الإمام المهدي عليه السلام حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية ؟

اشارة

الإمام المهدي عليه السلام حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية ؟

حواد غير مكتمل مع أحمد الكاتب

إدريس هاني

دار الحجة البيضاء

الطبعة الأولي

1432ھ/ 2011م

خيرانديش ديجيتالي : انجمن مددكاري امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

الإمام المهدي عليه السلام حقيقة تارسخسة أم فرضية فلسفية ؟

حواد غير مكتمل مع أحمد الكاتب

إدريس هاني

دار الحجة البيضاء

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

جميع الحقوقه محفوظة

الطبعة الأولي

1432ھ/ 2011م

ISBN: 978-9953-567-26-6

الرويس - مفرق محلات محفوظ ستورز - بناية رمال

ص.ب: 14/5479 . هاتف: 01/541211.03/287179

تلفاكس: 01/552847 . E-mail: almahajja@terranetlb

www.daralmahaja.com info@daralmahaja.com

ص: 4

الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟

حوار غير مكتمل مع أحمد الكاتب

بين يدي القارئ الكريم جملة الرسائل التي تبادلتها قبل عامين مع الكاتب العراقي أحمد الكاتب بخصوص إحدي أهم المعتقدات الإسلامية: ولادة الإمام المهدي - الإمام الثاني عشر - عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية. تحتوي علي نقاشات ومناظرات بيني وبينه وصلت إلي الباب المسدود بعد أن فضل الكاتب الانسحاب بطريقة ناعمة ومن دون ضوضاء منه ومن دون إصرار علي إقناعه بالمواصلة من طرفي. وهو جدل لم يأخذ حقه الطبيعي من النقاش العلمي خارج فوضي الحجاج العارمة. وهذا تحديدا ما حدث حينما دخلت علي الخط جهات أخري، كان آخرها وسائل إعلام حولت النقاش إلي معارك كلامية للتباري في حلبة الإعلام الجهول الذي لا يمكن أن تبسط فيه الآراء بالتمام والكمال. فوسائل الإعلام ليست هي المكان المناسب لإجراء هذا النوع من المناظرات مهما أمكن لأصحابها أن يديروا النقاش ويوزعوا الوقت بالعدل الممكن. فالجمهور العريض لا يمكن التنبؤ بطبيعة انفعالاته في محيط تغلب عليه الأمية وفي واقع هش وراضخ للسلبية وممتلئ حتي النخاع بصور نمطية عن الشيعة امتدت لقرون واستمرت علي طبيعتها

ص: 5

حتي اليوم. أعتقد أنه ليس من العدالة في شيء أن نتحدث عن توزيع عادل في زمن المداخلات ، طالما أن الشيعة لم تقل كلمتها ولم تشرح كامل وجهة نظرها للناس. فأي نقاش في مناخ مشحون بالجهل المركب بمدرسة أهل البيت عليهم السلام ، لن يجدي نفعا. وقد حدث أن بعضا ممن أغرته هذه الدعوة تلقفها بخفة ساحر ليواصل حولها حركاته البهلوانية التي قوامها التجديف لا التحقيق. ومما يؤسف له أن طبيعة النقاش حول مثل هذه الموضوعات عادة ما ينتهي إلي الباب المسدود، متي غلب العناد وغابت شريعة الاعتراف.

وقبل سنوات وبعيد صدور كتاب أحمد الكاتب، قمت برد فوري عليه ضمن كتاب لم أجد له عنوانا أفضل من : «من الشك إلي الشك»(1). وقمت بذلك علي وجه السرعة بعد أن نصحت الكثير من الأعلام أن يكتبوا ردا عليه؛ فأبوا ذلك بدعوي عدم منحه أهمية تذكر. لكن في نهاية المطاف تمت الردود وتم ردي قبل أن يعقب الكاتب بتعقيب علي كتابي مما فتح بيننا هذا النقاش. وقد كان الأخ الكاتب حريصا علي أن يجري هذا النقاش معي كما حرص علي أن يدافع عن آرائه بالطريقة نفسها كما لو لم يرد أي نقاش سابق كان من شأنه أن يعدل أو يغير من آرائه ولو في الحد الأدني. لقد بدا واثقا من كل ما يقول يفترض من الآخرين أن يتزحزحوا عن آرائهم فيما يبدو هو قد مسك بناصية اليقين. قبلت النقاش كما طمح إليه الكاتب، وقد حرص كل ما هذه المرة أن يتجنب ما هو شخصي في النقاش ليبدو أقرب إلي الموضوعية وأبعد عن الانفعال الشخصي. وقد اخترت النقاش عبر

ص: 6


1- إدريس الحسيني، من الشك إلي الشك، ط1، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، بيروت 2001م.

الرسائل وليس عبر الدردشات الالكترونية أو الماسنجر، كما خيرني الكاتب نفسه. فالغرض هو النقاش العلمي والتأني والتأمل وعدم الخضوع لاستعراضات و مهيجات دردشات المواقع أو الماسنجر.

لا أنوي وضع مقدمة تفصيلية وتوجيهية أكثر من هذه من شأنها أن تؤثر علي السير الطبيعي للنقاش الذي يشكل محتوي هذا الكتاب. فالقارئ وحده يملك أن يحكم عليه وعلي طريقته. فليس من حقي أن أضيف علي النقاش شيئا آخر غير عرضه علي أنظار القارئ كما جري وكما هو. لكن رغم ذلك وجب أن نشير إلي أن النموذج المعرفي والعقائدي المهيمن علي هذا الشكل من القراءات لن يفيد في تأسيس فهم ديني حقيقي يستطيع به أهل الدين التميز الإيجابي عن معاقرات غير أهل الأديان. فالكمالات التي يتعين علي أهل الدين طلبها بكدح معرفي وسلوكي مستدام هي أمر أعمق من الفهوم الرائجة في سوق التدين الرخيص الذي لا يمكن صاحبه من التخلق بأخلاق عامة الخلق الأسوياء فكيف أن يتخلق بأخلاق الله. ومتي تعمقنا في الدين فهمنا أكثر. وليس التعمق في الفهم الديني مساوقا للغلو فيه المنهي عنه، فالتعمق في الفهم الديني حصانة من الانزلاق إلي حافة الغلو. فلا دواء للغلو إلا بتصعيد الفهم الديني العميق ونبذ حالة الاكتفاء بالفهوم السطحية والظاهرية للدين. وحينئذ سنري في الدين، ليس ما لا يراه غير أهله فحسب، بل ما لا يراه هذا الموج العاتي من عامة الخلق ممن وصفوا في القرآن الكريم بقوله تعالي: وأنه لا يعقلونه .. «أكثرهم لا يعقلون»..«و قليل ما هم»..«و ما ءامن معه إلا قليل»..

ووجب حينها أن نفتش عن المفاهيم والاصطلاحات الخاصة لكل مقام في الفهم حتي لا يقع الخلط فنقرأ حقائق الباطن بحقائق الظاهر وإلا كان حالنا إلي هاوية من قال :

ص: 7

ورب جوهر علم لو أبوح به ***لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولعله من المفارقات العجيبة أن يأتي أهل الظاهر ممن لم يدرك من حقائق الدين إلا ما في مكنة عموم أهل النشأة الأولي معرفته حتي يلقوا ربهم علي سطح من الفهم يستحقون به جنة الخلد ؛ قوام بهجتها رمان وحور عين وأشياء مما هي مطالب أهل النشأة في دنيا الندرة، وليس جنة قوامها لذة المعرفة التي أدرك سرها من سافر في عالم الحق وقطع شوطا في مسار المعرفة، حيث يجدها تتقوم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. وربما عاش في كنف الرسالة في الجيل الأول من لو رآنا اليوم لقال إنها النشأة الأخري. ولو شاهد نمط حياتنا لقال إنها جنة الخلد. فهيهات أن نختزل ما عند الله في نخيل ورمان كما يخاطبنا بلغة الخيال. ولندرك أن ثمة مقامات للمعرفة تليق بمن تقرب وارتقي .

ومتي تسطح رأينا في الدين، تمنع علينا إدراك حقائقه التي تجدها تتري في ارتقاء مطرد عند كل ارتقاء في العلم والعمل. لكن حق علي من اكتفي بالسطح أن يتمادي في الظاهر حد العبث. وليس من عبث أبعد من نسبة صفات المخلوق إلي الخالق. وحيث تعذر علي بعضهم أن يقدر ما الله حق قدره، ظن كالغرير الغارق في فقر الخيال أن ما ينسب للمصطفين من خلقه شركا ومزاحمة لقدرة الله وعلمه بالغيب. وقد وجدوا في ذلك ذريعة لمحاربة ما كان مطلوبا من واجب التقديس لأئمة أهل البيت عليهم السلام . فهم يقولون بأن هؤلاء يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة. والحق أن اكتساب التخلق الإلهي ليس بالمعني الساكن في المتخيل الإغريقي اللآلهة. إن التخلق بأخلاق الله، هواكتساب أرقي معاني الجمال والجلال بالحق.

ص: 8

إنني أعتقد أن الفهم الحقيقي للدين هو ما يجب الوقوف عليه في تعاليم أهل البيت عليهم السلام. وقضية أهل البيت بما أنها قضية المسلمين جميعا وجب التعاطي معها بالوضوح والصراحة القصوي. إنني لا أومن بالتقية في تبليغ قضيتهم والتعريف بفضائلهم وتعاليمهم. فإذا كنت أعتقد أنهم سفن النجاة وقبلة الناظرين، وجب أن أتواضع لأتشرف بهم وأتشرف بتعاليمهم وأناضل من أجلها رضا برضا الله. وحيث باتت السياسة اليوم تحبك مشاريعها علي منوال حجب هذا الأفق كما لو كان الإنسان يقترف منكرا من الدين متي عبر عن صلته بهذه المدرسة الكريمة. وجب أن نحرر قضية أهل البيت من هذا الإحساس بالصغار الذي ينتاب البعض في حيرة وهذيان إرضاء من لا يرضي ممن يزعجه سماع رسالة أهل البيت عليهم السلام.

إن مشكلتنا مع بعض أبناء هذه الأمة تمتد إلي ذلك المستوي الخفيض من الاعتبار لمقام النبي الأعظم صلي الله عليه و آله. لك أن تتصور أي فضيلة ستبقي لنبي الإسلام نفسه لو أننا سمحنا لهذا الهذيان التهويني من شخصه من خلال ذلك الكم الهائل من الروايات والمواقف التي لا زالت تتصدر بعض المجاميع الروائية. ماذا سيبقي من فضل لمحمد صلي الله عليه و الهإذا ما رسمنا له بورتريه عبر تلك الروايات الباطلة والمكشوفة الخلفية ؛ حتما سيكون بورتريه أشوه من تلك الرسوم الكاريكاتورية التي تخيلتها ريشة طائشة لبعض (الزعران) الغربيين :

• نبي لا يعرف إن كان رسولا أو به مس حتي يخبره الراهب النصراني. هذا ما تقرره السيرة

• نبي يخطئ حيث يصيب صحابي وصف نفسه بأن كل الناس أفقه منه حتي ربات الحجال.

• نبي يبول واقفة فيما سنته حاكمة بخلافه، كأنه أعرابي لا يعرف

ص: 9

أصول النظافة وعرف المروءة؛ تخيل أن الأمر يتعلق بنمط من اللباسفضفاض وبمجال صحراوي مفتوح علي كل الجهات وخاضع لموجات من الرياح فضلا عن أن مقتضي المروءة يومها أن لا يبول المرء واقفا كما مقتضي الاحتياط الشرعي والعقلي أن لا

يفعل لشدة احتمالية وقوع النجاسة علي الثوب.

• نبي يجهل تأبير النخل وهو العربي ابن الجزيرة العربية.

• نبي يستهين بالأعمي المستضعف طمعا في الملا المستكبر حتي يؤنبه الوحي.

• نبي سحر حتي قرأ آيات الشرك في آيات التوحيد في حديث الغرانيق.

• وأخيرا وليس آخرا : نبي يهذي في آخر أيامه.

وطبيعي حينما لا نقف علي آثار أئمة أهل البيت عليهم السلام فسوف تؤثر علينا تلك الصورة المهينة لنبي الإسلام. فالبخاري يروي حديث هذيان الرسول صلي الله عليه و آله. وذلك في ما يعرف برزية يوم الخميس كما سماها ابن عباس. يوم طلب منهم الرسول صلي الله عليه و آله أن يحضروا له دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا. فقال أحدهم إن الرسول غلب عليه الوجع وأنه يهذي حسبنا كتاب الله. والحق أن ما كان الرسول صلي الله عليه وآله بصدده هو تفصيل المجمل في الكتاب وبيانه. فالاستغناء بالمجمل عن التفصيل هو خلاف المطلوب. لكن انظر إلي موقف آخر. فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو آخر عهد بالرسول الأكرم صلي اله عليه و آله، حينما يسأل عما كان من حديث بينه وبين الرسول صلي الله عليه و آله- وقد كان هذا الأخير في نزعه الأخير - قال: لقد علمني رسول الله صلي الله عليه و آله ألف باب في العلم يفتح لي كل باب ألف باب.

ص: 10

موقفان علي طرفي نقيض. فايهما نختار يا تري؟!

فيما يعنيني أختار الموقف الثاني. الرسول صلي الله عليه و آله في نزعه الأخير حيث وصف بالهذيان عند من شهد علي نفسه بأن كل الناس أفقه منه حتي ربات الحجال، ودعوته: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، يعلم باب مدينة العلم ألف باب في العلم يفتح له كل باب ألف

إن مقام أئمة أهل البيت عليهم السلام هو فرع لمقام النبي الأعظم صلي الله عليه و آله. فالذي لا يقدر محمد صلي الله عليه و آله حق قدره لن يقدر أئمة أهل البيت عليهم السلام حق قدرهم.

وما دام الحديث هو حول الإمام الثاني عشر وجب القول أن الأخبار فاضت بالحديث عن الاثني عشر خليفة من قريش. ولا أريد الأطناب أكثر في تفاصيل وحيثيات الخبر. بل أقتصر علي إبداء ملاحظة واحدة ضرورية في المقام وهي:

إن لسان الإخبار عن الاثني عشر جاء في سياق اشتراط خير الأمة بقيام الاثني عشر : «ما زال هذا الأمر بخير ما وليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».

إن ذكر الخلفاء الاثني عشر في صيغة الشرط دال علي أنهم قد لا يخلفون بالفعل (وهو طلب في صيغة الخبر): وهذا دال علي أن خير الأمة يتم ما خلف هؤلاء. والدليل علي ذلك أيضا أنهم لما لم يخلفوا

حصلت فتنة في الأمة حتي اليوم وفساد في الدين عريض لا يصلحه إلا المهدي كما في الأخبار. وإن اعتبار ما ذكر في أئمة أهل البيت ولسان : الخبر بصلاح الأمة المتوقف علي خلافة الاثنا عشر خليفة يؤكد أنهم المراد بالعدد. ولا أحد ادعي الاثنا عشرية إلا الإمامية. ولو كان في ذلك

ص: 11

ما يدل علي غيرهم لاستعملوه أوسع استعمال لكسب الشرعية، ولكنهم لم يفعلوا.

يضاف إليه مجيئ حديث عدد من الحفاظ السنة حول فضائل أئمة أهل البيت عليهم السلام علي الترتيب الاثني عشري المعروف، كما فعل الشبلنجي الشافعي المصري في نور الأبصار، حيث ذكر فضائل النبي والخلفاء الأربعة وأئمة أهل البيت الاثنا عشر. وكما فعل ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة حيث صنف في فضائلهم علي الترتيب المذكور. وكما فعل ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وكما فعل سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص فقد سلك المسلك ذاته.

لكن من هم أهل البيت في مقصود كلامنا؟

إنهم بلا شك المشمولون في حديث الكساء، وهم الخمسة. علي وفاطمة والحسنين. والتسعة من ولد الحسين بحسب ما أكدت عليه الأخبار وجرت عليه عادة الوصية إلي الثاني عشر. وقد جري نقاش حول ما إذا كانت زوجاته مشمولات في حديث الكساء مورد قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»

قال بعضهم عبثا : زوجاته من أهل بيته. لكن هذا مخالف لمضمون النص وصريح منطوقه في خبر أم سلمة بقوله صلي الله عليه و آله: إنك علي خير. وهنا أحب أن أبدي ملاحظات وتأملات حول هذا الكلام دون الخوض في البحث الروائي الذي كان لنا معه شأن في مقام آخر. فأقول :

• إن عدم دخول نسائه في أهل بيته أمارة علي أن المقصود حقيقة غير المعني اللغوي لأهل البيت بمعني الأهل والعشيرة.

• إن عدم دخولهن في أهل بيته لا يستنقص من مقامهن شيئا.

ص: 12

• لو أن نساءه كن داخلات فيه لكان صعبا تصور ما يلي:

• حرب الجمل دالة علي ذلك. فعلي بن أبي طالب من أهل الكساء. ولو أن السيدة عائشة كانت كذلك لما حصلت هذه الحرب التي كان واضحا أنها بين طائفتين : إحداهما باغية علي الأخري بلا شك، وقد ثبت أن عائشةقادت الطائفة الباغية كما نبحتها كلاب الحوأب. فهل هي حرب بين اثنين مشمولين بآية التطهير وحديث الكساء؟!

هذا ينقل الإشكال والمفارقة الكلام الله وكلام الرسول صلي الله عليه و آله.

• لو كن من أهل الكساء لما رفضت إحداهن دفن الحسن إلي جوار قبر جده ، حيث دفن بالبقيع. .

• إن نساءه يحتمل تطليقهن للآية الكريمة : «وينساء التي ل أحدر بين البناء ». فإذا لم يعدن زوجاته إذن ما عدن أمهات المؤمنين، وهي صفة مشروطة بالبقاء علي ذمة الزوجية. وحينئذ يصعب أن يخرجن من أهل الكساء لو كن مشمولات فيه ولو في المورد الأول. فلا يوجد قيد أو شرط في اعتبار أهل البيت بهذا المعني.

• إن نساءه ذمت في الكتاب بما يناقض آية التطهير. بل إن الأم حدث بعد آية التطهير. فيما علي وأهل البيت عليهم السلام مدحوا حتي قيل ما من آية ذكر فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها كما ذكره النسائي وابن حجر وابن جوزي وأمثالهم ومن رواته عائشة. ووجب أن أدفع فرية أحدهم وهو يعترض علي هذا الخبر الذي رواه حفاظ السنة، لما جاء بآيات فيها يا أيها الذين آمنوا في مورد ذم. وأقول لهذا الشويخ الذي علم شيئا وغابت عنه أشياء، إن إيراد حفاظ من قبيل النسائي وابن الصباغ والسبط ابن الجوزي وابن حجر ونظرائهم بالجملة لهذا الخبر، دال علي فساد طريقة الإتيان بالمثل المفارق

ص: 13

ذاك. لأنهم ممن لم يغب عنهم ذلك حيث أدركوه من دون حاجة إلي قرينة ظاهرة، بمعني أن الآية المقصودة في المقام هي ما جاء في سياق مدح لا ذم، فتأمل.

• إن واحدة من أمهات المؤمنين وهي أم سلمة التي نزلت آية التطهير في بيتها، وهي راوية الحديث شهدت علي أن نساءه غير مشمولات في الكساء. وهذا شاهد أقوي.

أجل، لقد وجدتني مضطرا إلي هذا النقاش في مناخ صعب وأجواء مشحونة بالخطأ وفي زحمة انشغالاتنا بأمور جلا وقضايا كبري. صادفت تعقيب الأخ الكاتب علي رد لي سبق ونشرته بعنوان: من الشك إلي الشك. ومع أنني لم أطلع عليه إلا بعد مرور سنوات، حفزني إلي أن أدخل معه في نقاش، فاستمرت مراسلاتنا قليلا دون وصولي البلغة المنشودة.

ومما أزعجني حقا أن ثمة قسم عريض من الأعلام بات يخشي أن يعري علي معتقده. خائفا مذعورا يخفي ما أظهره الله. وقسم بدل أن يعكفوا علي التحقيق والتوضيح والخروج من المعقدات وذات الشوكة في البرهان، اختاروا الضوضاء الأجوف والاستكبار بالنزر القليل من الحجج غير مجدين ومجتهدين ومتخلقين في ردها. الأخ الكاتب رأي رأيا واجتهد فيه وقدم ما في وسعه تقديمه. ولا يسعنا إلا أن ننصت لمقولته والرد عليها بعلم وأدب ومن دون مجاملة.

كان بالإمكان أن نسعي في مقدمة الكتاب لتفصيل القول في المطالب التي شكلت محور نقاشنا في الكتاب. ولو أننا فعلنا ذلك لكان أولي من الناحية العلمية حتي نعرف في أي إطار وجب أن نضع ذلك

ص: 14

النقاش حول حقيقة الإمام الثاني عشر ومسألة الغيبة. فالصواب أننا تناقش قضية تحمل وراءها تصورا دينيا كاملا، يصبح أي نقاش يمسك العصي من الوسط بمثابة جدل عقيم لا يثمر نتيجة حقيقية سوي حيرة في حيرة. لكن من ناحية أخري لم أشأ أن أبتدئ بهذه المقدمة ما دام أن هذا قد يؤثر في القارئ ويوجهه مسبقا إلي رأي أحد المتحاورين. فهذا أمر يخالف أخلاقيات الحوار كما يخالف أصول المناظرة. لكن قلت ما قلت بعد أن منحت النقاش حقه الكامل ووفيت له حتي أنني حاولت جهدي أن أفتح نقاشا واسعا وجادا مع المحاور، فوجئت بتراجع ذكي منه. تراجع حتي ولو تم تبريره بألف تبرير، فإن أصول المناظرة تفضحه وعلم التواصل يجليه. إننا نعيش عصرا تطورت فيه تقنيات الحجاج وعلم التواصل. حتي أننا بتنا أمام ما يعرف بموت المؤلف والاكتفاء بالنص، طالما أن النص من شأنه أن يقول كل شيء، وربما يقول ما لا يريد أن يقوله المؤلف. ومن هنا كنت قد لاحظت أن محاوري سلك مسلك إنهاء الحوار بعد أن كان متحمسا له قبل ذلك. يكفي في ذلك أن منحني اهتمامه بقوة الاستدلال وتفاصيله بات في حالة تراجع ونكوص. وحيث أعطيت الكاتب كل المجال لكي يرد وأخذت ردوده علي محمل الجد ورددت بتفصيل لا يخفي علي قارئ، لم يبق هناك ما يستحق التفصيل. وكان لابد من أن أوضح خطأ التعاطي مع مسألة الإمام الثاني عشر في عقيدة الإمامية كما فعل محاوري، بتراخي وتساهل كما لو كانت منزوعة الدليل والحجة.

اليعذرني القارئ المخالف إن كنت تطرقت لتلك القضايا التي يراد لها أن لا تذكر. وفي السياق نفسه يراد لأتباع مدرسة أهل البيت أن يكفوا أن يتحدثوا عن أدلتهم وحججهم، ليبدوا للمطلع كما لو كان اعتقادهم لا يقوم علي سند علمي معتبر. وهذا في الحقيقة أمر عجيب،

ص: 15

لأن أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، مطالبون بأن يوضحوا دعائم اعتقادهم للعالم كما يفعل كل أهل العقائد في العالم. لقد لاحظت أن ثمة نخبا حينما تؤاخذ الشيعة علي أصل من أصولها لا تزال تتمسك بأحكام تنتمي إلي آراء كتاب الملل والنحل، حتي أنهم لا يزالوا يرددون وبسذاجة كل أحكام القيمة التي اصطنعها تاريخ الغلب التعسفي. إنني ممن يري أن الوحدة بين المسلمين لا تستقيم إلا بتصعيد الفهم العلمي بعقائدهم والتكفير عن تاريخ طويل من التسامح في الكيل التعسفي لبعضهم البعض. إن التغاضي عن ذلك يؤدي إلي نتيجة منكرة، وهو أنه كلما تعثر الأمر بين المسلمين كلما هاج شيطان الطائفية واستدعي جهالات كتاب الملل والنحل، وعادت حليمة إلي عادتها القديمة. رأينا ذلك ورآه الجميع ولا حاجة للإطناب فيه. وقد يجدر بنا أن نتحدث بعلم ووضوح وصراحة عن تلك الأمور التي يقدحها الهياج الطائفي بأشكال من الهذيان والحمق لم نر له مثيلا حتي في عصور التغالب التاريخية الضاربة الأطناب في تجارب المسلمين.

حديثي هنا لا ينزع نزعة طائفية. بل قصاراه أنه : يا عالم هذه هي أدلتنا وهذه هي أفكارنا فلا تأخذوا رأينا من أفواه الحمقي الطائفيين أو من سقط في أحابيلهم. هذه عقائدنا إن كان يهمكم أن تحددوا موقفكم، فهي تأخذنا بقوة الدليل وليس الأمر لعبة أو مزحة. فالمقام ليس مقام مزحة بل هو مقام اعتقاد علي أساس الدليل.

في مجري الحجاج العقائدي كان لا بد أن تتنزل الإمامة منزلة الفرع من عقائد الأخوان السنة. وهكذا بات الإمامية وحدهم ينزلونها منزلة الأصل من اعتقادهم. وما سموا إمامية إلا لهذا السبب تحديدا. إذا كانت الإمامة فرعا من فروع الاعتقاد، فمؤدي ذلك أنها تنحصر في باب السياسة الشرعية لا تكاد تتعداها إلا إلي أبواب محصورة من الفروع.

ص: 16

بينما تنزلها منزلة الأصل يجعلها تدخل في كل أبواب الأصول والفروع معا. إن الإمام المعني عند الإمامية ليس مجرد شخص ينتخب الإدارة شؤون الأمة. فالمسألة تتعلق ببيان الدين وفق شروط علمية لا تمنحها الشوري بقدر ما هي ملكة محددة باختيار من أنزل الشريعة. وحيث وقع خلط كبير وربما استثمر بعضهم ذلك الخلط لكي يقول: إن الشيعة تمنح الإمام الذي هو بشر يجب أن ينتخب كل هذه القيمة. والحق أننا لا نتحدث عن إمام ينتخب بل عن أئمة تمت الوصية بهم ولم يسمح لهم بالقيام بوظيفة الإمامة حتي دخل المسلمون حيرة لم يخرجوا منها حتي اليوم.

لم ينظر الإمامية للإمامة التي هذا شأنها نظرة غريبة عما اعتقده أعلام السنة أنفسهم. صحيح أننا في مورد الحجاج نتحدث عن الإمامة بالمعني الفروعي الذي ليس هو محل النزاع قطعا. لكن ما أن نبادر إلي الحديث في السياسة الشرعية حتي تجد علماء السنة يرفعونها إلي مرتبة الأصل. ولا أحتاج أنأستدل علي ذلك بأكثر مما ذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية لما قال في آخر فصل في منزلة الولاية :

«يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلي بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتي قال النبي صلي الله عليه و آله: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم».رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة.

وروي الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلي الله عليه وآله قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم».فأوجب صلي الله عليه وآله تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في

ص: 17

السفر، تنبيه بذلك علي سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالي أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ؛ ولهذا روي : «إن السلطان ظل الله في الأرض» ويقال «ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان». والتجربة تبين ذلك.

أقول: إنهم في هذا رفعوا ما ليس موضوعا لأصل الإمامة إلي مرتبة الأصل. فبهذا المعني كل من تغلب ارتقت إمامته عند القوم منزلة الأصل، وهذا ما لم تقله الإمامية نفسها التي تؤمن بالإمامة كجعل لا

كغلب.

وفيما يلي مجمل الرسائل الحوارية المبادلة بين كاتب السطور وأحمد الكاتب ضمن حوار أعتقد أنه غير مكتمل، حيث أحمل الأخ الكاتب مسؤولية إنهائه من طرف واحد.

ص: 18

الفصل الأول: التعقيبات

اشارة

ص: 19

ص: 20

1-مع السيد إدريس الحسيني في كتابه (من السك إلي السك)

اشارة

*1مع السيد إدريس الحسيني في كتابه (من السك إلي السك) (1)

الخلط بين النبوة والإمامة، والفصل بين الإمامة والخلافة (أحمد وكاتب)

ربما كان كتاب السيد إدريس الحسيني، وهو صحفي مغربي متشيع، كتابا متميزا من بين الكتب التي تصدت للرد علي كتابي (تطور الفكر السياسي الشيعي) فهو يصدر من شخص متشيع حديثا، ولكنه يتهمني ليس بعدم معرفة المذهب الإمامي الآن، وإنما بعدم معرفته سابقا، رغم أني نشأت في أحضان هذا المذهب، وكتبت منذ السبعينيات عدة كتب للدعوة إليه، وقمت بتشييع عدد من الأخوة السودانيين، وتأسيس حركة شيعية إمامية في السودان في أواسط الثمانينيات.

ومع أني أعتقد أني وصلت إلي جوهر مذهب أهل البيت عليهم السلام بعد إزاحة غبار الأساطير المتراكمة عليه، فإنه يقول وبكل ثقة بأني أنطلق في

ص: 21


1- إدريس الحسيني، من الشك إلي الشك حينما يكون السير القهقري سؤال الإمامة مجددا ، دار الخليج العربي، بيروت، 2001.

نقدي للفكر الإمامي من الجهل وعدم المعرفة. وبالطبع فإنه يعني بذلك عدم التطابق مع الصورة التي يحملها عن نظرية الإمامة.

يقول في مقدمة كتابه : «لئن كان الكاتب لم يفهم المغزي الفلسفي العميق وراء فكرة المهدي المنتظر، فتلك مشكلته، لأنه ظل طيلة هذه الفترة جاهلابعقائده ، حتي إذا شب ضرب أخماسا بأسداس، فلو أنه بقي جاهلا مقلدا لكان ذلك خيرا له وأفضل من أن ينقلب باحثا ضالا. إن أولي تلك الأوهام التي وقع فيها الكاتب، أنه وضع الإمام المهدي والوصية والإمامة، نقيضا للشوري والديموقراطية. ولهذا انزلق عقله الضيق إلي أن يضحي بإحدي المعتقدات لصالح الأخري.. والكاتب كثيرا ما يسيئ فهم «الغيب» لذلك فإن جل انتقاداته في هذا الاتجاه، تكشف أن العقيدة الإسلامية بمنطلقها الأصيل لم تجد لها في ذهن الكاتب مستقرا»(1).

ويضيف: «حتي وإن ادعي الكاتب بأنه إمامي في الأصل، فقد كان من عامة الناس الذين ورثوا اعتقادا دون أن يفهموا فلسفته.. إنه مجرد رد فعل عن معتقد غامض، وساذج عن الإمامة، وليس رد فعل علمي عن عقيدة مدركة بفكر ونظر»(2).

ونقول للسيد إدريس الحسيني، بأن مفهومنا للإمامة، يعني الحكم والخلافة والزعامة والرئاسة والإمارة، وما إلي ذلك من معاني السلطة، التي احتاج إليها المسلمون بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و اختتام النبوة وانقطاع الوحي، لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما دار حوله علم الكلام الشيعي والسني في القرون الأولي، واختلف الشيعة الإمامية عن

ص: 22


1- المصدر السابق، ص 6.
2- المصدر السابق، ص 107.

غيرهم باشتراط العصمة والنص في الإمام، وعدم الاكتفاء بالعلم والعدالة والكفاءة. ولا معني للإمامة غير هذا ، إلا ما ادعاه الغلاة والمتطرفون من الإمامية بأن الإمامة كالنبوة أو امتداد لها، أو نيابة عن الله في إدارة الكون.(كما رأينا الوحيد الخراساني وتلميذيه العاملي وكمال الحيدري يعتقدون). أما عامة الشيعة الإمامية عبر التاريخ فلم يكن لهم مفهوم للإمامة سوي الخلافة والحكم والرئاسة. ولذلك قلنا بأن الغيبة تناقض الإمامة، وأن هذه النظرية وصلت إلي طريق مسدود وانقرضت، وتخلي عنها الشيعة اليوم ليلتزموا بنظام الشوري أو ولاية الفقيه.

وبدلا من أن يستوعب السيد إدريس الحسيني هذه التطورات، ويتجاوز النظريات التاريخية البائدة، فإنه يحاول أن يعلمنا نظرية الإمامة من جديد، وخاصة بعدما تحول إلي «التشيع» (...) وبالخصوص بعد ما تخلينا نحن عن تلك النظرية المثالية الوهمية. فيقدم لنا صورا جديدا مقتبسا من تراث الغلاة يخلط بين الإمامة والنبوة، ويفصل بينها وبين معني الخلافة. وإذ يقوم بذلك فإنه يتهمنا بالفصل بين النبوة والإمامة ، والخلط بين الإمامة والخلافة! وبمحاولة تأسيس مذهب خاص في التشيع، علي أنقاض الإمامة يسميه «بالديموقراطية الكاتبية»(1).

ويقول: «إن أكبر الأوهام التي أقام الكاتب عليها كافة مهاتراته ، هو الخلط بين الإمامة ككفاءة والخلافة كحكومة زمنية خالصة، وهذا الوهم قديم في تاريخ الجدل الفكري والكلامي ما بين أنصار الإمامة وخصومها. بل هو صراع زاد من شحنته الإسراف والتجهيل والأجواء الطائفية والمذهبية التي جعلت خصوم الإمامية لا يبذلون أدني جهد لتفهم

ص: 23


1- المصدر السابق، ص 15 و ص 23.

جوهر الإمامة وفلسفتها، تلك الفلسفة التي تلخص لنا الإمامة كامتداد طبيعي للنبوة. أي أن الحاجة إلي الإمامة هي حاجة تشريعية أولا وقبل كل شيء. فإذا كان الناس أحرارا في اختيار حكامهم حتي ولو أدي اختيارهم إلي إطراح حكومة الإمام، فإن الكفاءة لا تدرك بالاختيار، فهي تماما كالنبوة، جملة من الصفات والشروط، ولا تثبت ولا تلغي بالاختيار. لقد وجهنا الخالق علي نحو الإرشاد إلي أنه حيثما وجدت الكفاءة فعلي العاقل المكلف أن يختارها.

ومن هنا نلاحظ أن كل الأفكار التي صاغها الكاتب أو بالأحري اجترها من خصوم الإمامية، إنما كانت قائمة علي أساس ذلك الخلط بين الإمامة ككفاءة جوهرية راسخة في حقيقة الشخص، سواء حكم أو لم يحكم، وبين الحكومة الزمنية بما هي ثابتة بالاختيار.

وإذا كان المكلفون غير مكرهين علي اختيار معين في دنياهم، فلا ينبغي أن ننسي بأن الجانب التكليفي من الإسلام يشغل ذمة أولئك الرافضين للإمامة «الكفاءة» لمجرد أنها لا تلبي مصالحهم الشخصية، فهم آثمون بإقصائهم الإمامة التي أناط المشرع بها بيان التشريع وتأويله، بعد أن اكتمل تنزيله، ويتطلب الأمر هنا أن لا تكون متشرعين ولا مؤمنين حتي نستسيغ كون الشريعة متروكة لغير المعصومين في إدراك أحكامها الواقعية.

إذن الإمامة هي جوهر النبوة ذاتها، إنها حقيقة لها سندها في روح التصور الإسلامي لقضية التشريع واستمرارية بيانه، هذا إذا كان المطلوب أن تختار الأمة الشريعة الإسلامية حكما لها.

إن مسألة الإمامة لم تنتظم كإشكالية كلامية، لعب التاريخ دورا كبيرا في تكاملها وتناسقها، بل هي مطلب ظهرت أهميته للوهلة الأولي

ص: 24

بعد أن التحق صاحب الدعوة بالرفيق الأعلي»(1).

ويستدل علي كلامه بالقول: «إن حقيقة الإمامة تكمن في نقطة واحدة. إن الله تعالي يقول في كتابه الكريم : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ»(2)، ولا أحد يملك أن يكشف عن كل ما في الكتاب، بل ولا أحد يستطيع أن يتحدث عن كل شيء من خلال القرآن.. ولا يملك ذلك إلا الإمام.. فهو الناطق عن القرآن، العالم بتأويله الراسخ في العلم، عدل القرآن، والثقل الأصغر»(3).

ونظرا لفصل السيد الحسيني بين الإمامة والخلافة، فإنه لم يجد مانعا من قبول الأحاديث الواردة عن أهل البيت والتي تتحدث عن الشوري: «نقول للكاتب : نعم، إن فكر أهل البيت السياسي لا يناقض الشوري وحق الاختيار، ولكن لا يعني ذلك أن دعمهم للشوري مناقض الحقيقة الإمامة والنص والشرعية. بل إن الإمامة خارجة تخصصا عن اختصاص أو حق الشوري، ليس شرعا، بل تكوينا»(4).

ويقول: «نعم، هناك نصوص تتحدث عن الإمامة وأخري عن الشوري. والأئمة لم يروا أي تناقض بين ذلك. إن الأئمة لم يتحدثوا عن أن الإمامة تتحقق بالشوري، ولو كان الكاتب يقصد ذلك فهو متقول، فليأت بدليل. إن القول بالإمامة لا يناقض القول بالشوري في مذهب أهل البيت. ولهذا نلاحظ أن سقوط خيار الإمامة في التاريخ الإسلامي، رافقه سقوط لخيار الشوري أيضا. إن الإمامة والشوري معا كانا ضحية الخلافة

ص: 25


1- المصدر السابق، ص 11 - 12.
2- سورة النحل، الآية : 89.
3- المصدر السابق، ص 115.
4- المصدر السابق ، ص 24

والخلفاء منذ السقيفة. وأنه لا وجود لأي نص بالإمامة لدي الإمامية يناقض القول بالإمامة».(1)

عندما يمر علي موضوع تنازل الإمام الحسن بن علي عن الخلافة المعاوية، والذي يدل علي كون الخلافة أمرا دنيويا وليس أمرا دينيا منصوصا عليه من الله، يحاول الحسيني أن يفصل بين الإمامة والخلافة ، فيقول: «الإمام الحسن لم يتنازل عن الإمامة وإنما عن الخلافة الزمنية»(2). ثم يقول: «من قال أن الحسن تنازل عنها؟ ومتي كان المرء قادرا علي التنازل عن كفاءته؟ فهذا كمن يري أن المشمش قابل للتنازل عن مشمشيته. فهل نفهم أن عليا تنازل عنها هو أيضا؟ إن عدم قبول الناس بحكم الإمام أو النبي لا يعني سلب الإمامة أو النبوة عنهما».ويضيف: «إن الكاتب يخلط هنا بين الإمامة والخلافة الزمنية. وهو ما يؤكد لي أنه جاهل تماما بجوهر الإمامة. إن تنازل الإمام الحسن كان إكراها مثلما أكره الإمام علي، بل ومثلما أكره أنبياء كثيرون علي الانسحاب والتراجع، وقتلوا وذبحوا.. ولم يكن ذلك ليلغي نبوتهم، فالنبوة كفاءة وملكة وكذلك الإمامة. والأئمة لم يتنازلوا عنها ، بل أكرهوا علي الانسحاب»(3). «إن الإمامة بغض النظر عن أهل البيت عليهم السلام هي لطف وضرورة ثابتة وراجحة بحكم العقل، والدين بلا إمامة لا حصن له عن الانمحاق»(4).

إن السيد إدريس الحسيني، كما قلنا، يلتزم بتصور معين عن

ص: 26


1- المصدر السابق، ص 53.
2- المصدر السابق، ص 33.
3- المصدر السابق، ص 33.
4- المصدر السابق، ص 33.

الإمامة يقارب أو يشابه النبوة، ويحول أن يقرأ التاريخ علي ضوئه، ولكنه عندما يمعن النظر في سيرة الإمام علي بن أبي طالب، يجد أنه يخالف تصوراته ، ولا يجد أثرا لها في ثقافة الجيل الإسلامي الأول، فيقول: «لقد أدرك علي أن الشوري في المهاجرين والأنصار من باب القوة والشوكة، فمن لم يعينه هؤلاء لا مجال أمامه كي يمضي بعيدا. كذلك كان موقفه بعد مقتلعثمان، بل إن تلك شهادة كبري علي أن الإمام زهد في الخلافة حينما أدرك أن الظروف لا تسمح له بأكثر من ممارسته الخلافة السياسية، ولذا كان في قراره ما يذكر بأن زهد علي بن أبي طالب في الخلافة الزمنية، لا يعني أبدا زهده في الإمامة. وحيث إن البيعة التي تمت لعلي يومها، لم تأخذ بعين الاعتبار الحق الشرعي الإمامته، فقد كان بخيار أن يقبلها أو يتركها.

أن الإمام عليا فرض عليه بعدها أن يحكم بمنطق الخلافة وليس بمنطق الإمامة، والفرق بين المفهومين كبير جدا. إنها خلافة إمام مرفوض الإمامة.

إن الخلافة فعلا لم تعد تمثل شيئا بالنسبة لعلي بن أبي طالب، وكفي بذلك شاهدا علي أن الأمر شهد انحرافا حقيقيا عن قدسية الخلافة وشرعيتها. والإمام كان قد وقف موقفه ذاك يوم السقيفة، حرصا علي كفاءته كإمام. أما وقد اغتصبت الإمامة وغيبت، فإن عليا لم يعد مصرا علي خلافة سياسية، إلا أن يقيم بها حقا أو يزيل بها باطلا.

ثم لا زلت أتساءل بعد ذلك، كيف يذهب علي بن أبي طالب، الذي رفض الخلافة للأولين، فيعرضها علي طلحة والزبير؟ وهو يدرك أن لا حق له في أن يسلمها لهما...

علي أن كلام علي حتي في المثالين المذكورين (الاحتجاج مع

ص: 27

طلحة والزبير ومعاوية بتحقق بيعته) كان هادفا إلي إلزام أولئك الخصوم بالبيعة، أي إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم. لقد أدرك علي أن أمثال طلحة والزبير ومعاوية لم يؤمنوا بإمامته، فلم الاحتجاج عليهم بأمر لا يعتقدونه ولا يقرون له به؟ ولا يعقل أن يحتج علي علي القوم بالإمامة، وهو يدرك أنه لم يبايع كإمام وإنما كخليفة»(1).

ولكن السيد إدريس الحسيني يرتبك عندما يواجه أحاديث أهل البيت الصحيحة التي تمزج بين مفهومي الإمامة والخلافة أو الولاية، وتعتمد مبدأ الشوري ولا تشترط العصمة في الإمام، مثل حديث الإمام علي: «إنه لا ينبغي أن يكون الوالي علي الفروج والدماء والمغانم وإمامة المسلمين، البخيل.. ولا الجافي.. ولا المرتشي..» حيث يحاول الحسيني أن يتلاعب بالألفاظ ويفسر معني (العصمة) تفسيرا جديدا، فيقول: «إن حديث الإمام عن الشوري لا يناقض العصمة»(2). وإن «هذه الأخبار تدل علي أن الإمام ينبغي أن يتحلي بصفات لو اجتمعت في واحد لكان معصوما ، إذ ما العصمة إلا ذلك. ولماذا لا يحتمل أن يكون معني الوالي هنا عماله وأمراؤه في البلدان؟ لماذا يصر الكاتب علي أنها تعني شخص الإمام، أي الإمام الأكبر»(3). مع أن نص الإمام هنا صريح بالحديث عن إمامة المسلمين». وبدلا من استنطاق التاريخ والتعرف علي فكر أهل البيت، والنظر إلي سيرتهم، فإن الأستاذ الحسيني يقتبس تصوراته عن الإمامة من

ص: 28


1- المصدر السابق، ص 74 - 75.
2- المصدر السابق، ص 100.
3- المصدر السابق، ص 102.

الغلاة، ويعتقد بأنها درجة تقارب النبوة وفوق السياسة، وأن طريقها النص وليس الشوري، ولذلك يهاجمني قائلا : «الكاتب ينظر إلي الإمامة باعتبارها مجرد خلافة زمنية أو رئاسة دولة. ونحن نقول له: نعم، لو كان الأمر كذلك، لكانت الشوري هي الطريق المسلكي لاختيار الخليفة. لكن هيهات أن تكون الإمامة مجرد رئاسة دولة أو خلافة زمنية. وقد رأينا كيف أن أمير المؤمنين حينما استأصل المغتصبون حقه في الإمامة الكاملة، زهد فيها واعتبرمجرد الخلافة الزمنية لا تكفي.

إذن تلك شهادة أخري علي أن صاحبنا لا يفقه في أمر الإمامة شيئا، وقد سبق وذكر أمير المؤمنين بأنه لا بد للناس من إمام بر أو فاجر، فالأرض لا تخلو من ذلك علي الإطلاق. لكن الإمامة أمر مختلف تماما، إنها تملأ ثغرة كبري في دنيا الناس، الثغرة التي تحدث بوفاة الرسول صلي الله عبيه و آله... أن الرسول قال: «إن موت العالم ثغرة في الإسلام لا يسدها إلا عالم مثله»، فإذا كان هذا ثابتا في حق عامة العلماء، فإن ذهاب الرسول لهو أكبر ثغرة في الإسلام لا يسدها إلا إمام»(1).

ولا يسعنا هنا أن نناقش السيد إدريس الحسيني في أدلته حول نظريته المغالية في الإمامة، فوق السياسية، القريبة من النبوة، فهو يعترف في كتابه بأنه كتب ما كتب علي وجه السرعة، حيث يقول: «كانت تلك باختصار ملاحظات سريعة كتبت علي عجل في خضم اطلاعنا علي ما حفل به كتاب أحمد الكاتب من شبهات أكل الدهر عليها وشرب، نحن أعرف بها منه، وما كانت لتمنعنا من الوصول إلي حقيقة الإمامة

ص: 29


1- المصدر السابق، ص 164.

الكبري، أو بالأحري إلي جزء من سرها المكنون ليس إلا»(1).

ومع ذلك فهو يعتقد أن نظريته هذه تمثل الحق المطلق، وأن أية قراءة أخري مخالفة لها تمثل شبهات باطلة، وعندما نسأله أين مصاديق هذه النظرية، بغض النظر عن صحتها؟ ولماذا توقفت منذ وفاة الإمام الحادي عشر (الحسن العسكري) إذا كان يجب أن تستمر إلي يوم القيامة؟ وسواء كان (الإمام الثاني عشر) موجودا أم لا، ألا تشكل الغيبة تناقضا صارخا وعمليا مع هذه النظرية؟ بمعني هل لدينا منذ ألف عام من يقوم بمهام الإمامة الإلهية؟ يجيبنا السيد الحسيني بالأجوبة التقليدية التي اعتاد الإمامية مواجهة تلك الأسئلة بها، وهي أنه لا تناقض بين ضرورة الإمامة، والغيبة، وأن الغيبة مسؤولية الأمة وليس الإمام.

وبدلا من أن يبحث حقيقة وجود الإمام الثاني عشر، ليتأكد من خطأ نظريته المثالية الوهمية، فإن الحسيني يقفز علي هذه المسألة، ويحاول إنقاذ النظرية العقيمة

يقول: «الغيبة تأجيل لدور الإمام فرضته ظروف انعدام الأمن، وأن الكاتب يتوهم حينما يخلط بين غياب الإمام وعدم وجوده مطلقة، نعم، الإمامة مستمرة إلي يوم القامة، وغياب الإمام هو مصداق كبير علي تلك الاستمرارية»(2).و«أن ادعاء الكاتب بأن الغيبة تناقض فلسفة الإمامة صحيح لو كان الإمام إنما غاب لغرض الاستمتاع بغيبته، أما والظروف الأمنية لم تكن تسمح له وهو الذي يوكل بالقيام في الأرض، فإن وجوده يومئذ وفي كل زمان لا يتوفر فيه أنصار له، يبقي خطرا علي العالم. لم لا بد أن نوجه هذا السؤال إلي الكاتب : هل غيبة النبي أو موته يناقض

ص: 30


1- المصدر السابق، ص 184.
2- المصدر السابق ، ص 120.

فلسفة النبوة»(1). «ومع أن كلاما كهذا يعيدنا إلي إشكالية الخلط بين الإمامة وقيادة الدولة، فإننا نلاحظ أن شيئا مهما يغيب عن ذهن الكاتب، فإذا كان غياب الإمام يتناقض مع فلسفة الإمامة، فنحن نري أن غيابه لا يناقضها بل يعطلها»(2).

وينسي الحسيني هنا أن الإمامة تختلف عن النبوة، علي الأقل في مسألة واحدة، وهي التعامل المباشر مع الناس بصورة مستمرة، وان النبوة مكرسة في القرآن الكريم، وقد ختمها الله بمحمد صلي الله عليه و آله وان الإمامة، حسب الفرض، حاجة مستمرة بعد النبوة إلي يوم القيامة، ولا تحتمل الغيبة أو التأجيل أو البعد عن الناس، سواء بسبب من الناس أو من الأئمة، ولذلك فقد انتقد الإمام الرضا الواقفية الذين ادعوا غيبة والده موسي بن جعفر وقال لهم : «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية..» إمام حي يعرفه، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله: من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية» وهو ما يتناقض مع غيبة الأئمة بأي شكل من الأشكال، علي العكس من غيبة الأنبياء أو وفاتهم، بعد أداء رسالتهم.. إن الحسيني ينسي كل ذلك فيقول: «ان الكاتب هنا لا يأتي بما يناقض دليل الغيبة، بل بما يناقض ادعاءه، فهو يري أن مهمة الإمام هي هداية الناس وتنفيذ الأحكام.. أقول : ما دام دور النبي صلي الله عليه و آله هو هداية الناس، وتنفيذ الأحكام وإخراج الناس من الظلمات إلي النور، فلماذا ينتهي دور الأنبياء إذن في دنيا الخلق؟ وهل فعلا خرج الناس من الظلمات، وهل خرجوا من الحيرة؟ إذن مثل ذلك تماما سؤال الكاتب : لماذا غاب الإمام إذن؟.. أقول: إن وجود الإمام هو أيضا حجة تكليفية

ص: 31


1- المصدر السابق، ص 164.
2- المصدر السابق، ص 166.

علي من أقصوه»(1).و«يقول الكاتب : وقد رد الإمام علي بن موسي الرضا علي الواقفية (... من مات وليس له إمام حي يعرفه يسمع له ويطيع..) وهذا كلام إمامي وليس هناك من ينكره، ونحن نقول: نعم لا بد أن يكون الإمام حيا متعينا حتي يعرفه الناس بالطرق المتسالم عليها في معرفة الأنبياء والأوصياء، نعم المهدي حي يعرف، وهو غائب، وليس مجهولا أصلا. القضية أنه غائب، وفرق بين أن أقول لك: لا أدري من سيطرة علينا الباب غدا، وبين أن أقول : سوف يطرق علينا الباب غدا زيد من الناس، فالأولمجهول، والثاني معلوم، وكلاهما في محك الغيبة»(2).

وهكذا يحل الحسيني مشكلة الغيبة، بالادعاء أن الإمام الثاني عشر حي معروف! ويكاد يقول أيضا أنه ليس بغائب «فإن أمر الإمام لم يخف عن كل الناس، بل هناك خاصة الخاصة وفي طليعتهم النواب الأربعة»(3).

ولم يقل لنا لماذا عاب الإمام الرضا علي شيعة أبيه (الواقفية) الذين كانوا يعتقدون أن الإمام الكاظم حي ويعرفونه حق المعرفة؟ ولماذا استنكر عليهم القول بالغيبة؟ ورفض ادعاءاتهم الباطنية باستمرار حياة الكاظم خلافا للظاهر من وفاته؟

ولو توقف السيد إدريس الحسيني هنا قليلا، وتأمل حديث الإمام الرضا، لأدرك بعمق خطورة المنهج الباطني الذي كان يسوق ما يشاء من النظريات ضد أئمة أهل البيت في حياتهم، واصطنع ما يشاء من نظريات وفرضيات أخري بعد وفاتهم، تحت غطاء (التقية). ولعرف الفاصلة

ص: 32


1- المصدر السابق، ص 153.
2- المصدر السابق، ص 154.
3- المصدر السابق، ص 171.

الكبيرة بين فكر أهل البيت عليهم السلام، وأساطير الغلاة العجيبة والغريبة. ولأيقن بأن نظرية الإمامة لا علاقة لها بأهل البيت ولا علاقة لهم بها.

ولكن السيد الحسيني يجمد عقله، ويؤجره للغلاة الباطنيين، ويأخذ علي «الكاتب أنه يستنكر مقولة التقية في فهم الكثير من المعاني»(1).

أجل إن مقولة التقية تعطل فهم كثير من الأمور، وذلك بما تقوم به من قلب للأحداث والأقوال والأفعال. حيث يصبح الميت حيا والحي ميتا، والحق باطلا والباطل حقا، وأبرز مثال علي ذلك هو موضوع وفاة الإمام العسكري دون خلف، فلو قرأ الإنسان التاريخ بصورة طبيعية، الأدرك مضي الإمام إلي ربه وقسمة إرثه بين أمه وأخيه، واستحالة نسبة ولد إليه لم يذكره في حياته، ولم يشر إليه في وصيته. ولكن عندما يرفض المرء التاريخ الظاهري، ويحاول أن يقلبه رأسا علي عقب، فإنه يسمح الخياله بالنشاط، ويجيز لنفسه افتراض ما يشاء، وهكذا قام الباطنيون بافتراض ولد للإمام العسكري، وفسروا عدم التصريح به بوجود ظروف سرية أحاطت بولادته، ومع أن هذه الظروف غير صحيحة ولم تكن موجودة، فعلي فرض صحتها، لا يمكن أن توفر أدلة علي ولادته. إلا أن الذين أرادوا أن ينسجوا حكاية وجود الولد لينقذوا نظرية الإمامة من الانهيار، لم يترددوا بادعاء ما يشاؤون دون أن يقدموا علي مزاعمهم أي دليل.

والغريب أن يأتي رجل بعد أكثر من ألف عام ليصدقهم في كل ما يقولون! ويتحدث عن أساطيرهم وكأنها حقائق غير قابلة للجدال، ويصب لعناته علي من يكفر بها.

ص: 33


1- المصدر السابق، ص 84.

يقول السيد الحسيني بكل ثقة واطمئنان: «إن كتمان ولادة الإمام (عج) وإحاطته بحزام من السرية، في لحظة جن فيها جنون السلطة في أن تضع يدها علي المولود الخطير»(1). ويدعي وجود «مضايقات وحصار ضربته السلطة حول أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد كان خلفاء بني العباس يقيمون ألف حساب لهؤلاءالأئمة رغم موقفهم الصامت قبل أن يقيموا حسابا واحدا لكل الثورات المناهضة لهم في مختلف البلاد. وهذا إنما يعني أن الخلفاء أدركوا أن خطر هؤلاء هو خطر استراتيجي، ما داموا يملكون برنامجا حقيقيا وجذريا »(2). وينتقد الكاتب لأنه «أقام كل أفكاره علي التاريخ العام. ولو شئنا لقلنا التاريخ الرسمي. ونحن نقول له: إن المسألة كان يراد منها أن تحدث بعيدا عن عيون البلاط ومؤرخيه، فالذي يبحث عن الدقة في مثل هذه الأمور في التاريخ العام، هو لا شك مغالط. ومتي كان التاريخ الرسمي، الذي يقصده الكاتب يثبت كل شيء. وإذا كانت الغيبة قابلة لأن يثبتها التاريخ الرسمي إذا لما كانت الحاجة إليها أصلا، ولما سميت غيبة. وكيف لحدث خاص مثل الغيبة محاط بهذا السياج الكبير من التقية أن ترصده عدسة المؤرخ العامي. فالقضايا الواضحة التي يدونها المؤرخ العامي هي تلك القضايا التي تكون واضحة في دنيا الناس. والغيبة كانت أمرة خاصا وسريا »(3).

وبعد التزامه بالمنهج الباطني، ورفضه للتاريخ الرسمي العام، لم يجد الحسيني حاجة أو إمكانية لبحث موضوع الروايات التاريخية السرية التي تحدثت عن ولادة (الإمام الثاني عشر) إذ إنه يفترض أنها سرية غير

ص: 34


1- المصدر السابق، ص 131.
2- المصدر السابق، ص 137.
3- المصدر السابق، ص 150.

قابلة للبحث، ولا يجد حرجا من التصديق بها بعيون مغمضة في ظلام السرية والكتمان.

وإذ كان ثمة أي مجال للتفكير فلا بد أن يفكر بالدليل العقلي (الافتراضي) و«أن الدليل العقلي لا يقوم علي الفراغ، كما يحاول الكاتب هنا أن يثبت، بل هو دليلي قوم علي أدلة نقلية ونصوص»(1).«إن أمر الغيبة هو أمر غيبي تم بكيفية غيبية. ولأنه غيبي، فإن الموقف العقلي منه هو التسليم، ولا يعتبر ذلك عجزا في تفسير أسباب الغيبة. إن المسألة في حقيقتها غيبية فلا مجال للتعليل، وأن كل ما فسروا به الغيبة إنما يصلح من باب المقتضي وليس العلة التامة. فإن حكمة الله وتدبيره مما لا تحيط به العقول الناقصة»(2).

وعلي رغم شرعية الشك في هكذا ظروف سرية ملفوفة بالكتمان، وعدم جواز التيقن بشيء قبل الحصول علي الأدلة والبراهين القطعية ، وضرورة التمسك بالتاريخ الظاهري الرسمي، فإن الحسيني يقول: «إن قصاري ما يمكن أن يؤدي إليه هذا التحليل هو موقف الشك ليس إلا، وفي أكثر الحالات فهو يدعونا إلي الاحتمال وليس إلي الحكم اليقيني، وقد ذكرنا أن موقف الشك الذي لا ينبني علي منهج قويم ورؤية نافذة للأمور، هو شك دهمائي لا يليق بمقام الباحثين، بل هو تطوح وتذبذب وقصور ذهني، علي صاحبه التمرس أكثر في دروس المنطق وباقي ضروب الصنعات العقلية »(3).

إن وجود الشك في الحقيقة حول الموضوع، ينسف الحكم اليقيني

ص: 35


1- المصدر السابق، ص 134.
2- المصدر السابق، ص 167.
3- المصدر السابق، ص 156.

الذي يدعيه الباطنيون الاثنا عشريون، ويحول دون بناء عقيدة دينية علي أساس أمر افتراضي غامض مشكوك فيه. وما دام الشك معقولا ومبررا وموجودا، فإنه يمنع شرعا من تبني أية مقولة بلا دليل. ولكن مشكلة المؤمنين بنظرية الإمامة أنهم يبنونها علي أوهام، ويرفضون الاعتراف بحقائق التاريخ، وهم مستعدون لقلب كل الأمور، ونسبة أولاد لمن مات ولميخلف. ويسمون ذلك عقلا ومنطقا وحكمة.

ص: 36

2- تعقيب علي التعقيب

أحمد الكاتب يعيد إخراج الفهم الظاهري للإمامة (ادريس هاني)

هو تعقيب مختصر لا يبغي التوسع فيما كان قد تم التوسع فيه والإطناب في كل ما تقدم محاولة أحمد الكاتب التي تبدو لأدني مطلع علي سير الحجاج في موضوع الإمامة عموما وموضوع الموعود (عج) خصوصا، أنها كررت المكرور وأعادت إخراج ما جادت به الفهوم الظاهرية. لذا كان تعقيبه علي كتابي تعقيبا انتقائيا جدا، لأنه لم يضف إلي ذلك جديدا في الكشف ولا أغني الحجاج بكرم في البرهان، حتي كان لسان حاله : ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد أثبتنا علي وجه الإجمال من خلال كتاب «من الشك إلي الشك» أن ما قدمه الكاتب ليس سوي تكرار لما سطره القاضي عبد الجبار المعتزلي بضميمات من حجاجيات ابن تيمية في المنهاج ونظائره، دون أن يكلف نفسه التوقف عند ردود الأصحاب عليها. وحتي حينما شاء الوقوف علي بعض مما ذكره صاحب الشافي في الإمامة ردا علي القاضي عبد الجبار، كان وقوفه متعسفا إلي درجة خلط فيه بين ما كان كلاما للقاضي عبد الجبار

ص: 37

وما كان كلاما لصاحب الشافي. وثمة فارق وجب التذكير به في المقام، أن الفهم الظاهري ليس له صلة بالمعني الظاهر الذي ما فتئ الكاتب يزج به زجا معتسفا في البين.

فالظاهرية ليست مدرسة وفية لظاهر المعني من الناحية الدلالية كما لا يخفي. فما أكثر ما ألفيناها تلوذ بالتأويلات الفاسدة التي تنتهك حجية الظهور متي صدمت نسقها المعاني الظاهرة. ويا ما تمسكت بالظهورات حتي لو خالفت محكم النصوص والقواعد والأصول دفاعا عن فهومها. فالمدار في الظهورات والمجازات في نظر الظاهرية ليس هو القواعد اللغوية والعقلية، بل المدار هو التعصب لآرائها المسبقة. فإذا كان رفضهم للمجاز وإرادة مخالفة الخصم بأي ثمن قادتهم لعدم تأول ما يخل بالتنزيه في حق الخالق تعالي . غافلين عن أن حجية الظهور في المقام لا موضوع لها بعد طرق الشبهة حيث لا تستقيم الحجية المذكورة إلا في مقام البيان، وقد تبين أنه لا بيان فيه لوجود المعارض من محكم النصوص الدالة علي التنزيه وأنه ليس كمثله شيء، أو لما سلم به العقل من تنزه المولي لجهة كماله وافتقار كل شيء إليه.

فما كان من جنس الأحياز المكانية والتعينات الزمانية لا يليق فيمن تعالي عنهما. فكان واضحا أن حجية الظهور في غير موارد إرادة البيان لا موضوع لها، وقد أرشدت الأخبار أن الوظيفة حينئذ رد المتشابه إلي المحكم للاهتداء إلي الصراط المستقيم. فليس التشبت بالظواهر - لا سيما في مقام فهم الكتاب - معدوم الشروط كما ليس الانصراف إلي المجاز معدوم الشروط أيضا. فذاك لا يصح إلا في مورد البيان لا الإجمال، وذاك لا يصح إلا مع ظهور القرائن - كذلك وكما دفعتهم إرادة التحصن بأوهن وأفسد المجازات لمخالفة خصومهم، فهاهي ذي تقودهم لتأول أخبار الإمامة. فهذا دال كفاية علي أن المدار هو إرادة

ص: 38

الخلاف لا إرادة التحقيق. فهل ثمة من تأويل أكلف ليخالفوا به الظهور الا أولوا حديث الولاية بابن العم وما شابه من وجوه احتملوها جميعا سوي وجه الولاية الخاصة، ورجعوا إلي العموم بعد أن أظهرت أسيقة الجغرافيا والزمان وقرائن الحال والمقال أن لا جدوي من التمسك بالعموم حين طرق القرائن وصرفها للنص عن العموم إلي الخصوص. فبات واضحا أن التمسك بالعموم في مثل هذه الحالة ليس سوي رغبة في تخصيص غير مشروع. تخصيص برسم قهر التمذهب والتنسيق المسبق، تقييد النص بعموم زائف ليعني كل شيء إلا خصوص إثبات الولاية لعلي بن أبي طالب عليه السلام.

ومثله كان ولا يزال ديدن من تعسف أكثر ليرمي بهذا الفيض الكثير من أخبار الموعود لصالح تعميمات ليست محسوبة في عداد حجية الظهورات، بل هي ظاهرية تعانق سطح المعني ولا تبالي بمبدأ التريث والتثبت حتي تمنح القرائن المتصلة والمنفصلة فرصة القيام بوظيفتها في تخصيص العموم وتقييد المطلق. فهي إذن لهذا السبب سميناها فهوما ظاهرية. وليس معني ذلك خرما لظاهر النصوص وهو حجة في حسبان أصول اعتقادنا وفروعنا كما لا يخفي.

إن النفس الذي عقب به الكاتب فيه من نفس خصوم الإمامية التقليديين الكثير. فهو متي ما شاء أن يعقب علي معني أعمق سماه باطنية. حتي كاد يجعل مني باطنيا بامتياز. مع أنني - فضلا عن أن أي صفة من هذا القبيل يقذفني بها المناظر الخصيم لا أحملها محمل الجد - أتحلي بعلائم الطريق التي تجعلني قادرا علي التمييز بين زواريب الباطنية والظاهرية، دون أن تهولني هذه التصنيفات الجزافية. إن المدار في هذا الحجاج المفتوح ليس التصنيف بل التحقيق. ليس ثمة أدلة ظاهرة أردنا التفاف عليها لصالح استبطان المعني. بل ثمة أدلة ظاهرة بات الكاتب

ص: 39

يلتف علي ظهوراتها لصالح تأويلات ظاهرية. حيث كل التأويلات الظاهرية فاسدة لأنه لا يصار إليها إلا تحايلا علي المعني العذري للنص استجابة لمتطلب نسق كلامي و مذهبي استنفذت صحائفه وجف دون إكماله سيل المداد.

نحاول هنا أن نقدم تعقيبا موجزا علي تعقيب الكاتب العراقي أحمد الكاتب علي ما سبق من نقدي علي كتابه. وقد اختار أن يهاجم الشيعة الإمامية في مبحثين أحدهما أصل للآخر: أعني مفهوم الإمامة ، وثانيهما حقيقة ثبوت الإمام الثاني عشر الغائب. لقد كتبت قبل سنوات وعلي إثر صدور كتابه حول تطور الفكر السياسي عند الشيعة، كتابا نقديا عنوت له: «من الشك إلي الشك : سؤال الإمامة مجددا». وكما سيخبر الكاتب في رده الذي اطلعت عليه متأخرا بسنوات أيضا، كتب بعجالة الأسباب لا بد من توضيحها. الأولي أنني كنت مضغوطا بالوقت وعادة ما كنت أكتب في حالة سفر. والثاني، أن الأخ الكاتب لما قدم كتابه هذا حدث نوع من التردد لدي الكثير من الأعلام الإمامية، حيث اعتبروا أي رد من هذا القبيل من شأنه أن يمنح أهمية لرأي لا يستحق في نظرهم أن تعطي له كل هذه الأهمية. تأخري جاء في هذا السياق، مع أنني كنت متحمسا للرد علي أحمد الكاتب فورا، وعدم إعطاء أهمية لهذا الموقف، حيث المطلوب الرد علي فكر لا علي شخص. وحيث أعترف بأن كتابي حينها لم يخل من قسوة تجاه الكاتب. ولئن كنت سأواصل نقدي لفكرته هذه فإنني آسف لقسوتي تلك لا سيما وأن رده كان مهذبا.

بهذا يكون الكاتب تغلب علي في ظاهر المجاملة حيث وجب أن أعترف بذلك، وحيث وجب أن أتغلب عليه نقديا في باطن الحقيقة، لأن مضمون ردوده لا يزال يتطلب الكثير من التأمل. ولا زلت لم أجد فيما

ص: 40

قدمه ما يزلزل الاعتقاد بالمهدوية. ولست أخفي أنني لم أواصل ذلك الجدل منذ نشأته الأولي. لكنني فيما يبلغني كنت لا أحبذ الطريقة التي انزلق إليها النقاش مع أحمد الكاتب. فالنقاشات التي لا تتقيد بشروط المناظرة وأخلاقها لا يمكن إلا أن تدفع إلي مزيد من العناد والشطط.

وقبل أن نشرع في هذا التعقيب أحببت أن أوضح منهجي وغايتي من هذا الرد. إنني لن أسعي إلي الاستناد إلي سيرة الشخص وتاريخ نشأته وكل الخصوصيات التي ليس لها دخل هاهنا. إنني أتعامل منهجيا مع «ما قال» وليس مع «من قال».. مع نصوص وليس مع شخوص.. فكم من شخوص من ذوي نشأة هي أدعي للشبهة ومع ذلك هم علي النهج المطلوب. وكم من شخوص من ذوي نشأة أدعي للدعة وهم مع ذلك علي النهج المذموم. وحسب ما أعرف من أحوال أحمد الكاتب وتجاربه مما أعرفه من أقرب المقربين إليه نشأة وتطورا يجعلني أنظر إليه كباحث سارت به المسيرة هذا المسار وكفي. وقد منح الله تعالي الحق للجميع في أن يختار طريقه. وليس بالضرورة أن من خالفنا فهو عميل أو طالب مصلحة أو.. أو.. لأن الآية لو انقلبت لكان كل من تبني فكرة وجب أن يكون عميلا لأهلها، وقد عانينا من شطط هذا الحكم الكثير. من حق الكاتب أن يعتقد ما شاء له رأيه. لكن من حقنا بل من واجبنا أن نرد في حدود ما يقتضيه فن المناظرة وأخلاقيات الحوار. وهذا الشق يهمني كثيرا في الرد علي الكاتب، ولن أهادنه ولن أجامله في الرد. إن أهل البيت عليهم السلام علمونا طريقا ونهجا قويما : أن نواجه الغلط بالحق.. ونواجه الخصم بأخلاق.. ونجعل المدار هو البرهان.

وقبل المضي في الرد أيضا، لا بد أن أشرح للقارئ حيثية هذا العنوان. إنني تأملت فيما كتب الكاتب ورأيته لا يصلح لأكثر من إثارة الشك في رؤوس من ليس له إلمام بالشواهد التاريخية ومختلف الأخبار

ص: 41

عن الإمام المهدي. هذا الشك ليس منهجيا كما تعلمنا في الفلسفات التي تجعل من الشك طريقا لليقين. شكوك الكاتب تستطيع أن تعانق الشك ولا تتجاوزه، اللهم إلا إلي مزيد شكوك أخري وربما شكوك أكثر بهمة وضلالا. وبالمناسبة أحب أن أذكر القارئ والكاتب نفسه بأن استعمالي العبارات من هذا القبيل هي عارية عن مضمونها الشرعي. فهي عبارات تحمل مدلولا معرفيا، يتعلق بموقف منهجي ليس إلا. فالضلال هنا تيه معرفي. ذلك لأن المقام هو مقام نقاش ومناظرة تتقيد بشروطها وقواعدها في إطار الجهد في استظهار الدليل. ولا يخفي علي منهجي محترف أن طريقة الكاتب مبتورة من الوسط حيث لو طبقنا منهجه من الأول إلي الأخير، أو لنقل طبقناه علي التوحيد والنبوة لجرفهما جرفا لا هوادة فيه. وليحاول ذلك أي باحث ليجد أن منهج الكاتب يمكنه أن يجرف مبدأ الغيب الذي لولاه لما قامت للدين قائمة. ليس الغيب الذي هو رجما بالغيب كما يقول لسان الغيب نفسه، بل مقصودنا ذلك الضرب من الغيب القائم علي مقدمات عقلية وحسية كما لا يخفي وكما هو المطلوب دائما في حاق هذا الغيب :« قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(64)».

إنه غيب مبرهن. تدل عليه كل آيات الشهود. لنفترض أننا مارسنا طريقة العاجز في محاولة تكذيب كل الروايات التي تتحدث عن المهدي كما فعل بعضهم وسار علي طريقهم الكاتب، وهي محاولات فاشلة حيث لو تأكد ضعف تلك الأخبار لما سال كل هذا المداد اليوم في محاولة لتأويل أخبار المهدي التي لم ينف حقيقته كبار المخالفين من خصوم الشيعة كما يحاول الكاتب أن يبلغ بالمسألة إلي درجة من الجزاف. فلو طبقنا هذا النهج لاندرست أحكام الأصول والفروع، ولوجدنا أنفسنا بقاع صفصف من أحكام الدين والشريعة لا غراس فيهما.

ص: 42

إن قيمة المنهج تتجلي في شموليته وقابليته للتطبيق. وأن الاستثناء منه تأكيد لقواعده لا خرم فيها. والكاتب لن يستطع تطبيق منهجه علي باقي المباحث الأصولية. هذا إن كان واعيh بخطوات منهجه وتداعياته جميعها.

إذن هو شك سفسطي هدفه طمس الحقيقة والتشويش عليها باسم العقلانية والمنهجية وما شابه من مزايدات مكشوفة ومعروفة. فهو شك يوقفك علي مسلسل لا نهائي من الشك : من الشك إلي الشك. ما أثبته الكاتب بمحاولة تفكيك أصل الإمامة وحقيقة الإمام المهدي، مجرد أوهام نقيضة وجدت في آراء الخصوم. وهي لذلك، لا تصلح رأيا ثالثا موضوعيا كما يحاول الكاتب أن يوحي إلي قراءه. الكاتب وقف في منتصف الطريق لأنه رفض المضي إلي آخر المسار؛ أي رفض أن يقف عند كل آراء الخصم السلفي. وقوفه في الوسط محاولة للايحاء بأنه شيعي ولكن ليس علي نهج الإمامية ومن دون اعتقاد بالإمام المهدي. وقد فعل ذلك بذريعة أن لا يستكثر عليه الإمامية الاثنيعشرية ادعاء التشيع من دون اعتقاد بالمهدي. فتحدث في مناسبات مختلفة عن أن ثمة فرقا أخري للشيعة كالإسماعيلية والزيدية وما شابه.

والحق أن الكاتب هنا يتمسك بقشة أوهي، حيث ذكر تلك الفرق المحسوبة علي التشيع التاريخي ونسي أن لها رصيدها من الاعتقاد المهدوي أيضا. كما أن إرادة هروبه في اتجاه آراء خصوم الإمامية سوف توقعه إن هو ظل في الوسط المزعوم أبعد من آراء الخصوم أنفسهم. وهو ما من شأنه أن يفقده الانسجام المنهجي والاستقامة الأيديولوجية. وما كانت تهمة الباطنية إلا تهمة ضد الإسماعيلية وباقي الفرق الشيعية الأخري كما نلاحظ من ظاهر ردود أبي حامد الغزالي علي الباطنيين. من السهولة تبني آراء الخصم وصبها صبا متعسفا فوق رؤوس الشيعة. وقد أثبتنا أن الكاتب لم يفعل أكثر من إعادة إخراج آراء الخصوم كما هي

ص: 43

مبثوثة ومردود عليها في كتاب الشافي في الإمامة مثلا. وها هنا منتهي الغرابة. فالكاتب مع أنه وقف علي ردود السيد المرتضي وإيراداته علي شبهات القاضي عبد الجبار صاحب المغني، إلا أنه تبني بعناد إشكالاته وأغضي عن ردود السيد علم الهدي. وقد بلغ هذا التمثل حدا لم يعد الكاتب يفرق فيه بين كلام المرتضي وكلام عبد الجبار. وأحيانا تاه بين مقول القاضي ومقول السيد، حتي نسب كلام هذا إلي ذاك، وهو أمر - علي فظاعته - لا يعنينا في هذا المقام. بل سأتسامح وأعتبر ذلك اشتباها وتسرعا ونوعا من الخلط يقع فيه أي باحث خانه التركيز. لكن لماذا لم يقف الكاتب عند الملاحظات الأخري التي أوردناها في كتاب «من الشك إلي الشك» ولم يرد إلا علي ما انتقاه يراعه ليستنجد بالجدل بدل البرهان. وبالحجاج الخفيف بدل الاستدلال الثقيل. وهاكم بعضا من ذلك مبسوطا علي بساط الجدل :يقول الكاتب في مفتتح تعقيبه: «ربما كان كتاب السيد إدريس الحسيني، وهو صحفي مغربي متشيع، كتابا متميزا من بين الكتب التي تصدت للرد علي كتابي (تطور الفكر السياسي الشيعي) فهو يصدر من شخص متشيع حديثا، ولكنه يتهمني ليس بعدم معرفة المذهب الإمامي الآن، وإنما بعدم معرفته سابقا، رغم أني نشأت في أحضان هذا المذهب، وكتبت منذ السبعينيات عدة كتب للدعوة إليه، وقمت بتشييع عدد من الأخوة السودانيين، وتأسيس حركة شيعية إمامية في السودان في أواسط الثمانينيات».

