سد المفر علي القائل بالقدر: دراسة تحليليّة حول بحث الإرادة والطلب، و نقد مقالة الجبر و التفويض، و إثبات الأمر بين الأمرين

اشارة

سرشناسه:علم الهدي، محمّدباقر، 1331 - 1389ش.

عنوان و نام پديدآور:سد المفر علي القائل بالقدر: دراسة تحليليّة حول بحث الإرادة والطلب، و نقد مقالة الجبر و التفويض، و إثبات الأمر بين الأمرين/ محاضرات محمّدباقر علم الهدي؛ سيدعلي الرضوي،

أمير الفخاري، حسن الكاشاني

مشخصات نشر:مشهد: انتشارات ولايت، 1395.

مشخصات ظاهري: 736ص.

شابك: ISBN: 978-600-96944-2-6

وضعيت فهرست نويسي: فيپا.

يادداشت: عربي.

يادداشت: چاپ قبلي: تهران: منير، 1387.

يادداشت: كتابنامه بصورت زيرنويس.

يادداشت:نمايه.

موضوع:جبر و اختيار

موضوع:قضا و قدر

موضوع:شيعه - عقايد.

شناسۀ افزوده: رضوي، علي؛ فخاري، امير؛ كاشاني، حسن.

رده بندي كنگره: 1394 4س 8ع/ BP 219/5

رده بندي ديويي: 297/465

شمارۀ كتابشناسي: 4134011 383428

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي عَلِيِّ بْنِ مُوسَي الرِّضَا الْمُرْتَضَي

الْإِمَامِ التَّقِيِّ النَّقِيِ وَ حُجَّتِكَ عَلَي مَنْ فَوْقَ الْأَرْضِ وَ مَنْ تَحْتَ الثَّرَي الصِّدِّيقِ الشَّهِيدِ

صَلاَةً كَثِيرَةً تَامَّةً زَاكِيَةً مُتَوَاصِلَةً مُتَوَاتِرَةً مُتَرَادِفَةً كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيْتَ عَلَي أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ

ص: 3

محاضرات العلّامّة آية اللّه الشيخ محمّدباقر علم الهدي(قدس سره)

سد المفر علي القائل بالقدر

دراسة تحليليّة حول بحث الإرادة والطلب،

ونقد مقالة الجبر والتفويض، وإثبات الأمر بين الأمرين

علي الرضوي - أمير الفخاري

حسن الكاشاني

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اُدعُ إلي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَ ال-مَوعِظَةِ ال-حَسَنَة﴾

يُعدّ العلم والمعرفة أفضل وأكبر النِّعم الإلهيّة المهداة لعباد اللّه الصالحين لأنّه بالعلم يُعينهم اللّه علي عبوديّته وبه يخضعون له.

والعلماء الربّانيّون والعرفاء الإلهيّون هم من يستضيئون بهدي الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) ولا يشعرونبالتَّعب أو الملل أبداً في سلوك هذا الطريق. طريق العلم والعمل، ويتجنّبون الطُرُق الأُخري التي لا تنتهي بهم إلي نيل معارف الأئمّة(عليهم السلام).

تهدف هذه المؤسّسة -- التي تأسّست بدافع إحياء آثار هذه الثلَّة المخلصة التي تحمّلت علي عاتقها مهمّة الدفاع عن المعارف الوحيانيّة والعلوم الإلهيّة الأصيلة -- إلي نشر هذا الفكر عبر الوسائل العصريّة المتاحة ومن اللّه التوفيق.

info@alemalmohammad.com

ص: 5

«اللَّهُمَ كُنْ لِوَلِيكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِياً وَ حَافِظاً وَ قَائِداً وَ نَاصِراً وَ دَلِيلًا وَ عَيناً حَتَّي تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَ تُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلًا»

ص: 6

االفهرس

مقدّمة الطبعة الثانية 29

امتيازات هذه الطبعة 33

كلمة الأستاذ 35

المدخل/43

الكلام يقع في خمسة أبواب 45

الباب الأوّل: الطلب والإرادة/47

الفصل الأوّل: في تغاير الطلب والإرادة/49

تمهيد: أهميّة البحث في الطلب والإرادة 51

المرحلة الأولي:في مناقشة ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ النزاع يعود لفظيّاً (قدس سره) 53

النزاع لفظيّ أو حقيقيّ في الطلب والإرادة؟ 53

تاريخ النزاع 53الأمر الأوّل: النزاع في حدوث القرآن وقدمه 53

صفات الذات والفعل 53

النزاع في الكلام النفسيّ منشأ للنزاع في الطلب والإرادة 55

الأمر الثاني: أفعال العباد 56

ص: 7

توضيح مقالة الأشاعرة 57

المرحلة الثانية: في إقامة الدليل علي تغاير الطلب والإرادة 57

الإرادة والطلب في اللغة 58

الإرادة والطلب في الاصطلاح 58

عدم اتّحاد الإرادة الإنشائيّة مع الطلب الإنشائيّ 59

زبدة القول في تغاير الطلب والإرادة 61

الفصل الثاني: نقد أدلّة الأشاعرة علي الكلام النفسيّ/65

الوجه الأوّل: الأخبار مع عدم العلم 67

الوجه الثاني: الأوامر الامتحانيّة 70

خلط المعني الاصطلاحيّ للإرادة بالمعني اللغويّ 71

وقوع البداء في ذبح إسماعيل 73

الوجه الثالث: إطلاق الكلام علي ما في النفس 73

حاكميّة العرف في تشخيص المفاهيم 74

الوجه الرابع: «وأسرّوا قولكم أو اجهروا به» 74

الوجه الخامس: «إن تبدوا ما في أنفسكم...» 75

الوجه السادس: «ولا تقف ما ليس لك به علم» 75

الوجه السابع: صفة التكلّم في اللّه تعالي 75

تقسيم كمالات اللّه إلي الذاتيّة والفعليّة 76

أدلّة كون التكلّم من صفات الفعل 77

زبدة القول في صفة التكلم 78

النتيجة 79

الوجه الثامن: تكليف الكفّار بالفروع مع عدم الإرادة في حقّهم 80

ص: 8

جواب الآخوند: الإرادة التشريعيّة موجودة دون التكوينيّة 81

تحقيق الجواب 81

ملحوظة 82الباب الثاني: الكلام حول إرادة اللّه تعالي/83

الفصل الأوّل: معني إرادته تعالي/85

إرادته تعالي فعله 87

مذهب الفلاسفة 87

مناقشة مذهب الفلاسفة في الإرادة 88

موقف أهل البيت(عليهم السلام) في إرادة اللّه وإصرارهم علي حدوثها 89

ميزة الكمالات الذاتيّة عن صفات الفعل وحدوث الإرادة 98

منشأ توهّم رجوع الإرادة إلي العلم والذات عند الفلاسفة 99

تزييف منشأ الشبهة 101

إيقاظ: لوازم كون الإرادة من صفات الذات 103

منها: تعدّد القدماء 103

ومنها: لزوم السنخيّة أو الشرك 104

ومنها: القول بالجبر 105

ومنها: تحديد علمه تعالي وقدرته 105

ومنها: إنكار قدرة اللّه وأنّه مجبور في أفعاله 105

ومنها: إنكار علم اللّه وقدرته وبما لم يرد 106

ومنها: إنكار البداء 106

تنبيه 106

الفرق بين المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء والإمضاء 107

ص: 9

الفصل الثاني: تقسيم إرادته تعالي بحسب الاصطلاح/111

الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة 113

الأقوال في الإرادة التشريعية 113

تحقيق المطلب 114

الأقوال في تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة 115

مقتضي التحقيق في تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة 117

الغرض من جعل الأحكام للعصاة 119

والجواب:

وثانياً: إتمام الحجّة 119وثالثاً: للّه البداء 119

حصيلة البحث في تقسيم إرادة اللّه 120

الفصل الثالث: تقسيم إرادته تعالي بحسب الروايات/123

إرادة حتم وإرادة عزم 125

لزوم التحرّز عن المعاني الاصطلاحية في فهم الروايات 125

ذكر الأخبار في تقسيم الإرادة 125

والمتحصّل من الروايات أمور 127

الأوّل: مشيّة الباري وأفعال العباد 127

الثاني: تقسيم الإرادة إلي إرادة الحتم وإرادة العزم 129

تنبيه: معني تعلّق إرادة اللّه بالأفعال الاختياريّة 131

معني تعلّق مشيّته تعالي بالمعصية وعدم حبّه لها 131

الباب الثالث: نظريّة الجبر ونقدها/137

المدخل: بحوث تمهيديّة/139

1. تحرير محلّ النزاع 142

ص: 10

الإرادة من دون العلم والقدرة ليست إرادة حقيقة 144

نقد رأي الملّاصدرا في معني القدرة والاختيار 144

حسم مادّة الشبهة 145

ملاحظات في كلام ملّاصدرا 146

الإرادة بين الإمكان والوجوب 146

حصول الخلط بين القدرة والإرادة 149

علمه تعالي بأفعال العباد 150

اجتماع القدرة والإلجاء معاً عند الملّاصدرا 151

امتناع اللامشيّة من القادر المريد عند الملّاصدرا 152

تفسير مشيّة اللّه بضرورة صدور الفعل منه تعالي والمناقشة فيه 154

نهاية التحصيل في مدرسة الحكمة المتعالية هو الاضطرار في الاختيار 155

التمايز بين المكرَه والمجبور 1582. تنبيهات في بداهة الاختيار 160

الأوّل: إسناد الأفعال 161

الثاني: الأوامر والنواهي 161

الثالث: وضع القوانين 161

الرابع: مؤاخذة المجرمين 162

الخامس: التحيّر والمشورة 162

السادس: تهذيب الأخلاق 162

3. مفاسد تترتّب علي القول بالجبر 163

منها: إنكار الحسن والقبح 163

ومنها: لغويّة التكاليف 163

ص: 11

ومنها: نسبة الظلم إلي اللّه تعالي 165

ومنها: مخالفة ضرورة الأديان الإلهيّة 165

4. منشأ شيوع مسلك الجبر 170

الأوّل: خلفاء الجور 170

الثاني: الغفلة 173

الثالث: الخذلان الإلهيّ 174

5. منشأ الوقوع في شبهة الجبر 176

الأوّل: القول بوحدة الوجود وكون فاعليّته تعالي بالتطورّ 176

الثاني: عدم فهم حقيقة القدرة 177

الفصل الأوّل: الوجوه النظريّة لمسلك الجبر ونقدها/179

تمهيد: 181

الوجه الأوّل: قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» 181

تقريبان للشبهة والجواب عنهما 183

التقريب الأوّل: استحالة الترجيح من دون مرجّح 183

الجواب: عدم انحصار المرجّح في العلّة الموجبة 183

استناد مرجّحيّة القدرة إلي غيرها خلف 185

الأحكام العقلية بين التخصيص والتخصّص 186

التقريب الثاني: احتياج الممكن إلي العلّة الموجبة والمناقشة فيه 187

إجابات غير مجدية 188الوجوب الناشي من الاختيار لا ينافي الاختيار 189

و يرد عليه أمور: 189

الأوّل: تقابل القدرة والوجوب 189

ص: 12

الثاني: الإرادة ليست علّة تامّة لصدور الفعل 190

النقض بكلام المحقق الآخوند 190

الثالث: أول الجواب إلي الالتزام بالجبر 192

إيقاظ: مفاسد الالتزام بنظام العلّيّة في جميع الأشياء 193

إنكار قدرة اللّه 193

منها: القول بالقدم 195

ومنها: القول بالسنخيّة 195

ومنها: القول بالترشح 195

الوجه الثاني: «انتهاء الممكنات إلي إرادة اللّه تبارك وتعالي» 196

الجواب: كيفية تعلّق إرادة الباري بأفعال العباد 196

محذور تعلّق إرادته تعالي الحتميّة بإرادة العبد 197

زبدة القول في انتهاء إرادة العبد إلي إرادة اللّه 199

الوجه الثالث: «التوحيد الأفعاليّ» 202

الجواب: نظريّات ثلاثة في التأثير والتأثّر 202

1. نظريّة الأشاعرة 202

2. نظريّة الفلاسفة 203

ردود علي النظريّتين 204

3. مذهب أهل البيت(عليهم السلام) 205

المستفاد من الأخبار في نظام التأثير والتأثّر 208

بطلان القول بالإستعدادات الذاتيّة 209

خلقة جميع الأشياء من الماء 210

نظام الأسباب والمسببات والفواعل الإراديّة ليس بخارج عن إرادته تعالي وسلطانه 211

ص: 13

حيثيّات فقر المؤثّر والفاعل إلي اللّه تعالي 212

زبدة المقال في التوحيد الأفعاليّ 213

الفرق بين ما به الوجود وما منه الوجود 214الوجه الرابع: الإرادة ليست إراديّة 216

الجواب: منها: القدرة مناط الاختيار دون الإرادة 216

ومنها: ليست الإرادة علّة تامّة للمراد 216

منها: عدم انحصار نظام التأثيرات في العلل الجبريّة 217

أوّلاً: الإرادة فعل للنفس وليست صفة لها 217

وثانيا: انتهاء الإرادة إلي العلم والقدرة 218

محاولات غير مجدية للإجابة 220

الوجه الأوّل: اراديّة الإرادة ذاتيّة 221

الخلط بين الحيثيّة التعليليّة والتقييديّة 221

الوجه الثاني: صدق الشرطية متوقّف علي صدق الملازمة دون المتلازمين 222

تناقض الضرورة والإرادة 223

الوجه الثالث: اختيارية بعض مقدّمات الإرادة 223

المناقشة فيه 224

الوجه الرابع: انتهاء الإرادة إلي ذاتيّات الإنسان 224

توضيح كلام الآخوند 226

ملاحظات علي كلام الآخوند 226

كيف اجتمع الجبر والاختيار؟ 226

خروج الذاتيّات عن سلطان العبد 228

لا معني للسعادة والشقاوة الذاتيّتين 228

ص: 14

لوازم فاسدة مترتبة علي المبني 229

زبدة المقال في نقد كلام الآخوند 231

الوجه الخامس: وجود الدواعي وإستحالة الترجيح من دون المرجّح 232

الجواب: هيمنة القدرة علي جميع الدواعي وهي المرجّحة للفعل أو الترك 232

عدم استحالة الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة 234

جواب الفلاسفة والمناقشة فيه 235

الوجه السادس: الخُلقيّات وتأثيرها في الإرادة 237

الجواب: الأمر الأوّل: القدرة مناط التكليف لا الأخلاق 238الأمر الثاني: إمكان تبديل الخُلق والطينة 240

الوجه السابع: الاستعدادات الذاتيّة 241

يرد علي هذه الأوهام أمور: 244

الأوّل: الاستعدادات الذاتيّة لا تسلب القدرة والاختيار 244

الثاني: الدواعي ليست علل قهريّة 244

الثالث: عدم مدخليّة العبد في خلق الاستعداد الذاتيّ له 245

الرابع: معصية العصاة ليست تحديداً لسلطنته تعالي 246

الخامس: تقابل الجبر والاختيار 247

السادس: تأويلات باطلة في الآيات 248

السابع: جهنمّ محلّ عذاب وليس للراحة 251

الثامن: جهنّم له حقيقة خارجيّة وليس توهّم البُعد 255

التاسع: قرب اللّه للعاصي لا يعني رضاه عنه 257

الوجه الثامن: علم الباري تعالي بأفعال العباد 260

علمه تعالي بصدور الفعل من العبد 260

علمه تعالي علّة لأفعال العباد 260

ص: 15

الجواب: أمّا عن التقريب الأوّل: 260

تعلّق علمه تعالي بصدور الفعل عن اختيار وليس عن جبر 260

العلم كاشف للواقع وليس صانع له 261

الفرق بين العلم المحمول والمكفوف 261

وأمّا الجواب عن التقريب الثاني: 265

تذكرة: في علمه تعالي 265

الوجه التاسع: لزوم العلم بالفعل ليكون إراديّاً 268

الجواب: حصول الخلط بين القدرة والإرادة 268

الوجه العاشر: قدرة اللّه المطلقة 269

الجواب: كشف المغالطة بالفرق بين القدرة وإعمال القدرة 269

الفصل الثاني في بيان ما تشبّث به المجبّرة من الأدلّة النقليّة/271عدم صحة الاستدلال بالأدلّة النقليّة للجبر 273

الأخبار الصريحة في نفي الجبر 273

طوائف أخري دالّة علي نفي الجبر 280

الوجه الأوّل: «وما رميت إذ رميت» 283

الجواب: خصوصيّة الرمي والقتل في معركة بدر 283

الفرق بين الحسنات والسيئات 285

الوجه الثاني: «الآيات الدالّة علي إسناد هداية العبد وإضلاله إلي اللّه» 286

الجواب:

المعني الأوّل: إرائة الطريق 287

المعني الثاني: التوفيق والخذلان 291

ص: 16

المعني الثالث: الإيصال إلي الجنّة والنار 292

تقرير آخر للجواب: 293

الهداية والمعرفة صنع اللّه جلّ جلاله 293

شرائط الاهتداء 294

الإضلال يكون عقوبة دائماً 296

الإضلال بمعني الخذلان 299

الإضلال بمعني الإهلاك 300

المعني الرابع: القدرة علي الهداية والاضلال 301

المعني الخامس: الإسناد إلي غير ما هو له 304

زبدة الكلام في هداية اللّه وإضلاله 304

الوجه الثالث: «آيات المشيّة» 306

الجواب من وجوه: 306

الوجه الأوّل: بين عدم المشيّة للعباد وبين المشيّة باللّه 306

والمتحصّل أنّ في الآية احتمالات ثلاثة: 307

الوجه الثاني: نفي مشيّة العباد في الهداية والمعرفة 311

الوجه الثالث: مشيّة أهل البيت(عليهم السلام) تابعة لمشيّة اللّه 312

الوجه الرابع: «آيات الخلقة» 314

والجواب عنها من وجوه: 314

الوجه الأوّل: الانصراف إلي المكوّنات دون الأفعال 314الوجه الثاني: تخصيصها بالأفعال الاختياريّة 315

