أضوَاء عَلي دُولةِ الإمَام المَهدي عَليهِ السَّلَام

اشارة

أضوَاء عَلي دُولةِ الإمَام المَهدي عَليهِ السَّلَام

تاليف : السيد ياسين الموسوي

الطبعه الثالثة : مزيده و منقحة

اعداد و تحقيق

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

رقم الإصدار : 59

ص: 1

اشارة

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة

فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

النجف الأشرف - شارع الرسول صلي الله عليه وآله - محلة الحويش

رقم الزقاق 54 - رقم الدار 2

هاتف: 332813 و 332811

ص.ب.588

www.m.mahdi.com

m.mahdi@m-mahdi.com

***

أضواء علي دولة الإمام المهدي عليه السلام

تاليف : السّيد ياسين الموسوي

إعداد و تحقيق

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة

فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

الطبعة الثالثة: شعبان 1428ه

رقم الإصدار : 59

العدد: 3000نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمركز

ص: 2

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«اللّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ

وَ عَلي آبائِهِ في هذِهِ السّاعَةِ وَ في كُلِّ ساعَةٍ وَلِيّاً

وَ حافِظاً وَ قائِدا وَ ناصِراً وَ دَليلاً وَ عَيْناً حَتّي

تُسْكِنَهُ أَرْضَك َطَوْعاً وَ تُمَتِّعَهُ فيها طَويلاً»

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز

تعتبر فكرة الإمام المهدي عليه السلام من أوائل الأفكار والقضايا انطباعاً في الذهن العقائدي الإسلامي, فلا يكاد يوجد مسلم مهتم بشؤون دينه الحنيف _ مهما كان المذهب الذي ينتسب إليه _ إلاّ وسمع أكثر من حديث بخصوص تلك الشخصيّة المباركة التي خلقها الباري عز وجل لتحقيق أمل الإنسانية السرمدي وحلم الأنبياء علي مرّ العصور بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

ومن غير المتعذّر علي كل متتبّع أن يهتدي إلي الأهمية القصوي والاهتمام البالغ الذي أولاه الدين الحنيف لهذه الشخصية المقدّسة, وذلك من خلال الأحاديث والتأكيدات المتكاثرة الواردة عن النبي الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم وعن الأئمّة المعصومين عليهم السلام من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً, وتناقلها المحدّثون من الطوائف والمذاهب الإسلاميّة كافّة, فقلّما تجد كتاباً يهتم بجمع الأحاديث يخلو من ذكر هذه الشخصية، أو من ذكر مواصفاتها ومتعلّقاتها, حتّي صارت فكرة الإمام المنتظر من المسلّمات التي لا يمكن لمنصف أو باحث عن الحقيقة أن يتنكّر لها، أو يطوي عنها كشحاً, علي الرغم من كثرة

ص: 5

الاختلافات التي وقعت بين أبناء الطوائف الإسلاميّة في تحديد التفاصيل والجزئيات, من حيث ولادته وطول عمره، وغيبته وما يتعلّق به من تفاصيل.

إلاّ أنّ كل هذا الاهتمام الذي أولته الشريعة لهذه القضية المقدّسة لم يمنع المتصيّدين بالماء العكر من إثارة الشبهات وتوجيه الشكوك, فأثاروا بعض الغبار هنا وهناك للتعتيم علي هذه الفكرة, والتشويش علي هذه العقيدة الحقّة, فكثرت التساؤلات عن ولادته عليه السلام وغيبته وطول عمره, وغير ذلك ممّا يثيره المغرضون الذين تتعارض مصالحهم مع الإيمان بهذا المصلح الذي يبعث الأمل في نفوس المؤمنين, ثمّ تمادي البعض في غيّه, فأثار من الشبهات ما يسخر منه العقل السليم, ممّا تسبّب في إخفاء بعض الحقائق ودثر بعض الشواهد الإلهية, كما ساعد علي ذلك أيضاً تعسّف الظالمين الذي حاولوا طمس الحقائق بكل ما يتمكّنون عليه من وسائل، فوقفوا بوجه كل المحاولات التي أرادت توضيح الحقائق وكشف ما استتر من الحقّ.

وهذا الأمر هو الذي بعث فينا الإحساس بعظم المسؤولية الملقاة علي عاتقنا, وخصوصاً بعد انقشاع الظلمة, فبذلنا كل ما نملك من وسع لإزالة الغُبار المتراكم, وتوضيح الحقائق والبراهين الدالّة علي حضور الإمام المؤمّل, وذلك من خلال النشاطات التي تبنّاها مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام, والتي كان من جملتها:

ص: 6

1 _ الاهتمام بطباعة الكتب المختصّة بالإمام المهدي عليه السلام.

2 _ الاهتمام بطباعة ونشر المحاضرات المختصّة به عليه السلام.

3 _ الاهتمام بنشر كل ما من شأنه تقوية ارتباط الأطفال بإمامهم.

4 _ إصدار مجلّة فصلية تخصّصية باسم (الانتظار).

5 _ الاهتمام بالبعد الإعلامي المختص بالإمام عليه السلام, من خلال كافّة وسائل الإعلام بما فيها الانترنت والقنوات الفضائية.

6 _ الاهتمام بإقامة الندوات التخصّصية في هذا الشأن.

وها نحن _ عزيزي القارئ _ نضع بين يديك هذا الكتيّب الذي يحمل بين طيّاته جزءاً من الندوات التي أقامها المركز, حيث يستضيف علماءنا الأعلام وشخصياتنا الإسلاميّة المرموقة, لتوضيح الحقيقة, وللإجابة علي كل الشبهات, ليظهر الحقّ جلياً واضحاً لا غبار عليه, وليتبيّن الطريق اللاحب لكل من أراد جادّة الحقّ.. حيث أخذت هذه الندوات طريقها للنشر من خلال صفحات الانترنيت ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية, ومن خلال الأشرطة المسجّلة والأقراص المضغوطة, خدمة للدين الحنيف والمذهب الحق.

سائلين المولي عز وجل أن يجعل هذه الخطوات محطّ قبول ورضي إمامنا صاحب الزمان عليه السلام الذي يعيش بين أظهرنا ويتفقّد أحوالنا ويعلم بكل ما نسرّ وما نعلن, دون أن نراه.. إنّه نعم المولي ونعم المجيب.

ص: 7

شكر وتقدير:

والمركز إذ يقدم للمكتبة الإسلاميّة وللإخوة القرآء هذا الكتاب القيم يتقدم بالشكر للإخوة في لجنة التحقيق علي جهدهم في انجاز هذا العمل ونخص بالذكر الأخ الكريم الشيخ علاء عبد النبي لجهده المتميز في تصحيح الكتاب واستخراج مصادره كما يتقدم بالشكر إلي قسم الكمبيوتر ونخص بالذكر الأخ الفاضل مسؤول قسم الكمبيوتر ياسر الصالحي.

مدير المركز

السيد محمّد القبانچي

ص: 8

الندوة الأولي: حركة الإمام المهدي عليه السلام والحتمية الإلهية

اشارة

ألقيت الندوة في كلية التربية

للبنات في النجف الأشرف

ص: 9

صفحة بيضاء

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي البشير النذير والسراج المنير، الكوكب الطاهر والبدر الزاهر، والمصطفي الأمجد أبي القاسم محمّد وعلي آله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة علي أعدائهم أجمعين، ومنكري فضائلهم من الأوّلين والآخرين إلي قيام يوم الدين.

اللهم ربنا وفقنا وجميع المشتغلين واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنك أرحم الراحمين.

الحتمية الإلهية:

عندما يريد الإنسان أن يتحدّث عن العقيدة المهدوية ربما يقع أمام ناظر الباحث موضوع مهم يختص بالبحث عن دور حركة الإمام المهدي عليه السلام بالحتمية الإلهية.

ونقصد باصطلاح الحتمية الإلهية البحث عن حلقة التغيير والتكوين الاجتماعي في المجتمع الإنساني، كما يمكن أن يعبر عنه في حلقات فلسفة التأريخ.

ففي الايديولوجية الماركسية وحينما يتحدّثون عن تطور المجتمعات الإنسانية تحت عنوان قانون الحتمية الديالكتيكية التاريخية

ص: 11

فهم يتعرضون إلي نقطة مهمة في عملية تطور المجتمع من دور إلي دور حتّي يصلوا بالمجتمع الإنساني في تطوره وارتقائه إلي مرحلة الحتمية التاريخية والتي يتحقق بها المجتمع الشيوعي في نهاية المطاف.

وإننا عندما نقرأ المفهوم الإسلامي للعالم وفلسفة التأريخ نجد أن الإسلام عنده (الحتمية الإلهية) ضمن رؤيته العقائدية التي يفسر بها عملية التغيير الحضاري والتطور الاجتماعي في مجتمعات الإنسان.

وبما إنني لم أقصد من هذا البحث الحديث عن تلك القوانين الاجتماعية المؤثرة في تكوين نوعية الطبقة الاجتماعية وتسلسل تلك الطبقات، وإنما أتحدّث عن حلقة واحدة بشكل إيجازي _ بما يقتضيه ويتحمله الوقت الضيق _ عن دور حركة الإمام المهدي عليه السلام فيلزمنا البحث عن ملامح هذه الحتمية ودور هذه الحركة في تحقيق المستقبل الوادع لتاريخ البشرية.

ملامح الحركة المهدوية:

لو قرأنا كلَّ ما كُتِبَ عن الإمام المهدي عليه السلام سواء في الفكر الإمامي، أو الفكر الإسلامي غير الإمامي بل وحتّي الفكر غير الإسلامي، فإنّ أوضح ما يمكن أن يتحدّثوا عنه هو التغيير الذي سوف يحدث بسبب حركة الإمام عليه السلام ، هذا أوّلاً.

والشيء الثاني من تلك الحركة، هو أن تكون تلك الحركة خاتمة الحركات التغييرية في الأمم والمجتمعات الإنسانية، بما

ص: 12

يمكننا أن نقول: إن الحلقة الأخيرة في الحركة التغييرية التاريخية لتطور المجتمع الإنساني ككل سوف تنتهي بحلقة ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، وتبعاً لهذه الحقيقة يتضح أنّ حركة الإمام غير مسبوقة _ لا كمَّاً ولا نوعاً _ بحركة تغييرية أخري، وهو المُعبَّر عنه دينياً بالنص النبوي المأثور والمجمع عليه في الفكر الإسلامي عموماً سواء الشيعي أو السنّي بما رووا عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إنه يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.(1)

وموضوع كيفية وتحديد نوع امتلاء الأرض بالعدل الإلهي إضافة إلي موضوع شرح وتوضيح نوع امتلاء الأرض قبل ظهوره عليه السلام بالظلم والجور الإنساني الذي يفعله الإنسان الخاطئ، (سواء الخاطئ عن عمد أو الخاطئ عن غير عمد) يحتاج إلي بحث لسنا الآن بصدد الحديث عنه، لأن هذا موضوع في الواقع بكر ويلزم أن نتطرق إليه بتفاصيله، ويحتاج إلي وقت مفصل للحديث عنه.

تكامل الأدوار:

أما الذي أردت أن أبيّنه في هذه اللحظات والدقائق هو أن هذه النقاط التي تحدّثت عنها تخصّ عن نوعية هذه الحركة الختامية لمجتمع الإنسان.

ص: 13


1- راجع سنن أبي داود، ج 2: 309، ح 4282، المستدرك للحاكم، ج 4: 465، مسند أحمد، ج 3: 27، كمال الدين للصدوق: 256، باب 24، ح1 و2.

يعتمد الإنسان الذي يريد أن يدرس حركة الإمام المهدي عليه السلام ، يعتمد علي توضيح وفهم مركّز لكيفية ظهور هذه الحركة، ومدي أممية هذه الحركة، وسعة حركة الإمام عليه السلام.

والشيء الذي يمكننا أن نتحدّث عنه باختصار هو أن التأريخ الإنساني بحلقاته المتقدمة سوف يصل إلي مستوي يؤهل الإنسان النوع _ ولا أقصد الإنسان الفرد _ ليكون أهلاً ومستحقاً ليحكمه العدل المهدوي.

وبتعبير آخر يعطيك جواباً عن سؤال يقول: لماذا لم يظهر الإمام المهدي في عصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ولماذا لم يكن النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو المهدي؟ وهناك سؤال آخر يطرح نفسه شبيه بالسؤال الأوّل بما يتلاءم مع عقائد الشيعة الإمامية وهو: لماذا لم يكن الإمام عليّ وهو سيد الأئمّة وأبو الأئمّة وخير الأئمّة سلام الله عليه، لماذا لم يكن هو الإمام المهدي؟

وهكذا لو أردنا أن نجري السؤال علي كل إمام من الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

الواقع أن كل واحد منهم (سلام الله عليه) له دور تأريخي في تطوير حياة الإنسان، وفي تأهيل المجتمع الإنساني لكي يدخل الدور المتقدم الذي يوصله إليه الإمام المتقدم.

وبتعبير أوضح أنه كان صلي الله عليه وآله وسلم دوره الإلهي في إيصال البشرية إلي مستوي معين ومحدد.

وقلت إن هذا الموضوع مهم ومفصل واني لا أقصد من

ص: 14

هذا الحديث دراسة فلسفة التأريخ للرؤية الدينية الإسلاميّة، ولذلك فأنا أشير إشارات عامة إليه فقط من أجل أن أصل إلي النتيجة التي أتحدّث عنها.

إذن كان للنبي صلي الله عليه وآله وسلم دوره الرباني الخاص به وهو تأهيل البشرية لمستوي يمكن أن تتحمل ولاية عليّ بن أبي طالب، ثمّ كان لأمير المؤمنين عليه السلام دوره الذي سلمه للإمام الحسن، وهكذا الأئمّة من بعده، مع التنبيه إن تشخيص هذه الأدوار يحتاج إلي بحث مستقل.

ولكن هناك دور قد اشترك فيه النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأمير والأئمّة الباقون في تأهيل البشرية لتكون مستحقة لتولي الإمام المهدي الدور الكبير الذي هو جامع لجميع أدوار الإمامة، يعني أن من مهمات النبي صلي الله عليه وآله وسلم ومهمات الأئمّة الباقين فضلاً وإضافة إلي مهماتهم الخاصة الأخري التي نبهنا عنها؛ دور آخر هو من أجل أن يتقبلوا ويصلوا إلي مستوي ليس القبول فقط، بل أن يصلوا إلي مستوي الطرح الميداني لإمامة الإمام المهدي عليه السلام.

أي أنه لو لم يكن الأئمّة السابقون يقومون بهذا الدور لما كانت البشرية مؤهّلة لاستقبال دورها في ظل إمامة الإمام المهدي عليه السلام.

علي كل حال، فالإمامة بالنسبة للإمام المهدي لم تكن منحصرة بالظهور، وإنما دوره في الظهور وقبل الظهور، والذي

ص: 15

أخذ أبعاده عليه السلام من يوم ولادته إلي الغيبتين الصغري والكبري، ولذلك نجد كل هذه الخصوصيات المتعلقة في هذه المرحلة من تأريخ الإنسانية هذه قد وردت علي لسان النبي صلي الله عليه وآله وسلم وعلي لسان الأنبياء الذين سبقوا النبي صلي الله عليه وآله وسلم، حتّي أننا نجد ذكر المهدي عليه السلام بالكناية أو بالأسماء التي قُصّت بالكتب السماوية فإننا لو قرأنا بامعان وتدبر فسوف نجد تلك الأسماء موجودة في كتب السماء في التوراة والإنجيل.

وقد ألفت كتب خاصة في ذكر الآيات الإنجيلية والآيات التوراتية التي ذكرت الإمام المهدي عليه السلام.(1)

أي أن هذا الدور لم يبتدئ بالنبي، وإنما كان هذا الدور قد قام به الأنبياء من قبل أيضاً.

فإن جميع الرسالات السماوية قد اهتمت بتربية البشرية من أجل ارتقائها للمستوي الذي تتقبل به العقيدة المهدوية أوّلاً، والحركة المهدوية التي تتعمق وتترسخ عندما يظهر عليه السلام ، ومعني هذا أننا لدينا مرحلتان؛ مرحلة العقيدة، ومرحلة إجراء العقيدة في الواقع، وتنفيذ تلك العقيدة علي أرض الواقع حالياً، وتنفيذها عندما يظهر عليه السلام فيتم بذلك (أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)،ي.

ص: 16


1- راجع: كتاب بشارات العهدين للدكتور محمّد الصادقي، كتاب المصلح المنتظر في أحاديث الأديان لمحمّد أمين زين الدين العاملي، الإمام المهدي في كتب الأمم السابقة والمسلمين لمحمّد رضا حكيمي.

وتتم الخاتمة في حركات الطبقات الاجتماعية لرؤية دينية سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة.

مراحل تأهيل المجتمع:

نلاحظ أيضاً، بعدما وضحنا هذه الحقيقة أن حركة الإمام عليه السلام هي الحلقة الأخيرة لنهضة المجتمع الإنساني وتطوره، فنقول حينئذٍ لا بدّ من تأهيل الإنسانية للحلقة الأخيرة من تطورها. وأريد أن أبين هنا كيفية تأهيل المجتمع، فهناك تصور واضح أن المجتمع الذي يظهر فيه الإمام يختلف عن المجتمعات السابقة عليه. فالمجتمع الذي يظهر فيه الإمام، (ولا أقصد المجتمع الذي يصنعه الإمام، عندنا مجتمع يسبق الإمام، وعندنا مجتمع ينهض فيه الإمام، وعندنا مجتمع يصنعه الإمام عليه السلام).

وهو المجتمع الذي يكون قبل ظهور الإمام، أي المجتمع الأوّل، وهو ممتد بعصر الإنسانية إلي مستوي أن تظهر علامات ظهوره عليه السلام.

وبتعبير آخر: نريد أن ندرس علامات الظهور دراسة أكاديمية واضحة، تحدد الفلسفة الواقعية لحركة الإمام.

إن الإنسانية قبل الظهور تكون بمستوي غير مؤهل لاستقبال حركة الإمام، ولذلك لم يظهر الإمام، ولذلك لم يكن الإمام هو النبي، ولم يكن هو الأمير، ولم يكن الإمام عليه السلام هو أحد آبائه عليهم السلام ، لأن البشرية غير مؤهلة لهذه النهضة لأنها لم تملك الأهلية لهذه النهضة، ولكن الأئمّة عليهم السلام قد سعوا لإيجاد هذا المجتمع الذي يكون مؤهلاً

ص: 17

ليظهر فيه الإمام، فعندما يتكامل المجتمع الإسلامي في أطواره الارتقائية في الغيبة الصغري وما بعدها، وكان أشد تكامل له في الغيبة الكبري، فإذا تكامل هذا المجتمع في الغيبة الكبري فحينئذٍ تبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة الظهور.

ففي مرحلة الظهور يكون المجتمع الإنساني عموماً مؤهلاً بشيئين، وببعدين، وبعنصرين يملكان ويحكمان المجتمع:

العنصر الأوّل: هو العنصر المخطئ، الذي يعبر عنه بالظلم والجور، حيث تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً.

والعنصر الثاني الذي نقرؤه في الروايات أن الإمام المهدي لا يظهر إلاّ بعد أن تتكامل له قواعده التي يتحرك بها في نهضته وحركته.

وقد يتصور البعض أن القواعد محدودة بعددٍ معين، باعتبار أن لدينا روايات وبعضها معتبرة من حيث سند الحديث الروائي، وبعضها يسند تلك الروايات بنوع من الاسناد وتقول جميعها أن عدد الذين ينتظرون ظهوره عليه السلام (313) كعدد أهل بدر.

وهؤلاء ال- (313) يعبر عنهم بأسمائهم في بعض الروايات الموجودة في كتاب بشارة الإسلام، ومختصر كفاية المهتدي وغيرهما بأسمائهم وأوطانهم.(1)ي.

ص: 18


1- راجع الملاحم والفتن لابن طاووس: 147، عن كتاب الفتن للسليلي.

وأنا لديّ ملاحظات علي هذا الأمر من كون تلك الأسماء هل هي رمزية أم هي واقعية تعبر عن أشخاصهم، وكذلك المدن هل هي تعبر عن بُعْد رمزي للمناطق التي يظهر هؤلاء بها، أم هي تعبر عن أسماء موجودة في الواقع وموصوفة ومشخصة، هذا الموضوع بنفسه يحتاج إلي وقت.

وإن هذا العدد (313)، وإن هؤلاء الذين قد يعبر عنهم بقادة جند الإمام، فإنّ هؤلاء الأشخاص ليسوا وحدهم هم القاعدة التي ينتظرها الإمام، أو هم الذين ينتظرونه عليه السلام ، وإنما هؤلاء هم قادة المجتمع الإيماني الذي يظهر قبل الإمام، ويقوده هؤلاء القادة ال- (313).

أي أنه كما نقرأ في الروايات فإن الوجود الإنساني الاجتماعي سوف يمتلئ بالظلم والجور، فإنه سوف يكون هناك مساحات واسعة من الإيمان والإنسان المؤمن، ويفترض في هذه المساحات أن توجد بدون تحديد عددي فإن الروايات لم تحدّد سعة هذه المساحة، وإنما ذكرت وجود هذه المساحة التي يقوم فيها الإمام بالتغيير.

وطبعاً فإن عندنا شواهد وروايات كثيرة تنص علي هذه الحقيقة، وبعضها كان قد طبق في زمان الأئمّة عليهم السلام مثل الروايات المروية عن الإمام الصادق عليه السلام والتي تقول: إن الإمام لا يظهر إلاّ في مجتمع خاص يكون مؤهّلاً لحكومة الإمام، ولقيادة الإمام.(1)1.

ص: 19


1- بعكس بعض الروايات التي تحدّثت عن السيوف المشرعة في زمان الإمام الصاديق عليه السلام حيث قال عليه السلام: (ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني) مثل رواية الخراساني والخلال... وغيرها. راجع: الملل والنحل/ الشهرستاني 1: 154؛ ينابيع المودة/ القندوزي 3: 161.

إذا توفّر هذان العنصران: (العنصر الأوّل القادة، والعنصر الثاني القاعدة التي تحكمها تلك القيادة) فمعناه أنه قد تكوّن مجتمع ما قبل الظهور، ولكيفية تحقق ذلك، وكيف نعرف أنه قد تحقق العنصران المرتقبان المنتظران؟ فإننا نعرف ذلك من خلال تحقق علامات ذكرها الأئمّة عليهم السلام وأن هذه العلامات تدل علي ذلك المجتمع الذي سوف يكون علي يديه التغيير الإلهي والحتميّة الإلهية.