أقول: وجب أن أذكر بما يجب معرفته قبل التصدي للتعقيب. وإن كنت لست في حاجة إلي تعريف الكاتب بأحوال ناقده. وهي جملة أشياء سأوضحها تباعا وباختصار شديد. نفهم خارج المنطوق ما يلي :

ص: 44

• أن الراد عليه هو الصحفي المغربي.

• أنه متشيع حديثا مقابل شخص ولد في أحضان التشيع.

• أن الكاتب كانت له محاولة لتأسيس نواة شيعية في السودان كما يزعم.

هنا أحب في البداية أن أذكر الأخ الكاتب الكريم بأن الراد عليه ليس كما يعتقد أو اعتقد كثيرون من أمثاله كاتبا صحفيا بالمعني الذي يفيد أن كلامه هو مجرد رد من موقع احتراف آخر غير متخصص في قضايا علوم الدين. أو رد لمزاعم هاوي يقتحم ما ليس له عليه تسلط. ومع أنني علي يقين بأن هذا ليس مرادا مقصودا للكاتب، إلا أنني وجدتها مناسبة لإظهار ما لم يعرفه العارفون دفعا للاصطياد في المياه العكرة. ومع فساد الزمان وفساد ضمائر الخلق هذه الأيام كان لا بد أن أبين ما يحتاج إلي بيان. ليعلم الأخ وكثيرون من أمثاله أن صفة صحفي لا تعبر عن الحقيقة إن لم تكن تواضعا مارسناه فترة طويلة وإخفاء الوضعي المشيخي. فالمشيخة كلفتنا ليس الهجرة والانقطاع إلي العلم فحسب، بل كلفتنا تسترا واحتجابا بالغا وتحاية الله لا علي الله في طلبها بعيدا عن الضوضاء.

ومع احترامي للصحافة التي مارستها من موقع المتأمل صاحب الرأي وباعتبارها استراحة مقاتل، فإنني أنتمي إلي العلوم الدينية ولي في سلكها المشيخي ما يخولني أن أبدي رأي العلمي المتخصص. والحقيقة أنها صفة عارضة وليست حقيقية. فأنا أناقش الكاتب كشيخ حوزوي متخصص وليس كصحفي. إنني رجل دين شيخ معمم تخلي عن زيه المشيخي لأسباب موضوعية، بعد أن قدم دروسا ومحاضرات تخصصية في العقائد والإلهيات والفكر الإسلامي في الحوزة لفترة، ولست صحفيا

ص: 45

بالمعني المصطلح. نعم، لا ألوم الكاتب لأنه نقل هذه الصفة من بعض كتاباتي كما أحببت أن أضع علي أغلفتها صفة تعكس أقل نشاط هامشي قمت وأقوم به. هذه أولي الملاحظات التي أحببت ذكرها. فإذا لم يكن مقصود الكاتب من ذلك ما ذكرت، فثمة آخرون أيديهم علي الزناد، قد يظنون الظنون. فلو كنت صحفيا بالمعني الشائع لما اقتحمت موضوعا كهذا ولما بعثني الواجب للرد في أمر له رجاله المؤهلون. إذا اتفقنا علي هذه الملاحظة الأولي، وجب أن نصعد درجة في سلم الحجاج. فنرد علي الكاتب مجملا ولا نقف إلا عند بعض الإشارات، حيث تكفل الرد السابق بباقي الملاحظات.

أما من حيث قناعاتي الحديثة بهذا الاعتقاد - وإن كان قول الكاتب صدر قبل سنوات إلا أنني أحب أن أصحح معلومته بأن لدي أكثر من ربع قرن في هذا الاعتقاد ولست حديثه كما ذكر الكاتب، أي أكثر عمري هو في هذا الاعتقاد. ولا ينفع قول الكاتب أنه ولد في أحضان التشيع، لأن العبرة بالدليل وليس بالأنس السوسيو - ثقافي للتشيع المجتمعي. فليس كل مسلم يدرك اليوم إسلامه علي الطريقة البرهانية والعالمية. وإذا تدرج في العلم أدرك ما لم يكن يدركه. وحتي في سلك العلم هناك ما هو سطحي وما هو أعمق. إنها حيلة تؤكد علي توغل الطريقة الكاتبية في الجدل لا في البرهان. فهذا تمسك بما هو خارج المطلوب.

يري الكاتب أن حداثة عهدي بهذه القناعة مقابل نشأته في أحضان هذا المذهب كافيان لإثارةالاستغراب من اتهامي له بعدم معرفته بفلسفة الإمامة. وحيث لا أريد التفصيل في هذه المسألة وأتساءل إن كان الكاتب سيحاكمني بسنوات من اعتقاده الطفولي التقليدي - كمقلد عقائدي . حيث كل ما حصل لي من قناعة مبني علي بحث وتأمل

ص: 46

وتعاطي علمي. أقول هذا بعد أن انطلت الحيلة علي مجدف سلفي ممن أطل إطلالة فضولية علي ردي علي أحمد الكاتب، فقال يوما في إحدي الصحف معلقا، بأنني أرد علي أحمد الكاتب وكأني شيعي أكثر من الشيعة. وكلها من جنس الحيل الحجاجية التي تحرف النزاع عن محله وتستنجد بعناصر أجنبية عن الحق.

يتحدث الكاتب عن تجربته السابقة في السودان. وما لم يكشف عنه كلامه وبقي رهن المفهوم لا المنطوق، هو أن قصة ناقده حديث التشيع بدت له شبيهة بما حدث في السودان. وأنه كان قيما عليها بما يوحي بأشياء لا تخفي علي القارئ. وأحب أن أضيف إليه ما وجبت إضافته فضلا في البيان أن كاتب هذه السطور ليس من جملة من حصلت الهم القناعة المذكورة بدعاية أو تبشير قام به أحد من الأحاد. بل تجربته متميزة مبنية علي قلق بحثي نابع من مبادرة شخصية لا مجال لخلطها بباقي النماذج بالمعني الذي يجعلها ثمرة لظاهرة متموجة ابنة مرحلة. بل هو البحث والتحقيق بالجهد الذاتي حيث فتح الله بصيرتنا علي هذه الحقيقة، بحثنا فوجدنا.. واعترضت طريقنا إشكالات التاريخ فلم نمر عليها مرور الكرام وقلبنا وجهات النظر وحرصنا علي أن لا نتسامح في قبول ما لم يقم عليه دليل يشبع العقل بدليليته ويحصل معه قدر كافي من الاطمئنان.

وحيث بات واضحا أن الكاتب إذ يستغرب من كل ذلك، كان عليه أن يعكس الأمر ويتأمل أنه استسلم صاغرا لحجج مغالطة نشأنا في أحضانها ولم تمنعنا لهشاشة محتواها من بلوغ تلك الحقيقة الصادمة. فأن يناقشني باستدلالات من تربيت في أحضانهم هو منشأ استغرابي أيضا. فهو يجترح قناعة حديثة نشأنا وتربينا في كنفها، فهذه بتلك فتكافأنا. وهذه فضلا عما سبق، حيلة حجاجية ساذجة تستشكل أمرا لا موضوع

ص: 47

له. ذلك لأنني لا أتهم الكاتب بجهله بالإمامة من تلك الحيثية التي ذكرها،بل من حيث النتائج التي أظهرتها محاولته الأخيرة - العبرة بالنتيجة . حيث تأكد لي أنه لم يجترح رؤية جديدة بقدر ما تبني رأيا قديما وموقفا ووجهة نظر مسطورين في صحائف تراث الغلب. فهي إذن مسألة اختيار قناعة وليس طريقا ثالثا كما زعم. وقد بان أن الكاتب لم يصمد أمام شبهات سطحية لخصوم الإمامية حتي أنه لم يكلف نفسه التعمق في مفهوم الإمامة التي ركب عليها فهما دخيلا ومحرفا وظاهريا يساوق مفهوم الخلافة الزمنية وهو الانزياح بالمفهوم واختزاله التاريخي. ولا أخال أي عاقل يمكنه أن يناضل من أجل مفهوم للإمامة لا يتعدي وصفها منصبا سياسيا طيلة قرون.

المسألة لها مدي أبعد مما يتصور الكاتب حيث غلب عليه التأثر بلعبة الأوصاف الجزافية التي تري في التعمق بالموضوع باطنية خرافية وتري في التسطيح التعسفي للموضوع ظاهرية معقولة. العناد في تناول الموضوع دون حسم المفهوم سيجعل الحديث طرشانيا. ومع أنني أدرك أن للكاتب تجربة سابقة في الدعوة إلي هذا الأمر، فإنني لا أحاكمه بالمستوي الذي زاد به عن تلك الأفكار التي لا ترقي إلي ظاهر بسيط من علم الكلام، بل أناقشه بمستوي كلامي أعمق، أي إحراز الفهم الحقيقي للإمامة، بوصفها أرفع مقاما من المنصب السياسي الذي لا يشكل هذا الأخير إزاءها سوي جزءا من وظيفتها. ومع عدم بلوغها كما حدث في التاريخ، فإن ذلك لا يخدش في ماهية الإمامة التي تظل لازمة لأهلها سواء قاموا أو قعدوا.

إن وظيفة الإمامة هي إحراز الوضوح واليقين في الاعتقاد والاطمئنان والواقعية في الأحكام. وهذا مما ارتفع أمره لمجرد غيبة الإمام. وحين اختزلت الإمامة في السياسة كان الأمر أفظع : دب الخلاف

ص: 48

والاختلاف في كل تفاصيل الشريعة وارتفع الحكم الواقعي لأسباب وتدخلات سياسية. الخلاف حتي في أحكام العبادات التي لا علاقة لها بالزمان والمكان. فالسياسة تدخلت في كل شيء وأفسدت كل شيء. بينما كانت وظيفة الإمامةحماية الدين من شطط الأفهام وغلو السياسات.

إن اختزال الإمامة في منصب سياسي صغير من جنس اختزال النبوة في المنصب نفسه. وقد حاول الكاتب كما فعل الكثير ممن يهولهم هذا الضرب من القياس، أن يؤكدوا علي الفارق. والفارق هنا ثابت لا محالة. لكن الوجه الذي أقمنا به هذا التناظر ثابت مشترك أيضا. فالحيثية التي بها تتعدي الإمامة الوظيفة السياسية هي نفسها التي بها تتعدي النبوة تلك الوظيفة. الحيثية هنا هي استمرار الفهم والتأويل الصحيح للدين والشريعة. فالكاتب فيما يزعم من تجربته للدعوة إلي المذهب في يومياته السودانية لم يبرح النقاش المبسط حول من هو حقيق بالخلافة والنص علي الإمام وما شابه مما هو متيسر حتي لغير المتخصصين. ومثل تلك النقاشات البسيطة حول الإمامة علي أهميتها وشأنيتها في محيط عامة الخلق ليست هي مقصودنا ولا مستوي نقاشنا هنا. بل هي مما قد يقوم به أي معتقد غير متخصص من عامة الناس. لكنه حتما لم يدع يوما إلي إمامة هذا شأنها، من حيث هي مقام مخصوص موصول بخط النبوة بالمعني الأعمق الذي بدا له باطنيا وليس بالمعني السطحي الذي بدا له ظاهرا. بل هو وظيفة أوسع تتكفل بضمان فهم الدين والحؤول دون فساده. وهذا ما حدث يوم حوصر الأئمة وعمت الفوضي وأسند الدين الغير أهله.

ولا أخال الكاتب كما يزعم أنه وصل إلي جوهر مذهب أهل البيت بعد إزاحة غبار الأساطير المتراكمة عليه كما ذكر. إن ما قدمه الكاتب حتي الآن هو منظور ابن تيمية أو القاضي عبد الجبار ونظرائهما

ص: 49

للإمامة. إنه باختصار منظور مذهبي دان ولا يزال يدين بمذهب ليس لأهل البيت فيه نصيب وفير. فكيف نقف علي جوهرهم في مسلك احتلوا في نظر أصحابه منزلة العوام وانخفض ذكرهم بين العلماء. هذه حيلة أخري من الحيل الحجاجية التي تلوذ بالمغالطة. ويا ما قلنا : إن كنتم ترون أن شيعةالأئمة كذبوا عليهم، فأرونا الصواب. ولنسأل لماذا لم ترووا عنهم أنتم ما يصح.. وهل معني ذلك إلا أن هؤلاء وحدهم صاحبوا أولئك الأئمة حيث شرد من حولهم الجميع؟! إن إزاحة الأساطير عن مذهب أهل البيت مسلك قاصد ونبيل قام ولا يزال يقوم به محققون وأعلام. ومقدار ما بدا من أساطير هو بلوي عمت كل المذاهب وكل المدارس التي تمتد شجرة نسبها إلي القرون الوسطي وما قبلها. فهذا طبيعي. لكن ذلك لا يعني أن إزاحة الأساطير أن ننسف مقومات مدرسة، ونسلب من أهل البيت ما اختصوا به وقامت أدلة واضحة علي اعتباره في حقهم ونغلب وجهة نظر خصومهم بسفسطة وعناد ثم نزعم أننا وقفنا علي جوهر مذهب أهل البيت. ثم لا يخفي أن ما يعنيه الكاتب من إزاحة الأساطير عن مذهبهم له مصداق في موردنا. إنه يعتبر الإمام المهدي وغيبته أسطورة دخيلة علي مذهبهم. وهذا هو بيت القصيد. مع أنني أتفهم موقفا كهذا يتسامح مع إطلاقاته. إن فهم الكاتب للأسطورة هو فهم ساذج أيضا. وهو فهم شائع غالبا ما يستغل في الحيل الحجاجية. فلو تسامحنا في فهمنا للأسطورة علي الطريقة الكاتبية ، فسوف نجد أنفسنا أمام طريق يجب أن لا نقف فيه في منتصف الطريق. أقصد بذلك أننا مطالبون في نقاشنا في الدين ومسائله أن ندير ألسنتنا سبع مرات داخل أفواهنا قبل أن نحكم علي الأشياء. هل الأسطورة هي كل غيب؟! |

الألوهية، النبوة، الملائكة، و.. و..كلها قابلة أن تركب عليها

ص: 50

أحكام القيمة من هذا القبيل. لنتصور أننا سلمنا باستحالة الاستدلال علي وجود الله انطلاقا من العقل النظري كما فعل كانط. أليس حتمي حينئذ أن نعتبر ما دانت به البشرية من اعتقاد بالألوهية خدعة انزلقت فيها البشرية ولم يفطن لها إلا كانط وحفنة من الملاحدة أقاموا دليلهم علي محض الاختيار والانسياق وراء رفضوية سلبية. لا أجد الفارق بين أن أعتبر غيبة إمام أسطورة هنا ولا أري رفعة إدريس والمسيح وغيبة أهل الكهف وكلبهم وقصة الخضر كما قصها القرآن أسطورة هناك. كما لو أن الباء عندنا تجر وعند القوم لا تجر. فالمنطق الذي به يتم رفض هذا الاعتقاد هنا يؤكد أن القوم لا يؤمنون بجملة الظواهر النظيرة في القرآن والتي تؤكد علي الشروط نفسها والحيثية نفسها والمظاهر نفسها. هل رفضك لغيبة الإمام فرع لرفضك التصديق بالغيب وأسراره أم لعدم كفاية الدليل، وإلا سألنا : هل تؤمن بكل القرآن؟! أليس فيه نظائر من تلك؟! الجواب حتما إما أن يطيش عنادة أو يقر بأن مدار المشكلة هو الدليل. فدعنا في صلب الحجاج حول الدليل ولا ننزاح ونتساهل جزافا في كيل النعوت والأحكام.

انظر حينما يقول الكاتب : «ونقول للسيد إدريس الحسيني، بأن مفهومنا للإمامة ، يعني الحكم والخلافة والزعامة والرئاسة والإمارة، وما إلي ذلك من معاني السلطة، التي احتاج إليها المسلمون بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله و اختتام النبوة وانقطاع الوحي، لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما دار حوله علم الكلام الشيعي والسني في القرون الأولي، واختلف الشيعة الإمامية عن غيرهم باشتراط العصمة والنص في الإمام، وعدم الاكتفاء بالعلم والعدالة والكفاءة. ولا معني للإمامة غير هذا، الا ما ادعاه الغلاة والمتطرفون من الإمامية بأن الإمامة كالنبوة أو امتداد لها، أو نيابة عن الله في إدارة الكون. (كما رأينا الوحيد الخراساني وتلميذيه

ص: 51

العاملي وكمال الحيدري يعتقدون). أما عامة الشيعة الإمامية عبر التاريخ فلم يكن لهم مفهوم للإمامة سوي الخلافة والحكم والرئاسة. ولذلك قلنا بأن الغيبة تناقض الإمامة، وأن هذه النظرية وصلت إلي طريق مسدود وانقرضت، وتخلي عنها الشيعة اليوم ليلتزموا بنظام الشوري أو ولاية الفقيه».

لا يزال الكاتب يتفنن في التغليط. ولا يزال يخرج عن محل النزاع. فالإصرار علي اختزال الإمامة في السلطة السياسية التي هي منها محل الجزء من الكل والوظيفة الآنية من الوظيفة الشمولية، تصغير لمحل النزاع. وإلاكيف رفض علي بن أبي طالب الخلافة وهي تعرض عليه؟ ! وحينما قبل بها علي مضض فعل ذلك فقط لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه من مكتسبات الكيان الإسلامي. فلو كانت الخلافة السياسية في مدلولها الحصري هي هي الإمامة نفسها وذاتية لها لما انفك أمرها في حادثة رفض علي لها ولا ما سمعناه من قوله لابن عباس بذي قار. بل لو كانت الإمامة تتقوم بالسلطة السياسية وترفع بعدمها لما فكك بينهما صاحب الدعوة لما قال عن الحسنين : «إمامان قاما أو قعدا »

إن الإمامة لو كانت محض خلافة سياسية فهذه إدانة لعلي بن أبي طالب في إصراره علي استنقاذها. ولعله علي هذا السطح من الاختزال كان ابن تيمية في المنهاج قد تجرأ باتهام علي بن أبي طالب بالحرص علي الخلافة. غير أننا وجدنا عليا يزهد فيها لما غدت الإمامة مجرد خلافة سياسية. وما كان حرصه عليها في بداية الأمر إلا لجهة كونها جعلا إلهيا يضارع جعل النبوة. ودائما يحاول الكاتب أن يدخل بعض المفاهيم كدأب من تقمص منهم تلك الطريقة لتهويل الموقف ومحاولة تقويض صيرورة الحجاج، حينما يتحدث عن ختم الوحي ونهاية الأمر وما شابه. كما لو أن الإمامة مزاحمة للنبوة وكما لو أن الإمامة تناقض

ص: 52

انقطاع الوحي. هذه مغالطة يكفي أن نفتح صفحات تاريخنا المديد لندرك أن عصر الانسداد ما فتئ يتعاظم مذ غاب صاحب الدعوة والأئمة الهداة.

وقد أظهر غياب الرسول صلي الله عليه و آله فراغا كبيرا سرعان ما بان عواره وعمت الفوضي ليس لأن الدين أكمل والنعمة تمت، بل لأن الأمر يتعلق بإكمال مجمل يتطلب وظيفة جديدة هي تأويل الشريعة علي أرضية ضامنة لعدم وقوع الخلاف. بل إن الدين أكمل والنعمة تمت بإقرار الإمامة وهي جزء من هذا الختم قبل أن يتم الفكاك والتقدم في بيان الشريعة علي من نصبوا لهذا الغرض. وقد يقول الكاتب ما يشاء كما من حقه أن يخالف واقع الأشياء، لكن لا أحد يملك أن ينكر بأن الدين فسد بعد فقد الرسول صلي الله عليه و آله وقتل علي عليه السلام .. وأنه كما في الأخبار لا يصلحه إلا المهدي. لكن الكاتب مرة أخري يزعم زعما غريبا وهو أن فهما كهذا للإمامة لم يكن عليه عامة الإمامية غير شرذمة من الغلاة، ضرب الكاتب لهم مثالا من تاريخنا المعاصر هما : الشيخ الخرساني وتلميذيه الشيخ الكوراني والسيد كمال الحيدري. والغلاة حسب هذا الحكم التعسفي هم كل أصحاب المجاميع الإمامية التي أوردت من الأخبار ما يؤكد علي فهم للإمامة أشرف وأرقي من التصور الصغير والمختزل للإمامة.

وقد بات واضحا أننا حينما اختزلنا الإمامة في السلطة السياسية أصبح كل من انقض عليها تغلبا يخلع عليه كل الصفات والخصائص المحصورة في أئمة هداة إن هم حقا حكموا فلن يكون حكمهم إلا من جنس حكومة الأنبياء

ليست السياسة وحدها من فسد في ديار الإسلام حيث يمكن أن تصلح السياسة بحسن التدبير والعدل كما وصف القرآن حكومة بلقيس.

ص: 53

ولكن الأمر يتعلق بنموذج كامل ومستمر ومتداخل.. العلم والشريعة والدين عانقوا انسدادهم الأعظم ولم يستطع أي من هؤلاء الذين استغنوا عن علم الأئمة أن يحلوا معضلة هذا الانسداد. فهل مشكلة الأئمة مع خصومهم انحصرت في التباكي علي السلطة أم أن الأئمة هالهم ما حصل من فساد في الدين حتي قال علي بن أبي طالب: «ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا».

بل لعلها من أعجب العجائب أن يدعي من كان شيعيا بالأصالة أن الشيعة تخلوا اليوم عن الإمامة لصالح ولاية الفقيه، إلا أن يكون فهمه مساوقا للفهوم الخصيمة لهذا التراث غير المطلعة علي مقاصد أحكامه في موردنا هذا ولاملمة بمذاقات فقهائه. فالمدار في ولاية الفقيه بمختلف مناحيها ليست سوي فرع لذاك الاعتقاد. فالفقيه الذي يتوفر علي كافة الشروط التي ترتفع به في سلم الفقاهة حد الأعلمية وفي سلم النزاهة حد الأعدلية، منصب يفرضه العقل والنقل. فأما العقلي فلحكم هذا الأخير بوجوب الرجوع إلي العالم حين الجهل. لأن العقل قاض بضرورة رفع الجهل. ولا رافع له من ذات الجاهل إلا أن يعتمد علي علمه وهذا محال لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

فوجب حينئذ الرجوع إلي غير ذاته. فإذا رجل إلي الجاهل امتنع الأمر للجهة التي بها امتنع رجوعه إلي ذاته الجاهلة. فوجب أن يكون المرجوع إليه عالمة، فلا يرفع الجهل إلا عالما. وقد دل الشارع المقدس علي وجوب رجوع الجاهل إلي العالم حين الجهل بالأحكام - «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»- ولسان الآيات والأخبار بذاك المقصد وافرة مستفيضة. حتي إذا ورد آخر الأئمة نصب - وجبت الغيبة في حقه - العالم العادل المتورع الحافظ لدينه المطيع لأمر مولاه، حيث وجب علي العوام أن يقلدوه. وهي أخبار مذكورة في مظانها معضوضة بحكم

ص: 54

العقل الموجب لأصالة إشغال الذمة بالطاعات في الأفعال والتروك المتوقفان علي العلم لضرورة البيان وقبح العقاب بدونه ورفع التلبس والشبه عن أحكام الشرع المقدس .

فمع تعذر ظهور الإمام وجب التوجه إلي عموم الفقهاء والنظر فيمن كان منهم جامعا للشرائط المقررة. فظهر لك أن ولاية الفقيه بمناحيها إن هي إلا فرع للقول بالإمامة صاروا إليها بمنطق الاقتراب منها لا بمنطق البعاد عنها. وعلم أن المدار في الإمامة والولاية العامة المخولة للفقيه الجامع للشرائط إنما هي بيان الأحكام وتسليط العلم علي الجهل. وما الحكم للفقيه لمن اعتقد بولاية الفقيه المطلقة مع تحقق بسط اليد سوي احتياط في العلم بما هو من الشرائع أبين وأقرب إلي الواقع أو الظن المعتبر الذي يصار إليه عند فقد الدليل الاجتهادي، وهو ليس متوفرا إلا لمن اتبع طريق الأئمة في اجتناب الظنون العامة كالعمل بالأقيسة والاستحسانات وما شابه.

هكذا ظهر لك كم كان الأخ الكاتب مسرفا لما زعم أنني أسعي للخلط بين الإمامة والنبوة فيما أفصل بين الإمامة والخلافة. وهو حكم باطل في حقنا لأننا لا نقول ما نقول إلا في سياق ومقام. والحكم علي مقولنا خارج عن سياقاته ظلم لمعني المقول قبل أن يكون ظلما لقائله. فالربط - عوض الخلط بين النبوة والإمامة نظر إليه باعتبار الوظيفة. والربط هنا ناظر في استمرار الوظيفة والمقاصد وهو التعليم والهداية والبيان والتفريق بين الإمامة والخلافة ناظر إلي الوظيفة أيضا. باعتبار أن وظيفة الإمامة أعم من وظيفة الخلافة. فقد تثبت الخلافة بالغلب كما وقع في التاريخ بينما الإمامة لا تثبت بالغلب.

وقد واصل الكاتب أحكام القيمة بلغة السلفية في الوصف بالغلوا

ص: 55

والتطرف وما شابه مما لا نضعه في حسبان الحجاج النافع، حيث قال :

«وبدلا من أن يستوعب السيد إدريس الحسيني هذه التطورات، ويتجاوز النظريات التاريخية البائدة، فإنه يحاول أن يعلمنا نظرية الإمامة من جديد، وخاصة بعدما تحول إلي «التشيع» (...) وبالخصوص بعد ما تخلينا نحن عن تلك النظرية المثالية الوهمية. فيقدم لنا صورا جديدا مقتبسا من تراث الغلاة يخلط بين الإمامة والنبوة، ويفصل بينها وبين معني الخلافة. وإذ يقوم بذلك فانه يتهمنا بالفصل بين النبوة والإمامة، والخلط بين الإمامة والخلافة! وبمحاولة تأسيس مذهب خاص في التشيع، علي أنقاض الإمامة يسميه «بالديموقراطية الكاتبية»(1).

ولست أخشي القول أن ما تقرر في التاريخ بمنطق الغلب يكفي دليلا علي صدق المدعي، فما حصل في التاريخ هو أكبر دليل علي أهمية وظيفة الإمامة. وهو ما أسميه بدليل الحال.

وإذا استثنينا ذلك النزر القليل مما بلغنا وهو في حدود المتيسر مما أمكن، لما وجدنا في يدنا شيئا من الأحكام البتة. فما لدينا من الفقه سالكا من الطهارة إلي الديات يرجع الفضل فيه إلي القليل مما أمكن الإمامة القيام به في ظروف قاهرة. وها هو الكاتب يعود مرة أخري إلي الغواية نفسها ليقول إنني بصدد تعليمه الإمامة مجددا بعد أن تركها وبعد أن أصبحت بالمقابل متشيعا لها. وهو أمر يزيدني شرفا. غواية قلنا فيها ما قلنا، ولكن بقي أن نضيف أن ما تركه الكاتب من أمر الإمامة هو سطح منها لا يرقي إلي التحقيق. ويدل عليه أنه وقع في حبال أول الشبه التي بنت حجتها علي فهم سطحي وسيئ للإمامة. بينما كان تشيعنا ولا

ص: 56


1- إدريس الحسيني، من الشك إلي الشك، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، بيروت ص 15 وص 23.

يزال ماضيا في العمق لا في السطح. وقد برحنا الفهوم المسطحة لصالح الفهوم المعمقة ولا نجد ضيرا من الاستزادة من ذلك العمق الذي لم يحصل للكاتب في أصالة تشيعه العوامي ولا زلت ألمح آثاره فيما يحتج به. وإلا لو كان مرادنا الحجاج الفاسد لقلت إن الكاتب تشيع لفكرة تركناها في طور الغرارة قبل أن يتبناها وهو في أعتاب الكهولة. لكن دون ذلك وإثبات الحجة خرط القتاد. فالمدار كما لا زلنا نذكر هو الدليل - «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» -

ليس الأمر إذن له علاقة بالتطور التاريخي الذي استوعبنا منه ما يطيب للمستفيد، واستوعبنا منه فلسفته ولغته الواصفة. بل إن ذلك لا دخالة له فيما نحن فيه حيث التطور التاريخي الذي يحدثنا عنه الكاتب لم يكن سوي تاريخ غلب لا تطور مفاهيم. لنقل إذن إنها مفاهيم سلطة وليست سلطة مفاهيم. فالكاتب ناقل لتاريخ «مفاهيم - سلطة» وناقل التاريخ كتب بريشة أهل الزلفي من خمرة العملاء والمتزلفين والجبناء والمرتزقة والمتعصبين، أي ذلك الذي يسميه الكاتب استيعاب التطورات. فالوقوف مع سلطة المفاهيم يعد غلوا وباطنية بينما الاستقواء بتاريخ الغلب و«مفاهيم - السلطة» يعد استيعابا وعقلانية. وكلها أحكام قيمة لا تنفع في الحجاج ما دام كما كررنا أن العبرة بالدليل.

يؤكد الكاتب من جهة أخري علي اتهامي بالفصل بين الإمامةوالخلافة حينما يقول :

«وعندما يمر علي موضوع تنازل الإمام الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية، والذي يدل علي كون الخلافة أمرا دنيويا وليس أمرا دينيا منصوصا عليه من الله، يحاول الحسيني أن يفصل بين الإمامة

ص: 57

والخلافة، فيقول: «الإمام الحسن لم يتنازل عن الإمامة وإنما عن الخلافة الزمنية»(1). ثم يقول: «من قال أن الحسن تنازل عنها؟ ومتي كان المرء قادرا علي التنازل عن كفاءته؟ فهذا كمن يري أن المشمش قابل للتنازل عن مشمشيته. فهل نفهم أن عليا تنازل عنها هو أيضا؟ إن عدم قبول الناس بحكم الإمام أو النبي لا يعني سلب الإمامة أو النبوة عنهما».ويضيف: «أن الكاتب يخلط هنا بين الإمامة والخلافة الزمنية. وهو ما يؤكد لي أنه جاهل تماما بجوهر الإمامة. إن تنازل الإمام الحسن كان إكراها مثلما أكره الإمام علي، بل ومثلما أكره أنبياء كثيرون علي الانسحاب والتراجع، وقتلوا وذبحوا.. ولم يكن ذلك ليلغي نبوتهم، فالنبوة كفاءة وملكة وكذلك الإمامة. والأئمة لم يتنازلوا عنها، بل أكرهوا علي الانسحاب»(2).«إن الإمامة بغض النظر عن أهل البيت عليهم السلام هي لطف وضرورة ثابتة وراجحة بحكم العقل، والدين بلا إمامة لا حصن له عن الانمحاق»(3).

ويزيد في ذلك إطنابا:

«إن السيد إدريس الحسيني، كما قلنا، يلتزم بتصور معين عن الإمامة يقارب أو يشابه النبوة، ويحاول أن يقرأ التاريخ علي ضوئه، ولكنه عندما يمعن النظر في سيرة الإمام علي بن أبي طالب، يجد أنه يخالف تصوراته، ولا يجد أثرالها في ثقافة الجيل الإسلامي الأول، فيقول: «لقد أدرك علي أن الشوري في المهاجرين والأنصار من باب

ص: 58


1- المصدر السابق، ص 33.
2- المصدر السابق، ص 33.
3- المصدر السابق ، ص 37.

القوة والشوكة، فمن لم يعينه هؤلاء لا مجال أمامه كي يمضي بعيدا. كذلك كان موقفه بعد مقتل عثمان، بل أن تلك شهادة كبري علي أن الإمام زهد في الخلافة حينما أدرك أن الظروف لا تسمح له بأكثر من ممارسته الخلافة السياسية، ولذا كان في قراره ما يذكر بأن زهد علي بن أبي طالب في الخلافة الزمنية، لا يعني أبدا زهده في الإمامة. وحيث إن البيعة التي تمت لعلي يومها، لم تأخذ بعين الاعتبار الحق الشرعي الإمامته ، فقد كان بخيار أن يقبلها أو يتركها.

إن الإمام عليا فرض عليه بعدها أن يحكم بمنطق الخلافة وليس بمنطق الإمامة، والفرق بين المفهومين كبير جدا. إنها خلافة إمام مرفوض الإمامة.

إن الخلافة فعلا لم تعد تمثل شيئا بالنسبة لعلي بن أبي طالب، وكفي بذلك شاهدا علي أن الأمر شهد انحرافا حقيقيا عن قدسية الخلافة وشرعيتها. والإمام كان قد وقف موقفه ذاك يوم السقيفة، حرصا علي كفاءته كإمام. أما وقد اغتصبت الإمامة وغيبت، فإن عليا لم يعد مصرا علي خلافة سياسية، إلا أن يقيم بها حقا أو يزيل بها باطلا.

ثم لا زلت أتساءل بعد ذلك، كيف يذهب علي بن أبي طالب، الذي رفض الخلافة للأولين، فيعرضها علي طلحة والزبير؟ وهو يدرك أن لا حق له في أن يسلمها لهما...

علي أن كلام علي حتي في المثالين المذكورين (الاحتجاج مع طلحة والزبير ومعاوية بتحقق بيعته) كان هادقا إلي الزام أولئك الخصوم بالبيعة، أي إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم. لقد أدرك علي أن أمثال طلحة والزبير ومعاوية لم يؤمنوا بإمامته، فلم الاحتجاج عليهم بأمر لا يعتقدونه

ص: 59

ولا يقرون له به؟ ولا يعقل أن يحتج علي علي القوم بالإمامة، وهو يدرك أنه لم يبايع كإمام وإنما كخليفة»(1).

قصدت نقل ذلك المقطع مطولا لسبب، هو أن الكاتب لا يزال يكابر في رد المقصود من كلامنا وفيه جواب علي تعقيبه لأنه لم يستوف الدليل علي رد ما ذكرنا بهذا الخصوص. والحق أننا حتي لا نعود فنكرر ما ذكرنا، أن الفصل بين الإمامة والخلافة فصل بين ذي علاقتين محكومتين بالعموم و الخصوص. فلا يفهم من ذلك أننا ادعينا الفصل دون الوصل. فللفصل اعتبار وللوصل اعتبار آخر. فأما الفصل فللنكتة سابقة الذكر. وأما الوصل فذلك منتهي ما يطلبه متشيع للإمامة وهو ما لم يتحقق إلا مرتين في تاريخ الإسلام. خمس سنوات من خلافة الإمام علي وفترة وجيزة من خلافة الحسن علي ما أحاط بها من ملابسات. ولو تفادينا الحديث عن تجربة الحسن في الخلافة وركزنا علي خلافة علي بن أبي طالب لأدركنا الشيء الكثير. فلا يخفي أن خلافة علي هي أول خلافة لإمام. وليس في تجربة من سبقه من هذا شيئا. فالخليفة الأول والثاني والثالث لم يكن لهم في الأعلمية ما سارت به الصحابة ولم ينعتوا فيمن عاصرهم وفيمن تبعهم بالأئمة. فهم خلفاء بقدر ما كان علي ومن جاء بعده أئمة قاموا أو قعدوا. وذلك وجه أول من اعتبار الوصل، حينما يكون الخليفة إماما. وقد تعزز ذلك برجوع الخلفاء إلي علي في النوازل وعدم رجوعه إليهم كما لا يخفي علي الكاتب نفسه. ثم إن خلافة علي هي خلافة شورية بامتياز تكاد تكون وحدها الخلافة التي لم تأت بغلب في كل التاريخ الإسلامي. فهو لم يحارب الخوارج ليبايعوه وإنما حارب الخوارج للرضوخ إلي السلم. إنه لم يلاحق من لم يبايعوه

ص: 60


1- المصدر السابق، ص 74 - 75.

ولم يغالب أحدا علي ذلك بل اكتفي بالقول: لا رأي لمن لا يطاع.. ولقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان.. ومع ذلك إن عليا رغم كل ذلك لم تجتمع له الإمامة والخلافة وصلا تاما، بل إن من بايعوه فعلوا ذلك بشكل متفاوت.

فثمة من اعتبر إمامته وبالتالي ما يتفرع عنها من وجوب حكم الإمام وهو مصداق لحكم الأعلم الأعدل والأصدق، ومنهم من بايعه الجهة كونه الأصلح دون اعتبار إمامته وهناك من امتنع عنوة عن البيعة أو نكثها وهناك من نافق الجموع المبايعة له.. وعموما إنه حكمهم بسياسة متفاوتة كل بحسب اعتباراته. فاقتصرت إمامته وانحصرت في خلص أصحابه، بينما سلك مسلك الخلافة ومنطقها مع مبايعيه باعتبار الأصلح. وكان بلاؤه في ذلك معجز.

فمن تتبع تعاليمه لأصحابه وخطابه لأتباعه حتي في دولته يدرك أنه سلك مسلكا مزدوجا : خطاب للأصحاب ملزم برسم التشيع لإمامته وخطاب زمني لرعايا دولته برسم الاستخلاف العام وهو ملزم برسم التسلط الولايتي وليس برسم الائتمام والتولي. ولعل أكبر دليل علي ذلك الفصل رفضه لها لما جاءته رضية بعد أن كانت مطلبه الشرعي أول العهد. فبعد أن تكرس الفصل التعسفي بغلب التاريخ لم يعد للمطالبة معني إلا أن يقيم بها الحق ويمنع الباطل ويسوس الناس بالحد الذي لا تندرس فيه الشرائع ولا تعم الفوضي فقبل علي مضض وكانت يومها لا ترقي في نظره إلي قيمة نعله كما أخبر بذلك ابن عباس بذي قار. هذا ما لا يريد الكاتب الوقوف عنده. فهوشديد التنقل من دليل إلي آخر دون تريث وإشباع دليلي. لذا لا عجب أن يواصل أحكامه في حقنا لما قال :

«ولكن السيد إدريس الحسيني يرتبك عندما يواجه أحاديث أهل

ص: 61

البيت الصحيحة التي تمزج بين مفهومي الإمامة والخلافة أو الولاية ، وتعتمد مبدأ الشوري ولا تشترط العصمة في الإمام، مثل حديث الإمام علي: «إنه لا ينبغي أن يكون الوالي علي الفروج والدماء والمغانم وإمامة المسلمين، البخيل.. ولا الجافي.. ولا المرتشي..»حيث يحاول الحسيني أن يتلاعب بالألفاظ ويفسر معني (العصمة) تفسيرة جديدة، فيقول: «إن حديث الإمام عن الشوري لا يناقض العصمة»(1). وإن «هذه الأخبار تدل علي أن الإمام ينبغي أن يتحلي بصفات لو اجتمعت في واحد لكان معصوما، إذ ما العصمة إلا ذلك. ولماذا لا يحتمل أن يكون معني الوالي هنا عماله وأمراؤه في البلدان؟ لماذا يصر الكاتب علي أنها تعني شخص الإمام، أي الإمام الأكبر».مع أن نص الإمام هنا صريح بالحديث عن إمامة المسلمين»(2).

والحال أنني لا أدري كيف يمكنني أن أقنع الكاتب بأن لا معني للكلام دون وضعه في مقام. فلا محل عند الكاتب للاعتبارات. فهو يقطع الكلام عن سياقاته واعتباراته ويستعجل الفهم والمعني والحكم. وإلا أين يا تري يتجلي الارتباك المزعوم وما هي مظاهره. كلام ينطح كلام. والدليل ضائع والمستدل شارد. قلت إن الشوري لم تتحقق في كل تاريخنا الإسلامي الذي يدعوني الكاتب إلي استيعابه وقد استوعبناه وقرفنا من مفاسده. وهي لم تتحقق إلا حينما جاءت الخلافة طائعة بين بد علي علي إثر مقتل عثمان، وبعد أن لم يحمل علي أحدا علي بيعة فردية إلا ما كان من حربه علي معاويةوالخوارج وهذان خارجان عن موضوع الغلب، حيث حربه علي الأول ليتنازل عن إمارة ظلم فيها البلاد

ص: 62


1- المصدر السابق، ص 100.
2- المصدر السابق، ص 102.

والعباد. وحربه علي الثاني دفعh لعنفهم وقتالهم وفوضاهم العارمة ودفعh التهديد النظام العام وهي مقاصد خارج مفهوم الغلب بالمعني الشائع. وحيث كان لا بد أن نوضح للكاتب أن تنازل الحسن عن الخلافة كما لا يخفي لم يكن أمرا جزافيا بل هو تنازل عن الحد الأدني مقابل حفظ دماء المسلمين بعد أن لم تعد المعركة متكافئة وكان معسكر الحسن في وضع من الهشاشة كما لا يخفي. وفي كل الحالات هي نتيجة الغلب. ومع ذلك إن تنازل الإمام الحسن لمعاوية عن الخلافة أكبر دليل علي إمكان الفصل عند الضرورة. فهو تنازل عن الخلافة لا عن الإمامة.

بتعبير آخر إنه تنازل عن ما كان موضوع غلب وليس تنازلا عن ما هو موضوعا جعل. ولقد ظل الإمام الحسن إماما لشيعته يرجعون إليه في تكاليفهم الشرعية بصورة لم يؤثر عليها تنازله عن الخلافة الزمنية. وهذا إنما ناتج عن فكرة الوصل المطلوب والفصل الممكن المركوز في أذهان شيعتهم الأوائل كما حدث مع علي بن أبي طالب وباقي الأئمة. بل لقد عبر النبي الأكرم صلي الله عليه و آله علي ذلك الفصل الممكن بقوله في حق الحسن وأخيه : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».

لكن الكاتب ولأنه تورط كما تورط من رجع إليهم في فكرة الاتصال غير القابل للانفصال وهي نظرية تستند في جوهرها إلي أيديولوجياالعصبية والغلب. فمن غلب كانت له الخلافة والإمامة معا، . أجل، ولأن الكاتب تورط في هذا الوصل التعسفي الذي يمكن الأراذل من تسنم مقام الإمامة ويسلب الإمامة عن أهلها، فإنه جعل الشوري نقيضاللقول بالإمامة وعصمة الإمام. وهب أننا سايرنا الكاتب في هذا الاستغراب الساذج، فهل يا تري كان النبي غير معصوم لما استشار قومه في سياسة المدينة والحروب وقضايا تخص شؤونهم العامة. ألم يتحدث النبي وهو النبي الإمام المعصوم إلي عماله وولاته بلغة السياسة والشوري

ص: 63

وما شابه وهو الأمر الذي لم يتيسر لأنبياء من أولي العزم لم تنزع منهم النبوة فقط لأنهم لم يكونوا في مقام مبسوط اليد أو مقتدرا علي التسلط فعلا. ولكي أزيد المسألة وضوحا لا بد من القول: إن مقصودي الذي لم يفهمه الكاتب وفهمه الذي لم أقصده، هو أن الفصل بين الإمامة والخلافة هو مساوق للفصل الممكن بين نبي متسلط ونبي غير متسلط.

وحينئذ فليس المطلوب هو الفصل بل المطلوب هو الوصل. وحيث إن الفصل هو أمارة علي فساد الزمان وعلة في تعذر الإمكان، فالوصل مطلوب والفصل بلوي مرفوضة، وإذا كانت النبوة قد فرضت خصائصها علي مرحلة من تاريخ المسلمين سلموا بها ولم يقيسوا حالها علي حال عوام الخلق، فإنه لا مانع من أن تفرض الإمامة خصائصها علي مرحلة من التاريخ لا يتعين قياس حال عامة الخلق عليها، لأن بعد النبي صلي الله عليه و آله لم يكن الزمان خلاء من وظيفة أخري ما عدا النبوة، بل هي مرحلة الإمامة. فالإمامة التي نعتقد فيها ليست مجرد خلافة تأتي وتزول، فهذا اعتقاد ساذج لا يوجد إلا في عقل المخالف والخصم. فاعتقادنا أن الإمامة شأن عظيم ووظيفة كبري أعم وأشمل وأوسع من مجرد خلافة زمنية. وهنا محل النزاع.

وليس بعد ذلك للكاتب إلا أن يتوسل بالمعجم التقليدي لكتاب ومفهرسي الملل والنحل ليعتبر طريقتنا مغالية. بل اتهامنا باستئصال ما يخالف نظرية الغلاة واعتباره أن رأي ينزع للإطلاق. فيقول مسرفا في الحكم:

«ولا يسعنا هنا أن نناقش السيد إدريس الحسيني في أدلته حول نظريته المغالية في الإمامة، فوق السياسية، القريبة من النبوة، فهو يعترف في كتابه بأنه كتب ما كتب علي وجه السرعة، حيث يقول: «كانت تلك

ص: 64

باختصار ملاحظات سريعة كتبت علي عجل في خضم اطلاعنا علي ما حفل به كتاب أحمد الكاتب من شبهات أكل الدهر عليها وشرب، نحن أعرف بها منه، وما كانت لتمنعنا من الوصول إلي حقيقة الإمامة الكبري، أو بالأحري إلي جزء من سرها المكنون ليس إلا»(1).

إن الحكم علي الارتقاء بالإمامة إلي مقامها بالغلو، حكم عار عن الموضوعية. فالمسألة إما أنك تؤمن بإمامة بعد النبوة هي أوسع من أمر الإمامة السياسية، حيث وظيفتها البيان الواقعي للشرع وتأويل الكتاب ، أو لا. فللنبوة مقام كما للإمامة مقام كما للإمامة السياسية المحصورة مقام، فلا تزاحم. إن التسليم للنبي بالإمامة السياسية لم يكن ليزاحم مبدأ الشوري. وهو قبل ذلك تسليم من باب تحصيل حاصل، حيث إن كانت غاية الشوري اختيار الأفضل، فإن الطرق والوسائل المثبتة أكدت علي أفضلية النبي وكونه أولي بالمؤمنين من أنفسهم بنص القرآن. والأمر سيان بالنسبة للإمام. فهو بما أنه الأفضل كانت إمامته السياسية لا تزاحم مبدأ الشوري. وهذا ليس من بنات أفكاري، بل هو ما صح من كلام الرسول صلي الله عليه و آله حين تنصيب علي بن أبي طالب عليه السلام في غدير خم. فلئن كان الكاتب يتهمني بالغلو لارتقائي بالإمامة إلي هذا المقام، فكان أحري أن يتهم صاحب الدعوة صلي الله عليه و آله بذلك لما قال : «ألست أولي بكم من أنفسكم» قالوا: بلي يا رسول الله.. فقال: «من كنت مولاه، فهذا علي مولاه»!

فكما لا يخفي إن الرسول صلي الله عليه و آله جعل مقام ولاية الإمامة بمستوي ولايته في الخبر. فالمسألة ليس فيها غلو، بل هي الأصل والظاهر من حديث الغدير. ثم إن الغلو هنا لا معني له. فإما أن يكون الغلو حكما

ص: 65


1- المصدر السابق، ص 184.

شرعيا وقد ظهر أن الأخبار في المدرك الأساسي لهذا الاعتقاد. وإما أن يكون عقليا، فليس ثمة ما يؤكد علي ذلك، ما دام لهذا الاعتقاد نظائر في الكتاب والسنة. فهل كل ما لا يعتقد به الكتاب يعد غلوا.. أم هي اللغة التقليدية نفسها لتراث التجديف وأحكام القيمة التي لا ينهض بها دليل؟!

ولست في حاجة للإطناب في شرح هذا الحديث. لكن المسألة تتعلق بمنصب تم إلغاؤه ثم اختزاله وإخراجه عن موضوعه. وهذا الذي له صلة بقضية المهدي وإمامته. قضية واحدة أرخت بظلها علي التاريخ كله. غصب الإمامة نتج عنه فورا ما نتج. إن غياب الإمامة نتج عنه انسداد لا يزال يعظم باستمرار. ولحظة الانسداد الأعظم هي العلة التامة لعودة الظهور. ما دام أن الظهور ملازم لعودة الوضوح إلي الأحكام.

يقول الكاتب : «ومع ذلك فهو يعتقد أن نظريته هذه تمثل الحق المطلق، وان أية قراءة أخري مخالفة لها تمثل شبهات باطلة، وعندما نسأله أين مصاديق هذه النظرية، بغض النظر عن صحتها؟ ولماذا توقفت منذ وفاة الإمام الحادي عشر (الحسن العسكري) إذا كان يجب أن تستمر إلي يوم القيامة؟ وسواء كان الإمام الثاني عشر) موجودة أم لا، ألا تشكل الغيبة تناقضا صارخا وعمليا مع هذه النظرية؟ بمعني هل لدينا منذ ألف عام من يقوم بمهام الإمامة الإلهية؟ يجيبنا السيد الحسيني بالأجوبة التقليدية التي اعتاد الإمامية مواجهة تلك الأسئلة بها، وهي أنه لا تناقض بين ضرورة الإمامة،والغيبة، وأن الغيبة مسؤولية الأمة وليس الإمام».

أقول: هذا ليس صحيحا ولم أقل بمطلقية رأيي. فالمدار كان هو الدليل وليس مجرد رفض الرأي الآخر. إن قصة القبول بالآخر مسألة أخلاقية نؤمن بها وندافع عنها. ولكن في مقام الاستدلال لا يوجد ما

ص: 66

يدعوا للقبول والتعايش مع الآخر في حاق وعيه. فالمعرفة تطالبك بالدليل بينما الأخلاق تطالبك بالتعايش. وأن أخالف رأي الكاتب لا يعني أنني أستأصل وجوده وأتمني عدمه. إن الأمر لا علاقة له بهذه اللغة. ولذا لم يجد الكاتب غير هذه الأحكام والأوصاف إلا أن يطالبني بتظهير مصاديق هذه النظرية. وكيف لي أن أطالب بما هو ليس في صميم الاستدلال علي موضوعنا. فالمصاديق مع تعذرها لا ترفع الحقائق والأحكام من حاقها. فالإمامة صفة لا تتحقق إلا بتكامل شروط مركبة ، منها القبول بها وعدم وجود الموانع الموضوعية. فإذا كان هذا شأن الإمامة منذ التحق النبي صلي الله عليه و آله بالرفيق الأعلي، فإن لها نظائر في تاريخ الأوصياء، لا بل أيضا لها نظائر في تاريخ الأنبياء لما حدث أن واجهت بعضهم موانع فلم يقبل بهم قومهم وحاربوهم وتظاهروا عليهم ففروا إلي الله وصبروا وعانوا، فما كان لأحد أن يقول كما أراد الكاتب أن يقول: ما الفائدة من بعثة رسل وأنبياء لم يصدقهم أقوامهم؟! فإن صح هذا الاعتراض هناك صح هنا. والتفريق بين المتماثلين تعسف ظاهر.

لقد انزاح الكاتب عن سياق الدليل وها هو يقفز ليتحدث لي بالمصاديق الواقعية حسب ما تخيل من الموضوع بغض النظر عن النص، هو من زعم أن المدار هو النص في الإثبات أو النفي.

وقد حاول الكاتب أن ينزل رأيه هذا بخصوص الإمام الثاني عشر، وحاول أنيرد مقالتي دون دليل سوي أنها مبنية علي تهمة الخلط بين الإمامة والنبوة كما لو كنت نازلا من كوكب آخر لا أكاد أميز بين النبوة والإمامة. فيقول:

«وبدلا من أن يبحث حقيقة وجود الإمام الثاني عشر، ليتأكد من خطأ نظريته المثالية الوهمية، فإن الحسيني يقفز علي هذه المسألة، ويحاول إنقاذ النظرية العقيمة.

ص: 67

يقول: «الغيبة تأجيل لدور الإمام فرضته ظروف انعدام الأمن، وأن الكاتب يتوهم حينما يخلط بين غياب الإمام وعدم وجوده مطلقا، نعم، الإمامة مستمرة إلي يوم القامة، وغياب الإمام هو مصداق كبير علي تلك الاستمرارية»(1).و«إن ادعاء الكاتب بأن الغيبة تناقض فلسفة الإمامة صحيح لو كان الإمام إنما غاب لغرض الاستمتاع بغيبته، أما والظروف الأمنية لم تكن تسمح له وهو الذي يوكل بالقيام في الأرض، فإن وجوده يومئذ وفي كل زمان لا يتوفر فيه أنصار له، يبقي خطرا علي العالم. لم لا بد أن نوجه هذا السؤال إلي الكاتب : هل غيبة النبي أو موته يناقض فلسفة النبوة»(2).«ومع أن كلاما كهذا يعيدنا إلي إشكالية الخلط بين الإمامة وقيادة الدولة، فإننا نلاحظ أن شيئا مهما يغيب عن ذهن الكاتب، فإذا كان غياب الإمام يتناقض مع فلسفة الإمامة، فنحن نري أن غيابه لا يناقضها بل يعطلها»(3).

وهذا دليل لا نبغي مزيدا منه ما دام الكاتب لم يعترض عليه بدليل. بل اكتفي بوصف ما أقول وربطه بتأثير الخلط المذكور. وهو كما قلنا حكم لا موضوع له فيما قلناه. فلست في مقام القفز ما دمت سعيت لربط القضية بمركزها الأول هو الإمامة خلافا لما فعل الكاتب حينما قفز إلي موضوع المهدي خارج منطق الإمامة. وهو عين القفز والنط وخلافا لمنهج فهم منظومات الاعتقاد. فعلي الأقل لو كان الكاتب دربا في الاستدلال لبدأ من الإمامة وانتهي بالمهدي. وإن أي دليل يرد الإمامة سيرد حتما فكرة المهدي بمعناها الاثنا عشري، لكن الكاتب يدرك صمود الأدلة علي الأصل فيلتف عليه ويمضي إلي الفرع، وهذا دليل

ص: 68


1- المصدر السابق، ص 120.
2- المصدر السابق، ص 164.
3- المصدر السابق، ص 166.

علي أن الكاتب شاء التغليط لا التحقيق. لأن المنهجية قاضية بأن المنظومات الاعتقاد مداخل ومقدمات يجب أن يبدء الاستدلال منها. هذا مع أنني أنفرد برأي مستقل في الموضوع ؛ هو أن فكرة المهدي المركوزة في وجدان البشرية بصورة أعم مما يفرضه الاعتقاد الخاص، من حيث اعتقادها الجلي أو الباطن بحتمية المخلص والإحساس بالانتظار، كفيلة بأن تثبت حتمية الإمامة أيضا. فمن حيث أتيت ستجد الأمر ثابتا. فلا معني للإمامة إلا بوجود المخلص. ولا يستقيم اعتقاد البشر بالمخلص إذا لم يكن يتوفر علي مقام الإمامة.

هكذا يواصل الكاتب ردوده غير المنطقية - من وجهة نظر علاقة المقدمات بالنتائج وكذا علاقة الاستدلال بالمطلوب . حينما يقول:

«وينسي الحسيني هنا أن الإمامة تختلف عن النبوة، علي الأقل في مسألة واحدة، وهي التعامل المباشر مع الناس بصورة مستمرة، وأن النبوة مكرسة في القرآن الكريم، وقد ختمها الله بمحمد صلي الله عليه و آله وأن الإمامة، حسب الفرض، حاجة مستمرة بعد النبوة إلي يوم القيامة، ولا تحتمل الغيبة أو التأجيل أو البعد عن الناس، سواء بسبب من الناس أو من الأئمة، ولذلك فقد انتقد الإمام الرضا الواقفية الذين ادعوا غيبة والده موسي بن جعفر وقال لهم: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية..» إمام حي يعرفه، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية» وهو ما يتناقض مع غيبةالأئمة بأي شكل من الأشكال، علي العكس من غيبة الأنبياء أو وفاتهم، بعد أداء رسالتهم.. أن الحسيني ينسي كل ذلك فيقول: «أن الكاتب هنا لا يأتي بما يناقض دليل الغيبة، بل بما يناقض ادعاءه، فهو يري أن مهمة الإمام هي هداية الناس وتنفيذ الأحكام.. أقول: ما دام دور النبي صلي الله عليه و آله هو هداية الناس، وتنفيذ الأحكام وإخراج الناس من الظلمات إلي النور،

ص: 69

فلماذا ينتهي دور الأنبياء إذن في دنيا الخلق؟ وهل فعلا خرج الناس من الظلمات، وهل خرجوا من الحيرة؟ إذن مثل ذلك تماما سؤال الكاتب : لماذا غاب الإمام إذن؟.. أقول: أن وجود الإمام هو أيضا حجة تكليفية علي من أقصوه»(1).و«يقول الكاتب : وقد رد الإمام علي بن موسي الرضا علي الواقفية (... من مات وليس له إمام حي يعرفه يسمع له ويطيع..) وهذا كلام إمامي وليس هناك من ينكره، ونحن نقول: نعم لا بد أن يكون الإمام حيا متعينا حتي يعرفه الناس بالطرق المتسالم عليها في معرفة الأنبياء والأوصياء، نعم المهدي حي يعرف، وهو غائب ، وليس مجهولا أصلا. القضية أنه غائب، وفرق بين أن أقول لك : لا أدري من سيطرق علينا الباب غدة، وبين أن أقول : سوف يطرق علينا الباب غذا زيد من الناس، فالأول مجهول، والثاني معلوم، وكلاهما في محك الغيبة»(2).

وهكذا يحل الحسيني مشكلة الغيبة، بالادعاء أن الإمام الثاني عشر حي معروف! ويكاد يقول أيضا إنه ليس بغائب «فإن أمر الإمام لم يخف عن كل الناس، بل هناك خاصة الخاصة وفي طليعتهم النواب الأربعة»(3).

ولم يقل لنا لماذا عاب الإمام الرضا علي شيعة أبيه (الواقفية) الذين كانوا يعتقدون أن الإمام الكاظم حي ويعرفونه حق المعرفة؟ ولماذا استنكر عليهم القول بالغيبة؟ ورفض ادعاءاتهم الباطنية باستمرار حياة الكاظم خلافا للظاهر من وفاته؟

ص: 70


1- المصدر السابق، ص 153.
2- المصدر السابق ، ص 154.
3- المصدر السابق، ص 171.

ولو توقف السيد إدريس الحسيني هنا قليلا، وتأمل حديث الإمام الرضا، لأدرك بعمق خطورة المنهج الباطني الذي كان يسوق ما يشاء من النظريات ضد أئمة أهل البيت في حياتهم، واصطنع ما يشاء من نظريات وفرضيات أخري بعد وفاتهم، تحت غطاء (التقية). ولعرف الفاصلة الكبيرة بين فكر أهل البيت، وأساطير الغلاة العجيبة والغريبة. ولأيقن بأن نظرية الإمامة لا علاقة لها بأهل البيت ولا علاقة لهم بها.

ولكن السيد الحسيني يجمد عقله، ويؤجره للغلاة الباطنيين، ويأخذ علي «الكاتب أنه يستنكر مقولة التقية في فهم الكثير من المعاني»(1).

لا أجد هنا تسلسلا منطقيا. بل إننا إزاء نط من فكرة إلي أخري دونما رابط يصلها بمحل النزاع. أولا ليس للكاتب دليل علي أن المائز بين النبوة والإمامة ما قاله رجما بالغيب. بل إن حكايته عن أن ميزة المباشرة والاستمرارية بالنسبة للأنبياء ليس عليها دليل، إن لم أقل إن ثمة من الأدلة ما يدفعها. فثمة أنبياء غابوا عن قومهم فترة مثل موسي الذي غاب عن قومه فترة ويونس الذي غاب في بطن الحوت. وثمة أنبياء أرغموا علي الغياب كعيسي ابن مريم الذي رفعه الله إليه بعد أن هم القوم بقتله. وقبله إدريس الذي رفع في عليين. فالحديث عن ميزة الأنبياء من هذه الحيثية تخص لا دليل عليه. ثم إن الاستمرارية وعدم الغياب القسري خارجة عن ثبوت الإمامة، كما هي خارجة عن ثبوت النبوة. أما حديث الكاتب عن التناقض بين الغيبة ووظيفة الإمام، فلا أدري مرة أخري إلي أي معني للتناقض يذهب الكاتب. حيث ليس ثمة ما يحكم هذا الأصل المنطقي علي قضية محتملة وفي حاق الإمكان. فالغيبة أو فعل التغييب هو استثناء وعائق موضوعي له نظائر في تاريخ الأنبياء

ص: 71


1- المصدر السابق، ص 84.

71

والأوصياء. فأين التناقض هنا ما دام أن الكاتب لم يحص لنا وجود استحالة غيبة النبي أو الإمام، لكي ندرك هل كان استقراؤه عقليا أم هو مجرد تخرص. أما لسان الحديث المروي عن الإمام الرضا فهو في سياق دفع ادعاء غيبة باطلة وليس في سياق استشكال علي أصل الغيبة. فهذا تخرص واضح أيضا. كما أن معرفة الإمام ليس بالضرورة تتحقق بظهوره. فغياب إمام الزمان لا يؤثر في معرفة الناس به. وإذا حصل أن الغيبة حصلت في حق أنبياء بعثوا في زمن محصور فما وجه الغرابة أن تحصل الغيبة فيمن نصب للإمامة في زمن مفتوح؟!

إن كل التعليلات التي ساقها الكاتب في دفع مفهوم الغيبة لا تقع في إطار المستحيل التحقق بله أن لها نظائر منطوقة ومفهومة في محكم الكتاب ومتواتر السنة. لكن تكثيف الحجج الواهية وضمها إلي بعضها ضما معتسفا دليل علي هزالها لدي المحتج قبل المحتج عليه. وهي فوق هذا وذاك تعليلات مردود عليها. وعجبا أن الكاتب الذي يسوق لي مرة أخري الاحتجاجات نفسها ما كان له الحق بموجب علم المناظرة وأخلاقياتها أن يعيد تقديمها مرة أخري بعد أن نوقشت عبر تاريخ الحجاج حول الغيبة. كما أننا رددنا علي الكاتب حول ذلك دون أن يقف عندها ويردها أولا قبل أن يتجاهلها كما لو أنه ليس من أمر وقع. ورأيي أننا لو بقينا نناقش الكاتب إلي يوم القيامة فلن يسلم بما وطن نفسه علي تبنيه بأدلة مهما اكتشف هشاشتها، لأنه وجد نفسه أمام حقيقة أرغمته علي هذه الفوضي في الاستدلال: أنه أراد الدنو من الغيبة فسقط حتما في الإمامة. فكان لا بد أن يواجه كل هذه المنظومة الاعتقادية مما تطلب منه اقتدارا أكبر وأدوات أوفر. ولكنه لو استمر في هذا فسيقع لامحالة في النبوة والألوهية والغيب. فليطبق منهجه إذن دون توقف ليري أين سيبلغ به الأمر. فوقوفه في هذا المفصل هو وقوف جزافي.

ص: 72

يقول الكاتب: («والغريب أن يأتي رجل بعد أكثر من ألف عام ليصدقهم في كل ما يقولون! ويتحدث عن أساطيرهم وكأنها حقائق غير قابلة للجدال، ويصب لعناته علي من يكفر بها». يقول السيد الحسيني بكل ثقة واطمئنان: «إن كتمان ولادة الإمام (عج) وإحاطته بحزام من السرية، في لحظة جن فيها جنون السلطة في أن تضع يدها علي المولود الخطير»(1).ويدعي وجود «مضايقات وحصار ضربته السلطة حول أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد كان خلفاء بني العباس يقيمون ألف حساب لهؤلاء الأئمة رغم موقفهم الصامت قبل أن يقيموا حسابا واحدا لكل الثورات المناهضة لهم في مختلف البلاد. وهذا إنما يعني أن الخلفاء أدركوا أن خطر هؤلاء هو خطر استراتيجي، ما داموا يملكون برنامجا حقيقيا وجذريا » )(2).

ليتني أعرف أي معني للأسطورة يحمل أحمد الكاتب ؟!

فلو كان المقصود منها حقائق غير واقعية لأنها من الغيب الذي نطقت به النصوص وعاضضته الأدلة النقلية والعقلية، فإننا أكدنا أن لذلك نظائر تتماشي مع منطق الرسالة. فليس بدا أن تكون الإمامة مما حصل في التاريخ، والغيبة مما له نظائر. ليس ثمة إذن من داعي لإقحام الأسطورة في مثل هذا الحجاج، لأن المدار هو الأدلة العقلية والنقلية. وقد ثبت أن هذا الاعتقاد لا يقع في المحال العقلي وعليه من الأدلة النقلية ما يصرف المرء عن الأسخفاف في أقل التقادير. لأن الاستناد إلي هذا الحكم يعكس منظورا مسبقا عن الشكل الممكن الاعتقاد به والشكل غير الممكن الاعتقاد به بالدليل وغير الدليل. فمشكلة الكاتب هي مع

ص: 73


1- المصدر السابق، ص 131.
2- المصدر السابق، ص 137.

فلسفة الغيب التي هي أس الاعتقاد. حتي أن الإمام الصادق عليه السلام صرح في تأويله للغيب حسب الأخبار، في الآية الكريم:«المصدر السابق، ص 137.الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» بأنها الإمام المهدي (عج). وذلك واضح لأنه من أصدق مصاديق كلي الغيب. لكن كاتبنا الذي يؤكد علي القراءة الطبيعية والظاهرية للتاريخ ها هو من ناحية أخري يشكك في درجة الاستنفار الذي قامت به الأجهزة العباسية لملاحقة كل من يصدق عليه المهدي شأن فرعون مع موسي في إحدي الأمثلة النظيرة التي فسر بها الإمام الصادق عليه السلام الأمر. وازدادت درجة الاستنافر بدنو مولد الثاني عشر (عج). فالعباسيون الذين هم أدري الناس بحقيقة الأمر، والذين حاولوا جهدهم صرفها لخلفائهم عبثا ما كانوا مستعدين لظهوره البتة. ولا أدري كيف ينفي درجة العنف والإرهاب العباسي في حق العلويين.

فأحمد الكاتب لو قرأ التاريخ قراءة طبيعية وظاهرية كما يزعم الصعق من شدة الظلم والقتل الذي ابتلي به أهل بيت النبي علهم السلام. ثم من قال إن التاريخ يقرأ بطريقة ظاهرية. وقد ظهر أن ما قدمه تاريخنا إن لم تعمل النظر فيه مليا لن يبوح لك إلا بما لم يكن طبيعيا في نقل الأخبار. إن تاريخنا لا يبوح بشيء حقيقي إلا بأن نقف علي ما بين السطور ونعمل التحليل والتفكيك، أي استلهام المعني الباطني للأحداث والنصوص. الباطنية يا أحمد الكاتب ليست سبة إلا في تقاليد كتاب ومفهرسي الملل والنحل ممن ينتمون في العلم والذوق إلي القرون الوسطي. أما اليوم، فإن الباطنية هي تأويل النص وتفكيك الحقائق ونقد المعني وتحليل الخطاب.. إنها هي وسيلة كل العلوم الإنسانية والتجريبة وهي سمة رشد البشرية اليوم. أما الظاهرية التي تفيد معني الفهم الأمي الساذج الذي لا يدنوا من طبقات النص وما بين السطور وما وراء المعني.. فذلك هو ما يستحق التهمة. وتاريخنا هو كذلك. وفهمنا وطريقة

ص: 74

تعاطينا مع المختلف هي أيضا كذلك. إن للتاريخ مكرا. وهو يحتوي علي تراث جمعي لاشعوري أكثر مما هو ممارسة إنسانية واعية. ولا أحتاج أن أطنب كثيرا في أمر أدركته الإنسانية في رحلتها في التحقيق. فأقول إن المدار هو الأدلة.

والكاتب لم يقف عند الأدلة ولم يحقق فيها التحقيق المطلوب. لم يكن المقريزي ولا النسائي من أعلام السنة والمؤرخين باطنية لما كتبوا عن فضائل أهل البيت عليهم السلام وأثبتوا لهم ما أثبت الشيعة لأئمتهم. وأحيلك إلي المقريزي في فضل أهل البيت والنسائي في خصائص أمير المؤمنين وأبو جعفر الإسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة في فضائل أمير المؤمنين، وابن حجر في الصواعق المحرقة وأيضا في إثباته للمهدي، وهم ليسوا باطنية ولا هم يحزنون. إذن فالكاتب يفرض علينا أن نقرأ التاريخ بطريقة طبيعية وظاهرية. كيف؟ لنطبق ذلك علي قصص القرآن النقول : إن القراءة الطبيعية التي يفرضها الكاتب، هي أن نرفض كل غيب لا يستسيغه ذوق مادي، أو ينعثه الناس الغفل بالخرافة. إذن قصة أهل الكهف خرافة.. وقصة رفعة المسيح خرافة.. وقصة انشقاق البحر لموسي خرافة.. وإحياء الطير لإبراهيم خرافة.. وقتال الملائكة مع المسلمين خرافة.. هذا هو التحليل النفسي للخطاب الكاتبي: أنه يحمل موقفا مسبقا من الغيب. بقدر ما لا يستعمله إزاء بعض الحقائق تراه يستحضره بقوة وتسرع أمام قضايا أخري ليس المهدي إلا مصداقا واحدا من مصاديقها. ومع ذلك يقول الكاتب :

(«وبعد التزامه بالمنهج الباطني، ورفضه للتاريخ الرسمي العام، لم يجد الحسيني حاجة أو إمكانية لبحث موضوع الروايات التاريخية السرية التي تحدثت عن ولادة (الإمام الثاني عشر) إذ إنه يفترض أنها سرية غير قابلة للبحث، ولا يجد حرجا من التصديق بها بعيون مغمضة في ظلام

ص: 75

السرية والكتمان. وإذا كان ثمة أي مجال للتفكير فلا بد أن يفكر بالدليل العقلي (الافتراضي) و«أن الدليل العقلي لا يقوم علي الفراغ، كما يحاول الكاتب هنا أن يثبت، بل هو دليل يقوم علي أدلة نقلية ونصوص»(1).«إن أمر الغيبة هو أمر غيبي تم بكيفية غيبية. ولأنه غيبي، فإن الموقف العقلي منه هو التسليم، ولا يعتبر ذلك عجزا في تفسير أسباب الغيبة. إن المسألة في حقيقتها غيبية فلا مجال للتعليل، وأن كل ما فسروا به الغيبة إنما يصلح من باب المقتضي وليس العلة التامة. فإن حكمة الله وتدبيره مما لا تحيط به العقول الناقصة»)(2).

لم يفهم الكاتب قصدي. فما قصده لم يكن رأيي. ليس ذلك لأن كلامي آب عن الإفهام فهو بين. وليس لأن رأي الكاتب لا يقوي علي الفهم فهو سيد الفاهمين إن أراد. لكن المسألة هي في إرادة الاعتقاد. وحيث تحدثت عن الغيب لم أقصد أن لا دليل علي الغيبة. وحيث ذكرت أن الغيبة أمر غيبي لا يعني ذلك قولي بانعدام الأدلة عليه. فالكاتب الذي يدعوني للتحقيق في الأخبار الدالة علي أمر المهدي، هي أولا وقبل كل شيء دعوة موجهة إليه. فهو لم يحقق في كل تلك الأخبار ولا أنه حقق في كل الروايات. ولا يغنيه أنه وقف علي حفنة من أخبار المهدي لا يزال علماءنا لا يعتبرونها صحيحة دون أن يؤثر ذلك في اعتقادهم لوجود نظائرها الصحيحة. وحيث وجب مع تحقق الصحيح أن تصحح الضعيفة التي لم تتوفر فيها شروط الصحة. فحينما أدرك أهل الحديث صحة ما ورد عن الإمام المهدي من طريق الفريقين. وبعد أن جعلوا ما صح دليلا علي اعتبار ما لا يصح بطرق أخري مع انحفاظ المضمون نفسه، استدلوا بها في معرض الاستدلال دون تمييزها عن الصحيح. وقد حصل أن

ص: 76


1- المصدر السابق، ص134
2- المصدر السابق، ص 167

الكاتب ادعي ادعاءات في موضوع رد تلك الأخبار. وهذا أمر رد عليه فيه. ولا زلنا لم نر له رأيا في قائمة الأخبار الصحيحة التي أغفلها في اسقصاءاته الناقصة أو تلك التي بان له وجه صحتها مع من رد عليه تباعا، مما لا مجال لبسطه هاهنا. وكان علي الكاتب أن يراجع نفسه في ذلك قبل أن يستمر علي اعتقاده القديم. فالكاتب لا يهمه الدليل ولا يهمه أن يراجع رأيه، لأنه وإن زعم أن غيره يري رأيه مطلقا ، فهو عمليا وبرفضه الحجج التيسيقت أمامه يؤكد علي أنه متعصب لرأيه بلا دليل. سوي قرائن ما كان له أن يتمسك بها إلا بعد اسقصاء طرق الدليل.

إن أحمد الكاتب لن يكون له من مصداقية فيما زعم وادعي إلا إذا رد علي كل الردود بالوقوف علي ما ساقه منتقدون من أدلة علمية علي إيراداته. وأنا هنا أقترح عليه رد ما جاء في الموسوعات الإمامية المتخصصة في جمع أخبار المهدي (عج) قبل أي كلام آخر. عليه أولا أن يرد كل الأخبار التي سيقت باعتبارها صحيحة تكذب مدعاه. فما لم يرد تلك الحقائق ليس له الحق في أن يحدث منتقديه بالنفس نفسه واللغة نفسها والحقائق نفسها والاعتقاد نفسه كما لو أنه لا وجود لمن احتج عليه ولا وجود لدليل دفع استشكاله. إنها إذن المغالطة الكبري في قضية خطيرة لا تحتمل الهزل! |

أحب أن أنهي حديثي مع الكاتب بإيراد بعض الشواهد الدالة علي المطلوب إن كان لا يزال يهم الكاتب شيئا من الدليل. فليس هو من سيعمل علي إنكار ذلك، فقد فعلها بعضهم وعلي الطريقة نفسها من الزعم. إن زعم الكاتب كما هو زعم الكثير ممن عارض حقيقة المهدي عبر اللجوء بخفة إلي إنكار جميع ما ورد فيها ، لا يستقيم مع هذا الكم الهائل من الأخبار والمرويات التي عالج بها المفسرون مجموعة من الآيات الناطقة بما لا يستقيم أمره إلا مع هذه الحقيقة الكبري. وحتي لا

ص: 77

أصب هنا ما ورد عن طريق أهل البيت عليهم السلام وهو صريح وواضح ومنسجم مع مقاصد الغيبة ومقاصد الظهور، سأكتفي ببعض ما ورد من مظان السنة وهو لعمري يكفي دليلا علي صمود هذه الحقيقة رغم محاولات التحريف والإخفاء. ذلك من منطلق اعتقادي بأن الذين نفوا الإمامة واستعاضوا عنها بأمور أخري لقادرون علي نفي حقيقة المهدي والاستعاضة عنها بأي فكرة أخري. تلك هي الحكاية من المبتدأ حتي الخبر. لكن الأحري أن أوجه الكاتب أو بالأحري قراءه إلي ما لا يمكن تجاوزه بخفة في المقام. فهذا الطبري پورد في مورد القول فيتأويل قوله تعالي :« لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». فيقول : قال أبو جعفر : أما قوله عزوجل : «لَهُمْ»، فإنه يعني : الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله : «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ»، فإنه يعني ب-«الخزي»: العار والشر والذلة إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية». .

هذا ما يتصل بالخزي في الدنيا أما في معني الآخرة فيقول : حدثنا موسي قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ»، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضي عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية : لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - علي منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم»(1).

بل إنه يورد كلامة آخر:

«وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا، بخروج المهدي عند السدي،

ص: 78


1- الطبري: ج2 ص 525.

وعكرمة، ووائل بن داود. وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون»(1).

أما ابن كثير ، فله كلام آخر، حيث عده من الخلفاء الاثني عشر. بعد أن أول الباقي بغير الاثني عشر الذين زعمهم الإمامية. فهو من جهة كان قد اعتقد بصحة حديث أن الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش، فلم يجد أمامه إلا أن ينتقي من يصلح في هذه المجموعة حتي أنه أخرج منها الحسن وأدخل فيها الأمويين.. فها هو يعترف في تفسيره هنا بأن المهدي هو الثاني عشر. يقول:«ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلي الله عليه و آله، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلا وقسطة، كما ملئت جورا وظلما »(2).

