

الي أن يكتب علي الجدران ما نابه من الخوف و الارهاق،ليطلع علي ذلك الجمهور من الناس.فقد كتب بعض العلويين علي جدار يجتاز عليه المهدي العباسي هذه الأبيات:

و اللّه ما أطعم طعم الرقاد خوفا إذا نامت عيون العباد

شردني أهل اعتداء و ما أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت باللّه و لم يؤمنوا فكان زادي عندهم شر زاد

أقول قولا قاله خائف مطرّد قلبي كثير السهاد

منخرق الخفين تشكو الجوي تنكبه أطراف مرو حداد

شرده الخوف فأزري به كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة و الموت حتم في رقاب العباد

فلما رأي المهدي ذلك رق له،و كتب تحت كل بيت:«لك الأمان من اللّه و مني،فاظهر متي شئت».فسأله بعضهم عن قائلها،فقال:

إنه عيسي بن زيد (1)و ذكر ذو النون المصري:إنه اجتاز علي قرية، فرأي بعض جدرانها و قد كتبت عليه هذه الابيات:

أنا ابن مني و المشعرين و زمزم و مكة و البيت العتيق المعظم

و جدي النبي المصطفي و أبي الذي ولايته فرض علي كل مسلم

و أمي البتول المستضاء بنورها إذا ما عددناها عديلة مريم

و سبطا رسول اللّه عمي و والدي و أولاده الأطهار تسعة أنجم

متي تعتلق منهم بحبل ولاية تفز يوم يجزي الفائزون و تنعم

أئمة هذا الخلق بعد نبيهم فان كنت لم تعلم بذلك فاعلم

أنا العلوي الفاطمي الذي ارتمي به الخوف و الأيام بالمرء ترتمي

فضاقت بي الارض الفضاء برحبها و لم أستطع نيل السماء بسلم2)

ص: 190


1- مقاتل الطالبيين:(ص 411،412)

فألممت بالدار التي أنا كاتب عليها بشري فاقرأ إن شئت و المم

و سلم لأمر اللّه في كل حالة فليس أخو الاسلام من لم يسلم

قال ذو النون:فعلمت أنه علوي قد هرب من السلطة،و ذلك في خلافة هارون.و احتمل المجلسي أن تكون هذه الابيات للامام الكاظم عليه السلام.و قد ذكرنا في الحلقة الاولي من هذا الكتاب مناقشتنا لذلك.

و مهما يكن من أمر،فان العلويين و شيعتهم قد قاسوا أمر المحن و الخطوب في تلك الفترات المظلمة،حتي التجئوا الي رسم آلامهم علي الجدران لتطلع الجماهير علي مدي ما لحقهم من الضيم و الاضطهاد.

و صورت الابيات الاخيرة جانبا من احتجاج العلويين علي أحقيتهم بالخلافة و الرعاية لشؤون المسلمين،فهم أولي الناس بالنبي العظيم(ص) و انهم خلفاؤه علي أمته،و أن من تمسك بهم فاز في يوم حشره و نشره-كما أعلن ذلك جدهم(ص)-و مع هذا النسب الوضاح الذي لهم بالاضافة الي ما يتمتعون به من الفضائل و المآثر،فهم خائفون وجلون مشردون، يطاردهم الرعب و الفزع خوفا من الظالمين و الغاصبين لحقوقهم و تراثهم.و قد جلبت لهم هذه الجهات التي أعلنوها العطف و الرقة و الحنان في نفوس المسلمين و التذمر و الاستياء من أعدائهم.

ه-الالتجاء الي التقية:

و عمد العباسيون الي اضطهاد الشيعة رسميا في جميع المجالات،فطاردتهم و نكلت بهم حتي حفت بهم الاخطار الهائلة التي تنذرهم بالفناء و الدمار،فاضطر أئمة الشيعة.آنذاك-الي الامر بالتقية،حفظا علي أرواح البقية الباقية من شيعتهم و صيانة لدمائهم و أموالهم.

و التقية عبارة عن الحيطة و الحذر و كتمان العقيدة و خفائها،و قد نص

ص: 191

القرآن الكريم علي جوازها،قال اللّه تعالي: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ،إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً،وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَي اللّهِ الْمَصِيرُ» (1).

و قد شدد أئمة اهل البيت(ع)علي شيعتهم بكتمان عقيدتهم و عدم إظهارها،و إخفاء الولاء لهم.فقد روي معمر بن خلاد قال:سألت أبا الحسن موسي(ع)عن القيام للولاة،فقال(ع):قال ابو جعفر(ع):

التقية ديني و دين آبائي،و لا إيمان لمن لا تقيه له» (2).

و حدث درست بن ابي منصور،قال:«كنت عبد ابي الحسن موسي و عنده الكميت بن زيد،فقال له الامام:أنت الذي تقول:

فالآن صرت الي أمية و الامور الي مصائر (3)

فقال الكميت:قد قلت ذلك،و اللّه ما رجعت عن ايماني،و اني لكم لموال و لعدوكم لقال،و لكن قد قلته علي التقية.فقال(ع):إن التقية لتجوز علي شرب الخمر» (4).

و قد اولدت التقية السخط البالغ من الشيعة علي خصومهم،كما اوجبت تعصبهم لعقيدتهم و مبدئهم.يقول الاستاذ(اجناس جولد تسهير):

إن عجز الشيعي عن المجاهرة بعقيدته الحقيقية التي يؤمن بها هو في نفس الوقت مدرسة للسخط الكامن الذي يكنه الشيعة لخصومهم الاقوياء،و هو سخط مبعثه عاطفة من الحقد الجامح و التعصب الثائر» (5)و قد عاب علي81

ص: 192


1- سورة آل عمران،آية:28
2- الوسائل-كتاب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.
3- و في نسخة:و الامور لها مصائر.
4- الوسائل:باب الامر بالمعروف.
5- العقيدة و الشريعة في الاسلام:ص 181

الشيعة بعض خصومهم الاغبياء امر التقية،فراحوا يكيلون لهم الطعون عليها،مع انه لو لا هذه الخطة الحكيمة لما بقي مذهب التشيع علي وجه الارض،و ذهب ذكر اهل البيت(ع)ادراج الرياح،نظرا للمحن الشاقة التي احاطت بهم،و النكبات السود التي واجهوها منذ فجر تاريخهم، و استمرت معهم متوالية الي مئات من السنين.

يقول الشيخ الطوسي:«لم تلق فرقة،و لا بلي أهل مذهب بما بليت به الشيعة،من التتبع و القصد،و ظهور كلمة اهل الخلاف حتي انا لا نكاد نعرف زمانا-تقدم-سلمت فيه الشيعة من الخوف و لزوم التقية و لا حالا عريت فيه من قصد السلطان و عصبته و ميله و انحرافه» (1).

إن تشريع التقية لم يكن المقصود منه إلا الحفظ علي دماء الشيعة، و صيانة أموالهم و أعراضهم من اولئك الحكام الجائرين الذين بذلوا المزيد من الجهود لتصفيتهم و القضاء عليهم،و انما تشرع التقية فيما اذا لم تكن لرواج الباطل و احياء الظلم،و ضياع الحق حسب ما نص عليه الفقهاء.

فرق الشيعة:

اشارة

و انقسمت الشيعة الي طوائف و فرق كثيرة،و قد حدثت تلك الفرق بسبب الضغط الذي حل بهم،و عدم إمكان التقائهم بأئمة أهل البيت(ع) و قد اتخذ بعض المنافقين ذلك وسيلة الي تفريق صفوفهم.و قد تحدث عن اسباب انقسامهم الدكتور عبد الرزاق محي الدين:

«...و كانت الفكرة-أي فكرة التشيع-معرضة دائما الي التهديد من جانب الخلفاء،مما حمل أصحابها الي التنادي بها في خفاء و ستر،و الي العمل بها بعيدة عن الآفاق الضاحية المتحررة.و رأي يعمل به في السر

ص: 193


1- تلخيص الشافي 59/1

لا بد أن يتعرض في نفسه الي كثير من البلبلة،و الي غير قليل من الانقسام في أعيان الأئمة و في عددهم،و لهذا كثرت الفرق الشيعية و اختلفت فيما بينها و زاد الطين بلة:أن خصومهم من الأمويين و العباسيين يملكون من وسائل القوة و الدعاوة ما لا قبل لهؤلاء به،فأكثروا من القول في مذاهبهم،و نسبوا إليهم ما قد يكونوا براء منه،و ما لو مكنوا من الإفصاح عنه لبرءوا،و لنفوه عن مقالتهم.

فاذا أضفنا الي ذلك خوف أئمة الإمامية أحيانا من الجهر بمقالتهم و انزوائهم بحكم الحجر عليهم عن أتباعهم،و العمل بالتقية التي قد تقضي علي الامام أن يجاري أهل السنة في فقههم أو في أصول عقائدهم،ثم جهل عدد كبير من الشيعة بأصول المذهب الإمامي» (1).

إن هذه العوامل التي ذكرها الاستاذ(محي الدين)هي التي أوجبت انقسام الشيعة الي فرق و طوائف،و اختلافهم في أعيان الأئمة وعدهم و فيما يلي عرض موجز لبعض فرقهم:

1-الكيسانية:

هم اصحاب المختار بن عبيد الثقفي،و انما سميت بذلك نسبة الي كيسان قيل انه اسم المختار،سماه بذلك محمد بن الامام أمير المؤمنين،حينما عهد إليه بالطلب بثأر سيد الشهداء(ع) (2)و قيل غير ذلك..و تذهب هذه الفرقة الي أن الامام بعد الحسين(ع)هو محمد،و انه هو المهدي-الذي بشر به الرسول الاعظم(ص)-الذي يملأ الدنيا قسطا و عدلا،و انه حي لا يموت،و قد غاب في جبل رضوي و معه عسل و ماء،و في ذلك يقول

ص: 194


1- أدب المرتضي:ص 56
2- الفصول المختارة للسيد المرتضي

السيد الحميري:

ألا ان الأئمة من قريش ولاة الحق اربعة سواء

«علي»و الثلاثة من بنيه هم الاسباط ليس بهم خفاء

فسبط سبط ايمان وبر و سبط غيبته كربلاء

و سبط لا يذوق الموت حتي يقود الخيل يتبعه اللواء

تغيب لا يري عنهم زمانا برضوي عنده عسل و ماء

و غالي بعضهم فقال:إن ابن الحنفية هو الامام بعد أمير المؤمنين(ع) دون الحسنين(ع)و ان الحسن انما دعا في الباطن إليه بأمره،و الحسين انما ظهر بالسيف باذنه،و انهما كانا داعيين إليه،و أميرين من قبله (1).

و تعتقد الكيسانية بتناسخ الأرواح من جسد و حلولها في جسد آخر، و هذا الرأي مأخوذ من الفلسفة الهندية التي ذهبت الي ذلك،و لم يقولوا بالتناسخ علي الاطلاق،و إنما خصوه بالأئمة فقط (2)و قد انعدمت هذه الطائفة،و لم يكن لها اتباع في جميع الاقاليم الاسلامية.

2-الزيدية:

و بنت الزيدية اطارها العقائدي علي الثورة لازالة حكم البغي،و اقامة حكم العدل و قد ذهبت الي أن كل من يخرج بالسيف من العلويين فهو امام مفترض الطاعة،و ان كل من ادعي الامامة،و هو مقيم في بيته مرخي عليه ستره فلا يجوز اتباعه،و لا يجوز القول بامامته (3).

و اكبر الظن انهم انما ذهبوا الي ذلك نظرا لما لاقته الشيعة في تلك

ص: 195


1- رجال الخاقاني:ص 129
2- المذاهب الاسلامية:ص 70
3- فرق الشيعة:(ص 74-75)

الأدوار الرهيبة من الجور و الاضطهاد.فقد حكمت السلطة الأموية علي أن حب أهل البيت عليهم السلام كفر و مروق من الدين و الي ذلك يشير شاعر الاسلام الكميت بقوله:

يشيرون بالأيدي إلي و قولهم ألا خاب هذا و المشيرون أخيب

فطائفة قد كفرتني بحبكم و طائفة قالوا مسيء و مذنب

يعيبونني من خبهم و ضلالهم علي حبكم بل يسخرون و اعجب

و قالوا ترابي هواه و رأيه بذلك ادعي فيهم و القب (1)

و يرد عبد اللّه بن كثير السهمي علي من عابه علي مولاته لآل الرسول صلي اللّه عليه و آله بقوله:

ان امرأ أمست معايبه حب النبي لغير ذي ذنب

و بني أبي حسن و والدهم من طاب في الارحام و الصلب

أ يعد ذنبا أن احبهم!! بل حبهم كفارة الذنب (2)

و يرد السيد الحميري علي من قال له:يا رافضي في محاولة للحط من شأنه،بقوله:

و نحن علي رغمك الرافضو ن لأهل الضلالة و المنكر (3)

و قد خلقت هذه الاجراءات الظالمة في نفوس الشيعة اعظم الأثر، فدفعتهم إلي الايمان بالثورة كقاعدة اساسية لبناء كيانهم العقائدي،و قد ذهبت الزيدية إلي ذلك فآمنت بأن الثائر العظيم زيد بن علي هو الامام، و من بعده ولده يحيي الذي اقتدي بأبيه في رفع علم الثورة علي الحكم الأموي/1

ص: 196


1- الهاشميات
2- البيان و التبيان 360/3
3- الفصول للمرتضي 61/1

و لم يتعبدوا بالنص الذي هو قاعدة اساسية للامامة عند الشيعة،و رفضوا القول بامامة أئمة الهدي عليهم السلام المنصوص عليهم لأنهم لم يتجاوبوا معهم في اعلان الثورة علي الحكم الأموي،و كان عذرهم في ذلك ان المقاومة الايجابية لا تجدي،و انها فاشلة،و تجر الي المسلمين اعظم المصاعب و الخطوب و قد أقروا المقاومة السلبية للسلطة،و حرموا التعاون معها.

و قد اعتقدت الزيدية بامامة زيد لأنه قد ناهض الأمويين،و قد انطلق الي ساحات الجهاد و هو يقول:«ما كره قوم حر السيوف إلا ذلوا» و كان هذا شعار الزيديين،و قال يحيي بن زيد يناجي نفسه و يردد شعار أبيه:

يا ابن زيد أ ليس قد قال زيد من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد و اتخذ في الجنان ظل ظليلا (1)

و قد بحثنا بالتفصيل عن الزيدية في كتابنا(عقائد الزيدية)و قد نشر بعضه (2).

3-الامامية:

تمسكت هذه الطائفة بجوهر الاسلام و واقعه،و سايرت موكب العترة الطاهرة-التي أذهب اللّه عنها الرجس-و دانت بجميع ما أثر عنها في أصول الاسلام و فروعه،حتي عرف مذهبها بمذهب أهل البيت عليهم السلام،و هي تمتاز عن بقية المذاهب الاسلامية بما يلي:

1-انها فتحت آفاق العقل،و لم تجعله بمعزل عن واقع الحياة،

ص: 197


1- عقائد الزيدية
2- نشر في اجوبة المسائل الدينية:الجزء 3 و 4 المجلد الثالث عشر

و جعلت مدركاته احدي الأدلة الاربعة التي يستنبط منها الفقيه الحكم الشرعي كما جعلته حاكما في الاخبار المتعارضة فما اتفق منها مع حكمه كان حجة و ما شذ عنه فهو زخرف،و بذلك كانت من أشد الطوائف الاسلامية و غيرها عناية بحكم العقل و تحرره،و تحكيمه في جميع الأحداث.

2-انها فتحت باب الاجتهاد،و لم تغلقه،و بذلك فقد ساير فقهها تطور الزمن،و عالج جميع الاحداث المستجدة التي لم يرد فيها نص،و قد أوجب ذلك تطورا هائلا في الفقه الشيعي،و احتل الصدارة في الفقه الاسلامي من حيث جدته و عمقه و تطوره...و قد نالوا بذلك اعجاب رجال الفقه و القانون في العالم،يقول الاستاذ محمد ابو زهرة:«و انهم-اي الشيعة- لم يخضعوا لنظام السلطة في غلق باب الاجتهاد،و لم يكن تعليمهم يدخل تحت نظام الدولة،و لم تخضع مدارسهم لذلك المنهج الذي سارت عليه اكثر المدارس الاسلامية.بل ساروا علي منهج اهل البيت في عدم مؤازرة الدولة،و باب الاجتهاد عندهم لم يغلق،و لا زال مفتوحا،و هذا مما يفاخر به الشيعة سائر جماعات المسلمين اليوم...» (1).

3-انها تملك تراثا نديا ضخما مما أثر عن أئمتهم عليهم السلام،و هو حافل بجميع مقومات النهوض و الارتقاء،ففيه عرض رائع لقواعد الآداب،و السلوك و الاجتماع،و الحكم و الاخلاق كما عرض الي الاسس الخلاقة للتطور الاقتصادي و الاجتماعي للأمة،و عني بالشؤون الادارية و السياسية،و غيرها من المقومات الفكرية و الاجتماعية لحياة الانسان و حضارته،و قد عرض الي ذلك كله نهج البلاغة للامام امير المؤمنين عليه السلام،و هو أجل كتاب بعد القرآن الكريم و هو يشتمل علي رصيد هائل من العلوم،و بصورة جازمة انه لم تكتشف بعض اسرار فصوله خصوصا فيما يتعلق بخلق السماوات و غيرها،فانها34

ص: 198


1- الشافعي:ص 234

لا تزال غامضة عند الكثيرين من شراح كلامه(ع)،و عند الشيعة الصحيفة السجادية التي هي انجيل آل محمد(ص)و هي حافلة بأروع تراث فكري لم تجد له الانسانية مثيلا،و هذا الكتاب العظيم من ادعية الامام زين العابدين عليه السلام،و له(رسالة الحقوق)و قد عنت بذكر حقوق الأمة علي الدولة و بحقوق الدولة علي الامة،و حقوق افراد المجتمع فيما بينهم،و هو علي ايجازه من أجل ما الف في الاسلام.

و اذا استعرضنا مما أثر عن الامام الصادق(ع)و بقية أئمة اهل البيت عليهم السلام فانا نجد سيلا من العلوم و الفنون قد فتقوا أبوابها،و وضعوا أسسها،كعلم النبات و الكيمياء و الطب،و غيرها من العلوم التي ساهمت في تطور الحياة العلمية و الفكرية في تلك العصور،و امتدت موجاتها الي بقية العصور.

ان الطائفة الامامية بكل اعتزاز و فخر تملك اضخم تراث علمي لا تملكه أي طائفة اخري سواء أ كانت دينية أم من ذوي المذاهب الاجتماعية 4-إنها عنت بفلسفة الحكم بصورة موضوعية.و عميقة فقد التزمت بالامامة،و هي-حسب ما حدد لها المتكلمون من قيم و مفاهيم-انما تهدف الي الحكم الصالح الذي جاء به الاسلام،و هو بجميع خطوطه العريضة مبني علي العدل الخالص،و الحق المحض الذي تتطور به الأمة في مجالاتها الاقتصادية و الاجتماعية،و تصان في ظلاله جميع حقوقها و مصالحها.

إن فلسفة الامامة التي تذهب إليها الشيعة الامامية انما تعني بشكل ايجابي و بناء سياسة الحكم في البلاد فهي تقوم عندهم علي أساس وثيق من العدل لا يمكن بأي حال أن ينفذ خطوطه و اهدافه الا الامام المعصوم الذي لا يخضع لمنطق العاطفة،و الميول،و انما يسير علي وفق منطق الصالح العام،و قد رأينا ذلك في حكومة الامام علي عليه السلام،فقد سار بين المسلمين بسياسة

ص: 199

لم يشاهد المسلمون و غيرهم نظيرا لها في جميع مراحل التأريخ،عدلا في الرعية،و مساواة بين الناس،و تنكرا للمصالح الفردية الخاصة،و غير ذلك مما لم يؤثر بعضه عن اي حاكم في الاسلام.

و علي اي حال فالامامة بشكلها الموضوعي عند الامامية تقوم علي اساس عميق من الوعي و الادراك،و هي مدعمة بأروع الادلة و أوثقها من الكتاب و السنة و حكم العقل حسب ما دلل عليه متكلموهم،و لا مجال فيه للحكم عليهم بالانزلاق في تيارات الميول و العواطف كما يقول بذلك بعض خصومهم.

5-انها تبرأ من الغلو في الأئمة عليهم السلام،و تحكم بأنه مروق من الدين-كما سنذكره-.

هذه بعض الامور الجوهرية التي تمتاز بها الامامية علي بقية طوائف الشيعة.

4-الفطحية:

و ذهبت هذه الفرقة الي القول بانتقال الامامة من الامام الصادق(ع) الي ولده عبد اللّه الأفطح،و هو أخو اسماعيل لأمه و أبيه،و كان أسن أولاد الامام.و قد استدلوا علي دعواهم بحديث أخذوا أوله و تركوا آخره و هو قول الامام الصادق(ع):«إن الامامة لا تكون إلا في الولد الأكبر،إلا أن تكون به عاهة»:و عبد اللّه كان من ذوي العاهات،فقد كان أفطح الرأس-أي عريضه-و قيل كان أفطح الرجلين.و قد أضاف إليه أتباعه بعض المناقب و المآثر.و لم يعش عبد اللّه بعد وفاة أبيه إلا سبعين يوما، و لم يعقب ولدا ذكرا (1).و تسمي هذه الفرقة ب«العمارية» (2)نسبة الي

ص: 200


1- الملل و النحل:274/1
2- التبصير في الدين:23

أحد زعمائها و هو«عمار» (1)،و لعله عمار بن موسي الساباطي الذي اختلف في قبول رواياته.

5-السمطية:

و زعموا بأن الامام بعد جعفر بن محمد ولده محمد،ثم هي في ولده من بعده،و قد نسبوا الي أحد رؤسائهم و هو«يحيي بن أبي سميط» (2)، و قيل انه««يحيي بن شميط»،و كان من قادة جيش المختار الثقفي (3)و قد زعم هؤلاء:ان الامام المنتظر في أولاد محمد بن جعفر (4).

6-الخطابية:

و هم أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع،و قد خرجوا في حياة الامام الصادق عليه السلام،فحاربوا عيسي بن موسي و كان عاملا علي الكوفة،و كانوا سبعين رجلا،فقتلهم جميعا،و لم يفلت منهم إلا رجل واحد،أصابته جراحات كثيرة فعد في القتلي،فتخلص و برأ من جرحه.و هو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب ب(أبي خديجة)، و أسر ابو الخطاب زعيم هذه الطائفة.فجيء به الي عيسي بن موسي فأمر بقتله،فقتل في دار(الرزق)علي شاطئ الفرات و صلبه مع جماعة من اصحابه ثم أمر باحراقهم فأحرقوا،و بعث برءوسهم الي المنصور فصلبها

ص: 201


1- مقالات الاسلاميين،و اختلاف المصليين،لأبي الحسن الأشعري ص 99.
2- نفس المصدر.
3- فرق الشيعة:ص 77.
4- التبصير في الدين:ص 23.

علي باب مدينة بغداد ثلاثة ايام ثم أحرقها،و قال بعض أتباع أبي الخطاب أنه لم يقتل لا هو و لا اصحابه،و انما شبه عليهم،كما زعموا أنهم إنما حاربوا بأمر من الامام الصادق عليه السلام،و ان الامام(ع)أرسل أبا الخطاب نبيا الي الناس (1).

7-الناووسية:

و هؤلاء ذهبوا الي ان الامام جعفر بن محمد(ع)حي لم يمت و لا يموت و هو القائم المهدي،و لقبت هذه الفرقة ب(الناووسية)لأن رئيسها يقال له«عجلان بن ناووس»من اهل البصرة (2).

8-الاسماعيلية:

و ذهب هؤلاء الي ان الامام بعد الصادق(ع)هو ولده اسماعيل و انكروا موت اسماعيل في حياة أبيه،و قالوا:لا يموت حتي يملك (3)و قد حارب الامام الصادق(ع)هذه الفكرة في حياته،و لما توفي ولده اسماعيل احضر جماعة من اصحابه و أشهدهم علي موته،و قد ذكرنا حديث ذلك بالتفصيل في الجزء الاول من هذا الكتاب.

و اصرت الاسماعيلية علي جحود موت اسماعيل و ان الامام الصادق(ع) انما كتب محضرا بوفاة ولده اسماعيل،و طلب الاشهاد عليه من قبل الشيعة لأنه شعر بالاخطار التي تهدد حياة ولده الذي نص عليه بالامامة-حسب ما يقولون-و اصبح وليا لعهده،و او عز إليه بالاستتار،وفور قيام الامام

ص: 202


1- فرق الشيعة:ص 71
2- الفرق بين الفرق،اعتقاد فرق المسلمين للرازي.
3- مقالات الاسلاميين و اختلاف المصلين:ص 98.

الصادق بذلك خرج اسماعيل متخفيا من يثرب،و اتجه الي دمشق،و قد علم المنصور بذلك فكتب الي عامله ان يلقي القبض عليه،و لكن عامله كان اعتنق المذهب الإسماعيلي،فعرض الكتاب علي اسماعيل،فخرج من دمشق و اتجه نحو العراق،و يدعون أنه شوهد بالبصرة عام(151 ه)و انه مر علي مقعد و كان مريضا فشفاه اللّه باذنه،و قد لبث اسماعيل ينتقل سرا بين اتباعه حتي توفي بالبصرة عام(158 ه)و قد رزق من الاولاد محمد و علي و فاطمة،و قد نص علي امامة ولده الاكبر محمد بحضور نخبة من الدعاة المخلصين (1).

و لم تؤيد المصادر التأريخية الموثوق بها هذه المزاعم،فقد أجمعت علي وفاته في حياة ابيه حسب ما نقلناه في الجزء الاول من هذا الكتاب.

و قد اعطت الاسماعيلية الامامة مركزا ساميا و مقدسا و غالت في ذلك، يقول ابن هانئ في مدحه للامام المعز احد أئمة الاسماعيلية:

ما شئت لا ما شاءت الاقدار فاحكم فأنت الواحد القهار

و كأنما أنت النبي محمد و كأنما انصارك الانصار

أنت الذي كانت تبشرنا به في كتبها الاحبار و الاخبار

هذا امام المتقين و من به قد دوخ الطغيان و الكفار

هذا الذي ترجي النجاة بحبه و به يحط الاصر و الأوزار

هذا الذي تجدي شفاعته غدا حقا و تخمد أن تراه النار

و يستمر ابن هانئ في قصيدته،و هو يضفي بها اسمي النعوت و الالقاب علي المعز لدين اللّه،و هو يعبر بذلك عن عقيدة الاسماعيلية التي غالت في أئمتهم فأضافت إليهم كثيرا من صفات اللّه تعالي،و غالي شاعر آخر من شعرائهم في وصف أئمتهم فيقول:3)

ص: 203


1- تأريخ الدعوة الاسماعيلية:(ص 142-143)

محبتهم فرض علي الناس واجب و عصيانهم كفر الي النار موبق

هم العروة الوثقي هم منهج الهدي هم الغاية القصوي التي ليس تلحق

و لولاهم لم يخلق اللّه خلقه و لم يكن في الدنيا ضياء و رونق

هم دوحة الدين التي تثمر الهدي و باليمن و التقوي تظل و تسبق

تجير من الايام من يستظلها و تحمي من الموت الجهول و تطلق

و الذي يلاحظ العقيدة الاسماعيلية يراها طافحة بالغلو و الافراط في الحب لأئمتهم،و قد اعتبروا امامهم الحاضر الشاب كريم شاه الحسيني النبراس الكوني الموجود في كل الوجود،و منجي النفوس من الشقاء الأبدي و قائد العالم الي الحقيقة المثلي،

9-الواقفية:
اشارة

و هي الطائفة الضالة المارقة من الدين،التي خانت اللّه و رسوله و نهبت أموال المسلمين،و قد ادعت أن الامام موسي(ع)حي لم يمت و لا يموت و انه رفع الي السماء كما رفع المسيح عيسي بن مريم(ع)و انه هو القائم المنتظر الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا،و زعموا أن الذي في سجن السندي بن شاهك ليس هو الامام موسي(ع)بل انه شبه و خيل إليهم أنه هو.و لا بد لنا من التعرض-و لو إجمالا-لبعض شئون هذه الطائفة،و فيما يلي ذلك:

أ-سبب الوقف:

و يعود السبب في وقف هؤلاء علي الامام موسي(ع)و إنكارهم لموته:

ان الامام(ع)لما كان في ظلمات السجون و نصب وكلاء له علي قبض الحقوق الشرعية التي ترد إليه من بعض المؤمنين،و قد اجتمعت أموال

ص: 204

ضخمة عند بعضهم،فكان عند زياد بن مروان القندي سبعون الف دينار و عند علي بن أبي حمزة ثلاثون الف دينار...و هكذا عند غيرهم،فلما توفي الامام(ع)جحد هؤلاء القوم موته،و اشتروا بالأموال المودعة عندهم الضياع و الدور و أثروا بها،و قد طلبها منهم الامام الرضا(ع)فأبوا أن يدفعوها له،و أنكروا موت ابيه (1).و ذكر الحسين بن محمد:انه اجتمع ثلاثون الف دينار عند الأشاعثة من زكاة اموالهم و بقية الحقوق الاخري فحملوا تلك الأموال الي وكيلين للامام موسي(ع)بالكوفة احدهما حيان السراج،و كان الامام(ع)آنذاك في السجن،فلما قبضا الأموال اشتريا بها الدور و الغلات،و لما قبض الامام أنكرا موته و أذاعا انه لا يموت، و انه هو القائم المنتظر (2)لكن بعضهم رجع الي طريق الحق و الصواب فدفع الأموال التي اختلسها الي الامام الرضا(ع)و أقر بامامته.

ب-انتشاره:

و انتشر مبدأ الوقف و اعتنقه خلق كثير من الناس،و كان منهم عدد كبير من اصحاب الامام(ع)و رواة حديثه،و سنذكرهم بالتفصيل في «كوكبة الرواة و الاصحاب»و السبب في انتشار هذه الفكرة:ان الذين كانوا يبشرون بها قد عرفوا من قبل بحسن السيرة و الحريجة في الدين فأغروا بسطاء الشيعة بذلك و أضلوهم الي حد بعيد،كما بذلوا الاموال الطائلة بسخاء في شراء الضمائر.فقد حدث يونس بن عبد الرحمن قال:«مات أبو ابراهيم موسي(ع)و ليس من قومه احد إلا و عنده المال الكثير،و كان ذلك سبب وقفهم و جحدهم موته طمعا في الاموال،فكان عند زياد بن

ص: 205


1- البحار:308/12
2- نفس المصدر

مروان القندي سبعون الف دينار و عند علي أبي حمزة ثلاثون الف دينار، فلما رأيت ذلك و تبينت الحق و عرفت من امر ابي الحسن الرضا(ع)ما عرفت تكلمت و دعوت الناس إليه،فبعثا-اي زياد و علي-إلي و قالا ما يدعوك الي هذا؟ إن كنت تريد المال فنحن نغنيك،و ضمنا لي عشرة آلاف دينار و قالا لي:كف فأبيت و قلت لهما:إنا روينا عن الصادقين عليهم السلام أنهم قالوا إذا ظهرت البدع فعلي العالم ان يظهر علمه،فان لم يفعل سلب نور الايمان،و ما كنت لأدع الجهاد في امر اللّه علي كل حال،فناصباني و اضمرا لي العداوة» (1).

بمثل هذه الاساليب و المغريات انتشر مبدأ الوقف،و لكن ما لبث ان تحطم و انكشف زيفه للمؤمنين،و ظهر دجل دعاته.

ج-شجب الأئمة لهم:

وردت اخبار كثيرة من أئمة اهل البيت(ع)في شجب فكرة الوقف و الطعن بقادته ورد احاديثهم،و تحذير الناس من اضاليلهم.فقد ذكر الحكم ابن العيص قال:دخلت مع خالي سليمان بن خالد علي ابي عبد اللّه(ع) فقال الامام:

-من هذا الغلام؟-و أشار لي- -ابن أختي -هل يعرف هذا الأمر؟-يعني الامامة- -نعم! -الحمد للّه الذي لم يخلقه شيطانا،أعوّذ ولدك باللّه من فتنة شيعتنا -و ما تلك الفتنة؟

ص: 206


1- البحار:308/11

-انكارهم الأئمة و وقوفهم علي ابني موسي،ينكرون موته و يزعمون انه لا إمام بعده،اولئك شر الخلق (1).

و قال الامام موسي(ع)لعلي بن ابي حمزة البطائني احد اعلام الواقفية «يا علي!إنما أنت و اصحابك اشباه الحمير» (2).و دخل محمد بن الفضيل علي الامام ابي الحسن الرضا(ع).فالتفت له محمد قائلا:

«جعلت فداك،اني خلفت ابن أبي حمزة و ابن مهران و ابن أبي سعيد -و هم زعماء الواقفية-اشد اهل الدنيا عداوة للّه تعالي»فقال له الامام:

«ما ضرك من ضل إذا اهتديت،انهم كذبوا رسول اللّه(ص)و كذبوا فلانا و فلانا،و كذبوا جعفر و موسي(ع)ولي بآبائي أسوة.

-جعلت فداك،إنك قلت لابن مهران:أذهب اللّه نور قلبك و أدخل الفقر بيتك.

-كيف حاله و حال اخوانه؟ -يا سيدي!هم بأشد حال مكروبون ببغداد،لم يقدر الحسين أن يخرج الي العمرة» (3).

و كتب بعض الشيعة الي الامام الرضا(ع)يسأله عن الواقفة،فأجابه(ع) «الواقف حائد عن الحق و مقيم علي سيئة،إن مات بها كانت جهنم مأواه و بئس المصير» (4).و سأله بعضهم عن جواز إعطاء الزكاة لهم.فنهاه عن ذلك و قال:«إنهم كفار مشركون زنادقة» (5).و وردت اخبار كثيرةر.

ص: 207


1- تنقيح المقال:359/1-360
2- البحار:309/12
3- الكشي
4- البحار:309/12
5- نفس المصدر.

من أهل البيت عليهم السلام في ذمهم و القدح في رواياتهم و لزوم الابتعاد عنهم،و انهم مشركون لا صلة لهم بالاسلام و لا علاقة لهم بأهل البيت، و علي هذا فلا ينبغي عد هذه الطائفة و لا بعض الطوائف المتقدمة من الشيعة فان بعضها قد أنكر بعض أصول الدين،كالخطابية الذين زعموا بأن الامام الصادق(ع)أرسل أبا الخطاب نبيا الي الناس،و مع هذا كيف يصح عد هذه الفرقة و أمثالها من الشيعة التي تعبد اللّه وحده لا شريك له،و تعتقد بأن النبي محمد(ص)هو خاتم النبيين و سيد المرسلين،إن عد بعض هذه الطوائف التي لا تقول بالتوحيد من فرق الشيعة إنما هو ظلم صارخ لهذه الطائفة التي اعتنقت الاسلام و آمنت بجميع ما انزل اللّه،و بذلت المزيد من الجهود في سبيل إعلاء كلمة التوحيد.

و علي اي حال،فان الواقفية لسوء حالهم و ازدراء أهل البيت بهم لقبوا بالممطورة تشبيها لهم بالكلاب،و انهم انما ابتدعوا فكرة الوقف طمعا بالأموال التي اختلسوها من الشيعة،و قد بادت هذه الطائفة و اندرست معالمها و آثارها.

هذه بعض الفرق التي حسبت علي الشيعة و عدت منها،و هناك بعض الفرق الأخري نشأت و نمت في ذلك العصر و ما بعده،و ان اكثرها لا يلتقي مع مبدأ التشيع الذي بني علي التوحيد و الايمان بجميع ما جاء به الاسلام

10-القرامطة

:

و الحقت هذه الفرقة بالشيعة و هي لم تكن منها بل و لا تحمل طابع الاسلام،و قد سميت بهذا الاسم لأن رئيسهم كان يلقب«قرموطويه» فسميت به،و قد زعموا أن الامام بعد جعفر الصادق هو حفيده محمد بن

ص: 208

اسماعيل،و انه حي لم يمت،و لا يموت حتي يملك الارض و ينشر العدل و الخير في ربوع العالم،و انه هو المهدي الذي بشر به النبي(ص) (1)و قد ظهرت شوكتهم في خلافة المعتضد باللّه العباسي،فثاروا علي الحكومة القائمة و استولوا علي كثير من المناطق الاسلامية،و لهم معتقدات خاصة لا تتفق مع المبادئ الاسلامية،و قد ذكرت أخبارهم و أيامهم في كثير من المصادر التاريخية (2).

مشكلة الغلاة

:

و من أهم المشاكل التي واجهتها الشيعة هي حركة الغلاة الالحادية فقد الصقت بهم هذه التهمة لتشويه حقيقة التشيع.

و اكبر الظن ان للسلطة دخلا كبيرا في ذلك،فقد شجعوها و بالغوا في تأييدها ليستحلوا بذلك دماء الشيعة،و يثبتوا عليهم مادة المروق عن الاسلام.

و من الجدير أن نشير الي بعض معتقداتهم الفاسدة،فقد زعموا أن الأئمة آلهة،و زعم بعضهم أنهم أنبياء،و قال بعضهم بالتناسخ و التعديل ...الي غير ذلك من المعتقدات المنكرة التي تتنافي مع الاسلام و قد ثقل علي أئمة اهل البيت(ع)هذا الكفر و الالحاد،فاندفعوا الي انكاره و تحذير المسلمين من دعاته،فقد أثر عن الامام امير المؤمنين(ع)انه قال:

ص: 209


1- فرق الشيعة للنوبختي.
2- ذكرت أخبارهم في التنبيه لأبي الحسين الملطي،و الكامل لابن الأثير،و الفرق بين الفرق.

«بني الكفر علي اربع دعائم:الفسق و الغلو و الشك و الشبهة» (1).

و أعلن الامام الصادق(ع)لعن محمد بن مقلاص الكوفي أحد زعماء الغلاة،و كتب(ع)الي جميع البلدان بلعنه و البراءة منه (2)،و ألزم(ع) أصحابه بلزوم مقاطعتهم،فكان يقول لهم:«لا تقاعدوهم و لا تواكلوهم و لا تشاربوهم و لا تصافحوهم و لا توارثوهم» (3)و قال(ع):«أدني ما يخرج به الرجل من الايمان أن يجلس الي غال فيستمع الي حديثه،و يصدقه علي قوله.ان أبي حدثني عن جده ان رسول اللّه(ص)قال:صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الاسلام الغلاة و القدرية» (4).

و لما قتل ابو الخطاب بالكوفة قال(ع):«لعن اللّه ابا الخطاب و لعن اللّه من قتل معه،و لعن اللّه من دخل في قلبه الرحمة لهم».

و دخل بشار الشعيري-و كان من دعاة الغلاة-علي الامام الصادق(ع) فقال(ع)له:«اخرج عني لعنك اللّه،لا و اللّه لا يظلني و اياك سقف أبدا».

فخرج بشار يسحق بأذياله من الخجل،فقال الامام لأصحابه:

«ويله!أ لا قال بما قالت اليهود؟!!أ لا قال بما قالت المجوس؟!! أو بما قالت الصابئة؟!!و اللّه ما صغر اللّه تصغير هذا الفاجر أحد،إنه شيطان ابن شيطان،خرج من البحر ليغوي أصحابي فاحذروه،و ليبلغ الشاهد الغائب:إني عبد اللّه و ابن عبد اللّه،ضمتني الأصلاب و الأرحام، و إني لميت و مبعوث،ثم مسئول،و اللّه لأسألن عما قال فيّ هذا الكذاب37

ص: 210


1- الكافي:ص 369
2- دعائم الاسلام:ص 62-63
3- الامام الصادق و المذاهب الاربعة:151/4
4- الخصال:ص 37

و ادعاه،ما له غمه اللّه!فلقد أمن علي فراشه و أفزعني و أقلقني عن رقادي» (1).

و قال عليه السلام في المغيرة بن سعيد:«لعن اللّه المغيرة بن سعيد و لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها،يتعلم منها السحر و الشعوذة و المخاريق إن المغيرة كذب علي أبي فسلبه اللّه الايمان،و ان قوما كذبوا علي ما لهم!! أذاقهم اللّه حر الحديد،فو اللّه ما نحن إلا عبيد خلقنا اللّه و اصطفانا،ما نقدر علي ضر و لا نفع،إن رحمنا فبرحمته و ان عذبنا فبذنوبنا،و اللّه ما بنا علي اللّه من حجة،و لا معنا من اللّه براءة،و إنا لميتون و مقبورون و منشورون و مبعوثون و موقوفون و مسئولون،مالهم لعنهم اللّه،فقد آذوا اللّه و آذوا رسول اللّه في قبره،و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين(ع) و ها أنا ذا بين أظهركم أبيت علي فراشي خائفا وجلا،يأمنون و أفزع،و ينامون علي فراشهم و أنا خائف ساهر وجل،أبرأ الي اللّه مما قال فيّ الأجدع و عبد بني أسد أبو الخطاب لعنه اللّه...الي أن قال:أبرأ الي اللّه منهم إني امرؤ و لدني رسول اللّه و ما معي براءة من اللّه،و إن أطعته رحمني، و إن عصيته عذبني عذابا شديدا».

و تواترت الاخبار من أئمة أهل البيت(ع)و هي تدل علي كفر الغلاة و إلحادهم،و لزوم مكافحتهم و عدم الاختلاط بهم،و وجوب عزلهم عن الجماهير الاسلامية.و الغريب من بعض المؤلفين انهم آخذوا الشيعة بهذه الطائفة الملحدة و حسبوها عليهم،مع العلم انها لا تمت الي الشيعة بصلة و لا تلتقي معها بطريق.

إن مبدأ التشيع قد بني علي توحيد اللّه و تنزيهه عن الشريك و المثيل و ان الغلو و غيره من الافكار الالحادية لا تلتزم بها هذه الطائفة المحقة التي/4

ص: 211


1- الامام الصادق و المذاهب الأربعة:155/4

عملت علي صيانة الاسلام و الذب عنه منذ فجر تاريخها.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن محنة الاسلام في ذلك العصر من انشقاق أبنائه الي فرق و طوائف عملت علي ايجادها السلطة لاخماد حركة الشيعة-اولا- و إشغال المسلمين-ثانيا-بالناحية العقائدية من حياتهم حتي لا تحاسب السلطة علي تصرفاتها الكيفية و استبدادها الغادر بأمور المسلمين و أموالهم.

مشكلة خلق القرآن

:

و حدثت في عصر الامام(ع)مشكلة خطيرة هي«مسألة خلق القرآن»فقد اختلف فيها العلماء اختلافا كثيرا،و عاني جماعة منهم سخط الدولة و نقمتها و غضب الجمهور.و قد حدثت هذه الفكرة في أواخر الدولة الأموية،و قد ابتدعها الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية،فهو أول من تكلم بخلق القرآن،و قد حرر المسألة و أذاعها في دمشق،ثم طلبته السلطة فهرب منها و نزل الكوفة،فتعلم منه الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة(الجهمية)و قيل أن الجعد أخذ ذلك من أبان بن سمعان و أبان أخذه من طالوت بن أعصم اليهودي (1).و قتل الجعد علي يد خالد بن عبد اللّه القسري والي الكوفة،قتله في يوم عيد الأضحي،و قال إنه يقول:«ما كلم اللّه موسي تكليما،و لا اتخذ اللّه ابراهيم خليلا» (2).

و ظلت هذه الفكرة بعد مقتل الجعد تحت الخفاء و في طي الكتمان الي دور هارون عند ما ظهر أمر المعتزلة و انتشرت أفكارها،فأعلنوا القول

ص: 212


1- سرح العيون:ص 159
2- ضحي الاسلام:161/3-162

بخلق القرآن،و كان أهم دعاتها هو بشر المريسي،فقد ظل يدعو لذلك و ألف في المسألة كتبا،فبلغ الرشيد خبره فقال:«بلغني أن بشر المريسي يقول:القرآن مخلوق.و اللّه لان أظفرني اللّه به لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدا» و لما علم بشر بذلك ظل متواريا طوال ايام الرشيد (1).

و قال بعضهم:«دخلت علي الرشيد و بين يديه رجل مضروب العنق و السياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول،فقال الرشيد:قتلته لأنه قال:

القرآن مخلوق» (2).و اخذت الفكرة بالنمو و الاتساع حتي جاء دور المأمون،و كان يري ذلك،فنشطت الحركة و اصبحت حديث المجتمع، و قد ساندت السلطة المعتزلة و الشيعة علي ذلك و أعلن المأمون رأيه في خلق القرآن،و حمل الناس علي ذلك بالقوة و القهر.

و مهما يكن من أمر،فان القائلين بهذه الفكرة قد قاموا بثورة ضد الجمود الفكري و أعطوا للعقل الحرية و الانطلاق،و قد تعرضوا للمحنة و العذاب و التنكيل،و تعتبر هذه المسألة من أهم الأحداث الخطيرة التي حدثت في ذلك العصر،و قد تعرض لبسطها و ايضاحها الفلاسفة من المعتزلة و غيرهم و هي ترتبط ارتباطا وثيقا بالكلام النفسي فهي من مسائله و فروعه و لو لا خوف الاطالة و الخروج عن الموضوع لتحدثنا عنها بالتفصيل.

نكبة البرامكة

اشارة

:

و استشف الامام موسي(ع)من وراء الغيب بما يجري علي البرامكة من الخطوب و النكبات و زوال النعمة و فجاءة النقمة،فأخبر(ع)بذلك

ص: 213


1- النجوم الزاهرة:647/1
2- تاريخ ابن كثير:215/10

و قال:«مساكين آل برمك!لا يعلمون ما يجري عليهم»فكان كما أخبر(ع)،فقد جرت عليهم أعظم نكبة جرت في التأريخ،فبعد ما كانت الدنيا بأيديهم قد زهرت لهم و تمتعوا بلذائذها و ظفروا بنعيمها،فغزاهم الدهر بنكباته فصاروا من الذل و الهوان بأقصي مكان،فصودرت أموالهم و قتل جعفر و قذف أبوه يحيي و باقي أسرته في ظلمات السجون،حتي بلغ سوء حالهم أن من يذكر أيامهم و معروفهم و مكارمهم نال العقوبة و العذاب و نعرض بايجاز الي بعض أسباب نكبتهم،فقد اختلف المؤرخون فيها اختلافا كثيرا،و هي كما يلي:

1-خيانة جعفر للعباسة:

و يري بعض المؤرخين أن السبب في نكبة البرامكة هي قصة (العباسة بنت المهدي)و موجزها:ان الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ابن يحيي و أخته العباسة اذا أراد الشراب،فزوجها من جعفر و شرط عليه عدم الاتصال بها،و لكنه لم يف بعهده و شرطه،فاتصل بها فحملت منه، و بعد وضعها خافت علي طفلها من هارون،فأبعدته الي مكة،فلما علم الرشيد بذلك قتل الطفل و نكل بالبرامكة (1).

و هذه الرواية لا يمكن المساعدة عليها بوجه-أولا-إن الرشيد لا يعني بذلك،فقد كان خليعا منسابا وراء الشهوات-كما ذكرنا ذلك بالتفصيل- و لو كان عنده هذا الشعور الديني او الاجتماعي لما سمح لأخته علية أن تغنيه و تهدي له الخمر،حتي انتشر تهتكها و خيانتها عند جميع الاوساط -ثانيا-ان جعفر قد استولي علي الرشيد و ملك قلبه و مشاعره،حتي كان

ص: 214


1- الطبري:547/3

يجلس معه في حلة واحدة قد اتخذ لها جيبين (1).و بلغ من نفوذ جعفر أن زوج العالية من ابراهيم بن عبد الملك بن صالح العباسي و لا يعلم هارون بذلك،فلما أخبره أجاز تصرفه...الي غير ذلك من استبداده بشئون الرشيد،و هي تدل علي مدي نفوذه عنده.فكيف يضن عليه و هو أعز الناس و آثرهم لديه باتصاله بأخته العباسة-ثالثا-إن كثيرا من المصادر التأريخية الموثوق بها قد فندت هذه القصة،فقد فندها الجهشياري مستدلا بقول مسرور خادم الرشيد،حيث سئل عن السبب في ايقاع الرشيد بالبرامكة فقال:«كأنك تريد ما تقوله العامة فيما ادعوه من أمر المرأة،لا و اللّه ما لشيء لهذا من أصل» (2).أما ابن خلدون فينفي ذلك نفيا باتا و يري أنه من الأساطير،فيقول:«إن مركز العباسة الديني و الاجتماعي لا يسمح لها بارتكاب جريمة كهذه،لا سيما مع مولي من مواليها (3).

و مهما يكن من أمر،فان هذه القصة الي الخيال أقرب منها الي المنطق لكن قسما من المؤرخين قد اهتموا بها،و تناولتها الأقلام الحديثة فأخرجنها بأسلوب خيالي لا نصيب له من الصحة.

2-الاتهام بالتشيع:

و ذهب فريق من المؤرخين الي أن العامل الوحيد في نكبة البرامكة هو ميلهم الي العلويين،فقد ذكر الطبري عن أبي محمد اليزيدي الذي كان من أعلم الناس بالبرامكة انه قال:«من قال ان الرشيد قتل جعفر بغير

ص: 215


1- شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون:(ص 222-223)
2- الجهشياري:ص 254
3- المقدمة:12

سبب يحيي بن عبد اللّه فلا تصدقه».و ذكر الجهشياري:«أن الرشيد اتهم يحيي بميله الي يحيي العلوي،و انه أمده بمائتي ألف دينار إبان ثورته» (1).و ذكر صاحب الأغاني:«ان البرامكة يكرهون تعصب الرشيد علي العلويين،و يعدون عمله حراما» (2).

و هذا القول كالأول في ضعفه،فان البرامكة كانوا يتقربون الي الرشيد يا لسعي علي العلويين،و كانوا من المسببين لسجن الامام(ع)و قتله.و قد روي الصدوق عن صفوان بن معن:أن يحيي البرمكي لم يكتف باغرائه للرشيد في قتل الامام الكاظم(ع)،فأغراه بقتل الامام الرضا(ع) فقال له هارون:أ ما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟أ تريد أن نقتلهم جميعا؟! (3)و قال السيد نعمة اللّه الجزائري:«إن السبب الحقيقي في هلاك البرامكة هو دعاء أبي الحسن الرضا(ع)عليهم في موقف عرفة،لأنهم سعوا بأبيه الكاظم(ع)» (4).

إن البرامكة من دون شك لا يحملون أي طابع من الود للعلويين، و قد أسرفوا في التنكيل بهم باستثناء الفضل بن يحيي،فانه كان يميل الي الامام الكاظم(ع)،و قد رفه عليه حينما كان بالبصرة في سجنه،و هو الذي سمح ليحيي العلوي بالوفادة الي بيت اللّه الحرام،و لعل القول بميلهم الي التشيع جاء بسببه.05

ص: 216


1- الجهشياري:ص 243
2- التمدن الاسلامي:146/4
3- عيون أخبار الرضا،صحيفة الابرار:396/2
4- زهر الربيع:ص 205
3-سعة نفوذهم:

لعل من أهم الاسباب الرئيسية التي دعت الرشيد للتنكيل بالبرامكة هي سعة نفوذهم و استيلائهم علي جميع مقدرات الدولة،حتي خاف الرشيد من زوال ملكه،و قد مال الي ذلك الاستاذ محمد كرد علي فقال:

«و لما رأي-الرشيد-أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا الي الناس،حتي ساووا الخليفة و أربوا عليه في المكانة،أمر بالقبض عليهم و مصادرة أموالهم و قتلهم...و ذلك لأن خافهم علي ملكه» (1).

و قد ظهرت منهم بوادر تدل علي عزمهم بقيام انقلاب عسكري يقضون فيه علي حكمه و ينقلون الخلافة من العباسيين الي غيرهم،فقد تحدث جعفر عن أبي مسلم و أهميته في نقل الخلافة من الأمويين الي العباسيين فقال:«إن أبا مسلم نقل الدولة من قوم الي قوم بالقتل و اراقة الدم، و انما الرجل من ينقلها من غير سفك دم»و قد نقل حديثه الي الرشيد فخاف و بادر الي نكبة البرامكة (2).

و مهما يكن من أمر،فان العامل الوحيد الذي حفز هارون-فيما نحسب-الي التنكيل بجعفر و باقي أسرته هو سعة نفوذهم،و قبضهم علي زمام الحكم بيد من حديد،فقد كان بداره من الموظفين من أبناء يحيي ابن خالد خمسة و عشرون ما بين صاحب سيف و قلم (3).

ص: 217


1- الاسلام و الحضارة العربية:213/2
2- براءة العباسة:ص 53
3- مقدمة ابن خلدون:ص 13.

و كان من الصعب القضاء عليهم لو لا استعمال المباغتة و المفاجأة في البطش بهم،فانهم لو علموا بذلك لما تمكن علي القيام بأي حركة انقلابية و لقضي عليه نظرا لاتصالهم الوثيق بزعماء الجيش و قادته و نعمهم الوفيرة علي الكثيرين من الناس،فلو قاموا بانقلاب عسكري لوجدوا تأييدا شاملا من الجماهير الاسلامية الكارهة لحكم العباسيين،بالاضافة الي أن لهم الصلات التامة بالفرس الذين هم أهم ركيزة في الدولة الاسلامية.

و هناك عوامل اخري ذكرها المؤرخون احصاها بعضهم الي اربعين عاملا،و مال الي كل واحد منها فريق من المؤرخين و الكتاب،أدت الي نكبة البرامكة،كالوشاية بهم من حاسديهم...و غيرها،و نكتفي بهذا العرض الموجز من اسباب البطش بهم.

اعدام جعفر

:

كان جعفر في قصره يلهو و يلعب و لا يعلم ما دبر له،و كان ابو زكار الأعمي يغنيه بهذا البيت:

فلا تبعد فكل فتي سيأتي عليه الموت يطرق أو يغادي

و كان فيه تنبؤ عن وقوع الحادث الخطير،فبينما كان المغنون يعزفون له بهذا البيت،إذ دخل عليه مسرور الخادم بغير إذنه و هو مسلح،فلما رآه جعفر جفل منه،و أخذته رعدة الذعر و الخوف و أخبره مسرور بما أمر به فجعل جعفر يتضرع إليه و يذكره بأياديه و نعمه عليه،و طلب منه أن يمهله الي الصبح لعل هارون يرجع الي صوابه و رشده فيعفو عنه،فامتنع من اجابته،و أخيرا طلب منه أن يأتي به الي مضرب الخليفة ليسمع مقالته و حكمه فيه،فأجابه الي ذلك و نهضا معا،و دخل مسرور علي هارون،

ص: 218

فقام إليه و هو ثائر لم يملك أعصابه قد تغيرت أحواله،فبادره مسرور قائلا له:

«يا أمير المؤمنين!قد انتهي كل شيء،و رأس جعفر قريب منك» ففهم هارون الأمر،فوعده بالقتل علي تأخيره لحكم الاعدام قائلا له:

«نفيت من المهدي،إن أنت جئتني و لم تأتني برأسه لأرسلن إليك من يأتيني برأسك-أولا-ثم برأسه آخرا».

فخرج و نفذ بالفور ما امر به و حمل رأس جعفر إليه.

و بقي الرشيد ليلته لم يذق طعم الرقاد ينتظر بفارغ الصبر ضوء الصباح و قبل أن يندلع نور الفجر أمر هرثمة بن أعين بحمل جثة جعفر و إعطائها الي مدير الشرطة العام:السندي بن شاهك،ليعلق رأسه في الساحة الوسطي من مدينة المنصور،و يقسم جثته الي نصفين فيصلب كل نصف منها علي رأس جسر في بغداد،كما أمره باعلان حالة الطوارئ و أن يكون الجيش علي أهبة الاستعداد خوفا من الانتفاضات الشعبية،كما فرض المراقبة الشديدة علي الجيش خوفا من تمرده و عصيانه،و أمر بالوقت بتطريق دور البرامكة و مصادرة أموالهم المنقولة و غير المنقولة،و اعتقالهم و زجهم في ظلمات السجون.

و انتشر حديث البرامكة في شرق البلاد و غربها،و صار أحدوثة المجالس،بل حديث الاجيال و الاحقاب،فذابت قلوب أنصارهم و اخوانهم و شمت بهم خصومهم و حسادهم،فقد اندك ذلك الحصن المنيع الشامخ، و ذهبت صولة البرامكة أدراج الرياح.

إلي هنا ينتهي بنا الحديث عن نكبة البرامكة،و قد دلت علي بطش هارون و فتكه و كيده،فقد أنزل العقاب الصارم بأحب الناس إليه،و بذلك يعلم مدي القسوة البالغة التي عامل بها العلويين و شيعتهم،فقد استعمل جميع إمكانياته في إرهاقهم و ذعرهم و البطش بهم،و كانت محنة الامام

ص: 219

موسي(ع)من أقسي ألوان المحن و أفجعها،فقد انعدمت الرأفة و الرحمة من نفسه،فصب عليه وابلا من العقاب.

و بهذا ينتهي بنا المطاف عن عصر الامام(ع)،و قد ذكرنا بعض الاحداث الجسام في ذلك العصر،أما الاحاطة بجميع شئونه فانها تستدعي الاطالة و الخروج عن الموضوع.

ص: 220

كوكبة الرّواة و الأصحاب

اشارة

ص: 221

ص: 222

و عملت مدرسة الامام الصادق(ع)عملا متواصلا،و بذلت مجهودا غير قليل لتثقيف العقل الانساني،و تطوير النهضة الفكرية و تقديم المسلمين في ميادين الحضارة و العلم.و قد ربت جيلا صالحا سباقا الي فعل الخير و المساعي الجليلة قد أدي رسالته الاصلاحية الشاملة الي الاجيال الصاعدة،فببركتها نضجت العقلية الاسلامية،و برزت معارف الاسلام و تعاليمه و آدابه الي الوجود العملي في مشارق الدنيا و مغاربها.

و لما فجع العالم الاسلامي بوفاة الامام الصادق(ع)،و قام الامام موسي(ع)بعد أبيه بادارة شئون تلك المدرسة الكبري التي أعزت العلم و رفعت مناره،فقد أصبح منذ اليوم الأول بعد وفاة أبيه عميدا و زعيما للهيئة العلمية و النهضة الفكرية في عصره،و قد أقبل عليه العلماء و احتف به رجال الفكر،لا يفارقونه و لا يفترقون عنه،حتي بلغ من احتفائهم به و اقبالهم عليه انه اذا نطق بكلمة أو أفتي فتوي بنازلة بادروا الي تسجيل ذلك (1)،و قد روي عنه هؤلاء العلماء جميع أنواع العلوم علي اختلافها و تباعد أطرافها من الحكمة،و تفسير الذكر الحكيم،و الفقه الاسلامي بجميع أبوابه...كما رووا عنه الآداب الاجتماعية و النصائح الرفيعة و الحث علي التضلع في العلم علي اختلاف أنواعه.

و لم تكن تلك الكوكبة من العلماء و الرواة التي كان يربو عددها علي اربعة آلاف شخص علي مستوي واحد من حيث الثقة و العدالة،فقد كان فيهم عدد غير قليل من المنافقين و الكذابين الذين لم يتحرجوا من الكذب و الوضع فقد كانوا يضعون الحديث و الأخبار علي لسان النبي الامين(ص) و عترته الميامين ليأخذوا عوض ذلك الثمن من السلطة الحاكمة التي حاربت الاسلام و افسدت عقائد المسلمين،و مزقتهم شيعا و أحزابا«كل91

ص: 223


1- الأنوار البهية:ص 91

حزب بما لديهم فرحون»،و هناك جمهرة أخري من المجهولين الذين لم يوثقوا و لم يجرحوا،و طائفة أخري من الضعفاء،كما ان فيهم عددا ضخما من الثقات و العدول الذين تحرجوا من الوضع و عرفوا بالصدق و الامانة و إليهم يستند الفضل في ضبط الأحكام الاسلامية و نشر فقه آل البيت(ع)و نظرا لوجود هذه الطوائف في رواة الأثر فقد انقسم الخبر بلحاظهم الي صحيح و حسن و ضعيف و موثق.

و علي أي حال فان الكثيرين من اصحاب الامام قد قاموا بدور مهم في التأليف و التصنيف و نشر الحضارة الاسلامية حتي ملأوا المكتبة العربية و الاسلامية في عصرهم بنتاجهم القيم الأمر الذي دل بحق علي أن لهم اليد الطولي في رفع منار العلم و تقويم الأخلاق و تهذيب الأفكار.

أما عدد أصحابه فقد ذكر أحمد بن خالد البرقي أنهم كانوا مائة و ستين شخصا (1)و هو اشتباه ظاهر إن كان مراده الحصر فان الظاهر من التحقيق ان اغلب المنتمين لمدرسة الامام الصادق(ع)قد بقوا بعد وفاة الامام ينتهلون من نمير علم الامام الكاظم و يتلقون العلوم و الفقه منه،و لعل البرقي أراد بهذا العدد الاعلام و النابهين منهم دون من يليهم في مراتب الفقه و الحديث و العلم و ها نحن نعرض ترجمة طائفة من أصحابه و رواة حديثه قد رتبناها علي حروف الهجاء.و هي كما يلي:ه.

ص: 224


1- رجال البرقي:بخط الاستاذ الشيخ علي الخاقاني في مكتبته.

(أ):-

1-أبان بن عثمان.

أبان بن عثمان اللؤلؤي يعرف بالأحمر البجلي (1)كان يسكن الكوفة و البصرة،و قد روي عن أبي عبد اللّه الصادق و ولده الكاظم و ذكر أبو عمرو الكشي أن العصابة أجمعت علي تصحيح ما يصح عنه و الاقرار له بالفقه (2)و قد أخذ عنه من أهل البصرة أبو عبيدة بن معمر بن المثني،و أبو عبد اللّه بن المثني و ابو عبد اللّه محمد بن سلام الجحمي،الف كتابا جمع فيه المبدأ،و المعاد،و المبعث، و المغازي و الوفاة و السقيفة،و الردة (3).و ذكره ابن حيان في الثقات و قال:

يخطئ و يهم،و كان يكني أبا عبد اللّه سكن البصرة و الكوفة،و كان أديبا عالما بالانساب،أخذ عنه ابو عبيدة و محمد بن سلام الجحمي،و ذكره الطوسي في رجال الشيعة،و قال حمل عن جعفر بن محمد و موسي بن جعفر،و قال محمد بن ابي عمر كان أبان من احفظ الناس (4).

2-ابراهيم بن أبي البلاد.

أبو البلاد اسمه يحيي بن سليم و كني بأبي البلاد،كان إبراهيم ثقة جليلا رفيع المنزلة عظيم الشأن،روي عن أبي عبد اللّه و الكاظم و الرضا،و أرسل

ص: 225


1- الأحمر:صفة في الرجل الذي فيه الحمرة،البجلي:نسبة الي بجلة أبو حي من بني سليم.
2- جامع الرواة 12/1 الخلاصة.
3- معجم الادباء.
4- لسان الميزان 24/1

له الامام الرضا(ع)رسالة أعرب فيها عن ثنائه و اكباره له (1).

3-ابراهيم بن أبي بكر.

قيل انه ابن أبي سمال،وثقه جماعة من الاعلام،و رمي بالوقف،و عرف بالصدق و التحرز عن الكذب،له كتاب النوادر (2).

4-ابراهيم بن شعيب.

العقرقوفي (3)كان من الواقفية،روي عنه ابن وهب،و الواقدي وعده ابن حيان من الثقات (4).

5-ابراهيم بن عبد الحميد.

الصنعاني (5)روي عن الامام الصادق.و أبي الحسن،و ولده الرضا و كان يجلس في مسجد الكوفة و يحدث الناس و يقول:أخبرني أبو اسحاق -يعني الامام الصادق-رمي بالوقف،و وثقه ابن شهر اشوب (6)و قال الفضل بن شاذان:انه صالح (7).7.

ص: 226


1- جامع الرواة 16/1،لسان الميزان 41/1
2- الوجيزة،البلغة،الخلاصة،النجاشي.
3- العقرقوفي:نسبة الي عقرقوف،ناحية من نواحي الدجيل،و قيل انها من نواحي نهر عيسي و بينها و بين بغداد اربع فراسخ.
4- التنقيح.
5- الصنعاني:نسبة الي صنعاء،بلدة باليمن كثيرة الأشجار و المياه
6- تنقيح المقال.
7- الخلاصة القسم الثاني:197.

6-ابراهيم بن محمد.

الجعدي (1)عده الشيخ من أصحاب الامام موسي(ع)و ظاهره أنه امامي مجهول الحال (2).

7-إبراهيم بن محمد الأشعري.

القمي،روي عن الامام موسي،و أبي الحسن الرضا،وثقه جماعة من الأعلام (3).

8-إبراهيم بن نصر.

ابن القعقاع الجعفي،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن،و ثقة النجاشي و قال:إنه ثقة صحيح الحديث،و ذكر الطوسي أن له كتابا (4).

9-ابراهيم بن نعيم.

العبدي الكناني،ثقة جليل من عيون هذه الطائفة،و من الاعلام الذين اخذت منهم الأحكام و الفتيا،روي عن أبي عبد اللّه الصادق و ولده موسي،توفي سنة 170 ه (5).

10-ابراهيم بن يوسف.

الكندي الطحان،ثقة صحيح الحديث رفيع الشأن،من المؤلفين،ي.

ص: 227


1- الجعدي:بضم الجيم،نسبة الي جعدة أبي حي من قيس و هو جعدة بن كعب،و منهم النابغة الجعدي.
2- التنقيح:31/1.
3- كشف المحجة،الوجيزة،الحاوي.
4- تنقيح المقال.
5- النجاشي.