الوجه الثالث: خلق مقدّمات الإرادة 316

الوجه الرابع: خلق التقدير 317

ص: 17

الوجه الخامس: «الآيات التي تفيد حتميّة دخول النار لبعض وعدم نجاتهم» 320

الجواب: العبد يحتم علي نفسه دخول النار بأفعاله الاختياريّة 320

الوجه السادس: «واللّه خلقكم وما تعملون» 324

والجواب: أوّلاً: «ما» مصدريّة أو موصولة 324

ثانياً: خلق التقدير 325

ثالثاً: التشابه 325

الوجه السابع: إسناد الحسنات والسيّئات إليه تعالي 326

والجواب: الحسنة والسيّئة بمعني النعمة والبلاء وليس الطاعة والمعصية 326

دفع إشكال التدافع بين الآيتين 327

الوجه الثامن: «أخبار الطينة» 329

الجواب: نظرة اجماليّة لأخبار الطينة 329

ذكر بعض أخبار الطينة 332

المحصّل من الأخبار 335

الأوّل: بدء الكائنات من الماء وعروض صفة العلّيّين والسجّين 335

الثاني: اختلاط الطينتين 335

الثالث: نوعيّة الطينة رهن الإيمان والكفر الاختياريّ 336

الرابع: بقاء القدرة علي مخالفة مقتضي الطينة 337

الخامس: إمكان تغيير الطينة 338

الوجه التاسع: الشقيّ شقيّ في بطن أمّه والناس معادن 350

الجواب: حديث: الشقيّ من شقي في بطن أمّه 350

الأوّل: علمه تعالي بمآل العبد من الشقاوة والسعادة 350

الثاني: استثناء البداء ينفي حتميّة الشقاء 352

ص: 18

الثالث: تأثير الأعمال الاختياريّة في العوالم السابقة 353

الرابع: الخلقة الظاهريّة 353

حديث: الناس معادن 353

أحدها: التقسيم من جهة الإيمان والكفر 353

ثانيها: التقسيم من جهة اختلاف استعداد الإنسان 354

ثالثها: التقسيم بلحاظ حياتهم الدنيويّة 354

رابعها: التقسيم بلحاظ شرافة النسب 355

إشكالية اختلاف الإنسان في القابليّات وحلّها 355

الوجه العاشر: ما دلّ علي إناطة جميع الأشياء بمشيّة اللّه 359

والجواب: أفعال العباد لا تخرج عن حدود سلطان اللّه 360

الإذن غير الرضا 362

أحاديث تبين كيفيّة إناطة الأفعال بمشيّة اللّه 364

سلب القدرة ينافي التفضّل 367

زبدة الكلام في إناطة أفعال العباد بمشيّة اللّه 368

الباب الرابع: نظريّة التفويض ونقدها/373

معني التفويض 375

ابطال مقالة التفويض 377

الدليل العقليّ علي بطلان التفويض 377

الدليل النقليّ علي بطلان التفويض 380

تقارير أخري لنفي التفويض 383

الأوّل: نفي التفويض علي مبني العلّيّة 383

الثاني والثالث: نفي الجبر والتفويض باختلاف المتعلّق 384

ص: 19

نفي التفويض في التشريع 386

شبهات في التفويض 389

الشبهة الأولي: استغناء المعلول عن العلّة بقاءاً 389

الجواب: الشبهة الثانية: استناد الأفعال إلي إرادة العباد 389

الجواب: تبيين لما نسبه الفيض إلي الخواجة 391

تفويض أمر الخلق والرزق إلي أولياء اللّه تعالي 391ثبوت الولاية المطلقة الإلهيّة للنبيّ وأهل بيته: 393

قلوب الأئمّة(عليهم السلام) أوعية لمشيّة اللّه تعالي 394

كلام الشيخ المرواريد(رحمه الله) في التفويض إلي الأئمّة(عليهم السلام) 398

أدّبه علي أدبه ثمّ فوّض إليه أمر دينه 399

كلام العلّامة المجلسيّ في تفويض أمر الدين 403

الباب الخامس: نظريّة الأمر بين الأمرين/407

الفصل الأوّل: «تحليل الأمر بين الأمرين»/409

معجزة أهل البيت(عليهم السلام) في بيان الأمر بين الأمرين 411

تنبيهات إلي حقيقة الأمر بين الأمرين 411

بيان السيّد الخوئيّ(رحمه الله) للأمر بين الأمرين 414

كلام الميرزا مهديّ الأصفهانيّ(رحمه الله) في الأمر بين الأمرين 416

الفصل الثاني: التوفيق والخذلان/419

النقطة الأولي: في معني التوفيق والخذلان 421

النقطة الثانية: إنّ الخذلان لا يكون إلّا مسبوقاً بالاختيار دون التوفيق 425

النقطة الثالثة: الهداية العامّة الحاصلة للجميع 426

النقطة الرابعة: ازدياد التوفيقات جزاء للإيمان والعمل الصالح 429

ص: 20

النقطة الخامسة: الخذلان، وسلب التوفيقات عقوبة علي كفرانها 430

النقطة السادسة: لا طاعة إلّا بالتوفيق ولا عصيان إلّا بالخذلان 434

النقطة السابعة: بقاء سلطنة الإنسان بعد التوفيق والخذلان 439

النقطة الثامنة: حقائق تتّضح 440

معني طلب الأفعال الاختياريّة أو تركها من اللّه 440

سرّ التأكيد علي أن لا يوكل الإنسان إلي نفسه طرفة عين 441

كون المؤمن بين الخوف والرجاء 444معني قوله: أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي 445

معني القضاء والقدر والمشيّة للأفعال الاختياريّة 446

الفصل الثالث: الأخبار في

الضوابط العامة للأمر بين الأمرين 451

الاستطاعة المتقدّمة علي الفعل 454

حدود الاستطاعة 455

لا استطاعة إلّا بالتوفيق 458

لا اختيار إلّا بعد إقدار اللّه ومعونته 458

رسالة الإمام الهادي(عليه السلام) في بيان الأمر بين الأمرين 461

محصَل الأخبار 469

تنبيه في وجه النهي عن الخوض في القدر 470

الفصل الرابع: توضيح للحديث القدسيّ «يابن آدم! أنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّئاتك منّي»/473

ذكر الأحاديث 475

ص: 21

وجهان في معني الحديث 479

الوجه الأوّل: الأولويّة الحقيقيّة 479

تهيئة أسباب الحسنات والسيّئات مع الترغيب في الأوّل والتحذير عن الثاني 479

نبذة من توفيقاته تعالي العبد لارتكاب الحسنات وترك السيّئات 479

حكمة وجود الشهوات والشيطان 483

زبدة القول في معني الحديث 485

الوجه الثاني: الأولوية التقديرية 486

ما عشت أراك الدهر عجبا! 492

الفصل الخامس: الأمر بين الأمرين حقيقة واسعة/499

النقطة الأولي: مراحل اختيار الإنسان 502

المرحلة الأولي: القدرة علي الأفعال الجوارحيّة 503

المرحلة الثانية: القدرة علي الأفعال الجوانحيّة 503

المرحلة الثالثة: القدرة علي الصفات والخلقيات 504المرحلة الرابعة: القدرة في الاستضائة من الأنوار الالهيّة 505

المرحلة الخامسة: القدرة علي اشتداد الإرادة وازدياد القدرة أو نقصانها 508

النقطة الثانية: تأثير إرادة الإنسان في الأنظمة الكونيّة 508

النقطة الثالثة: عدم اختصاص مالكيّة القدرة بالإنسان 513

الفصل السادس:

أحدها: الفرق بين العرض اللازم والمفارق 519

ما ذكره مردود لوجهين: 521

ثانيها: الفرق بين العلّة التامّة والعلّة الناقصة 522

المناقشة في ذلك 522

ص: 22

ثالثها: بيان صاحب الميزان والمناقشة فيه 524

وتسجل جملة من الملاحظات علي هذا الكلام 527

ثالثها: الجبر علي الاختيار 531

رابعها: تفسير الأمر بين الأمرين علي مبني وحدة الوجود 533

محصّل كلام الأسفار 536

ويرد علي هذه المقالة -- مع الغضّ عن بطلان مبني وحدة الوجود -- أمور: 539

الأوّل: عموم قدرة اللّه تعالي 539

الثاني: خروج عن محلّ النزاع 539

الثالث: لا يخلو إسناد الفعل إلي فاعلين من وجوه: 541

الرابع: الخلط بين الفاعل الحقيقيّ والمجازيّ 542

الخامس: انتفاء موضوع الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين 542

السادس: بيان الوحي في حقيقة الخير والشرّ 543

السابع: خلط الاصطلاح في تفسير الشرور بالأعدام 545

الثامن: مفاسد تفسير الشرور بالاعدام 546

التاسع: أمثلة مع الفارق 547

العاشر: عدم دلالة الآيات المستشهد بها 548وقريب من كلام صدرالدين الشيرازيّ ما في منظومة السبزواريّ: 550

توضيح كلام السبزواريّ 551

المناقشة في كلام المنظومة 551

كلام بعض المعاصرين في حقيقة الأمر بين الأمرين 555

محصّل كلام بعض المعاصرين 557

هذه الأوهام المنسوجة مردودة 559

ص: 23

الأوّل: نفي الموضوع للأمر بين الأمرين 559

الثاني: مخالفة مقالتهم لضرورة العقل وضرورة الشرايع 560

نبذة من أقوالهم الصريحة في التزامهم بلوازم مبني وحدة الوجود الفاسدة 562

لا برهان لهم 567

خاتمة المطاف/569

الفلسفة والتصوّف في منظر أهل البيت(عليهم السلام) 571

لمحة عن تاريخ الفلسفة والتصوف 580

من مظاهر الفلسفة في يونان 580

نهضة ترجمة الفلسفة إلي العربيّة 584

الصراع بين الإسلام والفلسفة بجميع أطوارها 589

وجود ارتكاز علي تباين الدين والفلسفة 590

الغرض من ذكر كلمات القوم ومواقفهم تجاه الفلسفة والعرفان 598

دحض الباطل وحجّة بالغة 602

موقف أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) وأعيان علماء الإماميّة تجاه الفلسفة والعرفان 603

1.عليّ بن محمّد بن العبّاس(رحمه الله) 603

2. هلال بن إبراهيم أبو الفتح(رحمه الله) 603

3. هشام بن الحكم(رحمه الله)(ت 197ق) 603

4. الفضل بن شاذان(رحمه الله)(ت 260ق) 604

5. الحسن بن موسي النوبختيّ(رحمه الله)(ت 310ق) 605

6. ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ(قدس سره) (ت 329ق) 606

7.عليّ بن أحمد أبو القاسم الكوفي(رحمه الله) (ت 352ق) 606

8. الشيخ المفيد(رحمه الله)(ت 413ق) 606

ص: 24

9. الشيخ أبوالفتح الكراجكيّ(رحمه الله)(ت 449ق) 607

10. الشيخ محمّد عليّ بن بابويه الصدوق(قدس سره)(ت 381ق) 608

11. قطبالدين أبوالحسين سعيدبنعبداللّهبنهبةاللّهالراونديّ(رحمه الله)(ت 573ق) 608

12. السيّد عزّالدين أبوالمكارم حمزةبن زهرة الحسينيّ الحلبيّ(رحمه الله)(ت 585ق) 609

13. الشيخ أبي القاسم عليّبنجمالالدينمحمّدبنطيّ العامليّ(رحمه الله)(ت 855ق) 610

14. الشيخ أبوعليّ الطبرسي(قدس سره) (ت 548ق) 610

15. المحقّق خواجه نصيرالدين الطوسيّ(رحمه الله)(ت 672ق) 611

16. العلّامة الحلّيّ(قدس سره) (ت 726ق) 611

17. الشهيد الثاني(قدس سره) (ت966ق) 614

18. صاحب بن عبّاد(رحمه الله) (ت 385ق) 615

19. المحقّق الدوانيَ(رحمه الله) (ت 908ق) 615

20. الشيخ محمودبنمحمّدبنللسيّد الأمير محمّدبنشاهأبوتراب(رحمه الله)(حيّ في 994ق) 616

21. آغا محمّد باقر بن محمّد باقر الهزار جريبيّ الغرويّ(رحمه الله)(ت 1205ق) 617

22. المحقّق أحمد بن محمّد المعروف بالمقدّس الأردبيليّ(رحمه الله) (ت 993ق) 617

23. الشيخ حسن بن المحقّق الثانيّ(رحمه الله) (حي في 972ق) 621

24. الشيخ الحرّ العامليّ(قدس سره)(ت 1104ق) 621

25. السيّد احمدبنزينالعابدين العاملي(رحمه الله) (توفّي بعد 787ق) 621

26. الفاضل الورع ملّا عبداللّه الشوشتريّ(رحمه الله)(ت 1021ق) 623

27. المحقّق الميرزا رفيع النائينيّ(رحمه الله) (ت 1082ق) 623

28. الشيخ البهائيّ(قدس سره) (ت 1031ق) 62429. العلّامة الأعظم غوّاص بحار أئمّة الأطهار محمّد باقر المجلسيّ(قدس سره) (ت 1110ق) 624

30. الفيض الكاشانيّ(رحمه الله)(ت 1091ق) 631

ص: 25

31. السيّد محمّد مهديّ بحر العلوم(قدس سره)(ت 1212ق) 631

32. العلّامة محمّد إسماعيل بن الحسين المازندرانيّ الخواجوئيّ(رحمه الله)(ت 1173ق) 632

33. السيّد أمير محمّد باقر الداماد(رحمه الله)(ت 1041ق) 633

34. العلّامة آقا محمّد عليّ بن الوحيد البهبهانيّ(رحمه الله)(ت 1216ق) 634

35. السيّد نعمة اللّه الجزائري(رحمه الله) (ت 1173ق) 635

36. المحدّث البحرانيّ صاحب الحدائق(رحمه الله) (ت 1186ق) 636

37. محمّد طاهر بن محمّد بن حسين القميّ(رحمه الله) (ت 1089ق) 636

38. الحسن بن محمّد بن عبد اللّه الطيّبيّ(رحمه الله) (ت 733ق) 636

39. مولي محمّد صالح المازندرانيّ(رحمه الله) (ت 1081ق) 636

40. السيّد رضي الدين بن طاووس(رحمه الله) (ت 664ق) 637

41. محمّد أمين الإسترآباديّ(رحمه الله) (ت 1033ق) 638

42. القاضي سعيد القمّيّ(رحمه الله) (ت 1103ق) 639

43. المحقّق الميرزا القمّي صاحب القوانين(رحمه الله) (ت 1231ق) 639

44. الشيخ الأعظم المرتضي الأنصاريّ(قدس سره) (ت 1281ق) 643

45. الميرزا حبيب اللّه الخوئيَ(رحمه الله) (ت 1324ق) 644

46. العلّامة الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قدس سره) (ت 1228ق) 645

47. المحدّث الكبير الميرزا النوريّ(قدس سره) (ت 1320ق) 645

48. الشيخ محمّد حسن النجفيّ صاحب الجواهر(قدس سره)(ت 1266ق) 647

49. السيّد عليّ البروجرديّ(رحمه الله) (ت 1313ق) 64850. آقا رضا الهمدانيّ(رحمه الله) (ت 1322ق) 648

51 إلي 71. السيّد الفقيه محمّد كاظم اليزديّ(قدس سره) صاحب العروة الوثقي (ت1377ق) 649

72. آية اللّه العظمي السيّد أبو الحسن الإصفهانيّ(قدس سره) (ت 1365ق) 651

ص: 26

73. المحدّث الخبير الشيخ عبّاس القميّ(قدس سره) (ت 1359ق) 651

74. شيخ مشايخنا العلّامة الفهّامة آية اللّه الميرزا مهديّ الاصفهانيّ(قدس سره) (ت 1365ق) 651

75. شيخ مشايخنا العلّامة الحاجّ الشيخ مجتبي القزوينيّ(رحمه الله) (ت 1386ق) 653

76. شيخنا الأستاذ العلّامة الشيخ عليّ النمازيّ الشاهروديّ(قدس سره) (ت 1405ق) 653

77. المحقّق الشيخ محمّد تقي الآمليّ(رحمه الله)(ت 1391ق) 653

78. آية اللّه العظمي السيّد الخوئيّ(رحمه الله) (ت 1413ق) 654

79. الشيخ محمّد جواد البلاغيّ(رحمه الله)(ت 1352ق) 656

80. آية اللّه العظمي السيّد الگلپايگانيّ(رحمه الله)(ت 1415ق) 656

81. الشيخ محمّد أمين زين الدين(رحمه الله) (ت 1419ق) 657

82. آية اللّه العظمي السيّد محسن الحكيم(قدس سره) (ت1390ق) 657

83. الشيخ عبد النبيّ العراقيّ(قدس سره) (ت 1385ق) 657

84. آية اللّه العظمي المرعشيّ النجفيّ(قدس سره) (ت 1411ق) 659

85. آية اللّه العظمي الشيخ محمّد عليّ الأراكيّ(قدس سره)(ت 1415ق) 661

توضيح وتبيين 661

الحكمة الإلهيّة تؤخذ من اللّه أم من البشر؟ 664

فرية أخري في من له شأن الدعوة إلي اللّه تعالي 667

حديث فيه إنذار وتحذير وتنبيه 672

فهرس المصادر 679

فهرس الايات والروايات 695

ص: 27

ص: 28

مقدّمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتي بارَكْنا فِيها قُريً ظاهِرَةً﴾.(1)

إذا كانت السعادة مقولة ذات تدرّج، فلا شكّ أنّ أسعد الناس قاطبة هم العلماء؛ لأنّ العلم حصن حصين من الضلال، وسائق صادق إلي الهدي، وجُنّة منيعة من كلّ شرّ، وهو (أصل كلّ خير) كما في الأثر.

وبالأخصّ في خضم التيّارات المنحرفة التي تنعق وتنهق بالشبهات والفتن، كما هو حال هذا الزمان.

لقد كان شيخنا العلّامة الفقيد السعيد الشيخ محمّدباقر علم الهدي يتمتّع بخصال مرموقة شتّي وسجايا كريمة عديدة، ولكن أشرفها وأجلّها وراثته لعلوم آل محمّد صلوات اللّه عليهم، فقد اجتمع فيه ما تفرّق علي غيره، وحاز -- لكثير اجتهاد ودوام تحقيق وتدقيق وبألطاف الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر -- علي مختلف العلوم علي رأسها الحديث والتفسير، كما ألمّ بالفقه والأصول والرجال والأدب، حتّي سرح في ميادين الأفذاذ السابقين وأسرع في البارزين، وصار من ورثة علم من مضي، وتحمّل من علوم الأئمّة الأطهار ما غاب عن كثير من أترابه.

ص: 29


1- 1.. سبأ34.، الآية 18.