وقد أكد القرطبي علي تواتر أخبار المهدي. ورد خبر «لا مهدي إلا عيسي» وضعفه. مثل هذا سبق من ابن كثير في التفسير أنه عده من الضعاف فلا يصح وهو موقف محدثين وعلماء كثر منهم ابن خلدون في تحقيق أمر المهدي من المقدمة. يقول القرطبي في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَيٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ »بريد محمدا . (بالهدي) أي بالفرقان. «وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ» ، أي بالحجة والبراهين . وقد أظهره علي شرائع الدين حتي لا يخفي عليه شيء منها، عن ابن عباس وغيره. وقيل : «ليظهره» أي ليظهر الدين دين الإسلام علي كل دين. قال أبو هريرة والضحاك : هذا عند نزول عيسي علي .

ص: 79


1- الطبري: ج115 ص390
2- ابن كثير : ج6 ص 78.

وقال السدي : ذاك عند خروج المهدي، لا يبقي أحد إلا دخل في الإسلام أو أدي الجزية.

وقيل: المهدي هو عيسي فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت علي أن المهدي من عترة رسول الله صلي الله عليه و آله، فلا يجوز حمله علي عيسي.

والحديث الذي ورد في أنه (لا مهدي إلا عيسي) غير صحيح.

قال البيهقي في كتاب البعث والنشور : لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهومجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلي الله عليه و آله، وهو منقطع.

والأحاديث التي قبله في التنصيص علي خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلي الله عليه و آله أصح إسنادا.

قلت : قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا (كتاب التذكرة) وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله »(1).

وفي تفسير ابن أبي حاتم: «حدثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حماد ابي طلحة، ثنا أسباط، عن السدي «أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي فتح القسطنطينية وقتلهم فذلك الخزي»، وروي عن عكرمة، ووائل بن داؤد نحو ذلك(2).

وفي تفسير الآلوسي: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّيٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(3): «وَقَاتِلُوهُمْ»

ص: 80


1- التذكرة : ج8 ص 122.
2- تفسير ابن أبي حاتم: ج1 ص 308.
3- سورة الأنفال، الآية : 38

عطف علي (قل) وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه :«فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ»(1)من الوعيد «حَتَّيٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يوجد منهم شرك كما روي عن ابن عباس. والحسن، وقيل : المراد حتي لا يفتتن مؤمن عن دينه «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل : لم يجيء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقي علي ظهر الأرض مشرك أصلا علي ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالي عنه »(2).

وأيضا قوله: «إن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالي : «فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا»(3)الخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء»(4)

هذه عينات من تفاسير المسلمين وهم كما رأيت في العموم من أهل السنة.

وفي جملة ما ورد عند أهل السنة من أخبار في شأن المهدي ما صححه أعلام محدثون متأخرون. وأنا ممن يثق في كفاءة المحدث اللاحق أكثر من المحدث السابق، للنكتة المعروفة بتسلط المتأخير علي المصادر أكثر من السابقين. فهذا الألباني يصحح بعضا مما ورد من أخبار المهدي في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، حيث يذكر مثلا :

ص: 81


1- سورة الأنفال، الآية : 38.
2- تفسير الألوسي : ج 7 ص 82.
3- سورة إبراهيم، الآية: 21.
4- تفسير الألوسي، ج9 ص 383

• ««يخرج في آخر أمتي المهدي ؛ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعا أو ثمانية. يعني : حجة».

يقول الألباني: (صحيح)» (ج2 ص 382) .

• التملأن الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا مني اسمه اسمي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما».

يقول الألباني: (صحيح)» (ج4 ص38).

• «منا الذي يصلي ابن مريم خلفه».

يقول الألباني: (ج5 ص 371) «(صحيح فقد جاء مفرقا في أحاديث) انظر الكتاب وفيه : قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي صلي الله عليه و آله بمجيء المهدي وأنه من أهل بيته... وأنه يخرج مع عيسي عليه السلام فيساعده علي قتل الدجال... وأنه يؤم هذه الأمة وعيسي يصلي خلفه».

• المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة».

يقول الألباني: (صحيح)» (ج5 ص 486)

• المهدي من ولد العباس عمي

يقول الألباني: «موضوع». (ج1 ص 81)

يقول الألباني أيضا: «تنبيه : إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريبة : «المهدي من ولد فاطمة» لصحته وشدة ضعف مخالفه، وعليه : لا مسوغ لمحاولة التوفيق بينهما كما فعل بعض المتقدمين. والأستاذ

ص: 82

المودودي رحمة الله في «البيانات»(1)، والله تعالي هو الموفق لا إله سواه»(2).

• التملأن الأرض جورا وظلما، فإذا ملئت جورا وظلما، بعث الله رجلا مني، اسمه اسمي، فيملؤها قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما».

يقول الألباني في السلسلة الصحيحة» 4 / 38: «أخرجه البزار (ص 236 - 237 - زوائد ابن حجر) وابن عدي في «الكامل» (129 /1) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2 / 165) عن داود بن المحبر حدثنا أبي المحبر بن قحذم عن أبيه قحذم بن سليمان عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا. و قال البزار : «رواه معمر عن هارون عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق عن أبي سعيد، وداود وأبوه ضعيفان». وكذا ضعفهما الهيثمي في «المجمع» ( 314/7 ) فقال: رواه البزار والطبراني في «الكبير» و«الأوسط» من طريق داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه، وكلاهما ضعيف». كذا قال! وأما في «زوائد البزار» فقد تعقب البزار بقوله عقب كلامه الذي نقلته آنفا : «قلت: بل داود كذاب».

وأقول: هو كما قال، ولكن ألا يصدق فيه قوله صلي الله عليه و آله في قصة شيطان أبي هريرة: «صدقك وهو كذوب»، فإن هذا الحديث ثابت، عنه صلي الله عليه و آله من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة، منها طريق أبي الصديق التي أشار إليها البزار، غاية ما في الأمر أن يكون داود بن المحبر كذب خطأ أو عمدا في إسناده الحديث إلي والد معاوية بن قرة فإن المحفوظ أنه من رواية معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري به(3).

من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني حدثنا عمر (وفي تلخيص المستدرك»: عمرو بن عبيد الله العدوي عن معاوية بن قرة عن

ص: 83


1- البيانات للمودودي، ج 1 ص 115، 159 و165.
2- البيانات للمودودي، ج 1 ص 115، 159 و165.
3- هكذا أخرجه الحاكم (4/ 465).

أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به أتم منه وقال : «صحيح الإسناد»!

قلت : ورده الذهبي بقوله: «قلت: سنده مظلم». وكأنه يشير إلي جهالة العدوي هذا، فإني لم أجد من ترجمه، لا فيمن اسمه (عمر) ولا في (عمرو).

لكن رواية معمر عن هارون - وهو ابن رئاب - التي علقها البزار، تدل علي أنه قد حفظه عن معاوية، وهذا هو الصواب الذي نقطع به لأن المعاوية متابعات كثيرة بل هو عندي متواتر عن أبي الصديق عن أبي سعيد الخدري، أصحها طريقان عنه :

الأولي : عوف بن أبي جميلة حدثنا أبو الصديق الناجي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ :

«لا تقوم الساعة حتي تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وعدوانا »(1)، وقال الحاكم: صحيح علي شرط الشيخين». ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وأشار إلي تصحيحه أبو نعيم بقوله عقبه : «مشهور من حديث أبي الصديق عن أبي سعيد». فإنه بقوله: «مشهور» يشير إلي كثرة الطرق عن أبي الصديق، كما تقدم، وأبو الصديق اسمه بكر بن عمرو، وهو ثقة اتفاقا محتج به عند الشيخين وجميع المحدثين، فمن ضعف حديثه هذا من المتأخرين، فقد خالف سبيل المؤمنين، ولذلك لم يتمكن ابن خلدون من تضعيفه، مع شططه في تضعيف أكثر أحاديث

ص: 84


1- أخرجه أحمد، (/36) وابن حبان (1880) والحاكم (4/ 557) وأبو نعيم في الحلية» (101/3 ).

المهدي بل أقر الحاكم علي تصحيحه لهذه الطريق والطريق الآتية، فمن نسبإليه أنه ضعف كل أحاديث المهدي فقد كذب عليه سهوا أو عمدا.

الثانية : سليمان بن عبيد حدثنا أبو الصديق الناجي به، ولفظه :«يخرج في أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة، يعيش سبعة أو ثمانية يعني حججا»(1).

قلت : ووثقه ابن معين أيضا، وقال أبو حاتم : «صدوق». فهو إسناد صحيح كما تقدم عن الحاكم والذهبي وابن خلدون. وبقية الطرق والشواهد قد خرجتها في «الروض النضير» تحت حديث ابن مسعود (647) من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عنه . ورواه أصحاب السنن وكذا الطبراني في «الكبير» أيضا (10213 - 10230) وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان (1878) ولفظه عند أبيداود «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم الطول الله ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض...»

الحديث وممن صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال(2): «إن الأحاديث التي يحتج بها علي خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره». وكذا في «المنتقي من منهاج الاعتدال» للذهبي (ص 539)».

ص: 85


1- أخرجه الحاكم (4/ 557 - 558) وقال: «صحيح الإسناد». ووافقه الذهبي وابن خلدون أيضا فإنه قال عقبه في المقدمة» (فصل 53 ص 250): مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حبان في «الثقات»،ولم يرد أن أحدا تكلم فيه».
2- في «منهاج السنة» (4/ 211) .

بعد هذه الجولة في مناقشة صحة أخبار المهدي، يؤكد الشيخ الألباني بالقول :

«قلت : فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث قد صححوا أحاديث خروج المهدي، ومعهم أضعافهم من المتقدمين والمتأخرين أذكر أسماء من تيسر لي منهم :

1- أبو داود في «السنن» بسكوته علي أحاديث المهدي.

2- العقيلي.

3- ابن العربي في «عارضة الأحوذي).

4 - القرطبي كما في «أخبار المهدي» للسيوطي.

5- الطيبي كما في «مرقاة المفاتيح» للشيخ القارئ؟

6- ابن قيم الجوزية في «المنار المنيف»، خلافا لمن كذب عليه.

7. الحافظ ابن حجر في «فتح الباري».

8- أبو الحسن الآبري في «مناقب الشافعي» كما في «فتح الباري».

9- الشيخ علي القارئ في «المرقاة».

10 - السيوطي في «العرف الوردي».

11 - العلامة المباركفوري في «تحفة الأحوذي».

وغيرهم كثير وكثير جدا».

وقد جاء رد الألباني علي الشيخ الغزالي الذي تسرع في نفيه أخبار المهدي من دون تحقيق. فبعد الذي أورده الألباني من صحة تلك الأخبار بعد ثبوتها يقول:

ص: 86

«بعد هذا كله أليس من العجيب حقا قول الشيخ الغزالي في مشكلاته» التي صدرت عنه حديثا (ص 139): «من محفوظاتي وأنا طالب أنه لم يرد في المهدي حديث صريح، وما ورد صريحا فليس بصحيح» ! فمن هم الذين لقنوك هذا النفي وحفظوك إياه وأنت طالب؟ أليسوا هم علماء الكلام الذين لا علم عندهم بالحديث، ورجاله، وإلا فكيف يتفق ذلك مع شهادة علماء الحديث بإثبات ما نفوه؟! أليس في ذلك ما يحملك علي أن تعيد النظر فيما حفظته طالبا، لاسيما فيما يتعلق بالسنة والحديث تصحيحا وتضعيفا، وما بني علي ذلك من الأحكام والآراء، ذلك خير من أن تشكك المسلمين في الأحاديث التي صححها العلماء المجرد كونك لقنته طالبا، ومن غير أهل الاختصاص والعلم؟! |

واعلم يا أخي المسلم أن كثيرا من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع، فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقا، بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي صلي الله عليه و آله بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنةكما صح عنه صلي الله عليه و آله، فكما أن ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه وترك الاستعداد والعمل لإقامة حكم الله في الأرض، بل علي العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعيا من نبينا محمد صلي الله عليه و آله الذي ظل ثلاثة وعشرين عاما وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته فماذا عسي أن يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعا وأحزابا ،

ص: 87

وعلماءهم - إلا القليل منهم - اتخذهم الناس رؤوسا ! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا بلا شك يحتاج إلي زمن مديد الله أعلم به، فالشرع والعقل معا يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين، حتي إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلي النصر ، وإن لم يخرج فقد قاموا هم بواجبهم، والله يقول : «ووقل اعملوا فسيري الله عملكر ورشوهره».

ومنهم - وفيهم بعض الخاصة - من علم أن ما حكيناه عن العامة أنه خرافة ولكنه توهم أنها لازمة لعقيدة خروج المهدي، فبادر إلي إنكارها، علي حد قول من قال :

«وداوني بالتي كانت هي دواء» ! وما مثلهم إلا كمثل المعتزلة الذين أنكروا القدر لما رأوا أن طائفة من المسلمين استلزموا منه الجبر !! فهم بذلك أبطلوا ما يجب اعتقاده، وما استطاعوا أن يقضوا علي الجبر! وطائفة منهم رأوا أن عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالا سيئا، فادعاها كثير من المغرضين، أو المهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة، كان من آخرها فتنة مهدي (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأوا أن قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة! وإلي ذلك يشيرالشيخ الغزالي عقب كلامه السابق ! وما مثل هؤلاء إلا كمثل من ينكر عقيدة نزول عيسي عليه السلام في آخر الزمان التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة، لأن بعض الدجاجلة ادعاها ، مثل ميرزا غلام أحمد القادياني، وقد أنكرها بعضهم فعلا صراحة، كالشيخ شلتوت، وأكاد أقطع أن كل من أنكر عقيدة المهدي ينكرها أيضا، وبعضهم يظهر ذلك من فلتات لسانه، وإن كان لا يبين. وما مثل هؤلاء المنكرين جميعا عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله عزوجل

ص: 88

بدعوي أنه ادعاها بعض الفراعنة! (فهل من مذكر)»(1)، انتهي كلام الألباني.

كان هذا ممتعا من خبير بالأحاديث. ورأيتم كيف أن من السنة من حاول أن يداوي بالتي هي الداء، فذهب إلي رفض ما صح و«صحصح » من أخبار المهدي. وهي نفسها دليلك إن تأملتها علي رأس الخيط الضائع.

وكلام الشيخ الألباني هنا واضح لا غبار عليه. فهو بعد إثبات جهل من أنكرها بالأدلة الوافية وضعهم في حرج شديد. وهي تغني غناء فاحشا عن أي كلام آخر إثباتا وتصحيحا لأخبار المهدي (عج) .

قد يري البعض أن الذين تورطوا في رد أخبار المهدي والتشكيك فيها هم علي الموقف نفسه : عناد وتسرع وخفة في التعاطي مع وجود الأخبار وطرقها ودلالاتها. فليس غريبا أن استشكال الألباني علي هؤلاء مما له نظير في مقامنا. وهذا لا يجعلني أتجاهل ما بإمكان أن يدور في خلد الكاتب من أن الأمر هنا يقع موقع القياس مع الفارق. إنني لا زلت علي التسلسل المنطقي نفسه في مناقشتي للكاتب. فهو إذ يعتبر متسائلا : أي قيمة للمهدي وللإمام إذا كان غائبا ؟!. فأقول:

إذا كان مهدي الأمة علق علي ظهوره أمر عظيم وشأن خطير جلل، فلماذا لم يظهر للناس؟ فسواء قلنا ولد أو سوف يولد - مع أن لسان الأخبار تتحدث عن ظهوره لا عن ولادته، فلا يظهر إلا المخفي الغائب -، فالأمر سيان بحسب منطق الغيبة. فالمقاصد التي ستتحقق مع ظهوره لا تحتمل الإرجاء في دنيا الخلق. وقد يبدو للبعض أن ظاهرها

ص: 89


1- صحيح الألباني، ج4 ص 103.

يدل علي أنها بخلاف قاعدة اللطف. وهنا يظهر أن من قال بولادته أقرب إلي المنطق ممن قال بعدمها. ذلك لأن امتناعه عن الظهور للأسباب التاريخية المشهودة دال علي أن السبب يتعلق بموقف الناس ومصائر الخلق وليس بسبب منه ولا من الله. وهذا لا يعارض مبدأ اللطف بل يؤكده. فالكاتب الذي يحتج ويتساءل ما جدوي غيابه، أقول ووفق ما تقدم ممن صحح خبر المهدي ولم يؤكد ولادته : ما جدوي عدم ميلاده اليوم. إن كل شبهات الكاتب يمكن نقلها حتي إلي مجال السنة وضد من قال بثبوته دون تأكيد ولادته. وحينئذ لن يبق من مائز في الموضوع بالنسبة للكاتب ومن يحمل منطقه سوي أن الموعود لا يمكن أن يكون مولودا لثقل هذه الحقيقة علي الاعتقاد. فتلك ستكون إشكالية أخري تتعلق بموقف الكاتب من غيب الله وليس من غيبة الموعود (عج) .

ص: 90

الفصل الثاني: المناظرة

اشارة

ص: 91

ص: 92

1- الأخ العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قرأت عدة مرات التعقيب الذي كتبته علي تعقيبي علي كتابك (من الشك إلي الشك) الذي كتبته ردا علي كتابي (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشوري إلي ولاية الفقيه).

ووجدتك في هذا التعقيب الأخير تكرر النقاط التي ذكرتها في كتابك السابق، وتأخذ علي إثارة الشك حول المهدي والإمامة، وتقول إن هذا الشك غير منهجي لأنه يؤدي إلي الشك، وربما يجب أن يؤدي إلي مزيد من الشك حول أمور أخري كالنبوة والألوهية وما شابه من الأمور الغيبية. كما وجدتك ترفض اتهاماتي السابقة لك باتباع المنهج الباطني، وتأخذ علي اتباع ما تسمية المنهج السطحي الساذج في قراءة التاريخ. وهناك نقاط جزئية كثيرة لا أجد من المصلحة التشاغل بالرد عليها بدلا من تركيز الحوار حول النقاط الأساسية.

وأقول لك باختصار : إني أرفض نظرية الإمامة بكل معانيها السياسية وما فوق السياسية، وإني أنظر إلي أئمة أهل البيت كما أنظر إلي العلماء والرجال الآخرين بدون أي منصب إلهي لا سياسي ولا علمي، وكلما يقول به الإماميون هو ادعاء لا دليل عليه. ويتجلي بطلان

ص: 93

ذلك الادعاء في وصوله بنظري إلي طريق مسدود بوفاة الإمام العسكري دون ولد لا ظاهر ولا مستور، وعدم تحدثه عن مصير الإمامة ومستقبلها، واضطرار الشيعة الإمامية إلي اختراع ولد له ونسبته إليه بعد وفاته قسرا وظلما.

وكنت قد توصلت إلي بطلان نظرية الإمامة الإلهية لأهل البيت من خلال بحثي لموضوع ولادة الإمام الثاني عشر «محمد بن الحسن العسكري» التي لم أجد عليها دليلا علميا شرعيا قاطعا، واعتراف كبار علماء الشيعة المتقدمين بأنهم يضطرون إلي افتراض وجود الولد للإمام العسكري إنقاذا لنظرية الإمامة، وإلا كان عليهم وعلينا الكفر بنظرية الإمامة إذا لم يكن لها مصداق خارجي.

وأنت تريد أن تصل إلي إثبات وجود ذلك الولد «محمد بن الحسن العسكري» عن طريق التشبث بنظرية الإمامة، وبتحليلاتك الفلسفية عن ضرورة المنقذ والمصلح وما إلي ذلك. وقد رأيتك هنا تقوم بعمليتين خاطئتين هما: التسليم بنظرية الإمامة بدون أدلة شرعية كافية، ومجاراة الإمامية الاثني عشرية في افتراض وجود الولد الموهوم للعسكري بدون دليل أيضا، والغريب أنك تطالبني بتقديم الأدلة علي موقفي السلبي من الأمرين، في حين أن المنطق يفترض مطالبة المثبت والمدعي الأدلة وليس النافي. وأما إذا كنت تخاف من استعمال المنهج الشكي بالتطور نحو الشك في النبوة والألوهية والأمور الغيبية الأخري التي يذكرها القرآن الكريم، فأنا أطمئنك بضرورة استعمال منطق الشك في هذه الأمور أيضا، لأنه لا يجوز التسليم بها مستبقا أو تبعا للمجتمع والوالدين، وأؤكد لك بأني والحمد لله مطمئن ومؤمن بوجود الإله الخالق العظيم وبصدق نبوة النبي محمد صلي الله عليه و آله وبسلامة القرآن الكريم، وتبعا لذلك فأنا أؤمن بكل ما يقول الله في كتابه العزيز، وأسلم بكل

ص: 94

الأمور الغيبية التي وردت فيه، ولكن هذا لا يعني أن أقبل وأسلم بكل أسطورة يحدثني بها جاهل أو مجنون، ويقول لا بد أن تقبل بكلامي كما قبلت كلام الله ، فالفرق بين الاثنين كبير وواضح بما لا يحتاج إلي توضيح، إلا إذا كنت تريد استعمال منطق الجدل العقيم.

ويكفي لكي أثبت لك بطلان ووهمية نظرية الإمامة والإمام الثاني عشر، هو استقلال المسلمين منذ أكثر من ألف عام بالتعامل مع القرآن الكريم ومصادر التشريع دون الحاجة لإمام معصوم معين من قبل الله يفسر لهم القرآن أو يبين لهم غوامض الأمور، ولم يحتاجوا، أو لم يوجد لديهم إمام سياسي معين من قبل الله، مما يعني بأن كل نظريات الإمامية حول ضرورة الإمامة الإلهية ووجود الإمام المعصوم ما هو إلا افتراض وهمي في افتراض، ولم يترك الأئمة من أهل البيت كتابا فقهيا ولا تفسيرا للقرآن، كما لم يكتبوا في حياتهم كتابا يتضمن هذه الأمور، بل كانت الروايات الصادرة عنهم متناقضة وضعيفة ومشكوك فيها دائما، بحيث إن أصح كتاب ينسب اليهم (الكافي) لا يصح منه إلا القليل القليل، وفي القليل منه شك أيضا.

إننا عمليا ليس لدينا سوي القرآن الكريم والعقل، اللذان نستطيع بهما أن ندير حياتنا ونبني حضارتنا، وليس علينا انتظار أي شيء آخر، أو تعليق أي أمرعلي أية فرضية أو نظرية.

والسلام عليكم ورحمة الله

أخوكم

أحمد الكاتب

لندن 2 تموز 2008

ص: 95

ص: 96

2- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب

تحية طيبة وبعد

أشكرك علي التوضيحات السابقة. وقد قرأت رسالتك التي لخصت فيها وجهة نظرك حول جملة الاستشكالات التي دار حولها تعقيبي علي تعقيبك السابق. وإن كنت أري من الضروري أن نحذر مما أن ينزلق النقاش إلي جدل عقيم لا يثمر، فإنه لا بد أيضا من الاجتهاد في جعل النقاش مفتوحا والحوار متواصلا، لأن ذلك هو طريق البحث عن الحقيقة. وقد لاحظت أنك عرضت علي وجهة نظرك في الإمامة وما لازمها من صنوف الاعتقاد بصورة تقريرية كما لو أنك فعلا علي يقين من عدم وجود دليل ناهض بها. وحسنا أنك ذكرت أنني سلمت بالإمامة حيث لا دليل عليها. ما يؤكد أن مشكلتك تتعدي مسألة المهدي فهي تؤكد علي عدم كفاية الأدلة علي الإمامة. وتتعدي الاعتقاد بولادة المهدي لأنها تؤكد أن علينا أن لا نتظر شيئا. وهنا يصبح الأمر متعديا. ومع أنني حقيقة أستطيع أن أفهم معني كفاية الأدلة في قضايا الجرم المشهود كما في معجم القانون الجنائي ومساطير العقوبات، إلا أنني لا أكاد أفهم ما معني عدم كفاية الدليل علي الإمام في مقامنا. فهل تقصد من ذلك أن أخبار الإمامة أقل من حيث تكاثر الطرق والأسانيد أم أنها غير متواترة

ص: 97

أم أنها لا تدل بالمنطوق والمفهوم علي المعني ولا تؤدي الغرض.. فمن يسمع كلامك ممن لا علم له بالتراث، قد يظن أن ليس في يد الإمامية من الأدلة سوي الادعاء. ولا أحتاج أن أذكرك أخي الكاتب أن جل النقاشات بين الإمامية والعامة بهذا الخصوص كان انتصارا لموقف الإمامية من حيث إنها تمسكت بالنص فيما تمسك غيرها بالرأي. والذي حصل أن غير الإمامية هم من اجتهد مع وجود النص وتكلف لكي يدفع كل النصوص التي لا تكاد تعد ولا تحصي في إثبات الإمامة. وها أنت تعود وتعتبر أنك لست مستعدا لقبول كلام أسطوري من أحمق أو مجنون. لكن كل هذا في سياق تقرير وجهة نظرك. وحينئذ لا أحد يمنعك من أن تصف ما تشاء بما تشاء.

ما أحب أن أقوله في هذا الإطار، هو أنني لم أكن لأستشكل عليك في توسلك بمنهج الشك في بحث قضية المهدي. فحديثي لم يكن في منهج الشك المنهجي بل في مورد التشكيك السفسطي. فالأول يهدف إلي اختبار صمود الأفكار أمام وسائل الدحض المختلفة وعادة ما ينتهي إلي يقين لا تشوبه شائبة وأما الثاني فهو يمسك عصي الحجاج من الوسط ويستطيع عبر هذا النوع من الشكاللامنهجي أن يثبت الأطروحة ونقيضها. إننا نعمل العقل في إثبات الألوهية والغيب وليس لنا أصلا إلا العقل لإثباتها. لسنا مختلفين في ذلك. فمثل هذه الأمور لا تتثبت بالإخبار لأن في ذلك دور منطقي بين. هذا في حين أنك تكفر بالأدلة العقلية الداعمة - وليس فقط أنها وحدها الدليل علي المهدي - باعتبارها افتراضات فلسفية. فقل لي يا أحمد إما أنك تؤمن بالعقل علي طول الخط أم أنك تنتقي في أحكامه حسب الطلب. إن لي مع كل ما ذكرته في هذه الرسالة وقفات حقيقية. لكن وجب أن نأخذها واحدة واحدة النستطيع إيفاء الحديث فيها. وقبل ذلك أحب أن أقول :

ص: 98

إنه للمرة الثالثة أجد نفسي مضطرا إلي الدخول معك في نقاش حول موضوع الإمام المهدي (عج). وقد كانت لي معك جولتين : إحداهما من خلال ردي علي كتابكم (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشوري إلي ولاية الفقيه) بكتابي المعنون من الشك إلي الشك». والثانية حينما عقبت علي تعقيبكم علي كتابي المذكور في مقالة تحت عنوان: «أحمد الكاتب يعيد إخراج الفهم الظاهري للإمامة». .

وقد كانت تلك نقاشات غير مباشرة بيننا. لكن من خلال المراسلات المباشرة وجدت نفسي مضطرا إلي أن أدخل معك في هذا النقاش عبر الرسائل المباشرة، لما فيه من فائدة في طريق الكشف عن الحقائق. ولا أخفيك أنني كنت ولا زلت دائما أرفض كل أشكال النقاشات والمناظرات المباشرة لأسباب تتعلق بما آل إليه وضع الأمة الإسلامية. وقد دعيت إلي ذلك مرارا وتكرارا لكنني لم أكن أجد في طالبيها ما يقنعني بالمستوي العلمي والأخلاقي لذلك. فغياب الرشد عن الكثير من المناقشات يؤدي إلي انزلاقات تعسفية ما يجعل مضار المناظرة أكبر من منافعها. ونحن يهمنا أن تفضي المناظرات إلي إقامة الحق بموضوعية النظر وأخلاقيات العمل. وقد لمست فيكم أنكم ممن يرتضي الأمرين معا. إنه لا يزعجني أنك نظرت وتأملت وبحثت، لأن هذا أمر لا يمكن لأي جهة أن تمنع الناس من أن يفكروا ويعبروا عن آرائهم بما في ذلك الآراء التي لا نوافق عليها الخصم - أعني الخصم المناظر وليس المعني السلبي للخصم - إننا إن حاولنا منع المفكرين وأهل النظر والبحث من التفكير الحر فسنكون إذاك قد ناقضنا فكرنا وموقفنا. وحيث أنني ممن بحث وتأمل وعبر عن رأيه، فلا يسعني إلا أن أعترف لك بحق التفكير والتعبير، مادام أن الله تعالي والرسول صلي اللهعليه و آله وأئمة أهل البيت عليهم السلام وكل العقلاء منحوا هذا الحق للناس. ومع هذا لا شك أن

ص: 99

مجرد حصول قناعة بشيء لا يعني أن الأمر وقف عند هذا الحد. إنك يا أخي أحمد فجرت موضوعا مهما لا يمكن أن يمر عليه الإنسان مرور الكرام. وقد كنت من أوائل المتحمسين للرد عليكم. وما همني يومها كل التعليلات التي ساقها البعض من أن هذا مجرد فكرة لا ينبغي أن نمنح كاتبها أهمية. إنني أعتقد أن النقاش متي ما توجه نحو الشخص، فهذا يعتبر من أقل مراتب الحجاج العلمي ومن أدني مستويات النقاش بالمعايير العلمية للتواصل. ولذا عد في ثقافات الأمم الراقية علامة علي الفشل في المناظرة. فوجب علي النقاش حينئذ أن ينتهي رأسا. ولا أخفيك أنني قرأت كتابك علي أساس أن أرد عليه مسبقا. لكنني في لحظة من اللحظات بدأت أجد بعض المقدمات العلمية مما جعلني أعيد تجديد نيتي لأن أقرأ كتابك لأري ما فيه من حقائق لعلي أفيد منها إفادة حقيقية، حتي أنني حدثت نفسي بأن أغير رأيي في الموضوع إذا ما رأيت دليلا كافيا علي ذلك. غير أنني ما لبثت أن اعترضتني بعض الملاحظات التي دفعني إليها بعض الثغرات المنهجية والبحثية في كتابكم قد لا يلتفت إليها من كان همه القفز علي المعطيات لأنها دفينة ثاوية بين ثنايا البحث.

وهذا ما يهمنا في هذا النقاش المباشر الذي أعلق عليه أملا كبيرا في تحويل النقاش إلي مداراته العلمية والأخلاقية. صحيح أنك أخي أحمد كنت قد استفززت بعض العلماء والباحثين بالطريقة التي تناولت بها الموضوع فأدنتهم عن بكرة أبيهم واتهمتهم بتعسف بالغ بالغلو والتخريف والكذب وما شابه.

وها أنت في رسالتك الأخيرة تري أنها أساطير صدرت عن حمقي ومجانين. وهي تحمل النبرة نفسها والنمطية ذاتها لخصومهم التكفيريين. وهب أنني سلمت لك بأن قلبك وعقلك مع وحدة الأمة، فكيف أسلم لك بأن أسلوبك هذا ليس تغليبيا، ينتصر بشكل أو بآخر لادعاءات

ص: 100

خصوم الإمامية ويدينهم كما لو كانوا هم المسؤول عن تردي أحوال الأمة. فلئن انبري من غلظ عليك في القول وقسا عليك في الأسلوب فذلك لما تعرضت له بالتهوين والتخوين والتكذيب لهذا التراث.

إنني أقبل منك مواقفك الأخري : كونك لا زلت مصرا علي شيعيتك واتباعك العترة الطاهرة عليهم السلام والاعتراف بشأنيتهم وأهميتهم وضرورة اتباعهم كما عبرت عن ذلك في مناسبات مختلفة. وأرجو أن يكون ذلك أمرا نابعا من قناعة حقيقية وليس لمجرد الاستقواء بذلك علي حجة الشيعة في سياق المناظرة والنقاش المفتوح. كما أقبل رأيك في وحدة الأمة وتقريب وجهات النظر بينها وإن كنت لا أري من جدوي في أن يكون شرط الوحدة أن يصبح الشيعة غير شيعة ويتنازلوا عن مدرستهم في الأصول التي قامت الأدلة عليها.

ويمكننا في هذا النقاش أن نتحدث عن المسألة في إطار جملة القضايا المتعلقة بتراث الأمة، لنجعله نقاشا ينزع إلي الكلي ولا يندفن في الجزئيات. ولكن قبل هذا وذاك لا إشكال عندي أن نبدأ من أي زاوية تريد؛ حتي لو جعلت المبتدأ منقضية المهدي. فالقضية وخلافا لما زعمت ليس مجرد فرضية فلسفية بل هي حقيقة تفيض بمعطيات دينية لا نهاية لها.

إن قضية المهدي من القضايا الخطيرة لا الحقيرة في مجمل عقائد الأديان وغير الأديان لما ارتبط بها من الأمور الخاصة بمصائر الخلق. وإن قضية كهذه لا ينبغي التعاطي معها باستخفاف ما دام وراءها تراث من الأدلة لا يمكن الادعاء بأنها غير صحيحة لمجرد أن نقف علي خبر هنا أو هناك لم يحرز الصحة. إن مشكلة الأمة في قضايا تراثها وحاضرها تتشارك فيها بنسب مختلفة. ورسالة التغيير والإصلاح عامة لا

ص: 101

يحتكرها هذا المذهب أو ذاك. والعلماء الحقيقيون ماضون في التصحيح خارج أنفاق المذهبية الضيقة. ففي المجال الشيعي هناك حركة للتصحيح والاجتهاد وتهذيب ما لم يكن في وسع السابقين التسلط عليه من مظان ووثائق. كلنا في الهم شرق يا عزيزي. لكن الإشكال هنا ديني و معرفي لا ينبغي قراءته في أجواء معضلة العالم الحديث و مصائب الأمم.

وحتي نجعل لنقاشنا مدخلا مناسبا فأنا أريد أن أعرف رأيك النهائي في جملة من القضايا :

• هل يتجه إشكالك الحقيقي إلي مطلق وجود إمام مهدي منتظر أم أن إشكالك الوحيد هو في خبر الولادة.. ما هو رأيك في مطلق المهدي المبشر به في الأخبار وما حجم المساحة التي يحتلها المهدي بقيد العموم في عقيدتك، لأنني فهمت من رسالتك الأخيرة

أن لا مجال لانتظار شيء؟

• ألا زلت ترفض كل الأخبار المثبتة لولادة المهدي وهل لا زلت تزعم أنها كلها روايات ضعيفة، مع أن ردودا كثيرة تمت وأظهر مزيدا من الأدلة، كيف قرأتها وتأملتها؟

• وهذا هو تساؤلي المهم وأرجو أن توضحه لي مفصلا وبالدقة اللازمة : سمعت أنك لا زلت تدعي شيعينك وبأنك ترجح مذهب الإمام الصادق في الفروع، فأنت تصلي وتأتي الشعائر علي وفق مذهبهم علي الرغم من أنك رفضت كل ما يقول به مذهبهم في الأصول الإمامة والعصمة وما شابه.. إلي أي حد يصدق هذا الأمر؟

لنجعل المنطلق من هاهنا.. وفي انتظار ردك الأكثر توضيحا وتفصيلا، سنبدأ بعون الله مناقشة ما جاء في رسالتك السابقة، نقطة

ص: 102

نقطة. فما دام أنك أثرت نقاطا كثيرة، فسأجعل كل محل للنزاع مما أحصيت في رسالتك السابقة عنوانا مستقلا إلي أن نستوفي فيه النظر. والله الموفق.

أخوك إدريس هاني

(الخميس 30 يوليوز 2008 الموافق لجمادي الثانية 1439ه-)

الرباط - المغرب

ص: 103

ص: 104

3- الأخ الكريم الأستاذ إدريس هاني حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

أقدر فيك روح البحث عن الحقيقة والإخلاص لها، ويسرني أن نسير معا في البحث عنها، خدمة للإسلام والمسلمين، وبهدف بناء الحضارة الإسلامية المهدمة وتوحيد الأمة الممزقة، وتحرير الشعوب المستعبدة والأراضي المحتلة.

وأرجو أن لا ننزلق فعلا إلي حوار عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يكون له أثر في حياتنا وحياة أمتنا المتطلعة إلينا والمنتظرة منا الكثير. وأرجو أن نركز علي القضايا الأساسية من دون التطرق إلي التعليقات الهامشية التي تضيع الوقت وتشتت ذهن الكاتب والقارئ معا.

بالنسبة لملاحظتك التي أشرت فيها إلي أني عرضت وجهة نظري في الإمامة وكأني علي يقين من عدم وجود دليل ناهض عليها. هي ملاحظة في محلها، ولو كنت أؤمن بها لما كنت أتحدث معك بتلك الصورة. نعم إني لا أؤمن بالإمامة الإلهية لأهل البيت، ولا أؤمن بولادة أو وجود شخصية ما يسمي «محمد بن الحسن العسكري». الذي يطلق عليه «الإمام الثاني عشر». وذلك لعدم وجود أدلة شرعية تاريخية حول

ص: 105

وجوده وولادته، وأقصد بالأدلة : ظهوره للعلن، ومشاهدته من قبل أناس موثوقين، واعتراف أبيه به، وكل هذا لم يحدث فحسب الروايات الشيعية أن أمه لم تكن تعرف بخبر الحمل به حتي الساعة الأخيرة من ولادته، و«القابلة» (أي عمة الحسن العسكري) شكت بخبر الولادة ولم تر أثرا علي الأم، ولم تشاهد عملية الولادة (أي شاهد ما شافش حاجة) ثم نامت ولم تره بعد «الولادة»، مما يحتمل أنها رأت حلما، إذا كانت القصة المنسوبة إليها صحيحة، وهي غير مؤكدة. والدعوي من أساسها سرية أنها تعترف أن الحسن العسكري أخفي ولده إلا لبعض خاصة الخاصة، وهمالنواب الأربعة الذين ادعوا ولادته ووجوده، ولم ير له أثر من ذلك الحين. مما يدفعنا للقول أنها قصة أسطورية اختلقها بعض المستفيدين ماليا وسياسيا من التبشير بها، كما فعل غيرهم من قبل ونسبوا ولدا للإمام عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق، وقالوا إنه ولد في السر، وأنه المهدي المنتظر. وكان قولهم هذا خلافا للظاهر الشرعي وبالضد مما عرف عن «أبيه» الأفطح الذي لم يكن يعرف أن له ولدا أبدا. وقد أطلقت علي هذا المنهج : المنهج الباطني، ليس سبا لأحد ولا مجاراة لأحد، وانما هذا هو الواقع، حيث كان هناك بعض المندسين في الحركة الشيعية العريضة يتبعون المنهج الباطني في قلب الحقائق والأقوال، فيدعون أمورا خلاف الظاهر وينفون أمورا خلاف الظاهر ، كنفي وفاة عدد من الأئمة مثل الإمام علي والحسين ومحمد بن الحنفية وأبي هاشم والإمام الصادق وموسي الكاظم وإسماعيل، ويدعون استمرار حياتهم في السر. وكانوا أحيانا يختلقون أولادا لبعض الأئمة خلافا للظاهر أيضا وبلا دليل شرعي أو خلافا للأدلة الشرعية التي لا تجيز نسبة ولد إلي إنسان بعد وفاته ودون علمه، فكيف إذا كان ذلك «الولد» مجرد حكاية وهمية؟

ص: 106

أما أخبار الإمامة فهي فعلا أخبار آحاد مشكوك بصدورها،وبدلالتها وبسندها وبموضوعها ذاتيا، وبالتالي فهي لا تشكل أية حجة.

وقد يقدم الإمامية «أدلة» ولكني لا أعتبرها كافية ولا مفيدة للظن. وأما دعوي تمسك الإمامية بالنص، فهو ليس كذلك وإنما تمسكا بالنصوص المختلفة التي لم تكن موجودة في الجيل الأول، وإنما اختلقت فيما بعد. ولم يعرفها حتي الأئمة من أهل البيت كالإمام علي والإمام الحسن والحسين، وقام الكثير منها علي تأويل القرآن والأحاديث.

أعتقد أنني الآن وبعد سنوات من المراجعة والحوار مع الكثير الكثير من العلماء، قد وصلت إلي مرحلة اليقين، وليس الشك، ومع ذلك أرحب الحوار ومستعد للاستماع لمن يحمل وجهة نظر أخري، ومستعد بيني وبين الله أن أغير قناعتي لو وجدتني علي خطأ أو قدم أي أحد لي دليلا جديدا. واسمح لي أو أقول لك بأني لم أفهم وصفك للتساؤلات المشروعة التي قدمتها حول ولادة ابن العسكري بالسفسطة ، ووصفك لبعض الشكوك الأخري بالمنهجية. وأرجو أن لا تنغمس بالتعليقات الإعلامية أكثر من تقديم الأدلة والبراهين.

إن الشك يأتي للإنسان تجاه أية قضية، وربما يحاول الإنسان أن يبحث عن أدلة وبراهين وما يزيل شكوكه، وليس هو مسؤولا عن الوصول إلي أية نتيجة حتي يسمي شكه منهجيا. فماذا تريد مني أن أشك الأصل بعده إلي إثبات ما شككت فيه؟ وهل كان الشك مني عملية إرادية مسبقة؟ أم مرحلة طبيعية في البحث والتنقيب؟

وبعد فكيف أمسكت بالعصي من وسطها؟ ومتي أثبت الأطروحة ونقيضها؟

ص: 107

دعنا عن هذا الحديث الإعلامي الذي لا يقدم ولا يؤخر، وادخل رجاء في صلب الموضوع.

لقد قلت في رسالتك السابقة بأن الأدلة العقلية علي وجود المهدي (أو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) داعمة فقط وليست

وحدها الدليل علي المهدي.

وأقول لك: بأن الدليل الرئيس الذي يقدمه الإماميون الاثنا عشريون علي وجوده قائم علي ما يسمي بالدليل العقلي أو الفلسفي أو الاعتباري، و«الأدلة»الأخري كالتاريخية هي الدعامة، وهي أصلا إشاعات وأساطير، ولا تثبت للنقد. وقد بحثت ذلك مفصلا في كتابي ويمكنك التأكد منها، وما يدفعني هنا لرفض ما يسمي بالدليل العقلي، هو استخدام العقل في غير محله، أي في إثبات قضايا خارجية يحتاج إثباتها إلي المشاهدة والأدلة التاريخية، حيث لا يمكنك مثلا استخدام العقل أو الفلسفة لإثبات إنسان في الخارج، وهذا ما يقوله الشيخ ناصر مكارم شيرازي في كتابه عن المهدي.

وقد لاحظت أنك تكرر مرارا بأن أسلوبي أو منهجي يتبع خصوم الإمامية، وأرجو منك جدلا أن تعتبرني خصما للإمامية، أو رافضا الأفكارهم كلها. فماذا يغير هذا من حقيقة الموضوع، غير إحاطة الحديث بجو إعلامي لا حاجة له، واسمح لي أن أتجاوز في الحوار الجدل حول الأمور الجانبية والتعليقات خارج الموضوع.

وإذا كنت سابقا أقول بأنني شيعي فبمعني الحب والولاء لأهل البيت، وليس إيمانا بحقهم السياسي ولا اعتقادا بامتلاكهم درجة خاصة عند الله، ولا تفضيلا لفقههم علي فقه الآخرين، فضلا عن ضرورة اتباعهم، وانما أعتقد أنهم أو بعضهم كانوا مجتهدين كبقية المجتهدين ،

ص: 108

يخطئون ويصيبون، وأعطي لنفس الحق بنقدهم والنظر في أقوالهم أو الأقوال المنسوبة إليهم ورفض ما يخالف القرآن والعقل السليم. ولذلك فإني منذ فترة لم أعد أقول أنا شيعي أو سني، وانما أكتفي باسم الإسلام الذي سمانا به الله تعالي. وأعتقد أن الأصل الذي يتميز به الشيعة الإمامية وهو كون أهل البيت مصدرا تشريعيا لأنهم معصومون وعلمهم من الله، هو أصل غير صحيح ولا أؤمن به، ويشكل عقبة في نظري أمام الوحدة الإسلامية، كما أن أصل الاجماع و«السنة» بالمفهوم الحنبلي الواسع يشكلان مشكلة في الواقع.

وأنا عموما لا أؤمن بكثير من الأحاديث التي يرويها السنة والشيعة، وأكتفي بالقرآن الكريم والسنة العملية التي توضح القرآن، ولا أقبل بأية عقيدة لا توجد في القرآن، ولا أعطيها اختماما كبيرا مثل موضوع خروج المهدي في المستقبل أو المنقذ العالمي أو المصلح التاريخي. ولكني لا أتحدث عن المهدي بصورة عامة، ولم أتحدث عنه كثيرا، وإنما كان حديثي ينصب خصوصا علي «محمد بن الحسن العسكري» من دون صفة المهدي، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها. وعندما وصفت ذلك الشخص الموهوم بالفرضية الفلسفية فكنت أتحدث عن شخص معين في التاريخ وليس عن نظرية أو فكرة مستقبلية. فأرجو أن لا تذهب بعيدا في الحديث عن فكرة المهدي «الموجودة عند كل الأديان والمذاهب»، فهذا ليس موضوعنا.

نعم لدي إشكال حول مطلق فكرة المهدي بهذه الصورة، ولي تفسير عملي لها إذ أعتقد أن كلمة المهدي تعني الإمام المصلح في مقابل الحاكم الظالم الفاسق، وهو قد يحدث في كل زمان ومكان بنسب مختلفة، ولكني لا أريد البحث في هذا الموضوع لأني لا أعتبره مهما ، إلا من حيث آثاره السلبية في بعض النفوس.

ص: 109

وأركز علي بحث موضوع ولادة ووجود «محمد بن الحسن العسكري» الذي أعتقده شخصا وهميا مفترضا بسفسطة فلسفية، خلافا القوانين الشريعة الإسلامية التي تحرم نسبة أي ولد لأي إنسان دونعلمه ، ودون أدلة قانونية شرعية.

لقد قرأت كل ما كتب عن موضوع «الإمام الثاني عشر»في السابق تقريبا، وقرأت كثيرا من الردود ورددت عليها، ولم أجد فيها دليلا جديدا، ولا روايات قوية أو حتي ضعيفة، وإنما مجرد إشاعات متهافتة، وفلسفات افتراضية ظنية.

لا أجد مشكلة في المسائل الفرعية الفقهية، فهي مفتوحة علي الاجتهاد، ولكن لا أري ترجيحا لمذهب الإمام جعفر الصادق بالخصوص، أو لأي مذهب آخر، وإنما أسعي بأن أجتهد، خاصة في الأمور الأصولية والرئيسية والمهمة، ولا أقلد أحدا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم

أحمد وكاتب

لندن 2008/7/4

ملاحظة : اسمح لي باطلاع بعض الإخوة المقربين علي الحوار للإفادة والاستفادة، بدون نشر عام(1)

ص: 110


1- استأذنني المحاور حول إطلاع بعض مقربيه من وقائع النقاش، وذلك نظرا لأنني اشترطت عليه أن لا يكون النقاش مفتوحا حتي لا يحدث تشويش علي السير الهادئ للنقاش ويغير مجراه إلي جدل انفعالي عقيم. فكان همي المضي في كل المطالب لا أن نراوح المكان نفسه. وقد انتظرت كل هذا الوقت لأنشر هذا الحوار بعد أن انتهي النقاش ويئست من مواصلته مع الكاتب.

4- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب

اشارة

السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته

تحية طيبة وبعد:

أسعدني قبولك بأن يكون المدار في نقاشنا هو البحث عن الحقيقة والإخلاص لها. وأذكر فقط بأن نقاشنا مفتوح علي آماد أخري لها دخالة مباشرة أو غير مباشرة في موضوعنا محل النزاع. فنحن ندرس موضوعات نسقية وشمولية لا ينفع معها التجزيء. وحييت فيك أنك مستعد للتراجع عن آرائك متي ما ثبتت لك أدلة كافية. ووجب دائما حتي لا نغفل أو ننسي، التذكير بمقاصد الحوار العلمية والأخلاقية. إننا نتحمل مسؤولية أمام الله وأمام الأمة وأمام التاريخ. فهذه عقائد يرتجي منها الرضا والقبول والنجاة. فأي عناد وأي استهتار بمفردة من مفرداتها وأي شطط في معالجة أصل من أصولها، من شأنه أن يؤثر سلبا علي مسيرة التحقيق. إنني أنا أيضا مستعد لقبول الرأي الآخر فيما لو ثبت لي ذلك بالدليل القاطع المزلزل لما أنا عليه من اطمئنان. والدليل الذي أطالبك به ليس بالمعني الذي يخالف منطق الأشياء من حيث إنك قلت إنني المعني الأول بالدليل لأنني أدعي ثبوت أشياء وليس سلبها كما جاء في رسالتك. لكنني أري أننا أمام نصوص يدل ظاهرها علي الوصية والإمامة

ص: 111

فضلا عن أنها شكلت في يوم من الأيام أصول اعتقادك أيضا. فالانقلاب عليها يحتاج إلي دليل. فالمسألة هنا نسبية. وسوف يتأكد فيما سيأتي أن كلامك يصح فقط وفقط حينما نعتبر أنفسنا في مقام يتعلق بمجري استصحاب النفي. أما والأمر يتعلق بادعاء وإثبات بالطرق المشروعة والمتعارف عليها في الإثباتات، فالأمر يتطلب منك دليا أيضا. أي ما هو دليلك مقابل تلك الأدلة.فهو دليل يقارع دليلا، وليس المدار بين وجود دليل وعدمه. ثم تذكر أن كل كلام هو مشروع في المناظرة ولا يرده إلا كلام يناقضه بدليل أو يكشف ببرهان سليم أنه كلام يراد منه التشويش علي القناعات وليس يؤسس لمقدمات الدليل. فحينما تحدثت عن المهدي في عموم الأديان، فالأمر جاء في سياق توضيح واستطراد ولم يكن ذلك هو الدليل الأوحد. فلو قلت لك إن النبوات والرسالات لها أثر عظيم علي حضارة الإنسان، فهذا لا يعني أن ذلك هو الدليل اليتيم علي ثبوت النبوة. وحينما قلت إنك تتبني رأي خصوم الإمامية فحتما لا أقصد أمرا لا يقدم ولا يؤخر، بل إن ذلك يصلح أن يكون شاهدا علي أن موقفك لم يكن جديدا في ساحة الحجاج. بل هو تبني الآراء كانت دائما موجودة وتم الرد عليها. وإذن لماذا أغضيت عن ردود الإمامية علي شبهات تطرحها اليوم كما لو أنها لم تطرح البتة في سالف عهد، وكما لو لم يتم الرد عليها تباعا. إنك لم تبن علي كل الردود السابقة لتعود وتطرح إشكالا مطروحا ومردود عليه. فقد أكون تبنيت آراء الشيعة ودافعت عنها. لكنك لم تتجرأ لتقول إنك أفدت كل هذا من تراث خصوم الشيعة وتبنيت وجهة نظرهم جاهزة دون إعلان الانتماء. وهذا فضلا عن أنه يسهل علينا النقاش في جو من الشفافية، فهو يؤكد أن المسألة لم تكن تلقائية بل كانت عملية بحث في هذا التراث والاقتناع بدعاويه. وأما السؤال : ماذا يقدم كل هذا وماذا يؤخر، فأقول نعم فقد

ص: 112

يؤخر ويقدم كثيرا. إنني أستطيع أن أحاكمك بشواهدهم وآرائهم في موضوعات شتي. فلو أظهرت لي انتمائك إلي وجهة نظر تلك المدرسة وجب أن ألزمك بما ألزموا به أنفسهم. أما لو بقيت في الوسط، فذلك ما أسميه إمساك العصا من الوسط (فذاك كان وصفا في محله لا مجرد كلاما يصلح للتوظيف الإعلامي كما تراءي لك). فحيثما ذكرت لك دليلا من هذه المدرسة أو تلك : قلت لا يلزمني ذلك. وهذا واضح من خلال ادعاء التمسك بالقرآن والعقل وهو ادعاء مجمل ومضلل حتي لا أقول : إنها كلمةحق يراد بها باطل. ولنا وقفة أخري مع هذه الدعوي.

إن الناس تدين بما تقطع به وتطمئن إليه. ولست أناقشك في درجة يقينك بآرائك أو يقيني بآرائي، بقدر ما يتعلق الأمر بالمدارك والأدلة التي تسند قناعتي أو قناعتك. وفي ذلك فليتباري المتبارون. ولأجل ذلك جعلت المناظرة وقعدت قواعدها وأضلت مبادئها وتعزز التواصل في مجتمع العقلاء.

والواقع أنني وجدت فيما سقته من كلام حتي الآن لا يعدو أن يكون إنشاء خاليا من شائبة الدليل القاطع. بل هو التشكيك في أدلة ليس إلا. ولم أجدك قد انتقلت من مرحلة التشكيك إلي مرحلة الحسم الذي يترك اطمئنانا. فحينما تقول بأن القول بالإمامة والعصمة يشكل عائقا ضد وحدة المسلمين، أعتقد أن هذا ليس دليلا بل إقحام الغريب عن موضوع ثبوت هذه الحقيقة أم نفيها. لا عليك أخي فالبشرية التي خلقها الله تعالي لكي تكون أمة واحدة سرعان ما دب في أوصالها الخلاف بسبب من رسالات الله : «كان الناس أمة واحدة فلما بعث الله النبيين اختلفوا».

فهل في المستطاع أن نتهم رسالات الله بأنها فرقت الإنسانية إلا أن يقال ذلك قدر البشرية الذي تصنعه خلافاتها الطبيعية والاجتماعية

ص: 113

والنفسية. إنني أتمني أن يحضر هم التقريب والوحدة بين المسلمين، ويتمتعوا بحس المسؤولية ويرتقوا بالوحدة إلي منتهي مقاصد اعتقادهم وشرعهم وسلوكهم اليومي. إلا أن الدعوي تصبح غير ناجعة حينما يسود خطاب تجريم الآخر واعتبار أن مذهبه ورأيه هو العقبة في طريق الوحدة.

وهذا الأمر لا يقل أهمية عن كل القضايا التي يجب أن نناقشها هنا لشدةترابطها وتأثيرها علي بعضها البعض. فحديثنا يجب أن يكون مفتوحا علي كل هذه القضايا حتي نضع إشكاليتنا في سياقها الطبيعي : استقامة أمة ونهضتها. إن ادعاء بأن الإمامة عقبة في طريق الوحدة، هو كلام مردود لأسباب منها : أنك تعلق حل الوحدة علي مخرج مستحيل التحقق. بل هي رؤية خرافية للوحدة. بل إن التقريب لا يتم إلا بين مختلفين. وحينما تنضج الأمة ليقبل أبناؤها بعضهم بعضا ويتفهمون خلافاتهم ويقدرون ويعترفون بوجود بعضهم البعض ويحترمون بعضهم البعض، فإنهم لا محالة سيتوحدون. وحيث ذكرت أن الإمامة الشيعية هي بالفعل ما يشكل عقبة ضد وحدة الأمة، فدعني أذكرك بأن السنة تفرقوا فيما بينهم مدارس ومذاهب لم يخلوا فناؤها من صراعات سجلها التاريخ. وها هي الأقطار العربية السنية لم يمنعها عدم اعتقادها بالإمامة لكي تحقق مطلب شعوبها في الوحدة والتوافق. بل ها هي السنة المتشرعة المتدينة في هيئاتها وحركاتها ، يرشق بعضها بعضا ويتهم بعضها بعضا وأحيانا يصل الأمر إلي التكفير والتخوين، ولا أحد من هؤلاء دفعه إلي الفرقة إيمانه بالإمامة.

كما أن الشيعة اختلفوا فيما بينهم حسب آراء واتجاهات لا تخفي وكلهم يؤمن بالإمامة. بل حتي أصحاب الرقائق عندنا والمتصوفة غدوا طرقا يكاد بعضها يتهم الآخر بأنه «ليس علي شيء». فإذن تحصل أن نبحث عن عوائق الوحدة خارج لغة اتهام المدارس والمذاهب. لنبحث

ص: 114

عنها في شروط تخلفنا الحضاري والحامل الاجتماعي لهذا الدين، وعدم قدرتنا علي القبول بالآخر الذي يشاركنا المجال، فيما نحن بدافع الغلب نقبل بأن نتحاور مع الآخر البعيد ونقبل به نظيرا في الخلق فيما لا نقبل بالقريب أخا لنا في الدين. تذكر أن الخلاف كان قد بدأ في الجيل الأول. وهو لو لم يكن كذلك مبكرا لما رسخ رسوخ الجبال الرواس في تاريخنا الذي لا يزاليعاند ضد النقد والتحقيق. بل دعني أقول لك بأن الجيل الأول يتحمل أيضا مسؤوليته في هذا الذي نعيشه اليوم. لقد خلفوا لنا تراثا مضطربا وهم وإن كانوا الجيل البكر الذي له ميزاته التي لا تنكر، إلا أنه ساهم وأسس لكل ما نحن عليه اليوم من حيرة، يدركها الباحثون عن الحقيقة لا من ارتضي التسليم بالموروث. ألم يختلف الصحابة ويقتتلوا بموجب آراء ومصالح مختلفة؟! فإذا كنت تشك في أن يكون ذلك الجيل قد آمن بالإمامة، وأنه حسب قولك أن ذلك الجيل لم يكن يعرف الإمامة الشيعية، فإذن ما الذي جعلهم يختلفون؟! لا شك أن الخلاف قام في الماضي وهو قائم اليوم. وهو كان أمرا طبيعيا مقبولا بشرائط ذاك الزمان لكنه اليوم لا تتحمله الأعراف والثقافات ولا الذوق الحضاري بشرائط زماننا، حيث مفهوم استقرار الدول وتعقيد النظام العام وشيوع ثقافة التعايش السلمي والقبول بالآخر وتحكيم الطرق الحضارية في إحراز التوافق، ورسوخ مفهوم المواطنة والحريات وحقوق الإنسان مما هو في طول مقاصد الإسلام نفسه.

إنني أقدر دعوات التقريب، لكنني لا أسلم بالشعارات التبسيطية التي طبعت دعواتها ولا تزال تنظر لحلول ليست إلا ضمادات مهترئة وبالية لا تكاد تخفي الجرح الغائر. إنهم يبحثون عن الوحدة فيما المطلوب القبول بالاختلاف. المطلوب اليوم، كيف يقبل الشيعي بالسني حتي لو لم يسلم هذا الأخير بالإمامة لعلي بن أبي طالب. وكيف يقبل

ص: 115

السني بالشيعي حتي لو لم يسلم هذا الأخير بالخلافة للشيخين. ليعيشوا مقا إما في تسامح رضي تضمنه شرائع الدين أو هو حق المواطنة تضمنه شرائع الخلق. وما عدا ذلك فهي الفتنة المظلمة كقطع الليل. وذلك هو اللقاء السمح والتوافق الندي في مفرق الإسلام الجامع بخطوطه الكبري التي حدها الله والنبي والكتاب.

إذا كنت تري أن الشيعة عرقلوا الوحدة مع السنة بسبب علي بن أبي طالب والإمامة، فالأمر يمكن أن يعكس حتي نري السنة أيضا عرقلوا الوحدة مع الشيعة بسبب الشيخين والخلافة. في النتيجة الإمامة والخلافة معا فرقانا. هذا هو الواقع التاريخي للمسلمين، فكيف يتوحدون إذا ربطنا مشكلة الوحدة بهذا المذهب أو ذاك. هل نكره الشيعة أن يتخلوا عن علي أم نكره العامة أن يتخلو عن الشيخين؟ من قال ذلك؟!. هل نتخل عنهما معا.. من قال ذلك؟! لنعش في هذا الاختلاف بأخلاق وعلم وتواصل. وهذا لا يمنع من الاستئناس بالدليل. لأن خلف سديم الاختلاف وتحت رماد النزاع، هناك من يري من حقه أن يعرف، ومن حقه أن ينجو ومن حقه أن يشفي غليل عقل لا أحد من الخلق يمكن أن يصادره عن الخلق. وإذن فلنناقش كل شيء دون أن نجعل شيئا من ذلك يهدد وحدتنا. وهذا يحصل فقط وفقط حينما نكون صرحاء وشجعان وأخلاقيين وحضاريين ولو في الحد الأدني. فهل نحن كذلك، بل هل تنوي أن نكون كذلك ؟!

وحينما حدثتك عن شكلين من الشك - الشك المنهجي والتشكيك السفسطي - كنت في مقام الوصف والبيان والتنبيه إلي سلوك في المعرفة وليس في مقام التوظيف الإعلامي كما جاء في كلامكم. فمع أنني أتفهم القناعات التي تحصل للناس علي إثر القطع بأدلتها والاطمئنان إلي طرقها، إلا أن ما يجعلني أكرر الحديث عن نهج التشكيك والحجب

ص: 116

حينما تكون هناك أدلة وافرة ثم تقول لا توجد أدلة كما ذكرت بخصوص الإمامة وغيرها فيما سأتطرق إليه بنحو من التفصيل. فأنت ممن وقف علي تلك الأدلة وعايش فائضا منها لا يرد ولا يهون. فلو أنك قلت أن المسألةلها علاقة بالتأويل لكنت تفهمتك. لكنك تقول لا دليل. وقد أدرك حتي خصوم الشيعة أن لا طريق لرد تلك الأدلة، إلا عبر اللجوء إلي صنوف شتي من التأويل. وأحيانا بعض مما كانوا ساقوه تأويلا، هو فاضح في مناقضة واضح العقل وظاهر النص. وسوف تضطرني إلي سرد سيل من النصوص والأدلة علي ما نفيت أن يكون عليه دليل، فيما سيأتي .

وحينما نبهت إلي أن طريقتك لو اتبعتها دون توقف لكان مصير كل أصول الاعتقاد في وضعية واحدة من التشكيك، ولقضي علي معتقدات أخري هي محل تسليم عندك أيضا، لم أقصد أنني أتهيب من تطبيق منهج الشك علي كل ما ذكرت. بل قصدت أن يكون الشك منهجيا لا يتم فيه انتقاء الأدلة أو تستحوذ عليه إرادة الاعتقاد. وقد ذكرت لي أنه وجب تطبيق منهج الشك علي كل معتقداتنا بما في ذلك الألوهة. أقول : برافوو.. علي هذه المزايدة. ولست في وارد فتح نقاش في هذا الموضوع لأنه بحر لجي لنا فيه كلام كثير بل حالات وتجارب قلقة. فلست ممن لم يتفكر إلي أقصي الأقصي في هذا الأمر. إنما أنا بدوري أسألك هل حقا مارست الشك في تلك المعتقدات كما فعلت في موضوع المهدي. بتعبير آخر: كيف سلمت بكل الأدلة الفلسفية - التي ترفضها . لإثبات وجود الله. إذا كنت ممن يقول أن العقل لا يثبت أمرا خارجيا فكيف أثبت وجود الله في عقيدتنا حيث لم نجد غير الدليل الفلسفي سبيلا لإثبات ذلك. ولا أحسبك تقول لي إن لدينا أدلة غير فلسفية. فإن أقدم أدلتنا علي ذلك هو الدليل الأنطلوجي الذي عالجه كانط وتبين أنه دليل فلسفي لا

ص: 117

يثبت شيئا. بل إن الألوهة لا تثبت عنده بالعقل النظري. إذن لا مجالللمزايدة فيما لم تخض فيه أو تجربه من باقي معتقداتنا. وها أنت تؤكد لي أنك تؤمن بكل ما جاء في القرآن كما تؤمن بالغيب والملائكة وما شابه. إذن طبق منهجك علي كل هذا. ولا تقل إنك تؤمن بكل ما جاء في القرآن، بل أقول: طبق منهجك علي القرآن نفسه. أنا أسألك بدوري لماذا توقفت وحصرت شكك في المهدي فقط دون سائر المعتقدات؟! وإذا كنت طبقت الشك في موضوع المهدي تحت ضغط تشكيك المخالف من أهل الإسلام وآرائه التي تأثرت بها، فطبق شكك هذا في موضوع غيبيات أخري كالنبي محمد صلي الله عليه و آله تحت ضغط تشكيك أهل الكتاب من خارج الإسلام، وكاله تحت ضغط شكوك الملاحدة من خارج الأديان. فحينئذ يتعين عليك طرح كل شيء لأن النبي صلي الله عليه و آله ثبت عندنا بالدليل العقلي والفلسفي وليس في حوزتنا بشارات صريحة من الكتب السابقة قرأناها من دون اللجوء إلي تأويل، فحتي ما قيل من حول تلك البشارات هو مما صرح به القرآن ولا نجد له في الكتب المقدسة إلا ما يحتمل وجوها أو نضطر إلي اتهامهم بالتزوير والتحريف. ولا يمكن الاستدلال بشاهد القرآن علي صدق ذلك لأنه دور منطقي. فقد استندنا في ذلك علي العقل والدليل الفلسفي. كما أن دليلنا علي الله عقلي أو بتعبيرك فرضية فلسفية كما قال كثيرون قبلك. وحيث إنك لم تفعل ذلك ولا جربته، ما كان مناسبا أن تزايد علي في تطبيق منهج الشك في كل هذا، أنا من كنت ولا زلت في حل من أمري في أن أقبل ما شئت وأرفض ما شئت من دون أن يكون المجتمعي علي سلطان. إذن هي مزايدة في غير مجرب وانتقاء ممنهج، وفي ذلك يكمن الغلط.

حسنا، لقد قرأت رسالتك الأخيرة، حيث أكدت علي موقفك الرافض لأصل الإمامة وما يترتب عليها من أصول اعتقادية أخري. وقد

ص: 118

ضمنتها كما ضمنت رسالتك الأسبق، جملة من أحكام القيمة حول حزمة من القضايا التي يستحق كل واحدة منها وقفة وتأملا لا تقوي علي حمله رسالة واحدة. وحيث لا زلنا نتلمس الطريق إلي مزيد من التفصيل حول المسائل المطروحة، فإني أعتقد أننا سنصل إلي هذه المرتبة عبر صيرورة النقاش. وبما أن الأمر كذلك سأحاول أن أختصر أهم استشكالاتك الواردة في الرسالتين، في نقاط منتظمة عسايا أستطيع الرد عليها واحدة واحدة.

ملخص رأيك

• إنك ما فتئت تكرر في رسالتيك السالفتين أنك تؤمن بالقرآن والعقل فقط. ولا تؤمن إلا بما أثبته القرآن.

• إنك كررت عبر الرسالتين أيضا، أن اعتقادك في أئمة أهل البيت لا يرقي إلي مقام تفضيلهم علي غيرهم والتسليم بما يميزهم عن أغيارهم في سياسة أو علم أو ماشابه.بل زعمت أن ما يدعيه الإمامية بهذا الخصوص لا دليل عليه. فقلت :

• إنك زعمت أيضا أن لا وجود لدليل علي الإمامة وأن القرن الأول الهجري لم يشهد أخبارا من هذا القبيل. . إنك زعمت أن لا دليل علي ولادة المهدي. وكذبت بالأدلة علي ذلك بعد أن حصرتها في جملة من الشواهد.

• كما زعمت أن أمر المهدي حسب رأيك هو كل رجل صالح في مواجهة الظالم.

سوف أرد علي كل هذه المسائل واحدة واحدة. إنني لا يمكنني أن أسمح بتمرير أي ادعاء وأي تعبير يحمل دلالات تستوجب التأمل. فإذا

ص: 119

رأيتني أتوقف عند أي عبارة أو اصطلاح أو حكم أو ادعاء فذلك لمزيد من التحقيق. ثم إننا هنا بصدد نقاش علمي بكل ما يجب أن تحمل الكلمة من معني. إني أقدر النقد وحرية التعبير والمساءلة لكل البداهات مهما بدت لي أو لك مقدسة. ليس عندي إشكال في ذلك بل أنا من دعاته أيضا. لكنني مع التحقيق ولا أبغي عنه حولا. لذا فالمطلوب طلب العمق لا السطح. وطلب الفكر الثقيل لا الفكر الخفيف. أجل، قبل الرد علي كلامك، فإنني لاحظت أن منهجك لم يعد يحصر الإشكال في حدود الإمامة، بل تعداها في غلو إلي التحلل من كل التزام وتكليف تجاه أهل البيت عليهم السلام. ويلاحظ ذلك جليا لما بدأت برفض الجعلية الإمامتهم ثم ثئيت برفض تميزهم بالعلم ثم ثلثت برفض تميزهم بالشأنية مطلقا. فماذا إذن بقي لهم من فضل؟! أنبهك فقط بأن الغلو بلاء قد يصيب اليمين واليسار وحتي الوسط. لقد اتهمت الشيعة بالغلو في شأنية أهل البيت، وها أنت أراك تمضي في الاتجاه النقيض وبغلو منكر جعلك في نهاية المطاف لا تري لهم فضلا يستحق عناء التفريد المقامهم ؛ أقصد ذلك الفضل الذي أكده القرآن والسنة وسيرتهم الظاهرة في سياق التاريخ.

إنكم تعترفون علي الأقل أن بعضا من هؤلاء الأئمة أعلم أهل زمانهم بلا منازع. فعلي بن أبي طالب كما لا يخفي وكما سنذكر بالدليل هو الأعلم. ولا أذكرك بالإمام الصادق حتي أنك كتبت يوما عنه كتاب : «الإمام الصادق معلم الإنسان». ومع ذلك لا وجود لأثرهم الذي يليق بشهرتهم ومكانتهم العلمية. فلا أنتم رحمتم الرواة من شيعتهم لما رووا عنهم ما لم يروه عنهم العامة ولا أنتم حاسبتم العامة أو أدنتموهم يوم لم يرووا عنهم إلا النزر القليل.

فهذا علي الذي ملأ علمه الخافقين لم يجد من يحمل عنه حديثا

ص: 120

بينما رأينا من أكثر الحديث دون أن يكون له فضل علي بن أبي طالب في علم وصحبة وولاية. انظر مثلا سبط بن الجوزي يتحدث عن مسانيد علي بن أبي طالب وقد قال عنها أنها أبلغ من أن تحصي. غير أنهم لم يضبطوا منها سوي خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين حديثا. أخرج له منها البخاري أربعة وأربعون حديثا، اتفقا علي عشرين وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر.

لست في وارد التوقف هنا، لكن كيف نزل عدد الروايات عن علي بن أبي طالب وهو باب مدينة العلم إلي ما يعد علي رؤوس الأصابع في صحاحنا. وكيف أن من حملة أخبار علي بن أبي طالب والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، رواة شيعة موثقون عند السنة وروي عنهم أصحاب الصحاح. لكنهم تركوا أخبارهم الأخري في وضع يوحي بأن سياسة الانتقاء كانت قائمة علي قدم وساق.

وإذن ثمة أمر ما يستحق عناء البحث. من منع محدثي العامة أن پرووا عنهم ما يصح. وقد كان الإمام الصادق ينهض برسالة العلم حتي غطي علي أهل زمانه في ما تشهد عليه تراجم أهل السنة أنفسهم. فهل تتلمذ عليه فقط الشيعة أم أن مجلسه كان مفتوحا للعموم عامرا بمختلف الفرقاء؟!. أم أن الأمر يتعلق بهم أنفسهم كما ظهرت جلية علي لسان ابن خلدون لما جعل التهمة ملقات علي عاتق أهل البيت أنفسهم، حينما قال : «شذ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به».فحتي لا تحكم بشذوذ بعض الأصحاب، نحكم بشذوذ أهل البيت !؟. لكنني لا زلت أتساءل لماذا لم يكذب هؤلاء الأئمة الرواة من شيعتهم الذين مدحوا عند أئمتهم كما مدحوا في تراجم الرجال السنية أيضا. لقد أسرفت في الاعتدال حتي سلبتهم كل الفضل الذي به يتميزون عن غيرهم. فإذا كان عدل القرآن لا يستحق التميز عن عموم العلماء

ص: 121

بالفضل، فهذا أمر عجاب !؟ ولكن ما قلته مصداق قولة لعلي بن أبي طالب : «لقد أنزلتي الدهر حتي قيل علي ومعاوية». وأزيدها قولة مني : «لقد أنزلهم الدهر حتي قيل أهل البيت وغيرهم» وهم من لا يقاس بهم أحد في الفضل. وعجبا أن الصحابة يعترفون لهم بالفضل ويرجون النجاة بحبهم وأنت لا تري ذلك. ولست أدري ما شكل الأدلة الجدير بها أن تجعلك تسلم بذلك؟! فهل الذي فضله الله بعد نبيه علي الخلق طرا ، أليس أقرب وأسوغ للعقل أن يسلم بإمامته؟! انظر قوله صلي الله عليه و آله لابنته فاطمة ، فيما يرويه النسائي وابن الجوزي وأعلام الحديث: «أما ترضين أن الله تعالي اختار من الأرض رجلين، أحدهما أبوك والآخر زوجك» وفي رواية أخري بعلك».

وما غرابة ذلك وقد آخا بينه وبين نفسه في حادثة الإخاء الشهيرة. فاجمع هذا إلي ذاك مما فاضت به الأخبار والسنن لرجل جعله الله أميرا لكل آية امتدح فيها المؤمنون في كتابه ، وضمها ضما خفيفا أو ثقيلا إلي بعضها البعض، ثم احكم بلا إسراف.

بعد هذا لا بد أن أرد علي كل مسألة من المسائل المذكورة وذلك بوضع عناوين لكل منها ليسهل السيطرة علي الموضوع :

كلام في رد دعوي الاكتفاء بالقرآن والعقل

هذه دعوي ظاهرها رحمة وباطنها فيه العذاب. فبقدر ما تبدو دعوة ذات جاذبية في مسارات الجدل، فهي تنطوي علي خلل كبير وتخفي ثقوبا كبري. واسمح لي إن قلت إنني ما وجدت أحدا يقول بهذا الاكتفاء الساذج بالقرآن، إلا وكان خارج حلبة العلم الشرعي أو ليس له علم من الكتاب ولا بالسنة معا. كيف والقرآن يدعوك لأن تعتبر السنة ولا تجزئ

ص: 122

في الاعتقاد بها. والسنة تدعو لاتباع الكتاب وأن لا تجعله عضين.. إنهضرب من التبسيط. وإلا، هيا فأنا أدعوك أن تستخرج لي هذا الحل العبقري والمخرج الفريد من القرآن دون معونة السنة. فها هو القرآن يقرؤه المسلمون صباحا ومساء ولكنهم لا يكادون يفقهون منه حديثا. مع أنه وصف نفسه: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر». والأمر نفسه يحدث حينما نرفع شعار العقل. والحق أني لاحظت أن استعمال العقل هنا يحيل علي ثقافة تختزل العقل في ما تلمسه لا فيما تتعقله. فهي تعكس النموذج الإرشادي المستحوذ علي ذهنية عصر ما فتئ يضيق علي مصادر المعرفة ويحصر مسالك الأدلة. إننا نتحدث عن دين و حقائق دينية. وهي في الأعم الأغلب مخبر عنها. لنتفق أولا حول معني العقل المطلوب تحكيمه وتحديد منهج تحكيم القرآن أو منهج عرض الحقائق عليه. وإلا فهي المزاجية والأهوائية في قبول الحقائق وردها. إنه سؤال الضابطة، سواء فيما يخص فهم القرآن وكيفية العرض عليه أو ما يخص فهم العقل وكيفية تحكيمه. لقد كررت من خلال رسالتيك هذه الدعوي للاكتفاء المزعوم بالقرآن والعقل - مع أنك لم تعرض كل عقائدك واحدة واحدة علي القرآن لتعرف ما إذا كان القسم الأعظم منها جاءك من القرآن أم من خلال الأخبار. كما أنك لم تعرضها جميعها علي حاكم العقل لندرك هل هي حقا عقلانية أم لا.