و له كتاب«النوادر» (1).

11-أحمد بن أبي بشر.

يعرف بالسراج كوفي ثقة مقبول الحديث رمي بالوقف،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن،و له«كتاب» (2).

12-أحمد بن الحارث.

يعرف بالانماطي،كان واقفيا،روي عن أبي عبد اللّه،و كان من أصحاب أبي الحسن و له«كتاب» (3).

13-أحمد بن الحسن.

ابن اسماعيل التمار،مولي بني اسد،رمي بالوقف،و كان من أصحاب الامام الكاظم (4)و روي عن الامام الرضا(ع)و قال النجاشي:

هو علي كل حال ثقة صحيح الحديث معتمد عليه له كتاب نوادر (5).

14-أحمد بن زياد.

يعرف بالخزاز من أصحاب الامام،و قد رمي بالوقف (6).

15-أحمد بن عمرو.

ابن أبي شعبة الحلبي روي عن الامام الكاظم و الرضا و روي أبوه عن/1

ص: 228


1- الخلاصة،النجاشي.
2- النجاشي.
3- جامع الرواة:44/1،الكشي:ص 291.
4- جامع الرواة:44/1.
5- النجاشي:ص 55.
6- التنقيح:62/1،جامع الرواة 50/1

أبي عبد اللّه و هو من بيت عرف بالتقوي و الصدق و الولاء لأهل البيت (1)16-أحمد بن الفضل.

الخزاعي من أصحاب الامام الكاظم،رمي بالوقف و له كتاب (2)و روي الكشي أنه من أصحاب موسي و علي بن موسي.

17-أحمد بن محمد.

كوفي،و هو أخو كامل بن محمد بن أصحاب الامام،و له رواية في فضل زيارة الحسين ذكرها في التهذيب (3).

18-أحمد بن محمد.

النجاشي من أصحابه(ع) (4).

19-أحمد بن مخلد النخاس.

امامي مجهول الحال،عده الشيخ من اصحاب الامام موسي (5).

20-احمد بن يزيد.

روي عن ابي الحسن(ع)و ذكر روايته صاحب الوافي (6).1.

ص: 229


1- التنقيح،جامع الرواة.
2- جامع الرواة.
3- جامع الرواة:70/1
4- التعليقات:ص 47.
5- التنقيح:96/1.
6- جامع الرواة 75/1.

21-أسامة بن حفص.

كان ثقة عدلا،و كان قيما للامام(ع) (1).

22-اسباط بن سالم.

مولي لبني عدي من كندة روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن،و له كتاب (2).

23-اسحاق بن جرير.

ثقة من أهل العلم روي عن الامام أبي عبد اللّه(ع)و له كتاب، وعده الشيخ من أصحاب أبي الحسن موسي و انه من الواقفية (3).

24-اسحاق بن عبد اللّه.

ابن مالك الأشعري القمي ثقة عدل روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (4).

25-اسحاق بن عمار.

الكوفي الصيرفي مولي لبني تغلب من شيوخ الشيعة و ثقاتها روي عن الصادق و الكاظم،و هو غير اسحاق بن عمار الساباطي الذي كان فطحيا، و قد نشأ الخلط و الاشتباه عند البعض حيث توهموا بأنهما واحد كما أفاد ذلك المحقق شيخنا المامقاني (5)و جاء في بعض الروايات ما ينافي وثاقته و عدالته/1

ص: 230


1- جامع الرواة:75/1
2- التعليقات:ص 51
3- تنقيح المقال:112/1
4- النجاشي:ص 56
5- تنقيح المقال 115/1

فقد روي أنه كان عند الامام موسي(ع)جالسا إذ دخل عليه بعض شيعته فالتفت له الامام قائلا:

«يا فلان،جدد توبتك،و أحدث عبادة،فانه لم يبق من عمرك إلا شهر.،» يقول اسحاق:فقلت في نفسي،وا عجباه كأنه يخبرنا بآجال شيعته!! فالتفت إليه الامام و هو مغضب فقال له:

«و ما تنكر من ذلك؟؟و كان الهجري مستضعفا (1)و كان عنده علم المنايا،و الامام أولي بذلك من رشيد الهجري،يا اسحاق،إنه قد بقي من عمرك سنتان،أما انه سيتشتت أهلك،و يفلس عيالك افلاسا شديدا» و ما لبث اسحاق حتي توفي في الوقت الذي عينه الامام و حل الفقر و البؤس بأهله و عياله (2).

26-إسحاق بن عمار.

الساباطي (3)كان يسكن بغداد،و قد روي عن أبي عبد اللّه، و أبي الحسن و كان فطحيا (4).).

ص: 231


1- الاستضعاف:هو العجز عن التحمل لأعباء الامامة و ليس المراد به الاستضعاف من ناحية الدين و إلا لنافاه قوله:و كان يعلم علم المنايا و البلايا فان ذلك يتوقف علي نور القلب بالايمان و المعرفة و قوة العقيدة.
2- منهج المقال،و تنقيح المقال.
3- الساباطي:نسبة الي ساباط قرية قريبة من المدائن.
4- تنقيح المقال و قد أطال الشيخ المامقاني(في البحث عن تحقيق حال الساباطي).

27-إسحاق بن محمد.

من أصحاب الامام وثقه جماعة من الأعلام (1).

28-اسماعيل بن أبي سمال،و قيل ابن ابي سماك و قال النجاشي:

إنه ثقة واقفي فلا أعتمد علي روايته (2).

29-اسماعيل بن الحسن.

عده الشيخ من أصحاب الامام من غير توصيف،و ظاهره انه امامي مجهول الحال (3).

30-إسماعيل بن عبد الخالق.

مولي لبني أسد وجه من وجوه الشيعة،و فقيه من فقهائها،و قد عرف أهله بالعدالة و الولاء لأهل البيت(ع)روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب (4).

31-اسماعيل بن محمد المنقري (5).

عده الشيخ من أصحاب الامام و ظاهره أنه امامي مجهول الحال (6).

32-أمية بن عمرو.1.

ص: 232


1- الخلاصة،رجال ابن أبي داود.
2- جامع الرواة:92/1.
3- تنقيح المقال:133/1.
4- منهج المقال:ص 57.
5- المنقري،نسبة الي منقر بطن من بني سعد.
6- تنقيح المقال:144/1.

عده الشيخ من أصحاب الامام و قال إنه واقفي (1)و ضعفه جماعة (2).

33-أيمن بن محرز.

عده الشيخ من اصحاب الامام و ظاهره أنه امامي مجهول الحال، و في«جامع الرواة»أنه روي عن أبي عبد اللّه،و روي عنه اسماعيل بن مهران (3).

34-أيوب بن أعين.

الكوفي مولي بني طريف عده الشيخ من أصحاب الامام موسي(ع) و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (4).

35-أيوب بن الحر.

الجعفي ثقة جليل روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن (5)روي عنه يحيي بن عمران الحلبي و أبو عبد اللّه البرقي (6).

و قال الشيخ إنه ثقة و له كتاب (7).ت.

ص: 233


1- الفهرست.
2- الوجيزة و الحاوي.
3- تنقيح المقال:158/1.
4- نفس المصدر.و لسان الميزان:477/1.
5- لسان الميزان:478/1.
6- رجال ابن داود.
7- الفهرست.

(ب)-:

36-بشير الدهان.

عده الشيخ من أصحاب الامام،و أضاف الي ذلك أنه روي عن أبي عبد اللّه (1).

37-بكر بن الأشعث.

أبو إسماعيل الكوفي،روي عن الامام،و وثقه جماعة من الأعلام (2).

38-بكر بن صالح.

الرازي مولي بني ضبة،روي عن الامام موسي،قال ابن الغضائري إنه ضعيف جدا كثير التفرد بالغرائب و ضعفه جماعة من الاعلام (3).

39-بكر بن محمد.

ابن جناح من أصحاب الامام و قد رمي بالوقف (4).

40-بكر بن محمد.

ابن نعيم الأزدي الغامدي (5)ثقة جليل من بيت رفيع بالكوفة عده

ص: 234


1- التنقيح:174/1.
2- الوجيزة،البلغة.
3- النجاشي،الوجيزة.
4- جامع الرواة 128/1.
5- الغامدي:نسبة الي غامدة،علم في الأصل الي أبي قبيلة من جهينة و قيل من اليمن ينسب إليها الغامديون من المحدثين و غيرهم،و الغامدي هذا بقرينة كونه ازديا منسوب الي بني غامد بطن من الأزد و هم بنو غامد و اسم غامد عمر بن عبد اللّه و قيل كعب بن عبد اللّه،قيل إنما لقب بذلك لأنه اصلح امرا كان بينه و بين قومه فسماه أحد الملوك بغامد.

الشيخ من أصحاب الامام الكاظم،عمر عمرا طويلا،و له كتاب،و روي عنه عبد اللّه بن مسكان و أحمد (1).

(ت)-:

(ث)-:

41-ثعلبة بن ميمون.

الأسدي الكوفي،قال النجاشي:كان وجها من أصحابنا قارئا فقيها نحويا لغويا راوية،و كان حسن العمل كثير العبادة و الزهد روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن له كتاب تختلف الرواية عنه،قد رواه جماعة من الناس (2)و حكي أنه لما حج هارون مر بالكوفة فلما صار إلي الموضع الذي يعرف بمسجد(سماك)كان ثعلبة ينزل في غرفة علي الطريق فسمعه هارون يدعو بلسان فصيح فوقف يسمع دعاءه و أقبل علي الفضل ابن الربيع فقال له:تسمع ما أسمع؟فقال له:نعم،فقال هارون:

إن أخيارنا بالكوفة (3)و كان يلقب بأبي إسحاق الفقيه و يعد في الطليعة

ص: 235


1- التنقيح:179/1،لسان الميزان 84/2.
2- النجاشي.
3- التعليقات:ص 76

من علماء هذه الطائفة بالاضافة إلي ورعه و تقواه (1)و قد روي عنه محمد ابن عبد اللّه المزخرف و علي بن اسباط و الحسن بن علي الخزاز و طريف ابن ناصح (2).

(ج):-

42-جعفر بن خلف.

الكوفي عده الشيخ من اصحاب ابي الحسن موسي،و قال إنه سمع الامام يقول:سعد امرؤ لم يمت حتي يري منه خلفا،و قد اراني اللّه ابني هذا خلفا-و اشار لولده الرضا (3).

43-جعفر بن سليمان.

عده الشيخ من اصحاب الامام من غير توصيف لكنية او لقب، وعده الأردبيلي من جملة الرواة عن الامام (4).

44-جعفر بن سماعة.

عده الشيخ تارة من اصحاب الصادق و اخري من اصحاب الكاظم و اضاف الي ذلك انه واقفي (5).

ص: 236


1- الكشي،الوجيزة،البلغة.
2- لسان الميزان:83/2.
3- التنقيح:215/1.الكشي.
4- جامع الرواة:152/1.
5- التنقيح:216/1.

45-جعفر بن محمد.

ابن حكيم الخثعمي عده الشيخ من اصحاب الامام الكاظم (1).

46-جميل بن دراج.

ابن عبد اللّه النخعي الكوفي من اصحاب الامام الصادق(ع)و ولده ابي الحسن موسي و كان ثقة جليلا من كبار العلماء و هو احد الستة الذين اجمعوا علي تصحيح ما يصح عنهم،و كان كثير الحديث روي عنه خلق كثير كالحسن بن محبوب و صالح بن عقبة و ابو مالك الحضرمي و غيرهم، له مؤلفات منها كتاب اشترك في تأليفه هو و مرزام بن حكيم،و له اصل انفرد بتأليفه،توفي في ايام الرضا(ع) (2).

47-جميل بن صالح.

الأسدي الكوفي ثقة جليل من اصحاب الامام الصادق،و ولده ابي الحسن،له اصل،روي عنه جماعة منهم عمار بن موسي الساباطي و غيره (3).

49-جندب بن ايوب.

عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام الكاظم(ع)و قال إنه واقفي و كذلك قال العلامة (4).

50-جهم بن ابي جهيم.

ثقة جليل الشأن رفيع المنزلة روي عن الامام موسي عليه السلام1.

ص: 237


1- التنقيح:216/1.
2- الفهرست،جامع الرواة،منهج المقال.
3- منهج المقال.
4- التنقيح:234/1.

له اصل (1).

51-جهيم بن جعفر.

ابن جيان عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام،و قال إنه واقفي (2).

(ح)-:

52-حبيب بن المعلل.

الخثعمي المدائني،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن قال النجاشي:

ثقة صحيح الحديث،و قال الكشي مثل ذلك و أضاف أن له كتابا (3)53-حديد بن حكيم.

أبو علي الأزدي المدائني قال النجاشي إنه ثقة،وجه،متكلم،روي، عن أبي عبد اللّه(ع)و أبي الحسن(ع)له كتاب (4)و وثقه جماعة من الأعلام (5).

54-حذيفة بن منصور.

الخزاعي بياع السابري،قال النجاشي:إنه ثقة روي عن ابي جعفر و ابي عبد اللّه و ابي الحسن،له كتاب يرويه عدة من اصحابنا،وثقه

ص: 238


1- النجاشي،الكشي.
2- التنقيح.
3- منهج المقال 92.
4- النجاشي.
5- الوجيزة،الخلاصة،البلغة.

الشيخ المفيد،و لكن ابن الغضائري غمز فيه و قال إن حديثه غير نقي يروي الصحيح و السقيم،و أمره ملتبس،و نقل عنه انه كان واليا عند بني أميّة (1)55-حسان بن مهران.

الجمال مولي بني كاهل من بني اسد روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن ثقة،حديثه اصح من حديث صفوان،و له كتاب (2).

56-الحسن بن ابي العرندس.

الكوفي من كندة،عده الشيخ من اصحاب الصادق(ع)و اخري من اصحاب الكاظم و ظاهره انه إمامي مجهول الحال (3).

57-الحسن بن بشير.

عده الشيخ من اصحاب الامام موسي(ع)و اضاف انه مجهول (4)58-الحسن بن أيوب.

عده الشيخ من أصحاب الامام،الكاظم(ع)و ان له كتابا (5)و الظاهر أنه إمامي لم يوقف له علي مدح (6).

59-الحسن بن الجهم.

ابن بكير بن أعين أبو محمد الشيباني عده الشيخ من أصحاب الامام1.

ص: 239


1- التنقيح:258/1.
2- الخلاصة.
3- التنقيح:267/1.
4- الخلاصة.
5- الفهرست.
6- التنقيح:269/1.

موسي(ع)و وثقه،و قال النجاشي إنه ثقة روي عن أبي الحسن موسي و ولده الرضا،و له كتاب (1).

60-الحسن بن راشد.

مولي بني العباس روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن ضعيف في روايته و عن البرقي إنه كان وزيرا للمهدي و موسي الهادي و هارون (2).

61-الحسن بن صدقة.

المدائني،قال ابن عقدة:روي هو و أخوه مصدق عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و كانا من الثقات (3).

62-الحسن بن عبد اللّه.

كان من أعبد أهل زمانه،و كان يتقيه السلطان لجرأته و تقواه،و كانت هدايته علي يد الامام و قد ذكرنا ذلك في الحلقة الأولي من هذا الكتاب.

63-للحسن بن علي.

ابن يقطين بن موسي مولي بني هاشم،و قيل مولي بني اسد ثقة فقيه متكلم روي عن الامام موسي(ع)و ولده الرضا و له كتاب أسماه«مسائل أبي الحسن موسي» (4).

64-الحسن بن علي.

ابن فضال بن عمرو بن انيس التيمي مولاهم الكوفي،روي عنت.

ص: 240


1- التنقيح:269/1.
2- التنقيح:منهج المقال:ص 98.
3- منهج المقال:ص 100.
4- النجاشي،الخلاصة،الفهرست.

الامام موسي(ع)و الامام علي بن موسي(ع)و إبراهيم بن محمد الاشعري، و محمد بن عبد اللّه بن زرارة و علي بن عقبة و غيرهم،روي عنه الفضل بن شاذان،و بالغ في الثناء عليه بالزهد و العبادة،و كان من المؤلفين له كتاب «الزيارات»و كتاب«البشارات»و كتاب«النوادر»و كتاب«الرد علي الغالية»و كتاب«الناسخ و المنسوخ»و كتاب«التفسير»و كتاب «الابتداء و المبتدأ»توفي سنة 224 ه (1).

65-الحسن بن عمر.

ابن سليمان قال ابن داود إنه من أصحاب الصادق و الكاظم(ع) (2)66-الحسن بن محبوب.

السراد (3)مولي لبجيلة كوفي ثقة عده الشيخ من أصحاب الامام موسي روي عن الامام الرضا(ع)و روي عن ستين رجلا من أصحاب ابي عبد اللّه،و كان جليل القدر يعد من أعلام عصره،الف كتبا كثيرة منها كتاب«الحدود» و كتاب«الديات»،و كتاب«الفرائض»و كتاب«النوادر»يقع في الف ورقة،و كتاب«التفسير» (4).

67-الحسن بن محمد.

ابن سماعة الكندي الصيرفي عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم1.

ص: 241


1- لسان الميزان:225/2.
2- تنقيح المقال:301/1.
3- السراد:الدرع.
4- الفهرست للشيخ الطوسي،الفهرست لابن النديم و تنقيح المقال 304/1.

و قال:إنه واقفي المذهب إلا أنه جيد التصانيف نقي الفقه حسن الانتقاد ألف ثلاثين كتابا منها كتاب«الصلاة»،و كتاب«الصيام»،و منها كتاب«وفاة أبي عبد اللّه الصادق(ع)»و كتاب«الزهد»و كتاب «البشارات»و غيرها،توفي في جمادي الأولي سنة 263 ه و صلي عليه ابراهيم بن محمد العلوي (1).

68-الحسين بن ابراهيم.

ابن موسي عده الشيخ من أصحاب الامام(ع)و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (2).

69-الحسين بن راشد.

مولي لبني العباس بغدادي عده الشيخ من أصحاب الامام و ظاهره كونه إماميا (3).

70-الحسين بن بشار.

المدائني مولي زياد ثقة صحيح الحديث،روي عن الامام الكاظم(ع) و قد رمي بالوقف،و قال الكشي:إنه رجع عن ذلك،و قال بالحق و أنا أعتمد علي ما يرويه بشهادة الشيخين له» (4)،و وثقه الشيخ الطوسي و العلامة (5).ة.

ص: 242


1- الفهرست،التنقيح:307/1.
2- التنقيح:316/1،لسان الميزان 272/2.
3- تنقيح المقال:227/1.
4- جامع الرواة:234/1.
5- الفهرست،و الخلاصة.

71-الحسين بن الجهم.

ابن بكير بن أعين ذكره العلامة في القسم الأول من«الخلاصة» و قال إنه من أصحاب الكاظم و انه ثقة (1).

72-الحسين بن خالد.

الصيرفي من أصحاب الامام الكاظم و الرضا و روي عنهما (2).

73-الحسين بن زيد.

ابن علي بن الحسين،يلقب بذي«الدمعة»كان الامام الصادق(ع) قد تبناه و رباه و زوجه بنت الأرقط،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (3)و قال رواة الأثر إنه نشأ في حجر الامام الصادق منذ قتل أبوه،و أخذ منه علما كثيرا،و كان لا يجالس أحدا و لا يدخل إليه إلا من يثق به،و انما لقب بذي الدمعة لكثرة بكائه،و قد قالت له زوجته:ما أكثر بكاؤك؟! فقال لها:و هل ترك لي السهمان و النار سرورا يمنعني من البكاء،أراد بالسهمين الذين قتل بهما أبوه زيد و أخوه يحيي،و بالنار التي أحرق فيها أبوه زيد.توفي سنة«140 ه»و قيل«135 ه»و عمره ست و سبعون سنة (4).

74-الحسين بن صدقة.

من أصحاب الامام(ع)وثقه جماعة من الأعلام (5).ة.

ص: 243


1- الخلاصة،رجال ابن داود.
2- جامع الرواة،تنقيح المقال.
3- النجاشي ص 41.
4- تنقيح المقال:328/1.
5- الوجيزة،البلغة،الخلاصة.

75-الحسين بن عثمان.

ابن شريك بن عدي العامري الوحيدي الكوفي قال النجاشي:إنه ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب (1).

76-الحسين بن القاسم.

العباسي عده الشيخ من أصحاب الامام،و الظاهر انه إمامي مجهول الحال (2).

77-الحسين بن قياما.

عده الشيخ من أصحاب الامام،و قال إنه واقفي،و كذا قال العلامة و ابن داود،و ذكر الكليني له حديثا مع الامام الرضا(ع)دل علي ذمه و سوء سريرته (3).

78-الحسين بن كيسان.

عده الشيخ من أصحاب الامام و قال إنه واقفي و كذا ذكر العلامة و ابن داود (4).

79-الحسين بن محمد.

ابن الفضل الهاشمي ثقة جليل من شيوخ بني هاشم،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و ألف كتابا أسماه«مجالس الرضا مع أهل1.

ص: 244


1- تنقيح المقال:335/1،الوجيزة و البلغة و الخلاصة.
2- تنقيح المقال:341/1.
3- تنقيح المقال:341/1.
4- تنقيح المقال:341/1.

الأديان» (1)و قال الشيخ المفيد:كان الحسين بن محمد من خاصة الكاظم و ثقاته و من أهل الورع و العلم و الفضل من شيعته (2).

80-الحسين بن المختار.

القلانسي الكوفي واقفي عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم و قال:

له كتاب،و قال ابن عقدة إنه ثقة،و أطري عليه الشيخ المفيد و جعله في طليعة أصحاب الامام الرضا(ع) (3).

81-الحسين بن موسي.

من أصحاب الامام و كان واقفيا (4).

82-الحسين بن مهران.

السكوني روي عن الامام موسي و عن الامام الرضا،و كان من الواقفية و له«مسائل» (5)و قال العلامة:إنه كان ضعيف اليقين له كتاب عن أبي الحسن موسي(ع)لا أعتمد علي روايته (6).

83-الحصين بن مخارق عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و رماه بالوقف،و قالة.

ص: 245


1- تنقيح المقال،نقلا عن النجاشي و قد راجعناه فلم يرد فيه ذلك سوي أنه ألف كتابا كبيرا.
2- الارشاد.
3- تنقيح المقال،النجاشي.
4- الخلاصة،رجال ابن أبي داود.
5- النجاشي.
6- الخلاصة.

ابن الغضائري:إنه ضعيف،و نقل عن ابن عقدة إنه كان يضع الحديث و انه من الزيدية (1).

84-حفص بن البختري.

البغدادي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع) (2).

85-حفص بن سليمان.

عده الشيخ من غير لقب و لا كنية من أصحاب الامام(ع)و ظاهره كونه اماميا مجهول الحال (3).

86-حفص بن سوقة.

العمري مولي عمرو بن حريث المخزومي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)ثقة و له أصل (4).

87-حفص بن غياث.

النخعي الكوفي ولي القضاء ببغداد الشرقية من قبل هارون،ثم تولي قضاء الكوفة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب،توفي بالكوفة سنة 194 ه (5)و قد اختلف في توثيقه و جرحه (6).

88-الحكم بن أعين.1.

ص: 246


1- تنقيح المقال:350/1،
2- النجاشي:ص 103.
3- تنقيح المقام:353/1.
4- جامع الرواة:262/1،الفهرست.
5- النجاشي:ص 103.
6- تنقيح المقال:355/1.

الحناط مولي لقريش روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب (1)89-حماد بن عثمان.

ابن عمرو بن خالد الفزاري الكوفي كان يسكن«عرزم»فنسب إليها ثقة روي عن أبي عبد اللّه و الكاظم و الرضا توفي بالكوفة سنة 190 ه (2)90-حماد بن عثمان.

ابن زياد الرواسي الملقب بالناب ثقة جليل القدر و هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه و الاقرار له بالفقه و له كتاب،روي عن الامام موسي و ولده الرضا توفي سنه 190 ه (3).

91-حماد بن عيسي.

الجهني البصري،قال الكشي:هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه و الاقرار له بالفقه،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و الرضا و كان متحرزا في الحديث و من المؤلفين،له كتاب«النوادر»و كتاب «الصلاة»و كتاب«الزكاة»و قد دخل علي الامام الكاظم(ع)فقال له:

جعلت فداك ادع اللّه لي أن يرزقني دارا و زوجة و خادما،و الحج فدعا الامام له بذلك و اضاف إلي دعائه ان يرزقه خمسين حجة،فرزقه اللّه جميع ذلك و حج خمسين عاما فلما انتهت الخمسون جاء إلي واد ليغتسل منه فجاءها.

ص: 247


1- النجاشي:ص 106.
2- نفس المصدر ص 110.
3- تنقيح المقال:356/1 نقلا عن الفهرست و الخلاصة و التحرير و غيرها.

سيل عارم فغرق فيه و ذلك في سنة 209 ه (1).

92-حمدان بن المعافا.

الصبيحي روي عن الامام موسي و ولده الرضا،روي عنه مسعدة بن صدقة له كتاب«شرائع الايمان»و كتاب«الإهليلجة»توفي سنة 255 ه و قد صادفت وفاته حين دخول اصحاب العلوي قسين فاتحين لها (2).

93-حمزة بن اليسع.

الأشعري القمي،عده الشيخ من اصحاب الامام أبي الحسن موسي (3)94-حميد بن المثني.

العجلي أبو المعز الكوفي،ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب (4).

95-حنان بن سدير.

الصيرفي الكوفي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب في صفة الجنة و النار (5).2.

ص: 248


1- تنقيح المقال:365/1،وردت ترجمته في خلاصة تهذيب الكمال ص 78،و جامع الرواة:273/1.
2- النجاشي:ص 106،جامع الرواة 278/1.
3- التنقيح:377/1.
4- النجاشي:ص 102.
5- نفس المصدر:ص 112.

(خ)-:

96-خالد بن نجيح.

الجوان مولي كوفي،يكني أبا عبد اللّه،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (1)قال الكشي:كان خالد خادما عند أبي الحسن موسي و هو الذي روي عنه في شأن ولده الرضا(ع)انه قال فيه:«عهدي الي ابني علي اكبر ولدي و خيرهم و أفضلهم» (2).

97-خالد بن زياد.

القلانسي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (3).

98-خالد بن سعيد.

القماط عده الشيخ في رجاله في باب الكني من أصحاب الامام الكاظم و وثقه النجاشي و قال:إنه روي عن أبي عبد اللّه الصادق(ع)و له كتاب (4).

99-خالد بن رماد.

القلانسي الكوفي،روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن(ع)مولي ثقة له كتاب (5).

ص: 249


1- النجاشي:ص 115.
2- التنقيح:388/1.
3- جامع الرواة:291/1،ذكره ابن داود في القسم الاول من رجاله.
4- تنقيح المقال:391/1.
5- النجاشي:ص 115.

100-خالد بن يزيد.

ابن جبل كوفي ثقة،روي عن ابي الحسن موسي(ع)و له كتاب رواه يحيي بن زكريا اللؤلؤي (1).

101-خزيمة بن يقطين.

و هو أخو علي بن يقطين،عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام موسي(ع)و ظاهره انه إمامي (2).

102-خلف بن حماد.

ابن ياسر بن المسيب،كوفي ثقة،سمع من الامام موسي(ع)له كتاب يرويه جماعة منهم محمد بن الحسين بن ابي الخطاب (3)و قال ابن الغضائري:إن امره مختلط يعرف حديثه تارة و ينكر اخري و يجوز ان يخرج شاهدا (4).

103-خلف بن حماد:

الكوفي إمامي حسن الحال من أصحاب الامام الكاظم و روي عنه (5)104-خلف بن خلف.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)و قال إنه مجهول و كذا قال العلامة:في«الخلاصة» (6).ر.

ص: 250


1- النجاشي:ص 116.
2- تنقيح المقال:398/1.
3- النجاشي:ص 117،
4- تنقيح المقال:401/1.
5- نفس المصدر.
6- نفس المصدر.

105-خلف بن سلمة.

البصري عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم و الرضا(ع)و ظاهره كونه إماميا،و لم يوقف له علي مدح (1).

(د)-:

106-داود بن أبي يزيد.

الكوفي العطار مولي ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب (2).

107-داود بن أبي الحصين.

الأسدي الكوفي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،قال الشيخ:

إنه واقفي،و كذا قال ابن عقدة:و وثقه النجاشي،و له كتاب (3).

108-داود بن زربي.

الخندقي البندار،وثقه النجاشي،و قال الشيخ المفيد في إرشاده إنه مق خاصة ابي الحسن و ثقاته،و من اهل الورع و العلم و الفقه،و ممن روي النص علي إمامة أبي الحسن الرضا(ع)فقد حمل إلي الامام موسي(ع)مالا فأخذ منه و ترك الباقي فقال له داود:لم لا تأخذ الباقي؟قال(ع)له:

إن صاحب الأمر بعدي يطلبه منك،و لما توفي الامام موسي(ع)طلب الامام الرضا من داود ما تبقي من الأموال،و كانت له خاصية بالرشيد،

ص: 251


1- تنقيح المقال.
2- النجاشي:ص 121.
3- جامع الرواة:302/1.

و له كتاب (1).

109-داود بن سرحان.

العطار الكوفي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و له كتاب (2)110-داود بن سليمان.

عده الشيخ المفيد من خاصة أبي الحسن موسي(ع)و ثقاته و من اهل الورع و العلم و الفقه و ممن روي النص عن الامام موسي علي إمامة ولده الرضا فقد قال له:إني سألت أباك-يعني الامام الصادق(ع)-من الذي يكون بعده؟فأخبرني انك أنت،فلما توفي ابو عبد اللّه ذهب الناس يمينا و شمالا و قلت بك انا و اصحابي،فاخبرني من الذي يكون بعدك؟فقال(ع) له:ابني فلان-يعني الرضا-و ترجمه الشيخ في الفهرست و قال إن له أصلا (3).

111-داود بن علي.

اليعقوبي الهاشمي ثقة،روي عن أبي الحسن موسي و قيل روي عن الرضا(ع)و له كتاب (4).

112-داود بن فرقد.

مولي بني السمال الاسدي كوفي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي و له كتاب (5).5.

ص: 252


1- تنقيح المقال:408/1،جامع الرواة،الفهرست.
2- تنقيح المقال،الخلاصة.
3- تنقيح المقال:410/1 منهج المقال:ص 135 جامع الرواة
4- جامع الرواة:305/1 و ذكره العلامة في القسم الاول من الخلاصة
5- منهج المقال:ص 135.

113-داود بن كثير.

مولي بني اسد روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي و الرضا و له كتاب«الاهليلجة»و قد اختلف في توثيقه فجزم ابن الغضائري في تضعيفه فقال:إنه كان فاسد المذهب ضعيف الرواية لا يلتفت إليه،و وافقه النجاشي علي ذلك و زاد عليه أن الغلاة تروي عنه،و وثقه الشيخان و ابن فضال و الصدوق و ابن طاوس و غيرهم،توفي بعد وفاة الامام الرضا(ع) بقليل (1).

114-داود بن النعمان.

مولي بني هاشم و هو أخو علي بن النعمان روي عن الامام أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (2).

115-درست بن أبي منصور.

الواسطي روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)له كتاب يرويه جماعة منهم سعد بن محمد الطاطري (3)و كان من الواقفية (4).

(ذ)-:

116-ذريح بن محمد.

ابن يزيد أبو الوليد المحاربي عربي من بني محارب من بني خصفة

ص: 253


1- تنقيح المقال:414/1.
2- النجاشي:ص 121.
3- نفس المصدر:ص 124.
4- جامع الرواة:310/1.

روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن،ذكره ابن عقدة و ابن نوح و له كتاب (1)و وثقه الشيخ (2)و العلامة (3)و غيرهما.

(ر):-

117-ربعي بن عبد اللّه.

ابن الجارود بن ابي سبرة الهذلي،أبو نعيم،بصري،ثقة،روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن(ع)و صحب الفضيل بن يسار و اكثر الاخذ عنه و كان خصيصا به (4)و قال الشيخ:له«اصل» (5).

118-رفاعة بن موسي.

الأسدي النحاس روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن(ع)كان ثقة في حديثه،مسكونا إلي روايته لم يتعرض له بشيء من الغمز،حسن الطريقة له كتاب مبوب في«الفرائض» (6)،ذكره العلامة في القسم الأول من«الخلاصة»و ورد توثيقه في الوجيزة،و مشتركات الكاظمي،و الحاوي و غيرها (7).

ص: 254


1- النجاشي:124.
2- الفهرست.
3- الخلاصة.
4- النجاشي:ص 126.
5- الفهرست،قال النجاشي له كتاب.
6- النجاشي:ص 126.
7- تنقيح المقال:433/1.

119-رومي بن زرارة.

ابن أعين الشيباني مولاهم كوفي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن ثقة قليل الحديث (1)و له كتاب رواه ابن عياش و ورد توثيقه في الوجيزة و البلغة و الحاوي (2).

120-رهم الأنصاري.

من أصحاب الامام(ع)كما ذكره الشيخ عناية اللّه (3)وعده في الحاوي من قسم الضعفاء.

(ز):-

121-زرعة بن محمد.

الحضرمي،ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و كان قد صحب سماعة و اكثر عنه له كتاب يرويه جماعة (4)و قال الشيخ:إنه واقفي المذهب (5).

122-زكريا بن إدريس.

القمي،روي عن ابي عبد اللّه،و أبي الحسن،و الرضا عليهم السلام

ص: 255


1- جامع الرواة:322/1.
2- تنقيح المقال:435/1.
3- ترتيب الاختيار.
4- النجاشي:ص 133.
5- الفهرست.

و كان وجيها عند الامام الرضا و له كتاب (1).

123-زكريا بن عبد الصمد.

القمي يكني ابا جرير،ثقة من اصحاب الامام الكاظم و الرضا (2)124-زكريا بن عبد اللّه.

الفياض ابو يحيي،روي عن ابي عبد اللّه،و ابي الحسن،و قال ابن نوح:روي عن ابي جعفر،و له كتاب يرويه جماعة عنه (3).

125-زكريا بن عمران.

روي عن ابي الحسن موسي(ع)في باب«الوقت»و ذكرت روايته في الاستبصار (4).

126-زكريا بن محمد.

أبو عبد اللّه المؤمن روي عن ابي عبد اللّه و ابي الحسن موسي(ع) و لقي الرضا في المسجد الحرام،و حكي عنه ما يدل علي انه من الواقفة و كان مختلطا في حديثه،له كتاب«منتحل الحديث» (5)و ورد ضعفه في الوجيزة و«الحاوي»و ذكره ابن النديم في(الفهرست)من فقهاء الشيعة.

127-زياد بن ابي سلمة.0.

ص: 256


1- جامع الرواة:332/1.
2- نفس المصدر و ورد توثيقه في الوجيزة،و البلغة.
3- تنقيح المقال:450/1.
4- جامع الرواة:333/1.
5- النجاشي:ص 130.

كان واليا عند الحكومة العباسية فدخل علي الامام موسي(ع)فالتفت إليه الامام قائلا:

-إنك لتعمل عمل السلطان.

-أجل،أنا رجل ذو مروة،و علي عيال و ليس وراء ظهري شيء.

-يا زياد،لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولي لأحد منهم عملا أو أطأ بساط أحدهم،إلا لتفريج كربة مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه،يا زياد،إن أهون ما يصنع بهم اللّه جل و عز أن يضرب عليهم سرادقا من النار إلي أن يفرغ اللّه من حساب الخلق، يا زياد،فان وليت شيئا من أعمالهم فاحسن الي إخوانك فواحدة بواحدة و اللّه من وراء ذلك،يا زياد،أيما رجل تولي لأحد منهم عملا ثم ساوي بينكم و بينهم فقولوا له:أنت منتحل كذاب،يا زياد،إذا ذكرت مقدرتك علي الناس فاذكر مقدرة اللّه جل و عز عليك غدا،و نفاذ ما أتيت به إليهم عنهم و بقاء ما أتيت إليهم عليك»قالوا:يستفاد من هذا الخبر كونه مؤمنا ممدوحا (1).

128-زياد بن الحسن.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي و ظاهره كونه إماميا (2)129-زياد بن سليمان.

البلخي عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (3).ة.

ص: 257


1- تنقيح المقال:453/1 نقلا عن أصول الكافي.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر و جامع الرواة.

130-زياد بن مروان.

القندي الأنباري،أبو الفضل،مولي لبني هاشم روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)و وقف علي الرضا،و له كتاب،وعده الشيخ المفيد في «ارشاده»من أهل الورع و العلم و الفقه و أحد رواة النص علي إمامة علي ابن موسي الرضا(ع)،و قيل إن السبب في رمايته بالوقف إنه كانت عنده سبعون ألف دينار مودعة للامام موسي(ع)فلما توفي الامام جحدها و قال بالوقف (1).

131-زياد بن الهيثم.

الوشاء،عده الشيخ من رجال الامام الكاظم و ظاهره كونه إماميا (2)132-زيد بن موسي.

الجعفي الكوفي من رجال الامام الكاظم(ع)و هو واقفي (3).

133-زيد النرسي.

روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليه السلام،له كتاب يرويه جماعة (4).

134-زيد بن يونس.

و قيل ابن موسي،أبو اسامة الشحام،مولي شديد بن عبد الرحمن ابن نعيم الأزدي الغامدي،كوفي روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)2.

ص: 258


1- جامع الرواة،تنقيح المقال،منهج المقال.
2- تنقيح المقال:460/1.
3- الخلاصة.
4- النجاشي:ص 132.

له كتاب يرويه عنه جماعة (1).

(س)-:

135-سالم بن مكرم.

ابن عبد اللّه،أبو خديجة،و يقال أبو سلمة الكناسي مولي بني أسد يقال أن الامام الصادق(ع)كناه بأبي سلمة و إنه ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب رواه جماعة،قال الشيخ الطوسي:انه ضعيف جدا و قيل انه كان من أصحاب أبي الخطاب و تاب بعد ذلك (2).

136-سعد بن أبي خلف.

يعرف بالزام مولي بني زهرة بن كلاب كوفي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب يرويه جماعة منهم ابن أبي عمير (3)عده ابن داود في القسم الأول من رجاله و ورد توثيقه في«الوجيزة»و«البلغة» و«الحاوي».

137-سعد بن أبي عمران.

الأنصاري واقفي من أصحاب الامام موسي عليه السلام (4)،و هو ضعيف (5).

ص: 259


1- النجاشي،جامع الرواة.
2- جامع الرواة 349/1،الفهرست،الخلاصة.
3- النجاشي:ص 135.
4- الخلاصة.
5- الوجيزة،و الحاوي.

138-سعد بن خلف.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)و قال:إنه واقفي، و ذكره العلامة في القسم الثاني من«الخلاصة» (1).

139-سعد بن سعيد.

البلخي عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام،و ظاهره أنه إمامي (2).

140-سعد بن عمران.

القمي عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام و ظاهره أنه إمامي (3)141-سعدان بن مسلم.

قيل ان اسمه عبد الرحمن بن مسلم،أبو الحسن العامري مولي أبي العلا،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و عمر عمرا طويلا،و له كتاب (4).

142-سعيد بن أبي الجهم.

القابوسي اللخمي (5)الكوفي ثقة في حديثه وجها بالكوفة،و آل أبي الجهم بيت كبير بالكوفة،روي عن أبان بن تغلب فأكثر عنه،و روي عنث.

ص: 260


1- تنقيح المقال 14/2.
2- نفس المصدر 14/2.
3- نفس المصدر.
4- النجاشي:ص 146.
5- القابوسي:نسبة الي قابوس بن النعمان بن المنذر ملك العرب، اللخمي:نسبة الي أبي حي باليمن اسمه لخم بن عدي بن الحرث.

أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب في أنواع من الفقه و القضايا و السنن (1)143-سعيد بن جناح.

كوفي الأصل نشأ في بغداد و مات بها،مولي للأزد،و يقال مولي جهينة،و أخوه أبو عامر،روي عن أبي الحسن و الرضا (2)له كتاب «في صفة الجنة و النار»و كتاب«قبض روح المؤمن و الكافر»عده ابن داود في القسم الأول،و وثقه في الوجيزة و البلغة (3).

144-سعيد بن يسار.

الضبعي مولي بني ضبعة بن عجل،كوفي روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن ثقة له كتاب يرويه عدة من أصحابنا منهم محمد بن أبي حمرة (4)145-سلمة بن حنان.

و قيل ابن حيان كما عن الشهيد الثاني كان من الواقفية،ذكره العلامة في القسم الثاني من«الخلاصة»و قال:هو غير موثوق برواياته و لا يعتمد عليها (5).

146-سلمة بن محمد.

كوفي روي عن أبي الحسن له كتاب (6)ذكره الفاضل المجلسي في الوجيزة و البحراني في البلغة.2.

ص: 261


1- النجاشي:ص 136،الخلاصة.
2- جامع الرواة:359/1.
3- تنقيح المقال:26/2.
4- النجاشي:ص 137.
5- التنقيح:49/2.
6- النجاشي:ص 142.

147-سليم الفراء.

كوفي روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)ثقة له كتاب يرويه جماعة منهم محمد بن أبي عمير (1).

148-سليم مولي علي بن يقطين.

روي عن الامام موسي،و روي عنه ابن عمير (2).

149-سليمان بن أبي زيد.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (3).

150-سليمان بن أبي زينة.

روي عن أبي الحسن موسي عليه السلام،و روي عنه صفوان بن يحيي (4).

151-سليمان بن خالد.

الخطاب عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)،و ظاهره إنه إمامي مجهول الحال (5).

152-سليمان بن ربعي.2.

ص: 262


1- النجاشي:ص 146
2- جامع الرواة:375/1
3- تنقيح المقال:55/2
4- جامع الرواة:375/1
5- تنقيح المقال:55/2.

ابن عبد اللّه الهمداني عده الشيخ من أصحاب الامام(ع) (1).

153-سليمان المؤمن.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)و لم يتعرض له بمدح أو قدح (2).

154-سماعة بن مهران.

ابن عبد الرحمن الحضرمي مولي عبد بن وايل بن حجر الحضرمي يكني أبا ناشرة و قيل أبا محمد،كان يتجر في القز و يخرج به إلي حران،نزل في الكوفة في محلة كندة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)و له بالكوفة مسجد،و له كتاب يرويه عنه جماعة،توفي بالمدينة (3).

155-سنان بن طريف.

الثوري،عده الشيخ من أصحاب الامام(ع)و روي عنه أبو حنيفة سائق الحجاج (4).

156-سندي بن الربيع.

البغدادي،روي عن أبي الحسن موسي(ع)له كتاب يرويه صفوان ابن يحيي و غيره (5).

157-سهل بن اليسع.1.

ص: 263


1- التنقيح:55/2.
2- نفس المصدر.
3- النجاشي:ص 146.
4- التنقيح:70/2.
5- النجاشي:ص 141.

ابن عبد اللّه بن سعد الأشعري قمي ثقة،روي عن الامام موسي و الرضا(ع)و له كتاب (1).

158-سيابة بن ناجية.

المدني،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)و قال:له كتاب و الظاهر كونه إماميا مجهول الحال (2).

159-سيف بن عميرة.

النخعي عربي كوفي ثقة،روي عن أبي عبد اللّه(ع)و أبي الحسن(ع) له كتاب ترويه جماعات من أصحابنا (3)و قال الشهيد:و ربما ضعف سيف و الصحيح أنه ثقة (4)وعده ابن النديم من فقهاء الشيعة (5).

(ش)-:

160-شعيب بن يعقوب.

العقرقوفي ابن أخت أبي بصير يحيي بن القاسم،روي عن أبي عبد اللّه

ص: 264


1- النجاشي:ص 141،ذكره العلامة في القسم الأول من الخلاصة و ورد توثيقه في الوجيزة و الحاوي و البلغة.
2- التنقيح:78/2.
3- النجاشي:ص 143.
4- شرح الارشاد.
5- الفهرست.

و أبي الحسن ثقة له كتاب يرويه حماد بن عيسي و غيره (1)و دخل يعقوب علي الامام موسي(ع)فلما تشرف بالمثول بين يديه قال له:«يا يعقوب قدمت أمس و وقع بينك و بين أخيك شر،في موضع كذا و كذا حتي شتم بعضكم بعضا.و ليس هذا ديني و لا دين آبائي،و لا نأمر بهذا أحدا من الناس،فاتق اللّه وحده لا شريك له فانكما ستفترقان بموت أما ان أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلي اهله و ستندم أنت علي ما كان منك، و ذلك انكما تقاطعتما فبتر اللّه اعماركما، (2)و ورد توثيقه في الوجيزة و البلغة و الحاوي.

(ص)-:

161-صالح بن خالد.

المحاملي،أبو شعيب الكناسي،مولي علي بن الحكم بن الزبير،روي عن الامام الكاظم(ع)له كتاب يرويه جماعة منهم عباس بن معروف (3)وثقه الشيخ في رجاله في باب الكني كما ورد توثيقه في الوجيزة و البلغة.

162-صالح بن سعيد.

الأحول،عده الشيخ من أصحاب الامام موسي،و أضاف أنه مجهول الحال (4).

ص: 265


1- النجاشي:ص 147.
2- الكشي:ص 277.
3- النجاشي:ص 151.
4- تنقيح المقال:92/2

163-صباح بن موسي.

الساباطي ثقة روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع) (1).

164-صفوان بن مهران.

ابن المغيرة الأسدي الكوفي ثقة،له كتاب،روي عن أبي عبد اللّه(ع) (2)دخل علي الامام موسي(ع)فقال له:يا صفوان،كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا.

-جعلت فداك،أي شيء هو؟ -اكراؤك جمالك من هذا الرجل-يعني هارون الرشيد- -و اللّه ما أكريته أشرا،و لا بطرا،و لا للصيد،و لا للهو،و لكن أكريته لهذا الطريق-يعني طريق مكة-و لا أتولاه بنفسي و لكن أبعث معه غلماني.

-يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ -نعم جعلت فداك.

-أ تحبّ بقاءهم حتي يخرج كراك؟ -نعم.

-فمن أحب بقاءهم فهو منهم،و من كان منهم كان واردا للنار و قام صفوان بالوقت فباع جماله و أعرض عن مهنته فبلغ ذلك هارون فأرسل خلفه،فلما مثل عنده قال له و هو يتميز من الغيظ:

-يا صفوان،بلغني أنك بعت جمالك.6.

ص: 266


1- تنقيح المقال 92/2.
2- النجاشي:ص 146.

-نعم.

-و لم؟ -أنا شيخ كبير،و إن الغلمان لا يفون بالأعمال.

-هيهات هيهات!!إني لأعلم من أشار عليك بهذا،أشار عليك موسي بن جعفر.

-مالي و لموسي بن جعفر -دع عنك هذا،فو اللّه لو لا حسن صحبتك لقتلتك (1)و دل هذا الحديث علي حسن ايمانه و عقيدته،و قد ورد توثيقه في«الوجيزة» و«البلغة».

165-صفوان بن يحيي.

أبو محمد البجلي بياع السابري،كوفي ثقة،قال الشيخ الطوسي:إنه اوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث و غيرهم،و كان يصلي في كل يوم مائة و خمسين ركعة،و يصوم في السنة ثلاثة أشهر،و يخرج زكاة ماله في كل سنة ثلاث مرات،و السبب في ذلك أنه تعاقد هو و عبد اللّه بن جندب و علي بن النعمان في بيت اللّه الحرام انه إن مات واحد منهم أن يقوم من بقي منهم بالصلاة و الزكاة و الحج عنهم فمات صاحباه و بقي صفوان فوفي لهما بذلك،فكان جميع ما يفعله من البر و الخير يجعله ثلاثة أقسام قسم له و قسمان لصاحبيه،و كان من الزهاد المتعبدين المحتاطين،فقد كلفه شخص و هو مسافر أن يحمل معه دينارين إلي أهله في الكوفة،فقال له:إن جمالي مكرية فلا بد أن أستأذن الأجراء.

و يكفي للتدليل علي وثاقته أنه كانت له منزلة عند الامام الرضا(ع)6.

ص: 267


1- الكشي:276.

و كان وكيلا له.

ألف ثلاثين كتابا منها كتاب«الصلاة»كتاب«الصوم»كتاب «الحج»كتاب«الزكاة»كتاب«الطلاق»كتاب«الفرائض»كتاب «الشراء و البيع»كتاب«العتق و التدبير»كتاب«البشارات»«مسائل عن أبي الحسن موسي»و غير ذلك،توفي سنة 210 ه بالمدينة،و بعث إليه أبو جعفر بحنوطه و كفنه،و أمر إسماعيل بن موسي بالصلاة عليه (1).

166-صندل بن محمد.

ابن الحسن الأنباري الخياط عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي(ع) (2).

(ض)-:

167-الضحاك الحضرمي.

أبو مالك،كوفي عربي،أدرك أبا عبد اللّه(ع)و قال قوم:إنه روي عنه و قال آخرون:إنه روي عنه و عن أبي الحسن موسي(ع)و كان متكلما ثقة في الحديث،له كتاب في الحديث،رواه علي بن الحسن الطاطري (3).

ص: 268


1- النجاشي،الكشي،منهج المقال،الفهرست.
2- تنقيح المقال:102/2.
3- النجاشي:ص 45،الخلاصة.

(ط)-:

(ظ)-:

(ع)-:

168-عاصم بن الحسن.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:إنه مجهول (1).

169-عباس بن عامر.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)،و الظاهر كونه إماميا مجهول الحال (2).

170-عبد الحميد بن سالم.

العطار الكوفي ثقة،روي عن الامام موسي(ع) (3).

171-عبد الحميد بن سعيد.

عده الشيخ من أصحاب الامام موسي(ع)و روي عنه صفوان ابن يحيي (4).

ص: 269


1- تنقيح المقال:112/2.
2- نفس المصدر:126/2.
3- الخلاصة القسم الأول.
4- تنقيح المقال:136/2.

172-عبد الحميد بن عواص.

الطائي الكسائي،عده الشيخ من أصحاب الامام موسي،و قال:إنه ثقة (1).

173-عبد الرحمن بن الحجاج.

البجلي،مولاهم كوفي بياع السابري،سكن بغداد،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،اعتنق مذهب الكيسانية،و رجع بعد ذلك إلي الحق،و أقر بالأئمة(ع)له كتب يرويها عنه جماعات من أصحابنا (2).

و كان أبو عبد اللّه(ع)يقول له:يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة فاني أحب أن يري في رجال الشيعة مثلك،توفي في حياة الامام الرضا(ع) (3).

174-عبد الرحمن بن يحيي.

العقيلي،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)،و الظاهر أنه إمامي مجهول الحال (4).

175-عبد الكريم بن عتبة.

القرشي،الهاشمي،اللهبي،من أصحاب الامام الكاظم،روي عن أبي عبد اللّه(ع)و هو ثقة (5).

176-عبد الكريم بن عمرو.ة.

ص: 270


1- التنقيح.و ذكره العلامة في الخلاصة في القسم الأول.
2- النجاشي:ص 178.
3- جامع الرواة 447/1.
4- التنقيح:138/2،.
5- جامع الرواة:463/2،ورد توثيقه في الوجيزة و البلغة.

ابن صالح الخثعمي،مولاهم،كوفي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)و كان واقفيا،و هو ثقة عين،يلقب(كرام)له كتاب يرويه عده من أصحابنا (1)و لكن الشيخ قال:إنه واقفي خبيث،و قال ابن الغضائري:إن الواقفة تدعيه و الغلاة تروي عنه كثيرا،و الذي أراه التوقف فيما يرويه (2).

177-عبد اللّه بن جبلة.

ابن حنان بن الحر الكناني عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم (3)قال النجاشي:كان واقفا و كان فقيها ثقة مشهورا،له كتب منها كتاب(الرجال)و كتاب(الصفة في الغيبة علي مذهب الواقفة) كتاب(الصلاة)كتاب(الزكاة)كتاب«الفطرة»كتاب«الطلاق»كتاب (النوادر)اخبر بجميعها الحسين بن عبد اللّه،توفي سنة 209 ه (4).

178-عبد اللّه بن الحارث.

المخزومي،أمه من ولد جعفر بن أبي طالب،و قد وثقه الشيخ المفيد في«الارشاد»وعده من خاصة الامام الكاظم(ع)و ثقاته و من أهل الورع و العلم و الفقه (5).

179-عبد اللّه بن حماد.2.

ص: 271


1- النجاشي:ص 185
2- تنقيح المقال.
3- نفس المصدر.
4- النجاشي:ص 160.
5- تنقيح المقال:176/2.

الأنصاري،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:

له كتاب (1).

180-عبد اللّه بن جندب.

البجلي،عربي كوفي من أصحاب الامام الكاظم و الرضا(ع)قال الشيخ الطوسي:كان وكيلا للامام موسي و ولده الرضا و كان عابدا رفيع المنزلة (2)و روي الكشي في حقه أنه قال للامام أبي الحسن أ لست عني راضيا؟قال:اي و اللّه،و رسول اللّه و اللّه عنك راض،و عن الحسن ابن علي بن يقطين،قال:قيل لأبي الحسن إن يونس مولي آل يقطين يزعم أن مولاكم و المتمسك بطاعتكم عبد اللّه بن جندب يعبد اللّه علي سبعين حرفا،و يقول:إنه شاك،فقال:(ع):هو و اللّه أولي بأن يعبد اللّه علي حرف،ماله و لعبد اللّه بن جندب،إن عبد اللّه لمن المخبتين (3)و عن علي بن ابراهيم عن أبيه،قال:رأيت عبد اللّه بن جندب بالموقف- أي موقف عرفة-فلم أر موقفا كان أحسن من موقفه،ما زال مادا يده الي السماء،و دموعه تسيل علي خديه حتي تبلغ الأرض فلما انصرف الناس، قلت له:يا أبا محمد ما رأيت موقفا قط أحسن من موقفك!!قال لي:

و اللّه ما دعوت فيه إلا لاخواني،و ذلك لأن أبا الحسن موسي(ع)أخبرني أنه من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب نودي من العرش و لك بكل واحدة مائة ألف و كرهت أن أدع مائة الف لواحدة لا أدري تستجاب أم لا؟ (4)1.

ص: 272


1- التنقيح.
2- جامع الرواة 479/1.
3- الكشي:361-362.
4- الروضة:162/1.

و قد وثق الرجل في الوجيزة و الحاوي و مشتركات الطريحي و قد أجمع المترجمون له أنه لم يغمز بوجه و انه ثقة بلا خلاف (1).

181-عبد اللّه بن خداش.

المهري (2)قال النجاشي:إنه ضعيف جدا و في مذهبه ارتفاع،له كتاب أخبرنا به ابن شاذان (3)و قال الكشي:قال محمد بن مسعود:

حدثني يوسف بن السخت قال:سمعت أبا خداش يقول:ما صافحت ذميا قط،و لا دخلت بيت ذمي،و لا شربت دواء قط،و لا افتصدت و لا تركت غسل الجمعة قط،و لا دخلت علي وال قط،و لا دخل عليّ قاض قط (4).

182-عبد اللّه بن سنان.

ابن طريف مولي بني هاشم،قيل مولي لبني أبي طالب.و قيل مولي لبني العباس كان خازنا للمنصور و المهدي و الهادي و الرشيد،كوفي،ثقة من أصحابنا جليل لا يطعن عليه في شيء،روي عن الامام الصادق(ع) (5)وعده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:له كتاب«يوم و ليلة» (6).ت.

ص: 273


1- تنقيح المقال:175/2.
2- المهري:نسبة الي مهر و هي محلة بالبصرة.
3- النجاشي:ص 169.
4- الكشي:ص 280.
5- جامع الرواة:487/1.
6- الفهرست.

183-عبد اللّه بن صالح.

الخثعمي،روي عن الامام الصادق و ولده موسي(ع)و عن علي بن حمزة قال:أرسلني أبو الحسن موسي إلي عبد اللّه بن صالح و أعطاني ثمانية عشر درهما و قال قل له:يقول لك أبو الحسن:انتفع بهذه الدراهم فانها تكفيك حتي تموت،و ساق حديثا طويلا،إلي أن قال فلما توفي عبد اللّه بعت داره و حملت الثمن إلي أبي الحسن و أخبرته بما أوصاني به فقال(ع):

«رحمه اللّه قد كان من شيعتنا»و ترحم الامام يدل علي توثيقه (1).

184-عبد اللّه بن عثمان.

الخياط،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:إنه واقفي،و كذا ذكره العلامة في الخلاصة» (2).

185-عبد اللّه بن غالب.

الاسدي،الشاعر،الفقيه،روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)ثقه له كتاب (3).

186-عبد اللّه بن القاسم.

الحضرمي المعروف بالبطل،كذاب غال،يروي عن الغلاة،لا خير فيه و لا يعتمد علي روايته،له كتاب يرويه عنه جماعة (4).7.

ص: 274


1- تنقيح المقال 188/2،جامع الرواة:492/1.
2- تنقيح المقال:197/2.
3- النجاشي:ص 165،الخلاصة القسم الأول.
4- النجاشي:ص 167.

187-عبد اللّه القصير.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:إنه واقفي (1).

188-عبد اللّه بن محمد.

الأهوازي،ذكر بعضهم أنه رأي له مسائل عن الامام موسي عليه السلام (2).

189-عبد اللّه بن محمد.

الشعيري اليماني،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (3).

190-عبد اللّه بن مرحوم.

الأزدي،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع) و ذكر الصدوق في«العيون»عن عبد اللّه بن مرحوم،قال:خرجت من البصرة أريد المدينة،فلما صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم(ع) و كان في طريقه الي الاعتقال في البصرة،فأرسل(ع)نحوي فلما مثلت عنده،دفع إلي كتبا و أمرني أن أوصلها الي المدينة فقلت له:إلي من أدفعها جعلت فداك فقال الي ابني علي فانه وصي و القائم بأمري (4).

191-عبد اللّه بن مسكان.ر.

ص: 275


1- تنقيح المقال:23/2.
2- النجاشي:ص:168.
3- تنقيح المقال:213/2.
4- نفس المصدر.

أبو محمد،مولي عنزة،ثقة،عين،روي عن أبي الحسن(ع) و قيل إنه روي عن أبي عبد اللّه،له كتب،منها كتاب في«الامامة» و كتاب في«الحلال و الحرام» (1)و قال الكشي:هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنهم و تصديقهم لما يقولون:و أقروا لهم بالفقه، توفي في أيام أبي الحسن موسي(ع) (2).

192-عبد اللّه بن المغيرة.

قال النجاشي:هو أبو محمد البجلي مولي جندب بن عبد اللّه بن سفين العلقي كوفي ثقة لا يعدل به احد لجلالته و دينه و ورعه،روي عن أبي الحسن موسي،قيل إنه صنف ثلاثين كتابا،و الذي رأيت أصحابنا يعرفون منها كتاب«الوضوء»و كتاب«الصلاة»،و قد روي هذه الكتب كثير من أصحابنا (3)و قال الكشي:قال عبد اللّه بن المغيرة:كنت واقفا فحججت علي تلك الحالة فلما صرت بمكة خلج في صدري شيء فتعلقت بالملتزم،فقلت:اللهم قد علمت طلبتي و ارادتي فارشدني الي خير الأديان فوقع في نفسي أن آتي الرضا(ع)فأتيت المدينة و وقفت علي باب الرضا، و قلت للغلام،قل لمولاك رجل من أهل العراق بالباب فسمعت نداء الامام الرضا و هو يقول:ادخل يا عبد اللّه بن المغيرة،فدخلت فلما نظر إلي قال:قد أجاب اللّه دعوتك و هداك لدينه،فقلت:اشهد انك حجة اللّه و أمينه علي خلقه (4).2.

ص: 276


1- النجاشي:ص 158.
2- جامع الرواة:507/1.
3- النجاشي:ص 159.
4- تنقيح المقال 218/2.

193-عبد اللّه النجاشي.

من اصحاب الامام موسي(ع)واقفي (1).

194-عبد اللّه بن يحيي.

قال النجاشي:هو أبو محمد الكاهلي،عربي،أخو إسحاق،رويا عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)و كان عبد اللّه وجها عند ابي الحسن و وصي به علي بن يقطين فقال له:اضمن لي الكاهلي و عياله أضمن لك الجنة،و قال محمد بن عقدة:الناسب عبد اللّه بن يحيي الذي يقال له الكاهلي:هو تميمي النسب،و له كتاب يرويه جماعة منهم أحمد بن محمد بن نصر (2)و قال الكشي:دخل عبد اللّه الكاهلي علي أبي الحسن موسي(ع)فقال له الامام اعمل خيرا في سنتك هذه فان أجلك قد دنا،فأخذ عبد اللّه يبكي فقال له الامام:

-ما يبكيك؟ -جعلت فداك،نعيت الي نفسي!! -أبشر فانك من شيعتنا.

و توفي عبد اللّه بعد ذلك بيسير (3).

195-عبد الملك بن حكيم.

الخثعمي،كوفي،ثقة،عين،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)0.

ص: 277


1- جامع الرواة:514/1،و ذكر أنه وجد في رجال الشيخ ان اسم أبيه النخاس.
2- النجاشي:ص 164.
3- الكشي:280.

له كتاب يرويه جماعة (1).

196-عبد الملك بن عتبة.

الصيرفي،كوفي،ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)له الكتاب المنسوب الي عبد الملك بن عتبة الهاشمي اللهبي (2).

197-عبيد بن يقطين.

من أصحاب الامام موسي(ع) (3).

198-عثمان بن عيسي.

أبو عمرو العامري الكلابي من ولد عبيد بن رواس،كان شيخ الواقفة و وجهها و أحد الوكلاء المستبدين بمال الامام موسي بن جعفر(ع) روي عن أبي الحسن موسي(ع) (4)و ذكر نصر بن الصباح ان عثمان بن عيسي كان واقفا و كان وكيلا لأبي الحسن موسي،و كان في يده مال للامام الرضا(ع)فأنكره فسخط عليه الامام ثم تاب و بعث بالمال إليه (5)صنف كتبا منها كتاب«المياه»و كتاب«القضايا و الأحكام»و كتاب«الوصايا» و كتاب«الصلاة» (6).1.

ص: 278


1- النجاشي:ص:179.
2- جامع الرواة:520/1.
3- نفس المصدر.
4- النجاشي:ص 230.
5- الكشي:ص:368.
6- النجاشي:ص 231.

199-علي بن أبي حمزة (1).

مولي للانصار كوفي كان قائدا لأبي بصير يحيي بن القاسم،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)كان من عيون الواقفية و من دعائمها قال فيه ابن الغضائري:إنه أصل الوقف و أشد الخلق عداوة للمولي-يعني الامام الرضا(ع)-و قال علي بن الحسن بن فضال:«علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون»و قد وردت أخبار كثيرة في ذمه،روي محمد بن أبيض قال:وقف أبو الحسن الرضا(ع)في بني زريق (2)فقال لي:

-يا أحمد.

-لبيك.

-إنه لما قبض رسول اللّه(ص)جهد الناس في إطفاء نور اللّه فأبي اللّه إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين(ع)و لما توفي أبو الحسن موسي(ع) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور اللّه،فأبي اللّه إلا أن يتم نوره،و ان أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سروا به،و إذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه و ذلك لأنهم علي يقين من أمرهم،و ان أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا به،و إذا خرج منهم خارج جزعوا عليه و ذلك لأنهم علي شك من أمرهم،إن اللّه جل جلاله يقول:«فمستقر و مستودع» ثم قال:قال أبو عبد اللّه:المستقر الثابت،و المستودع المعار»و تواترت الاخبار في ذمه و قدحه،و كان السبب في وقفه انه كانت بيده ثلاثون الف دينار للامام موسي(ع)فلما توفي الامام أخذها و لم يدفعها الي ولي عهده،صنف كتبا منها كتاب«الصلاة»و كتاب«الزكاة»و كتاب «التفسير»و غيرها،توفي في حياة الامام الرضا(ع)و لما أخبر الامامة.

ص: 279


1- أبو حمزة اسمه سالم البطائني.
2- بنو زريق:طائفة من الأنصار تقطن بالمدينة.

بهلاكه قال:«قد دخل النار» (1).

200-علي بن جعفر.

أخو الامام موسي(ع)ثقة جليل من عيون الهاشميين و من خيارهم، و في طليعة الرواة الثقات،روي عن أبيه و بعد وفاته اختص بأخيه موسي،و روي عنه الشيء الكثير،و قد أفرد المجلسي في بحاره فصلا لرواياته عنه،و قد الف رسالة في الأحاديث التي رواها عن أخيه موسي،و كان قوي الايمان صلب العقيدة،دخل عليه بعض الواقفية فقال له:ما فعل أخوك أبو الحسن؟ -قد مات.

-و ما يدريك بذلك؟ -قسمت أمواله،و نطق الناطق من بعده.

-و من الناطق؟ -ابنه علي.

فالتفت إليه الواقفي و هو يحاول العبث به و الاغراء قائلا له:

-أنت في سنك،و قدرك،و أبوك جعفر بن محمد تقول هذا القول في هذا الغلام!! و لم يخف عليه هذا الخداع فرمقه بطرفه و قال له:

-ما أراك إلا شيطانا،ثم أخذ بلحيته فرفعها إلي السماء و قال:

-ما حيلتي ان كان اللّه رآه أهلا لهذا،و لم ير هذه الشيبة أهلا» (2)9.

ص: 280


1- تجد ترجمته في النجاشي،و الكشي.و منهج المقال،و جامع الرواة و غيرها.
2- الكشي:ص 269.