منبع التغيير:

من الطبيعي في هذه المرحلة عندما نتحدّث عن عملية التغيير لا بدّ أن نتذكر دور الإنسان في التغيير، وهنا بحث سياسي واجتماعي وفقهي علي مستوي ثقافي واسع، في أنّ الأهمية في التغيير هل تعود إلي الأمّة؟ أم أن الأهمية تعود إلي القائد؟ يعني من هو الذي يغير؟ هل أن الإمام أو القائد هو الذي يغيّر الأمّة، أم أن الأمّة هي التي تغيّر القائد؟

يعني علينا أن نكثف جهودنا علي أي الإثنين؟ لإيجاد أي واحد من الإثنين؟ هل نكثف الجهد في إيجاد الإنسان القائد؟ أم نكثف الجهد في إيجاد الأمّة القائدة؟ هذا الموضوع موضوع مهم جدّاً سواء علي المستوي الفكري أو المستوي الميداني والعملي.

فإذا قلنا _ نحن كأناس نعيش في الأمة وكمكلفين _ إن الذي

ص: 20

يقود التغيير الإمام، إذن فما هو دور الأمّة؟ وما هو دور الفرد في الأمّة؟ وأما إذا قلنا أن المغير هو الأمّة، فسوف يكون تحركنا تحركاً آخر في التغيير من إيجاد الأمّة القادرة علي التغيير.

هذا الموضوع من الأهمية بمكان، لا أريد أن أشخص كل أبعاد هذا الموضوع أيضاً، وإنما قد عنونت من قبل هذه الحقيقة، وقد أوفق في أيام أخري أو أنتم تبحثون وراء هذه العناوين بالتفتيش عن معرفة الحقائق المغيرة.

هذا الطرح والاستفهام له واقع أيضاً، وليس هو علي مستوي النظريّة فقط، وإنّما هو من جانب الواقع أيضاً، فالأمّة الإسلاميّة أمّة مكلفة، والإمام هو المغير، ولكن الإمام قبل الظهور وفي عصر الغيبة هو غير الإمام في عصر المعصوم، والإمام في عصر المعصوم، هو غير الإمام بعد الظهور.

وهذا موضوع مهم جدّاً ويحتاج إلي وقت مفصّل لأجل توضيح جميع خصوصيّاته، لا أخالني أملك الوقت الكافي لأتّعرض لكل أبعاد هذه النظريّة، وإنما أشير إليها إشارة لأجل إعطاء البُني الأساسية لنظرية حتميّة ظهور الإمام عليه السلام بتكامل الإنسان من أجل أن يأخذ الإنسان موقعه الأصلي في الحياة، فيتم قوله تعالي (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(1)

يعني أن الإنسان الخليفة إذا أراد أن يجسد الحقيقة الغائية0.

ص: 21


1- البقرة (2): 30.

للخلقة في الأرض، فإنما يتم له ذلك عندما تتم الغاية القصوي لظهور المجتمع المؤهل لاستلام قيادة الإمام عليه السلام.

عصر الظهور:

إن هذا العصر الذي نتحدّث عنه هو عصر أو مرحلة الظهور، وقد ذكرت له علامات تحدّثت عن هذه المرحلة، ثمّ بعد ذلك وعندما تنتهي هذه المرحلة التي نعيش _ ولله الحمد _ أبعادها في عصورنا المتأخرة، وهي مرحلة علامات الظهور أو مرحلة بداية الظهور إنما هي مرحلة مهمّة، أمّا متي تبتدئ وإلي أين تنتهي فهذه تحتاج أيضاً إلي وقفة، لنعرف هل هي بالفعل بدأت، فمتي بدأت؟

بعضهم ممن كتب عن الإمام يعتبر أنّ هذه المرحلة بدأت منذ العبّاسيين مع ظهور الحركة العباسيّة ضد الأمويين، والبعض الآخر يعتبر أنّ هذه الحركة بدأت في عصور متأخّرة، كالعلامة المجلسي التي يعدّها بظهور الدولة الصفوية في إيران.(1)

ولست الآن بصدد تشخيص بداية المرحلة فإنني قلت: إنّها تحتاج إلي أرقام تخصيصيّة تحتاج إلي تفاصيل كاملة من أجل أن نضع النقاط علي الحروف، ولكني أقول بضرس قاطع إنّها سوف تنتهي هذه المرحلة بظهور الإمام عليه السلام ، وأقول أيضاً بضرس قاطع إنّنا

ص: 22


1- البحار للمجلسي 52: 243.

نعيش هذه المرحلة وفي وسط هذه المرحلة، ونحن الآن نعيش مرحلة التمهيد وتأهيل المجتمع لظهور الإمام عليه السلام.

طبعاً لست الآن بصدد تحديد الوظيفة الشرعية لكل من حضر، أو أريد أن أحدّد الوظيفة الشرعية للمكلّف المسلم في هذه المرحلة، وإنّما يعتمد في ذلك علي ما كتبه كثير من علمائنا في تحديد الوظيفة، هناك كتاب اسمه (وظيفة الأنام في غيبة الإمام)(1) للسيد التقي الموسوي.

عصر التكامل:

المرحلة الأخري، وهي المرحلة العظمي في تأريخ الإنسانية، وهي الحتميّة أو نهاية الحتميّة، أو نهاية البداية لتطوّر الإنسانية، فإنها سوف تتم وتتكامل بظهور الإمام عليه السلام ، وعلينا أن نلاحظ المجتمع الذي يقوده الإمام والذي يصنعه الإمام فإنه سوف يكون غير المجتمع الذي نحن فيه، فهناك عدّة جوانب بارزة في مجتمع الإمام، مثل التغيّر الكوني، وليس التغيّر الإنساني فقط الذي يحدث في مجتمع الإمام، بل إن بعض هذا التغيير يصنعه الإمام، والبعض الآخر تصنعه ملائكة الله، أو التكوين الإلهي.

أنا أذكر النقاط التالية بشكل مجمل، وهي تبيّن كيف أنّ

ص: 23


1- طبع الكتاب من قبل مركزنا تحت سلسلة التراث المهدوي.

الإمام في نهاية المطاف التاريخي لمسيرة الإنسان التكاملية يغير كينونة الإنسان:

أوّلاً: إن الإنسان كإنسان، وكنوع _ سواء أكان مسلماً أم غير مسلم _ سوف يصل في دولة الإمام المهدي عليه السلام إلي مستوي تتشخّص وتتميز فيه قوي الخير من قوي الشر، ولا يبقي في الأرض إنسان وسط، بل يكون الإنسان إما إنساناً خيّراً مطلقاً، وإما إنساناً شريراً مطلقاً.

هذا الحد لم يكن متوفراً قبل هذه المرحلة، فلم تكن البشرية قد وصلت إلي هذه المرحلة من الحدّية بين الخير والشر قبل مرحلة ظهور الإمام عليه السلام ، وإنما سوف تصل البشرية إلي هذه الحدّية عندما تؤهل فتدخل آخر مرحلة من مراحل تغيير الإنسان للمجتمع الإنساني في ظهور الإمام عليه السلام.

ولذلك فسوف تتغير قوانين التحكّم، سواء أكانت تشريعة أم تنفيذية، حتّي أنها ستشمل بعض التشريعات السماويّة ويتغير وينقلب كثير من الموازين إلي ألوان أخري، وبعض تلك التغييرات يشخصها الإمام عليه السلام نفسه ويتحرك بها الإمام بشخصه المقدس عليه السلام.

وأعطيك مثالاً لما يفعله الإمام، سواء فسّرناه علي نحو الإعجاز أو فسرناه بأحد التفسيرات المعيّنة، تلك هي الروايات

ص: 24

المتعددة في تغيير أصحاب الإمام، فقد جاء في إحدي تلك الروايات المرويّة عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: (إذا قام قائمنا وضع يده علي رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم).(1)

ويستخدم لغوياً (كمال الحلم) بمعني العقل أيضاً، وهذا الكمال هو الكمال العقلي الذي سيصل إليه العباد وهم أفراد المجتمع الإنساني. هل كانت الرواية ترمز إلي أنّ تلك الحركة من يد الإمام عليه السلام يقصد بها يده الظاهرية المقدّسة؟ أم أن المقصود من يده مؤدي المجاز وجاء اللفظ علي التعبير المجازي؟ فاليد مجازاً تعني القوة والسطوة التي يستخدمها الإمام، ومعني هذا أن القوّة هي التي تكون السبب المركزي لكمال العقول، وتكامل العقل الإنساني.

نحن الآن مبهورون بما وصلت إليه الإنسانية من التكنلوجيا والتطوّر الذي نشاهده، لكن الانبهار الأعظم يكون عند ظهور الإمام عليه السلام فسوف يتكامل العقل الإنساني، ويتحقق هذا التكامل في كل أبعاده الجغرافية، أو أبعاده العملية بما يعبر عنه بالعقل النظري والعقل العملي، ويعني هذا أن طريقة الإدراك البشري سوف تتكامل في عصره.ل.

ص: 25


1- الكافي للكليني 1: 25/ ح 21/ كتاب العقل والجهل.

كما أنه سوف تتكامل الوسائل الممهّدة للعقل الإنساني التي من جملتها التطور التكنلوجي الذي يكون في عصره، وهكذا فسنجد في زمانه عليه السلام أن كل واحد من أصحابه يكلم مَنْ في المشرق وهو في المغرب، ويكلم مَنْ في المغرب مَنْ هو في المشرق، ربما كان تصور هذا التقدم التكنلوجي سابقاً في زمان الأئمّة عليهم السلام يعدّ نوعاً من أنواع الإعجاز، ولكنّه حالياً صار من الأمور العادية والبديهية ببركة التقدم التكنلوجي.

وهذا التطور الذي يحدث في عصر الإمام يخاف منه الغرب، وتوجد حالياً دراسات غربية _ قرأت عنها منذ عشرات السنين _ تتحدّث عن التطوّر التكنلوجي في عصر الإمام عليه السلام ، وكيف يخافون من هذا التطور الذي يرهب التطور الغربي، فالغرب يحسب حساباً لهذا التطور التكنلوجي المهدوي الذي سوف يكون في زمان الإمام عليه السلام.

وهناك الروايات الأخري التي تحدّثت عن تغيّر في قوي الإنسان، وهناك أكثر من رواية تتحدّث عن هذا التغير في قوي الإنسان، ومن جملة هذه التغيرات التي تحدث في الإنسان المهدوي أنه عليه السلام إذا ظهر مسح بيده علي رؤوس العباد فلا يبقي مؤمن إلاّ صار قلبه أشدّ من زبر الحديد، وأعطاه الله قوّة أربعين رجلاً.(1)1.

ص: 26


1- كمال الدين: 653/ ح 17، و673/ ح 26؛ دلائل الإمامة: 457/ ح 41.

كما تعرفون أن هذا العدد _ وهو ثلاثون وأربعون وسبعون _ يستخدم للمبالغة وللكثرة، يعني تصل قوّة الرجل إلي ما لا نهاية من القوي البدنية والجسمية، والله أعلم بالتغير الفسلجي الذي سوف يحدث في إنسان عصر الإمام المهدي عليه السلام.

هذا التكامل للإنسان ليس علي مستوي الإدراك والعقل فقط، وإنّما يشمل التكامل الجسماني أيضاً في القوي الأخري التي يتمتع بها. ثمّ إن هناك تغيراً وتكاملاً كونياً في القوي التي تحكم هذه الدنيا فإنها سوف تغير الدنيا، وتبدل الدنيا، ويكتفي بنور الإمام عن ضوء الشمس والقمر.(1)

وعندما يتحدّث علماء الفلك حالياً ويضعون مدّة سنويّة تخمد الشمس أضواءها وتنطفئ الشمس، فإننا نحس بأهمية هذه المرحلة من تأريخ البشرية.

ولكن هل بانطفاء الشمس تنتهي الحياة في الأرض؟ كما قد يقال حالياً ولذلك فهم يريدون أن يسبقوا التغير الكوني لما يحتملونه من وجود حياة سابقاً في المريخ انتهت لمثل هذه الأسباب؟

أم أن هناك حياة ما بعد انطفاء الشمس التي يقرها علماء).

ص: 27


1- تفسير القمي 2: 253، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالي (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها) قال: (رب الأرض يعني إمام الأرض)، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: (إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام).

الفلك حالياً إلي مرحلة الله أعلم كم مداها؟ وقد تحدث عن هذه المرحلة الإسلام العظيم بتشخيصه التطور، أو التغير الكوني في عصر الإمام عليه السلام.

ولا أطيل البحث، وإنما أنا أشرت إلي هذا الموضوع إشارات فقط، وإن هذه الإشارات تدعوني وتدعوكم إلي دراسة هذه المرحلة الخطيرة في حركة الإمام التي لا تعبر عن نهاية البشرية، وإنّما تعبّر عن غاية الكمال الكوني، والكمال الإنساني والذي يتم ويتحقق في آخر مرحلة من مراحل التطور الإنساني في حركة الإمام المهدي والمعبر عنه بالحتمية الإلهية.

أنا أضع هذا الموضوع في هذا الإطار وبهذا المقدار، لأجل أن نرسم لتلك الفراغات آفاقاً أخري غير التي شملناها في الحديث في هذه الدقائق، وأسأل الله التوفيق لكم ولنا.

والحمد لله رب العالمين

* * *

الأسئلة والأجوبة

السؤال الأوّل:

سيدي تحدّثتم عن تأهيل النفس الإنسانية، ووردت آيات قرآنية كثيرة في مسألة الصراع بين الشر والخير، وقد نقل كثير من هذه الآيات أنّ أصحاب الخير هم قلة، فهذه النفس الإنسانية، هل هي محصورة بالمؤمنين أم تشمل غير المسلمين؟

ص: 28

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وآله المعصومين، بطبيعة الحال أنّ الإنسان له موقفان: الموقف الفردي، والموقف الاجتماعي.

الموقف الفردي متميّز عن الموقف الاجتماعي، وقد تحدّثنا عن الجانب الاجتماعي كمجتمع، لأننا حينما نحلل في علم النفس مرة نتحدّث عن الإنسان الفرد، ومرة نحلل الإنسان ولكن بطريقة علم الاجتماع، أي الإنسان المجتمع.

الجانب الذي تحدّثت فيه إنّما كان عن الجانب الاجتماعي في حركة الإمام المهدي عليه السلام ، وليس معني ذلك غض النظر والطرف عن الجانب الفردي، لأن هناك ترابطاً بين الفرد وبين المجتمع.

يعني أنه يمكن أن يفصل الواحد عن الآخر، ولكن كما أن هناك مؤثرات شخصانيّة للإنسان فهناك مؤثّرات اجتماعية في الإنسان أقوي وأكبر من إرادة الإنسان التي في بعض نظريات علم الاجتماع يعبر عنها بالحتمية الاجتماعية أو الجبر الاجتماعي.

أي أن هناك جبراً فردياً، وهناك جبراً اجتماعياً، لست أريد حالياً أن أحدّد وأشخص هاتين النظريتين وهل هما صحيحتان أم لا، وإنما استشهد بهما لأوضح الظروف التي أتحدّث عنها، وهو أن الإنسان الفرد يحتاج إلي موقف تفصيلي، وقد تحدّثت في هذه المحاضرة عن الإنسان المجتمع فقط.

ص: 29

أمّا الإنسان الفرد في عصر الظهور، وعصر ما قبل الظهور فله دور كبير في إيجاد هذه الحالة الاجتماعية، لكن لم يكن الدور هو الدور الأوّل والآخر، وإنّما يبقي الإنسان بدوره الفرداني والشخصاني يؤثر فيه الخيّر وفيه الشرير، ولكنَّ هناك أبعاد اجتماعية تتحكم في عمليّة التغيير الاجتماعي في تطور المجتمع الإنساني.

فكما تحدّثت عن ذلك الجانب، يبقي الحديث كما هو معروف أن الإنسان فيه خيّر وفيه شرير ولكن التطور الاجتماعي يوصل الإنسان قبل مرحلة الظهور إلي منطقة المائز والحد الفاصل بين الخير والشر.

السؤال الثاني:

أو بالأحري مداخلة من أحد الأخوة الحضور: قلتم سماحتكم ما معناه أن الإمام أو المصلح النهائي لم يكن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ولم يكن أحداً من الأئمّة الأحد عشر قبل الإمام لأن المجتمع غير مؤهل لذلك.

أقول: وذلك لأنّه لم يميز بين الخبيث والطيب. وبما أننا نشهد الآن سقوط قانون وضعي بعد آخر لكونه غير صالح لكل الأزمان، حتّي تصبح البشرية مدركة أنه لا يكون صلاحها إلاّ بدين الله، ودين الله الصحيح ومن منابعه الأصلية، وهذا هو التمييز بين الخبيث والطيب.

ص: 30

الجواب:

إن هناك سؤال أثاره البعض لطول عمر الإمام عليه السلام وبيّن هذا السؤال أنه ربّما يقال أن أحد أسباب طول عمر الإمام لزيادة خبرة الإمام، في الواقع نحن الإماميّة نعتبر هذا الجواب خاطئاً، لأننا نعتبر أن الإمام المعصوم عليه السلام علمه لدنّي ولا تؤثّر عليه الظروف الاجتماعية لتطوّر علومه عليه السلام ، وإنّما العكس هو الصحيح أن الخبرات الاجتماعية كلما تكثّفت، كلما سبّبت تكامل البشرية، فتكون البشرية مؤهّلة لاستقبال الحركة المحددة للتغيير التام ما قبل وما بعد _ من قبل ومن بعد _ فهذه الخبرات التي أشار إليها الكاتب بإشارة من الإشارات إنما عبرت عنها بالتطوّر.

السؤال الثالث:

هل هناك رواية تقول أنه لا يكون أمركم _ أي ظهور الإمام المهدي عليه السلام _ حتّي يأتي الله بقوم لا تضرهم الفتنة،(1) فهل هؤلاء القوم المقصود بهم الأمّة أم أصحاب الحجّة عليه السلام؟

الجواب:

عندما نتكلّم عن الأمّة ونتكلّم عن أصحاب الإمام لا نعتبر

ص: 31


1- عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة قال: (... لا يبقي منكم إلاّ عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً). راجع كتاب الغيبة للنعماني: 210/ ح 17.

أصحاب الإمام شيئاً مجرداً عن الأمّة، وإنّما قلنا: إنّ الأمّة أو المجتمع الإيماني، وبطبيعة الحال يكون الأصحاب هم قادة هذا المجتمع الإيماني، ويكون هذا المجتمع مؤهّلاً لقيادة الإمام، ففي الواقع أنّه لا تمييز بين القادة والمجتمع لأنّه سوف يكون هؤلاء هم قادة المجتمع.

السؤال الرابع:

هنا مجموعة من الأسئلة كلها تتمحور في محور واحد، نعرضها علي سماحة السيد:

الأوّل: ما هي الواجبات الملقاة علي عاتقنا، وما هو دورنا كنساء وموظفات ومعلّمات؟ وكيف نتهيأ في هذا الزمان لظهور الإمام عليه السلام.

الثاني: ما هو دور المرأة المؤمنة في عصر الظهور؟

الثالث: هل هناك من النساء مع الإمام المهدي عليه السلام؟

الرابع: ماذا علي المكلف أن يقوم به لتعجيل فرجه عليه السلام؟

الخامس: كيف تتهيأ المرأة لعصر الظهور؟

السادس: هل تستطيع المرأة في زمن الظهور اللقاء معه عليه السلام؟

السابع: هل صحيح أنّ الإمام المهدي عليه السلام يقتل علي يد امرأة وما هي مواصفاتها واسمها وأين تظهر؟

ص: 32

الجواب:

مجموع الأسئلة تتحدّث بشكل عام عن دور المرأة قبل الظهور وبعد الظهور، والإسلام يري أنّ المرأة قد وجّه إليها التكليف بمقدار ما وجّه إلي الرجل، فعندما يقول تعالي: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(1) فإن الكل يعلم أنّ الله خلق اثنين _ لم يخلق واحداً _ خلق آدم وحوّاء، وكان التكامل الإنساني بين الطرفين، ولكن الخطاب عندما يوجّه إلي آدم، فهو من خطاب التغليب وهو _ كما تعلمون _ يوجّه إلي طرف مع أنه يقصد الطرفين.

وأمّا سبب التغليب الذي صار في هذه المحادثات الربانيّة، فهو لشدّة العلقة بين حوّاء المرأة وبين آدم الرجل حتّي صارا شيئاً واحداً في الخطاب، فلو قرأنا القرآن الكريم نجد تكاليف الصلاة وتكاليف الصيام وتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد وجهت إلي الطرفين الرجل والمرأة، ولا توجد عندنا تكاليف قرآنية موجهة إلي الرجل وحده أو تكاليف قرآنية موجهة إلي المرأة فقط، فمثلاً: (وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)،(2) كلمة: (من) لم يقصد بها الرجل ولم يقصد بها المرأة،

ص: 33


1- البقرة: 30.
2- آل عمران: 97.

ولذلك كان الخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لم يقصد به الرجل وإنّما المقصود به خطاب التكليف للذين آمنوا، أي الذين تكونوا من رجل وامرأة.

أقصد من هذا التصور أنّ الرؤية القرآنية والإسلاميّة للمرأة بمنزلة الرجل بمستوي واحد، ولا يفرّق القرآن ولم تفرّق سيرة النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام بين الرجل والمرأة، إلاّ عندما تتميّز الخلقة، في باب تميّز الخلقة والتكوين فيكون هناك خطاب مختص بالرجل ويكون هناك خطاب مختص بالمرأة، ولكنه جاء التكليف للحاظ الخصوصية مثل الجهاد علي الرجل وأحكام الحيض علي النساء، وليس هو في أصل التشريع.

أمّا التشريعات الخاصة بالمرأة، فإنّما جاءت نتيجة التميز التكويني للمرأة، فمثلاً عندما أسقط الله تعالي الجهاد عن المرأة وأوجبه علي الرجل في زمن من الأزمنة عندما كانت الحرب تعتمد علي استخدام العضلات، فإنما كان السبب هو أنّ التكوين الفسلجي للمرأة لا يستطيع أن يوفّر هذا التكليف، وكذلك عندما أسقط الله سبحانه وتعالي تكاليف معيّنة عن الرجل وأوجبها علي المرأة، فذلك لأنه كان فاقداً القدرة التكوينيّة، أو لهذه التغيرات التكوينية لأداء ذلك التكليف.

أمّا بالنسبة للمرأة في عصر التهيئة للظهور، فدورها نفس الدور الذي هو للرجل، وعندما نتحدّث ويكون الخطاب للتذكير

ص: 34

وليس التأنيث لم نكن نقصد به التذكير بما هو تذكير، وإنّما المقصود به المكلف الذي يتكون من رجل وامرأة، ولذلك فدور المرأة في عصر الغيبة وفي عصر التمهيد للظهور هو نفس دور الرجل وبنفس القوّة وبنفس الحساسيّة، وبنفس التكليف.