قلت مثلا :

• «وأنا عموما لا أؤمن بكثير من الأحاديث التي يرويها السنة والشيعة، وأكتفي بالقرآن الكريم والسنة العملية التي توضح القرآن».

• «ولا أقبل بأية عقيدة لا توجد في القرآن».

• «إننا عمليا ليس لدينا سوي القرآن الكريم والعقل»

ص: 123

قد يبدو للبعض أن دعوة مثل هذه بريئة. بل يصبح الأمر أخطر بل خرافيا جدا،إذا قلنا أن القرآن بموجب أفهامنا الظاهرة ومن دون عدل يضبط إيقاع تأويله سيحل كل مشكلاتنا. نعم هو كذلك في نفس الأمر، ولذلك نزل. لكن لا بد من وسيط السنة ووسيط العقل معا. لننتظر منك أن تستنبط لنا من القرآن ودون الاهتداء بالأخبار ما يقيم نهضتنا. سأكون أنا أول من يسلم بهذه الدعوي. وأعجب من ذلك، قولك :

«ويكفي لكي أثبت لك بطلان ووهمية نظرية الإمامة والإمام الثاني عشر، هو استقلال المسلمين منذ أكثر من ألف عام بالتعامل مع القرآن الكريم ومصادر التشريع دون الحاجة لإمام معصوم معين من قبل الله يفسر لهم القرآن أو يبين لهم غوامض الأمور، ولم يحتاجوا، أو لم يوجد لديهم إمام سياسي معين من قبل الله»..

بالله عليك.. هل هذا دليل؟! دعني أقلب دليلك لأجعله يقف علي رجليه بعد أن أوقفته علي رأسه. إن هذا الاستقلال ما كان لينتج سوي تخبطا وحيرة وانسدادا كبيرا لا يزال يقصم ظهر المجتهدين. فإما أن القرآن لم يعد هاديا وذلك أنكر. وإما أنه لا بد من طريق لفهمه واستنباطه وهو ما يجعل وجود الحجة ضرورة. إنه من الممكن أن يمارس البعض استقلاله في التعاطي مع القرآن دون حاجة حتي لنبي. لكن ما جدوي وما قيمة ما ستنتهي إليه هذه المحاولة. إن الذي بين أيدينا إن هو إلا شيء من ظواهر الكتاب التي لا نكاد نعقل منها سوي الحروف والمعاني الساذجة التي ما استطاع المسلمون أن يفهموا بها شيئا. أسألك بدوري ماذا قدم وماذا أخر هذا الاستقلال في الفهم عبر تاريخ نكساتنا ؟!

والحق أن مثل هذه الدعوي وجدنا لها نظيرا عند البعض ما كان

ص: 124

إلا أن ردع عنها علي بن أبي طالب وهو يوصي بحكمته البالغة موفده إلي معسكر أعدائه من المسلمين : «لا تحاججهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجوه بل جاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا». وقد كانت هي نفسها حكاية ما سماه ابن عباس برزية الخميس حينما حيل بين الرسول والكتابة. وقد حدث ذلك بحجة جدلية فضفاضة : «حسبنا كتاب الله».

إنني أراك تتهم العقيدة المهدوية بأنها ليس لها ما يسندها من القرآن. والحق أنها هي وحدها الذي يمنح معني لأكثر الآيات التي وعدت بخلاص كامل للمؤمنين وهداية غالبة لأمم دون أن تتحقق لا في زمان النبي صلي الله عليه و آله ولا في أي زمان مضي. إننا لا نتحدث عن عقيدة مصدرها أجنبي عن القرآن، بل نتحدث عن أخبار تعين وتشخص ما ورد في القرآن. وعلينا أن نقرأ القرآن بعلم وعقل وتدبر لا أن نقرأه قراءة ظاهرية متخشبة لا تعتبر المعاني الخفية والمحفوفة بالقرائن ولا قراءة النصوص بعضها في بعض. وإلا فإن قراءة متخشبة ظاهرية للقرآن لا تقدم ولا تؤخر. بل هي فقر المعني وسطحيته: «أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها». ولا شك أن قراءة ظاهرية لا يمكن أن تكون قراءة تدبرية. وسيكون لنا وقفة فيما جاء في حق المهدي من القرآن في محله.

فإن قلت أنها عامة، قلت إن سائر الاعتقادات التي دان بها المسلمون، هي في القرآن مطلقة وعامة، ويأتي تبنيها وتخصيصها وتقييدها من السنة. فالقرآن يا أخي لم ينزل إلا كما أخبر عنه الإمام الصادق بصيغة إياك أعني واسمعي يا جارة. وهو له ظاهر و باطن. ولكل ظهر ظهر ولكل بطن بطن. وهذا يحتاج إلي دعم من لا يعلم غيرهم تأويله. فلو كان القرآن ظاهرا إلي هذا الحد وإذا كان لا يحتاج إلي العدل الشرعي. فلماذا بات أمره صعبا : «أم علي قلوب أقفالها».. فتلك أقفالنا فأين المفاتيح يا تري؟!

ص: 125

لا يخفي أنك بتجنبك الحديث عن أهمية السنة النبوية كمصدر أساسي في الاعتقاد والتشريع بالمعني التقليدي للعبارة أخرجك من أمر أجمع عليه الفريقان سنة وشيعة. إن حيلة العاجز إزاء سنة الرسول صلي الله عليه و آله هو السعي إلي عدم منحها مكانتها المستحقة. وذلك فقط لوجود روايات ضعيفة في المجاميع الروائية المعتبرة. إن الأخبار الصحيحة والضعيفة مما سار في طريق تحقيقها رجاليون رجال ومحدثون أشداء. لم يعد بالإمكان أن تنطلي حيلة هذه الأخبار المكذوبة إلا علي من ليس له حظ من دراية وحديث. ولو تأملت قليلا، لأدركت بأن القرآن الكريم وصلنا عبر الرواية والأخبار. فلو كفرنا بالحديث إذن لوقعنا في دور منطقي. ثم ما رأيت أغرب من هذه الدعوي كما لو أن القرآن الموجود بين أيدي المسلمين هو المصدر الوحيد لكل العقائد والشرائع المتراكمة عند المسلمين. فلا يخفي أن كثيرا من الأحكام طريقها السنة وليس لها ظاهر في الكتاب.

وقد أجمع الطائفتان علي أن الرسول أنزل عليه القرآن ومثله معه. وقد أوصي الرسول صلي الله بالسنة عند الفريقين. وتخصصت الوصية إياها في روايات رواها الفريقان أيضأ بالقرآن وعدله. أين تفاصيل الصلاة في ظاهر القرآن إلا أن نتمسك بقوله صلي الله عليه و اله : «صلوا كما رأيتموني أصلي»؟! وأين تفاصيل أحكام الحج من ظاهره لا سيما في تعيين المواقيت بالمسافات المقررة وما شابه من تفاصيل شعائر الحج من الإحرام حتي التحلل منه، إلا أن نتمسك بقوله صلي الله عليه و آله: «خذو عني مناسككم»؟!. إن دعوي الاكتفاء بالقرآن وحده هي دعوي ملتبسة. وما قصة التأويل والمعارك التي قامت في سبيل إقرار هذا الرأي أو ذاك إلا لجهة أن القرآن لا يكشف ظاهره عن كل شيء. وما وظيفة السنة إلا أن تبين مجمله وتخصص عمومه وتقيد إطلاقه. أعتقد أن هذا هو أولي الدروس التي تعلمها طلاب الشريعة بلا خلاف. لكنني أريد في هذه النقطة أن

ص: 126

أرقي مرتبة أخري في النقاش. إنني أستطيع أن أسلم بالقرآن وحده حينما نغيرالكثير من المفاهيم الظاهرية المقررة في علوم القرآن ونعيد النظر في جملة القواعد التفسيرية لصالح منهج تأويلي يستطيع أن يخرق ظواهر المعني لصالح معني المعني حتي لا أقول باطنه فتتهمني بالباطنية علي عادتك. وهذا معناه أننا نعرض محكمه علي متشابهة في عملية نسخ مستمر يصبح القرآن معه كله محكم وكله متشابه لقوله تعالي في آيتين كريمتين :

-«كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ»«كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ».

وهذا يفهم في سياق مشروعية التأويل التي تجعل القرآن يحكم بعضه بعضا. فيكون المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ. والمحكم هو ما علمته والمتشابه هو ما جهلته. وهذا باب طويل عريض ليس ها هنا مجال للتفصيل فيه. أحيلك فقط علي مبحث محنة توحيد القراءات والتأويل من كتابي: «محنة التراث الآخر». وكذلك مبحث أزمة نص أم أزمة تأويل من كتابي: «الإسلام والحداثة». ففي هذه الحالة فقط يمكنني أن أسلم لك بالاكتفاء بالقرآن، لأنه والحالة هذه سيردك إلي السنة ويكسبك معيارا لفهم السنة ومنهجا لعرض السنة علي الكتاب. وبهذا المنهج أيضا أستطيع أن أكشف لك عن حقيقة المهدي من القرآن تأويلا حيا طريا ، فيه حتي غير المسبوق إن أردت. ولكن أن نتفق علي مقدمات هذا المنهج أولا. فراجع. ومع غياب هذا المنهج وقواعده وشروطه فإن الكتاب يظل مغلق المعني وإن ورد قوله تعالي: «هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ»بل يكون الأمر مصداقا لقوله تعالي : «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَيٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)».

فالواقع نفسه يكذب دعوي الاكتفاء بالقرآن لظهور معناه، تماما

ص: 127

كما زعمت أن الواقع نفسه كان لك شاهدا علي عدم وجود إمامة. ويمكن أننخصص لهذا جولات في حوارنا آجلا بعد أن ننتهي من موضوع الإمامة ومسائلها.

الدعوة إلي القرآن والعقل فقط في فهم الدين الذي معظمه تنزيل أمر بالغ الشطط. فليس للكتاب معني واحد ولا للعقل حد واحد. العقل يحتاج إلي النص كما يحتاج النص إلي العقل. فالنص يخاطب العقلاء وكذلك العقل لا يشتغل في الفراغ. فالنصوص قرائن يأخذها العقل بعين الاعتبار. وحينما تصح يحكم العقل بأن وظيفته في الإثبات أو النفي انتهت. لأننا لم نتفق بعد علي أي عقل نعني. فلا التراث سلم بمعني واحد للعقل ولا الحداثة أيضا. لنتحدث عن قواعد عقلية متفق عليها بين العقلاء وقام الدليل علي اعتبارها عند جمهور العقلاء .

ثم إنني لم أفهم مقصودك بأنك لا تؤمن إلا بالسنة العملية. ولكنني رأيت أنك تجزئ في مفهوم السنة وتنتقي بين ما هو ثابت الحجية منها وما ليس كذلك. أتساءل من الذي قسم هذا التقسيم التعسفي، ومن قال باعتبار هذا دون ذاك. إن حجية السنة واحدة سواء أكانت قولية أو فعلية أو تقريرية، كما أنها حجية واحدة سواء أكانت في مقام إثبات أصل أو إثبات فرع. لأنك مطالب باتباع القرآن واتباع الرسول والأخذ عنه سواء بسواء: «ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

ولا وجود لمخصص لأي نوع من سننه وجب الاتباع. فاتباعه في الأصول والفروع أمر واحد ولا مخصص للعموم في المقام. بل التخصيص تقول وهو بخلاف المقصود.

ص: 128

الدليل علي تميزهم بالفضل والعلم والشأنية

فوجئت بك تقول أنك لا تسلم بأي ميزة أو فضل لأئمة أهل البيت عليهم السلام علي غيرهم. بل إنك زدت في الطينة بلة حينما زعمت أنك لا تقلد أحدا وقد تأخذ منهم وتنتقد حسب ما تري. وهذا أمر في غاية الشطط. لكن قبل أن أوضح وجه الشطط وجب أن أذكر بأن للتقليد مفهوما خاصا لا يقبل أن يوظف هنا كما لو أنك توحي بأن من اعتقد بفرادة أهل البيت عليهم السلام هو في حكم المقلد. ولقد كان أتباعهم من كبار المجتهدين بلا منازع. التقليد هنا يجب أن يأخذ دلالته الشرعية لا اللغوية. إن التقليد كما لا يخفي هو وظيفة الجاهل بالأحكام. وهو من باب التيسير الذي هو مقصد من مقاصد الشرع الكبري، لأن لا بديل عن ذلك إلا بأن يكون المكلف مجتهدا أو محتاطا، وفي فرضهما واجبا حرج تأباه مقاصد الشريعة. فالمطلوب أولا أن تكون مجتهدا ، فإن لم يكن ذلك في المستطاع رخص لك الشارع في أن تحتاط لدينك أو تقلد الأعلم. هذا في الأحكام. أما في أصول الاعتقاد فإن المطلوب هو الاجتهاد في تحصيلها قدر الوسع. ولا أحد يزعجه أن تكون مجتهدا في العقائد، ما دام هذا تكليف الخاصة والعامة من الناس. القضية تتعلق بالدليل.

بل فوجئت أكثر لما رأيتك تنكر فضل أهل البيت عليهم السلام ، أنت من يدعي إيمانه بكل ما أثبته القرآن، مع أن الدليل علي ذلك ورد بأجلي ما يفهم من كتاب الله وسنته وأخبار المترجمين والأصحاب. كما أذهلني تناقضك بكون معني تشيعك هو الحب والولاء لهم ثم سرعان ما تحاول أن تنزع عنهم ما يميزهم عن غيرهم. فهذا الحب الذي يتوجه إلي أناس لا يتميزون عن غيرهم بعلم وفضل وفقه، هو حب غير قاصد. كما أن لا معني للولاء إذا لم يكن معللا في جهة الولاية، وأقلها ثبوت المائز والفضل في حقهم. فأنت تقول مثلا :

ص: 129

• «وإني أنظر إلي أئمة أهل البيت كما أنظر إلي العلماء والرجال الآخرين بدون أي منصب إلهي لا سياسي ولا علمي، وكلما يقول به الإماميون هو ادعاء لا دليل عليه».

• «وإذا كنت سابقا أقول بأنني شيعي فبمعني الحب والولاء لأهل البيت، وليس إيمانا بحقهم السياسي ولا اعتقادا بامتلاكهم درجة خاصة عند الله ، ولا تفضيلا لفقههم علي فقه الآخرين، فضلا عن ضرورة اتباعهم».

• «وانما أعتقد أنهم أو بعضهم كانوا مجتهدين كبقية المجتهدين، يخطئون ويصيبون، وأعطي لنفس الحق بنقدهم والنظر في أقوالهم أو الأقوال المنسوبة اليهم ورفض ما يخالف القرآن والعقل السليم».

• «لا أجد مشكلة في المسائل الفرعية الفقهية، فهي مفتوحة علي

الاجتهاد، ولكن لا أري ترجيحا لمذهب الإمام جعفر الصادق بالخصوص، أو لأي مذهب آخر، ونما أسعي بأن أجتهد، خاصة في الأمور الأصولية والرئيسية والمهمة، ولا أقلد أحدا».

لا زلت أتساءل حينما منعت فاطمة من حقها في أرض فدك بدعوي استثناء أهل البيت من أحكام المواريث فيما يتصل بتركة الرسول صلي اله عليه و آله. طبعا لست في وارد الحديث عن هذه القضية. لكنني أستحضر الخبر الذي استدل به في المقام وهو: «إننا معشر الأنبياء لا نورث وإنما نورث علما». قلت: فهل ثمة ظلامة أكبر فيما لو سلمنا بمضمون هذا الخبر، بأننا لا نعترف لهم برأسمال مادي ولا رأسمال رمزي. فحتي العلم الذي زعموا أن الأنبياء ورثوه لمن بعدهم لم يعترفوا لأهل البيت فيه بميزة، فجعلوا الجميع أندادا لهم في هذه الشأنية لا مجال للتمييز. هكذا حرموهم من ميراث الأموال و ميراث العلم. والحقيقة

ص: 130

سأجد نفسي مضطرا أن أجاريك في هذا التشكيك اللامنهجي أيضا. لأنك أتيت أمرا مسلما به لدي جمهور المسلمين. ويكفي كما أشار

الشافعي فيما ينسب إليه في حقهم: أنه من لم يصل عليهم لا صلاة له.

إنه عبث، أن الصلاة علي محمد وآل بيته في التشهد في كل صلاة المسلمين، لا تعبر عن شأنية أهل البيت وخصائصهم التي فاقوا بها كل من عداهم. وقد عبر الشافعي أن من لم يأتها لا صلاة له لأنه قائل بالبطلان مع تركها. وتلك هي مفخرة أهل البيت وأسد الأدلة علي فضلهم. فأما الصلاة علي محمد فهي واضحة معلومة المقاصد، فما معني الصلاة علي آله إن لم يكن لهم شأنية في الإسلام. وإن المقصود بالصلاة هنا هم الأئمة المخصوصين منهم لا مطلق من له علقة نسب لأن ذلك لا ينصرف علي العموم لأن منهم المنحرفين والفساق كما لا يخفي. فكان ذلك هو أسد الأدلة في نظري علي إمامة الأئمة منهم، لأنها لو كانت صلاة عامة لخالفت المقصود الشرعي، لكنها لا تتفق إلا مع تخصيصها في الأئمة، وذلك لضمان معصوميتهم. إنني أعتبر أن أسد الأدلة وأقصرها علي إمامة الأئمة من أهل البيت هي الصلاة الإبراهيمية المقررة. وأنا من هنا أوجه من يهمه الأمر إلي تأملها واسخراج معانيها الكامنة. فهي تلخص معاني وأبعاد كثيرة أستطيع أن أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر:

• إن بعض النواصب سنوا سب علي بن أبي طالب ولعنه من علي المنابر ما يقارب قرنا من الزمن. وقد فعلوا وما فعلوا لأن الله شاء أن ينسخ ما قالوا، لأنه جعل الصلاة عليهم في المفروض والنافل من صلاتهم. فكيف يصلون عليه في الصلاة ويلعنونه في التعقيبات. فلا يفعل ذلك إلا ذو الوجهين وهو كمافي الخبر شر الخلائق. ومصداقه المنافقون. فلا غرابة أن يقول أحد الصحابة وهو أبو سعيد

ص: 131

الخدري فيما يرويه أكثر من واحد من المحدثين، ومنهم النسائي : «لقد كنا نعرف المنافقين ببعضهم علي بن أبي طالب».

• وتحصل أن الصلاة عليهم في التشهد من الصلاة ولعنه في التعقيبات، ينسخ بعضه بعضا ويفضح بعضه بعضا. فأما الفضح فواضح. وأما النسخ، فإن الصلاة في التشهد أكثر قبولا مما في التعقيب. فقد شهد النواصب اللعانين لأمير المؤمنين أنهم ينسخون جهالاتهم في التعقيب بما يقرون به في صلاتهم. فاللعن هو الطرد من رحمة الله، وأما الصلاة فهي منتهي القرب منه تعالي. فقد نسخوا ذاك بهذا ، فما بقي لهم من حجة.

• أن الله تعالي خلد هذه الصلاة وحماها بتشريع عبادي ولم يجعلها خبرا يروي في التاريخ حتي تطاله يد التأويل الفاسد أو الانكار التعسفي. شأنها شأن ما صمد من فضائلهم رغم الحرب الطويلة علي روايتها والاحتفاء بها.

• أنهم قرنوا بآل إبراهيم. والمقارنة هنا لا تعني التساوي في الفضل بل التساوي في حيثيات الاصطفاء. والدليل علي ذلك أن أداة التشبيه هنا لا تختص بالآل فقط بل بمحمد وإبراهيم. وقد علمت فضل نبينا علي سائر الأنبياء. فالفضل له وللمقرون به كما لا يخفي. فإذا كان محمد صلي الله عليه و آله أفضل من إبراهيم عليه السلام، فآل محمد عليهم السلام حتما سيكونون أفضل من آل إبراهيم عليهم السلام.

• وحيث لسان الصلاة الإبراهيمية لا تعني التسوية في الفضل بقدر ما تعني التسوية في جهة الاصطفاء، قلنا أن كل ما ثبت في القرآن لآل إبراهيم هو ثابت وأزود لآل محمد للنكتة سابقة الذكر.

• وعليه ندرك أن المقصود هم الأئمة من ذرية محمد صلي الله عليه و آله وليس

ص: 132

مطلقهم. وقد دلت الأخبار علي ذلك بالتخصيص. ودل علي ذلك ما جاء في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَيٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ». قال « قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا».قال «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»، « قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)».فإبراهيم يقول من ذريتي ومفادها التبعيض وليس مطلق الذرية. بل الأئمة والأوصياء منهم.

• إن الوصاية الذرية إبراهيم هي دعوة إبراهيم عليه السلام، كما الوصاية لذرية الرسول صلي الله عليه و آله هي دعوة محمد صلي الله عليه و آله أيضا. بتعبير أدق : الوصية الخاصة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام والوصية بعمومهم.

• إن اصطفاء آل إبراهيم هو من الله. وهو كذلك بالنسبة إلي آل محمد صلي الله عليه و آله.

• إنها واردة في التشهد عند كل صلاة. وللتشهد معني عظيما في الشريعة. وفي الصلاة منتهي الأهمية والاعتبار.

• هذا ومثله مما لا يسع المقام الاستقصاء والتقصي. لكن أسفي أن المسلمين يرددون ذلك صباحا ومساء ولا أحد تأمل فيما هو ركن مفروض أو علي الأقل أكد مندوب عند من لا يري الوجوب. لا أحد يتأمل !؟ أقول لو أن بعضهم التفت إلي معانيها المذكورة الاستبدلها كما استبدلها البعض أو كان علي الأقل اعتبروها غير مبطلة خلافا للشافعي ممن قال بالبطلان من دون الإتيان بها.

لقد نال سلمان الفارسي درجة رفيعة ما نالها أحد من صحابة رسول الله صلي الله عليه و اله، وذلك حينما قال عنه: «سلمان منا أهل البيت». فلو لم يكن لهذا الانتساب ما يفوق غيره لما قالها سيد المرسلين. وقد علمت أنه ما قالها إلا بعد أن تنازع الأمر كل من المهاجرين والأنصار. فكان انتسابه لبيت أهل النبوة شرفا أسكت المتنازعين لما أدركا أن أهل البيت لا يقاس بهم أحد.

ص: 133

فانظر كيف تطلق الأحكام جزافا حتي أنك تنفي الدليل علي أمر أدركه المسلمون وغدا من ضروريات الاعتقاد. وبما أنك نفيت مسلما ، فستضطرني إلي الرجوع إلي البدايات الأستعرض بعض ما جاء في ما نكرته، لأتساءل أنا بدوري : ماذا تريدني أن أفعل بكل هذه الأدلة حتي يسعني القبول برأيك؟! وهاك الأدلة التي أغضبت عنها للتذكير ليس إلا. وسأقسمها بحسب نوعية مداركها إلي ثلاثة أقسام :

• فضلهم وشأنيتهم في القرآن.

• فضلهم وشأنيتهم في السنة.

• فضلهم وشأنيتهم في التراجم والسير .

وقبل ذلك، لا بد من التذكير بأن حضورا مكثفا لأهل البيت في التاريخ الإسلامي وحده يكفي لإثبات فضلهم وتميزهم. فلو كانوا لا يختصون بفضل لما انقصم ظهر التاريخ الإسلامي لأجل قضيتهم حتي اليوم. ولو لم يكن لهم مائز، فكيف يحصي التاريخ ويسجل أنهم علموا المسلمين بينما لم يأخذوا عن غيرهم علما قط. وإذن فلنقل :

فضلهم وشأنيتهم في القرآن

إنني أجد كل آية نزلت في حقهم أو في حق أميرهم، فيض من آيات لا ينضب. لو سلكنا منهج التأويل الحق لا التأويل الفاسد لوجدنا كل ما نطلب من القرآن. أليس فيه نقرأ: «فيه تبيان كل شيء»؟!

أجل، ولكن ليتنا نتفق علي قواعد التأويل الصحيح، إذن لرأينا عجبا. بل هذا مفاد قول الإمام الصادق عليه السلام: «لو قرأ القرآن كما أنزل لوجدوا فيه مسمين». فدعنا نتأمل قوله تعالي من سورة براءة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)».

ص: 134

أورد أكثر من أحد أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام .

ففي تذكرة الخواص: ذكر الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه علي

وفي الدر المنثور : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله «اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» قال : مع علي بن أبي طالب.

وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر في قوله «وكونوا مع الصادقين»قال : مع علي بن أبي طالب.

وعجبا أن بعضهم حاول أن يصرف المعني إلي غيره بما لا يستقيم ظاهرا ولا باطنا. وقد أحصي صاحب زاد المسير في التالي :

قوله تعالي:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)» ، في سبب نزولها قولان.

أحدهما : أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين.

والثاني: أنها في أهل الكتاب. والمعني : يا أيها الذين آمنوا بموسي وعيسي اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلي الله عليه و آله وكونوا مع الصادقين.

وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال.

أحدها : أنه النبي صلي الله عليه و آله وأصحابه ، قاله ابن عمر.

والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك. وقد قرأ ابن السميفع. وأبو المتوكل، ومعاذ القاريء : «مَعَ الصَّادِقِينَ» بفتح القاف وكسر النون علي التثنية.

والثالث: أنهم الثلاثة الذين خلفوا، صدقوا النبي صلي الله عليه و آله عن تأخرهم، قاله السدي.

ص: 135

والرابع : أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلفوا عن رسول الله صلي الله عليه و آله في الجهاد، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدمشقي: وقيل : إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال : يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه : «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا»إلي قوله : «ُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»(1)من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال : فان الله تعالي يقول : «اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)»فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء.

والخامس: أنه عام، قاله قتادة و«مع» بمعني «من»، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: «وكونوا من الصادقين».

قلت إن في ذلك تعمل وتكلف ظاهر لأسباب سأذكرها تباعا :

• حسبك أن علي بن أبي طالب، حسب ما صح واشتهر هو من بلغ هذه الآية بعد أن أمر بأخذها ممن سلمت له لتبليغها قبل ذلك، في حيثية مفصلة مشهودة. وهي قصة تبليغ سورة البراءة. يروي أحمد في مسنده عن أبي بكر: «أن النبي بعثه ببراءة لأهل مكة، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلي الله عليه و آله مدة فأجله إلي مدة، والله برئ من المشركين ورسوله، قال فسار بها ثلاثا ثم قال لعلي «الحقه فرد علي أبا بكر وبلغها أنت» قال : ففعل، فلما قدم علي النبي صلي الله عليه و آله أبو بكر بكي وقال : يا رسول الله حدث في شيء؟ قال: «ما حدث فيك الا خير، ولكني أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني».

حديث تبليغ الآية مما رواه أكثر من واحد من رواة السنن

ص: 136


1- سورة الحشر ، الآية : 8.

والأخبار مثل الحاكم في المستدرك وكذا الترمذي في الصحيح والنسائي في خصائصه، كما رواه أكثر من واحد من الصحابة كابن عباس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر.

فكيف يكون الفضل فيها راجع للخليفة الأول وهو في تقدير العامة أفضل من الباقين، وقد أمر علي بأن يلحق به لأخذها منه وتبليغها للحجيج في مكة، حتي خشي الخليفة الأول من هذا الإجراء وسأل الرسول صلي الله عليه و آله، أنزل في شيء؟ فلو كان هو المعني بالصادقين في الآية لكان الأولي بتبليغها ، فتأمل.

• إن ديدن المفسرين في دأبهم علي مخالفة الشيعة، اللجوء إلي لعبة تمييع المعني. وقد تأكد أنها في علي بن أبي طالب لا في غيره كما في قول مجاهد: الخطاب لعلي وهو في حقه علي وجه التأكيد».

• إنهم ميعوا مفهومها لتصبح عامة كما منعوا مصداقها لتصبح في المخلفين .

• لا خلاف أن عليا ما انزاحت عنه الخلافة بعد موت الخليفة الثاني إلا لرفضه لسنتهما فيما فاوضه عليه عبد الرحمن بن عوف. فهو لم يكن معهما. فلو كانوا المعنيين ب-«كونوا مع الصادقين» لكان أولي بعلي أن يقبل بسنتهما، وإلا كان ذلك مناقضا لكونه أمير كل آية ذكر فيها يا أيها الذين آمنوا.

• استدلال الخليفة الأول عام وهو مردود بتخصيص قول أمير المؤمنين : قالوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة. وقوله في عجز بيت : فغيرك أولي بالنبي وأقرب.

ويفهم منها أن أصدق مصاديقها هم أهل البيت لا غيرهم. بل إن خطاب«كونوا مع الصادقين» موجه للمهاجرين والأنصار معا، وهم المكلف الأول به.

ص: 137

• إن كل ما جاء في علي وأهل بيته ينسجم مع المقصود من الآية الكريمة. فهم من أمر المسلمين أن يكونوا معهم.

• ليست أول آية في الصادقين نزلت في علي بن أبي طالب. انظر قوله تعالي: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ».قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص: قال عكرمة عن ابن عباس : الذي ينتظر أمير المؤمنين. ومثله ذكر ابن حجر وابن مردويه وابن الصباغ المالكي وآخرون.

• وحسبك ما جاء في خصائص النسائي وتذكرة ابن الجوزي وآخرون في قول علي بن أبي طالب: أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب، آمنت قبل الناس سبع سنين.

• نحن المسلمين مأمورون باتباع أهل البيت عليهم السلام نا من الكتاب والسنة، ولسنا ملزمين باتباع أحد غيرهم، ولا كلاما غير كلامهم يلزمنا بموجب المعذرية والمنجزية. فهذا كافي لترجيح المراد من قوله: «كونوا مع الصادقين».

• الصحابة أنفسهم مدعوون لاتباع أهل البيت. فلو كان غير أهل البيت هم المعني بالصادقين، فهل أمر أهل البيت أن يتبعوا المخلفين وغيرهم؟! أم المعني لا يستقيم إلا بما دلت عليه الأدلة بوجوب اتباعهم لأهل البيت عليهم السلام ، والصحابة أول المكلفين بذلك، فتأمل.

أقول:

إنه تحصيل حاصل أن يرد فيه ذلك. فالذي كان في مقدمة المطهرين بنص الكتاب ألا يكون رمزا للصادقين.

أقول أيضا، أن المعني متعدي لباقي أئمة أهل البيت. وذلك لأننا

ص: 138

نجد في ذكر فضائلهم ما يقرنهم بمحمد وعلي كما في آية التطهير وكما في خبر سفينة النجاة. فذكر علي هنا من باب أصدق المصداق. وكالصلاة علي محمد في القرآن التي بينتها السنة بأنها تامة برديف الآل. ومصداقها الصلاة الإبراهيمية كما سبق من حديثنا. فحديث السفينة يشمل باقي أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين قال عنهم: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن رغب عنها هلك».وقول صلي الله عليه و آله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدأ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض». وحافظ أبدا يؤكد أن التمسك بهم يهدي وينجي إلي يوم القيامة. وهذا تفصيل ومصداق لقوله: «كونوا مع الصادقين». وهذا مفاد ما ذكر سبط بن الجوزيفي التذكرة بخصوص الآية الكريمة : «قال علماء السير : معناه كونوا مع علي وأهل بيته».

وانظر كذلك قوله تعالي :«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ » .

جاء في تفسير الطبري: «يقول : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك

«حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله : «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)»و فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء، وخصهم برحمة منه؟

ص: 139

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد في قوله:«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)»

، قال : الرجس هاهنا : الشيطان، وسوي ذلك من الرجس : الشرك.

اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله (أهل البيت) فقال بعضهم : عني به رسول الله صلي الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم.

• ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثني، قال: ثنا بكر بن يحيي بن زبان العنزي، قال : ثنا مندل، عن الأعمش، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي رضي الله عنه و حسن رضي الله عنه و حسين رضي الله عنها وفاطمة رضي الله عنها:«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)».

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة : خرج النبي صلي الله عليه و آله ذات غداة، وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن، فأدخله معه ثم قال:«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)»

حدثنا ابن وكيع، قال : ثنا محمد بن بكر، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد، عن أنس أن النبي صلي الله عليه و آله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر، كلما خرج إلي الصلاة فيقول : «الصلاة أهل البيت»«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)»

حدثني موسي بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا يحيي بن إبراهيم بن سويد النخعي، عن هلال، يعني ابن مقلاص، عن زبيد، عن

ص: 140

شهر بن حوشب، عن أم سلمة قالت: كان النبي صلي الله عليه و آله عندي، وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة، فأكلوا وناموا، وغطي عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: «اَللّهُمَّ هؤُلاءِ أهلُ بَيتي، اَللّهُمَّ أذهِب عَنهُمُ الرِّجسَ و طَهِّرهُم تَطهِيراً».

حدثنا ابن وكيع، قال : ثنا أبو نعيم، قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق، قال : أخبرني أبو داود، عن أبي الحمراء، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر علي عهد النبي صلي الله عليه و آله، قال : رأيت النبي صلي الله عليه و آله إذا طلع الفجر ، جاء إلي باب علي وفاطمة، فقال: «الصلاة الصلاة»،«ِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا(33)».

حدثني عبد الأعلي بن واصل، قال : ثنا الفضل بن دكين ، قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق، بإسناده عن النبي صلي الله عليه و آله مثله.

حدثني عبد الأعلي بن واصل، قال : ثنا الفضل بن دكين، قال : ثنا عبد السلام بن حرب، عن كلثوم المحاربي، عن أبي عمار، قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا قال : اجلس حتي أخبرك عن هذا الذي شتموا ؛ إني عند رسول الله صلي الله عليه و آله إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين، فألقي عليهم كساء له، ثم قال: «اَللّهُمَّ هؤُلاءِ أهلُ بَيتي، اَللّهُمَّ أذهِب عَنهُمُ الرِّجسَ و طَهِّرهُم تَطهِيراً». قلت: يا رسول الله، وأنا؟ قال: «وأنت». قال : فوالله إنها الأوثق عملي عندي.

حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثنا الوليد بن مسلم، قال : ثنا أبو عمرو، قال : ثني شداد أبو عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدث، قال : سألت عن علي بن أبي طالب في منزله، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول الله صلي الله عليه و آله إذ جاء، فدخل رسول الله صلي الله عليه و آله، ودخلت،

ص: 141

فجلس رسول الله صلي الله عليه و آله علي الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه وعليا عن يساره وحسنا وحسين بين يديه، فلفع عليهم بثوبه وقال : «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾»اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق».قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك؟ قال: «وأنت من أهلي».قال واثلة: إنها لمن أرجيما أرتجي.

حدثني أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية :»إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾»دعا رسول الله صلي الله عليه وآله عليا وفاطمةوحسنا وحسينا، فجلل عليهم كساء خيبريا، فقال : (اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). قالت أم سلمة : ألست منهم؟ قال: «أنت إلي خير».

حدثنا أبو كريب، قال : ثنا مصعب بن المقدام، قال : ثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت: جاءت فاطمة إلي رسول الله صلي الله عليه و آله ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها علي طبق، فوضعته بين يديه، فقال: «أين ابن عم وابناك؟» فقالت: في البيت، فقال: «ادعيهم».فجاءت إلي علي فقالت : أجب النبي صلي الله عليه و آله أنت وابناك، قالت أم سلمة : فلما رآهم مقبلين مد يده إلي كساء كان علي المنامة فمده وبسطه وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمني إلي ربه، فقال : «هولاء أهل البيت، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن

ص: 142

مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن أم سلمة؛ زوج النبي صلي الله عليه و آله أن هذه الآيةنزلت في بيتها «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾»قالت : وأنا جالسة علي باب البيت، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: «إنك إلي خير، أنت من أزواج النبي صلي الله عليه و آله». قالت : وفي البيت رسول الله صلي الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم حدثنا أبو كريب، قال : ثنا خالد بن مخلد، قال : ثنا موسي بن يعقوب، قال: ثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: أخبرني أم سلمة أن رسول الله صلي الله عليه و آله جمع عليا والحسنين، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إلي الله، ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي».فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلني معهم. قال : «إن من أهلي».

حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيي بن عبيد المكي، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة، قال : نزلت هذه الآية علي النبي صلي الله عليه و اله وهو في بيت أم سلمة «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾»فدعا حسنا وحسينا وفاطمة فأجلسهم بين يديه، ودعا عليا فأجلسه خلفه ، فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال: «هولاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».قالت أم سلمة : أنا معهم مكانك، وأنت علي خير».

حدثني محمد بن عمارة، قال : ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيي المري، عن السدي ، عن أبي الديلم، قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾»قال : وأنتم هم؟ قال: نعم.

ص: 143

حدثنا ابن المثني، قال : ثنا أبو بكر الحنفي، قال : ثنا بكير بن مسمار، قال : سمعت عامر بن سعد، قال : قال سعد: قال رسول الله صلي الله عليه و آله حين نزل عليه الوحي، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة، وأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: «رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي». حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد، قال : ذكرنا علي بن أبي طالب به عند أم سلمة قالت : فيه نزلت : «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾».قالت أم سلمة : جاء النبي صلي الله عليه و آله إلي بيتي فقال: «لا تأذني لأحد».فجاءت فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل علي جده وأمه، وجاء الحسين، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا حول النبي صلي الله عليه و آله بساط، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»؛ فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا علي البساط، قالت: فقلت: يا رسول الله وأنا؟ قالت: فوالله ما أنعم وقال: «إن علي خير».

وفي تفسير ابن كثير:

الحديث الأول : قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلي الله عليه و آله كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلي صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت،إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴿33﴾». حديث آخر: قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، أخبرني أبو داود، عن أبي الحمراء قال : رابطت

ص: 144

المدينة سبعة أشهر علي عهد رسول الله صلي الله عليه و آله، [قال : رأيت رسول الله ] إذا طلع الفجر، جاء إلي باب علي وفاطمة فقال : «الصلاة الصلاة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

و حديث آخر: وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي، حدثناشداد أبو عمار قال : دخلت علي واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا، رضي الله عنه ، فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلي الله عليه و آله؟ قلت : بلي. قال : أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت : توجه إلي رسول الله صلي الله عليه و آله، فجلست أنتظره حتي جاء رسول الله صلي الله عليه و آله، ومعه علي وحسنا وحسينا، آخذ كل واحد منهما بيده حتي دخل، فأدني عليا وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما علي فخذه، ثم لف عليهم ثوبه - أو قال : كساءه - ثم تلا هذه الآية: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»، اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق»، وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير، عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه - زاد في آخره: قال واثلة : فقلت: وأنا يا رسول الله صلي الله عليه و آله من أهلك؟ قال: «وأنت من أهلي» قال وائلة : إنها من أرجي ما أرتجي.

ثم رواه أيضا عن عبد الأعلي بن واصل، عن الفضل بن دكين، عن عبد السلام بن حرب، عن كلثوم المحاربي، عن شداد أبي عمار قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علي افشتموه، فلما قاموا قال : اجلس حتي أخبرك عن الذي شتموه، إني عند رسول الله صلي الله عليه و آله إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقي صلي الله عليه و آله عليهم كساء له، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». قلت : يا رسول الله، وأنا؟ قال: «وأنت» قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي.

ص: 145

حديث آخر: قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلي الله عليه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها، ببرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه فقال لها : «ادعي زوجك وابنيك». قالت : فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو علي منامةله علي دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله ، عزوجل ، هذه الآية : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)» . قالت: فأخذ فضل الكساء فغطاهم به ، ثم أخرج يده فألوي بها إلي السماء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»، قالت : فأدخلت رأسي البيت، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال: «إنك إلي خير، إنك إلي خير».

في إسناده من لم يسم، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات.

طريق أخري : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف، عن أبي المعدل، عن عطية الطفاوي، عن أبيه ؛ أن أم سلمة حدثته قالت : بينما رسول الله في صلي الله عليه و آله بيتي يوما إذ قال الخادم : إن فاطمة وعليا بالسدة قالت: فقال لي: «قومي فتحي عن أهل بيتي». قالت : فقمت فتنحيت في البيت قريبا ، فدخل علي وفاطمة، ومعهما الحسن والحسين، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما، واعتنق عليا بإحدي يديه وفاطمة باليد الأخري، وقبل فاطمة وقبل عليا، وأغدق عليهم خميصة سوداء وقال: «اللهم، إليك لا إلي النار أنا وأهل بيتي». قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله صلي الله عليه و آله . قال : «وأنت».

ص: 146

طريق أخري: قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا [الحسن بن عطية، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية ، عن أبي سعيد، عن أم سلمة؛ أن هذه الآية نزلت في بيتها: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)» قالت: وأنا جالسة علي باب البيت فقلت: يا رسول الله، ألست من أهل البيت؟ فقال : «إنك إلي خير، أنت من أزواج النبي صلي الله عليه و آله» قالت: وفي البيت رسول الله صلي الله عليه و آله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام.

طريق أخري: رواه ابن جرير أيضا، عن أبي كريب، عن وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة بنحوه.

طريق أخري : قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا خالد بن مخلد، حدثني موسي بن يعقوب، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلي الله عليه و آله جمع فاطمة والحسن والحسين، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إلي الله، عزوجل ، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي». قالت أم سلمة : فقلت : يا رسول الله، أدخلني معهم. فقال : «أنت من أهلي».

طريق أخري: رواه ابن جرير أيضا، عن أحمد بن محمد الطوسي، عن عبد الرحمن بن صالح، عن محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيي بن عبيد المكي، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة، عن أمه بنحو ذلك.

طريق أخري : قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت: جاءت فاطمة إلي رسول الله صلي الله عليه و آله ببرمة لها قد صنعت فيها قصيدة تحملها علي طبق، فوضعتها بين يديه فقال: «أين ابن

ص: 147

عمك وابناك؟» فقالت : في البيت. فقال: «ادعيهم».فجاءت إلي علي فقالت: أجب رسول الله أنت وابناك. قالت أم سلمة : فلما رآهم مقبلين مد يده إلي كساء كان علي المنامة، فمده وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمني إلي ربه، عزوجل، فقال : اللهم، هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

طريق أخري : قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد قال: ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة، فقالت: في بيتي نزلت: »إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)» قالت أم سلمة : جاء رسول الله صلي الله عليه و آله إلي بيتي فقال: «لا تأذني لأحد». فجاءت فاطمة فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها. ثم جاء الحسن فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، ثم جاء علي فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا فجللهم رسول الله صلي الله عليه و آله بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا علي البساط. قالت: فقلت : يا رسول الله، وأنا ؟ قالت : فوالله ما أنعم، وقال: «إنك إلي خير».

حديث آخر : قال ابن جرير، حدثنا ابن وكيع، حدثنا محمد بن بشر عن زكريا، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة، رضي الله عنها: خرج رسول الله صلي اله عليه و آله ذات غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»

ص: 148

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر، به.

طريق أخري: قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام - يعني: ابن حوشب - عن عم له قال: دخلت مع أبي علي عائشة، فسألتها عن علي، رضي الله عنه، فقالت، رضي الله عنها : تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلي رسول الله صلي الله عليه و آله، وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه؟ لقد رأيت رسول الله صلي الله عليه و آله دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فألقي عليهم ثوبا فقال : «اللهم، هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».قالت : فدنوت منه فقلت : يا رسول الله، وأنا من أهل بيتك؟ فقال : «تنحي، فإنك علي خير».

حديث آخر: قال ابن جرير حدثنا المثني، حدثنا بكر بن يحيي بن بان العنزي، حدثنا مندل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «نزلت هذه الآية في خمسة: في، وفي علي، وحسن، وحسين، وفاطمة : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية ، عن أبي سعيد، عن أم سلمة، كما تقدم.

وروي ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي، عن عطية ، عن أبي سعيد موقوفا، فالله أعلم.

حديث آخر: قال ابن جرير : حدثنا ابن المثني، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد قال: قال سعد: قال رسول الله صلي الله عليه و آله حين نزل عليه الوحي، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال: «رب، هؤلاء أهلي وأهل بيتي».

ص: 149

حديث آخر: وقال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب ، وشجاع بن مخلد جميعا ، عن ابن علية . قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثني أبوحيان، حدثني يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلي زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا [رأيت رسول الله صلي الله عليه و آله وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا]؛ حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه و آله. قال : يا بن أخي، والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلي الله عليه و اله، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال : قام فينا رسول الله صلي الله عليه و آله يوما خطيبا بماء يدعي خما - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثني عليه، ووعظ وذكر، ثم قال : «أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، وأولهما كتاب الله، فيه الهدي والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به».فحث علي كتاب الله ورب فيه، ثم قال : «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاثا. فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال : ومن هم؟ قال هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء محرم الصدقة؟ قال :

ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان، عن حسان بن إبراهيم، عن سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه : فقلنا له: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال : لا وايم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلي أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

ص: 150

كذلك السيوطي في الدر المنثور: «أخرج الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : جاءت فاطمة رضي الله عنه إلي أبيها بثريدة لها، تحملها في طبق لها حتي وضعتها بين يديه. فقال لها: «أين ابن عمك»؟ قالت: هو في البيت. قال : «اذهبي فادعيه وابنيك»، فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يد وعلي رضي الله عنه يمشي في أثرهما حتي دخلوا علي رسول الله صلي الله عليه و آله، فأجلسهما في حجره، وجلس علي رضي الله عنه عن يمينه، وجلست فاطمة رضي الله عنها عن يساره، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فأخذت من تحتي كساء كان بساطنا علي المنامة في البيت».

وأخرج الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال الفاطمة رضي الله عنها«ائتني بزوجك وابنيه»، فجاءت بهم، فألقي رسول الله صلي الله عليه و آله عليهم كساء فدكيا، ثم وضع يده عليهم، ثم قال : اللهم إن هؤلاء أهل محمد - وفي لفظ آل محمد - فاجعل صلواتك وبركاتك علي آل محمد كما جعلتها علي آل إبراهيم إنك حميد مجيد». قالت أم سلمة رضي الله عنها : فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: «إنك علي خير».

وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)» وفي البيت سبعة : جبرائيل، وميكائيل عليهم السلام، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، وأنا علي باب البيت، قلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: «إنك إلي خير ، إنك من أزواج النبي صلي الله عليه و آله»

وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان يوم أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، فنزل جبرائيل عليه السلام علي رسول الله صلي الله عليه و آله بهذه الآية «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»، قال : فدعا رسول الله صلي الله عليه و آله بحسن، وحسين،

ص: 151

وفاطمة، وعلي، فضمهم إليه، ونشر عليهم الثوب. والحجاب علي أم سلمة مضروب، ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».قالت أم سلمة رضي الله عنها : فأنا معهم يا نبي الله؟ قالت: «أنت علي مكانك، وإنك علي خير».

وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :

في بيتي نزلت «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ »، وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن والحسين. فجللهم رسول الله صلي الله عليه و آله بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه و آله«نزلت هذه الآية في خمسة : في وفي علي، وفاطمة، وحسن، وحسين، «ِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج رسول الله صلي الله عليه و آله غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما، فأدخلهما معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: «ِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد قال : نزل علي رسول الله * الوحي، فادخل علية، وفاطمة، وابنيهما تحت ثوبه، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهلي، وأهل بيتي».

ص: 152

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: جاء رسول الله صلي الله عليه و آله إلي فاطمة، ومعه حسن، وحسين، وعلي، حتي دخل، فأدني عليا ، وفاطمة. فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسنا، وحسينا. كل واحد منهما علي فخذه، ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم، ثم تلا هذه الآية : «و إنما يريد الله ليذهب عنكم الج أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)»

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلي الله عليه و آله كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها إذا خرج إلي صلاة الفجر ويقول الصلاة يا أهل البيت الصلاة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال «أذكركم الله في أهل بيتي»، فقيل : لزيد رضي الله عنه : ومن أهل بيته، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

وأخرج الحكيم والترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معة في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله:

«إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسما. فذلك قوله «وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ»(1)و«وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ»(2) فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا ،

ص: 153


1- سورة الواقعة، الآية : 27.
2- سورة الواقعة، الآية: 41.

فذلك قوله «فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)»(1)فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ »(2) وأنا أتقي ولد آدم، وأكرمهم علي الله تعالي ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»، فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)» قال : هم أهل بيت طهرهم الله من السوء، واختصم برحمته قال : وحدث الضحاك بن مزاحم رضي الله عنه ، أن نبي الله صلي الله عليه و آله كان يقول: «نحن أهل بيت طهرهم الله من شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم».

وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لما دخل علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها. جاء النبي صلي الله عليه و آله أربعين صباحا إلي بابها يقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، الصلاة رحمكم الله «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»أنا حرب لمن حاربتم، أنا سلم لمن سالمتم».

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلي الله عليه و آله ثمانية أشهر بالمدينة. ليس من مرة يخرج إلي صلاة

ص: 154


1- سورة الواقعة، الآيات: 8- 10.
2- سورة الحجرات، الآية :13.

الغداة إلا أتي إلي باب علي رضي الله عنه، فوضع يده علي جنبتي الباب، ثم قال: «الصلاة... الصلاة ... «ِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)»

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : شهدنا رسول الله صلي الله عليه و آله تسعة أشهر، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت «ِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)«الصلاة رحمكم الله، كل يوم خمس مرات».

وأخرج الطبراني عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلي الله عليه و آله يأتي باب علي، وفاطمة ستة أشهر فيقول : «ِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».

أخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَي فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ »قال : القرآن، والسنة، عتب عليهن بذلك.

وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه في قوله قال : كان رسول الله صلي الله عليه و آله يصلي عند بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار. حتي ابن تيمية في الفتاوي الكبري لم ينفي أن المقصود من أهل بيته خصوص أهل الكساء. يقول «مسألة: في رجل قال في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه، والله عليه بذعة؟ الجواب : أما كوم علي بن أبي طالب من أهل البيت، فهذا مما لا خلاف بين المسلمين فيه، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلي دليل، بل هو أفضل أهل البيت، وأفضل بني هاشم بعد النبي صلي الله عليه و آله وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه و آله «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَي فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ

ص: 155

وَالْحِكْمَةِ» قال : كان رسول الله صلي الله عليه و آله يصلي عند بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار. حتي ابن تيمية في الفتاوي الكبري لم ينفي أن المقصود من أهل بيته خصوص أهل الكساء. يقول: «مسأله : في رجل قال في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه، والصلاة عليه بدعة؟ الجواب : أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت، فهذا ما لا خلاف بين المسلمين فيه، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلي دليل، بل هو أفضل أهل البيت ، وأفضل بني هاشم بعد النبي صلي الله عليه و آله وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه و آله «أنه أدار كساه علي علي وفاطمة وحسن وحسين، فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم وطهرهم تطهيرا»..

يذكر الآلوسي في تفسيره: «ُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي»(1)وهم أقاربه صلي الله عليه و آله الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلي من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالي عنهم أبوابه وفي قوله صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها »رمز إلي ذلك فافهم الإشارة.

«ُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي»*(1). قال في الكشاف : والقربي مصدر كالزلفي والبشري بمعني القرابة ، والمراد: في أهل القربي. وروي أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما».

«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(2)*(6). قال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري

ص: 156


1- سورة الشوري، الآية : 23.
2- سورة الأحزاب، الآية : 56.

في صحيحه في باب يزفون النسلان (7) في المشي، عند ذكر جماعة من الأنبياء صلي الله عليه و آله قبل ذكر مناقب قريش : حدثنا قيس بن حفص وموسي بن إسماعيل، قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا أبو قرة مسلم بن سالم الهمداني، قال حدثني عبد الله بن عيسي، سمع عبد الرحمان بن أبي ليلي قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي إليك هدية سمعناها من النبي صلي الله عليه و آله؟! فقلت : بلي فاهدها. فقال : سألنا رسول الله صلي الله عليه و آله فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله تعالي قد علمنا كيف نسلم عليكم، قال: «قولوا: اللهم صل علي محمد وآل محمد كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك علي محمد وآل محمد كما باركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد».

قال السيوطي في تفسيره: وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: * «اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ119» قال : مع علي بن أبي طالب.

قال الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار : افتخر العباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، وعلي بن أبي طالب، فقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال طلحة : أنا صاحب البيت ومعي مفتاحه. وقال علي: «ما أدري ما تقولون، أنا صليت إلي هذه القبلة قبلكما وقبل الناس أجمعين لستة أشهر»، فنزلت «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ».

قال الله عزوجل : «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ».ذكر البغوي في تفسيره انهم الأنبياء، ثم قال : وقال أبو العالية : هم آل رسول الله صلي الله عليه و اله.

ص: 157

وقوله تعالي : «وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)»(1)، اخرج الديلمي، عن أبي سعيد الخدري : أن النبي صلي الله عليه و آله قال : «وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)» عن ولاية علي. ثم ذكر أنه قال الواحدي : وروي في قوله تعالي: «وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)»، أي : عن ولاية علي وأهل البيت.

لقوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)، »(2)أخرج الحافظ جمال الدين الذرندي، عن ابن عباس : إن هذه الآية لما نزلت قال صلي الله عليه و آله لعلي: «هو أنت وشيعتك، تأتي يوم القيامة أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين». انتهي

قال ابن حجر في الصواعق: الآية الخامسة قوله تعالي: * «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»*، أخرج الثعلبي في تفسيرها عن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: «نحن حبل الله الذي قال فيه: * «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا».

فهذا مثال مما نزل دالا دلالة صريحة جلية علي فضلهم ومكانتهم. وهو مما لا يحصي يضيق عن اسقصاءه المقام. فاكتفينا بباقات حتي أن كل ما ورد من تلك الفضائل لها طرق كثيرة. وهذا طبيعي لما ندرك ما قيل، والقول لابن عباس : «ما أنزل الله تعالي في القرآن آية إلا وعلي بن أبي طالب رأسها وأميرها».كما في رواية مجاهد أيضا وقد أورده ابن الجوزي في تذكرة الخواص وأحمد في المسند وآخرون. والذي هذا حاله أميرا لكل آية امتدحفيها المؤمنون، ألا يكون له الفضل علي سائر الأغيار، وهو قد كان كذلك في الفضل مع أئمة أهل البيت من بعده لآية التطهير المخصصة بحديث الكساء : محمد وعلي والحسنين والزهراء

متعة

ص: 158


1- سورة الصافات، الآية : 24.
2- سورة البينة، الآية: 7.

كأنهما بيت واحد في الفضل والشأنية والتميز الذي به استحقوا الصلاة عليهم لا يفكك بينها والصلاة علي محمد إلا مسرف مخالف لما عليه صيغتها السنية كما في الصلاة الإبراهيمية أو كما قال عنها صلي الله عليه و آله: «لا تصلوا علي الصلاة البتراء»، قيل : وما هي الصلاة البتراء يا رسول الله ، قال: «أن يقول أحدكم: اللهم صل علي محمد... ولكن فليقل : اللهم صل علي محمد وآل محمد» أو كما قال.

ولا أدل علي ذلك ما ورد فيما نزل في علي بن أبي طالب حسب ما جاء في أخبار السنة قبل الشيعة. فإن لم يلفت انتباهك إلي هذا الفضل والتميز ما جاء في أخبار الإمامية فإني أذكرك بما أورده محدثون حفاظ من أهل السنة. انظر ما نزل فيهم مما أورده جماعة المفسرين. وانظر ابن حجر وما ذكره فيما نزل فيهم أيضا في صواعقه المحرقة وانظر إلي تذكرة الخواص للحافظ ابن الجوزي السبط، حيث ذكر الآيات النازلة في شأن علي بن أبي طالب فعدد منها 14 آية. ليس حصرا وإنما كما ذكر في مفتتح الكتاب أنه سيذكر ما ثبت واشتهر من فضائله.

هذا جانب ما يشير إلي فضلهم في القرآن، ويمنع من أن يعتبروا في فضلهموعلمهم كغيرهم لمحل الاصطفاء والتطهير. وأذكرك أنني أتحدث عن أئمة أهل البيت الذين ثبتت في حقهم هذه الميزات، لذا لا نخرج عن الموضوع لا سيما لما قلت: «وإنما أعتقد أنهم أو بعضهم كانوا مجتهدين كبقية المجتهدين، يخطئون ويصيبون، وأعطي لنفس الحق بنقدهم والنظر في أقوالهم أو الأقوال المنسوبة إليهم ورفض ما يخالف القرآن والعقل السليم».. لأننا لا نقول بالعموم. وقد ثبت لخواصهم أي الأئمة المعنيين بذلك أنهم أفضل الناس في زمانهم علما وأخلاقا ، احتاج الناس إلي علمهم ولم يحتاجوا إليهم في شيء. وبالنتيجة، فلا

ص: 159

أعلميتهم وشأنيتهم تخالف القرآن ولا شهادة الأصحاب والأباعد ولا العقل السليم الذي نظر في آثارهم وجهادهم وتعاليمهم بعين الفحص والاعتراف يأبي ذلك.

هذا من القرآن جليا فإن شئت فصلت أكثر في عرض مزيد. وهو يدفع قولك أن أهل البيت ليس لهم ما يميزهم عن غيرهم من العلماء بل إنك تعطي نفسك الحق في النظر في أقوالهم. وأنت بهذا قلت ما لم يقل به أهل السنة. ووقروهم واعترفوا بفضلهم أكثر مما تفعل. فهذه مخالفتك الأولي لصريح القرآن. وأما فيما يتعلق بذكر فضلهم في السنة :

فضلهم وشأنيتهم في السنة

لا عجب أن وصلتنا تلكم الأخبار عن فضائل أهل البيت عليهم السلام رغم أجواء الحصار الشديد الذي فرض علي رواة الأخبار، والرقابة التي ضربت دون الإخبار عن فضائلهم. كيف أمكننا الوقوف علي تلك الآثار في مدوانات الحديث السنية رغم السياسة الظالمة لخصومهم. بل كيف يحتفظ التراث رغم القمع الممنهج بمثل هذه الفضائل في حق إمام سن بنو أمية بوقاحة لعنه من علي المنابر قرابة قرن من الزمن. وهذا أمر يجب أن يقدر تقديرا بالغة. فلقد رأيت من أعلام السنة من واجهوا محنة التعريف بفضائل أهل البيت عليهم السلام. وتحملوا صنوف الأذي من أجل الاضطلاع بهذه المهمة الشرعية.

وكما يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : وروي أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني في كتاب الأحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلي عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كل كورة

ص: 160

وعلي كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم علي جذوع النخل، وطردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم. وكتب معاوية إلي عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا الأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتي أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم». ومع ذلك بقيت فضائلهم لا تعد ولا تحصي.

لا يمكن تحميل ما ورد في السنة في رسالة مختصرة. لكن السنة فاضت بما لا يحصي من تلك الفضائل في شأنية أهل البيت بالجملة أو في فضل أسماء منهم معينين. وهاك باقة أخري منتقات فقط للتذكير وهي مما ورد في كتب القوم الذين ليسوا إمامية :

ذكر البخاري في صحيحه في باب : مناقب علي بن أبي طالب: حدثنا محمد بن بشار، قال : حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة، عن سعيد، قال : سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه ، قال : قال النبي صلي الله عليه و آله: «أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي».

وفي صحيح مسلم من فضائل علي بن أبي طالب يروي:

حدثنا يحيي بن يحيي التميمي وأبو جعفر محمد بن الصباح وعبيد

ص: 161

الله القواريري وسريج بن يونس كلهم عن يوسف بن الماجشون واللفظ لابن الصباح حدثنا يوسف أبو سلمة الماجشون حدثنا محمد بين المنكدر عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله لعلي أنت وي بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي قال سعيد فأحببت أن أشافه بها سعدا فلقيت سعدا فحدثته بما حدثني عامر فقال أنا سمعته فقلت أنت سمعته فوضع إصبعيه؛ علي أذنيه فقال نعم وإلا فاستكتا.

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة كنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد بن المثني وان بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن سعد بن أبي وقاص قال خلف رسول الله صلي الله عليه و آله علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون بين موسي غير أنه لا نبي بعدي حدثنا عبيد الله ب معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبه في هذا الإسناد حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وتقاربا في اللفظ قالا حدثنا حاتم وهو ابن إسمعيل عن بكير ب مسمار عن عامربن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا التراب فقال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلي الله عليه و آله فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منه أحب إلي من

حمر النعم.

سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلي الله عليه و آله أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبوة بعدي

ص: 162

وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله رسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا فأبي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ».

دعا رسول الله صلي الله عليه و آله عليها وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد ابن المثني وان بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن شعبة ابن إبراهيم من إبراهيم بن سعد عن سعد عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال لعلي أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي.

حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعا عن ابن علية قال زهير حدثنا إسمعيل بن إبراهيم حدثني أبو حيان حدثي يزيد بن حيان قال انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلي زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين لقد لقيت يا تريد خيرا كثيرا.

رأيت رسول الله صلي الله عليه و آله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه و آله قال يا بن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسولي الله صلي الله عليه و آله ما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه ثم قال قام رسول الله صلي الله عليه و آله يوما فينا خطيبا بماء يدعي خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثني عليه ووعظ ذكر ثم قال أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علي كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي

ص: 163

أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد ألي نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة قال نعم. وحدثنا محمد بن بكار بين الريان حدثنا حسان يعني ابن إبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم عن النبي صلي الله عليه و آله ، وساق الحديث بمحوه بمعني حديث زهير حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا جرير كلاهما عن أبي حيان بهذا الإسناد نحو حديث إسمعيل واد في حديث جرير كتاب الله فيه الهدي والنور من استمسك به وأخذ به كان علي الهدي ومن أخطأه ضل حدثنا محمد بن بكار بين الريان حدثنا مما يعني ابن إبراهيم عن سعيد وهو ابن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال دخلنا عليه فقلنا له لقد رأيت خيرا لقد صاحبت رسول الله صلي الله عليه و آله وصلت خلقه وساق الحديث بنحو حديث أبي حيان غير أنه قال ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان علي الهدي ومن تركه كان علي ضلالة وفيه قلنا من أهل بيته نساؤه قال لا وايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العضر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلي أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده .

وأورد الحاكم في مستدركه علي الصحيحين:

حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الحنظلي، ببغداد، ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا يحيي بن حماد، وحدثني أبو بكر محمد بن بالويه، وأبو بكر أحمد بن جعفر البزار قالا : ثنا عبد

ص: 164

الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا يحيي بن حماد، وثنا أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه، ببخاري، ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي، ثنا خلف بن سالم المخرمي، ثنا يحيي بن حماد، ثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش قال : ثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلي الله عليه و آله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن، فقال: «كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالي، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض»(1) ثم قال: «إن الله عزوجل مولاي، وأنا مولي كل مؤمن»، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه ، فقال : «من كنت مولاه (1) فهذا وليه (2)، اللهم وال من والاه (3) وعاد من عاداه» وذكر الحديث بطوله. هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه بطوله، شاهده حديث سلمة بن كهيل، عن أبي الطفيل أيضأ صحيح علي شرطهما.

حدثناه أبو بكر بن إسحاق، ودعلج بن أحمد السجزي، قالا : أنبأ محمد بن أيوب، ثنا الأزرق بن علي، ثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، ثنا محمد بن سلمة بن كھيل، عن أبيه، عن أبي الطفيل، عن ابن واثلة، أنه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: نزل رسول الله صلي الله عليه و آله بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله صلي الله عليه و آله عشية فصلي، ثم قام خطيبا ، فحمد الله وأثني عليه، وذكر ووعظ، فقال : ما شاء الله أن يقول : ثم قال: «أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما : كتاب الله، وأهل بيتي عترتي (1)» ثم قال: «أتعلمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم»ثلاث مرات، قالوا: نعم، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله: «من كنت مولاه (1) فعلي مولاه» «وحديث بريدة الأسلمي صحيح علي شرط الشيخين» .

ص: 165

حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثني أبي، ومحمد بن نعيم، قالا : ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن يزيد الرشك، عن مطرف، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلي الله عليه و آله سرية (1)، واستعمل عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فمضي علي في السرية فأصاب جارية (2)، فأنكروا ذلك عليه فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله إذا لقينا النبي صلي الله عليه و آله لأخبرناه بما صنع علي، قال عمران: وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدؤوا برسول الله صلي الله عليه و آله فنظروا إليه وسلموا عليه، ثم انصرفوا إلي رحالهم (3)، فلما قدمت السرية سلموا علي رسول الله صلي الله عليه و آله فقام أحد الأربعة فقال : يا رسول الله، ألم تر أن علية صنع كذا وكذا؟ فأعرض عنه، ثم قام الثاني، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قام الثالث، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قام الرابع، فقال : يا رسول الله، ألم تر أن عليا صنع كذا وكذا، فأقبل عليه رسول الله صلي الله عليه و آله والغضب في وجهه، فقال: «ما تريدون من علي، إن عليا مني، وأنا منه وولي كل مؤمن» «هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه»

حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن علي بن عفان العمري،وحدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ، ثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، قالا : ثنا عبيد الله بن موسي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي رضي الله عنه قال :« إني عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب ، صليت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة».

شعيب بن صفوان، عن الأجلح، عن سلمة بن كھيل، عن حبة بن جوين، عن علي رضي الله عنه، قال : «عبدت الله مع رسول الله صلي الله عليه و آله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة».

ص: 166

حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن صبيح، مولي أم سلمة، عن زيد بن أرقم، عن النبي صلي الله عليه و آله ، أنه قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين : «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم». .

حدثنا مكرم بن أحمد القاضي، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا إسحاق بن سعيد بن أركون الدمشقي، ثنا خليد بن دعلج أبو عمرو السدوسي، أظنه عن قتادة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان الأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ».

أخبرني أحمد بن جعفر بن حمدان الزاهد، ببغداد، ثنا العباس بن إبراهيم القراطيسي، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا مفضل بن صالح، عن أبي إسحاق، عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: وهو آخذ بباب الكعبةمن عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت النبي صلي الله عليه و آله يقول: «ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق».

قال يوسف بن عبد البر في الاستيعاب: وروي عنه صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأته من بابه»(5). انتهي. قال في جامع الأصول: إن رسول الله صلي الله عليه و آله قال : «أنا مدينة العلم وعلي بابها » (1) وفي مسند أحمد بن حنبل وصحيح البيهقي: «من أراد أن ينظر إلي نوح في عزمه، وإلي آدم في علمه، وإلي إبراهيم في حلمه، وإلي موسي في فطنته، وإلي عيسي في زهده فلينظر إلي علي بن أبي طالب».

ص: 167

ويذكر ابن عبد البر في الاستيعاب كلاما في علي بن أبي طالب عليه السلام يرفعه إلي مقام الأفضلية، إذ يقول:

وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم وفضله هؤلاء علي غيره.

وقال ابن إسحاق : أول من آمن بالله وبرسوله محمد صلي الله عليه و آله من الرجال علي بن أبي طالب وهو قول ابن شهاب إلا أنه قال : من الرجال بعد خديجة وهو قول الجميع في خديجة.

حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا أحمد بن عبد الله الدقاق قال حدثنا مفضل بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره : هو أول عربي وعجمي صلي مع رسول الله صلي الله عليه و آله ، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره.

وقد مضي في باب أبي بكر الصديق رضي الله عنها ذكر من قال: إن أبا بكر أول من أسلم.

وروي عن سلمان الفارسي أنه قال : أول هذه الأمة ورودا علي نبيها عليه الصلاة والسلام الحوض أولها إسلاما : علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روي هذا الحديث مرفوعا عن سلمان عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال: «أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما : علي بن أبي طالب». ورفعه أولي لأن مثله لا يدرك بالرأي.

حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا يحيي بن هشام حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن

ص: 168

أبي صادق عن حنش بن المعتمر عن عليم الكندي عن سلمان الفارسي، قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «أولكم ورودا علي الحوض أولكم إسلاما : علي بن أبي طالب رضي الله عنه».

وروي أبو داود الطيالسي قال أخبرنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون. عن ابن عباس، أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال لعلي بن أبي طالب : «أنت ولي كل مؤمن بعدي».

و به عن ابن عباس قال: أول من صلي مع النبي صلي الله عليه و آله بعد خديجة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال : حدثنا الحسن بن حماد حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال: كان علي بن أبي طالب أول من آمنمن الناس بعد خديجة رضي الله عنه.

قال أبو عمر رحمة الله : هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته وهو يعارض ما ذكرناه عن ابن عباس في باب أبي بكر رضي الله عنه.

والصحيح في أمر أبي بكر أنه أول من أظهر إسلامه كذلك قال مجاهد وغيره قالوا: ومنعه قومه. وقال ابن شهاب وعبد الله بن محمد بن عقيل وقتادة وأبو إسحاق أول من أسلم من الرجال علي. واتفقوا علي أن خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ثم علي بعدها.

وروي في ذلك عن أبي رافع مثل ذلك حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا عبد السلام بن صالح قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال حدثنا عمرو مولي عفرة قال : سئل محمد بن كعب القرظي عن أول من أسلم : أعلي أو أبو بكر رضي الله عنها

ص: 169

قال : سبحان الله علي أولهما إسلاما وإنما شبه علي الناس لأن عليا أخفي إسلامه من أبي طالب وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه ولا شك أن عليا عندنا أولهما إسلاما.

وذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث بن سعد عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنها أسلما وهما ابنا ثماني سنين. هكذا يقول أبو الأسود يتيم عروة. وذكره أيضا ابن أبي خيثمة عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد عن أبي الأسود وذكره عمر بن شبة عن الخزاعي عن ابن وهب عن الليث. عن أبي الأسود قال الليث : وهاجرا وهما ابنا ثمان عشرة سنة ولا أعلم أحدا قال بقول أبي الأسود هذا.

قال الحسن الحلواني: وحدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن قال : أسلم علي رضي الله عنه وهو ابن خمس عشرة سنة.

وقال ابن إسحاق : أول ذكر آمن بالله ورسوله علي بن أبي طالب وهو يومئذ ابن عشر سنين.

قال أبو عمر : قيل : أسلم علي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقيل : ابن اثنتي عشرة سنة وقيل : ابن خمس عشرة. وقيل : ابن ست عشرة وقيل ابن عشر. وقيل ابن ثمان.

ذكر عمر بن شبة عن المدائني عن ابن جعدبة عن نافع عن ابن عمر قال: أسلم علي وهو ابن ثلاث عشرة سنة.

وحدثنا معمر عن عثمان الخوري عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنها قال : أول من أسلم علي رضي الله عنه

ص: 170

وذكر أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا سريج بن النعمان قال : حدثنا الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال : أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن ثلاث عشرة سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.

قال أبو عمر رحمة الله : هذا أصح ما قيل في ذلك.

وقد روي عن ابن عمر من وجهين جيدين. وروي عن ابن فضيل عن الأجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن الجوين العرني قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين

وروي شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني قال : سمعت عليا يقول أناأول من صلي مع رسول الله صلي الله عليه و آله. وقال سالم بن أبي الجعد : قلت لابن الحنفية : أبو بكر كان أولهم إسلاما؟ قال: لا.

وروي مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال : استنبيء النبي صلي الله عليه و آله يوم الإثنين وصلي علي يوم الثلاثاء.

وقال زيد بن أرقم : أول من آمن بالله بعد رسول الله صلي الله عليه و آله علي بن أبي طالب. وروي حديث زيد بن أرقم من وجوه ذكرها النسائي وأسد بن موسي وغيرهما منها ما حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة قال : سمعت أبا حمزة الأنصاري قال : سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلي مع رسول الله صلي الله عليه و آله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا أبي، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال : حدثنا يحيي بن الأشعث عن إسماعيل بن إياس عن عفيف

ص: 171

الكندي عن أبيه عن جده قال لي: كنت أمرا تاجرا فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب الأبتاع منه بعض التجارة وكان امرءا تاجرا فوالله إني لعنده بمني إذ خرج رجل من خبء قريب منه فنظر إلي الشمس فلما رآها قد مالت قام يصلي. قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الخبء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي ثم خرج غلام قد راهق الحلم من ذلك الخبء فقام معهما يصلي فقلت للعباس : من هذا يا عباس؟ قال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قلت : من هذه المرأة؟ قال : هذه امرأته خديجة بنت خويلد. قلت: من هذا الفتي؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه. قلت ما هذا الذي يصنع؟ قال : يصلي وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه فيما ادعي إلا امرأته وابنعمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسري و قيصر. وكان عفيف يقول: إنه قد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثانيا مع علي. وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق في باب عفيف الكندي من هذا الكتاب والحمد لله.

وقال علي رضي الله عنه : صليت مع رسول الله صلي الله عليه و آله كذا وكذا لا يصلي معه غيري إلا خديجة وأجمعوا علي أنه صلي القبلتين وهاجر وشهد بدرا والحديبية وسائر المشاهد وأنه أبلي ببدر وبأحد وبالخندق وبخيبر بلاء عظيما وأنه أغني في تلك المشاهد وقام فيها المقام الكريم. وكان لواء رسول الله صلي الله عليه و آله بيده في مواطن كثيرة وكان يوم بدر بيده علي اختلاف في ذلك ولما قتل مصعب بن عمير يوم أحد وكان اللواء بيده دفعه رسول الله صلي الله عليه و آله إلي علي رضي الله عنه.

وروي ابن الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : دفع رسول الله صلي الله عليه و آله الراية يوم بدر إلي علي وهو ابن عشرين سنة ذكره السراج في تاريخه. ولم يتخلف عن مشهد شهده رسول الله صلي الله عليه و آله مذ

ص: 172

قدم المدينة إلا تبوك فإنه خلفه رسول الله صلي الله عليه و آله علي المدينة وعلي عياله بعده في غزوة تبوك وقال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي».وروي قوله صلي الله عليه و آله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي»جماعة من الصحابة وهو من أثبت الآثار وأصحها رواه عن النبي صلي الله عليه وآله سعد بن أبي وقاص. وطرق حديث سعد فيه كثيرة جدا قد ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره ورواه ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله وجماعة يطول ذكرهم.

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا ابن المفسر حدثنا أحمد بن علي حدثنا يحيي بنمعين حدثنا عثمان بن معاوية الفزاري عن موسي الجهني عن فاطمة بنت علي قالت : سمعت أسماء بنت عميس تقول: سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه ليس بعدي نبي».

حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم قال: حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي، قال حدثنا نمير عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلي الله عليه و آله لعلي: «أنت أخي وصاحبي».

وروي بريدة وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم كل واحد منهم عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال يوم غدير خم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه». وبعضهم لا يزيد علي من كنت مولاه فعلي مولاه.

وروي سعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وسلمة بن الأكوع كلهم بمعني واحد عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال يوم خيبر : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس

ص: 173

بفرار، بفتح الله علي يديه». ثم دعا بعلي وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه الراية ففتح الله عليه وهذه كلها آثار ثابتة. وبعثه رسول الله صلي الله عليه و آله إلي اليمن وهو شاب ليقضي بينهم، فقال : يا رسول الله، إني لا أدري ما القضاء. فضرب رسول الله صلي الله عليه و آله بيده صدره، وقال: «اللهم اهد قلبه ، وسدد لسانه».قال علي رضي الله عنه: فوالله ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.