قال الامام الصادق(عليه السلام):

إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها، فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خَلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.(1)

عكف الشيخ(قدس سره) جلّ عمره وأفرغ همومه وهممه -- مع ما كان يلمّ به من ضغوطات وموانع -- لتلقّي العلم وللبحث والنظر والمدارسة للنصوص المقدّسة، وقد حضر دروس روّاد المدرسة المعارفيّة -- الذين ارتووا من دروس فقيه أهل البيت آية اللّه الميرزا مهديّ الإصفهانيّ -- كآية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ وآية اللّه الميرزا حسن عليّ المرواريد وآية اللّه الميرزا جواد الطهرانيّ وآية اللّه الشيخ عليّ النمازيّ الشاهروديّ وغيرهم من كبار هذه المدرسة وأساطينها واستفاد منهم في حقلالمعارف والفقه والأصول والتفسير والحديث، كذلك وُفّق لحضور الدروس العالية لآية اللّه العظمي السيّد هادي الميلانيّ و آية الله السيّد ابراهيم علمالهدي وآية اللّه الشيخ علي الفلسفيّ الذي كان يعدّ من أبرز تلاميذ مرجع الطائفة آية اللّه العظمي السيّد أبو القاسم الخوئيّ، كما تتلمّذ عند آية اللّه السيّد محمود المجتهديّ السيستانيّ -- الذي كان جامعاً لمختلف العلوم -- سنين عديدة، وبذلك اكتملت البنية العلميّة لشيخنا العلّامة، فقد حاز بمثابرته علي المعارف الشامخة للأئمّة(عليهم السلام) بحضوره دروس كبار أساتذته واقتني آخر ما توصّلت إليه الحوزات العلميّة من آراء دقيقة في الأصول وابتكارات ظريفة في الفقه بحضوره دروس العلمين الميلانيّ والفلسفيّ، وبهذه البنية القويّة وبالجدّ والاجتهاد دأب شيخنا العلّامة في الخوض في آيات الذكر وأحاديث أهل الذكر، فكان كما قيل: مَن جدّ وجد ومن قرع باباً ولجّ ولج، ليرحل عن الدنيا بعد ما آوي إلي ربوةٍ ذات قرار ومعين؛ واغترف وارتوي من بحار أنوار أهل البيت(عليهم السلام). ولقد ساعده علي ذلك ملازمته للشيخ النمازيّ في خضم تصنيفه لمستدرك سفينة البحار وكانت ثمرة هذه الملازمة أنّه بدأ بمشروع ضخم استغرق ثلاثين عاماً من عمره في تفسير القرآن بالحديث، حيث جهد علي إرجاع

ص: 30


1- 2.. الكافي، ج1، ص32، ح2؛ وسائل الشيعة، ج27، ص78، ح2[33247].

جميع ما في موسوعة البحار إلي آيات القرآن الكريم، وهو سفر عظيم انتهي من قبل أشهر من رحيله، ولم تبق منه سوي خطوات يسيرة.

ثمّ إنّ الشيخ قد أخذ بيد بعض الضعفاء من أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وساقهم إلي تلك العلوم الفاخرة والبحور الزاخرة، وأخرجهم من ظلمة جهلهم إلي نور العلم وبذلك كسب فضلاً علي فضله وشرفاً علي شرفه، وقد قال مولانا الإمام الحسن العسكريّ صلوات اللّه عليه:

قال عليّ بن أبي طالب(عليه السلام):

من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلي نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة وعلي رأسه تاج من نور يضيئ لأهل جميع العرصات، وعليه حلّة لا يقوم لأقلّ سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثمّ ينادي مناد يا عباد اللّه، هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمّد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهلهفليتشبّث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلي نزه الجنان، فيخرج كلّ من كان علَّمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً، أو أوضح له عن شبهة.(1)

بلي، فإنّ العلماء هم الواسطة بين المعصومين والناس، وهم القري الظاهرة بين القري المباركة وبين من سواهم، كما قال تعالي:

﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتي بارَكْنا فِيها قُريً ظاهِرَة﴾.(2)

فعن أبيحمزة الثماليّ قال: أتي الحسن البصريّ أبا جعفر(عليه السلام) فقال: جئتك لأسألك عن أشياء من كتاب اللّه، فقال له أبوجعفر(عليه السلام):

ألست فقيه أهل البصرة؟ قال : قد يقال ذلك، فقال له أبوجعفر(عليه السلام): هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟ قال: لا، قال: فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟ قال: نعم، فقال له أبوجعفر(عليه السلام): سبحان اللّه لقد تقلّدت عظيماً من الأمر، بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت أم يكذب عليك؟ قال: ماهو؟ قال: زعموا أنّك تقول، إنّ

ص: 31


1- 3.. الاحتجاج، ج1، ص16؛ بحارالأنوار، ج2، ص2، ح2.
2- 4.. سبأ34.، الآية 52.

اللّه خلق العباد ففوض إليهم أمورهم، قال: فسكت الحسن، فقال: أفرأيت من قال اللّه له في كتابه إنّك آمن، هل عليه خوف بعد هذا القول؟ فقال الحسن: لا، فقال أبوجعفر(عليه السلام): إنّي أعرض عليك آية وأنهي إليك خطباً، ولا أحسبك إلّا وقد فسّرته علي غير وجهه، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت.

فقال له: ما هو؟

قال: أرأيت حيث يقول: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بارَكْنا فيها قُريً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السيْرَ سِيرُوا فيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنينَ﴾(1) يا حسن بلغني أنّك أفتيت الناس فقلت: هي مكّة، فقال أبوجعفر(عليه السلام): فهل يقطع علي من حجّ مكّة وهل يخاف أهل مكّة؟ وهل تذهب أموالهم؟ فمتي يكونون آمنين؟ بل فينا، ضرب اللّه الأمثال في القرآن، فنحن القري التي بارك اللّه فيها، وذلك قول اللّه عزّوجلّ، فمن أقرّ بفضلنا حيث أمرهم اللّه أن يأتونا فقال: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتي بارَكْنا فِيها﴾ أي: جعلنابينهم وبين شيعتهم القري التي باركنا فيها ﴿قُريً ظاهِرَة﴾ والقري الظاهرة الرسل والنقلة عنّا إلي شيعتنا، وفقهاء شيعتنا إلي شيعتنا، وقوله: ﴿وَقَدَّرْنا فِيها السَّيْرَ﴾ فالسير مَثَل للعلم سيروا به ﴿لَيالِيَ وَأَيَّاماً﴾ مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيّام عنّا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام ﴿آمِنين﴾ فيها إذا أخذوا من معدنها الذي أمروا أن يأخذوا منه ﴿آمِنين﴾ من الشكّ والضلال، والنقلة من الحرام إلي الحلال، لأنّهم أخذوا العلم ممّن وجب لهم بأخذهم إيّاه عنهم المغفرة لأنّهم أهل ميراث العلم من آدم إلي حيث انتهوا، ذريّة مصطفاة بعضها من بعض ... .(2)

وهذه البحوث ممّا بيّنها شيخنا العلّامة وكتبناها تقريراً لأبحاثه وفي طيّها من التفاصيل في شبهتي الجبر والتفويض وإحقاق الأمر بين الأمرين، ما يفيد طالب الحقّ وقمنا بإعادة طباعتها لنفاد الطبعة السابقة واللّه العزيز الموفّق.

ص: 32


1- 5.. سبأ34.، الآية 18.
2- 6.. الاحتجاج، ج2، ص327؛ بحارالأنوار، ج24، ص232، ح1.

امتيازات هذه الطبعة

تمتاز هذه الطبعة ببعض الإضافات والتعليقات التي كتبها أستاذنا الفقيد بعد الطبعة الأولي من الكتاب، كما وقد أضفنا جملة من العناوين الموضوعيّة تسهيلاً للوصول إلي المطالب المشار إليها، وكذلك إضافة الفهارس الفنّيّة و نقدر جهود مؤسسة عالم آل محمد المعارفية حيث أخذ علي عاتقها اخراج الكتاب بهذه الحلة الجديدة.

ونحن إذ تعتصر قلوبنا حزناً علي موت هذا العالم، نحمد اللّه الذي يحمد علي بلائه كما يحمد علي آلائه، ونسأله تعالي أن يحشره مع ساداته ومواليه محمّد وآله الطيبّين الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويوفّقنا للارتواء من ينابيع علومهم ومعارفهم، ويتقبّل أعمالنا بقبول حسن، بجاههم،عليهم أفضل الصلاة والسلام.

علي الرضوي، أمير الفخاري، حسن الكاشاني

25 شوال 1435

ذكري استشهاد رئيس المذهبالإمام جعفر بن محمّد الصادق صلوات اللّه عليه

المشهد الرضويّ المقدّس علي مشرفه آلاف التحيّة

ص: 33

ص: 34

كلمة الأستاذ

الحمد للّه الذي علا في توحّده ودنا في تفرّده وجلّ في سلطانه وعظم في أركانه وأحاط بكلّ شيءٍ علماً وهو في مكانه، وأفضل الصلوات والتحيّات علي أفضل أوليائه وأحبّ أحبّائه محمّد وأهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً سيّما الكهف الحصين والإمام المبين والنور المضييء الحجّة بن الحسن العسكريّ روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء واللعن الأبديّ السرمديّ علي أعدائهم ومخالفيهم ومعانديهم وغاصبي حقوقهم ومنكري فضائلهم إلي يوم الدين، فإنّهم السبب في عدول الناس عن الطريق القويم والصراط المستقيم، وحرمان الناس عن نور العلم ووقوعهم في تيه الضلالة والجهل، فلو كان الأمر بيد أهله لاستضاء جميع الناس بنور العلم بحيث تظهر لهم الحقائق وتزول عنهم الخلافات.

أمّا بعد: فممّا لابدّ من التنبيه عليه أنّه يجب التعلّم علي الإنسان واقتباس العلم في كلّ حال حتّي يموت.

فعن نصر بن كثير قال: دخلت علي جعفر بن محمّد(عليهما السلام) أنا وسفيان الثوريّ منذ ستّين سنة فقلت له: إنّي أريد البيت الحرام فعلّمني شيئاً أدعو به، قال:

إذا بلغت البيت الحرام فضع يدك علي حائط البيت ثمّ قل: يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت، ثمّ ادع بعده بما شئت، فقال له سفيان: شيئاً لم أفهمه، فقال: يا سفيان أو يا أباعبداللّه إذا جاءك

ص: 35

ما تحبّ فأكثر من الحمد للّه وإذا جاءك ما تكره فأكثر من لا حول ولا قوّة إلّا باللّه وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار. قال المعافا: حكي لي عن أبي جعفر الطبريّ أنّه ذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) فاستدعي محبرة وصحيفة فكتبه وكان قبل موته بساعة فقيل له: في هذه الحال؟ فقال: ينبغي الإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتّي يموت.(1)

ولابدّ لطالب العلم أن يطلبه من مظانّه وأهله، فعن مولانا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) قال: سمعت رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) يقول:

طلب العلم فريضة علي كلّ مسلم، فاطلبوا العلم من مظانّه، واقتبسوه من أهله فإنّ تعليمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلي اللّه تعالي لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنّة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدّث في الخلوة، والدليل علي السرّاء والضرّاء، والسلاح علي الأعداء، والزين عند الأخلّاء، يرفع اللّه به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدي بفعالهم، وينتهي إلي رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّي حيتان البحر وهوامّه، وسباع البرّ وأنعامه، إنّ العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوّة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلي في الدنيا والآخرة، الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الربّ ويعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، العلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبي لمن لم يحرمه اللّه منه حظّه.(2)

ومن الواضح أنّ مظانّ العلم وأهله هم الذين سمّاهم اللّه تعالي في كتابه بالراسخين في العلم وقال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾(3) وسمّاهم بقوله تعالي: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(4)

ص: 36


1- 7.. مستدرك الوسائل، ج9، ص366، ح6؛ بحار الأنوار، ج66، ص407، ح116 و ج96، ص198، ح14.
2- 8.. الأمالي(للطوسي)، ص487، ح38 [1069]؛ بحارالأنوار، ج1، ص171، ح24.
3- 9.. آل عمران3.، الآية 7.
4- 10.. الرعد13.، الآية 43.

وأعطاهم العلم والفهم والحكمة وجعلهم معادن العلم ورؤوس الحكمة فإنّ الأنبياء قد اقتبسوا العلم من مشكاة أنوارهم، فعن أبي محمّد العسكريّ(عليه السلام) إلي أن قال:

ونحن منار الهدي والعروة الوثقي، والأنبياء كانوا يقتبسون من أنوارنا، ويقتفون آثارنا ... .(1)

فلا يجوز أخذ العلم إلّا منهم أو من الذين اقتبسوا العلم منهم واستضاؤوا بأنوارهم، فعن أبي عبداللّه(عليه السلام):

... والذي نفسي بيده إنّ في الأرض في أطرافها مؤمنين ما قدر الدنيا كلّها عندهم تعدل جناح بعوضة ولو أنّ الدنيا بجميع ما فيها وعليها،ذهبة حمراء علي عنق أحدهم، ثمّ سقط عن عنقه ما شعر بها أيّ شيء كان علي عنقه، ولا أيّ شيء سقط منها لهوانها عليهم، فهم الخفيّ عيشهم، المنتقلة ديارهم، من أرض إلي أرض، الخميصة بطونهم من الصيام، الذبلة شفاهم من التسبيح، العمش العيون من البكاء، الصفر الوجوه من السهر، إلي أن قال(عليه السلام): فهم عند الناس شرار الخلق، وعند اللّه خيار الخلق، إن حدّثوا لم يُصَدّقوا وإن خطبوا لم يزوّجوا، وإن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفقدوا، قلوبهم خائفة وجلة من اللّه، ألسنتهم مسجونة، وصدورهم وعاء لسرّ اللّه، إن وجدوا له أهلاً نبذوه إليه نبذاً، وإن لم يجدوا له أهلاً ألقوا علي ألسنتهم أقفالاً غيّبوا مفاتيحها، وجعلوا علي أفواههم أوكية، صُلْب صلاب أصلب من الجبال لا ينحت منهم شيء، خزّان العلم ومعدن الحكمة، وتِباع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، أكياس يحسبهم المنافق خرساً عمياً بلهاً وما بالقوم من خرس ولا عمي ولا بله. إنّهم لأكياس فصحاء، علماء حلماء، حكماء أتقياء، بررة، صفوة اللّه أسكتهم الخشية للّه، وأعيتهم ألسنتهم خوفاً من اللّه، وكتماناً لسرّه، واشوقاه إلي مجالستهم ومحادثتهم، يا كرباه لفقدهم، ويا كشف كرباه لمجالستهم، اطلبوهم فإن وجدتموهم واقتبستم من نورهم اهتديتم وفزتم بهم في الدنيا والآخرة، هم أعزّ في الناس من الكبريت الأحمر ... .(2)

ص: 37


1- 11.. بحارالأنوار، ج26، ص264، ح50.
2- 12.. الاصول الستة عشر، ج1، ص127؛ بحارالأنوار، ج64، ص350، ح54.

فلا ينجو إلّا من اقتبس العلم من العلماء باللّه وهم الأئمّة الهداة المهديّون(عليهم السلام) والمتعلّمون منهم، فعن مولانا أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

ستفترق أمّتي علي ثلاثة وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون هالكون، فالناجون الذين يتمسّكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم، ولا يعملون برأيهم فأولئك ما عليهم من سبيل، فسألت عن الأئمّة فقال: عدد نقباء بني إسرائيل.(1)

وعن مولانا موسي بن جعفر(عليه السلام) في وصيّته لهشام:

يا هشام، نُصب الخلق لطاعة اللّه ولا نجاة إلّا بالطاعة والطاعة بالعلم والعلم بالتعلّم والتعلّم بالعقل يُعتقد ولا علمَ إلّا من عالم ربّانيّ ومعرفة العالم بالعقل.(2)والرجوع إلي غيرهم والتعلّم من غيرهم والإعراض عن الاقتباس من مشكاة أنوارهم يوجب الهلكة الدنيويّة والأخرويّة والعدول عن الصراط المستقيم.

فعن أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبة شريفة بليغة إلي أن قال:

أيّها الأمّة التي خدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت علي ما عرفت، واتّبعت أهواءها وضربت في عشواء غوائها، وقد استبان لها الحقّ فصدعت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته، أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء بعذوبته، وادّخرتم الخير من موضعه، وأخذتم من الطريق واضحه، وسلكتم من الحقّ نهجه لنهجت بكم السبل وبدت لكم الأعلام وأضاء لكم الإسلام، فأكلتم رغداً وما عال فيكم عائل ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد، ولكن سلكتم سبيل الظلام، فأظلمّت عليكم دنياكم برحبها، وسدّت عليكم أبواب العلم، فقلتم بأهوائكم، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين اللّه بغير علم، واتّبعتم الغواة فأغوتكم، وتركتم الأئمّة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذكر الأمر سئلتم أهل الذكر، فإذا أفتوكم قلتم هو العلم بعينه، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه، رويداً عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم، وتجدون وخيم ما اجترمتم، وما اجتلبتم،

ص: 38


1- 13.. كفاية الأثر، ص155؛ بحارالأنوار، ج36، ص336، ح198.
2- 14.. تحف العقول، ص387؛ بحارالأنوار، ج1، ص138.

والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لقد علمتم أنّي صاحبكم، والذي به أمرتم وأنّي عالمكم، والذي بعلمه نجاتكم، ووصيّ نبيّكم(صلي الله عليه آله و سلم) وخيرة ربّكم، ولسان نوركم، والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وعدتم، وما نزل بالأمم قبلكم، وسيسألكم اللّه عزّ وجلّ عن أئمّتكم، معهم تحشرون، وإلي اللّه عزّ وجلّ غداً تصيرون.(1)

ثمّ إعلم أنّ من جليل نعم اللّه تعالي علي بني آدم أن كرّمهم وأعطاهم العلم والقدرة والمشيّة والإرادة بالنسبة إلي أفعالهم الاختياريّة -- في قبال ما ليس لهم الاختيار فيه والقدرة عليه كما في ضربان القلب -- بأن جعل لهم السلطنة علي ما يفعلون أو يتركون، ولم يجعلهم مجبورين مسلوبي المشيّة، ولا مقهورين فاقدي الإرادة، وهذا ظاهر لجميع العقلاء كمال الظهور وبديهيّ لهم غاية البداهة ويجده كلّ من له أدني حظّمن العلم والعقل فالبرهان النيّر علي ذلك وجدان جميع العقلاء تلك الحقيقة بنور العقل.

ويشهد علي ما ذكرنا أمور:

منها: إسناد كلّ عاقل بعض الأفعال إلي نفسه كالأكل والشرب والرؤية والاستماع والمجيي ء والذهاب، دون بعض كخلقه ووجدانه القدرة والمشيّة.

ومنها: وضع القوانين في جميع الممالك والمؤسّسات ومؤاخذة المتخلّف عنها.

ومنها: أمر الطبيب المريض بالتداوي والعلاج، وأمر المعلّم تلميذه بتكاليف دخيلة في تعلّمه.

ومنها: أنّ الذي يحترم القوانين ويلتزم بها لا يستوي مع المتخلّف عنه عند العقلاء، فنراهم يمدحون الملتزم بها ويذمّون المتخلّف عنها، فإنّ الأمر والنهي والمدح والذمّ ونظائرها دليل علي قدرة الإنسان علي الفعل والترك، كما أنّه لاخفاء في وجدان العاقل قدرته بمعني السلطنة علي الفعل والترك بالنسبة إلي الأفعال الاختياريّة.

ومن العجيب جدّاً إنكار بعضٍ قدرة الإنسان، وادّعائهم أنّ الإنسان بالنسبة إلي

ص: 39


1- 15.. الكافي، ج8، ص31، ح5؛ بحارالأنوار، ج28، ص240، ح27.

أفعاله كالمنشار في يد النجّار، فإنّ الفاعل هو اللّه تبارك وتعالي والإنسان بمنزلة الآلة التي لا قدرة لها ولا اختيار، بل ولا شعور لها بما يتحقّق.