وعندما نتحدّث مع المجتمع بهذا الأسلوب فسوف تعلم المرأة كيف تؤدي وظيفتها، كما أن الرجل يعلم من خلال التكاليف الشرعية كيف يؤدي وظيفته، وهكذا بالنسبة لما بعد الظهور.

ومن البديهي فإن هذا الموضوع مهم، وأحب أن أشير إليه إشارات وأترك التفاصيل، وهو أن حركة الإمام العسكرية بعد الظهور هل هي كما نعرفها نحن؟ حرب وقتال، أم هناك حركة أخري وبصورة أخري؟ فمثلاً عندما تُذْكَر الحرب في بعض الروايات فهل هي عبارة عن كناية، ومجاز، وألفاظ هدفها إيصال معني أن حركة الإمام ضخمة وعظيمة؟ إن الجواب علي هذا السؤال يحتاج إلي بحث ودراسة، ووقت لشرح تلك الأبعاد المهمة لتلك الحركة بالنسبة إلي الإمام عليه السلام.

والحقيقة أن دور المرأة التغييري يتبين فيما لو عرفنا أن دور حركة الإمام ليست قتالاً بمعني القتل والقتال فقط، وإنّما هي لتغيير الإنسان، وسوف نعرف أن الدور واحد للرجل والمرأة.

ص: 35

وأمّا أن المرأة سوف تقتل الإمام فجاء في رواية شاذة مهملة لا تصلح في مقام تأسيس النظرية الإسلاميّة.. إضافة إلي أن هناك بحثاً يا أخواتي وهو: هل أن الإمام عليه السلام سوف يقتل أو يموت ميتة طبيعية أو بإشاءة ربانية؟ هذا السؤال يحتاج إلي جواب يؤصل في بحث لست الآن بصدد التفاصيل عنه، وتوجد عندنا روايات بأنّه عليه السلام سوف يقتل، لكن هناك روايات أخري أيضاً تقول بأنه عليه السلام سوف يموت ميتة طبيعيّة،(1) واستميحكم عذراً للايجاز لأني أحتاج إلي وقت كافٍ وهو ما لم يسعه الوقت المخصص لهذا اللقاء.

السؤال الخامس:

لماذا نقول: حركة الإمام المهدي ولا نطلق عليها ثورة الإمام المهدي عليه السلام؟

الجواب:

يتمكّن الإنسان أن يعبّر عنها بكلا التعبيرين، فإن شاء أن يعبر عنها بالحركة التغيرية أو الثورة، فهذا مصطلح يمكن التسامح به لأنه مصطلح. والمتحدّث والمتكلّم والكاتب يستخدم المصطلح كما هو يصطلح عليه، ولا تشاح باستعمال الألفاظ.

ص: 36


1- أنظر مختصر كفاية المهتدي: 241.

السؤال السادس:

يظهر من الروايات أن الإمام المهدي يتخذ العراق (الكوفة) عاصمة له، فهل هذا الاختيار مبني علي وجود قاعدة محبة أم لأسباب أخري؟

الجواب:

إن موقع العراق بالنسبة لحركة الإمام وموضع العراق، فيه جملة من الأبعاد المهمة التي سوف تتحقق في هذه البقعة المباركة، فإن عاصمة دولة الإمام عليه السلام هي العراق وبالخصوص الكوفة، والكوفة معقل الإمام وفيها بيت الإمام، ولذلك فقد جاء في بعض الروايات أن مسجد سهيل _ أي مسجد السهلة _ هو بيت الإمام(1) وقد يستشكل علي هذا الموضوع أنه كيف يكون مسجداً وبيتاً في آن واحد؟ وهو موضوع لطيف وطريف وفيه من المعالم العقائدية والفكرية التي تحتاج إلي تفصيل، ويمكن أن يجاب عليه بسؤال آخر وهو: كيف كان مسجد النبي بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم؟ وبيت فاطمة عليها السلام في المسجد؟ ولذلك سدّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كل الأبواب التي كانت تطل علي المسجد إلاّ بيت عليّ عليه السلام ،(2) لأن بيت علي هو بيت النبي وهو المسجد _ أي لا فرق

ص: 37


1- الكافي للكليني 3: 494/ ح 2/ باب مسجد السهلة.
2- يشير إلي ذلك ما روي أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: (سدوا الأبواب كلها إلاّ باب عليّ، وأومي إلي باب عليّ)، راجع كنز العمال 13: 136/ ح 36432.

بين بيت عليّ والمسجد _ لأنّ إرادة الله شاءت أن تكون للإمامة موقعها الخاص، وهذا يحتاج إلي تفصيل.

وأن مسجد السهلة سوف يكون بيت الإمام، وفي هذا البيت سوف تشدّ الرايات للإمام المهدي، أي أن مركز الحرب يبتدئ هناك، والسبب في ذلك هو أنّ هذا الشعب بإرادة الله تبارك وتعالي سوف يبلغ القمة في التمحيص.

وعندنا روايات تتحدّث عن الآية الكريمة (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَْمْوالِ وَالأَْنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) ثمّ الآية تقول: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (1) الإمام الباقر عليه السلام يقول: إن هذه خاصّة بأهل العراق،(2) يعني أن هذه العلامات، التي هي علامات الضغط، ونقص في الأموال والثمرات ثم القتل والدمار والدم الذي سال في العراق وعلي أرض العراق.

أمّا لماذا أنّ الله ابتلي أهل العراق بهذا الابتلاء؟! فللأسف أنّ هناك ثقافة أمويّة _ وليست ثقافة علوية هاشمية _ حاولت أن تثبت كثيراً من قطاعات الأمّة علي الانحراف باتهام العراقيين بأنّ هؤلاء يستحقون العذاب والمرارة لأنهم أهل الشقاق والنفاق.ث.

ص: 38


1- البقرة: 155.
2- غيبة النعماني: 251/ ب 14/ ح 7، قال عليه السلام: (ذلك جوع خاص وجوع عام، فإن بالشام فإنه عام، وأما الخاص بالكوفة يخص ولا يعم... ) الحديث.

إن هذه الثقافة إنما هي من رواسب الثقافة الأموية؟ وعليه فلماذا خصّوا بها أهل العراق ولم يخصوا بها أهل الشام؟!

لأن أهل العراق ومن بداية تأسيس العراق وقبل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين إلي الكوفة وأسّس خلافته كانوا قد بنوا أساسهم علي أساس علوي هاشمي، ولذلك كانت النهضة الأولي التي أسقطت الانحراف الذي سبق خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وقبل أن ترجع زمام الإمامة إلي الإمام ابتدأت من العراق، وهكذا فالتصحيح بدأ من الكوفة، وحرب الانحراف بدأ من الكوفة، والحرب ضد الانحراف بدأ من الكوفة، لأن الكوفة كانت علويّة من بداياتها، وكبرت علويّة، وبقيت الكوفة وبقي العراق علوياً، وبتعبير آخر (محمّدياً)، وبتعبير آخر إن الإسلام الصحيح كان في العراق، ولذلك كان علي عاتق هذا الشعب بناء جيش الإمام المنتظر عليه السلام ، وعلي عاتق هذا الشعب قيادة البشريّة في التغيير الذي يحدث عند ظهور المهدي.

ولذلك سوف يبتلي الله هذا الشعب بهذه الابتلاءات، ويشدّد التمحيص ويشدّد الابتلاء، لأنّه جاء في روايات الابتلاء وروايات الفتن: كلّما اشتد الابتلاء وكلما كثرت المحن زكي هذا الإنسان، وهذا المجتمع، وهذا الشعب، وكان أكثر أهميّة لقيادة البشرية، كما أن الحديد كلما سلّطت عليه النار كلما تخلّص من الشوائب، وكلما كان أنقي وأكثر تحمّلاً للصعوبات.

والمصاعب التي مرَّ بهذا الشعب كانت مقصودة لأنّ هذا

ص: 39

الشعب هو قائد العالم، وقائد التغيير للدنيا في عصر الظهور، وأعطيكم مثالاً صغيراً رأيناه بأم أعيننا: إن العراقي في أي بلد كان من البلاد _ حتّي وإن كان قبل خروجه من العراق ليس متديّناً _ فهو عندما يخرج إلي بلد من بلدان العالم فإن أوّل ما يشيد في ذلك البلد حسينيّة، ويبني مسجداً، يقام فيه مجلس الحسين عليه السلام ، وقد امتلأت الأرض حالياً بأبعادها بذكر الحسين من يوم هاجر العراقيون إلي العالم، فهذه حكمة إلهيّة أن يكون هذا الإنسان يُربَّي هذه التربية التي جاءت في كثير من الأحيان انعكاساً للسلوك العدواني الذي كان يواجهه الإنسان العراقي من الأنظمة الطائفية ويعلّم هذا التعليم الذي له _ قطعاً _ يد غيبيّة فيكون هذا الإنسان له دور حالياًَ، فكيف يكون دوره في التغيير المستقبلي؟! إن شاء الله يشارك بشكل مؤثر بتغيير الأمّة وتغيير العالم.

لعلَّ لهذه الأسباب يكون منشأ أهميّة العراق.

والحمد لله رب العالمين

* * *

ص: 40

الندوة الثانية: دور العراق في حركة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

ألقيت الندوة في كلية الآداب

في النجف الأشرف

ص: 41

صفحة بيضاء

ص: 42

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن علي منكري فضائلهم إلي يوم الدين.

اللهم ربنا وفقنا وجميع المؤمنين، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنّك أرحم الراحمين.

شمولية النظريّة الإسلاميّة:

عندما نتحدّث عن حركة الإمام المهدي عليه السلام ، وندرس خريطة الحركة تظهر أمامنا مواقع كثيرة مهمّة ذُكِرَتْ في الروايات المستقبليّة لحركة الإمام، وأهم تلك المواقع هو العراق، وقد وجدنا موقع العراق علي خارطة حركة الإمام، قد أخذ اهتماماً كبيراً في الروايات.

وقبل أن نتحدّث عن تفاصيل وجزئيات هذا الموقع الوارد في الروايات الشريفة لا بدّ من الحديث كمقدّمة أولي (لدفع دخل كما يقول العلماء) للموضوع بالحديث الجغرافي عن المناطق والأمكنة الجغرافية:

ص: 43

وذلك لأن الفكر الإسلامي يعالج مسألة المكان برؤية فلسفيّة ثورية واقعية، وموضوع (أثر المكان في حركة الإنسان)، من المواضيع المهمة والضرورية التي تجعل الباحث يتطرق إلي عالمية الإسلام والمفاهيم التي جاء بها كأدليوجية حملها الإنسان بدون قيد زماني أو مكاني.

فعندما نقرأ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)،(1) فهو كسر لطوق المكانية وطوق الزمانية، يعني أن المؤثرات المكانية والزمانية سوف تنعدم عن الروح والفكر الثوري الإسلامي.

ونلاحظ أيضاً أن الأطروحات المؤطرة بأطر مكانية، كالأطروحة القومية، سواء ما سميت بالقومية العربية أو القومية الفارسية أو القومية الألمانية أو أي أطروحة قومية أخري، قد برز فيها المكان واضحاً علي الأطروحة، يعني أنه قد اُخذ في الأطروحة موضوع المكان كمسألة أساسية وأوّلية، يحدّد طوق تلك الأطروحة، وذلك المشروع الفكري، أو الثقافي الذي يطرح للأمّة المختصة بالمكان.

فالقومية العربية تتحدّث عن مكان محدد بوطن سموه الوطن العربي، والقومية الفارسية تحدّثت عن المكان الذي يحكمه جوّ من الانتماء العرقي أو الانتماء المكاني، وهكذا في7.

ص: 44


1- الأنبياء: 107.

القوميات الألمانية والقوميات الأخري التي طرحت في أوربا في عصور تسبق ما طرح في وطننا العربي، أو وطننا الإسلامي.

ولا أريد أن أعالج مسألة المكان؛ وهل أنّ الإسلام قد أكّد علي هذا المنطق في طرحه، وفي مفهومه، وفي المقدار الشرعي واللاشرعي فيه؛ لأن هذا الموضوع يجرنا للحديث عن مفهوم الوطن وعن مفهوم القومية، وقد سبق لي أن طرحت هذا الموضوع في كتب مطبوعة ومنشورة علي نحو مستقل ومنشورة في عدّة صحف في العراق وفي غير العراق.

خصوصيّة العراق:

لكني أريد أن أشير إلي أنّنا وإن تجاوزنا بطرحنا العام، وطرحنا الأممي المكاني، لأن الفكر الإسلامي تجاوز الموقع المكاني والزماني؛ فالإسلام ليس لأمّة دون أمّة، ولا لزمان دون زمان، مع أننا نؤكد علي هذه الحقيقة فأننا نؤكّد أن هناك أموراً لابدّ أن نتحدّث عنها بواقعية، وهي: أنه كان للمكان في كثير من الأحيان خصوصيته في تحديد مواقع المبادئ والعقائد.

وعندما نتحدّث عن العراق، فإنّ العراق يحتاج للحديث عنه من خلال الرؤية الإمامية الشيعية للعراق، فنتحدّث عنه كمستقبل، ونتحدّث عنه كماضي مؤثّر في المستقبل ومؤثر في الحاضر، ونتحدّث عن العراق كموقع اهّتم به أهل البيت عليهم السلام فكرياً، واهتموا به تطبيقياً وميدانياً.

ص: 45

وهذا الموضوع بنفسه يحتاج إلي تفصيل ويحتاج إلي حديث خاص لملاحظة ما ورد في العراق من روايات أهل البيت عليهم السلام من موقع قيادي في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكني أختصّ بالحديث في هذه المحاضرة عن العراق ودور العراق المستقبلي في حركة الإمام المهدي عليه السلام.

وقد وجدنا هناك تنوعاً في الروايات، كما وجدنا تحديداً لكثير من الخصوصيات التي تتحدّث عن العراق كموقع جغرافي، وقد عبّرنا عنه باصطلاح المكان.

وهناك شيء آخر وجدناه في الروايات التي تحدّثت عن الناس، والمجتمع الذي يعيش في هذه البقعة من الأرض، والذي قد أعبر عنه بالعراقيين، وأقصد سكان هذه الأرض بدون لحاظ الانتماء العرقي أو غير ذلك من الانتماءات، ومن دون تحديد الهوية والجنسية، وما إلي ذلك من التفصيلات مما يمكن للإنسان أن يتعرّض لها، أو لا بدّ للباحث أن يشخص تلك الخصوصيات، مثلاً مَنْ هو العراقي؟ ومَنْ هو غير العراقي؟ وسوف أغضّ الطرف عن هذه التفصيلات في هذه المحاضرة، لأني أري أن الروايات تحدّثت عن العراقي الذي يكون متواجداً في هذه المنطقة، ويحمل همّ هذه الأرض، وينتمي جغرافيّاً وليس قطرياً وإقليمياً فحسب، بل ينتمي جغرافياً لهذه الأرض المسماة بالعراق.

ص: 46

مراحل دور العراق:

اشارة

والعراق له دور مستقبلي في حركة الإمام المهدي عليه السلام ، وبملاحظة الروايات التي تحدّثت عن العراق نجدها قد أخذت عدة صور في الحديث عنه، فمرّة تحدّثت الروايات عن العراق الذي يسبق الظهور، وأخري تحدّثت عن العراق الذي يمهد للظهور، وأخري تحدّثت عن العراق الذي سوف يشارك في الظهور.

بمعني أن هناك مراحل ثلاثاً يمر بها العراق، وهذه المراحل الثلاث هي:

المرحلة الأولي: قبل التمهيد:

وهي المرحلة التي تسبق التمهيد للظهور، وقد قالت عنها الروايات: أن الأمّة في العراق سوف تعاني التمحيص، وسوف تعاني الابتلاء والشدة من حكام جور سيحكمون هذا البلد، ويحكمون هذه البقعة الجغرافية، حتّي يؤدي هذا الجور إلي حالات صعبة يمر بها العراق والشعب العراقي، وقد عبرت الروايات عن هذه الحالات بأنواع مختلفة.

ومن جملة تلك الأنواع التي يمر بها العراق في عصر قبل التمهيد، وهو العصر الأوّل الذي نتحدّث عنه المرارة التي يمر بها المجتمع العراقي، التي سوف تؤدّي إلي ضغوط كثيرة، منها

ص: 47

ضغوط نفسيّة، وضغوط دينيّة، وضغوط اقتصادية، وحتّي ضغوط تكوينية تغير في طوبوغرافية المجتمع العراقي.

وإن هذه الصور المتعددة التي تحدّثت عنها الروايات قد صورت لنا أن العراق سوف يُحكم من قبل حكّام جور، وإن هؤلاء الحكام يغيرون كثيراً من خصوصيّة هذه المنطقة مما يجعل المنطقة تعيش في حصار اقتصادي، وهو المعبر عنه في الروايات بالجوع: (يشمل أهل العراق جوع ذريع.. يشمل أهل العراق نقص في الأموال)؛(1) هذا كله موجود في نصوص وروايات وردت عن الإمام الصادق عليه السلام والأئمّة عليهم السلام حيث تحدّثوا عن الجوع والحصار والألم الاقتصادي الذي يمر به الشعب العراقي قبل مرحلة التمهيد.

ومن الصحيح أن هذا شيء قد مر به العراق مرات كثيرة، ولكنّه قد يكون آخر مرة مرَّ به خلال الحقبة الزمنية الأخيرة التي تجاوزت العشر سنوات.

والشيء الآخر الذي يمر به العراق حالة الحروب المتكررة، وكثرة الدم، وكثرة القتل، وكثرة الذبح، مما يؤدي إلي انتشار حالة اجتماعية مرفوضة، وهي حالة الخوف الذريع. والخوف الذريع سببه إنعدام الأمن الذي سوف يكون في العراق.6.

ص: 48


1- لاحظ: الإرشاد للشيخ المفيد 2: 369؛ كشف الغمة للأربلي 3: 256.

وهذا الخوف الذريع _ للأسف الشديد _ سوف يؤثر علي إرادة الإنسان، لأن الإنسان بطبيعته تحكمه خصوصيات اجتماعية ونفسية وإن أراد أن يتجرد منها أو يكبر عليها، لكن هناك ضغوط اجتماعية قد تفقد الإنسان في كثير من الأحيان إرادته، وهذه الحالة سببها الخوف، والذي يمكن أن نرجع سكوت الشعب العراقي أو كثير من قطاعات الشعب العراقي عما مرَّ عليه من الاضطهاد، والحرمان، والعذاب، والقتل وما إلي ذلك، مع أنه كان _ تقريباً _ ساكتاً بالشكل العام نتيجة في كثير من الأحيان لما يفسر بفقدان الإرادة، فالإنسان عندما يري الظلم لا بدّ أن يقاتل الظلم لكنه كان فاقد الإرادة أمام الظلم، وغير قادر علي أن يجابه الظلام والحكام الذين سبق وأن حكموه وسلبوا إرادته.

إنّ هذه الحالة تظهر قبل مرحلة التمهيد، والتي عبر عنها الأئمّة عليهم السلام في كثير من تلك الأحيان بأنه وخوف يشمل أهل العراق وموت ذريع فيه.(1)

هذا الخوف الذريع قد يؤدي إلي تغيير خصوصيات التفكير عند الإنسان، ولكن مع كل ذلك فإن هذا الخوف الذريع، قد يؤدّي إلي حالة إيجابية أيضاً، ليست الحالة سلبية فقط، فقد3.

ص: 49


1- راجع: روضة الواعظين/ الفتال النيسابوري: 263؛ الإرشاد/ المفيد 2: 369؛ كشف الغمة/ الإربلي 3: 256؛ الفصول المهمة/ ابن الصباغ المالكي 2: 113.

تكون هناك حالة إيجابية، وهذه الحالة الإيجابية تميز وتغربل الناس بغربال كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: (بغربال) تميّزهم علي قسمين وهذه الرواية رواها النعماني في غيبته عن أبي بصير عندما كلّمه الإمام الصادق عمّا يمر علي أهل العراق من الفتن والامتحان والبلايا، وأنهم يغربلون كغربلة الغربال فيميز أحدهم عن الآخر، الرديء عن الحسن.(1)

هذا التمييز إنما يأتي من الفتن، يأتي من الضغوط التي يمر بها المجتمع العراقي في هذه المرحلة.

وهنا قد يثار سؤال: لماذا يمتحن هذا الشعب بهذا الامتحان دون غيره من شعوب العالم، ومناطق الدنيا؟

قد نجد أكثر الروايات التي تحدّثت عن عصر الظهور ذكرت فيها منطقة العراق، بحيث أنّ الفقيه والقارئ المستنبط لتلك الروايات التي تحدّثت عن عصر الظهور يجد أكثر تلك الروايات التي تحدّثت عن عصر الظهور وما فيها من علامات ودلالات وآيات وما إلي ذلك أنها سوف تحدث في العراق؟

ففي هذه المرحلة التمهيدية (المرحلة الأولي) نجد أكثر هذه العلامات تصير وتحدث في العراق قبل أن تشمل العالم وقبل أن تشمل المناطق الأخري.. لماذا هذا6.

ص: 50


1- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (... لا بدّ للناس أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا وسيخرج من الغربال خلق كثير)، راجع كتاب الغيبة للنعماني: 204/ ح6.

التمحيص والابتلاء في العراق؟ لماذا هذا الامتحان وشدة الامتحان في العراق؟

الجواب: لأن الله سبحانه وتعالي أخذ العراق مكاناً جغرافياً مهماً لحركة الإمام المهدي، وهو الذي نقرؤه في العصر الثالث، وهو عصر ظهوره وعصر حركته عليه السلام ، فإنّ موقع التحرك المهم يكون في العراق، ولذلك سوف يكون هذا الموقع لأهميته بمستوي هذه المهمة، وأن يكون الجمهور والمجتمع والناس الذين يسكنون في هذا الموقع الجغرافي يكونون بمستوي هذه المهمة.

بمعني أنه لا بدّ من تناسب طردي بين المهمة، وبين شخصية المجتمع الذي يسكن في تلك الأرض التي تتحمل هذه المهمة، فعندما نقرأ أن عاصمة الإمام المهدي عليه السلام سوف تكون في العراق، وتكون في الكوفة، وعندما نقرأ أن مرحلة تحرك الإمام المهدي عليه السلام تكون من الكوفة، أو من العراق؛ فلا بدّ أن يكون المجتمع في ذلك الموقع قد تحمل كل الامتحانات ولم يسقط أمامها، وتحمل كل الهموم ولم يسقط أمامها.