ولما نزلت: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا33»(1).دعا رسول الله صلي اله عليه و آله فاطمة وعليا وحسنا وحسينا رضي الله عنهم في بيت أم سلمة وقال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». وروي طائفة من الصحابة أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال لعلي رضي الله عنه: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

وكان علي رضي الله عنه يقول: «والله إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق».

وقال له رسول الله صلي اله عليه و آله: «يا علي ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله الك، مع أنك مغفور لك»؟ قال: قلت: بلي. قال: «لا إله إلا الله الحليم العليم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب العرش الكريم».وقال صلي الله عليه و اله: «يهلك فيك رجلان : محب مفرط، وكذاب مفتر». وقال له : «تفترق فيك أمتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسي».

وقال صلي الله عليه و آله: «من أحب عليا فقد أحبني، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن آذي عليا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله».

ص: 174


1- سورة الأحزاب، الآية : 33.

وروي عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه».

وقال صلي الله عليه و آله في أصحابه : «أقضاهم علي بن أبي طالب».

وقال عمر بن الخطاب : علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أبو بكر أحمد بن زهير قال : حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو فروة قال : سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلي قال : قال عمر رضي الله عنه : علي أقضانا.

وقال أحمد بن زهير حدثنا أبي قال: حدثنا ابن عيينة عن ابن جريح عن ابن أبي ملكية عن ابن عباس قال قال عمر : علي أقضانا قال أحمد بن زهير : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا سفيان الثوري عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. وقال في المجنونة التي أمر برجمها وفي التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فقال له علي : إن الله تعالي يقول: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا »(1).الحديث. وقال له : إن الله رفع القلم عن المجنون. الحديث ، فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر.

وقد روي مثل هذه القصة لعثمان مع ابن عباس وعن علي أخذها ابن عباس والله أعلم.

وروي عبد الرحمن بن أذنية الغنوي عن أبيه أذينة بن مسلمة قال :

ص: 175


1- سورة الأحقاف، الآية : 15.

أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنها فسألته: من أين أعتمر؟ فقال : إيت عليا فسله،فذكر الحديث. وفيه قال عمر : ما أجد لك إلا ما قال علي.

وسأل شريح بن هانيء عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن المسح علي الخفين فقالت : إيت عليا فسله.

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مسلم بن إبراهيم. حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن علقمة عن عبد الله قال : كنا نتحدث أن أقضي أهل المدينة علي بن أبي طالب.

قال أحمد بن زهير: وأخبرنا إبراهيم بن بشار قال : حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه.

قال: وأخبرنا يحيي بن معين قال : حدثنا عبدة بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان قال قلت لعطاء: أكان في أصحاب محمد صلي الله عليه و آله أحد أعلم من علي، قال : لا والله ما أعلمه.

قال : وحدثنا فضيل عن عبد الوهاب قال : حدثنا شريك عن ميسرة عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال : كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به.

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال: حدثنا محمد بن السري إملاء بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين قال : حدثنا عمرو بن هاشم الجنبي قال : حدثنا جويبر عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال : والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر.

ص: 176

وقال الحسن الحلواني: حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن حبيب بن الشهيد عن بن أبي مليكة عن ابن عباس عن عمر أنه قال : أقضانا علي، وأقرؤنا أبي. وحدثنا يحيي بن آدم قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال ابن مسعود: إن أقضي أهل المدينة علي بن أبي طالب.

قال : وحدثنا يحيي بن آدم وأبو زبيد عن مطرف عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب قال : قال عبد الله : أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب.

انتهي كلام ابن عبد البر.

وهذا قد أثبته أيضا النسائي في الخصائص وابن الجوزي في تذكرة الخواص وابن حجر في الصواعق وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وكثيرون أثبتوا ذلك.

ولو شئنا التذكير بفضائل فاطمة وهي أم الأئمة عليهم السلام ، لتدرك أن الله قدر لهذا البيت أن يكون الأب خير الرجال والأم أفضل النساء والجد أحمد صلي الله عليه و آله.

روي الحاكم والإمام أحمد قول رسول الله صلي الله عليه و آله: «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها، وأن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي».

يذكر المناوي في إتحاف السائل: الباب الرابع في خصائصها ومزاياها علي غيرها رضي الله عنها، يقول: خصائصها ومزاياها علي غيرها وهي كثيرة: الأولي - أنها أفضل هذه الأمة : روي أحمد والحاكم والطبراني

ص: 177

عن أبي سعيد الخدري - بإسناد صحيح مرفوعا - (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم).

وفي رواية صحيحة : (إلا ما كان من مريم بنت عمران) فعلم أنها أفضل من أمها خديجة، وما وقع في الأخبار مما يوهم أفضليتها ؛ فإنما هو من حيث الأمومة فقط.

وعن عائشة - علي الصحيح - بل الصواب.

قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به : أن فاطمة أفضل ! ثم خديجة! ثم عائشة ! قال : ولم يخف عنا الخلاف في ذلك، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل! قال الشيخ شهاب الدين بن حجر الهيثمي : ولوضوح ما قاله السبكي تبعه عليه المحققون.. وممن تبعه عليه : الحافظ أبو الفضل بن حجر؛ فقال في موضع : هي مقدمة علي غيرها من نساء عصرها، ومن بعدهن مطلقا.

مناقشة قول ابن القيم: وأما قول ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذاك أمر لا يطلع عليه؛ فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح

وإن أريد كثرة العلم فعائشة .

وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها.

وإن أريد شرف السيادة فقد ثبت النص لفاطمة .وحدها.

وما امتازت به عائشة من فضل العلم لخديجة ما يقابله وأعظم ! وهي أنها أول من أجاب إلي الإسلام ودعي إليه، وأعان علي إبلاغ الرسالة بالنفس والمال والتوجه؛ فلها مثل أجر من جاء بعدها إلي يوم القيامة.

ص: 178

قال : وقيل انعقد الإجماع علي أفضلية فاطمة فأين ما عدا مريم؟

مريم أفضل منها إن قلنا بما عليه القرطبي في طائفة من أنها (نبية)، وكذا علي قول تقدم نبوتها بقوة الخلاف، وبقصده استثناءها. أعني مريم في عدة أحاديث من بعضها.

بل روي ابن عبد البر عن ابن عباس مرفوعا: (سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة ثم آسية).

قال القرطبي : وهذا حديث حسن يرفع الإشكال من أصله.

قول الحافظ بن حجر : وقول الحافظ بن حجر: (إنه غير ثابت).

إن أراد به نفي الصحة الاصطلاحية فمسلم؛ فإنه حسن لا صحيح.

ونص علي ذلك الحافظ الجبل ولفظه عن ابن عباس مرفوعا (سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة، ثم آسية

بنت مزاحم امرأة فرعون) رواه الطبراني في الأوسط وكذا الكبير بنحوه.

قال الحافظ الهيثمي: ورجال الكبير رجال الصحيح.

لكن قال بعضهم : لا أعدل ببضعة رسول الله صلي الله عليه و آله أحدا وممن صار إلي ذلك: المقريزي والسيوطي.

أفضليتها علي نساء هذه الأمة : أما نساء هذه الأمة فلا ريب في تفضيلها عليهن مطلقا بل صرح غير واحد أنها وأخوها إبراهيم أفضل من جميع الصحابة حتي الخلفاء الأربعة.

وإن الحديث عن البضعة الطاهرة مما لا حد له، وفضائلها مما سارت به الركبان.

ص: 179

فهذا أيضا قليل مما انتقينا من فضلهم في السنة مما اشتهر ومما لا يرد ولا يهون. وهو لم يستقص في مظان أهل السنة فكيف يستقصي في محمول الشيعة ومظان. فانظر تجد أنك في تسويتهم في الفضل والعلم بغيرهم كنت قد خالفت القرآن والسنة معا. فأنت تساوي بينهم وبين من اعترفوا لهم بالفضل والشأنية علي أنفسهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم إلا من شد وشط، وهو شذوذ يؤكد السنة ولا يلتفت إليه. فدعنا نري هل هم كذلك في شهادة أهل التراجم.

فضلهم وشأنيتهم في التراجم والسير

لم يقتصر الأمر علي وجود أخبار في مجاميع المسلمين تذكر بما في ذمة المسلم من تكليف تجاه أهل البيت عليهم السلام ، تكليف يبدأ بتفضيلهم علي سواهم وينتهي إلي ولايتهم. وقد ذكرت في رسالتك أنك تعني بتشيعك ولايتهم. لكن أين ملامح هذا الولاء وقد زودتها شططا حينما سويت بينهم وعامة العلماء بل ومنحت نفسك حق النظر في تعاليمهم ونقدهم وقبولهم ورفضهم مما يفهم بالتبع. أجل، لم يقتصر الأمر علي تلك الأخبار التي نصادفها في هذه المجاميع الأخبارية للمحدثين، بل لقد انبري أعلام من داخل أهل السنة والجماعة من الحفاظ والمحدثين ومنهم أصحاب مجاميع روائية، فخصصوا كتبا في فضل أهل البيت لما رأوا أن هناك من يعمل بالليل والنهار للإساءة إليهم وتشويه مدرستهم وما أكثر ما حمل أهل الشيعة علي الشيعة كما قال طه حسين مرة.

هكذا اتهم هؤلاء الأعلام أنفسهم بالتشيع لما انتصروا لأهل البيت ونشروا فضائلهم نزولا عند التكليف الشرعي. فكتب المحدث النسائي كتاب خصائص أمير المؤمنين كما فعل ابن حجر الهيثمي وهو خصم الذوذ للشيعة في صواعقه لذكر فضائل أهل البيت من الإمام الأول حتي

ص: 180

الحجة المنتظر (عج). وله كتاب خاص عن الإمام المهدي أيضا. كما أفرد المقريزي في فضل أهل البيت عليهم السلام كتابا. كما أفرد الحافظ سبط بن الجوزي وهو من تلاميذ ابن تيمية كتاب : تذكرة الخواص من الأمة بذكر خصائص الأئمة. وثمة آخرون. وقد نال بعضهم ضربا مبرحا لهذه المبادرة - بل التكليف الشرعي - لتذكير الأمة بذلك. وأحسب أن هؤلاء نهضوا بهذه المهمة لشدة ما رأوا من إساءة في حق أهل البيت عليهم السلام شجع عليها الجهل والتجاهل وإرادة القضاء علي ذكرهم. وحسب المرء لو اطلع علي هذه الأخبار، أن يجد اتفاقا وتفاهما بين الشيعة والسنة. وأعتقد أن تشيع الإنسان سيتحقق لمجرد أن يطلع علي ما جادت به هذه الكتب. وهو ما أسميه التشيع الثاوي في ثنايا التسنن. وإذا لم تكن قد رأيت هذا الفضل الذي يستحق به أئمة أهل البيت تميزا وشأنية عندك، فإرادة خلاف ذلك دونه خرط القتاد.

لسنا في حاجة للاستدلال علي فضل علي والحسنين في ما جاء في التراجم وشهادات من عاصرهم فهو مما لا ينكره إلا مسرف ظالم لنفسه. ويكفينا مثال فقط علي ذلك ما جاء في الاستيعاب، حيث ذكر ابن عبد البر :

وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنها أول من أسلم وفضله هؤلاء علي غيره.

وفي الاستيعاب أيضا : وروي عن سلمان الفارسي أنه قال : أول هذه الأمة ورودا علي نبيها عليه الصلاة والسلام الحوض أولها إسلاما : علي بن أبي طالب رضي الله عنها. وقد روي هذا الحديث مرفوعا عن سلمان عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال: «أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما : علي بن أبي طالب ».ورفعه أولي لأن مثله لا يدرك بالرأي.

ص: 181

وفيه أيضا يذكر ابن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال : حدثنا الحسن بن حماد حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : كان علي بن أبي طالب أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله عنها.

قال أبو عمر رحمة الله : هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته وهو يعارض ما ذكرناه عن ابن عباس في باب أبي بكر رضي الله عنها.

يقول ابن الجوزي حول فضائل علي بن أبي طالب في تذكرته : فضائله أشهر من الشمس والقمر وأكثر من الحصي والمدر وقد اخترت منها ما ثبت واشتهر وهي قسمان: قسم مستنبط من الكتاب والثاني من السنة الظاهرة».

فهذا سبط ابن الجوزي عالم محدث حافظ حنبلي ظاهري يري أن فضائل علي بن أبي طالب ثابتة ظاهرة. وهذا يعني أنها ليست من وحي الغلو ولا هي باطنية.

ولك أن تسمع ابن عباس يقول في ما يرويه ابن الجوزي: «لو أن الشجر أقلام والبحور مداد والإنس والجن كتاب وحساب ما أحصوا فضائل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه». ويكفي أن من شهد بفضلهم من كان عاصر علي بن أبي طالب من الصحابة وما قاله التابعون وتابعيهم فيمن عاصرهم من الأئمة من ولده.

إذا كان الحديث عن علي والحسنين مما لا يحتاج إلي أدلة إضافية البيان فضلهم الذي لا يضاهيه فضل، حيث طلب الناس الفضل والتميز والعلم باتباعهم والتقرب منهم وحبهم وموالاتهم، فلنأت بعجالة علي ما قيل في حق التسعة من ولد الحسين وهم الأئمة المعنيين هنا بالأفضلية والعلمية والتميز :

ص: 182

الإمام زين العابدين (الإمام الرابع)

مما أورده المزي في فضله من تهذيب الكمال عن محمد بن سعد أنه في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة :

قال : وكان علي بن الحسين ثقة، مأمونا، كثير الحديث عاليا ، رفيعا، ورعا.

وقال سفيان بن عيينة عن الزهري : ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن حسين.

قال مالك: وإن علي بن الحسين كان من أهل الفضل وكان يأتيه فيجلس إليه فيطول عبيد الله في صلاته ولا يلتفت إليه، فقال له علي بن الحسين وهو ممن هو منه! فقال : لا بد لمن طلب هذا الأمر أن يعني به.

وقال سفيان بن عيينة، عن الزهري : ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين، وما رأيت أحدا كان أفقه منه.

وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري : كان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلي مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان.

وقال معمر، عن الزهري : لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه : ما رأيت فيهم مثل علي بن الحسين قط.

وقال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه : ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين.

ص: 183

وقال ابن وهب، عن مالك : لم يكن في أهل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله مثل علي بن الحسين، وهو ابن أمة.

وقال أبو بكر بن البرقي: كان أفضل أهل زمانه.

وأما الزهري فحكي عنه أنه قال: ما رأيت هاشميا أفضل منه. ويقال : إن قريشا رغبت في أمهات الأولاد واتخاذهن بعد زهادة فيهن حين ولد علي بن الحسين، وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ : سمعت أبا بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة يحكي عن بعض شيوخه عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي.

وقال الهيثم بن عدي، عن صالح بن حسان : قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان. قال: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا، قال : ما رأيت أورع منه.

وقال سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء : ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلي الله عليه و آله درهما قط.

وقال إبراهيم بن محمد الشافعي، عن سفيان بن عيينة : حج علي بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له : ما لك لا تلبي؟ فقال: أخشي أن أقول لبيك، فيقول لي: لا لبيك. فقيل له : لا بد من هذا، فلما لبي غشي عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتي قضي حجه.

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري، عن مالك : ولقد أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يقول لبيك، قالها فأغمي عليه حتي سقط من ناقته، فهشم. ولقد بلغني أن كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلي أن مات، وكان يسمي بالمدينة زين العابدين لعبادته.

ص: 184

وقال عمر بن شبة، عن ابن عائشة : سمعت أبي يقول: قال طاووس : رأيت علي بن الحسين ساجدا في الحجر ، فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول.

فأصغيت إليه، فسمعته يقول : عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك. قال : فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني.

وقال حسين بن زيد، عن عمر بن علي بن الحسين : سمعت علي بن الحسين يقول : لم أر للعبد مثل التقدم في الدعاء، فإنه ليس كل ما نزلت بلية يستجاب له عندها.

قال : وكان علي بن الحسين إذا خاف شيئا اجتهد في الدعاء.

وقال جرير أيضا، عن شيبة بن نعامة : كان علي بن حسين يبخل، فلما مات وجدوه يعول مئة أهل بيت بالمدينة.

وقال محمد بن زكريا الغلابي، عن ابن عائشة، عن أبيه، عن عمه: قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتي مات علي بن الحسين.

وقال علي بن موسي الرضي : حدثني أبي، عن أبيه، عن جده ، قال : قال علي بن الحسين : إني لأستحيي من الله أن أري الأخ من إخواني، فسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة فيل لي: لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل.

وقال محمد بن زكريا الغلابي : حدثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة، قال: حدثني أبي وغيره أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك أو الوليد، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر، فلم يقدر

ص: 185

عليه من الزحام، فنصب له منبر، فجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين عليه إزار ورداء أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ إلي موضع الحجر تنحي له الناس عنه حتي يستلمه هيبة له وإجلالا، فغاظ ذلك هشاما، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام: لا أعرفه. لئلا يرغب فيه أهل الشام؛ فقال الفرزدق - وكان حاضرا -: لكني أعرفه، فقال الشامي : من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها *** إلي مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمي إلي ذروة العز التي قصرت *** عن نيلهاعرب الأقوام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ماجاء يستلم

يغضي حياء ويغضي من مهابته *** فمايكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق *** من كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نبعته *** طابت عناصره والخيم والشيم

ص: 186

ينجاب نور الهدي عن نور غرته *** كالشمس ينجاب عن إشراقها العتم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا *** حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا

الله فضله قدما وشرفه جري *** بذاك له في لوحة القلم

فليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجم

من جده دان فضل الأنبياء له *** وفضل أمته دانت له الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت *** عنه الغيابة والإملاق والعدم

كلتا يديه سحاب عم نفعهما *** يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا يخشي بوادره *** يزينه اثنان حسن الخلق والكرم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته *** رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم *** كفر وقربهم منجي ومعتصم

يستدفع السوء والبلوي بحبهم ***ويسترب به الإحسان والنعم

ص: 187

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم *** في كل بر ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقي كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قبل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم *** ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة *** أزمت والأسد أسد الشري والبأس محتدم

بأبي لهم أن يحل الذم ساحتهم *** خيم كريم وأيد بالندي هضم

لا ينقص العسر بسطا من أكفهم *** سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

أي الخلائق ليست في رقابهم *** الأولية هذا أوله نعم

من يشكر الله يشكر أولية ذا *** فالدين من بيت هذا ناله الأمم

قال : فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق، فحبس بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين، فبعث إلي الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال : اعذر

أبا فراس فلو كان عندنا أكثر منها لوصلناك بها، فردها، وقال : يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليه شيئا. فردها إليه، وقال: بحقي عليك لما قبلتها، فقد رأي الله مكانك وعلم نيتك، فقبلها ، وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به :

ص: 188

أيحبسني بين المدينة والتي*** إليها قلوب الناس يهوي منيبها

يقلب رأسالم يكن رأس ***سيد وعين له حولاء باد عيوبها

قال : فبعث، فأخرجه ويذكر ابن الأثير في جامع الأصول : علي بن الحسين هو أبو الحسن، ويقال : أبو الحسين، ويقال : أبو محمد، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المعروف بزين العابدين، من أكابر سادات أهل البيت، ومن جملة التابعين وأعلامهم، انظر كيف أنك ألقيت بكل هذه الأدلة علي فضلهم وشأنيتهم وتميزهم بالعلم، لتقول ما قلت. فلنوقف كل هذه الأدلة الصحيحة في كفة ونضع قولك: «...» في كفة أخري. ونجعل الحكم لجمهور المسلمين.

محمد بن علي الباقر (الإمام الخامس)

ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة: وارثه منهم (يقصد وارث الإمام زين العابدين من ولده )علما وعبادة وزهادة أبو جعفر محمد بن علي الباقر، سمي بذلك من بقر الأرض، أي : شقها وأثار مخبياتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبياتها كنوز المعارف وحقائق الاحكام والحكم واللطائف ما لا يخفي إلا علي منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة. ومن ثم قيل فيه : هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه، وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوخ في مقدمات العارفين ما يكل عنه السنة الواصفين، وله كلمات كثيرات في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة.

ص: 189

وفي ربيع الأبرار بورد الزمخشري قول محمد بن علي الباقر : «إن الحق استصرخني وقد حواه الباطل في جوفه، فبقرت عن خاصرته، واطلعت الحق من حجبه، حتي ظهر وانتشر بعد ما خفي واستتر».

قال ابن خلكان : وكان الباقر عالما سيدا كبيرا وإنما قيل له الباقر : لأنه تبقر في العلم، أي : توسع. البقر : وفيه يقول الشاعر :

يا باقر العلم لأهل التقي*** وخير من لبي علي الجبل

وقال المزي:

ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة ، وقال : كان ثقة، كثير الحديث، وليس يروي عنه من يحتج به.

وقال العجلي : مدني تابعي ثقة.

وقال ابن البرقي : كان فقيها، فاضلا، قد روي عنه.

وذكره النسائي في فقهاء التابعين من أهل المدينة.

قال الحافظ في تهذيب التهذيب : قال الزبير بن بكار: كان يقال لمحمد باقر العلم.

وقال محمد بن المنكدر: ما رأيت أحدا يفضل علي علي بن الحسين حتي رأيت ابنه محمدا، أردت يوما أن أعظه فوعظني.

الإمام جعفر بن محمد الصادق (الإمام السادس)

يذكر المزي في تهذيب الكمال :

قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سمعت أبا زرعة وسئل عن جعفر بن محمد عن أبيه، وسهيل عن أبيه، والعلاء عن أبيه : أيها أصح؟

ص: 190

قال : لا يقرن جعفر إلي هؤلاء، وقال : سمعت أبي يقول: جعفر بن محمد ثقة، لا يسأل عن مثله.

وقال أبو أحمد بن عدي : ولجعفر حديث كثير ، عن أبيه، عن جابر، عن النبي صلي الله عليه و آله، وعن أبيه عن آبائه، ونسخ لأهل البيت، وقد حدث عنه من الأئمة مثل ابن جريج وشعبة وغيرهما، وهو من ثقات الناس كما قال يحيي بن معين.

وقال أبو العباس بن عقدة : حدثنا جعفر بن محمد بن هشام قال : حدثنا محمد بن حفص بن راشد، قال: حدثنا أبي، عن عمرو بن أبي المقدام، قال : كنت إذا نظرت إلي جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.

وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة، قال : حدثنا محمد بن حماد بن زيد الحارثي، قال : حدثنا عمرو بن ثابت، قال : رأيت جعفر بن محمد واقفا عند الجمرة العظمي، وهو يقول: سلوني، سلوني.

وقال أيضا : حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، عن يحيي بن سالم، عن صالح بن أبي الأسود، قال : سمعت جعفر بن محمد، يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي.

وقال أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن حسين بن حازم، قال : حدثني إبراهيم بن محمد الرماني، أبو نجيح قال : سمعت حسن بن زياد يقول: سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلي فقال : يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهييء له من مسائلك الصعاب، قال : فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إلي أبو جعفر

ص: 191

فأتيته بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلمت، وأذن لي، فجلست، ثم التفت إلي جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال : نعم، هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها : قد أتانا ، ثم قال : يا أبا حنيفة، هات من مسائلك، نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعا حتي أتيت علي أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟

قال الحافظ في تهذيب التهذيب : وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال : كان من سادات أهل البيت فقها وعلما و فضلا، يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره.

وقال الساجي: كان صدوقا مأمونا، إذا حدث عنه الثقات فحديثه مستقيم.

قال أبو موسي: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن سفيان عنه، وكان يحيي بن سعيد يحدث عنه.

وقال النسائي في «الجرح والتعديل»: ثقة.

وقال مالك : اختلفت إليه زمانا، فما كنت أراه إلا علي ثلاث خصال : إما مصل، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا علي طهارة.

ص: 192

الإمام موسي بن جعفر الكاظم (الإمام السابع)

ذكر المزي في تهذيب الكمال : قال أبو حاتم : ثقة، صدوق، إمام من أئمة المسلمين.

ويذكر ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : قال بعض أهل العلم : الكاظم هو الإمام الكبير القدر، والأوحد الحجة الحبر، الساهر اليله قائما، القاطع نهاره صائما، المسمي لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلي الله ، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين ونيل مطالبهم وبلوغ مآربهم وحصول مقاصدهم.

ويقول ابن الجوزي في تذكرة الخواص: ويدعي بالعبد الصالح العبادته واجتهاده وقيامه بالليل.

الإمام علي بن موسي الرضا (الإمام الثامن)

يذكر المزي في تهذيب الكمال

وقال أبو الحسين يحيي بن الحسن بن جعفر العلوي النسابة : فولد موسي بن جعفر بن محمد عليا الرضي، وفاطمة أمهما أم ولد. عقد له المأمون ولي عهد ولبس لباس الخضرة في أيامه. حدثني موسي بن سلمة، قال : كنت بخراسان مع محمد بن جعفر، فسمعت أن ذا الرئاستين خرج ذات يوم وهو يقول : واعجبا، وقد رأيت عجبا، سلوني ما رأيت ! قالوا : ما رأيت أصلحك الله؟ قال: رأيت أمير المؤمنين .

ص: 193

المأمون يقول لعلي بن موسي : قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك. ورأيت علي بن موسي يقول: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوة. فما رأيت خلافة قط أضيع منها، أمير المؤمنين يتقضي منها، ويعرضها علي علي بن موسي، وعلي بن موسي يرفضها ويأباها.

وقال أبو الحسين أيضا : حدثني من سمع عبد الجبار بن سعيد علي منبر رسول الله صلي الله عليه و آله يقول : هذا علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين :

ستة آباءهم ماهم خير***من يشرب صوب الغمام

وقال أيضا: بلغني أن دعبل بن علي وفد علي الرضا عليه السلام بخراسان، فلما دخل عليه ، قال : إني قد قلت قصيدة، وجعلت علي نفسي ألا أنشدها أحدا أول منك. قال: هاتها. فأنشده قصيدته التي يقول فيها :

أحب قصي الرحم من أجل حبكم ***وأهجر فيكم زوجتي وبناتي

و أكتم حبيكم مخافة كاشح ***عنيف لأهل الحق غير موات

ألم تر أني مذ ثلاثين حجة ***أروح وأغدو دائم الحسرات

أري فيأهم في غيرهم متقسما*** وأيديهم من فيئهم صفرات

فلولا الذي أرجوه في اليوم*** أو غد تقطع نفسي دونه حسرات

خروج إمام لا محالة خارج***يقوم علي اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل ***ويجزي علي الأهواء بالنقمات

فيا نفس طيبي ثم يا نفس ***أبشري فغير بعيد كل ما هو آت

قال: فلما فرغ من إنشاده قام الرضي عليه السلام، فدخل منزله، وبعث

ص: 194

إليه خادما بخرقة خز فيها ستمائة دينار، وقال للخادم : قل له: يقول لك مولاي: استعن بهذه علي سفرك واعذرنا.

فقال له دعبل: لا والله ما هذا أردت ولا له خرجت، ولكن قل له: اكسني ثوبا من أثوابك. وردها عليه، فردها عليه الرضي عليه السلام، وبعث إليه معها بجبة من ثيابه، وخرج دعبل حتي ورد قم، فنظروا إلي الجبة فأعطوه بها ألف دينار، فقال: لا والله ولا خرقة منها بألف دينار، ثم خرج من قم فاتبعوه وقطعوا عليه، وأخذوا الجبة، فرجع إلي قم، فكلمهم، فقالوا: ليس إليها سبيل، ولكن هذه ألف دينار، قال : وخرقة منها، فأعطوه ألف دينار، وخرقة من الجبة.

وقال محمد بن يزيد المبرد، عن أبي عثمان المازني: سئل علي بن موسي الرضي: يكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال : هو أعدل من ذلك. قال: يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال : هم أعجز من ذلك.

ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب:

قول ابن السمعاني: وكان الرضي من أهل العلم والفضل، مع شرف النسب. اه-.

وقد عرف بصاحب السلسلة الذهبية. يذكر سبط ابن الجوزي ما جاء عن عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي في كتاب التبيين في أنساب القرشيين يرويها عن علي بن موسي الرضا عن أبيه جعفر عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه الحسين عن أبيه علي عن النبي صلي الله عليه و آله. قال ابن الجوزي : قال بعض أهل العلم هذا الإسناد لو قرئ علي مجنون البرئ

ص: 195

الإمام علي بن موسي الجواد (الإمام التاسع)

ذكر ابن حجر في الصواعق أن الإمام علي بن موسي الرضا صلوات الله عليه توفي عليه السلام وعمره خمس وخمسون سنة عن خمسة ذكور وبنت، أجلهم أبا محمد الجواد. ويقول أيضا : ومما اتفق أنه بعد موت أبيه بسنة واقف والصبيان يلعبون في أزقة بغداد، إذ مر المأمون، ففروا ووقف محمد وعمره تسع سنين، فألقي الله محبته في قلبه ، فقال له: يا غلام ما منعك من الانصراف؟ فقال له مسرعا: «يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن بك حسن أنك لا تضر من لاذنب له». فأعجبه كلامه وحسن صوته فقال له : ما اسمك واسم أبيك؟ فقال : «محمد بن علي الرضا»، فترحم علي أبيه وساق جواده وكان معه بزاة للصيد، فلما بعد عن العمارة أرسل بازا علي دراجة فغاب عنه، ثم عاد من الجو في منقاره سمكة صغيرة وبها بقاء الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب، ورجع فرأي الصبيان علي حالهم ومحمد عندهم، ففروا إلا محمد، فدنا منه وقال له : ما في يدي؟ فقال: «يا أمير المؤمنين إن الله تعالي خلق في بحر قدرته سمكا صغارا صيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبر بها سلالة أهل بيت المصطفي صلي الله عليه و له»فقال له : أنت أبن الرضا حقا، وأخذه معه وأحسن إليه بالغ في إكرامه، فلم يزل مشفعا به لما ظهر بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنه، وعزم علي تزويجه بابنته أم الفضل وصمم علي ذلك، فمنعه العباسيون من ذلك خوفا من أن يعهد إليه كما عهد إلي أبيه، فلما ذكر لهم أنه إنما اختاره لتميزه علي كافة أهل الفضل

ص: 196

علما ومعرفة وحلما مع صغر سنه، فنازعوا في اتصاف محمد بذلك، ثم تواعدوا علي أن يرسلوا إليه من يختبره، فأرسلوا إليه يحيي بن أكثم، ووعدوه بشيء كثير إن قطع لهم محمدا، فحضروا للخليفة ومعهم ابن أكثم وخواص الدولة، فأمر المأمون بفرش حسن لمحمد فجلس عليه فسأله يحيي مسائل أجابه عنها بأحسن جواب وأوضحه، فقال له الخليفة : أحسنت يا أبا جعفر، فإن أردت أن تسأل يحيي ولو مسألة واحدة. فقال له: «ما تقول في رجل نظر إلي امرأة أول النهار حراما ، ثم حلت له ارتفاعه، ثم حرمت عليه عند الظهر، ثم حلت له عند العصر، ثم حرمت عليه عند المغرب، ثم حلت له العشاء، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر». فقال يحيي: لا أدري. فقال محمد: «هي أمة نظرها أجنبي بشهوة وهو حرام، ثم اشتراها ارتفاع النهار، وأعتقها الظهر، وتزوجها العصر، وظاهر منها واحدة.

فقال له: «ما تقول في رجل نظر إلي امرأة أول النهار حراما ، ثم حلت له ارتفاعه، ثم حرمت عليه عند الظهر، ثم حلت له عند العصر، ثم حرمت عليه عند المغرب، ثم حلت له العشاء، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر».فقال يحيي: لا أدري. فقال محمد: «هي أمة نظرها أجنبي بشهوة وهو حرام، ثم اشتراها ارتفاع النهار، وأعتقها الظهر، وتزوجها العصر، وظاهر منها المغرب، وكفر العشاء، وطلقها رجعيا نصف الليل، وراجعها الفجر»، فعند ذلك قال المأمون للعباسيين : قد عرفتم ما كنتم تنكرون، ثم زوجه في ذلك المجلس بنته أم الفضل. انتهي كلام ابن حجر.

ويذكر ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : قال صاحب كتاب مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : هو أبو جعفر محمد (2) الثاني فإنه تقدم في آبائه أبو جعفر محمد وهو الباقر بن علي، فجاء هذا باسمه

ص: 197

وكنيته فهو اسم جده فعرف بأبي جعفر الثاني، وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر، القائم بالإمامة بعد علي بن موسي الرضا ولده أبو جعفر محمد الجواد للنص عليه والإشارة له بها من أبيه، كما أخبر بذلك جماعة من الثقات العدول.

ويذكر ابن الجوزي في تذكرته: وكان علي منهاج أبيه في العلم والتقي والزهد والجود.

الإمام علي بن محمد الهادي (الإمام العاشر)

يذكر ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة: أما ألقابه : فالهادي، والمتوكل، والناصح، والمتقي، والمرتضي، والفقيه ، والأمين، والطيب، وأشهرها الهادي والمتوكل، وكان يأمر أصحابه أن يعرضوا عن تلقيبه بالمتوكل لكونه يومئذ لقبا للخليفة جعفر المتوكل بن المعتصم.

ويقول أيضا : قال بعض أهل العلم: فضل أبي الحسن علي بن محمد الهادي قد ضرب علي المجرة (5) قبابه، ومد علي نجوم السماء أطنابه، فما تعدمنقبة إلا وإليه نحيلها (6)، ولا تذكر كريمة إلا وله فضيلتها، ولا تورد محمدة إلا وله تفضيلها وجملتها، ولا تستعظم حالة سنية إلا وتظهر عليه أدلتها، استحق ذلك بما في جوهر نفسه من كرم تفرد بخصائصه ومجد حكم فيه علي طبعه الكريم بحفظه من الثوب (1) حفظ الراعي لفصائله (2) فكانت نفسه مهذبة وأخلاقه مستعذبة وسيرته عادلة وخلاله فاضلة ومبارة (3) إلي العفاة وأصلة و ربوع (4) المعروف بوجود وجوده عامرة آهلة، جري من الوقار والسكون والطمأنينة والعفة

ص: 198

والنزاهة والخمول في النباهة علي وتيرة نبوية وشنشنة علوية ونفس زكية وهمة علية لا يقاس بها أحد من الأنام ولا يدانيها، وطريقة حسنة لا يشاركه فيها خلق ولا يطمع فيها.

وذكر أيضا : لما رفع خبر وفاته ارتجت سر من رأي وقامت ضجة واحدة مات ابن الرضا وعطلت الأسواق وغلقت أبواب الدكاكين، وركب بنو هاشم والكتاب والقواد والقضاة والمعدلون وسائر الناس إلي أن حضروا إلي جنازته، فكانت سر من رأي في ذلك شبيها بالقيامة.

الإمام الحسن بن علي العسكري (الإمام الحادي عشر)

يقول ابن الصباغ المالكي: مناقب سيدنا أبي محمد الحسن العسكري دالة علي أنه السري بن السري، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري، وعلم إن بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع، ويسبح وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره، وإمام أهل دهره، أقواله سديدة، وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقدا كان مكانه الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذيلا تجاري، ومبين غوامضها فلا يحاول ولا يماري، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدث في سره بالأمور الخفيات، الكريم الأصل والنفس والذات ، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه بمحمد صلي الله عليه و آله آمين.

ويذكر ابن حجر في الصواعق في معني أولاد سيدنا علي بن محمد الهادي : أجلهم أبو محمد الحسن الخالص، وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري ولد سنة اثنين وثلاثين ومائتين، ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو

ص: 199

صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر علي ما في أيديهم، فقال : أشتري لك ما تلعب به؟ فقال: «يا قليل العقل ما للعب خلقنا».فقال له: فلماذا خلقنا؟ قال : «للعلم والعبادة». فقال له: من أين لك ذلك؟ قال: «من قوله تعالي: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ 115». ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات ثم خر الحسن مغشيا عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال : «إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تقد إلا بالصغار، وإني أخشي أن أكون من صغار حطب جهنم».

ويقول عنه ابن الجوزي السبط في تذكرته : وكان عالما ثقة روي الحديث عن أبيه عن جده .

ويذكر ابن الجوزي حديث الخمرة عن الإمام الحسن العسكري ويسنده إلي أبيه أبي الفرج. ثم يقول: ولما روي جدي هذا الحديث في كتابه تحريم الخمر قال: قال أبو نعيم الفضل بن دكين : هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة الطاهرة.

الإمام محمد بن الحسن القائم الحجة (عج) (الإمام الثاني عشر)

كفاه فضلا وفخرا أنه من تعلق به خلاص البشرية وأنه المحاط بالأسرار.

أقول: أفبعد كل هذا تقول أنهم كغيرهم، فقد أتيت شيئا نكرا. فكل من شهد لهم عظمهم في الفضل وجعلهم أهله. ذلك لأن بعض العامة لا يختلفون في رجحان علم الأئمة حيثما يصلهم بأسانيدهم

ص: 200

الصحيحة. وحجتهم كانت دائما أن هذه الأخبار لم تثبت حسب زعمهم للأئمة بل هي من مختلقات الشيعة. لكنك أنت تقول بالتساوي الذي يخالف دليل القرآن والسنة وكذا دليل العقل حيث ثبت أن الأجيال كانت ترجع إليهم وهم لم يرجعوا إلي غيرهم. فتأمل.

إذا كان أئمة أهل البيت ليس لهم ما يتميزون به عن غيرهم، فهم أنداد لغيرهم، والتعاطي معهم ومع غيرهم في مقام بيان الشريعة هو واحد، فإني أقول لك أخي الكاتب إنك تتحدث هنا بخلاف ما يؤكده الدليل. فلو كان الأمر كذلك لما قيل في حقهم كل هذا الكلام. ولا أخال أحدا بمن فيهم السنة ينكر فضل أهل البيت وما ظهور مفهوم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل إلا تأكيد علي أفضليتهم بلا منازع. راجع فضائل أهل البيت عند ابن الجوزي وعند المقريزي وعند النسائي وعند ابن حجر وعند ابن الصباغ المالكي ونظراءهم من أعلام السنة والحديث، لتدرك أنك قلت ما لم يقله سني ولا شيعي. خالفت إجماعا متينا بين الطائفتين.

فإذا كنت كما تدعي أنك تؤمن بالقرآن والعقل فقط، فعليك أن تدرك بأن القرآن فضلهم. وكذلك بموجب حكم العقل أن يكون الاتباع للأفضل لا للمفضول. فالعقل يقر ذلك والقرآن يرشد ويؤكد في مقام التساؤل الأمري: «أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي ما لكم كيف تحكمون».

فأنت تقول أنهم مثل غيرهم في الفضل والعلم والشأن، وهذا لم يقل به الصحابة. فحتي من سموا بالخلفاء الراشدين لم يضعوهم في مقام التساوي وشهدوا لهم بالفضل. فهذا الخليفة الأول في أول خطبة سياسية له، يقول: «لقد وليتكم ولست بخير منكم».وما كان يقصد إلا عليا.

ص: 201

وهذا الثاني يقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن. وإنني أدرك فيما أدرك لماذا تأخر التربيع، حيث لم يكونوا يذكروا من الخلفاء الراشدين إلا الثلاثة. وربما ذكروا أن أحمد بن حنبل هو من أدخل التربيع لأول مرة. لكن كان لذلك سبب وجب أن أظهره لك كما أدركته بعد طول تأمل. إنهم كانوا يخشون من ذكره حتي لا يتم التساوي والقياس. فظهور التربيع عند الأعلام لم يتحقق إلا بعد طغيان الجرأة علي مقامهم الفاضل. وهذا ما تؤكده الأدلة في أنهم ليسوا موضوعا للتساوي والقياس. فعن صاحب مودة القربي للسيد علي الهمداني الشافعي أخرج بسنده عن أبي وائل عن ابن عمر قال : كنا إذا أعددنا أصحاب النبي صلي الله عليه و آله قلنا أبو بكر وعمر وعثمان، فقال رجل يا أبا عبد الرحمن فعلي ما هو؟ (قال) علي من أهل بيت لا يقاس به أحد هو مع رسول الله صلي الله عليه و آله في درجته إن الله يقول : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»ففاطمة مع رسول الله صلي الله عليه و آله في درجته وعلي معهما. وفي ذخائر العقبي للمحب الطبري الشافعي فإنه قال تحت عنوان (إنهم لا يقاس بهم أحد) قال وعن أنس قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد»، وقد أخرج هذا الحديث عبيد الله الحنفي في كتابه أرجح المطالب(1).

وقد تسأل لم أتيت بكل هذه الشواهد؟ لكنك أدري بأن ما لم آت به أكثر وأزود من هذا حتما. فالذين ورد فيهم كل هذا وجب تفضيلهم. فكيف لا نفضل من فضلهم الله ورسوله وأهل التراجم. ثم لم تعد لك الحجة في قولك: إن منهم علماء و منهم من ليسوا كذلك. فأنت هنا تغالط في أمر لا أحسبك تجهله. فإن محل نزاعنا في الأئمة المعينين وليس في مطلق أهل

ص: 202


1- ذخائر العقبي للمحب الطبري (ص 17).

البيت. وكنت مضطرا أن أذكر شهادات عن الأئمة جميعا، لأظهر لك وأذكرك بأنهم ليسوا فقط علماء وكفي، بل هم أعلم وأصلح أهل زمانهم فكيف تقول منهم علماء و منهم من ليسوا علماء. فمن من الاثني عشر من ليس عالما وليس أفضل أهل زمانه تقوي وعلما و فضلا؟!

في رد الادعاء بانتفاء الدليل علي الإمامة

عجبت كيف أنك أنكرت وجود أدلة علي الإمامة. والأعجب من ذلك أنك تسوق حكمك النهائي علي عدمها بنوع من اليقين. وهنا أعود لأقول لك بأن الأمر لا يعدو تشكيكا في تشكيك. فأنت أدركت من جملة تلك النصوص ما صنفت فيه كتبا في سابق عهدك. فلو قال هذا جاهل بالأدلة رأسا لعذرناه، فكيف بك ترسل حكمك هذا إرسال المسلمات. هنا يكون الشك غير منهجي وسأثبت لك ذلك. إن الأخبار الدالة علي الإمامة مما لا يحصي. وهي ظاهرة لا ينكرها إلا مسرف معاند. وأصلا لم ينكر أحد تلك الأدلة وإنما سعي إلي تأويلها بما أفسد معناها العذري. وكل واحد منها يفضل غيره في تخصيص المعني وتبيينه. فلو ظلوا يؤولون كل ما صح منها ، فذلك أصعب من القبول بها والتسليم المقتضاها. ولا أدل علي ذلك أنك اعترفت بأن سبب تخليك عن الاعتقاد بالإمامة ليس ما دلعليها من دليل بل لأنك فيما زعمت أن المسألة التي جعلتك ترفض تلك الأدلة هي صدمة عدم وجود ولد للإمام الحسن العسكري فيما زعمت. بمعني لو أنه ثبت له في نظرك الولد لما وجدت ما يخدش في أدلة الإمامة من الأخبار المتواترة والتي رويت في كتب الفريقين. إن شبهة صغيرة بخصوص مولد الإمام الحجة جعلتك تتخلي عن كل هذا الهرم من الأدلة حول الإمامة. فالتعدي بالإشكال إلي الإمامة هنا فيه نظر.

ص: 203

إن كل ما ذكرناه دال علي إمامتهم. ويكفي أن الوصية ثبتت بأدلة صحيحة ومتواترة عند الفريقين لا يمكن ردها إلا بتكلف تأويل يصرفها عن ظاهرها. لا أذكرك بحدث الدار ولا بحديث المنزلة ولا بحديث الغدير وكلها صحت و(صحصحت).

لا شك أنك تعلم بصحة هذه الأخبار. وقد رواها أهل الصحاح من السنة أنفسهم. فحديث الدار والغدير والمنزلة والاثني عشر خليفة وما شابه له طرق أخرجها هؤلاء وصححوها. انظر النسائي في الخصائص وابن الجوزي في تذكرة الخواص وابن حجر في الصواعق والمقريزي في فضائل أهل البيت وابن عبد البر في الاستيعاب فضلا عن المحدثين كالبخاري ومسلم والحاكم والترمذي وغيرهم من أهل الأخبار والتفسير والتراجم والسير. ولن نذكر هنا إلا عينات منتقات ونترك الباقي متي شئت المزيد حتي ترضي.

يوم الدار : عندما نزل قوله تعالي : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 214» (19). قام الرسول صلي الله عليه و آله يدعو أقرباءه، وفيهم أبو لهب فقال صلي الله عليه و آله:«يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنياوالآخرة. وقد أمرني الله عزوجل أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤمن بي ويؤازرني علي هذا الأمر علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم»؟. فسكت القوم ولم يجيبوا إلا علي عليه السلام قال : «أنا يا رسول الله أكون وزيرك علي ما بعثك الله. وبعد أن كررها ثلاثا ، التفت إليهم وقال: «إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له، وأطيعوا».فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب، قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع، وجعله عليك أميرا.

قال الرسول صلي الله عليه و آله: «لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي

ص: 204

علي بن أبي طالب».وعندما نزل قوله تعالي : «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»، قال: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي».روي الجمهور عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله«انتهت الدعوة إلي وإلي علي لم يسجد أحدنا قط لصنم، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا».وفي قوله تعالي : «وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ24».روي الجمهور أيضا، عن ابن عباس وسعيد الخدري، عن النبي صلي الله عليه و آله: «عن ولاية علي بن أبي طالب».

وعندما وصل النبي صلي الله عليه و آله من حجة الوداع إلي مكان اسمه غدير خم يقع بين قلة والمدينة قرب الجحفة بناحية رابغ. قام خطيبا في لمسلمين بعد أن أخذ بيد علي عليه السلام فقال: «ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قالوا بلي يا رسول الله !. قال : «فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».ثم قال: «أيها الناس إني تارككم وأنتم واردي علي الحوض، وإني سائلكم حين تردون علي، عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».قالوا: وما الثقلان يا رسول الله ؟. قال : «الثقل الأكبر كتاب الله، سبب طرفه بيد الله،وطرف بايديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي».

يذكر المقريزي في فضل أهل البيت : قوله صلي الله عليه و اله: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض»، رواه الترمذي [وغيرها]. ووجه دلالته أنه لازم بين أهل بيته، والقرآن الكريم]المعصوم، وما لازم ووجه دلالته أنه لازم بين أهل بيته، والقرآن [الكريم] المعصوم، وما لازم المعصوم فهو معصوم. قالوا: وإذا ثبت عصمة أهل البيت وجب أن يكون إجماعهم حجة لامتناع الخطأ والرجس عليهم بشهادة السمع المعصوم، وإلا لزم وقوع الخطأ فيه وأنه محال.

ص: 205

وحسبي هذا القدر. فلو أردت مزيدا زدناك. ولو شئت نقاشا في سندها ناقشنا. وإن شئت الوقوف علي معانيها وقفنا. وذلك لأن حديث الغدير الصحيح الذي سارت به الركبان لو كان وحده لكفي. فهو صريح رواه الصحابة وعرفه التابعون وتغني به الشعراء ولا يجهله أحد من أهل الحديث قاطبة. وهو المقرون بآخر الآي التي نزلت لتكمل مهمة الوحي حيث بعد أن بلغ الرسول صلي الله عليه و آله ولاية علي بن أبي طالب، نزل قوله تعالي: «واليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورښي لكم الإشكم دينا». فتمام النعمة وكمال الدين بولاية علي بن أبي طالب. فكيف تقول لا دليل وهي واضحة وضوح الشمس. بل أي دليل تريد لتشفي غليلك وتعترف بأن الدليل علي الإمامة ثابت وليس معزوم كما زعمت.

في رد دعوي أن المهدي فرضية فلسفية

-لقد كررت وأكدت علي رأيك بأن المهدي مجرد فرضية فلسفية اختلقها الشيعة لأسباب اخترت منها أكثر الأسباب التي ساقها الخصوم التقليديين للشيعة. وكذلك، لا أسلم لك بهذا التفسير منجهتين :

أولا إنك تتوسل بأسلوب خرافي في التعليل، فيما أنت تتهم القائلين بالمهدي بالخرافيين. فالخرافية هي أحيانا كامنة في ثنايا أكثر الخطابات العقلانية تمسرحا. أنت بهذا تجعل أن كل الإمامية بعامتهم وعلمائهم لا يوجد فيهم فاضل ولا صدوق ولا موثق. وكلهم تواطؤوا تواطئا عجيبا حتي يتسني لهم بناء هذا الصرح العلمي الكبير. فعلماؤهم جميعا متواطؤون لأسباب وصفتها بالمالية. بهذا الاختزال نكون خرافيين الا تاريخيين. إذا كان السبب ماليا ومصلحة مادية خاصة بفئة قليلة، فاعلم أن سيرة كافة علماء الشيعة ومراجعهم من النشأة إلي اليوم هي الزهد ثم الزهد. ولو اتسع بنا المقام السردت لك قصصا عن أحوال زهدهم

ص: 206

وانشغالهم عن المال وانقطاعهم إلي العلم ما وجدنا له من نظير. فهذا نهجهم في حياة الأئمة الذين وصفوا بالصلاح والزهد عند كتاب التراجم. بل عدوا في أرباب السلوك عند أهل العرفان والتصوف. فبناة المذهب ومنسقيه ورواته من المتأخرين بدء من أصحاب الأئمة حتي الطوسي ومن أتي بعده إلي مراجع اليوم، كانت سيرتهم دالة علي صلاحهم. فمن أين تسللت هذه الفئة «المصلحجية» وانطلت حيلتها علي العلماء وأهل التقي. وكان أحري أن ينساق هؤلاء لدعوة جعفر الكذاب ، وقد كان علي تمام الاستعداد لاستقطاب الطامعين في المال. بل إنني رأيتك لا تستحضر هذا السبب لتفسير سبب ادعاء جعفر هذا ولكل الذين شذوا بعيدة عما أجمع عليه التيار الغالب للإمامية. إن قبولك بتحليل خفيف لقضايا تاريخية ثقيلة من هذا القبيل هو تمسك بالنهج الخرافي حيث لا دليل.

أما من جهة ثانية، فإن قولك أن ذلك لا يعدو كونه فرضية فلسفية، وجب أن نفصل ونقول : هل تقصد بالفرضية الفلسفية مطلق وجود المهدي. أمأن الأمر يتعلق بخصوص الشخص. وإذن إنك توحي هنا بأن الشيعة افترضوا المهدي. وإلا كان عليك أن تقول أثبتوا ولادة شخص غير موجود ليس بافتراض فلسفي بل لأدلة موجودة. وليس المولود هنا إلا مصداقا لما ثبت بالنص. ففكرة المهدي قارة راسخة في عقائد المسلمين صنف فيها المسلمون ما لا يرد ولا يكذب. فإذا كان الأمر يتعلق بالمفهوم (مفهوم المهدوية) فهو موجود في اعتقاد المسلمين قبل ذلك وبدليل النص. وأما لو كنت تقصد المصداق، فالمسألة خارج عن تخصص الافتراض الفلسفي، لأن المسألة تتعلق بالمصداق. ولهذا المصداق قرائن عديدة غير شهادة المعنيين وأدلتهم: قرائن تؤكد علي تحقق المصداق.

ص: 207

إذا كان الافتراض الفلسفي كما زعمت لا يقدم ولا يؤخر. أقول لك بأن الدليل النصي موجود والقرائن حوله مستفيضة. لكن أحب أن أقول بأن الدليل الفلسفي الذي هو بمعني آخر العقلي معتبر أيضا في المقال فأين الإشكال في أن يعاضض الدليل الفلسفي باقي الأدلة. فالأدلة مستويات، لكنها في النتيجة قيمتها فيما تؤدي إليه من اطمئنان بالمطلوب.

لم يكن في الكتب التي بين يدي يهود ونصاري الجزيرة العربية سوي بشارات تشبه البشارة بالمهدي في أيامنا هذه. ومع أنهم جميعا كانوا ينتظرون النبي القادم، عاندو ورفضوا المصداق وتمسكوا بالمفهوم وقالوا في رد القرائن علي المصداق المحمدي للبشارة التوراتية والإنجيلية بنفس ما يتمسك به رافضو المهدي.. فقد قالوا كذلك إنها أساطير الأولين اكتتبها. ثم لجؤوا إلي التهوين من ولد إسماعيل وقالوا بفضل أبناء يعقوب. بل وجدنا تهوينا الإسماعيل فيهذه الكتب. وقبلها فعل اليهود مع المسيح فيما يخبر القرآن. ولم يكن من طريق في هذه الفوضي سوي استحضار الدليل العقلي والقرائن للترجيح فقط. فهل نصدق ورقة بن نوفل حينما أكد علي نبوة محمد بأدلة تشبه علامات الظهور.. وليس الفارق في هذا القياس سوي أن أولئك لم يسلموا بوجود الشخص وهؤلاء لم يسلموا بأن الشخص الموجود هو فعلا النبي صلي الله عليه ون آله. لذا قلت طبق منهجك علي البشارة بالنبي الخاتم لنري إن كنت ستسلم بباقي عقائد المسلمين وليس المهدي فقط. فتأمل!

ثم وجب أن أتوقف عند عبارة الفرضية الفلسفية التي ما فتئت تتهم بها موقف الشيعة من ولادة المهدي (عج). وأراك قد كررت ذلك علي طول الخط وهو فيه ما فيه من نظر.

ص: 208

مع أنني لست أدري لماذا اخترت ضميمة فلسفية بدل علمية أو ما شابه ، كان لا بد من القول إن الفرضية هي فرضية أكانت فلسفية أو رياضية أو علمية. فمدارها التأكيد أو النفي. وذلك لأن الفرضية ليست حتي فيما تسعي إلي الإيحاء به ليست فكرة آتية من فراغ. بل هي فكرة لها مقدماتها وتحتاج إلي أن يؤكدها الدليل أو يدحضها. وهذا ما كنت أعنيه وأنا أطالبك بالدليل. فحتي لو سلمنا جدلا بأن المسألة هي فرضية ، فكان لا بد أن تأتي بما يدحضهاوليس أن تطالبني بأدلة فوق ما هو متوفر من أدلة. فماذا نعني بالفرضية؟

إنها حدس له مثيراته في قرائن مسبقة. وهي قابلة للبرهان ولا ينفيه عنها إلا دليل داحض. وعادة ما تنتهي الفرضية إلي حقيقة علمية إذا ما قامت الأدلة عليها. الفرضية لا تأتي من فراغ. ويمكنني القول، أن الفرضية تتجه هنا إلي مصداق المهدي لا إلي مفهوم المهدي الراسخ بالأدلة. ثم إن الفرضية قصاراها أن تثبت الإمكان. وهذا ليس هو قصاري دليل الإمامية. لأنهم حينما استدلوا بالإمكان، فعلوا ذلك فقط لدفع شبهة القائلين بالاستحالة العلمية. فقدموا تبعا لذلك أدلة من القرآن من خلال قصص الأنبياء والأولياء والغيب وأهل الكهف الذين غيبهم الله فترة مع كلبهم، وكذا شواهد التاريخ في المعمرين. سوف تكون قضية ما محض فرضية فقط و فقط إذا لم يكن لها أصل اعتقادي سابق نهضت به أدلة و شواهد وافرة. والحال أن هذا الوجود الكلي هو يقيني للمهدي لجهة تظافر الأدلة الصحيحة والمتواترة. وما حصل ليس فرضية بل إثبات المصداق. ثبوت المهدي يقيني، ومحل النزاع في ثبوت المصداق. إذن حتي في إطار الفرضية نحن أمام فرضية مركبة من يقين وشك. يقين بكلي المهدي وشك في شخص المولود. فهي ليست فرضية كاملة.

ص: 209

إذن الإشكال في استعمال عبارة الفرضية الفلسفية كامن في التالي :

• أولا وجب الاتفاق كما هو متعارف عليه في المجتمع العلمي أن غاية الدليل واحدة والتقسيم إجرائي. إذا كنت تؤمن بالعقل كما ادعيت، فدليل العقل أو الشرع سيان من حيث مؤداهما. وإنما التقسيم إجرائي لا يلتفت إلي خصوصيته. فالدليل الفلسفي أو المنطقي أو العلمي أو الشرعي هو دليل يؤدي الغرض ويعتبر في معيارالشريعة. والتكاثر هنا إجرائي عرضي وليس حقيقي. ولا أحسب ذلك يغيب عنك، فهو من أولي دروس القطع كما ابتدئ بحثها وزيادة في رسائل الشيخ الأنصاري. فهل تذكر أن القطع حجة في ذاته ولا يحتاج إلي جعل جاعل. ولا إشكال في أن يكون الطريق أيا كان حتي ولوبرفرفة الطير. بل إن الدليل كيفما كانت خصوصيته هو في نهاية الأمر لا يكون إلا عقلا. ومن هنا عقب القرآن الكريم : «فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 4».«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ10».وإن لسان الآية الكريمة : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 111»تفيد مطلق الدليل المحرز.

• إننا لو سلمنا بأن القضية تتعلق بفرضية، فإننا لن نسلم بأنها فرضية محض، بل هي قضية مركبة من مفهوم يقيني قام عليه الدليل ومصداق زعمت قصاراك أنه مشكوك.

• إذا كان الشك يتجه إلي المصداق، وليس إلي المفهوم الثابت بالأدلة القطعية، فلا يمكن أن تكون فرضية فلسفية. فالفرضية تكون فلسفية إذا تعلقت بالمفهوم لا بالمصداق. وعليه كان أحري لو سلمنا جدلا بذلك، أن تقول إنها فرضية تاريخية، تتقوم بالسؤال : هل هذا المعين هو المهدي أم لا. والجواب حينئذ عن هذا السؤال لا يكون فلسفيا ۔

ص: 210

لأننا لو سلمنا بأنها فرضية فلسفية وجب أن يكون الاستدلال عليها فلسفيا، فلا تكون الفرضية فلسفية والجواب عليها غير فلسفي، فالجواب من سنخ السؤال - بل بالأدلة التاريخية الإثباتية. والإمامية لهم أدلة نقلية تاريخية تؤكد ولادته. ولم يدع أحدهم أن ثبوت الولادة تم بموجب الفرضية الفلسفية فقط كما زعمت.

• لو سلمنا بكونها محض فرضية، فإن مال الفرضية الثبوت أو عدم الصمود أمام الدحض. ويبدو لي أنك تتمثل مفهوما متجاوزا للفرضية قوامه أنها تأتي من فراغ. بينما الفرضية تأتي من قرائن وحقائق مسبقة، وعادة ما تنتهي الفرضية إلي علم متي توفرت الأدلة الثبوتية.

• الفرضية المذكورة لم تتكون من مقدمات حدسية بل جاءت من مقدمات حسية

• إن الفرضية لا يمكنها أن تصمد كل هذا الزمان أمام فعل الدحض المستمر. وقضية المهدي تزداد الشواهد والحاجة إليها أقوي من أي وقت مضي.

• إن المنطق يقتضي أن تنشأ الفرضية المزعومة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري. بينما الواقع أنها كانت قضية مطروحة قبل ولادته وقبل ذلك بكثير. ولا نسلم بأن الفرضية تولدت بين عشية وضحاها وخلدت في التاريخ واتبعها ملايين البشر. وقد كانت أدلتك حول مزاعم الفطحية دليلا عليك لا دليلا لك. لأن كل تلك المزاعم دحضت في ليلتها ولم تصمد في التاريخ ولا اتبعها ملايين المؤمنين.

فبما أن بحثنا ومحل النزاع هو مصداقي لا مفهومي، فإن عنوان كونها فرضية أولا ثم فرضية فلسفية ثانيا، فيه نظر. ثمة إشكال في الاصطلاح. فتأمل!

ص: 211

في رد تمييعك لمفهوم المهدي، والحق أنه يستحق التهويل لا التهوين

لاحظت أنك لم تقتصر علي نفي الولد للإمام الحسن العسكري، بل تعدت إلي التهوين من تلك الأخبار المؤكدة لظهور المهدي ثم ميعت المفهوم لكي يشمل كل رجل صالح ضد كل حاكم ظالم. مرة أخري لن أسلم لك بهذا لأنه لا دليل عليه. وعجبا أنك تطلب الدليل وأنت تدوس كل دليل ولا تعبأ به. فأما إثبات الولد فإني سآتي عليه في آخر كلامنا فانتظر. وأما تهوينك من أخبار المهدي وتمييع مفهومها فهو ما يستحق وقفة في المقام. لقد حاولت التهوين حتي من أخبار المهدي العامة. وأنت هنا تحاول أن تحاصر مسألة المهديعند الشيعة بالقضاء حتي علي آثارها العامة في تراث غيرهم. إنك تهون من أمر وردت فيه من الأخبار ما لا يحصي. وهذا يكفي أن يكون لها مربع في مساحة اعتقادنا، بما ينسجم مع مقاصد الشرع وعلله.

إن أخبار المهدي هي من الكثرة بما يوحي بأنها لم تكن لأجل التسلية. بل هي تلزم المتلقي بآثارها وتحدد له وظيفته الشرعية العملية ، وإلا فهو العبث. وحيث لا عبث في الشرع وفيما صح من السنة، فإن تنزيلها منزلة الاعتقاد الجاد الحقيقي أمر مطلوب للمتشرعة. نعم أفهم أنك واقع تحت تأثير خيبة الأمل، وأنت تحكم مقاصد ثقافتك السياسة الجديدة علي مقاصد الدين. وهذا لن تجد في طريقه مخرجا. فثمة من لم يضطرهم الاعتقاد بالمهدي إلي أن يسلكوا سبل الانتظار السلبي. بل إن المشاركة في أفق الانتظار تلهم العمل بالأصلح وتجعل فكرة التمهيد نفسها فكرة تقدمية واقعية. حظور المهدي في الأذهان باعث علي الأمل والعمل، لا اليأس والملل. وها أنا ذا أراك قد أصبحت يائسا ملوك.

ص: 212

وأنا مثلك في القلق، لكن لدي أمل لا يزاحم ما في محاولات الغيبة من آثار طيبة علي مصائر الخلق.

إنني في استعراضي لبعض من هذه الأخبار الصحيحة وشهادات كبار العلماء والمحدثين من الفريق الذي لا يقول بالإمامة أروم مقصدا آخر غير ما هو محل نزاعنا الرئيس. إنني أريد منها الرد علي ادعائين :

الأول : كون المهدوية قضية ليست مهمة وهي مسألة جانبية لا يمكن منحها كل هذا الاهتمام كما أفهم من كلامك.

ثانيا : أنه ليس لها معني أكثر من إفادة وجود عموم الرجل الصالح أمام عموم الحاكم الظالم.

ولست في حاجة لدفع ذلك إلا لبعض الأدلة منها :

الطبري يورد في مورد القول في تأويل قوله تعالي : «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».فيقول :

قال أبو جعفر : أما قوله عزوجل: (لهم)، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله : «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ»، فإنه يعني ب- «الخزي»: العار والشر والذلة إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية».

هذا ما يتصل بالخزي في الدنيا أما في معني الآخرة فيقول :

«حدثنا موسي قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ»، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم ، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضي عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية : لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - علي منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم».

ص: 213

بل إنه يورد كلاما آخره

«وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا ، بخروج المهدي عند السدي، وعكرمة، ووائل بن داود. وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون».

أما ابن كثير، فله كلام آخر، حيث عده من الخلفاء الاثني عشر. بعد أن أول الباقي بغير الاثني عشر الذين زعمهم الإمامية. فهو من جهة كان قد اعتقد بصحة حديث أن الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش، فلم يجد أمامه إلا أن ينتقي من يصلح في هذه المجموعة حتي أنه أخرج منها الحسن وأدخل فيها الأمويين.. فها هو يعترف في تفسيره هنا بأن المهدي هو الثاني عشر. يقول: «ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلي الله عليه و آله، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما».وقد أكد القرطبي علي تواتر أخبار المهدي. ورد خبر «لا مهدي إلا عيسي» وضعفه. مثل هذا سبق من ابن كثير في التفسير أنه عده من الضعاف فلا يصح وهو موقف محدثين وعلماء كثر منهم ابن خلدون في تحقيق أمر المهدي من المقدمة. يقول القرطبي في قوله تعالي: «هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُديٰ وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَي الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ33»( قوله تعالي: «هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ»يريد محمدا صلي الله عليه و آله. (بالهدي) أي بالفرقان .«وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَي الدّينِ كُلِّهِ»أي بالحجة والبراهين. وقد أظهره علي شرائع الدين حتي لا يخفي عليه شيء منها ، عن ابن عباس وغيره. وقيل : «ليظهره»أي ليظهر الدين دين الإسلام علي كل دين. قال أبو هريرة والضحاك : هذا عند نزول عيسي عليه السلام.

وقال السدي : ذاك عند خروج المهدي، لا يبقي أحد إلا دخل في الإسلام أو أدي الجزية.

ص: 214

وقيل: المهدي هو عيسي فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت علي أن المهدي من عترة رسول الله صلي الله عليه و آله، فلا يجوز حمله علي عيسي.

والحديث الذي ورد في أنه (لا مهدي إلا عيسي) غير صحيح.

قال البيهقي في كتاب البعث والنشور: لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهومجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلي الله عليه و آله، وهو منقطع.

والاحاديث التي قبله في التنصيص علي خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلي الله عليه و آله أصح إسنادا .

قلت : قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا (كتاب التذكرة) وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله».

وفي تفسير ابن أبي حاتم: «حدثنا أبو زرعة، ثنا عمرو ب حما بن طلحة، ثنا أسباط، عن السدي «أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي فتح القسطنطينية وقتلهم فذلك الخزي»، وروي عن عكرمه، ووائل بن داود نحو ذلك». .

وفي تفسير الألوسي : «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1):«وَقَاتِلُوهُمْ »عطف علي (قل) وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه : «فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ »(2) من الوعيد «حَتَّي لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يوجد منهم شرك كما روي

ص: 215


1- سورة الأنفال، الآية : 39.
2- سورة الأنفال ، الآية : 38.

عن ابن عباس. والحسن، وقيل: المراد حتي لا يفتتن مؤمن عن دينه «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ»وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل : لم يجيء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقي علي ظهر الأرض مشرك أصلا علي ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالي عنه».

وأيضا قوله: «إن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقولهت عالي: «فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا » الخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء».

هذه عينات من تفاسير المسلمين وهم كما رأيت في العموم من أهل السنة.

وفي جملة ما ورد عند أهل السنة من أخبار في شأن المهدي ما صححه أعلام محدثون متأخرون. وأنا ممن يثق في كفاءة المحدث اللاحق أكثر من المحدث السابق، للنكتة المعروفة بتسلط المتأخير علي المصادر أكثر من السابقين. فهذا الألباني يصحح بعضا مما ورد من أخبار المهدي في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، حيث يذكر مثلا :

• «(يخرج في آخر أمتي المهدي ؛ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعا أو ثمانيا. يعني : حجة».

يقول الألباني: «(صحيح)» (ج2 ص 382) .

• «لتملأن الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا

ص: 216

مني اسمه اسمي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

يقول الألباني: (صحيح)» (ج 4 ص 38) .

• «منا الذي يصلي ابن مريم خلفه».

يقول الألباني: (ج5 ص 371) «(صحيح فقد جاء مفرقا في أحاديث)انظر الكتاب وفيه : قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي صلي الله عليه وآله بمجيء المهدي وأنه من أهل بيته... وأنه يخرج مع عيسي عليه السلام فيساعده علي قتل الدجال... وأنه يؤم هذه الأمة وعيسي يصلي خلفه». .

• «المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة».

يقول الألباني : «(صحيح)» (ج5 ص 486) .

• «المهدي من ولد العباس عمي »

يقول الألباني : «موضوع». (ج1 ص 81) .

يقول الألباني أيضا : «تنبيه : إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريبا : «المهدي من ولد فاطمة» لصحته وشدة ضعف مخالفه، وعليه : لا مسوغ لمحاولة التوفيق بينهما كما فعل بعض المتقدمين. ويقول الأستاذ المودودي رحمة الله في «البيانات»(1)، والله تعالي هو الموفق لا إله سواه»(2).

• «التملأن الأرض جورا وظلما، فإذا ملئت جورا وظلما، بعث الله رجلا مني ، اسمه أسمي، فيملؤها قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما».

ص: 217


1- البيانات للمودودي، ج 1 ص 115 159، 165.
2- البيانات للمودودي، ج 1 ص 115 159، 165.

يقول الألباني في السلسلة الصحيحة» 4/38: «أخرجه البزار (ص 236 - 237 ۔ زوائد ابن حجر) وابن عدي في «الكامل» ( 1/129) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 165) عن داود بن المحبرحدثنا أبي المحبر بن قحذم عن أبيه قحذم بن سليمان عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا. وقال البزار : «رواه معمر عن هارون عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق عن أبي سعيد، وداود وأبوه ضعيفان». وكذا ضعفهما الهيثمي في «المجمع» (314/7 ) فقال : «رواه البزار والطبراني في «الكبير» و«الأوسط» من طريق داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه، وكلاهما ضعيف».كذا قال؟ وأما في «زوائد البزار» فقد تعقب البزار بقوله عقب كلامه الذي نقلته آنفا : قلت : بل داود كذاب».

وأقول: هو كما قال، ولكن ألا يصدق فيه قوله صلي الله عليه و آله في قصة شيطان أبي هريرة: «صدقك وهو كذوب»، فإن هذا الحديث ثابت، عنه صلي الله عليه و آله من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة، منها طريق أبي الصديق التي أشار إليها البزار، غاية ما في الأمر أن يكون داود بن المحبر كذب خطأ أو عمدا في إسناده الحديث إلي والد معاوية بن قرة فإن المحفوظ أنه من رواية معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري به(1).

من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني حدثنا عمر (وفي «تلخيص المستدرك»:عمرو بن عبيد الله العدوي عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به أتم منه وقال : «صحيح الإسناد»!

قلت : ورده الذهبي بقوله: «قلت : سنده مظلم». وكأنه يشير إلي جهالة العدوي هذا، فإني لم أجد من ترجمه، لا فيمن اسمه (عمر) ولا في (عمرو).

ص: 218


1- هكذا أخرجه الحاكم (4/ 465).

لكن رواية معمر عن هارون - وهو ابن رئاب - التي علقها البزار، تدل علي أنه قد حفظه عن معاوية، وهذا هو الصواب الذي نقطع به لأن المعاوية متابعات كثيرة بل هو عندي متواتر عن أبي الصديق عن أبي سعيد الخدري، أصحها طريقان عنه :

الأولي : عوف بن أبي جميلة حدثنا أبو الصديق الناجي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ :

«لا تقوم الساعة حتي تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وعدوانا». أخرجه أحمد (/36) وابن حبان (1880) والحاكم (507/4 ) وأبو نعيم في «الحلية» (101/3)

، وقال الحاكم: «صحيح علي شرط الشيخين».ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وأشار إلي تصحيحه أبو نعيم بقوله عقبه: «مشهور من حديث أبي الصديق عن أبي سعيد». فإنه بقوله: «مشهور» يشير إلي كثرة الطرق عن أبي الصديق، كما تقدم، وأبو الصديق اسمه بكر بن عمرو، وهو ثقة اتفاقا محتج به عند الشيخين وجميع المحدثين، فمن ضعف حديثه هذا من المتأخرين، فقد خالف سبيل المؤمنين، ولذلك لم يتمكن ابن خلدون من تضعيفه، مع شططه في تضعيف أكثر أحاديث المهدي بل أقر الحاكم علي تصحيحه لهذه الطريق والطريق الآتية، فمن نسب إليه أنه ضعف كل أحاديث المهدي فقد كذب عليه سهوا أو عمدا.

الثانية : سليمان بن عبيد حدثنا أبو الصديق الناجي به، ولفظه: يخرج في أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة، يعيش سبعا أو ثمانيا يعني حججا».أخرجه الحاكم (4/ 557 - 558) وقال: «صحيح الإسناده».ووافقه الذهبي وابن خلدون أيضا فإنه قال عقبه في «المقدمة» (فصل53، ص 250): «مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حبان في «الثقات»، ولم يرد أن أحدا تكلم فيه».

ص: 219

قلت : ووثقه ابن معين أيضا، وقال أبو حاتم : صدوق». فهو إسناد صحيح كما تقدم عن الحاكم والذهبي وابن خلدون. وبقية الطرق والشواهد قد خرجتها في «الروض النضير» تحت حديث ابن مسعود (647) من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عنه. ورواه أصحاب السنن وكذا الطبراني في «الكبير» أيضا (10213 - 10230) وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان (1878) ولفظه عند أبي داود «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض...»

الحديث وممن صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في «منهاج السنة»(1):«إن الأحاديث التي يحتج بها علي خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من من حديث ابن مسعود وغيره».وكذا في «المنتقي من منهاج الاعتدال» للذهبي(2).

بعد هذه الجولة في مناقشة صحة أخبار المهدي، يؤكد الشيخ الألباني بالقول:

«قلت : فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث قد صححوا أحاديث خروجالمهدي، ومعهم أضعافهم من المتقدمين والمتأخرين أذكر أسماء من تيسر لي منهم:

1. أبو داود في «السنن» بسكوته علي أحاديث المهدي.

2- العقيلي.

ص: 220


1- منهاج السنة لابن تيمية 4/ 211.
2- المنتقي من منهاج الاعتدال للذهبي، ص 534.

3- ابن العربي في «عارضة الأحوذي».

4- القرطبي كما في «أخبار المهدي» للسيوطي.

5- الطيبي كما في «مرقاة المفاتيح» للشيخ القارئ؟

6۔ ابن قيم الجوزية في «المنار المنيف»، خلافا لمن كذب عليه.

7. الحافظ ابن حجر في «فتح الباري».

8- أبو الحسن الآبري في «مناقب الشافعي» كما في «فتح الباري» .

9- الشيخ علي القارئ في «المرقاة».

10 - السيوطي في «العرف الوردي».

11 - العلامة المباركفوري في «تحفة الأحوذي».

وغيرهم كثير وكثير جدا».

وقد جاء رد الألباني علي الشيخ الغزالي الذي تسرع في نفيه أخبار المهدي من دون تحقيق. فبعد الذي أورده الألباني من صحة تلك الأخبار بعد ثبوتها يقول:

«بعد هذا كله أليس من العجيب حقا قول الشيخ الغزالي في «مشكلاته» التي صدرت عنه حديثا (ص 139): «من محفوظاتي وأنا طالب أنه لم يرد في المهدي حديث صريحا، وما ورد صريحة فليس بصحيح» ! فمن هم الذين لقنوك هذا النفي وحفظوك إياه وأنت طالب؟ أليسوا هم علماء الكلام الذين لا علم عندهم بالحديث، ورجاله، وإلا فكيف يتفق ذلك مع شهادة علماء الحديث بإثبات ما نفوه؟! أليس في ذلك ما يحملك علي أن تعيد النظر فيما حفظته طالبا، لاسيما فيما يتعلق بالسنة والحديث صحيحا وتضعيفا، وما بني علي ذلك من الأحكام والآراء،

ص: 221

ذلك خير من أن تشكك المسلمين في الأحاديث التي صححها العلماء المجرد كونك لقنته طالبا، ومن غير أهل الاختصاص والعلم؟!