وأعجب من ذلك إنكار بعض آخر قدرة الإنسان مع إدّعائهم كونه قادراً مختاراً شائيّاً، فهم يدّعون أنّ الإنسان مجبور في أفعاله إلّا أنّه بصورة المختار، فتارة يصرّحون بأنّ الفاعل هو اللّه بناءاً علي التوحيد الأفعالي علي حسب زعمهم، وتارة يدّعون ثبوت الاختيار والقدرة للإنسان، وثالثة يتهافتون ويقولون: «الفعل فعل اللّه وهو فعلنا». نعم ذكروا لهذه النظريّة توجيهات باردة فاسدة سنذكرها ونبيّن وجوه المناقشة فيها.

ولا غرو في إنكار قدرة الإنسان واختياره وإرادته من بعض الجهلة السفهاء وإسناد جميع القبائح الصادرة عن الإنسان إلي الباري سبحانه وتعالي، حيث إنّهم يرومون توجيه ما يرتكبونه من السيّئات والقبائح، كما أنّ ابن زياد ويزيد عليهما لعائن اللّه أسندا ما ارتكبا من قتل ريحانة رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وأسر آل اللّه ونهب أموالهم وسائر المظالم الفجيعة الشنيعة إلي اللّه تعالي، لكي لا يعترض عليهما أحد بما فعلاه من سوء فعل وبما أورداه علي الرسول وآله(عليهم السلام) من مصائب ما أعظمها وأعظم رزيّتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض.

والحاصل أنّ الشياطين المتصدّين لإغواء بني آدم يوحون إلي أوليائهم زخرف القول غروراً، وأتباعهم من بني آدم يدّعون أنّ ما جاؤوا به هو المستفاد من البرهان والعقل، ويدّعون الضرورة والبداهة علي خلاف البداهة والضرورة. وسيأتي إن شاء اللّه بيان جميع تسويلاتهم وإبطالها كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

ومن أعظم نعم الباري تعالي علينا أن هدانا إلي كلامه وعلَّمنا القرآن والبيان، وهدانا إلي الذين نزل القرآن في بيوتهم وهم المخاطبون به، وهم أهل الذكر، وهم المسئولون، وهم الذين أوتوا العلم الذين قال اللّه تعالي في حقّهم: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾،(1) وهم المصطفون الذين أورثهم اللّه كتابه المجيد. وقد جاءوا بما هو الحقّ الواضح في كلّ موضوع ومسألة بما أغنونا عن الرجوع إلي أبواب غيرهم، كما بيّنوا حقيقة الأمر في

ص: 40


1- 16.. العنكبوت29.، الآية 49.

مسألة الجبر والتفويض بقولهم: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وأوضحوا مرادهم من الأمر الثالث المغاير للجبر والتفويض وهي منزلة أوسع ممّا بين السماء والأرض، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالي.

وغير خفيّ علي الخبير المتأمّل مدي أهمّيّة هذا البحث وارتباطه الوثيق بسائر المباحث العقائديّة، فإنّ الصلة بينه وبين البحث عن العدالة التي هي من كمالات الباري جلّ شأنه وتنزيهه عن الظلم واضحة، فإنّ القول بالجبر يستلزم تجويز الظلم عليه تعالي. وكذا الصلة بينه وبين الحكمة التي هي أيضاً من كمالاته العالية وخروج أفعاله عن اللغويّة واضحة، حيث إنّ القول بالجبر يستلزم لغويّة بعث الرسل وإنزال الكتب وتكليف العباد. كما أنّ الصلة بينه وبين التوحيد ممّا لا تخفي، فإنّ المالك للقدرة هو اللّه تعالي وليس للعبد كمال إلّا بتمليكه تعالي وتفضّله وتطوّله، وهكذا صلته ببحث المعاد المتقوّم بالثواب والعقابالقائمين علي اختيار العباد بالمعني الحقيقيّ وهكذا سائر المباحث المتعلّقة بهذا الموضوع.

فعلي كلّ باحث في المسائل الاعتقاديّة الرجوع إلي نور العقل الذي هو الحجّة الباطنيّة وإلي ما جاء به النبيّ الأكرم(صلي الله عليه آله و سلم) وأهل بيته الطاهرون، لاسيّما في هذا البحث مع التدبّر والتأمّل التامّ فإنّهم الهداة المهديّون عليهم أفضل الصلوات والتحيّات.

ثمّ إنّي بفضل اللّه تعالي ومنّه، وبعناية من وليّه الأعظم الحجّة بن الحسن العسكريّ روحي له الفداء، قد تعرّضت لهذه المباحث مفصّلاً وألقيتها علي جمع من الأفاضل حين الاشتغال بالبحث عن الطلب والإرادة والجبر والتفويض توضيحاً لما تعرّض له صاحب الكفاية(قدس سره) ونقداً لما قاله والتزم به من الجبر. ثمّ ألقيتها ثانياً في طيّ المباحث المعارفيّة علي ضوءِ كتاب تنبيهات حول المبدأ والمعاد لشيخنا الأستاذ المغفور له آية اللّه الميرزا حسن عليّ المرواريد(قدس سره). وقد جمع تلك المباحث كلّ من حضرها، منهم الفاضل المعظّم السيّد عليّ الرضويّ، ومنهم الشيخ الفاضل أمير الفخّاريّ، ومنهم الشيخ الفاضل حسن الكاشانيّ وقد رتّبها ونقّحها وأضاف إليها إضافات مفيدة نافعة ولقد أجاد فيما أضاف وأفاد، فشكر اللّه سعيهم وجزاهم خير الجزاء.

ص: 41

ولمّا كانت المباحث المعنونة في هذا الكتاب من أجلّ المباحث المعارفيّة وأدقّها -- التي لا يمكن نَيْلها إلّا بفضل اللّه تعالي ومنّه العظيم والأنس التامّ بالآيات والأحاديث والاستنارة بنور العقل والاستضائة بالأنوار الإلهيّة المتجلّية في كلامه وكلام أوليائه وأصفيائه(عليهم السلام) والتتبّع الدقيق في كلمات علماء البشر والقدرة علي تمييز غثّها من سمينها -- فلذا لا يمكن الإحاطة بما جاء فيه بمجرّد المراجعة والنظر بل لابدّ في فهمه من التعليم والتعلّم والدراسة والمدارسة عند من كان أهلاً لها فإنّ العلم يُطلب من مظانّه.

هذا، وأتمنّي من القرّاء الكرام أن ينظروا إلي هذا الكتاب بعين الاعتبار والانصاف، بعيداً عن العداوة والاعتساف، فالمرجوّ من اللّه تعالي أن يهدينا إلي سواء الصراط، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

محمّد باقر علم الهدي5 جمادي الأولي 1428 الهجريّة

ذكري مولد عقيلة الطالبيّين زينب الكبري عليها سلام اللّه

ص: 42

المدخل

اشارة

ص: 43

ص: 44

الكلام يقع في خمسة أبواب

الباب الأوّل: في البحث عن حقيقة الطلب والإرادة والكلام في اتّحادهما أو تغايرهما، والبحث عن الكلام النفسيّ واللفظيّ.

الباب الثاني: في الكلام حول إرادته تعالي وتفسيرها وتقسيمها علي ضوء الآيات والروايات.

الباب الثالث: في البحث عن نظريّة الجبر ونقد ما أقامه المجبّرة علي مدّعاهم من الوجوه النظريّة والنقليّة.

الباب الرابع: في نقد نظريّة التفويض، وبعض الكلام حول معانيه.

الباب الخامس: في بيان حقيقة الأمر بين الأمرين ومعني التوفيق والخذلان، وبيان الوجوه الفاسدة في تفسيره والمناقشة فيها.

وفي الخاتمة نذكر كلمات بعض أعلام فقهاء الطائفة الإماميّة قدّس اللّه أسرارهم في التحذير من الاستقاء من المعارف البشريّة غير الربّانيّة والأخذ بها.

ص: 45

ص: 46

الباب الأوّل: الطلب والإرادة

اشارة

وفيه فصلان

الفصل الأوّل: في تغاير الطلب والإرادة

الفصل الثاني: نقد أدلّة الأشاعرة علي الكلام النفسيّ

ص: 47

ص: 48

الفصل الأوّل :في تغاير الطلب والإرادة

اشارة

ص: 49

ص: 50

تمهيد: أهميّة البحث في الطلب والإرادة

وقع النزاع في اتّحاد الطلب مع الإرادة وتغايرهما، فإنّه قد يقال: أراد اللّه تعالي الإيمان والطاعة من الناس، وقد يقال: طلب منهم ذلك، فهل ثمّة فرق بين التعبيرين؟

هل الطلب متّحد مع الإرادة أم هناك تغاير؟إذا كانا متّحدين فما هو معناهما وما المراد منهما؟

في المسألة قولان:

أحدهما للأشاعرة: فإنّهم ذهبوا إلي أنّ الطلب والإرادة شيئان مختلفان ومتغايران.

وثانيهما للمعتزلة وأكثر العدليّة: فقد قالوا إنّهما متّحدان.

وسيتّضح لك مدي أهمّيّة البحث والصلة بينه وبين ما يترتّب عليه من القول بحدوث القرآن وقدمه والقول بالجبر في أفعال العباد، وغيرهما من الأبحاث الكلاميّة.

ثمّ إنّ المحقّق الآخوند مع أنّه ارتضي القول باتّحادهما، حاول أن يجمع بين الطائفتين ويجعل نزاعهما لفظيّاً، فقسّم الإرادة إلي الإرادة الحقيقيّة والإرادة الإنشائيّة، وقسّم الطلب إلي الطلب الحقيقيّ والطلب الإنشائيّ.

ثمّ قال إنّ الإرادة الحقيقيّة تتّحد مع الطلب الحقيقيّ والإرادة الإنشائيّة تتّحد مع الطلب الإنشائيّ.

والظاهر من عبارته في توضيح الطلب والإرادة أنّ الطلب والإرادة الحقيقيّين صفة قائمة

ص: 51

بالنفس التي يعبّر عنها بالفارسيّة ب--«خواستن»، وأمّا ما ينشأ بالمادّة أو الصيغة فيسمّي بالطلب والإرادة الإنشائيّين، أي قول الآمر «اضرب» مثلاً.

ويستفاد من كلامه أنّ اختلاف الطلب والإرادة إنّما هو فيما ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق، فلفظ الإرادة إذا أُطلق ينصرف إلي الإرادة الحقيقيّة، ولفظ الطلب عند الإطلاق ينصرف إلي الطلب الإنشائيّ الذي هو الأمر وإنشاء الطلب.

كما أنّ الظاهر من كلامه اتّحاد حقيقة الطلب والإرادة مفهوماً، وهذا الاتّحاد يوجب الاتّحاد في المصداق الخارجيّ.

وإليك نصّ عبارته:

أنّ الحقّ كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة هو اتّحاد الطلب والإرادة بمعني أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر والطلب المُنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّةوبالجملة هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً (1)؛ انتهي كلامه.

ثمّ يقول: يمكن أن يكون النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة لفظيّاً لا معنويّاً، فإنّ الأشاعرة أرادت من تغاير الطلب والإرادة تغاير الطلب الحقيقيّ مع الإرادة الإنشائيّة وتغاير الطلب الإنشائيّ مع الإرادة الحقيقيّة، والمعتزلة القائلون باتّحادهما أرادوا من ذلك اتّحاد الطلب الحقيقيّ مع الإرادة الحقيقيّة واتّحاد الطلب الإنشائيّ مع الإرادة الإنشائيّة.

ففي الحقيقة ليس بين الطائفتين نزاع، بل النزاع لفظيّ ومنشأه هو انصراف لفظ الطلب عند الإطلاق إلي الطلب الإنشائيّ، كما أنّ لفظ الإرادة عند الإطلاق ينصرف إلي الإرادة الحقيقيّة. فالأشاعرة يدّعون تغاير حقيقة الطلب المنصرف إلي الإنشائيّ مع حقيقة الإرادة التي تنصرف إلي الحقيقيّة وهذا ممّا لا خفاء فيه والمعتزلة يدّعون اتّحاد الطلب الإنشائيّ مع الإرادة الإنشائيّة والطلب الحقيقيّ مع الإرادة الحقيقيّة وهذا أيضاً ممّا لا خفاء فيه، فليس النزاع بين الطائفتين نزاعاً حقيقيّاً بل النزاع لفظيّ. هذا ملخّص ما ذهب إليه المحقّق الآخوند(رحمه الله).

ص: 52


1- 17.. كفاية الاصول، ص64.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول مستمدّين بحول اللّه وقوّته: مقتضي التحقيق عدم اتّحاد الطلب والإرادة بل هما متغايران حقيقة، وعليه لا يكون النزاع لفظيّاً، فهنا مرحلتان: الأولي: عدم كون النزاع لفظيّاً. والثانية: عدم اتّحاد الطلب والإرادة.

المرحلة الأولي:في مناقشة ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ النزاع يعود لفظيّاً (قدس سره)

النزاع لفظيّ أو حقيقيّ في الطلب والإرادة؟

ظهر من كلام المحقّق الآخوند أنّه يقول: إنّ الطلب والإرادة الحقيقيّين متّحدان، وهما عبارة عن كيفيّة قائمة بالنفس التي يعبّر عنها بالفارسيّة ب--«خواستن»، كما أنّ الطلب والإرادة الإنشائيّين متّحدان وهما عبارة عن إنشاء الطلب بلفظ الطلب أو مادّة الأمر أو صيغة إفعل أو الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب.

تاريخ النزاع
اشارة

ولتبيين المدّعي لابدّ من التنبيه إلي أمر وهو: «أنّ هذا الاختلاف ناش عن النزاع في أمرين آخرين».

الأمر الأوّل: النزاع في حدوث القرآن وقدمه
اشارة

إنّ البحث عن كلام اللّه تعالي وأنّه هل هو قديم أم حادث؟ من البحوث العقائديّة القديمة التي تعرّض لها علماء الإسلام، وبهذا الاعتبار يسمّي علم العقائد بعلم الكلام.

صفات الذات والفعل

وحقيقة البحث فيه: هو أنّ الكلام من صفات الباري تعالي فإنّه متكلّم، فوقع البحث في أنّ الكلام هل هو من صفات الذات -- كالعلم والقدرة والحياة -- أو من صفات الفعل -- كالخلق والرزق -- فإن كان التكلّم من صفات الذات، فيكون كلام اللّه تعالي قديماً كالعلم والحياة وساير الصفات الذاتيّة وإليه ذهبت الأشاعرة، وإن كان من صفات الفعل فهو حادث كسائر صفات الفعل وإليه ذهبت المعتزلة.

ص: 53

والبحث عن اتّحاد الطلب والإرادة وتغايرهما، إنّما هو من فروعات البحث عن كلام اللّه عزّوجل، فإنّ الأشاعرة ذهبت إلي أنّ الكلام النفسيّ من صفات الباري الذاتيّة القديمة ويعبّرون عنه بالطلب.

توضيح ذلك: إنّ الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، هو أنّ الصفات الذاتيّة عين ذاته تعالي، ولا يصحّ سلبها عن الذات مطلقا، فلا يقال: ما علم اللّه، بخلاف صفات الفعل فإنّه يصحّ سلبها عن الذات تارة وإثباتها أخري، بأن يقال: خلق اللّه الإنسان، ولم يخلق العنقاء فصفات الفعل حادثة لا قديمة.(1)

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ المعتزلة ذهبوا إلي أنّ التكلّم من صفات الفعل فيكون حادثاً، ومرادهم بحدوث هذه الصفة هو أنّ اللّه تعالي إذا أراد أن يتكلّم يوجد الكلام في الخارج بعد أن لم يكن موجوداً، لا أنّه صفة زائدة علي الذات وعارضة عليه، ثمّ إنّهم قالوا في مقام الإشكال علي الأشاعرة والاستدلال علي مدّعاهم: إنّ اللّه تعالي قبل أن يتكلّم مع موسي -- أي قبل إيجاده الكلام في الخارج -- ، لم يكن في الخارج كلام حقيقة، ولم يكن اللّه تعالي متكلّماً فكيف يكون الكلام قديماً.

وأجاب الأشاعرة: بأنّ الكلام علي قسمين: لفظيّ ونفسيّ، والكلام اللفظيّ «كالجمل الخبريّة والإنشائيّة» دالّ علي الكلام النفسيّ ومعبّر عنه، وإليه أشار شاعرهم:

ص: 54


1- 18.. الصحيح في مقام التعبير عن الصفات الذات--يّة هو التعبير بالكمالات الذات--يّة، فإنّه ليس للّه تعاليصفة «لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف» نهج البلاغة، الخطبة الأولي، ص39. توضيح ذلك: إنّ الصفة والاسم متقاربان من حيث المعني والمفاد فالصفة علامة للموصوف كما أنّ الاسم علامة للمسمّي، ومن الواضح أنّ العلم والقدرة والحياة وسائر الكمالات الذات--يّة ليست علامات للّه تعالي بل هي عين ذاته القدّوس، لوضوح ذاتيّة العلم والقدرة للذات الأحديّ القدّوس، نعم العالم والحيّ والقادر أوصاف له كما يقال أنّها أسماء له تبارك وتعالي. ولتفصيل الكلام حول هذا المطلب النفيس مقام آخر. وأمّا الوجه في التعبير عن الكمالات بالصفات في متن الكتاب فهو الجري وفق المشهور لأنّا بصدد إبطال الجبر والتفويض و ردّ جميع الشبهات الموجبة للالتزام بأحدهما ولسنا بصدد بيان جميع المعارف الإلهيّة المستوحاة من الكتاب والسنّة النبويّة والولويّة المرشدة لما يجده العاقل بنور عقله ومع ذلك لابدّ من الإشارة إليها في كلّ موطن يناسبها كي يعرف اللبيب التمايز بين المعارف الإلهيّة والعلوم البشريّة.

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما * جعل اللسان علي الفؤاد دليلا

أمّا الكلام النفسيّ فمرادهم منه هو «النسبة» في الإخبار وفي الأوامر «الطلب» وفي النواهي «الزجر»، فقالوا: إنّ الكلام النفسيّ (النسبة والطلب والزجر) صفة أخري من الصفات النفسانيّة غير الصفات النفسانيّة المشهورة كالعلم والإرادة والكراهة.

ولا يتوهّم من ذلك منشأيّة الكلام النفسيّ للكلام اللفظيّ، فإنّ منشأ الكلام اللفظيّ عندهم هو العلم والإرادة وهو غير الطلب والزجر اللذين يسمّيان بالكلام النفسيّ.

وأمّا بالنسبة إلي اللّه تعالي فقد ذهبوا إلي أنّه عين العلم والحياة والقدرة مضافاً إلي كونه متكلّماً بالكلام النفسيّ، فالكلام النفسيّ كالعلم والقدرة عين الذات القديمة.

والظاهر من كلامهم أنّهم لا يقولون باختصاص الكلام النفسيّ به تعالي، بل ذهبوا إلي أنّ كلّ متكلّم له كلام لفظيّ وكلام نفسيّ.