هذا المجتمع الذي لم يسقط، أو الذي خرج من الامتحان ناجحاً يكون مؤهلاً لقيادة البشرية وقيادة العالم، فلذلك ولأجل أن يكون هذا المجتمع القائد، والمجتمع الرائد الذي يقوم

ص: 51

بمرحلة هداية البشرية، لا بدّ أن يكون قد مر بالامتحانات السابقة الصعبة وقد خرج منها ناجحاً.

وبالفعل كان التأكيد الإلهي علي العراق؛ لأن العراق دولة الإمام، ولأن العراق مجتمع الإمام، ولأن العراق محط قادة الإمام وجند الإمام، ولذلك فلابد لهذا المجتمع أن يمر بالامتحان.

إذن هذا الامتحان وهذا العذاب وهذا التمحيص لم يكن سخطاً إلهياً علي المجتمع كما يصوّره بعض الناس عندما يقرؤون حركة الإمام، وإنما هذه العلامات التي تظهر من أجل أن يوفر المجتمع كل خصوصيات، وكل صفات القيادة المؤهلة له لقيادة البشرية.

نلاحظ الدور الإيجابي للمجتمع العراقي في عصر الظهور، هذا الدور مترابط بالمراحل.

إذن فهذا العذاب وهذه المرارة التي يمر بها العراق ويمر بها المجتمع العراقي سوف يؤهّله وينظّمه ليأخذ دوره الطبيعي.

ونحن في عقيدتنا الإمامية نعتقد أن الامام المهدي عليه السلام لا يظهر بصورة إعجازية، ويريد أن يثبت الإعجاز في الأرض، وفي الوجود، وإنما يظهر عليه السلام بشكل طبيعي عندما تتوفّر القواعد وتتهيّأ القيادة المؤهّلة لذلك الدور التغييري للعالم، وليس للعراق فقط، وليس للعرب فقط، وليس للمسلمين فقط، وإنما التغيير الأرضي، وبواسطة التغيير الأرضي سوف يكون هناك تغيير كوني، فالكون سوف يتغيّر.

ص: 52

وقد تعجب كيف يكون تغيير الكون؟! ولإزالة هذا التعجب نحتاج إلي حديث خاص حول دور المهدي في تغيير المجموعة الشمسيّة وحركة المجموعة الشمسيّة، وهذا فيه لحاظات ليست انطلاقاً من الروايات والأحاديث المقدسة فقط وإنما من خلال بحوث علمية تتحدّث عن هذا التغيير الكوني الذي سوف يحدث في عصر المهدي عليه السلام.

المرحلة الثانية: التمهيد:

اشارة

هذا التغيير الذي يقوم به الإمام يبتدئ من العراق، ولذلك يحتاج هذا الدور إلي تمهيد، وهو المرحلة الثانية:

وفي مرحلة التمهيد يأخذ العراق دوراً كبيراً قبل أن يتحرك الإمام، وقبل أن يظهر الإمام.

ولا بدّ لهذا المجتمع الذي خرج من الامتحان ناجحاً أن يكون له دور الممهّد لظهور الإمام المهدي عليه السلام.

وهناك روايات تتحدّث عن الممهدين للمهدي سلطانه، وعن الموطّئين الذين تعبّر عنهم الروايات: الموطئون للمهدي سلطانه(1) وان هؤلاء ينطلقون بحركتهم من العراق إلي خراسان، في حركة متواصلة.

ولا أريد أن أتحدّث عن الجانب الجغرافي لوجود هذه الحركة المتّصلة؛ العراق.. خراسان.. والمناطق الأخري، وإنّما

ص: 53


1- راجع كنز العمال للمتقي الهندي 14: 263/ ح 38657.

أتحدّث عن هذا الجانب في هذه المحاضرة وهو: أنّ العراق جزء من الموطّئين والممهّدين للإمام المهدي عليه السلام.

وهناك روايات متنوّعة تحدّثت عن هذا التمهيد، ومن جملة تلك الروايات التي تحدّثت عن أن هناك قوي بمستوي الوعي، وبمستوي الإدراك، وبمستوي المسؤولية للتغيير الشمولي للدنيا في العراق قبل الظهور، اقرأ هذه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:

قال: ­(يدخل الكوفة _ يعني الإمام المهدي عليه السلام _ وبها ثلاث رايات قد اضطربت فتصفو له، ويدخل حتّي يأتي المنبر فيخطب فلا يدري الناس ما يقول من البكاء).(1)

لاحظ شيئين:

الشيء الأوّل: أنّه يأتي العراق، فلو كان العراق لا يملك التأهيل المناسب لاستمرار ثورته لانتقلت حركة الإمام إلي منطقة أخري، مثلاً: إلي الشام، أو إلي خراسان، أو إلي اليمن، أو إلي مصر، لكنه تجاوز كل تلك المناطق وتحرك بمجرّد أن نجح في مكّة والمدينة _ كما تقول الروايات _ وتوجّه إلي العراق.

والجهة التي يتحرّك، وينطلق منها إلي الدنيا هي العراق فيؤسّس الدولة المهدويّة في العراق، ثمّ بعد ذلك ينطلق إلي الدنيا.

ص: 54


1- الإرشاد للشيخ المفيد 2: 380؛ كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 469.

ولا يتصوّر البعض في حركة الإمام الجانب السلبي الذي سمعناه وقرأناه في كثير من المرّات، حيث تحدّث بعض الناس عن العراق بشكل سلبي فقط، وإنما سوف يكون للعراق دور إيجابي، هذا الدور الإيجابي فيه ثلاث رايات.

بعض الروايات تقول فيها: راية الحسني وراية الحسيني وراية الخراساني هذه ثلاث رايات وهي رايات هديً؛ يعني أنّ القوي الحاكمة في المنطقة قويً لها امتداد عميق في الأمّة، وهي قويً تشكل براياتها الثلاث _ والراية تمثل عملاً إيجابياً _ قوي مسلّحة أو قوي غير مسلحة عسكرياً، ولكن تملك الجمهور الذي يساند هذه الراية؛ وهذه القوي هي الموطّئة والممهّدة.

وعندما يأتي المهدي تكون هذه القوي قد فَرَّغَتْ العراق له، ولذلك لم نقرأ في الروايات أن هناك حرباً تجري في العراق بين الإمام المهدي وبين أهل العراق، ولا توجد أي رواية بهذا الصدد إلاّ رواية البتريّة التي تحدّثت عن أولئك الستة عشر ألف الذين يخرجون ويسمّون البتريّة يقولون عندما يظهر الإمام: ما لنا ولك يا بن فاطمة ارجع لا شأن ولا شغل لنا معك فيضع السيف فيهم.(1)

أولئك البتريّة قوم غرباء عن العراق، والبترية لم يكونوا من الشيعة، إنما هم قوم غرباء عن العراق، وغرباء عن التشيع، وغرباء5.

ص: 55


1- دلائل الإمامة للطبري (الشيعي): 455.

عن شخصيّة هذا المجتمع العراقي، لكنّ الحرب تكون علي الأرض العراقية، وأمّا الشعب لم يكن شعباً عراقياً، ولم يكن مجتمعاً عراقياً، وان الذي يقاتل هؤلاء هو الإمام المهدي بالرايات الثلاث: راية الحسني وراية الحسيني وراية الخراساني التي تكون قد نشرت. ولا نقصد بالغرباء أنهم غرباء الجنسية، وإنما نقصد بالغربة غربة الشخصية فقد يكون أولئك من شذاذ سكنة هذه الأرض ولكنهم غرباء عنها وعن أهلها بالشخصية والطبعية.

الشيء الثاني: الاضطراب الذي تذكره الرواية قد يكون له معنيان: الأوّل: معنيً من معاني الاضطراب الاهتزازي كما لو اهتزت تلك الرايات لشدة وكثرة الجمهور والقواعد التي تحمل تلك الراية يعبّر عنها أيضاً بعبارة: (قد اضطربت).

وهناك تفسير آخر قد يكون للاضطراب: وهو حالة من اللاتفاهم الجزئي، أو حالة من الاختلاف الجزئي الذي قد يكون بين هذه الرايات، ثمّ تسقط وتتلاشي هذه الاختلافات علي يد الإمام عليه السلام.

وهذا الوضع يوضّح أن هناك قويً قبل ظهور الإمام، وأن هذه القوي تمهّد للإمام، وتوطّئ للإمام عليه السلام.

والرواية تتحدّث عن المجتمع العراقي تقول: (حتّي يأتي المنبر)؛ يعني لم يكن للإمام مدّة طويلة عند دخوله العراق، وإنما بمجرد أن يصل الإمام عليه السلام إلي الكوفة فإنه يصعد المنبر، ويخطب بالناس (فلا يدري الناس ما يقول من البكاء).

ص: 56

لاحظ: قوله عليه السلام: (فلا يدري الناس ما يقول من البكاء) لا يفهم الناس ما يقول الإمام، لأن حالة البكاء شملت الناس، وهذا يفسّر شيئين:

أوّلاً: كثرة الجمهور، لأنه لو كان بكاءاً فردياً لانتبهوا.

ثانياً: يعطيك مدلول الحالة النفسية والعاطفيّة بين الجمهور والقائد بما تعني الحالة العاطفيّة والانفعال في أوج من حالات الترقب والفرح والحضور في أعلي مستوياتها، حيث غلب البكاء علي الجمهور.

إذن هذه القاعدة التي تكون قبل ظهور الإمام لم تكن قاعدة صغيرة، ولم تكن هذه القاعدة شاذّة أو تعبّر عن حالة فردانية بالحضور، وإنما تكون قاعدة واسعة من حيث الكم، وتكون قاعدة واعية ومتّفقة عقائديّاً وعاطفيّاًَ مع الإمام لذلك يأخذها الانفعال الذي يغلب علي كل حواس الإنسان سواء السمع أو غيره، لأنّ الإنسان الحاضر قد توجّه بكلّه إلي الإمام.

هذا الوضع يعطينا أملاً في هذه الظلمة التي نعيشها، إذ ربما الإنسان في مثل هذا الجو يعيش الاحباط فهو عندما يخرج إلي الشارع وعندما يخرج إلي المجتمع يجد كثيراً من الأشياء المنكرة فقد تأخذه حالة من حالات اليأس، وحالة من حالات فقد الإرادة التي يعيش بها العالم الإسلامي والعالم العربي الآن.

ص: 57

إن هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه الأمّة ككل، هو فقدان الجانب الفاعل في الإنسان، والجانب المؤثّر في الإنسان.

والذي يعطي الزخم المستقبلي الإيجابي هو العقيدة المهدوية عندما تكون في هذه المرحلة بكل خصوصيّاتها الشيعيّة التي تحكم الإنسان وفكر الإنسان، وتكون مؤهّلة للظهور.

إنّ هذه الحالة من حالات الهزيمة التي نعيشها، والمعمقة في الهزيمة السياسية بعد الهزيمة العسكرية في عدّة مواقع وقعنا فيها ابتداءاً من حرب حزيران وانتهاءاً بحرب أمريكا سوف تكون في مرحلة زمنية محدودة، وفي مرحلتنا هذه لا تكون طويلة وممتدّة، وإنما سوف تنقلب هذه الهزيمة إلي حالة إيجابية عندما نرتبط مع الروح الحقيقيّة للعقيدة الشيعيّة بما تفهمه عن الحركة المهدوية.(1)

المرحلة الثالثة: العراق في عصر الظهور:

قرأت الآن مجموعة من الروايات، وأنا أتحدّث عنها بشكل سريع، فإنها تحدّثت عن أهميّة العراق ودور العراق المستقبلي.

ص: 58


1- وقد صدق القول هذا والتنبّؤ انتصار حزب الله الشيعة في لبنان علي إسرائيل وغطرستها حتّي أذلوها وهزموها فولي اليهود الدبر، وهي أوّل مرة يعيشه الإسرائيليون الهزيمة منذ قيام كيانهم الصهيوني إلي يومنا الحاضر (17/ 9/ 2006م، 22/ شعبان/ 1427ه-).

ونجد بعض تلك الروايات قد تحدّث عن هذا المجتمع من حيث كل الخصوصيّات التغييريّة يصنع علي عين الإمام(1) وحركة الإمام، ولذلك فإنّ أوّل شيء يقوم به الإمام عليه السلام هو الوصول إلي العراق، ويؤسّس في العراق هذه الدولة، وسيكون مقرّ الدولة الكوفة.

وتقول هذه الروايات هكذا تكون الأمور، حتّي أنّها تحدّثت عن الكوفة، وعن علاقة الكوفة بهذه القيادة، تقول: (ويكون أسعد الناس به أهل الكوفة).(2) إشارة إلي العراق؛ والروايات عندما تتحدّث عن الكوفة فهي تعني العراق ككل وعموماً، أي بالشكل العام.

وعندما تتحدّث عن العراق تقول: (أسعد الناس به أهل الكوفة)، ولم تقل الرواية: (أفرح الناس)، أي أكثر فرحاً، بل هم أكثر سعادةً، لأن هذا الشعب تحمّل الكثير من أجل الإمام عليه السلام ، وتحمّل الكثير من أجل أهل البيت عليهم السلام ، فيكون حينئذٍ محل اقتطاف تلك الثمرة هو هذا المجتمع في هذه الأرض فلذلك يكون الناس سعداء، بمعني مرتاحين من جميع الجوانب؛ الجوانب الحضاريّة، والمدنية، والثقافية، والسياسية، والعسكرية، وكل الجوانب التي ترتبط بحياة الإنسان، وحينها تتوفّر أحسن سبل الراحة في العراق وفي عصر الإمام عليه السلام.5.

ص: 59


1- مقتبس من قوله تعالي: (وَلِتُصْنَعَ عَلي عَيْنِي).
2- كتاب الغيبة للنعماني: 15.

ولذلك نجد الإنسان في العراق سوف يتغيّر من حالة الهزيمة والتعب، والمرارة، والعذاب، والشقاء يتحوّل إلي مجتمع مثالي. ولا بدّ أن نتحدّث عنه ضمن الحديث عن خصوصيّات المجتمع المهدوي في محاضرة مستقلة.

عاصمة الدولة المهدوية:

المجتمع المهدوي يختلف عن باقي المجتمعات بخصوصيّات لم تتوفّر قبل الظهور، وإنما تكون هذه الخصوصيات قد توفرت بعد ظهوره عليه السلام ، فعندما تتوفر السبل العمرانية والحضارية فبطبيعة الحال يكون ذلك سبباً للهجرة، فعلي سبيل المثال عندما جاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم إلي المدينة المنورة فإنه قد كان لا يقطنها إلاّ الأوس والخزرج وبعض اليهود في مناطق وحصون بعيدة عن داخل المدينة، أي أن المدينة المنورة كانت قرية صغيرة؛ أمّا مكّة فكانت تسمّي أمّ القري، لأنّ فيها كل وسائل الراحة التي تجبي من الشام، وتجبي من اليمن، ومن حضارات الدنيا من الفرس والروم، وما إلي ذلك، ولكن بعدما جعل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم المدينة المنورة عاصمة له وحينها بدأت الهجرة إليها من باقي المناطق حتّي أهل مكّة أنفسهم قد هاجروا إليها لتوفّر وسائل الراحة، ولذلك صار المهاجرون من حيث الكم والنفوس العدد الأكبر بالنسبة إلي سكّان المدينة والتنوّع من جميع العرقيّات ومن جميع الناس، حتّي تجد الرومي _ الرومي يعني الأوربي في زماننا _ قد سكن المدينة.

وفي عصر الإمام وعندما يكون العراق، وتكون الكوفة

ص: 60

عاصمة الإمام وتتوفّر في هذه العاصمة كل وسائل الراحة وتطوّرات المدنيّة، فحينئذٍ يكون الحضور والهجرة بكثرة بحيث تعبّر تلك الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: (إذا قام قائم آل محمّد عليه السلام بني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب واتّصلت بيوت الكوفة بنهر كربلاء).(1)

يعني أن الدنيا سوف تهاجر إلي هذه المنطقة الخربة، التي خرّبها صدام وخرّبتها الأنظمة. وسوف يعمّرها المهدي، وتعمّر في عصر قبل المهدي، ولكن يتم التعمير الأعظم عندما يظهر بقية الله.

وهذا التطوّر في هذه المنطقة بالخصوص _ وهي العراق _ سوف يكون حقّاً أسعد الناس به أهل الكوفة، يعني أهل العراق، لما يظهر في هذه المنطقة من تطوّر كبير، والحديث طويل جدّاً.

واكتفي بهذا المقدار، لكني أرجو أن يوفّق الحاضرون لمتابعة الموضوع ومعرفة الدور المطلوب من العراقي.

طبعاً أن القضية المهدوية بالبداية عقيدة في العقول والنفوس، ولكننا نؤمن أن العقيدة المهدوية لها آثارها الحياتية في واقع المجتمع العراقي، وهناك بحث كتبته سابقاً هو: أثر العقيدة المهدوية في الفكر السني، يعني الفارق بين أثر العقيدة المهدوية في الفكر السني عن الفكر الشيعي وأثر العقيدة المهدوية في7.

ص: 61


1- شجرة طوبي للشيخ الحائري 1: 178؛ إعلام الوري للطبرسي 2: 287.

تأريخ الشيعة وحاضر الشيعة، وأهم أثر واقعي هو أن يعيش الإنسان الإيجاب والإيجابية والتغيير والتحول نحو الأحسن.

والحمد لله رب العالمين

* * *

الأسئلة والأجوبة

السؤال الأوّل:

أوّلاً: أود أن اتفق مع سماحة السيد أن العراق نقطة الانطلاق للمشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، وأنه نقطة الانطلاق كما تقول (كنودا ليزا رايس) مستشارة الأمن القومي: أن العراق اليوم نقطة انطلاق لشرق أوسط جديد.

ثانياً: هناك حملة شديدة تتهّم الروايات المهدوية بالضعف والإرسال واضطراب المتون وضعف بعض روات أسانيدها مثل المفضّل بن عمر، فما يقول سماحة السيد بهذا الأمر؟

الجواب:

أشكر الأخ الدكتور العميد(1) علي ما كتبه وأشكره علي

ص: 62


1- المقصود: الدكتور عبد الأمير زاهد عميد كلية الآداب في جامعة الكوفة، حيث أقيمت هذه الندوة علي قاعتها.

حفاوته وتهيئة الظروف والأجواء الأخوية والعلمية، وأسأل الله له ولكم التوفيق، وأن يجعلنا من جند الإمام المهدي عليه السلام.

أمّا بالنسبة لتوثيق السند للروايات، فهذا موضوع قائم بنفسه، فهناك بحث بالنسبة إلي موضوع أسانيد روايات الظهور وهل تحتاج إلي دراسة أسانيدها بالضبط كما نفعل مع الروايات الواردة في مسائل الفقه أم أنها بغير حاجة إلي هذه الجهود العلمية من أبحاث الأسانيد، ويكفي بالقرائن الحالية والمقامية لتصحيحها كما يفعل مع القضايا التاريخية.

أمّا اتهام هذه الروايات بالضعف فلنا بحث مكتوب ومطبوع حول روايات الظهور عموماً بالشكل العام، ففي الفكر الإسلامي عندنا نوعان من الروايات:

النوع الأوّل: الروايات العامّة التي تحدّثت عن المهدي وعلامات الظهور، يدخل أكثر تلك الروايات تحت عنوان كتاب الملاحم لأحد بن جعفر بن المنادي وكتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي، وهذان الكتابان موضع نقد من حيث السند، ولو أن السيد ابن طاووس عندما كتب كتاب الملاحم والفتن في علامات الظهور إنما اعتمد علي هذين الكتابين بالدرجة الأولي وهو واضح من خلال عنوان كتابه ولذلك نعتبر من حيث الأسانيد أنّ هذه الأسانيد ساقطة من الاعتبار ولا يمكن أن نعمل عليها علي

ص: 63

نحو المسألة الفقهية، ولكن هناك بحث بالنسبة إلي المسألة التاريخية وتنبّؤات المستقبل.

النوع الثاني: وهي روايات الشيعة الموجودة في كتاب الغيبة للنعماني، والغيبة للشيخ الطوسي، وإكمال الدين للشيخ الصدوق، وغيرها من كتب الشيعة، ففيها من الروايات المتينة والصحيحة سنداً ودلالة، ولكنها تحتاج إلي التفصيل في هذا الموضوع، نسأله تعالي أن يوفقنا للحديث عنه لاحقاً بشكل مفصّل.

السؤال الثاني:

نجد في كثير من الروايات والمقالات ما يذم أهل العراق ويتّهمهم بالنفاق، ولذا نجدهم قد وضعوا منهجيّة تنشر اليأس في قلوب الكثيرين، وتخمّد الروح الثوريّة لدي الناس، لأنّها في الغالب تذكر السلبيّات دون الإيجابيّات.

الجواب:

في الواقع لا توجد رواية: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق في نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ، وإنّما هو افتعال قام به الأمويّون لأجل حربهم ضدّ العلويين باعتبار أنّ العراق تأريخياً

ص: 64

كان علوياً نشأةً، وكان علوياً جهاداً، وكان علوياً سياسة، وفي كل أبعاده بقي العراق مع أهل البيت وسوف يبقي العراق مع أهل البيت إلي أن يظهر المهدي إن شاء الله تعالي.

ولذلك حظي العراق بحرب ضروس من الأمويين فاختلقوا من تلك الأكاذيب التي تحدّثوا فيها عن أهل العراق.

وأمّا ما نجده في بعض الروايات من خطب أمير المؤمنين عليه السلام فهو ما نعبّر عنه منطقيّاً وبالمنطق الأورسطي بالقضيّة الخارجية، فكان عليه السلام إنما يتحدّث عن مجتمع عاصره وقد عاني هو عليه السلام من هذا المجتمع المرارات، ولذلك كان يتحدّث عن بعض الحاضرين ولم يكن قد تحدّث عن المجتمع كمجتمع علي نحو القضية الحقيقية، بل بالعكس فلو أراد الفقيه أن يحدّد الصورة الدينيّة والرؤية الإسلاميّة والشيعيّة للمجتمع العراقي لرآه مجتمعاً ممدوحاً، وأهم رواية _ في نظري _ تحدّثت عن الكوفة هي ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام بصيغ مختلفة تؤدي كلها معني: ­(يا كوفة ما أرادك جبّار بسوء إلاّ قصمه الله)،(1) يعني أنّ).