و دلت هذه البادرة علي مدي إيمانه و عقيدته،الف كتابا في الحلال و الحرام (1)،روي عنه جماعة منهم ابنه احمد و محمد و حفيده عبد اللّه بن الحسن،توفي سنة 210 ه (2).

201-علي بن الحسن.

الطاطري (3)يكني أبا الحسن و كان فقيها ثقة في حديثه،و من وجوه الواقفة و شيوخهم له كتب منها«التوحيد»،«الامامة»،«الوفاة» «الصلاة»،«المتعة»،«الفرائض»،«الغيبة»،«المعرفة» «النكاح»،«الطلاق»،«الحج»،«الولاية»،«الحيض»،«النفاس» (4)قال الشيخ في ترجمته:كان شديد العناد في مذهبه،صعب العصبية علي من خالفه من الامامية،و له كتب كثيرة في نصرة مذهبه (5).

202-علي بن حديد.

ابن حكيم المدائني الأزدي الساباطي،روي عن الامام أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (6).0.

ص: 281


1- النجاشي:ص 190.
2- تهذيب التهذيب:(ج 7 ص 293).
3- الطاطري:نسبة إلي بيع الثياب الطاطرية المنسوبة إلي طاطري، قال الحموي في معجم البلدان:إن كل من يبيع الكرابيس و الثياب البيض يسمي بمصر و دمشق طاطريا.
4- النجاشي:ص 193.
5- الفهرست.
6- النجاشي:210.

203-علي بن حمزة.

ابن الحسن بن عبيد اللّه بن العباس بن أمير المؤمنين(ع)و هو والد سيدنا حمزة المدفون بقرب الحلة الذي يزار و يتبرك بقبره،و هو ثقة روي و اكثر الرواية،له نسخة يرويها عن الامام موسي(ع) (1).

204-علي بن الخطاب.

الحلال،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي(ع)و أضاف أنه واقفي (2).

205-علي بن رباب.

مولي جرم بطن من قضاعة،و قيل مولي بني سعد بن بكر،الطحان كوفي،روي عن أبي عبد اللّه ذكره أبو العباس و غيره،و روي عن أبي الحسن(ع)له كتب منها كتاب«الوصية و الامامة»و كتاب«الديات» (3)قال الشيخ:إنه ثقة جليل القدر له اصل كبير (4).

206-علي بن سعيد.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:إله واقفي (5).

207-علي بن سويد.2.

ص: 282


1- التنقيح.
2- نفس المصدر:288/2.
3- النجاشي:ص 189.
4- الفهرست.
5- تنقيح المقال:291/2.

التمار عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام موسي،و الظاهر انه إمامي (1).

208-علي بن سويد.

السائي (2)روي عن أبي الحسن موسي(ع)و قيل انه روي عن أبي عبد اللّه،و روي رسالة لأبي الحسن موسي(ع) (3)و سنذكر نصها عند التحدث عن أحوال الامام في سجنه و ورد توثيقه في الوجيزة و الحاوي و البلغة.

209-علي بن عبد الحميد.

الظبي عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام الكاظم(ع)و الظاهر انه إمامي مجهول الحال (4).

210-علي بن عبيد اللّه.

ابن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)قال فيه النجاشي إنه أزهد آل أبي طالب و أعيدهم في زمانه اختص بالامام موسي(ع) و الامام الرضا(ع)،و قال:إن له كتابا في الحج يرويه كله عن الامام موسي(ع) (5).4.

ص: 283


1- تنقيح المقال:291/2.
2- السائي:نسبة إلي ساية من قري المدينة المنورة،و قيل انها قرية بمكة و قيل داد بين الحرمين.
3- النجاشي ص 211.
4- تنقيح المقال:294/2.
5- النجاشي:ص 194.

211-علي بن عطية.

عده الشيخ في رجاله من غير توصيف من اصحاب الامام الكاظم(ع) و قال في«الفهرست»:إن له كتابا (1).

212-علي بن عيسي.

ابن رزين عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام موسي و الظاهر كونه إماميا مجهول الحال (2).

213-علي بن ميمون.

الصائغ،لقبه أبو الأكراد،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب يرويه عنه جماعة (3).

214-علي بن يقطين.

ابن موسي البغدادي،مولي لبني أسد،من وجوه هذه الطائفة و من اعيانها،له المنزلة المرموقة و المكانة العليا عند الامام أبي الحسن موسي عليه السلام،و نقدم عرضا موجزا لبعض شئونه و أحواله.

1-ولادته.

ولد بالكوفة سنة 124 ه (4)و ذلك في اواخر دولة الأمويين.ي.

ص: 284


1- تنقيح المقال:299/2.
2- نفس المصدر.
3- النجاشي:ص 208.
4- الفهرست لابن النديم:ص 328،النجاشي.

2-نشأته:

نشأ بالكوفة و بها ترعرع،و كان بها يبيع الابزار (1)و كان ابوه يقطين ممن يقول بالامامة،و كان يحمل الأموال و الالطاف الي الامام الصادق(ع) (2)،و كان من دعاة الدولة العباسية فطلبه مروان الحمار فهرب منه،و هربت زوجته بولديها علي و عبيد اللّه إلي المدينة و لما انقرضت الدولة الأموية و تشكلت الحكومة العباسية عادت بولديها إلي وطنها،و في ذلك الوقت ظهر امر يقطين و انتشر صيته،فقد اتصل بابي العباس السفاح و بالمنصور و المهدي،و قد وشي عليه بأنه يذهب الي(الامامة)و لكن اللّه تعالي صرف عنه كيد الغادرين به،و لما انتقل يقطين الي دار الحق قام ولده علي مقامه فاتصل اتصالا وثيقا بالعباسيين و تولي بعض المناصب المهمة في الدولة،و كان في نفس الوقت غوثا و عونا للشيعة يدفع عنهم الخطوب و الكوارث،و كان من عيون المؤمنين و الصالحين فكان يستنيب جماعة في كل سنة ليحجوا عنه،فقد حدث سليمان بن الحسين كاتبه فقال:أحصيت لعلي بن يقطين من يحج عنه،في عام واحد مائة و خمسين رجلا أقل من أعطاه منهم سبعمائة درهم،و اكثر من اعطاه عشرة آلاف درهم و حدث العبيدي عن يونس أنه أحصي لعلي بن يقطين في«الموقف»مائة و خمسين ملبيا (3)و قد انفق أموالا ضخمة في وجوه البر و الاحسان،فقد اوصل الامام بصلات كبيرة تتراوح ما بين المائة الف درهم إلي ثلاث مائة الف درهم،و قد زوج ثلاثة او اربعة من أولاد الامام منهم أبو الحسن الرضا2.

ص: 285


1- الكشي:ص 270.
2- الفهرست:ص 328.
3- الكشي:ص 272.

عليه السلام،و كان المهر الذي دفعه لهم عشرة آلاف دينار،كما دفع ثلاثة آلاف دينار للوليمة،و كان يعول ببعض عوائل الشيعة،فقد قام بنفقة الكاهلي و عياله حتي توفي،الي غير ذلك من وجوه البر و الخير الذي قام به الأمر الذي دل علي ايمانه و حسن عقيدته.

3-منصبه تقلد علي منصب ازمة الازمة في ايام المهدي (1)و من بعده عينه هارون وزيرا له،و قد تقدم الي الامام موسي(ع)يطلب منه الاذن في ترك منصبه و الاستقالة منه فنهاه(ع)عن ذلك و قال له:

«لا تفعل فان لنا بك أنسا،و لاخوانك بك عزا،و عسي اللّه ان يجبر بك كسيرا أو يكسر بك نائرة المخالفين عن اوليائه،يا علي،كفارة اعمالكم الاحسان الي اخوانكم،اضمن لي واحدة اضمن لك ثلاثا،اضمن لي ان لا تلقي أحدا من اوليائنا إلا قضيت حاجته و اكرمته و اضمن لك ان لا يظلك سقف سجن ابدا،و لا ينالك حد السيف ابدا و لا يدخل الفقر بيتك ابدا،يا علي،من سر مؤمنا فباللّه بدأ،و بالنبي ثني و بنا ثلث (2)و دل هذا الحديث الشريف-علي جواز الولاية من قبل الجائر ان اسدي الموظف معروفا او دفع غائلة عن المؤمنين فانه يباح له ذلك،و قد تمسك الفقهاء بهذا الحديث لجواز الولاية من قبل الجائر.

و لما قدم الامام(ع)إلي العراق زرارة علي فشكا إليه حاله و طلب منه الإذن في التخلي عن منصبه فنهاه(ع)عن ذلك و قال له:ي.

ص: 286


1- الجهشياري.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري.

«يا علي ان للّه تعالي أولياء مع اولياء الظلمة ليدفع بهم عن اوليائه و أنت منهم يا علي».

و قد اعرب الامام في حديثه عن رغبته في بقائه في وظيفته ليقوم بالافراج عن الشيعة الذين اضطهدتهم السلطات العباسية حتي حرمتهم من جميع الحقوق المشروعة.

4-حب الامام له.

كان الامام(ع)يكن لعلي أخلص الود و الولاء،فقد زرارة يوما فقال(ع)لاصحابه:

-من سره ان يري رجلا من اصحاب رسول اللّه(ص)فلينظر إلي هذا المقبل-و اشار الي علي-.

فانبري إليه بعض الحاضرين قائلا:

-أ هو من أهل الجنة.

-اما انا فأشهد انه من اهل الجنة.

و ارسل علي إلي الامام شخصا يطلب منه الدعاء له فلما مثل الرسول بين يدي الامام(ع)قال له:

-يا بن رسول اللّه،ارسلني ابن يقطين لتدعو اللّه له.

-للآخرة؟ -نعم.

-ضمنت لعلي بن يقطين ان لا تمسه النار ابدا.

و حدث داود الرقي قال:دخلت علي ابي الحسن(يوم النحر) فقال لي مبتدئا:

ص: 287

«ما عرض في قلبي أحد و أنا علي الموقف إلا علي بن يقطين فانه ما زال معي،و ما فارقني حتي أفضت».

و قال اسماعيل بن موسي:رأيت العبد الصالح علي الصفا يقول:

«إلهي،في أعلي عليين اغفر لعلي بن يقطين»و قال(ع):«من سعادة علي بن يقطين اني ذكرته في الموقف»و دلت هذه البوادر علي مدي ما يحمله الامام(ع)من الحب و الاخلاص له،و مما لا ريب فيه أن اخلاص الامام له ينم عن أن الرجل كان مثالا رائعا للتقوي و الصلاح و عنوانا رفيعا للمثل العليا.

5-تسديد الامام له.

كان الامام(ع)حريصا علي ابن يقطين،و كان يخاف عليه من سطوة هارون و بطشه،فان أمر تشيعه لم يكن خافيا علي الأذناب و العملاء الذين يتقربون الي السلطة بكل وسيلة مهما بلغت من الفضاعة،و قد علم(ع) أنهم لا يتركونه حتي يقضون عليه فتصدي(ع)إلي تسديده و رفع الخطر عنه و قد كان ذلك في موضعين:

1-الدراعة.

و أهدي الرشيد الي ابن يقطين ثيابا فاخرة،كانت فيها دراعة فاخرة سوداء منسوجة بالذهب يلبسها الخلفاء فلما وصلت إليه قام من فوره فأهداها الي الامام(ع)فردها الامام و كتب إليه«احتفظ بها،و لا تخرجها عنك فسيكون لك بها شأن تحتاج معه إليها»فلما ردت إليه و اطلع علي رسالة الامام احتفظ بها،و جعلها في سفط،و ختم عليها،و مضت فترة من

ص: 288

الزمن تغير ابن يقطين علي بعض غلمانه ممن كان مطلعا علي شئونه و أحواله فسعي من فوره إلي هارون و قال له:

«إن علي بن يقطين يقول بامامة موسي الكاظم،و انه يحمل إليه في كل سنة زكاة أمواله،و الهدايا و التحف،و قد حمل إليه في هذه السنة ذلك مع الدراعة السوداء التي أكرمته بها في وقت كذا».

و تغير حال الرشيد حينما سمع بذلك فكأن حساما قد أصاب وجهه و قال و الغضب قد استولي عليه:

«لأكشفن عن ذلك فان كان الأمر علي ما ذكرت أزهقت روحه و ذلك من بعض جزائه».

ثم أنفذ رسولا خلف ابن يقطين فلما مثل عنده التفت إليه قائلا:

«ما فعلت بالدراعة السوداء التي كسوتك بها و خصصتك بها من بين سائر خواصي؟.

فالتفت إليه ابن يقطين و هو مثلوج القلب قد أحرز الانتصار قائلا:

-هي عندي يا أمير المؤمنين،في سفط فيه طيب،مختوم عليها -أحضرها الساعة.

-نعم،علي السمع و الطاعة.

و استدعي بعض خدمه فعين له المكان الذي وضعت فيه الدراعة و ناوله المفاتيح،فمضي الخادم مسرعا فلم يلبث قليلا حتي جاء بها فوضعها بين يدي الرشيد فأمر بفك الختم و فتح السفط،و إذا بالدراعة مطوية علي حالها لم تتغير و لم يصبها شيء فسكن غضب الرشيد و هدأت ثورته و قال له:

«ردها الي مكانها،و خذها و انصرف راشدا فلن نصدق بعدها عليك ساعيا».

ثم أمر له بجائزة،و أمر بالساعي اللئيم أن يضرب الف سوط فضرب

ص: 289

خمسمائة سوط و هلك (1)،و خرج ابن يقطين و هو ناعم البال مسرور القلب قد انقذه اللّه من بطش هارون و طغيانه،و قد نظم بعض الشعراء هذه الكرامة بقوله:

و ابن يقطين حين رد عليه الطهر أثوابه و قال و حذر

قال خذها فسوف تسأل عنها و معاديك في لا شك يخسر (2)

2-الوضوء:

كان علي بن يقطين يتوضأ وضوء أبناء السنة و الجماعة،و قد طلب من الامام أن يرشده الي الوضوء الذي يتوضأ به فأمره(ع)بالبقاء علي حاله الي أجل فيرشده الي ذلك،و سعي الاذناب بعلي الي الرشيد و اكثروا القول بأنه من الشيعة،فأراد هارون أن يختبره ليقف علي حقيقة حاله فرأي أحسن طريق الي ذلك أن يختبره في وضوئه،فأطل من بعض شرفات قصره من حيث يخفي في وقت الصلاة فشرع ابن يقطين في وضوئه فتوضأ وضوء السنة فعندها لم يطق الرشيد صبرا و طفق يقول:

«لا صدقت عليك واشيا أبدا».

و كتب له الامام بعد ذلك بكيفية الوضوء الذي يراه،و ذكر له قد زال عنك ما كنا نخافه عليك،و نظم بعض الشعراء هذه الكرامة بقوله:

ثم حال الوضوء حال عجيب كيف أنباه بالضمير و خبر

هو عين الحياة و هو نجاة و رشاد لمن قرأ و يتدبر (3)ب.

ص: 290


1- نور الأبصار:ص 136 المناقب:(ج 2 ص 356)البحار
2- المناقب:(ج 2 ص 356).
3- المناقب.

و نظم بعضهم ذلك بقوله:

فلولاه ما كان ابن يقطين تاركا طريقته الأولي التي ليس تجهل

علي حين قد كان الرشيد بمرصد يراقبه في أمره كيف يفعل

فعاين منه غير ما كان سامعا و كذب ما عنه الوشاة تقول

6-مؤلفاته:

كان ابن يقطين من عيون أهل العلم و من فضلاء عصره هذه بعض مؤلفاته:

1-«الملاحم»أخذها من الامام الصادق (1).

2-«مناظرة الشاك» (2).

3-«المسائل»أخذها من الامام موسي(ع).

و قد أخبر بهذه الكتب محمد بن محمد بن النعمان،و الحسين بن عبيد اللّه و محمد بن الحسن،و جماعة (3).

7-وفاته:

انتقل الي دار الحق بمدينة السلام سنة 182 ه و له من العمر سبع و خمسون سنة و صلي عليه ولي عهد الرشيد محمد،و كان الامام موسي آنذاك في ظلمات السجون (4).0.

ص: 291


1- الفهرست لابن النديم:ص 328.
2- نفس المصدر.
3- الفهرست للشيخ الطوسي.
4- الكشي:ص 270.

215-عمار بن موسي.

الساباطي أبو اليقظان،كوفي سكن المدائن،روي عن أبي عبد اللّه و عن أبي الحسن موسي(ع)أنه قال:استوهبت عمار الساباطي من ربي فوهبه لي (1)و ذكر المترجمون له أنه كان فطحيا،قال الشيخ:قد ضعف عمار الساباطي جماعة من أهل النقل و ذكروا أنه من أهل النقل كما ذكروا أن ما ينفرد بنقله لا يعمل به لأنه كان فطحيا غير أنا لا نطعن عليه بهذه الطريقة لأنه و إن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه فيه (2)و قال الشيخ البهائي:إنه ثقة جليل من أصحاب الصادق و الكاظم و حديثه يجري مجري الصحاح (3)،وعده الشيخ المفيد من الأعلام المأخوذ منهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن عليهم،له كتاب يرويه جماعة (4).

216-عمرو بن المنهال.

ابن مقلاص القيسي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن له ولدان أحمد و الحسن من أهل الحديث،له كتاب (5)ورد توثيقه في الوجيزة و البلغة.

217-عمر بن رياح.

روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و كان واقفا و كذا كان أولاده2.

ص: 292


1- الكشي:ص 256.
2- التهذيب باب البيع.
3- شرح الفقيه.
4- النجاشي ص 223.
5- النجاشي:ص 222.

من الواقفية،و قال العلامة و السيد ابن طاوس إنه كان تبريا و هم فرقة من الزيدية (1).

218-عمر بن محمد.

ابن يزيد أبو الأسود بياع السابري مولي لثقيف،كوفي،ثقة جليل الشأن،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و أثني عليه الامام أبو عبد اللّه عليه السلام،فقال له:

-أنت و اللّه منا أهل البيت.

-جعلت فداك،من آل محمد؟!! -اي و اللّه من أنفسهم.

-من أنفسهم!! -اي و اللّه من أنفسهم،يا عمر،أ ما تقرأ كتاب اللّه عز و جل«إن أولي الناس بابراهيم للذين اتبعوه و هذا النبيّ و الذين آمنوا معه و اللّه ولي المؤمنين» (2).

له من المؤلفات كتاب«مناسك الحج و فرائضه» (3).

219-عيسي بن داود.

النجار،كوفي من أصحابنا،قليل الرواية،روي عن أبي الحسن موسي(ع)له كتاب«التفسير» (4).6.

ص: 293


1- تنقيح المقال:243/2.
2- الكشي ص 212.
3- النجاشي:ص 217.
4- النجاشي:ص 226.

220-عيسي بن عبد اللّه.

ابن سعد بن مالك الأشعري،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن، و له مسائل للرضا(ع) (1)،و روي في حقه يونس بن يعقوب قال:كنت بالمدينة،فاستقبلني جعفر بن محمد في بعض أزقتها،فقال اذهب يا يونس فان في الباب رجلا منا اهل البيت،قال فجئت الي الباب فاذا عيسي بن عبد اللّه القمي جالس،قال:فقلت له:

-من أنت؟ -رجل من اهل قم.

-و في الوقت جاء الامام(ع)فأمرهما بالدخول الي الدار فلما استقر بهما المجلس التفت(ع)الي يونس قائلا:

يا يونس،أحسبك انكرت قولي لك إن عيسي بن عبد اللّه منا أهل البيت.

-اي و اللّه إنه رجل من اهل قم!! -يا يونس،إن عيسي بن عبد اللّه هو منا حيا و هو منا ميتا (2)و في هذا الخبر دلالة علي عدالته و وثاقته و مزيد اتصاله بأهل البيت(ع) 221-العيص بن القاسم.

ابن ثابت بن عبيد بن مهران،البجلي،كوفي عربي،يكني أبا القاسم ثقة عين،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (3).2.

ص: 294


1- النجاشي:ص 228.
2- الكشي:ص 213.
3- النجاشي:ص 232.

(غ)-:

222-غالب بن عثمان.

عده الشيخ من اصحاب الامام الكاظم(ع)و قال:إنه واقفي (1)223-غياث بن ابراهيم.

التيمي الأسيدي (2)بصري سكن الكوفة،ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب مبوب في الحلال و الحرام يرويه جماعة (3).

(ف)-:

224-فائد الحناط.

كوفي،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن،له كتاب يرويه عثمان ابن عيسي (4).

225-فضالة بن أيوب.

الأزدي عربي سكن الأهواز،ثقة في حديثه،روي عن الامام

ص: 295


1- تنقيح المقال:365/2.
2- الاسيدي:بضم الهمزة و فتح السين المهملة و تشديد الياء،نسبة الي اسيد بن عمرو بن تميم،جاء ذلك في سبائك الذهب.
3- النجاشي:ص 234.
4- النجاشي:ص 240.

موسي(ع)،وعده الكشي ممن اجمع اصحابنا علي تصحيح ما يصح عنهم من اصحاب أبي عبد اللّه(ع)و تصديقهم و الاقرار لهم بالفقه و العلم،و له كتاب«الصلاة» (1).

226-الفضل بن سليمان.

الكاتب البغدادي،كان يكتب للمنصور و المهدي علي الخراج،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن،ألف كتاب«يوم و ليلة» (2).

227-الفضل بن يونس.

الكاتب البغدادي روي عن أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (3)و قال الشيخ:إنه واقفي (4)روي علي بن ابراهيم بن هاشم عن محمد بن سالم قال لما حمل سيدي موسي بن جعفر الي هارون جاء إليه هشام بن ابراهيم فقال له:يا سيدي قد كتب لي صك الي الفضل بن يونس فسأله أن يقضي حاجتي فمشي إليه الامام فلما انتهي إليه دخل عليه الحاجب فعرفه بتشريف الامام،فقال له و السرور باد عليه،إن كنت صادقا فأنت حر و أوعده بأموال يعطيها له إن تبين صدقه ثم خرج حافيا،فلما رأي الامام وقع علي قدميه يقبلهما ثم التمس منه ان يشرف ثويه فأجابه الامام الي ذلك و بعد ما استقر به المجلس سأله ان يقضي حاجة هشام فقضاها له (5)و في هذا الخبر دلالة علي اخلاصه و ولائه للامام(ع).ي.

ص: 296


1- تنقيح المقال:6/2.
2- النجاشي:ص 235.
3- نفس المصدر:ص 237.
4- الفهرست.
5- الكشي.

228-الفيض بن المختار.

الجعفي،كوفي،روي عن أبي جعفر،و أبي عبد اللّه،و أبي الحسن عليهم السلام،ثقة عين،له كتاب يرويه ابنه جعفر (1)و هو أول شخص سمع النص من أبي عبد اللّه علي إمامة ولده موسي(ع)و قد تقدم حديثه في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(ق)-:

229-القاسم بن محمد.

الجوهري،كوفي سكن بغداد،روي عن الامام موسي(ع)له كتاب (2)و قد رمي بالوقف (3).

230-قيس بن موسي.

الساباطي،أخو عمار الساباطي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و هو ثقة مقبول الحديث (4).

ص: 297


1- النجاشي:ص 239.
2- النجاشي:ص 242،
3- الكشي.
4- رجال ابن داود.

(ك)-:

231-كردويه الهمداني.

من رواة حديث الامام(ع)و قد ذكرت رواياته في«التهذيب» في باب تطهير المياه،و في«الاستبصار»في باب كيفية قضاء النوافل، و قد رمي بالجهالة كما في«المسالك»و الذخيرة (1).

(ل)-:

232-ليث بن البختري.

المرادي يكني أبا بصير،ثقة في حديثه،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و في صحيح جميل بن دراج،ان اوتاد الأرض اربعة،و أعلام الدين اربعة،محمد بن مسلم،و بريد بن معاوية،و ليث بن البختري المرادي،و قيل فيه غير ذلك،قال ابن الغضائري:كان أبو عبد اللّه(ع) يتضجر،و يتبرم منه،و أصحابه مختلفون في شأنه و عندي أن الطعن انما وقع في دينه،لا في حديثه و قد وثقه جماعة من الاعلام المحققين و اعتبروا الاخبار الواردة في ذمه مطعون فيها،و انه من الطائفة العليا في الاسلام (2).

ص: 298


1- تنقيح المقال:38/2.
2- تنقيح المقال:44/2-46.

(م)-:

233-محمد بن ابراهيم.

الموصلي،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم مرتين، و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (1).

234-محمد بن أبي عمير.

الأزدي،بغدادي الأصل و المقام من أشهر علماء هذه الطائفة و من عيون رواتها،و قد أجمع الأصحاب علي تصحيح ما يصح عنه،و علي عد مراسيله مسانيد،عاصر الامام الكاظم،و الرضا،و الجواد(ع)و الي القراء بعض شئونه و أحواله.

1-علمه.

كان من عيون العلماء،و من كبار الفقهاء،و قد أجمعت العصابة علي الاقرار له بالفقه و العلم (2)و قد لازم ثلاثة من أئمة اهل البيت(ع)و انتهل من نمير علومهم،و قد زود الفقه الاسلامي بالشيء الكثير من أحاديثه التي سمعها من الأئمة الميامين،و ان مراسيله بمنزلة الصحاح عند الفقهاء،و في هذا دلالة علي سمو منزلته العلمية و عدالته.

2-مؤلفاته.

الف من الكتب اربعا و تسعين كتابا منها كتاب«المغازي»و منها كتاب«الكفر و الايمان»و منها كتاب«البداء»و منها كتاب«الاحتجاج

ص: 299


1- تنقيح المقال:56/2.
2- الكشي.

في«الامامة»و منها كتاب«الحج»و منها كتاب«فضائل الحج»و منها كتاب«المتعة»و منها كتاب«الاستطاعة»و منها كتاب«الملاحم» و منها كتاب«يوم و ليلة»و منها كتاب«مناسك الحج»و منها كتاب «الصيام»و منها كتاب«اختلاف الحديث»و منها كتاب«المعارف» و منها كتاب«الطلاق»و منها كتاب«الرضاع» (1)و لكن من المؤسف أن هذه المؤلفات قد تلفت و يعزي السبب في ذلك الي انه تركها في غرفة فسال عليها المطر فأتلفها،و قيل ان اخته دفنت كتبه في حال حبسه فضاعت و علي كل فان العلم قد خسر مؤلفات هذا العالم الكبير.

3-عبادته.

كان محمد من عيون المتقين و الصالحين فقد تربي في بيت الامامة و سار علي خطة آل البيت من رفض الدنيا و عدم الاعتناء بملاذها و شهواتها، و يكفي للتدليل علي مدي عبادته ما رواه الفضل بن شاذان قال:دخلت العراق فرأيت شخصا يعاتب صاحبه و يقول له:أنت رجل ذو عيال، و تحتاج ان تكسب لهم،و ما آمن عليك أن تذهب عيناك لطول سجودك، و اكثر عليه التوبيخ و التقريع،فالتفت إليه و قال له:

«لو ذهبت عين احد من السجود،لذهبت عين ابن أبي عمير، ما ظنك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما رفع رأسه إلا عند زوال الشمس».

و أخذ يحدثه عن عبادة ابن أبي عمير فقال له:أخذ شيخي يوما بيدي و ذهب بي الي ابن أبي عمير،فصعدنا إليه في غرفة و كان في مجلسه جمع من المشايخ و هم يعظمونه و يبجلونه،فقلت له:1.

ص: 300


1- النجاشي:ص 250-251.

-من هذا؟ -هذا ابن أبي عمير.

-الرجل الصالح العابد؟ (1).

و هكذا كان محمد في تقواه و ورعه،و ان تعظيم اولئك الأتقياء الصالحين له و اكبارهم لمنزلته مما يدل علي سمو مكانته و شأنه.

4-في السجون.

و كان محمد بن أبي عمير من الشخصيات البارزة في العالم الشيعي نظرا لاتصاله الوثيق بأئمة اهل البيت(ع)،و في نفس الوقت كان عنده السجل العام الذي فيه اسماء الشيعة،و لقد ضاق علي هارون ذلك فأمر أن يلقي في ظلمات السجون فبقي فيها سبعة عشر عاما (2)و جيء به و هو مكبل بالقيود فأمره هارون ان يعرفه بأسماء الشيعة فامتنع من ذلك اشد الامتناع فأمر ان يضرب مائة سوط فضرب و بلغ منه الألم القاسي مبلغا عظيما يقول فكدت ان اسمي إلا اني سمعت نداء يونس بن عبد الرحمن يقول لي:يا محمد ابن أبي عمير،اذكر موقفك بين يدي اللّه،فتقويت بقوله،و صبرت و لم اخبر،و الحمد للّه (3)و بهذا نقف علي مدي الضغط الهائل الذي واجهته الشيعة في تلك الأدوار المظلمة،و قد عرضنا بعض ذلك عند التحدث عن عصر الامام(ع).

5-وفاته.

انتقل محمد الي دار الخلود في سنة 217 ه (4).1.

ص: 301


1- الكشي ص:364.
2- الاختصاص.
3- الكشي ص:264.
4- النجاشي:251.

235-محمد بن إسحاق.

ابن عمار بن حيان التغلبي الصيرفي،ثقة عين،روي عن أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (1)قال الشيخ المفيد:إنه من ثقات الامام و خاصته و من اهل الورع و العلم (2)و قال أبو جعفر بن بابويه انه من الواقفية،و يفند ذلك،انه سأل الامام موسي(ع)فقال له:

-أ لا تدلني،علي من أخذ عنه ديني؟ -هذا علي ابني،إن أبي أخذ بيدي فأدخلني إلي قبر رسول اللّه(ص) فقال:يا بني،إن اللّه عز و جل قال«إني جاعل في الأرض خليفة»و ان اللّه عز و جل إذا قال قولا:وفي به».

و تدل هذه الرواية علي عدم كونه واقفيا (3).

236-محمد بن إسماعيل.

ابن بزيع،من صلحاء هذه الطائفة و من عيونها،واحد رواة حديث الامام موسي(ع)،كان مولي للمنصور واحد وزراء الدولة العباسية،قال له الامام الرضا(ع):إن للّه تعالي بأبواب الظالمين من نور اللّه له البرهان و مكن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه،و يصلح اللّه بهم امور المسلمين إليهم يلجأ المؤمن من الضر،و إليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا،و بهم يؤمن اللّه روعة المؤمن في دار الظلمة،اولئك المؤمنون حقا،اولئك أمناء اللّه في ارضه،اولئك نور اللّه في رعيته يوم القيامة،و يزهر نورهم لاهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الارض،اولئك من نورهم/2

ص: 302


1- النجاشي:ص 279
2- الارشاد.
3- تنقيح المقال:79/2

يوم القيامة تضيء القيامة،خلقوا و اللّه للجنة،و خلفت الجنة لهم،فهنيئا لهم ما علي أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله».

فقال له محمد:بما ذا؟جعلني اللّه فداك.

قال(ع):يكون معهم فيسرنا بادخال السرور علي المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد.

ألف كتبا منها كتاب«الحج»و كتاب«ثواب الحج» (1).

237-محمد بن بشير.

من غلات الواقفية،و ممن باع دينه و آخرته بدنياه،و كان صاحب شعوذة و أباطيل و مخاريق و بدع و قد حاول بكل جهوده افساد المسلمين و تمزيق شملهم و فيما يلي عرض موجز لبعض شئونه.

1-بدعه.

كان هذا الرجل من المخربين و المفسدين،و قد خرج عن ربقة الاسلام بما أوجده من البدع و الاضاليل،و من بدعه قوله:«ان كل من ادعي الامامة من ولد الامام موسي(ع)فهو كاذب غير طيب الولادة»و كفر جميع من قال بامامتهم و استحل دماءهم،و ابتدع هو و جماعته أمورا منكرة فقالوا:إن الفرض عليهم من اللّه تعالي اقامة الصلوات الخمس،و صوم شهر رمضان لا غير فأنكروا الزكاة و الحج و سائر الفرائض الاسلامية،و قالوا باباحة المحارم و الفروج و الغلمان،و بالتناسخ،و ادعوا غير ذلك من الأباطيل التي تدل علي كفرهم و جحودهم للّه تعالي.

2-شعوذته.

و كان ابن بشير عالما بجميع أنواع الشعوذة و كان وحيد عصره في ذلك5.

ص: 303


1- النجاشي:ص 255.

و قد اتخذ من شعوذته وسيلة إلي إغراء السذج و البسطاء،و من عجائب شعوذته أنه اتخذ صورة قد عملها بنفسه و أقامها شخصا تحكي صورة الامام موسي(ع)قد وضع عليها ثيابا من حرير و كان يطويها فاذا أراد إغراء أصحابه قال لهم:إن أبا الحسن موسي(ع)عندي فان أحببتم أن تروه فهلموا معي لأعرضه عليكم فيقوموا معه فيدخلهم الي البيت و الصورة مطوية عنده فيقول لهم هل ترون أحدا مقيما في البيت فيجيبونه بالنفي فيأمرهم بالخروج فاذا نزحوا عه عمد الي تلك الصورة فأخرجها،ثم يرفع الستر بينه و بينهم فينظرون الي صورة قائمة تحكي صورة الامام موسي(ع)و يقف هو بالقرب من تلك الصورة فيناجيها و يكلمها ثم يدنو منها كأنه يريد أن يسر إليها بشيء ثم يغمز إليهم بالخروج فيلقي عليها الستار و يطويها،و كانت هذه خالته مدة من الزمن في الاغراء و التضليل و الخداع و الفتن بين الناس.

و من شعوذته أن هارون الرشيد لما قبض عليه و أراد قتله قال له:

يا أمير استبقني فاني اتخذ لك أشياء يرغب الملوك فيها فأطلق سراحه فاتخذ له الدوالي بصورة عجيبة فقد صنع ألواحا و جعل الزيبق في تلك الألواح فكانت الدوالي تمتلئ بالماء و تصب في تلك الألواح فينقلب الزيبق منها فتتسع الدوالي،و كانت تعمل بهذه الصورة من غير آلة أو محرك لها فاعجب هارون بذلك،و عمل له أعمالا أخري دلت علي مهارته.

3-انكاره للامام.

و انكر ابن بشير الامام موسي(ع)و ادعي أنه رفع الي السماء و ان الذي هو في السجن غير الامام موسي محاولا بذلك افساد عقيدة الشيعة و الاستيلاء علي حقوقهم الشرعية لأنه ادعي الوكالة عن الامام.

ص: 304

4-دعاء الامام عليه.

و لما شاعت بدع هذا الملحد و تضاليله بين الناس و افساده للناشئة الاسلامية جعل الامام موسي يدعو عليه و يحذر الناس منه فقد حدث ابن أبي حمزة البطائني قال:سمعت الامام موسي(ع)يقول:

«لعن اللّه محمد بن بشير،و أذاقه اللّه حر الحديد،إنه يكذب علي، برء اللّه منه،و برئت إلي اللّه منه،اللهم إني أبرأ إليك مما يدعي في ابن بشير،اللهم أرحني منه،و التفت(ع)إلي ابن أبي حمزة فقال:يا علي، ما أحد اجترأ أن يتعمد علينا الكذب إلا أذاقه اللّه حر الحديد،و إن بنانا كذب علي علي بن الحسين(ع)فأذاقه اللّه حر الحديد،و إن المغيرة بن سعيد كذب علي أبي جعفر(ع)فأذاقه اللّه حر الحديد،و إن أبا الخطاب كذب علي أبي فأذاقه اللّه حر الحديد،و إن محمد بن بشير لعنه اللّه يكذب علي،برئت الي اللّه منه،اللهم اني أبرأ إليك مما يدعيه فيّ محمد بن بشير اللهم،أرحني منه،اللهم إني أسألك أن تخلصني من هذا الرجس النجس.

و يلمس من دعاء الامام مدي تأثره و انزعاجه من هذا الوغد الذي بلي به الامام كما ابتلي آباؤه الطيبون بامثال هذا الرجس الخبيث.

5-قتله.

و لما ظهرت بدع هذا الرجس و انتشرت أباطيله قبضت عليه السلطة المحلية فعذبته بأنواع العذاب و قتلته أسوأ قتلة (1)و قد لاقي جزاءه العادل في الدنيا قبل الآخرة.

238-محمد بن بكر.).

ص: 305


1- ذكر جميع ذلك الكشي:(ص 297-299).

ابن جناح،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قد رمي بالوقف (1).

239-محمد بن ثابت.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام مرتين،و أضاف في المرة الثانية أنه مجهول (2).

240-محمد بن جعفر.

ابن سعد الأسلمي،و هو الذي كتب وصية الامام موسي(ع)الأولي و شهد في وصيته الثانية (3)،و سنذكر نص الوصيتين في بعض فصول هذا الكتاب.

241-محمد بن الحارث.

الأنصاري،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع) و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (4)كما أنه أحد الشهود في وصية الامام الثانية علي رواية الكليني.

242-محمد بن حكيم.

الخثعمي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،يكني أبا جعفر،له كتاب يرويه جعفر بن محمد بن حكيم (5)و أثني عليه في«الوجيزة».6.

ص: 306


1- تنقيح المقال:89/2.
2- نفس المصدر.
3- الكافي.
4- تنقيح المقال:98/3.
5- النجاشي:ص 276.

243-محمد بن خالد.

أبو عبد اللّه البرقي (1)،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و كان أديبا حسن المعرفة بالأخبار و علوم العرب،له كتب منها كتاب«التنزيل و التعبير»و كتاب«يوم و ليلة»و كتاب«التفسير»و كتاب «مكة و المدينة»و كتاب«حرب الأوس و الخزرج»و كتاب«العلل» و كتاب«علم الباري»و كتاب«الخطب» (2)و قال فيه ابن الغضائري إن حديثه يعرف و ينكر و يروي عن الضعفاء كثيرا و يعتمد المراسيل،و قال النجاشي:إنه ضعيف في حديثه،و وثقه جماعة آخرون (3).

244-محمد بن زرقان.

ابن الحباب صاحب الامام موسي و له نسخة يرويها عنه (4)و مصاحبته للامام(ع)تدل علي وثاقته و نباهة شأنه.

245-محمد بن سليمان.

البصري الديلمي من أصحاب الامام(ع)و قد رمي بالغلو،و لا يعتمد علي حديثه و روايته نظرا لسوء عقيدته (5).

246-محمد بن سنان.3.

ص: 307


1- البرقي:نسبة الي برق واد في قرية من سواد قم ذكر ذلك النجاشي:ص 257.
2- النجاشي:
3- تنقيح المقال:113/3.
4- النجاشي:ص 286.
5- تنقيح المقال 122/3.

أبو جعفر الزاهدي الخزاعي،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي(ع)و قد اختلف المترجمون له فبين قادح له و موثق قال فيه ابن الغضائري:إنه ضعيف غال يضع الحديث لا يلتفت إليه،و ضعفه المحقق في«المعتبر»و العلامة في«المختلف»و الشهيد الثاني في«المسالك»و الشيخ في«الاستبصار»و قدح فيه غير هؤلاء من الأعلام،و وثقه الشيخ المفيد فقال:إنه من أهل الورع و العلم و الفقه و الدين،و وثقه الشيخ المجلسي، و الشيخ الحر العاملي،و الحسن بن أبي شعبة في«تحف العقول»و روي الكشي في حقه أنه دخل علي أبي الحسن موسي(ع)قبل أن يحمل الي العراق بسنة و كان عند الامام ولده الرضا(ع)فالتفت(ع)إليه قائلا:

-يا محمد.

-لبيك.

-ستكون في هذه السنة حركة،و لا تحرج منها.

و أطرق الامام برأسه الي الارض،ثم رفع رأسه و التفت إلي محمد قائلا له:

-و يضل اللّه الظالمين،و يفعل اللّه ما يشاء.

-و ما ذاك؟جعلت فداك.

-من ظلم ابني هذا-و أشار لولده الرضا(ع)-حقه و جحد إمامته من بعدي كان كمن ظلم علي بن أبي طالب(ع)و جحد إمامته من بعد محمد(ص).

و أدرك محمد أن الامام قد نعي إليه نفسه و ان لقاءه بربه لقريب فأراد الوقوف علي بعض الخفايا التي لا يعلمها إلا الامام فقال له:

-و اللّه لئن مد اللّه في عمري لأسلمن إليه حقه،و لأقرن له بالامامة أشهد أنه من بعدك حجة اللّه علي خلقه الداعي الي دينه.

ص: 308

-يا محمد،يمد اللّه في عمرك و تدعو الي إمامته و إمامة من يقوم مقامه من بعده.

-و من ذاك؟ -محمد ابنه.

-الرضا،و التسليم.

-كذلك،و قد وجدتك في صحيفة أمير المؤمنين(ع)أما انك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء.

و هذا الخبر دل علي أنه من عيون المؤمنين و الصالحين و وردت أخبار أخري أشادت بفضله و وثاقته و قرب منزلته من أهل البيت(عليهم السلام) ذكر هذه الأقوال المحقق المامقاني(قده)و قال:«إن الأقوي كون الرجل ثقة صحيح الاعتقاد،مقبول الرواية،و إن رمي من رماه بالغلو إما لاشتباهه من ميله أولا الي الغلو و ثباته بمكالمة صفوان معه،أو لما سمعته آنفا من بعض الأتقياء من أنه كان من أصحاب أسرار الأئمة و روي من أسرارهم ما تمسك به الغلاة فجرحه الأصحاب دفعا للأفسد،و هو تقوي الغلات بالفاسد و لو كان ضعيفا واقعا لما روي عنه جم غفير من أجلاء أصحابنا» (1).

و ألف محمد من الكتب كتاب«الطرائف»و كتاب«الأظلة»و كتاب «المكاسب»و كتاب«الحج»و كتاب«الصيد و الذبائح»و كتاب«الشراء و البيع»و كتاب الوصية»و كتاب«النوادر»،توفي سنة 220 ه (2).

247-محمد بن الصباح.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)،و قال فيه النجاشي:إنه كوفي ثقة،له كتاب أخبرنا عنه أحمد بن عبد الواحد،و ذكره2.

ص: 309


1- تنقيح المقال:126/3-128
2- النجاشي:ص 252.

ابن داود في القسم الأول من رجاله (1).

248-محمد بن صدقة.

العنبري البصري،أبو جعفر،روي عن أبي الحسن موسي.و عن الرضا(ع)له كتاب عن موسي بن جعفر(ع) (2).

249-محمد بن عبد اللّه.

الجلاب البصري،من أصحاب الامام الكاظم(ع)و هو واقفي (3).

250-محمد بن عذافر.

ابن عيسي الصيرفي المدائني،ثقة روي عن أبي عبد اللّه و ابي الحسن و عمّر إلي أيام الرضا(ع)و له كتاب تختلف الرواة فيه توفي و له من العمر ثلاث و تسعون سنة (4).

251-محمد بن علي.

ابن النعمان،أبو جعفر المعروف بمؤمن الطاق من عمالقة الفكر الاسلامي و من عظماء الزمن الذين فتحوا باب التأريخ علي مصراعيه و دخلوا فيه أحرارا فسجلوا لامتهم و لعصرهم العز و الافتخار،كان مؤمن الطاق في طليعة علماء الاسلام في فقهه و علمه،و دفاعه عن حوزة الدين،و لكن بعض المؤرخين القدامي لم يجودوا إلا بنتف يسيرة من آرائه و تراثه،و طعن الحاقدون عليه فألصقوا به شتي التهم و الظنون،و حملوه أوزارا كثيرة،و سبب ذلك-فيما8.

ص: 310


1- تنقيح المقال:132/3.
2- النجاشي:ص 282.
3- الخلاصة.
4- النجاشي:ص 278.

نحسب-مواقفه الشهيرة التي حاجج بها أئمة المذاهب الاسلامية،و سائر علماء عصره فأثبت بوضوح فكرة الامامة و التقائها بواقع الاسلام و هديه، مما أدي الي اثارة الاحقاد عليه.

و علي أي حال فقد لقبت الشيعة هذا العملاق العظيم«بمؤمن الطاق» و لقبه خصومه و أعداؤه«بشيطان الطاق»و سبب ذلك-فيما قالوا-انه كان يجلس للصرف في سوق يقع بطاق المحامل بالكوفة فاختصم مع شخص في درهم مزيف فغلب علي خصمه فلقب بذلك (1)و لا يحمل هذا التعليل أي طابع علمي فان هذه البادرة لا تستدعي لقبه بذلك و شيوعه بين الناس و الصحيح أن أول من لقبه بذلك أبو حنيفة عقب مناظرة جرت بحضرته بينه و بين بعض الحرورية (2)و لقبته الشيعة بمؤمن الطاق ردا علي أبي حنيفة و حمل بعض المؤلفين عليه فقال:«إنه الأحول الخبيث شيطان الطاق» (3)و هذا السباب الهزيل ينم عن حقد بالغ علي هذا المجاهد العظيم الذي نافح عن أهل البيت عليهم السلام،و انتصر لقضاياهم،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للحديث عنه.

1-تخرجه.

انتمي مؤمن الطاق الي مدرسة الامام الصادق عليه السلام،و انتهل من نمير علومها،و تخصص في الفلسفة الاسلامية،و في مباحث علم الكلام و كان من جهابذة هذا الفن،لا يجاريه فيه أحد،و قد انتدبه الامام الصادق2.

ص: 311


1- لسان الميزان 300/5.
2- الاعلام 154/6.
3- مختصر التحفة الاثني عشرية:ص 2.

للقيام بالمناظرات العلمية مع بقية المذاهب الاسلامية،و ظل ملازما للامام يتغذي من علومه،و بعد انتقال الامام الصادق الي دار الخلود اختص بالامام موسي،و أخذ عنه الكثير من العلوم و المعارف،فكان من أبرز علماء الاسلام في عصره.

2-سمو مكانته:

كان مؤمن الطاق من قادة الفكر الاسلامي،و قد أجمع علماء عصره علي الاعتراف بمنزلته العلمية،و أشاد الامام الصادق عليه السلام بفضله و قربه منه (1)،فقرنه بعظماء العلماء من أصحابه فقال(ع):

«أحب الناس إلي أحياء و أمواتا بريد بن معاوية العجلي،و زرارة ابن أعين،و محمد بن مسلم،و أبو جعفر الأحول» (2).

و يدل هذا الحديث علي مدي أهميته و مكانته عند الامام(ع)،فقد قرنه بالأفذاذ من عيون اصحابه.

3-اختصاصه:

و اختص مؤمن الطاق-كما ذكرنا-في المباحث الكلامية،فقد كان من الماهرين بهذا الفن،و قد عهد إليه الامام الصادق(ع)بالخوض في هذه البحوث مع علماء عصره كما نهي بعض اصحابه عن القيام بذلك نظرا لقلة بضاعتهم في هذا العلم،يقول أبو خالد الكاملي قال:«رأيت2.

ص: 312


1- لسان الميزان:301/5.
2- الكشي:432.

أبا جعفر صاحب الطاق و هو جالس في«الروضة»قد قطع أهل المدينة أزاره،و هو دائب يجيبهم و يسألونه فدنوت منه فقلت له:إن أبا عبد اللّه نهانا عن الكلام،فقال لي أمرك أن تقول لي:فقلت لا و اللّه،و لكن أمرني أن لا أكلم أحدا،قال فاذهب و أطعه فيما أمرك،فدخلت علي أبي عبد اللّه(ع)فاخبرته بقصة صاحب الطاق و قوله لي اذهب فيما أمرك فتبسم(ع)و قال:يا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير و ينقص، و أنت إن قصوك لن تطير (1)و دلت هذه البادرة علي مدي ما يتمتع به من الفضل و العلم وسعة الاطلاع،و مضافا الي اختصاصه بهذا الفن فانه كان من الشعراء الموهوبين،و لكنه أعرض و اشتغل بعلم الكلام (2).

4-مناظراته.

و دلت مناظراته الفائقة مع خصومه علي مهارته و تفوقه عليهم،و قد عرف بمتانة الجدل و قوة الاستدلال و الاستنباط،و فيما يلي بعض مناظراته:

1-مع الضحاك.

و ثار الخوارج في الكوفة فاستولوا عليها،و تزعم حركتهم الضحاك و لقب نفسه بأمير المؤمنين،فأتاه مؤمن الطاق،فلما رآه أصحابه وثبوا إليه و أحاطوا به،فنهاهم الضحاك من التعرض له،و التفت إليه مؤمن الطاق قائلا له:

«أنا رجل علي بصيرة من ديني،و سمعتك تصف العدل فأحببت/5

ص: 313


1- الكشي:122.
2- لسان الميزان 301/5

الدخول معك».

فاستبشر الضحاك و اعتبر ذلك نصرا له فقال لاصحابه:إن دخل هذا معكم نفعكم.

و أقبل مؤمن الطاق علي الضحاك فوجه إليه السؤال الآتي قائلا له:

لم تبرأتم من علي بن أبي طالب،و استحللتم قتله،و قتاله؟ -لأنه حبّكم في دين اللّه.

-و كل من حكم في دين اللّه استحللتم قتاله و قتله؟ -نعم.

-أخبرني عن الدين الذي جئت أناظرك عليه لأدخل معك فيه،إن غلبت حجتي حجتك،أو حجتك حجتي من يوقظ المخطئ علي خطأه؟ و يحكم للمصيب بصوابه؟فلا بد لنا من انسان يحكم بيننا.

و لم يجد الضحاك بدا من الاجابة،فقال له:

هذا-و أشار إلي بعض أصحابه-الحكم بيننا فهو عالم بالدين،و هنا وجد مؤمن الطاق السبيل الي مؤاخذته و بطلان اعتقاده فقال له:

-و قد حكمت هذا في الدين الذي جئت أناظرك فيه؟ -نعم.

و أقبل مؤمن الطاق علي الخوارج فأوقفهم علي خطأ صاحبهم قائلا:

ان هذا صاحبكم قد حكم في دين اللّه،فشأنكم به.

فأقبلوا عليه الخوارج فقطعوه بسيوفهم (1)و خرج مؤمن الطاق و ترك الخزي و العار يحزان في نفوسهم.4.

ص: 314


1- الكشي:ص 124.

2-مع أبي حنيفة.

و له مع أبي حنيفة مناظرات رائعة بديعة دلت علي انتصاره و تفوقه عليه،فقد اجتمع به فقال له أبو حنيفة مستهزئا به:

-بلغني عنكم معشر الشيعة شيء.

-ما هو؟ إن الميت منكم إذا مات كسرتم يده اليسري لكي يعطي كتابه بيمينه.

و بالوقت سدد مؤمن الطاق له سهما من منطقه الفياض فقال له:

-يا نعمان،مكذوب علينا ذلك،و لكن بلغني عنكم معشر المرجئة إن الميت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعا (1)فصببتم فيه جرة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة.

فلم يطق أبو حنيفة جوابا فقال له برنة المخذول.

«مكذوب علينا و عليكم» (2).

و اجتمع به مرة فقال له أبو حنيفة:

-يا أبا جعفر،تقول:بالرجعة؟ -نعم.

فقال أبو حنيفة مستهزئا و ساخرا:

أقرضني من كيسك خمس مائة دينار،فاذا عدت أنا و أنت رددتها إليك.

فقال مؤمن الطاق:أريد ضمينا يضمن لك أنك لا تعود قردا لأتمكن6.

ص: 315


1- قمعتم:أي ضربتم.
2- الكشي:ص 125-126.

من استرجاع ما أخذت مني (1)و لم يتمكن أبو حنيفة من الرد عليه و انصرف و هو مخذول.

و اجتمع به مرة أخري فقال له:

-يا أبا جعفر،ما تقول في المتعة؟أ تزعم أنها حلال؟ -نعم.

-فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن،و يكتسبن لك؟ -ليس كل الصناعات يرغب فيها،و إن كانت حلالا،و للناس مراتب ترتفع بها أقدارهم،و لكن ما تقول:يا أبا حنيفة في النبيذ؟أ تزعم أنه حلال؟ -نعم.

-فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات يكتسبن لك.

-واحدة بواحدة،و سهمك أنفذ (2).

و لما توفي الامام أبو عبد اللّه(ع)،قال له أبو حنيفة:متشمتا بوفاة الامام.

-يا أبا جعفر،إن امامك قد مات.

-لكن امامك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم،أراد بذلك الشيطان (3).

-و له مناظرات أخري مع أبي حنيفة،دلت علي تفوقه عليه و استحضاره للجواب.3.

ص: 316


1- تنقيح المقال.161/3.
2- الكليني:باب المتعة و ذكره الخطيب البغدادي مع تغيير يسير تاريخ بغداد:13:410.
3- الكشي:ص 123.

3-مع ابن أبي العوجاء.

و اجتمع مؤمن الطاق بابن أبي العوجاء رأس الالحاد في العالم العربي، فوجه إليه ابن أبي العوجاء السؤال الآتي:

-أ ليس من صنع شيئا واحدا او أحدثه حتي يعلم أنه من صنعه فهو خالقه؟ -بلي.

أجلني شهرا أو شهرين ثم تعال إلي حتي أريك.

قال مؤمن الطاق:فسافرت إلي بيت اللّه الحرام،فدخلت علي أبي عبد اللّه(ع)فعرضت عليه الأمر فقال(ع):إنه قد هيأ لك شاتين، و معه جمع من أصحابه ثم يخرج الشاتين و قد امتلأتا دودا فيقول لك:

-هده الدود قد حدثت من فعلي.

-قل له:إن كان من صنعك فميز ذكورها من إناثها.

و يقول لك:ليست هذه من أبزارك انما حملتها من الحجاز،ثم يقول لك:

-أ ليس تزعم أنه غني؟ -قل له:بلي.

-و يقول لك:أ يكون الغني عندك معقولا في وقت من الأوقات ليس عنده ذهب و لا فضة.

-قل له:نعم.

-يقول لك:كيف يكون هذا غنيا؟ -قل له:إن كان الغني بيننا من قبل الذهب أو الفضة أو التجارة فهذا كله مما يتعامل به الناس،فأي شيء في القياس أكبر و أولي بأن يقال:

غني علي من أحدث الغني فأغني به الناس قبل أن يكون شيء و هو وحده

ص: 317

أو من أفاد مالا من هبة و صدقة و تجارة.

و عاد مؤمن الطاق الي بلاده فاجتمع بابن أبي العوجاء فجري الحديث السالف بينه و بينه فقال متبهرا:هذه و اللّه ليست من أبزارك،هذه و اللّه مما تحملها الابل (1).

و له مناظرات أخري دلت علي سعة معارفه و علومه.

6-مؤلفاته.

ألف مؤمن الطاق جملة من الكتب في مختلف العلوم و هذا بعضها:

(1)«افعل و لا تفعل»و هو كتاب كبير حسن رآه النجاشي عند أحمد بن الحسين،و قال فيه إن بعض المتأخرين أدخل فيه أحاديثا تدل فيه علي الفساد.

(2)«كلامه مع الخوارج»و يتضمن مناظراته معهم و فساد عقيدتهم (3)«مجالسه مع أبي حنيفة و المرجئة».

(4)«الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين» (2).

(5)«المعرفة».

(6)«الرد علي المعتزلة في إمامة المفضول».

(7)«الجمل»يشرح فيه قصة طلحة و الزبير و عائشة.

(8)«اثبات الوصية» (3).

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن هذا الفذ العظيم الذي جاهد طويلا و ناضل كثيرا في سبيل اللّه و الذب عن كيان الاسلام في وقت كانت السلطةت.

ص: 318


1- تنقيح المقال:162/3.
2- النجاشي:ص 209.
3- الفهرست.

الحاكمة تطارد المصلحين و تنكل برجال العلم و العقيدة الذين كانوا ينشرون فضائل أهل البيت(ع).

252-محمد بن علي.

النيسابوري من ثقات الشيعة و هو الذي أوفده أهالي نيسابور ممثلا عنهم بعد وفاة الامام الصادق(ع)لمعرفة الحجة و الامام بعد أبي عبد اللّه و قد ذكرنا حديثه في«الجزء الأول»من هذا الكتاب.

253-محمد بن عمرو.

من أصحاب الامام(ع)و هو واقفي (1).

254-محمد بن عمر.

ابن يزيد السابري،روي عن أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (2).

525-محمد بن الفرج.

الرخجي (3)روي عن أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (4).

256-محمد بن الفضيل.

ابن كثير الأزدي الصيرفي الكوفي،روي عن أبي الحسن موسي و ولده7.

ص: 319


1- الخلاصة،رجال ابن داود.
2- النجاشي:ص 281.
3- الرخجي:نسبة اما الي رخج كورة او مدينة من نواحي كابل او الي الرخجة قرية تبعد عن بغداد بفرسخ.
4- النجاشي:ص 2/7.

الرضا(ع)و له كتاب و مسائل (1).

257-محمد بن مسعود.

الطائي،كوفي،عربي،ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (2)258-محمد بن يزيد.

النهرواني،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و هو مجهول الحال (3).

259-محمد بن يونس.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي،و قال إنه ثقة، و كذا ذكره العلامة في«الخلاصة»،و ورد توثيقه في كل من«الوجيزة» و البلغة» (4).

260-مرزام بن حكيم.

الأزدي المدائني،مولي ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع) أحضره الرشيد و معه أخواه محمد و حديد،و عبد الحميد بن غواص فأمر الرشيد بقتل عبد الحميد و نجا مرزام و أخواه،من شره،توفي في أيام الامام الرضا(ع)،و له كتاب يرويه جماعة (5).2.

ص: 320


1- النجاشي:ص:287.
2- الخلاصة،البلغة.
3- تنقيح المقال:201/3.
4- تنقيح المقال:203/3.
5- النجاشي:ص 232.

261-مسعدة بن صدقة.

العبدي يكني أبا محمد،و قيل أبو بشر،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن موسي(ع)و له كتب،منها كتاب«خطب أمير المؤمنين» (1)262-مسمع بن عبد الملك.

ابن مسمع،أبو سيار الملقب بكردين شيخ بكر بن وائل بالبصرة، و وجه وسيد المسامعة،روي عن أبي جعفر(ع)روايات يسيرة،و روي عن أبي عبد اللّه،و اختص به و أكثر من الرواية عنه،قال له أبو عبد اللّه «اني لأعدك لأمر عظيم يا أبا اليسار»روي عن أبي الحسن موسي،و له نوادر كثيرة،و هو الذي روي أيام البسوس (2).

263-مصادف.

مولي أبي عبد اللّه الصادق(ع)عده الكشي من أصحاب الامام الكاظم(ع) و قد اشتري الامام الكاظم(ع)ضيعة و وهبها لولد مصادف،و ضعفه ابن الغضائري (3).

264-معاوية بن عمار.

ابن أبي معاوية البجلي الدهني،كوفي،كان وجها من أصحابنا و مقدما كبير الشأن عظيم المنزلة ثقة،و كان أبوه عمار ثقة عند العامة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتب منها كتاب«الحج»و كتاب3.

ص: 321


1- النجاشي:ص 325.
2- النجاشي:329.
3- تنقيح المقال:217/3.

«الصلاة»و كتاب«يوم و ليلة»و كتاب«الدعاء»و كتاب«الطلاق» و كتاب«مزار أمير المؤمنين»توفي سنة 175 ه (1).

265-معاوية بن وهب.

البجلي،أبو الحسن،عربي صميم،ثقة حسن الطريقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع)له كتب منها كتاب«فضائل الحج» (2)وثقه جماعة من الأعلام (3).

266-معتب.

مولي أبي عبد اللّه،عده الشيخ من أصحاب أبي الحسن موسي(ع) و أضاف الي ذلك أنه ثقة،و قال في حقه الامام أبو عبد اللّه(ع):موالي عشرة خيرهم و أفضلهم معتب (4).

267-المغيرة بن توبة.

المخزومي الكوفي،عده الشيخ المفيد في إرشاده من خاصة الامام الكاظم(ع)و ثقاته و من أهل الورع و العلم و الفقه،و أحد رواة النص علي إمامة الرضا(ع) (5).

268-المفضل بن صالح.د.

ص: 322


1- النجاشي:ص:322.
2- النجاشي:ص 223.
3- الوجيزة،البلغة،رجال ابن داود.
4- التنقيح:227/3.
5- الارشاد.

أبو جميلة النخاس،قال فيه ابن الغضائري:إنه كذاب،كان يضع الحديث،و قد روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع) (1).

269-المفضل بن عمر.

الجعفي الكوفي،من كبار العلماء،و من عيون المتقين و الصالحين، و من أفذاذ عصره،له المنزلة المرموقة و المكانة العليا عند أهل البيت(ع) و فيما يلي عرض لبعض شئونه.

1-ولادته.

ولد بالكوفة في نهاية القرن الأول،في أيام الامام الباقر(ع).

2-نشأته.

نشأ بالكوفة في وقت كان الجو السياسي مضطربا،و كانت الأحزاب السياسية و الجمعيات الدينية منتشرة في جميع أنحاء العالم العربي و الاسلامي خصوصا في الكوفة،فقد كانت مصدر الانطلاق لجميع الأحزاب،و نشأ المفضل في وسط ذلك المعترك الهائل،و قد تغذي بحب اهل البيت(ع)لأن مجتمعه كانت الصبغة السائدة فيه هو الولاء للأئمة الكرام(ع)و اتصل بهم اتصالا وثيقا كما سنبينه.3.

ص: 323


1- التنقيح:237/3.

3-علمه.

كان من كبار العلماء و من قادة الفكر في الاسلام،اقتبس العلوم من الامام الصادق(ع)فقد اختص به حفنة من السنين،و كان من عيون أصحابه الذين أخذوا العلم عنه و يكفي للتدليل علي غزارة علمه كتابه القيم المسمي«توحيد المفضل»الذي املاه عليه الامام الصادق(ع)فان الكتاب من مفاخر التراث الاسلامي الذي يعتز به،و قد قرض المحقق صدر الدين العاملي الكتاب و أثني علي المفضل بقوله:«و من نظر في حديث المفضل المشهور عن الصادق(ع)علم أن ذلك الخطاب البليغ»و المعاني العجيبة، و الألفاظ الغريبة،لا يخاطب الامام بها إلا رجلا عظيما كثير العلم،ذكي الحس أهلا لتحمل الأسرار الرفيعة،و الدقائق البديعة» (1).

و أقر الامام الصادق(ع)بمواهبه العلمية،فقد حدث الفيض بن المختار قال:قلت للامام الصادق إني لأجلس في حلقات أصحابنا بالكوفة،فما أكاد اشك لاختلافهم في حديثهم حتي أرجع الي المفضل فيقضي من ذلك علي ما تستريح إليه نفسي و يطمئن إليه قلبي،فقال له الامام(ع)أجل هو كذلك (2)وعده الشيخ المفيد من ثقات الفقهاء الصالحين (3).

4-وثاقته.

كان المفضل من عيون الثقات الصالحين،و من ذوي البصيرة في دينهمد.

ص: 324


1- شرح توحيد المفضل:ص 17.
2- تنقيح المقال.
3- الارشاد.

و يكفي للتدليل علي ورعه وكالته عن الامامين الصادق و الكاظم(ع)في قبض أموالهما،و قبض الحقوق الشرعية الراجعة لهما و صرفها بحسب نظره من إصلاح ذات البين و إعطائها للفقراء و البائسين،و من الطبيعي أن هذا التفويض ينم عن سمو منزلته و نباهة شأنه،و قال في حقه الامام الصادق «نعم العبد و اللّه الذي لا إله إلا هو المفضل بن عمر الجعفي»و قال الامام الرضا في تأيينه:«إن المفضل كان أنسي و مستراحي»،و وردت أخبار كثيرة في الثناء عليه و هي تدل علي إيمانه الصادق و ورعه و اجتهاده في طاعة اللّه تعالي و عزوفه عن الدنيا.

5-جرحه.

اتهمه جماعة بالغلو و بالخطابية و بغير ذلك من المذاهب الفاسدة متمسكين بأخبار ضعيفة لا يمكن التمسك بها في جرح هذا العملاق العظيم الذي هو من دعائم الاسلام فان أغلب ثقات الاسلام من رجال الشيعة كهشام بن الحكم و غيره قد اتهموا بما هم بريئون عنه.

6-مؤلفاته.

و ألف المفضل عدة من الكتب دلت علي مقدرته العلمية و هذه بعضها:

(1)كتاب«يوم و ليلة».

(2)كتاب«فكر».

(3)كتاب«بدء الخلق و الحث علي الاعتبار».

(4)كتاب«علل الشرائع».

(5)كتاب«وصية المفضل» (1).6.

ص: 325


1- النجاشي:ص 226.

و من أجل الكتب التي ألفها هو«التوحيد»و الذي يسميه النجاشي بكتاب «فكر»و قد شكك الاستاذ البحاثة السيد مصطفي جواد في نسبته إلي المفضل في مقال نشره في مجلة«الوحدة الاسلامية»تحت عنوان«أ توحيد المفضل أم توحيد الجاحظ؟»و قد تمسك فيما ذهب إليه بأدلة واهية و تعرض لابطالها جماعة من الكتاب و المحققين،في طليعتهم المغفور له صديقنا الاستاذ الشيخ محمد الخليلي في مقدمته للكتاب المذكور،و قد شرحه شرحا مستفيضا و قيما علي ضوء العلم الحديث،و اعتمد علي ما أفاده في نسبة الكتاب الي المفضل بأدلة وافرة و حجج قاطعة.