قال صاحب الكفاية في الردّ علي كلامهم:

فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخري قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوي ما هو مقدّمة تحقّقها، ... وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخري قائمة بها يكون هو الطلب، ... فإنّه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجّي والتمنّي والعلم إلي غير ذلك، صفة أخري كانت قائمة بالنفس، وقد دلّ اللفظ عليها.(1)

النزاع في الكلام النفسيّ منشأ للنزاع في الطلب والإرادة

فتحصّل ممّا ذكرنا، أنّ النزاع في اتّحاد الطلب والإرادة إنّما نشأ لأجل الخلاف في الكلام النفسي بين الأشاعرة والمعتزلة، فالأشاعرة بما أنّهم قائلون بالكلام النفسيّ -- الذي هو غير الصفات النفسانيّة المعروفةمن العلم والإرادة والكراهة والتمنّي والترجّي -- يكون الطلب عندهم مغايراً للإرادة، كما أنّهم ذهبوا إلي قدم كلام اللّه تعالي والقرآن بخلاف المعتزلة الذين تمسّكوا بعدم ثبوت الكلام النفسيّ.

ص: 55


1- 19.. كفاية الأصول، ص 65.

فعلي هذا لا يمكن أن يقال إنّ النزاع بين الطائفتين نزاع لفظيّ، كيف ونزاعهما في حدوث القرآن وقدمه ليس مقتصراً علي ألفاظ القرآن فحسب، كي يقال بأنّ الأشاعرة القائلين بتغاير الطلب والإرادة إنّما أرادوا تغاير الطلب الإنشائي «الذي هو مدلول ألفاظ القرآن» مع الإرادة الواقعيّة، فإنّه من الواضح أنّ الألفاظ حادثة قطعاً لوجهين:

أحدهما: أنّها تدريجيّة الوجود، وثانيهما: أنّها مركّبة من الحروف، والمركّب حادث.

وعليه يكون مرادهم إثبات قدم القرآن بكلامه النفسيّ، أي إنّ للّه تعالي كلاماً نفسيّاً هو القديم والمعبّر عنه هو الكلام اللفظيّ الموجود في القرآن. وقد أشرنا إلي عدم تخصيصهم الكلام النفسيّ بالباري تعالي، بل أثبتوه لكلّ متكلّم كثبوت الكلام اللفظيّ له. ومرادهم من الكلام النفسيّ الصفةَ الأخري غير العلم والإرادة والكراهة، وهذا الكلام النفسيّ يختلف اسمه باختلاف مصاديقه فإنّ كان من سنخ الأخبار فهو النسبة، وإن كان من سنخ الأوامر فهو الطلب، وإن كان من سنخ النواهي فهو الزجر، والنسبة والطلب والزجر غير العلم والإرادة والكراهة فلذا يتغاير الطلب مع الإرادة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الكلام النفسيّ عند الأشاعرة علي ثلاثة أقسام: النسبة والطلب والزجر، والكلام اللفظيّ أيضاً علي ثلاثة أقسام: الخبر والأمر والنهي، ودلالة الكلام اللفظيّ علي الكلام النفسيّ ليست من سنخ الدلالة الوضعيّة بل هي من سنخ دلالة المعلول علي علّته وهي دلالة عقليّة.

وظهر أيضاً أنّ إطلاق المتكلّم علي الباري تعالي عندهم إنّما هو بلحاظ الكلام النفسيّ لا اللفظيّ الذي هو حادث بلاخلاف، وقد أقاموا علي مدّعاهم في وجود الكلام النفسيّ أدلّة سنذكرها إن شاء اللّه تعالي ونبيّن ضعفها.

الأمر الثاني: أفعال العباد
اشارة

ذهبت الأشاعرة إلي القول بالجبر، ولذا أسندوا جميع الحوادث -- ومنها أفعال العباد -- إلي اللّه تعالي، والالتزام بهذه المقالة الفاسدة ألجأهم إلي الالتزام بالكلام النفسيّ، وأمّا المعتزلة

ص: 56

فإنّهم ينكرون ذلك ويسندون أفعال العباد إلي إرادة العبد كما أنّهم يسندون الحوادث الكونيّة إلي إرادة اللّه تعالي.

توضيح مقالة الأشاعرة

ذهبوا إلي أنّه لو أراد اللّه عزّوجلّ الإيمان من الكفّار والعصاة، فلا مجال لتخلّف المراد عن إرادته أي يجب أن يكونوا مؤمنين منقادين لا عصاة كافرين لاستحالة تخلّف مراده تعالي عن إرادته، وإن لم يرد منهم ذلك فلا وجه لصدق العاصي والكافر عليهما، لأنّ اللّه لم يرد الإيمان والطاعة منهم بحسب الفرض، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخري من الواضح أنّ اللّه تعالي قد أمر جميع عباده بالإيمان والطاعة ونهاهم عن الكفر والمعصية، فلابدّ أن يطلبوا المندوحة في الجمع بين الأمرين هذا من ناحية، ومن ناحية ثالثة التزموا بتغاير الطلب مع الإرادة، فقالوا: إنّ اللّه تعالي طلب من الكفّار والعصاة الإيمان والطاعة، ولكنّه لم يُرِدهما منهم، ذلك لأنّه لو أراد الطاعة من العبد لابدّ من تحقّقها وكذلك الأمر بالنسبة للمعصية -- لاستحالة تخلّف مراده تعالي عن إرادته --، وهذا دليل علي تغاير الطلب مع الإرادة، هذا بالنسبة إلي الكفّار والعصاة. وأمّا بالنسبة إلي الأوامر الامتحانيّة فذهبوا إلي أنّ الأمر الامتحانيّ من اللّه كاشف عن وجود الطلب منه بالنسبة إلي المأمور به ولكنّه لم يرد تحقّقه.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ النزاع بين الطائفتين في تغاير الطلب والإرادة واتّحادهما ليس لفظيّاً، بل النزاع بينهما حقيقيّ ومعنويّ فلا مصحّح لما ذهب إليه المحقّق الآخوند.

المرحلة الثانية: في إقامة الدليل علي تغاير الطلب والإرادة
اشارة

بعد الفراغ من مناقشة الإصلاح الذي طرحه المحقّق الآخوند بين الأشاعرة والمعتزلة، وإثبات أنّ النزاع بينهم نزاع معنويّ لابدّ من نقد ما ادّعاه صاحب الكفاية من أنّ الطلب والإرادة متّحدان مفهوماً، فنقول:

ص: 57

الإرادة والطلب في اللغة

فقد ورد في أقرب الموارد أنّ الطلب بمعني محاولة وجود الشيء وأخذه(1) وهذا هو ما ذكرناه من أنّه عبارة عن السعي نحو المطلوب.

وفي مفردات الراغب فسّرت الإرادة هكذا:

الإرادة في الأصل قوّة مركّبة من شهوة وحاجة وأمل وجعل اسماً لنزوع النفس إلي الشيء مع الحكم فيه بأنّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثمّ يستعمل مرّة في المبدأ وهو نزوع النفس إلي الشيء وتارة في المنتهي وهو الحكم فيه بأنّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فإذا استعمل في اللّه فإنّه يراد به المنتهي دون المبدأ فإنّه يتعالي عن معني النزوع.(2)

هذا بحسب اللغة.

الإرادة والطلب في الاصطلاح

وأمّا في كلمات الأعلام فقد اختلفوا في تفسير الإرادة علي أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور من علماء البشر من أنّها عبارة عن «الشوق الأكيد الذي يتبعه الفعل أو الترك» وعليه تكون الإرادة صفة من صفات النفس.

الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الإرادة هي «حملة النفس نحو تحقّق الفعل» وعليه تكون من أفعال النفس ويكون الشوق مقدّمة لها.

الثالث: ما ذهب إليه المحقّق الخوئيّ(رحمه الله) من أنّها «إعمال القدرة» الذي هو أيضاً فعل نفسانيّ.

الرابع: ما ذهب إليه بعض أعاظم مشايخنا من أنّها هو العزم الوارد علي جميع العلل التكوينيّة والشهوات والأشواق، والنفس فاعلها بما لها من القدرة التي أعطاها اللّه إيّاه وإليها ينتهي فعلها. هذا بالنسبة إلي الإرادة.

ص: 58


1- 20.. راجع: اقرب الموارد، ج3، ص380.
2- 21.. مفردات ألفاظ القرآن، ص 371 (مادّة: رود).

أمّا الطلب فعلي المشهور هو «إنشاء المعني باللفظ»، والحقّ أنّه «السعي نحو المطلوب» الذي هو فعل خارجيّ ويعبّر عنه بالإقدام نحو تحصيل المطلوب.

فعليه لا يمكن أن يكون الطلب مرادفاً للإرادة بأيّ وجه من الوجوه، فإنّها لا تخلو من أمرين: إمّا أن تكون صفة نفسانيّة، أو تكون فعلاً نفسانيّاً وكلاهما يغايران الطلب، سواء كان بمعني إنشاء المعني باللفظ أو السعي نحو المطلوب، حيث إنّه علي كلاالمعنيين يكون فعلاً خارجيّاً صادراً عن الأعضاء والجوارح.

ومن الواضح أنّ حبّ شيء والشوق إلي تحصيله يغاير الطلب والإقدام عليه، ومثاله إنّ عنوان «طالب العلم» يصدق علي كلّ من يسعي ويجدّ في تحصيل العلم، ولا يصدق علي من يشتاق إلي العلم وطلبه من دون سعي نحو تحصيله، وإلّا لعدّ مجرّد الشوق إلي العلم طلباً وسمّي الشائق إلي طلبه طالباً ومن الواضح بطلان ذلك.

فاتّضح أنّ الطلب فعل خارجيّ، والإرادة إمّا تكون صفة نفسانيّة أو تكون فعلاً نفسانيّاً، فلا اتّحاد بينهما بحسب المفهوم، فيثبت بالضرورة تغايرهما مصداقاً، فإنّ مصداق الإرادة هو ما يوجد في النفس الذي هو عبارة عن الشوق أو حملة النفس أو إعمال القدرة أو العزم الوارد علي الأشواق والأهواء، وأمّا مصداق الطلب فهو السعي والجدّ الخارجيّ لتحصيل المطلوب.

وبعبارة أخري، أنّه بالنسبة إلي الفعل الخارجيّ الصادر من الإنسان يتحقّق أمران:

أحدهما: ما يكون في النفس وهو الفعل النفسانيّ أو الصفة النفسانيّة ويسمّي بالإرادة.

ثانيهما: ما يكون في الخارج من إنشاء المعني باللفظ أو السعي نحو المطلوب ويسمّي بالطلب وليس هنا صفة نفسانيّة أُخري تكون هي الطلب حتّي تتّحد مع الإرادة.

عدم اتّحاد الإرادة الإنشائيّة مع الطلب الإنشائيّ

وأمّا ما ذكره المحقّق الآخوند(قدس سره) من اتّحاد الإرادة الإنشائيّة مع الطلب الإنشائيّ فيرد عليه عدّة أمور:

ص: 59

أوّلاً: قد أثبتنا تغاير الطلب والإرادة بتفاسيرهما المختلفة.

ثانياً: إنّ الإرادة الإنشائيّة غير متصوّرة بل غير معقولة، لأنّ الإرادة إمّا صفة من صفات النفس أو فعل من أفعالها، وعلي كلّ التقادير، تكون من الأمور الحقيقيّة الواقعيّة التي لها واقعيّة نفسيّة، لا من الأُمور الاعتباريّة، والأمر الإنشائيّ إذا كان في قبال الأمر الحقيقيّ يكون بمعني الاعتباريّ فالإرادة الإنشائيّة في قبال الإرادة الحقيقيّة تكون بمعني الإرادة الاعتباريّة، ومع كون الإرادة من الأمور الحقيقيّة لا يعقل اعتباريّتها فإنّ تعلّق الاعتباربالأمور الحقيقيّة التكوينيّة المتحقّقة في الخارج غير معقول. مثلاً لا يمكن أن يكون الشجر اعتباريّاً ولا يمكن إنشائه، فإنّ الأمور الحقيقيّة الخارجيّة تابعة لعللها التكوينيّة والحقيقيّة وليس الإنشاء -- بمعني الاعتبار لا بمعني الإيجاد -- وعدمه مؤثّراً في تحقّقها وعدمه، فعلي هذا تكون الإرادة الإنشائيّة -- بمعني الإرادة التي اُنشئت بواسطة اللفظ -- غير معقولة، فليس لنا إرادة إنشائيّة كي يقال بأنّها متّحدة مع الطلب الإنشائيّ.

لا يقال: إنّ المراد من الإرادة الإنشائيّة هي الإرادة التشريعيّة التي تكون عبارة عن الأمر والنهي.

لأنّا نقول: إنّ الإرادة حقيقة واحدة ولا تنقسم إلي التكوينيّة والتشريعيّة إلّا باعتبار المتعلّق كما سيأتي فإنّ الأمر والنهي كاشفان عن تعلّق الإرادة بإنشاء الحكم والوجوب أو الحرمة.

نعم يتحقّق المُنشأ بالإنشاء سواء كان المُنشأ أمراً اعتباريّاً كالملكيّة والزوجيّة -- بناء علي القول بأنّها أُمور اعتباريّة -- أو أمراً حقيقيّاً كالملكيّة والزوجيّة --- بناء علي القول بأنّها أُمور حقيقيّة في وعائها تنشأ بإنشاء المنشيء وهو الحقّ كما ثبت في محلّه -- ولكنّ الإنشاء المقابل للحقيقة -- في محلّ البحث -- يأتي بمعني الاعتبار لا بمعني الإيجاد الأعمّ من كونه في وعاء الخارج أو في عالم الاعتبار فتأمّل جيّداً.

ثالثاً: ذهب المشهور إلي أنّ الطلب هو: «إنشاء المعني باللفظ». لكنّ التأمّل في معناه يعطينا خلاف ذلك، فإنّ الطلب حقيقة ولغةً عبارة عن «السعي والحركة نحو تحقّق

ص: 60

المطلوب»، وهذا هو المتبادر إلي الأذهان عند إطلاق مادّة الطلب، كما يقال طلبت الماء، أو طلبت من زيد إتيان الماء بلا فرق بينهما إلّا في المطلوب فتكون صيغة الطلب من المصاديق الخارجيّة للطلب.

توضيح ذلك: إنّ السعي نحو المطلوب يتحقّق تارة بفعل الإنسان نفسه فيما إذا كان المطلوب فعلاً صادراً عن نفسه، كالعطشان الذي يتحرّك في الخارج لتحصيل الماء.وتارةً أُخري يتحقّق بالأمر بأيّ شكل من أشكاله فيما إذا كان المطلوب فعل الغير، فحينئذ يأمر ذلك الغير ويجعل الفعل في عهدته ويحرّكه نحوه ليمتثله وبذلك يتحقّق السعي نحو المطلوب، لأنّ مطلوبه فعل غيره لافعل نفسه، وسعيه نحو تحقّق هذا المطلوب إنّما يتحقّق بأن يأمره ويوجد فيه الداعي إلي إتيان الفعل ويطلب منه ذلك الفعل بمختلف أنحاء الطلب، سواء كان بصيغة إفعل، أو بمادّة الأمر، أو بالجملة الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء، أو بأيّ إشارة تدلّ علي أنّه طلب منه الفعل الكذائيّ، وبه يتحقّق المصداق الواقعيّ والخارجيّ للطلب الذي هو بمعني السعي نحو المطلوب.

زبدة القول في تغاير الطلب والإرادة

فتلخّص: أنّ اختلاف كيفيّة السعي نحو المطلوب لا يوجب رفع اليد عن المعني اللغويّ للفظ الطلب، فتارةً يكون المطلوب فعل نفسه فيتحرّك لتحصيله، كما إذا كان مطلوب الإنسان وصول الماء إلي زيد ليشربه فيقوم ويعطيه الماء وأُخري يعتبر الفعل في ذمّة الغير ويبرز اعتباره بالأمر، فالمطلوب شيء واحد ولكنّ السعي نحوه متعدّد. فالتغاير يكون في المطلوب لا في مفهوم الطلب.

إذا عرفت ذلك، يتبيّن لك أنّ الطلب الإنشائيّ أيضاً غير متصوّر، لأنّ الطلب علي هذا يكون من الأمور الواقعيّة الخارجيّة المتحقّقة بالأعضاء والجوارح، وقد قلنا إنّه لا يمكن إنشاء الأمر الواقعيّ، فإنّه بعد السعي والجدّ نحو المطلوب -- سواء كان المطلوب فعل النفس أو فعل الغير -- يتحقّق المصداق الخارجيّ للطلب، لا أنّه يكون في الثاني إنشاء للطلب، كي يكون شيئاً آخراً غير هذا السعي والجدّ، غاية الأمر أنّه في الأوّل يتحرّك ليحصّل مقدّمات

ص: 61

مطلوبه، وفي الثاني يأمر ويقول: إفعل وبه تحصل مقدّمة مطلوبه أي فعل الغير، وأثر تلك المقدّمة ايجاد الداعي في نفس المخاطب، فالطلب الإنشائيّ -- كالإرادة الإنشائيّة -- غير معقول البتّة.

رابعاً: إنّ مادّة الأمر -- وكذا صيغة إفعل بل سائر ما يستعمل في الطلب -- لا تكون بمعني مفهوم الطلب أو مصداقه، بل بعد استعمالها في معناها يتحقّق المصداق الخارجيّ للطلب الحقيقيّ، إذ من دون الإرادة الجدّية لا يتحقّق مفهوم الطلب وكذا مصداقه.لا يقال: قد يكون الشيئان متغايرين مفهوماً ولكن مع ذلك يتّحدان في المصداق الخارجيّ كما في «زيد قائم» أو «زيد ضارب»، فإنّ مفهوم القيام والضرب غير مفهوم زيد لكنّهما اتّحدا في مصداق واحد، فلِمَ لا يكون الطلب والإرادة متّحدين في المصداق علي رغم تغايرهما في المفهوم؟

لأنّه يقال: إنّ الاتّحاد في المصداق مع التغاير في المفهوم ممكن لكنّه منحصر في أحد الأقسام الثلاثة التالية:

أحدها: إذا كانا من الذاتيّات -- المكوّنة بالجعل التكوينيّ الإلهيّ(1) -- المشتركة في النوع، كالجنس والفصل اللذين يتغايران مفهوماً ويتّحدان مصداقاً في النوع، كالحيوان والناطق بالنسبة إلي الإنسان.

وثانيها: إذا كان أحدهما ذاتيّاً والآخر منتزعاً منه كالإنسان والضاحك فإنّ الضاحك اسم فاعل ومنتزع عن الذات (أي الإنسان) باعتبار تلبّسه بمبدأ الضحك، فما يكون في الخارج موجوداً بوجوده الواقعي هو الإنسان والضحك، وأمّا الضاحك فهو منتزع عنه باعتبار تلبّسه بالضحك.

وثالثها: أن يكون كلاهما من المفاهيم الانتزاعيّة وقد انتزعا من ثالث كالضارب والضاحك في زيد ضارب وضاحك، فإنّهما مفهومان انتزاعيّان ومتّحدان في المصداق

ص: 62


1- 22.. فإنّ القول بالتقرّر الماهويّ وأنّ اللّه تعالي ما جعل المشمشة مشمشةً بل أوجدها مردود قطعاً ومرادنا من الذات--يّات ما يقابل الانتزاعيّات والأعراض.