ص: 65


1- روي الحديث بصيغ عدّة منها: ما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة 1: 93/ ح 46، وفي طبعة ثانية 1: 17 قال عليه السلام: (كأني بك يا كوفة تمدين مدّ الأديم العكاظي، تعركين بالنوازل، وتركبين الزلازل؛ واني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل). وفي الوسائل 14: 36/ الرقم العام 19386/ طبعة آل البيت؛ ونقله الشيخ النوري في مستدرك الوسائل 10: 203؛ والمجلسي في البحار 57: 209، و97: 385؛ والشيخ الحائري في شجرة طوبي 1: 12؛ والشيخ النمازي في مستدرك سفينة البحار 9: 199؛ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3: 193؛ وروي الشيخ الكليني في الكافي الشريف 4: 563 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (... مكّة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، والكوفة حرمي لا يريدها جبار بحادثة إلاّ قصمه الله). ورواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام 6: 12 ولكن بتغيير قليل: (... والكوفة حرمي لا يريدها جبار يجور فيه إلاّ قصمه الله). وفي روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 407: (والكوفة حرمي لا يريدها جبار يجور فيها إلاّ قصمه الله). ورواه الحر العاملي في الوسائل 10: 282/ الرقم العام 19389. وروي الشيخ الطوسي في الأمالي: 51 عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال له الخضر: (انك في مدرة لا يريدها جبار بسوء إلاّ قصمه الله). ونقله ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب 2: 84؛ والسيد هاشم البحارني في مدينة المعاجز 2: 320؛ والمجلسي في البحار 39: 131، و97: 393. وروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 2: 196 ويقول للكوفة عند نظره إليها: (أهلاً بك وبأهلك! ما أرادك جبار بكيد إلاّ قصمه الله). وروي القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار: 417/ ح 766 عن أمير المؤمنين عليه السلام قال وقد ذكر الكوفة: (أما أنها مدرة لا يريدها جبار بسوء إلاّ قصمه الله عز وجل).

الله نصر الكوفة وسوف ينصر الكوفة ويحفظ الكوفة ويجعلها المنطقة التي تؤدي دورها المطلوب في دولة الإمام.

ص: 66

سؤالان يتمحوران في محور واحد:

الأوّل: هل تدل الأحداث الحالية في العراق وفي دول أخري علي أنّنا نعيش في عصر الظهور؟

الثاني: حاول سماحة السيد المحاضِر أن يطوّع الواقع ومجرياته ليوحي للمستمع وليدلل علي أن المرحلة الراهنة هي مرحلة ما قبل التمهيد، أي المرحلة الأولي، في حين أنّ العراق مرّ بمراحل مماثلة علي مرّ تأريخه وحتّي عصرنا الحالي، خاصة في العصر الوسيط الذي عاصر السنوات الأخيرة للدولة العبّاسية وتلي سقوطها، والويلات التي مرّت علي العراق، وكانت تلك الفترة من أقسي الفترات. إنّ ظروف الظهور تحتاج إلي وقت طويل لكي تمهّد لذلك الظهور، وهي تحتاج منّا نحن العراقيين بالذات العمل الجاد والدؤوب لنكون بحق الممهدين لتلك الدولة.

الجواب:

نتفق أنّ المرحلة طويلة وليست هذه المرحلة بالأيام، وعندما نتكلم عن المرحلة فلا نقصد بها أنها تكون بيومين أو شهرين أو سنتين ويظهر المهدي عليه السلام ، وإنّما نتحدّث عن العناصر المشتركة في هذه المرحلة بشكلها العام، فمثلاً أن الشيخ المجلسي وعندما تحدّث عن التوطئة للمهدي تحدّث عنها قال عن الدولة الصفوية في كتاب البحار

ص: 67

الذي ألّفه في زمان الدولة الصفوية: (إنّ هذه الدولة التي سوف تسلم للمهدي الراية وتسلم للمهدي عليه السلام الأمور).(1)

وعلي كل حال فنحن نعيش الآن في الأمل، ونبقي فيه، وأمّا تشخيص هذه المرحلة فلم أتحدّث بالتشخيص الدقيق، لأن التشخيص الدقيق قد يكون نوعاً من أنواع التوقيت المذموم الذي نهينا عنه، وإنّما أتحدّث عن المرحلة بخصوصيّاتها العامّة التي نعيشها.

ولا إشكال فنحن الآن في المرحلة الأولي أو الثانية وليس نحن في مرحلة الظهور، ولكن في المرحلة التي تمهّد إن شاء الله لظهوره، وقد تكون هذه المرحلة ألف سنة أو سنة أو سنتين أو أيّام أو أشهر، فعلم ذلك عند الله، لأنّ التوقيت مذموم ونهينا عنه، فلم يكن المقصود من كلامي هو التوقيت، وإنّما الطرح العام لتوضيح الرؤية الدينية والشيعية لحركة الإمام ومستقبلها.

والحمد لله رب العالمين

* * *).

ص: 68


1- روي العلامة المجلسي في البحار 52: 243/ ح 116 عن غيبة النعماني بإسناده عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام أنه قال: (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه، ثمّ يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم علي عواتقهم فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّي يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلي صاحبكم، قتلاهم شهداء؛ أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر). ثمّ قال العلامة المجلسي بعد نقله هذا الحديث: (بيان: لا يبعد أن يكون إشارة إلي الدولة الصفوية شيّدها الله تعالي، ووصلها بدولة القائم عليه السلام).

الندوة الثالثة: التطوّر الحضاري في دولة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

ألقيت الندوة في كلية

الإدارة والاقتصاد جامعة الكوفة

ص: 69

صفحة بيضاء

ص: 70

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي البشير النذير والسراج المنير، البدر الساطع والمنصور المؤيّد أبي القاسم محمّد وعلي آله الطيبين الطاهرين، واللّعنة الدائمة علي أعدائهم ومنكري فضائلهم إلي قيام يوم الدين.

اللهم ربّنا وفقنا وجميع المؤمنين، واجعله خالصاً لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين.

في البداية أشكر الأخ السيد العميد والمعاون في كلية الإدارة والاقتصاد _ جامعة الكوفة، كما أشكر مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام ، وباقي الاخوة الذين تجشّموا العناء في تهيئة الظروف المناسبة للحديث عن سيدنا ومولانا بقية الله في الأرض عليه السلام.

مفهوم الدولة:

عندما نعنون الحديث والبحث عن التقدّم الحضاري في دولة الإمام، فإنّ العنوان يتحدّث عن جانب من جوانب ما يظهر ويتجلّي في دولة صاحب الأمر.

ص: 71

وتلاحظون العنوان فإنه يتحدّث عن التقدم الحضاري، كما أنّه يتحدّث عن الدولة الخاتمة للإمام.

وعندما تريد أن تتحدّث عن الدولة كمفهوم سياسي؛ وأثر الدولة في بناء المجتمع المتقدّم، أو بالعكس حيث تتحدّث عن أثر الدولة في تأخّر الإنسانية، فإن هذا الموضوع بنفسه يحتاج إلي حديث مفصّل ومستقل؛ بمعني: ما هو دور الدولة في بناء المجتمع الصالح وفي بناء الإنسان الصالح؟ وهل هناك معادلة طرديّة، أو عكسيّة بين المجتمع الصالح وبين الدولة الصالحة أو ليس هناك علاقة؟

وهذا تصوّر قد أخذ في مجمل أبحاث تحدّثت عن الدولة، وأثر الدولة في المجتمع، ولا أريد أن أتطرّق إلي كل ذلك البحث؛ وإنّما من المقطوع به أنّ للدولة دوراً كبيراً في بناء الإنسان، بغض النظر عن كل خصوصيات ما يمكن أن يقال في هذا الصدد، وبهذا الصدد، فإن للدولة _ كدولة وكبناء _ دوراً في بناء المجتمع الصالح، وفي بناء الإنسان الصالح؛ وأما مقدار هذا الدور، وحدود هذا الدور، وتطوّر هذا الدور، فهذا الموضوع بنفسه يحتاج إلي بحث وحديث.

الدولة الإسلاميّة:

اشارة

ويمكننا أن نعنون حديثاً آخر، عندما نتحدّث عن الدولة الإسلاميّة التي أسّست في عهد النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، وهي أوّل دولة

ص: 72

إسلاميّة، بل أوّل دولة في مفهومها المعاصر نشأت في جزيرة العرب، ومن الصحيح أنه كانت هناك دول أخري خارج هذه البقعة الجغرافيّة كالدول التي كانت في الشرق أو في الغرب، مثل الروم أو الفرس أو الغساسنة أو المناذرة _ إن صحّ علي الأخيرين اطلاق اسم دول _، ولكن في الجزيرة العربية تعتبر الدولة المحمّدية التي قام بها النبي صلي الله عليه وآله وسلم أوّل الدول بمنظور حضاري بما يؤدّي وبما يملك للدولة من مفهوم.

أمّا أنّ هذه الدولة أخذت منحيً آخر بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ولا أريد أن أتحدّث عن هذا المنحي بلحاظ عقائدي، وانطلاقة عقائدية، ورؤية شيعيّة صرفة، وإنّما أشير إلي أنّ انتكاسة كبيرة قد أصابت هذه الدولة ونقلتها من شكلها الحضاري وبنائها المؤسّساتي إلي الروح القبليّة التي كانت تحكم المجتمع العربي قبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، ولذلك خسرت الدولة كثيراً من مفاهيمها الاستراتيجيّة، كما خسرت الدولة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كثيراً من مؤسّساتها علي الواقع والواقعيّة، ومن جملتها المؤسّسة القضائيّة التي كانت قد انفصلت عن المؤسّسة التنفيذيّة والتشريعيّه في دولة رسول الله.

ولا أريد أن أطيل الكلام وإنّما أردت أن أقول وأؤكد أن هناك نموذجاً آخر، أو تطوّراً آخر، أو استرداداً واسترجاعاً للدولة

ص: 73

في حياة أمير المؤمنين عليه السلام عندما صار خليفة للمسلمين، وهذا يحتاج أيضاً إلي بحث يتعرّض إليه الباحث والمتحدّث لتحديد مفهوم الدولة برؤية إسلاميّة، ومفهوم الدولة برؤية عقائديّة مذهبيّة شيعيّة.

الرؤية الأولي: الرؤية الدينيّة المطلقة:

اشارة

وأقصد بالإطلاق هنا ما يقابل الرؤية الدينيّة الخاصّة التي سوف أتحدث عنها، المختصّة بدولة صاحب الأمر عليه السلام.

فهناك رؤية دينيّة مطلقة تعبّر عن حقيقة أنه لو توفّرت تلك الدولة، ولو توفّرت تلك الأسس الموضوعيّة فسوف _ بطبيعي الحال _ يتحقق القسم الثاني الطردي المرتبط بهذا القسم الأوّل؛ يعني لو كانت هناك دولة إسلاميّة، وكان هناك مجتمع إسلامي وتهيأت الظروف المناخيّة والسياسيّة وغير ذلك من الظروف، فحينئذٍ لكان الجانب الثاني من المعادلة يتحقّق بشكل طبيعي، وهذا التحقّق هو التقدّم الحضاري.

يعني هناك ترابط بين وجود دولة إسلاميّة ذات أبعاد إسلاميّة مع وجود تقدّم حضاري، وهذا الذي أشارت إليه مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدّثت عن هذه الحالة.

ص: 74

ومن جملة تلك الآيات قوله تعالي: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) هذا الجزء الأوّل من الآية، ثمّ تقول الآية: (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

إذن هناك ترابط بين الاستغفار، استغفار الله تبارك وتعالي وبين عملية نزول المطر، وهذا التن-زيل الإلهي للمطر تتمّه الآية الكريمة: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).(1)

أنظر الوضع المترابط بين مطر السماء، وبين ضخامة المال، وتداول الثروة، أو بقاء الثروة، أو تكدّس، أو تضّخم الثروة _ أي شيء تريد أن تعبّر عبّر عنه عبّر _ وبين كثرة البنين، وبين أن تمتلئ الدنيا بالجنات، والجنات هنا قطعاً لم يكن المقصود بها جنّات الآخرة وإنّما هي جنّات الدنيا؛ يعني أن تزدهر وتتطوّر وتتقدّم الزراعة في الأرض.

ثم تتحدّث عن الثروة المائيّة بعد ما تحدثّت عن الزراعة، وتحدّثت عن الأسرة، وتحدّثت عن عدّة أشياء، فهي تتحدّث عن الثروة المائية فتقول: ويجعل لكم أنهاراً.

هذه الآية تبين هذه العلاقة والارتباط.

اسمع قوله تعالي: (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)،(2) هذا هو نفس المنطق، ونفس المفهوم2.

ص: 75


1- نوح: 10 - 12.
2- هود: 52.

الذي ذكر في الآية السابقة لكن في مفهوم آخر، فإنّ تكملة الآية تقول: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلي قُوَّتِكُمْ)، هذه القوّة ومداليل القوّة، سواء كانت القوّة الجسمانيّة أو القوي الأخري التي تظهر بظهور هذه الخيرات بواسطة الاستغفار.

إذن برؤية عامّة هناك قضايا مترابطة بعضها مع بعض، مقدّمات ونتائج استغفروا الله، تكن نهضة حضاريّة شموليّة تشمل جوانب متعدّدة من حياة الإنسان، بل تشمل حياة الإنسان ككل، هذا المفهوم العام.

خاتمة الدول:

لكن هناك خاتمة الدول التي تختم الدول الإنسانية في عقيدة الإماميّة، وتكون في آخر الزمان عندما يقوم بتلك الدولة صاحب الأمر عليه السلام، ومن الطبيعي فإن البحث هنا يحتاج إلي تأصيل، وتوضيح، وتأسيس لمفهوم الدولة كدولة من وجهة سياسيّة، سواء كان كمذهب سياسي، أو طبق الرؤي العلميّة بعلم السياسة التي تحدّد مفهوم الدولة في عصر الإمام المهدي عليه السلام ومؤسّسات تلك الدولة التي يظهرها عليه السلام.

وهذا بحث لم أشأ أن أتعرّض لخصوصيّاته في هذا اليوم، وإنّما ألزمني التعرّض إليه عنوان البحث باعتبار أنّني أريد أن أقول: أنّ للدولة دوراً بمفهومه العقائدي والسياسي والمذهبي في دولة الإمام، وفي حياة الإمام، وفي حركة الإمام الخاتم، الإ المهدي عليه السلام.

وهذا الدور سوف يؤثّر في رقيّ الإنسانية والتقدم الحضاري للإنسانيّة، ولذلك فعندما تؤسّس تلك الدولة ذات

ص: 76

المفهوم المحدّد، والمدلول المعيّن فسوف تهيئ الأجواء والظروف المناسبة لهذا التطوّر، ويعني هذا أنه عندما أريد أن أتحدّث عن هذا التطوّر، فلا بدّ أن أبيّن العوامل والأسباب الواقعيّة والعمليّة لهذا التطوّر وهو وجود تلك الدولة الخاتمة.

أمّا هذا التطوّر وأبعاد هذا التطوّر فسوف نقرؤه من خلال رؤيتين:

الرؤية الثانية: الرؤية الخاصّة:

اشارة

هناك مفهوم خاص بعقيدتنا كإماميّة، نعتقد أنّ تحقّق الدولة _ وإن كان هذا يحتاج إلي بحث خاص _ تحقّق الدولة بكل مواقعها الحقيقيّة لا يمكن أن تظهر خيراتها إلاّ في دولة صاحب الأمر عليه السلام ، فكم هناك من حكومات إسلاميّة تسبق دولة الإمام عليه السلام ويظهر فيها الخير والبركة، ولكن الحكم الإلهي المطلق وتطبيق الحكم الإلهي المطلق منحصر في دولة صاحب الأمر عليه السلام.

ولذلك فسوف تكون مظهريّة تلك الخيرات أتم مظهريّة بتحقق دولة صاحب الأمر عليه السلام ، وأعلي مستوي من مستويات الرفاهيّة الإنسانية، وأعلي مستوي حضاري تقدّمي للإنسان سوف يكون في دولة صاحب الأمر. هذا في المنطق العام.

ص: 77

ولو أخذنا هذا المنطق من خلال الروايات التي وردت وتحدّثت عن دولة صاحب الأمر وعن تلك المظاهر العمرانيّة والحضاريّة في دولة صاحب الأمر، مجمل هذا الوضع _ والحديث يحتاج إلي تفصيل _ ينشأ ويؤيّد ما طرحناه من عموميّات.

النظرية الغربية:

قبل أن أتطرق لهذه الخصوصيّات لدولة صاحب الأمر، ألاحظ النظرة الغربيّة التي عشناها في بداية شبابنا عندما ظهرت في العالم العربي وترجمت النظريّات الغربيّة إلي العالم العربي، والتخوّفات الغربيّة من مستقبل البشريّة في الأرض، التي كان يعبّر عنها بأوضح تعبير في نظريّة مالتس الذي تحدّث علي أنّ البشريّة متقدّمة نحو الدمار والزوال.

هذا البؤس والتشاؤم في الرؤية الغربيّة للدنيا، وللبشريّة والعالم جعل الغربييّن يتحرّكون لوضع حلول بديلة عن الوقوع في الهاوية، لأنهم يتصوّرون أنّ الخيرات في الأرض محدودة، وذلك هو مجمل هذه النظريّة الغربية التي تزعّمها مالتس في ذلك الوقت، أنّ الدنيا والأرض تملك خيرات محدودة، فبما أنّ الأرض تملك خيرات محدودة فلابدّ أن يكون وجود الإنسان السكاني علي الأرض محدوداً بمحدوديّة الأرض.

ومن هذا المنطلق، ومن هذه الفكرة نشأت وبقوّة نظريّة تحديد النسل التي دعي إليها الأوربيّون الغربيّون في بداية القرن

ص: 78

العشرين وما زالوا لحدّ الآن يؤمنون بهذه النظريّة في تحديد النسل، ويدعون إلي تحديد النسل لأجل إيجاد نهاية لهذه التخوّفات وحالة البؤس التي يعاني منها الإنسان الغربي.

وفي هذه الرؤية تري البشريّة في حالة دمار، وفي حالة هاوية، وفي حالة شقاء؛ وهذه البشريّة لا يمكن علاجها إلاّ بأخذ مسكنات أوّلية، وجرعات لهذه المسكّنات لإيقاف التزايد السكّاني إلي مقدار يمكن للأرض أن تتحمّله.

ويقابل هذه النظريّة النظريّة الدينيّة الإسلاميّة، التي تؤمن أنّ الأرض فيها من الخيرات الشيء الكثير، وأنّ ما نراه من الخيرات علي هذه الأرض لم يكن كل خيرات الأرض، فهذه الأنهار لم تكن كل قابلية الطبيعة لإغناء الإنسان بالثروة المائيّة، وكذلك السماء لم تكن قابليتها فقط هذه الزخّات من المطر.. وهكذا بالنسبة للمعادن، وهكذا بالنسبة للثروات الطبيعيّة الأخري.

فإنّ الرؤية الدينيّة تقول: إن ما هو موجود حاليّاً لم يكن كل الثروة، ولم يكن كل الخير، ولم يكن كل البركة، بل إنّ الأرض فيها من إمكانيّة تكفي أبناءها البشر لو كانوا أضعاف وأضعاف هذا العدد السكاّني الموجود علي الأرض، ولكنّ المانع الذي يمنع من إيجاد وظهور تلك البركات هو العوامل الغيبية التي لا يحس بها الإنسان.

تلاحظ أن الفكر المادي عندما يتصوّر أنّ المعادلة كلّها

ص: 79

معادلة ماديّة بحتة، ولا يوجد هناك دافع وعامل غي-بي يتحكّم بهذه العناصر الماديّة، في الوقت الذي نري فيه أنّ الدوافع الغيبيّة، والعوامل الغيبيّة لا تنحصر فقط في الآخرة والمعاد ويوم القيامة والعوامل اللامرئيّة، وإنّما ذلك الغيب وذلك العامل الغيبي مؤثّر حتّي في العوامل الطبيعيّة والأسباب الطبيعيّة.

فإن الآية الكريمة التي قرأناها توضّح أن هناك تواصلاً وتلاحماً بين العامل الغي-بي _ الاستغفار، ذكر الله، وأن ينطلق المجتمع انطلاقة ربانيّة _ وبين التطوّر الحضاري والعمراني والازدهار بكل أنواعه الذي يعيشه الإنسان.

وهذا الشيء كان مفقوداً في الرؤية المادية، وعندما نريد أن ندرسه فلا بدّ أن نبرهن عليه، كان هناك برهان علمي وجداني، وهناك برهان تجريبي.. ولست الآن بصدد البرهنة التجريبيّة علي هذه الحقيقة الدينيّة، وهو يحتاج إلي وقت طويل للحديث عن كل خصوصيّة من هذه الخصوصيّات، وإنّما أشرت إليها إشارة لأنطلق إلي جوانب أخري من البحث، وهذا الجانب هو عندما أتحدّث عن المخّ والمركز والأساس لتقدّم حضارة الإنسان في دولة الإمام وعصر الإمام عليه السلام.

بركات الدولة المهدوية:

لو أردنا أن نقرأ الروايات، وهنا بشكل مجمل أوضّح لك حقيقة

ص: 80

أنّ التقدّم بدولة صاحب الأمر قد ورد في روايات كثيرة، وسنذكر هنا جملة من تلك الروايات بأسانيد العامة، فإن الروايات التي وردت بأسانيد شيعية كثيرة جداً، ولكن من باب المحاججة نذكر بعض الروايات بأسانيد عامية _ وهي كثيرة أيضاً _ لتكون الرؤية أكثر استيعاباً بما هو موجود في المذاهب الأخري وبما روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

يقول اخواننا السنّة في كتبهم وهم يتحدّثون عن دولة المهدي عليه السلام:

من جملة تلك الروايات رواية حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو يتحدّث عن المهدي، والرواية طويلة جدّاً لكن أنقل لك هذا المقطع، يقول صلي الله عليه وآله وسلم: (... يفرح به أهل السماء والأرض، والطير والوحش والحيتان في البحر، وتزيد المياه في دولته، وتمد الأنهار، وتضاعف الأرض أكلها، وتستخرج الكنوز).(1)

فيفرح به أهل السماء والأرض بمستويً واحد، فما يشمل أهل الأرض يشمل أهل السماء، وما يشمل أهل السماء يشمل أهل الأرض، وهذا يحتاج إلي رؤية علميّة غيبيّة.

قلنا: الغيب متفاعل في الشهود في الأرض وفي الدنيا، تفاعل السماء التي هي عالم من عوالم الغيب ببعض أوجهها مع الأرض التي هي عالم الشهود، وعالم الظهور، وعالم الواقع7.

ص: 81


1- عقد الدرر: 149؛ البرهان: 77/ الباب 1/ ح 16؛ الإشاعة لأشراط الساعة: 175؛ مجمع الزوائد 8: 6؛ جامع البيان 15: 17.