7-وصيته للشيعة:

و أوصي المفضل جماعة من اخوانه الشيعة بهذه الوصية القيمة الحافلة بأخلاق أهل البيت(ع)و آدابهم و سيرتهم...و ينبغي أن تكون درسا و منهاجا لكل مسلم،و ذلك لما فيها من النصائح الرفيعة،و المثل الفذة، و هذا نصها:

«أوصيكم بتقوي اللّه وحده لا شريك له،و شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله،اتقوا اللّه و قولوا قولا معروفا.و ابتغوا رضوان اللّه،و اخشوا سخطه.و حافظوا علي سنة اللّه،و لا تتعدوا حدود اللّه و راقبوا اللّه في جميع أموركم.و ارضوا بقضائه فيما لكم و عليكم.

ألا و عليكم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ألا و من احسن إليكم فزيدوه احسانا،و اعفوا عمن أساء إليكم.

و افعلوا بالناس ما تحبون أن يفعلوه بكم.

ألا و خالطوهم بأحسن ما تقدرون عليه،و انكم أحري أن لا تجعلوا

ص: 326

عليكم سبيلا.عليكم بالفقه في دين اللّه و الورع عن محارمه و حسن الصحبة لمن صحبكم برا كان أو فاجرا.

ألا و عليكم بالورع الشديد فان ملاك الدين الورع صلوا الصلوات لمواقيتها و أدوا الفرائض علي حدودها.

ألا و لا تقصروا فيما فرض اللّه عليكم،و بما يرضي عنكم،فاني سمعت أبا عبد اللّه(ع)يقول:تفقهوا في دين اللّه و لا تكونوا أعرابا،فانه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة،و عليكم بالقصد في الغني و الفقر،و استعينوا ببعض الدنيا علي الآخرة،فاني سمعت أبا عبد اللّه يقول:

«استعينوا ببعض هذه علي هذه،و لا تكونوا كلا علي الناس»عليكم بالبر بجميع من خالطتموه و حسن الصنيع إليه.

ألا و إياكم و البغي فان أبا عبد اللّه كان يقول:«ان أسرع الشر عقوبة البغي» أدوا ما افترض اللّه عليكم من الصلاة و الصوم و ساير فرائض اللّه،و أدوا الزكاة المفروضة الي اهلها فان أبا عبد اللّه قال:«يا مفضل قل لأصحابك:

يضعون الزكاة في أهلها و اني ضامن لما ذهب لهم»عليكم بولاية آل محمد(ص) اصلحوا ذات بينكم،و لا يغتب بعضكم بعضا.تزاوروا و تحابوا و ليحسن بعضكم الي بعض.و تلاقوا و تحدثوا و لا يبطنن بعضكم عن بعض (1)و إياكم و التصارم،و اياكم و الهجران فاني سمعت أبا عبد اللّه يقول:«و اللّه لا يفترق رجلان من شيعتنا علي الهجران إلا برئت من أحدهما و لعنته و أكثر ما أفعل ذلك بكليهما،فقال له معتب (2)جعلت فداك هذا الظالم ما بال المظلوم؟ قال:لأنه لا يدعو اخاه الي صلته،سمعت أبي يقول:«اذا تنازع اثنان من شيعتنا ففارق أحدهما الآخر فليرجع المظلوم الي صاحبه حتي يقول له:ه.

ص: 327


1- في بعض النسخ«لا يبطئن».
2- معتب:مولي أبي عبد اللّه(ع)و من خواص أصحابه.

يا أخي أنا الظالم حتي ينقطع الهجران فيما بينهما،إن اللّه تبارك و تعالي حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم»لا تحقروا و لا تجفوا فقراء شيعة آل محمد(ص) و الطفوهم و اعطوهم من الحق الذي جعله اللّه لهم في أموالكم و احسنوا إليهم.

لا تأكلوا أموال الناس.

لا تأكلوا الناس بآل محمد(ص)فاني سمعت أبا عبد اللّه يقول:

«افترق الناس فينا علي ثلاث فرق:فرقة أحبونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا،فقالوا:و حفظوا كلامنا و قصروا عن فعلنا،فيحشرهم اللّه الي النار،و فرقة أحبونا و سمعوا كلامنا و لم يقصروا عن فعلنا ليستأكلوا الناس بنا فيملأ اللّه بطونهم نارا يسلط عليهم الجوع و العطش،و فرقة أحبونا و حفظوا قولنا و أطاعوا أمرنا و لم يخالفوا فعلنا فأولئك منا و نحن منهم» و لا تدعوا صلة آل محمد(ص)من أموالكم من كان غنيا فبقدر غناه،و من كان فقيرا فبقدر فقره،فمن أراد أن يقضي اللّه له أهم الحوائج فليصل آل محمد و شيعتهم بأحوج ما يكون إليه من ماله لا تغضبوا من الحق إذا قيل لكم،و لا تبغضوا أهل الحق اذا صدعوكم به،فان المؤمن لا يغضب من الحق اذا صدع به.

و قال أبو عبد اللّه مرة و أنا معه:يا مفضل كم أصحابك؟فقلت:

قليل،فلما انصرفت الي الكوفة أقبلت علي الشيعة فمزقوني كل ممزق،يأكلون لحمي و يشتمون عرضي حتي أن بعضهم استقبلني فوثب في وجهي،و بعضهم قعد لي في سكك الكوفة يريد ضربي،و رموني بكل بهتان حتي بلغ ذلك أبا عبد اللّه(ع)فلما رجعت إليه في السنة الثانية كان أول ما استقبلني به بعد تسليمه علي أن قال:يا مفضل ما هذا الذي بلغني أن هؤلاء يقولون لك و فيك؟قلت:و ما علي من قولهم،قال:«أجل بل ذلك عليهم، أ يغضبون بؤس لهم،إنك قلت إن أصحابك قليل،لا و اللّه ما هم لنا شيعة

ص: 328

و لو كانوا لنا شيعة ما غضبوا من قولك،و ما اشمأزوا منه،لقد وصف اللّه شيعتنا بغير ما هم عليه،و ما شيعة جعفر إلا من كف لسانه،و عمل لخالقه و رجا سيده،و خاف اللّه حق خيفته،ويحهم أ فيهم من قد صار كالحنايا من كثرة الصلاة او قد صار كالتائه من شدة الخوف أو كالضرير من الخشوع أو كالضني من الصيام أو كالأخرس من طول الصمت و السكوت أو هل فيهم من قد أدأب ليله من طول القيام و أدأب نهاره من الصيام، أو منع نفسه لذات الدنيا و نعيمها خوفا من اللّه و شوقا إلينا أهل البيت، الي آخر وصيته،و قد حفلت بالحث علي تقوي اللّه و طاعته و فعل الخير (1)270-المنخل بن جميل.

الأسدي الكوفي،قال فيه ابن الغضائري:إنه روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،و هو كوفي ضعيف في مذهبه غلو،و قد اتفق جميع المترجمين له علي رميه بالغلو و الضعف و له كتاب في«التفسير» (2).

271-منصور بن أبي بصير.

مولي أبي الحسن،عده الشيخ في رجاله بهذا العنوان من أصحاب الامام الكاظم،و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (3).

272-منصور بن حازم.

أبو أيوب البجلي الكوفي ثقة عين صدوق من أجلاء الشيعة،و من عيون الفقهاء،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي(ع)ألف جملة/3

ص: 329


1- تحف العقول:ص 513-515.
2- الفهرست،النجاشي،الحاوي،إيضاح الاشتباه.
3- تنقيح المقال:249/3

من الكتب منها:كتاب«اصول الشرائع»و منها كتاب«الحج» (1)و أجمع المترجمون له علي توثيقه وسعة علمه و فقاهته (2).

273-منصور بن يونس.

قال فيه النجاشي:إنه أبو يحيي،و قيل أبو سعيد كوفي ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (3)و رماه الشيخ بالوقف،و روي الكشي أنه دخل علي أبي الحسن موسي(ع)،فقال له الامام:

أ ما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ فقال له:لا فقال(ع):قد صيرت عليا ابني وصي و الخلف من بعدي فادخل عليه فهنئه بذلك و أعلمه أني أمرتك بهذا،فدخل علي الامام الرضا(ع) فهنأه بذلك و أعلمه بمقالة أبيه،و لما توفي(ع)جحد موته،و السبب في ذلك أنه كانت بيده أموال للامام موسي فطمع بها فأنكرها و أنكر إمامة الامام الرضا،و قد أسقط بعضهم ذلك عن الاعتبار و بني علي عدالة الرجل و وثاقته (4).

274-موسي بن ابراهيم.

المروزي،اختص بالامام موسي(ع)لما كان في سجن الطاغية السندي3.

ص: 330


1- النجاشي:ص 323.
2- البلغة،الخلاصة،رجال ابن داود.
3- النجاشي:ص 250
4- تنقيح المقال:250/3.

ابن شاهك لأنه كان معلما لولده،و قد فسح له المجال للاتصال بالامام و قد ألف كتابا مما سمعه من الامام (1)،و قد اسماه«مسند الامام موسي بن جعفر».

توجد نسخة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق ضمن المجموع رقم «34-70»و قد استنسخها،و صور بعض فصولها العلامة الجليل السيد محمد الحسين الحسيني الجلالي،و هي حسب تحقيقه يرجع عهدها الي القرن السادس للهجرة،و عليها عدة تواريخ أقدمها سنة«531 ه»و هي من موقوفات الحافظ المحدث ضياء الدين ابي عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الواحد السعدي المقدسي الصالحي الحنبلي.

و قد عني العلامة الجلالي عناية بالغة بتحقيق المسند فترجم لمؤلفه ترجمة وافية فذكر شيوخه و من روي عنه،كما ذكر سند الكتاب حسب ما نص عليه الشيخ الطوسي و النجاشي،و أبو المكارم البادرائي الذي هو سند النسخة و عليها عدة سماعات قديمة التأريخ،و يحتوي علي«59 حديثا»،و فيما يلي بعضها:

1-حدثنا محمد بن محمد خلف،حدثنا موسي بن ابراهيم،حدثنا موسي بن جعفر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده،قال قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم:«من أصبح من أمتي و همته غير اللّه فليس من اللّه».

2-و بنفس هذا الاسناد،قال(ع)قال رسول اللّه(ص):«من حدث عني و هو يعلم أنه كذب،فهو أحد الكاذبين».

3-قال(ع):كان النبي(ص)يعجبه أن يكون الرجل خفيف الصوت،و يكره أن يكون الرجل جهير الصوت».9.

ص: 331


1- النجاشي:ص 319.

4-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«إن العجب يفسد عمل سبعين سنة».

5-قال(ع):قال رسول(ص):«اذا أردتم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم».

6-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

7-قال(ع):قال علي(ع):قال رسول اللّه(ص):من ادعي الي غير أبيه حشره اللّه مع المشركين» 8-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«من آذي المسلمين في طرقهم،وجبت عليه لعنتهم».

9-قال(ع):قال(ص):«من حافظ علي الصلوات الخمس في جماعة لم يكتب من الغافلين».

10-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«ما ازداد عبد من الشيطان دخولا إلا ازداد من اللّه بعدا».

11-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«اصنع المعروف الي من هو أهله،و الي من ليس هو أهله،فان لم يكن من أهله تكن من أهله».

12-و بنفس هذا الاسناد قال(ع):قال علي(ع)«المصافحة أثبت للمودة».

13-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«المرء علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل..» 14-قال(ع):«ان الحسن و الحسين(ع)كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان».

15-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«من أذن له بالدعاء فتحت له أبواب الرحمة.

ص: 332

16-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«ظلم الأجير أجره من الكبائر».

17-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«اذا أراد اللّه بعبد خيرا فقهه في الدين،و بصره بعيوب خلقه،و زهده في الدنيا».

18-قال(ع)قال رسول اللّه(ص):«ما علم علما والد ولده أفضل من أدب حسن».

19-قال(ع)قال رسول اللّه(ص):«يود قوم يوم القيامة أنهم سقطوا من الثريا،و لم يؤمروا علي شيء».

20-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«ثلاث لا ترد دعوتهم الامام العادل،و الصائم حتي يفطر،و دعوة المظلوم».

21-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«من قال:إني عالم فهو جاهل».

22-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«أفضل أخلاق المؤمنين العفو».

23-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«من عفا عن أخيه المسلم عفا اللّه عنه».

24-قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«الايمان معرفة بالقلب و أقرار باللسان،و عمل بالاركان».

هذه بعض أحاديث المسند،و قد سمعها موسي بن ابراهيم من الامام عليه السلام حينما كان في سجن السندي بن شاهك.

275-موسي بن بكر.

الواسطي،كوفي الأصل،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسي

ص: 333

و هو من جملة رواة النص من الامام موسي علي إمامة ولده الرضا،و لكنه بعد وفاة الامام موسي وقف و لم يقر بامامة الرضا(ع)و له كتاب (1)276-موسي بن الحسن.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي،و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (2).

277-موسي بن سعدان.

الحناط الكوفي،روي عن أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب،قال ابن الغضائري:إنه ضعيف في مذهبه غلو،و كذا ذكر العلامة في «الخلاصة» (3).

278-مهران بن أبي بصير.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام(ع)و الظاهر أنه إمامي مجهول الحال (4).

(ن)-:

279-نجية بن الحارث.

القواس العطار،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و روي

ص: 334


1- الفهرست،الخلاصة،النجاشي.
2- تنقيح المقال:255/3.
3- تنقيح المقال:256/3.
4- نفس المصدر.

الكشي عن محمد بن عيسي أن نجية كان شيخا صادقا صديقا لعلي بن يقطين (1).

280-نشيط بن صالح.

ابن لفافة،مولي بني عجل،ثقة،روي عن أبي الحسن موسي(ع) و له كتاب (2)و روي العلامة أنه كان خادما عند الامام موسي (3)و هو أحد رواة النص علي إمامة الرضا (4).

281-نصر بن قابوس.

اللخمي،القابوسي،روي عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن موسي و الامام الرضا،و كانت له منزلة عندهم،له كتاب (5)،وعده الشيخ المفيد من خاصة الامام الكاظم و من ثقاته و من أهل الورع و العلم من شيعته (6)و قال الشيخ الطوسي:إنه كان وكيلا عند الامام الصادق(ع) عشرين سنة (7)و هو أحد رواة النص علي إمامة الامام الرضا(ع) (8)و ذلك يكشف عن وثاقته و عدالته.ي.

ص: 335


1- تنقيح المقال:267/3.
2- النجاشي:335.
3- الخلاصة.
4- الكشي.
5- النجاشي:ص 333.
6- الارشاد.
7- الغيبة.
8- الكشي.

282-النضر بن سويد.

الصيرفي،كوفي،ثقة،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع) و له كتاب (1).

283-نعيم القابو.

عده الشيخ المفيد من خاصة الامام الكاظم و من ثقاته و من أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته (2)و روي الكليني أنه أحد الذين رووا النص علي إمامة الرضا (3).

(و)-:

284-الوليد بن سعيد.

مولي أبي الحسن،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم،و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (4).

285-الوليد بن هشام.

المرادي،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي(ع)، و نقل عنه في«التهذيب»رواية عن الامام(ع) (5).

286-وهيب بن حفص.

ص: 336


1- تنقيح المقال.
2- الارشاد.
3- الكافي.
4- تنقيح المقال:280/3.
5- نفس المصدر.

الجريري،مولي بني أسد،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن و كان من الواقفية،و هو ثقة صنف عدة من الكتب منها كتاب«التفسير» و كتاب«الشرائع» (1).

(ه)-:

287-هشام بن إبراهيم.

البغدادي المشرفي،قال فيه الكشي:إنه ثقة روي الحديث الذي ذكرناه في ترجمة الفضل بن يونس:

288-هشام بن أحمر.

الكوفي،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (2).

289-هشام بن الحكم.

من أفذاذ الأمة الاسلامية و من كبار علمائها و في طليعة المنافحين عن مبدأ أهل البيت(ع)ناضل كثيرا و جاهد طويلا في نصرة الحق و الذب عن كيان الاسلام خصوصا في ذلك العصر الذي انعدمت فيه الحريات العامة و كان الذاكر لفضائل أهل البيت عرضة للانتقام و التنكيل من قبل السلطة الحاكمة التي بذلت جميع إمكانياتها في إضعاف كيان آل الرسول(ع)و لكن هشاما لم يعن بذلك،فقد ناظر خصومه،وفاق عليهم،و تحدثت الأندية العلمية عن قوة استدلاله و روعة برهانه الأمر الذي ينم عن مدي

ص: 337


1- النجاشي:ص 337،جامع الرواة.
2- تنقيح المقال:294/3.

تعلقه و حبه لأهل البيت(ع)و نعرض فيما يلي-بايجاز-لبعض شئونه و أحواله.

1-ولادته:

ولد بالكوفة،و قيل بواسط (1)و ليس عندنا نص يعين لنا السنة التي ولد فيها.

2-نشأته:

و اختلف المترجمون له في نشأته فقيل إنه نشأ بالكوفة (2)و المعروف أنه نشأ في مدينة واسط (3)و كان يتعاطي التجارة،و انتقل أخيرا الي بغداد فنزل في جانب الكرخ في قصر وضاح (4)،و في فترة شبابه اعتنق فكرة الجهمية و هي فكرة تدعو الي الجبر و ان الانسان مسلوب القدرة و الاستطاعة و أخيرا رفض ذلك و تبرأ منه و السبب في ذلك ما حدث به عمر بن يزيد عم هشام قال:إنه أقبل الي يثرب ليناظر أبا عبد اللّه الصادق(ع)فطلب مني أن أدخله عليه،فاعلمته اني لا أفعل ما لم استأذنه،فدخلت علي أبي عبد اللّه فاستأذنته في إدخال هشام عليه،فأذن لي،فقمت من عنده و خطوت خطوات فذكرت رداءته و خبثه،فقال لي أبو عبد اللّه:أ تتخوف علي؟فخجلت من قولي و علمت اني قد عثرت،فخرجت خجلا،و اعلمت هشاما بالاذن،فدخل و دخلت معه،فلما استقر بنا المجلس سألنا أبو عبد اللّه0.

ص: 338


1- تأسيس الشيعة ص:360.
2- ضحي الاسلام:368/3
3- تنقيح المقال،و غيره.
4- تأسيس الشيعة:ص 360.

عن مسألة فحار فيها هشام و بقي ساكتا،فسأله هشام،أن يؤجله فأجله، أبو عبد اللّه،فذهب هشام فاضطرب في طلب الجواب أياما فلم يقف عليه فرجع الي أبي عبد اللّه فأخبره أبو عبد اللّه بها،و سأله الامام عن مسائل أخري بيّن فيها فساد مذهبه و بطلان عقيدته فلم يطق الجواب و لم يتمكن علي حل ما أورده الامام عليه فخرج من عنده و قلبه مترع بالألم و الحزن و الحيرة،و بقي أياما و الهموم قد طافت به.

قال عمر بن يزيد:فسألني أن أستأذن علي أبي عبد اللّه،فاستأذنت له،فقال أبو عبد اللّه(ع):لينتظرني في موضع بالحيرة لا لتقي معه فيه غدا إن شاء اللّه إذا راح النهار،قال عمر فخرجت الي هشام،فأخبرته بمقالته و أمره،فسر بذلك و استبشر،و سبقه الي الموضع الذي سماه و اجتمع بالامام ثم رأيت هشاما بعد ذلك فسألته عما كان بينهما فأخبرني أنه سبق أبا عبد اللّه الي الموضع الذي كان سماه،فبينما هو بالانتظار و إذا بأبي عبد اللّه قد أقبل علي بغلة فلما بصرت به و قرب مني هالني منظره،و أرعبني حتي بقيت لا أجد شيئا أتفوه به،و لا انطلق لساني لما أردت من مناطقته،و وقف عليّ أبو عبد اللّه مليا ينظر ما أكلمه،و كان وقوفه علي لا يزيدني إلا تهيبا و تحيرا،فلما رأي ذلك مني ضرب بغلته و سار حتي دخل في بعض السكك و تيقنت أن ما أصابني من هيبته لم يكن إلا من قبل اللّه عز و جل،من عظم موقعه و مكانه من الرب الجليل،قال عمر:فانصرف هشام إلي أبي عبد اللّه و ترك مذهبه و دان بدين الحق،وفاق أصحاب أبي عبد اللّه كلهم (1)و دلت هذه القصة-كما يقول الشيخ عبد اللّه نعمة-علي قوة العنصر الجدلي في هشام،فالمحدث لهذه القصة يعبر عنه أنه كان خبيثا في الجهمية.ثم هو يتخوف علي الامام الصادق أن ينقطع معه،و يبالغ في6.

ص: 339


1- الكشي:ص 166.

رداءته و خبثه،و يقصد بذلك طبعا شدة عارضته و قوة جدله.

و عنصر آخر تجده فيها،هو تعطشه الي المعرفة برغبة شديدة يواصل إليها سيره،و يبذل لها جهده حتي يلتقي معه في صعيد و ما بقاؤه متحيرا أياما لا يفيق من حيرته علي حسب تعبير عمر بن يزيد،و معاودته للاتصال بالامام الصادق الذي انتهي به أمره إلي ترك مذهبه و التحاقه به إلا صدي حيا لرغبته الملحة،و حبه للمعرفة،و التماسها أينما كانت (1)و مهما يكن من أمر فانه منذ ذلك الوقت اتصل بالامام الصادق اتصالا وثيقا و أخذ يتلقي العلم و المعارف منه حتي أصبح في طليعة العلماء و من كبارهم بعد ما كان من مشاهير أصحاب الجهم بن صفوان (2).

3-تخرجه:

و انقطع هشام الي الامام الصادق و عكف علي الاتصال به حتي أصبح من أبرز رجال مدرسته،و لما انتقل الامام الصادق الي دار الخلود اختص بولده الامام موسي(ع)و أخذ يتلقي منه العلم و الفضل،و بذلك فقد أخذ العلم من منبعه الصحيح و نال شرف التلمذة عند أئمة اهل البيت(ع).

4-من روي عنه.

و روي عنه جماعة من كبار الرواة الأحاديث التي سمعها من أهل البيت عليهم السلام و هم زمرة كبيرة توجد رواياتهم عنه في كتب الفقه و الحديث و الي القراء بعضهم.ر.

ص: 340


1- هشام بن الحكم:ص 55.
2- راجع تأريخ الاسلام للذهبي:(ج 5 ص 56-58)و فرق الشيعة للنوبختي ص 6 و 9 و تاريخ ابن كثير.

(1)محمد بن أبي عمير المتوفي(217 ه).

(2)صفوان بن يحيي البجلي الكوفي.

(3)النضر بن سويد الصيرفي الكوفي.

(4)نشيط بن صالح العجلي الكوفي.

(5)يونس بن عبد الرحمن مولي آل يقطين.

(6)حماد بن عثمان بن زياد الرواسي الكوفي.

(7)علي بن معبد البغدادي.

(8)يونس بن يعقوب (1).

و روي عنه غير هؤلاء من كبار الرواة ممن اختصوا به و تتلمذوا عنده.

5-اختصاصه.

اختص هشام في علم الكلام فكان من كبار المتكلمين في عصره،فان مناظراته دلت علي تفوقه في هذا الفن،قال في ترجمته ابن النديم:كان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة،و ممن فتق الكلام في الامامة،و هذب المذهب و النظر،و كان حاذقا بصناعة الكلام (2)و نظرا لاختصاصه في هذا الفن فقد حلي يحيي بن خالد البرمكي مجلسه به،و جعله قيما بمجالس كلامه (3)و قد ناظر هشام الفلاسفة في مختلف الميادين العلمية حتي تفوق عليهم و كانت نوادي بغداد تعج بمناظراته القيمة التي دلت علي مهارته في هذا الفن.ر.

ص: 341


1- تنقيح المقال.
2- الفهرست:ص 263 ط الاستقامة.
3- نفس المصدر.

6-مؤلفاته.

كان هشام خصب الانتاج ألف في مختلف الفنون و العلوم و حلق في في جميعها،و لكن من المؤسف ان أغلب تراثه العلمي لم يعثر عليه سوي اليسير،و الي القراء بعض مؤلفاته:

(1)كتاب«الامامة».

(2)كتاب«الدلالات علي حدوث الأشياء».

(3)كتاب«الرد علي الزنادقة».

(4)كتاب«علي أصحاب الاثنين».

(5)كتاب«التوحيد».

(6)كتاب«الرد علي هشام الجواليقي».

(7)كتاب«الرد علي أصحاب الطبائع».

(8)كتاب«الشيخ و الغلام».

(9)كتاب«التدبير».

(10)كتاب«الميزان».

(11)كتاب«الميدان».

(12)كتاب«الرد علي من قال بامامة المفضول».

(13)كتاب«اختلاف الناس في الامامة».

(14)كتاب«الوصية و الرد علي من أنكرها».

(15)كتاب«الجبر و القدر».

(16)كتاب«الحكمين».

(17)كتاب«الرد علي المعتزلة في طلحة و الزبير».

(18)كتاب«القدر)

ص: 342

(19)كتاب«الألفاظ».

(20)كتاب«المعرفة».

(21)كتاب«الاستطاعة».

(22)كتاب«الثمانية أبواب».

(23)كتاب«الرد علي شيطان الطاق».

(24)كتاب«الأخبار كيف تفتح».

(25)كتاب«الرد علي ارسطاليس في التوحيد».

(26)كتاب«الرد علي المعتزلة» (1).

(27)كتاب«المجالس في الامامة».

(28)كتاب«علل التحريم».

(29)كتاب«الرد علي القدرية».

و قد اطلع عليه الامام موسي عليه السلام،فقرضه قائلا:«ما ترك شيئا».

(30)كتاب«الفرائض» (2).

و هذه المجموعة الضخمة من المؤلفات تدل علي ثروته العلمية الضخمة وسعة اطلاعه.

8-مناظراته القيمة:

و خاض هشام مع علماء الأديان و المذاهب في ميدان الاحتجاج مستدلا علي صحة مبدأه و بطلان أفكارهم و معتقداتهم،و نظرا لخطورة استدلاله و قوة حججه كان الرشيد يحضر من وراء الستار فيصغي إليها و يعجب بها8.

ص: 343


1- الفهرست:ص 264.
2- النجاشي:ص 338.

و فيما يلي بعضها.

1-مع عمرو بن عبيد.

و طلب الامام الصادق(ع)من هشام أن يقص عليه مناظراته مع عمرو بن عبيد الزعيم الروحي للمعتزلة فقال له هشام:

-إني أجلك،و استحي منك فلا يعمل لساني بين يديك.

-إذا أمرتك بشيء فافعله.

فامتثل هشام أمر الامام و اخذ يحدثه بقصته مع عمرو قائلا له:

بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة،و عظم ذلك علي،لأنه كان ينكر الامامة،و يقول:مات رسول اللّه(ص)بلا وصي،فخرجت إليه و دخلت البصرة فأتيت مسجدها،و إذا أنا بحلقة كبيرة،و إذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف و شملة مرتد بها و الناس يسألونه فاستفرجت الناس فأفرجوا لي،ثم قعدت في آخر القوم علي ركبتي ثم قلت له:

-أيها العالم أنا رجل غريب،أ تأذن لي أن أسألك عن مسألة؟ -نعم.

-أ لك عين؟ -يا بني،أي شيء هذا من السؤال؟ -هذه مسألتي.

-يا بني،و إن كانت مسألتك حمقي؟ -أجبني فيها.

-سل؟ -أ لك عين؟ -نعم.

ص: 344

-فما تري بها؟ -أري بها الألوان و الأشخاص.

أ لك أنف؟ -نعم.

-ما تصنع به؟ -أشم به الرائحة.

-أ لك فم؟ -نعم.

-ما تصنع به؟ -أتكلم به.

-أ لك أذن؟ -نعم.

-ما تصنع بها؟ -أسمع بها الأصوات.

-أ لك يدان؟ -نعم.

-ما تصنع بهما؟ -أبطش بهما و أعرف اللين من الخشن.

-أ لك رجلان؟ -نعم.

-ما تصنع بهما؟ -انتقل بهما من مكان إلي مكان.

-أ لك قلب؟

ص: 345

-نعم.

-ما تصنع به؟ -أميز به كلما ورد علي هذه الجوارح.

-أ فليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ -لا.

-و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة؟ -يا بني،إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو ذاقته،فتؤديه الي القلب،فيتيقن اليقين،و يبطل الشك.

-فانما أقام اللّه القلب لشك الجوارح؟ -نعم.

-فلا بد من القلب و إلا لم تستيقن الجوارح؟ -نعم.

و بعد ما أخذ هشام من عمرو هذه المقدمات كر عليه في إبطال ما ذهب إليه من أن رسول اللّه(ص)مات بلا وصي فقال له:«يا أبا مروان إن اللّه لم يترك جوارحك حتي جعل لها إماما يصحح لها الصحيح و ينفي ما شكت فيه،و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم و حيرتهم و يقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك و شكك!! فسكت عمرو و لم يطق جوابا فقد سد عليه هشام كل نافذة يخرج منها و التفت إليه بعد أن استولي عليه صمت رهيب قائلا له:

-أنت هشام؟ -لا.

-أ جالسته؟

ص: 346

-لا.

-من أين أنت؟ -من أهل الكوفة.

-أنت إذن هو؟ ثم قام إليه فصافحه و أجلسه في مجلسه،و ما نطق بشيء حتي قام، فسر الامام بذلك سرورا بالغا،و اعجبته هذه المناظرة الرائعة أي اعجاب (1).

2-مع يحيي بن خالد البرمكي.

و وجه يحيي بن خالد سؤالا الي هشام بحضرة هارون الرشيد قائلا له:

-يا هشام،اخبرني عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟ -لا.

فاخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين،و تنازعا و اختلفا،هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين،أو يكون أحدهما مبطلا و الآخر محقا.

-لا يخلوان من ذلك،و ليس يجوز أن يكونا محقين.

-اخبرني عن علي و العباس لما اختصما الي أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل؟ فاستولت الحيرة علي هشام و حدث عما أصابه من الذهول بقوله:

«إن قلت،إن عليا كان مبطلا كفرت و خرجت عن مذهبي،و إن قلت إن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي»حقا انها لمشكلة،و لكنه لم يلبث حتي استرجع إليه صوابه و تذكر قول الصادق(ع)-كما يقول-2.

ص: 347


1- الكشي ص:176-177،الامالي 55/1،مروج الذهب 382/2.

«يا هشام،لا زلت مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»فعلم عند ذلك أنه لا يخذل و حضر له الجواب،فقال له:

لم يكن من أحدهما خطأ و كانا جميعا محقين،و لهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود عليه السلام حيث يقول اللّه جل اسمه«و هل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب،الي قوله خصمان بعي بعضنا علي بعض» فأي الملكين كان مخطئا؟و أيهما كان مصيبا؟أم تقول»إنهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي بعينه».

فقال يحيي:لست أقول:إن الملكين أخطآ،بل أقول إنهما أصابا و ذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة و لا اختلفا في الحكم،و إنما اظهرا ذلك لينبها داود علي الخطيئة و يعرفاه الحكم و يوقفاه عليه.

فقال هشام!كذلك علي و العباس لم يختلفا في الحكم و لا اختصما في الحقيقة،و انما أظهرا الاختلاف و الخصومة لينبها أبا بكر علي غلطه و يوقفاه علي خطيئته،و يدلاه علي ظلمه لهما في الميراث،و لم يكونا في ريب من أمرهما،و انما ذلك منهما علي ما كان من الملكين..».

فتحير يحيي و لم يطق جوابا،و استحسن الرشيد هذا البيان الرائع الذي تخلص به هشام (1).

3-مع النظام:

و يذهب النظام الي أن أهل الجنة غير مخلدين فيها،و انه لا بد أن يدركهم الموت،و قد التقي بهشام فوجه إليه هذا القول:

«إن أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد،فيكون بقاؤهم كبقاء اللّه2.

ص: 348


1- الفصول المختارة 24/1-25 و وردت هذه المناظرة باختصار في عيون الأخبار 15/2.

و محال أن يبقوا كذلك..» فرد عليه هشام بأبلغ الحجة قائلا:

«أهل الجنة يبقون بمبق لهم،و اللّه يبقي بلا مبق..» و أصر النظام علي عقيدته قائلا:

«محال أن يبقوا الي الأبد».

هشام:إلي م يصيرون؟ النظام:يدركهم الخمود.

هشام:بلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس؟ النظام:نعم.

هشام:فاذا اشتهوا و سألوا ربهم بقاء الأبد.

النظام:إن اللّه لا يلهمهم.

هشام:لو ان رجلا من أهل الجنة نظر الي ثمرة علي شجرة فمد يده ليأخذها،فتدلت إليه الشجرة و الثمرة ثم حانت منه لفتة فنظر الي ثمرة أخري منها فمد يده ليأخذها فأدركه الخمود،و يداه معلقتان بشجرتين فارتفعت الاشجار،و بقي هو مصلوبا.أ فبلغك أن في الجنة مصلوبا؟ النظام:هذا محال.

هشام:الذي أتيت به أمحل منه أن يكون قوم خلقوا و أدخلوا الجنة أن يموتوا فيها (1).

و انصرف النظام مخذولا لا يجد برهانا علي ما يذهب إليه.

4-مع ضرار الضبي:

و كان ضرار الضبي من الجاحدين للامامة،قد التقي بهشام،فسأله84

ص: 349


1- الكشي ص 165-184

هشام:

-أ تقول إن اللّه عدل لا يجور؟ -نعم.

-لو كلف اللّه المقعد المشي الي المساجد،و الجهاد في سبيل اللّه، و كلف الأعمي قراءة المصاحف و الكتب،أ تراه كان عادلا أم جائرا؟ -ما كان اللّه ليفعل ذلك.

-قد علمنا ما كان يفعل ذلك و لكن علي سبيل الجدل و الخصومة ان لو فعل ذلك،أ ليس كان في فعله جائرا؟و كلفه تكليفا لا يكون له السبيل الي اقامته و ادائه.

-لو فعل ذلك لكان جائرا.

-اخبرني عن اللّه عز و جل هل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟ -بلي.

-جعل لهم دليلا علي وجود ذلك الدين أو كلفهم ما لا دليل علي وجوده،فيكون بمنزلة من كلف الاعمي قراءة الكتب،و المقعد المشي الي المساجد و الجهاد.

و وجم ضرار فلم يجد منفذا يسلك فيه،و قد أعياه الأمر،و التفت الي هشام قائلا:

-لا بد من دليل،و ليس بصاحبك-يعني الامام عليا(ع)- فضحك هشام،و قال له:لا خلاف بيني و بينك إلا في التسمية، و طفق ضرار قائلا:

-إني أرجع إليك في هذا القول.

قال هشام:هات.

ضرار:كيف تعقد الامامة؟

ص: 350

هشام:كما عقد اللّه النبوة.

ضرار:فاذن هو نبي:

هشام:-لا-لأن النبوة يعقدها أهل السماء و الامامة يعقدها أهل الأرض،فعقد النبوة بالملائكة،و عقد الامامة بالنبي،و العقدان جميعا باذن اللّه.

ضرار:ما الدليل علي ذلك؟ هشام:الاضطرار في هذا.

ضرار:و كيف ذلك؟ هشام:لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه،أما أن يكون اللّه رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول،فلم يكلفهم و لم يأمرهم و لم ينههم و صاروا بمنزلة السباع،و البهائم التي لا تكليف أ فتقول:هذا يا ضرار؟ ضرار:لا أقول هذا.

هشام:الوجه الثاني الذي ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء في مثل حد الرسول في العلم حتي لا يحتاج أحد الي أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا،و أصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه،أ فتقول هذا يا ضرار؟ ضرار:لا أقول:هذا و لكنهم يحتاجون الي غيرهم.

هشام:يبقي الوجه الثالث،لأنه لا بد من علم يقيمه الرسول لهم، لا يسهو،و لا يغلط،و لا يحيف،معصوم من الذنوب مبرأ من الخطايا يحتاج إليه و لا يحتاج الي أحد..» (1).

و سكت ضرار أمام هذا المنطق الفياض المدعم بالدليل العقلي الذي هو بعيد عن عنصر الجدل و النقاش.9.

ص: 351


1- بحار الانوار 291/11-229.

هذه بعض مناظرات هذا العملاق العظيم،و قد فتق بها مباحث الفلسفة الكلامية،و بقيت من بعده غذاء لمن يخوضون هذه البحوث،فقد «بقي جماعة يناظرون علي مبادئه حتي في عصور متأخرة مثل أبي عيسي محمد ابن هارون الوراق،و أحمد بن الحسين الراوندي و غيرهما،و قد وضع هذا الأخير كتابه«فضيحة المعتزلة»و هاجم فيه الآراء الاعتزالية و رجالها مهاجمة شديدة،معتمدا في كثير منها علي آراء هشام،كما يظهر تأثيره من كتابه الذي وضعه في حدوث العلم،و نجد أثر ذلك في دفاع المعتزلة أنفسهم الذين عنوا بردها و نقضها و منهم بشر بن المعتمر من أفضل علماء المعتزلة-كما يقول الشهرستاني-فقد وضع كتابا في الرد علي هشام بن الحكم» (1).

8-الحملات المسعورة.

و انتشر اسم هشام في ربوع العالم الاسلامي،و أخذت نوادي بغداد تعج في ذكر احتجاجاته،و ما مني به خصومه من الاندحار و الخذلان، و كان من الطبيعي أن يولد ذلك حقدا بالغا في نفوسهم عليه فاتهموه بأنواع التهم و شتي الطعون،و فيما يلي بعضهم.

1-القاضي عبد الجبار.

و قد حمل عبد الجبار علي كثير من شخصيات الشيعة،و قال في خصوص هشام:«إنه قال في التجسيم،و بحدوث العلم و بجواز البداء الي غير ذلك مما لا يصح معه التوحيد،و قال بالجبر و ما يتصل بالتكليف بما لا يطاق،و لا يصح معه التمسك بالعدل» (2).ي.

ص: 352


1- هشام بن الحكم:ص 221.
2- الشافي:ص 12 نقلا عن المغني للقاضي.

2-محمد بن أحمد.

و تكلم محمد بن أحمد الملطي الشافعي عن الشيعة فنسب لهم الشبه الباطلة و الصق بهم الأكاذيب المزيفة و قال فيهم و في هشام ما نصه:

«الفرقة الثانية عشر من الامامية هم أصحاب هشام بن الحكم يعرفون بالهشامية و هم الرافضة الذين يرفضون الدين بحب علي(ع)فيما يزعمون، و كذب أعداء اللّه و أعداء رسوله و أصحابه،و انما يحب عليا من يحب غيره و هم أيضا ملحدون لأن هشاما كان ملحدا دهريا،ثم غلبه الاسلام فدخل فيه كارها فكان قوله فيه بالتشبيه و الرفض،و أما قوله بالامامة فلم نعلم أن أحدا نسب الي علي عيبا مثل هشام.

و اللّه نحمده قد نزع عن علي و ولده العيوب و الأرجاس،و طهرهم تطهيرا،و ما قصد هشام التشيع و لا محبة أهل البيت و لكن طلب بذلك هدم أركان الاسلام و التوحيد،و النبوة» (1).

و لا واقعية لهذه الطعون،و لا تحمل أي طابع من الصحة،و هي تنم عن حقده،أو عن عدم وقوفه علي حقيقة الشيعة و واقعية هشام.

3-عبد القاهر البغدادي.

قال عبد القاهر في بيان مذهب المشبهة ما نصه:و من هذا الصنف هشامية منتسبة الي هشام بن الحكم الرافضي الذي شبه معبوده بالانسان و زعم لأجل ذلك أنه سبعة أشبار بشبر نفسه و انه جسم ذو حد و نهاية،و أنه طويل عريض عميق،و ذو لون و طعم و رائحة،و قد روي عنه أن معبوده كسبيكة الفضة المستديرة (2).9.

ص: 353


1- التنبيه.
2- الفرق بين الفرق:ص 139.

4-ابن حجر.

و قال ابن حجر في ترجمة هشام:و كان من كبار الرافضة،و مشاهيرهم و كان مجسما يزعم أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه،و يزعم أن علم اللّه محدث (1).

و هذه الحملات المسعورة التي وجهت ضد هذا الفذ العظيم لم يكن الغرض منها إلا الحط من شأنه،و التوهين به،و بعض هذه الطعون كان لها نصيب من الصحة،و ذلك قبل أن يرجع الي الامام فقد أثر عنه القول بذلك إلا انه ثاب الي الحق-كما ذكرناه-و يتضح ذلك فيما ذكره المدافعون عنه.

9-الدفاع عنه.

و تعرض جمع من أعلام الاسلام الي الدفاع عن هشام ورد هذه الأباطيل و الشبه التي حامت حوله،و فيما يلي بعضهم:

1-السيد المرتضي.

و فند السيد المرتضي جميع المزاعم التي رمي بها هشام،و نحن نسوق كلامه بأسره لما فيه من مزيد الفائدة،قال رحمه اللّه:

«فأما ما رمي به هشام بن الحكم من القول بالتجسيم فالظاهر من الحكاية عنه القول:«بجسم لا كالأجسام»و لا خلاف في أن هذا القول ليس بتشبيه،و لا ناقض لأصل،و لا معترض علي فرع و انه غلط في عبارة يرجع في إثباتها و نفيها إلي اللغة،و أكثر أصحابنا يقولون:إنه أورد ذلك علي سبيل المعارضة للمعتزلة،فقال لهم:إذا قلتم إن القديم تعالي شيء6.

ص: 354


1- لسان الميزان 194/6.

لا كالأشياء فقولوا:إنه جسم لا كالأجسام،و ليس كل من عارض بشيء و سأل عنه أن يكون معتقدا له و متدينا به،و قد يجوز أن يكون قصد به الي استخراج جوابهم عن هذه المسألة،و معرفة ما عندهم فيها،أو إلي أن يبين قصورهم عن إيراد المرتضي في جوابها الي غير ذلك مما لا يتسع ذكره،فأما الحكاية أنه ذهب في اللّه تعالي أنه جسم له حقيقة الأجسام الحاضرة،و حديث«الأشبار»المدعي عليه فليس نعرفه إلا من حكاية الجاحظ عن النظام،و ما فيها إلا متهم عليه غير موثوق بقوله،و جملة الأمر ان المذاهب يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها و أصحابهم المختصين بهم و من هو مأمون في الحكاية عنهم،و لا يرجع الي دعاوي الخصوم فانه إن يرجع الي ذلك اتسع الخرق و جل الخطب،و لم نثق بحكاية في مذهب، و لو كان هشام يذهب الي ما يدعونه من التجسيم لوجب أن نعلم ذلك ليزول اللبس فيه كما يعلم قول الخوارزمي في ذلك،و لا نجد له دافعا.و مما يدل علي براءة هشام من هذه التهم ما روي عن الامام الصادق(ع)في قوله:

لا تزال يا هشام مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»و قوله(ع)حين دخل عليه و عنده مشايخ الشيعة،فرفعه علي جماعتهم و أجلسه الي جانبه و هو إذ ذاك حدث السن فقال:«هذا ناصرنا بقلبه و يده و لسانه»و قوله(ع):

«هشام بن الحكم رائد حقنا و سابق قولنا المؤيد لصدقنا و الدافع لباطل أعدائنا من تبعه و تبع أمره تبعنا،و من خالفه و الحد فيه فقد عادانا و الحد فينا»و انه(ع)كان يرشد إليه في باب النظر و الحجاج و يحث الناس علي لقائه و مناظرته،فكيف يتوهم عاقل-مع ما ذكرناه في هشام-هذا القول بأن ربه سبعة أشبار بشبره و هل ادعاء ذلك عليه-رضوان اللّه عليه مع اختصاصه المعلوم بالصادق(ع)و قربه منه و أخذه عنه-إلا قدح في أمر الصادق عليه السلام و نسبته الي المشاركة في الاعتقاد،و إلا كيف لم يظهر عنه من

ص: 355

النكير عليه و التبعيد له،ما يستحقه المقدم علي هذا الاعتقاد المنكر و المذهب الشنيع،و أما حدوث العلم،فهو أيضا من حكاياتهم المختلقة و ما نعرف للرجل فيه كتابا و لا حكاه عنه ثقة،فأما«الجبر»و تكليفه بما لا يطاق مما لا نعرفه مذهبا له،و لعله لم يتقدم صاحب الكتاب (1)في نسبة ذلك إليه غيره اللهم إلا أن يكون شيخه أبو علي الجبائي فانه يملي ذلك تحامل و عصبية،و قليل هذه الحكايات ككثيرها في أنها إذا لم تنقل من جهة الثقة و كان المرجع فيها الي قول الخصوم المتهمين لم يحفل بها و لم يلتفت إليها، و ما قدمناه من الأخبار المروية عن الصادق(ع)و ما يظهر من اختصاصه به و تقريبه له من بين أصحابه يبطل كل ذلك و يزيف حكاية روايته عنه» (2)و هذا الدفاع الذي أفاده الامام المرتضي لم يبق أي اتهام علي هشام فقد دفع جميع الشبه التي طعن بها.

2-المحقق الفيض.

و أفاد المحقق الحجة الشيخ محسن الفيض رحمه اللّه في الدفاع عن هشام قال:

«و كل ما نسب الي الهشامين (3)فظني أنه إنما نشأ من سوء الفهم لكلامهما و إلا فالرجلان أجل قدرا من ذلك،و أما قول الامام له«قاتله اللّه» فانما ذلك لتكلمهما بمثل ذلك عند من لا يفهم،و كان لهما و لأمثالهما من موالي أئمتنا رموز كرموز الحكماء و تجوز كتجوزاتهم لا تصل إليها افهام الجماهير و لهذا نسبوا الي التجسيم و التصوير،و لعل نقلة كلامهما أيضا تصرفوا فيي.

ص: 356


1- هو القاضي عبد الجبار.
2- الشافي:ص 12-13.
3- الهشامان هما هشام بن الحكم،و هشام بن سالم الجواليقي.

الألفاظ و حرفوا الكلم عن مواضعه (1).

و نكتفي بما أفاده السيد المرتضي و الفيض عن بقية ما ذكره بعض الأعلام من الدفاع عنه و تنزيهه عن الشبه التي الصقت به،و الذي نراه -حسب ما ذكرناه-أن المناظرات التي تكلم فيها هشام و اتهم في بعضها بالالحاد و الخروج عن الدين تنحل الي قسمين من الناحية الزمنية:

«الأول»:التي تتعلق بالفترة التي كان يذهب فيها مذهب«الجهمية» «الثاني»:يتعلق بالفترة التي اتصل فيها بالامام الصادق و الامام موسي و قد تبرأ فيها عما ذهب إليه أولا من آراء الجهمية و غيرها من المبادئ التي لا تمت الي الاسلام بصلة،و غني عن البيان أنه توفي علي مذهب الامامية صحيح العقيدة طاهر الأفكار و الآراء فلا يؤاخذ بما صدر منه في الفترة الأولي،و لا يعتد بغير آرائه التي صدرت في فترة اتصاله بالامام(ع) و لم يعلم منه أنه قد صدر منه في هذه الفترة ما ينافي عقيدته.

10-وفاته:

و جاهد هشام في سبيل اللّه،و ناضل كثيرا و حاجج خصومه في الذب عن عقيدته و مبدئه الي أن لقي اللّه تعالي و هو مجاهد قد أبلي بلاء حسنا في الدفاع عن الاسلام،أما سبب وفاته فتعزوه بعض المصادر الي يحيي بن خالد البرمكي،فقد وجد عليه لأنه قد مال إليه الرشيد و نال إعجابه و تقديره فأغري به الرشيد الي أنه يقول بالامامة و جمع له المتكلمين بعد أن اختفي الرشيد من وراء الستر و لا يعلم بذلك هشام فجرت بينه و بين الفلاسفة مجادلة:

حول الامامة و أخيرا بعد حوار طويل بينه و بينهم صرح هشام بأن الامام إذا أمره بحمل السيف أذعن لقوله ولي طلبه،و لما سمع الرشيد بذلك1.

ص: 357


1- الوافي:86/1.

تغيرت حالته و استولي عليه الغضب،فأمر يحيي بالقاء القبض عليه و علي أصحابه،و علم بما كمن له من الشر فهام علي وجهه فزعا مرعوبا حتي انتهي الي الكوفة و اعتل بها و مات في دار ابن شراف في الكوفة (1)و قيل في كيفية وفاته غير ذلك،أما سنة وفاته فقيل:إنه توفي سنة(179 ه)و قيل سنة(199 ه)و قيل غير ذلك،و قد بسط البحث في ذلك العلامة الشيخ عبد اللّه نعمة العاملي (2)الي هنا ينتهي بنا الحديث عن هذا العملاق العظيم الذي تربي في مدرسة الامامين الصادق و الكاظم(ع).

290-هشام بن سالم.

الجواليقي الجعفي بشر بن مروان،و هو من عظماء هذه الطائفة و من عيونها،روي عن أبي الحسن،و قد عينه الامام الصادق(ع)للمناظرة في التوحيد مع رجل من أهل الشام (3)و في هذا دلالة علي وفور علمه و تقدمه في الفضل،و قد الصقت بالرجل التهم و رمي بالالحاد،و قد رماه بذلك حساده و أعداؤه و الدفاع الذي ذكرناه عن هشام يأتي في رفيقه وسميه،و قد اعترف له بالفضل و الوثاقة كثير من مترجميه (4).

291-هند بن الحجاج.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ذكر المترجمون له حديثا مع الامام سوف نذكره عند التحدث عن سجن الامام و هو يدلي.

ص: 358


1- تنقيح المقال:295/3-296 و قد ذكرنا ملخص الحادثة.
2- هشام بن الحكم:ص 38-43.
3- الكشي.
4- التحرير،كشف الرموز،الوجيزة،البلغة،النجاشي.

علي وثاقة الرجل و مزيد اختصاصه بالامام(ع) (1).

292-الهيثم بن عبد اللّه.

الرماني الكوفي،روي عن الامام موسي،و الرضا عليهما السلام و له كتاب (2).

(ي)-:

293-ياسين الضرير.

الزيات البصري لقي الامام بالبصرة حينما سجن فيها،و اختص به و روي عنه،و صنف كتابا (3).

294-يحيي الأزرق.

عده الشيخ بهذا العنوان من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ظاهره أنه امامي مجهول الحال (4).

295-يحيي بن الحسين.

ابن زيد بن علي بن الحسين(ع)من أصحاب الامام،و كان يري مذهب الوقف (5)و هو أحد الشهود في وصية الامام(ع)و قد طلب من

ص: 359


1- تنقيح المقال:304/3.
2- النجاشي:ص 341.
3- النجاشي:ص 352.
4- تنقيح المقال 312/3.
5- الخلاصة.

من أبيه أن يدله علي الموضع الذي اختفي فيه عمه عيسي ليمضي إليه و يراه فأبي أبوه أن يخبره بذلك خوفا علي عيسي من أن يظهر أمره فتعرفه السلطة و بعد الالحاح عليه قال له:إن هذا أمر يثقل عليه و أخشي أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك اياه فتزعجه،فتلطف يحيي بأبيه مدة من الزمن حتي طابت نفسه فأجابه الي ذلك و جهزه الي الكوفة و قال له:

إذا صرت الي الكوفة فاسأل عن دور«بني حي»فاذا دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية،و ستري في وسط السكة دارا لها باب صفته كذا فأعرفه و اجلس بعيدا منها في أول السكة فانه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه (1)قد أثر السجود في جبهته،عليه جبة صوف يستقي الماء علي جمل،و قد انصرف يسوق الجمل،لا يضع قدما،و لا يرفعها إلا ذكر اللّه-عز و جل-و دموعه تنحدر علي وجهه،فقم و سلم عليه و عانقه،فانه سيذعر منك كما يذعر الوحش،فعرفه نفسك،و انتسب له فانه يسكن إليك و يحدثك طويلا،و يسألك عنا جميعا و يخبرك بشأنه،و لا يضجر بجلوسك معه،و لا تطل عليه و ودعه،فانه يستعفيك من العودة إليه،فافعل ما يأمرك به من ذلك،فانك إن عدت إليه تواري عنك، و استوحش منك،و انتقل عن موضعه،و عليه في ذلك مشقة.

و خرج يحيي قاصدا الي الكوفة فلما انتهي إليها قصد سكة بني حي بعد العصر فجلس خارجها بعد أن تعرف علي البيت فلما غربت الشمس أقبل عيسي علي وصف الحسين لا يرفع قدما،و لا يضعها حتي يذكر اللّه تعالي و دموعه تترقرق في عينيه فقام إليه يحيي فعانقه فذعر عيسي منه، فقال له:

يا عم،أنا يحيي بن الحسين بن زيد بن أخيك.ه.

ص: 360


1- و في رواية مستور الوجه.

فلما سمع عيسي ذلك ضمه إليه و بكي حتي كاد أن يتلف.ثم أناخ جمله،و جلس معه فجعل يسأله عن أهله رجلا رجلا و امرأة امرأة و صبيا صبيا و يحيي يشرح أخبارهم و عيسي آخذ بالبكاء،ثم قال له:«يا بني أنا أستقي علي هذا الجمل الماء فأصرف ما اكتسب به من أجرة الي صاحبه،و اتقوت بباقيه،و ربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج الي البرية-يعني ظهر الكوفة-فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فاتقوته.

و قد تزوجت من هذا الرجل ابنته،و هو لا يعلم من أنا الي وقتي هذا،فولدت مني بنتا،فنشأت و بلغت،و هي أيضا لا تعرفني و لا تدري من أنا،فقالت لي أمها:زوج ابنتك من ابن فلان السقاء-رجل من جيراننا يسقي الماء-فانه أيسر منا،و قد خطبها،و ألحت عليّ،فلم أقدر علي إخبارها بأن ذلك الشخص غير كفء لها فيشيع خبري،فجعلت تلح فلم أزل أستكفي اللّه أمرها حتي ماتت بعد أيام،فما أجدني آسي علي شيء من الدنيا أساي علي أنها ماتت و لم تعلم بموضعها من رسول اللّه(ص).

ثم أقسم علي ابن أخيه يحيي أن ينصرف و لا يعود إليه،و ودعه (1)و هكذا كان أهل البيت ما بين قتيل و سجين،و مشرد يطاردهم الرعب و الفزع خوفا من نقمة الظالمين،ففي ذمة اللّه ما لا لاقوه من الفجائع و المصائب و الخطوب.

296-يحيي بن عبد الرحمن.

الأزرق،كوفي ثقة،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن له كتاب يرويه عدة من أصحابنا (2)و وثقه جماعة من الأعلام (3).ة.

ص: 361


1- مقاتل الطالبيين:ص 408-410.
2- النجاشي:ص 346.
3- الخلاصة،الحاوي،البلغة.

297-يحيي بن عبد اللّه.

البصري،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (1).

298-يحيي بن عمران.

ابن علي بن أبي شعبة الحلبي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن ثقة صحيح الحديث له كتاب يرويه جماعة (2)و وثقه اكثر المترجمين له (3).

299-يحيي بن الفضل.

النوفلي،عده الشيخ بهذا العنوان من أصحاب الامام الكاظم(ع) و ظاهره أنه إمامي مجهول الحال (4).

300-يحيي بن القاسم.

الحذاء،يكني أبا بصير،و قيل أبو محمد بن أصحاب الامام الكاظم عليه السلام،اختلف العلماء فيه،فقال الطوسي:إنه واقفي،و روي الكشي عن محمد بن مسعود قال سألت علي بن الحسن بن فضال عن أبي بصير هل كان متهما بالغلو؟فقال:لا،و لكن كان مختلطا،و قال النجاشي:

يحيي بن القاسم أبو بصير الأسدي،و قيل أبو محمد،ثقة وجيه،روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه(ع)،و قيل يحيي بن أبي القاسم و اسم أبي القاسم إسحاق،روي عن أبي الحسن موسي(ع)له كتاب«يوم و ليلة»توفي3.

ص: 362


1- تنقيح المقال:318/3.
2- النجاشي:ص 346.
3- الحاوي،الفهرست،الوجيزة.
4- تنقيح المقال:323/3.

سنه«150 ه»و ذكر الكشي عن أبي عمير عن شعيب العقرقوفي قال:

قلت لأبي عبد اللّه(ع)ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء ممن نسأل؟ فقال(ع):عليك بالأسدي-يعني أبا بصير-و في هذا دلالة علي وثاقته و غزارة علمه (1).

301-يزيد بن خليفة.

الحارثي الحلواني من أصحاب الامام(ع)رمي بالوقف،و روي الكشي عن النضر بن سويد قال:دخل رجل علي أبي عبد اللّه يقال له يزيد بن خليفة فقال(ع)له:من أنت؟فقال:من الحرث بن كعب فقال أبو عبد اللّه(ع):ليس من بيت إلا و فيهم نجيب أو نجيبان و أنت نجيب بني الحرث بن كعب (2)و في هذا الخبر دليل علي وثاقته،و نوقش في هذا الخبر و استدلوا علي عدم وثاقته (3).

302-يزيد بن سليط.

الزيدي،عده الشيخ في رجاله و الكشي و غيرهما من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ذكر بعضهم أنه من خاصة الامام و من ثقاته،و من أهل الورع و العلم و الفقه و أحد الراوين النص علي إمامة الامام الرضا(ع)و له حديث طويل مع الامام(ع) (4).

303-يعقوب بن جعفر.

ابن محمد،عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام موسي(ع)و ظاهرهر.

ص: 363


1- منهج المقال:371،النجاشي 344،الكشي.
2- منهج المقال:374.
3- تنقيح المقال:326/3.
4- نفس المصدر.

كونه إماميا مجهول الحال (1).

304-يعقوب بن الفضل.

ابن يعقوب الهاشمي،روي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن(ع) (2).

305-يوسف بن يعقوب.

من أصحاب الامام موسي(ع)و قد رمي بالوقف (3).

306-يونس بن عبد الرحمن.

مولي علي بن يقطين من أفذاذ الأمة الاسلامية و من كبار علمائها و كان وحيد عصره في تقواه و ورعه،تربي في مدرسة الامام الكاظم،و أخذ منه العلوم و المعارف،و من بعده اختص بولده الامام الرضا(ع)و فيما يلي بعض شئونه و أحواله.

1-ولادته.

كانت ولادته في أيام هشام بن عبد الملك (4).

2-نشأته.

نشأ يونس علي التقوي و الصلاح و تغذي من علوم أهل البيت و كان في جميع أدوار حياته مثالا فذا للتكامل الانساني،و قضي حياته في تحصيل العلوم من منبعها و معدنها و هم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس8.

ص: 364


1- تنقيح المقال:330/3.
2- النجاشي:ص 45،ذكره في ترجمة الحسين بن محمد
3- الخلاصة،القسم الثاني.
4- النجاشي:ص 348.

و طهرهم تطهيرا حتي صار وحيد عصره في تقواه و ورعه و علمه.

3-سمو منزلته.

كان يونس بن عبد الرحمن جليل الشأن عظيم المنزلة،له المكانة العليا عند أهل البيت،و قد وردت في حقه و الثناء عليه أخبار كثيرة من الأئمة عليهم السلام كما أثني عليه بعض كبار صحابتهم،و فيما يلي ذلك:

1-الامام الرضا.

روي عبد العزيز المهتدي قال:سألت الامام الرضا(ع)فقلت له:إني لا ألقاك فممن أخذ معالم ديني؟فقال(ع):خذ عن يونس ابن عبد الرحمن (1)و اشارة الامام له في الفتيا و العلم آية علي وثاقته و تقدمه في العلم و الفضل،و قال الامام الرضا(ع):في حقه أيضا«أبو حمزة الثمالي في زمانه كسلمان في زمانه و ذلك أنه خدم منا أربعة:علي بن الحسين،و محمد ابن علي،و جعفر بن محمد،و برهة من عصر موسي بن جعفر،و يونس في زمانه كسلمان في زمانه».

2-الامام الجواد.

روي أحمد بن أبي خلف قال:كنت مريضا فدخل عليّ أبو جعفر عليه السلام و كان عند رأسي كتاب«يوم و ليلة»-و هو من مؤلفات يونس-فأخذه الامام و جعل يتصفحه ورقة ورقة حتي أتي علي آخره يردد رحم اللّه يونس (2)و قد ضمن(ع)ليونس الجنة.ر.

ص: 365


1- الكشي:ص 301.
2- نفس المصدر.

3-الفضل بن شاذان:

و قال الفضل في حقه:ما نشأ في الاسلام من سائر الناس كان أفقه من سلمان الفارسي،و لا نشأ رجل بعده أفقه من يونس بن عبد الرحمن (1)و هناك طائفة أخري من الأخبار و كلمات الثناء من الاعلام،و هي تشيد بفضله و سمو مكانته.

4-علمه.

كان علامة زمانه-كما قال ابن النديم- (2)و اعترف جميع المترجمين له بعلمه الغزير وسعة اطلاعه و اشارة الامام له بالفتيا و العلم تدل علي غزارة علمه،و يقال إنه انتهي علم الأئمة(ع)الي أربعة نفر و هم:سلمان الفارسي و جابر،و السيد،و يونس بن عبد الرحمن،كما ذكر الكشي».

5-مؤلفاته.

و ألف يونس كتبا كثيرة دلت علي تضلعه في كثير من العلوم،فقد روي الفضل بن شاذان،فقال إنه ألف الف جلد ردا علي المخالفين (3)و الي القراء بعض تآليفه:

(1)كتاب«يوم و ليلة»و قد قرضه الامام الجواد بما تقدم ذكره و قد عرض الكتاب علي أبي محمد العسكري(ع)فقال(ع):اعطاه اللّه بكل حرف نورا يوم القيامة (4).ة.

ص: 366


1- الكشي ص:301.
2- الفهرست:ص 323.
3- الكشي ص:302.
4- الخلاصة.

(2)كتاب«علل الأحاديث».

(3)كتاب«الصلاة».

(4)كتاب«الصيام».

(5)كتاب«الزكاة».

(6)كتاب«الوصايا و الفرائض».

(7)كتاب«جامع الآثار».

(8)كتاب«البداء» (1).

(9)كتاب«السهو».

(10)كتاب«الأدب و الدلالة علي الخير».

(11)كتاب«الفرائض».

(12)كتاب«الجامع الكبير في الفقه».

(13)كتاب«التجارات».

(14)كتاب«تفسير القرآن».

(15)كتاب«الحدود».

(16)كتاب«الأدب».

(17)كتاب«المثالب».

(18)كتاب«علل النكاح»و تحليل المتعة».

(19)كتاب«نوادر البيع».

(20)كتاب«الرد علي الغلاة».

(21)كتاب«ثواب الحج».

(22)كتاب«النكاح».ي.

ص: 367


1- ذكر هذه الكتب ابن النديم في الفهرست:ص 323،و ذكرها النجاشي.

(23)كتاب«الطلاق».

(24)كتاب«المكاسب».

(25)كتاب«الوضوء».

(26)كتاب«البيوع و المزروعات».

(27)كتاب«اللؤلؤ في الزهد».

(28)كتاب«الامامة».

(29)كتاب«فضل القرآن» (1).

(30)كتاب«اختلاف الحديث».

(31)كتاب«مسائله عن أبي الحسن موسي» (2).

و دلت هذه المؤلفات علي احاطته بمختلف العلوم و الفنون.

6-تقواه.

كان يونس علي جانب عظيم من التقوي و الصلاح،فمن مظاهر عبادته و تقواه أنه حج إحدي و خمسين حجة و صام عشرين سنة و سأل ربه عشرين سنة (3).

7-مع الواقفية.

كان يونس بن عبد الرحمن صلب العقيدة راسخ الايمان،و قد بذلت الواقفية بعد موت الامام موسي(ع)جميع جهودها علي ضمه إليهم فلم يفلحوا،و قد حدث يونس عن أسباب تلك الفتنة التي حلت بأصحاب الامام3.

ص: 368


1- النجاشي:ص 349.
2- الفهرست للشيخ الطوسي.
3- الكشي:ص 303.

و عن اغراء الواقفية له و ذكرنا حديثه في الفصول المتقدمة.

8-؟؟؟.

و كلما ازداد شأن الانسان و علت مكانته الاجتماعية كثير حساده،و ما من عبقري أو عظيم إلا مني بكثرة الحاقدين عليه،و كان يونس بن عبد الرحمن بن اولئك الأفذاذ الموهوبين الذين خصهم اللّه بمزيد العلم و الفضل و كان بطبيعة الحال أن يكثر حساده و أعداؤه،و قد شكا ذلك الي الامام موسي(ع)فقال له:إنهم يقولون لي زنديق،فهدأ(ع)روعه و قال له:

«ما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة،فيقول الناس:هي حصاة، و ما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة» (1).

و شكا مرة الي الامام الرضا(ع)ما يلقاه من أصحابه،فقال(ع)له:

دارهم فان عقولهم لم تبلغ (2)،و قيل ليونس إن كثيرا من هذه العصابة يقعون فيك،و يذكرونك بغير الجميل،فقال:اشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين(ع)نصيب فهو في حل (3)،لقد عفا عن جميع من أساء إليه من أصحابه،و صفح عمن أذنب إليه،و قد اقتبس هذا الخلق الرفيع من أئمة أهل البيت(ع)الذين عناهم اللّه في كتابه الكريم بقوله:«و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس».

9-وفاته.

اختاره اللّه الي لقائه و هو نقي الثوب قد أبلي بلاء حسنا في الدفاعر.

ص: 369


1- الكشي:ص:304.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

عن الاسلام و التبشير بمبدإ أهل البيت(ع)و قد توفي في يثرب سنة«208 ه» (1)و لما بلغ موته الامام الرضا(ع)قال:انظروا الي ما ختم اللّه ليونس قبضه بالمدينة مجاورا لرسول اللّه(ص) (2)رحم اللّه يونس و جزاه عن الاسلام خير الجزاء و حشره«مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا».

307-يونس بن يعقوب.