واعلم يا أخي المسلم أن كثيرا من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع، فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقا، بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي صلي الله عليه و آله بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة كما صح عنه صلي الله عليه و آله، فكما أن ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه وترك الاستعداد والعمل لإقامة حكم الله في الأرض، بل علي العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعيا من نبينا محمد صلي الله عليه و آله الذي ظل ثلاثة وعشرين عاما وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته فماذا عسي أن يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعا وأحزابا ، وعلماءهم - إلا القليل منهم - اتخذهم الناس رؤوسا! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا بلا شك يحتاج إلي زمن مديد الله أعلم به، فالشرع والعقل معا يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين، حتي إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلي النصر، وإن لم يخرج فقد قاموا هم بواجبهم، والله يقول : «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ».

ومنهم - وفيهم بعض الخاصة - من علم أن ما حكيناه عن العامة

ص: 222

أنه خرافة ولكنه توهم أنها لازمة لعقيدة خروج المهدي، فبادر إلي إنكارها، علي حد قول من قال :

«وداوني بالتي كانت هي دواء»! وما مثلهم إلا كمثل المعتزلة الذين أنكروا القدر لما رأوا أن طائفة من المسلمين استلزموا منه الجبر !! فهم بذلك أبطلوا ما يجب اعتقاده، وما استطاعوا أن يقضوا علي الجبر ! وطائفة منهم رأوا أن عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالا سيئا ، فادعاها كثير من المغرضين، أو المهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة، كان من آخرها فتنة مهدي (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأوا أن قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة! وإلي ذلك يشير الشيخ الغزالي عقب كلامه السابق! وما مثل هؤلاء إلا كمثل من ينكر عقيدة نزول عيسي عليه السلام في آخر الزمان التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة، لأن بعض الدجاجلة ادعاها ، مثل ميرزا غلام أحمد القادياني، وقد أنكرها بعضهم فعلا صراحة، كالشيخ شلتوت، وأكاد أقطع أن كل من أنكر عقيدة المهدي ينكرها أيضا، وبعضهم يظهر ذلك من فلتات لسانه، وإن كان لا يبين. وما مثل هؤلاء المنكرين جميعا عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله عزوجل بدعوي أنه ادعاها بعض الفراعنة! (فهل من مذكر)»(1)، انتهي كلام الألباني

وفي نظم المتناثر، لمحمد جعفر الكتاني، حكم بتواتر أخبار المهدي. وقد أسند أخبار خروج المهدي الموعود المنتظر الفاطمي.

ص: 223


1- الألباني ج4، ص103.

1- عن: ابن مسعود أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجةه

2- وأم سلمة أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم في المستدرك.

3- وعلي بن أبي طالب أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

4- وأبي سعيد الخدري أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلي والحاكم في المستدرك.

5-وثوبان أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك.

6-وقرة بن إياس المزني أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط.

7- وعبد الله بن الحارث بن جزء أخرجه ابن ماجه والطبراني في الأوسط.

8- وأبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي وأبو يعلي والبزار في مسندهما والطبراني في الأوسط وغيرهم.

9- وحذيفة بن اليمان أخرجه الروياني.

10 - وابن عباس أخرجه أبو نعيم في أخبار المهدي.

11 - وجابر بن عبد الله أخرجه أحمد ومسلم إلا أنه ليس فيه تصريح بذكر المهدي بل أحاديث مسلم كلها لم يقع فيها تصريح به.

12 - وعثمان أخرجه الدارقطني في الإفراد.

13 - وأبي أمامة أخرجه الطبراني في الكبير .

14 - وعمار بن ياسر أخرجه الدارقطني في الإفراد والخطيب وابن عساكر.

15 - وجابر بن ماجد الصدفي أخرجه الطبراني في الكبير .

ص: 224

16 - وابن عمر.

17 - وطلحة بن عبيد الله أخرجهما الطبراني في الأوسط.

18 - وأنس بن مالك أخرجه ابن ماجه.

19 - وعبد الرحمان بن عوف أخرجه أبو نعيم.

20 - وعمران بن حصين أخرجه الإمام أبو عمرو الداني في سننه. وغيرهم.

ويذكر صاحب نظم المتناثر أيضا : قد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي أنها متواترة والسخاوي ذكر ذلك في فتح المغيث ونقله عن أبي الحسين الإبري وقد تقدم نصه : أول هذه الرسالة وفي تأليف لأبي العلاء إدريس بن محمد بن إدريس الحسين العراقي المهدي هذا أن أحاديثه متواترة أو كادت قال : وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد اه-. وفي شرح الرسالة للشيخ جسوس مانصه : ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلي حد التواتر اه-. وفي شرح المواهب نقلا عن أبي الحسين الإبري في مناقب الشافعي قال : تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة وأن عيسي يصلي حلفه ذكر ذلك ردا الحديث ابن ماجه عن أنس ولا مهدي إلا عيسي اه-. وفي مغاني الوفا بمعاني الإكتفا قال الشيخ أبو الحسين الإبري قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي صلي الله عليه و آله بمجيء المهدي وأنه سيملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا. وفي شرح عقيدة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي ما نصه: وقد كثرت بخروجه الروايات حتي بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتي عد من معتقداتهم ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه عن جماعة من الصحابة وقال بعدها، وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم

ص: 225

بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم مما يفيد مجموعة العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة اه-. وتتبع ابن خلدون في مقدمته طرق أحاديث خروجه مستوعبا لها علي حسب وسعة فلم تسلم له من علة لكن ردوا عليه بأن الأحاديث الواردة فيه علي اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر وهي عند أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبي يعلي الموصلي والبزار وغيرهم من دواوين الإسلام من السنن والمعاجم والمسانيد وأسندوها إلي جماعة من الصحابة فإنكارها مع ذلك مما لا ينبغي، والأحاديث يشد بعضها بعضا ويتقوي أمرها بالشواهد والمتابعات وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام علي ممر الأعصار وأنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت النبوي يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي علي الممالك الإسلامية ويسمي بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح علي أثره وأن عيسي ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده علي قتله ويأتم بالمهدي في بعض صلواته إلي غير ذلك.

قاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني اليمني رحمة الله رسالة سماها التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح قال فيها والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا في الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر علي ما دونها علي جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك اه، وانظره

ص: 226

فقد ذكر أحاديثه وتكلم عليها وفي الصواعق لابن حجر الهيثمي ما نصه : قال أبو الحسين الإبري قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي صلي الله عليه و آله بخروج المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأنه يخرج مع عيسي صلي الله علي نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فيساعده علي قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسي خلفه اه-. ومثله له في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر إلا أنه عبر عن أبي الحسين المذكور ببعض الأئمة ونصه: قال بعض الأئمة قد تواترت الأخبار الخ ما مر عنه في الصواعق وقال قبله بيسير ما نصه : قال بعض الأئمة الحفاظ أن كونه أي المهدي من ذريته عليه السلام قد تواتر عنه صلي الله عليه و آله اه- (قلت) وأبو الحسين المذكور هو محمد بن الحسين بن إبراهيم الإبري السجستاني مصنف كتاب مناقب الشافعي وهو كتاب حافل رتبه علي أربعة أو خمسة وسبعين بابا وآبر من قري سجستان توفي في رجب سنة ثلاثوستين وثلاثمائة راجع ترجمته في الطبقات الكبري للسبكي ولولا مخافة التطويل الأوردت هاهنا ما وقفت عليه من أحاديثه لأني رأيت الكثير من الناس في هذا الوقت يتشككون في أمره ويقولون يا تري هل أحاديثه قطعية أم ولا وكثير منهم يقف مع كلام ابن خلدون ويعتمده مع أنه ليس من أهل هذا الميدان والحق الرجوع في كل فن لأربابه والعلم الله تبارك وتعالي. انتهي كلام الكتاني.

ويذكر ابن حجر الهيثمي في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر:

«قال بعض الأئمة الحفاظ أن كونه - أي المهدي - من ذريته صلي الله عليه و آله قد تواتر عنه . قلت: وأبو الحسين المذكور هو محمد بن الحسين بن

ص: 227

إبراهيم الإبري السجستاني مصنف كتاب مناقب الشافعي وهو كتاب حافل رتبه علي أربعة أو خمسة وسبعين بابا وآبر من قري سجستان توفي في رجب سنة ثلاث وستين وثلاثمائة راجع ترجمته في الطبقات الكبري للسبكي ولولا مخافة التطويل الأوردت هاهنا ما وقفت عليه من أحاديثه لأني رأيت الكثير من الناس في هذا الوقت يتشككون في أمره ويقولون يا تري هل أحاديثه قطعية أم لا وكثير منهم يقف مع كلام ابن خلدون ويعتمده مع أنه ليس من أهل هذا الميدان والحق الرجوع في كل فن الأربابه والعلم لله تبارك وتعالي». انتهي كلام ابن حجر.

أجل، إننا ندرك بعد ذلك أن الموقف الرافض للمهدي يتعدي حتي إلي جملةالأخبار التي تحدثت عن ظهوره دون الإشارة إلي الولادة. فما بالك بأخبار الولادة. فالشاهد في هذا الإيراد هو أن جملة ما أوردناه من أقوال المفسرين والأخبار وشهادات أهل الحديث تؤكد علي أن المسألة غاية في الأهمية. وهي أيضا تتعلق بحدث مخصوص وشخص معين وليست فكرة مائعة كما يحلو لمن يطلب الدليل وهو يأبي الأدلة. ويطلب المعني الظاهر فيما يتنكر لظاهر معني أخبار المهدي في التعيين. والشاهد الأكبر أن كل هذه الأخبار هي تؤكد علي نظرية الشيعة في الإمام الثاني عشر، ليس لأنها الأكثر تناغما مع النسق العقدي الإمامي فحسب، بل لأنها قرائن داعمة وشارحة ومفسرة لما اختلف حوله من أمر الحجة ابن الحسن. إننا إذا ضممنا هذه كلها بما فيها وجود من رأي ولادته وترجم له من محدثي ومترجمي أهل السنة أيضا إلي الأخبار المؤكدة لولادته والشهادات التي تمت، فإنها تدعم جانب الولادة لا جانب الشك. والحال أنه إذا اجتمع نفي وإثبات في قضية ما فالمقدم الإثبات لا النفي. ولا أحسبك تستصحب النفي ما دام أن الأصل أن نصدق ثبوت الولد

ص: 228

لمن ادعاه وشهد عليه إلا أن يكون لك دليل يثبت خلاف ذلك. فأنت مطالب بدليل النفي ولست في مورد استصحابه. وحيث إنك قلت ما الفائدة من انتظار إمام غاب أكثر من 14 قرن، أقول ما الفائدة من غيبة عيسي ونظراءه من الغيب إلا أن تكون للغيبة أسرار لا يسأل عنها بهذا القدر من التبسيط. مع أن الغيبة تعني أن مسيرة الأنبياء لم تنجز وهي في انتظار التحقق الأكبر. فليست عبثا. فإذا قلت ما جدوي غيبته كل هذا العمر، فالسؤال الأجدي : بما أن أخبار المهدي تواترت في مجاميع المسلمين لم ينكرها إلا جاهل بالسنن، فإذن ما الفائدة أن تنتظر الأمة كل هذا الزمان شخصا لم يولد بعد؟! وما الذي يؤخره إذن؟! فإذا كان المانع حال دون ظهور الحجة ابن الحسن بالنسبة للقائلين بالغيبة، فما الذي يحول بين الولادة وقد فسدت حقب من الأزمنة ولم يولد، وأي زمان يا تري هو أحوج إلي ولادته من أزمنة خلت وزمان ينتظر؟! إن جملة الأخبار والقرائن والمرجحات تجعل الترجيح للأدلة القائلة بالولادة والغيبة لا لأدلة انتظار من لم يولد بعد. فالمانعية من ظهوره وهو مولود غائب أقرب إلي معني العدل واللطف ومقاصد الشرع من مانعيته ظهوره وهو معدوم لم يولد. فهاك ما يدل علي ذلك :

في إثبات أن المهدي هو محمد بن الحسن

اشارة

سبق وذكرت لك أن طريقة العاجز في رد الأخبار هي في تتبع رجالها من دون استقصاء، ثم عرضها علي فهارس وكتب الرجاليين، ثم تجريحهم ثم الحكم علي الرواية بالضعف. لو كانت تلك هي الطريق السالكة لدراية الحديث لما بقي أمر من هذا الدين قائما، ولا ثبتت أي قيمة من قيم الدين أو الدنيا. ليس مخافة من هذا المنهج بل نظرا لخطئه في تحقيق المراد وإحراز العلم.

ص: 229

أولا : مهما زعمت فأنت لم تستقص كل الأخبار. وحينما يدعي خصم لك أن ثمة خبرا لم تقف عليه ويخرجه لك، فلا بد أن تكف عن ادعاء الاستقصاء. ثم وجب من جهة أخري أن تحدد ما مطلوبك هل الوثاقة أم التواتر. وقد أحسن من رأي أن توثيق الراوي مفيد للعلم، لكنه اليس يصار إلي معيار التوثيق إلا عند فقد التواتر. فلا نبحث عن الثقة إلا في الآحاد. أما التواتر فهو مفيد للعلم ولا يشترط فيه وثاقة الراوي وإن أمكن فهو زيادة تشككية في العلم. المعول عليه في التواتر أن لا يكون في مكنة رواته التواطؤ علي الكذب. فلو روي أكثر من مئة كذاب حديثا ولم تكن بينهم صلة ولا جمعت بينهم مصلحة ولا تاريخ و جغرافيا ، فكيف يكذبون؟! اللهم إلا أن نثبت قدرتهم علي العلم بالغيب والتخاطب عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة. هذا لو رواه كذابون علي النحو الاستغراقي، فكيف إذا كانت تلك الأخبار مما رواها ثقات وصادقون. ثم إضافة إلي ذلك وجب معالجة المتن بالاهتمام نفسه في معالجتنا السند. فقد يكون هذا الخبر صحيحا من حيث مطابقة معناه للكتاب لكن في سنده ضعاف. وقد يكون فيه ضعفا باعتبار مخالفته للكتاب والقواعد ولكنه صحيح سندا. ولذا كان مقتضي القاعدة كما يذكر بعض الفضلاء أن صحة السند لا تعني صحة المتن. وأنا أعكسها أيضا لأقول: إن ضعف السند لا يعني ضعف المتن. أليس المطلوب أن نجعل المعيار هو القرآن لنقيس عليه السنة. هكذا نستطيع أن نرد ما روي علي سبيل الوهم كما نقبل ما صح علي أفواه الضعاف والمجاهيل متي أحكمنا مطابقته للكتاب. فإذا لم نستطع أن نستنبط من قرآننا العظيم ما ورد في مخلص الأمم والبشرية فماذا نقدر من باب الأولي استنباطه منه يا تري؟!

ليس صحيحا أن الإمامية أثبتوا ولادة الإمام الحجة إثباتا عقليا مجردا علي أساس الافتراض الفلسفي. بل ليس للعقل هنا من وظيفة

ص: 230

سوي الربط بين القرائن والأدلة لتأكيد الولادة التي ثبتت لديهم بالتواتر الشفهي الذي تناقله الشيعة أبا عن جد وهم المعني الأول بحمل أسرار أئمتهم وهم الأقرب إلي معرفة إن كان للحسن ولد أم لا. وثمة أدلة عامة وأخري أخص. وهاهنا جدارة الوظيفة العقلية. لو اتبع رجال المباحث طريقتك يا أخي أحمد في التشكيك بكل هذه القرائن وإهمالها لما أمكنهم القبض علي لص صغير متخفي بعد أن ترك وراءه آثارا فاضحة. وقبل إيراد الأدلة المباشرة دعني أتوقف عندخبر الاثنا عشر خليفة الذي جاء ذكره في ما سبق من هذه الرسالة. وما نجده في أخبار العامة قبل الخاصة. حديث الاثنا عشر خليفة من الأدلة الجلية علي ترجيح الولادة وتكذيب كل الشكوك التي تذرع بها خصوم الإمامية.

إن نظرة تأملية بسيطة تقول: إن حقيقة الاثني عشر إماما مما ورد في كتب العامة والخاصة وهو يعود إلي مرحلة سابقة عن ولادة الإمام الحجة. وفي بعض الروايات العامة قبل الخاصة تعيينهم بذكر التسعة من ولد الحسين. هذا ناهيك عن أن الكثير ممن تناول هذا المبحث من حفاظ العامة حينما يتحدثون عن فضائل أئمة أهل البيت يبنون علي الاثني عشر ويذكرون الإمام الحجة ولدا للإمام الحسن. وهي ليست مصادفة. كما فعل سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة وغيرهم. ثم إن العموم في ذكر الأوصياء مخصص بأخبار أخري وجب استحضارها عند الضرورة وعدم إغفالها. وهذا أمر متعارف عليه. فلو سلمنا بأن الوصية ليست بدعا في تاريخ النبواة، وهي حتما لا ترفع بالخاتمية لأن لا تزاحم في البين. إن لم نقل أنها في الخاتمية أكد لعدم وجود النبي بعده صلي الله عليه و اله. وهذا ما يفسر خصوصية الغيبة ويمنحها تفسيرا موضوعيا. فلو كان هناك نبي بعد فترة لكان ممكنا تفهم استشكال من

ص: 231

اعتبر الغيبة أمرا غريبا. وإن ولادة وصي بعد مر قرون يعني أن الأرض خلت من حجة مما هو خلاف العقل والنص. قلنا إذن أن للوصية بصيغة العموم نظيرا في الكتاب إذ لم يسم لنا من هم الاثنا عشر نقيبا من نقباء بني إسرائيل ولا من ذكروا كأوصياء وذرية للأنبياء. فآل إبراهيم الذين سأل إبراهيم ربه أن يجعل منهم الأئمة، حينما قال : «وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمون». فهو لم يقل ذريتي» بل قال «من ذريتي». فإننا حينما نجد آل إبراهيم مقرونة بآل محمد كما في الصلاة الإبراهيمية التي يرددها المسلمون خمس مرات علي الأقل في كل يوم أثناء صلاتهم المفروضة، فإننا لا نعلم أسماء آل إبراهيم إلا ما تشخص في السنن. فالقرآن عادة ما يعمم وتأتي السنة التخصص وتعين وتسمي. لكن ثمة قرائن مستفيضة تدل العقل وتهديه بحيث لا يستقيم أي معني يخالف وجهة تلك القرائن.

إذن، فحديث الاثني عشر دال علي ذلك. وقد رواه من لم يكن في زمن الهادي أو العسكري. فمهما ضعف الراوي فلا يضر ما دام أثبت أمرا وقع. فإذا أخذنا حديث الاثني عشر بعين الاعتبار، وهو الذي لا شك في صحته وتواتره ومعرفة الصحابة والتابعين به.. العامة والخاصة أيضا، انتقلنا إلي الأدلة المباشرة في إثبات الولادة وتعيين الإمام المهدي في شخص محمد بن الحسن (ع).

إن بين أيدينا أدلة صحيحة رواها شيعة الإمام الحسن العسكري وأخري تتعلق بشهادات من رأوه وكذا المقربين والقابلة وما شابه وهي طرق متعارف عليها في الإثبات. حيث يكفي منها ما يلي :

هناك رواية للصدوق بسند صحيح، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن

ص: 232

أيوب بن نوح قال : قلت للرضا عليه السلام : إنا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يرده الله عزوجل إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضربت الدراهم باسمك، فقال عليه السلام : ما منا أحد اختلفت إليه الكتب، وسئل عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحملت إليه الأموال، إلا أغتيل أو مات علي فراشه، حتي يبعث الله عزوجل لهذا الأمر رجلا خفي المولد والمنشأ وغير خفي في نسبه. وهناك رواية للقندوزي في ينابيع المودة عن الإمام الرضا عليه السلام: الخلف الصالح من ولد الحسن بن علي العسكري هو صاحب الزمان وهو المهدي سلام الله عليهم».

وهناك رواية للكليني عن محمد بن يحيي، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب عن إسحاق بن عمار قال : قال أبو عبدالله عليه السلام: للقائم غيبتان : إحداهما قصيرة، والأخري طويلة، والغيبة الأولي لايعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته، والأخري لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه.

وفي كمال الدين : حدثنا أبي ومحمد بن الحسن عليه السلام ؛ قالا: حدثنا سعد بن عبدالله وعبدالله بن جعفر الحميري وأحمد بن إدريس ؛ قالوا : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسي ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب ومحمد بن عبد الجبار، وعبدالله بن عامر بن سعد الأشعري، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن محمد بن المساور، عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : سمعته يقول : إياكم والتنويه، أما والله ليغيبن إمامكم سنينا من دهر كم، ولتمحص حتي يقال : مات أو هلك بأي واد سلك، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين، ولتكفأ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، ولاينجو إلا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه.

ص: 233

هذه روايات صحت من طريق الشيعة لها نظائر تعد بالعشرات بل أزيد. وهو يدفع ادعاء بأن الأمر لا يعدو كونه فرضية فلسفية أو خيالية. وعجبت كيف زعمت أن السابقين قالوا بأنهم مضطرين لذلك وقد وقفوا علي أخبار من هذا القبيل ورووا أخبار التعيين. ثم إنك تزعم أن لا ولد للإمام العسكري، والأمر لا يعدو إلا شكا مقابل أدلة. والناظر في عموم تلك الأدلة المثبتة للولد يدرك أنها كافية وأنها معتبرة. فكيف يصار إلي القول أنها ليست شرعية ولا قانونية. ونحن نعلم أن المعنيين بثبوت ولادته هم أهل بيته بالدرجة الأولي وقابلته والشهود المقربين لا الخصوم، والثقات لا الكذابين الطامعين في السلطة والجاه مثل عمه جعفر الكذاب. فطرق الإثبات واضحة من خلال شهادات هؤلاء كما سنظهر جانبا من شواهدهم.

فأنت تشترط في الأدلة شروطا كما تقول : «وأقصد بالأدلة : ظهوره للعلن، ومشاهدته من قبل أناس موثوقين، واعتراف أبيه به، وكل هذا لم يحدث». والحق يقال أن كل هذا ثبت. فلقد شوهد من قبل عدد من المقربين والموثوقين. وأما أبوه فقد عمل علي إخفائه لا عدم الاعتراف به. بل إنه ذبح عقيقة بحسب مصادرنا كما في غيبة الصدوق. فإنك تقول هذا لم يحدث ورميت بكل هذه الأدلة عرض الحائط. بلا، لقد تمت الولادة بشهادة هؤلاء وترجم له وسجل في كتب الأنساب فضلا عن أن البحث عن المهدي كان روتينا لدي سلطة بني العباس وازداد وهاج حين ورود العسكريين الذين نفيا إلي سامراء وحوصرا في بيتهما. فالأمر خطير الا مزح فيه. وعجبا أنك كذبت كل شهادات الموثوقين ممن شاهده أو روي أخبارا تثبت وجوده فيما تعلقت بتشكيكات الخصوم وحكاية جعفر الكذاب الذي لم يصدقه أحد بمن فيهم سلطة بني العباس.

فالقابلة هي حكيمة بنت الإمام الجواد. وقد صرحت بولادته

ص: 234

بحسب مصادرنا. ولم تكن حكيمة وحدها بل ثمة من مساعداتها كخادمة الإمام العسكري نسيم وكذا جارية أبي علي الخيزران... وعموما فمصادرنا تحصي أسماء من الثقات وشاهده من المقربين والسفراء وغيرهم مما لا يطرح بخفة دون اعتبار. بل أمام كل هذه الشواهد تبدو محاولات التشكيك أقرب إلي العناد إذا ما اعتبرنا وضعية الأئمة لا سيما العسكريين، وضغط السلطة العباسية التي كان يهمها القضاء علي الثاني عشر لما تعرفه وما يشيع من أنه القائم عليه السلام. ولا أجد الحاجة إلي الأطناب في ذلك، حيث يمكن التفصيل فيه في الجولات الآتية .

وحيث إنك تتحدث عن ولادة الإمام الحجة كما لو أن حتي شيعته لم تكن لهم دراية ولا علم بهذه الولادة حتي تولدت تلك الفرضية الفلسفية المزعومة، سأكون مضطرا إلي تقديم دليلين لا ينكرهما من زعم أنه يحكم العقل في فكره وعقائده :

أولهما: اعتراف المخالف، بولادة المهدي محمد الحسن .

ثانيهما: النسابة العرب، حيث هم أهل لأدق الصناعات في هذا الباب وأكثرها علاقة بإثبات الولد أو نفيه.

اولا: اعتراف بعض المخالفين بولادة الحجة بن الحسن

إن قولك أن الأمر لم يكن شائعا، يكذبه اعتراف عدد من المخالفين بولادته وتسميته وتعريفه بأنه الإمام الحجة وبأنه الثاني عشر من أئمة أهل البيت. فكيف تكون الحيرة عمت شيعة الإمام العسكري ونحن نجد العامة من المخالفين تؤكد ولادته. فهل حار من يهمه الأمر في معرفة إمام زمانه فيما استيقنها المخالف واطمأن؟!

ص: 235

وهاك باقة أخري ممن وافق من العامة اعتقاد الشيعة بأن المهدي هو الحجة ابن الحسن المولود:

ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة بعد ذكر الإمام الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليه : ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة ، ويسمي القائم المنتظر، قيل: لأنه ستر بالمدينة وغاب، فلم يعرف أين ذهب. ومر في الآية الثانية عشر قول الرافضة فيه أنه المهدي، وروي ذلك مبسوطا، فراجعه فإنه مهم

• ابن الجوزي في تذكرة الخواص: هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسي الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وكنيته أبو عبدالله، وأبو القاسم، وهو الخلف الحجة، صاحب الزمان، القائم، والمنتظر،

والتالي، وهو آخر الأئمة.

• ابن الأثير في الكامل يقول: وفيها توفي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر علي مذهب الإمامية، وهو

والد محمد الذي يعتقدونة المنتظر» (1).

• الذهبي في العبر: وفيها ولد محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقبه الرافضة الخلف الحجة ، وتلقبه بالمهدي، والمنتظر، وتلقبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة

الاثني عشر.

• ابن خلكان في وفيات الأعيان: أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني

ص: 236

عشر الأئمة الاثني عشر علي اعتقاد الإمامية المعروف بالحجة... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين

ومائتين

• كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: أبي القاسم محمد بن الحسن الخالص بن علي المتوكل بن القانع بن علي الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضي أمير المؤمنين بن أبي طالب، المهدي، الحجة، الخلف الصالح، المنتظر عليه السلام. ورحمة الله وبركاته.

ثانيا: شهادة النسابة العرب

كيف يحار شيعته وقد تعرف عليه النسابة وسجلوا تاريخ ولادته؟! فهل النسابة العرب كانوا ممن وقعوا في سحر هذه الفرضية الفلسفية التي ولدت بين عشية وضحاها؟!

ففي كتاب الإمام المهدي في الفكر الإسلامي نقف علي استقصاء جميل و تحقيق بارع في ذكر من ذكر الإمام محمد بن الحسن من النسابة. وهي باقةتكفي ولا نحتاج بعدها إلي عناء. وهي كالتالي :

1- النسابة الشهير أبو نصر سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري من أعلام القرن الرابع الهجري، كان حيا سنة (341 ه-)، وهو من أشهر علماء الأنساب المعاصرين لغيبة الإمام المهدي الصغري التي انتهت سنة 329 ه-.

قال في سر السلسلة العلوية : «وولد علي بن محمد التقي عليه السلام : الحسن بن علي العسكري عليه السلام من أم ولد نوبية تدعي: ريحانة، وولد

ص: 237

سنة إحدي وثلاثين ومائتين وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء، وهو ابن تسع وعشرين سنة.. وولد علي بن محمد التقي عليه السلام جعفرا وهو الذي تسمية الإمامية جعفر الكذاب، وإنما تسميه الإمامية بذلك ؛ لادعائه ميراث أخيه الحسن عليه السلام دون ابنه القائم الحجة عليه السلام. لأطعن في نسبه ».

2 - السيد العمري النسابة المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري قال ما نصه: «ومات أبو محمد عليه السلام وولده من نرجس عليها السلام معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته ، وشره جعفر بن علي إلي مال أخيه وحاله فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة علي قبض جواري أخيه».. 3. الفخر الرازي الشافعي (ت/606 ه-)، قال في كتابه الشجرة المباركة في أنساب الطالبية تحت عنوان : أولاد الإمام العسكري عليه السلام ما هذا نصه: «أما الحسن العسكري الإمام عليه السلام فله ابنان وبنتان: اما الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف، والثاني موسي درج في حياة أبيه. وأما البنتان :قفاطمة درجت في حياة أبيها، وأم موسي در جت أيضأ».

4- المروزي الأزورقاني (ت بعد سنة 614 ه-) فقد وصف في كتاب الفخري جعفر ابن الإمام الهادي في محاولته إنكار ولد أخيه

بالكذاب (2)، وفيه أعظم دليل علي اعتقاده بولادة الإمام المهدي. .

5-السيد النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة (ت/ 828 ه-) قال في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : «أما علي الهادي فيلقب العسكري لمقامه بسر من رأي، وكانت تسمي العسكر، وأمه أم ولد، وكان في غاية الفضل ونهاية

ص: 238

النبل، أشخصه المتوكل إلي سر من رأي فأقام بها إلي أن توفي، وأعقب من رجلين هما :

الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام ، وكان من الزهد والعلم علي أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية وهو القائم المنتظر عندهم من أم ولد اسمها نرجس

واسم أخيه أبو عبدالله جعفر الملقب بالكذاب ؛ لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن»(1).

وقال في الفصول الفخرية (مطبوع باللغة الفارسية) ما ترجمته: «أبو محمد الحسن الذي يقال له العسكري، والعسكر هو سامراء، جلبه المتوكل وأباه إلي سامراء من المدينة، واعتقلهما. وهو الحادي عشر من الأئمة الاثني عشر، وهو والد محمد المهدي عليه السلام ، ثاني عشرهم» (4).

6. النسابة الزيدي السيد أبو الحسن محمد الحسيني اليماني الصنعاني من أعيان القرن الحادي عشر.

ذكر في المشجرة التي رسمها لبيان نسب أولاد أبي جعفر محمد بن علي الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وتحت اسم الإمام علي التقي المعروف بالهادي عليه السلام خمسة من البنين وهم : الإمام العسكري، الحسين، موسي، محمد، علي. وتحت اسم الإمام العسكري عليه السلام مباشرة كتب: (محمد بن) وبازائه: (منتظر الإمامية)(1).

7۔ محمد أمين السويدي (ت 1246 ه-) قال في سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب : محمد المهدي : وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقني الأنف، صبيح الجبهة» (2).

ص: 239


1-

8۔ النسابة المعاصر محمد ويس الحيدري السوري قال في الدرر البهية في الأنساب الحيدرية والأويسية في بيان أولاد الإمام

الهادي عليه السلام قال : «أعقب خمسة أولاد: محمد وجعفر والحسين والإمام الحسن العسكري وعائشة.

فالحسن العسكري أعقب محمد المهدي «صاحب السرداب». ثم قال بعد ذلك مباشرة وتحت عنوان: (الإمامان محمد المهدي والحسن العسكري): «الإمام الحسن العسكري: ولد بالمدينة سنة 231 ه- وتوفي بسامراء سنة 260 ه-.

الإمام محمد المهدي : لم يذكر له ذرية ولا أولاد له أبدا».

في رد التذرع بأن الاختلاف في التعيين دليل عدم الثبوت

وهو دليل أوهي من بيت العنكبوت. ولست أريله وجها ولا موضوعا. لقد اختلف الناس في نبوة أنبياء من أولي العزم فما كان ذلك دليلا علي بطلان حقيقة نبوتهم. وقد كانت أمة محمد صلي الله عليه و آله فجر الدعوة لا تتجاوز بضعة أنفار وهم مع ذلك خالفوا أمما من أهل الكتاب. فالمسألة تتوقف علي الدليل وعلي الدليل فقط. أما أن نهول من أمر خلاف الشيعة في تعيين المهدي، فهو تهوين مفتعل وادعاء مردود. وقد رد الإمامية علي ذلك منذ قرون خلت. وسأنقل لك ما لخصه أحد أعلامهم في القرن السادس عشر الهجري وهو ابن ميثم البحراني في قواعد المرام. وسأستعرض أمامك ما كنت تناولته في ورقة قدمتها في المؤتمر التكريمي الثاني للشيخ ميثم البحراني بطهران، حيث رأيته لخص موقف الإمامية أفضل تلخيص، فأقول: :

ص: 240

فأما ما كان من الطريقين الذين سلكهما في الاستدلال علي التعيين، أي ما تواتر من أخبار الإمامية وأيضا لما روي عن الرسول صلي الله عليه و آله من أن ابنه الحسين «إمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمة، تاسعهم قائمهم..» كافي لكنه في الحجاج مطلوب الإكثار لا لعدم كفايته في المقام، بل لمقتضي الحجاج. لا سيما التأكيد علي ذكر سنده الثابت عند العامة وتحديدا ابن حنبل.. غير أن الحديث عن المعين يقتضي دفع كل ما من شأنه أن لا يجعل الإمامة تصل إلي الثاني عشر، ومنه دفع آراء بعض الشيعة الذين أنكروا بعض الأئمة، وهو ما يستدعي إثباتا لواحد واحد من الأئمة. لذا نعتقد أن هذا البحث كان شديد العلقة ببحث الغيبة ومسائلها. وقد حاول الشيخ ميثم أن يؤسس قاعدة للنقاش تستدعي ثلاث نقاط أساسية : إحداهما بما أن لا أحد ممن ادعت الطوائف الأخري غير معصوم بالاتفاق، فإن ما ليس بمعصوم لا يكون إماما، حيث يمكننا القول أن الوجه الذي يجب به الإمام من باب اللطف هو عصمته لا مجرد الأعلمية.. وثانيهما أن لا وجود لنص علي إمامة أحد ممن زعمت الطوائف المذكورة، وثالثها وبموجب قاعدة الحسن والقبح العقليين المتفقعليها من قبل الشيعة قاطبة، تثبت أن الحق لو كان مع هذه الطوائف لما انقرضت.. «حيث لازمه خروج الحق عن الأمة».. لقد حاج الشيخ ميثم البحراني كل هذه الفرق ودحض مزاعمها بطرق حجاجية سائغة مستوعبا كافة إشكالاتهم مفندا إياها واحدة واحدة، إذ وقع عند عشرة ادعاءات بدء بالكيسانية ومرورا بالزيدية والناووسية والإسماعيلية والشمطية والفطحية والممطورة والطائفة التي ادعت إمامة أحمد بن موسي والأخري التي ادعت إمامة محمد بن علي والتي ادعت أن الحسن بن علي لم يمت.. كان الحجاج نقلا وعقليا، حيث اكتفي الشيخ ميثم بذكر الأمثلة العشرة دون أن يتطرق إلي ما عداها مبررا ذلك بقوله :

ص: 241

«فهذا هو الكلام علي الطوائف المشهورة منهم، وأما الباقون فكلامهم ظاهر الفساد».

والحق أن هذا حجاج شيعي - شيعي بامتياز، وهو ما ميز الإمامية الاثني عشرية، حيث بات واضحا أن أي ادعاء وزعم لا يستند إلي دليل وبرهان لن تقوم له قائمة.. فتكون بذلك الاثني عشرية وحدها القادرة علي الدفاع عن عقائدها بدليل العقل والنقل، وتنازل جميع خصومها المناظرين بالحجاج والبرهان.. لقد رد مقالة الكيسانية التي زعمت الإمامة المحمد بن الحنفية ونفتها عمن دونه.. ذلك لأنهم بعد أن رأوا في محمد بن الحنفية الإمام وأيضا القائم المهدي، قضوا بأنه لا إمام غيره وبأنه لا يموت إلا بعض الظهور حتي لا تخلو الأرض من حجة.. وقد استدلوا علي إمامته بقول علي قول علي بن أبي طالب لابن الحنفية : «أنت ابني حقا».. واستدلوا بكونه صاحب راية علي بن أبي طالب عليه السلام كما كان هذا الأخير صاحب راية الرسول صلي الله عليه و آله. وعلي كونه المنتظر بقوله : «لن تنقضي الأيام والليالي حتي يبعث الله رجلا من أهل بيتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي واسم أبيه اسم أبي» علي أن من أسماء علي عبد الله لقوله: «أنا عبد الله وأخو رسول الله .. الخبر»..

وقد استدل الشيخ ميثم علي فساد هذه الدعوي التي رآها غير موجهة، بأمور، منها أننا لو سلمنا بأن خبر «أنت ابني حقا » صحيح وهو كذلك لا يشك فيه أحد، إلا أنه لا يفيد خصوص الإمامة.. وهذا واضح حيث التخصيص يحتاج إلي قرينة مطمئنة، لذا حمله الشيخ ميثم علي معني الشجاعة وطيب المولد تشجيعا من علي بن أبي طالب عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية - ض - علي ما كان منه من بلاء حسن..فأما كونه صاحب راية أبيه، فلا يكفي دليلا، ولو كان كذلك وجب أن كل من حمل راية الرسول صلي الله عليه و آله أو راية الإمام علي عليه السلام نص علي إمامته؟! وأما

ص: 242

كونه المهدي فليس في لسان الخبر ما يثبت سوي أن الله يبعث رجلا بتلك الأوصاف ولا يفيد أن المعين هو هذا الشخص، هذا بالإضافة إلي أنه لم يكن عبد الله اسما لعلي بن أبي طالب، فالمقصود من الخبر المذكور أنه نسب لنفسه العبودية لله ليس إلا..هذا دون أن ننسي أن محمد بن الحنفية لم يدع الإمامة وقد أنكر ذلك أمام أنصار المختار الذي سار في طلب الثأر للإمام الحسين عليه السلام. وقد سميت الكيسانية نسبة كيسان وهو اسم للمختار.

ورد الشيخ ميثم علي مدعي الزيدية التي تري أن الإمامة في علي والحسن والحسين ثم علي بن الحسين ثم كل فاطمي خرج بالسيف هو مستحق للإمامة. وقد رأوا في زيد بن علي إماما نظرا لعلمه وزهده وأمره وجهاده.. لكن الشيخ ميثم يذكر بأن شرائط الإمامة هي غير ما ذهبت إليه الزيدية، بقدر ما هي العصمة والنص، وهما لا يثبتان في حق زيد رضي الله عنها ، وليس لأحد أن يدعي ذلك إلا أن يأتي ببيان.. والحق أن ثمة ما يستحق حجاجا أطول من ذلك، فلئن زعمت الزيدية أن شرط الإمام خروجه بالسيف، فثمة من الأئمة الأوائل الذين اعترفت بهم الزيدية من حمل السيف ولم يحمله بحسب الظروف.. فالحسن عليه السلام وافق علي الصلح، ولم يرفع السيف بعدها كما لم يرفع الحسين السيف فترة الصلح.. وأيضا لم يرفع علي بن الحسين عليه السلام السيف أيضا، وكانت حياته زهدا وعلما ودعاءا وبكاء حتي سمي بالسجاد لكثرة سجوده وبذي الثفنات للنتوء الذي سببه كثرة السجود وطوله وبزين العابدين وما شابه..

ورد شيخنا ميثم علي الناووسية أتباع عبد الله بن ناووس البصري الذين حصروا الإمامة في جعفر بن محمد واعتقدوا أنه الإمام المنتظر الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وحجتهم خبر رواه عنبسة بن مصعب عن الإمام جعفر : «إن من جاء يخبركم عني بأنه

ص: 243

غسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه»..وقد رأي الشيخ ميثم أن هذا الخبر لا يكفي، بل إن العلم الضروري بموت الإمام لا يدفعه خبر الواحد.. والخبر قد يحتمل الصحة وقد لا يحتملها.. فإن لم يصح بطل كل المدعي وإن صح أمكن تسليط التأويل مادام يعارض العقل حيث يجب ترجيح العقل علي النقل في المقام.. .

ورد الشيخ ميثم علي دعوي الإسماعيلية التي حصرت الإمامة في إسماعيل الولد الأكبر للإمام جعفر بدعوي عدم جواز النص علي غير الأكبر أولا وثانيا لأنهم زعموا أن من خالفهم أجمع علي أن الإمام نص علي ابنه إسماعيل، ولكنهم رجعوا وقالوا بأنه بدا لله فيه، فلم يلزموا أنفسهم بقبول مقالة المخالف.. ويرد الشيخ ميثم علي هذا الزعم بأن النص علي الأكبر يكون مع شرط بقائه بعد الوالد ويمتنع مع عدمه ، حيث وقوعه حينئذ يكون كذبا ما دام المتوقع من المنصوص عليه أن يكون خليفة الماضي.. وأما زعمهم أن الإجماع وقع من المخالف حول وقوع النص قبل البداء، مردود و غير مسلم به لأن لا وجودلمن أجمع من الأصحاب علي ذلك.. وأما حديث البداء فلا علاقة له بالإمامة، بل يتعلق بالقتل الذي صرف عن إسماعيل، كما جاء في الرواية : «إن الله كتب القتل علي ابني إسماعيل مرتين فسأله فيه، فما بدا له في شيء كما بدا له في إسماعيل».

وعلي الشمطية القائلين بإمامة محمد بن جعفر وهم أتباع يحيي بن أبي الشمط حيث رووا حبرا عن أبي عبد الله عليه السلام : «سمعت أبي يقول : إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي فهذا الولد يشبهني ويشبه الرسول صلي الله عليه و آله ويكون علي سنته».

لم يسلم الشيخ البحراني بصحة الخبر، ومع فرض التسليم لا

ص: 244

يجوز العمل به في المقام لأنه من الأحاد، ومع فرض التسليم لا يؤدي إلي المراد بالدلالات الثلاث : مطابقية وتضمنية والتزامية..لم يتوقف الشيخ ميثم عند مقتضي الدلالات الثلاث، لكننا نقول : لعله أراد بالمطابقية أن الخبر المذكور لم يكن كافيا للدلالة علي تمام معناه الموضوع له، فالشبه وحده لا يتعدي في الدلالة إلي الإمامة بشرطيها - العصمة والنص - وصفاتها الأخري.. ومقتضي الدلالة المطابقية أن يدل اللفظ علي تمام معناه.. ولم يحصل هذا في المقام.. وحيث لم يثبت ذلك بالمطابقية فلن يثبت بالباقي، حيث كلاهما فرع للأولي.. فلا نتصور الجزء في التضمني ولا ما هو خارج عن المعني إلا بتصور الكل وما هو دال علي نفس المعني.. والحال أن هذا لم يقع.. فعل ذلك ما أراد الشيخ ميثم الإشارة إليه فتأمل!

لكن لو سلمنا بهذا حسب الشيخ ميثم البحراني، فسيعارض ذلك بكون محمداخرج بعد أبيه مدعيا الإمامة ومتسميا بأمير المؤمنين وهو

حسب المتعارف عليه عند جمهور الإمامية أمارة علي عدم استحقاق الإمامة وهو أمر منكر.. .

وردا علي الفطحية القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر، قال بفساد هذه الدعوي لأن لا وجود لنص من الإمام علي ابنه، وإنما بنوا علي الأكبرية. وقد رد الشيخ ميثم القول بأكبرية عبد الله بن جعفر، مؤكدا علي أن الأكبرية الإسماعيل. ورده ثانيا من حيث إن حديث الإمامة في الأكبر ورد مشروطا «ما لم تكن به عاهة».. وكل من ذهب إلي إمامة موسي بن جعفر قالوا علي نحو التواتر بوجود عاهة في عبد الله في دينه لأنه ذهب مذهب المرجئة «الواقعون في علي وعثمان» وقول أبا عبد الله فيه: «هذا مرج كبير» وقوله «أما علمتم أنه من المرجئة».. هذا فضلا عن أنه لم يتميز عن العوام ولا كان صاحب رواية في الحلال والحرام ولا

ص: 245

أهلا للإفتاء ولا كان يجيب في المسائل الصغيرة التي تعرض عليه لما امتحن بها عند خروجه وادعائه الإمامة.. فتلك وجوه كافية تشهد علي عدم استحقاقه لها..

وأما دعوي الممطورة الواقفين علي إمامة موسي عليه السلام فشبهتهم في ذلك دليلان: الأول قول أبي عبد الله : «يا حميدة بخ بخ، حل الملك في بيتك» وقوله: «اسمه اسم حديدة الحلاق».. فرد الشيخ ميثم أولا بأن المراد بالملك هنا هو الإمامة علي الخلق، وثانيا، عدم التسليم بصحة الخبر ومع فرض التسليم لا يفيد المعني المذكور بل قد يفيد معني القائم بالإمامة بعده..

وأما القائلون بإمامة أحمد بن موسي، بناء علي كون الإمام موسي وصي بالإمامة إليه وبناء علي كون أبا جعفر كان صغيرا، فإنه مردود عليهم حسب الشيخ البحراني، بعدم التسليم بصحة النص علي أحمد بن موسي أولا، فلم يره أحد من النقلة المعتبرين من الإمامية.. وأما عن كونه صغير السن ففيه التباس، حيث كمال العقل عند حجج الله لا يعارض بصغر السن وقد رأيت مثالا في القرآن لذلك: «كيف نكلم من كان في المهد صبا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا » و «وآتيناه الحكم صبيا»..

وأما القائلون بإمامة محمد بن علي، بعد أبي الحسن علي بن محمد، بنص هذا الأخير عليه فهو مردود من قبل الشيخ البحراني، بسببين: أنه لا وجود للفظ يؤكد ذلك فوجب أن يأتوا به هذا أولا.. وثانيا أنهم انقرضوا ولم يبق منهم من يعتد بنقله ولا من يعتبر رأيه حجة في تعيين الإمام..

أما الذين زعموا أن الحسن بن علي لم يمت، فشبهتهم في ذلك

ص: 246

لو أنه مات وليس له ولد لخلا الزمان من إمام معصوم.. ورد ذلك حسب الشيخ ميثم أن موت الإمام معلوم بالضرورة.. كذلك لا نسلم بعدم وجود الولد بعد أن أثبت له جمهور من الإمامية الولد وسموه وشخصوه وظهر الهم ورووا فائضا من الأخبار حول المولود..

نقول: إن مجمل هذا الحجاج الشيعي - الشيعي حول الإمام المعين يعزز أمورا منها :

• أن وراء كل هذا الخلاف اتفاق علي أمور منها وجوب الإمام مع تفصيل في المقام، وأيضا كلهم يؤكد علي ثبوت المنتظر وإن أخطأ بعضهم المعين.. ليكون الخلاف شخصي لا نوعي..

• وهذا الاختلاف ليسفيه ما يخدش في صدق المهدوية والغيبة بل هو اختلاف تفصيلي نابع من شبهات، يؤكد علي صدق القضية، حيث النزاع حول قضية ثابتة لا خلاف حولها من جهة التعيين بل من جهة المعين..

• أن المدار هو الدليل، حتي أولئك الذي تشبثوا بأدلة واهية لم تكن آراؤهم عارية عن دليل نقلي وعقلي، فحق عليهم إن راموا الدليل أن يأتوا به موجها والخضوع لمنطق الحجاج والبرهان..

• أن يتصدي الشيخ ميثم لكل هذه الإدعاءات لا يعني أن هذه الطوائف كلها متفقة ضد الاثني عشرية، بل مؤدي كل دعوي من هذه الدعاوي أن تجعل كل طائفة في مواجهة كل الادعاءات العشر المذكورة.. ولو أننا تأملنا مجمل أدلة الطوائف الأخري سنجد أن الدليل الأقوي هو دليل الإمامية الاثني عشرية، نظرا لأنه آخذ بالعقل المطمئن وآخذ بالنقل المستفيض.. ففدلكاته العقلية لا تتوقف عند قرينة غير مطمئنة ونقوله المستفيضة لا تكتفي بالآحاد ولا الشاذ

ص: 247

الناذر .. فأمكن كل طائفة من هذه الطوائف أن تحتج علي الأخري بما أورده الإمامية في حقها لكنها لن تصمد أمام كثافة الحضور العقلي والنقلي الإمامي، مما يستدعي أن تزيد من الشواهد والأدلة ما يمكنها من الدفاع عن آرائها.. فالحجاج في المقام مشروع والشرط : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 64»..

هذا الحجاج الشيعي - الشيعي كان ضروريا للمقام الرابع من مبحث الغيبة عند الشيخ ميثم، لأنه يتعلق بالتعيين. والتعيين لا يتحقق إلا بعد رد دعوي من زعم أن الإمامة ثبتت في حق هذا دون ذاك.. وكونه جاء قبل مبحث الغيبة لا يضر مع وجود الإحالة.. و حيث خصصنا الحديث في الغيبة دون باقي الفصول الأخري من النجاة، كان لا بد من استحضار هذا البحث هنا لتكامله مع مبحثنا وللعلقة الشديدة بينهما وكونه بمنزلة لزوم المقدمة لذي المقدمة.. هذا غيض من فيض ما جادت به قريحة العالم المحقق والفيلسوف المدقق شيخنا كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم من المعلي البحراني، الموصوف بزبدة الفقهاء والمحدثين.

ختاما

هذه باقة من الأدلة التي لا يمكن المرور عليها مر الكرام. ولا ينفع معها الإغضاء والتجاهل. ولا حتي الادعاء بأنها لا تصح أو مشكوك فيها. مع أنني عجبت مرتين لما تقول إنها أدلة مشكوك فيها. لأن هذا بخلاف الاصطلاح المطلوب. فالأخبار تخضع للجرح والتعديل. فيصح إسنادها أو لا يصح. ولنسمع أولا رأي المحدثين والرجاليين فيها. وهي أخبار فيها الصحيح والمتواتر. وأما ما يتعلق بالصحيح والضعيف في مصنفات الحديث الشيعية، فليس أمرا جديدا. والشيعة أنفسهم لهم جولات في تصحيح البعض وتضعيف البعض الآخر. وهذا عام يوجد

ص: 248

عند غيرهم. كما لهم جولات في تحديد معني الغلو وآراء في الغلاة لا يحتاجون في ذلك إلي سواهم. إنها مدرسة فقهية وأصولية اجتهادية لها موازين وقواعد وأصول في التصحيح والتضعيف. وانظر إنني لم أستدل علي ذلك بأخبار الشيعة لتدرك أن التشيع لأهل البيت ثاوي في نصوص أهل السنة، وبأن المسألة ليست جنونا ولا تخريفا ولا رجما بالغيب ولا تفردا بأخبار لم يصححها أهل السنة في مجاميعهم المعتبرة. فإن التنكر لأهل البيت لا يتم إلا بأن نقضي علي التراثين معا. وفضلهم وتميزهم مما لا يقوي مذهب علي إنكاره. فكيف تريدني أن أمر كبهلوان فوق هذه الأدلة كما لو كانت أحناطة ميتة أو لا نسمع لها صريخا. ولن أقبل منك أن تغمض عينيك فترمي بها رمية أعشي، فقط لأنها لا تروق مزاجك. فالقضية كما لا يخفي عليك خطيرة جليلة. وهنا لا بد من التثبت.

إنني فهمت من حالتك أنك لم يتزلزل اعتقادك بالأدلة علي الإمامة إلا بعد أن اصطدمت بمسألة الإمام الثاني عشر. فحاكمت الإمامة بأثر رجعي. وأنت أمام حلين : فإما التخلي عن الإمامة التي لا راد للأدلة الناهضة بها، لتريح نفسك مما سميته صدمة، وإما أن تجد مخرجا في أن تقبل بولادة الثاني عشر لأن القبول بها لا يناقض الأدلة والقرائن، فيما التضحية بالإمامة تجعلك تخسر أكثر مما تربح في سوق الاعتقاد.

هذه هي الأرضية التي يجب أن يسير عليها النقاش. وهي أدلة وجب الوقوف عندها بروية وليس في وسعي أو وسع أيا كان أن يرمي بها دونما دليل محرز وتحقيق مضبوط. أردت منك أن ترد بتفصيل عن كل هذه الأدلة وكيف يمكنني كمكلف أن ألقي بها عرض الحائط وأهون من أمر دلالتها بالسهولة التي تنطق بها.

أريدك أن تناقشني من منظور المعتقد كله لا من خلال جزئية

ص: 249

مفصولة. نعم التجزيء إذا كان محض إجراء لا إشكال فيه. لكن أخشي التجزيء الذي ينتهي إلي رفض مدخلية باقي العناصر في بنية الاعتقاد. لا تقل لي لا علاقة للألوهية بمبحث المهدي ولا تقل لي لا علاقة للنبوة أو الإمامة بمبحث المهدي. إن العقائد أنساق لا فكاك بين أصولها. وهي كل لا يتجزأ.

ودمت سالما

أخوك

إوريس هاني

14 الإثنين رجب 1429 ه-

الموافق ل-10 يوليو / 2008 / الرباط - المغرب

ص: 250

5- أخي العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Wed, 16 Jul 2008 01:15:14 + 0100

ربما كان للأمور المختلفة ترابط بشكل ما ولو من بعيد، كما تقول أن ثمة ترابط بين التوحيد والمهدوية والإمامة، والنبوة، ولكن المسلمين عموما يتفقون علي الإيمان بالله تعالي وبنبوة النبي محمد ولا يختلفون حولهما ولكن خلاف السنة مع الشيعة الإمامية حول الإمامة، ومن ذلك خلافهم حول وجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، ولا أسميه المهدي حتي لا تقول إن الجميع يتفق حول المهدي العام.

وقد قلت لك وكتبت في مقدمة كتابي تطور الفكر السياسي الشيعي أن اكتشافي لعدم وجود أدلة تثبت ولادة ابن العسكري دفعني لدراسة نظرية الإمامة من جديد ولم أقل أن الشك في وجوده دفعني للشك في الإمامة، وإنما كان ذلك دافعا لمزيد من الدراسة والتحقيق إلي أن اكتشفت بطلان نظرية الإمامة من أساسها بعد أن كنت من الدعاة إليها طيلة عشرين عاما علي الأقل:

وقد طلبت منك تقديم الأدلة لأن تقديم الأدلة مطلوب من

ص: 251

المدعي، وليس مطلوبا من المنكر مع أني مقتنع إلي حد اليقين بأسطورية دعوي ولادة ولد للإمام العسكري، ولست شاكا فقط.

وقد بحثت نظرية الإمامة كما بحثت فرضية وجود الولد للعسكري، وإذا كنت تريد أن تناقش موضوع الولد الغائب فأرجو منك أن تناقش الكتاب المطبوع ولا ترد علي رسالتي المختصرة التي لا تتعدي الصفحات القليلة،ولا يكفي أن تطلق الشعارات العامة والادعاءت الفضفاضة بوجود الأدلة والبراهين، إنما يجب عليك أن تبحث ما تسميه الأدلة دليلا دليلا ورواية رواية ولا تطلق الكلام علي عواهنه مثل ادعائك واستشهادك بحديث القابلة، فعن أية قابلة تتحدث وعن أي رواية؟ وهل تعرف أن هذه القصة لم تظهر إلا بعد مائة سنة في عهد الصدوق الذي روي الرواية بدون سند وعبر أشخاص مجهولين مما يدل أنها لم تكن سوي إشاعة وإذا كنت لا تفرق بين الروايات المسندة والإشاعات فأرجو أن تراجع علم الرواية والدراية لتحقق من الروايات التي تسميها أدلة.

وأما إذا كنت تريد أن تبحث في موضوع الإمامة فهو موضوع طويل وأنا مستعد له بالتفصيل. وأحيلك فقط لموجز بحثي الذي أثبته في مقدمة كتابي تطور الفكر السياسي الشيعي، والذي اختصرته عدة مرات في عدد من الطبعات، ولكني أعمل الآن علي كتابته بشكل موسع وأرجو الله أن يوفقني لإتمامه وربما عرضت عليك بعض الفصول.

لا أستطيع أن أبحث وأحاورك حول كل المواضيع التي تقول إنه يوجد ترابط بينها، فلست متفرغا الآن ولست مستعدا لخوض كل بحث، ولا الرد علي كل تعليق منك وإنما قلت لك وأكرر الآن أن النظرية الاثني عشرية مبنية علي ولادة ووجود الثاني عشر وهو غير وجود ولا مولود وبالتالي فإن الاثني عشرية ساقطة، والإمامة المعصومة غير

ص: 252

موجودة منذ أكثر من ألف عام علي الأقل، وأن الأمة متروكة لقرآنها وعقلها، وطبعة السنة الشارحة للقرآن الثابتة المتواترة فقط، وأما الأحاديث التي ينسبها السنة والشيعة للنبي من أخبار الآحاد فهي لا تشكل حجة علي أحد.

والنتيجة هي أن نظرية الإمامة حتي لو صحت هي غير موجودة ولا يمكن الاستفادة منها لأن أحاديث الأئمة المروية عنهم ضعيفة وأخبار آحاد ولا يمكن الاعتماد عليها لأسباب كثيرة، ولا تشكل فرقا كبيرا مع آراء المجتهدين الآخرين من أهل السنة إلا في مواضع جزئية معدودة ، وأما نفس نظرية الإمامة وأن الإمام يجب أن يكون معصوما ومعينا من قبل الله وفي سلالة معينة، فقد أكل الدهر علي هذه النظرية وشرب ولا يمكن تحقيقها اليوم ولا في المستقبل، فلماذا تصرف هذا الوقت الطويل الإثبات شيء وأنت تعرف أنك لن تصل إلي أية نتيجة عملية .

والسلام عليكم ورحمة الله

أخوك أمير الكاتب

ص: 253

ص: 254

6- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب

السلام عليكم ورحمة الله

قرأت رسالتك، ولا أخفيك انطباعي. فهي أكرمك الله بخل فاحش في التواصل الجاد وسوء في إقراء نزيلك المحاور(1). ذلك بعد أن لم أجد فيها إلا إعادة استعراض الدعاوي نفسها. تأسفت كثيرا لأنني لم أجدك تقف علي أي دليل من الأدلة التي سقتها لك في الرسالة السابقة. ولا وقفت عند جزئية من جزئياتها. وبعد أن كتبت لك عشرات الصفحات جوابا علي قضايا متشعبة أنت طرحتها في رسالتك السابقة ، أفاجأ بك تجيب برسالة من صفحة واحدة أو صفحتين، وفي إصرار عجيب علي الادعاءات نفسها. وفي صفحة واحدة بعد أن أغضيت عن كل ما ذكرت، تقول هي شعارات فضفاضة. وأعتقد أنني في الرسالة

ص: 255


1- من الأشياء التي أثارت انتباهي أن ردود الكاتب الأخيرة علي نقاشاتي شهدت تقلصا مستمرا. يؤكد هذا أن سير النقاش كما ذكرت له كان يتجه نحوالنهاية السيئة. ولا نهاية أسوأ من أن يغادر أحد طرفي المناظرة حلبة النقاش حتي من دون أن يلتفت وراءه. وقد بدا لي أن الكاتب سعي جهده لكي لا يجعل المناظرة تمتد لتصبح كتابا. وأمام إصراري علي ذلك قرر أن لا يجيبني بأي رسالة جديدة لأنه أدرك أن كل إجاباته تتحول ضده. هذا هو التفسير الوحيد لهذا السلوك المناظراتي غير السوي.

السابقة حاولت أن أجر النقاش إلي التفاصيل والأدلة لا إلي الشعارات الفضفاضة. فحينما أجيبك بأكثر من مائة صفحة علي ادعاءات وردت في رسالة لا تتجاوز الصفحتين، ثم ترد علي بصفحة أو صفحتين، ثم تقول أنك غير مستعد أن تناقشني في كل هذه القضايا، أقول لك إن هذا معناه في علم التواصل: إعلان انسحاب. وأنا في الحقيقة لست في حلبة للتباري العقائدي. لذا أقول: وجب دومة التذكير بمقاصد الحوار الصحيح. لا أريدك أن تقول لديك انشغالات تحول دون نقاشك في بعض الأمور. ذلك لأنني حينما قبلت بهذا النقاش وقبلت أنت به أيضا وجب أن نمنحه اهتماما حقيقيا وحمله علي محمل الجد. لذا لا أحد منا يملك القول بأن مآل هذا النقاش لن يؤدي إلي نتيجة. ففي فن المناظرة لا يملك أحد أن ينهي الحوار بتكهنات ليس له عليها دليل سوي يقينياته التي لم يسلم له بها الخصم. عليك أن تنس ما كتبت أنت أو ما كتبت أنا، ولنتعاط الأمر مباشرة بجدة في الأنس وطراوة في الاستدلال.

إنني حينما طرقت كل تلك الإشكالات ليس لأنني أردت إقحام موضوعات ليس لها علاقة بموضوعنا. بل لأنك في رسالتك الأسبقاستعرضت شريطا مركبا من القناعات والادعاءات فأردت أن أرد عليها بالتفصيل والإستدلال المنهجي وليس مجرد سوق شعارات كما قلت. فأحيانا تكون التهمة بالشعاراتية لما تخلوا من دليل، تهمة شعاراتية بامتياز. وكما قلت أنك مستعد أن تناقش معي مسألة الإمامة، فهذا حقا ما أريد أن نخوض فيه لأنه العمدة. كما أن مسألة المهدي هي محل النزاع ووجب النقاش حولها. ولقد ذكرت لك بعض الأدلة وانتظرت منك الوقوف عندها واحدة واحدة قبل أن تختزل دليلي في شهادة القابلة وحدها وتحكم عليه بالإشاعة. لكن ما هو رأيك في الروايات التي ذكرتها لك. وما رأيك في شهادات أهل التراجم من عامة المسلمين. فهل

ص: 256

هم أيضا ممن انطلت عليهم إشاعة القابلة ومرسلات الصدوق؟! وما رأيك في النسابة العرب الذين ذكروه بالاسم وأرخوا لولادته. وقد شهد بذلك من كان معاصرا له فكيف تختزل الحكاية في مائة عام لاحقة مع الصدوق. وإن أخبار الولادة مما رواها الكليني وهو معاصر للغيبة الصغري. فأنت إذ تتهم الصدوق باختلاقها تكون قد وقفت موقف الخصم في الطعن في صدوق ثقة بإجماع الطائفة. فإذا تبنيت موقف الخصوم في تكذيب كل من وثقه الإمامية، يكون الحديث عنادا وغلبا مرد عليه الخصوم، مفاده المسبقة الشقية التي تقول : نحن كلنا الثقات وأنتم كلكم الكذابون. لذا حينما قلت أنك تتبني موقف خصوم الإمامية قصدت هذا التساهل في الطعن الطائفي والمتحيز ضد كل ما هو إمامي.!

وإنني في رسالتك هذه لم أعرف ما هو الأمر الذي وافقتني عليه وما هو الشيء الذي لم توافقني عليه، وطبعا مع ذكر الأدلة. أنت طالبتني بالدليل وفتحت معك سيرة الأدلة. لكنك لم تجب إلا علي شهادة القابلة التي اعتبرتها من القرائن الداعمة للأدلة الأخري. ففي الاختزال سفسطة ليس إلا. وطبعا لا أري وجها لقولك إن كنت لا تفرق بين المسند والإشاعة فراجع الدراية وعلم الرواية. نعم يحتاج المرء أن يراجع متي ذهل أو جهل أو نسي أمرا كان لا بد أن يستدعيه في سير النقاش. لكنك دعوتني إلي بديهي وأبجدي لا يحتاج الإنسان إلي علم الدراية حتي يعرفه. بل لم يوجد ما يوحي بأنني أخلط بينهما حتي تحكم علي بشيء لا موضوع له. بل كما هو ظاهر لا يعدو كونه إسقاطا ليس إلا. ودعك من هذا أيضا ولا تلجأ إلي لعبة رجل القش كما يقال عندنا. بل أنا أدعوك أن تكف عن استعمال اللغة الفضفاضة والالتزام بلغة الاصطلاح وياليتك استعنت بعلم الرواية والدراية الذي بدا لي أنك لم تقف إلا علي سطح منه كما رأيتك تفعل في مقام تضعيف أخبار المهدي في المقام

ص: 257

الذي أحلتني إليه. وقد حدثتك مليا حول ذلك المنهج الخاطئ في عرض الرواة علي الرجاليين دون إحراز الرؤية التكاملية بين الرجاليين القدامي والمتأخرين. وبيان اختلافاتهم في تقييم الرواة وترجيحاتهم التي لها سند في القرائن العقلية وأيضا فيما تسلط عليه اللاحقون من أدلة التوثيق.

ناهيك عمن غلب علي طريقة الحدس دون الحس. ثم بيان إن كان هذا ليس فيمن ورد في طريقه من صححوه حتي لو ورد في سنده ضعيف لم يشهد له أحد الرجاليين بالوثاقة. هذا علم يجب أن يدرس أيضا في تكامليته ويستمر الاجتهاد فيه في جهة القرائن الجابرة. ولكنني وجدت أنكارتكبت ما يستحق حقيقة مراجعة لعلم الرواية والدراية، وإذ تتساءل إن كنت لا أميز بين المسند والإشاعة، فإنني أجيبك علي سؤالك الغريب بقولي: بلا. ولو كنت تبصر مليا فقد ذكرت لك من تلك الأدلة ما هو مسند. وسوف أذكرك بحديث محمد بن يحيي وغيره من الثقات حتي لا تعود إلي هذه التهمة بعد اليوم. لكن رغم ذلك أحب أن أقول: فأنت أولا تتحدث عن مدي إجزاء المسند. والتمرس في الدراية يؤكد أن بعض المرسلات حينما تتعلق ببعض الرواة معينين، فهي مقبولة والأخذ بها مجزي. هذا عند السنة والشيعة فراجع. ثم، إنني رأيتك وبلمح من البصر تقول : إن أخبار الآحاد كما عند الشيعة أو السنة لا تلزمنا. ووجب القول أن هذا ليس أمرا جديدا، بل هو رؤية قاصرة متجاوزة. إنني أتعجب من هذا الحكم مع أنك تطالب بوثاقة الرواة. علما أن وثاقة الرواة لا تطلب إلا في مقام الآحاد وليس في المتواتر المغني عن التوثيق. فأنت لا تميز بين الآحاد المورثة للظن والمقبولة والداخلة في المعتبر وبين الآحاد التي لم يوثق رواتها وهي داخلة في المردود وغير المعتبر. ثم هذا الموقف العدمي من الآحاد لن ينفعك، لأنك لم تخترع فيه جديدا. فمن الإمامية من ذهب المذهب نفسه دون أن يكون ناكرا لأصول

ص: 258

اعتقاد الإمامية، ومنها الاعتراف بولادة الثاني عشر. ولعلك تعلم النقاش الذي جري بين الأصوليين حول حجية خبر الواحد. بل من الإمامية أنفسهم من لم ير له حجية حتي في مجال الأحكام الفرعية. نذكر منهم الشيخ المرتضي وابن قبة صاحب الشبهة المذكورة في المقام. وهذا في ذاته دليل ضد ما تدعي. فهؤلاء الأعلام الذين رفضوا حجية خبر الواحد هم ممن يروي تلك الأخبار عن المهدي ويؤمن بها. وهو دال علي أنهم يدركون أنها مما تواتر وليس من خبر الآحاد. ومع ذلك أقول إن الأصوليين والدرائيين أدركوا هشاشة هذا الموقف. لأننا لو تركنا خبر الواحد لما بقي شيء من عقائدنا ولا أحكامنا لأنها بالجملة جاءت عن طريق الآحاد. بل لو تبنينا هذا الموقف العدمي لما قامت في مجتمع العقلاء أي حقيقة. وحيث إن مسلك الوثاق الرجاليين هو بناء العقلاء وليس استثناء من طرائقهم، أدركنا إذاك بؤس هذا الموقف العدمي من خبر الآحاد، بل أدركنا أنها علي الأقل دعوي غير عقلائية. لكن للآحاد المقبولة والمعتبرة ضابطة مبحوثة في مظانها كما لا يخفي. ثم إنك تتحدث عن الآحاد وتنسي أن المعول عليه في مقامنا هو جملة الأخبار التي تواترت حتي استحال تكذيبها وهي تغني عن الآحاد التي يرويها الثقة. أقول إن محل النزاع لم يصل بعد إلي موضوع الوثاقة لأنه في عداد المتواتر. هذا فضلا عن أنك تتهم بالكذب والوضع من أجمعت الطائفة والمخالف أيضا علي وثاقتهم وعدالتهم وصلاحهم. إنني لا أستطيع أن أصدق دعواك بأن الأمر يتعلق بإشاعة ثم بالمقابل أرمي بكل تلك الشهادات لأهل التراجم والرواة والنشابة وجمهور من توارث هذا الاعتقاد عرض الحائط.

ولا عليك من سرديتك بخصوص الحيرة وانقسام الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري، فذلك مدفوع بالأدلة التي سقتها لك ملخصة في

ص: 259

الرسالة السابقة. فكثرة الخلاف في أمر كهذا طبيعي لما أحاط به من تدابير الخصوم والمتربصين والكذابة. غير أن المعول عليه هو جمهور الشيعة. فانظر إلي المسعودي في مروج الذهب حينما يذكر وفاة الإمام الحسن العسكري، يسميه أبو المهدي المنتظر والثاني عشر عند القطعية من الإمامية، وهم جمهور الشيعة. يقول هذا مع أنه يردفه بالقول أن التنازع في المنتظر بعد وفاة الحسن بن علي أسفر عن عشرين فرقة. ويكفي شهادته أن الجمهور الشيعي حينها علي رأي القطعية في الثاني عشر. وأما تضخيم الفرق التي تأكلت وبادت مع الزمان، هي أشبه بتعداد الأحزاب السياسية وتضخيمها فيدولة تعيش علي سبيل الإسهال الحزبي والسياسي. فنذكر حزبا عريقا أصيلا يعد أتباعه بعشرات الألوف إلي جانب أحزاب مجهرية لا يتعدي أتباعها العشرات.

إذن إن لم تجبني علي محتوي الرسالة السابقة فسأحسن الظن وأقول أنك وافقتني علي الأقل في أن قضية المهدي بالمعني العام مؤكدة بأصح الأدلة. وهي علي هذا الأساس مما لم يرد في شريعتنا جزافا. وحقيق به أن يشغل ذمة الأمة. والأمر نفسه في سكوتك عن إجابتي في موضوع الاثنا عشر إماما مما صح في كتب العامة والخاصة. وهو يصلح داعما نصيا وعقليا علي ثبوت الولادة بالملازمة. ولا يلتفت إلي ادعاءك المتكرر من أن الاثني عشرية مبنية علي ادعاء ولادة الثاني عشر، حينما ندرك أن أحاديث الاثني عشر مما تواتر عند السنة والشيعة ورواه الصحابة والتابعين وليس فيمن عاصر تابعي تابعيهم وهو زمان أبي محمد الحسن العسكري. وكذلك لم ترد علي شهادة أهل التراجم والنسابة وغيرهم من المخالفين ممن أثبتوا ولادة الإمام المهدي وسجلوها في صحائفهم. وبذلك يحتاج أن تنقض كلامهم واحدا واحدا قبل أن تتحدث عن يقينك بعدم الولادة. والأهم من هذا أنك لم تجبني حول الرواية التي

ص: 260

ذكرتها لك فيما اختزلت رتي في شهادة القابلة. وعليك أن تدرك أن أهل الدراية حينما يوردون شهادة هنا أو هناك، لا يفعلون ذلك بحجة أنها هي الدليل، بل بعنوان أنها من المدعمات العقلية المفيدة في مضاعفة احتمال الصدور وترجيح الصحة. فالخبر الواحد المحفوف بالقرينة أو المقرون بحسب الاصطلاح هو حجة عند المحدثين كما لا يخفي. وهذه حقا من أهم الأدلة علي النهج السفسطائي الذي سبق واتهمتك به. وها أنذا في كل لحظة أجد من المصاديق والأدلة ما يدعم هذا الاتهام. أي جعل القرينة هي الأصل في الاستدلال أو تقديم ما بالعرض محل ما بالذات في سير النقاش أو اختزال الأدلة في القرينة فيما كنت قد أتيت بخبر صحيح لم أسمع له فيما ذكرت فيكتاباتك ركزا.

أعود وأقول: إن طريقة اعتمادك علي شهادات الرجاليين الإمامية فضلا عن أنها انتقائية وفيها من روح التصرف التعسفي ما لا يخفي أمره علي مختص، لا تستحضر حقيقة أخري وهي أن هؤلاء الرجاليين أنفسهم كانوا علي أشد اليقين بولادة المهدي كما دلت عليه تلك الأخبار التي وصفتها بأنها خالية من المسانيد. وهذا إنما يدل علي أنهم لم يقصروا أدلتهم علي المرسل منها. وإذا قبلوا به فلأنهم استندوا إلي معايير أخري في قبولها غير السند. فهؤلاء الرجاليين اهتموا بتصحيح الرجال وتضعيفهم وكان همهم تحرير الأخبار من تسلط الضعاف والمجاهيل والوضاعين وما شابه. وكان ذلك نزرا قليلا مما وصلنا. وثمة ما لم يصل.

إني أراك يا أخي أحمد قد كذبت الكثير من روايات الأمامية بخصوص المهدي. وأشهدت علي ضعف رواتها رجاليين أمثال ابن

ص: 261

الغضائري في الضعاف والطوسي في الرجال والفهرست. ونسيت أن الشيخ الطوسي الذي ضعف بعضا ممن ذكرت من الرواة في إحدي المناسبات، هو نفسه روي عنهم وصحح روايتهم في موارد أخري. وأبلغ الأدلة علي ذلك ذكره أخبارهم فيما ألف في الغيبة (غيبة الطوسي). وهذا ما يعني أن لهم طرقا في التصحيح ليس مجرد ضعف راوي في طريق من طرق الأخبار. ثم ها أنت تشهدهم علي ضعف رجال سند تلك الروايات، وكأن ابن الغضائري والشيخ والعلامة لم يؤمنوا بولادة المهدي. بلا، لقد آمنوا بالمهدي محمد بن الحسن. وهذا دليل علي أنهم صححوا تلك الروايات. فهل كان هؤلاء إلا مؤمنين بالمهدي فكيف سلموا بما جاءهم عمن ضعفوا روايتهم. فالمسألة ليست بهذه السهولة.

قلت ولا زلت أقول، أن منهجك خاطئ في نقد أحاديث ولادة المهدي. وذلك لأنك اتبعت طرقا مخالفة للبرهان والقواعد المتعارفة في نقد الحديث وهذا يظهر من خلال الملاحظات التالية :

• راجعت ما كنت قد ضعفته من تلكم الأخبار فرأيت عجبا. إنك مهما حشدت من تلك الأدلة التي ارتأيتها ضعيفة، فهذا لا ينفعك. والسبب هو أنك لم تستقصها كاملة، وإنما انتقيتها وتجنبت ذكر الصحيح المسند منها. فلو أنني أتيتك برواية واحدة صحت، فسينهار بنيانك برمته. ذلك لأن كل ما رأيته ضعيفا يصبح صحيحا متي ما انضمت إليه الروايات الصحيحة ودعم بقرائن عقلية. ولا أدل علي تهافت طريقتك أنك سعيت في إحدي الموارد المقروءة إلي تطبيق الطريقة نفسها علي أخبار الاثني عشر المشهود لها بالصحة والشهرة من قبل أعتي حفاظ الحديث من المخالفين أنفسهم. فقد رأيتك

ص: 262

تنتقي من تلك الأخبار ما فيه ضعاف وتجاهلت ما هو صحيح بإجماع الطائفتين. وهو منتهي الشطط. والحق أنني منذ نقدي لك قبل سنوات كنت ألاحظ انتقائياتك التعسفية. فطبيعي إذا أنت انتقيت الضعيف من تلك الروايات وأهملت الصحيح منها ، فسيكون الحكم كما أردت. المسألة تحصيل حاصل. وسبق وقلت لك أن كل أبواب الفروع بالأحري الأصول يوجد فيها كل أقسام الحديث من الصحيح حتي الضعيف بأقسامه، ولا إشكال في ذلك طالما أن المعول عليه هو الصحيح. وأنت تجنبت الصحيح وحشدت من كل ضعيف وشهدت بنفسك أن من ضعفه هم الرجاليون الإمامية. وهذا أكبر شاهد علي أن أخبار المهدي لو توقفت علي هؤلاء الضعاف لما رد الرجاليون الإمامية رواياتهم. فذلك دليل علي أن ثبوت أخبار ولادته لا تتوقف علي هؤلاء الضعاف. لا بل هذا شاهد قطعي علي أن منهج الإمامية ماض في طريق الاجتهاد والتحقيق والتوثيق وليسوا أهل تسامح وإشاعة، فتأمل.