والوجدان والحضور؛ وهذا التفاعل الثنائي معه الرواية تقول: (فيفرح به أهل السماء والأرض والطير)، وهذا البعد الآخر، (والوحوش والحيتان في البحر)، وهذا يحتاج إلي حديث يتعلّق عن أثر دولة الإمام المهدي عليه السلام ، ودور دولة الإمام المهدي عليه السلام بتطوّر الحيوان وليس فقط الإنسان.

وأنا لا أريد أن أعلّق علي نظريّة دارون وأقول أنّ هذه النظريّة في بعض جوانبها كان صحيحاً، لأن هذا يحتاج إلي بحث اختصاصي تفصيلي، قد نوفّق بالمستقبل إليه، والرواية تقول: (وتزيد المياه في دولته وتمد الأنهار وتضاعف الأرض أكلها وتستخرج الكنوز).

وملخّص هذه الرواية بما يتعلّق مع التقدّم الحضاري والعمراني للإنسان نلاحظ فيها أنها تصرح بأشياء مهمة كثيرة منها: أنّه تزيد المياه، وتمدّ الأنهار، وتضاعف الأرض أكلها، وتستخرج الكنوز، هذه الرواية مع أنّها وردت في كتب اخواننا أبناء العامّة فإنها تحدّثت عن هذه المظاهر التقدّمية الحضاريّة لدولة صاحب الأمر التي هي من صلب عقيدة الشيعة الإمامية سلمهم الله تعالي.

والرواية الأخري أيضاً تروي بأسانيد اخواننا عن عبد الله بن عبّاس عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم يقول عن التطورات التي تصير في عصر الإمام ودولة الإمام:

(وتأمن البهائم والسباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها). قال:

ص: 82

قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: (أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة).(1)

وتأمن البهائم، أنظر: (الأمن) هو من المواضيع المهمة، فعندما نتحدّث عن الثروة المائيّة، وعن الزراعة، وعن الاقتصاد فالرواية تتحدّث عن الأمن، وهو أهم معلم من المعالم الفاعلة، والمحرّكة في تقدّم الحضارة الإنسانية، ولا يمكن لأمّة أن تترقّي بلا أمن، فقال صلي الله عليه وآله وسلم: (وتأمن البهائم والسباع)، أي أن هذا الأمن الذي تتحدّث عنه الرواية لا يختص بالبشر فقط، وإنما يشمل حتّي البهائم.

ثمّ قال: (وتلقي الأرض أفلاذ كبدها)، فيسأل عبد الله بن عبّاس رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ويقول له: وما أفلاذ أكبادها؟ قال: (أمثال الاسطوانات من الذهب والفضة)، أنظر إلي عبارة: (اسطوانات)، فهكذا سوف تخرج الخيرات لأهل الدنيا كما في هذه رواية.

والرواية الأخري التي تحدّثت عن هذا الجانب، مع العلم أنها روايات كثيرة جدّاً ولا يمكن في الواقع ذكرها جميعاً لكنّني أعنون الحديث بما يناسب المقام.

والرواية يرويها أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بأسانيد اخواننا العامّة، قال صلي الله عليه وآله وسلم:-.

ص: 83


1- المستدرك للحاكم 4: 514، رواه وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم -.

(ين-زل علي أمّتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه، حتّي تضيق بهم الأرض الرحبة، وحتّي تملأ الأرض ظلماً وجوراً، لا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظلم، فيبعث الله عز وجل رجلاً من عترتي فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدّخر الأرض من بذرها شيئاً إلاّ أخرجته ولا السماء من قطرها شيئاً إلاّ صبّته منها).(1)

أنظر إلي أثر الدولة التخريب-ي، فإذا كانت الدولة مخرّبة فكيف يمكنها أن تؤثّر تلك الدولة سلباً في حياة الإنسان، والمجتمع وفي حياة الإنسان الفرد؟ فحقاً أن الدور التخريبي في حياة الإنسان هو من تخريب الدولة، وهو ما يقابل الدور الفاعل الإيجابي في حياة الإنسان، والعمراني والتقدّمي في الدولة الخيّرة. ولنرجع إلي الرواية حيث تقول: (ينزل علي أمّتي في آخر الزمان بلاءٌ شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه حتي تضيق بهم الأرض الرحبة وحتّي تملأ الأرض جوراً وظلماً ولا يجد المؤمن ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضي عنه ساكن السماء _ أنظر التقدّم الحضاري العظيم الذي يصعد إلي السماء _ وساكن الأرض، لا تدّخر الأرض من بذرها شيئاً إلاّ أخرجته ولا السماء من قطرها شيئاً إلاّ صبّته).

وبالطبع فكما قلت سابقاً أنّ هذه الروايات كثيرة وإنّما أخذت عينة منها فقط لما يناسب المقام، كي أرشد إلي جوانب متعدّدة من التقدّم الذي يظهر في دولة الإمام.

وهذا التقدم لم يكن كيفياً، وإنّما هو طبيعي، أي بالقوانين الطبيعيّة وليس بالإعجاز وليس خارق العادة، بل بالقوانين الطبيعيّة8.

ص: 84


1- المستدرك للحاكم 4: 465، رواه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم -؛ راجع أيضاً كنز العمال للمتقي الهندي 14: 275/ ح 38708.

وسوف يتم هذا التطوّر عندما تفتح السماء أبوابها وعندما يكون الإنسان مؤهّلاً لنزول الخيرات.

ونلاحظ من مظاهر التقدّم في دولة الإمام عليه السلام إنّ أوّل شيء يقف أمام ناظرنا من هذا التطور هو مسألة المياه، ونحن نعيش الآن في هذا العصر، مسألة المياه التي هي مشكلة العصر، وإن مشكلة القرن الواحد والعشرين هي مشكلة المياه، والمتوّقع كما تسمعون من الإعلام والاختصاصيين الذين يبحثون عن هذه المشكلة العويصة، إن هذه المشكلة غير محصورة بالثروة الزراعيّة، أو مسألة مهمّة بما تتعلق بحياة الإنسانية، بل انعكاسها علي الوضع السياسي العالمي، فإنّ الحروب المتوقّعة في المستقبل في هذا القرن يكون منشؤها هو قلّة المياه، لأن هناك جدباً سوف يؤثر علي واقع الحياة في الأرض. ويفسّر بعضهم هذه الحالة بعنوان أنّ الأرض ابتدأت ترتفع حرارتها، فربّما ارتفعت درجة حرارة الأرض _ بحسب التقارير العلمية نصف درجة إلي درجة ممّا يسبّب هذا الارتفاع الجدب الذي تمرّ به الأرض بشكل عام.

فإنّ من أهم مشكلات العصر الحاضر هي مشكلة المياه، فنحن الآن وإن كنا نعيش في بلاد الرافدين وقد أبعدنا الباري عن هذه المشكلة، إلاّ أنكم لو نظرتم إلي بقية دول العالم لرأيتم هذه المشكلة بوضوح، فهي الآن تُعد إحدي المشاكل الخطرة في مباحثات السلام بين لبنان وسوريا من جهة وبين إسرائيل من جهة

ص: 85

أخري تحت عنوان تقسيم الثروة المائيّة. فمسألة المياه مسألة سوف تدخل في السلم العالمي فضلاً عن دور المياه في الزراعة، ودور المياه في الاقتصاد، ودور المياه في حفظ حياة الإنسان.

لكن هذه الحلول _ كل الحلول التي تقدّم ذكرها وغيرها _ علي نمطين:

النمط الأساسي عالمياً: أنّ المرتكز العالمي لإيجاد الحلول هو الحلول السياسيّة، ويتحدد بتقسيم الثروة المائيّة كما حدث في المؤتمر الأخير الذي عقد في أفريقيا لتقسيم ثروة مياه نهر النيل.

فهذا الموضوع موضوع دولي لتقسيم المياه، لكن هذا التقسيم وهذا الحل هو حلّ مؤقّت، فإنّه سوف يوفّر لهم فرصة أخري للعيش في مياه أقل، ولكن سوف تبقي عندهم مشكلة يعانون منها في تصوّرهم وهي أنّ الأرض قادمة علي جفاف كلّي، وهذا الجفاف مؤثّر في حياة البشريّة ككل، ولذلك يحاولون أن يجدوا حلولاً طبيعيّة أخري يستغنون بها عن تلف وإتلاف هذا المقدار من المياه، ولم يفلحوا لحدّ الآن إلاّ من جانب واحد، وهو جانب الخيال العلمي؛ وأمّا الانطلاقة الأخري العمليّة والواقعيّة التجريبيّة، فإنه لم يتوصّل الإنسان لحد الآن إلي تجربة عمليةّ لتوفير المياه.

أما عندنا نحن الشيعة الإمامية فإن الحل موجود في دولة صاحب الأمر عليه السلام ، ذلك لأنّ السماء سوف تمدّنا بمطر غزير،

ص: 86

وأنّ الأرض يفجّر الله فيها عيوناً وأنهاراً، وهذه الخيرات التي سوف تكون في هذه الأرض لم تكن علي نحو إعجازي وإنّما تناسبي، فلو فهمنا المعادلة التناسبيّة فحينئذٍ سوف نفهم التقدّم الذي يحصل في دولة صاحب الأمر.

أنظر إلي بعض القضايا التي تطرح علي مستوي الخيال العلمي، وكما يقال وكما ترون، وبما يذكر في هذا الصدد، فإنّ أثر الخيال العلمي في الوصول واضح في اختراع الآلات المتطوّرة، ولا أريد أن أتطرّق لهذا الموضوع وليس من اختصاصي، وإنّما استشهد به لتوصيل الفكرة، وهي: ربّما أنا وأنت نقرأ بعض الروايات، وربّما لا نستوعب حدود هذه الرواية، فمرّة نوكلها إلي الإعجاز، ومرّة نوكلها إلي ظروف لم يتوصّل إليها الإنسان.

أنا أقول لك بصراحة أن القوانين الطبيعية التي اكتشفناها لحد الآن كبشر، والقوانين والتطوّر الطبيعي فضلاً عن التطوّر العمراني والحضاري الذي وصل إليه الإنسان، لم يكن كل اكتشافاته، يعني أن القوانين التي اكتشفناها حاليّاً لم تكن كلّ القوانين التي تملكها الطبيعة، وإنّما هناك قوانين أخري لم يتوصّل إليها الإنسان في مورد الاكتشاف. وقد حاول الإنسان أن يظهرها في رسائل الخيال العلمي.

وهذا الخيال العلمي، ربّما يكون علي الأرض.. ونحن علي يقين أنّ هناك كثيراً من القوانين الطبيعيّة التي لم يكتشفها الإنسان

ص: 87

حاليّاً وإنّما سوف تظهر ويظهرها صاحب الأمر عليه السلام ، الذي آتاه من العلم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين، فالإمام ليس عالماً بقوانين الشريعة فقط، أو قوانين اللّغة، أو العلوم الإنسانية بشتّي أنواعها وأصنافها، وإنّما الإمام المعصوم عليه السلام عالم بكل قوانين الحياة، سواء كانت علي مستوي فيزيائي، أو كيميائي، أو أي نوع من أنواع تلك القوانين التي تحكم حياة الإنسان والتطوّر الإنساني.

وعندما يظهر ويخرج كنوز الأرض، فإنّ أحد التفاسير لكنوز الأرض أنه ليس المقصود من هذا الكنز هو الكنز من الذهب والفضّة المادّي فحسب، وإنّما قد يكون _ والله العالم _ كما تشير إليه الروايات الكثيرة إلي هذا المعني، وهو أنّ الإمام يظهر مبادئ القوّة، وقوانين القوّة وقوانين القدرة يظهرها للإنسان، أي يعطيه تلك القوانين التي يستطيع بها الإنسان أن يوفّر لحياته أفضل العيش، وأهنأ العيش، وأحسن العيش؛ أي أنّ الإمام سوف يوفر للإنسان أشياء كثيرة لم يمكنه أن يحصل عليها من قبل ومن جملة هذه الأشياء التي يوفّرها هي تلك القوانين.

أعطيك رواية واحدة تشير إلي هذا المعني تحدّثت عمّا يظهر في دولة صاحب الأمر عليه السلام ، وهذه الرواية في الخرائج للراوندي، وهو من العلماء الأعلام للشيعة، قد رواها عن الإمام الصادق عن أبيه الباقر عليه السلام قال:

ص: 88

(إذا قام القائم بمكّة وأراد أن يتوجّه إلي الكوفة نادي مناديه: ألا لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً، ويحمل معه حجر موسي الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً، فلا ينزل منزلاً إلاّ نصبه فانبجست منه العيون، فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآناً روي، فيكون زادهم حتّي ينزلوا النجف من ظاهر الكوفة، فإذا نزلوا ظاهرها انبعث منه الماء واللّبن دائماً، فمن كان جائعاً شبع ومن كان عطشاناً روي).(1)

علماً أن عدد الجيش هو عدد ضخم، إذ أن قادة الجيش عددهم (313) قائداً، وقد ورد في بعض الروايات أن كل قائد يشد له الإمام عليه السلام راية علي عشرة أو اثني عشرة ألف أو يزيدون، فكم مليون يكون عدد جند صاحب الأمر عليه السلام؟ وهذا العدد يعطيك حالة تفاؤليّة لمن يكون معه عليه السلام من حيث الكم، والأمل أن نكون ضمن هذا الكم.

إعجاز الإمام المهدي عليه السلام:

هذا المنطق ربّما نفسّره تفسيراً إعجازياً.

فالمعجزة علي نوعين:

النوع الأوّل: تبقي دائماً إلي أن يأتي الله سبحانه وتعالي بعلمه، أي تبقي خارقة لقانون الطبيعة، يعني علي الدوام والاستمرار.

ص: 89


1- الخرائج والجرائح للراوندي 2: 690.

النوع الثاني:

هناك نوع من المعجز يكون نسبياً، مثل السحر الذي كان في عهد موسي عليه السلام يقال إنّ هذا السحر إعجاز لم يكن خارقاً للعادة، وإنّما نسبي بما عجز عنه السحرة في عصره، والمقصود من النسبيّة هنا هو أنّ هناك في الطبيعة قوانين لم يتوصّل إليها البشر في ذلك هناك في حياة الإمام ربّما يقال نوع من هذا الإعجاز، يعني هناك إعجاز ربانّي لا إشكال فيه، وكما جري علي يد سائر الأنبياء فإنه سوف يجري علي يد الإمام المهدي عليه السلام.

وهناك إعجاز سبقي، بمعني تقدّم علمي حصل عليه الإمام لم يحصل عليه السابقون، قد يكون من ذلك حجر موسي عليه السلام الذي يكون مع المهدي عليه السلام.

وهذا الموضوع مهم، ودقيق، ولا أريد أن أخوضه بكل تفاصيله، وإنّما بالشكل السريع من أجل إيصال الفكرة، وأمّا الخصوصيّات، فيمكن أن نناقش فيها للتوصّل إلي رؤيً صحيحة تنسجم مع العقيدة الصحيحة.

ص: 90

وأريد أن أقول إنّ هناك تقدّماً حضارياً علمياً يسبق الخيال العلمي الموجود حاليّاً، ويطبّق أو ينفذ كثيراً من النظريّات الخياليّة العلميّة، فيكون تطبيقها في دولة صاحب الأمر عليه السلام.

وهذا السبق يجعل هناك التقدّم في الزراعة، كما قرأت هذه الآية، إضافة إلي ما تحدّثت به الروايات من أنّ الله يجعل الأرض في دولة صاحب الأمر خضراء، فهذه الجزائر والصحاري التي نراها، مثل جزيرة العرب، أو جزيرة العراق، أو غير ذلك من الصحاري الواسعة في الأرض سوف تتحوّل إلي جنّات وعيون تمتلئ بالخضرة، والخضرة التي تفيد الأرض، كما أنّ هنالك خضرة تفيد حياة الإنسان تعبّر عنها الرواية التي قرأناها عنه عليه السلام أنّ هذه الأُكل: (وتضاعف الأرض أكلها) حتّي النوع سوف يختلف ويتكثّر.

إن هذا السبق أيضاً ربّما كان للتأكيد علي حدوث أشجار تحمل الأثمار التي لم تكن معروفة في زمان الأئمّة عليهم السلام.

وعلي كل حال، فإن كل هذا إنما هو في عصر الإمام عليه السلام وفي عهده بالنسبة للزراعة، وبالنسبة للمياه، فإنه قالت الروايات أنّ هناك مياهاً وأنهاراً جديدة سوف تشق في الأرض تلك الأنهار، كما وأن الإمام عليه السلام سوف يشق نهراً من كربلاء إلي النجف، تقول الرواية: أنّ الإمام يشقّ نهراً من كربلاء إلي النجف.(1)5.

ص: 91


1- أنظر: الإرشاد للمفيد 2: 380؛ كتاب الغيبة للطوسي: 468/ ح 485.

يعني أنظر إلي هذه الصحراء التي تراها حاليّاً ما بين كربلاء وما بين النجف فإنها سوف يحييها الإمام عليه السلام مرّة أخري.

وكل هذا التقدّم سوف تمر به البشريّة في عصر الإمام.

والإمام الصادق عليه السلام عندما ذكر هذه المناظر، إنّما تحدّث عنها لأنها كانت معروفة ومتصورة لمعاصريه، ولكنه لم يتحدّث عن المناظر الأخري غير المعروفة لمعاصريه وليس عدم ذكره لها لأنها لم يشملها التقدّم، بل سوف يشملها، ولكن لسبب آخر وهو: لأنّ الرواة كانوا ربّما لا يعرفون إلاّ أبعاد ضيقة عن المناطق الجغرافيّة التي يعيشون فيها أو التي يمرّون بها.

البعد الاقتصادي:

إذا أردنا أن نري التقدّم الاقتصادي في دولة الإمام فنلاحظ أثر المال في الاقتصاد _ اقتصاد الدولة، واقتصاد المجتمع، واقتصاد الفرد _ وإلي أثر المال في التطوّر والتقدّم بما يعني له من البعد الاقتصادي في تطوّر حياة الإنسان.

وعندما نقرأ الآن في كتب الفكر الماركسي فإننا نجدها تتحدّث عن أنّ العامل الأوّل والأخير في التطوّر الحضاري عند الإنسان هو العامل الاقتصادي، فيأتيك الإسلام فيجعل هناك عوامل متنوعّة للتطوّر، أهمها العامل الاقتصادي.

أما كيف يمكن لهذا التطوّر الاقتصادي توفير الحياة الهانئة

ص: 92

والحضارة لتقدّم الإنسان؟ فهذا بحث بنفسه يحتاج إلي حديث مستقل لا أخالني أتمكّن من الحديث عنه حالياً، لضيق الوقت.

ولكني أريد أن أقول: بأن هناك شعباً كثيرة من الحديث عن حضارة الإنسان في دولة الإمام، وهذا التطوّر الحضاري من حيث المدن وترتيبها وتطورها، أي الجانب العمراني في المدينة وأثر المدينة، وبناء المدينة في دولة صاحب الأمر عليه السلام.

وكل واحد من هذه المفردات التي طرحتها والتي لم أطرحها، مثل الجانب الأمني، والجانب العسكري، ولحاظ بناء المدن، والتقدّم العمراني، ولحاظ التقدّم في الصناعات، والتقدّم في التكنلوجية، وكل شيء، وكل هذه مسائل تحتاج إلي حديث مفصّل.

وهناك تقدّم يحدث في الإنسان نفسه، أي في قدراته العقليّة، وفي إدراكات الإنسان بما يحدث فيه من تطوّر آخر، أمّا كيف يتم هذا التطوّر في قدرات الإنسان، والفرق بينه وبين التطوّر الذي يحدث في الآلة، أو في التقدّم التكنلوجي والتقدّم الذي يحدث علي الأرض، فهذا يحتاج إلي حديث آخر، أسأل الله التوفيق لي ولكم.

والحمد لله رب العالمين

* * *

الأسئلة والأجوبة

السؤال الأوّل:

سماحة السيد تحدّثتم أنّ هناك عدّة دول إسلاميّة تسبق

ص: 93

دولة الإمام عليه السلام ، ما هي فائدة هذه الدول الإسلاميّة إذا كان تحقّق العدل المطلق محصوراً في دولة الإمام عليه السلام؟ علماً أنّ هناك من المراجع من لا يري قيام دولة إسلاميّة في الوقت الحاضر؟

الجواب:

السؤال ينشعب إلي قسمين:

القسم الأوّل: ما هي فائدة وجود دول إسلاميّة قبل دولة صاحب الأمر؟

والجواب: من خلال البحث والحديث توضّح أنّ تلك الدول التي تكون قبل صاحب الأمر تكون قوّتها وقدرتها علي تنفيذ الإسلام محدودة، بمعني أن القوّة فيها محدودة سواء كانت أسباب تلك المحدودية تعود لظروف دوليّة أو سواء كان لظروف اقتصاديّة تجبر هذه الدولة علي أن يكون تأثيرها محدوداً، أو أمور أخري.

والإنسان المنطقي والعلمي يتوصّل إلي أنّ القدرة في تلك الدول لا تجعلها أن تحكّم الإسلام عامداً، فضلاً عن أنّ الإنسان الحاكم إذا لم يكن معصوماً بطبيعته يكون معرضاً للخطأ.

ولكن فائدتها تمثّل جزءاً من الخير، فإنّ الخير القليل خير من لا خير، فالخير النسبي وإن كان محدوداً فهو خير، وأمّا عندما أقول: إسلاميّة، لا أقصد بهذا المصطلح إعطاء نمط خاص وهو

ص: 94

النمط الإسلامي، يعني (الدولة الفلانيّة إسلاميّة) ولا أقصد من هذه التسميات التي تطلق علي بعض الدول من الناحية الرسمية، وإنّما أقول معني تطبيق الإسلام النسبي بما تهيئه الظروف، وبتعبير الإمام الخميني ومؤسّس الدولة الإسلاميّة في إيران _ كما تعلمون _ كان يقول: نحن لحدّ الآن لم نطبق الإسلام كلّه وإنّما نسعي لتطبيق الإسلام، وأمّا الإسلام كلّه فسوف يطبق في دولة الإمام المهدي عليه السلام.

القسم الثاني: وهو أنّ بعض المراجع لا يؤمنون بوجود حكومة إسلاميّة.

فالصحيح: ليس ان بعض أولئك المراجع لا يؤمنون بحكومة إسلاميّة، بل انهم لا يدعون للوجوب، يعني لا يجب عليك أن تسعي وتجاهد وتقاتل من أجل إقامة دولة إسلاميّة.