ابن قيس،أبو علي البجلي الدهني الكوفي،اختص بأبي عبد اللّه(ع) و أبي الحسن(ع)و كان يتوكل لأبي الحسن (3)وعده الشيخ المفيد من فقهاء أصحاب الصادقين(ع)و من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن فيهم و لا طريق الي ذم واحد منهم،و هم أصحاب الأصول المدونة،و المصنفات المشهورة (4)و مما يدل علي وثاقته أنه و كله أبو عبد اللّه و أبو الحسن(ع)ليشتري لهما بعض الأشياء فلما اشتري ذلك و أوصله إليهما قال له أحدهما:ما أنت عندنا بمتهم،إنما أنت رجل منا أهل البيت فجعلك اللّه مع رسوله و أهل بيته،و اللّه فاعل ذلك إن شاء اللّه (5).

توفي في يثرب و تولي تجهيزه الامام الرضا(ع)فبعث بحنوطه و كفنه و جميع ما يحتاج إليه،و أمر مواليه و موالي أبيه وجده أن يحضروا جنازته و قال لهم:«هذا مولي لأبي عبد اللّه(ع)و كان يسكن العراق».6.

ص: 370


1- تنقيح المقال:339/3.
2- الكشي ص:302.
3- النجاشي:348.
4- الارشاد.
5- الكشي:ص 246.

و قال لهم احفروا له في البقيع،فان قال لكم أهل المدينة إنه عراقي لا ندفنه في البقيع،فقولوا لهم:هذا مولي لأبي عبد اللّه(ع)و كان يسكن العراق فان منعتمونا أن ندفنه في البقيع منعناكم أن تدفنوا مواليكم في البقيع و أمر(ع)محمد بن الحباب بالصلاة عليه،فصلي عليه و دفن في البقيع (1)و قبل أن نلقي الستار علي هذا الفصل نذكر بعض أصحاب الامام الذين عرفوا بكنيتهم و اشتهروا بها و هم:

308-أبو جبل.

من أصحاب الامام(ع)و هو من الواقفية (2)ضعيف الحديث (3)309-أبو جعدة.

عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)و قال إنه واقفي و نص العلامة علي ذلك أيضا في الخلاصة» (4).

310-أبو خالد.

الذيال،هكذا عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع)و أضاف أنه مجهول (5).

311-أبو خالد.3.

ص: 371


1- الكشي:ص 246.
2- الخلاصة.
3- الوجيزة،و غيرها.
4- تنقيح المقال:8/3.
5- تنقيح المقال 14/3.

الزبالي من أصحاب الامام(ع) (1)و قد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب مرور الامام(ع)عليه في زبالة لما اعتقله المهدي و ما جري له من الحديث معه.

312-أبو زكريا.

الأعور عده الشيخ في رجاله من أصحاب الامام الكاظم(ع)مضيفا الي ذلك أنه ثقة،و أنه قد روي عن علي بن رباط (2).

313-أبو سعيد.

القماط،عده الشيخ من أصحاب الامام الكاظم(ع) (3).

314-أبو سلمة.

عده الشيخ في رجاله في باب الكني من أصحاب الامام الكاظم(ع) و أضاف إلي ذلك قيل ان اسمه خلف بن خلف اللفائفي خادم أبي الحسن،و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (4).

315-أبو شعيب.

المحاملي،مولي علي بن الحكم بن الزبير الأنباري،كوفي،ثقة من رجال أبي الحسن موسي(ع)و له كتاب (5).

316-أبو عامر.54

ص: 372


1- رجال ابن داود.
2- تنقيح المقال:17/3.
3- تنقيح المقال:18/3.
4- تنقيح المقال:17/3.
5- النجاشي:ص 354

ابن جناح،روي عن أبي الحسن و الرضا(ع)و كان ثقة (1).

317-أبو العلا.

الحضرمي،عده الشيخ بهذا العنوان في رجاله في باب الكني من أصحاب الامام الكاظم(ع)و ظاهره كونه إماميا مجهول الحال (2).

318-أبو المحتمل.

الكوفي،ثقة،روي عن أبي عبد اللّه(ع)و من أصحاب الامام الكاظم(ع) (3).

319-أبو مصعب.

الزيدي،ثقة من أصحاب الامام الكاظم(ع) (4).

320-أبو يحيي.

عده الشيخ في باب«الكني»من رجاله من أصحاب الامام موسي عليه السلام،و قال في«الفهرست»إن له كتابا،قال الحائري:الظاهر أنه من الامامية (5).

321-أبو يحيي.

المكفوف،عده الشيخ في باب«الكني»من أصحاب الامام3.

ص: 373


1- النجاشي ذكره في ترجمة أخيه سعيد بن جناح ص 138
2- تنقيح المقال:26/3.
3- نفس المصدر:ص 32،الخلاصة
4- الخلاصة،الحاوي.
5- التنقيح:39/3.

الكاظم(ع)و قال في«الفهرست»له كتاب،و كذا قال النجاشي و استفاد الحائري من مصاحبته للامام أنه محل اعتماد (1).

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن ذكر بعض أصحاب الامام و رواة حديثه و حملة علمه،و كان أكثرهم من عظماء العلماء و كبار المؤلفين الذين زودوا العالم الاسلامي في عصرهم بنتاجهم القيم مما دل علي أن النهضة الفكرية كانت تستند الي أئمة أهل البيت(ع)فهم الذين فجروا طاقاتها في دنيا العرب و الاسلام.

إن هذه الكوكبة من الرواة قد كشفت لنا جانبا مهما من حياة الامام(ع) و دللت علي أهمية الدور الذي قام به في رفع منار العلم و تشييد صروحه، و نشر الوعي الثقافي في ربوع العالم.

إن مدرسة الامام(ع)قد بلورة الحياة الفكرية في العالم الاسلامي و عملت علي تقديم المسلمين في جميع الميادين،و كان الانتماء لها من موجبات الاعتزاز و الفخر فقد عيب علي الامام مالك-احد رؤساء المذاهب الأربعة- لتركه أخذ الرواية عن الامام (2)و منه يتضح مدي الأهمية البالغة لمدرسة الامام و للرواية عنه في الأوساط العلمية.2.

ص: 374


1- تنقيح المقال 39/3.
2- لسان الميزان 277/2.

ابناء الإمام

اشارة

ص: 375

ص: 376

و أنجب الامام موسي عليه السلام الذرية الطاهرة و النسل الطيب فكانوا من خيرة ابناء المسلمين-في ذلك العصر-تقوي و صلاحا و هديا و ورعا و ابتعادا عن مآثم الحياة و أباطيلها،و قد نشأ الكثيرون منهم نشأة دينية كاملة لأن الامام(ع)قد وجههم الوجهة الصالحة فسكب في نفوسهم المثل العليا و الايمان باللّه و التفاني في سبيل العقيدة و العمل علي خدمة الحق،قال ابن الصباغ في حقهم:«ان لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسي(ع)فضلا مشهودا» (1).

و قال الشيخ الطبرسي:«إن لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسي(ع) فضلا و منقبة مشهورة» (2).

لقد ورثوا الفضل و الشرف و المجد عن آبائهم فكانوا في سلوكهم و هديهم أمثلة رائعة للفضيلة و الكمال.

و اندفع بعضهم الي اعلان الثورة علي حكومة بني العباس لأجل اسعاد المسلمين،و انقاذهم من جور العباسيين و استبدادهم،كما سنذكر ذلك، و قبل عرض تراجمهم نعرض الي أن النسابين،و رواة الأثر قد اختلفوا في عددهم اختلافا كثيرا و فيما يلي ذلك:

«الاول»انهم ثلاثة و ثلاثون الذكور منهم«16»و الاناث«17» (3)«الثاني»سبعة و ثلاثون الذكور«18»و الاناث«19» (4).

«الثالث»ثمانية و ثلاثون الذكور«20»و الاناث«18» (5).4.

ص: 377


1- الفصول المهمة:ص 256.ط.ايران.
2- أعلام الوري.
3- تحفة الأزهار و زلال الأنهار.
4- صحاح الأخبار:ص 46،الفصول المهمة:ص 256،البحار.
5- كشف الغمة:ص 243،تذكرة الخواص:ص 84.

«الرابع»اربعون الذكور منهم«18»و الاناث«22» (1).

«الخامس»ستون الذكور«23»الاناث«37» (2).

و هناك أقوال غير هذه،أما أسماء الذكور و الاناث منهم فكما يلي:

«الذكور»:

الامام الرضا(ع)،اسماعيل،جعفر،هارون،حمزة،محمد،أحمد قاسم،عباس،ابراهيم،حسن،عبد اللّه،زيد،حسين،الفضل،سليمان سالم،سعيد (3)،عقيل،ابراهيم الأكبر و عبد اللّه (4).

«الاناث»:

أمّ عبد اللّه،قسيمة،لبابة،أم جعفر،أمامة،كلثم،بريهة أمّ القاسم،محمودة،امينة الكبري،علية،زينب،رقية،حسنة،عائشة أمّ سلمة،أسماء،أمّ فروة،آمنة،أم أبيها،حليمة،رملة،ميمونة،امينة الصغري،اسماء الكبري،زينب،زينب الكبري،فاطمة الكبري،فاطمة أمّ كلثوم الكبري،أمّ كلثوم الوسطي،أمّ كلثوم الصغري،و زاد الاشناني عطفة،و عباسة،و خديجة الكبري،و خديجة (5)و صرحة (6)و علي هذا فتكون عدد السيدات من ابنائه سبعا و ثلاثين و نظم الشيخ الافتوني في ارجوزته اسماءهم بقوله:ر.

ص: 378


1- سر السلسلة العلوية.
2- المجدي،عمدة الطالب،مناهل الضرب في أنساب العرب.
3- عمدة الطالب.
4- احسن الكبار.
5- المجدي.
6- تحفة الأزهار.

و ولده علي النبراس يتلوه ابراهيم و العباس

و قاسم و جعفر محمد هارون اسماعيل ثم أحمد

و حمزة اسحاق و عبد اللّه زيد سليمان عبيد اللّه

رقيتان حسن ثم حسن زينب أمّ سلمة فاستبصرن

أم أبيها و بها تم العدد و الكل أولاد سراري لا قعد (1)

لقد نظم الافتوني في ارجوزته اثنين و عشرين شخصا،و هو ممن يذهب الي أن ذلك هو تمام عددهم،و هو قول ضعيف للغاية فان عددهم يربو علي ذلك بكثير.

و نقدم عرضا موجزا لتراجم من عثرنا علي ترجمته منهم:

1-الامام الرضا.

اشارة

هو الامام الثامن من أئمة أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا،و قد أحيي اللّه به الاسلام،و أعز به المسلمين،فكان سلام اللّه عليه من المجددين لهذا الدين،و المنافحين عنه،و المجاهدين في سبيله..و نتحدث-بايجاز-عن بعض شئونه و أحواله:

ولادته:

ولد(ع)في يثرب سنة«148 ه ه» (2)و قيل سنة«153 ه» (3)لاحدي عشر ليلة خلت من ربيع الأول (4)،و حفلت الاسرة النبوية في

ص: 379


1- وجدنا هذه الارجوزة بخط البراقي علي هامش النفحة العنبرية
2- اصول الكافي:486/1.
3- وفيات الأعيان:432/2.
4- كشف الغمة:87/3.

ذلك اليوم الزاهر بالأفراح و المسرات فقد أطل عليها خير أهل الأرض بعد آبائه،و قام الامام موسي(ع)فأجري علي وليده المبارك مراسيم الولادة فأذن في أذنه اليمني و أقام في اليسري و في اليوم السابع عق عنه بكبش،و حلق رأسه،و تصدق بزنته فضة علي المساكين.

نشأته.

نشأ(ع)في حجر الاسلام،و تربي في مدرسة الايمان،و قد تولي تربيته أبوه الامام موسي(ع)فسكب في نفسه مثله العليا،و تعاهده بالرعاية و العطف،و رسم له الطريق في سلوكه،و هديه،و قد ظفر في سنه المبكر بأسمي ألوان التربية الاسلامية التي تعني بغرس روح الفضيلة و الكمال في النفوس.

معالي أخلاقه.

و ضارع الامام الرضا(ع)في أخلاقه أخلاق آبائه من الأئمة الطاهرين التي امتازوا بها علي سائر الناس،و قد تحدث ابراهيم بن عباس عن سمو أخلاق الامام(ع)فقال:

«ما رأيت،و لا سمعت بأحد افضل من أبي الحسن الرضا،و شهدت منه ما لم أشاهد من أحد،و ما رأيته جفا أحدا بكلام قط و لا رأيته قطع علي أحد كلامه حتي يفرغ منه،و ما رد أحدا عن حاجة قدر عليها،و لا مد رجليه بين يدي جليس له قط،و لا اتكأ بين يديه جليس له قط،و لا رأيته يشتم أحدا من مواليه و مماليكه،و لا رأيته تفل قط،و لا رأيته يقهقه في ضحكه،بل كان ضحكه التبسم،و كان اذا خلا و نصبت الموائد أجلس علي مائدته مماليكه و مواليه حتي البواب،و السائس،و كان قليل النوم بالليل كثير الصوم،و لا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر،و يقول:إن

ص: 380

ذلك يعدل صيام الدهر،و كان كثير المعروف و الصدقة في السر،و اكثر ذلك منه لا يكون إلا في الليالي المظلمة،فمن زعم أنه رأي مثله في فضله فلا تصدقوه..» (1).

و هذه الصفات الرفيعة هي السر في اجماع المسلمين علي اكباره و تعظيمه و القول بامامته.

علمه.

كان الامام الرضا(ع)علي غرار آبائه في عبقرياته،و مواهبه العلمية و قد أجمع الرواة علي أنه كان أعلم أهل عصره،و قد افتي الناس بمسجد جده رسول اللّه(ص)و هو ابن نيف و عشرين سنة (2)و قال عبد السلام بن صالح الهروي:«ما رأيت أعلم من علي بن موسي الرضا(ع)و لا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي،و لقد جمع المأمون في مجالس له عددا من علماء الأديان،و فقهاء الشريعة،و المتكلمين،فغلبهم عن آخرهم،حتي ما بقي منهم أحد إلا أقر له بالفضل،و أقر علي نفسه بالقصور،و لقد سمعته يقول:كنت أجلس في«الروضة»و العلماء بالمدينة متوافرون،فاذا عي الواحد منهم عن مسألة أشاروا لي بأجمعهم،و بعثوا إلي المسائل فأجيب عنها..» (3).

ص: 381


1- كشف الغمة:106/3.
2- تهذيب التهذيب 388/7،تذكرة الخواص:198.
3- كشف الغمة:107/3،و في نور الأبصار«ص 140»قال ابراهيم بن العباس:ما رأيت الرضا سئل عن شيء إلا علمه،و لا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الي وقت عصره،و كان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيبه الجواب الشافي.

و قد عني محمد بن عيسي بتدوين المسائل التي سئل عنها الامام الرضا(ع) فكانت ثمانية عشر الف مسألة (1).

و قد أشاد الامام موسي(ع)بمواهب ولده الرضا و علمه فقال لبنيه:

«هذا أخوكم علي بن موسي عالم آل محمد فاسألوه عن أديانكم،و احفظوا ما يقول لكم:فاني سمعت جعفر بن محمد(ع)يقول لي:«إن عالم آل محمد لفي صلبك،و ليتني أدركته فانه سمي امير المؤمنين-يعني جده الامام علي بن أبي طالب(ع)-» (2).

إن الشيعة منذ فجر تأسيسها حتي يوم الناس هذا تعتقد اعتقادا جازما لا يخامره أدني شك ان الامام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره و لا بد أن يتمتع بطافات ضخمة من العلم بحيث لا يجاريه أحد في فضله و مواهبه...

و كان المأمون و هو أعلم ملوك بني العباس،و أذكاهم لا يؤمن بذلك،و يعتقد بأنه ضرب من الغلو،فرأي ان خير وسيلة الي انقاضه أن يعهد الي كبار العلماء علي اختلاف أديانهم و مذاهبهم بسؤال الامام في مختلف العلوم و الفنون التي اختصوا بها لعله أن يعجز عن جوابهم فيتخذ من ذلك وسيلة الي افساد المذهب الشيعي و ابطال فكرة الامامة،و هو منطق وثيق للغاية،فاحضر الجاثليق و رأس الجالوت-و هما من كبار علماء النصاري-و كذلك أحضر علماء الصابئة منهم عمران الصابئي،و الهربذ الأكبر،و احضر اصحاب زرادشت،و فسطامي،و احضر علماء الكلام منهم سليمان المروزي،و أمرهم بأن يسألوا الامام الرضا(ع)فتقدموا إليه،و سألوه عن امهات المسائل الفلسفية و الكلامية و غيرها فأجابهم(ع)عنها بالتفصيل (3)و قد اعترفوا بعجزهم4.

ص: 382


1- مناقب ابن شهر اشوب 351/4.
2- كشف الغمة 107/3.
3- المناقب 351/4.

و قصورهم،و باء المأمون بالخيبة و الخزي فقد اعتقد كثير من اولئك العلماء بفكرة الامامة،و زادت الحادثة ايمان الشيعة و وثوقها بما تذهب إليه.

رواة حديثه.

و روي عنه ابنه محمد الجواد،و أبو عثمان المازني النحوي،و علي بن علي،و أيوب بن منصور النيسابوري،و أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي،و المأمون بن الرشيد،و علي بن مهدي بن صدقة،له عنه نسخة و أبو أحمد داود بن سليمان بن يوسف القزويني،له عنه نسخة،و عامر بن سليمان الطائي له عنه نسخة كبيرة،و أبو جعفر محمد بن محمد بن حيان التمار و روي عنه من أئمة الحديث آدم بن أبي اياس،و نصر بن علي الجهغمي و محمد بن رافع القشيري و غيرهم (1).

بعض حكمه و آرائه.

و للامام الرضا(ع)تراث فكري رائع حافل بالمثل الكريمة و القيم العليا،و قد احتوت علي آداب السلوك و مناهج التربية،كما ان له بحوثا ممتعة في الفلسفة و علم الكلام،و التفسير،و الطب،و غير ذلك،و نعرض الي بعض حكمه و آرائه:

1-قال(ع):«خمس من لم تكن فيه فلا ترجوه لشيء من الدنيا و الآخرة:من لم تعرف الوثاقة في ارومته (2)و الكرم في طباعه، و الرصانة في خلقه،و النبل في نفسه و المخافة لربه» (3).

ص: 383


1- تهذيب التهذيب 387/7.
2- الأرومة الأصل.
3- تحف العقول ص 446.

2-قال(ع):«لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتي تكون فيه خصال ثلاث التفقه في الدين،و حسن التقدير في المعيشة و الصبر علي الرزايا (1)3-قال(ع):«إن الذي يطلب من فضل يكف به عياله أعظم أجرا من المجاهد في سبيل اللّه» (2).

4-قال(ع):«الايمان أربعة:التوكل علي اللّه،و الرضا بقضاء اللّه،و التسليم لأمر اللّه،و التفويض الي اللّه،قال العبد الصالح:يعني مؤمن آل فرعون-«و أفوض أمري إلي اللّه،فوقاه اللّه سيئات ما مكروا» (3).

5-قال(ع):«ليس الحمية من الشيء تركه،و لكن الاقلال منه» (1).

6-قال(ع):«أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع:

يوم يولد الي الدنيا و يخرج المولود من بطن أمه،فيري الدنيا،و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها،و يوم يبعث فيري أحكاما لم يرها في دار الدنيا و قد سلم اللّه تعالي علي يحيي في هذه المواطن الثلاثة و آمن روعته،فقال:

«و سلام عليه يوم يولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا»و قد سلم عيسي بن مريم علي نفسه في هذه المواطن الثلاثة فقال:و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا» (2).

7-قال(ع):«إن مشي الرجال مع الرجل فتنة للمتبوع،و مذلة0.

ص: 384


1- كشف الغمة 99/3.
2- نور الأبصار:ص 140.

للتابع (1).

8-قال(ع):«استعمال العدل و الاحسان مؤذن بدوام النعم» (2).

9-قال(ع):«لا يجتمع المال إلا بخصال خمس:ببخل شديد،و أمل طويل،و حرص غالب،و قطيعة الرحم،و إيثار الدنيا علي الآخرة» (3)10-قال(ع):«عونك للضعيف أفضل من الصدقة» (4).

11-قال(ع):«من أحب عاصيا فهو عاص،و من أحب مطيعا فهو مطيع،و من أعان ظالما فهو ظالم،و من خذل عادلا فهو ظالم،إنه ليس بين اللّه و بين أحد قرابة،و لا ينال أحد ولاية اللّه إلا بالطاعة،و لقد قال رسول اللّه(ص)لبني عبد المطلب:ايتوني بأعمالكم لا بأحسابكم و أنسابكم،قال اللّه تعالي:« فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ » (5).

12-قال(ع):«ان اللّه يبغض القيل و القال،و اضاعة المال و كثرة السؤال..» (6).

و بهذه الشذرات الموجزة من كلامه ينتهي بنا الحديث علي بعض ما أثر عنه من الحكم و الآداب.3.

ص: 385


1- تأريخ اليعقوبي 181/3.
2- عيون أخبار الرضا 24/2.
3- عيون أخبار الرضا 276/1.
4- تحف العقول:ص 446.
5- عيون أخبار الرضا 235/2.
6- تحف العقول:ص 243.

امامته:

و تواترت النصوص من الامام موسي(ع)علي امامة ولده الرضا،و قد روي عنه النص كل من داود بن كثير الرقي،و محمد بن اسحاق بن عمار، و علي بن يقطين،و نعيم القابوسي،و الحسين بن المختار،و زياد بن مروان و داود بن سليمان،و نصر بن قابوس،و داود بن رزين،و يزيد بن سليط و محمد بن سنان المخزومي (1).

ولاية العهد:

و الشيء المحقق ان الامام الرضا(ع)قد أكره علي قبول ولاية العهد فقد أقسره المأمون علي ذلك،و تهدده بالقتل إن لم يستجب له،فاضطر عليه السلام علي كره الي اجابته (2)و انما رشحه لولاية العهد لعوامل سياسية خطيرة ألجأته الي الاقدام علي ذلك،و لم يكن سببه ميله للعلويين و شدة عطفه و حبه لهم-كما يقول بذلك البعض-فانه لا واقعية له،و الذي يذهب إليه لا ينظر الي الأحداث بدقة و عمق و شمول،فان المأمون لم يقدم علي هذا الأمر الخطير إلا بعد أن اضطر إليه..اما العوامل السياسية فأهمها -فيما نحسب-هي ما يلي:

1-إن الدولة العباسية كانت مهددة بالخطر بواسطة الثورات الداخلية التي تزعم قيادتها ابناء الامام موسي(ع)و هم ابراهيم الاكبر،و زيد، و غيرهما،فقد أعلنوا الثورة علي الحكم العباسي بسبب ما عانوه من الظلم و الجور و الاضطهاد،و قد تولي قيادة الثورة أبو السرايا،و كان

ص: 386


1- المناقب 367/4،أصول الكافي 311/1-319.
2- عيون أخبار الرضا 140/2-141،كشف الغمة،المناقب

كأبي مسلم الخراساني في عزمه،و يقظته،و شدة بأسه،و استجابت اكثر الشعوب الاسلامية لهذه الثورة،و سقط قسم كبير من الاقاليم الاسلامية كالحجاز و اليمن،و قسم من العراق،و غيرها بأيدي الثوار،و سنبين تفصيل ذلك فيما يأتي من البحوث.

و انفق المأمون لياليه ساهرا،و هو يفتش عن الوسائل التي يتخلص بها من هذا الخطر المحدق به،و بعد تفكير جاد رأي ان خير وسيلة لاطفاء نار الحرب و التخلص من خصومه ان يعهد بالأمر من بعده الي الامام الرضا و يشركه في الخلافة ليكتسب بذلك ميل الثوار،و رجوعهم عن التمرد، و العصيان،كما يكسب بذلك ميل العلويين الذين أجمعوا علي تقديم الامام عليهم لعلمه و فضله و زهده...و كانت هذه الخطة السياسية موفقة الي أبعد الحدود،فقد فشلت الثورة،و فللت جميع قواعدها فور اعلان المأمون لذلك،فقد تراجع الثوار عن نيتهم و تصميمهم،و اعلنوا رضاهم و سرورهم بذلك كما اعلنوا تأييدهم للمأمون،و الاذعان لسلطانه و حكمه،و قد استراح المأمون و أمن من اهم الأخطار التي كانت محدقة بدولته.

2-ان القوات المسلحة التي اعتمد عليها المأمون لمحاربة أخيه الأمين كان القسم الكثير من قوادها،و زعماء فرقها ممن يميلون الي العلويين،و قد شرطوا عليه فيما يقول بعض المؤرخين انهم لا يفتحون نار الحرب علي الأمين إلا ان يجعل الامام الرضا وليا لعهده فأجابهم الي ذلك،فاذا صح ذلك فهو مضطر الي اجابتهم خوفا من الانتفاضة عليه.

3-ان الأحداث الرهيبة،التي جرت بين الأمين و المأمون، قد أوجبت اجماع الرأي العام علي بغض المأمون،و كراهته،فقد عاثت جيوشه فسادا في بغداد فخربت كثيرا من قصورها و مساكنها،و فقدت بهجتها و زينتها و محاسنها،و عملت فيها المراثي،و مما قيل فيها:

ص: 387

بكيت دما علي بغداد لما فقدت غضارة العيش الأنيق

أصابتها من الحساد عين فأفنت أهلها بالمنجنيق (1)

و تعرضت البلاد للمجاعة الشاملة،و فقدان الأمن،و فزع البغداديون و داخلهم أعظم الخوف،و أقساه و لم ينسوا محنتهم في تلك الأيام فظلوا يتحدثون عنها بعد عشرات من السنين.

و مما زاد في نقمة العامة علي المأمون أن جيوشه لما ظفرت بأخيه الأمين لم ترحمه و لم تعفوا عنه،و انما نكلت به فعمدت الي قتله و قتل مؤيديه، و أبردت برءوسهم الي المأمون،و قد نفرت العامة من قتل الأخ الي أخيه و أجمعت علي بشاعة ذلك،و ان صاحب هذا العمل لا يملك ذرة من العاطفة و النبل،و لا يستحق أن يتولي أمر المسلمين،و يكون حاكما عليهم.

و أراد المأمون بعد هذه الأحداث أن يكسب ود الناس،و يبدل نقمتهم بالمحبة و الرضا،فعهد بالأمر من بعده الي سليل النبوة،و عالم آل محمد(ص)الذي أجمع المسلمون علي حبه،و تعظيمه و اكباره،و انه أحق بأمر المسلمين من غيره..و قد نال المأمون بذلك و دعامة الناس و تقديرهم و الثناء عليه،و انه قد أوصل ارحاما قد قطعت،و آمن نفوسا قد فزعت و أحيي أسرة النبي(ص)التي أتلفها جور العباسيين و ظلمهم.

هذه بعض العوامل التي حفزت المأمون علي تعيينه للامام وليا لعهده و لم يكد يخفي علي الامام(ع)ذلك،فقد امتنع أشد الامتناع من قبول الأمر،و لما لم يجد سبيلا الي الرفض شرط عليه شروطا ليظهر للناس كراهته و زهده في الحكم،و هي:

1-لا يأمر،و لا ينهي.

2-لا يفتي،و لا يقضي.9.

ص: 388


1- تأريخ الخلفاء:ص 299.

3-لا يولي أحدا،و لا يعزل أحدا.

4-لا يغير شيئا مما هو قائم (1).

و هذه الشروط دللت علي زهده في الحكم فقد جعلته بمعزل عنه كما جعلته منفصلا عن الهيئة السياسية الحاكمة،و لو كان الامام(ع)يعلم بواقعية ذلك و صدق المأمون لما شرط ذلك عليه،و لما ابتعد عن الاشتراك بأي عمل ايجابي ؟؟؟ للدولة.

و علي أي حال فان المأمون أظهر سروره البالغ بذلك،و أصدر مرسوما ملكيا باقامة المهرجانات و الزينة في جميع انحاء البلاد،و أمر بازالة السواد من اللباس و الأعلام الذي كان شعارا للعباسيين،و تبديله باللباس الأخضر الذي هو شعار العلويين،و ضرب اسم الامام الرضا(ع)علي الدرهم و الدينار،و فرق الجوائز الثمينة،و الهبات الضخمة علي الناس، و عهد الي الشعراء ان يمدحوا الامام و يثنوا عليه،و انبري العباس الخطيب فتكلم،و اثني علي المأمون احسن الثناء،و ختم ذلك بقوله:

لا بد للناس من شمس و من قمر فأنت شمس و هذا ذلك القمر (2)

و تباري الشعراء في مدح الامام الرضا(ع)و الثناء علي المأمون،و لم يشترك في هذه الحلبات شاعر البلاط ابو نواس،فعاتبه المأمون،و قال له:

قد علمت مكان علي بن موسي الرضا،و ما أكرمته به فلما ذا أخرت مدحه و أنت شاعر زمانك،و قريع دهرك،فتأمل ابو نواس،و نظم هذه الأبيات الخالدة التي سارت مع الزمن قائلا:

قيل لي أنت أوحد الناس طرا في فنون من الكلام النبيه

لك من جواهر الكلام بديع يثمر الدر في يدي مجتنيه2.

ص: 389


1- المناقب 363/4.
2- عيون أخبار الرضا 146/2.

فعلام تركت مدح ابن موسي و الخصال التي تجمعن فيه

قلت لا اهتدي لمدح إمام كان جبريل خادما لأبيه

و فازت هذه الأبيات الرائعة علي كافة ما ألقاه الشعراء من قصائد المدح و استحسنها المأمون،و اعجب بها-كما اعجب بها غيره-فأوصله من المال بمثل ما أوصل به كافة الشعراء،و فضله عليهم (1).

و نظر ابو نواس الي الامام فرأي أنوار الامامة و التقوي قد علت من الامام فتقدم إليه،و قال له:يا بن رسول اللّه قد قلت فيك أبياتا أحب أن تسمعها مني،فقال(ع)هاتها،فأنشأ يقول:

مطهرون نقيات ثيابهم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علويا حين تنسبه فماله من قديم الدهر مفتخر

فاللّه لما يري خلقا فأتقنه صفاكم و اصطفاكم أيها البشر

فانتم الملأ الأعلي،و عندكم علم الكتاب و ما جاءت به السور

فقال له الامام الرضا،قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد و قال لغلامه:

-هل معك من نفقتنا شيء؟ -ثلاث مائة دينار.

-اعطها إياه.

-ثم قال لغلامه:لعله استقلها سق إليه البغلة،فساقها له (2)و أخذت البيعة بولاية العهد للامام(ع)في جميع الأقطار الاسلامية، و قام الخطباء علي المنابر يدعون للامام،و يشيدون بفضله و علمه،و رأين.

ص: 390


1- عيون أخبار الرضا 143/2،وفيات الاعيان 433/2.
2- عيون أخبار الرضا،وفيات الأعيان.

بعض الشيعة الامام و هو لابس الخلع،و الألوية تخفق علي رأسه فغمرته موجات من الفرح و السرور،و بان ذلك علي سحنات وجهه فأشار إليه الامام بالدنو منه،فأسر إليه قائلا:«لا تشغل قلبك بشيء مما تري من هذا الأمر،و لا تستبشر به فانه لا يتم» (1)فكان كما أخبر(ع)فلم يمض قليل من الوقت حتي تنكر له المأمون،و أخذ يسعي جاهدا في اغتياله كما سنذكره.

حقد المأمون علي الامام:

و حقد المأمون علي الامام حقدا كثيرا،و أترعت نفسه بالبغي و الشر عليه،و ذلك لما ظهر من فضل الامام،فقد عجت النوادي بذكر مآثره و مناقبه،و تحدثت الركبان بمواهبه،و عبقرياته،فصار الناس لا يذكرون إلا فضله و فضل آبائه.

و مما زاد في حقد المأمون خروج الامام(ع)الي صلاة العيد حيث طلب منه المأمون أن يؤم الناس فامتنع(ع)من اجابته،و أصر عليه المأمون إصرارا شديدا فاضطر الي اجابته،و لكنه شرط عليه أن يخرج الي الصلاة كما كان يخرج جده رسول اللّه(ص)وجده الامام امير المؤمنين(ع)فقال له المأمون اخرج كيف شئت،و أوعز المأمون الي قادة الجيش و سائر الناس أن يتجهوا الي أبي الحسن،و أقبلت الجماهير تتقدمها قادة الجيش الي باب الامام الرضا(ع)فلما طلعت الشمس قام(ع)فاغتسل و تعمم بعمامة بيضاء و ألقي طرفا منها علي صدره،و طرفا بين كتفيه،و قال لمواليه:

افعلوا مثل ما فعلت،و أخذ بيده عكازا و مشي،و أبي أن يركب،و كبر اربع تكبيرات،و قد تهيأ الجيش،و استعد استعدادا رسميا،فلبسوا السلاح و تزينوا بأحسن زينة،و طلع عليهم الامام كأنه البدر،فوقف علي الباب فكبر اربعا،و قال اللّه اكبر علي ما هدانا،اللّه اكبر علي ما رزقنا من1.

ص: 391


1- الفصول المهمة:ص 271.

بهيمة الانعام،الحمد للّه علي ما ابلانا،و ضجت الارض بالتكبير و البكاء فقد تذكر الناس في صورة الامام و حالته جده الرسول(ص)الذي جاء لانقاذ العالم،و عرفوا ضلال اولئك الملوك الذين تجبروا و تكبروا.

و كان(ع)في كل عشر خطوات يكبر ثلاثا،و تخيل الناس ان السماء و الأرض تجاوبه،و صارت مرو ضجة واحدة من البكاء،و بلغ المأمون ذلك فارتاع فقال له الفضل بن سهل:يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلي علي هذا السبيل افتتن الناس به،و الرأي ان يرجع،فرأي المأمون الصواب في رأيه،فبعث للامام يسأله الرجوع،فقفل(ع)راجعا من دون أن يصلي بالناس (1)و قد اظهرت هذه البادرة للناس روحانية آل النبي(ص) و زهدهم في الدنيا و رفضهم لمباهج الملك و السلطان،و قد أكبرها الناس أي اكبار،و فيها يقول البحري:

ذكروا بطلعتك النبي فهللوا لما طلعت من الصفوف و كبروا

حتي انتهيت الي المصلي لابسا نور الهدي يبدو عليك فيظهر

و مشيت مشية خاشع متواضع للّه لا يزهو و لا يتكبر

و لو أن مشتاقا تكلف غير ما في وسعه لمشي إليك المنبر (2)

و يقول الرواة:إن خروج الامام الي الصلاة بهذه الكيفية كانت من أقوي الاسباب التي أدت الي حقده علي الامام،و اقدامه علي اغتياله

اغتيال الامام:

و انتشرت فضائل الامام الرضا(ع)و سرت بين الناس كالضوء،

ص: 392


1- اصول الكافي:189/1-190،المناقب:371/4-372، كشف الغمة.
2- المناقب 472/4.

و عجت النوادي بذكر مآثره و مناقبه،و ازدحمت العلماء من جميع الأقطار علي باب داره تستفتيه و تسأله عن امهات المسائل علي اختلاف أنواعها من الفقه و التفسير و علم الكلام و الفلسفة و الطب و غيرها،فكان عليه السلام يجيبهم من فيض علمه الذي ورثه من جده الامام امير المؤمنين الذي هو باب مدينة علم النبي(ص)و كانت العلماء تذيع بين العامة ما تراه من علوم الامام و فضائله،حتي سري حبه في القلوب،و تعلقت به الناس،و كانت الاستخبارات تنقل الي المأمون ذلك،فكان يتميز من الغيظ و الحقد علي الامام،فأوعز الي محمد بن عمرو الطوسي بطرد الناس عنه،و منعهم من الحضور في مجلسه.

و خاف المأمون علي ملكه،و خشي علي سلطانه،و حذر من انتفاضة الناس عليه،فقدم علي أعظم جريمة،و أفحش موبقة في الاسلام،فقام باغتيال الامام فأخذ عنبا فسمه،ثم دعا الامام،و ناوله العنقود،و قال له:

«يا بن رسول اللّه ما رأيت عنبا أحسن من هذا!!».

فرمقه الامام بطرفه،و قال له:«ربما كان عنب أحسن منه في الجنة»و امتنع الامام من اجابته،فأصر عليه المأمون و أجبره علي تناول شيء منه،فأخذ منه قليلا ثم رمي به،و قام من مجلسه،فقال له المأمون:

-الي أين؟ فقال له بصوت خافت:الي حيث وجهتني. (1)

و مضي الامام مسرعا الي ثويه،و قد أخذ منه الألم القاسي مأخذا عظيما،فقد تقطعت أمعاؤه من السم،و هو يعاني ألم الغربة،و البعد عن أهله و وطنه،و لم يمض قليل من الوقت حتي وافاه الأجل المحتوم فصعدت تلك الروح العظيمة الي بارئها...تلك الروح التي هي قبس من نور اللّه4.

ص: 393


1- المناقب 374/4.

خلقها ليضيء بها غياهب الظلمات،و يرشد بها الحائر،و يأمن بها المظلوم و يلجأ إليها الخائف و المستجير،و لكن قوي الشر و الطغيان قد أطفأت ذلك الكوكب،و حرمت الانسان من الاستضاءة بنوره.

لقد رزئ العالم الاسلامي بتلك الفاجعة الكبري،و خسر بموته خيرا كثيرا،لقد انطوي عز المسلمين و مجدهم،و غاب عنهم من كان يحنو عليهم،و يعطف،و من كان يوجههم الي الخير،و يبعدهم عن الآثام و الشرور.

و كان المأمون يترقب وفاة الامام بفارغ الصبر،فلما وافاه النبأ بموته انبري و هو يظهر الحزن،و يقول أمام الناس لنفي الجريمة عنه:«كنت آمل أن اقدم قبلك،و لكن أبي اللّه إلا ما أراد» (1).

و أخذ المأمون في تجهيز الامام،و تكفينه،و بعد الفراغ منه حمل الي مقره الأخير،و قد جري له تشييع هائل لم تشهد نظيره خراسان في جميع مراحل تأريخها،و مشي خلف النعش العظيم المأمون و هو حاف حاسر، رافعا عقيرته قائلا:

«لقد ثلم الاسلام بموتك،و غلب القدر تقديري فيك» (2).

و جاء بالجثمان المقدس فشق له لحدا الي جانب قبر الرشيد،فواراه فيه،و قد واري معه الحلم و العلم و السخاء،فقد أودع في ارض فارس مصباح من أئمة الهدي،و قد تقدست تلك البقعة الطاهرة،و بلغت القمة شرفا و مجدا،فقد أحيطت بهالة من التكريم و التقديس عند جميع المسلمين و سئل المأمون عن السبب في مواراة الامام الي جانب أبيه،فقال:

«ليغفر اللّه لهارون بسبب جواره للرضا»و هو منطق هزيل فان كل انسان2.

ص: 394


1- كشف الغمة 123/3.
2- عيون اخبار الرضا 241/2.

يدفن بعمله،و لا يجديه شرف الجوار،و قد انبري دعبل الخزاعي الي الرد عليه بقوله:

قبران في طوس خير الناس كلهم و قبر شرهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قبر الزكي و ما علي الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت له يداه فخذ ما شئت أو فذر

و هذا هو منطق العدل و الحق،فما ذا يجدي هارون قربه من الامام و جواره منه،و قد تلطخت أيديه بدماء ذرية النبي فأشاع فيهم القتل و الاعدام و أسكن بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد.

و بهذا العرض الموجز ينتهي بنا المطاف عن حياة هذا الامام العظيم و عسي أن يساعدنا التوفيق فنتشرف بالبحث عن شئونه و أحواله».

2-ابراهيم الأكبر.

اشارة

و الشيء الذي يدعو الي البحث و الاستقصاء هو أن طائفة من المؤرخين ذهبوا الي أن المسمي بابراهيم من أبناء الامام انما هو شخص واحد،و ليس له ابن آخر يسمي بهذا الاسم،و ذهب آخرون الي التعدد،و نصوا علي أنهما اثنان يلقب أحدهما بالأكبر،و الآخر بالأصغر،و قد حقق ذلك آية اللّه المرحوم السيد مهدي بحر العلوم في رجاله قال ما نصه:

«ظاهر الأكثر كالمفيد في«الارشاد»و الطبرسي في«الاعلام» و السروي في«المناقب»و الأربلي في«كشف الغمة»ان المسمي بابراهيم من أولاد أبي الحسن موسي عليه السلام رجل واحد فانهم ذكروا عدة أولاد و لم يذكروا غير رجل.

ثم قال:«و الظاهر تعدد ابراهيم،كما نص عليه صاحب«العمدة»

ص: 395

و غيره من علماء الانساب،فانهم أعلم من غيرهم بهذا الشأن،و ليس في كلام غيرهم ما يصرح بالاتحاد فلا يعارض النص علي التعدد...» (1)و رأي الحجة السيد بحر العلوم رأي وثيق فان الأعلام الذين ذكروا ابراهيم لم ينصوا علي عدم التعدد كما انهم لم يذكروا جميع ابناء الامام و انما ذكروا بعضهم بالاضافة الي ان علماء النسب قد اثبتوا التعدد و هم أدري و أثبت من غيرهم في هذه الامور،و بعد هذا فلنعد الي البحث عن شئون هذا السيد الزكي ابراهيم.

كان ابراهيم سيدا جليلا عظيم الشأن و من علماء عصره البارزين،و روي الحديث عن آبائه (2)،و نقل ابن شدقم عن جده ان ابراهيم كان عالما فاضلا كاملا من أئمة الزيدية،و كان شيخا كبيرا كريما (3)،و قال الشيخ المفيد:كان ابراهيم شيخا كريما (4).

و مما يدل علي نباهة شأنه ان الامام موسي(ع)جعله من جملة أوصيائه في الظاهر لأجل التنويه باسمه و التشريف له و اعلاء مكانته،و نعرض بعض أحواله.

1-مع الواقفية.

و رماه بعض المترجمين له بالوقف مستندا الي رواية بكر بن صالح قال:دخلت عليه بعد وفاة أبيه فقلت له:

-ما قولك في ابيك؟

ص: 396


1- رجال بحر العلوم 424/1-432.
2- غاية الاختصار،لتاج الدين.
3- تحفة الأزهار.
4- الارشاد.

-هو حي.

-ما قولك في أخيك أبي الحسن؟ -ثقة صدوق.

-إنه يقول،ان أباك قد مضي.

-هو اعلم.

و طلب ابراهيم من بكر أن يخبره بقول أخيه الامام الرضا(ع)في ذلك فأجابه أنه يذهب الي وفاته،و بعد ما سمع بذلك قال:إنه اعلم بما يقول،فقال له بكر:

-أ فأوصي أبوك؟ -نعم.

-الي من اوصي؟ -الي خمسة منا،و جعل عليا المقدم علينا (1).

و دل هذا الخبر علي ميله الي الواقفية،كما دل علي تقديره و اكباره لأخيه الامام الرضا(ع)و استفاد المحقق المامقاني من هذا الخبر توثيقه و حسن نيته فقال:«و بالجملة فمن امعن النظر في هذا الخبر علم أن الرجل في غاية درجة التقوي،حيث أن الشبهة كانت دينية لم توجب رفع اليد عن الحق في توثيق أخيه و تصديقه اياه،و اعترافه بوصية أبيه،و كون الأوصياء مجموعهم،و ان الامام الرضا(ع)مقدم عليهم،بل لو لم يكن في ترجمة الرجل إلا الخبر هذا لكفي الفطن البصير في عدالته و ديانته و كون الوقف لشبهة عرضت عنده و زالت» (2).

و مهما يكن من امر فان الكثير من المحققين قد صرحوا بعدالته و براءته3.

ص: 397


1- اصول الكافي،عيون الأخبار.
2- تنقيح المقال:34/3.

من هذه التهمة.

2-مع الامام الرضا(ع):

و ذكر الكليني أن ابراهيم و أخاه العباس قد خاصما الامام الرضا(ع) كما سنذكر ذلك في ترجمة العباس و من المعلوم أن ذلك مضر بوثاقته و عدالته و لكنه لم ينص علي أنه ابراهيم الأكبر او الأصغر،و مع هذا الاهمال فلا دلالة فيه علي قدحه بوجه من الوجوه.

3-مع أبي السرايا.

و لا بد لنا من الاحاطة-و لو اجمالا-بحادثة ابي السرايا لأنها تلتقي مع غير واحد من أولاد الامام(ع).

لقد فجر تلك الثورة الخطيرة في بدايتها،و وضع تصميمها و مخططاتها الزعيم العظيم محمد بن ابراهيم المعروف بالطباطبائي (1)فقد رأي ما مني به المسلمون من الظلم الفاحش و ما عاناه العلويون من صنوف التنكيل و الارهاق و انه كان شديد الرقة و العطف علي الضعفاء و المحرومين و قد حفزته روحه الطاهرة الي اعلان الثورة،فقد حدث المؤرخون عنه أنه كان في بعض شوارع الكوفة اذ وقع بصره علي عجوز تتبع احمال الرطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث،فسألها عن ذلك،فقالت له:

«اني امرأة لا رجل لي ليقوم بمؤنتي،ولي بنات لا يعدن أنفسهن بشيء،فأنا اتتبع هذا في الطريق و أتقوته أنا و ولدي».

و لما سمع ذلك انفجر باكيا و التفت إليها قائلا:

ص: 398


1- سمي بذلك لأن أباه لقبه بها للكنة في لسانه أيام طفولته ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه(ج 4 ص 8).

«و اللّه أنت و أشباهك تخرجوني غدا حتي يسفك دمي» (1).

و كان من الطبيعي أن يدفعه هذا الاحساس و الحدب علي الفقراء الي المطالبة بحقوقهم و اعلان الثورة علي الظالمين.

و أخذ يدبر اموره،فاتصل بزعماء العرب،و شخصيات المسلمين طالبا منهم المساعدة و الاشتراك معه في مقاومة الظلم و قلب الحكم القائم آنذاك، و قد التقي بالزعيم العربي نصر بن شيث (2)فاندفع يحرضه علي الانتفاضة و ذكر ما جري علي اهله و شيعته من الظلم و الجور قائلا:

«حتي متي توطئون بالخسف و تهتضم شيعتكم،و ينزي علي حقكم؟» (3)فألهبت هذه الكلمات قلبه،و دفعته الي الاسراع في ثورته،و من الأسباب المهمة التي حفزته الي المبادرة في نهضته هو اختلاف العباسيين و تفرق كلمتهم بسبب الفتنة التي حدثت بين الأمين و المأمون،فقد اوجبت فقدان الاستقرار و الأمن و شيوع الاضطراب بين الناس و تطلعهم الي من ينقذهم مما هم فيه.

انضمام أبي السرايا الي الثورة:

و مما زاد في احكام الثورة و خطورتها انضمام القائد المحنك أبي السرايا إليها،و كان علوي الرأي،يكن في نفسه للعلويين أعظم الولاء و الحب، و يتحرق علي ما أصابهم من العنف و الاضطهاد،و يسعي جاهدا الي قلب الحكم العباسي،و اعادته الي العلويين،و نتحدث بايجاز عن شئون هذا

ص: 399


1- مقاتل الطالبيين:ص 339.
2- نصر بن شيث احد رؤساء القبائل الساكنة في الجزيرة في العراق و كانت له ميول علوية.
3- مقاتل الطالبيين:ص 519.
القائد الملهم العظيم:

إنه السري بن منصور من بني شيبان من ولد هاني بن مسعود،و قيل من بني تميم القاطنين في الجزيرة،أقام مدة من الزمن في شرقي الفرات..

خاض في كثير من الحروب،و مارس عملياتها،اشترك مع القائد يزيد بن مزيد في«أرمينية»لمقاتلة«الخرمية»و لما توفي يزيد و تولي ابنه قيادة الجيش انضم إليه أبو السرايا،و صار معه الي أن عزل...و التحق بعد ذلك بأحمد بن مزيد،و قد أرسل الأمين أحمد بن مزيد لحرب هرثمة بعد أن أعلن العصيان و التمرد،و قد أوعز إليه أن يجتمع به ليطلع علي شئونه...

و التقي به أحمد فشرح له هرثمة أسباب خروجه،و ما تعانيه الأمة من ظلم العباسيين و جورهم فمال إليه أحمد،و لحق بمعسكره،و قصد بني شيبان الي الجزيرة فاستخرج لهم الأرزاق من هرثمة،فانضم إليه ما يزيد علي ألفي فارس،و بعد مقتل الامين نقص هرثمة من عطايا الجيش و مرتباتهم،فساء ذلك أبا السرايا و عزم علي التخلي عنه،و استأذنه ان يحج فأذن له و أعطاه عشرين ألف درهم فأخذها و فرقها بين أصحابه،و قد استمال بذلك قلوبهم و ملك عواطفهم،و أوصاهم باتباعه الي«عين التمر»فلما انتهوا إليها أخذوا عاملها،و نهبوا امتعته،و لقوا عاملا آخرا لبني العباس فأخذوا أمواله و قسموها بينهم.

و أرسل هرثمة جيشا ليناجز أبا السرايا الحرب،و لما التقي الجيشان انهزم جيش هرثمة،و مني بالخسائر الفادحة،و سار أبو السرايا قاصدا نحو الأنبار،فلما انتهي إليها استولي علي الادارة المحلية،و قتل عاملها ابراهيم الشروري،و صادر جميع أمواله،و أخذ يواصل الزحف بجيوشه و يبيد عمال بني العباس و عملائهم حتي انتهي الي الرقة،فالتقي بمحمد بن ابراهيم،و صمما علي القضاء علي الحكم العباسي،و اعلان البيعة للرضا من

ص: 400

آل محمد (1).

لقد مارس أبو السرايا الحروب و خاض غمارها،و عرف أساليبها، و قد منح قوة الارادة و العزم و التصميم،و قد أسند له محمد بن ابراهيم القيادة العسكرية العامة،و منحه ثقته،و فوض إليه أمور الثورة،و تخطيطها.

اعلان الثورة.

و اتفق محمد،و أبو السرايا علي اعلان الثورة،و الاطاحة بالحكم العباسي فزحف أبو السرايا بجيوشه نحو نينوي،و اتجه الي قبر سيد الشهداء(ع) فزار المرقد العظيم،و أطال الزيارة،و جعل يتمثل بأبيات منصور النمري قائلا:

نفسي فداء الحسين يوم غدا الي المنايا عدو لا قافل

ذلك يوم أنحي بشفرته علي سنام الاسلام و الكاهل

كأنما أنت تعجبين ألا ينزل بالقوم نقمة العاجل

لا يعجل اللّه إن عجلت و ما ربك عما ترين بالغافل

مظلومة و النبي والدها يدير أرجاء مقلة حافل

أ لا مساعير يغضبون لها بسلة البيض و القنا الذابل

و وثب،فقال:من كان هاهنا من الزيدية فليقم إلي فوثب إليه جماعات من الناس،فدنوا منه،فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها أهل البيت(ع)و فضلهم،و ما خصوا به،و ذكر فعل الأمة بهم،و ظلمها لهم ثم ذكر الامام الحسين(ع)فقال:

«أيها الناس هبكم لم تحضروا الحسين فتنصروه،فما يقعدكم عمن7.

ص: 401


1- تأريخ ابن خلدون 243/7.

أدركتموه و لحقتموه؟و هو غدا خارج طالب بثأره و حقه،و تراث آبائه و إقامة دين اللّه،و ما يمنعكم من نصرته و مؤازرته،إنني خارج من وجهي هذا الي الكوفة للقيام بأمر اللّه و الذب عن دينه،و النصر لأهل بيته،فمن كانت له نية في ذلك فليلحق بي».

و اتجه بجيوشه إلي الكوفة...و أما محمد،فقد أعلن الثورة في اليوم الذي اتفق فيه مع أبي السرايا،و قد بايعه جمهور غفير من الناس،و ظل يترقب بفارغ الصبر قدوم أبي السرايا عليه حتي يئس منه أصحابه،و لاموا محمدا علي الاستعانة به،و اغتم محمد لتأخره عنه،و بينما هم في قلق و اضطراب إذ طلعت عليهم جيوش أبي السرايا،ففرح محمد و سر سرورا بالغا،و لما بصر به أبو السرايا ترجل عن فرسه،و أقبل إليه فاعتنقه،و سارا معا الي الكوفة،فلما انتهي إليها ازدحمت الجماهير،و بايعته بالاجماع،و أظهروا فرحتهم الكبري بذلك،و كانت بيعتهم في موضع بالكوفة يعرف بقصر الضرتين (1).

و لما توفرت الجيوش لمحمد أعلن ثورته و كانت في سنة(199 ه)من شهر جمادي الثانية (2)و زحف الثوار الي الكوفة فاحتلوها،و هجموا علي و إليها الفضل بن عيسي فنهبوا جميع ما في قصره،و لكن أبا السرايا لم يكن راغبا في ذلك و أصدر الأوامر المشددة بالكف عن السلب و النهب و مراقبة العابثين كما أصدر أوامره بارجاع المنهوبات الي أهلها،و انهزم الفضل بن عيسي فقوي أمر أبي السرايا و أحرز نصرا رائعا،و قد أرسل والي العراق الحسن بن سهل جيشا يربو علي ثلاثة آلاف فارس بقيادة زهير بن الحسني.

ص: 402


1- مقاتل الطالبيين:ص 533.
2- تأريخ ابن خلدون،و في مقاتل الطالبيين:أنه ثار في شهر جمادي الأولي.

لحرب أبي السرايا،فلما انتهي الجيش الي الكوفة قاومه أبو السرايا بقوة و عزم،فهزمه و رده علي أعقابه و قد مني بالفشل و الخسران و استولي علي جميع امتعته (1)و انتصر أبو السرايا و اندحر عدوه و سري الرعب و الفزع في نفوس العباسيين،فقد أيقن الكثيرون منهم ان الثورة قد نجحت.

وفاة محمد

:

و من المؤسف الذي يحز في النفس انه في تلك الفترة الحاسمة قد مني الثوار بوفاة الزعيم محمد بن ابراهيم،و نصت اكثر المصادر أنه توفي وفاة طبيعية،و عزت بعض المصادر أن أبا السرايا دس إليه السم فاغتاله ليتخلص منه،و اكبر الظن أنه توفي حتف أنفه لأن الثورة كانت في بداية أمرها، و ليس من الممكن بأي حال من الأحوال أن يقدم أبو السرايا علي اغتياله في تلك الفترة الحرجة التي لم يتيقن فيها بنجاح ثورته.

و مهما يكن من أمر فان أبا السرايا قام بتجهيز الجثمان المقدس،و بعد ما غسله و ادرجه في اكفانه خرج في غلس الليل البهيم و معه جماعة من الزيدية فحملوا النعش الطاهر و جاءوا به الي الغري فدفنوه فيه (2)و لما انبلج نور الصبح جمع الناس فنعي إليهم محمدا و عزاهم بوفاته فارتفعت الأصوات من جميع الجهات بالبكاء و العويل،ثم التفت إليهم قائلا:

«و قد اوصي أبو عبد اللّه الي شبيهه،و من اختاره،و هو أبو الحسن علي بن عبيد اللّه،فان رضيتم به فهو الرضا،و إلا فاختاروا لأنفسكم»

ص: 403


1- الخضرمي:ص 239،و جاء في المقاتل ان الجيش كان بقيادة عبدوس بن عبد الصمد.
2- المقاتل:ص 532.

فجعل الناس ينظر بعضهم الي بعض و لم ينطق أحد منهم ببنت شفة و ساد عليهم الوجوم،و انبري محمد بن محمد بن زيد و هو غلام حدث السن فقال:

«يا آل علي:ان دين اللّه لا ينصر بالفشل،و ليست يد هذا الرجل عندنا بسيئة،و قد شفي الغليل،و أدرك الثأر».

و التفت الي علي بن عبيد اللّه فقال له:ما تقول:يا أبا الحسن؟ فقد وصانا بك،امدد يدك نبايعك ثم قال:

«إن أبا عبيد اللّه رحمه اللّه قد اختار فلم يعد الثقة في نفسه،و لم يألوا جهدا في حق اللّه الذي قلده،و ما أرد وصيته تهاونا بأمره،و لا أدع هذا نكولا عنه،و لكن اتخوف أن اشتغل به عن غيره مما هو أحمد و أفضل عاقبة،فامض رحمك اللّه لأمرك و اجمع شمل بني عمك،فقد قلدناك الرئاسة علينا،و أنت الرضا عندنا الثقة في انفسنا».

ثم قال لأبي السرايا:ما تري؟أرضيت به؟.

فقال:رضائي من رضاك،و قولي مع قولك،و جذبوا يد محمد بن محمد فبايعوه و في الوقت نضم شئونه و بعث عماله الي الاقطار الاسلامية، فولي اسماعيل بن علي علي الكوفة،و روح بن الحجاج علي شرطته،و عاصم ابن عامر للقضاء،و جعل أحمد بن السري علي شرطته،و ولي نصر بن مزاحم السوق،و عقد لإبراهيم بن موسي علي اليمن،و ولي زيد بن موسي علي الأهواز،و ولي العباس بن محمد علي البصرة و الحسن بن الحسن الأفطس علي مكة،و عقد لجعفر بن محمد بن زيد و الحسين بن ابراهيم بن الحسن علي واسط (1)و ضربت النقود بالكوفة و كتب عليها الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ .3.

ص: 404


1- المقاتل:ص 532-533.

و استتب الأمر الي أبي السرايا و أخذت الثورة تتسع في مناطق العالم الاسلامي و ادرك العباسيون الخطر الذي يهددهم بزوال حكمهم بين عشية و ضحاها و قد مني والي العراق الحسن بن سهل بالفشل الذريع،فكتب الي طاهر بن الحسين لينفذه الي قتال أبي السرايا،كما كتبت إليه رقعة فيها هذه الأبيات و قد أخفي صاحبها اسمه و هي:

قناع الشك يكشفه اليقين و أفضل كيدك الرأي الرصين

تثبت قبل ينفذ فيك أمر يهيج لشره داء دفين

أ تندب طاهرا لقتال قوم بنصرتهم و طاعتهم يدين

سيطلقها عليك معقلات تصر و دونها حرب زبون

و يبعث كامنا في الصدر منه و لا يخفي اذا ظهر المصون

فشأنك و اليقين فقد أنارت معامله و أظلمت الظنون

و دونك ما تريد بعزم رأي تدبره ودع ما لا يكون

فلما قرأها رجع عن رأيه و كتب الي هرثمة بن أعين يسأله التعجيل و أوفد إليه السندي بن شاهك إلا انه كانت بين الحسن بن سهل و هرثمة شحناء و تنافر،فلما انتهي إليه الكتاب قال:

«نوطئ نحن الخلافة،و نمهد لهم أكنافها،ثم يستبدون بالأمور و يستأثرون بالتدبير علينا،فاذا انفتق عليهم فتق بسوء تدبيرهم و اضاعتهم الامور،أرادوا أن يصلحوه بنا،لا و اللّه و لا كرامة حتي يعرف أمير المؤمنين سوء آثارهم،و قبيح أفعالهم».

و تباعد السندي عنه حين يئس منه و لكن وردته رسالة من المنصور ابن المهدي فقرأها و أجاب بعد ذلك و رجع الي بغداد فلما صار الي النهروان خرج لاستقباله البغداديون و القواد و الوجوه و ترجلوا جميعا حينما رأوه حتي أتي الي منزله،و أمر الحسن بن سهل بدواوين الجيش فنقلت إليه ليختار

ص: 405

من الرجال ما شاء،و أطلق له بيوت الاموال،و أخذ يجمع الجيوش حتي صار عنده ثلاثون الف مقاتل ما بين فارس و راجل،و لما تم له ما أراد من العدد و العدة زحف بجيشه نحو الكوفة فاجتاز علي المدائن و كانت خاضعة لحكم أبي السرايا فاستولي عليها و هزم عاملها ثم زحف نحو الكوفة فالتقي العسكران عند قصر ابن هبيرة،فوقع بينهما الحرب،فقتل من أصحاب أبي السرايا خلق كثير و ألح عليه هرثمة بالحرب فأجابه الي ذلك حتي تفتت جميع قواه و لم يعد قادرا علي حماية الكوفة التي هي عاصمته و مركز ثورته فاضطر لمغادرتها قاصدا نحو القادسية،و استولي هرثمة علي الكوفة،و ترك أبو السرايا القادسية منهزما حتي أتي الي(السوس)فأغلق أهله الأبواب فطلب منهم أن يفتحوها له ففتحوها،و طلب منه عاملها مغادرتها فأبي فوقعت الحرب بينهم،فقتل جماعة من أصحابه،و انهزم أبو السرايا قاصدا الي خراسان فنزل قرية يقال لها(برقانا)فخرج إليهم عاملها فاجتمع بهم و أعطاهم الأمان علي أن يرسلهم الي الحسن بن سهل،فأجابوه الي ذلك و بالوقت حملهم إليه،و كان آنذاك مقيما بالمدائن،فلما وصلت إليه الأسري أمر بقتل أبي السرايا،و بعد قتله أمر بصلب رأسه في الجانب الشرقي من بغداد كما أمر بصلب بدنه في الجانب الغربي منها (1)و كانت المدة بين خروجه و قتله عشرة أشهر (2).

إن حادثة أبي السرايا ترتبط ارتباطا وثيقا بزيد و بابراهيم و بغيرهما من أولاد الامام،فقد اشترك الكثيرون منهم فيها إلا أن زيدا و ابراهيم كانا في الطليعة ممن ساهم فيها،و قد اسندت لهما الولاية علي بعض الأقطار الاسلامية.0.

ص: 406


1- المقاتل:ص 549.
2- الطبري:231/10.

أما ما وقع لإبراهيم بعد فشل الحركة و القضاء عليها فقد وردت عدة روايات و هي:

«الاولي»:أنه بعد ما ولاه أبو السرايا علي اليمن مضي إليها فأذعن له أهلها بعد اصطدام يسير وقع بينهم و بينه (1).

«الثانية»أنه كان أميرا علي مكة المشرفة،فلما بلغه خبر أبي السرايا ظهر بمكة سنة(201 ه)و دعا الناس لنفسه فاستجاب له جمهور غفير من الناس،فقام بالأمر و قتل خلفا كثيرا ممن يري رأي العباسية،و أقام الحج في تلك السنة،و هو أول علوي أقام فيها الحج،فخاف منه المأمون فخادعه باستخلافه علي اليمن،فقدم صنعاء،و كان فيها ابن فاهان فخاذله حتي اسره (2).

«الثالثة»أنه كان بمكة حين مقتل أبي السرايا،فلما بلغه ذلك سار الي اليمن و استولي علي كثير من مناطقها،و دعا الناس لنفسه (3).

«الرابعة»:انه استولي علي اليمن،و امتدت حكومته الي الساحل و الي القرن الشرقي من اليمن و حج بالناس في عهد المأمون،و قد خطب في الناس في الحرم الشريف فدعا للمأمون و لولي عهده الامام الرضا(ع) (4)«الخامسة»:أنه حارب المأمون،و انكسر جيشه ففر هاربا الي مكة،و لما جاء المأمون الي بغداد جاء ابراهيم إليه فآمنه (5).ه.

ص: 407


1- المقاتل:ص 534.
2- تحفة الازهار.
3- تأريخ الدول الاسلامية.
4- مختصر اخبار الخلفاء.
5- اعيان الشيعة:481/5 نقلا عن السيد حسن الصدر في بعض فوائده.

هذه بعض الروايات التي وردت فيه،و أكبر الظن أنه فتح اليمن و استولي عليها،و بعد فشل حركة أبي السرايا انهار عزمه،فطلب الأمن من المأمون فآمنه،و مما يؤيد ذلك ما روي أن الامام الرضا قد تشفع فيه عند المأمون لما كان في خراسان فشفعه فيه و أطلق سراحه (1).

وفاته:

انتقل السيد الزكي ابراهيم الي جوار ربه في بغداد سنة(213 ه) (2)و قيل سنة(210)و قد اجمع المترجمون له أنه مات مسموما و ان المأمون هو الذي دس إليه السم،و قد شيع جثمانه المقدس بتشييع حافل،و انزله في ملحودة قبره الفقيه ابن السماك (3)و أنشد حينما ألحده:

مات الامام المرتضي مسموما و طوي الزمان فضائلا و علوما

قد مات في الزوراء مظلوما كما اضحي أبوه بكربلاء مظلوما1.

ص: 408


1- تحفة الأزهار.
2- مختصر اخبار الخلفاء.
3- ابن السماك:هو أبو العباس محمد بن صبيح مولي بني عجل الكوفي الزاهد كان حسن الكلام صاحب مواعظ،لقي جماعة من الصدر الأول فأخذ عنهم الحديث مثل هشام بن عروة،و الأعمش و غيرهما،و روي عنه احمد بن حنبل و غيره،قدم بغداد زمن الرشيد فمكث فيها مدة،دخل علي الرشيد فقال له:ناشدتك اللّه لو منعك اللّه من شربة ماء ما كنت فاعلا،قال كنت افتديه بنصف ملكي،قال له ناشدتك اللّه لو منعك اللّه من خروج الماء منك ما كنت فاعلا؟:قال:كنت افتديه بنصف ملكي فقال له:ان ملكا يفتدي به بشربة ماء لخليق أن لا ينافس عليه،توفي بالكوفة جاء ذلك في الكني و الالقاب 305/1.