الخارجيّ، فزيد ضارب وهو أيضاً ضاحك.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي ما نحن فيه: إنّ الطلب والإرادة مختلفان مفهوماً -- علي ما مرّ -- ومصداقاً لأنّهما ليسا من الأقسام السابقة، فإنّه ليس أحدهما جنساً والآخر فصلاً كي يتّحدا في النوع، وليس أحدهما منتزعاً عن الآخر أو يكونا معاً منتزعين عن ثالث، بل الإرادة والطلب أمران حقيقيّان أحدهما في أفق النفس والآخر في الخارج بالوجود الواقعيّ.

خلاصة الكلام: إن كان النزاع بين الأشعريّ والمعتزليّ في اتّحاد الطلب والإرادة وتغايرهما هو الاتّحاد والتغاير في المفهوم الذي يتبعه التغاير في المصداق، فالحقّ مع الأشاعرة لما بيّناه. ولكن لا يذهب عليك فإنّا لا نوافق الأشعري في دليله علي ما ادّعاه، بل ولا في كلّ مدّعاه، إنّما نوافقه في تغاير الطلب والإرادة، وأمّا سوي ذلك من أنّ الطلب هو من الكلام النفسيّ فلا، وسنزيّف عن قريب أدلّتهم علي ذلك.وإن كان النزاع بينهما في المصداق الإنشائيّ، فقد قلنا إنّ الإرادة الإنشائيّة غير متصوّرة علي جميع المسالك. وأمّا الطلب الإنشائيّ فهو متصوّر علي المشهور في معني الأمر وصيغة إفعل، ومع ذلك هو مغاير للإرادة.

وأمّا علي ما حقّقناه من أنّ الطلب الانشائيّ كالإرادة الإنشائيّة غير متصوّر بل غير معقول وأنّ الطلب هو السعي نحو المطلوب سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره فيكون الطلب من الغير باعتبار الفعل في ذمّته وابرازه باللفظ وحينئذٍ فلا نزاع أصلاً في المصداق الإنشائيّ وتكون القضيّة سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 63

ص: 64

الفصل الثاني :نقد أدلّة الأشاعرة علي الكلام النفسيّ

اشارة

ص: 65

ص: 66

استدلّ الأشاعرة علي مدّعاهم في ثبوت الكلام النفسيّ بوجوه:

الوجه الأوّل: الأخبار مع عدم العلم

اشارة

قد يخبر الإنسان عن شيء مع عدم العلم به بأن يقول: زيد قائم مع عدم العلم بأنّه كان قائماً أم لا. وقد يخبر مع العلم بخلافه بأن يقول: زيد قائم مع علمه بأنّه قاعد. فعلي هذا لا تكون الجملة الخبريّة دائماً مع العلم بثبوت النسبة أو العلم بعدمه، بل يوجد في نفس المخبر شيء غير العلم فيخبر عنه وهو الكلام النفسيّ.(1)

والجواب عنه: يظهر من خلال التأمّل في مفاد الجملة الخبريّة وحقيقتها فنقول:

قد يخبر المخبر مع العلم بتحقّق مفاد الجملة الخبريّة وقد يخبر مع عدم العلم بذلك أو العلم بعدمه، فإن كان الأوّل فإنّه يكون المخبر في مثل «زيد قائم» عند الإخبار عالماً بستّة أمور: العلم بلفظ «زيد»، والالتفات إلي أنّه حاك عن شخص خاصّ، والعلم بلفظ «قائم»، والتوجّه إلي حكايته عن الهيئة الخاصّة، والعلم بالجملة من حيث أنّها تحكي عن ثبوتالنسبة، والعلم بأنّ هذه النسبة متحقّقّة خارجاً. وبعد علمه بهذه الأمور يتلفّظ بتلك الجملة فيقول: «زيد قائم».

وأمّا إن كان من النحو الثاني فإنّه يكون المخبر عالماً بخمسة من تلك الأمور دون السادس أي العلم بثبوت النسبة خارجاً. فظهر أنّه لا توجد في نفس المخبر ---- عند إخباره

ص: 67


1- 23.. راجع: شرح المواقف، ج2، ص94.

بالجملة الخبريّة سواء كان مع العلم بتحقّقها أم مع العلم بعدمه ---- صفة أخري غير العلم بهذه الأمور كي يسمّي بالكلام النفسيّ.

وبعبارة أخري: إنّ الفرق بين الجملة الخبريّة الصادقة والكاذبة هو أنّه في الأولي يعلم المتكلّم أنّ هذه النسبة المدلولة بالألفاظ لها واقعيّة خارجيّة، وفي الثانية ليس له هذا العلم أو له العلم بخلافه. وعليه يكون دليلهم بناءاً علي تماميّته دالّاً علي أنّ الإخبار لا يتوقّف علي العلم بوقوع النسبة، فلا دلالة فيه علي ثبوت شيء غير العلم في الجمل الخبريّة الكاذبة.

نعم الغرض من إلقاء المتكلّم كلامه نظير «زيد قائم» إثبات النسبة الثبوتيّة بين القائم وزيد في مثل «زيد قائم» في ذهن المخاطب مع علمه بثبوتها أو عدم ثبوتها واقعاً ولكنّ «الغرض» من إلقاء الكلام غير الكلام النفسيّ الذي ذهب إليه الأشعريّ.

تقريب آخر للوجه الأوّل:

توهّم بعض أنّ الكلام النفسيّ عبارة عن تصوّر المتكلّم مفاد الجملة التي يتكلّم بها، لأنّ التكلّم فعل اختياريّ ومتوقّف علي الحكم والعزم والجزم والإرادة.

وفيه:

أوّلاً: إن كان المراد من الكلام النفسيّ تصوّر مفاد الجملة لأجل أنّ التكلّم فعل اختياريّ والفعل الاختياريّ لابدّ فيه من التصوّر الذي هو الكلام النفسيّ،(1) فيجب أن نلتزم باقتران كلّ فعل اختياريّ -- بما أنّ الفاعل يتصوّره قبل الفعل ثمّ يصدر عنه -- كشرب الماء وأكل الطعام والمشي بفعل نفسانيّ فلابدّ من الالتزام بثبوت الشرب النفسي والأكل النفسيّ والمشيّ النفسيّ، بل الفاعل في هذه الأفعال مضافاً إلي التصوّر يصدّق فائدتها ونتيجتها ثمّ يقدم عليها وهذا واضح البطلان.

وثانياً: إنّ هذا تفسير بما لا يرضي صاحبه، فإنّ القائلين بالكلام النفسيّ يدّعون أنّ

ص: 68


1- 24.. الحقّ أنّ صدور الفعل الاختياريّ من الفاعل المختار يتوقّف علي العلم والقدرة والمشيّة، أمّا التصوّر فغير دخيل فيه إلّا بناءاً علي كون العلم عبارة عن التصوّر والتصديق، وهو مردود كما سيأتي الإشارة إليه في الهامش الآتي.

الكلام النفسيّ -- الذي يزعمون أنّه غير العلم -- يغاير التصوّر وما توهّمه هذا البعض من تفسير الكلام النفسيّ بالتصوّر غير صحيح فإنّ التصوّر -- علي زعمهم -- من أقسام العلم.(1)

ص: 69


1- 25.. لا يخفي إنّ تقسيم العلم إلي الحضوريّ والحصوليّ وتعريف الحصوليّ بأنّه الصورة الحاصلة من الشيء عند النفس أو عند العقل، والحضوريّ بأنّه حضور المعلوم عند العالم من الأغلاط التي وقع فيها الكثير من دون التفات إلي حقيقة العلم وإلي مفاسد هذا التعريف. ونشير إجمالاً إلي ذلك فنقول: إنّ حقيقة العلم هوالنور الذي لا ظلمة فيه وبه يكشف الإنسان كلّ حقيقة. ومن المكشوفات بذلك النور هي الصور الحاصلة عند النفس، فإنّه لا ريب أنّ الصورة النفسانيّة معلومة لنا ونحن عالمون بها، لا أنّها هي علمنا بالخارج، بل إنّ ما يقال أو يتصوّر أو يعقل أمور مظلمة يكون ظهورها بغيرها وهو العلم الخارج عنها، والصورة وحصولها وحضورها وغيرها وكذا ذي الصورة كلّها ظاهرة بأمر آخر يكون هو الكاشف عن جميعها وهو العلم، كما يشهد علي هذا أنّك لو سألتهم: هل تعلمون حضور الشيء عند النفس؟ أو هل تعلمون الصورة الحاصلة؟ أو حصول تلك الصورة عند النفس؟ لقالوا: نعم، فيقال لهم: بماذا تعلمونها؟ وبم صارت معلومة عندكم؟ فما يعلم به تلك الأمور هو العلم، لا تلك الأمور نفسها. مع انّه لو كان علمنا بالخارج من طريق الصور لما أمكن لنا أن نعلم هل هذه الصورة مطابقة مع ذيها أم لا؟ وكيف نحكم بمطابَقته -- بالفتح -- وعدمها مع أنّا لانعلم الخارج إلّا من طريق هذه الصور ولا نري وراء ذلك شيئاً كي نحكم بمطابقته مع الصورة الحاصلة وعدمه، بداهة أنّ الحكم بالمطابقة وعدمها فرع العلم بالشيئين ثمّ النظر في تطابقهما وعدمه، والحال أنّه ليس لنا حسب الفرض علم بشيء غير الصورة الحاصلة حتّي نقول أنّه مطابَق -- بالفتح -- للصورة الحاصلة أم لا، فقد لا تكون هذه الصورة مطابقة لذي الصورة كما هو واقع فعلاً في جملة منها. بل قد لا تكون لهذه الصورة واقعيّة أصلاً كما لو كان خيالاً محضاً. بل الأمر أسوأ حالاً؛ فإنّه بناءاً علي أنّ العلم هي الصور الحاصلة عند النفس لا نتمكّن من إثبات وجود شيء وراء تلك الصور، حيث إنّه كيف يمكن الحكم بوجود شي ء لا يحصل لنا العلم به إلّا من طريق صورة لا نعلم هل يكون بإزائها شي ء أم لا؟! وبعبارة أخري: إنّ انفكاك شيئين ولو مرّة واحدة يدلّ علي تغايرهما ذاتاً فإنّ الذات لا ينفكّ عن ذاتيّاته، ووقوع الانفكاك واقعاً بين العلم والصورة في الجهل المركّب وغيره يدلّ علي تغايرها مع العلم والكشف وأنّ إصابة الواقع لا تكون ذاتيّة لها وإن حسبه القاطع علماً ومصيباً للواقع، لأنّ هذا الوهم الغلط لا يُغيّر حقيقة الصورة بأن يجعلها مطابقة للواقعبعد أن لم تكن كذلك بحسب الواقع، غاية الأمر هو أنّ القطع بإصابتها للواقع يصدّه عن طلب الحقّ فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. فعلمت أنّ الصورة كالقطع لا تكون علماً وكاشفاً عن الحقائق، بل العلم متعالٍ عنهما، وبه يعرف الأشياء وحسنها وقبحها، وبه يعرف الصور الحاصلة عند النفس والقطع الذي هو كيفيّة نفسانيّة، وبه يعلم مطابقة الصور الحاصلة للواقع وعدم مطابقتها. ولولاه لم يحصل لنا صورة ولا حضور ولا قطع ولا يقين وما كنّا قادرين علي فهم اصابتها للواقع وعدمه. وهذا العلم هو الذي جاء به صاحب الشريعة وتحدّي به جميع علماء البشر ودعاهم إليه فما وجدوا محيصاً عن قبول دعوته. هذا وقد استوعبنا البحث عن ذلك في محلّه، وليس المقام محلّ البحث عن ذلك تفصيلاً ومن أراد ذلك فليراجع مظانّه فإنّ مشايخنا العظام قدّس اللّه أسرارهم بحثوا عن هذا تفصيلاً. راجع: تنبيهات حول المبدأ والمعاد لآية اللّه الميرزا حسنعلي المرواريد(رحمه الله)، وتوحيد الإماميّة لآية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ الميانجيّ(قدس سره).

لا يقال: إنّ الكلام النفسيّ عبارة عن النسبة ولا ريب أنّ النسبة موجودة في الجملة الخبريّة بين المسند والمسند إليه.

لأنّه يقال: إنّ القائلين بالكلام النفسيّ يدّعون أنّ هناك شيئاً آخر «وراء التصوّر والإرادة» في النفس، لا في الخارج ويسمّونه بالكلام النفسيّ، أمّا النسبة فهي عبارة عن قيام العرض بالجوهر في الخارج والهيئة دالّة عليها.

الوجه الثاني: الأوامر الامتحانيّة

اشارة

قد يأمر الآمر بشيء ولكن لا يريد تحقّق المأمور به، كما في الأوامر الامتحانيّة فإنّه ليس المراد منها تحقّق المأمور به قطعاً مع أنّه لا ريب أنّ الطلب حاصل فيها دون الإرادة -- أي الشوق والميل نحو تحقّقه --، فالإرادة غير الطلب والطلب هو الكلام النفسيّ.

الجواب: إنّ الجمل الإنشائيّة والأوامر علي قسمين: حقيقيّة وامتحانيّة.

أمّا الجمل الإنشائيّة الحقيقيّة فلا يكون فيها غير الشوق إلي الفعل، فمثلاً قد يشتاق المولي إلي أن يأتي زيد بالماء ويتصوّر «جئني بماء» ثمّ ينشيء الطلب بهذه الجملة بناء علي ما ذهب إليه المشهور، وعليه تدلّ هذه الجملة علي شوق المولي إلي إتيان الماء. وعلي المختار يُبرِز المولي بهذه الجملة اعتبار الفعل في ذمّة المخاطب، فعلي كلا القولين ليس في الأوامر الحقيقيّة شيء في النفس سوي الشوق كي يسمّي بالكلام النفسيّ.

وأمّا في الأوامر الامتحانيّة فنقول: غاية ما يستفاد من هذا الدليل هو أنّ الطلب مغاير للإرادة ونحن نسلّم ذلك كما حقّقناه، ولكن لا نسلّم كون الطلب هو الكلام النفسيّ لأنّ الدليل لا يساعد عليه إذ لا يثبت به أنّ في النفس صفة أخري مغايرة للعلم والإرادة ومقدّماته تسمّي بالكلام النفسيّ، هذا أوّلاً.

ص: 70

وثانياً: إنّه قد مرّ أنّ الطلب ليس أمراً نفسانيّاً، بل هو فعل خارجيّ إذ معناه «السعي نحو المطلوب» وحينئذ إن كان المطلوب فعل نفسه فإنّه يعمد إلي تحصيل مقدّماته، وإن كان المطلوب فعل غيره فإنّه يعتبر الفعل في ذمّته ثمّ يبرزه بالصيغة، فعلي هذا يكون الطلب اسماً للفظ المبرز للاعتبار -- بمعني أنّ هذا اللفظ من مصاديق الطلب -- ولا يكون في النفس كي يسمّي بالكلام النفسيّ هذا بناءاً علي ما هو الصحيح.

وأمّا علي المشهور الذي يمكن بناءاً عليه تصوّر الطلب الإنشائيّ أي «إيجاد المعني باللفظ» فأيضاً لا مجال للكلام النفسي لأنّ ما اصطلحه الأشاعرة من الكلام النفسيّ هو لفظ الطلب، أي صيغة إفعل أو غيره في الأوامر الامتحانيّة وهذا بناءاً علي مبناهم يكون من الطلب الإنشائيّ.

خلط المعني الاصطلاحيّ للإرادة بالمعني اللغويّ

وثالثاً: إنّ هذه المغالطة ناشئة من خلط المعني الاصطلاحيّ بالمعني اللغويّ العرفيّ.

توضيح ذلك: إنّ الشوق يكون علي معنيين:

أحدهما: ما يستعمل في العرف وهو قريب من معني الحبّ ويعبّر عنه بالفارسيّة: ب--(دوست داشتن).

وثانيهما: ما اصطلح عليه المشهور من أنّه بمعني الإرادة التي فسّروها بالميل الشديد الأكيد المستتبع لحركة العضلات نحو تحقّق الفعل.

والفرق بين المعنيين، هو أنّ الشوق بالمعني الأوّل يمكن أن يتعلّق بفعل الإنسان نفسه ويمكن أن يتعلّق بفعل الغير، بخلاف المعني الثاني فإنّه لا يمكن أن يتعلّق بفعل الغير لأنّهم يعتبرون هذا الشوق علّة تامّة للفعل بحيث يستحيل تخلّفه عن المراد، والشوق بهذا المعني لا يمكن أن يتعلّق بفعل الغير.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الإرادة لا تتعلّق بفعل الغير في الأوامر الحقيقيّة فضلاً عن الأوامر الامتحانيّة، فإنّه قد مرّ أنّ الشوق الذي يسمّي بالإرادة عند المشهور لا يمكن أن يتعلّق بفعل الغير. نعم لو أراد المستدلّ من كلامه إثبات أنّ الشوق بالمعني الأوّل الموجود

ص: 71

في الأوامر الحقيقيّة لا يوجد في الأوامر الامتحانيّة فهذا صحيح ولكن لا ينفعه أبداً، فإنّ ذلك الشوق لا يطلق عليه اسم الإرادة وانفكاكه عن الطلب ممّا لا ضير فيه.إنّما الإرادة التي توجد في الأوامر حقيقيّة كانت أو امتحانيّة، هي الإرادة التي تتعلّق بفعل الغير بتلفّظ الآمر بالأمر بأشكاله المختلفة، لا إرادة امتثال المأمور فإنّ الإرادة لا تتعلّق بالفعل الصادر عن الغير باختياره، فلذا يقال: إنّ شأن الأمر ليس إلّا الداعويّة أي إيجاد الداعي في المأمور، وأمّا تحقّق الفعل وعدمه فهو أمر آخر تابع لإرادة المأمور نفسه ولا يرتبط بصيغة الأمر، وهو يكون غايةً للأمر لا متعلّقاً للإرادة. هذا إذا كان الأمر حقيقيّاً، وأمّا إذا كان الأمر امتحانيّاً يكون الغرض منه شيئاً آخر كاستعلام حال المأمور أو إتمام الحجّة عليه أو غير ذلك.

فتحصّل: أنّ الفارق بين الأوامر الحقيقيّة والامتحانيّة ليس هو وجود الشوق إلي تحقّق المأمور به «بمعني إرادة تحقّقه» في الأوّل دون الثاني، كلّا! إنّ الشوق بهذا المعني -- لو سلّمناه -- لا يوجد أصلاً لا في الأوّل ولا في الثاني، فإنّ فعل كلّ فاعل معلول لإرادته لا إرادة غيره. إنّما الفارق الحقيقيّ بينهما أنّه يكون الغرض والغاية من الأمر والداعي إليه في الأوامر الحقيقيّة هو تحقّق المأمور به وفي الأوامر الامتحانيّة شيئاً آخر غير تحقّق الفعل في الخارج.