هذه رؤية فكريّة تحتاج إلي وقفة، ومن الطبيعي أن هناك فقهاء قد يكونون يؤمنون بعدم هذا الوجوب، أمّا لو وجدت الدولة الإسلاميّة فلا يسمونها دولة غير إسلاميّة ولا يسمّونها _ أعوذ بالله _ مثلاً دولة منافقين أو دولة كفّار إلي آخره، وإنّما دولة إسلاميّة، نعم لم تتوافر تلك الدولة علي تلك الشروط المطلقة الموجودة في دولة الإمام المهدي عليه السلام، لأنّ الإنسان المطلق والكامل يحقق ذلك الأمل في دولة صاحب الأمر عليه السلام فقط.

ص: 95

السؤال الثاني:

سماحة السيد الموسوي، يبشّرنا بعض المراجع بأنّ هذا الزمان إن شاء الله زمن ظهور الإمام عليه السلام ، فما رأيك؟ ولكوننا شباب نتطلّع لظهوره فما هو دورنا في هذا الأمر، وكيف يكون الاستعداد والمشاركة في دولة الإمام المهدي عليه السلام؟

السؤال الثالث:

هل لنا دور في تعجيل أو تأخير ظهور الإمام؟ وما هي الأمور التي تساعد علي ظهور الإمام؟ وما هو دور المرأة في تعجيل ظهور الإمام؟ وما هو دور الشباب في تعجيل ظهوره عليه السلام؟

السؤال الرابع:

هل هذا الاحتلال الذي عمّ العراق له دور في تعجيل ظهور الإمام المهدي عليه السلام؟ وهل تعتبر هذه الحروب العلامات في تعجيله؟ وما هو دورنا في هذا الظرف؟

الجواب:

بطبيعة الحال كل واحد من هذه الأسئلة يحتاج إلي وقت كامل للحديث عنه، أمّا بشكل مختصر:

ص: 96

نحن كمؤمنين سواء الرجال منا أو النساء مكلفون _ والكل مكلف _ أن نسعي بالتهيؤ لصاحب الأمر، والسعي مرّة علي نحو الفرد والشخص، ومرّة علي نحو المجتمع والشكل العام، وتهيئة الأمّة، وتهيئة الفرد.

والوظائف الشرعيّة محدّدة، وكل إنسان يحدّد وظيفته الشرعيّة، أوّلاً ينطلق من تزكية النفس وتهذيب النفس إلي أن يملأ ذهنه وعقله بالرؤي والعقائد الصحيحة الإيمانيّة، خصوصاً في عصر الفتن، كما نقرأ في الروايات أنّه عصر ما قبل الظهور عصر الفتن، خصوصاً الفتن العقائديّة، ويفترض في كل واحد منّا أن يتهيأ للدفاع عن عقيدته والعمل بوظيفته الشرعيّة، إمّا في بناء المجتمع الصالح وإمّا في بناء الأمّة الصالحة الممهّدة لصاحب الأمر.

وهناك تمهيد واع بوجود قوي قادرة علي أن تساند الإمام عليه السلام ، وهذه كلّها ظروف يحتاج الحديث عنها إلي تفصيل يمنعنا عنه ضيق الوقت.

والحمد لله رب العالمين

* * *

ص: 97

صفحة بيضاء

ص: 98

الندوة الرابعة: الإنسان الكامل في دولة الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

ألقيت الندوة في كلية الطب جامعة الكوفة

ص: 99

صفحة بيضاء

ص: 100

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، ثمّ الصلاة والسلام علي البشير النذير والسراج المنير، الطهر الطاهر والبدر الزاهر، المنصور المؤيّد والمصطفي الأمجد أبي القاسم محمّد، وعلي آله الطيبين الطاهرين، واللّعنة الدائمة علي أعدائهم ومنكري فضائلهم أجمعين من الأوّلين والآخرين إلي قيام يوم الدين.

اللهم ربّنا وفّقنا وجميع المشتغلين واجعله خالصاً لوجهك الكريم أنّك أرحم الراحمين.

الإنسان بين الخلقة والكمال:

عندما نتحدّث عن الإنسان الكامل في عهد الإمام المهدي عليه السلام لا بدّ أن نعطي لمحة تمهيدية لشرح هذا الاصطلاح الفلسفي، وما هو المقصود من هذا الاصطلاح، والمداليل التي تؤدّيها هذه الكلمة.

الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالي في موقع حباه ما لم يحبِ أحداً من خلقه.

نلاحظ في المفهوم الإسلامي الفلسفي للعالم أنّ المركز

ص: 101

في الكون هو الإنسان، وأنه المحور الذي يتحرّك عليه كلّ شيء، وإليه يعود الهدف الذي خلق من أجله كلّ شيء، ولذلك عبّر عنه القرآن الكريم بأنّه خليفة الله (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(1)

والإنسان الذي سمّي باسم آدم علي نبينا محمّد وآله وعلي آدم آلاف التحيّة والسلام كان المقصود منه هو (الخليفة الإنسان)، وما يعبّر عنه بالنوع والجنس والكلّي، والمقصود من الإنسان الكلّي هو كلّ إنسان، ونوع الإنسان، وليس المقصود الكاشف عن الأفراد الخارجيّة _ كما يعبّر عنه في علم المنطق الشكلي أو الأرسطي _.

فالإنسان الخليفة من حيث الفهم الفلسفي، له دوره في الحياة، المركز الذي يتمحوّر حوله كلّ شيء في الكون.

لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالي جعله الخليفة وجعله الواسطة بينه وبين باقي الخلائق والكائنات، فلم نجد نبيّاً غير إنسان، مع أنّ الله سبحانه وتعالي خلق خلائق كثيرة (عالمين)، وان هذه العالمين هي التي وردت في كثير من الآيات الكريمة، والمقصود منها أي مجموعة العوالم المتنوّعة سواء العوالم الشهوديّة أو العوالم الغيبّية باختلاف تلك العوالم الشهوديّة والعوالم الغيبية؛ فإننا لم نجد في0.

ص: 102


1- البقرة: 30.

جميع تلك العوالم نبياً فيهم من غير جنس الإنسان، لأنّ الخلافة الإلهيّة قد انحصرت في الإنسان ولم تعط تلك الخلافة الإلهيّة لأحد من خلق الله كائناً من كان حتّي لو كان ذلك الخلق جبرئيل، وحتّي لو كان ذلك الخلق الملائكة الكروبيّين، فضلاً عمّا خلق الله من الجن وخلق الله من النسناس _ كما ذكر في الروايات _(1) وخلق من الحيوانات وخلق من الأشجار وخلق ممّا يري وممّا لا يري، فلا يوجد من جميع هذه المخلوقات نبي يوحي إليه، ويتصّل بينه وبين السماء، أو بينه وبين الله تبارك وتعالي مباشرة، أو بواسطة الوحي إلاّ الإنسان.

ويكشف هذا الأمر عن الموقع الربّاني لهذا المخلوق في الكون، فهو المركز الذي يتمحور حوله كل الموجودات في هذا الوجود.

ولم يقصد من هذا المركز وهو الإنسان لم يقصد به الأنبياء فقط أو الأئمّة عليهم السلام ، أو الأوصياء، أو المعصومين، وأيّ معصوم من المعصومين (علي جميع المعصومين من الأنبياء والأئمّة آلاف التحية والسلام).

ولم يكن هو المقصود الأوّل والآخر فقط، وإنّما المقصود هو الإنسان الكامل الذي خلقه الله تكويناً.5.

ص: 103


1- لاحظ: بحار الأنوار 24: 94/ الباب 35.

فإنّ الله سبحانه وتعالي خلق البشر والإنسان علي نمطين، وعلي نحوين:

خلق كامل بالتكوين، وهم الأنبياء والمعصومون والأئمّة، ومع ذلك فهم في طور التكامل ويتكاملون، ولذلك فإنّ إبراهيم النبي عليه السلام مرّ بمراحل من التكامل بما تجلّي بمقامات التجلّي والظهور في هذا الوجود، ولا أريد أن أتعرّض لهذه النظريّة بكل تفاصيلها، وإنّما أشير إليها إشارة لكي أتوصّل لتوضيح المصطلح الذي نريد أن نتحدّث عنه في دولة الإمام المهدي عليه السلام.

الإنسان إذن علي نوعين وقسمين: إنسان معصوم بالذات، خُلق كاملاً، ولكن هذا الكامل كامل نسبي، ولذلك نري أنّ بعض المعصومين بالنسبة للمعصومين الآخرين يكونوا أعلي درجة أو أقل درجة؛ فمثلاً عندنا الأنبياء أصحاب درجات؛ والدرجات تعني أن نسبة الكمال والتكامل في ذلك الإنسان بما ظهر فيه، فعندنا أنبياء أكمل من أنبياء إلي أن تصل إلي الأنبياء أولي العزم الذين هم أكمل الأنبياء ثمّ تأتي درجة أعلي من الأنبياء أولي العزم وهو خاتميّة محمّد صلي الله عليه وآله وسلم ، فدرجته في النبوّة أعلي وأكمل لأنّ إنسانيّته أكمل من باقي الأنبياء.

النظرية الإسلاميّة في تكامل الإنسان:

وهناك حديث طويل في هذا المضمار وهو الحديث عن

ص: 104

كامليّة الإنسان الكامل في عالم التكوين، وهذا الحديث يحتاج إلي وقت مفصّل وطويل؛ ولكننا نتحدّث عن نمط التكوين ونمط التكامل في هذا الإنسان، وكيف، ولماذا كانوا هؤلاء، ولم يكونوا غيرهم؟ فهناك عدّة أسئلة تطرح، ويمكن أن تطرح، وتحتاج إلي أوقات لشرح تلك الجوانب.

لكن أريد أن أتعرّض للنوع الثاني من الإنسان وهم باقي البشر:

فباقي البشر خلقه الله سبحانه وتعالي، وحسب النظرية الفلسفيّة في الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي المعروف ب- (ملاّ صدرا) صاحب كتاب الأسفار، وهو أرقي ما وصل إليه الفكر الديني والإنساني في تفسير كثير من المسائل الوجوديّة فلسفيّاً، وتوضيح مواقعها في خارطة الوجود علي أكمل وأتم أوجه التفسير لتلك التساؤلات.

أريد أن أقول من هذه النظريّة _ ولم نجد لها معارضاً بين الفلاسفة المسلمين فضلاً عن غير المسلمين _ هو أنّ الإنسان أوّل ما يخلق لم يخلق من كمال وإنّما خلق من طين لازب _ كما يقول القرآن _(1) يعني هذا الطين العادي الذي فخره الله سبحانه وتعالي بفخار القدرة.

ولا أريد أن أتعرّض للحديث عن بداية الإنسان، ومن أي1.

ص: 105


1- الصافات: 11.

شيء كان الإنسان، وما يذكره دارون وغيره، كما اني لا أريد أن أتعرّض لهذه التفاصيل ورؤية الدين والإسلام بما يطرح علي هذا المستوي من الطرح العلمي وغير العلمي.

وإنّما أريد أن أقول أنّ هناك شيئاً اسمه إنسان طيني، وهذا الإنسان الطيني يخلق أوّل ما يخلق في الجوانب الأولي من ظهوره في الوجود بتعبير القرآن (مِنْ مَنِيٍّ يُمْني)(1) ثمّ بعد ذلك يتحوّل إلي علقة، ثمّ مضغة، مخلّقة وغير مخلّقة، ثمّ عظام، فيكسو العظام لحماً فيكون جنيناً في بطن الأم تلجه الروح.

هذا الإنسان الطيني من حيث الكمال لم يملك كمالاً، ولكن فيه قدرة وقابليّة الكمال والترقّي؛ وهذا الكمال والترقّي فيه تعاطف وتناغم بين جنبتي الطينيّة والروحيّة.

وبعد ذلك تظهر الروح وتنشأ الروح في الإنسان في بطن أمّه كجنين ثمّ يكون خلقاً آخر كما يقول الله تبارك وتعالي: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).(2)

هذا التناغم الطيني والروحي في بطن الأم، والتناسل، والتبادل يدخل كل واحدٍ منهما في تركيبة الإنسان الكامل؛ أي أن كون الإنسان خلق من هذه الصورة الطينيّة، ومن هذا الدماغ،5.

ص: 106


1- القيامة (75): 37.
2- المؤمنون (23): 15.

ومن هذا القوام، ومن هذا الشكل فإنّ له أثره في كمال الإنسان، كما أنّ الذي له الأثر الكبير في كمال الإنسان هو الجانب الثاني وهو الجانب الروحي.

وعندما يولد الإنسان، يقول القرآن: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً)،(1) ولا أريد أن أتحدّث عن نظريّة المعرفة عند الإنسان، سواء كانت نظريّة المعرفة عند الفلاسفة التجريبيّين، أو الفلاسفة العقليّين، أو غير ذلك ممّا طرح من نظريّات حول نظرية المعرفة، لكنّنا كإسلامييّن ومسلمين نؤمن _ كما قال القرآن الكريم _ أنّ الكمال المعرفي عند الإنسان يكون من نقطة الصفر في بطن الأم، فيولد الإنسان وهو خالٍ من المعرفة، خلافاً لمفاهيم ديكارت الذي يؤمن ويحاول أن يبرهن أنّ المبادئ الفطريّة الأوليّة تولد مع الإنسان.

وبطبيعة الحال فاني لا أريد أن أتحدّث عن كل هذه التفاصيل، ولكن هذه التفاصيل لها أثر كبير في كمال الإنسان.

وعلي كل حال فإن الإنسان يولد وهو لا يملك هذا الكمال، بل تبدأ معارفه الحسيّة _ وهي أوّل المعارف التي تتكون في عقل الإنسان _ تظهر من خلال تجاربه مع الواقع الخارجي، ولذلك نعتبر نحن الإسلاميّين أنّ المعارف الحسيّة وإن لم تكن هي المعارف8.

ص: 107


1- النحل: 78.

الكماليّة للإنسان كإنسان ولكن هذه المعارف الحسيّة تعبّر عن الموجود الأوّل للمعرفة، يعني أنها تشكّل المعرفة الإنسانيّة في بداياتها: من المعرفة الحسيّة ثمّ تترقي إلي المعرفة العقليّة.

وهذا يعني أننا نختلف مع الحسّيين حينما نقول أنّ المعرفة الحسيّة تترقّي إلي معرفة عقليّة، ونختلف مع العقليين أو الفلاسفة العقليين أو الذين يعبّر عنهم بالمثاليين، سواء في المثالية القديمة أو بالمثالية الجديدة التي بشّر بها الفيلسوف الألماني (هيگل) أو غير ذلك الذي أنكر المعارف الحسية بواقعيتها وفهمها كانعكاسات مثالية فوق قدرات المادة.

وبدون لحاظ لهذه التصوّرات الحسية أو المثالية فإن عمليّة التكامل عند الإنسان تبدأ وتتكامل إنسانيته من خلال ظهور الإنسانية فيه تتم كيفيتها مجتمعةً تؤدّي الجوارح والطينيّة والجسم دورها في إعطاء المجال للقوي العاقلة في الإنسان فتتكامل وتصل إلي مستويات أعلي، وتكون هذه المستويات قادرة علي أن تخرق العالم الطيني، أو العالم الناسوتي _ كما يقول الفلاسفة _ وترتقي إلي عوالم أخري كعالم الجبروت مثلاً، فيطّلع ويتكامل الإنسان، فيكون في أعلي عليّين وهو في الدنيا.

الغاية من خلق الإنسان:

هذا الموضوع مع أهمّيته يبحث عن الهدف الأساسي لخلقة الإنسان، والهدف هذا هو تكامله فحسب لأن الله سبحانه جعل الإنسان

ص: 108

خليفته وعندما يريد أن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض فلا بدّ أن يكون هذا الإنسان بهذا المستوي من الكمال الذي يستحق به أن يكون خليفة لله سبحانه وتعالي في الأرض وفي الوجود، ويعني هذا هو أن يكون عنده من قوي الإدراك والمعرفة ما يجعله مؤهّلاً ومسلّطاً _ له سلطان _ علي كل الموجودات.

إذن هذا هو المقصود من الإنسان الكامل، وهو المعبّر عنه (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(1) وهذه اللاّم لام الغاية، وهنا نحتاج إلي تفصيل وبيان لما هو المقصود من (لِيَعْبُدُونِ)، هل العبادة الحركيّة الظاهريّة، أم هناك حركة الواقع، وهو أن يتحرّك الإنسان بكلّه وبروحه؟

وعلي كلّ حال فإن هذا الهدف الذي خلق الله سبحانه وتعالي الإنسان لأجله، وهو أن يعبد الله سبحانه وتعالي، كما يقول المفسرون في تفسير الآية السابقة: (ليعرفون)(2) لأنّ العبادة الحقيقية هي عبادة المعرفة.

وإن هذه الغاية هي التي يستطيع بها الإنسان أن يتكامل ويكون بمستوي فوق الملائكة وفوق كل المخلوقات، بل يكون المركز الذي تتمحور حوله جميع الموجودات والمخلوقات.ا.

ص: 109


1- الذاريات: 56.
2- لاحظ: تفسير القرآن الكريم لابن كثير 4: 255 عن ابن جريح؛ شرح أصول الكافي للمازندراني 4: 208؛ الرواشح الروية/ المحقق الداماد: 22؛ شرح الأسماء الحسني 1: 189، و2: 23؛ فوائد الأصول 1: 559؛ اللمعة البيضاء: 411؛ وفي غيرها.

وإن هذه الغاية، وتحقيق هذه الغاية هي غاية الأنبياء عليهم السلام علي مرّ التأريخ، فإنّ الله بعث الأنبياء والرسل من أجل أن يوصلوا الخليقة للكمال الذي يستطيعون به أن يعبدوا الله تبارك وتعالي حقّ عبادته ويعرفوا الله تبارك وتعالي حقّ معرفته، وهذه المهمّة هي من مهمّة الأنبياء الأساسية.

ومن المعلوم فإن مهمّة الأنبياء تتوّج وتنتهي بمهمّة الوصي الخاتم المهدي المنتظر عليه السلام ، ولذلك نجد في كل النبوّات التي سبقت نبيّنا محمّد صلي الله عليه وآله وسلم والتي لحقت النبوّة من الوصايات والإمامات التي توالت بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كانت تؤكّد وتبشّر بالمهدي المنتظر عليه السلام الذي سوف يحقّق تلك الأمنية الإلهيّة.

أي أنّ الأنبياء وكل نبي له دور يتمّم الدور الذي قبله، إلي أن جاء دور نبيّنا صلي الله عليه وآله وسلم وكان هو الدور الخاتم النهائي والذي ابتدأ في أعظم حلقة من حلقات هذا الدور بوجوده الشريف صلي الله عليه وآله وسلم وسوف تنتهي هذه الحلقات العظيمة بأشرف حلقة منها بظهور الإمام المهدي عليه السلام.

مجتمع عصر المعصومين:

وبقي الإنسان الكامل علي مرّ التأريخ مفردات يتحدّث عنها التأريخ، وفي عصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، وهو من العصور الشريفة التي حظيت بحضوره صلي الله عليه وآله وسلم وحضور أئمّة ثلاثة هم: الإمام أمير

ص: 110

المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن والحسين عليهما السلام إضافة إلي الصدّيقة الكبري فاطمة عليها السلام، ولكننا نجد البشريّة لم تكن مؤهّلة لتحظي بالكمال التام فتكون هذه البشرية هي الإنسان الكامل، فلم نحس أنّ المجتمع المدني الذي عاصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم (وأقصد بالمجتمع المدني ما نسبته إلي المدينة المنورّة علي ساكنها ومشرّفها أفضل الصلاة والسلام) والإنسان المدني ومع وجود النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لم يملك مفردات وجود الإنسان الكامل إلاّ بأفراد معدودين.

ولذلك فإننا نعدّ من أفراد الإنسان الكامل أفراداً قلائل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الذين وصلوا إلي مرحلة عظيمة من الكمال بحيث تخدمهم الملائكة، كما في الرواية (سبعة بهم تمطرون وبهم ترزقون)(1) يعني أنّ الله لأجلهم ينزل المطر9.

ص: 111


1- روي الشيخ المفيد في الاختصاص بالإسناد إلي عليّ عليه السلام أنه قال: (ضاقت الأرض بسبعة بهم ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون منهم سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمار، وحذيفة رحمهم الله)، وكان عليّ عليه السلام يقول: (وأنا إمامهم، وهم الذين صلّوا علي فاطمة عليها السلام). ورواه الكشي في (رجاله): 33، ورواه الصدوق في الخصال: 361/ باب 7؛ وفرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره: 570/ في تفسير سورة (الضحي)/ تحت الرقم الخاص 5/ وتحت رقم 733؛ والأردبيلي في جامع الرواة 1: 182؛ والسيد عليّ بن معصوم في الدرجات الرفيعة: 209، وفي: 285؛ والسيد بحر العلوم في (رجاله) 3: 344؛ والمجلسي في البحار 22: 209.

ولأجلهم يعطي الرزق للعباد، وذكر من جملتهم سلمان والمقداد وعمّار وأباذر، هؤلاء وصلوا بالكمال لهذا المستوي العظيم، ولكن مع هذا المستوي العظيم الذي وصلوا إليه من كمال لم يكونوا جميعهم بهذا المستوي، أي لم يكن جميع من حضر بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بهذه الدرجة، وهذا موجود في قوله تعالي: (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلي أَعْقابِكُمْ).(1)

يعني أنّ هذا المجتمع مع وجود النبي، وأنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم اشتغل لأجل نقل هذا المجتمع إلي هذا المستوي ولكنه لم يستطع أن ينقل المجتمع ليصل إلي مستوي الكمال الذي يثبته علي الحق فلا يضرّ إنسانه موت النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو بقاؤه لأنه كانت نسبة الإنسان الكامل فيه نسبة كليّة ونسبة ظاهرة.

مجتمع عصر الظهور:

ولكن سوف تتحقّق هذه النسبة في مجتمع الإمام المهدي عليه السلام ، لا لأنّ المهدي وحده سوف يقدر علي ما لم يقدر عليه باقي الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وإنّما لأن الإمام المهدي عليه السلام شاءت إرادة الله أن يكون الخاتم الذي تظهر علي يده المقدسة نتائج جهود جميع الأنبياء في دولته، وتظهر جميع مظاهر الجهاد والجهود التي قام بها الأنبياء والأوصياء في دولته، وسبب هذا أنّ تكامل الإنسان الكامل يحتاج إلي

ص: 112


1- آل عمران: 144.

جهود، وتظافر جهود كبيرة لا يمكن أن تتحقّق من حيث التكوين _ ليس من حيث التشريع _ إلاّ في دولة صاحب الأمر عليه السلام.

ولذلك سوف تكون نسبة وجود الإنسان الكامل علي نحوين لأنه لدينا نظريتان، فيوجد نحوان:

فهناك نظريّة تقول بأنّ النسبة سوف تكون تامّة، وهو المعبّر عنه بالمجتمع المعصوم، ويمكننا أن نتحدّث عن الإنسان الكامل الكلّي في مجتمع إنساني كلّي، وهو مجتمع المهدي عليه السلام.