فالشمس تندب موته مصفرة و البدر يلطم وجهه مغموما (1)

دفن جثمانه الطاهر بالقرب من قبر أبيه الامام الكاظم(ع)و قال السيد الأعرجي انه دفن في«القطيعة»و عليه مشهد و هو ظاهر يزار و يتبرك به،و العامة تزعم أنه قبر المرتضي علم الهدي و هو وهم،فان المرتضي حمل الي الحائر الشريف و دفن عند أخيه و أبيه باجماع العلماء،و إنما المدفون هناك هو ابراهيم المرتضي بن الكاظم (2).

3-ابراهيم الأصغر.

يلقب بالمرتضي،و هو أصغر ولد أبيه،و أمه نوبية اسمها نجية (3)و ذكر العبيدلي النسابة ان ابراهيم الصغير بن الكاظم كان عالما عابدا،و ليس هو صاحب أبي السرايا و انما ذاك أخوه ابراهيم الأكبر (4)و نصت بعض المصادر أنه ظهر في اليمن أيام أبي السرايا (5)و هو المعقب المكثر جد المرتضي و الرضي،وجد الأشراف الموسوية (6)،هذا جميع ما عثرنا عليه في ترجمته،دفن في كربلاء خلف قبر جده الحسين(ع)بستة أذرع (7)، و قيل توفي في بغداد في الجانب الشرقي و دفن في مقبرة باب(راز) (8).

ص: 409


1- مختصر اخبار الخلفاء.
2- مناهل الضرب في أنساب العرب.
3- تحفة الأزهار،عمدة الطالب:ص 190.
4- اعيان الشيعة:482/5.
5- النفحة العنبرية.
6- اعيان الشيعة.
7- نفس المصدر نقله عن العبيدلي.
8- مناهل الضرب في انساب العرب:ص 397.

4-أحمد.

اشارة

أمه أمّ ولد،و هي أم أخويه محمد و حمزة،و كانت من السيدات المحترمات تدعي أم أحمد،و كان الامام موسي(ع)شديد التلطف بها و لما توجه من المدينة الي بغداد اودع عندها مواريث الامامة و قال لها:كل من جاءك و طلب منك هذه الأمانة في أي وقت من الأوقات فاعلمي بأني قد استشهدت و انه هو الخليفة من بعدي و الامام المفترض الطاعة عليك و علي سائر الناس،و أمر ابنه الرضا(ع)بحفظ الدار،و لما سمه الرشيد في بغداد،جاء إليها الامام الرضا(ع)فطالبها بالأمانة،فقالت له أم احمد:لقد استشهد والدك،فقال بلي:و الآن فرغت من دفنه فاعطيني الأمانة التي سلمها إليك أبي حين خروجه الي بغداد و أنا خليفته و الامام بالحق علي جميع الأنس و الجن فشقت أم أحمد جيبها وردت عليه الأمانة و بايعته بالامامة (1)و فيما يلي بعض شئونه و أحواله.

1-مكانته عند أبيه:

كان الامام موسي(ع)كثير الاعتناء بولده أحمد،و كانت له المنزلة السامية عنده،فكان يقدمه علي بعض أولاده،و وهب له بعض ضياعه (2)و جعله من جملة أوصيائه في الظاهر (3)و حدث اسماعيل بن الامام عن مدي اهتمام أبيه بأخيه أحمد قال:خرج أبي بولده الي بعض أمواله و كان مع أحمد عشرون رجلا من خدم أبي و حشمه إن قام أحمد قاموا معه و ان جلس جلسوا معه و أبي مع ذلك يرعاه ببصره ما يغفل عنه و ما انقلبا حتي انشج

ص: 410


1- تحفة العالم:87/2.
2- الارشاد:ص 77..
3- اعيان الشيعة.

أحمد-أي أصابه التشنج- (1)،إن رعاية الامام له و عدم الغفلة عنه تدل علي ما يكنه له من الحب و الاخلاص.

2-تقواه و عبادته:

كان أحمد من عيون المتقين و الصالحين،و قد أعتق الف مملوك (2)متقربا بها الي اللّه تعالي،و قد نظم ذلك بعض الشعراء بقوله:

شاه جراغ (3)أحمد بن كاظم اعتق الفا سيد الأعاظم (4)

و مما يدل علي صلاحه و ورعه أنه لما شاع خبر وفاة الامام موسي في المدينة اجتمع أهلها علي باب أم أحمد،و خرج الناس و معهم أحمد و قد ظنوا أنه الامام من بعد أبيه و ذلك لما عليه من الجلالة و وفور العبادة و إظهار تعاليم الاسلام فظنوا أنه هو الخليفة و الامام بعد أبيه،فبايعوه بالامامة فأخذ منهم البيعة،و صعد المنبر و خطب الناس خطبة بليغة كانت في منتهي البلاغة و الفصاحة،ثم قال:«أيها الناس،كما أنكم جميعا في بيعتي فاني في بيعة أخي علي بن موسي الرضا،و اعلموا أنه الامام و الخليفة من بعد أبي و هو ولي اللّه،و الفرض علي و عليكم من اللّه و الرسول طاعته بكل ما يأمرنا،فكل من كان حاضرا خضع لكلامه،و خرجوا من المسجد يقدمهم أحمد،و حضروا عند الامام الرضا(ع)فأقروا بامامته (5)و في هذا الخبر دلالة علي ايمانه و تقواه،و ذهبت بعض فرق الشيعة المنقرضة الي امامته

ص: 411


1- الارشاد،تحفة الأزهار.
2- الارشاد،تحفة العالم.
3- شاه جراغ:كلمة فارسية معناها ملك الضياء.
4- منظومة نخبة المقال:ص 14.
5- تحفة العالم.

و ادعت أنه الامام بعد أبيه.

3-علمه:

كان من فضلاء عصره،رقد روي عن أبيه و آبائه احاديث كثيرة، و قد كتب المصحف الكريم بيده المباركة (1)و لكنا لم نعثر علي تراث له

4-مع أبي السرايا:

و نصت بعض المصادر أن أحمد كان من جملة الخارجين مع أبي السرايا فقد حدث ابراهيم و اسماعيل ابنا أبي سمال قالا:لما كان من امر أبي الحسن ما كان كنا نأتي الي أحمد ابنه زمانا،فلما خرج أبو السرايا خرج أحمد معه،فقصد محمد بن أحمد بن أسيد،ابراهيم و اسماعيل فقال لهما:إن هذا الرجل قد خرج مع أبي السرايا فما تقولان؟فأنكرا ذلك منه و رجعا عنه و قالا:

أبو الحسن حي نثبت علي الوقف (2)و ذهب بعضهم أن خروجه مع أبي السرايا قادح في عدالته (3)و لكنا نشجب ذلك نظرا لتوثيق الشيخ المفيد و غيره من العلماء الاعلام له.

5-وفاته:

و المشهور انه توفي وفاة طبيعية،فقد ذكر معين الدين المتوفي حدود (791 ه)أن السيد الامير أحمد بن موسي قدم شيراز فتوفي بها في أيام المأمون بعد وفاة أخيه علي الرضا(ع) (4)و ذكرت بعض المصادر أنه قتل

ص: 412


1- لب الانساب.
2- رجال الكشي:ص 294.
3- معرفة اخبار الرجال.
4- الكني و الألقاب:317/2 نقلا عن كتاب شد الازار في حط الاوزار للسيد المعين.

شهيدا و ذلك حينما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا(ع)و كان آنذاك في بغداد فحزن عليه حزنا شديدا،و خرج من بغداد للطلب بثأره و كان معه ثلاثة آلاف من احفاد الأئمة الطاهرين قاصدين حرب المأمون،و لما وصلوا الي قم حاربهم عاملها،فاستشهد جماعة من أصحابه فرحل الي الري فحاربه عاملها فاستشهد جماعة من أصحابه،ففروا حتي وصلوا الي«اسفراين» احدي نواحي خراسان،فنزلوا في أرض سبخة بين جبلين،فهجم عليهم عسكر المأمون فحاربهم و قتلهم و استشهد أحمد و دفن هناك،و قبره يزار في ذلك الموضع،و علق السيد محسن الأمين رحمه اللّه علي ذلك بقوله:

و هذا غريب مخالف للمشهور من أن مشهده بشيراز،و أضاف يقول:

ان هذا الخبر يشبه أن يكون من الاقاصيص و الحكايات الموضوعة (1).

و مهما يكن من أمر فان المعروف انه توفي في شيراز و دفن هناك (2)و يعرف قبره قبل بسيد السادات،و يعرف الآن«بشاه جراغ» (3)و بقي قبره مخفيا،و لكنه ظهر في عهد الامير مقرب الدين مسعود بن بدر، فبني عليه بناء.و قيل وجد في قبره كما هو صحيحا طريا لم يتغير، و في يده خاتم نقش عليه«العزة للّه،أحمد بن موسي»فعرفوه به،ثم بني عليه الاتابك أبو بكر بناء أرفع من البناء الاول،و عمرته أخيرا الخاتون تاشي،و كانت امرأة صالحة زاهدة عرفت بالعبادة و النسك،فبنت علي المرقد الشريف قبة رفيعة و بنت بجنبها مدرسة عالية و جعلت مرقدها بجواره و ذلك في سنة«750 ه» (4)وحدت الرحالة الشهير أبو عبد اللّه الطنجي2.

ص: 413


1- اعيان الشيعة:286/1-287.
2- فلك النجاة:ص 337.
3- جامع الانساب:ص 77،منتهي المقال،الكني و الألقاب.
4- شد الازار:ص 292.

المعروف بابن بطوطة عن زيارته للمرقد الكريم و عن تكريم الشعب الايراني النبيل لذلك الضريح المقدس قال:تحت عنوان«ذكر المشاهد بشيراز» فمنها مشهد أحمد بن موسي أخي الرضا علي بن موسي بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم،و هو مشهد معظم عند اهل شيراز،يتبركون به،و يتوسلون الي اللّه بفضله، و بنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبي اسحاق مدرسة كبيرة و زاوية فيها الطعام للوارد و الصادر،و القراء يقرءون القرآن علي التربة دائما،و من عادت الخاتون،أنها تأتي الي هذا المشهد في كل ليلة اثنين و يجتمع في تلك الليلة القضاة و الفقهاء و الشرفاء،و شيراز من اكثر بلاد اللّه شرفاء سمعت من الثقات ان الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء الف و أربعمائة و نيف بين صغير و كبير،و نقيبهم عضد الدين الحسيني فاذا حضر القوم بالمشهد المبارك ختموا القرآن قراءة في المصاحف،و قرأ القراء بالاصوات الحسنة،و أوتي بالطعام و الفواكه و الحلواء،فاذا اكل القوم وعظ الواعظ،و يكون ذلك كله من بعد صلاة الظهر الي العشاء،و الخاتون في غرفة مطلة علي المسجد لها شباك ثم تضرب الطبول و الانقار و البوقات علي باب التربة كما يفعل ذلك عند ابواب الملوك (1)،الي هنا ينتهي بنا الحديث عن ترجمة هذا السيد الجليل.

5-اسحاق.

يلقب بالأمير (2)و الأمين (3)عده الشيخ في رجاله من أصحاب

ص: 414


1- تحفة النظار في غرائب الامصار و عجائب الاسفار:127/1
2- المجدي،عمدة الطالب.
3- بحر الانساب.

الامام الرضا(ع) (1)و روي له الكليني في«الكافي»حديثا رواه عن عمه و عن جده الامام الصادق(ع).

و له بنات منها السيدة رقية و قد عمرت طويلا و توفيت في بغداد سنة «316 ه»و من احفاده الورع أبو طالب المهلوس،و أبو جعفر محمد الصوراني الذي قتل في شيراز (2).

توفي في المدينة المنورة سنة«240 ه»و دفن بها،و ذكر حمد اللّه المستوفي أنه توفي في«ساوة»و دفن بها (3).

6-اسماعيل.

من عيون علماء عصره و في طليعة المتقين و الصالحين،كان أميرا علي فارس من قبل أبي السرايا (1)و بعد فشل الحركة سكن مصر،و سكنها من بعده أولاده و أحفاده.

و مما يدل علي سمو مكانته و تقواه أنه لما توفي صفوان بن يحيي أمره الامام أبو جعفر بالصلاة عليه و النيابة عنه في ذلك (2)ألف عدة من الكتب رواها عن آبائه منها:

(3)كتاب«الطهارة».

(4)كتاب«الصلاة».

(5)كتاب«الزكاة».

ص: 415


1- نفس المصدر.
2- الكشي.
3- تنقيح المقال:132/1.
4- جامع الأنساب:ص 47.
5- نفس المصدر.

(1)كتاب«الصوم».

(2)كتاب«الحج».

(3)كتاب«الجنائز».

(7)كتاب«الطلاق».

(8)كتاب«النكاح».

(9)كتاب«الحدود».

(10)كتاب«الدعاء».

(11)كتاب«السنن و الآداب».

(12)كتاب الرؤيا (4).

و من أجل كتبه التي يعول عليها«الجعفريات» (5)و ذكر النوري:ان «الجعفريات»من الكتب القديمة المعروفة المعول عليها (6)و قد استدل علماؤنا الأعلام علي مدحه و غزارة علمه و فضله بكثرة تآليفه (4)توفي في مصر و دفن بها (5)و لكن حمد اللّه المستوفي ذكر أنه دفن في بعض نواحي شيراز (6).ب.

ص: 416


1- التعليقة،رجال ابن داود.
2- تحفة العالم:34/2.
3- جامع الأنساب.
4- النجاشي:ص 21،الفهرست،المعالم لابن شهر اشوب
5- تسمي بالاشعثيات،و العلويات.
6- مستدركات الوسائل،و كان الفقيد العظيم آية اللّه المرحوم السيد أبو الحسن رحمه اللّه كثير الاعتماد علي هذا الكتاب.

7-جعفر.

يكني أبا الحسن أمه أم ولد (1)و يعرف بالخواري،نسبة الي خوار و هي احدي قري مكة المعظمة،كان ينزلها في اكثر أوقاته فنسب إليها هو و بنوه،فقيل لهم:«الخواريون»و يقال لهم:«الشجريون»أيضا لأنهم ينزلون في المواضع الكثيرة الشجر (2)،و قد أعقب 14 ولدا الذكور ستة و الاناث ثمان (3).

8-الحسن.

أمه أم ولد،عقبه قليل جدا قال أبو نصر البخاري:و الحسن بن موسي له ولد يسمي جعفرا من أم ولد،يقال إنه أعقب و يقال غير ذلك و قال ابن طباطبا و أبو الحسن العمري:اعقب الحسن بن موسي من جعفر وحده،و أعقب جعفر من ثلاثة محمد،و الحسن،و موسي (4)و لم تعين لنا كتب التأريخ و الأنساب التي بأيدينا الزمان الذي توفي فيه و المحل الذي دفن فيه.

9-الحسين.

يلقب بالسيد علاء الدين (5)و كان سيدا جليل القدر،رفيع الشأن

ص: 417


1- تحفة الأزهار.
2- مناهل الضرب:ص 567.
3- المجدي.
4- عمدة الطالب،بحر الأنساب.
5- تحفة العالم:31/2.

و مما يدل علي سمو مكانته رواية البزنطي،فقد جاء فيها أنه سئل الامام الجواد(ع)أي عمومتك أبرّ بك؟فقال:الحسين،قال الامام الرضا(ع)صدق و اللّه،هو و اللّه أبرهم به و أخيرهم (1)و حدث الحسين قال:كنا حول أخي أبي الحسن الرضا(ع)و نحن شبان من بني هاشم إذ مر علينا جعفر بن عمر العلوي،و هو رث الهيئة،فنظر بعضنا الي بعض و ضحكنا من هيئته،فقال لنا الامام الرضا(ع)لترونه عن قريب كثير المال،كثير التبع (2)،قال فما مضي إلا شهر حتي ولي المدينة و حسنت حاله،و كان يمر بنا و معه الحشم (3)قال البراقي:توفي بالكوفة و دفن بالعباسية،و يقع قبره بالقرب من«أم البعرور»و يعرف عند المجاورين له بقبر الحسن (4)و قال المرحوم السيد جعفر آل بحر العلوم:إن قبره بشيراز ذكره شيخ الاسلام شهاب الدين في تاريخه المعروف«بشيرازنامه » و ملخص ما ذكره أن قتلغ كان واليا علي شيراز،و كانت له حديقة في مكان حيث هي مرقد السيد المذكور،و كان بواب تلك الحديقة رجلا من أهل الدين و المروءة و كان يري في ليالي الجمعة نورا يسطع من مرتفع في تلك الحديقة فأبدي حقيقة الحال الي الأمير قتلغ،و بعد مشاهدته لما كان يشاهده البواب و زيادة تجسسه و كشفه عن ذلك المكان ظهر له قبر و فيه جسد عظيم في كمال العظمة و الجلالة و الطراوة و الجمال باحدي يديه مصحف و بالأخري سيف مصلت،فبالعلامات و القرائن علموا أنه قبر الحسين بن موسي فبني له قبة و رواقا،و الظاهر أن قتلغ خان هذا غير الذي حارب أخاه السيد أحمد،6.

ص: 418


1- البحار:45/13.
2- التبع:الأتباع.
3- البحار:66/13.
4- تأريخ الكوفة:ص 56.

و يمكن أن تكون الحديقة باسمه و الوالي الذي أمر ببناء مشهده غيره فان «قتلغ»لقب جماعة كأبي بكر بن سعد الزنكي،و قال أيضا:و كتب بعضهم أن السيد علاء الدين حسين كان ذاهبا الي تلك الحديقة فعرفوه أنه من بني هاشم فقتلوه في تلك الحديقة و بعد مضي مدة و زوال آثار الحديقة بحيث لم يبق منها إلا ربوة مرتفعة عرفوا قبره بالعلامات المذكورة،و كان ذلك في دور الدولة الصفوية،و جاء رجل من المدينة يقال له ميرزا علي فسكن شيراز و كان مثريا،فبني عليه قبة عالية،و أوقف عليه أملاكا و بساتينا و لما توفي دفن بجنب البقعة،و تولية الأوقاف كانت بيد ولده ميرزا نظام الملك أحد وزراء تلك الدولة،و من بعده الي أحفاده،و السلطان خليل حاكم شيراز من قبل الشاه اسماعيل الصفوي رمم البقعة المذكورة و زاد علي عمارتها السابقة في سنة«810 ه» (1).

10-حمزة.

يكني أبا القاسم،أمه أمّ ولد،كان عالما فاضلا كاملا مهيبا جليلا رفيع المنزلة،عالي الرتبة،مقدرا عند الخاصة و العامة،سافر مع أخيه الامام علي الرضا(ع)الي خراسان،و كان واقفا في خدمته،ساعيا في مآربه طالبا لرضائه،ممتثلا لأمره فلما وصل الي«سوسعد»احدي قري «ترتسبر»خرج عليهم قوم من أتباع المأمون فقتلوه،و قبره في«بستان» و قد أعقب ولدين،أحدهما علي،و الآخر القاسم أبا محمد و إليه تنتمي السادة الصفوية (2)و صرحت بعض المصادر أن قبره في الري بالقرب من

ص: 419


1- تحفة العالم:31/2-33.
2- تحفة الأزهار.

قبر السيد الجليل شاه عبد العظيم (1)و قيل انه مدفون في«قم» (2).

11-زيد.

اشارة

أمه أم ولد،و يعرف بزيد النار،و كان زيديا في رأيه أي انه يذهب مذهب الزيدية في الخروج علي السلطة لا أنه يعتقد بامامة الخارج كما هو مذهبهم و كان مزاحا (3)و فيما يلي بعض شئونه:

1-مع أبي السرايا.

و أجمع المترجمون لزيد أنه ممن خرج مع أبي السرايا،و انه كان واليا من قبله علي البصرة،و لكن الروايات اختلفت في بيان حاله بعد فشل تلك الثورة.و هذه بعضها.

«الأولي»:إنه لما دخل البصرة و غلب عليها أحرق دور بني العباس و أضرم النار في نخيلهم و جميع أسبابهم فقيل له«زيد النار»و حاربه الحسن ابن سهل فظفر به،و أرسله الي المأمون فأدخل عليه بمرو مقيدا فأرسله المأمون الي أخيه الرضا و وهب له جرمه فخلف الامام الرضا أن لا يكلمه أبدا (4).

«الثانية»أنه لما كان من أمر أبي السرايا ما كان،استتر زيد فطلبه الحسن بن سهل فدل عليه فحبسه فلم يزل في الحبس ببغداد حتي ظهر ابراهيم

ص: 420


1- فلك النجاة:ص 337،زندگاني حضرة موسي بن جعفر، فارسي.
2- ناسخ التواريخ،فارسي.
3- العيون.
4- عمدة الطالب،بحر الأنساب.

المهدي المعروف بابن شكلة فاجتمع أهالي بغداد علي السجن فأخرجوه منه فمضي الي المدينة فأحرق الدور و قتل جماعة،و دعا لبيعة محمد بن جعفر بن محمد،فبعث إليه المأمون جيشا فأسره و حمله إليه،فقال له:يا زيد خرجت بالبصرة،و تركت أن تبدأ بدور أعدائنا من بني أمية و ثقيف و غني (1)و باهلة و آل زياد،و قصدت دور بني عمك،فقال له:اخطأت يا أمير المؤمنين من كل جهة،و إن عدت للخروج بدأت بأعدائنا،فضحك المأمون و بعثه الي أخيه الرضا(ع)و قال قد وهبت لك جرمه فأحسن أدبه،فلما مثل عند الامام عنفه و خلي سبيله،و حلف أن لا يكلمه أبدا ما عاش (2).

«الثالثة»:إنه لما قتل أبو السرايا تفرق الطالبيون فتواري بعضهم ببغداد،و بعضهم بالكوفة،و بعضهم بالمدينة،و كان ممن تواري زيد، فطلبه الحسن بن سهل،فدل عليه،فلما جيء به إليه أمر بحبسه ثم أخرجه من السجن و أمر بضرب عنقه فانبري إليه الحجاج بن خثيمة فقال له:

أيها الأمير،إن رأيت أن لا تعجل و تدعوني البك فان عندي نصيحة، فأجابه الي ذلك،فقال له:

أيها الأمير،أتاك بما تريد أن تفعله أمر من أمير المؤمنين؟ فقال:لا فقال:علام تقتل ابن عم أمير المؤمنين من غير إذنه و أمره و استطلاع رأيه فيه؟ثم حدثه بحديث أبي عبد اللّه بن الأفطس،و ان الرشيد حبسه عند جعفر بن يحيي فأقدم عليه جعفر فقتله من غير إذنه و بعث برأسه إليه في طبق مع هدايا النيروز،و ان الرشيد لما أمر مسرور الكبير بقتل جعفر ابن يحيي قال له:إذا سألك جعفر عن ذنبه الذي تقتله به،فقل له:5.

ص: 421


1- غني:حي من غطفان.
2- جامع الأنساب:ص 65.

إنما أقتلك بابن عمي ابن الافطس الذي قتلته من غير أمري،ثم قال الحجاج للحسن:

أ فتأمن أيها الامير أن تحدث حادثة بينك و بين أمير المؤمنين،و قد قتلت هذا الرجل فيحتج عليك بما احتج به الرشيد علي جعفر بن يحيي؟فقال جزاك اللّه خيرا ثم أمر برد زيد الي محبسه فلم يزل محبوسا الي أن ظهر أمر ابراهيم بن المهدي فهجم أهالي بغداد علي السجن فأخرجوه منه،و لكن الشرطة قبضت عليه و حمل الي المأمون،فبعث به الي أخيه الرضا فأطلقه (1)«الرابعة»:لما ثار زيد في البصرة أرسل المأمون عليه الحسن بن سهل فظفر به فأرسله الي المأمون مقيدا الي«مرو»ثم أن المأمون قال:

لأخيه الرضا،قد خرج علينا أخوك،و فعل ما فعل،و قد خرج قبله زيد ابن علي بن زين العابدين و الآن قد عفونا عنه اكراما لك،و وهبناه اياك و لو لا عظيم منزلتك لأمرت بصلبه،و ان الذي أتاه ليس بالشيء الحقير فقال له الامام الرضا(ع)«لا تقس زيدا الي زيد بن علي فانه كان من علماء آل محمد،فقد غضب لدين اللّه،و خرج مجاهدا لأعداء اللّه في سبيل اللّه،حتي قتل شهيدا»،ثم أن الامام أمر باطلاق زيد و حلف أن لا يكلمه» (2).

هذه بعض الروايات التي بينت حاله بعد فشل ثورة أبي السرايا و هي مختلفة في بيان حاله،و لكنها متفقة علي أن المأمون قد اطلق سراحه و عفا عنه و انه لم ينل عقوبة من السلطان و لم يتعرض لأي مكروه.

2-مع الامام الرضا:

و لم تكن العلاقة بينه،و بين الامام الرضا(ع)علي ما يرام فقد ورد

ص: 422


1- البحار:65/3،عيون اخبار الرضا.
2- تحفة الأزهار.

من الامام الرضا(ع)ما يدل علي انتقاصه و الحط من شأنه،فقد حدث الحسن بن موسي بن علي الوشاء البغدادي قال:كنت بخراسان عند علي ابن موسي الرضا(ع)،و كان أخوه زيدا في مجلسه و هو يتحدث مع جماعة و يفتخر عليهم و يقول:نحن و نحن و كان أبو الحسن مشغولا مع جماعة يحدثهم،فلما سمع مقالة زيد تأثر و تغير حاله و التفت إليه قائلا:

«يا زيد؟؟أغرك قول ناقلي الكوفة ان فاطمة احصنت فرجها فحرم اللّه ذريتها علي النار،فلا و اللّه إلا للحسن و الحسين و ولد بطنها خاصة، أما أن يكون موسي بن جعفر(ع)يطيع اللّه و يصوم نهاره،و يقوم ليله و تعصيه أنت،ثم تجيئان يوم القيامة سواء لأنت أعز علي اللّه عز و جل منه؟ إن علي بن الحسين كان يقول:لمحسننا كفلان من الاجر و لمسيئنا ضعفان من العذاب».

ثم التفت(ع)الي الحسن فقال له:كيف تقرءون هذه الآية؟ «قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح».

فقال الحسن:من الناس من يقرأ إنه عمل غير صالح،و منهم من يقرأ انه عمل غير صالح فمن قرأ انه عمل غير صالح فقد نفاه عن أبيه.

فقال(ع)كلا لقد كان ابنه،و لكن لما عصي اللّه عز و جل نفاه عن أبيه،كذا من كان منا و لم يطع اللّه عز و جل فليس منا،و أنت إذا اطعت اللّه عز و جل فأنت منا (1)و حدث الحسن بن جهم قال:كنت عند الرضا(ع)و عنده زيد بن موسي اخوه،و قد أقبل الامام عليه يؤنبه قائلا له:

«يا زيد اتق اللّه فانه بلغنا ما بلغنا بالتقوي،فمن لم يتق اللّه و لم يراقبه،فليس منا و لسنا منه،يا زيد إياك أن تهين من به تصول من شيعتنا6.

ص: 423


1- البحار:65/13،عيون اخبار الرضا:ص 346.

فيذهب نور وجهك،يا زيد،إن شيعتنا إنما أبغضهم الناس و عادوهم و استحلوا دماءهم و أموالهم لمحبتهم لنا،و اعتقادهم لولايتنا،فان أنت أسأت إليهم ظلمت نفسك،و بطلت حقك (1)و قد وردت أخبار اخري عنه(ع)دلت علي تذمره منه و عدم رضائه عنه.

3-وفاته:

و اختلف المترجمون له في زمن وفاته،فقيل إنه توفي في أيام المأمون و أنه هو الذي سقاه السم فمات منه (2)و قيل إنه عاش الي آخر خلافة المتوكل و مات بسر من رأي (3)و قيل انه توفي في ايام المستعين (4)و أما قبره فعند أهل القول الأول يقع في«صلهد»احدي قري اصفهان و قد بنيت عليه قبة و له مزار (5).

12-العباس

عده الشيخ في رجاله من اصحاب الامام الكاظم(ع)،و قال:إنه ثقة،و شجب بعضهم وثاقته و عدالته نظرا لمخاصمته للامام الرضا(ع) و منازعته له بغير حق،فقد روي الكليني في(أصول الكافي)في باب النص علي امامة الامام الرضا(ع)وصية أبيه الامام موسي(ع)له و سنذكر نصها في الفصول الآتية من هذا الكتاب و قد الزم الامام ابناءه فيها بعدم

ص: 424


1- عيون أخبار الرضا:ص 348-349.
2- العمدة.
3- عيون الأخبار ص 347.
4- جمهرة انساب العرب:ص 55.
5- تحفة الأزهار

فضها،و لما توفي(ع)تقدم بعض ابنائه بالشكاية علي الامام الرضا عند قاضي المدينة،فأمر بإحضار الامام الرضا(ع)مع اخوانه فلما حضروا انبري العباس فخاطب القاضي بقوله:

«اصلحك اللّه،و أمتع بك،إن في أسفل هذا الكتاب كنزا و جوهرا يريد ان يحتجبه و يأخذه دوننا و لم يدع أبونا شيئا إلا جعله له،و تركنا عالة،و لو لا اني اكف نفسي لأخبرتك بشيء علي رءوس الملأ».

فوثب إليه ابراهيم بن محمد و قد غاظه هذا الكلام القاسي فقال له:

«اذا و اللّه تخبر بما لا نقبله منك،و لا نصدقك عليه،ثم تكون عندنا ملوما مدحورا،نعرفك بالكذب صغيرا و كبيرا،و كان أبوك أعرف بك لو كان فيك خير،و قد كان أبوك عارفا بك في الظاهر و الباطن و ما كان ليأمنك علي تمرتين».

و وثب إليه اسحاق بن جعفر عمه فأخذ بتلابيبه و قال له:

«إنك لسفيه ضعيف أحمق هذا مع ما كان منك بالأمس».

و أجمع القوم علي لومه و تقريعه،فالتفت القاضي الي الامام الرضا(ع) قائلا له:قم يا أبا الحسن حسبي لا يلعنني أبوك (1)اليوم،لا و اللّه ما أحد أعرف بالولد من والده،و لا و اللّه ما كان ابوك عندنا بمستخف في عقله و لا ضعيف في رأيه،فالتفت إليه العباس قائلا له:

-أصلحك اللّه،فض الخاتم،و اقرأ ما تحته.

-حسبي،لا يلعنني أبوك.

-أنا أفضه.

-ذاك إليك.

فقام العباس بلا حياء،فأخذ الوصية ففتحها فاذا فيها اخراجهم منا.

ص: 425


1- نظرا الي ان وصية الامام،قد جاء فيها اللعن علي من فضها.

الوصية و التنصيص علي انفراد الامام الرضا(ع)بوصيته فافتضح العباس و اصابه الذل و الهوان فالتفت الامام الرضا(ع)فقال له و لأخوته:

«يا أخي اني أعلم انما حملكم علي هذه،الغرائم و الديون التي عليكم و التفت(ع)الي مولاه سعيد فأمره بأن يسدد ديون أخوته و ينفق عليهم، و قال لهم:و اللّه لا أدع مواساتكم و بركم ما مشيت علي الارض فقولوا ما شئتم.

فقال له العباس:ما تعطينا إلا من فضول أموالنا،و مالنا عندك اكثر» فانبري إليه الامام(ع)فأجابه بمنطق الحلم و الرأفة و العفو قائلا له:

قولوا ما شئتم،فالعرض عرضكم فان تحسنوا فذاك لكم عند اللّه،و إن تسيئوا فان اللّه غفور رحيم و اللّه إنكم لتعرفون أنه مالي في يومي هذا ولد و لا وارث غيركم،و لئن حبست شيئا مما تظنون أو ادخرته،فانما هو لكم و مرجعه إليكم،و اللّه ما ملكت منذ مضي أبوكم شيئا إلا و قد سيبته حيث رأيتم».

فوثب إليه العباس قائلا:و اللّه ما هو كذلك،و ما جعل اللّه لك من رأي علينا،و لكن حسدا بينا لنا و تكلم بكلام تمثلت فيه الجفوة،فقال له الامام(ع):

«لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم،أما أنا يا إخوتي فحريص علي مسرتكم،اللهم انك تعلم أني محب صلاحهم،بار بهم،و اصل إليهم رفيق عليهم،معني بأمورهم ليلا و نهارا فاجزني به خيرا،و إن كنت علي غير ذلك فأنت علام الغيوب فاجزني به ما أنا أهله،ان كان شرا فشرا و ان كان خيرا فخيرا،اللهم اصلحهم،و اصلح لهم و اخسأ عنا و عنهم الشيطان،و اعنهم علي طاعتك،و وفقهم لرشدك،أما أنا يا اخوتي، فحريص علي مسرتكم،جاهد علي صلاحكم،و اللّه علي ما نقول وكيل».

ص: 426

فوثب إليه العباس،فرد عليه بصلافة و وقاحة قائلا:

ما اعرفني بلسانك،و ليس لمسحاتك عندي طين» (1).

هكذا ذكر الرواة عنه،و اللّه العالم بحقيقة الحال و أعقب العباس القاسم و أمه أم ولد تدعي ندام،و قد اختفي من السلطة في«سوري»و أخذ يزرع البقل و يتقوت من ثمنه و لم يكن أحد هناك يعرفه،و قد احتف به الناس نظرا لزهده و عبادته و كلما حاولوا أن يخبرهم باسمه و نسبه فيمتنع اشد الامتناع،و قد تزوج بامرأة،فولدت له بنتا و جاء إليه شخص يدعي عيسي و هو يريد الحج فجاء ليودعه،فسأله عن حاجته،فقال له:إن لي إليك حاجة! -و ما هي؟ -تحمل ابنتي هذه الي المدينة،فاذا وصلت إليها فسل عن الطريق الفلاني-و عين له الطريق-فاذا دخلته فاترك هذه الصبية هناك،و اذهب لشأنك.

و سافر عيسي الي الحج فلما انتهي الي يثرب ترك الطفلة في المحل الذي عينه له فجاءت الي دار فطرقت بابها ففتحت لها الباب فدخلت،و بأسرع ما يكون علا الصراخ و العويل من داخل الدار فسأل عيسي عن سبب ذلك فقيل له قد وصل الخبر بوفاة القاسم بن العباس و ان هذه الطفلة ابنته فتعجب عيسي و بعد رجوعه الي بلده اخبره الناس بوفاة القاسم فأعلمهم عيسي بأنه حفيد الامام موسي و حدثهم بشأن طفلته فانبري طائفة من المؤمنين،فبنوا علي جدثه الطاهر قبة و هو يزار حتي الآن (2).ي»

ص: 427


1- تنقيح المقال:130/2.
2- ذكر ذلك البراقي علي هامش تحفة الازهار الذي استنسخه بيده، و جاء في سبك الذهب لابن معية ان القاسم بن العباس مدفون«بشوشي»

13-عبد اللّه.

أمه أم ولد و يعرف «بالعوكلاني»و يقال لولده العوكلانية،و حدث عنه علي بن ابراهيم قال:لما توفي الامام الرضا(ع)حججنا فدخلنا علي أبي جعفر،و قد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا الي أبي جعفر فدخل عمه عبد اللّه بن موسي و كان شيخا كبيرا نبيلا عليه ثياب خشنة و بين عينيه أثر السجود فجلس و خرج أبو جعفر،و عليه قميص قصب (1)و رداء قصب و في رجليه نعل أبيض،فقام إليه عبد اللّه فاستقبله و قبل ما بين عينيه و قامت إليه الشيعة تكريما و اجلالا له،فجلس أبو جعفر علي كرسي و نظر الناس بعضهم الي بعض نظرا لحداثة سن الامام فقد كان عمره آنذاك تسع سنين،و انبري رجل من القوم فتقدم الي عبد اللّه فقال له:

-ما تقول أصلحك اللّه:في رجل أتي بهيمة؟ فأجابه عبد اللّه تقطع يمينه و يضرب الحد،و لما سمع الامام الجواد بهذه الفتوي التي لا تتفق مع الشريعة الاسلامية غضب و قال له:

«يا عم،اتق اللّه انه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي اللّه عز و جل فيقول لك:لم أفتيت الناس بما لا تعلم؟».

فقال له عبد اللّه:أ ليس قال هذا أبوك؟ فقال أبو جعفر انما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها،فقال أبي:تقطع يمينه للنبش،و يضرب حد الزنا فان حرمة الميتة كالحية فقال عبد اللّه:صدقت يا سيدي،استغفر اللّه و تعجب الناس،و أقبلوا علي الامام يسألونه و هو يجيبهم (2)و هذه الرواية و ان دلت علي تسرع عبد اللّه و خطأه

ص: 428


1- القصب:الثياب الرقيقة الناعمة من الكتان.
2- البحار:129/13.

في المسألة الفقهية و لكن اظهاره الندم و تصاغره أمام الامام يرفع عنه ذلك القدح و يرفعه الي مدارج الأولياء و المتقين،هذا و لم تعين لنا المصادر التي بأيدينا الزمان الذي توفي فيه و المحل الذي دفن فيه.

14-عبيد اللّه.

أمه أم ولد،و قد أعقب ثلاث بنات،و هن اسماء،و زينب،و فاطمة و ثمانية رجال و هم محمد اليمامي،و جعفر،و القاسم،و علي،و موسي،و الحسن و الحسين،و أحمد (1)و إليه تنتمي كثير من البيوتات العلوية الرفيعة الشأن الجليلة القدر،و قد توفي بالكوفة و دفن بها (2).

15-القاسم.

اشارة

فرع زاك من فروع الامامة،و نفحة قدسية من نفحات النبوة...

وحيد عصره في تقواه و صلاحه،و محنته و بلائه،و نعرض فيما يلي الي بعض شئونه.

1-حب الامام له:

كان الامام موسي(ع)يكن في نفسه اعظم الحب و الود لولده القاسم لما يراه منه من الهدي و الصلاح،و ما يتمتع به من الفضل و القابليات الفذة فكان(ع)يثني عليه و يشيد به و يقدمه علي سائر أبنائه ما عدا ولده الامام

ص: 429


1- المجدي.
2- تاريخ الكوفة:ص 56.

الرضا(ع)فقد روي يزيد بن سليط قال:طلبت من الامام موسي(ع) أن يعين لي الامام من بعده فقال(ع):

«أخبرك يا أبا عمارة إني خرجت فأوصيت الي ابني علي،و لو كان الأمر لي لجعلته في القامم ابني لحبي و رأفتي عليه،و لكن ذلك الي اللّه تعالي...»(1).

و لم يمنح الامام موسي عليه السلام هذا الحب للقاسم إلا لأنه رآه من خيرة أبنائه ورعا و تقوي و تحرجا في الدين...و من مظاهر تكريمه له انه كان ينتدبه للقيام ببعض مهامه،فقد روي سليمان الجعفري،قال رأيت أبا الحسن يقول لابنه القاسم:قم يا بني فاقرأ عتد رأس أخيك سورة«الصافات» حتي تتمها،فأخذ القاسم في قراءتها فلما،بلغ قوله تعالي:« أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا »لفظ الفتي نفسه الأخير،و أخذ القوم في تجهيزه،فانبري يعقوب بن جعفر إلي الامام فقال له:كنا نعهد الشخص إذا نزل به الموت يقرأ عنده سورة«يس»فصرت تأمرنا بقراءة سورة«الصافات»فقال عليه السلام:«لم تقرأ عند مكروب من موت قط إلا عجل اللّه راحته»(2).

و يدلل هذا الحديث علي مزيد ثقة الامام(ع)به و تقديمه علي غيره، و من الطبيعي ان ذلك ناشئ عن فضائله و مآثره.

2-هربه من السلطة

:

و لما أمعن هارون في تتبع العلويين و قتلهم و ارهاقهم نزح القاسم من يثرب مختفيا كاتما لاسمه حتي لا يعرف،فانتهي الي«سوري»فأقام فيها

ص: 430


1- اصول الكافي.
2- اصول الكافي.

غريبا مشردا عن أهله و وطنه،خائفا علي نفسه،و قد كتم أمره لئلا يعرفه أحد،و لم تعطنا المصادر الموثوق بها شيئا عن سيرته،و ما جري عليه في غربته.

3-وفاته:

و أقام القاسم في«سوري»طيلة حياته القصيرة الأمد،و هو يعاني ألم الغربة و الخوف من السلطة،و قد أحاطت به الهواجس،و راودته الآلام القاسية التي جرت علي أهله و اسرته،و كان اعظم ما يحز في نفسه ما حل بأبيه موسي(ع)من الرزء القاصم،و اعتقاله في ظلمات السجون، و تشريد اخوانه،و غير ذلك من النكبات و الأرزاء،و قد نخر الحزن قلبه و أضناه السقام،حتي دنا إليه الموت و هو في فجر الصبا و ريعة العمر...

و لما شعر بدنو الأجل المحتوم و القدوم علي اللّه،عرف نفسه،فقد فات ما كان يحذر منه،ثم لفظ انفاسه الأخيرة،فوا لهفتاه علي ما عاناه ابناء النبي صلي اللّه عليه و آله من المحن و الخطوب التي لم يعهد لها نظير في فضاعتها و مرارتها.

و قام المسلمون في تلك المنطقة،و هم يذرفون الدموع علي تقصيرهم تجاه حفيد نبيهم الذي لم يوفوه حقه لجهلهم به،و واروا جثمانه الطاهر في مقره الأخير،و قد واروا معه العلم و التقوي و الصلاح..أما سنة وفاته فلم نعثر عليها،و المظنون قويا أنه توفي في عهد هارون،و ليس من المقطوع به أنه توفي في عهد المأمون،و ذلك لعدم اختفاء العلويين في عهده.

ص: 431

4-مرقده:

أما مرقده الشريف فيقع في«سوري»و تعرف البقعة الطيبة في هذا الوقت بناحية القاسم،فقد نسبت الي اسمه الشريف و هي احدي نواحي قضاء الهاشمية التابع الي محافظة بابل«الحلة سابقا»،و ذكر الحموي:أن المرقد الشريف يقع في«شوشة»و قال في تعيينها:إنها تقع بأرض بابل أسفل من حلة بني مزيد،و بها يقع قبر القاسم بن موسي بن جعفر،و بالقرب منها قبر ذي الكفل (1)و تبعه علي ذلك صفي الدين (2)و الزبيدي (3)و هو اشتباه محض،فان المدفون في هذه البقعة هو القاسم بن العباس بن الامام موسي(ع)كما نص علي ذلك جمال الدين أحمد بن عنبة النسابة (4)و الحجة السيد القزويني (5)و مما لا شبهة فيه أن هؤلاء السادة من النسابين اعرف بقبور آبائهم،و ما ذكره المجلسي (6)من ان قبر القاسم«قريب من الغري»،فمراده القرب المجازي لا الحقيقي،كما أفاد ذلك الشيخ المامقاني (7).

و قد جدد القبة الشريفة،و نورها بالمصابيح الكهربائية فقيد العلم

ص: 432


1- معجم البلدان.
2- مراصد الاطلاع.
3- تاج العروس:318/4.
4- عمدة الطالب:ص 219.
5- فلك النجاة:ص 336.
6- بحار الانوار.
7- تنقيح المقال.

و الفضيلة العلامة الكبير المرحوم الشيخ قاسم محي الدين.

و مما تجدر الاشارة إليه أنه لا عقب للقاسم،كما نص علي ذلك غير واحد من علماء النسب (1).

5-استحباب زيارته

:

و نص السيد الجليل علي بن طاوس علي استحباب زيارة المرقد الطاهر و قرنه بزيارة قبر العباس بن أمير المؤمنين(ع)و بزيارة علي الأكبر نجل الامام الحسين(ع)و ذكر له زيارة خاصة (2).

و نسب الي الامام الرضا(ع)أنه قال:في فضل زيارة القاسم«من لم يقدر علي زيارتي فليزر أخي القاسم»و نظم هذا الحديث السيد علي بن يحيي بن حديد الحسيني بقوله:

أيها السيد الذي جاء فيه قول صدق ثقاتنا ترويه

بصحيح الاسناد قد جاء حقا عن أخيه لأمه و أبيه

انني قد ضمنت جنات عدن للذي زارني بلا تمويه

و اذا لم يطق زيارة قبري حيث لم يستطع وصولا إليه

فليزر إن أطاق قبر أخي القاسم و ليحسن الثناء عليه (3)

ص: 433


1- بحر الأنساب:ص 53،مناهل الضرب و غيرها.
2- مصباح الزائرين،و مفتاح الجنات 151/2 للسيد محسن العاملي
3- مشاهد العترة الطاهرة لصديقنا المغفور له السيد عبد الرزاق كمونة ص 6،نقلا عن اعيان الشيعة 206/42.

و بهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن حياة هذا السيد العظيم فان المصادر التي بأيدينا قد ضنت علينا باعطاء صورة مفصلة عن حياته الكريمة.

16-محمد.

يكني أبا ابراهيم،كان كريما جليلا،موقرا يعرف بالعابد لكثرة وضوئه و صلاته،فكان في كل ليلة يتوضأ و يصلي،و يرقد قليلا ثم يقوم لعبادة اللّه تعالي حتي ينبلج نور الصبح،قال بعض شيعة أبيه:ما رأيته قط إلا ذكرت قول اللّه تعالي:« كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ » (1)و قال الرواة إنه دخل شيراز و اختفي بها و أخذ يستنسخ القرآن الكريم،و من أجرته اعتق الف مملوك (2).

اعقب سبعة أولاد منهم أربع بنات و هن:السيد حكيمة،و كلثم، و بريهة،و فاطمة،و الرجال:جعفر و محمد و ابراهيم (3)الذي يعرف بالمجاب و سبب تلقيبه بذلك-فيما يقول المؤرخون-انه سلم علي قبر جده الامام الحسين(ع)فسمع صوت من القبر الشريف:و عليك السلام يا ولدي (4)و قد ظهر علي العباسيين و استولي علي الجزيرة،و قد دفن بجوار جده الامام الحسين،و فيه يقول بعض ولده مفتخرا به و بجده الامام موسي(ع):

من اين للناس مثل جدي موسي و ابنه المجاب

اذ خاطب السبط و هو رمس اجابه اكرم الجواب (5)

ص: 434


1- الفصول المهمة:ص 256.
2- تحفة العالم:31/2.
3- تنقيح المقال:192/3.
4- غاية الاختصار،اعيان الشيعة:463/5،تذكرة الانساب.
5- اعيان الشيعة:463/5.

و عقب محمد من ابراهيم (1)توفي السيد الزكي محمد بشيراز،و دفن فيها و كان قبره مخفيا الي زمان بك بن سعد بن زنكي فبني له قبة في محلة«باغ قتلغ»و قد جدد بناؤه عدة مرات في زمان السلطان نادر خان،و في سنة «1296 ه»رممه النواب أويس بن النواب الاعظم الشاه زاده فرهاد القاجاري (2)و في الوقت الحاضر له مزار يتبرك به و تسكنه السادة الأخيار و الصلحاء الأبرار،و تعقد له النذور (3).

17-هارون.

أمه أم ولد اعقب ثمانية لم يعقب أحد منهم غير ولده أحمد (4)و قيل أنه لم يعقب (5)قيل ان الحكومة العباسية ضغطت عليه،و وقعت بينه و بين الشرطة مصادمة ادت الي اصابته ببعض الجراحات،ففر هاربا الي شهرستان،فلجأ الي قرية هناك فيها مزارع،و قد اصابه الضعف فقام صاحب المزرعة بمعالجته حتي بريء،و أقام هناك مدة من الزمن حتي شاع أمره،فبينما هو يتناول الطعام إذ هجمت عليه شرطة المأمون فقتلوه، و دفن هناك (6)و المشهور انه توفي في احدي قري طالقان و دفن هناك و له مرقد يزار،و قد اسس سنة«853 ه»و كتب علي ضريحه«هذا قبر امام زاده هارون بن سلطان الاتقياء و امام الاولياء موسي الكاظم (7).

ص: 435


1- تنقيح المقال:192/3.
2- تحفة العالم:31/2.
3- جامع الانساب:ص 108.
4- المجدي.
5- جامع الانساب:ص 55.
6- نفس المصدر.
7- زندگاني حضرة موسي بن جعفر:ص 260.

هذا مجموع ما عثرنا عليه من تراجم بعض أولاد الامام(ع)و لم تذكر الكتب التي بأيدينا تراجم الباقين منهم،و نصت بعض المصادر علي ذكر اسماء أخر من أولاد الامام غير الذين ذكرناهم،و قد اهملت اسماءهم و تراجمهم كثير كتب الانساب،و فيما يلي اسماءهم مع عرض موجز لبعض أحوالهم:

18-عون.

ذكره الشبلنجي و قال:إليه يرجع نسب سيدنا و مولانا الشيخ الكبير المقرب جامع الشرفين شرف النسب و شرف المعرفة باللّه،و الادب ذي الكرامات الظاهرة أبي الحسن،و أبي الاشبال علي الاهدل بن عمر،بن محمد ابن سليمان بن عبيد بن عيسي بن علوي بن محمد بن حمحام بن عون بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)و قد نظم ذلك بعض الفضلاء:

علي بن فاروق أبو محمد ثم سليمان الرضا المسدد

عبيد عيسي علوي محمد حمحام عون كاظم المؤيد

جعفر الصادق قل محمد زين حسين و علي السيد (1)

19-ادريس.

و إليه ينتمي السيد خواجة معين الدين السنجري (2).

ص: 436


1- نور الابصار ص:138 نقلا عن بغية الطالب للسيد محمد بن طاهر اليماني،و جاء ذلك أيضا في إيضاح المكنون في الذيل علي كشف الظنون 188/1.
2- كنز الانساب:74.

20-شمس.

ذكره النسابة احمد بن محمد الجيلاني النجفي (1)و ذكر السيد الروضاتي شجرة لعقبه (2).

21-شرف الدين.

و إليه تنتمي السادة الخلخالية،و قد أنبتت شجرة لهم (3).

22-صالح.

أعقب السادة الشهيرين بالشجعان،و لهم شجرة،و قد توفي في تجريش،و قبره مشيد و عليه بناية ضخمة (4).

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن تراجم السادة من أولاد الامام(ع) و بقي علينا أن نشير الي تراجم بعض السيدات من بناته:

بعض السيدات من بناته:

1-آمنة.

توفيت في مصر،و قبرها هناك يزار،و حكي سادن روضتها عن كرامة لها و هي ان شخصا جاء له بمقدار من الزيت و طلب منه أن يوقده للضياء في ليلة واحدة فجعله السادن في القناديل فلم يوقد منه شيء فتعجب

ص: 437


1- سراج الأنساب:ص 44.
2- جامع الانساب:ص 9.
3- نفس المصدر:ص 44.
4- كنز الأنساب.

من ذلك و رأي في منامه السيدة آمنة تقول له:رد عليه زيته و اسأله من أين اكتسبه؟فانا لا نقبل إلا الطيب فلما أصبح الصبح جاء صاحب الزيت فقال له السادن:خذ زيتك.

-لمه؟ -إنه لم يوقد منه شيء،و رأيتها في المنام فقالت لا نقبل إلا الطيب -صدقت السيدة اني رجل مكاس (1).

ثم أخذ الزيت و انصرف (2).

2-حكيمة.

أمرها اخوها الامام الرضا(ع)بأن تحضر عند الخيزران أم الامام الجواد عند ولادتها به،و قد روت كيفية ولادته و ما جري له من المعجز آنذاك (3).

3-فاطمة.

و هي الشهيرة بالسيدة معصومة،و قد روت هي و اختاها زينب و أمّ كلثوم حديثا في فضل جدهن أمير المؤمنين(ع)و في فضل شيعته (4)و كانت تحب أخاها الرضا حبا شديدا،و لما حمله المأمون الي مرو ليعهد له بولاية

ص: 438


1- المكاس:هو ما يأخذه اعوان الدولة عن أشياء معينة عند بيعها و هي التي تؤخذ بغير وجه مشروع.
2- نور الابصار:ص 180.
3- المعالم لابن شهر اشوب.
4- سفينة البحار:729/1.

العهد خرجت فاطمة في اثره و ذلك في سنة«201 ه»فلما وصلت الي «ساوة»مرضت فسألت عن المسافة التي بينها و بين قم فقالوا لها عشر فراسخ فأمرت بحملها الي قم فحملت إليها و نزلت في بيت موسي بن خزرج الاشعري و قيل ان أهالي قم استقبلوها فلما وصلت أخذ موسي بن خزرج بزمام ناقتها و اقدمها الي داره و كانت عنده سبعة عشر يوما ثم توفيت،فأمر بتغسيلها و تكفينها و صلي عليها و دفنها في أرض كانت له،و بني علي مرقدها سقيفة من البواري الي ان بنت عليها زينب بنت محمد بن علي الجواد عليها قبة (1)و حدث الحسن بن محمد القمي عن فضل زيارتها قال:كنت عند الامام الصادق(ع)فقال:«ان للّه حرما و هو مكة،و لرسوله حرما و هو المدينة و لأمير المؤمنين حرما و هو الكوفة و لنا حرما و هو قم،و ستدفن فيه امرأة من ولدي تسمي فاطمة من زارها وجبت له الجنة،قال(ع)ذلك قبل ولادة الامام موسي (2)و في بعض كتب التاريخ ان القبة التي علي ضريحها المقدس قد بنيت سنة«529 ه»بأمر المرحومة السيدة شاه بيكم بنت عماد بيك و أما تذهيب القبة مع بعض الجواهر الموضوعة علي القبر فهي من آثار السلطان فتح علي شاه القاجاري (3).

4-فاطمة الصغري.

قبرها في«بادكوبه»يقع في وسط مسجد بناؤه قديم (4).

ص: 439


1- البحار:312/2.
2- تحفة العالم:ص 36،البحار.
3- تحفة العالم:ص 37.
4- نفس المصدر.

هذا مجموع ما عثرنا عليه من تراجم السادة و السيدات من ابنائه.

ان في سيرة أبناء الامام ملتقي أصيل لكل فضيلة و مأثرة،فقد أترعت حياة بعضهم بالثورة و النقمة علي الظالمين،فاندفعوا الي ساحات الجهاد و النضال لانقاذ الأمة مما هي فيه من واقع مرير،و من استبداد فظيع بشئونها،و اقتصادها،و لكن لم تحالفهم الضروف فباءت بالفشل إلا أن المأمون لم يتخذ معهم موقفا حاسما،و انما عفا عنهم إرضاء للعامة التي تعطف كثيرا علي ذرية نبيها،و تكن لها أعظم الود و الولاء.و بذلك ينتهي بنا المطاف عن هذا الفصل.

ص: 440

اسباب سجنه

اشارة

ص: 441

ص: 442

و لا بد لنا من الحديث عن الاسباب التي دعت الرشيد لسجن الامام موسي عليه السلام،و اعتقاله في غياهب السجون،و ظلمات الطوامير بعيدا عن أهله و وطنه،و محروما من الالتقاء بشيعته،و لعل ذلك-فيما نحسب- من اقسي المحن و الخطوب التي عاناها في حياته.

لقد اطلنا الحديث عن ملوك عصره،و دراسة شئونهم،و ما أثر عنهم في الميادين السياسية و الاجتماعية،و ما قاموا به من الاضطهاد البالغ لعموم المسلمين و للشيعة بصورة خاصة،كما أسهبنا بعض الاسهاب في بيان ما اتسم به عصر الامام من المشاكل الجسام و الأحداث،و عرضنا بصورة مفصلة تراجم اصحابه و رواة حديثه و علومه،فان اطالة البحث في ذلك قد يعد خروجا عن الموضوع،و لكنا لم نر بدا من عرض ذلك فان الاحاطة به أمر لا بد منه لمن يريد دراسة شخصية تعد في القمة من المجتمع الاسلامي،و من الطبيعي ان الوقوف علي ذلك يكشف لنا جانبا كبيرا من حياة الامام(ع).

و نعتقد بأن القراء يهمهم الاطلاع-قبل كل شيء-علي الأسباب التي سجن من أجلها الامام،و التعرف علي دور محنته الكبري أيام اضطهاده في سجن الطاغية هارون،و سنذكر ذلك كله مشفوعا بالتفصيل،و فيما يلي بعض علل اعتقاله.

1-سمو شخصية الامام

:

الامام موسي(ع)من ألمع الشخصيات الاسلامية في ذلك العصر فهو من أئمة المسلمين،و أحد أوصياء الرسول(ص)علي أمته-كما دان بامامته جمهور كبير من المسلمين،و قد أجمع المسلمون علي اختلاف مذاهبهم

ص: 443

علي اكبار الامام و تقديره،و قد ذكرنا في«الحلقة الاولي»من هذا الكتاب سيلا من أقوال كبار المؤلفين و العلماء علي تبجيل الامام،و الثناء عليه و قد تحدث الناس في عصره عن علومه و تقواه و ورعه و مكارمه، و كان هارون نفسه ممن يجله و يعتقد بأن الخلافة الاسلامية هو أولي بها منه كما حدث بذلك المأمون،فقد قال لندمائه:

أ تدرون من علمني التشيع؟؟.

فانبروا جميعا قائلين:-لا و اللّه ما نعلم-.

علمني ذلك الرشيد.

فقالوا كيف ذلك؟و الرشيد كان يقتل أهل هذا البيت!! قال:كان يقتلهم علي الملك لأن الملك عقيم،ثم أخذ يحدثهم عن ذلك قائلا:لقد حججت معه سنة فلما انتهي الي المدينة قال:لا يدخل عليّ رجل من أهلها أو من المكيين سواء كانوا من أبناء المهاجرين و الانصار أو من بني هاشم حتي يعرفني بنسبه و أسرته،فأقبلت إليه الوفود تتري و هي تعرّف الحاجب بأنسابها،فيأذن لها،و كان يمنحها العطاء حسب مكانتها و منزلتها،و في ذات يوم اقبل الفضل بن الربيع حاجبه و هو يقول له:

رجل علي الباب،زعم أنه موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).

فلما سمع ذلك هارون أمر جلساءه بالوقار و الهدوء،ثم قال لرئيس تشريفاته:

ائذن له،و لا ينزل إلا علي بساطي.

و أقبل الامام(ع)و قد وصفه المأمون فقال:إنه شيخ قد انهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه،فلما رآه هارون قام إليه و أراد الامام أن ينزل عن دابته،فصاح الرشيد لا و اللّه إلا علي بساطي فمنعه

ص: 444

الحجاب من الترجل،و نظرنا إليه بالاجلال و الاعظام،و سار راكبا الي البساط،و الحجاب و كبار القوم محدقون به،و استقبله هارون،فقبل وجهه و عينيه،و أخذ بيده حتي صيره في صدر مجلسه و أقبل يسأله عن أحواله و يحدثه،ثم قال له:

يا أبا الحسن،ما عليك من العيال؟ قال الامام:يزيدون علي الخمسمائة.

قال هارون:أولاد كلهم؟ قال الامام:لا،اكثرهم موالي و حشمي،فأما الولد فلي نيف و ثلاثون ثم بين له عدد الذكور و الاناث.

فقال هارون:لم لا تزوج النسوة من بني عمومتهن؟ قال الامام:اليد تقصر عن ذلك.

قال هارون:فما حال الضيعة؟ قال الامام:تعطي في وقت و تمنع في آخر.

قال هارون:فهل عليك دين؟ قال الامام:نعم.

قال هارون:-كم-؟ قال الامام نحو من عشرة آلاف دينار.

قال هارون:يا بن العم،أنا أعطيك من المال ما تزوج به أولادك و تعمر به الضياع.

قال الامام:وصلتك رحم يا بن العم،و شكر اللّه لك هذه النية الجميلة،و الرحم ماسة و اشجة،و النسب واحد،و العباس عم النبي(ص) و صنو أبيه،و عم علي بن أبي طالب(ع)و صنو أبيه،و ما أبعدك اللّه من أن تفعل ذلك،و قد بسط يدك،و أكرم عنصرك،و أعلي محتدك.

ص: 445

فقال هارون:أفعل ذلك يا أبا الحسن،و كرامة.

فقال له الامام:إن اللّه عز و جل قد فرض علي ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الامة،و يقضوا علي الغارمين،و يؤدوا عن المثقل و يكسوا العاري، و أنت أولي من يفعل ذلك.

قال هارون:أفعل ذلك يا أبا الحسن.

ثم انصرف الامام(ع)فقام هارون تكريما له فقبل ما بين عينيه و وجهه ثم التفت الي أولاده فقال لهم:قوموا بين يدي عمكم و سيدكم،و خذوا بركابه و سووا عليه ثيابه و شيعوه الي منزله،فانطلقوا مع الامام بخدمته و أسر(ع)الي المأمون فبشره بالخلافة و أوصاه بالاحسان الي ولده،و لما فرغوا من القيام بخدمة الامام و إيصاله الي داره،قال المأمون:كنت أجرأ ولد أبي عليه،فلما خلا المجلس قلت له:

«يا أمير المؤمنين،من هذا الرجل؟الذي عظمته و قمت من مجلسك إليه فاستقبلته و أقعدته في صدر المجلس،و جلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له».

قال هارون:هذا امام الناس و حجة اللّه علي خلقه و خليفته علي عباده قال المأمون:يا أمير المؤمنين او ليست هذه الصفات كلها لك و فيك؟ قال هارون:أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة و القهر و موسي بن جعفر إمام حق،و اللّه يا بني:إنه لأحق بمقام رسول اللّه(ص)مني و من الخلق جميعا و و اللّه لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فان الملك عقيم.

و بقي هارون في يثرب مدة من الايام،فلما أزمع علي الرحيل منها أمر للامام بصلة ضئيلة قدرها مائتا دينار،و أوصي الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الامام،فانبري إليه المأمون و هو مستغرب من قلة صلته مع

ص: 446

كثرة تعظيمه و تقديره له قائلا:

«يا أمير المؤمنين:تعطي أبناء المهاجرين و الانصار،و سائر قريش و بني هاشم،و من لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار،و تعطي موسي بن جعفر و قد عظمته و أجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس فثار هارون و صاح في وجهه قائلا:

«اسكت،لا أم لك،فاني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة الف سيف من شيعته و مواليه،و فقر هذا و أهل بيته أسلم لي و لكم من بسط أيديهم (1).

و دلت هذه الرواية بوضوح علي اعتقاد هارون بامامة الامام موسي(ع) و انه خليفة اللّه في ارضه و حجته علي عباده،و ان الخلافة الاسلامية من حقوقه الخاصة،و انه ليس هناك أحد اولي بها منه،و لكن الذي دعاه و دعا غيره الي سلبها منه و من آبائه هو حب الدنيا فالملك عقيم،كما كشف هارون بحديثه عن السبب في حرمانه للامام من عطائه حسب منزلته،و هو خوفه من انتفاضة الامام و خروجه عليه إن تحسنت حالته الاقتصادية،و هذا هو الحرب الاقتصادي الذي تستعمله بعض الدول مع خصومها لأجل انهاكها و اضعافها لقد كان الرشيد يعلم بمكانة الامام،و يعتقد أنه خليفة اللّه علي عباده و انه وارث علوم الأنبياء،و كان يسأله عما يجري بعده من الأحداث فكان عليه السلام يخبره بذلك،و قد سأله عن الأمين و المأمون فأخبره بما يقع بينهما فحز ذلك في نفسه،و تألم أشد الألم و أقساه،فقد روي الاصمعي قال:دخلت علي الرشيد،و كنت قد غبت عنه بالبصرة حولا فسلمت عليه بالخلافة،فأومأ لي بالجلوس قريبا منه فجلست قريبا،ثم نهضت،فأومأ لي أن أجلس فجلست حتي خف الناس ثم قال لي:72

ص: 447


1- البحار:270/11-272

«يا أصمعي أ لا تحب أن تري محمدا و عبد اللّه ابني؟».

قلت:بلي يا أمير المؤمنين،إني لأحب ذلك،و ما أردت القصد إلا إليهما لأسلم عليهما...».

و أمر الرشيد باحضارهما،فأقبلا حتي وقفا علي ابيهما و سلما عليه بالخلافة،فأومأ لهما بالجلوس،فجلس محمد عن يمينه،و عبد اللّه علي يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب إلا أجابا فيه،و أصابا..فقال الرشيد:

-كيف تري أدبهما؟ -يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما،و جودة فهمهما و ذهنهما، أطال اللّه بقاءهما،و رزق اللّه الأمة من رأفتهما و معطفتهما.

فأخذهما الرشيد و ضمهما الي صدره،و سبقته عبرته فبكي حتي انحدرت دموعه علي لحيته،ثم اذن لهما في القيام فنهضا،و قال:

«يا أصمعي كيف بهما إذا ظهر تعاديهما،و بدا تباغضهما،و وقع بأسهما بينهما،حتي تسفك الدماء،و يود كثير من الأحياء انهما كانا موتي...».

فبهر الأصمعي من ذلك و قال له:

يا أمير المؤمنين هذا شيء قضي به المنجمون عند مولدهما أو شيء آثرته العلماء في أمرهما!!» فقال الرشيد و هو واثق بما يقول:

«لا بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما...» قال المأمون:كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسي ابن جعفر (1).1.

ص: 448


1- حياة الحيوان للدميري:77/1.

إن علم الرشيد بمنزلة الامام،و بما تذهب إليه طائفة من المسلمين من القول بامامته هو الذي أثار احقاده و اضغانه عليه،و دعاه الي زجه في ظلمات سجونه.

2-حقد هارون

:

كان الحقد من مقومات ذات الرشيد،و من أبرز صفاته النفسية، فكان يحمل حقدا لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في عصره،فلم يرق له بأي حال أن يسمع الناس أو يتحدثوا عن أي شخص بتمتع بمكانة عليا في المجتمع،و السبب في ذلك لئلا يزهد الناس فيه،و قد حاول أن يحتكر الذكر الحسن لنفسه و لذاته.