والحاصل: إنّا نسلّم أنّ الألفاظ غير الطلب، ونسلّم أيضاً أنّ الإرادة مغايرة للطلب، وأنّ الميل والشوق غير العلم بثبوت النسبة وعدمها وغير العلم بالألفاظ ومعانيها، وأمّا وجود صفة أخري في النفس -- غير العلم والإرادة -- التي تُسمّي بالكلام النفسيّ فلا يثبت بهذا الدليل.

نعم لا يبعُدُ أن يدّعي أنّه ليس للّه تعالي أمر امتحانيّ وجميع أوامره حقيقيّة وتكون من باب إتمام الحجّة، فإنّه من الواضح أنّ اللّه تعالي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور كما أنّه يعلم مآل العبد إيماناً وكفراً فلا يمكن أن يكون أمره للامتحان والاختبار لعلمه بما كان وما يكون بل وما لم يكن، فجميع الأوامر حقيقيّة بالنسبة إليه، أي إنّه تعالي يأمر لإتمام الحجّة علي العباد ولسوقهم نحو رحمته وحياشةً لهم عن غضبه وناره، ففي جميع أوامره تعالي يكون المأمور به مطلوباً حقيقيّاً، وليس له تعالي أمر يكون المأمور به في ذلك الأمر غير مطلوب

ص: 72

حتّي يكون أمراً غير حقيقيّ، وما يتوهّم كونه من الأوامر الامتحانيّة فالمأمور بهفيها يكون مطلوباً حقيقيّاً إلّا أنّه نشأ للّه تعالي فيها البداء.

وقوع البداء في ذبح إسماعيل

فقضيّة ذبح إسماعيل(عليه السلام) من البدائيّات حيث روي أنّه حصل للّه تعالي فيه البداء، نعم قد روي أنّ للّه تعالي إرادتين: «إرادة حتم» و«إرادة عزم» فإنّه تعالي أمر إبراهيم(عليه السلام) بالذبح ولم يشأ.(1)

وأمّا بالنسبة إلي المخلوق فيحتمل أن يكون الأمر الامتحانيّ -- علي حسب الاصطلاح -- متعلّقاً بمقدّمات الفعل لا نفس الفعل.

وبناءاً علي هذا تنقلع مادّة الشبهة من أساسها حيث أنّ المستدلّ علي الكلام النفسيّ بالأوامر الامتحانيّة قد ادّعي أنّه ليس فيها طلب حقيقيّ يستفاد من الأمر فمدلول الأمر يكون هو الكلام النفسيّ، والجواب عن هذه الشبهة بناءاً علي المبني المذكور أنّه ليس من الأوامر ما يكون للامتحان بحيث لا يكون المأمور به مطلوباً حقيقيّاً فالقضيّة سالبة بانتفاء الموضوع.

الوجه الثالث: إطلاق الكلام علي ما في النفس

اشارة

إنّه قد يطلق الكلام في العرف علي ما يوجد في النفس لا علي ما ينطق باللسان، كما يقال:

هذا الكلام موجود في نفسي، أو أنّ في نفسي كلاماً لا أستطيع أن أتلفّظ به، أو أنّ في نفسي أقوالاً لامصلحة في إبرازها.(2)

وقال الشاعر:

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما * جعل اللسان علي الفؤاد دليلا

ص: 73


1- 26.. التوحيد، ص64، ح18؛ بحارالأنوار، ج4، ص292، ح21.
2- 27.. ويقال في الفارسيّة: «اين سخن در دلم هست يا بود، يا آنقدر در دلم صحبت وحرف هست كه نمي توانم بگويم، يا در دلم سخناني است كه مصلحت در ابراز آن نيست».

الجواب:

حاكميّة العرف في تشخيص المفاهيم

إنّ العرف إنّما يكون حاكماً في تشخيص مفاهيم الألفاظ، وأمّا مسألة وجود الكلام النفسيّ وعدمه، فليس من سنخ مداليل الألفاظ كي يرجع فيها إلي العرف لأنّه مرتبط بوجود صفة في النفس -- غير الصفات المشهورة -- وعدمها ولا مساس لمثلها بالألفاظ.

فعلي هذا يلزم أن نتأمّل في النفس بدقّة لنعلم أنّه هل توجد فيها صفة أخري غير الصفات المشهورة أم لا؟ وليس للعرف هنا مرجعيّة كما هو واضح.وغاية ما يمكن أن يدّعي هو أنّ العرف قد يطلق الكلام علي ما في النفس. ولكن فيه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، وهذا استعمال مجازيّ وعلاقته علاقة المشارفة، بمعني أنّ المعاني الموجودة والمعلومة في الذهن التي تكون علي شرف التكلّم بها، يطلق عليها الكلام مجازاً لأنّها سوف تصير كلاماً، كقوله تعالي حكايةً لقول صاحب النبيّ يوسف في السجن وهو يحاوره: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾.(1)

الوجه الرابع: «وأسرّوا قولكم أو اجهروا به»

قوله تعالي: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(2) فإنّ هذه الآية تدلّ علي أنّ الكلام نوعين أحدهما: الكلام والقول السرّيّ وثانيهما: الكلام الجهريّ.

والجواب: إنّ اللّه تعالي قسّم في هذه الآية الكلام اللفظيّ المنطوق باللسان إلي السرّيّ -- أي النجوي -- والجهريّ، فالمراد أنّه تعالي عالم بكلّ قول سرّاً كان أو جهرا.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ المراد من قول السرّ هو القصد إلي تكلّم شيء كقصد التكلّم بالغيبة أو الكذب مثلاً، فهو تعالي عالم بما يقصد الإنسان التكلّمَ به وعالم بما يتكلّم.

ص: 74


1- 28.. يوسف12.، الآية 36.
2- 29.. الملك67.، الآية 13.

الوجه الخامس: «إن تبدوا ما في أنفسكم...»

قوله تعالي: ﴿إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُ-خْفُوهُ يُ-حَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾(1) يدلّ علي المؤاخذة علي الكلام المخفيّ في النفس وعلي إبداء ذلك الكلام.

والجواب: لا يوجد في هذه الآية عنوان الكلام والقول، بل الثابت فيها هو: «ما في النفس» فالآية تدلّ علي ثبوت المحاسبة علي ما في النفس سواء أبداه الإنسان وأظهره أم أخفاه. فحينئذ كيف تدلّ الآية علي ثبوت الكلام النفسيّ؟ ولعلّ المراد من المؤاخذة علي ما في النفس هي المؤاخذة علي النيّة والقصد وهو الذي عبّر عنه بما خفي في النفس، وعلي الأعمال الخارجيّة وهو الذي عبّر عنه بإبداء ما في النفس، وهذا ما يبحث عنه في مبحث التجرّي ولا ربط له بالكلام النفسيّ أبدا.

الوجه السادس: «ولا تقف ما ليس لك به علم»

قوله تعالي: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾(2) فإنّه يدلّ علي السؤال عمّا في الفؤاد وهو الكلام النفسيّ.

والجواب: لا دلالة للآية علي وجود الكلام النفسيّ، إنّما تدلّ علي ثبوت المؤاخذة علي ما في النفس وهو أعمّ من المدّعي، بل المراد هو القصد والنيّة والظنون والمعتقدات كما ورد في الأخبار.

الوجه السابع: صفة التكلّم في اللّه تعالي

اشارة

يتوقّف علي مقدّمات:

الأولي: لا ريب في إطلاق المتكلّم علي اللّه تبارك تعالي كما قال عزّ من قائل: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَي تَكْلِيماً﴾.(3)

ص: 75


1- 30..البقرة2.، الآية 284.
2- 31.. الإسراء17.، الآية 36.
3- 32.. النساء4.، الآية 164.

الثانية: إنّه تعالي قديم وليس محلّاً للحوادث.

الثالثة: لاريب في أنّ الكلام اللفظيّ حادث لما مرّ من أنّ الألفاظ مركبّة من الحروف والمركّب حادث، مع أنّ الألفاظ تدريجيّة الوجود وغير قارّة الذات فكلّ جزء من أجزائها توجد وتنعدم ثمّ يوجد الجزء الآخر.

فنستنتج من انضمام هذه المقدّمات أنّ إطلاق المتكلّم علي اللّه تعالي ليس باعتبار الكلام اللفظيّ لأنّه تعالي قديم والألفاظ حادثة ولا يمكن إطلاق المتكلّم عليه باعتبار شيء حادث، فيجب أن نتصوّر وصفاً قديماً يتّحد مع الذات كي يكون باعتبار تلك الصفة متكلّماً، وليس هو إلّا الكلام النفسيّ، وهو غير العلم لأنّ ذات الباري يطلق عليه العالم باعتبار العلم لا باعتبار التكلّم.

لا يقال: إنّ إطلاق المتكلّم عليه باعتبار إيجاده الكلام في الشجر أو الحجر كما في قصّة موسي(عليه السلام)، لا باعتبار الكلام النفسيّ القديم.

لأنّا نقول: إنّ إيجاد جميع الأشياء مستند إلي ذات الباري تعالي فلو كان إيجاد الكلام في الخارج سوّغ لنا إطلاق المتكلّم عليه، فيجب أن يطلق عليه تعالي اسم الباكي والضاحك لأنّ إيجاد الضحك والبكاء قد أسند إليه، كما أسند إليه إيجاد الموت قال تعالي:﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَي * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾.(1)وهذا بديهيّ البطلان فإطلاق المتكلّم عليه ليس باعتبار إيجاد الكلام وصدوره منه، بل باعتبار اتّصافه بالكلام النفسيّ القديم لا اللفظيّ الحادث.

الجواب:
تقسيم كمالات اللّه إلي الذاتيّة والفعليّة

ينبغي ذكر مقدّمة وهي: أنّ كمالات ذات الباري علي ما دلّت عليه الأخبار وهو الحقّ وعليه أهل الحقّ علي قسمين:

ص: 76


1- 33.. النجم53.، الآيتان 43-44.

أحدهما: الصفات الذاتيّة(1) وهي صفات تكون عين الذات لا زائداً عليه ويستحيل تخلّفها عن الذات. وملاك هذا القسم أنّه لا يمكن سلبها عنه ولا يصحّ اتّصاف ذاته تعالي بنقيضها وهكذا بأضداد هذه الصفات حتّي مع اختلاف المتعلّق والزمان، فلا يمكن أن يقال: إنّه تعالي عالم بزيد وليس عالماً بعمرو، أو عالم بزيد في يوم الجمعة وليس عالماً به في يوم السبت، لأنّ العلم من صفات الذات وكذلك القدرة والحياة.(2)

ثانيهما: «صفات الفعل» وهي صفات قابلة للإثبات والنفي باعتبار المتعلّقات والأزمنة، كالخلق فإنّه يقال: إنّه تعالي خالق لزيد وغير خالق للعنقاء، أو هو خالق لزيد في هذه السنة وغير خالق له في السنة السابقة.

أدلّة كون التكلّم من صفات الفعل

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه لا دليل علي أنّ التكلّم من صفات الذات، بل الدليل قائم علي خلافه، فإنّه بحسب المناط المذكور آنفاً يكون التكلّم من صفات الفعل، لأنّه يصحّ أن يقال: إنّ اللّه كلّم موسي ولم يكلّم زيداً، أو كلّم موسي بعد ما جاء من عند أهله ولم يكلّمه قبل ذلك، ولذا قال اللّه تعالي: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَي﴾.(3)

وبعد ما ثبت أنّ التكلّم من صفات الفعل، فلا وجه للبحث عن القدم والحدوث في الألفاظ حتّي يقال: «إنّ الألفاظ حادثة فلا يصحّ إطلاق المتكلّم عليه بلحاظ الألفاظ»، فإنّ التكلّم من الأفعال كالخلق والرزق لا من الصفات، وكلام المستدلّ جار بعينه في

ص: 77


1- 34.. الصحيح كما مرّ هو التعبير بالكمالات الذاتيّة فكلّما عبّرنا بالصفات الذاتيّة إنّما هو لجري البحث علي النحو المتعارف ومرادنا هي الكمالات الذاتيّة.
2- 35.. نعم يصحّ سلب العلم عنه تعالي بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما في قوله تعالي:﴿أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ «يونس 10.، الآية 18» فسلب العلم في مثل هذه الموارد كناية عن عدم تحقّقها حيث إنّ علم الباري تعالي بما يكون متحقّقاً من أبده البديهيّات. وللتفصيل راجع إلي ما تعرّض له شيخنا الأستاذ المغفور له آية اللّه الميرزا حسنعليّ المرواريد(رحمه الله) في كتاب تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص138.
3- 36.. طه20.، الآية 11؛ النمل27.، الآية 8؛ والقصص28.، الآية 30.

الخلق والرزق طابق القذّة بالقذّة، وعليه يجب الالتزام بقدم الخلق والرزق النفسييّن أيضاً ولا قائل به، هذا.وأمّا ما ذكره المستدلّ من أنّه تعالي أوجد الضحك والبكاء والموت، فلو صحّ إطلاق المتكلّم عليه بلحاظ إيجاده الكلام لصحّ إطلاق الباكي والضاحك عليه باعتبار إيجاده الضحك والبكاء، ففيه:

أوّلاً: أنّه قد حقّق في محلّه أنّ المشتقّ يدلّ علي الذات المتلبّس بالمبدأ بأحد أنواع التلبّس، فتارةً يكون التلبّس بنحو الصدور كالضارب فإنّ الضرب قائم بالضارب باعتبار صدوره منه وإلّا فإنّ الضرب في الحقيقة قائم بالمضروب، وتارةً يكون بنحو الحلول كالمريض، وثالثةً بنحو الوقوع عليه. وإطلاق المتكلّم عليه تعالي إنّما يكون باعتبار تلبّسه بالتكلّم بنحو الصدور والإيجاد منه وبهذا النحو يصحّ إطلاق الضاحك والباكي أيضاً.

بعبارة أخري: إنّ إطلاق المتكلّم علي كلّ من تكلّم إنّما يكون باعتبار إيجاد الكلام وصدوره منه لا باعتبار الحلول والعروض، وهكذا الحال في الباري تعالي وخصوصيّة الصدور من المتكلّم هو الذي يسوّغ الاتّصاف به حتّي قال بعض: «ليس للمتكلّم مبدء ومصدر حقيقيّ لأنّ المصدر الأصليّ له هو «الكلم» بمعني الجرح لا بمعني التكلّم باللفظ» وعلي هذا يكون مصدر المتكلّم مصدر جعليّ «كاللابن» و«التامر» ونحو قولنا «تعمّم» و«تقمّص» و«تنعّل» ممّا يكون المبدء فيه اسماً للأعيان، فيطلق علي الشخص المتكلّم باعتبار إيجاد الكلام. ومن الواضح أنّ الكلام من قبيل الكيف المسموع فإنّ ما يسمع بالتكلّم إنّما هي أمواج تتموّج وتتحرّك بالحنجرة واللسان والأسنان والشفتين، فالكلام قائم بالريح والمتكلّم هو الذي يوجد التموّج في الهواء، فبناءاً علي هذا يكون إطلاق المتكلّم علي اللّه تعالي باعتبار إيجاد الأمواج الصوتيّة في الشجر، فالتكلّم يكون من الأفعال كالضاحك والباكي بلا فرق وليس من الصفات.

زبدة القول في صفة التكلم
اشارة

فتحصّل: ممّا ذكرنا أنّه إن كان مراد المستدلّ من إطلاق المتكلّم عليه تعالي تلبّسه به بنحو

ص: 78

الحلول والعروض، فلا يصحّ ذلك الإطلاق لا في التكلّم ولا في الضاحك والباكي، وإن كان بلحاظ صدور التكلّم منه وإيجاده الكلام يصحّ ذلك الإطلاق في المتكلّم والضاحك والباكي بلا فرق.ثانياً: إنّ الأفعال تختلف بحسب الجعل والوضع، ففي الأفعال المتعدّية يكون إطلاق المشتقّ بلحاظ إيجاد الفعل فيقال لمن أوجد الضرب: «الضارب» ويطلق «الخالق» عليه تعالي بلحاظ إيجاد الخلق، بخلاف الأفعال اللازمة فإنّه لا يصحّ إطلاق المشتقّ فيها علي من أوجد المبدأ، بل يطلق علي المتلبّس به، والضحك والبكاء والموت من هذا القبيل فإطلاق الضاحك والباكي يصحّ علي من تلبّس بالضحك والبكاء بنحو الحلول والعروض لا علي موجدها. وعدم صحّة استعمال هذه الصفات في الباري تعالي إنّما هو من جهة استحالة تلبّسه بهما لأنّه يستلزم التغيير.

وبعبارة أخري: إنّ صحّة إطلاق المشتقّ وعدم صحّته في الموجد للمبدء ليس قياسيّاً بل هو موقوف علي السماع وتابع للعرف، والعرف يري التكلّم من سنخ الأفعال الإيجاديّة المتعدّيّة والضحك والبكاء من سنخ الأفعال الحلوليّة اللازمة، وإطلاق المشتقّات علي الذوات في القسم الأوّل إنّما يكون بلحاظ إيجادها كما أنّه في القسم الثاني يكون بلحاظ التلبّس الحلوليّ الذي هو ممتنع في الباري تعالي.

وأيضاً يشهد العرف بأنّ التكلّم ليس من سنخ الصفات الذاتيّة غير الحادثة، ولذا لا معني للكلام النفسيّ وإلّا يجب اتّصاف ذات الباري بالخالق والرازق باعتبار الخلق والرزق النفسيّين القديمين، ومن الواضح أنّه لا معني للخلق أو الرزق النفسيّ، بل هذه الأمور من سنخ الأفعال.

النتيجة

إنّ المشتقّ علي ثلاثة أقسام: قسمان منه يجوز إطلاقه عليه تعالي. وقسم يستحيل إطلاقه عليه تعالي.

الأوّل: ما كان من صفاته الذاتيّة كالعالم، فيصحّ إطلاقه عليه بلحاظ أنّ ذاته القدّوس

ص: 79

عين العلم.

والثاني: ما كان من صفاته الفعليّة كالمتكلّم والخالق والرازق، ويصحّ إطلاق هذه الصفات بلحاظ إيجادها وهذا لا يكون إلّا في المشتقّات التي مبدئها من الأمور المتعدّية التي يكون تلبّسه بها باعتبار إيجاد مباديها.

والثالث: ما كان من قبيل عروض المبدء علي الذات كالضاحك والباكي ويمتنع إطلاقه عليه تعالي للزومالتغيّر فيه وصيرورته محلّاً للحوادث، إلّا أن يكون المراد أنّه أوجد الضحك والبكاء.