فهذه النظريّة تقول أنّ مجتمع الإمام المهدي مجتمع معصوم، ولكنها تحتاج إلي بحث لست أنا الآن بصدد هذا الموضوع، لأنّ هذا الموضوع يحتاج إلي بسط في البحث ووقت لتفصيل المجتمع المعصوم في دولة الإمام المهدي عليه السلام.

ولكن هناك نظريّة أخري أيضاً تقول أنّ المجتمع في عصر الإمام المهدي عليه السلام وإن لم يكن كلّه معصوماً، ولكن بالنسبة إلي الأغلبيّة من المجتمع سوف تكون فيه حالة العصمة، بمعني أنّ أغلب المجتمع، أو أنّ النسبة العامّة في مجتمع الإمام المهدي عليه السلام يكون فيهم قد تحقّق فيهم عنصر الإنسان الكامل.

وبالطبع فهم يبقون مختلفين في درجات الكمال، فإن الناس وإن وصلوا إلي مرتبة الإنسان الكامل بشكل عام _ بحسب هذه النظرية _ وليس بالمعني الجوهري التام الذي ينكشف انكشافاً كلّياً علي جميع

ص: 113

الأفراد، ولكنه مع ذلك فإنّ هذه النسبة سوف تكون مختلفة أي _ بتعبير المناطقة الشكليّين _ مشكّكة، وليست متواطئة، بمعني أنها ليست علي مستويً واحد، وإنّما هي علي مستويات مختلفة، بمعني أنّ مستويات الناس وإن وصلوا إلي مرتبة الإنسان الكامل إلا أنها يمكن تشبيهها بتفاوت درجات الأنبياء، فعندنا (124) ألف نبي وكل نبي عنده وصي أو أكثر من وصي، ومع هذا فهم مختلفون في مراتب الكمال فيما بينهم فكذلك في مجتمع الإمام المهدي عليه السلام فإنه سوف يكون الإنسان الكامل مختلفاً من حيث رتبة الكمال فيما بينه وبين غيره من الأفراد.

مظاهر الكمال:

وكنت قد أردت أن أتحدّث عن هذه المظاهر بتفصيل أكبر، لكن وللأسف الشديد أنّ الوقت أخذني وأدركني، ولذلك فأنا سوف أتحدّث عن مظاهر هذا الكمال، وكيف نلاحظ هذا الكمال؛ بما يسعفني به الوقت.

التكامل يشمل التكامل العضوي، والتكامل الروحي، فكما هناك تكامل روحي فإن هناك تكاملاً عضوياً.

وهذه النظريّة تحتاج إلي تفصيل، وبحث طويل حول أن تكون العلاقة العضويّة والروحيّة متكافئة، أو تكون بينهما حالة تبادل في الكمال، يعني ما هو أثر الجانب الروحي علي الجانب العضوي؟ وكيف يمكن للإنسان إذا ترقّي روحيّاً أن يؤثّر حتّي

ص: 114

علي قوته _ بنوع ما من التأثير _ وعلي جسمه؟ وهذا الكمال الجسمي يكون بمستدل، بحيث تملك قواه أيضاً نوعاً من أنواع الكمال.

وهذا الموضوع جدّاً مهم، وإنه يطرح حاليّاً علي عدّة مستويات سواء علي مستوي الفلسفات الشرقيّة، التي هي معروفة بالبوذيّة وغير البوذيّة، أو الفلسفات الجديدة في الغرب وهي الفلسفات الروحيّة، وهو الذي يعبّر عنه الباراسايكولوجي ويتحدّثون عن أثر القوي الخفيّة التي توجد في واقع الإنسان، وعلي الجانب العضوي في الإنسان، وليس فقط السكيلوجي وإنّما الجانب العضوي في الإنسان.

فهناك أثر حقيقي موجود في الواقع، وهذا الأثر كيف يوجد؟ وكيف يمكننا أن نتوصّل إليه؟ فهذا يحتاج إلي حديث مختصّ به.

ولكن هناك وعندما نقرأ الروايات عن إنسان دولة صاحب الأمر عليه السلام فإننا نجد إنساناً يملك من القوي العضويّة ما لا يملكه إنسان آخر.. أعطيك مثالاً: العاهات والأمراض والعلل التي تصيب الإنسان، فعندنا في رواياتنا عن أهل البيت عليهم السلام ، وهذه الروايات موجودة أيضاً في كتب العامّة من اخواننا السنّة كما هي موجودة في كتب الشيعة، فلم نختص نحن بروايتها، وإنّما هي موجودة في

ص: 115

كتب جميع المسلمين، وتقول هذه الروايات أنّ الإنسان _ إنسان دولة الإمام المهدي عليه السلام _ يبرأ من العاهة، ويبرأ من الضعف البدني، ويبرأ هذا الإنسان من الأمراض والعلل.

فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يبرأ من هذه العاهات، وهذه النواقص البدنيّة في جسمه؟! توجد له عدّة تفاسير..

ربّما يفسّره البعض علي أساس غيبي، فيقول أنّ هناك أمراً إعجازياً أو أمراً ربّانياً، شاء الله تبارك وتعالي _ المشيئة وهي الإرادة التكوينيّة فيه _ أن يكون هذا الإنسان المعاصر للمهدي عليه السلام بهذا المستوي من القدرة والقوّة البدنية، هذا هو التفسير الأوّل.

لكن هذا التفسير لا نهضمه، لسبب هو أن الله تعالي أجري قانون الطبيعة في حياة الإنسان في زمان النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقبله وبعده، ولم تذكر الروايات أنّ هذه الحالات التي سوف يتوصّل إليها الإنسان في دولة الإمام بسبب أمر غيب-ي.

مثلاً: من جملة تلك الروايات ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: (من أدرك قائم أهل بيتي من ذي عاهة برئ ومن ذي ضعف قوي)،(1) فإنك تلاحظ الرواية تتحدّث عن أنّ من به عاهة جسميّة قبل دولة صاحب الأمر فإنها في دولة صاحب الأمر تبرأ بشكل غير إعجازي، وبشكل تكويني، وبشكل طبيعي، وبشكل8.

ص: 116


1- الخرائج والجرائح للراوندي 2: 839؛ بحار الأنوار 52: 335/ ح 68.

تجريبي داخل تحت التجربة وداخل ضمن قوانين الطبيعة، وكذلك في الضعف. وهذه هي رواية واحدة من تلك الروايات.

والرواية الأخري عن الإمام الباقر عليه السلام عن أبيه عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه قال: (إذا قام القائم أذهب الله عن كل مؤمن العاهة وردّ إليه قوّته) (1) وهذه القوة هي نفس القوّة التي ذكرت في الرواية السابقة.

وتلاحظ في هذه الروايات زوال الضعف وزوال العاهات، والبرء من العلل، والبرء من الأمراض.

وقد يقال بالوضع التجريبي أنّ المجتمع المهدوي يصل بالتطوّر العلمي في شتّي الوسائل، أو في شتّي مجالات العلوم إلي مستويً كبير من التطوّر والتقدّم التكنلوجي وغير التكنلوجي بحيث تزول تلك العلل.

ولتوضيح هذه الفكرة نقول: لو أنّ مجتمعنا يعيش في هذا القرن بدايات القرن الواحد والعشرين لو قسناه إلي مجتمع قبل سبع قرون فسوف نلاحظ نسبة العاهات، ونسبة الأمراض، ونسبة العلل، والظواهر اللاّصحيّة التي كانت موجودة في تلك المجتمعات بنسبة كبيرة جدّاً وظاهرة للعيان، ولذلك كانت تنتشر الأوبئة بشكل سريع وكان الناس في كل سنة يتخوّفون في مواسم2.

ص: 117


1- كتاب الغيبة للنعماني: 317/ الباب 21/ ح 2.

معينة _ خصوصاً مواسم الحر _ من ظهور الأوبئة، والأمراض مثل الكوليرا أو ما إلي ذلك، أمّا الآن فبالتطوّر العلمي خفت هذه الظواهر اللاّصحيّة بسبب التقدّم، وإن كان الإنسان قد توصّل لاكتشاف خريطة الجسم _ فرضاً _ التي يكتشف منها الأمراض المستقبليّة في الإنسان، أو اكتشف أكثر هذه الخريطة للجسم لاستطاع أن يكتشف تلك الأمراض والأوبئة.

وهكذا في زمان الإمام فسوف يتطوّر الإنسان وتظهر كفاءاته، كما يوجد في إحدي الروايات أنّ الإمام المهدي إذا جاء نشر العلم،(1) وكل علم ولا يختص فقط في علم الدين، وإنّما كل العلوم سوف تنتشر وتكون في أعلي مستوي في دولة صاحب الأمر عليه السلام ، ولذلك فسوف تزول هذه الأوبئة بشكل طبيعي وبدون حاجة إلي الإعجاز.

وهذا الرأي والتفسير تؤيّده مجموعة من الروايات:

ومن جملة تلك الروايات التي تحدّثت عن قوي الإنسان الكامل في دولة صاحب الأمر عليه السلام ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في صفة أصحاب القائم، ويقصد بأصحاب القائم المجتمع الكامل الذي يحققه الإمام المهدي عليه السلام، يقول الإمام الصادق عليه السلام: (وإنّ الرجل9.

ص: 118


1- الخرائج والجرائح للراوندي 2: 841/ ح 59.

منهم ليعطي قوّة أربعين رجلاً وأنّ قلبه لأشد من زبر الحديد ولو مروّا بجبال الحديد لقلعوها).(1)

فهذه القوّة التي تعطي للجسم، قد لا نملك من وسائل تجريبيّة ما نستطيع بها أن نوفّر هذا المستوي من الطموح في رقيّ الإنسان وتكامل الإنسان، ولكن لو نلاحظ حقيقة أنّ الإنسان يمكنه أن يقوي قدراته عندما يتعرف ويجد الأسباب في قوّته الجسميّة ويجد الأسباب في ضمور عضلاته، فإذا افترضنا أن المقصود من هذه القوّة هو فقط القوّة الجسميّة، علماً أنه يوجد احتمال آخر، هو أن تكون له وسائل قدرة كالرشاشات _ فرضاً _ بل أكثر وأرقي وأقوي من هذه القوي بالنسبة للإنسان.

إن هذه الروايات التي تحدّثت عن هذا الإنسان في زمان الإمام المهدي عليه السلام والذي سوف يتغيّر روحياً وسوف يتغير جسميّاً، وهذا التغيّر الروحي والتغيّر الجسمي نحو الكمال، وهو الكمال المنشود الذي ينسجم مع طموح الشريعة وطموح الأنبياء والأئمّة عليهم السلام في تكميل الإنسان في أرقي المستويات.

وفي الموضوع تفاصيل كثيرة والوقت أدركنا، نكتفي بهذا المقدار.

نسأل الله سبحانه وتعالي التوفيق لنا ولكم.6.

ص: 119


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 673/ الباب 58/ ح 26.

وبالنهاية أشكر العمادة، عمادة كليّة الطب علي هذه الفرصة، وأشكر مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام ، والذي هو برعاية آية الله العظمي المرجع الديني الأعلي السيد السيستاني حفظه الله.

أسأل الله أن تتهيأ فرصة أخري نوفق فيها لتكملة البحث، لأن الوقت قد أدركنا قبل إكمال البحث بجوانبه المهمة.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *

الأسئلة والأجوبة

السؤال الأوّل:

ما قول سماحتكم في بعض الدراسات القائلة في المهدي بأنّه ليس بشراً منّا أهل البيت، وإنّما هو ممكن أن يكون تغيير جذري في فكر الناس، أو هو دولة قويّة تقدّم الإسلام بفكره الصحيح وبأسلوبه المستقيم ويتمحور الناس حولها ويقبلونها؟

الجواب:

الواقع إذا تناولنا الموضوع بلحاظ ديني، فإنّ الروايات المتواترة عند السنّة والشيعة بالإجماع _ لم يشذ عنهم شاذ _ قد نصّوا علي هذا الرجل الذي اسمه المهدي عليه السلام أو صفته المهدي وصفته القائم، وعندنا

ص: 120

نحن باسمه الشريف ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، وعندنا صفاته الجسميّة موجودة في الروايات، وعندنا أنه ولد في (15/ شعبان) وقد روت السيّدة حكيمة يوم ولادته وكيف ولد، وعندنا أنّ هذا الإمام هو الذي سوف يملؤ الأرض قسطاً وعدلاً.

هذا كلّه موجود بمئات بل بآلاف الروايات، فمثلاً أحد الكتب التي جمعت قسماً من هذه الروايات اسمه (العبقري الحسان) باللغة الفارسية وقد طبع علي الحجر، ولو يطبع علي الطبعة الحديثة فسوف لن يكون أقل من عشرين مجلّداً، قد يجمع مؤلفه بعض تلك الروايات التي تحدّثت عن الإمام المهدي، كما لدينا موسوعات تحدّثت عن الإمام المهدي عليه السلام وجمعت الروايات حوله ومن أفضل هذه الموسوعات موسوعة الإمام المهدي عليه السلام لآية الله العظمي الشهيد المظلوم السيد محمّد الصدر قدس سره.

فالرؤية الدينيّة الإسلاميّة للإمام المهدي عليه السلام محصورة به.

السؤال الثاني:

السلام علكيم، لو افترضنا _ كما قلتم _ أنّ المجتمع الإنساني في وقت الظهور قد وصل إلي أعلي درجة في التكامل الإنساني، فهناك إشكال، وهو الحديث المشهور الذي يقول أنّه: (سيملؤ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً) فحيث هناك تناقض _ ظاهراً _

ص: 121

بين الحديث والمطلوب، نرجوا توضيح ذلك ورفع هذا التناقض جزاكم الله خير الجزاء؟

الجواب:

طبعاً عندما نتحدّث عن المجتمع قبل الظهور فهو غير المجتمع الذي سوف يكون في ما بعد الظهور.

أمّا كيفيّة امتلاء الأرض بالظلم والجور؟ فتفسير هذا الامتلاء فيه آراء كثيرة، لكن أهم تلك التفسيرات هو أنّ هذا الامتلاء قبل ظهور صاحب الأمر عليه السلام ما يكون المقصود منه الامتلاء علي مرّ التأريخ، بحيث لم تبق منطقة لم يشملها الظلم والجور، وهو المعبّر عنه في الروايات التي تفسّرها طبعاً الروايات الأخري، فإنّ الروايات تفسّر بعضها بعضاً، كما يفسّر القرآن بالقرآن وبالرواية؛ فنفِسّر الرواية بالرواية وبالقرآن.

وهذا التفسير اعتمد علي جملة من الروايات، والموضوع يحتاج إلي تفصيل لست الآن بصدد بيانه وإنّما أشير إليه إشارة لأجيب علي هذا السؤال، وهذه الرواية تقول ما معناه: ما يبقي أصحاب ملّة إلاّ وحكموا قبل صاحبنا أو قبل حكمنا، وفي روايات أخري لئلاّ تكون للناس حجّة فيقولوا لو حكمنا لعدلنا.(1)

ص: 122


1- روي النعماني في الغيبة: 374/ الباب 14/ ح 53 بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ما يكون هذا الأمر حتّي لا يبقي صنف من الناس إلاّ وقد ولوا علي الناس حتّي لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا، ثمّ يقوم القائم بالحق والعدل).

هذا المقصود من (لو حكمنا لعدلنا) معناه أنّ الكل سوف يحكم، وان الكل تظهر منه مظاهر الجور والظلم بما يمتلئ به الوضع الأرضي، ممّا يمكنه أن يمتلئ.

وأمّا امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً بعد الظهور، فيعني أنّ البشرية تكون متكاملة.

أمّا كيف يكون وكيف يتحقّق التكامل، فهذا يحتاج إلي حديث مفصّل، باعتبار أنّ التكامل الذي يظهر في دولة صاحب الأمر ويملؤ الأرض يطرح علينا سؤالاً هو: الأشرار أين يذهبون والظلاّم أين يذهبون؟ وهذا ما يجاب عنه أنّ في دولة صاحب الأمر عليه السلام يحكم بحكم داوود، وهل يوجد في حكمه إلاّ السيف؟!

وهنا ينشق موضوع السيف والقوّة والحديد والحوار، وهذا يحتاج إلي مجال للحديث وتفصيل عن متي يستعمل السيف؟ ومتي يستعمل الحوار؟

وهذا الموضوع له من الأهمية الكبيرة ما نحتاج إلي البحث عنه، ولكن المقصود منه هنا هو التأكيد علي أنه بعدما تتوفّر في حكمه كل الظروف لتطهير الإنسان وتطهير الأرض فسوف يتطّهر الإنسان، وحينئذٍ يمكن للإنسان أن يصل إلي مراتب الكمال.

يوجد هنا موضوع آخر وهو قد يعبّر عنه بالتأثيرات الاجتماعية علي سلوك الفرد وسلوك المجتمع، والمعبّر عنه في

ص: 123

علم الاجتماع بالعقل الجمعي، هذه نظرية العقل الجمعي وتأثير العقل الجمعي علي العقل المفرد أو السلوك الفردي بالنسبة للإنسان والسلوك الجماعي للأمّة كمجتمع، سوف يتخلّص الفرد من العقل الجمعي الشرّير والجائر والظالم في دولة صاحب الأمر عليه السلام ، فلذلك يتوفّر للإنسان العقل الكامل والعقل المرشد.

السؤال الثالث:

إذا كان الإنسان في عصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لم يصل مائة بالمائة إلي الإنسان الكامل، فما هي يا تري نسبة الإنسان الكامل في عصرنا هذا الذي نعيشه؟

سؤال آخر حول نفس المحور تقريباً:

في الأوّل والآخر الله وحده العالم ولكن حسب علمكم ما مدي نضج المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر ليكون بمستوي مجتمع عصر ظهور الإمام المهدي عليه السلام؟

الجواب:

قلنا بالنسبة إلي ظهور الكمالات أن شغل الأنبياء وشغل الأئمّة عليهم السلام ليس علي الكم، فالمهمّة الأساسية التي كانت علي النبي وعلي الأنبياء الذين سبقوه والأئمّة عليهم السلام لم يكن الأصل فيها

ص: 124

العدد الكمي وأنّهم كانوا يسعون أن يربوا أكثر ما يمكنهم ويستطيعوا تربيتهم من الإنسان الكامل، وإنّما كان اهتمامهم متمركزاً ومهتم في الجانب الرتبي من الإنسان، يعني إظهار أعلي مراتب الإنسان الكامل وإن كان أقل عدداً.

أمّا في عصر اكتمال الشريعة، وعندما تكتمل الشريعة، وعندما تنزل الآية الكريمة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً)(1) الذي هو في عصر الإمام المهدي عليه السلام حيث يظهر الكمال بأجلي مظاهره في تمام الشريعة، وهذا يوفّر الفرصة لظهور الإنسان الكامل، وتلاحظون أن هذا شرط أساسي للإنسان، فلذلك لم تكن مهمة الأنبياء هي أن تكون المساحة الكمية، وإنّما كانت المهمة هي المساحة النوعية، عندما تتكامل المساحة النوعية في آخر المجتمعات الإنسانية فإنه سوف تظهر في ذلك المساحة الثانية وهي المساحة الكمية.

أمّا مجتمعنا أو باقي المجتمعات والقياس عليها _ كما سألتم _ فهذا حديث يحتاج أن نتحدّث عن مجتمعنا والقوانين الاجتماعية الحاكمة في المجتمع الإنساني بشكل عام والإسلامي الذي نطمح إليه، وهذا يحتاج إلي بحث خاص.3.

ص: 125


1- المائدة: 3.

أمّا إلي أين وصلنا، نرجو من الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا من المجتمعات التي تحظي بنظرة صاحب الأمر عليه السلام ، ويرحمنا ويرفعنا من مستوانا إلي أعلي مستوي، ويجعلنا ممّن يوفّق لرؤيته وخدمته والظهور في دولته عليه السلام.

والحمد لله رب العالمين

* * *

ص: 126

مصادر التحقيق

القرآن الكريم.

الاحتجاج: الشيخ الطبرسي/ مطابع النعمان/ النجف الأشرف.

الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: الشيخ المفيد/ دار المفيد/ إيران.

إعلام الوري بأعلام الوري: الشيخ رضي الدين أبو نصر الطبرسي.

إكمال الدين وإتمام النعمة: الصدوق/ مؤسسة النشر الإسلامي/ إيران.

بحار الأنوار: الشيخ محمّد باقر المجلسي/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

تفسير القرآن العظيم: الحافظ ابن كثير/ دار المعرفة/ بيروت.

تفسير القمي: أبو الحسن القمي/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

تهذيب تأريخ دمشق الكبير: أبو القاسم المعروف بابن عساكر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن: محمّد الطبري/ دار الفكر/ بيروت.

الخرائج والجرائح: الراوندي/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

الخصال: الشيخ الصدوق/ جماعة المدرسين/ قم.

الدر المنثور في التفسير بالمأثور: السيوطي/ دار الفكر/ بيروت.

دلائل الإمامة: المحدث الشيخ الطبري الصغير/ مؤسسة البعثة/ قم.

سنن أبي داوود: الحافظ السجستاني/ دار الفكر/ بيروت.

شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار: القاضي أبو حنيفة التميمي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

ص: 127

شرح أصول الكافي: المولي محمّد صالح المازندراني.

الكافي: الشيخ الكليني/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

الكامل في ضعفاء الرجال: الحافظ الجرجاني/ دار الفكر/ بيروت.

كتاب الغيبة: الشيخ محمّد النعماني/ مكتبة الصدوق/ طهران.

كتاب الغيبة: الشيخ الطوسي/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ إيران.

كتاب الفتن: أبو عبد الله المروزي/ دار الفكر/ بيروت.

كشف الغمة في معرفة الأئمّة: عليّ بن عيسي الأربلي.

كن-ز العمال في سنن الأقوال والأفعال: المتقي الهندي/ مؤسسة الرسالة.

المستدرك علي الصحيحين: الحاكم النيسابوري/ دار المعرفة/ بيروت.

مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل/ دار صادر/ بيروت.

مصنف ابن أبي شيبة في الأحاديث والآثار: الحافظ عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة/ دار الفكر/ بيروت.

معجم أحاديث الإمام المهدي: الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

الملاحم والفتن: العلامة رضي الدين بن طاووس.

مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ المطبعة الحيدرية/ النجف.

وظيفة الأنام في زمن غيبة الإمام: الميرزا الإصفهاني/ مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام / النجف الأشرف.

* * *

ص: 128

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.