لقد حسد الرشيد البرامكة لما ذاع اسمهم،و تحدثت الناس عن مكارمهم فقد أخذ الحقد ينخر في قلبه حتي أنزل بهم العقاب الأليم فمحا وجودهم و أزال ظلهم من الأرض،و كان من الطبيعي أن يحقد علي الامام موسي(ع) لأنه ألمع شخصية في عصره،فقد تناقل الناس فضائله،و تحدثت جميع الأوساط عن علمه و مواهبه،و ذهب جمهور غفير من المسلمين الي امامته و انه أحق بمنصب الخلافة منه،و كان يذهب الي فكرة الامامة كبار الموظفين في سلك دولته كعلي بن يقطين،و ابن الأشعث و غيرهما،و كان هارون نفسه من الذين يؤمنون بأن الامام هو أولي منه بهذا المنصب الخطير،كما ادلي بذلك لم يرق لهارون أن يري في المجتمع من هو أفضل منه،و لم يهدأ له فكر أن ينظر الي الجماهير و سائر الأوساط الشعبية و هي تؤمن بأن الامام هو أولي بالأمر من غيره،و انه في القمة العليا علما و فضلا و مأثرا و ان المسلمين قد أجمعوا علي تعظيمه و تناقلوا فضائله و علومه،فساءه ذلك،فقدم علي

ص: 449

ارتكاب الجريمة فأودع الامام في ظلمات السجون و غيبه عن الناس.

3-حرصه علي الملك

:

كان هارون حريصا علي ملكه متفانيا في حب سلطانه،فهو يضحي في سبيله جميع المقدسات و القيم،و قد عبر عن مدي حرصه علي سلطته بكلمته المعروفة التي تناقلتها الأجيال و الأحقاب و هي:

«لو نازعني رسول اللّه(ص)لأخذت الذي فيه عيناه».

أجل إنه لو نازعه رسول اللّه(ص)في ملكه لأخذ الذي فيه عيناه و مع هذا الحرص الشديد و التهالك علي السلطة،كيف يخلي عن سراح الامام و كيف تطيب نفسه و قد رأي الناس قد أجمعوا علي حب الامام و تقديره.

لقد كان هارون يقظا،فكان يخرج بغير زيه متنكرا ليسمع أحاديث العامة،و يقف علي اتجاهاتهم و رغبتهم،فكان لا يسمع إلا الذكر العاطر للامام و الثناء عليه،وحب الناس له،و رغبتهم في ان يتولي شئونهم فلذلك أقدم علي ارتكاب الموبقة،و أنهي به الحرص و الحقد الي قتله له.

4-بغضه للعلويين

:

لقد اترعت نفس هارون ببغض العلويين،فقد ورث عداءهم من آبائه و سلفه الذين نكلوا بالعلويين،و صبوا عليهم وابلا من العذاب الأليم،و ساقوهم الي القبور و السجون،و طاردوهم حتي هربوا هائمين علي وجوههم خائفين يلاحقهم الرعب و الفزع.

ص: 450

و زاد هارون علي أسلافه في ارهاق العلويين،فدفنهم و هم أحياء و أشاع في بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد،و استعمل جميع امكانياته للبطش بهم،ففرض عليهم الاقامة الاجبارية في بغداد،و جعلهم تحت المراقبة، و لم يسمح للاتصال بهم،و حرمهم من جميع حقوقهم الطبيعية.

و كان أبغض شيء عليه أن يري عميد العلويين و سيدهم الامام موسي عليه السلام في دعة و اطمئنان و أمان،فلم يرق له ذلك دون أن ينكل به فدفعه لؤمه و عداؤه الموروث الي سجنه و حرمان الأمة الاسلامية من الاستفادة بعلومه و نصائحه و توجيهاته.

5-الوشاية به

اشارة

:

و عمد فريق من باعة الضمير و الدين الذين انعدمت من نفوسهم الانسانية الي السعي بالامام(ع)و الوشاية به عند الطاغية هارون ليتزلفوا إليه بذلك،و ينالوا من دنياه،و قد بلي بهم الاسلام و المسلمون و بهؤلاء الأوغاد يستعين الظالمون في جميع مراحل التأريخ علي تنفيذ خططهم الرامية الي اشاعة الظلم و الجور و الفساد في الأرض.

و كانت وشاية هؤلاء المجرمين بالامام ذات طوابع متعددة،و هي:

(أ)-جباية الأموال له:

و انطلق بعض الأشرار،فأخبر هارون بأن الامام تجبي له الأموال الطائلة من شتي الأقطار الاسلامية،و انه قد اشتري بها ضيعة تسمي:

«البسرية»اشتراها بثلاثين الف دينار،فأثار ذلك كوامن الغيظ و الحقد في نفس هارون،فان سياسته كانت تجاه العلويين تقضي بفقرهم و وضع

ص: 451

الحصار الاقتصادي عليهم،فان فقرهم أحب إليه من غناهم-كما قال لولده المأمون-و قد ذهب ابن الصباغ الي أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت لسجن الامام (1).

(ب)-طلبه للخلافة.

لقد بلي المجتمع الاسلامي منذ فجر تأريخه بطائفة من باعة الضمير الذين لا يقدسون سوي المادة و ما يحقق رغباتهم الرخيصة،فنكلوا بالمسلمين و أضروهم الي حد بعيد و ذلك بنكايتهم بالمصلحين الذين يطالبون بالصالح العام لأوطانهم و أمتهم.

لقد كان تأريخ الاسلام حافلا بالشيء الكثير من أعمال هؤلاء المخربين الذين هم من أقوي عوامل الشر و الفساد و لولاهم لما تمكنت السلطة علي الظلم و الجور،و قد سعي فريق من هؤلاء بالامام موسي(ع)الي هارون فأوغروا صدره عليه و أثاروا كوامن الحقد عليه،فقد قالوا:انه يطالب بالخلافة،و يكتب الي سائر الأقطار و الأمصار الاسلامية يدعوهم الي نفسه و يحفزهم الي الثورة ضد حكومته،و كان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيي البرمكي و كان السبب في وشايته-فيما يقول الرواة-هو أن الرشيد قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث،فساء ذلك يحيي و أحاطت به هواجس مريرة،و خاف أن تنقضي دولته و دولة ولده إذا أفضي الأمر الي محمد،و ان زمام الدولة سيكون بيد جعفر،و كان يحيي قد عرف ميوله و اتجاهه نحو العلويين و انه يذهب الي إمامة موسي(ع)،فاختلي به و عرفه بفكرته و ان له ميولا نحو العلويين فسر جعفر بذلك و عرفه بفكرته،و لما علم يحيي ذلك منه سعي به الي الرشيد فتأثر منه،و لكنه لم يوقع به أي

ص: 452


1- الفصول المهمة:ص 252.

مكروه لأنه تذكر أياديه و جميل آبائه علي العباسيين.

و دخل جعفر علي الرشيد فوسع له في مجلسه،و جري بينهما حديث استطابه هارون،فأمر له بعشرين الف دينار،فغضب يحيي،فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له:

يا أمير المؤمنين،كنت قد أخبرتك عن جعفر و مذهبه،فتكذب ذلك -و هاهنا أمر فيه الفيصل- قال الرشيد:ما هو؟ قال يحيي:إنه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به الي موسي بن جعفر،و لست أشك في العشرين الف دينار انه وجه خمسها إليه.

قال هارون:إن في هذا لفيصلا.

فأرسل في الوقت خلف جعفر،فلما انتهي إليه الرسول عرف سعاية يحيي به فلم يشك في أن هارون انما دعاه في غلس الليل ليقتله،فأفاض عليه الماء و اغتسل غسل الأموات،و أقبل الي الرشيد فلما وقع بصره عليه و شم منه رائحة الكافور قال له:

ما هذا؟ -يا أمير المؤمنين،قد علمت أنه قد سعي بي عندك،فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي،فأرسلت إلي لتقتلني.

قال هارون:-كلا-و لكن قد أخبرت أنك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه،و انك قد فعلت ذلك في العشرين الف دينار التي وهبتها لك،فأحببت أن أعلم ذلك؟.

قال جعفر:اللّه اكبر يا أمير المؤمنين،تأمر بعض خدمك ليذهب

ص: 453

فيأتيك بها بخواتيمها.

فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها علي ما هي عليه لم يؤخذ منها شيء،فبدا السرور علي سحنات وجهه و قال له:

هذا أول ما نعرف كذب من سعي بك إلي،صدقت يا جعفر انصرف آمنا،فاني لا أقبل فيك قول أحد.

فخجل يحيي،و باء بالخزي و الخسران،و ازداد غيظه و حنقه و أخذ يعمل جاهدا في اسقاط مكانة جعفر و زوال نعمته،فرأي أن يسعي بالامام موسي(ع)ليتوصل بذلك الي النكاية به،فقال ليحيي ابن أبي مريم:أ لا تدلني علي رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟فقال له:نعم،ذاك علي بن اسماعيل بن جعفر،فأرسل خلفه يحيي و كان آنذاك في الحج،فلما اجتمع به قال له يحيي:اخبرني عن عمك موسي،و عن شيعته و عن المال الذي يحمل إليه فقال:عندي الخبر،و حدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه الي بغداد ليجمع بينه و بين الرشيد فأجابه الي ذلك فلما سمع الامام موسي(ع)بسفره مع يحيي بعث خلفه فقال له:

بلغني أنك تريد السفر؟ -نعم.

-الي أين؟ -الي بغداد.

-ما تصنع؟ -عليّ دين و أنا مملق.

-أنا أقضي دينك،و أكفيك أمورك.

فلم يلتفت الي الامام و وسوست له نفسه و أجاب داعي الهوي فترك الامام و قام من عنده،فقال(ع)له:لا تؤتم أولادي،ثم أمر(ع)له

ص: 454

بثلاثمائة دينار و أربعة آلاف درهم،و قال(ع):و اللّه ليسعي في دمي و يؤتم أولادي فقال له أصحابه:

«جعلنا اللّه فداك،فأنت تعلم هذا من حاله،و تعطيه؟!!» فقال(ع):نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول اللّه(ص)أنه قال:

إن الرحم اذا قطعت فوصلت قطعها اللّه.

و خرج علي يطوي البيداء حتي انتهي الي بغداد،فدخل علي الرشيد فقال له بعد السلام عليه.

ما ظننت أن في الارض خليفتين حتي رأيت عمي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة.

و قيل:إنه قال له:إن الأموال تحمل إليه من المشرق و المغرب، و ان له بيوت أموال،و انه اشتري ضيعة بثلاثين الف دينار،و سماها «البسرية».

فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه و أحرقه الغيظ،و أمر لعلي بمائتي الف درهم علي أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه فدخل بيت الخلاء فزحر فيه و سقطت امعاؤه فأخرج منه و هو يعاني آلام الموت فقيل له:ان الأموال قد وصلتك فقال:ما أصنع بها و قد أتاني الموت و قيل:انه رجع الي داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون (1)و قد باع آخرته بدنياه و لم ينتفع بها و باء بالخزي و العذاب الأليم و ذكرت بعض المصادر أن من جملة الوشاة بالامام يعقوب بن داود (2)و هذا القول ضعيف للغاية فان يعقوب قد سجنه المهدي في المطبق-لاطلاقها.

ص: 455


1- عيون اخبار الرضا،غيبة الشيخ الطوسي،البحار،المناقب، و قيل إن الساعي به هو محمد بن اسماعيل.
2- عيون أخبار الرضا.

بعض العلويين،و بقي في السجن طيلة خلافة المهدي و الهادي،فلما ولي هارون الخلافة توسط في اطلاق سراحه البرامكة،فأخرج من السجن و قد فقد بصره فخيره الرشيد بين المقام في بغداد أو السكني في بعض الأقاليم الاسلاميه،فاختار سكني يثرب،فمكث فيها بعيدا عن السياسة مشغولا بنفسه حتي وافاه الأجل المحتوم،و بعد هذا فكيف يظن بوشايته بالامام؟

6-احتجاج الامام

:

من الأسباب التي حفزت هارون لاعتقال الامام و زجه في غياهب السجون احتجاجه(ع)عليه بأنه أولي بالنبي العظيم(ص)من جميع المسلمين فهو أحد اسباطه و وريثه،و انه أحق بالخلافة من غيره،و قد جري احتجاجه(ع)معه في مرقد النبي(ص)و ذلك حينما زاره هارون و قد احتف به الوجوه و الأشراف و قادة الجيش و كبار الموظفين في الدولة،فقد أقبل بوجهه علي الضريح المقدس و سلم علي النبي(ص)قائلا:

«السلام عليك،يا ابن العم» و قد اعتز بذلك علي من سواه و افتخر علي غيره برحمه الماسة من النبي(ص)و انه انما نال الخلافة لقربه من الرسول(ص)و كان الامام -آنذاك-حاضرا فسلم علي النبي(ص)قائلا:«السلام عليك يا أبت» ففقد الرشيد صوابه و استولت عليه موجات من الاستياء حيث قد سبقه الامام الي ذلك المجد و الفخر فاندفع قائلا بنبرات تقطر غضبا:

«لم قلت إنك أقرب الي رسول اللّه(ص)منا؟؟».

فأجابه(ع)بجواب لم يتمكن الرشيد من الرد عليه أو المناقشة فيه قائلا:

ص: 456

«لو بعث رسول اللّه(ص)حيا و خطب منك كريمتك هل كنت تجيبه الي ذلك؟.

فقال هارون:سبحان اللّه!!و كنت أفتخر بذلك علي العرب و العجم فانبري الامام مبينا له الوجه في قربه من النبي(ص)دونه قائلا:

«لكنه لا يخطب مني و لا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم»و أراد(ع)أن يدعم قوله ببرهان آخر فقال لهارون:

«هل كان يجوز له أن يدخل علي حرمك و هن مكشفات؟؟».

فقال هارون:لا، فقال الامام:لكن له أن يدخل علي حرمي و يجوز له ذلك فلذلك نحن أقرب إليه منكم (1)و كان دليل الامام(ع)حجة دامغة أذهل به خصمه و لم يترك له منفذا يسلك فيه للدفاع عنه،فقد ألبسه ثوب الفشل و الخزي و أبان لمن حوله بطلان ما ذهب إليه هارون،فالامام أولي بالنبي منه و احق بالخلافة فهو سبطه و وارثه.

و اندفع هارون بعد ما أعياه الدليل الي منطق العجز،فأمر باعتقال الامام(ع)و زجه في السجن (2).9.

ص: 457


1- اخبار الدول:ص 113،و جاء في وفيات الأعيان:394/1 و في مرآة الحنان:395/1،ان الامام(ع)لما سلم علي النبي(ص)بقوله: -يا أبت-تغير وجه هارون و لم يطق جوابا،و قال:«هذا هو الفخر حقا يا أبا الحسن»،و جاء في«الاتحاف بحب الاشراف»ص 55 ان هارون بعد ما سمع كلام الامام و دليله علي القرب من النبي(ص)قال له: «للّه درك إن العلم شجرة نبتت في صدوركم فكان لكم ثمرها و لغيركم الأوراق».
2- تذكرة الخواص:359.

7-تعيينه لفدك:

و من الأسباب التي ملأت نفس هارون بالحقد علي الامام(ع)ودعته الي اعتقاله و العزم علي قتله،تعيينه(ع)لفدك بأنها تشمل اكثر المناطق الاسلامية،و ذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه،فأبي(ع)أن يأخذها إلا بحدودها،فقال الرشيد:

-ما حدودها؟ فقال(ع):إن حددتها لم تردها.

فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلا:بحق جدك إلا فعلت.

و لم يجد الامام بدا من اجابته،فقال له:«اما الحد الاول»فعدن فلما سمع الرشيد ذلك تغير وجهه،و استمر الامام عليه السلام في بيانه قائلا:

و«الحد الثاني»سمرقند.فأربد وجه الطاغية،و استولت عليه موجة من الغضب الهائل،و لكن الامام(ع)لم يعتن به فقد اخذ يستمر في بيانه قائلا:

و«الحد الثالث»إفريقيا،فاسود وجه هارون و قال بنبرات تقطر غيظا «هيه»و انطلق الامام يبين الحد الأخير قائلا:و«الحد الرابع»فسيف البحر مما يلي الجزر و أرمينية.

فثار الرشيد و لم يملك اعصابه دون أن قال:

-لم يبق لنا شيء.

-قد علمت أنك لا تردها.

و تركه الامام و الكمد يحز في نفسه،فعزم حينئذ علي التنكيل به (1)لقد بين(ع)له ان العالم الاسلامي بجميع أقاليمه من عدن الي سيف البحر

ص: 458


1- المناقب:381/2.

ترجع سلطته له،و ان هارون و من سبقه من الخلفاء قد استأثروا بالأمر و غصبوا الخلافة من أهل البيت(ع).

8-صلابة موقف الامام

:

كان موقف الامام موسي(ع)من الطاغية هارون موقفا سلبيا تمثلت فيه صرامة الحق و صلابة العدل-كما بيناه في بعض فصول هذا الكتاب- فقد حرم علي شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه، فكره لصاحبه صفوان الجمال أن يكري جماله لهارون مع أنها تكري لحج بيت اللّه الحرام،فاضطر صفوان لبيع جماله،ففهم هارون،فملئ قلبه بالحقد علي صفوان و همّ بقتله،و كذلك منع زياد بن أبي سلمة من وظيفته و قد شاعت في الاوساط الاسلامية فتوي الامام بحرمة الولاية من قبل هارون و أضرابه من الحكام الجائرين،فأوغر ذلك قلب هارون و ساءه الي أبعد الحدود إن الامام(ع)لم يصانع هارون و لم يتسامح معه فكان موقفه معه صريحا واضحا فقد دخل عليه في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد و لا في غيرها،فانبري إليه هارون و قد اسكرته نشوة الحكم قائلا:

ما هذه الدار؟.

فأجابه الامام غير معتن بسلطانه و جبروته قائلا له:

«هذه دار الفاسقين»قال اللّه تعالي:«سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق،و إن يروا كل آية لا يؤمنون بها،و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا» و مشت الرعدة في جسم هارون،و استولت عليه موجة من الاستياء فقال للامام:-دار من هي؟.

ص: 459

-هي لشيعتنا فترة،و لغيرهم فتنة.

-ما بال صاحب الدار لا يأخذها.

-أخذت منه عامرة و لا يأخذها إلا معمورة.

-اين شيعتك؟.

-فتلا الامام(ع)قوله تعالي:« لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّي تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ».

فثار هارون،و قال بصوت يقطر غضبا.

-أ نحن كفار؟.

-لا،و لكن كما قال اللّه تعالي:« اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ».

فغضب هارون و أغلظ في كلامه علي الامام (1)ان موقف الامام(ع) كان مع هارون موقفا لا لين فيه،فانه يراه غاصبا لمنصب الخلافة و مختلسا للسلطة و الحكم.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن بيان بعض الأسباب التي دعت الرشيد الي اعتقال الامام(ع).1.

ص: 460


1- البحار:279/11.

في ظلمات السّجون

اشارة

ص: 461

ص: 462

لعل من أقسي المحن و أفجعها هي التي ألمت بالامام موسي شبيه عيسي بن مريم في تقواه و ورعه و صلاحه..فقد قضي زهرة حياته في ظلمات السجون محجوبا عن أهله و شيعته،و محروما من نشر علومه..و قد جهد هارون في ظلمه و ارهاقه و أمعن في التنكيل به من علمه ان الامام لم يكن يبغي الحكم و السلطان،و انما كان يبغي نشر العدل و الحق و الدعة بين الناس،و ينعي علي اولئك الحكام ظلمهم و جورهم و استبدادهم بامور المسلمين.

لقد حفل تاريخ الانسانية قديما و حديثا بالثورات الصاخبة التي قام بها المصلحون علي حكام الظلم و الجور في سبيل اسعاد أوطانهم و ابناء نحلتهم حتي عانوا في سبيل ذلك جميع ضروب الأذي و أنواع الاضطهاد و التنكيل.

و في طليعة المجاهدين و المنافحين عن كرامة المسلمين أئمة أهل البيت عليهم السلام،فقد قدموا اروع التضحيات و خاضوا أقسي الوان النضال في سبيل اللّه و رفع كلمة المسلمين و انقاذهم من الجور السياسي و الاستبداد السياسي الذي تمثل علي مسرح سياسة خصومهم من حكام الأمويين و العباسيين تلك السياسة الجائرة التي لم يتحقق فيها ظل للعدل لا قليل و لا كثير و التي قضت علي التلاعب في مقدرات المجتمع،و سلب أموال المسلمين،و صرفها بسخاء علي المجون و الدعارة و بذلها للعملاء الذين يساندونها و يضيفون إليها العدالة و الحق.

و كان الواجب الديني يحتم علي أئمة اهل البيت(ع)باعتبارهم مسئولين عن رعاية الدين و حماية المسلمين أن يناهضوا ذلك الحكم و ينفروا في وجه الظلم،و ينقذوا المجتمع الاسلامي من الاستبداد و الجور اللذين حلا فيه، و فعلا قد قاموا بما يجب عليهم من اداء رسالتهم الانسانية و الذب عن كرامة الاسلام و حماية المسلمين.

و كان الامام موسي(ع)زعيم المعارضين لسياسة هارون،و قد ذكرنا

ص: 463

-غير مرة-موقفه السلبي تجاهه،و عمل هارون ما وسعه في ارهاق الامام و الانتقام منه اعتقله في سجونه و حجبه عن شيعته،و قضي زمنا طويلا في السجون حتي لفظ انفاسه الأخيرة فيها و هو غريب شهيد عاني امر الآلام و ادهي الخطوب،و نقدم عرضا شاملا-حسب تتبعنا لبيان ما جري عليه في ظلمات السجون».

القاء القبض علي الامام

1-القبض عليه

:

و ثقل الامام موسي(ع)علي هارون،و ضاق صدره منه،و أزعجه الي أبعد الحدود انتشار اسمه،و ذيوع فضله،و تحدث الناس عن مآثره و علمه،فجاء الطاغية الي قبر النبي(ص)و كان آنذاك في يثرب فسلم علي النبي(ص)و خاطبه قائلا:

«بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه،اني اعتذر إليك من أمر عزمت عليه إني اريد ان آخذ موسي بن جعفر(ع)فاحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دماءهم» (1).

و الغريب ان يعتذر الي النبي(ص)في انتهاك حرمته،و التنكيل بفلذة كبده،و قد حسب ان الاعتذار من ارتكاب الجريمة يجديه عن المسئولية في يوم يخسر فيه المبطلون.

و في اليوم الثاني أصدر أوامره بالقاء القبض علي الامام،فألقت الشرطة عليه القبض و هو قائم يصلي لربه عند رأس جده النبي(ص)فقطعوا عليه صلاته و لم يمهلوه من اتمامها فحمل من ذلك المكان الشريف،و قيد و هو يذرف الدموع و يوجه شكواه الي جده الرسول(ص)قائلا:

ص: 464


1- البحار:296/17

«إليك أشكو يا رسول اللّه» (1).

و لم يحترم هارون قداسة القبر الشريف،فهتك حرمته،و حرمة أبنائه التي هي أولي بالرعاية و المودة من كل شيء،كما لم يحترم الصلاة التي هي أقدس عبادة في الاسلام فقطع عليه صلاته و أمر بتقييده،و حمل إليه الامام و هو يرسف في ذل القيود فلما مثل عنده جفاه و أغلظ له في القول،و كان اعتقاله في سنة«179 ه»في شهر شوال لعشر بقين منه (2).

2-فزع المسلمين

:

و لما اعتقل الامام(ع)جزع المسلمون و فزعوا،فلم يبق قلب إلا تصدع من الأسي و الحزن،فقد حجب عنهم من كان يحن علي فقرائهم و يعول بأيتامهم و أراملهم،و من كان يتعهدهم بالرعاية و العطف و الحنان و من كان مفزعا لهم عند الكوارث و الخطوب،و خاف الرشيد من وقوع الفتنة و حدوث الاضطراب،فأمر بتهيئة قبتين فأوعز بحمل إحداهما الي الكوفة و الاخري الي البصرة ليوهم علي الناس أمر الامام و يخفي عليهم خبر اعتقاله بأي مكان،و أمر بحمل الامام(ع)إلي البصرة في غلس الليل البهيم فحمل إليها و قد خيم علي يثرب الحزن و اللوعة و المصاب.

3-اعتقاله في البصرة
اشارة

:

و سير الامام(ع)معتقلا الي البصرة،قد أحاطت به الآلام و الهموم،

ص: 465


1- المناقب:385/2.
2- البحار:296/11.

و وكل حسان السروي بحراسته و المحافظة عليه (1)و قبل أن يصل الي البصرة تشرف بالمثول بين يديه عبد اللّه بن مرحوم الأزدي فدفع له الامام كتبا و أمره بايصالها الي ولي عهده الامام الرضا(ع)و عرفه بأنه الامام من بعده (2).

و سارت القافلة تطوي البيداء حتي انتهت الي البصرة و ذلك قبل التروية بيوم (3)فأخذ حسان الامام و دفعه الي عيسي بن أبي جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس،و أقفل عليه أبواب السجن،فكان لا يفتحها إلا في حالتين:إحداهما في خروجه الي الطهور،و الأخري لادخال الطعام له (4)اما شئونه في سجن البصرة فهي:

(أ)تفرغه للعبادة:

و أقبل الامام(ع)علي عبادة اللّه فحير الألباب و أبهر العقول بعبادته و انقطاعه الي اللّه فكان يصوم في النهار و يقوم في الليل يقضي أغلب أوقاته في الصلاة و السجود و الدعاء لم يضجر و لم يسأم من السجن،و اعتبر تفرغه للعبادة من أعظم النعم التي منحها اللّه له،فكان يشكر ربه علي ذلك، و يدعو بهذا الدعاء.

«اللهم،إنك تعلم اني كنت اسألك أن تفرغني لعبادتك،اللهم و قد فعلت فلك الحمد» (5).

ص: 466


1- البحار:298/11.
2- تنقيح المقال.
3- البحار،منتخب التواريخ:518.
4- البحار.
5- المناقب:379/2.

و كشف لنا هذا الدعاء جانبا كبيرا من صبر الامام(ع)و رضائه بقضاء اللّه كما دل علي مدي حبه و شوقه الي العبادة و الطاعة.

(ب)-اتصال العلماء به.

و لما شاع اعتقال الامام(ع)في البصرة أقبل علماؤها و رواة الحديث الي الامام فاتصلوا به من طريق خفي،و قد رووا عنه بعض العلوم و الأحكام فاتصل به ياسين الزياتي،و روي عنه (1)و اتصل به جماعة آخرون من العلماء البارزين فرووا عنه الشيء الكثير مما يتعلق بالتشريع الاسلامي.

(ج)-الايعاز لعيسي باغتياله:

و انتشر خبر سجن الامام(ع)في البصرة،و تناقل الناس حديثه مقرونا بالحسرة و اللوعة فخاف هارون من حدوث الفتن و الاضطرابات فأوعز الي عيسي يطلب منه فورا القيام باغتيال الامام(ع)ليستريح منه و يهدأ باله بذلك.

(د)-استعفاؤه عن ذلك:

و لما وصلت أوامر الرشيد لعيسي باغتيال الامام(ع)ثقل عليه الأمر فجمع خواصه و ثقاته فعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب الجريمة،فاستصوب رأيهم،و كتب الي الرشيد رسالة يطلب فيها اعفاءه عن ذلك،و هذا نصها.

«يا أمير المؤمنين،كتبت إلي في هذا الرجل،و قد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه،لينظروا حيلته،و أمره و طويته ممن له المعرفة و الدراية،و يجري من الانسان مجري الدم،فلم يكن منه سوء قط،و لم

ص: 467


1- النجاشي:ص 352.

يذكر أمير المؤمنين إلا بخير،و لم يكن عنده تطلع الي ولاية،و لا خروج و لا شيء من أمر الدنيا،و لا دعا قط علي أمير المؤمنين،و لا علي احد من الناس،و لا يدعو إلا بالمغفرة و الرحمة له و لجميع المسلمين مع ملازمته للصيام و الصلاة و العبادة،فان رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره،أو ينفذ من يتسلمه مني و إلا سرحت سبيله،فاني منه في غاية الحرج» (1).

و دلت هذه الرسالة علي اكبار عيسي و تقديره البالغ للامام(ع)، فقد راقبه و وضع العيون عليه فلم يره إلا مشغولا بذكر اللّه و طاعته،و لم يتعرض لذكر أحد بسوء حتي الظالمين له،لذا خاف عيسي،و راقب اللّه من اغتياله،و قد بقي(ع)في سجن عيسي سنة كاملة (2)و قد عاني فيها آلام السجن و مرارة القيود.

4-حمله الي بغداد
اشارة

:

و استجاب الرشيد لطلب عيسي،و خاف منه أن يطلق سراح الامام عليه السلام و يخلي سبيله،فأمره بحمله الي بغداد،و فرح عيسي بذلك لأن اللّه قد أنقذه من ارتكاب الموبقة،و في الوقت أمر عيسي بحمله الي بغداد،فحمل مقيدا تحف به الشرطة و الحراس،و ساروا به مسرعين حتي انتهوا به الي بغداد،فعرفوا الرشيد بذلك،فأمر باعتقاله...أما ما جري عليه في بغداد فهو كما يلي:

(أ)-اعتقاله عند الفضل:

و لما انتهي الامام(ع)الي بغداد،أمر الرشيد باعتقاله عند الفضل

ص: 468


1- البحار،الفصول المهمة.
2- البحار.

ابن الربيع (1)فأخذه الفضل و حبسه في بيته.

و انما حبسه هارون في بيوت وزرائه،و لم يعتقله في السجون العامة «كالمطبق»و غيره،نظرا لخطورة الامام(ع)و سمو مكانته،و عظم شخصيته فان الشخصيات النابهة كانت لا تعتقل في السجون العامة،فقد سجن عبد الملك ابن صالح لما غضب عليه الرشيد عند الفضل بن الربيع (2)و كذلك سجن ابراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد (3)و لذلك سجن الامام في بيوت الوزراء و كبار رجال الدولة.

(ب)انشغاله في العبادة:

و أقبل الامام(ع)علي طاعة ربه فكان يقضي أغلب أوقاته في الصلاة و السجود و الابتهال الي اللّه و التضرع إليه حتي فاق بطاعته جميع الأولياء، و قد بهر الفضل بعبادته فكان يحدث عنها،و نفسه مترعة بالاكبار و التقديس للامام،فقد حدث عبد اللّه القزويني قال:دخلت علي الفضل بن الربيع و هو جالس علي سطح داره،فقال لي ادن مني،فدنوت منه حتي حاذيته

ص: 469


1- الفضل بن الربيع بن يونس،يكني أبا العباس،كان حاجبا لهارون الرشيد و محمد الأمين،و كان أبوه حاجب المنصور و المهدي،و لما أفضت الخلافة الي الأمين،قدم عليه الفضل من خراسان-و كان في صحبة الرشيد الي ان توفي بطوس-فأكرمه الأمين،و ألقي أزمة الأمور إليه،و عول عليه في مهماته،و قد روي عن أبيه انه روي عن المنصور عن جده عن ابن عباس ان رسول اللّه(ص)قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه»توفي سنة 207 ه و قيل 208 ه.جاء ذلك في تأريخ بغداد:343/12-344
2- تأريخ الطبري.
3- تأريخ بغداد لطيفور:ص 185.

فقال لي:

-أشرف علي الدار فأشرف عبد اللّه علي الدار،فقال له الفضل:

-ما تري في البيت؟ -أري ثوبا مطروحا.

-أنظر حسنا.

فتأمل عبد اللّه في نظره،فقال له:

-رجل ساجد.

-هل تعرفه؟ -لا.

-هذا مولاك -من مولاي؟!! -تتجاهل عليّ؟!! -ما اتجاهل،و لكن لا أعرف لي مولي.

-هذا أبو الحسن موسي بن جعفر.

و أخذ الفضل يحدث عبد اللّه عن عبادة الامام و طاعته للّه قائلا:

«إني أتفقده الليل و النهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا علي الحال التي أخبرك بها إنه يصلي الفجر،فيعقب ساعة في دبر صلاته الي أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتي تزول الشمس،و قد و كل من يترصد له الزوال،فلست أدري متي يقول الغلام قد زالت الشمس؟ إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء،فاعلم انه لم ينم في سجوده و لا أغفي،فلا يزال كذلك الي أن يفرغ من صلاة العصر،فاذا صلي العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا الي أن تغيب الشمس،فاذا غابت وثب من سجدته

ص: 470

فصلي المغرب من غير أن يحدث حدثا،و لا يزال في صلاته و تعقيبه الي أن يصلي العتمة فاذا صلي العتمة أفطر علي شوي (1)يؤتي به،ثم يجدد الوضوء،ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة،ثم يقوم،فيجدد الوضوء،ثم يقوم،فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر فلست أدري متي يقول الغلام إن الفجر قد طلع؟إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول إلي..».

و لما رأي عبد اللّه اكبار الفضل للامام(ع)حذره من أن يستجيب لداعي الهوي فينفذ رغبة الرشيد باغتياله،فقال له.

«اتق اللّه،و لا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة،فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد سوءا إلا كانت نعمته زائلة..».

و كان الفضل مؤمنا بذلك فقال له:

«قد أرسلوا إلي غير مرة يأمرونني بقتله،فلم اجبهم الي ذلك، و أعلمتهم أني لا أفعل ذلك،و لو قتلوني ما أجبتهم الي ما سألوني..» (2)و هكذا كان الامام(ع)من أروع أمثلة التقوي و الايمان باللّه،قد طبع حب اللّه في قلبه و مشاعره،و هامت نفسه بطاعته و عبادته.

(ج)-اشراف هارون عليه.

كان هارون يتوجس في نفسه الخوف من الامام(ع)فلم يثق بالعيون التي وضعها عليه في سجنه،فكان بنفسه يراقبه،و يتطلع علي شئونه خوفا من أن يتصل به أحد من الناس،أو يكون الفضل قد رفه عليه،فأطل من أعلي القصر علي السجن فرأي ثوبا مطروحا في مكان خاص لم يتغير عن

ص: 471


1- شوي:تصغير شواء أي شواء قليل.
2- عيون الأخبار،البحار.

موضعه فقال للفضل:

-ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! -يا أمير المؤمنين،ما ذاك بثوب،و انما هو موسي بن جعفر له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فتبهر هارون و قال:

-أما إن هذا من رهبان بني هاشم! و التفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الامام قائلا له:

-يا أمير المؤمنين:ما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟!! فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من الشر و فقدان الرأفة قائلا:

«هيهات:لا بد من ذلك» (1).

إن هارون يعلم منزلة الامام و عزوفه عن الدنيا،و اقباله علي اللّه و لكن حبه للدنيا و حسده له هو الذي دفعه الي ذلك.

(د)-سأم الامام:

و سئم الامام(ع)من السجن و ضاق صدره من طول المدة،و قد أحاطت به آلام مرهقة،و خطوب مريرة،فقد حجب عن عياله و اطفاله و شيعته،ينقل من حبس الي حبس،تراقبه الشرطة و العيون خوفا من اتصال أحد من شيعته به،و قد لجأ(ع)الي اللّه تعالي في أن يخلصه من هذه المحنة.

(ه)دعاؤه:

و لما طالت مدة الحبس علي الامام(ع)و هو رهين السجون،قام

ص: 472


1- البحار:298/11.

في غلس الليل البهيم فجدد طهوره و صلي لربه أربع ركعات،و أخذ يناجي اللّه و يدعوه بهذا الدعاء:

«يا سيدي:نجني من حبس هارون»و خلصني من يده،يا مخلص الشجر من بين رمل و طين،و يا مخلص النار من بين الحديد و الحجر،و يا مخلص اللبن من بين فرث و دم،و يا مخلص الولد من بين مشيمة و رحم و يا مخلص الروح من بين الأحشاء و الأمعاء،خلصني من يد هارون» (1)و يلمس من هذا الدعاء مدي ما أحاط بالامام(ع)من أسي مرير و حزن عميق.

(و)اطلاق سراحه:

و استجاب اللّه دعاء العبد الصالح فانقذه من سجن الطاغية هارون و أطلقه في غلس الليل،و ذلك بسبب رؤيا رآها،فحدث عبد اللّه بن مالك الخزاعي،و كان علي دار الرشيد و شرطته،قال:أتاني رسول الرشيد في ما جاءني فيه قط،فانتزعني من موضعي،و منعني من تغيير ثيابي،فراعني ذلك،فلما صرت الي الدار سبقني الخادم،فعرف الرشيد خبري،فأذن لي في الدخول،فدخلت،فوجدته جالسا علي فراشه،فسلمت،فسكت ساعة،فطار عقلي،و تضاعف جزعي،ثم قال لي:

-يا عبد اللّه،أ تدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ -لا و اللّه يا أمير المؤمنين.

-إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشيا قد أتاني،و معه حربة فقال:

إن لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة،و إلا نحرتك بهذه الحربة،اذهب فخل عنه.

ص: 473


1- المناقب:370/2،عيون الأخبار.

و لم يطمئن عبد اللّه بأمر الرشيد باطلاق سراح الامام،فقال له أطلق موسي بن جعفر؟قال له ذلك ثلاث مرات،فقال الرشيد:

«نعم،امض الساعة حتي تطلق موسي بن جعفر،و اعطه ثلاثين الف درهم،و قل له إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب،و إن أحببت المضي الي المدينة فالإذن في ذلك إليك».

و مضي عبد اللّه مسرعا الي السجن يقول:لما دخلت وثب الامام(ع) قائما،و ظن أني قد أمرت فيه بمكروه،فقلت له:

«لا تخف،قد أمرني أمير المؤمنين باطلاقك و أن أدفع إليك ثلاثين الف درهم،و هو يقول لك:إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب،و إن أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك،و أعطيته الثلاثين الف درهم (1)و قلت له:لقد رأيت من أمرك عجبا.

و أخذ الامام(ع)يحدثه عن السبب في اطلاق سراحه قائلا:

«بينما أنا نائم إذ أتاني رسول اللّه(ص)فقال لي:يا موسي،حبست مظلوما قل هذه الكلمات فانك لا تبيت هذه الليلة في الحبس،فقلت له:

بأبي أنت و أمي ما أقول فقال:قل:

«يا سامع كل صوت،و يا سابق الفوت،و يا كاسي العظام لحما، و منشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسني،و باسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين،يا حليما ذا أناة لا يقوي علي اناته،يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا،و لا يحصي عددا،فرج عني، فكان ما تري (2)و فرج اللّه عن الامام،فخلي هارون سبيله،و قد مكث في/1

ص: 474


1- مروج الذهب:265/3،و جاء في المناقب:370/2 أن الإمام(ع)رفض الهدايا و الخلع التي قدمت له.
2- وفيات الأعيان:394/4.شذرات الذهب 304/1

سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعينها لنا التاريخ.

و بقي الامام بعد اطلاق سراحه في بغداد لم ينزح عنها الي يثرب، و كان يدخل علي الرشيد في كل اسبوع مرة في يوم الخميس (1)و كان يحتفي به اذا رآه،و قد دخل عليه يوما،و قد استولي الغضب علي هارون من أجل رجل ارتكب جرما فأمر أن يضرب ثلاثة حدود،فنهاه الامام(ع)عن ذلك و قال انما تغضب للّه،فلا تغضب له اكثر مما غضب لنفسه (2)و ربما جرت بينهما بعض المناظرات،فقد دخل عليه في بعض الأيام فانبري إليه الرشيد قائلا:

أ تقولون ان الخمس لكم؟ -نعم.

-إنه لكثير.

-إن الذي اعطاه لنا علم أنه غير كثير (3).

و طلب منه الرشيد في بعض اجتماعاته به في بغداد أن يكتب له كلاما موجزا يحتوي علي أصول الدين و فروعه فأجابه الامام الي ذلك،و كتب بعد البسملة هذه الرسالة:

«أمور الدنيا أمران.أمر لا اختلاف فيه،و هو اجماع الامة علي الضرورة التي يضطرون إليها،و الأخبار المجتمع عليها،المعروض عليها شبهة،و المستنبط منها كل حادثة و أمر يحتمل الشك و الانكار،و سبيل ذلك استنصاح أهل الحجة عليه فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمع علي تأويله أو سنة عن النبي(ص)لا اختلاف فيها،أو قياس تعرف العقول عدله1.

ص: 475


1- البحار.
2- الوسائل-باب الامر بالمعروف.
3- البحار:280/11.

ضاق علي من استوضح تلك الحجة ردها،و وجب عليه قبولها،و الاقرار و الديانة بها و ما لم يثبت لمنتحليه به حجة من كتاب مستجمع علي تأويله أو سنة عن النبي(ص)لا اختلاف فيها أو قياس تعرف العقول عدله وسع خاص الامة و عامها الشك فيه،و الانكار له،كذلك هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه الي أرش الخدش فما دونه فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين فما ثبت لك برهانه اصطفيته،و ما غمض عنك ضوؤه نفيته و لا قوة إلا باللّه،و حسبنا اللّه و نعم الوكيل..» و عرض هذا الكتاب علي هارون فقال:هو كلام موجز جامع (1)و جرت مناظرات أخري بينهما ذكرناها في الحلقة الأولي من هذا الكتاب،و قد طلب الامام من هارون أن يسمح له بالرحيل الي يثرب لرؤية عياله و أطفاله،و ذكر المجلسي في بحاره أنه أذن له بذلك (2)و ذكر مرة اخري انه قال أنظر في ذلك و لم يجبه الي شيء حتي حبسه عند السندي ابن شاهك (3).

و أكبر الظن ان الرشيد فرض عليه الاقامة الجبرية في بغداد و لم يسمح له بالسفر الي وطنه،فمكث(ع)في بغداد مدة من الزمن لم يتعرض له هارون بسوء،و قد ذهب لذلك السيد مير علي الهندي فقال:«و قد حدث مرتين ان سمح الرشيد لهذا الامام الوديع بالرجوع الي الحجاز و لكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب علي طيبة قلبه فيبقيه في الحبس» (4)و مهما يكن من أمر فانه في تلك الفترة قد بذل(ع)جهوده لارشاد الناس9،

ص: 476


1- البحار:270/11.
2- البحار:269/11.
3- نفس المصدر.
4- مختصر تاريخ العرب،ص 209،

و هدايتهم الي طريق الحق،فقد اهتدي بشر الحافي و تاب علي يده حتي صار من عيون الصالحين و المتقين،و ذكرنا حديثه مشفوعا بالتفصيل في الحلقة الأولي من هذا الكتاب،كما انه توسط لهارون في بعض القضايا الخاصة التي كلفه بها بعض شيعته فقضاها له.

و علي أي حال،فان التأريخ ضن بتعيين المدة التي خلي فيها عن سبيل الامام،و الذي نظن أنها فترة قصيرة،لذا لم يذكرها قسم كبير من المؤرخين،فذكروا أنه انتقل من سجن الفضل بن الربيع الي سجن الفضل ابن يحيي،و أهملوا اطلاق سراحه.

5-عزم هارون علي قتله

:

و لما شاع ذكر الامام،و انتشرت فضائله و مآثره في بغداد ضاق الرشيد من ذلك،و خاف منه فعزم علي قتله،لو لا أنه رأي برهانا من ربه فعفا عنه،فقد حدث الفضل قال:كنت حاجبا عند الرشيد،فأقبل علي يوما و هو غضبان و بيده سيف يقلبه فقال لي:

بقرابتي من رسول اللّه(ص)لئن لم تأتني بابن عمي،لأخذت الذي فيه عيناك.

فخاف الفضل و مشت الرعدة في أوصاله و قال له:

-بمن اجيئك؟ -بهذا الحجازي.

-و أي الحجازيين؟ -موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فخاف الفضل من اللّه أن يكون الشر علي يده،و لكنه فكر في نقمة

ص: 477

هارون،و بطشه به فاستجاب لأمره و طلب منه أن يحضر له سوطين، و هسارين و جلادين،فأحضر ذلك،قال:و مضيت الي منزل أبي ابراهيم فأتيت الي خربة فيها كوخ من جريد النخل،و اذا بغلام أسود،فقلت له:

استأذن لي علي مولاك،يرحمك اللّه،فقال لي لج،فليس له حاجب، و لا بواب فولجت إليه فاذا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه و عرنين أنفه من كثرة سجوده،فسلمت عليه،و قلت:

-أجب الرشيد.

-ما للرشيد،و ما لي أ ما تشغله نعمته عني؟!! و وثب مسرعا،و هو يقول:لو لا أني سمعت في خبر عن جدي رسول اللّه(ص)ان طاعة السلطان للتقية واجبة،ما جئت،و انطلق(ع) مع الفضل فقال له:

-استعد للعقوبه يا أبا ابراهيم.

-أ ليس معي من يملك الدنيا و الآخرة،و لن يقدر اليوم علي سوء بي إنشاء اللّه.

قال الفضل:رأيت الامام و قد أدار يده يلوح بها علي رأسه الشريف ثلاث مرات،و لما وصل الفضل استقبله الرشيد و هو مذهول قد استولي عليه الخوف و الذعر فقال له يا فضل.

-لبيك -جئتني بابن عمي؟ -نعم.

-لا تكن أزعجته؟ -لا.

-لم تعلمه أني عليه غضبان،فاني قد هيجت علي نفسي ما لم أرده

ص: 478

ائذن له بالدخول و دخل الامام(ع)فلما رآه وثب إليه قائما و عانقه،و قال له:

مرحبا بابن عمي و أخي و وارثي ما الذي قطعك عن زيارتنا؟ فأجابه الامام(ع)غير معتن به قائلا:

-سعة ملكك و حبك للدنيا.

و أمر الرشيد أن يأتي بغالية،فأتي بها،فطيب الامام بيده و أمر أن يحمل بين يديه خلع و بدرتان و دنانير،فقال الامام(ع)لو لا اني أري أن ازوج بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبدا و انصرف عليه السلام و هو يقول:الحمد للّه رب العالمين،و التفت هارون الي الفضل قائلا له:

«يا فضل إنك لما مضيت لتجيئني به رأيت أقواما قد احدقوا بداري بأيديهم حراب قد غرسوها في أصل الدار يقولون إن آذي ابن رسول اللّه خسفنا به و بداره الأرض و ان أحسن إليه انصرفنا عنه و تركناه.

و انطلق الفضل مسرعا نحو الامام قائلا له:

-ما الذي قلت حتي كفيت أمر الرشيد؟ -دعاء جدي علي بن أبي طالب(ع)كان إذا دعا به ما برز الي عسكر إلا هزمه و لا الي فارس إلا قهره،و هو دعاء كفاية البلاء و هو:

«اللهم بك أساور و بك أحاول و بك أجاور و بك أصول و بك أنتصر و بك أموت و بك أحيي أسلمت نفسي إليك و فوضت أمري إليك و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم اللهم انك خلقتني و رزقتني و سترتني عن العباد بلطف ما خولتني اغنيتني،فاذا هويت رددتني،و إذا عثرت قومتني و اذا مرضت شفيتني و اذا دعوت أجبتني يا سيدي:ارض عني فقد ارضيتني» (1)ر.

ص: 479


1- عيون الأخبار،البحار.

و لكن هارون لم يؤمن بما يراه من الآيات و المعجزات التي ظهرت للامام(ع)فقد أعماه حب الملك و السلطان الي الاصرار علي الجريمة و التنكيل بالامام(ع).

6-اعتقاله عند الفضل
اشارة

:

و القي هارون القبض علي الامام ثانيا فأمر باعتقاله عند الفضل بن يحيي،و نشير الي بعض شئونه عند سجنه في بيت الفضل.

(أ)-الترفيه عليه:

و لما رأي الفضل عبادة الامام(ع)و اقباله علي اللّه،و انشغاله بذكره اكبر الامام و رفه عليه،و لم يضيق عليه،و كان في كل يوم يبعث له بمائدة فاخرة من الطعام،و قد رأي(ع)من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في بقية السجون.

(ب)-الايعاز باغتياله:

و اوعز الرشيد للفضل باغتيال الامام(ع)فامتنع من ذلك و لم يجبه و خاف من اللّه.

ان الفضل كان ممن يذهب الي الامامة و يدين بها،و هذا هو السبب في اتهام البرامكة بالتشيع،و قد امتنع اشد الامتناع في تنفيذ رغبات الرشيد في قتل الامام.

(ج)-التنكيل بالفضل:

و انطلق بعض الأوغاد الي هارون،فأخبره بترفيه الفضل علي الامام(ع)

ص: 480

و لما سمع ذلك الطاغية تحرق من الغيظ و الغضب،و كان آنذاك في الرقة فأنفذ في الوقت مسرور الخادم الي بغداد ليكشف له حقيقة الحال،فان كان الأمر علي ما بلغه مضي الي العباس بن محمد و أوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل،و كذلك أمره بالوصول الي السندي بن شاهك مدير شرطته ليكون منفذا لأوامره.

و قدم مسرور الي بغداد فنزل دار الفضل بن يحيي لا يدري أحد ما يريده،ثم دخل علي الامام موسي(ع)فوجده مرفها عليه كما بلغ الرشيد فمضي من فوره الي العباس و أمره بتنفيذ أمر الرشيد،و كذلك سار الي السندي فأمره باطاعة العباس،و أرسل العباس بالفور الشرطة الي الفضل فأخرجوه من داره و هو يهرول و الناس من حوله،فدخل علي العباس فأمر بتجريده،ثم ضربه مائة سوط.

و خرج الفضل متغيرا،قد انهارت قواه و أعصابه،فجعل يسلم علي الناس يمينا و شمالا و هو لا يشعر بذلك.

و كتب مسرور الي الرشيد بما فعله،فأمره بأخذ الامام(ع)و اعتقاله عند السندي بن شاهك،و جلس الرشيد مجلسا حافلا ضم جمهورا غفيرا من الناس،فرفع صوته قائلا:

أيها الناس،ان الفضل بن يحيي قد عصاني،و خالف طاعتي،و رأيت أن ألعنه فالعنوه».

فارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل باللعن و السباب و الشتم علي الفضل حتي اهتزت الأرض من أصوات اللعن.

و بلغ يحيي بن خالد ذلك فأسرع الي الرشيد فدخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس،حتي جاءه من خلفه فأسره قائلا:

«يا أمير المؤمنين،إن الفضل حدث،و أنا أكفيك ما تريد» فسر الرشيد بذلك،و ظهر السرور علي وجهه،و ذهب عن نفسه

ص: 481

ما يحمله من الحقد علي الفضل،فأراد يحيي أن يستعيد كيان ولده و يرد له كرامته،فقال للرشيد:

«يا أمير المؤمنين،قد غضضت من الفضل بلعنك إياه،فشرفه بازالة ذلك».

و أقبل هارون بوجهه علي الناس،فرفع عقيرته قائلا:

«إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته،و قد تاب و أناب الي طاعتي فتولوه».

و ارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل و هي تعلن التأييد الشامل لتلك السياسة المتناقضة و هي ذات لهجة واحدة أعلنها اولئك الناس الذين لا يؤمنون بالقيم و لا بالمثل العليا قائلين:

«يا أمير المؤمنين،نحن أولياء من واليت و أعداء من عاديت،و قد توليناه» (1).

و دلت هذه البادرة علي ما منيت به الجماهير الاسلامية في ذلك العصر من فقدان الوعي و الانحراف عن المبادئ الأصيلة،و لو كان عندهم أي شعور ديني لما سجن الامام،و ما نكل به و يعود السبب في ذلك كله الي عبث السياسة الملتوية في الأوسطا الاجتماعية و نشرها الفساد و التسيب في ربوع ذلك المجتمع حتي كان من نتائجه مواقفه المذمومة التي لا يحمد عليها بحال،كما كشفت لنا هذه البادرة مدي الحقد و الكراهية التي يكنها هارون في نفسه للامام(ع)فقد نكل بالفضل و هو أعز الناس عنده و أقربهم إليه و أعلن سبه و شتمه لأنه رفه علي الامام و لم يضيق عليه في مأكله و مشربه أما المدة التي قضاها(ع)في سجن الفضل فكانت قصيرة للغاية،و ذكر الرواة أنها كانت أياما.

و قبل أن ننهي المطاف عن هذا الفصل نود التنبيه الي انه قد شاع ان الامام سجن في واسط سنة كاملة،و لكن المصادر التي بأيدينا لم تنص علي ذلك،و لعله ذكر و لم نعثر عليه.4.

ص: 482


1- مقاتل الطالبيين:ص 503-504.

نهاية المطاف

اشارة

ص: 483

ص: 484

أي خطب مريع هذا الذي حل بسبط النبي(ص)و وديعته في أمته و شبيه المسيح عيسي بن مريم في تقواه و ورعه،فقد سدت عليه نوافذ الحياة و حفت به جميع الوان المصاعب،و المكاره،وصب عليه الطاغية هارون جام غضبه،فأذاقه جميع صنوف الهوان و التنكيل،فكبله بالقيود،و زجه في السجون،و أرصد عليه العيون خوفا من العطف أو الترفيه عليه،فأخذ ينقله من سجن الي سجن،و نكل بكل من أكرمه و رعي جانبه،فجلد ابن يحيي و أعلن سبه و شهر به لأنه لم يضيق عليه.

لقد أعيا الرشيد أمر الامام(ع)و أقض مضجعه انتشار اسمه و ذيوع فضله و تحدث الناس عن محنته و اضطهاده،فأوعز الي كبار رجال دولته باغتياله فلم يجيبوه لذلك،لما رأوه من كرامات الامام(ع)و انقطاعه الي الي اللّه،و اقباله علي العبادة،فخافوا علي نعمتهم من الزوال إن تعرضوا له بمكروه،و أخيرا لم يجد شريرا ينفذ رغباته سوي السندي بن شاهك (1)من

ص: 485


1- السندي بن شاهك هو ابو المنصور و مولي المنصور الدوانيقي ولي دمشق من قبل موسي بن عيسي في خلافة الرشيد،ذكر ذلك الصفدي في كتابه«أمراء دمشق ص 39»و نظمه أيضا في ارجوزته التي ذكر فيها امراء دمشق«ص 122»بقوله: و كان قد ولي بها بن شاهك خلافة و لم يكن بمالك و ذكر الجاحظ في«حياة الحيوان:393/5»حديثا عنه حينما ولي الشام يتعلق في تسويته بين القحطانية و العدنانية،و ذكر الجهشياري في: «الوزراء و الكتاب ص 188»أن السندي في أيام الرشيد كان يلي الجسرين في بغداد،و انه وكل بحراسة دور البرامكة لما أراد الرشيد الانتقام منهم، و جاء في«المصايد و المطارد ص 7»كان له ولدان أحدهما الحسين و الآخر ابراهيم،و ان حفيده كشاجم الشاعر المشهور و الكاتب المعروف،انه من ألمع شخصيات عصره في علمه و أدبه،و أفاد المحقق القمي في«الكني و الألقاب:93/3»ان كشاجم من شعراء أهل البيت(ع)المجاهرين و له قصائد في مدح آل محمد،و ذكر ابن شهر اشوب في«المناقب»ان اللّه انتقم من السندي في اليوم الذي توفي فيه الامام،فقد نفر به فرسه و ألقاه في نهر دجلة فمات فيه،و لكن المسعودي ذكر في«مروج الذهب:322/3» أنه بقي الي أيام المأمون و ذكر له حديثا يتعلق في حصار بغداد.

الوغد الأثيم الذي لا يؤمن بالآخرة و لا يرجو للّه وقارا،فنقله الي سجنه و أمره بالتضييق عليه،فاستجاب الأثيم لذلك،فقابل الامام بكل جفوة و قسوة،و الامام صابر محتسب،قد كظم غيظه،و أوكل أمره الي اللّه.

يا لهول الفادحة الكبري التي مني بها الامام حينما نقل الي سجن السندي ابن شاهك،فقد جهد في ارهاقه و تنكيله،و بالغ في أذاه،و التضييق عليه في مأكله و مشربه،و تكبيله بالقيود،و ما رآه إلا سبه و شتمه،كل ذلك ليتقرب لهارون و ينال من دنياه.

و نعرض لما جري عليه في هذا الدور الرهيب الذي هو آخر أدوار حياته و أقساها كما نذكر بعض شئونه الأخري كوصاياه و أوقافه،و غيرها مما يرتبط بالموضوع:

1-محل سجنه

:

سجن(ع)في المحبس المعروف بدار المسيب الواقع قرب باب الكوفة (1)

ص: 486


1- باب الكوفة:هو أحد الأبواب الأربعة الرئيسية لمدينة بغداد حينما بناها المنصور،و قد بني علي كل باب قبة مذهبة،و حولها مجالس و مرتفعات يجلس فيها فيشرف علي كل ما يعمل به،و باب الكوفة هو الطريق الذي يسلك فيه الي الحج،و كان بابا عظيما لا يغلقه إلا جماعة من الناس، و لما غرقت بغداد في قيضان 330 ه هدمت طاقات باب الكوفة جاء ذلك في دليل خارطة بغداد،و جاء في خارطة بغداد ان باب الكوفة تقع في قرية الوشاش الحديثة في محلة الكرخ،و سمعت من بعض الأفواه أن المحل الذي سجن فيه الامام معروف عند بعض الأوساط البغدادية،و هو أحد قصور آل الباججي.

و فيه كانت وفاته (1)و قال بعض المؤرخين إنه حبس في بيت السندي و انه كان مع أهله و عياله،و لم نعلم أن دار السندي هل هي دار المسيب أم غيرها؟

2-التضييق عليه

:

و أمر الرشيد جلاده السندي أن يضيق علي الامام،و أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد،و يقفل الباب في وجهه،و لا يدعه يخرج إلا للوضوء (2)و امتثل السندي لذلك،فقام بارهاق الامام و بذل جميع جهوده للتضييق عليه و وكل بمحافظته بشارا مولاه،و كان من أشد الناس بغضا لآل أبي طالب و لكنه لم يلبث أن تغير حاله،وثاب الي طريق الحق و ذلك لما رآه من كرامات الامام(ع)و معاجزه،و قام ببعض الخدمات له (3).

إن السندي لم يرع حرمة الامام و تعرض لإساءته،فقد حدث أبو الأزهر

ص: 487


1- البحار:300/11.
2- الهداية للحسين بن حمدان.
3- البحار:305/11.

ابن ناصح البرجحي قال:اجتمعت مع ابن السكيت (1)في مسجد يقع بالقرب من دار السندي،فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية،و كان في الجامع رجل لا نعرفه فالتفت إلينا قائلا:

«يا هؤلاء،أنتم الي إقامة دينكم احوج منكم الي إقامة السنتكم».

و أخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة علي ضرورة الامامة،ثم قال:

-ليس بينكم،و بين امام العصر غير هذا الجدار-و أشار الي4.

ص: 488


1- ابن السكيت-بكسر السين و تشديد الكاف-أبو يوسف، يعقوب بن اسحاق الدورقي الأهوازي الامامي،النحوي،اللغوي،كان ثقة جليلا من عظماء الشيعة،و يعد من خواص الاماميين التقيين و كان حامل لواء علم العربية،و الأدب،و الشعر،له تصانيف كثيرة منها:تهذيب الالفاظ،و كتاب اصلاح المنطق،قال ابن خلكان:قال بعض العلماء ما عبر علي جسر بغداد كتاب من اللغة مثل(اصلاح المنطق)و لا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة و لا نعرف في حجمه مثله في بابه،و قد عني به جماعة،و اختصره الوزير المغربي،و هذبه الخطيب التبريزي،و قال ثعلب:أجمع أصحابنا أنه لم يكن يعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت،قتله المتوكل في خامس رجب سنة 244 ه و سبب قتله انه قال له يوما أيهما أحب إليك ابناي هذان،أي المعتز و المؤيد،أم الحسن و الحسين،فقال ابن السكيت:و اللّه ان قنبر خادم علي بن أبي طالب(ع)خير منك و من ابنيك،فقال المتوكل للأتراك:سلوا لسانه من قفاه،ففعلوا ذلك فمات،و من الغريب انه قبل قتله بقليل قال: يصاب الفتي من عثرة بلسانه و ليس يصاب من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه و عثرته في الرجل تبرأ عن مهل جاء ذلك في الكني و الألقاب:303/1-304.

جدار السندي.

-لعك تعني هذا المحبوس؟ -نعم.

يقول أبو الأزهر:فعرفنا الرجل من الشيعة،و انه يذهب الي الامامة فقلنا له:قد سترنا عليك،و طلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه، فانبري الرجل لنا و قال:

«و اللّه لا يفعلون ذلك أبدا،و اللّه ما قلت لكم إلا بأمره،و انه ليرانا و يسمع كلامنا،و لو شاء أن يكون ثالثنا لكان».

يقول أبو الأزهر:و في اثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته و وقاره،فعلمنا أنه الامام موسي بن جعفر(ع) فبادرنا قائلا:أنا ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي و في الوقت أقبل السندي و معه جماعة من شرطته فقال للامام بغير حياء و لا خجل:

«يا ويحك،كم تخرج بسحرك و حيلتك من وراء الأبواب و الأغلاق فلو كنت هربت كان أحب الي من وقوفك هاهنا أ تريد يا موسي أن يقتلني الخليفة؟».

فقال له الامام و التأثر باد عليه:

«كيف أهرب،و كرامتي-أي نيلي الشهادة-علي أيديكم» ثم أخذ بيد الامام و أودعه في السجن (1)و هكذا كان يستقبل هذا الطاغية الامام(ع)بكل ما يسوؤه و يؤلمه و يزعجه،و الامام(ع)صابر محتسب قد كظم غيظه،و بث همومه و أشجانه الي اللّه.3.

ص: 489


1- البحار:304/11،المناقب:362/2-363.
3-تفرغه للعبادة

:

و أقبل الامام(ع)علي عبادة اللّه،فكان يصوم في النهار،و يقوم في الليل،و يقضي أغلب أوقاته بالسجود و العبادة،لا يفتر عن ذكر اللّه، و قد ذكرنا حديث اخت السندي عن عبادته في الجزء الأول من هذا الكتاب و أنها لما رأت اقبال الامام علي الطاعة و العبادة أثر ذلك في نفسها،و أصبحت من الصالحات،فكانت تعطف علي الامام و تقوم بخدمته،و إذا نظرت إليه أرسلت ما في عينيها من دموع و هي تقول:«خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» (1).

4-اتصال العلماء به

:

و اتصل جماعة من العلماء و الرواة بالامام(ع)من طريق خفي فانتهلوا من نمير علومه فمنهم موسي بن ابراهيم المروزي،و قد سمح له السندي بذلك لأنه كان معلما لولده،و قد الف ابراهيم كتابا مما سمعه من الامام (2)و قد ذكرنا ذلك عند عرض أصحابه و رواة حديثه.

و اتصل به هند بن الحجاج و غيره من قادة الفكر الاسلامي،كما دخل عليه في غلس الليل أبو يوسف و محمد بن الحسن (3)و قد أرادا اختباره في

ص: 490


1- تأريخ بغداد:31/13.
2- النجاشي:ص 319.
3- محمد بن الحسن الشيباني،مولاهم الكوفي الفقيه،ولد بواسط، و نشأ بالكوفة،أخذ الفقه من أبي يوسف ثم من أبي حنيفة،و سمع مالك بن أنس،و أخذ عنه الشافعي و أبو عبيد،و كان فقيها محدثا جاء ذلك في النجوم الزاهرة:130/2،و جاء في انباه الرواة:268/2 أنه توفي سنة 180 ه،و قيل سنة 183،توفي هو و الكسائي في يوم واحد،و دفنهما الرشيد،و قال اليوم دفنت الفقه و النحو و رثاهما اليزيدي بقصيدة جاء فيها: تصرمت الدنيا فليس خلود و ما قد تري من بهجة سيبيد سيفنيك ما افني القرون التي مضت فكن مستعدا فالفناء عتيد أسيت علي قاضي القضاة محمد فأذريت دمعي و الفؤاد عميد و قلت اذا ما الخطب أشكل من لنا بايضاحه يوما و أنت فقيد و أوجعني موت الكسائي بعده و كادت بي الأرض الفضاء تميد

بعض المسائل المهمة ليطلعا علي مدي علمه و لما استقر بهما المجلس جاء الي الامام بعض الموظفين في السجن فقال له:إن نوبتي قد فرغت و أريد الانصراف،فان كانت لك حاجة فامرني أن آتيك بها غدا،فقال(ع):

ليس لي حاجة انصرف،فلما انصرف،التفت(ع)الي أبي يوسف و صاحبه فقال لهما:

«إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غدا اذا جاء و هو ميت في هذه الليلة»فأمسكا عن سؤاله،و قاما،و قد استولي عليهما الذهول و جعل كل واحد منهما يقول لصاحبه:

أردنا أن نسأله عن الفرض،و السنة،فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب!! و اللّه لنرسلن خلف الرجل من يبيت علي باب داره لينظر ما ذا يكون من أمره؟و أرسلا في الوقت شخصا فجلس علي باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ و العويل قد علا من الدار،فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفي،فقام مبادرا و أخبرهما بالأمر،فتعجبا من علميد

ص: 491

الامام(ع)و قد روي هذه القصة الكثيرون من رواة الأثر (1)و هي إن دلت علي شيء فانما تدل علي علم الامام بالمغيبات،و انكشاف الحجاب له و هذا ما تعتقده الشيعة في الامام،و قد أقامت علي ذلك الأدلة الوافرة.

إن أئمة أهل البيت(ع)قد أخبروا بالملاحم و الامور الغيبية التي تحققت جميعها،و انهم من دون شك ورثة علم النبي(ص)قد ألهمهم اللّه جميع أنواع العلوم و أطلعهم علي خفايا الأمور.