وحيث تحدثت عن ضعف مرويات تلك الكتب /الأصول جملة فأنت تلجأ في ذلك إلي حيلة العاجز ليس إلا. إن الإخوة من أعلام الحديث السنة ألفوا في الوضاعين والكذابين ما ينوء به الحمل. ومع ذلك رووا في صحاحهم عن عشرات الثقات الشيعة وما ضرهم غلو من وصفوهم بذلك. وفي اعتقادي أن مبني ابن الغضائري في تضعيف الرواة الإمامية هو أقسي من مبني أمثال الذهبي من العامة في تضعيفهم. ذلك لأنه يضعف الراوي أحيانا لغلوه. في حين ميز آخرون بين الغلو والوثاقة في نفس الراوي. وقد سار رجاليون إمامية علي طريقة الأشاعرة القميين في التساهل في رد أخبار من بلغهم أو ظنوا غلوه. وفي ذلك يلفت السيد أبو القاسم الخوئي إلي ما كان من تضعيف النجاشي لعبد الله بن القاسم

ص: 263

الحارثي. فقد ذكر بأنه لم يظهر تضعيفا من النجاشي لعبد الله في الحديث بل ضعفه في نفسه من جهة الغلو. وهذا سبب الاختلاف بين الرجاليين. ومع أن العامة صنفوا في الكذابين والوضاعين إلا أن ذلك لم يبلغ الكثرة عند الشيعة. فقصاري ما هناك تهمة بالضعف والخلط والتساهل في نقل الأخبار بالإضافة إلي آحاد من الوضاعين والكذابين. إن الغلو لا يرفع الأمن من كذب الراوي الإمامي. لا سيما وأن من موجبات الاعتقاد لعن الكاذبين علي الأئمةكما من موجبات الأحكام أن الكذب علي المعصومين من المفطرات. علما أن هؤلاء الرواة كانوا من الثقات المعروفين بكثرة إخبارهم عن الأئمة. وذاك أمارة علي منزلتهم كما جاء في أخبار الأئمة. فهم يطلبون النجاة بالولاء لهم فكيف يقترفون ما يدعو اللعن من قبل الأئمة. وطبعا يصح هذا التوجيه فيمن عد من الثقات الموصوفين بالصلاح وليس فيمن لا نعلم له مذهبا ولا نحلة.

• إنك فعلت وما فعلت. وما فعلته يشبه من انتقي حشدا مما ورد من طرق غير صحيحة حول الصلاة أو الصيام أو الحج ثم عرض رواتها عرضا سريعا علي الرجاليين ثم حكم بكذبها كلها. ثم جعل ذلك دليله علي نفي وجوب الصلاة والصيام والحج. ولو أنه أدرك أن الصواب هو الاستقصاء والنظر فيما صح وجعله أساسا لتصحيح ما ضعف لاهتدي إلي صراط مستقيم. وما دام لا يوجد باب من أبواب الفروع بالأحري الأصول لا يخلوا من وجود الضعيف إلي جانب الصحيح، فإنني أستطيع أن أطبق منهجك هذا علي كل أبواب الأصول والفروع وأخلص إلي النتيجة نفسها. وبذلك سبق وقلت أن منهجك لو طبقناه علي الأصول والفروع لما وجدنا بين أيدينا شيئا. بل لو طبقناه علي ما في يدي مجتمع العقلاء من المعارف والعقائد والحقائق لأدي إلي استحالة العلم.

ص: 264

• إن نقدك للمتن فيه خلل تعسفي ونقدك للسند فيه تبسيط فاحش. وذلك لما سأبينه :

أما من جهة الخلل في نقد المتن، فليس ما ذكرته سوي إنشاءات لا يمكن أن ترد بها الأخبار. فأنت تقول وتردد بأنك تظن أنه كذا.. ولعله كذا.. وربما كذا... وهي صيغ حجاجية لا رصيد لها من قواعد البرهان. وهي غير ملزمة للخصم. فالأخبار ترد ويحكم بضعفها متنا متي ما خالفت بديهيات العقل وظاهر القرآن وصريح الأخبار الصحيحة وطبعا فيما لا يحتمل توجيهه تأويلا للتوافق معها. وقد بحث الأصوليون الإمامية هذه الأخبار، فوجدوها لا تناقض صريح وظاهر الكتاب بله مؤدي تأويله الصحيح. وقصاري ما تراءي من تلك الأخبار أنها تثبت الغيبة لشخص وهو بخلاف منطق الطبيعة. وبالتالي تثبت الحياة الطويلة الشخص بشري وهو كذلك بخلاف الطبيعة أيضا. وقد أثبتوا أن هذا ثابت بالطبيعة من جهة وبالقرآن من جهة أخري وبالشهادات التاريخية والعلمية أيضا.

فالغيبة هي مما عرفته تجارب دينية عبر تاريخ الرسالات، فليست غيبة المهدي وحدها مما يخالف المضمون القرآني. بل وأزيدك : إننا نتساءل لماذا جاء القرآن بقصص الغيبات وقصة الخضر وأهل الكهف وما شابه ، إلا أن يكون المراد من ذلك أن يخلد في النص نظائر لتلك الغيبة حتي لا يقال أنها مخالفة للقرآن. وأيضا بحثوا عدم استحالتها عقليا وعلميا أيضا. ثم إنهم ذكروا أخبارا عن المعمرين في أقدم التاريخ ومتأخره ممن عاش ألف سنة إلا خمسين عاما مثل نوح وأخرون من عامة الناس ممن أدركهم عامة الناس في أزمنة العرب وسموا بالمعمرين. وهذا لا يخفي عليك مما ذكره كتاب الغيبة من أمثال النعماني والصدوق وغيرهما. ولا حاجة لتكراره هنا.

ص: 265

وأما التبسيط الفاحش في رد الأخبار، فهو كما قلت لك أنك لجأت إلي تضعيفها من خلال عرض رواتها علي رجاليين أمثال الكشي وابن الغضائري والطوسي وصاحب الخلاصة وهلم جرا. ووجب أن نعرف هل أنت حقا تؤمن بشهادة هؤلاء ومنهجهم في التصحيح والتضعيف. فإذا كان الأمر كذلك فإني أعتبر أنك لم تتحدث عن إجماع هؤلاء جميعا في قضية تضعيف كل الرواة. ثانيا : إن بعضهم حتي وإن ضعف راويا فهو يقبل بروايته حينما تأتي من طريق راوي معتبر. فضلا عن أن مذهب الإمامية التمييز بين الضعيف المقبول والضعيف المردود. ثم لا يخفي أن بعض الضعفاء ممن ضعفهم ابن الغضائري، ليسوا ضعافا بالاجماع بل عادة ما يبالغ أحيانا في التضعيف بتهمة الغلو علي مذهب الأشاعرة القميين. وقد كان حال ابن العضائري في تضعيف الرجال مما استكثره عليه رجاليون كثير. يكفي ما ذكره السيد الداماد من أن ابن الغضائري «مسارع إلي الجرح جردا مبادر إلي التضعيف شططا».فلا غرابة أن يضعف الراوي ثم يقبل بعض مروياته إذا ثبت له أن طريقها موثوق. فهذا ما كان من رأيه في أبي البختري حيث يقول فيه أنه كذاب عامي إلا أن له عن جعفر بن محمد عليه السلام أحاديث كلها يوثق بها.

إنك يا أخي الكاتب لا تريد أن تسلم بأن الغاية والمعول عليه في التوثيق والتصحيح بالطرق الممكنة والمتعارف عليها في علم الدراية ليس وثاقة فلان أو علان. المقصد الأعلي هو ثبوت نسبة الأخبار إلي المعصوم وتحققالظن والعلم بذلك. إن طرائق الدرائيين في التوثيق ليست إلا وسائل عقلائية لتحقيق الظن بالصحة. فلو تحقق الصدور حتي بالكيمياء والعلوم التي يحصل لنا بها الاطمئنان قطعا ، لكان طريقا مقبولا

ص: 266

ومشروعا ما دام العلم توقف عليه. ولو وجدنا طريقا لتحقيق العلم بصدور الخبر من حاق المتن لما التفتنا رأسا إلي السند. لأن الخبر إذاك لا يضر ضعفه هذا فضلا عما يؤكده الخبر الذي أورده الفريقان معا - المجلسي مثلا من الشيعة والشاطبي من السنة : من أنه إذا جاءنا حديث يوافق كتاب الله، فهو حديثي قلته أو لم أقله. واعتقادي أنها قاعدة مبكرة في تصحيح الخبر، لأن السياق جاء في ذكر ما سيكون عليه حال الرواية حين ظهور الكذابة. فثمة من يروي المضمون النبوي أو مضمون قول الإمام كما هو حال هشام بن الحكم فيما يرويه عنه أحيانا الكليني بعد الاطمئنان أنه حاكي عن مضمون قول جعفر الصادق - ولذا فأنت تعرف أن البحث في الوثاقة ليس من مقام المتواتر بقدر ما هو حاجة تقتضيها الآحاد. وهذا ليس جعلا مجعولا لأن البحث في صحة الأخبار يستند إلي طرق العقلاء. وسيرتهم دالة علي أن النوبة لا تصل إلي التوثيق فيما لو تحقق العلم بالتواتر. كما أن عدم وثاقة الراوي لا تسقط العمل بالخبر المقرون بأدلة عقلية والمنجبر بالشهرة روائية كانت أم فتوائية. فانظر تجد أنه في كل تعاريفهم للتواتر لم يلتفتوا إلي وثاقة الراوي لأن الوثاقة حينئذ لا قيمة لها ما دام العلم يتحقق بالكثرة العرفية التي يستحيل معها تواطأهم علي الكذب حتي وإن كنا لا نأمن من آحادهم الكذب. وإننا في الآحاد نبحث في طريقين : وثاقة الراوي وما يحف الخبر من قرائن عقلية.

لقد ضعف ابن الغضائري بعضا من هؤلاء لكنه كان إماما يؤمن بالاثني عشر إماما وبولادة الثاني عشر، فهل يعقل أنه وهو الرجالي شديد القسوة في شروط القبول برواياتهم ثم يقبل بأخبارهم ويؤسس اعتقاده عليها؟! ثم هذا الطوسي تستشهده به في ذلك التضعيف وهو مؤلف كتاب الغيبة. وفيه يورد أخبار الولادة. وفضلا عن الأخبار

ص: 267

الصحيحة المسندة التي أوردها الشيخ إلا أننا نقول: إن في إيراده لما ورد في طريقه ضعاف بشهادته هو أو شهادة من سبقه أو عاصره من الرجاليين أمارة علي تصحيحها بدعم مما وافق مضمونها من روايات صحت وأسندت. ناهيك عن اتفاق الطائفة علي اعتبار الشهرة بالأولي فيما قبل الشيخ مع خلاف فيما بعده. فأنت تقبل شهادتهم في الرواة لكنك لا تستدعي مبانيهم في قبول الرواية أو ردها. والحق أنني منذ نقدي لك قبل سنوات كنت ألاحظ انتقائياتك. فطبيعي إذا انتقيت الضعيف من تلك الروايات وأهملت الصحيح منها فستحكم بذلك. المسألة تحصيل حاصل

وعجبا أنك تسألني إن كنت لا أفرق بين المسند والإشاعة في سياق اتهام الصدوق بالرواية عن مجاهيل في شأن القابلة مما يؤكد أنه يروي الإشاعة. ولا يضيرني ذلك ما دمت أشرت في حكمك علي هذا علما من أعلام الرواية والفقه أمثال الشيخ الصدوق. وعجبا عجبا أن يكون الصدوق لا يميز هو أيضا بين الإشاعة والمسند وهو قريب العهد من رواة الخبر. ويا ما رأيتك تحصي مجاهيل ومرسلات الصدوق حتي كاد من لا يدرك مباني القوم يصدقون مقولتك. وقد فاتك أن ليس كل مرسل في مبني الدراية الإمامية هو مردود. فثمة من لا يرسل إلا عن ثقة إرسال بن أبي عمير ومن شاكله. كما قال السيد بن طاوس في الفلاح بأن مراسيل محمد بن أبي عمير كالمسانيد عند أهل الوفاق. وذلك لبحث مفصل في محله. وأما ما يرسله الصدوق فليس كما تراءي لك. ولا يخفي أنها متصلة مسندة كما تدل علي ذلك المشيخة مما سار علي نهجها الصدوق في من لا يحضره الفقيه والشيخ في التهذيب والاستبصار

ص: 268

تفاديا للتكرار وتخفيفا علي القارئ. فارجع ما بدا لك مرسلا منه إلي ما هو مؤكد في المشيخة كي تري اتصال السند. فالصدوق جبل في الرواية وجبل في التوثيق فلا يجوز التعاطي معه بخفة كما لو كان كما قلت يروي الإشاعة. هذا مع أن تتبع مبناه يدل علي أنه يسلك مسلك الوثاقة.

أخي الكاتب : إنك ما فتئت تحيلني علي ما كتبت وما ناقشت مع الكثير من العلماء والباحثين، لتوحي بأنك حتي الآن لم تجد دليلا صحيحا علي ولادة الإمام الحجة. والحق أنني حينما أردت النقاش معك حول هذه الموضوعات أردت أن أنسي وتنسي معي ما كتبت لننطلق في أجواء نقاش حر وجديد. ولم أكن قد تابعت ما جري بينك وبين الكثير ممن ناقشت معه هذه المسألة، لكنك حينما وجهتني لذلك وجدت الكثير من اليابس والأخضر في ذلك النقاش. لا أعني الطريقة التي يدار بها ذلك النقاش فحسب، بل لما وجدتك - علي الأقل وإنصافا - لم تجب علي من قدم لك من تلك الأدلة الصحيحة. وها أنت بدأتتمارس معي ما كانوا يدعونه عليك وكنت أحيانا لا أصدقهم. لنستبعد إذن القرائن العقلية الداعمة والأمارات الجابرة لضعف الأخبار التي انتقيتها انتقاء ، ونأتي بأدلة مسندة صحيحة. وهاك ما صح منها :

رواية الكليني في الكافي عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد صلي الله عليه و آله: جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ فقال : سل. فقلت : يا سيدي هل لك ولد؟ فقال : نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة.

أقول: إن إيراد مثال معاكس بالمعني الرياضي أخي الكاتب من

ص: 269

شأنه أن يهدم كل استدلالاتك علي الضعف. وها هو ذا دليل أمامك أرشدني أرشدك الله إلي ضعفه. لأنني هنا معك أسعي لأعرف لا الأنباري. وأنا مثلك أريد أن أعرف دليلا منك علي ضعف هذه الرواية والطعن في سندها.

رواية محمد بن يحيي رواية صحيحة مسندة لم تذكرها ضمن انتقاءاتك... وكان لا بد أن تلتفت إلي مسألة أساسية وهو أن المعول عليه هو إحراز العلم بالصدور. فقد يكون راوي الحديث ضعيفا لا يلتفت إليه، وذلك لأن الشارع كان قد عبدنا بالظن الخاص الذي قام الدليل علي حجيته بوصفه منجزا ومعذرا. والشارع نفسه عبدنا بقبول رواية الواحد الثقة دون رواية غيره بوصفها من الأمارات. هذا مع أن الثقة قد يروي ما لا ثبوت لصدوره واقعا. كما قد يروي الضعيف ما له صدور في الواقع. إلا أن الشارع لم يقل برد رواية الفاسق مع وجود ذلك الاحتمال المهمل شرعا وعقلا، بل دعي إلي التبين (فتبينوا). ويتحقق ذلك بالطرق العقلائية المتعارفة. وهي العرض علي القرآن بوصف النبي والمعصوم ناطقا عن القرآن فلا يحتمل أن يكون نطقه نقيضا للمضمون القرآني. وأيضا بواسطة القرائن والمدعمات العقلية. لذا فإن كل ما رأيته ضعيفا من خلال أقوال الرجاليين في من ورد في طريق تلك الأخبار، يصح بدعم مما صح وطابقه من روايات صحيحة. وهذا ما يفسر لماذا اعتقد هؤلاء الرجاليين أنفسهم بولادة المهدي مع أنهم ضعفوا أولئك الرواة. وروايتنا المذكورة خير شاهد علي أن لهم طرقا صحيحة وبها صحت روايات أولئك الضعاف. فابن الغضائري والشيخ وسائر الرجاليين لم يضعفوا تلك الروايات بل ضعفوا أولئك الرجال، فميز. والدليل علي ذلك أن أمثال الشيخ في الغيبة اعتمد الروايات نفسها وكذا الصدوق وما شابه .. وهذا يعني أنها صحت عندهم من خلال صحة الطرق الصحيحة

ص: 270

إليها. فتأمل هذه النكتة لتدرك أن تضعيف الراوي لا يعني تضعيف الرواية إذا ما حفت بالقرآئن وإذا ما دعمت بطرق صحيحة تحكي المضمون الروائي نفسه ما دام المعول عليه هو الاطمئنان إلي صحة الصدور لا التوقف عند الراوي. وإنك لم تدرك منهج هؤلاء الرجاليين، فقد يضعفون راوية لكنهم يقبلون منه بعض الروايات الأسباب خاصة كما يقبلون رواياتهم إذا ورد في طريقها راوية مخصوصة كما ذكرت لك مرارا.

وأحيلك أيضا إلي الكافي عن علي بن محمد، عن محمد بن علي بن بلال قال : خرج إلي أبي محمد قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم خرج إلي من قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده.

رواية أخري لم تذكرها وهي من الصحيح. فالراوي هو علي بن محمد. ولا أحسبك ذكرت هذا الخبر فيما ذكرت من أخبار من أحلتهم علي الرجاليين الإمامية ورأيتهم من الضعفاء. هذا فضلا عن أنك لو ذكرت هذا الخبر لوجدت رجاله ثقات. وأحسبك لم تذكره حتي لا ينخرم منهجك التبسيطي في التضعيف. ففي سند هذا الخبر يوجد علي بن محمد. والمقصود به ابن أبي القاسم. وهو ثقة فاضل باعتراف الرجاليين. وقد روي عنه الكليني فيما ذكر صاحب المعجم في كل أجزاء الكافي. يقول السيد الخوئي في المعجم: «هو من مشايخ الكليني وقد أكثر الرواية عنه في الكافي في جميع أجزائه وأطلق ومن ثم قد يقال بجهالته ولكن الظاهر أنه علي بن محمد بن بندار الذي روي عنه كثيرة، فقد روي عنه في أبواب الأطعمة في ثلاثة وثلاثين موردا وبهذا يتعين أن المراد بعلي بن محمد في سائر الموارد، هو علي بن محمد بن بندار ثم إن بندار لقب عبد الله بن عمران الجنابي البرقي وكنيته أبو القاسم، علي ما صرح به النجاشي في ترجمة محمد بن أبي القاسم عبد الله بن

ص: 271

عمران. وعليه فعلي بن محمد بن بندار، هو علي بن محمد بن أبي القاسم عبد الله بن عمران البرقي، كما أن علي بن محمد بن عبد الله الذي يروي عنه الكليني أيضا كثيرا، هو علي بن محمد بن بندار كما يأتي. ثم إنك قد عرفت في علي بن أبي القاسم الثقة أنه علي بن محمد بن أبي القاسم وعليه فيحكم بوثاقة علي بن محمد بن بندار وعلي بن محمد بن عبد الله»انتهي كلام السيد الخوئي.

وقد ترجم له في سائر الكتب الرجالية ووصف بالثقة الفاضل كما في الخلاصة، إذ يقول الحلي في شأنه: «ثقة فاضل فقيه أديب». كذلك في رجال ابن داود نجد أن: «علي بن محمد بن أبي القاسم عبد الله بن عمران البرقي المعروف أبوه ماجيلويه أبو الحسن [كش ]ثقة فاضل فقيه تأدب علي جده لأمه أحمد بن محمد البرقي».فالراوي ثقة. والراوي عنه هو الكليني الثقة فضلا عن أنه معاصر للغيبة الصغري. نفهم من ذلك أن أخبار الولادة أقدم مما ادعيت.

وأذكرك برواية الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة : حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنها قال : حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسي عليه السلام قصيدتي التي أولها :

مدارس آيات خلت من تلاوة*** ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما انتهيت إلي قولي : خروج إمام لا محالة خارج ويجزي علي النعماء والنقمات، بكي الرضا عليه السلام بكاء شديدا ثم رفع رأسه إلي فقال لي: يا خزاعي نطق روح القدس علي لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام، ومتي يقوم؟ فقلت: لا، إلا أني سمعت بخروج إمام

ص: 272

منكم يطهر الأرض من الفساد، ويملؤها عدلا كما ملئت جورا. فقال : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم، المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره. لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله عزوجل ذلك اليوم حتي يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وأما : متي فإخبار عن الوقت، فقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أن النبي صلي الله عليه و آله قيل له: يا رسول الله متي يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال : «مثله مثل الساعة التي : «و...لا يجليها لوقتها إلا و قلت في الموت والأرض لا تأتي إلا بغنه»، والرواية الصحيحة التي ذكرها الشيخ الصدوق بسنده عن عبدالله بن جندب عن موسي بن جعفر عليهم السلام أنه قال : تقول في سجدة الشكر : اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت الله ربي والإسلام ومحمدا نبي وعليا والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسي بن جعفر وعلي بن موسي ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة بن الحسن أئمتي بهم أتولي ومن أعدائهم أتبرأ».

لا أريد أن أزيد، لأن المعول عليه في دفع الإدعاء رواية واحدة صريحة في إثبات الولد وشاهد موثوق بذلك. أبعد هذا كيف يقال أن رواة كل أخبار ولادة المهدي هم من الضعاف وقد ذكرت لك ما وثقه الرجاليون أنفسهم، والمسند الصحيح الذي طالبت به.. وكيف يقال أنها فرية متأخرة وأوحيت لي بأنها من تخرصات الأزمنة اللاحقة في مرسلات ومجاهيل الصدوق وقد رواها الكليني المعاصر للغيبة الصغري، المتصل بأوثق الثقات من السفراء الذين عايشهم جمهور الشيعة لما يربوا علي الثمانين سنة.

ص: 273

وعليه، لقد لقنتني درسا حتي لا أطنب في التفاصيل. وأكتفي بهذا القدر عساني أجد منك نقاشا في صميم الأدلة المذكورة في الرسالة. وحينئذ كل ما ذكرت من كلام في الرسالة هو مجرد إنشائيات ورجم بالغيب وإغضاء مفتعل عن الأدلة. فالإنشائيات لا حدود لها. واليقينيات التي زعمت لا حدود لها. فقد كنت علي مر بحثك تتحدث بلسان الشك، فتقول: وهذا ما يشكك في.. وهذا يجعلنا نشك في.. الخ. لكنني أفاجأ في الرسالة الأخيرة بحديثك عن يقينك بعدم الولادة. وهو في الواقع شيء يقع عنادا في طريق إرادة الاعتقاد. أو لنقل هو من جنس قطع القطاع الذي ليس حجة في شريعتنا. إنني لا زلت ألح وقد بححت من النداء بأن : قف عند تلك الشواهد والأدلة التي ذكرتها في الرسالتين الأخيرتين لعلي أنتفع بما علمت ولم أعلم.

حتي لا أنسي أشكرك علي دعاءك لي بالشفاء. وعلم أخي أحمد أنني في هذا النقاش لا أنوي أن أسجل غلبا في الحجاج يصفق له الجمهور، بل أطمع في أن أردك إلي سفينة النجاة والدوحة العلوية الطاهرة، فإنه يعز علي أن أكون حيث لا تكون. ودمت سالما.

أخوك إدريس هاني

24/ 2008/7 م

الرباط - المغرب

ص: 274

7- الأخ العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Thu, 24 Jul 2008 20:04:04 + 0100

قرأت رسالتك الأخيرة بإمعان ووجدت فيها كثيرا مما يستحق الرد عليه، خاصة في مبانيك في الرواية والجرح والتعديل، حيث وجدتك تحسن الظن في كثير من الفقهاء والرواة وترفض التشكيك بعدالتهم أو وثاقتهم، وتحاول النقاش فيهم. وقد قلت لك في رسالتي السابقة بأن منهجي يقوم علي الشك ليس فيهم فقط وإنما حتي في ما ينسب إلي الأئمة الاثني عشر، فأنا لا اعتقد بعصمتهم واحتمل الخطأ عليهم، ولذلك فإن كلامهم لا يعتبر عندي دينا يجب التسليم به والتصديق بسرعة وإنما أتأمل وأقارن بينه وبين القرآن، إن ما دفعني لاختصار الرد عليك في رسالتي السابقة رغم انك كتبت حوالي مائة صفحة هو أنك أوردت كثيرا من الأمور التي ناقشناها مع غيرك طوال سنوات، ولا أستطيع أن أعود لمناقشتها معك مرة أخري وبسرعة وخلال أيام في حين أن مراجعتها تتطلب شهورا وسنوات، وهذا ما لا استطيع القيام به علي عجل خاصة وأنا مشغول بكتابة بحثي عن نشوء نظرية الإمامة وتطورها، ويمكنك الاطلاع علي الكتاب ومناقشته إن شاء الله بعد الانتهاء منه ، وهو سيشكل جزءا من الرد عليك.

ص: 275

ولذلك لا استطيع أن أقبل مقدمتك التي سقتها أثناء النقاش بأن علينا غض البصر عما كتبنا سابقا، إذ إن هذا يعني البدء في الحوار من نقطة الصفر في كل شيء، ولذلك اقترحت أو اقترح عليك إذا كنت تهدف إلي الاطلاع والمعرفة وليس النقاش من أجل النقاش، هو أن تراجع ما كتبت سابقا وخاصة حواراتي مع الأخوة العلماء في هجر قبل ثمان سنوان والذي طبعوه في مجدلين، وكذلك تراجع كتاب حواراتي مع بعض السادة العلماء والموجود علي موقعي، وتناقش الأمور نقطة نقطة، فإذا كان لديك اعتراض علي أي موضوع نناقشه بصورة خاصة مثلا أنك تردد أو رددت عدة مرات أن علماء السنة والنسابة السنة قد أثبتوا وجود وولادة الإمام الثاني عشر، وقد ناقشت هذا الموضوع في ردودي بالتفصيل وفي حواراتي مع الأخوة في هجر، فيمكنك مراجعة الموضوع وهكذا بالنسبة لمواضيع عديدة أخري ملاحظتي الرئيسية علي رسالتك الأخيرة تتمثل في تقليدك للعلماء السابقين وافتراضك أن لديهم أدلة قوية، رغم احتجاجهم بروايات هم يضعفون رواتها في كتبهم الرجالية، وذلك اعتمادا علي أيمانك القوي الراسخ بهم وبعدالتهم ووثاقتهم، ولا تسمح لنفسك بنقدهم أو التشكيك بعملهم العلمي وإذا أتيح لي الوقت فسوف أقوم بالرد علي منهجك في الأصول والدراية، وكأني فهمت منك أن تبنيه علي كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري بدرجة كبيرة أنني لا أريد أن أعتذر منك عن الحوار ولكن حسبما يسمح الوقت، ولا يمكن أن أرد علي كتاب تكتبه خلالأيام، ولكني قد أكون مستعدا للحوار معك نقطة نقطة، ومن دون تكرار لما كتبنا سابقا .

والسلام عليكم ورحمة الله

أمير الكاتب

ص: 276

8- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب

اشارة

السلام عليكم ورحمة الله

حسنا، قرأت رسالتك، وهي لا تختلف أيضا عن نظيراتها السابقة في الاختزال ولا أقول الاختصار. وقد فهمت جيدا أنك ترفض الرد التحليلي المفصل ولكنك متمسك من جهة أخري باستعراض مواقفك نفسها بتفصيل مكرور. وأنا أيضا يهمني أن أعرف أي جديد سيحمله كتابك الذي حدثتني عنه. وأعدك أنني سأطلع عليه وأبدي رأيي فيه أيضا.وحتي ذلك الوقت أحب أن أرد علي بعض مما جاء في رسالتك المقتضبة، لا سيما علي بعض من الردود التي أطلعتني عليها في نقاشاتك الأخري مع غيري.

قلت إن رسالتي فيها الكثير مما يستحق الرد لكنني لم أجد هذا الرد سوي وصفا لما رأيته مبني أستند إليه في الجرح والتعديل قوامه ثقتي الكبيرة في العلماء ورفض التشكيك فيهم. وهذا لا يعدو مجرد وصفك الخاص، في حين أن الواقع ليس كما تري. فالطريقة التي أتبناها تقوم علي الحذر في التجريح إلا بدليل. وثقتي بالعقل والقرائن العقلية كبيرة. فأنت تتسامح في التجريح قدر تسامحك في التوثيق حينما يكون في صالح مدعاك ومتي تعلق الأمر بالرد علي الخصم. وقد رأيتك في موارد

ص: 277

عديدة تعارض ما صح بما لا يصح. وتواجه ما تؤكده الأدلة النقلية المعتبرة والمدعومة بقرائن العقل القاطعة بأدلة ضعيفة وقرائن إنشائية هشة. وأحيانا تبني مواقفك علي شواهد تاريخية لا تلتفت حتي إلي سندها وصحة صدورها. وبقدر ما ترفض الاستدلال بالقرائن العقلية دعما للأخبار الدالة علي ولادة المهدي فإنك تستند إلي ما تراه قرائن عقلية في دحض ما صح من الروايات في ذاك الشأن. وكنت أريدك وأنت تتسامح في تضعيفاتك وتتحدث عن ذلك بخلاف الاصطلاح وأحيانا بمجرد أنك تجد في طريق ما انتقيت من الأخبار بعضا ممن وصفوا بالضعف عند أعلام الطائفة نفسها، أن تقف عند بعض الحقائق التي انطوي عليها العلم بالرجال حتي لا يفهم الخصم من ادعاءك أن الأمر هو تسليم ساذج بالروايات الضعيفة. والحال أننا لا نكاد نختلف علي وجود روايات ضعيفة لم تحرز شروط الصحة المعمول بها في التوثيق والتصحيح، لجهة الإرسال أو التقطيع وما شابه ، لكن وكما يؤكد بعض الرجاليين الفضلاء من المعاصرين، حول مزية وفائدة نقل أصحاب بعض الكتب عن المشايخ الثقات من دون ملاحظة باقي من في السند، أن المبتغي منه إشغال ذمة الناقل من حيث ربما كان له طريقا غير هذا الطريق، ويكون ذلك الطريق صحيحة. ومع أن هذا الكلام جاء في سياق مناقشة مدعي ابن قولويه بالنسبة إلي مشايخ كامل الزيارات، فالأمر ساري بالنسبة لغيره. فإذا رأيت فيما صنف الشيخ الطوسي أو الصدوق وغيرهما في مصنفاتهما المعروفة صحيحا إلي جانب ضعيف مما يخالف ادعاءهما في المقدمة، فلنكتة في المقام.

ويبدو لي أنك واقع في أسر نموذج إرشادي مسبق يجعلك كما قلت تمسك العصي من الوسط، حيث تبالغ في التجريح هنا وتتسامح في الاعتبار هناك. لذا لم أجد عندك برهانا تاما ينطلق من رحاب اللامذهبية

ص: 278

بل إنك تغلب حقائق منظومة علي أخري. فطريقتك من الناحية المنهجية حجاجية فيها شيء من البرهان لكن أحيانا يوظف بصورة تخرج عن محل النزاع. وأنا متأكد أنك لو شئت أن توظف استدلالاتك في دعم قضية المهدي لفعلت وبالحدة نفسها. وذلك ما يؤكد علي مفارقة منهجك. لكنها كما قلت لك سابقا : ضريبة إرادة الاعتقاد!

أذكرك أخي أحمد أنني أبحث عن دليل شافي لما زعمته. إن جملة الأدلة النقلية والعقلية التي بين يدي لا يقوي علي دفعها ما تفضلت به. نعم أتفهم طموحك لإيجاد صيغة اجتهادية في تاريخنا وعقائدنا لتفادي الخلاف الذي فتك ولا يزال يفتك بجسد الأمة العريض. إنني شخصيا أعيش هذا القلق وأحلم بذلك اليوم الذي يلتقي فيه المختلفون من هذه الأمة. لكن الوحدة والتقارب يجب أن تنهض علي حقائق لا علي أحكام تجعل طرفا واحدا مسؤولا عن الغلو في هذه الفرقة دون غيرها. إنني أعتقد أن الجميع يتحمل بعضا من المسؤولية. ونحن نؤمن برسالة الاصلاح والتجديد والتنوير. لكن ليس علي أسس يزيف فيها التاريخ وتنقلب فيها العقائد ويدان فيها الحق أينما كان. إنني لاحظت أنك لم تجرم تاريخ الغلب في أصول نشأته. لاحظت أنك في مناقشات كثيرة ترمي باللائمة علي تاريخ أهل البيت كما لو كان بدأ المشكلة مع نشأة الدولة الصفوية. وهذا من الغرابة إذا ما قرأنا تاريخ ما قبل نشوء الدولة الصفوية وعن تلك المجازر التي راح ضحيتها الشيعة في بغداد وغيرها. لماذا تغمض العين علي كل هذا الجرح وتضع اللوم علي الشيعة. بل تختزل معضلة العالم الإسلامي في الخلاف السني الشيعي فقط بينما لا العالم الشيعي موحد ولا العالم السني موحد. ولا عليك من كل الشواهد التاريخية المزيفة والاختزالية التي سعيت بها في موارد مختلفة وهي مما استند إليه الخصوم لإلقاء اللائمة علي التراث المختلف عن تراث الغلب.

ص: 279

ماذا فعلت الدولة العثمانية بالمقابل مما كان يجري في إيران الصفوية؟! وإذا صادفتك مرة تتحدث عن محاولة الشاه نادر قبلي ومحاولته القضاء علي التشيع في إيران وفشله في ذلك، فإنك لم تقرأ عن موقف العثمانيين من تلك المبادرة من ناذر شاه، وهو الرفض. فالعثمانييون أزعجهم موقف هذا الشاه، لأنهم خافوا من إيران غير شيعية تنافسهم النفوذ علي العالم الإسلامي. هذا كلام لا يمكن التفصيل فيه الآن، لكن أردت القول أنها السياسة في المبتدأ والخبر. فهذه قراءات بقدر ما تتظاهر بالتاريخية إلا أنها ليست كذلك. لذا لا أريدك أن تتحدث طويلا في قضايا الوحدة والتجديد - مما لا نختلف عليه - كمقدمة للبرهنة علي حقيقة ما كذبته من حقائق وما اجترحته من آراء تلفيقية تحاول أن تبحث عن صيغة مخملية قوامها أن الخلاف لم يكن أو أنه قابل أن يحل بجرة قلم. إذا كان ذلك قدرنا في تجربة تاريخية صراعية فاشلة، فالمخرج كيف نحلها بمزيد من النضج الحضاري والرشد العقلي والبرهان والتوافق حول قضايا ومقاصد نشخصها ونكرس أحكامة ثانوية حولها تفوق وتغطي علي ما كان من أحكام أولية.

وبينما انتظرت أن ترشدني إلي مواقع الخطأ في مبناي الذي خطأته، رأيتك تصر علي ما زعمته نهجا تشكيكيا يطال الأئمة أنفسهم حيث إنك لا تقر بعصمتهم. وقد ذكرت أن كلامهم لا يعتبر عندك دينا يجب التسليم به. بل إنك زعمت أنك تقارن بين ما يأتيك منهم وبين القرآن، وعلي ذلك الأساس تميز بين ما لديهم من حق وباطل. وهذا ليس جوابا طبعة بل هو ترديد للمواقف السابقة نفسها. آية ذلك أنني سبق وتحدثت معك عن ادعاءك الاكتفاء بالقرآن وهو حديث كان يجدر بك أن

ص: 280

تتوقف عنده لأنني لم أجد فيما ناقشته مع غيري وقوفا عنده. ولولا أنني متأكد من صحة خبر عرض السنة علي الكتاب بدليل القرآن والسنة نفسها والعقل المؤيد لهما، لكنت تفهمت ما تحدث عنه الشريف الجرجاني في أصول الحديث عن قول الخطاب بشأن حديث العرض أنه من وضع الزنادقة، حيث إنهم لم يعرفوا قول الرسول صلي الله عليه و آله بأنه أنزل إليه القرآن ومثله معه؛ أي السنة. فإذا لم يكن ذلك القول من الخطاب ولا حتي ممن اهتم بهذا الرأي من أمثال الشريف الجرجاني صحيحا حتما، فإنه صحيح من جهة الاستغلال السيء لمفهوم الاكتفاء بالقرآن وحتي من دون ضابطة مقررة لعملية العرض والارجاع إليه.

لقد أغضيت عن كلامي ثم ها أنت تعود وتقول لي بأنك تقارن بين تعاليم أهلال بيت وبين القرآن. بينما ذكرت لك بقاطع الأدلة السمعية - قرآنية وحديثية - ما يجعل هؤلاء معيارة للفهم القرآني الصحيح، في لجة حروب التأويل التي تجعل حركة المعني ممكنة ومتوفرة بحسب الطلب. لكنها ستكون حتما متضاربة ومظنة لاختلافات لا راجح فيها ولا مرجوح إلي حد استحالة العلم وتساوي الأدلة. فكيف لي أن أتصورك ناظرا في كلام علي بن أبي طالب وهو أعلم الناس بالقرآن بل في وصف السنة له بما صح أنه ترجمان القرآن يدور مع الحق حيثما دار. بل هم العدل الذي قرن بالقرآن والراسخون في العلم الذين يعلمون تأويله بنص القرآن. فكيف تعرض كلام ترجمان القرآن علي القرآن، وما هي الضمانة التي ستجعل رأيك راجحا في رد كلامهم بناء علي فهمك للقرآن وقد كان تكليفك أن تجعل من تعاليمهم معيارا لفهمه؟! ومشكلتك أخي أحمد أنك لا تقف عند حد أن تعرض ما يروي عنهم علي القرآن، حيث ذلك هو المطلوب لتتأكد من صحة صدوره عنهم، كما هو المنهج المقرر عند الإمامية أنفسهم. بل إن الأئمة أنفسهم وجهوا الأمة إلي أن تعرض ما

ص: 281

يصلها عنهم علي القرآن وقياسه عليه. لأنهم يدركون أن كلامهم ما كان له أن يناقض الكتاب. لكنك أنت تقفز إلي التشكيك في مقامهم وتجعل قولهم قابلا للأخذ والرد. وهذا طبيعي حينما لا تري عصمتهم لأنك لا تري إمامتهم. لكن متي سلمت بالأدلة التي تثبت إمامتهم فحصرا يلازمها عصمتهم. وحينما قال من قال : كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام المعصوم، فذلك لمبناهم في حصر العصمة في النبي صلي الله عليه و اله. لكن الأمر مختلف عند من وسعها لتشمل الأئمة المعينين، إذ يكون الحكم ساريا فيهم أيضا. فالعصمة إن كانت تثير عندك كل هذه الغرابة، فأحري أن تثير غرابتك عصمة الرسول . وحينئذ، لك أن تقول بأنك تعرض كلام النبي عليه السلام كتاب الله أيضا.

وقد تري ذلك غير وارد لأن عصمة النبي مسلم بها دون غيره حسبمبناك. ولكنني أقول إنك متي سلمت بالإمامة سلمت بما تقتضيه وظيفتها وهي العصمة. والأدلة علي ذلك أوفي ولا تخفي. لذا كان لا بد أن نناقش المسألة في أصلها: الإمامة؛ بوصفها بيان الشريعة. البيان الذي يرقي إلي مرتبة الحجية القاطعة والحكم الواقعي وليس مجرد الاجتهاد في إحراز الظن. وحيث إنك لم تناقش معي الإمامة فلا يسلم لك بموقفك هذا. وقد ذكرت لك في رسالة سابقة من الأدلة الناهضة بشأنية أئمة أهل البيت ما هو جدير بأن لا يقاس بهم أحد في العلم والفضل والشأنية. لكنك ودون أن تكون رددت علي ما ذكرته من تلك الأدلة تعود وبالعناد المكرور نفسه والإغضاء المعهود عن الأدلة، لتقول إنك تمارس منهج الشك في كلامهم. وهذا سبق وقلت لك أنه منهج خاطئ لأنه في غير محله. والدليل علي ذلك أنك لا تستطيع أن تمارس منهجك الشكي في كلام الله وكلام الرسول صلي الله عليه و آله. فإذا ما ثبتت الإمامة الهم وأسند القرآن والسنة ولايتهم، فلا معني لكلامك. إننا لا نثبت

ص: 282

العصمة إلا بدليل. وقد ثبتت العصمة في حق هؤلاء الأئمة من المصادر نفسها التي ثبتت بها العصمة للرسول صلي الله عليه و آله؛ أي من سياق النص القرآني نفسه والسنة والعقل. إن العصمة ليست إلا عنصرا لتأمين وظيفة جلا، هي الإبلاغ المصون من احتمالات الزيف والبيان المصون من شطط التأويل. إذن أنا أدعوك لنناقش الإمامة والعصمة. وحيث إنك حدثتني عن كتابك قيد الإكمال وذكرت أن فيه جزءا من الرد علي ما ذكرته لك عبر هذه الرسائل، فسأكون مستعدا لمناقشته أيضا. إنها إذن ليست «شطارة» في التمرد وعدم التسليم بإمامتهم أو عصمتهم. فهذا ممكن عنادا. لكن المسألة فوق أن تكون كذلك. فالمدار هو الدليل. طالما أن هناك «شاطرون» أيضا يملكون نزع العصمة عن كلام الله «جكارة» وعنادا. وبمثل منهجك ومقاصده نستطيع فعل ذلك وزيادة.

ثم لا بد أن أقول، إن مبناي في الجرح والتعديل ليس رفض التشكيك في عدالة الراوي ووثاقته، ولا هو إحسان الظن في الفقهاء والرواة. إنني لم أقل ذلك. وإنما كنت في وارد الرد علي منهجك الغالي في الخلط بين وصف حال الراوي فيما يدين به من اعتقاد وبين تضعيف ما يرويه كناقل ثقة في نفسه. ولو تأملت ذلك حقا ستجدني أقول بأن بعض الرجاليين من العامة كان أقل قسوة من ابن الغضائري مثلا في هذا النوع من التضعيف استنادا علي مجرد الغلو. ومثلت لك بصاحب ميزان الاعتدال الحافظ الذهبي، وتحديدا انظر رأيه في أحد الشيعة ممن روي عن علي بن الحسين المعروف بأبان بن تغلب. إنه من العجيب أن يأتي اسم أبان بالترتيب الأبجدي لرجال الاعتدال للذهبي في الرتبة الثانية بعد أبان بن إسحاق. وقد قال إنه شيعي جلد لكنه صدوق. فعليه بدعته ولنا

ص: 283

صدقه. فإذا كان الذهبي وغيره من الرجاليين السنة وجدوا من الشطط أن ترفض رواية الشيعي لمجرد أنه مخالف وإمامي، كما ميزوا بين اعتقاد الراوي وبين صدقه، فكيف يفهم من الرجالي الشيعي أن يفعل ذلك، وربما تسامح مع مفهوم الارتفاع بتشخيص يدعو إلي مزيد تأمل ؟!

وأمثلة أخري ضربتها من ابن الغضائري نفسه. إنني لم أنزههم مسبقا . بل هذا ما يتحصل للمتتبع لطرقهم ومبانيهم والواقف علي أحوالهم. فهم ممن جرح الغلاة وجرح من يري مشروعية الوضع كما يفعل بعض من سماهم أحد الحفاظ من السنة بالمخذولين، ويؤكد الشهيد الثاني من الإمامية علي الوصف نفسه في الرعاية. فسيرتهم وقرائن الحال تؤكد علي نزاهتهم واحتياطهم في طلب الحق وقد قدموا أدلة وبراهين في كل ما نسبوه لهم، فكيف يكون التجريح هو الأصل والتشكيك في وثاقتهم. أما لو تعلق الأمر بالرواة من غير العلماء الموثوقين حسب الاجماع والمشهور من أحوالهم، فإنني قلت أن التضعيف هو نفسه ليس أمرا يجب أن يتسامح معه. فلا بد أن يكون التجريح بدليل. فإذا قامت القرائن والأمارات علي أن الخبر الفلاني صح فهو المطلوب حتي لو لم يكن الراوي بالفعل ثقة. إن المطلوب («فتبينوا» حتي لا تصيبوا قوما بجهالة). وليس الأمر حسن ظن مني أن أقف عند إيمانهم بروايات ضعفوا رواتها في كتبهم الرجالية. قلت إن الأمر يستوقفني علي بعض القرائن. منها أولا أن قبولهم بها لجهة انجبارها بالمدعمات من القرائن وأيضا لما رووه صحيحا من طرق أخري وقد قدمت مثالا من تلك الروايات الصحيحة والمسندة. لكنني لم أجد منك ردة حولها حتي الآن ولا حتي رددت علي من أوردها في سير نقاشك مع بعضهم كلها فيما صادفت من نقاشاتك. كما لم أجد في ردك علي بعضها ما هو شافي كما سأناقشك فيه بعد قليل. كما يستوقفني علي قرينة أخري وهي أن نهج القبول بتلك الروايات لم يكن من قبل واحد بل هو

ص: 284

من قبل الجميع مما يعني أن المسألة كانت مسلمة في زمانهم القريب من زمان الغيبة الصغري وبعضهم كالكليني ممن عاصرها والتقي ببعض السفراء.

وليس الأمر أنني أبني علي رأي الشيخ الأنصاري وهو عمدة بلا شك في الكثير من النقاشات العميقة في هذا المجال. فثمة تطور كبير في هذه المسائل فيها ما يؤخذ بسلاسة من الشيخ الأنصاري كما فيها ما يرد عليه بشراسة، كما تعكس ذلك آراء من أتي بعده في قضايا تتعلق بالأصول والدراية أيضا، بدء من الآخوند حتي آخر المجتهدين اليوم. فللقدامي مساحة لكي يعرفوا أكثر من المتأخرين لجهة قربهم من الأصول مما يتيح يقينا بالوصل أكبر، شأن قرب الإسناد من أقسام العلو. وللمتأخرين مساحة لكي يعرفوا أكثر من القدامي لجهة تسلطهم علي تمام المصادر مما يتيح مقارنات أكبر وهذا حال من رجح قول الرجالي المتأخر علي قول القديم، للجنبة المذكورة. إنني أتبني ما هو راجح في نظر العقل الأصولي والدرائي المستوعب لكل الاستشكالات الواردة والصامد في وجه عمليات النقض. وفي هذا وجب أن نستفيد دائما. فلا تحصرني في رأي الشيخ الأنصاري وهو عندي جليل القدر، بل قناعتي مفتوحة علي ما أراه صوابا مدعوما مسندا بثقل الدليل، حتي أنني أرجح الكثير مما ذهب إليه الأصوليون قدر ترجيحي الكثير مما اعتقد به الأخباريون قدر ترجيحي الكثير مما ذهب إليه المحافظون قدر ترجيحي الكثير مما ذهب إليه الحدثاء الإصلاحيون وهلم جرا. فالمدار هو الدليل، وليس إلا الدليل.

لقد بررت اختصارك الرد علي رسالتي بأن ما قلته سبق وناقشته مع

ص: 285

غيري وهو يتطلب شهورا وسنوات. وإذن أنت تكلفني بأن أتتبع ذلك نقطة نقطة. والحق إنني حتي الآن حاولت أن أجعلك تقف علي نقطة واحدة لكنك لم ترد علي ما طلبت منك. مع أنني لا أجد إشكالا في أن تأخذ كل وقتك في الرد. لسنا في عجلة من أمرنا. والحق أنني راجعت بعضا من ذلك النقاش فلم أجد ما يشفي غليلي. دائما هناك شكوي تقول إنك لا تجيب علي بعض التساؤلات المحددة وترد الأدلة بلا دليل. مثلا زعمت أنك رددت علي ما جاء في أقوال علماء العامة والنسابة في مسألة الولادة. حاولت أن أقف علي هذا الرد ولم أجد له أثرة. ولا زلت أنتظر ردة شافية. ولا إشكال عندي أن تنقل لي ذلك الرد نفسه في رسالة قادمة فالمسألة لا تكلف من وجهة نظر الحاسوب إلا تحديد الفقرة وتحفيظها ثم تحميلها وإرسالها. إنني راجعت بعضا من تلك الإجابات لكنني لم أجدها مقنعة. نعم ذكرت أنك لا تسعي لرفض الحوار وأن المسألة تتعلق بعامل الوقت، ولا إشكال عندي كما ذكرت سابقا : خذ وقتك ولا تستعجل. وكما سبق وأخبرتك أن الانشغالات هي ما يحول دونإنجاز الحوارات المباشرة. لكن طريقتنا تسمح بذلك. لذا فالوقت دائما معك. لكنني بما أنك أحلتني علي بعض من نقاشاتك السابقة مع بعض العلماء والباحثين، سأحاول أخذ ذلك بعين الاعتبار في حدود ما أراه مقنعا. وبالمناسبة أشكرك علي إرسالك أرشيف ردودك علي هؤلاء. ومع أنني لا أملك من الوقت الكافي للوقوف عليها فإنني سأتوقف عند ردك علي بعضهم، وسأناقشك في بعض ما جاء في ردودك، وسأبين وجهة نظري فيها تباعا.

في البدء ملاحظة عامة:

سوف أكون مضطرا إلي تفادي التكرارات وأمسك بالمناطات في كل محاولاتك الاستدلالية. لقد راجعت أكثر تلك الردود فوجدتها تكاد

ص: 286

تدور حول المزاعم نفسها. مثلا لم أجد فيها ردا علي ما طلبت منك بخصوص بعض الأدلة. وكثيرا ما رأيت في تلك النقاشات الكثير من الانفعالات التي تنحو إلي شخصنة النقاش والاتهامات الجزافية. إنني أمتعض من ذلك اللون من النقاش. وإذ أرفض الأغراق في ذلك فإنني رفضت أن أقرأ بعض الردود عليك أيضا لما أصبحت وجهتها خارج محل النزاع. لذا سأكتفي بما رأيته ضروريا.

إن أول ملاحظة علي ردك المختصر علي السيد علي الميلاني، أنك تحيلني علي ما سبق وناقشتك فيه، سواء في كتابي من «الشك إلي الشك» قبل سنوات مضت أو عبر هذه المراسلات. وقد بررت سبب اختصارك للرد علي رسائلي الطولي، باعتبارك رددت علي الاشكالات نفسها في نقاشات سابقة أحلتني عليها. غير أنني حينما راجعت أهمها وجدتها تكرارا للحكاية نفسها. فأنت رددت علي كتاب الإمام المهدي للسيد الميلاني ورددت علي كل التفاصيل التي أوردها الكاتب في كتابه هذا من خلال خمس صفحات تقريبا. وكذلك فعلت في الرد علي سائر من ناقشك. إذن التعلل بأن سبباختصارك في الرد علي رسائلي هو كوني ذكرت لك أمورا كنت قد رددت عليها فيما سبق، ليس مقنعا. لا سيما وأن بعضهم طالبك بإبداء رأيك فيما ساقوه من أدلة لكنك تشبتت بمواقفك العدمية التشكيكية والظنية حيث لا شيء مما ذكرته في تلك الردود يورث المتلقي قطعا. لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بما كان مظنة اعتقاد.

إنني وجدتك تقول مثلا : «من الواضح من تلك الأحاديث - إن صحت - إن المقصود من (المعرفة) الإتباع العملي والانقياد السياسي، وليس المعرفة النظرية المجردة، وهو ما كان يشكل المقدمة الأولي النظرية الإمامة الإلهية، التي كانت تنطلق من هذه لتضيف مقدمة أخري

ص: 287

في عملية بناء فكرها السياسي، فتشترط (العصمة) في الإمام، أي الخليفة أو الحاكم أو السلطان، ثم تقول في مقدمتها الثالثة : إن العصمة أمر لا يعرفه الا الله، ولذلك تستحيل الشوري كطريق لمعرفة الإمام وانتخابه، ويجب النص عليه من الله. ثم تقول بعد ذلك : أن الله عزوجل قد نص علي إمامة أهل البيت، وان الإمامة متسلسلة في ذرية علي والحسين إلي يوم القيامة.

إذن فقد كان الحديث عن الإمامة السياسية بالدرجة الأولي (...) وهنا قام السيد الميلاني بتحوير مفهومين في الحديث، هما : (المعرفة والإمام) استنادا لعجز الحديث : «مات ميتة جاهلية» حيث استعبد أن يكون المقصود مطلق الإمام. وقد فسر المعرفة بالمعرفة النظرية والاعتقاد، لا الاتباع والانقياد السياسي، تهربا من استحقاق مهم يفرض نفسه وينسف نظرية الغيبة، وهو: كيف يجب أو يمكن اتباع إمام غير معروف وغائب؟ وهل يمكن تسميته بإمام أصلا، وهو لا يؤم المسلمين ولا يحكمهم ولا يقودهم؟ كما أفرغ مفهوم كلمة (الإمام) من المعني السياسي، وفسرها بالإمام الحق المعين من قبل الله ، حتي يحافظ علي نظرية الإمامة من الانهيار، في حين أن النظرية في أساسها كانت تدور حول الخلافة والحكم والسلطان، ولم تكن تتحدث عن أئمة يشبهون الملائكة أو الجن الذي يجب الإيمان بهم غيبا في الإسلام»(1).

حسنا، كان هذا ردك علي السيد الميلاني. لكنني لم أجد في ذلك ما يصلح برهانا داحضا. فأنت مثلا تعتبر أن الباحث لجأ لتحوير مفهوم المعرفة والإمامة كي يستقيم أمر الإمامة. وهذا إصرار منك في تحليل مفهوم الإمامة وملازماتها العقلية والشرعية بأثر رجعي. ثم عجبي منك أنك تعتبر أن اشتراط العصمة أتي بادعاء في صيرورة بناء النظرية السياسية الإمامية. ثم حكمت علي لا جدوائية معرفة إمام غائب ربما ما

ص: 288


1-

كان من المنطقي أن لا يسمي كذلك الخ.. وهي ردود تحتاج إلي تأمل. أولا ليس السيد الميلاني ولا غيره هو من ابتكر هذا التمييز بين المعني السياسي العام للإمامة والمعني المتقوم بالجعل الإلهي. إن الأمر يتعلق بخصائص واضحة قامت عليها أدلة قاطعة سبق وتحدثنا عنها. هي أن هذا الكم الكبير من الأدلة التي جعلت أئمة أهل البيت عليهم السلام عدلا للقرآن ومحل قيادة شرعية جعلتهم فوق أن يقاس بهم أحد في وظيفة البيان الشرعي. فهم مأمورون بالتصدي كما الأمة مأمورة باتباعهم. وحيث هذا لم يحصل عموما انتهي الأمر إلي ما انتهي إليه.

إن المسألة أشبه بمعادلة رياضية. ثبتت الإمامة بأدلة قاطعة وظاهرة. يلازمها وظيفتها التي لا تقوم إلا بالعصمة الذي دل عليها العقل والشرع. هؤلاء الأئمة الهداة وكلت بهم وظيفة أكبر وأشمل من مجرد خلافة زمنية. ويكفي أن عدم الرجوع إليهم انتهي إلي حيرة وتخبط تاريخي في مسألة الشرعية السياسية لم تغن عنه السياسة الشرعية المبثوثة في فقهياتنا. حينما نسلم بأن هؤلاء هم الأفضل علما وتقي وتدبيرا وتسديدا بطريق النص والعقل، هنا لم يعد لأيطريق آخر للوصول إلي الأفضل أية قيمة. لأن تعيين وظيفة بيان الشريعة من اختصاص المشرع لا المكلفين. حينما نقطع بهذا الطريق بأن هذا هو الأفضل لزم لزوما عقليا قبل أن يلزم شرعة أن الحكم سيكون له قطعا.

وهذا ما حصل حتما في عهد النبي صلي الله عليه و آله. فكونه متصديا من موقع النبوة التي لا يفضلها أي منصب آخر، لزم أنه الأولي. لو لم يكن الإمام متصديا ومرشحا نفسه للقيادة لقلنا أن الأمر فيه تراخي وتسامح في مسألة حكومة المفضول. لكن الأمر هنا مختلف تماما. وما فكرة حكومة المفضول مع القطع بوجود الفاضل إلا لعنة تاريخية فرضها منطق الغلب واكتسبت شرعيتها الكلامية والفقهية في عصور الانحطاط. وهذا هو

ص: 289

مغزي معرفة الإمام التي يجب أن تكون معرفة نظرية وليس مجرد تعرف علي من أفرزه الغلب. ولم تكن العصمة مفتعلة هنا كما ذكرت في ردك بل هي لازمة عقلية لمفهوم الإمامة وطبيعة الوظيفة التي جعلت لها. فالإمام حكم أو لم يحكم لوجود المانع، لا يرفع عنه الإمامة بهذا المعني الخاص. وكان أئمة أهل البيت أئمة دون أن يتمكنوا من الحكومة. وعلي بن أبي طالب كان إماما وأميرا للمؤمنين قبل أن يتولي الخلافة الزمنية نفسها. إذا لم نتفق علي معني الولاية والإمامة بوصفها شأنة يفوق منصبا سياسيا إنما هو لازم ومترتب بالضرورة علي وجود الإمام الأفضل، فلن نفهم القضية فهما موضوعيا. والتاريخ الإسلامي كله شاهد علي أن معظم الكوارث الكبري التي ضربت الأمة في الصميم بسبب غياب الفهم القطعي الراجح الذي لا يمكن أن يصدر إلا عمن نصبه صاحب الشريعة مبينا وناطقا عن الدين. فمع وجود إمام بهذه الصفة وبتلك الشروط يكون الأمر واضحا. لكن إشكالك في موضوع جدوي إمام غائب إذا نظرت إليه في ضوء مفهوم الولاية، ستدرك أن المسألة أكبر من هذا الاختزال السياسوي للإمامة. فإذا كانت طائفة من الأمة استغنت عنقيادته السياسية فإن حاجة المكلفين والمتشر عين لهديه لا يزال قائما. عليك أن تسلم بأن الأمة ليست متروكة اليوم إلا إلي ظنون لا يقين فيها ولا واقع قطعي لها. فالقول أنه أي جدوي من إمام غائب أقول: نعم إذا قرأت الأمر سياسيا. مع أن الإمامية مارسوا ما هو ضروري في هذا المجال في عصر الغيبة وترك ما يجب أن يكون الصاحب الأمر. ثمة أنبياء رفضهم قومهم وظلوا شاهدين علي انحطاط أممهم، ولم يكون وجودهم لا جدوي منه إلا أن ترد هذه الدعوي علي الأمة لا علي أئمتها. فالأمة هي التي غيبت إمامها وليس هو من غاب عنها. وليس الإمام الحجة وحده من وجب الاعتقاد به غيبية. المسألة لا

ص: 290

علاقة لها باعتقادات الملائكة والجن، بل بغيبات لها نظائر في الكتاب لا أعتقد أنها ذكرت في القرآن عبثا.

فإذا كنت تطلب دليلا علي الغيبة فهذا هو المطلوب وكفي، أما استدلالاتك الانشائية يمكن دفعها باستدلالات نقيضة. ذكرت لك مرارا أن شأن الإمامة في الاعتبار متصل بشأن النبوة فهي امتداد روحي لها وميزة تشرف بها أنبياء كإبراهيم لما قيل عنه: «وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهم قال إني جاعلك للناس إماما». ولكنك اتهمتني بأنني أفرق بين الإمامة والخلافة، مع أن تفريقي في شأنين قد يتفرقا بفعل فاعل لكن هذا لا يعني أن الإمامة ترفع مع رفع الخلافة السياسية. فهذا إبراهيم النبي يجعل إماما بعد أن أوتي النبوة. وهو حينما أوتي الإمامة لم يمارس خلافة أو ملكا سياسيا، بل كانت إمامته من جنس ما نتحدث عنه الآن. والإمامة بهذا المعني وجبت معرفتها كما وجب معرفة النبي، لما أحاط بها من شأن ولما أنيط بها من وظائف. وجب أن يعرف الناس موسي وإن في غيبته الأربعينية ويعرفوا وصيه هارون.. كما وجب أن يعرف الناس نبيهم يونس حتي وهو غائب في بطن الحوت..كما وجب أن يعرف الناس عيسي ابن مريم حتي وهو مرفوع لم يعد إليهم وكانوا حينها في فترة من الرسل مات من مات فيها دون أن يراه..كما وجب علي أهل الشام أن يعرفوا إمام زمانهم علي بن أبي طالب حتي وهو بعيد لا يتولي شأنهم في الشام بوجود المانع الأموي..كما وجب أن يعرف الناس إمام زمانهم الحسين حتي وإن لم يكن قائما بالأمر وفيه قال صلي الله عليه و آله: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». بل هذا أكبر دليل علي أنها ليست مجرد خلافة سياسية.

ثم قلت أيضا : «واذا أصر السيد الميلاني علي اعتبار الحديث صحيحة، فنحن نصر علي فهمه بصورة مطلقة وعامة، كما فهمه عبد

ص: 291

الله بن عمر وعامة المسلمين، الذين يستشهد الميلاني بهم في تصحيح الحديث، وهم بالطبع لا يفهمون المعني الخاص «الإمام المعصوم» الذي يحاول الميلاني تركيبه عليه.

وعلي أي حال، يريد السيد الميلاني، من خلال تفسيره التعسفي هذا، أن يستدل بهذا الحديث علي وجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) فيقول: «إن لكل زمان إماما يجب علي كل مسلم معرفته والايمان به والالتزام بطاعته والانقياد له... وان الشيعة الإمامية الاثني عشرية قالت: إن الذي عرفناه مصداقا لذلك هو ابن الحسن العسكري».

إنك تعتبر أن عامة المسلمين لا يسلمون بهذا المعني الخاص للإمام المعصوم. وما أدراك أنهم ليسوا كذلك. إن جمهور المسلمين لم يتمكن منهم علم الكلام السلطاني الذي حاول أن يختزل الإمامة الكبري في الخلافة الزمنية القائمة علي منطق الغلب. وأحيانا أسقط معاني تلك الإمامة علي خلفاء الغلب. إن جمهور المسلمين يسلم بمعني الولاية أكثر مما يجري في نطاق علم الكلام السلطاني. انظر في كل البلاد الإسلامية شرقا وغربا ستجد عامة المسلمين يحتفظون بولاء خاص لأولياء لا شأن لهم بالسياسة قطعا. مرة يصيبون الواقع لمايصادف اعتقادهم الأئمة الهداة ومرات يخطؤون الواقع، لكن جوهر القضية أن يعرفون أن الولاية أمر أكبر من قضية سياسية. لأنهم يطلبون عند الولي الحقيقة والنطق الواقعي عن القرآن. فالحديث الذي استدل به السيد الميلاني، فضلا عن أنه ليس الدليل الوحيد كما تحاول أن توحي للقارئ، فهو يحمل دلالة خاصة. إنه يتحدث عن الانقياد والطاعة لهؤلاء الأئمة. ولا يمكن أن يدعو الشارع إلي الانقياد لظالم بل الدعوة هنا مشروطة بوجود أئمة هداة معينين معصومين بالمعني الذي أشارت إليه الأدلة القاطعة. فالشارع يقول

ص: 292

إنهم معصومون وإنهم مجعولون لوظيفة البيان الواقعي للشريعة، فلماذا الإصرار علي وصفهم بغير ما وصفوا به في الشرع المقدس. وهنا يجب الكلام : هل هم مجعولون منصبون معصومون أم لا.. الأدلة واضحة في ذلك.

لاحظت أنك رددت علي السيد الميلاني بكلام سبق ورددت به علي جمهور الإمامية في كتابك العمدة. وأرجو أن تكون قد رددت عليه بشيء سبق ورددت عليه في كتابي: «من الشك إلي الشك». والغريب أنك لم تلتفت إلي ردي ذاك لا في مورد الرد علي السيد الميلاني ولا حتي في تعقيبك علي تعقيبي علي كتابك فيما جاء في مجمل تلك الردود. فأنت تقول مثلا :

«وعندما توجه السؤال التقليدي التاريخي إلي السيد الميلاني عن سبب غيبة الإمام؟ ولماذا لا يظهر إذن ليقيم بنفسه دولة الحق، إذا كان عامة الشيعة وخاصتهم يلتقون به ويعرضون عليه مشاكلهم؟ هل هو الخوف؟ وقد زال والحمد لله، بعد أن أقام الشيعة دولا عديدا لهم، وأصبح العالم ديموقراطيا يسمح بظهور أي إمام حتي لو قال انه (المهدي المنتظر) وها هي أوروبا وأمريكا يوجد فيها العديد ممن يدعي أنه المهدي المنتظر، وله محطات إذاعيةوتلفزيونية ووسائل إعلام، ولا يحول يخاف من أحد، فلماذا لا يظهر (محمد بن الحسن العسكري) إذا كان حقيقة موجودا؟ يجيبنا السيد الميلاني بشيء من الحيرة والفلسفة والتناقض، ويقول: «لاحظوا إذا كانت غيبة الإمام عليه السلام لمصلحة أو السبب، ذلك السبب إما وجود المانع وإما عدم المقتضي، غيبة الإمام علي إما هي لعدم المقتضي لظهوره أي لعدم وجود الارضية المناسبة لظهوره، أو لوجود الموانع عن ظهوره. وجود الموانع وعدم المقتضي كان السبب في غيبة الإمام عليه السلام، هذا واضح. إنا لا نعلم أن

ص: 293

المانع متي يرتفع، ولا نعلم أن المقتضي متي يتحقق ويحصل، ولذا ورد في الروايات : «إنما أمرنا بغتة». فظهور الإمام عليه السلام متي يكون؟ حيث لا يكون مانع وتتم المقدمات والأرضية المناسبة لظهوره. وهذا متي يكون؟ العلم عند الله سبحانه وتعالي، فيمكن أن يكون غدا، ويمكن أن يكون بعد غد، وهكذا».

ونقول له: ألم تقل قبل قليل : أن الإمام يلتقي بعامة الشيعة وخاصتهم؟ أم أن هذه روايات أسطورية مثل الروايات التي تحدثت عن ولادته ووجوده؟».

هذا ردك علي السيد الميلاني. وعليه، أقول: من المؤكد أن السيد الميلاني ما كان يعني ما أردت قوله. فلقياه بعامة الشيعة وخاصتهم إنما جاء في مورد الاستدلال علي وجوده. ولقاءه ببعض من هؤلاء لا يجب حمله علي لقاء العموم. ولم أعرف حقيقة، بأي معني خلطت بين الرؤية الاستثنائية في ظرف التخفي والغيبة وبين الظهور النهائي الذي هو محل نزاعنا. أي تناقض هنا وأي شيء يدعو لتلك المقايسة بين خرافية حكايات اللقيا الخاصة وحكاية الولادة أو الوجود؟ والعجب أنك تتساءل عن غيبة الإمام في زمن تراءي لك أن لا خوف فيه علي الناس. بل يمكن إعلان المهدي عن نفسه ولا إشكال في ذلكفي مثل بلاد محكومة بالديمقراطية وحرية التعبير. بالله عليك هل هذا أيضا دليل؟!

هل تقارن بين دعاوي تحمل في طياتها جنون أصحابها وبين أمر عظيم جلل فيه يقف التاريخ وقفته الكبري ويتحقق التغيير الأعظم. أحسب أن حسن ظنك بالديمقراطيات الغربية يصل بك إلي حد التساؤل : لماذا لا يأخذ المهدي حق اللجوء الإنساني أو السياسي في تلك البلدان. ولو أنك صبرت قليلا لتدرك أي جنون بات ينتاب هذه الديمقراطيات

ص: 294

التي فقدت رشدها حتي باتت تلاحق الناس لمجرد تفجيرات قام بها بعض الانتحاريين، كل مذنب وكل بريئ، حتي باتت كبري أجهزتها تلاحق أطفالا في دور الصفيح في مختلف بلاد العالم شرقا وغربا ، لكنت حتما تراجعت عن هذا الدليل. إنك لم تستوعب الوظيفة الكبري للمهدي لذلك جاء تحليلك في منتهي العجب. إن ظهور المهدي ليس ظهورا ساذجا ودعوي يتيمة في الهيدبارك حيث تقول كلمة وتمضي ضمن لجاج لا ينتهي. إنها قضية عظمي في تقديرنا المتواضع فكيف بما ليس في مكنة أحدنا معرفته من أسرار الظهور. إن ظهوره هو أن يعم الحق والعدالة والسلم ويظهر الله فيه دعوته علي الدين كله ولو كره المشركون. لا أحسبها تحمل من خصائص ذلك التصور الصغير الذي زفته مقايستك السابقة. وها أنت أخي أحمد نزيل الديار الانجليزية يمكنك أن تتحدث في كل ما يروقك من أعلي ما في الرأس حتي تحت الحزام. لكن هل تجرء في ديمقراطيتك المخملية هذه أن تفجر حديثا مثلما فجرته حول المهدي، حول المحرقة : هل هي حقيقة أم أسطورة؟! إذا رأيت ذلك أمرا صعبا مستصعبا، فماذا تنتظر من تلك الديمقراطيات إن أخبر مخلص العالم عن نفسه، وانضم إلي دعوته الفوج بعد الفوج.. هذا كلام ذكرت لك بعضا منه في «من الشك إليالشك»، لكنك تعيده في دفع كلام السيد الميلاني. فأنت لا تقف عند دليل مضاد، بل تغضي عنه وتمر. ونحن سنكون أكثر ليبرالية مما تتصور لنقول : دعه يمر. لكن هذا لا يغير شيئا في الأدلة. وإنما هي إنشائيات وليست براهين.

وقد رأيتك تكرر أن جيل القرنين الأولين والثالث لم يعرفوا الاثني عشرية ولا المهدي ولا غيره مما انتظم في الكلام الإمامي الاثني عشري. وها هنا مغالطة كبري. وقد عرفت أننا لو حاكمنا كل ما لدينا من عقائد باصطلاحات الكلاميين اللاحقين بالرجوع إلي القرون الأولي

ص: 295

لاعتبرنا ما في يدنا جميعا بدعة. فأنت لا تقيم اعتبارا للتحولات التي لازمت التدوين ونظم العلوم والمعارف والتطور الذي حصل في الاصطلاح والمفاهيم، حتي أن فقهنا بحسب اصطلاحنا قد لا يفهمه الصحابة ولا التابعون. هذا أولا. أما ثانية فأقول: إن جيل القرن الأول وحتي جيل القرن الثاني ما كان ليمنح اهتماما كبيرا للغيبة كما هو شأن جيل قرون ما بعد الغيبة. أعتقد أن الأمر واضح تماما. فالذين عاشوا أجواء الحضور النبوي وكذا من عاشوا في ظل وجود أئمة حاضرين مهديين، ما كان يهمهم إظهار كل هذا الاهتمام. وكما يقال إن الغائب يتضخم حضوره. وهذا ما حصل. فإن فقد الإمام بعد الغيبة أوجد اهتماما لدي أجيال القرون التالية للغيبة أكبر واهم من القرون السابقة. فقولك لم يكن موجودا في القرن الأول وإلا.. لكان أحري أن تقول لم يكن هاجس الانتظار يشبه ما حدث بعدها. وذلك طبيعي لأنها أجيال حضور الأئمة وليست أجيال عصور الغيبة فتأمل.

لكن ما كان متوفرا من أخبار وأدلة في تلك القرون كان يفيد المعني نفسه وكان جمهور الشيعة يؤمنون بأن تاسعهم قائمهم والمخالف في ذلك شاذ يشهد عليه تاريخ انقراض بدعتهم.

هذا كان مع السيد الميلاني. والأمر نفسه حاصل في ردودك علي الشيخ الآصفي. فقد وقفت علي ردك عليه، فوجدت ما لا يشفي طالب الحقيقة ولا فيه ما يحقق بلغة الطالب.

إنني لا أوافقك علي قولك أن بعض الأئمة كانوا يتوقعون أنهم هم القائمون بالأمر. فهذه تخرصات مبنية علي ما لا يصح ومما شذ من الشواهد المهملة التي رفعتها إلي القول الفصل فيما أراك ترد أخبار

ص: 296

ولادة المهدي رغم صحتها وشهرت اتباع جمهور الإمامية لهذا الاعتقاد. فلا أحد من الأئمة رأي ذلك وفي يدنا من الشواهد منذ الإمام علي بن أبي طالب تؤكد أن الأئمة تحدثوا عن المهدي القائم الآتي. فأنت تخلط بين موقف الأئمة وبين ما حدث بعد وفات آحادهم وما حدث من حيرة محصورة في آحادهم سرعان ما تم تضخيمه في كتب الملل والنحل. فهذا عمر بن الخطاب منع أيا كان أن يقول بوفاة الرسول صلي الله عليه و آله. ورأي أن القول بوفاته هو من زعم المنافقين وإنما غاب وسيعود. علي الرغم من أنه كان يعلم بأنه في نزعه الأخير، للخبر الذي يرويه البخاري، حيث قال: إنه يهجر. إذا كان هذا حدث في الرعيل الأول ومع من صار خليفة ثاني، فهو متوقع في الآحاد من أتباع الأئمة في عصر الحصار وبعد المسافات والجهل الكبير بمواقف الأئمة واعتقاد شيعتهم في المركز. كما أنك تخلط بين القائم صاحب الأمر وبين صفة المهديين التي تطلق علي كل الأئمة من أولهم أمير المؤمنين حتي آخرهم القائم الحجة. والأمر نفسه فيما زعمت من تعارض بين الروايات بخصوص المهدي. وعجبا أنك تسوق من تلك الروايات المعارضة ما لم تنهج في حقه جرحا كما فعلت في نظيراتها من مثبتات الولادة. وكل ما ذكرته بخصوص غموض أو عدم اجماع القرن الأول علي المهدي الثاني عشر، إنما مرده إلي عدم تسليمك بالأدلة علي الإمامة وما يلزم عنها من مختصات يكون لكل إمام أن يبين ما لم يكن بينا.