5-ارسال الفتاوي إليه

:

و كانت بعض الأقاليم الاسلامية التي تدين بالامامة ترسل عنها مبعوثا خاصا الي الامام(ع)حينما كان في سجن السندي،فتزوده بالفتاوي و الرسائل فكان(ع)يجيبهم عنها،و ممن جاءه علي بن سويد،فقد اتصل بالامام و سلم إليه الكتب و الفتاوي،فأجابه(ع)عنها،و سوف نذكر حديثه.

ص: 492


1- نور الأبصار:ص 126-127،الاتحاف بحب الأشراف: ص 57-58،البحار:251/11،و جاء فيه زيادة علي ذلك انهما رجعا الي الامام فقالا له:قد علمنا انك أدركت العلم في الحلال و الحرام فمن اين ادركت امر هذا الرجل الموكل بك انه يموت في هذه الليلة؟فقال(ع): من الباب الذي علمه رسول اللّه(ص)علي بن أبي طالب،فلما رد عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب،و كذلك ذكره الأربلي في كشف الغمة: ص 253.
6-نصب الوكلاء

:

و اقام الامام(ع)جماعة من تلاميذه و أصحابه،فجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الاسلامية،و أرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينية منهم، كما وكلهم في قبض الحقوق الشرعية،لصرفها علي الفقراء و البائسين من الشيعة و انفاقها في وجوه البر و الخير،فقد نصب المفضل بن عمر وكيلا له في قبض الحقوق و أذن له في صرفها علي مستحقيها،و كذلك أقام له كلا من حيان السراج،و زياد بن مروان القندي و علي بن أبي حمزة و غيرهم، و قد وصلت لهؤلاء أموال ضخمة من الشيعة إلا أنهم خانوا اللّه و رسوله فاشتروا بها الضياع و القصور و ذهبوا الي الوقف،و أنكروا إمامة الرضا(ع)

7-تعيينه لولي عهده

:

و نصب الامام(ع)من بعده ولده الامام الرضا(ع)فجعله علما لشيعته، و مرجعا لأمة جده،فقد حدث الحسين بن المختار قال:لما كان الامام موسي(ع)في السجن خرجت لنا الواح من عنده و قد كتب فيها«عهدي الي اكبر ولدي» (1).

لقد عين ولده الرضا من بعده و ذلك قبل أن يعتقله الطاغية هارون، و قلده منصب الامامة،و دل عليه الخواص من شيعته،فقد روي محمد بن زيد بن علي بن الحسين قال دعانا أبو ابراهيم و نحن سبعة عشر من ولد علي

ص: 493


1- البحار،اصول الكافي،عيون الأخبار.

و فاطمة،فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية و الوكالة في حياته و بعد موته (1)لقد بين(ع)لهم الحجة من بعده،و لم يهمل أمر الامامة فهدي شيعته الي طريق الحق و الصواب.

8-وصيته

:

و أوصي الامام(ع)ولده الامام الرضا(ع)و عهد إليه بالأمر من بعده و قد أوصاه بوصيتين،و هما يتضمنان ولايته علي صدقاته،و نيابته عنه في شئونه الخاصة و العامة،و قد أشهد عليهما جماعة من المؤمنين،أما الوصية الأولي فلم اعثر عليها،و اما الثانية فقد ذكرها جماعة من الأعلام،و قبل أن يدلي بها و يسجلها أمر باحضار الشهود و هم كل من ابراهيم بن محمد الجعفري و اسحاق بن محمد الجعفري و اسحاق بن جعفر بن محمد،و جعفر بن صالح، و محمد الجعفري،و يحيي بن الحسين بن زيد،و سعد بن عمران الأنصاري، و محمد بن الحارث الأنصاري،و يزيد بن سليط الأنصاري،و محمد بن جعفر ابن سعد الأسلمي-و هو كاتب وصيته الاولي-فلما حضر هؤلاء شرع(ع) بذكر وصيته،و هذا نصها:

«إن موسي يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و أن محمدا عبده و رسوله،و ان الساعة آتية لا ريب فيها،و ان اللّه يبعث من في القبور و أن البعث من بعد الموت حق،و أن الوعد حق،و أن الحساب حق، و القضاء حق،و ان الوقوف بين يدي اللّه حق،و أن ما جاء به محمد(ص) حق،و أن ما أنزل به الروح الامين حق،علي ذلك أحيي و عليه أموت، و عليه أبعث إن شاء اللّه،و أشهدهم أن هذه وصيتي بخطي،و قد نسخت

ص: 494


1- زيد الشهيد:199

وصية جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)و وصية محمد بن علي قبل ذلك نسختها حرفا بحرف،و وصية جعفر بن محمد،علي مثل ذلك،و اني قد أوصيت بها الي علي و بني بعده معه إن شاء و آنس منهم رشدا،و أحب أن يقرهم فذاك له،و لا أمر لهم معه،و أوصيت إليه بصدقاتي و أموالي و موالي و صبياني الذين خلفت و ولدي الي ابراهيم و العباس و قاسم و اسماعيل و أحمد و أم أحمد،و الي علي أمر نسائي دونهم و ثلث صدقة أبي و ثلثي يضعه حيث يري،و يجعل فيه ما يجعل ذو المال في ماله،فان أحب أن يبيع أو يهب أو ينحل أو يتصدق بها علي من سميت له و علي غير من سميت فذاك له،و هو أنا في وصيتي في مالي،و في أهلي و ولدي و إن يري أن يقر إخوته الذين سميتهم في كتابي هذا أقرهم،و إن كره فله أن يخرجهم غير مثرب عليه (1)و لا مردود،فان آنس منهم غير الذي فارقتهم عليه فأحب أن يردهم في ولاية فذاك له،و إن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا باذنه و أمره فانه أعرف بمناكح قومه،و أي سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه و بين شيء مما ذكرت فهو من اللّه و من رسوله بريء،و اللّه و رسوله منه براء،و عليه لعنة اللّه و غضبه و لعنة اللاعنين و الملائكة المقربين و النبيين و المرسلين و جماعة المؤمنين،و ليس لاحد من السلاطين أن يكفه عن شيء،و ليس لي عنده تبعة،و لا تباعة،و لا لاحد من ولدي و له قبلي مال،فهو مصدق فيما ذكر،فان أقل فهو أعلم و ان أكثر فهو الصادق كذلك،و انما أردت بادخال الذين أدخلتهم معه من ولدي التنويه بأسمائهم،و التشريف لهم،و امهات أولادي من أقامت منهن في منزلها و حجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي،إن رأي ذلكر.

ص: 495


1- مثرب:مأخوذ من التثريب و هو التوبيخ و التعيير.

و من خرجت منهن الي زوج فليس لها أن ترجع الي محواي (1)إلا أن يري علي غير ذلك،و بناتي بمثل ذلك،و لا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن،و لا سلطان و لا عم إلا برأيه و مشورته،فان فعلوا غير ذلك فقد خالفوا اللّه و رسوله،و جاهدوه في ملكه،و هو أعرف بمناكح قومه، فان أراد أن يزوج زوج و إن أراد أن يترك ترك،و قد أوصيتهن بما ذكرت في كتابي هذا،و جعلت اللّه عز و جل عليهن شهيدا،و هو و أم أحمد شاهدان و ليس لاحد أن يكشف وصيتي،و لا ينشرها،و هو منها علي غير ما ذكرت و سميت،فمن أساء فعليه،و من أحسن فلنفسه،و ما ربك بظلام للعبيد، و صلي اللّه علي محمد و علي آله،و ليس لأحد من سلطان و لا غيره أن يفض كتابي هذا الذي ختمت عليه الأسفل،فمن فعل ذلك فعليه لعنة اللّه و غضبه و لعنة اللاعنين،و الملائكة المقربين،و جماعة المرسلين و المؤمنين،و علي من فض كتابي هذا» (2).

و وقع(ع)الوصية و ختمها و كذلك وقع عليها الشهود السالفة أسماؤهم و قد دلت بوضوح علي أن وصيه و الحجة من بعده ولده الامام الرضا(ع) فقد فوض إليه جميع شئونه،و الزم أبناءه باتباعه و الانصياع لاوامره كما أمر(ع)أن يكون زواج كريماته بيد الامام الرضا(ع)و تحت مشورته و رأيه فانه أعرف بمناكح قومه من غيره فانهن ودائع رسول اللّه(ص) و كريماته فينبغي أن لا يتزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن و يقدر منزلتهن و لا يعرف الكفؤ لهن إلا ولده الرضا.

و أكبر الظن أنه إنما أمر باخفاء وصيته و عدم ذيوعها خوفا علي ولده من السلطة العباسية التي لم تأل جهدا في محاربة الأئمة و ارهاقهم فأراد(ع)ار

ص: 496


1- المحوي:اسم المكان الذي يحوي الشيء أي يضمه و يجمعه.
2- اصول الكافي:316/1-317،عيون اخبار الرضا،البحار

اخفاءها خوفا علي ولده من نقمتهم و تنكيلهم به.

و ذكر اليعقوبي أن الامام أوصي أن لا تتزوج بناته من بعده فلم تتزوج واحدة منهن إلا أم سلمة فانها تزوج بمصر،تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد،فجري في هذا بينه و بين أهله شيء شديد حتي حلف أنه ما كشف لها كنفا،و انه ما أراد إلا أن يحج بها (1)و هذا القول لا يمكن المساعدة عليه بوجه من الوجوه فان وصية الامام(ع)التي ذكرناها لم تنص علي منع بناته من الزواج،و انما جعلت امر ذلك بيد الامام الرضا(ع) و هذا القول من الغرابة بمكان،لم يذكره احد سواه و هو من الموضوعات اذ كيف يمنع الامام بناته من الاقتران الذي حث عليه الاسلام و ندب إليه

9-أوقافه و صدقاته

:

و تصدق الامام(ع)ببعض أراضيه علي أولاده و سجل ذلك في وثيقة و الزم ابناءه بتنفيذ مضامينها و العمل علي وفقها،و هذا نصها،كتب(ع) بعد البسملة:

هذا ما تصدق به موسي بن جعفر تصدق بأرضه مكان كذا و كذا -و قد عين ذلك-كلها نخلها و أرضها و ماءها و أرجاءها و حقوقها و شربها من الماء و كل حق هو لها في مرفع (2)أو مطهر (3)أو عيص (4)أو

ص: 497


1- تأريخ اليعقوبي:146/3.
2- المرفع:المكان المرتفع.
3- المطهر:المصعد.
4- العيص:بالكسر الشجر الكثير.

مرفق أو ساحة أو مسيل أو عامر أو غامر (1)تصدق بجميع حقه من ذلك علي ولده من صلبه الرجال و النساء يقسم و إليها ما أخرج اللّه عز و جل من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها و مرافقها و بعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين اهل القرية،بين ولد موسي بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين فان تزوجت امرأة من ولد موسي بن جعفر فلا حق لها في هذه الصدقة حتي ترجع إليها بغير زوج،فان رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسي،و من توفي من ولد موسي و له ولد فولده علي سهم أبيهم للذكر مثل حظ الانثيين علي مثل ما شرط موسي بين ولده من صلبه و من توفي من ولد موسي و لم يترك ولدا رد حقه علي أهل الصدقة و ليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق إلا أن يكون آباؤهم من ولدي و ليس لأحد في صدقتي حق مع ولدي و ولد ولدي و أعقابهم ما بقي منهم أحد،فان انقرضوا و لم يبق منهم أحد فصدقتي علي ولد أبي من أمي ما بقي منهم أحد،ما شرطت بين ولدي و عقبي،فان انقرض ولد أبي من أمي و أولادهم فصدقتي علي ولد أبي و أعقابهم ما بقي منهم أحد فان لم يبق منهم أحد فصدقتي علي الأولي فالأولي حتي يرث اللّه الذي يرثها و هو خير الوارثين.

تصدق موسي بن جعفر بصدقته هذه و هو صحيح،صدقة حبيسا بتا بتلا لا مثنوية فيها (2)و لا ردا أبدا ابتغاء وجه اللّه تعالي و الدار الآخرة،و لا يحل لمؤمن يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها،أو يغير شيئا مما وضعتها عليه حتي يرث اللّه الأرض و من عليها،و جعل صدقته هذه الي علي و إبراهيم فان انقرض أحدهما دخل القسم مع الباقي في مكانه فان انقرض أحدهما دخل اسماعيل مع الباقي منهما،فان انقرض أحدهماء.

ص: 498


1- الغامر:الخراب.
2- لا مثنوية فيها:اي لا استثناء.

دخل العباس مع الباقي منهما،فان انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فان لم يبق من ولدي إلا واحد فهو الذي يقوم به..» (1).

ان هذا الوقف الذري هو بعض مبراته و خيراته،و قد خص به أبناءه و ذريته لأجل أن تقوم تلك الغلة بشئونهم و تغنيهم عما في أيدي الناس.

10-ترفعه من المطالبة باطلاقه

:

و بعد ما مكث الامام(ع)زمانا طويلا في سجن هارون تكلم معه جماعة من خواص شيعته فطلبوا منه أن يتكلم مع بعض الشخصيات المقربة عند الرشيد ليتوسط في اطلاق سراحه،فامتنع(ع)و ترفع عن ذلك و قال لهم:

«حدثني أبي عن آبائه أن اللّه عز و جل أوحي الي داود،يا داود إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني،و عرفت ذلك منه إلا قطعت عنه أسباب السماء،و اسخت الأرض من تحته» (2).

و دلت هذه البادرة علي مدي ايمانه باللّه و انقطاعه إليه،و رضائه بقضائه و ترفعه من سؤال أي أحد من المخلوقين.

11-كتابه لهارون

:

و أرسل الامام(ع)و هو في السجن رسالة لهارون أعرب فيها عن سخطه البالغ عليه،و هذا نصها:

ص: 499


1- البحار:215/11-216.
2- تأريخ اليعقوبي:125/3.

«إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتي ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتي نفني جميعا الي يوم ليس له انقضاء،و هناك يخسر المبطلون» (1)و دلت هذه الرسالة علي مدي الآلام المرهقة التي حلت به،و جزعه من السجن،و انه سيحاكم خصمه الطاغي عند اللّه تعالي في يوم يخسر به المبطلون و الظالمون.

12-ارسال جارية له

:

و أنفذ هارون الي الامام(ع)جارية ضاءة بارعة في الجمال و الحسن أرسلها بيد أحد خواصه لتتولي خدمة الامام ظانا أنه سيفتتن بها،فلما وصلت إليه قال(ع)لمبعوث هارون:

«قل لهارون:بل أنتم بهديتكم تفرحون،لا حاجة لي في هذه و لا في أمثالها».

فرجع الرسول و معه الجارية و أبلغ هارون قول الامام فالتاع غضبا و قال له:

«ارجع إليه،و قل له:ليس برضاك حبسناك و لا برضاك أخدمناك و اترك الجارية عنده،و انصرف».

فرجع ذلك الشخص و ترك الجارية عند الامام و أبلغه بمقالته،و أنفذ هارون خادما له الي السجن ليتفحص عن حال الجارية،فلما انتهي إليها رآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها و هي تقول في سجودها«قدوس،قدوس» فمضي الخادم مسرعا فأخبره بحالها فقال،هارون:

«سحرها و اللّه موسي بن جعفر علي بها!!»

ص: 500


1- البداية و النهاية:183/10،تأريخ بغداد.

فجيء بها إليه،و هي ترتعد قد شخصت ببصرها نحو السماء و هي تذكر اللّه و تمجده،فقال لها هارون:

-ما شأنك؟ -شأني الشأن البديع،إني كنت عنده واقفة،و هو قائم يصلي ليله و نهاره،فلما انصرف من صلاته قلت له:

هل لك حاجة اعطيكها؟ فقال الامام:و ما حاجتي إليك؟ -قلت:إني أدخلت عليك لحوائجك.

قال الامام:فما بال هؤلاء-و أشار بيده الي جهة-فالتفت،فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري،و لا أولها من آخرها،فيها مجالس مفروشة بالوشي و الديباج،و عليها وصائف و وصايف لم أر مثل وجوههم حسنا،و لا مثل لباسهم لباسا،عليهم الحرير الأخضر،و الأكاليل و الدر و الياقوت،و في أيديهم الأباريق و المناديل،و من كل الطعام فخررت ساجدة حتي أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت،فقال لها هارون، و قد اترعت نفسه بالحقد.

-يا خبيثة لعلك سجدت،فنمت فرأيت هذا في منامك.

-لا و اللّه يا سيدي،رأيت هذا قبل سجودي،فسجدت من أجل ذلك.

فالتفت الرشيد الي خادمه،و أمره باعتقال الجارية،و اخفاء الحادث لئلا يسمعه أحد من الناس فأخذها الخادم،و اعتقلها عنده،فأقبلت علي العبادة و الصلاة،فاذا سئلت عن ذلك قالت:هكذا رأيت العبد الصالح، و قالت إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة،ابعدي عن العبد الصالح حتي ندخل عليه فنحن له دونك،و بقيت عاكفة علي العبادة حتي

ص: 501

لحقت بالرفيق الأعلي (1).

لقد كان هارون يشاهد أنواع الكرامات من الامام(ع)و لكنه لم يؤمن بها لأنه قد زاغ قلبه،و استولت علي نفسه دكنة قاتمة أنسته ذكر اللّه و أبعدته عن اليوم الآخر.

13-فشل اغتياله

:

و لما انتشرت مناقب الامام(ع)،و فضائله،و تحدث الناس عن علمه و حلمه،و صبره و بلواه،ضاق هارون من ذلك فعزم علي قتله فدعا برطب فأكل منه،ثم أخذ إناء فوضع فيه عشرين رطبة،و أخذ سلكا فعركه في في السم،و أدخله في سم الخياط،و أخذ رطبة من ذلك الرطب فوضع فيها ذلك السلك و أخرجه منها حتي تكللت بالسم،و وضعها في ذلك الرطب، و قال لخادمه:احمله الي موسي بن جعفر،و قل له:إن أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب،و هو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره،فاني اخترتها لك بيدي،و لا تتركه يبقي منه شيئا،و لا يطعم منه أحدا،فحمل الخادم الرطب و جاء به الي الامام،و أبلغه برسالة هارون فأمره(ع):أن يأتيه بخلال،فجاء به إليه،و قام بازائه،فأخذ الامام يأكل من الرطب،و كانت للرشيد كلبة عزيزة عنده،فجذبت نفسها و خرجت تجر بسلاسلها الذهبية حتي حاذت الامام فبادر(ع)بالخلال الي الرطبة المسمومة و رمي بها الي الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض و ماتت،و استوفي الامام باقي الرطب و حمل الغلام الاناء الي الرشيد،فلما رآه بادره قائلا:

-قد أكل الرطب عن آخره؟

ص: 502


1- المناقب:263/2-264.

-نعم يا أمير المؤمنين.

-كيف رأيته؟ -ما أنكرت منه شيئا،ثم قص عليه حديث الكلبة و موتها فاضطرب الرشيد و قام بنفسه فأشرف عليها فرآها و قد تهرتت و تقطعت من السم فوقف مذهولا قد مشت الرعدة بأوصاله و قال:

«ما ربحنا من موسي إلا أن أطعمناه جيد الرطب و ضيعنا سمنا و قتلنا كلبتنا ما في موسي حيلة» (1).

لقد باء بالفشل و الخيبة فلم تنجح محاولته في اغتيال الامام(ع)فأنقذه اللّه منه و صرف عنه السوء.

14-توسط يحيي في إطلاقه

:

و لما انتشرت معاجز الامام و مناقبه تحير هارون من أمره،فكل وسيلة يسلكها للقضاء عليه تبوء بالفشل فاستدعي وزيره يحيي بن خالد فقال له:

«يا أبا علي أ ما تري ما نحن فيه من هذه العجائب؟أ لا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا تريحنا من غمه».

فأشار عليه بالصواب و أرشده الي الخير فقال له:

«الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمن عليه و تصل رحمه فقد و اللّه أفسد علينا قلوب شيعتنا».

فاستجاب الرشيد لنصحه و قال له:

انطلق إليه و اطلق عنه الحديد و ابلغه عني السلام و قل له:يقول لك

ص: 503


1- البحار:299/11.

ابن عمك:إنه قد سبق مني فيك يمين اني لا أخليك حتي تقر لي بالاساءة و تسألني العفو عما سلف منك و ليس عليك في اقرارك عار و لا في مسألتك إياي منقصة،و هذا يحيي بن خالد ثقتي و وزيري و صاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني».

و قد أراد هارون بذلك أن يأخذ من الامام اعترافا بالاساءة و الذنب ليصدر مرسوما ملكيا بالعفو عنه،فيتخذ من ذلك وسيلة الي التشهير به كما انه يكون مبررا له في نفس الوقت علي سجنه له،و لم يخف علي الامام(ع) ذلك فانه لما مثل يحيي عنده و أخبره بمقالة هارون انبري إليه-أولا-فأخبره بما يجري عليه و علي أسرته من زوال النعمة علي يد هارون،و حذره من بطشه،ثم رد-ثانيا-علي مقالة هارون فقال له:

«يا أبا علي،ابلغه عني،يقول لك موسي بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما تري-أي بموته-و ستعلم غدا إذا جاثيتك بين يدي اللّه من الظالم و المعتدي علي صاحبه؟».

يا لمهزلة الزمن من فقدان المقاييس،و ضياع الحقيقة،أمثل الامام موسي(ع)فريد عصره في تقواه و ورعه يريد أن يلبسه هارون ثوب الاساءة إليه،و يتبرأ من الذنب.

و خرج يحيي و هو لا يبصر طريقه من الألم و الجزع قد احمرت عيناه من البكاء لما رأي الامام(ع)بتلك الحالة،فأخبر هارون بمقالته،فقال مستهزئا و ساخرا:

«إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا؟؟!» و لم تمض الجمعة حتي التحق الامام بالرفيق الأعلي فكان كما أخبر(ع) (1)2.

ص: 504


1- البحار:301/11-302.
15-الامام ينعي نفسه

:

و لما علم الامام موسي(ع)ان لقاءه بربه لقريب نعي نفسه لبعض شيعته،و عزاهم بمصيبته،و أوصاهم بالتمسك بالعروة الوثقي من آل محمد صلي اللّه عليه و آله،و ذلك في جوابه عن المسائل التي بعثها علي بن سويد فقد حدث أنه بعث له حينما كان في السجن ببعض المسائل يسأله عنها، فتأخر الجواب عنه اشهرا،و بعد ذلك أجابه بهذا الجواب،و قد جاء فيه بعد البسملة ما نصه:

«الحمد للّه العلي العظيم الذي بعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين و بعظمته و نوره عاداه الجاهلون،و بعظمته و نوره ابتغي من في السماوات و الأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة و الأديان المتضادة،فمصيب و مخطئ و ضال و مهتدي،و سميع و أصم،و بصير و أعمي،حيران فالحمد للّه الذي عرف و وصف دينه محمد(ص).

أما بعد:فانك امرؤ أنزلك اللّه من آل محمد بمنزلة خاصة،و حفظ مودة ما استرعاك من دينه،و ما ألهمك من رشدك،و بصرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم و بردك الأمور إليهم،كتبت إلي تسألني عن أمور كنت منها في تقية و من كتمانها في سعة فلما انقضي سلطان الجبابرة و جاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة الي أهلها العتاة علي خالقهم رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة علي ضعاف شيعتنا من قبل جهالهم، فاتق اللّه عز ذكره،و خص بذلك الأمر أهله و احذر أن تكون سبب بلية علي الأوصياء أو حارشا عليهم (1)بافشاء ما استودعتك،و إظهار ما استكتمتك

ص: 505


1- التحريش:هو اغراء بعض القوم ببعض.

و ان تفعل إن شاء اللّه.

إن أول ما أنهي إليك اني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه غير جازع و لا نادم و لا شاك فبما هو كائن مما قد قضي اللّه عز و جل و ختم،فاستمسك بعروة الدين،آل محمد و العروة الوثقي الوصي بعد الوصي،و المسالمة لهم و الرضا بما قالوا:و لا تلتمس دين من ليس من شيعتك،و لا تحبن دينهم فانهم الخائنون الذين خانوا اللّه و رسوله و خانوا أمانتهم،أو تدري ما خانوا أمانتهم؟ائتمنوا علي كتاب اللّه فحرفوه و بدلوه و دلوا علي ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم فأذاقهم اللّه لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون، و سألت عن رجلين اغتصبا رجلا مالا كان ينفقه علي الفقراء و المساكين و أبناء السبيل و في سبيل اللّه فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتي حملاه إياه كرها فوق رقبته الي منازلهما فلما أحرزاه توليا انفاقه أ يبلغان بذلك كفرا؟فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا علي اللّه عز و جل كلامه و هزئا برسوله(ص)و هما الكافران عليهما لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين،و اللّه ما دخل قلب أحد منهما شيء من الايمان منذ خروجهما من حالتيهما،و ما زادا إلا شكا،كانا خداعين مرتابين منافقين حتي توفتهما ملائكة العذاب الي محل الخزي في دار المقام.

و سألت عمن حضر ذلك الرجل و هو يغصب ماله و يوضع علي رقبته منهم عارف و منكر فاولئك أهل الردة الأولي من هذه الامة فعليهم لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين.

و سألت عن مبلغ علمنا،و هو علي ثلاثة وجوه ماض و غابر و حادث فأما الماضي فمفسر و اما الغابر فمزبور (1)و اما الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا،و لا نبي بعد نبينا محمد(ص)و سألتز.

ص: 506


1- في بعض النسخ:فمرموز.

عن امهات أولادهم و عن نكاحهم و عن طلاقهم،فأما امهات أولادهم فهن عواهر الي يوم القيامة نكاح بغير ولي و طلاق في غير عدة،و أما من دخل في دعوتنا فقد هدم ايمانه ضلاله و يقينه شكه،و سألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فانتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم و أين كان.

و سألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة،و لم يعرف الاختلاف،فاذا عرف الاختلاف فليس بضعيف،و سألت عن الشهادة لهم،فاقم الشهادة للّه عز و جل و لو علي نفسك و الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم فان خفت علي اخيك ضيما فلا وادع الي شرائط اللّه عز ذكره من رجوت اجابته و لا تحصن بحصن رياء (1).

و وال آل محمد و لا تقل لما بلغك عنا و نسب إلينا هذا باطلا و ان كنت تعرف منا خلافه فانك لا تدري لما قلناه و علي أي وجه وضعناه،آمن بما أخبرك،و لا تفش بما استكتمناك من خبرك،إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه و آخرته و لا تحقد عليه و إن أساء و أجب دعوته إذا دعاك و لا تخل بينه و بين عدوه من الناس و ان كان أقرب إليه منك وعده في مرضه،ليس من أخلاق المؤمن الغش و لا الأذي،و لا الخيانة و لا الكبر و لا الخنا و لا الفحش و لا الأمر به،فاذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك و لشيعتك المؤمنين،و اذا انكسفت الشمس فارفع بصرك الي السماء و انظر ما فعل اللّه بالمجرمين،فقد فسرت لك جملا مجملا،و صلي اللّه علي محمد و آله الأخيار..» (2).6.

ص: 507


1- في بعض النسخ«و لا تحضر حصن زنا».
2- روضة الكافي:ص 124-126.

و قد احتوت هذه الرسالة علي أمور خطيرة،قد ذكرت بالتفصيل في«مرآة العقول».

16-اغتياله

:

لقد عاني الامام أقسي الوان الخطوب و التنكيل،فتكبيل بالقيود، و تضييق شديد،و أذي مرهق،و بعد ما صب عليه الرشيد جميع النكبات الموجعة دس إليه سما فاتكا،فقضي عليه،و مضي لربه شهيدا سعيدا.

17-الأقوال في سمه
اشارة

:

و اتفق اكثر المؤرخين أن الامام لم يمت حتف أنفه،و انما توفي مسموما،و ان الرشيد هو الذي أوعز في سمه و اغتياله،و لكنهم اختلفوا فيمن تولي ذلك،و هذه بعض الأقوال:

(أ)يحيي بن خالد:

و اعتقدت القطعية أن يحيي بن خالد دس الي الامام سما في رطب و عنب فقتله (1)و مما يؤيد ذلك ما رواه عبد اللّه بن طاوس قال:

سألت الامام الرضا(ع)قلت له:

هل أن يحيي بن خالد سم أباك موسي بن جعفر؟ فقال الامام:نعم سمه في ثلاثين رطبة مسمومة (2).

ص: 508


1- فرق الشيعة:ص 89.
2- الكشي:ص 371.

و ذكر أبو الفرج الاصفهاني أن الرشيد لما غضب علي الفضل بن يحيي لترفيهه علي الامام حينما كان في سجنه،و أمره بجلده خرج يحيي من عند الرشيد و قد ماج الناس و اضطرب أمرهم فجاء الي بغداد و دعا السندي بن شاهك و أمره بقتل الامام،فاستدعي السندي الفراشين و كانوا من النصاري فأمرهم بلف الامام في بساط فلف و هو حي فجلس عليه الفراشون حتي توفي (1).

و ذكر ابن المهنا ان الرشيد لما سافر الي الشام أمر يحيي بن خالد السندي بقتله فقتله (2)و هذه الروايات قد اتفقت علي أن يحيي هو الذي أمر بقتل الامام(ع)و لكنها مخالفة لما عليه المشهور في أن الرشيد عهد الي السندي بقتله.

(ب)-الفضل بن يحيي:

و نصت بعض المصادر أن الفضل بن يحيي هو الذي سم الامام و ذلك حينما نقل الي سجنه فكان الفضل بن الربيع يبعث له في كل يوم مائدة من الطعام،و في اليوم الرابع قدم له الفضل بن يحيي مائدة،فرفع الامام(ع) يده الي السماء و قال:يا رب،إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت علي نفسي،ثم أكل الامام من تلك المائدة،فمرض منها،فلما كان اليوم الثاني ألم به المرض،فجيء له بطبيب ليسأله عن علته، فقال له:

«ما حالك؟» فتغافل الامام عن إجابته،فألح عليه الطبيب بالسؤال،فأخرج له

ص: 509


1- مقاتل الطالبيين:504.
2- عمدة الطالب:ص 185.ط.النجف.

الامام راحته ثم قال له:

«هذه علتي» و كانت يده الشريفة قد اخضر وسط راحتها من السم،فلما رآها الطبيب انصرف و قال لهم:

«و اللّه لهو أعلم بما فعلتم به منكم (1).

و هذه الرواية لا يمكن المساعدة عليها،و ذلك لما عرف به الفضل من الميل للعلويين،و انه قد رفه علي الامام حينما كان في سجنه،فاستحق بذلك التنكيل و الجلد و التشهير من قبل الرشيد،و مع هذا فكيف يتصور اقدامه علي اغتيال الامام و قتله.

(ج)السندي بن شاهك:

و ذهب اكثر المؤرخين و المترجمين للامام الي أن الرشيد أوعز الي السندي ابن شاهك الوغد الأثيم في قتل الامام،فاستجابت نفسه الخبيثة لذلك، و أقدم علي تنفيذ أفظع جريمة في الاسلام فاغتال سبط النبي(ص)و أزكي ذات خلقت في دنيا الوجود بعد آبائه الطيبين،فعلي السندي لعنة اللاعنين و له الخزي و العذاب الأليم.

18-كيفية سمه

:

و المشهور أن الرشيد عمد الي رطب فوضع فيه سما فاتكا و أمر السندي أن يقدمه الي الامام و يحتم عليه أن يتناول منه (2).

و قيل إن الرشيد أوعز الي السندي في ذلك،فأخذ رطبا و وضع فيه

ص: 510


1- عيون أخبار الرضا.
2- الدمعة الساكبة نقلا عن عيون الأخبار.

السم و قدمه للامام فأكل منه عشر رطبات،فقال له السندي:

«زد علي ذلك».

فرمقه الامام بطرفه و قال له:

«حسبك،قد بلغت ما تحتاج إليه» (1).

و لما تناول الامام(ع)تلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه،و أخذ يعاني آلاما مبرحة و أوجاعا قاسية،و أحاط به الأسي و الحزن،قد حفت به الشرطة القساة،و لازمه السندي بن شاهك الوغد الخبيث،فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام و أغلظه و أقساه،و منع عنه جميع الاسعافات ليعجل له النهاية المحتومة،و عاني الامام العظيم في تلك الفترات الرهيبة ما لم يعانه أي انسان،فآلام السم قد أذابت قلبه و قطعت أوصاله،و احزنه أي حزن انتهاك حرمته،و غربته و عدم مشاهدة اعزائه و أحبائه،و هو قد أشرف علي مفارقة الحياة.

19-اضطراب السندي

:

و لما أقدم السندي علي ارتكاب الجريمة الخطيرة،اضطرب اضطرابا شديدا،و خاف خوفا بالغا من المسئولية أمام الشيعة و العلويين،فاستدعي الشخصيات و الوجوه الي قاعة السجن،و كانوا ثمانين شخصا-كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة-يقول:احضرنا السندي،فلما حضرنا،انبري إلينا فقال:

«انظروا الي هذا الرجل هل حدث به حدث؟فان الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه،و يكثرون من ذلك،و هذا منزله و فراشه موسع

ص: 511


1- البحار.

عليه غير مضيق،و لم يرد به أمير المؤمنين-يعني هارون-سوءا و انما ينتظره أن يقدم فيناظره،و ها هو ذا موسع عليه في جميع أموره فاسألوه».

يقول ذلك الشيخ:و لم يكن لنا هم سوي مشاهدة الامام و مقابلته فلما دنونا منه لم نر مثله قط في فضله و نسكه فانبري إلينا و قال لنا:

«أما ما ذكر من التوسعة،و ما أشبه ذلك،فهو علي ما ذكر،غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات،و اني أصفر غدا و بعد غد أموت».

و لما سمع السندي ذلك انهارت قواه،و مشت الرعدة بأوصاله و اضطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة (1)فقد أفسد عليه الامام ما رامه من الحصول علي البراءة من المسئولية في قتله.

و روي أنه علي أثر ذلك أمر بالامام(ع)فلف في بساط و أجلس الفراشين عليه حتي فارق الحياة.

20-مع المسيب بن زهرة

:

كان المسيب بن زهرة موكلا بحراسة الامام(ع)أو انه نقل من حبس السندي الي داره علي ما يستفاد من بعض المصادر،و كان الرجل من دعاة

ص: 512


1- روضة الواعظين:ص 185-186،عيون الأخبار،الأمالي، و جاء في البحار ان الامام(ع)التفت الي الشهود،فقال لهم:اشهدوا علي أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام،اشهدوا اني صحيح الظاهر،لكني مسموم و سأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة و أبيض بعد غد،و أمضي الي رحمة اللّه و رضوانه،فمضي(ع)كما قال:في آخر اليوم الثالث،و جاء في قرب الاسناد للحميري أنه(ع)قال للشهود:أني سقيت السم في سبع تمرات.

الدولة العباسية،فقد ولي شرطة بغداد أيام المنصور و المهدي و الرشيد،كما ولي خراسان أيام المهدي (1)و كان علي جانب من الغلظة و الشدة،فكان أبو جعفر المنصور إذا أراد بأحد خيرا أمر بتسليمه الي الربيع،و إذا أراد برجل شرا أمر بتسليمه الي المسيب (2)و لما حبس الامام عنده أو وكل بحبسه أثر عليه الامام و هيمن علي مشاعره،فاهتدي الي طريق الحق و الصواب فكان من خلص الشيعة و من حملة أسرار الأئمة (3)و قد استدعاه الامام قبل وفاته بثلاثة أيام فلما مثل عنده قال له:

-يا مسيب -لبيك يا مولاي -إني ظاعن في هذه الليلة الي المدينة،مدينة جدي رسول اللّه(ص) لأعهد الي علي ابني ما عهده إلي آبائي،و أجعله وصيي و خليفتي،و آمره بأمري.

-يا مولاي،كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب و أقفالها و الحرس معي علي الأبواب؟؟!.

-يا مسيب ضعف يقينك في اللّه عز و جل و فينا؟3.

ص: 513


1- تأريخ بغداد:137/13،و جاء فيه أن وفاته كانت سنة 275 ه و قيل سنة 276 ه و هذا لا يتفق مع ما ذكر من أن الامام كان في سجنه أو كان موكلا بحراسته،فان الامام(ع)توفي سنة 183 ه و الصحيح انه توفي سنة 185 ه او 186 ه و يدل علي ذلك انه كان واليا علي شرطة بغداد أيام الرشيد فلا بد أن تكون وفاته قريبة مما ذكرناه،و لعل ما ذكر كان اشتباها مطبعيا.
2- الجهشياري:ص 97.
3- تنقيح المقال:217/3.

-لا،يا سيدي ادع اللّه أن يثبتني -اللهم،ثبته،ثم قال:ادعو اللّه عز و جل باسمه العظيم الذي دعا به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه،حتي يجمع بيني و بين علي ابني بالمدينة.

قال المسيب:فسمعته يدعو،ففقدته عن مصلاه فلم أزل قائما علي قدمي حتي رأيته قد عاد الي مكانه و اعاد الحديد الي رجليه،فوقعت علي وجهي ساجدا شاكرا للّه علي ما أنعم به علي من معرفته،و التفت الامام(ع)له فقال:

«يا مسيب،ارفع رأسك،و اعلم أني راحل الي اللّه عز و جل في ثالث هذا اليوم».

قال المسيب:فبكيت،فلما رآني الامام(ع)و أنا باك حزين قال لي:

«لا تبك يا مسيب فان عليا ابني هو إمامك،و مولاك بعدي فاستمسك بولايته فانك لن تضل ما لزمته»قال المسيب:الحمد للّه علي ذلك (1)

21-الي الرفيق الأعلي

:

و سري السم في جميع اجزاء بدن الامام(ع)فأخذ يعاني أشد الآلام و الأوجاع،و قد علم(ع)أن لقاءه بربه لقريب فاستدعي السندي،فلما مثل عنده أمره أن يحضر مولي له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولي غسله،و سأله السندي أن يأذن له في تكفينه،فأبي(ع)و قال:إنا أهل بيت مهور نسائنا و حج صرورتنا و أكفان موتانا من طاهر أموالنا، و عندي كفني (2)و أحضر له السندي مولاه،و ثقل حال الامام،و أشرف

ص: 514


1- عيون الأخبار،البحار.
2- مقاتل الطالبيين:ص 504،البحار:303/11.

علي النهاية المحتومة،فأخذ يعاني آلام الموت،فاستدعي المسيب بن زهرة فقال له:

«إني علي ما عرفتك من الرحيل الي اللّه عز و جل فاذا دعوت بشربة من ماء فشربتها و رأيتني قد انتفخت،و اصفر لوني و احمر و اخضر و تلون ألوانا فاخبر الطاغية بوفاتي».

قال المسيب:فلم أزل أراقب وعده حتي دعا(ع)بشربة فشربها، ثم استدعاني،فقال لي:

«يا مسيب،إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولي غسلي و دفني،و هيهات هيهات أن يكون ذلك أبدا،فاذا حملت الي المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدوني بها،و لا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات،و لا تأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به،فان كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي(ع)فان اللّه عز و جل جعلها شفاء لشيعتنا و أوليائنا».

قال المسيب:ثم رأيت شخصا أشبه الاشخاص به جالسا الي جانبه، و كان عهدي بسيدي الرضا(ع)و هو غلام،فأردت أن أسأله،فصاح بي سيدي موسي،و قال:أ ليس قد نهيتك،ثم أن ذلك الشخص قد غاب عني،فجئت الي الامام و إذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فانهيت الخبر الي الرشيد بوفاته (1).

لقد لحق الامام بالرفيق الأعلي،و فاضت نفسه الزكية الي بارئها فأظلمت الدنيا لفقده و أشرقت الآخرة بقدومه،و قد خسر الاسلام و المسلمون ألمع شخصية كانت تذب عن كيان الاسلام،و تنافح عن كلمة التوحيد، و تطالب بحقوق المسلمين و تشجب كل اعتداء غادر عليهم.ا.

ص: 515


1- عيون اخبار الرضا.

لقد مات أبر الناس بالناس،و أعطفهم علي الضعفاء و الفقراء الذي أثلج قلوبهم بصراره و هباته و عطاياه،و كشف عنهم شقاء الحياة و مرارة العيش.

لقد مات أحلم الناس،و أكظمهم للغيظ و المكروه،و قد طويت بموته صفحة من أروع صفحات العقيدة الاسلامية،و لف علم من أعلام الجهاد و الكفاح.

ففي ذمة اللّه أيها الامام العظيم،لقد مضيت الي اللّه شهيدا سعيدا قد تلفعت بثوب الشهادة و الكرامة،و قد لحقت باللّه و أنت مظلوم مقهور،قد صب عليك الطاغية الأثيم جام غضبه و أذاقك جميع ضروب الأذي و أنواع الارهاق لأنك لم تجاره و لم تصانعه بل كنت من أقوي خصومه تنعي عليه ظلمه و تندد باسرافه و تبذيره بأموال المسلمين،و تشجب استبداده و جوره.

لقد مضيت الي اللّه و أنت شهيد سعيد قد فزت برضاء اللّه لأنك لم توارب و لم تخادع بل رفعت راية الحق و هتفت بالعدل و أردت الخير و السعادة لجميع المسلمين،و قد خسر خصمك،و بطل سعيه،و أخمد ذكره،فها هو لا يذكر إلا قرين الخيبة و الخسران.

فسلام عليك يا ابن رسول اللّه،يوم ولدت،و يوم مت،و يوم تبعث حيا.

22-زمن وفاته

:

و المشهور أن وفاة الامام(ع)كانت سنة«173 ه»لخمس بقين من شهر رجب (1).

ص: 516


1- ابن خلكان:173/2،تأريخ بغداد:32/13،الطبري:70/10

و قيل سنة«181 ه» (1)،و قيل سنة«186 ه» (2).

و كانت وفاته في يوم الجمعة و عمره الشريف كان يوم وفاته أربعا و خمسين سنة (3)أو خمسا و خمسين،و كان مقامه منها مع أبيه عشرين سنة و بعد أبيه خمسا و ثلاثين سنة (4).

23-محل وفاته

:

و المشهور أن وفاته كانت في حبس السندي بن شاهك،و قيل انه توفي في دار المسيب بن زهرة بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة (5)و قيل إن وفاته في مسجد هارون،و هو المعروف بمسجد المسيب،و يقع في الجانب الغربي من باب الكوفة لأنه نقل من دار تعرف بدار عمرو (6).

24-تحقيق الشرطة في الحادث

:

و قامت الشرطة بدورها في التحقيق في هذا الحادث الخطير،لتبرأ

ص: 517


1- ابن الأثير:54/6،تأريخ الخميس:371/2،تأريخ أبي الفداء: 17/2،تهذيب التهذيب:340/10،ميزان الاعتدال:209/3،عمدة الطالب:ص 85.
2- مروج الذهب:273/3.
3- المناقب:383/2.
4- الفصول المهمة:ص 255.
5- البحار:300/11.
6- المناقب:384/2.

ساحة هارون من المسئولية،أما التحقيق فقد قام به السندي-أولا- و الرشيد-ثانيا-أما ما قام به السندي فكان في مواضع ثلاثة:

«الاول»:ما حدث به عمرو بن واقد،قال:أرسل إلي السندي ابن شاهك في بعض الليل و أنا ببغداد يستحضرني،فخشيت أن يكون لسوء يريده بي،فأوصيت عيالي بما احتجت إليه،و قلت إنا للّه و انا إليه راجعون ثم ركبت إليه،فلما رآني مقبلا قال لي:

-يا أبا حفص،لعلنا أرعبناك و أزعجناك؟ -نعم.

-ليس هنا إلا الخير.

-فرسول تبعثه الي منزلي ليخبرهم خبري.

-نعم.

و لما هدأ روعه و ذهب عنه الخوف،قال له السندي:

-يا أبا حفص أ تدري لم أرسلت إليك؟ -لا.

-أ تعرف موسي بن جعفر؟ -اي و اللّه إني أعرفه و بيني و بينه صداقة منذ دهر.

-هل ببغداد ممن يقبل قوله تعرفه أنه يعرفه؟ -نعم.

ثم أنه سمي له أشخاصا ممن يعرفون الامام،فبعث خلفهم،فقال لهم:هل تعرفون قوما يعرفون موسي بن جعفر؟فسموا له قوما،فأحضرهم و قد استوعب الليل بفعله حتي انبلج نور الصبح،و لما كمل عنده من الشهود نيف و خمسون رجلا أمر باحضار كاتبه-و يعرف اليوم بكاتب الضبط- فأخذ في تسجيل أسمائهم و منازلهم و أعمالهم،و صفاتهم،و بعد انتهائه من

ص: 518

الضبط دخل علي السندي فعرفه بذلك،فخرج من محله،و التفت الي عمرو فقال له:

«قم يا أبا حفص،فاكشف الثوب عن وجه موسي بن جعفر» قال عمرو:فكشفت الثوب عن وجه الامام و إذا به قد مات،و التفت السندي الي الجماعة فقال لهم:انظروا إليه،فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه،ثم قال لم:

«تشهدون كلكم أن هذا موسي بن جعفر؟» -نعم.

ثم أمر غلامه بتجريد الامام من ملابسه،ففعل الغلام ذلك ثم التفت الي القوم فقال لهم:

«أ ترون به أثرا تنكرونه؟».

فقالوا:لا،ثم سجل شهادتهم و انصرفوا (1).

«الموضع الثاني»انه استدعي الفقهاء و وجوه أهل بغداد و فيهم الهيثم بن عدي (2)ة.

ص: 519


1- البحار:300/11.
2- الهيثم بن عدي الطائي أبو عبد الرحمن المينجي،قال البخاري: ليس بثقة كان يكذب،و قال النسائي و غيره:انه متروك الحديث،و حدثت جارية له،فقالت:ان مولاي كان يقوم عامة الليل يصلي فاذا أصبح جلس يكذب،جاء ذلك في ميزان الاعتدال:265/3-266،و قيل انه كان يري رأي الخوارج و كان له اختصاص بالمنصور و المهدي و الرشيد،دخل عليه أبو نواس فسأله عن مسألة فتقاعس عن جوابه فقال في هجائه: يا هيثم بن عدي لست للعرب و لست من طي إلا علي شغب اذا نسبت عديا من بني ثعل فقدم الدال قبل العين في النسب توفي سنة«208 ه»جاء ذلك في انباه الرواة.

و غيره فنظروا الي الامام و هو ميت لا أثر به و شهدوا علي ذلك (1).

«الثالث»انه لما وضع الجثمان المقدس علي حافة القبر جاء رسول من قبل السندي فأمر بكشف وجه الامام للناس ليروه أنه صحيح لم يحدث به حدث (2).

و هذه الاجراءات المهمة التي اتخذها السندي بن شاهك انما جاءت لتبرير ساحة الحكومة من المسئولية،و تنزيهها عن ارتكاب الجريمة،و لكن الامام(ع)قد أفسد عليه صنعه و كشف للناس ان هارون هو الذي اغتاله بالسم كما ذكرناه سابقا.

و أما ما اتخذه هارون من الاجراءات لرفع الشبهة التي حامت حوله فانه جمع شيوخ الطالبيين و العباسيين،و سائر أهل مملكته،و الحكام،فقال لهم:

«هذا موسي بن جعفر قد مات حتف أنفه،و ما كان بيني و بينه ما استغفر اللّه منه-يعني في قتله-فانظروا إليه».

فدخل علي الامام سبعون رجلا من شيعته،فنظروا إليه و ليس به أثر جراحة و لا خنق (3).

و لم يجد ذلك هارون فان الحق لا بد أن يظهر،و لا يخفيه الدجل و لا يستره الخداع و التضليل،فقد عرف الخاص و العام انه هو الذي اغتال الامام و هو المسئول عن دمه،و أن جميع ما اتخذه من الاجراءات و التدابير لتبرير ساحته قد باءت بالفشل.1.

ص: 520


1- مقاتل الطالبيين:ص 504.
2- البحار:301/11.
3- البحار:303/11.
25-وضعه علي الجسر

:

يا للّه يا للمسلمين،مثل الامام موسي(ع)سبط النبي،و امام المسلمين و سيد المتقين و العابدين،و عملاق الفكر الاسلامي يلقي علي جسر الرصافة و هو ميت ينظر إليه القريب و البعيد و تتفرج عليه المارة،قد أحاطت بجثمانه المقدس الشرطة،و كشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمته و الحط من كرامته،و التشهير به،و لم يرع هارون الرحم الماسة التي بينه و بين الامام،و لا حرمته و هو ميت،و قد قيل:

و احترام الاموات حتم و ان كا نوا بعادا فكيف بالقرباء

لقد حاول الرشيد بفعله هذا إذلال الشيعة و اهانتهم،و قد اثر ذلك في نفوسهم أي تأثير،فظلوا يذكرونه في جميع مراحل تأريخهم مقرونا باللوعة و الحزن،و اندفع شعراؤهم الي نظم هذا الحادث المفجع مقرونا بالأسي و الحسرات،يقول المرحوم الشيخ محمد ملة:

من مبلغ الاسلام أن زعيمه قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغي بات بموته طرب الحشا و غدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقي علي جسر الرصافة نعشه فيه الملائك أحدقوا تعظيما

و قال الخطيب الفذ المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسي يرمي علي الجسر ميتا لم يشيعه للقبور موحد

حملوه و للحديد برجليه هز يج له الأهاضب تنهد

لقد ملئ الرشيد قلوب الشيعة بالحقد و الحنق،و تركهم يرددون ذلك الاعتداء الصارخ علي كرامة إمامهم في جميع مراحل تأريخهم.

ص: 521

26-النداء الفظيع

:

يا لروعة الخطب،يا لهول المصاب،!لقد انتهك السندي حرمة الاسلام و كرامة أهل البيت(ع)فقد أمر جلاوزته أن ينادوا علي جثمان الامام بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسي و حسرات فبدل أن يأمرهم بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك (1)و انطلق اولئك العبيد يجوبون في الشوارع و الطرقات رافعين عقيرتهم بذلك النداء القذر الموحش و أمرهم مرة ثانية أن يهتفوا بنداء آخر و هو:

«هذا موسي بن جعفر الذي تزعم الرافضة انه لا يموت،فانظروا إليه ميتا» (2).

و من الطبيعي أن السندي لم يقدم علي ذلك من تلقاء نفسه،و انما أوعزت إليه السلطة العليا للنكاية بالشيعة و اذلالها،و النيل من كرامة أهل البيت(ع)

27-أسبابه
اشارة

:

و علينا أن نذكر بعض العوامل التي دعت السلطة الي القيام بمثل هذه الأعمال المنكرة،و هي:

(أ)معرفة الشيعة:

و أرادت السلطة بوضع جثمان الامام علي الجسر،و النداء عليه بذلك

ص: 522


1- اخبار الرضا،البحار.
2- الفصول المهمة:ص 54،و جاء فيه ان يحيي بن خالد هو الذي أمر أن ينادي علي جثمان الامام بذلك النداء.

النداء المحقر أن تقف علي العناصر الفعالة عند الشيعة،و تعرف مدي نشاطها و حماسها بهذا الاعتداء الصارخ علي كرامة امامها لينساقوا الي القبور و السجون و أكبر الظن أن الشيعة قد عرفت هذا القصد،فلذا لم تقم بأي عمل ايجابي ضده.

(ب)-التشهير بهم.

و اتخذت السلطة الحاكمة من اندساس الواقفية في صفوف الشيعة وسيلة للتشهير بهم فقد ذهبت الواقفية الي ان الامام حي لم يمت و انه رفع الي السماء كما رفع المسيح عيسي بن مريم،و قد رأت حكومة هارون أن تنسب هذا الرأي الفاسد لعموم الشيعة لتشوه بذلك حقيقتهم امام الرأي العام.

(ج)-التقرب لهارون:

و انما نفذ السندي بن شاهك ما أمر به،مع علمه بفظاعته و خطورته ليحرز بذلك رضا هارون و طاعته حتي ينال من دنياه،و يتقرب إليه،و لم يحفل السندي بما يلاحقه من العار و الخزي في سبيل ذلك.

28-بقاؤه ثلاثة أيام

:

و بقي الامام ثلاثة أيام لم يوار جثمانه المقدس (1)فتارة موضوع في قاعة السجن،قد أجرت عليه الشرطة التحقيق في حادث وفاته،و أخري ملقي علي جسر الرصافة تتفرج عليه المارة،كل ذلك للاستهانة به،و التوهين بمركزه.

ص: 523


1- عمدة الطالب:ص 185.
29-قيام سليمان بتجهيزه
اشارة

:

و انبري سليمان بن أبي جعفر المنصور (1)فتولي تجهيز الامام و تشييعه فقد كان قصره مطلا علي نهر دجلة،فسمع الصياح و الضوضاء و رأي بغداد قد ماجت و اضطربت فهاله ذلك،فالتفت الي ولده و غلمانه قائلا:

«ما الخبر؟» فقالوا له:هذا السندي بن شاهك ينادي علي موسي بن جعفر، و أخبروه بذلك النداء القاسي الفظيع.

فثارت عواطفه،و تغير حاله،و استولت عليه موجة من الغيظ،

ص: 524


1- سليمان بن أبي جعفر المنصور،أمه فاطمة بنت محمد من ولد طلحة ابن عبد اللّه التيمي كما في تأريخ ابن كثير:28/10 كان أميرا علي دمشق من قبل الرشيد،و وليها من قبل الأمين مرتين و ولي امرة البصرة مرتين، و لما ولي أمر دمشق قال لإبراهيم بن المهدي:«خلا لك الجو فبيضي و اصفري» فقال له ابراهيم:لك و اللّه خلا الجو لأنك تقعد في صدر مجلسك و تأكل إذا اشتهيت ليس من هو يأكل علي شبع و يلف علي جوع و يخدم علي كسل جاء ذلك في تأريخ ابن عساكر:279/6،و قد نظم الصفدي في ارجوزته تولية سليمان لامرة دمشق بقوله: ثم سليمان بن عبد اللّه من ذا له في مجده يباهي أخرج منها خائفا ما عقبا فر من السفيان إذ توثبا و قد وليها بعد للامين في مرتين فاستمع تبييني جاءت هذه الأبيات في امراء دمشق:ص 123،و جاء في تأريخ بغداد:24/9 انه توفي سنة«199 ه».

فصاح بولده قائلا:

«انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم،فان مانعوكم فاضربوهم، و خرقوا ما عليهم من سواد-و هو لباس الشرطة و الجيش-.

و انطلق أبناء سليمان و غلمانه مسرعين الي الشرطة فأخذوا جثمان الامام منهم،و لم تبد الشرطة معهم أية معارضة،فسليمان عم الخليفة،و أهم شخصية لامعة في الاسرة العباسية،و أمره مطاع عند الجميع،و حمل الغلمان نعش الامام فجاءوا به الي سليمان،فأمر بالوقت أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي،فانطلق غلمانه رافعين أصواتهم بهذا النداء:

«ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسي بن جعفر فليحضر» (1).

و خرج الناس علي اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين و سيد المتقين،و خرجت الشيعة و هي تذرف الدموع،و تلطم الصدور قد استولي عليها الأسي و الحزن،ففرج عنها سليمان الكروب،و كشف عنها الآلام اما الاسباب التي حفزت سليمان لقيامه بمواراة الامام و تشييعه بذلك التشييع الحافل الذي لم تشاهد بغداد نظيرا له فهي:

(أ)-محو العار عن أسرته:

كان سليمان قد حنكته التجارب،و قام علي تكوينه عقل متزن،فرأي أن الأعمال التي قام بها الرشيد تجاه الامام انما هي لطخة سوداء في جبين

ص: 525


1- البحار،عيون اخبار الرضا،و جاء في مناقب ابن شهر اشوب: 386/2 ان سليمان كان في دهليزه في يوم ممطر إذ مرت به جنازته(ع) فقالوا:سلوا هذه جنازة من؟فقيل هذا موسي بن جعفر مات في الحبس قد امر الرشيد أن يدفن بحاله،فقال سليمان:موسي بن جعفر يدفن هكذا؟ فان في الدنيا من كان يخاف علي الملك في الآخرة لا يوفي حقه؟

الاسرة العباسية،فان هارون كان يكفيه اغتيال الامام و دس السم إليه عن القيام بهذه الأعمال البربرية التي إن دلت فانما تدل علي نفس لا عهد لها بالشرف و النبل،كما تدل في نفس الوقت علي فقدان المعروف و الانسانية عند العباسيين،فقام سليمان بما يفرضه الواجب للحفاظ علي سمعته و سمعة أسرته و لمحو العار عنهم.

(ب)-الرحم الماسة:

انها الرحم الماسة التي تربط بينه و بين الامام هي التي هزت مشاعره و أثارت عواطفه،فلم يستطع صبرا أن يسمع اولئك العبيد و هم ينادون بذلك النداء المنكر علي جثمان عميد العلويين و زعيم الهاشميين،بالاضافة الي ذلك فانه لم يكن بينه و بين الامام ما يوجب البغضاء و الشحناء،فلذا أثرت فيه أواصر الرحم،و انطلق الي انقاذ جثمان ابن عمه من أيدي الجلاوزة و صنع ما صنع له من الحفاوة و التكريم.

(ج)-الخوف من انتفاضة الشيعة:

و أكبر الظن أن سليمان خاف من انتفاضة الشيعة،و تمرد الجيش و حدوث الاضطرابات و الفتن الداخلية،فان ذلك الاعتداء الصارخ علي كرامة الامام(ع)انما هو طعنة نجلاء في صميم العقيدة الشيعية،فكان من الطبيعي أن يثير ذلك عواطفهم و يحفزهم علي الثورة،و الانتقام من خصومهم.

و لم تكن الشيعة قلة في ذلك العصر فقد اعتنق عقيدتهم خلق كثير من رجال الدولة،و قادة الجيش،و كبار الموظفين و الكتاب،و لذا تدارك الموقف و قام بالواجب و أنقذ حكومة هارون من الفتن و الاضطراب،كما أسدي في نفس الوقت يدا بيضاء علي عموم الشيعة تذكر له بالخير و الثناء.

ص: 526

30-تجهيز الامام

:

و قام سليمان بتجهيز الامام فغسله،و كفنه،و لفه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلفته ألفين و خمسمائة دينار (1)و حدث المسيب بن زهرة يقول:و اللّه لقد رأيت القوم بعيني و هم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه و يظنون أنهم يحنطونه و يكفنونه و أراهم أنهم لا يصنعون شيئا، و رأيت ذلك الشخص الذي حضر وفاته-و هو الامام الرضا-هو الذي يتولي غسله و تحنيطه و تكفينه،و هو يظهر المعاونة لهم،و هم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره التفت إلي فقال:

«يا مسيب مهما شككت في شيء فلا تشكن في،فاني إمامك و مولاك و حجة اللّه عليك بعد أبي،يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق و مثلهم مثل اخوته حين دخلوا عليه و هم له منكرون» (2)و بعد انتهاء الغسل حمل الامام الي مرقده الأخير.

31-مواكب التشييع

:

و هرعت بغداد الي تشييع الامام،فكان يوما مشهودا لم تر مثله في أيامها،فقد خرج البر و الفاجر و الصالح و الطالح لتشييع سبط النبي و الفوز بحمل جثمانه،و سارت المواكب و هي تجوب في الشوارع و الطرقات،و تردد أهازيج اللوعة و الحزن و يتقدم جماهير المشيعين الرشيد-فيما يروي بعض المؤرخين-و هو واجم حزين يترحم علي الامام و يظهر البراءة من دمه و خلفه البرامكة (3)و كبار

ص: 527


1- المناقب:387/2.
2- عيون اخبار الرضا.
3- حضارة الاسلام في دار السلام:ص 126،و المشهور ان الرشيد لم يحضر جنازة الامام(ع)،و انه كان بالرقة.

الموظفين و المسئولين من رجال الحكم يتقدمهم سليمان و هو حافي القدمين و امام النعش مجامير العطور و حمل الجثمان العظيم علي أطراف الأنامل،قد أحاطته الهيبة و الجلال و جيء به فوضع في سوق سمي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني علي الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس بناء لئلا تطأه الناس بأقدامهم تكريما له (1)و انبري بعض الشعراء فأنشد هذه الأبيات:

قد قلت للرجل المولي غسله هلا أطعت و كنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسله بما أذرت عيون المجد عند بكائه

و أزل أفاويه الحنوط و نحها عنه و حنطه بطيب ثنائه

و مر الملائكة الكرام بحمله كرما أ لست تراهم بإزائه

لاتوه أعناق الرجال بحمله يكفي الذي حملوه من نعمائه (2)

و سارت المواكب متجهة الي محلة باب التبن (3)و قد ساد عليها الوجوم و الحزن،و خيم عليها الأسي و المصاب.

32-في مقره الأخير

:

و أحاطت الجماهير بالجثمان المقدس و هي تتسابق الي حمله و التبرك به، فجاءت به الي مقابر قريش،فحفر له قبر هناك و أنزله في مقره الأخير سليمان بن أبي جعفر و هو مذهول اللب خائر القوي،و بعد فراغه من مراسيم

ص: 528


1- الأنوار البهية:ص 99،و جاء فيه انه حكي عن صاحب تاريخ مازندران انه قال في كتابه:انه مر بذلك المكان عدة مرات و قبل الموضع الشريف.
2- الاتحاف بحب الاشراف:ص 57.
3- باب التبن:اسم محلة كبيرة كانت ببغداد تقع بازاء قطيعة أم جعفر،و فيها قبر احمد بن حنبل و هي قريبة من مقابر قريش جاء ذلك في معجم البلدان:14/2 و قد ذكرت شئون هذه البقعة بالتفصيل«في دليل خارطة بغداد ص 102».

الدفن،أقبلت إليه الناس و هي تعزيه و تواسيه بالمصاب الأليم،و هو واقف يشكرهم علي ذلك.

و انصرف المشيعون و هم يعددون فضائل الامام و مناقبه،و يذكرون ما عاناه من المحن و الخطوب،و كان فقده من أعظم النكبات التي مني بها العالم الاسلامي في ذلك العصر،فقد فقد المسلمون علما من أعلام العقيدة الاسلامية و غصنا يانعا من دوحة النبوة،و اماما من أئمة المتقين و المنيبين.

لقد عاش الامام(ع)في حياته عيشة المتقين و الصالحين،فآثر طاعة اللّه علي كل شيء و عمل جاهدا علي رفع كلمة الحق و تحطيم الباطل فلم يجار هارون،و لم يصانعه،بل كان من أقوي الجبهات المعادية له،و قد تحمل في سبيل ذلك جميع ضروب الأذي و الآلام،حتي لفظ أنفاسه الأخيرة و هو في ظلمات السجون،ففاز بالشهادة،و جعل اللّه ذكره خالدا و حياته قدوة،و مرقده ملجأ للمنكوبين و ملاذا للملهوفين كما منّ عليه فجعله من أئمة أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا».

و بعد:فاني قد فرغت من تأليف هذا الكتاب،و أتمت المطبعة صفحاته الأخيرة،و أود أن أسجل شيئا من الخير أن لا يضيع،و هو ان هذا الكتاب ما هو إلا صفحة من تأريخ هذا الامام العظيم،و ترجمة موجزة لحياته،و لا أزعم أني قد ألممت بسيرته،أو ترجمت له ترجمة صورت جميع أبعاد حياته فذاك أمر غير ممكن،فان العشرات من أمثال هذا الكتاب بصورة جازمة لا يمكن أن تحكي واقعه أو تلم بسيرته،و بجميع ما أثر عنه.

لا أقول ذلك لأغض من هذا الجهد الشاق الذي أنفقته،و لا لأصطنع التواضع،و لا أنا مدفوع بدافع الغلو و الافراط في الحب..و انما الواقع يمليه

ص: 529

عليّ،فان ما روي عنه من الأخبار المتعلقة بأحكام الدين و فروعه من العبادات و المعاملات و العقود و الايقاعات تستدعي وضع عدة كتب لها،فموسوعات الحديث و موسوعات الفقه الاستدلالي قد حفلت بالشيء الكثير من رواياته التي هي من مدارك الفتيا في الفقه الشيعي...مضافا الي ما أثر عنه من الحكم و الآداب،و قواعد السلوك و الأخلاق،و آرائه في السياسة و الاقتصاد، و الفلسفة،و علم الكلام،و غيرها مما لم نذكر منه إلا النزر اليسير،فاذن ليس هذا الكتاب كما كنت اعتقد-و استغفر اللّه-انه ملم بحياة الامام،و مستوعب لسيرته و شئونه،و انما يصور لحظة من حياته،و يعطي مثلا موجزا عنها.

لقد أصبحت و أنا مؤمن أشد الايمان ان هذا الامام العظيم كنز من كنوز الاسلام التي لا تنفذ،و انه ملأ فم الدنيا بفضائله،و مناقبه و مآثره،و ان سمو شخصيته العظيمة التي ملكت قلوب المسلمين فآمنوا بامامته،هي التي أثارت عليه احقاد هارون الرشيد و اضغانه،فقدم علي ترويعه،و زجه في ظلمات السجون،و قتله مع علمه أنه لم يحرض عليه،و لم يوجب علي شيعته الخروج علي سلطانه.

و اني أعود الي الاعتذار من سيدي العظيم خوفا من أن أكون قد جافيت الواقع،او ابتعدت عن القصد في بعض ما كتبته عنه راجيا أن يمنحني القبول،و أن يتلطف علي بالرضا،و أن تنالني شفاعته يوم الوفادة علي اللّه.

ص: 530

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.