فقد قلنا إن بيان الشريعة وتأويلها من وظائفهم. وحيث إنهم بينوا ذلك فلا مجال للرجوع إلي حال القرن الأول، وإلا لماذا كانوا أئمة لو أن الظهور في فهم تمام الشريعة كان منذ القرن الأول حتي اليوم. المشكلة أنك لم تسلم بالدليل علي الإمامة وبالتالي وظيفتها. فحتما يمكن أن تقول كل شيء. ولا تلتفت لتلك المواقف التي كانت تتعاطي

ص: 297

مع تعاليمهم بالتهوين دون أن تري لهم ميزة في عالم الخلق. فلقد تعاطي من رفض نبوة محمد صلي الله عليه و آله معه علي أن كلامه لا وزن له وهو كلام مردود الشخص به جنة يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويأتي بالغرائب. ولا أدري هل كنت تنتظر في ما تم نظمه في منذ عصر التدوين أن يرووا عن كل ما صدر عن أئمة أهل البيت وعن كل ما ذكر في فضائلهم. فالتاريخ كاد يشطب علي قرون من الحضور الفعلي لأئمة أهل البيت عليهم السلام. منع فيه نقل فضائلهم وفتاويهم بترهيب الناقل وترغيبه. فنقلوا من تلك الغرائب في صحاحهم ما يفوق ما تراءي لك غرائب في أحاديث الإمامية. بل وأثبتوا بعضا من الارتفاع في الصحابة مما لو قاله الشيعة في أئمتهم الضعفوهم. المحدثون عزفوا عن رواية أخبارهم والخلفاء فعلوا ذلك في حصار تاريخي بات من دون جدوي حضور الإمام بل وجبت غيبته. فلا بد لمن لم ير أهمية لحضور الإمام أن يجرب قرونا من شقاوة ما عداه من خيارات. فذلك هو منتهي الديمقراطية في عالم الخلق.

ومن الملاحظات علي ردودك تلك، أنك قلت

«كذلك حاول الشيخ الآصفي الاجتهاد في أحاديث أخري وعصرها واستخراج معاني غير واضحة منها كحديث الثقلين الذي يقول فيه الرسول الأعظم: إن الكتاب والعترة لن يفترقا حتي يردا عليه الحوض. وبالرغم من أننا لا نملك عمليا سوي الكتاب مرجعا نرجع إليه منذ ألف ومائة سنة علي الأقل ولم يخرج أي رجل من العترة لكي يفسر النا آية أو يذكر لنا حكما أو يحل لنا مشكلة، فإن المقصود من كلمة العترة غامض وعام وغير صريح بأسماء الأئمة، وقد استخدمه العباسيون لتثبيت حكمهم بدعوي أنهم من العترة، والعترة هم أقرباء الرجل حسب اللغة. ونتيجة لغياب الركن الثاني المفترض (العترة) فقد لجأالشيعة الإمامية إلي الاجتهاد وأصبح لديهم حجج الإسلام وآيات الله وهم من

ص: 298

غير العترة. وربما كان المقصود من العترة هم الأئمة السابقون وتراثهم وليس بالضرورة أن يكون واحد منهم موجودا طوال التاريخ إلي يوم القيامة، وهم بالتأكيد لم يفترقوا عن الكتاب. ولكن الشيخ الأصفي يحاول أن يستنتج قسرا من هذه الرواية وجود حجة وإمام من أهل البيت في كل زمان وأن يفترض وجود الإمام محمد بن الحسن العسكري افتراضا محضا».

والحقيقة أنك في سير ردك هذا تجرف اليابس والأخضر. حتي أنك حاولت تحريف معني حديث الثقلين بتأويل فاسد بخلاف الظهور وبضرب من الباطنية التي تتهم بها خصومك. فأنت تدعي أولا أن ليس بين أيدينا إلا الكتاب ولم يظهر من العترة من فسر لنا آية من القرآن. وهذا كلام غريب، لأن ما ذكر في التراجم عنهم من أنهم ملؤوا الدنيا بعلمهم دليل علي قيامهم بهذه الوظيفة. وقد حمل حديثهم شيعتهم فيما حارب حديثهم المخالف. وقد أريد أن يكون ذلك نهجا منذ البداية : حسبنا كتاب الله.

ثم لا يخفي أنك هنا استندت إلي فهم خاطئ لمعني الحديث. فهو جاء بلسان الطلب وإن جاء في صيغة الخبر. أي أنه تكليف واجب علي الأمة أن لا تفرق بين القرآن والعترة، وليس أن تأتيني بالواقع التاريخي الذي هو أكبر دليل علي هذه الحقيقة. فالتاريخ يقول أن ثمة ظلما فاحشا ومحاولات متواصلة للحؤول بين الأمة وأئمتها الحقيقيين. فلا تحتج بما وقع خطأ علي ما كان مطلوبا علي وجه الحقيقة. فكان عليك أن تسأل : ماذا خسرت الأمة بعدم تمكنها من الرجوع الكامل إلي أئمتها؟! |

وعجيب أنك تدعي أن الغموض يطال مفهوم العترة نفسها بعد أن ورد مايفسرها من النصوص نفسها. وإذن عرفنا معني الغموض في معني

ص: 299

المهدي كما تدعي. فلو قسنا هذا بهذا التبين الأمر. فأنت تشكك في وضوح ما ليس قابلا لتأويل. وكنت قد ذكرت لك طائفة من الأدلة الصحيحة عن المراد بهم وهو خصوص أئمة أهل البيت عليهم السلام. وهم الخمسة من أهل الكساء ومن جاء بعدهم لدلالة النص نفسه عن أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض، ما يؤكد استمرارها في الأئمة الآخرين من نسل أهل الكساء المعينين.

ثم لا شك أن الشيخ الآصفي استدل بالحديث فيما يتعلق بعدم انفصام القرآن عن العترة. وعليك أن تدرك أن الانفصال ممكن وهو واقع في مساحة التطبيق، لكنه ممتنع في مساحة التشريع. فماذا يلزم عن ذلك الانفصال لو حصل، لنعرف قيمة الاتصال. وعدم الانفصال إلي يوم القيامة معناه أن مادام القرآن موجودا فلا بد من وجود إمام ظاهر أو غائب.. متصدي بالقوة أم بالفعل. والمطلوب حينها: تحقق شرط الولاء للظهور وتحقق شرط الطاعة للفعلية. فالقضية مشروطة بموانع الظهور و موانع الفعلية في تمام الوظيفة. وأما زعمك أن فرقا شيعية أخري خالفت إلي غير ذلك، فالمعول عليه فعلا ليس عدم أكثريتها، بل أقول أنقراضها جميعا وعدم قدرة غير الإمامية الاثني عشرية أن يستدلوا علي ذلك بالعقل والنقل الملزم لكل طوائف الأمة. وطبعا أعود وأكرر إن ما ساقه أمثال هؤلاء يقع في سياق الأدلة الداعمة للأدلة المباشرة علي ثبوت الإمام الثاني عشر. فقولك إن الغيبة تتناقض مع مهمة الإمامة وفلسفتها، رددنا عليه سابقا وفي كل مرة أن هذا ليس دليلا. نعم هو كذلك مع ارتفاع المانع. أما مع وجوده فالأمر طبيعي. فهل تناقضت وظيفة نبوة يونس وهو في مغيبا في بطن الحوت. وهل الأمر نفسه عند رفع المسيح منذ قرون قبل ورود النبي الخاتم صلي الله عليه و آله.

وثم رأيتك تقول: «إن مثل الشيخ الآصفي كمثل من يقول بضرورة

ص: 300

تعيين الدولة شرطيا للمرور في تقاطع طرق ثم يقول : إن الشرطي غائب، وعندما نسأله عن الحكمة من وراء غيبة الشرطي الذي ترك الشوارع في حالة اضطراب، يقول : إن علم ذلك عند الدولة، أو أنه ينظم السير من وراء حجاب.

إما أن يكون وجود الشرطي المعين من قبل الدولة ضروريا أو لا يكون، ولا يعقل أن نقول : إنه ضروري وإنه معين ولكنه غائب وعلم ذلك عند الله، أو لا بد أن نريح أنفسنا بالقول أن علي البلدية أن تنتخب شرطيا لتنظيم السير وإن ذلك من أعمالنا وليس من أعمال الملك أو رئيس الوزراء».

هذا قياس مع الفارق. بل إنه انزياح بالموضوع عن محل النزاع. فالقضية المبحوثة ليست في مقام ثبوت الضرورة، بل في وجود المانع وما ترتب علي ذلك من الغيبة. والغيبة هي كلها محاطة بالأسرار وإلا لن تكون غيبة. فإذا تمرد الناس علي شرطي المرور وهموا بقتله وتم تغييبه عن أنظارهم فالمسؤولية مسؤوليتهم. ولكن الضرورة تظل قائمة ويتحقق استعادت دور الشرطي متي اقتنع الناس بضرورة وجوده ومتي حلت بهم من فظاعات المرور ما يجعلهم يقتنعون بضرورة ظهوره. فأمثلتك تبدوا الي دائما واقفة بالمقلوب.

وعجبا أنك قلت أيضا : «ونصل إلي أحاديث (الاثني عشرية) التي حاول الشيخ الأصفي أن يعتمد عليها من أجل استنتاج وجود الإمام الثاني عشر وافتراض حياته إلي اليوم.

وقد ادعي الشيخ الآصفي صفة التواتر علي تلك الأحاديث بالرغم من أنها ضعيفة عند السنة وغير محددة ولا واضحة، وهي أضعف عند الشيعة ومختلقة كلها في القرن الرابع الهجري عند تأسيس الفرقة الاثني عشرية ولم يكن لها أي وجود عند الشيعة في القرون الثلاثة الأولي.

ص: 301

وهي مع ذلك تتعارض مع أحاديث كثيرة تؤكد علي استمرار الإمامة إلي يوم القيامة دون تحديد بعدد معين».

أقول: إنك مخطئ في قولك إن هذه الأخبار معارضة بأخبار أخري. وكنت أعتقد أن من المفروض أن تتبع أساليب الدراية في مسألة الجمع العرفي وأساليب التراجيح المتعارفة في باب تعارض الأدلة، لا سيما وأن أخبار حصر الأئمة الاثني عشر صحيح لا غبار عليه. وخطؤك الآخر أنك زعمت أنها أخبار ضعيفة عند أهل السنة. وهذا مرفوض لأن حديثنا الآن فيما صح من طريق الإمامية. وما دمت لذت بالسنة فذلك خطؤ أفحش، لأن أخبار «الاثنا عشر خليفة» مما تواتر وصح وذكره كبار حفاظهم، وجاء في كتب الصحاح من البخاري حتي آخر كتب السنن. وهو واضح لا يمكن تطبيقه إلا علي الأئمة الاثنا عشر. لذا وجدنا أن من الحفاظ السنة الذين أرادوا الحديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام. صنفوا الفضائل علي الترتيب الاثني عشري للأئمة من علي حتي القائم الحجة. وهنا أحيلك علي ابن الجوزي السبط في التذكرة وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة وآخرون أحنافا وشوافع ومالكية وحنابلة وما شابه. وهو واضح ظاهر لا يصدق إلا علي من ادعي انحصار الأئمة في الاثني عشر إماما. لذا لم تفد كل محاولات تطبيقها علي الخلفاء بأي طريق اتفق.

وقد اطلعت علي رد الشيخ الآصفي علي ردك فوجدته مناسبا الدحض بعض ما ادعيته. كما اطلعت علي ردك الثاني عليه فوجدتك أغضبت عن ردوده ثم لجأت إلي كلام سياسي إنشائي ليس له صلة بموضوع عقائدي وجب الوقوف علي أدلته. المناسب في رد الشيخ الآصفي أن تحدث عن طوائف أربعة من الأدلة صحت عند جميع المسلمين، وهي إذا كان كذلك أمرها فلا تنطبق بمجموعها إلا علي

ص: 302

مذهب الاثني عشرية. فقد تحتج لماذا لا ينطبق هذا الخبر علي فرقة من تلك الفرق أو علي مذهب من تلك المذاهب، لكن لا أحد يملك ادعاء انطباقها جميعها وفي آن واحد إلا علي الاثني عشر. وهذا دليل عقلي واضح يدعم الأدلة النقلية الأخري ويقويها كما لا يخفي. فلا تقل بعد ذلك إنه دليل كلامي أو فلسفي بل يفترض أن تقول إنه دليل يقوي الأدلة النقلية علي الإمام الثاني عشر.

الكنك لا زلت مصرا في اتهام كل ما ورد في حق المهدي بالضعف والوضع وما شابه. بل إنك كررت له ما كررت لي بقولك :

«نعم توجد روايات كثيرة يرويها الغلاة والضعفاء والوضاعون، ولكنها غير محققة ولا مدروسة ولا توجد فيها رواية واحدة صحيحة».

فأنت حينما أحلتني علي ردودك السابقة لم أجد فيها أجوبة سوي ما ذكرت لي في رسائلك. الإصرار علي عدم وجود ولو دليل واحد. بينما ذكرت لك كما ذكر لك كثيرون بعضا من تلك الأدلة الصحيحة لكنك أبيت أن تجيب عنها إجابة شافية وسأذكرك بها لاحقا.

وقد تكرر هذا في ردك علي الشيخ الكوراني. مع أن نقاشك معه اتخذ منحي آخر أكثر حرارة وحدية، إلا أن ثمة ما يستحق الوقوف عليه. إن حديثك في ذلك الرد عن شروط الحوار الصحيح لا أختلف معك حوله. وأنا مسلم بأن الحوار يجب أن يتحلي بالموضوعية والأخلاق إلي أقصي الحدود. وأن لا تقول الآخر ما لم يقله كما لا يجوز أن يعاند المرء في أحكامه الخاطئة بعد أن يظهر له بقاطع الشواهد أنها كذلك خاطئة. وإذن متفقون وزيادة علي تلك النقاط والشروط لأنها شروط عقلائية أمضاها الشارع المقدس. لكنني أناقشك في مضمون الرد.

فهنا استوقفتني بعض العبارات. منها أنك قلت :

ص: 303

«من بديهيات الإسلام أنه يقوم علي العلم واليقين، ولا يقبل أن يعتنق الإنسان أية فكرة خاصة إذا كانت أساسية علي الظن والتخمين والافتراض والوهم، ولذلك فإن الله تعالي يلوم النصاري علي أيمانهم بصلب المسيح عليه السلام، لعدم تأكدهم تماما من العملية، رغم وجود عدد من المؤشرات التي تشير إلي ذلك، ويقول:«قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ»(1)، ويقول: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنْفُسُ»«وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَيٰ»(2).

ويقول: «وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا»(3)

وأن الإيمان بولادة (الإمام الاثني عشر) أضعف بكثير من الإيمان بصلب المسيح، ورغم ذلك يرفض الله عزوجل أن يؤمن الناس بحدث لم يتأكدوا منه ولم يحصل لديهم علم به».

إنه مثال آخر مقلوب وقياس مع الفارق. ولو أنك أخي أحمد تأملت في مثالك هذا مليا لوجدته يؤكد خلاف ما تقول ويثبت الغيبة. أولا إن المشترك بين أخبار الغيبة وهذه الآية كبير جدا. لا أحدثك فقط عن أن غيبة عيسي عليه السلام هي شبيهة في شروطها بغيبة الإمام من حيث محاولة قتله وتحقق غيبته. كما أنه ملازم للظهور بالأدلة القاطعة علي أن خروج المسيح معاصر لخروج المهدي بتحقق الصلاة وراءه كما أتينا علي ذكره في موارد أخري وقد صح. لكن دعنا من هذا لأقول: إنك

ص: 304


1- سورة الأنعام، الآية: 148.
2- سورة النجم، الآية : 23.
3- سورة الأنعام، الآية : 28.

تتحدث عن الوضوح في عقائد الناس ولو أنك آنست بفلسفة الأديان الأدركت بأن خطابها الغيبي واصل إلي عامة الخلق. ومن الغيبيات ما صدق به عموم الناس حتي أن الآية تصف هؤلاء:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ».ولعل إحدي مقاصدها في تفسير الإمام الصادق للآية، أن المقصود بالغيب هو المهدي. هذا تفسير مصداقي فتأمل. وإن خطأك هنا أنك قلبت الآية. فكان أولي أن تري أن اعتقاد العامة بصلبه أقرب إلي فهمهم من القول برفعته. فالأدلة تقول بقتله لكن النص يقول شبه لهم. ولا طريق للترجيح إلا بالاعتقاد بالغيب وليس بما في يد أولئك من أدلة ظهرت لهم أنها حسية. إن من يتأمل مثالك هذا يدرك أنه مثال ضدك لا ضد من ادعي الغيبة.

لقد صادفت في ذلك النقاش سؤالا من البدري يقول لك فيه : «الأستاذ أحمد الكاتب، ما ذكرته أنت من أدلة من أنها ضعيفة، فهناك كما قال الشيخ العاملي، في قناة المستقلة، أدلة أخري صحيحة فما ردك ؟؟».

والحق أن هذا أمر طالبك به كثيرون. وطالبتك أن تعقب علي بعض الأخبار الصحيحة وهذا منها، ولكنك بدل أن ترد عليها أحلتني علي ردك هذا فدعني أري ما فيه. وسوف أستعرض هنا ردك الكامل علي هذه الرواية قبل إبداء رأيي فيه :

«ولعلك تقصد هذا النص التالي، فإن العاملي كثيرا ما يرتكز عليه، وهو: «أقر الإمام الحسن العسكري عليه السلام أمام الكثير من أصحابه بأن له ولد، سماه محمدا، ونص علي أنه هو المهدي الموعود به في آخر الزمان. روي محمدبن يحيي، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم

ص: 305

الجعفري، قال: «قلت لأبي محمد عليه السلام : جلالتك تمنعني من مسألتك ، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال : سل . قلت : يا سيدي هل لك ولد؟ فقال : نعم».

وهذا النص منقول عن أبي هاشم الجعفري الموثق عند الشيعة الإمامية مثله مثل «النواب الأربعة الذين ادعوا السفارة عن الإمام الغائب، وقد ادعي الجعفري النيابة كذلك فيمن ادعاها وكان يبلغ عددهم الأربعة والعشرين مدعيا، وكان كل واحد منهم يكذب الآخرين.

وفي هذا النص لا يذكر الجعفري أنه رأي الولد وإنما يقول أن أباه قال إن لديه ولدا.

وحسبما أعتقد فإن الجعفري من الغلاة وكان ينسب إلي الإمام العسكري العلم بالغيب وقراءة ما في القلوب، وإتيان المعاجز الخارقة .

ثم إن القضية برمتها يجب أن تدرس بصورة متكاملة وشاملة، وليس اعتمادا علي رواية أو خبر من أخبار الآحاد، ويجب أن ننظر إلي نتيجة البحث والتحقيق، ونعثر علي الإمام الذي يفترض فيه أن يقود المسلمين ويقيم دولتهم في الأرض، فالقضية لا تتعلق ببحث نظري تاريخي وانما هي تمس الواقع والحياة الخارجية والسياسية للمسلمين ، وهي تشبه جدا قصة رجل يقول لك: إن في هذا القدر لحما وطبيخا وعليك انتظار نضجه ، فتجلس أياما وأياما وشهورا وسنين وانت جائع ثم لا تجد شيئا في القدر، ولكنه يحلف لك بالله ويأتي لك بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية علي وجود الطعام في القدر، ولكنك تستمع إلي صرير معدتك وتنظر إلي ساعتك وتكاد تموت جوعا، فماذا تفعل؟ هل تنتظر مزيدا من الوقت؟ أم تذهب وتعد لك ما تيسر منالطعام، ولا تستمع إلي ذلك الرجل الأحمق حتي لو جاء لك بمليون دليل؟

ص: 306

هذه هي حالتنا مع أولئك المدعين الذين خدعونا بزعمهم وجود ولد مكتوم ومخفي للإمام العسكري، فجلسنا ننتظر السنين والقرون ، ولما لم نجد شيئا قمنا بإقامة الدولة علي أساس الشوري وولاية الفقيه ، ولم نحصل من أدلتهم وبراهينهم علي غير الجوع والعطش والانتظار العقيم؟

من هو أبو هاشم الجعفري؟ وهل هو ثقة؟

أود التنبيه إلي حقيقة لا اعتقد أنها تغيب عن ذهن أحد، وهي كثرة تفرق الشيعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين واختلاق كل فريق ما يشاء من الروايات ونسبتها إلي الأئمة من أهل البيت تأييدا لما يذهب إليه، وقيام بعض الفرقاء بنسج روايات لها طابع الزمان الماضي وتتحدث عن المستقبل الذي يصوره ذلك الفريق كما يشتهي، في محاولة لإضفاء صفة الإعجاز وعلم الغيب علي الرواية، ومن الأمور التي حدث فيها الخلاف بين الشيعة الإمامية مسألة إمامة الحسن العسكري، التي اختلف فيها شيعة أبيه الإمام علي الهادي بين من قال بإمامة محمد بن علي الهادي وعدم وفاته في حياة أبيه ، ثم قوله بغيبته ومهدويته وانتظار ظهوره في المستقبل، وإنكار إمامة الحسن العسكري، وبين من قال بإمامة جعفر بن علي الهادي بالنص عليه من أبيه أو بالنص عليه من أخيه السيد محمد

(المدفون في بلد) وبين من قال بإمامة الحسن العسكري، الذي اعترف بأنه لم يحدث خلاف علي أحد من الأئمة مثلما حدث في الاختلاف عليه.

وقد لعب أبو هاشم الجعفري دورا كبيرا في تثبيت إمامة العسكري، وبما إنه كان يعترف بأن الإمام الهادي كان قد أشار إلي السيد محمد ودل عليه فقد نقل حديثا عن الإمام الهادي أنه قال له : «بدا

ص: 307

الله في أبي جعفر وصير مكانه أبا محمد كما بدا لله في إسماعيل بعد ما دل عليه أبو عبد الله ونصبه»(1).

ومع أن الجعفري في هذه الرواية يعترف بإشارة الإمام الهادي إلي ابنه السيد محمد، والدلالة عليه، في البداية، إلا أنه يروي رواية أخري عن أبي جعفر الثاني (محمد الجواد ينقل فيها رواية عن الإمام الحسن المجتبي ويذكر أسماء الأئمة إلي الحسن العسكري، من دون أن يشير إلي مسألة البداء والتعيين المسبق للسيد محمد ثم تنصيب الإمام العسكري مكانه(2).

وإذا كانت هذه الرواية صحيحة فكيف لم يعرفها الإمام الهادي فأوصي إلي ابنه محمد بالإمامة ثم عدل عنها إلي ابنه الحسن بعد وفاة أخيه وحدوث البداء فيه؟ إذن لا بد أن تكون إحدي الروايتين كاذبة وغير صحيحة.

وهكذا يظهر لنا موضوع اختلاق الروايات علي لسان الأئمة تأييدا للمذاهب المختلفة.

وبما أن النص علي الإمام الحسن العسكري كان غامضا ومحل شبهة ونزاع بين الشيعة الإمامية وبين أولاد الإمام الهادي، فقد لجأ أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري إلي اختلاق مجموعة من الروايات الأسطورية القائمة علي دعوي علم الإمام العسكري بالغيب، والتي يرويها الجعفري بنفسه ويقول إنها حصلت له، ولا يمكن التأكد منها بصورة مستقلة ومحايدة، غير دعواه بعلم الإمام للغيب.

ص: 308


1- راجع الغيبة للطوسي ص 55 و 120.
2- الغيبة للطوسي ص 99.

يقول الجعفري أنه سمع الإمام أبا محمد (العسكري) يقول ذات مرة إن (من الذنوب التي لا تغتفر قول الرجل ليتني لا أو أخذ إلا بهذا) فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره ومن نفسه كل شيء، فأقبل أبو محمد فقال: يا با هاشم صدقت فالزم ما حدثت به نفسك، فإن الإشراك في الناس أخفي من دبيب الذر علي الصفا(1).

وهكذا يتحدث الجعفري عن علم الإمام الهادي لما يفكر فيه (الجعفري) غيبيا في مسألة البداء ووفاة السيد محمد، حيث يقول : (فإني لأفكر في نفسي وأقول : هذه قضية أبي إبراهيم وقضية إسماعيل، فأقبل علي أبو الحسن فقال : نعم يا أبا هاشم... هو كما حدثتك به نفسك وإن كره المبطلون)(2).

ويروي أبو هاشم الجعفري رواية أخري مشابهة تقوم علي مادة علم الأئمة بالغيب، يقول: (كنت محبوسا مع أبي محمد في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي: يا أبا هاشم أن هذا الطاغي أراد أن يعبث بالله في هذه الليلة، وقد بتر الله تعالي عمره وقد جعله للقائم من بعده ، ولم يكن لي ولد وسأرزق ولدا، قال أبو هاشم: فلما أصبحنا شغب الأتراك علي المهتدي فقتلوه وولي المعتمد مكانه وسلمنا)(3).

وهنا يتحدث عن علم الإمام العسكري بمقتل المهتدي قبل حدوث الشغب عليه. وهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله.

ص: 309


1- الغيبة للطوسي ص 123.
2- الغيبة صد 55 و 120.
3- الغيبة للطوسي ص 123 و134 راجع أيضا بحار الأنوار ج 50 ص 250 و276 و 208 عن مختار الخرائج ص 239 ومناقب آل أبي طالب ج4 ص 436 و 432 وكشف الغمة ج3 ص279 و 299 وأعلام الوري ص 354 و355.

ويضيف أبو هاشم الجعفري إلي حكايته رتوشا أخري فيقول إنه كان يحتاج إلي المال ولم يطلبه من العسكري استحياء فأرسل إليه الإمام مالا دون أن يطلب منه، وكذلك يقول إن الإمام علم بنية أبي هاشم في طلب فص فأعطاه خاتما(1).

ويعتبر الجعفري إخبار الإمام العسكري له عن مشادة حصلت له في الطريق نوعا من الإعجاز والعلم بالغيب الدال علي إمامة الإمام(2).

ويتحدث أبو هاشم الجعفري عن علم الإمام العسكري بأدق التفاصيل السرية كمعرفته بإفطار أبي هاشم ونوع الخبز الذي أكله، كما يتحدث عن معرفة الإمام بحقيقة رجل كان يتجسس عليه وكشفه هويته لأبي هاشم (3)

وتأتي هذه الروايات في سياق الروايات التي يسوقها القائلون بإمامة العسكري لإثبات إمامته بالمعاجز بدلا من النص ، ويتحدثون عن علمه غيبيا بحقيقة غني سائل كان يتظاهر بالفقر، أو علمه بموت فرس بعد أيام وإشارته علي صاحبها ببيعها سريعا قبل أن تموت، واكتشاف نوايا بعض الخدم وعزمهم علي شرب الخمر واللواط، ومعرفته بعطش إنسان وطلب الماء له دون ان يطلبه هو(4).

ص: 310


1- الكافي للكليني ج 1 ص 507 وبحار الأنوار للمجلسي ج 50 ص 267 ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج4 ص 432؛ ومختار الخرائج ص 214.
2- المجلسي، بحار الأنوار ج 50 ص 283 عن مناقب آل أبي طالب ج4 ص 427 و428
3- مناقب آل بي طالب ج4 ص 437؛ ومختار الخرائج ص 239 وأعلام الوري ص 356 و 355.
4- الكافي ج1 ص 507.

ولكن أبا هاشم الجعفري يضيف عليها أنه رأي الإمام العسكري يحك الأرض ويخرج الدنانير الذهبية منها ويعطيها له ومعرفة الإمام بحاجته إلي المال بصورة غيبية(1).

ولا يكتفي أبو هاشم الجعفري بذلك بل يقول أنه شاهد يوما الإمام العسكري وهو يكتب كتابا ، ثم يترك القلم ويقوم إلي الصلاة، فإذا بقلم الإمام ينهض بنفسه ليكمل الكتاب أثناء قيام الإمام للصلاة!!(2)

وعندما توفي الإمام الحسن العسكري دون أن يخلف ولدا ظاهرا تستمر الإمامة فيه بصورة عمودية إلي يوم القيامة، وجد أصحاب جعفر بن علي الهادي في ذلك دليلا علي عدم صحة إمامة العسكري، كما وجد أصحاب الإمام موسي الكاظم في وفاة عبد الله الأفطح دون ولد ظاهر ، دليلا علي عدم صحة إمامته، وانتقلوا إلي القول بإمامة موسي الكاظم، كذلك انتقل قسم من القائلين بإمامة العسكري إلي القول بإمامة أخيه جعفر، خاصة بعد وفاته دون خلف ظاهر. ولكن قسما آخر أصر علي افتراض وجود ولد له ورفض إمامة جعفر، وكان منهم أبو هاشم الجعفري الذي قال في البداية أن الإمام الجواد ذكر له أسماء الأئمة واحدا واحدا حتي الحسن العسكري وأنه قال (أشهد علي رجل من ولد الحسين لا يكني ولا يسمي حتي يظهر أمره فيملأها عدلا كما ملئت ظلما وجورة). ولم يحدد هوية الإمام الأخير(3).ونقل عن الإمام الهادي أنه قال: (الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟! فقلت : ولم جعلني الله فداك؟ فقال : لأنكم لا ترون شخصه

ص: 311


1- الكافي ج1 ص 507 والبحار ج 50 ص 259 والإرشاد للمفيد ص 322.
2- المجلسي: البحار ج 50 ص 306 عن عيون المعجزات.
3- الطوسي: الغيبة ص 99.

ولا يحل لكم ذكره، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال : قولوا الحجة من آل محمد)(1).

وكما يلاحظ فإن أبا هاشم الجعفري لم يحدد في هاتين الروايتين هوية الإمام الجديد بعد العسكري، ولكنه عاد بعد ذلك ليقول إن الإمام العسكري قال له من قبل عندما كان معه في السجن أيام المهتدي : أنه سيرزق ولدا(2).

وفي هذه الرواية ما هو ظاهر من دعوي علم الإمام بالغيب وإخباره عن ولادة ولد له في المستقبل (وهذا ما لا يعلمه إلا الله).

ومع ذلك فإن الجعفري يكاد يعترف بجهله بوجود ولد للإمام وتاريخ ولادته فيقول في رواية أخري أنه قال للإمام العسكري يوما : جلالتك تمنعني عن مسألتك فتأذن لي في أن أسألك؟ قال : سل، قلت : يا سيدي هل لك ولد؟ قال: نعم، قلت: فإن حدث حدث فأين أسأل عنه؟ فقال : بالمدينة (3).

وهنا لا يقول أنه شاهد ابن الإمام العسكري، ولا أنه الإمام بعد أبيه . واذا لم يكن الجعفري يدعي مشاهدته أو اللقاء به فكيف عرف أنه الإمام؟ وكيف أصبح بابا له أو نائبا عنه؟ واذا كان هو يقول بأن ابن العسكري لا يري فكيف ادعي النواب الخاصون اللقاء به والنيابة عنه أيضا؟

والمشكلة في هاتين الروايتين أن الشيخ الطوسي يرويهما بلا سند عن سعد بن عبد الله الأشعري وهو من أقطاب الفريق القائل بوجود

ص: 312


1- الغيبة للطوسي ص 122 وإكمال الدين للصدوق ص 381.
2- الغيبة للطوسي ص 123 و134.
3- الغيبة للطوسي ص 139.

الولد والمتحالف مع أدعياء النيابة الخاصة (النواب الأربعة) مما يحتمل اختلاقه لتلك الروايات ونسبتها إلي الجعفري.

ويقول السيد ابن طاوس في (ربيع الشيعة) : أن أبا هاشم داود بن القاسم الجعفري كان من سفراء صاحب الأمر وأبوابه المعروفين الذين لا يختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن علي عليه السلام فيهم(1).

ومع ان علماء الاثني عشرية اعتبروا أبا هاشم الجعفري من الثقات، ولم يتوقفوا عند رواياته الأسطورية المخالفة لكتاب الله المجيد، والتي تدعي علم الأئمة بالغيب، ولم يحققوا في دعاواه الأخري التي لا يمكن إثباتها من أي طريق لأنها تتحدث عن علم الأئمة بما في داخل نفسه، إلا أن الكشي ذكر في ترجمته (أن روايته تدل علي ارتفاع في القول) أي غلو، وأن الطوسي ذكر في ترجمته في الفهرست : أنه كان مقدما عند السلطان! وهاتان الشهادتان تخدشان في عدالته فكيف تقبل شهادته بعد ذلك؟

وكيف يمكن بعد ذلك أن نطمئن إلي رواياته الغامضة والمشكوك فيها وأن نصدق دعواه بوجود ولد للإمام العسكري؟ وأنه الإمام المهدي؟ خاصة إذا ثبت أنه كان يدعي النيابة عن ذلك الولد الغائب الذي لم يظهر له أي وجود طيلة أكثر من ألف عام؟

وكيف يمكن أن نعتبره شخصا موثوقا ونسلم برواياته في موضوع شائك كموضوع وجود ولد للإمام العسكري الذي لم يعترف بهذا الأمر أمام الناس ليكون حجة عليهم؟

ص: 313


1- راجع الفائدة الثانية من خاتمة مجمع الرجال للقهبائي، طبع دار الكتب العلمية بقم.

ألا يجدر بنا أن نقول كما قال الشيخ الطوسي في الرد علي روايات الفرق الشيعية الأخري التي ادعت مهدوية وغيبة عدد من أئمتها ، وجاءت بروايات مختلقة أو ضعيفة : بأن (هذه كلها أخبار آحاد لا يعول علي مثلها في هذه المسألة، لأنها مسألة علمية) ؟(1)

إن كل الدلائل التاريخية تشير إلي عدم وجود ولد للإمام العسكري، وأن القول بوجود ولد له تم بعد وفاته علي سبيل الافتراض الفلسفي الظني، وكان يلف القائلين بذلك شك كبير لوجود مصالح مادية لهم. وكان بعضهم يحتج بروايات الجعفري وهو لم يدع رؤية الولد أو اللقاء به، فضلا عن وجود الشك بشخصه وبرواياته المليئة بالغلو والمعاجز الأسطورية».

مزاعم تحتاج إلي رد

أجل، هذا هو ردك كاملا ومن دون تصرف علي رواية من الروايات التي ثبتت صحتها. إلا أن لدي ملاحظات سأوجزها في التالي :

إنك ذهبت يمينا وشمالا وحاولت جهدك بكلف بالغ أن تخدش في رواية صحيحة السند مسندة. فعلت ذلك بعد أن قلت دائما لا وجود الرواية صحيحة واحدة تتحدث عن المهدي. وكنت في رسالتي السابقة قد ذكرت لك روايات صحيحة أخري تبين بوضوح الولادة ولم ترد عليها ولم أجد ردا عليها فيما كان مننقاشك مع هؤلاء. لكنك مع ذلك حاولت تضعيفها بغير طريق الجرح الذي سلكته مع طائفة من الأخبار زعمت استقصاءها ثم ردها إلي كتب الرجاليين. وكونك لم تذكر مثل هذه الرواية ونظائرها فيما سبق وناقشته قبلا دليل علي أنك تفاديتها لصحتها

ص: 314


1- الغيبة ص 108.

ولصعوبة الوصول مع وجودها وأشباهها لغرضك. فلماذا لم تذكرها وتناقشها في كتابك قبل أن يطالبك كثيرون بموقفك منها طيلة هذه الفترة.

وقد لاحظت أنك حاولت التشكيك في عدم إفادة الرواية للمولود وهذا أمر لا يحتاج إلي نقاش متكلف كما فعلت في دفع بديهي يدرك من دون نظر. فإذا ضممت هذا الخبر إلي باقي الأخبار وضح المراد فضلا عن أنه بنفسه دال علي المقصود.

إنك لجأت إلي طريقة العاجز، وهي طريق التجريح في الراوي من خلال تحشيد شواهد علي غلوه. وحيث لم تجد في شهادة الرجاليين ما يسعفك، لذت بالقرائن العقلية التي رفضتها علينا في معاضدة أخبار المهدي. وحاولت جهدك التشهير بما رواه في بعض خصائص الإمام بالتهويل علي طريقة الوهابيين. وهذا مردود. ذلك لأن ما رأيته غلوا هو ليس إلا تهويل وتأويل منك، لأنإثبات بعض من تلك الخصائص يشاركه فيها حتي أولئك الرجاليين من الإمامية وكثير من أهل السنة ممن روي عن فضائلهم. ويكفي اعتماده من قبل الشيخ الطوسي وأنت تعرف مذهب الطوسي في الرواة الغلاة، وهو رد رواياتهم، فهذا دليل علي خلاف ما تري. أقول، وإذن كان علي الطوسي نفسه أن يكون أول خادش فيه بدل اعتماد روايته. فعليك أن تستشهد بالطوسي في كل شيء وليس في بعض شهاداته ثم تجزئها وتنزاح بها إلي حكم مختلف. وإنني شخصيا لم أر ارتفاعا فيما ذكرت من رواياته. حتي وإن اشتم الكشي منه ذلك بخصوص روايته، دون أن يقدح في وثاقته. والعجيب أنك تحاول أن تجرح في أبي هاشم انطلاقا من شهادة الشيخ الطوسي ثم سرعان ما تقفز إلي الطوسي لتقول لعلها من مختلفاته التي نسبها لأبي هاشم. أرأيت أنك عندما واجهت رواية صحيحة كلفتك أن تشكك حتي في الشيخ الطوسي وتتهمه بالاختلاق، وطبعا بلفظ الاحتمال لا اليقين !؟ فماذا إذن

ص: 315

لو حاولت أيضا الرد علي كل ما ورد من صحيح الأخبار عن الولادة. فمنهجك أنك لا تريد أن تصدق بهذا الحدث. ثم بناء علي ذلك ليس لك التزام بقواعد الرد إلا أن تفتعل تكذيب جميع الرواة حتي الشيخ الطوسي. إذن بهذا المعني لا حاجة لنا لأولئك العلماء جميعا : كالطوسي والصدوق ومن قبلهم ومن بعدهم. فما هي مصادر معرفة تعاليم أهل البيت وحقائق ما جري؟! ألم أقل لك سابقا إنك تبنيت موقف الخصوم حيث لا يلزمك شيء من هذا الطريق حتي لو كان الأمر يتعلق بشيوخ وثقهم العامة والخاصة مثل الشيخ الطوسي؟!

ثم إن حديثك عن كونه كان مقدما عند السلطان لا يفيدك، بشاهد اعتماد المشايخ علي روايته. فلا يفيدك في الحجاج ولا فيه ما يخدش في الوثاقة. كما أن الطوسي الذي ذكرت رأيه في أبي هاشم هو نفسه ممن قدمه واحترمه السلطان كما هي علاقة سائر العلماء الذين لا يخدش في جلالة قدرهم ووثاقتهم. وأنت تعلم أن روايات المهدي مما يزعج السلاطين، فلا مصلحة في أن يضعها الوضاعون ممالأة للسلاطين. فظنك أنها من وضعه تخرص لادليل عليه وتهمة مسنودة بالظنون التي لا تغني عن الحق شيئا. هذا مع أن الشيخ الطوسي ذكر ذلك في سياق مدح وإجلال وليس في سياق ذم وتجريح كما توحي جزافا. فهو يقول عن أبي هاشم:

«يكني أبا هاشم من أهل بغداد جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام وقد شاهد جماعة منهم : (الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر عليهم السلام وقد روي عنهم كلهم عليهم السلام وله أخبار ومسائل وله شعر جيد فيهم) وكان مقدما عند السلطان. وله كتاب. أخبرنا به عدة من أصحابنا عن أبي المفضل عن ابن بطة عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبي هاشم».

ص: 316

فكيف تجزئ شهادة الشيخ الطوسي في شأن أبي هاشم. بل واضح مدح الشيخ له سواء في الرجال أو الفهرست، إذ يقول فيه في الرجال):

•يكني أبا هاشم من ولد جعفر بن أبي طالب ثقة جليل القدر.

•يكني أبا هاشم ثقة.

•ثقة يكني أبا هاشم.

وقد حاولت إثبات الغلو في حق أبي هاشم الجعفري راوي الخبر من خلال اعتقاده بعلم الأئمة للغيب وهو مخالف للقرآن المجيد. وأحسبك هنا تتحدث بلهجة وهابية صريحة، لأنه كان واجبا عليك أن تميز بين ما هو في مقدور بعض الصلحاء الإطلاع عليه في حدود ما قال عنه القرآن المجيد: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَي مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا»(1).وقوله: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ»(2)..ونظيراتها في القرآن الكريم. فالرسول يعلم بعضا مما علمه الله من علمه. وعلي عليه السلام باب مدينة العلم وكذا سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام ورثوا من علم محمد صلي الله عليه و آله ما جعلهم في غني عن الآخرين واحتياج الآخرين إلي علمهم. فذاك علي بن أبي طالب يقول: «علمني رسول الله ألف باب في العلم يفتح لي كل باب ألف باب». ولو شئت لملأتها عليك شواهد من أسرار علومهم وهم الراسخون في العلم. وما رأيته من العلم ليس من الغيب الذي لا يطلع الله عليه أحدا ممن لا يقوي أو يحترق إذا تعدي ما فوقه. فهل تختزل غيب الله في معرفة ما يأكل فلان في هذا النهار وهل حدث لذلك مكروه؟! هذا مما يعرفه صلحاء بلدي في المغرب وهو عندي من

ص: 317


1- سورة الجن، الآيتان : 26، 27.
2- سورة البقرة الآية : 255.

المجربات فما بالك بالأئمة الهداة. فما أثبته أبو هاشم للأئمة هو مما جرت به العادة مع صلحاء ومحدثون، ومما نجد له مصداقا في من تعرفهم قادرون علي معرفة ما ليس في مكنة الناس العاديين معرفته. ولا يحتاج هذا إلي طول نظر. فمثل هذه الحوادث رأينا لها نظائر في حدوس عامة الخلق حتي في أيامنا هذه وحصل لنا من بعضها الكثير. فتلك من آيات الله وتفضله بها علي خاصة أوليائه ولها مصاديق في كتاب الله عزوجل لمن قرأ وارتقي. فإن ثبتت لهؤلاء العامة من الناس فهي بالأولوية القطعية ثابتة في حق من فضلهم علي سائر الخلق. وعجبا أن ينكر المرء ذلك علي أهل البيت ولا يري غضاضة فيمن روي عن الخليفة الثاني خبر «إلي الجبل يا سرية». هذا مع أنك أردت أن توحي بأن الكشي يجرح أبي هاشم لقوله بالارتفاع. والحق أن رأي الكشي فيه إجابيا. فقد مدحه بقول: «قال أبو عمرو : له منزلة عالية عند أبي جعفر وأبي الحسن وأبي محمدع وموقع جليل علي ما يستدل بما روي عنهم في نفسه وروايته وتدل روايته علي ارتفاع».

وثمة ما يدعو حقيقة التأمل هذه الترجمة عند الكشي لأنه فضلا أنها في هذا المقطع تنفرد عن باقي الرجاليين، فهي تتناقض مع الإجلال والتوثيق والتعظيم الذي وصف به الكشي أبا هاشم. فلا يستقيم الوصفان إلا إذا حدث أمر ما. وهذا ما التفت إليه السيد أبو القاسم الخوئي، حينما قال في المعجم: «أقول: عبارة الكشي من أن روايته تدل علي ارتفاع في القول، لا بد من أن يكون فيها تحريف أو أنه أريد بها معني غير ما هي ظاهرة فيه وذلك لأنه ذكر أن له موقعا جليلا في نفسه وروايته علي ما يستدل بما روي عنهم عليهم السلام ، فكيف يمكن أن يقال : إن روايته تدل علي ارتفاع في القول. وكيف كان فلا إشكال في وثاقة الرجل وجلالته».

ص: 318

إن تشكيكك في وثاقة أبي هاشم يخالف إجماع الطائفة فيه. وهو ثقة لا مجال لرد ذلك بتكلف خارج ما شهد به هؤلاء. فهو عندهم :

• داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري.

قال النجاشي: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبو هاشم الجعفري رحمة الله كان عظيم المنزلة عند

الأئمة عليهم السلام شريف القدر، ثقة روي أبوه عن أبي عبد الله عليه السلام.

• داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبو هاشم الجعفري رحمة الله ، كان عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام شريف القدر ثقة روي أبوه عن أبي عبد الله عليه السلام(1).

• داود بن القاسم الجعفري يكني أبا هاشم من أهل بغداد جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام وقد شاهد جماعة منهم منهم : (الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر عليهم السلام وقد روي عنهم كلهم عليهم السلام وله أخبار و مسائل وله شعر جيد فيهم) وكان مقدما عند السلطان. وله كتاب. أخبرنا به عدة من أصحابنا عن أبي المفضل عن ابن بطة عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبي هاشم (2) .

•داود بن القاسم الجعفري يكني أبا هاشم من ولد جعفر بن أبي طالب ثقة جليل القدر (3).

• داود بن القاسم الجعفري يكني أبا هاشم ثقة(4) .

ص: 319


1- فهرست الطوسي / باب الدال / باب داود / 181.
2- رجال الطوسي / أصحاب أبي الحسن.../ باب الدال / 357.
3- رجال الطوسي / أصحاب أبي الحسن... / باب الدال / 386
4- رجال الطوسي / أصحاب أبي محمد... / باب الدال / 399

•داود بن القاسم الجعفري ثقة يكني أبا هاشم(1).

•قال أبو عمرو : له منزلة عالية عند أبي جعفر وأبي الحسن وأبي محمد عليهم السلام وموضع جليل علي ما يستدل بما روي عنهم في نفسه وروايته وتدل روايته علي ارتفاع في القول(2).

داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبو هاشم الجعفري ضا د دي كر [جخ كش] عظيم المنزلة شريف القدر

ثقة(3).

•أبو هاشم داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب د دي كر [جش] ثقة روي أبوه عن أبي عبد الله عليه السلام توفي سنة إحدي وستين ومائتين وكان أفقه الهاشميين في وقته (4).

• داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكني أبا هاشم الجعفري رضي الله عنه من أهل بغداد ثقة جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام شاهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمد عليهم السلام وكان شريفا عندهم له موقع وجليل عندهم روي أبوه عن الصادق عليه السلام.

هذا هو أبو هاشم عند جميع الرجاليين الإمامية : ثقة جليل القدر لا يوجد ما يشكك أو يخدش في وثاقته كما أردت أن تفعل بكلف زائد وتحشيد لقرائن لا تصلح إلا قرائن علي أنك تريد مخالفة واقع الأشياء. ولا تنسي أن محل النزاع هو وجود رواية صحيحة بالمعايير الرجالية

ص: 320


1- رجال الكشي / الجزء الأول / الجزء السادس /571.
2- رجال البرقي / أصحاب أبي جعفر ... / أصحاب أبي جعفر ... /56.
3- رجال ابن داود / الجزء الأول من... / باب الكني /406.
4- الخلاصة للحلي / الفصل الثامن في الدال 7 الباب الأول داود /68.

الشيعية. وقد ادعيت أن لا وجود لها. وهاهي مروية عمن ثبتت وثاقتهم. بل عجبا أنك في ردك هذا ادعيت أنها ليست مسندة وزعمت أن الطوسي رفعها إلي سعد بن عبد الله. وهنا وقعت في خطأ آخر. وقد أدرك من استأنس بكتب الشيخ الطوسي، أنه علي طريقة الصدوق في من لا يحضره الفقيه وطريقته هو في التهذيب والاستبصار يعزف مقطوعاته من خلال تثبيتها في المشيخة. وذلك دفعا للتكرار والإثقال علي القارئ كما صرحوا بذلك وكما هو ديدن المحدثين المحترفين سنة وشيعة. فالشيخ الطوسي يعرف ذلك في المشيخة من الاستبصار فيقول:

«وما ذكرته عن سعد بن عبد الله فقد أخبرني به الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمة لله عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله، وأخبرني به أيضا الشيخ المفيد أبو عبد الله عن شيخه الفقيه عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي رضي الله عنه عن أبيه الفقيه علي بن الحسين بن بابويه عن سعد بن عبد الله».

وسعد هذا هو بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي أبو القاسم الثقة هو في قول النجاشي : شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها كان قد سمع من حديث العامة وسافر في طلب الحديث، عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام الحسن بن علي العسكري عليهم السلام له عدة كتب فمن كتبه كتاب (الرحمة) وهو يشتمل علي كتب جماعة، عدها الشيخ في الفهرست روي عن الحكم بن مسكين وأحمد بن محمد بن عيسي وعنه محمد بن الحسن بن الوليد وأحمد بن محمد بن يحيي وعلي بن الحسين بن بابويه ومحمد بن قولويه وغيرهم، ترجمه الشيخ والنجاشي والعلامة والأردبيلي وغيرهم».

ص: 321

وحتي لو قيل ما قيل في بعض طرق الشيخ إليه، فإنه صحيح بطريق الصدوق كما يؤكد السيد أبو القاسم الخوئي في المعجم: «وطريق الشيخ إليه ضعيف بأبي المفضل وبابن بطة، إلا أن طريق الصدوق إليه صحيح وإن كان فيه محمد بن موسي بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي لأنهما ثقتان علي الأظهر ويأتي في الكني».

إذن هو ممن عاصر وصاحب الإمام العسكري. وعليه أمكننا معرفة سند الرواية الأخيرة. والطريق إليه عبر ما ثبته الشيخ في المشيخة. فادعاء بأن الطوسي يرويها من دون سند خطأ فاحش.

إذن لا مجال إلا التسليم بأن ثمة رواية صحت وأسندت مما رواه الإمامية وهو واضح في الدلالة لمن أراد. يضاف إليه روايات ذكرتها لك في الرسالة السابقة ولم أجدك تناقشها هنا فضلا عن الرد علي أصحاب التراجم والنسابة من العامة وباقي الأدلة المعاضدة لبعضها البعض. فهل لي أن أجد جوابا شافيا في رسالة جادة وأجوبة حقيقية أفضل مما فعلت سابقا

ودمت سالما

أخوك إدريس هاني

03 غشت 2008

الرباط-المغزب

ص: 322

8- رسالة غير مباشرة

لقد كان من المتوقع أن أتلقي جوابا مباشرة من الأستاذ أحمد الكاتب كما يقتضيه منطق الحوار. لكن يبدو أن العد العكسي بدأ في اتجاه تيئيسي من الاستمرار بجدية في هذا النقاش ولدفعي إلي إنهاء الحوار بطريقة أو بأخري. لذا فبدل أن يكتب لي رسالة مباشرة. بعث لي جوابا هو في الأصل جوابه علي سؤال شخص آخر، أقصد بنسخة أخري. وبطريق غير مباشر. وهذه هي النسخة التي وصلتني بدل الجواب المباشر:

«AhmadAlkatib» < ahmad @alkatib.co.uk

Re : جواب الأستاذ المفيد بن علي علي الأسئلة..

إلي: < Abuthar» < abuthar@hotmail.com »

نسخة : إدريس هاني < hani-dr@maktoob.com >

الأخ العزيز أبو ذر

الأخ العزيز المفيد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعم إن المشكلة في التوثيق، وصحيح إني اعتمدت علي تضعيفات ابن الغضائري، ولكن من الطبيعي أيضا أن لا أعتمد علي كل توثيقاته أو

ص: 323

توثيقات الآخرين من الطائفة فيما يخدم فكر الطائفة، وذلك لأنه رغم النقد والتجريح تسرب الكثير من الغلاة والمنحرفين من توثيقات الموثقين، فإنالجميع مثلا يجلون ويحترمون ويوثقون النواب الأربعة وهؤلاء عندي دجالون، وكذلك آخرون مثل أبو هاشم الجعفري، ولكن مشايخ الطائفة يقلدون من سبقهم في التوثيق مثلما يقلدون علي بن إبراهيم في توثيقاته لمن نقل عنهم مع انه هو شخصيا وآخرين من أساتذته كانوا غلاة ولا أستطيع أن أثق بهم ولا بتوثيقاتهم.

ومن هنا ينشأ الاختلاف الكبير لدي المحاور الذي يريد أن يبني تحليله وتقييمه للرواة والروايات علي توثيقات السابقين دون أن يحاول التحرر والاجتهاد.

علما بأني أدعوه إلي التحرر أكثر وذلك بتقييم روايات الأئمة أنفسهم تقييما موضوعيا بعيدة عن التقليد أو اعتبارهم معصومين لا يخطئون.

فإن كثيرا من جرحهم وتوثيقهم لأشخاص مثل سالم بن أبي حفصة وزرارة أو المفضل بن عمر أو حتي أبو الخطاب، متناقضة ويحتمل أن تكون موضوعة عليهم كما يحتمل أن يكونوا هم من قالوا بها.

وسواء ثبتت عليهم أم لم تثبت أم كانت للتقية لا بد من النظر إليها بصورة موضوعية مستقلة وعدم الاتكاء علي رواياتهم في الجرح والتعديل لأصحابهم.

فربما كان من وثقوه ضعيفا وربما كان من جرحوه ولعنوه صالحا موثقا .

وبمعني آخر لا يمكن أن نقلدهم في شيء إلا بعد ثبوت إمامتهم لمن ثبت له ذلك .

ص: 324

Original Message - From: Abu Thar -

To: AhmadAlkatib

Sent: Monday, August 04, 2008 3: 20 AM

: Subject: RE جواب الاستاذ المفيد بن علي علي الاسئلة..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الأستاذ أحمد الكاتب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنقل لكم جواب الأستاذ (المفيد بن علي) علي ما سألتم عنه..

وهذا نص الجواب

بسمه تعالي،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

يبدو أن مسألة التوثيقات هي العالقة عند سماحتكم!!، فترفض توثيقات وتضعيفات النجاشي وغيره من العلماء في حين أنك جعلتهم حجة في تضعيفاتك للرواة بغير حق وهذه منهجية خاطئة. فهل نسيت أو تناسيت أنك اعتمدت علي جرح ابن الغضائري في كتابكم النقد.؟ أم أنك نسيت أنك اعتمدت علي تضعيفات ابن الوليد وتلميذه في من استثناه من النوادر ؟؟

لكن أنا أشرت لك سابقا أن إثبات التواتر يغني عن البحث الكلي في الجرح والتعديل لأنه حجة في نفسه، والقرآن الكريم بلا شك ولا ريب هو حجة علي المسلمين، وكذلك السنة النبوية فهي بلا شك ولا ريب حجة علي المسلمين.

ص: 325

أما مسألة الاتفاق والاختلاف في التفاصيل، فإن القدر المتيقن هو الحجة لثبوته بالأدلة القطعية ، . ونحن نري أن هذا الحوار لن يكون حوار طرشان كما وصفه سماحتكم بل حوار مفيد ولا يخلو من ثمرة.

والحمد لله رب العالمين

المفيد بن علي

في انتظار جوابكم

أخوكم الدكتور ابر در

www.room-alghadeer.com/vd

<!--[endif]-->

From: ahmad@alkatib.co.uk

To: abu-thar@hotmail.com

: Subject: Re جواب الأستاذ المفيد بن علي علي الأسئلة..

Date: Sun, 3 Aug 2008 15:29:25 + 0100

السلام عليكم

أخي العزيز أنا أقول لك أنا لا أعتمد علي توثيق أو جرح الأئمة أنفسهم وتقول لي أنك تعتمد علي توثيقات النجاشي وابن الوليد الطوسي وغيرهم من علماء الرجال.

ولذا أعتقد أن الحوار سيكون حوار طرشان إلا بعد العودة للقرآن الكريم والاعتماد عليه، ومناقشة كل ما سواه من أحاديث سواء عند السنة أو الشيعة، ولا تقول لي هذا حديث اتفق عليه السنة والشيعة فإني لا أعتقد بحصول ذلك في مسألة المهدي والاثني عشرية، لأن لكل فريق

ص: 326

مفهومه الخاص، ولا يتفقون في التفاصيل، وحتي إذا اتفقوا علي شيء فلا يفيداتفاقهم حجة شرعية لأنهم قد يتفقون علي باطل أو يأخذ كل واحد من الآخر.

وشكرا والسلام عليكم

- Original Message

From: Abu Thar

To: ahmad@alkatib.com.uk

Sent: Sunday, August 03, 2008 2:37 PM

Subject : جواب الأستاذ المفيد بن علي علي الأسئلة..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الأستاذ أحمد الكاتب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنقل لكم جواب الاستاذ (المفيد بن علي) علي ما سألتم عنه..

نص الجواب..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

إن إثبات وجود الإمام الثاني عشر عليه السلام ، صحيحا في كلا الطريقين المذكورين، ولذلك سنقوم بالتعرض لهما، وذكر الأدلة القطعية عليهما في محلهما، وأما قولك أنه منطق معكوس لا يغني ولا يسمن من جوع، فإنه في غير محله، لأن إثبات صحة وقطعية أحاديث الاثني عشر عليهم السلام عموما يعني إثبات الإمامة القطعية لكل إمام وعليه إمامة الثاني

ص: 327

عشر عليه السلام، فهو داخل في البرهان والحجة والاستدلال. فكما هذه الأحاديث تشمل إمامة الحسن والحسين عليهم السلام كذلك تشمل آخر إمام عليه السلام بالضرورة، وهذا مدعي الشيعة الإمامية أنار الله برهانهم.

أما رأينا في الجرح والتعديل، فنحن نعتمد علي توثيقات الشيخ النجاشي التي ذكرها في كتابه وأسند بعضها إلي العلماء المعتبرين وكذلك الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق وابن الوليد، وتوثيقات الشيخ القمي في تفسيره، ولا نعتمد علي توثيقات كتاب ابن الغضائري وتضعيفاته علي نحو الاستقلال، وكذا لا نعتمد علي توثيقات المتأخرين إلا ما خرج بالدليل المعتبر. وخبر الثقة حجة.

وأما قولك أنك لا تعتمد علي روايات الجعفري لأنه متهم بنظرية الاثنا عشرية، فهذا من العجيب لأن الرجل قد نص العلماء علي وثاقته وعلي جلالة قدره عظم منزلته عند الأئمة عليهم السلام ، ومع ذلك فإن ما ذكرته لا يضر بعد إثبات تواتر هذه الأحاديث الشريفة والتواتر حجة بنفسه.

أما الرسالة المتضمنة علي أسماء الرواة فقد اطلعت عليها كاملة في كتابكم المعنون بنقد أحاديث الاثنا عشرية. وسيكون الرد في محله عند اللقاء بشخصكم الكريم إن شاء الله وتوضيح بعض الأخطاء التي لا نعلم هل وقعت سهوا أم عمدا من جنابكم !!.

والحمد لله رب العالمين

المفيد بن علي في انتظار جوابكم الكريم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم والدكتور أبو ذر

www.room-alghadeer.com\vd.

ص: 328

9- أخي الأستاذ أحمد الكاتب

السلام عليك ورحمة الله تعالي وبركاته

أعتذر علي هذا التأخير. وما أخرني إلا سفري لحضور المؤتمر الدولي الرابع حول النظرية المهدوية بطهران. وها أنا بعد رجوعي سوف أجيبك بما تيسر إن شاء الله. وقبل ذلك لا بد أن أضعك في أجواء فعاليات المؤتمر. لقد شارك في المؤتمر المذكور ضيوف من شتي الحساسيات والمذاهب والملل. كانت قضية المهدي موحدة للمسلمين وغير المسلمين في منطقة التقاطع الإنساني الكبري. الجديد في هذه الجولة من المؤتمر الدولي حول النظرية المهدوية أنها عملت وفق سياسة المحاور واللجان، مما يمنح قدرا من المساهمات التخصصية في المجال والتقدم بالبحث إلي مستويات جديدة وأعمق. كان لي الشرف أن أساهم في إحدي اللجنتين السياسية والحقوقية، بورقة تحت عنوان: دولة الموعود ومآزق الفكر السياسي : الباراديغم المهدوي باعتباره نهاية التاريخ الاجتماع السياسي.

من المؤكد أن الأبحاث اليوم تجاوزت ما نحن فيه الآن من نقاش حول أصل الولادة أو عدمها. لكنني لاحظت أن من بين من لا يري ثبوت الولادة يحمل القلق نفسه والهم ذاته حول مسألة الظهور. حتي أن

ص: 329

بعضهم لم تكن حرارة انتظاره وتطلعه لهذا الغد المشرق أقل مما لدي من رأي ثبوت الولادة من جمهور الإمامية. ما يعني تحديدا أن مسألة المهدي ليست مسألة نافلة أو أنها لا تستحق كل هذا الاهتمام. بل هي علي عكس ذلك تستحق أن تصبح القضية الأولي في ما يشغل مستقبل الأمة بما يمنحه إياها من أمل بمستقبل أفضل وجب التوجه إليه بإيجابية أكبر ووثوق أكبر. فأمة تملك مستقبلا مهدويا الجديرة بالبقاء والشهود والعظمة.

هذا عذري علي التأخير ولكن بقي لي أن أقول عن رسالتك السابقة شيئا :

تري، هل أعتبر هذه النسخة التي تفضلت بإرسالها لي وهي جوابك علي تساءل شخص غيري بمثابة جواب نهائي علي رسالتي الأخيرة؟! إنني تأخرت لعلي أجد منك جوابا علي رسالتي السابقة. لكنك بعثت لي برسالة غير مباشرة واكتفيت بها، حتي يبدوا لي أنك عازم علي إنهاء النقاش بيننا. ماذا كان بودي أن أفعل حتي يستمر النقاش كما أردته أنت أيضا ؟! هل كان من المفترض أن أسلم بكل أحكامك دون نقاش.. أم هل كان المطلوب أن لا أقف عند رأي من آرائك أو ادعاء من ادعاءاتك.. وما كان لرسائلي أن تطول إلا لأنها وقفت عند التفاصيل وتجنبت العموميات. فالعموميات يمكن أن نختصرها في صفحة أو صفحتين كما فعلت معي. ثمة ما أذهلني حقا في ردودك النمطية. والأذهل من ذلك أنك لم تأخذ النقاش بالجدية المفترضة. وفي كل ردودك أنت تتحدث بعبارات مختزلة لا تقدم ولا تؤخر في سير الاحتجاج. فهي نمط واحد وتشبت بالظنون الواهية والاحتمالات الضعيفة المهملة. لكنني لاحظت من خلال المنحني العام للنقاش أن الخط البياني في انحدار شديد، يدرك كل من له معرفة بعلم التواصل

ص: 330

أنك تتقصد إنهاءه بتعمد الإجابات نفسها والإصرار علي المواقف ذاتها. أفهم أنه لم يعد لديك أكثر من أن تحيلني علي إيجابات مختزلة ودردشاة انترنيتية لن تفيد طالب الحق ولن ترضي أهل التحقيق. سأعتبر نقاشي معك في هذه القضية في حكم المنتهي، بعد أن بححت من النداء هل من إجابة شافية علي تساؤلاتي في رسائلي الطولي السابقة لكن دون جدوي، والرجوع دائما إلي درجة الصفر. لذا سأنتظر كتابك حول الإمامة قيد الإنجاز والذي وعدتني بالاطلاع. وسأواصل نقاشي معك انطلاقا منه. ولكن حتي لا تقول أنك أجبتني من خلال در دشاة خفيفات مع سائلك، فسوف أرد عليها حتي لو أصبحت يائسة من ردودك الشافية ، إحقاقا للحق وإخلاصا للحوار:

إنك أجبتني بطريق غير مباشر بما سبق وأجبتني به بطريق مباشر علي رسالة لعلها الأولي. فهل سنظل نراوح المكان حول الأجوبة ذاتها. وهل بمجرد أن تعلن أن موقفك هو الشك في الجميع كافي كبرهان علي صدق مدعاك ؟! |

إنك تتحدث عن الاجتهاد في مورد التوثيق. وحديثك عن الاجتهاد في المقام ليس في محله.. لأن المعول عليه في التوثيق هو الحس لا الحدس والاجتهاد. فلو كانت لك أدلة حسية في المقام فذلك هو المطلوب. ونحن ما قبلنا بشهادات أصحاب الأصول الرجالية إلا لعلمنا بأن طريقهم حسي أو دون ذلك لكن ليس حدسيا، لإدراكنا أنهم انطلقوا في زمانهم من منطلق الوضوح في معرفة الرجال أكثر ممن كان بعيدا عن عصر الرواة بكثير... وإذا كنا لم نقبل حدس واجتهاد القدامي في توثيق الرجال وهم القريبي العهد بزمان الرواة فكيف نقبل منك حدسا واجتهادا في توثيقهم. هذا في المستوي النظري. أما في تطبيقاتك للاجتهاد لم نقف علي ما يدل علي أنك بدلت الوسع واستندت إلي القواعد العقلية

ص: 331

في التوثيق. قصاري ما وجدت أن تشك وتظن وترفع الوثاقة عن هذا لأنه قيل أنه كان مقدما عند السلطان أو لأنك وجدت خبرا آخر يروي أمرا مختلفا وهكذا دواليك. طريقتك واجتهادك هو ظني بالمعني العام لا الخاص. بمعني آخر هو تشكيك في تشكيك.

إن ابن الغضائري قد يضعف شخصا وهو موثق عند النجاشي والطوسي كما ذكرت أي نعم. وهذا محلول في نظر أهل الدراية من حيث حددوا الراجح من شهادة النجاشي والشيخ متي خالفت ابن الغضائري. بل إن رجال ابن الغضائري ليس من الأصول الرجالية عندنا . الأسباب تتعلق بعدم قطعيةصدور شهادته عن حس. فالمعول عليه الأصول الرجالية وليس ما انفرد به ابن الغضائري حتي لو خالف فيه الشيخ.

إنك تتحدث عن إشكالية التوثيق كما لو أن الأمر لم يطرح من قبل وكما لو أن أهل الدراية والرجاليين لم يبدو من ذلك ما أبدوه من مواقف بدلوا علي إثرها جهودا جبارة في سبيل تحقيقها. إنك تقوم بمعالجة غير مسؤولة ولا منتجة لإشكالية التوثيق. فمفاد كلامك أننا لن نخرج من حدود الشك. لأنك لم تملك يقينا علي صدق مدعاك. وهذا ما سبق وسميته ردا عليك : من الشك إلي الشك. أنت تدعوا إلي الشك في القدامي والمتأخرين. وبهذا لن يبق من أمر النقول شيئا. لا تقل إن هذا سيجعل كل رواية وكل كتاب مشكوك في وثاقته فقط في جهة الأخبار الشيعية، بل هذا الأمر لو طبق علي الأخبار السنية سينتهي بها أيضا إلي المال نفسه. وذلك لأن طرق إثبات الوثاقة بما أنها علي مبني العقلاء هي واحدة بين الفريقين. وحينما يكون احتمال الوثاقة معارضا لاحتمال الشك في الوثاقة فما علينا إلي اتباع طريق العقلاء الذي لا رادع عنه في الشرع المقدس، وهو ترجيح احتمال التوثيق علي الشك، وعدم المخالفة

ص: 332

إلا بدليل. إن شكك هنا ليس منهجيا، لأنه يؤدي إلي انسداد عدمي لا مخرج منه إطلاقا. إنك شككت في الرواة ولما حققنا معك الأمر قفزت للتشكيك في وثاقة الموثقين ثم لما عالجنا معك الأمر قفزت للتشكيك في حجية قول الأئمة أنفسهم... لكن عليك أخي أحمد أن تدرك بأن تشكيكك في المهدي ما كان له ليتم إلا بإحداث زلزال يأتي علي اليابس والأخضر. أي حتي تسند شكك حول ولادة المهدي، ذهبت إلي حد التشكيك في الرجاليين والرواة والأئمة الاثني عشر وكل المباني والمسلمات وبناء العقلاء. فالقضية إذن ليست بالسهولة التي تشك فيها دون أن يجرك ذلك الشك إلي حيرة عظمي تجعلك تشك في كل شيء وبطبيعة الحال لن تنتهي إلي يقين.

لقد قلت لمسائلك : «نعم إن المشكلة في التوثيق، وصحيح إني اعتمدت علي تضعيفات ابن الغضائري، ولكن من الطبيعي أيضا أن لا أعتمد علي كل توثيقاته أو توثيقات الآخرين من الطائفة فيما يخدم فكر الطائفة، وذلك لأنه رغم النقد والتجريح تسرب الكثير من الغلاة والمنحرفين من توثيقات الموثقين».

وهذا كلام إنشائي لا يشفي غليل المحققين. لأننا لا نعلم علي أي دعامة منهجية تعتمد علي تضعيفات ابن الغضائري وفي نفس الوقت لا تعتمد علي تضعيفاته؟! فأنت تري أنه رغم النقد تسرب الكثير من الغلاة والمنحرفين من تلك التوثيقات. والحق أنك سلكت منهجا خاطئا قوامه أنك سترفض أي رواية وستشكك في وثاقة أي راوي في طريق يثبت حقيقة من حقائق الإمامة لأنها رفضتها قبلا ثم بدأت بأثر رجعي تشطب علي كل ما لا يوافق رأيك المسبق. وهذا طريق معروف ويمكن بواسطته أن نقع في حكاية اللاأدرية واستحالة العلم. إلا أن الاستثناء في طريقتك أنه بعد أن تراكم شكوكك في نقد الرأي الآخر تعود فتتبني بواقي رأيك

ص: 333

بيقين طفولي لا يهزه شك ولا يرده دليل. فأنت تقول: «فإن الجميع مثلا يجلون ويحترمون ويوثقون النواب الأربعة وهؤلاء عندي دجالون، وكذلك آخرون مثل أبو هاشم الجعفري، ولكن مشايخ الطائفة يقلدون من سبقهم في التوثيق مثلما يقلدون علي بن إبراهيم في توثيقاته لمن نقل عنهم مع انه هو شخصيا وآخرين من أساتذته كانوا غلاة ولا أستطيع أن أثق بهم ولا بتوثيقاتهم».

القضية هي أنك تشك فيهم ولا تستطيع أن تثق فيهم. أين اليقين وأين الدليل في كل هذا الشك اللانهائي.. وكيف تتهم ثقات عرفوا في زمانهم وعرفهم علماء وعامة الشيعة، بأنهم دجالون دون أي دليل يطمئن العقل ولا حس أخلاقي لايسيئ إلي ما هو محل اعتقاد وتقديس عند الآخرين. كيف تتهم السفراء الأربعة بهذا الوصف إلا أن تكون خصيما لا يؤمن بأخلاقيات الحوار.

إن حكايتك أشبه بحكاية من علم إجمالا أن لصا في بيته، فما كان له إلا أن يشك في كل أهل الدار وبدل أن يتحقق من اللص شك في الجميع. إن تسرب غير الثقات مما حصل عند السنة أيضا. بل في كل ما هو منقول عند عموم العقلاء. فكلامك يجعل الشك يطال كل من تم توثيقه.

وفيما ذكرت في جوابك الأخير، نجد كلاما لا معني له. بل هو يؤسس لشكل آخر من الحيرة. ألا في الحيرة وقعت يا أخي أحمد. لأنك الآن تناقش في توثيقات الأئمة أنفسهم لأصحابهم. وهذا لو علمناه منك قبلا لما دخلنا في هذا التفصيل الذي أدخلتنا فيه حتي إذا ظهر أنك لن تخرج منه أتيت بها من الأخير لايقاف أي نقاش تفصيلي كنت أنت من ابتدأه لما تحدثت عن الوثاقة واستندت إلي شهادات الرجاليين في تجريح

ص: 334

الرواة. وإذن كان بإمكانك أن تتحدث في الإمامة قبل حديثك عن أي شيء آخر. فها أنت بنفسك تفرض أن يكون بدأ النقاش في الإمامة بعد أن كنت تصر علي أن البدأ من ولادة المهدي. أرأيت أن ابتداؤك التشكيك في ولادة المهدي جعل كل الحقائق تواجهك إلا أن تهرب منها بتصعيد التشكيك إلي كل شيء. ولذا لا زلت أقول لو أنك صعدت شكك هذا وطبقته علي كل مفردات أصول الاعتقاد لآل بك إلي المال نفسه. تذكر أخي أحمد أنني قلت لك هذا الكلام قبل كل نقاشاتك الانترنيتية، من خلال كتاب: «من الشك إلي الشك». وثق بي أنني في مناقشتي الجديدة كنت أريد التراجع عن حكم ما جاء في الكتاب المذكور. لكنني الآن وثقت بأن ما كنت ذكرته لك هناك أصبح واضحا تماما. فهي رحلة من الشك إلي الشك. والناس في عالمنا ليسوا مستعدين الترك يقينهم لصالح شك لا يهتدي إلي اليقين. فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه. وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. أسأل الله لك العافية والتوفيق إلي الأوب والهداية.

ودمت سالما

أخوك إدريس هاني

28 أغسطس 2008

الرباط - المغرب

انتهي

ص: 335

ص: 336

ملاحظة أخيرة بمثابة ختام

لم يجبني الأخ أحمد الكاتب علي رسالتي وقد بدا لي الأمر واضحة في الجولات الأولي لهذا الحوار. لقد حاول صرفي من خلال تيئيسي بأجوبته المكرورة والمختصرة. وحينما أدرك أنني أجيبه حتي علي هذا الاختزال فضل أن لا يرد. لقد تركني في منتصف الطريق ومن دون أن نتفق معا كمتحاورين علي إنهاء النقاش. أشكره علي أدبه في النقاش لكنني لا أتفق معهفي المضمون وفي طريقة إنهاء الحوار. ولكنني لم أجد حتي الآن جوابات مقنعة. فها أنذا أضع الكرة في مرماه. ولا زلت مستعدا لمواصلة جولات من النقاش معه إن أراد ذلك. بشرط أخلاقيات الحوار وموضوعيته.

ص: 337

ص: 338

الفهرس

ص: 339

ص: 340

الإمام المهدي : حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟ ...5

حوار غير مكتمل مع أحمد الكاتب ...5

الفصل الأول : التعقيبات ....19

1- مع السيد إدريس الحسيني في كتابه (من الشك إلي الشك) ... 21

الخلط بين النبوة والإمامة، والفصل بين الإمامة والخلافة (أحمد الكاتب) ....21

2- تعقيب علي التعقيب ...37

أحمد الكاتب يعيد إخراج الفهم الظاهري للإمامة (إدريس هاني) ...37

الفصل الثاني : المناظرة ...91

1- الأخ العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله ...93

2- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب، ...97

3- الأخ الكريم الأستاذ إدريس هاني حفظه الله ...105

4. الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب ...111

كلام في رد دعوي الاكتفاء بالقرآن والعقل ...122

الدليل علي تميزهم بالفضل والعلم والشأنية ...129

فضلهم وشأنيتهم في القرآن ...134

ص: 341

فضلهم وشأنيتهم في السنة ....160

فضلهم وشانيتهم في التراجم والسير ....180

الإمام زين العابدين (الإمام الرابع) ....183

محمد بن علي الباقر (الإمام الخامس) ....189

الإمام جعفر بن محمد الصادق (الإمام السادس) ....190

الإمام موسي بن جعفر الكاظم (الإمام السابع) ...193

الإمام علي بن موسي الرضا (الإمام الثامن) ....193

الإمام علي بن موسي الجواد (الإمام التاسع) ....196

الإمام علي بن محمد الهادي (الإمام العاشر) ...198

الإمام الحسن بن علي العسكري (الإمام الحادي عشر) ... 199

الإمام محمد بن الحسن القائم الحجة (عج) (الإمام الثاني عشر)...199

في رد الادعاء بانتفاء الدليل علي الإمامة ....203

في رد دعوي أن المهدي فرضية فلسفية...206

في رد تمييعك لمفهوم المهدي، والحق أنه يستحق التهويل الا التهوين.... 212

في إثبات أن المهدي هو محمد بن الحسن ...229

أولا : اعتراف بعض المخالفين بولادة الحجة بن الحسن ... 235

ثانيا : شهادة السابة العرب ...237

في رد التذرع بأن الاختلاف في التعيين دليل عدم الثبوت ...240

ختاما ...248

5- أخي العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله ... 251

ص: 342

6- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب ....255

7- الأخ العزيز الأستاذ إدريس هاني حفظه الله ...275

8- الأخ الكريم الأستاذ أحمد الكاتب ...277

من هو أبو هاشم الجعفري؟ وهل هو ثقة؟ ...307

مزاعم تحتاج إلي رد ....314

8- رسالة غير مباشرة ...329

9- أخي الأستاذ أحمد الكاتب ...329

ملاحظة أخيرة بمثابة ختام...337

الفهرس ...339

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.