الوجه الثامن: تكليف الكفّار بالفروع مع عدم الإرادة في حقّهم

اشارة

ما ذكره صاحب الكفاية: من أنّ الكفّار والعصاة مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول كما هو المشهور بين الفحول،(1) واستدلّوا بظواهر بعض الآيات كقوله تعالي: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَ-خُوضُ مَعَ الْ-خَائِضينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾،(2) فإنّ تكذيب يوم القيامة موجب للكفر ومع ذلك ذكر في علّة تعذيبهم ترك الصلاة والزكاة أيضاً، ولاسيّما في التكاليف التي خاطب اللّه جميع الناس بها كقوله تعالي: ﴿وَلِلهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾،(3) فإنّهم لمّا كانوا مكلّفين بالفروع فيكون الطلب في حقّهم موجوداً لوجهين:

أحدهما: أنّه لو لم يكن الطلب ثابتاً في حقّهم فلا وجه لعقابهم لعدم التكليف مع عدم الطلب.

ثانيهما: لو لم يكن الطلب في حقّهم يكون الأمر بالطاعة والإيمان بلا معني والمفروض توجّه الأمر إليهم، فلابدّ من وجود الطلب في حقّهم، هذا بالنسبة إلي الطلب.

أمّا الإرادة فلا تكون من الباري بالنسبة إليهم، لأنّ إرادته تعالي لا تنفكّ عن المراد فلو

ص: 80


1- 37.. وخالف ذلك بعض الأعلام واستدلّوا علي مدّعاهم بأدلّة لا يسمح المقام بإيرادها.
2- 38.. المدثّر74.، الآيات 42 - 46.
3- 39.. آل عمران3.، الآية 97.

أراد شيئاً لَتحقّق قطعاً، فوجود الكفر والعصيان دليل علي أنّه تعالي لم يرد منهم الطاعة والإيمان، وهذا بنفسه دليل علي تغاير الطلب والإرادة، والطلب هو الكلام النفسيّ الذي هو مدلول الكلام اللفظيّ.

جواب الآخوند: الإرادة التشريعيّة موجودة دون التكوينيّة

وأجاب عنه المحقّق الآخوند(رحمه الله): بأنّ الموجود في باب التكاليف هي الإرادة التشريعيّة وهذه الإرادة تتخلّف أحياناً عن المراد، وما لا يتخلّف فيه المراد عن الإرادة إنّما هي الإرادة التكوينيّة. وهذه الإرادة غير لازمة في باب الأحكام الشرعيّة، فاللّه تعالي أراد منهم الطاعة والإيمان لكن بالإرادة التشريعيّة التي يجوزتخلّفها عن المراد لا الإرادة التكوينيّة التي لا تكاد تتخلّف عن المراد.

وفي طيّ كلامه يفسّر الإرادة بالعلم ويقول:

الإرادة التكوينيّة هو العلم بالنظام علي النحو الكامل التامّ، والإرادة التشريعيّة هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف.

تحقيق الجواب

أقول: هنا أمران: الأوّل: الجواب عن دليل الأشاعرة. والثاني: الكلام حول مقالة صاحب الكفاية.

أمّا الأمر الأوّل فنقول: غاية ما يستفاد من هذا الدليل هو تغاير الطلب مع الإرادة ونحن نسلّمه كما حقّقناه، ولكن وجود الكلام النفسيّ وأنّه هو الطلب الموجود في النفس بحيث تكون صفة في النفس غير العلم والإرادة والعزم والجزم التي تسمّي بالطلب النفسيّ والكلام النفسيّ المدلول عليه باللفظ، فلا يثبت بهذا الدليل.

إن قلت: الكلام النفسيّ هو تصوّر مطابقة دلالة الألفاظ مع المراد.

قلت: يدخل هذا في جملة التصوّرات الموجودة في التكلّم، والتصوّر هو العلم علي ما اصطلحه جمع من الفلاسفة، لكنّ الأشاعرة يدّعون وجود صفة أخري غير الإرادة والعلم المصطلح عليها.

ص: 81

إن قلت: إنّ اعتبار الفعل أو الترك في ذمّة الغير هو الكلام النفسيّ.

قلت: الاعتبار إنّما يكون فعلاً من أفعال النفس والأشاعرة يدّعون أنّ الكلام النفسيّ هو شيء ثابت في النفس -- وهو من الصفات النفسانيّة -- لا في الخارج وهو غير العلم والتصوّر وغير الاعتبار وفعل النفس.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّ الموجود في نفس المتكلّم ليس إلّا تصوّر الألفاظ والمعاني وحكايتها والتصديق بأثرها، وتصوّر دلالة الألفاظ علي المعاني ومطابقة الألفاظ في الدلالة علي المراد، واعتبار الفعل أو الترك في ذمّة العبد، والإرادة وإبرازها بالألفاظ، وكلّ هذه الأمور إمّا من صفات النفس أو من أفعالها، والأشاعرة يدّعون وجود صفة أخري في النفس قد يعبّرون عنها بالطلب وقد يعبّرون عنها بالكلام النفسيّ. ويستدلّون عليه بتغاير الطلب والإرادة، لابدليل يُثبت وجود هذه الصفة في النفس، فهذا الإشكال إنّما يكون علي صاحب الكفاية القائل باتّحاد الطلب والإرادة، ولا يرد علي القائلين بتغايرهما.

هذا علي مسلك القوم، والحقّ الحريّ بالقبول هو أنّ المشاهد بالوجدان حين التكلّم هو وجود العلم بالمعاني والألفاظ وعلاميّة الألفاظ للمعاني الخارجيّة ولا دخل لتصوّر الألفاظ والمعاني في إلقاء الكلام إلّا بناءاً علي تفسير العلم بالتصوّر والتصديق وهو مردود كما أوضحناه في محلّه.

ملحوظة

يستفاد من طيّ المباحث أنّ الأمر قد اختلط علي صاحب الكفاية وعدّة من الأعاظم، وأنّ الالتفات إلي تمايز بحث اتّحاد الطلب والإرادة أو تغايرهما عن بحث الكلام النفسيّ والتفكيك بينهما يوجب الصون عن الوقوع في كثير من الأغلاط.

وأمّا الأمر الثاني، وهو البحث حول جواب صاحب الكفاية عن هذا الدليل وتقسيمه للإرادة ثمّ تفسيرها بالعلم، فيتطلّب بحثاً مستقلّاً حول إرادة اللّه تعالي وحقيقتها، فنعقد لذلك الفصل الآتي ونتكلّم فيه بالتفصيل إن شاء اللّه تعالي.

ص: 82

الباب الثاني :الكلام حول إرادة اللّه تعالي

اشارة

وفيه فصول

الفصل الأوّل: معني إرادته تعالي

الفصل الثاني: تقسيم إرادته تعالي بحسب الاصطلاح

الفصل الثالث: تقسيم إرادته تعالي بحسب الروايات

ص: 83

ص: 84

الفصل الأوّل :معني إرادته تعالي

اشارة

ص: 85

ص: 86

إرادته تعالي فعله

مذهب الفلاسفة

إنّ الإرادة في الباري تعالي -- علي مذهب الفلاسفة -- تعدّ من الصفات الذاتيّة فبعضهم قال بأنّها عبارة عنابتهاج الذات بالذات وهذا هو مذهب الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ، وإليك نصّ عبارته:

ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة كما هو مختار الأكابر من المحقّقين هو الإبتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالي، إلي أن قال: بخلاف الواجب تعالي فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوّة والنقصان فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة وحيث إنّه صرف الوجود وصرف الوجود صرف الخير فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج في مرحلة الفعل فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره.(1)

وقال صدرالدين الشيرازيّ:

فأمّا القيّوم (جلّ ذكره) فذاته أجلّ من الكثرة والداعية الخارجيّة والانفعال والابتهاج بما وراء ذاته لأنّه نهاية المآرب والمطالب وليس له شوق حاشاه عن ذلك ولا محبّة بما سواه ولا قصد إلي تحصيل شيء عازم له كما علمت مراراً بل هو مبتهج بذاته لذاته ويلزم من هذا الابتهاج ويترشّح منه حصول سائر الخيرات والابتهاجات علي سبيل الفعل والإبداع والإفاضة لا علي شاكلة الانفعال

ص: 87


1- 40.. نهاية الدراية، ج1، ص194 (مبحث الطلب والإرادة).

والاتّصاف والاستحصال، إلي أن قال: إرادته للأشياء عين علمه بها وهما عين ذاته.(1)

كما أنّ بعضهم ذهب إلي كون إرادته تعالي هو علمه بالمكوّنات والمصالح والمفاسد واعتبرها من الصفات الذاتيّة أيضاً، كما صرّح بذلك الآخوند في عبارته السالفة ذكرها.

قال صدر الدين الشيرازيّ:

الإرادة ... في الواجب تعالي لبرائته عن الكثرة والنقص، ولكونه تامّاً وفوق التمام تكون عين الداعي وهو نفس علمه الذي هو عين ذاته بنظام الخير في نفس الأمر المقتضي له.(2)

وقال أيضاً:

قاعدة في أنّ صدور الأشياء المكوّنة عن علمه تعالي:

فالذي يعقله العاقلون ويعرفه الحكماء الإلهيّون في كيفيّة صدور الأشياء المتجدّدة عن علمه أنّ الرحمة الإلهيّة والعناية الربانيّة لمّا لم يجز،إلي أن قال... فظهر ممّا ذكرنا أنّ علمه تعالي محيط بجميع الأشياء الكلّيّة والجزئيّة لأنّ كلّ شيء من لوازم ذاته بوسط أو بغير وسط يتأدّي إليه بعينه قضاءه وقدره الذي هو تفصيل قضاءه تأدّياً واجباً إذ كلّ ما لم يجب وجوده أوّلاً لم يوجد أخيراً فالعناية الإلهيّة هي إحاطة علمه البسيط الذي هو نفس وجوده بالكلّ وبالواجب أن يكون عليه الكلّ حتّي يكون علي غاية الجودة والنظام وأبلغ الكمال والتمام وأحسنه وبأنّ ذلك واجب عنه تعالي وعن إحاطة علمه به ليكون الموجود علي وفق المعلوم علي أكمل الوجوه في النظام فعلمه سبحانه بكيفيّة الخير والصواب في ترتيب وجود عالمي الغيب والشهادة هو منبع لفيضان الكلّ.(3)

مناقشة مذهب الفلاسفة في الإرادة

وهذا علي خلاف الوجدان والنصوص المتظافرة، فإنّ الإرادة بالنسبة إلي اللّه تعالي عبارة عن إعمال القدرة والعزم، وفي المخلوق عبارة عن إعمال القدرة والعزم الوارد علي جميع

ص: 88


1- 41.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص355.
2- 42.. المبدأ والمعاد، ص135.
3- 43.. أسرار الآيات، ص48.

العلل التكوينيّة والأشواق والشهوات، وبالتالي لا يمكن الحكم بأنّ الشخص الفلانيّ أراد شيئاً إلّا بعد تحقّق ذلك الشيء، وهذا يكون في المخلوق مسبوقاً بإعمال الفكر والرويّة والفحص والبحث والاختيار، وذلك لقصور علمه، وأمّا في اللّه تعالي فلا تكون الإرادة وإعمال القدرة مسبوقةً بالتفكّر والتروّي، فإرادته تعالي إحداثه لا غير، وهذا ما صُرِّح به في روايات كثيرة.

موقف أهل البيت(عليهم السلام) في إرادة اللّه وإصرارهم علي حدوثها

منها: ما ورد في الكافي و التوحيد و العيون و البحار مسنداً عن صفوان بن يحيي قال: قلت لأبي الحسن(عليه السلام)، أخبرني عن الإرادة من اللّه عزّوجلّ ومن الخلق؟ فقال:

الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه عزّوجلّ فإرادته إحداثه لا غير، ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر وهذه الصفات منفيّة عنه، وهي من صفات الخلق فإرادة اللّه هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون بلا لفظولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك كما أنّه بلا كيف.(1)

ومنها: ما رواه الكلينيّ بسنده عن عاصم بن حميد، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال:قلت: لم يزل اللّه مريداً؟ قال:

إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد.(2)

ومنها: ما رواه مسنداً عن بكير بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): علم اللّه ومشيّته هما مختلفان أو متّفقان؟ فقال:

العلم ليس هو المشيّة، ألا تري أنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه ولا تقول: سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: (إن شاء اللّه) دليل علي أنّه لم يشأ فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، وعلم اللّه السابق للمشيّة.(3)

ص: 89


1- 44.. الكافي، ج1، ص109، ح3؛ التوحيد، ص147؛ عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص119، ح11؛ بحارالأنوار، ج4، ص137، ح4.
2- 45.. الكافي، ج1، ص109، ح1؛ بحارالأنوار، ج54، ص163، ح101.
3- 46.. الكافي، ج1، ص109، ح2؛ بحارالأنوار، ج4، ص144، ح15.

ومنها: ما رواه مسنداً عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

المشيئة محدثة.(1)

ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن سليمان بن جعفر الجعفريّ قال: قال الرضا(عليه السلام):

المشيّة والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ اللّه تعالي لم يزل مريداً شائيّاً فليس بموحّد.(2)

ومنها: ما رواه مسنداً عن حمّاد بن عثمان، عن عبدالرحيم القصير، قال: كتبت علي يدي عبد الملك بن أعين إلي أبي عبداللّه(عليه السلام): جعلت فداك، اختلف الناس في أشياء قد كتبت بها إليك، فإن رأيت جعلني اللّه فداك أن تشرح لي جميع ما كتبت به إليك، ... فكتب(عليه السلام) علي يدي عبد الملك بن أعين:

... كان عزّوجلّ ولا متكلّم ولا مريد ولا متحرّك ولا فاعل عزّوجلّ ربّنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه، عزّوجلّ ربّنا ... .(3)

ومنها: ما رواه بسنده عن الحسن بن محمّد النوفليّ يقول: قدم سليمان المروزي متكلّم خراسان علي المأمون فأكرمه ووصله ثمّ قال له: إنّ ابن عمّي عليّ بن موسي قدم عليّ من الحجاز وهو يحبّ الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.

... فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عمّا بدا لك وعليك بحسن الاستماع والانصاف.قال سليمان: يا سيّدي أسألك؟

قال الرضا(عليه السلام): سل عمّا بدا لك.

قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسماً وصفةً مثل حيّ وسميع وبصير وقدير؟

قال الرضا(عليه السلام): إنّما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل علي أنّها ليست بمثل سميع بصير ولا قدير.

ص: 90


1- 47.. الكافي، ج1، ص110، ح7.
2- 48.. التوحيد، ص337، ح5؛ بحارالأنوار، ج4، ص145، ح18.
3- 49.. التوحيد، ص226، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص30، ح39.

قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً.

قال(عليه السلام): يا سليمان فإرادته غيره؟

قال: نعم.

قال(عليه السلام): فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل.

قال سليمان: ما أثبتّ.

قال الرضا(عليه السلام): أ هي محدثة؟

قال سليمان: لا ما هي محدثة.

فصاح به المأمون وقال: يا سليمان مثله يعايا أو يكابر، عليك بالانصاف أما تري من حولك من أهل النظر، ثمّ قال: كلّمه يا أبا الحسن فإنّه متكلّم خراسان.

فأعاد عليه المسألة فقال: هي محدثة يا سليمان فإنّ الشيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً وإذا لم يكن محدثاً كان أزليّاً.

قال سليمان: إرادته منه كما أنّ سمعه منه وبصره منه وعلمه منه.

قال الرضا(عليه السلام): فإرادته نفسه؟!

قال: لا.

قال(عليه السلام): فليس المريد مثل السميع والبصير.

قال سليمان: إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.

قال الرضا(عليه السلام): ما معني أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً أو أراد أن يكون حيّاً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً؟

قال: نعم.

قال الرضا(عليه السلام): أ فبإرادته كان ذلك؟

قال سليمان: لا.قال الرضا(عليه السلام): فليس لقولك: أراد أن يكون حيّاً سميعاً بصيراً معنًي إذا لم يكن ذلك بإرادته.

قال سليمان: بلي قد كان ذلك بإرادته.

فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضا(عليه السلام).

ص: 91

ثمّ قال لهم: ارفقوا بمتكلّم خراسان، يا سليمان فقد حال عندكم عن حالة وتغيّر عنها وهذا ممّا لا يوصف اللّه عزّ وجلّ به، فانقطع.

... ثمّ قال الرضا(عليه السلام): يا سليمان أسألك مسألة.

قال: سل جعلت فداك.

قال: أخبرني عنك وعن أصحابك تكلّمون الناس بما يفقهون ويعرفون أو بما لا يفقهون ولا يعرفون؟

قال: بل بما يفقهون ويعرفون.

قال الرضا(عليه السلام): فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد.

قال: جعلت فداك ليس ذاك منه علي ما يعرف الناس ولا علي ما يفقهون.

قال(عليه السلام): فأراكم ادّعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم علي ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جواباً.

... ثمّ قال الرضا(عليه السلام): يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل؟

قال: بل هي فعل.

قال: فهي محدثة لأنّ الفعل كلّه محدث.

قال: ليست بفعل.

قال: فمعه غيره لم يزل.

قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.

قال: يا سليمان هذا الذي ادّعيتموه علي ضرار وأصحابه من قولهم: إنّ كلّ ما خلق اللّه عزّ وجلّ في سماء أو أرض أو بحر أو برّ من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابّة إرادة اللّه عزّ وجلّ، وإنّ إرادة اللّه عزّ وجلّ تحيي وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر، وتشرك، فتبراء منها وتعاديها وهذا حدّها.

قال سليمان: إنّها كالسمع والبصر والعلم.

ص: 92

قال الرضا(عليه السلام): قد رجعت إلي هذا ثانية، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع؟

قال سليمان: لا.

قال الرضا(عليه السلام): فكيف نفيتموه فمرّة قلتم لم يرد ومرّة قلتم أراد، وليست بمفعول له؟

قال سليمان: إنّما ذلك كقولنا مرّة: علم، ومرّة: لم يعلم.

قال الرضا(عليه السلام): ليس ذلك سواء لأن نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأنّ الشيء إذا لم يكن إرادة وقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيراً وإن لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم.

قال سليمان: إنّها مصنوعة.

قال(عليه السلام): فهي محدثة ليست كالسمع والبصر لأنّ السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.

قال سليمان: إنّها صفة من صفاته لم تزل.

قال: فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل لأنّ صفته لم تزل.

قال سليمان: لا لأنّه لم يفعلها.

قال الرضا(عليه السلام): يا خراسانيّ ما أكثر غلطك، أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟

قال سليمان: لا.

قال: فإذا لم يكن بإرادته ولا مشيّته ولا أمره ولا المباشرة فكيف يكون ذلك؟ تعالي اللّه عن ذلك، فلم يحر جواباً.

ثمّ قال الرضا(عليه السلام): ألا تخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾(1) يعني بذلك أنّه يحدث إرادة؟

قال له: نعم.

قال: فإذا أحدث إرادة كان قولك: إنّ الإرادة هي هو أم شيء منه باطلاً لأنّه لا

ص: 93


1- 50.. الإسراء17.، الآية 16.

يكون أن يحدث نفسه ولا يتغيّر عن حاله، تعالي اللّه عن ذلك.

قال سليمان: إنّه لم يكن عني بذلك أنّه يحدث إرادة.قال: فما عني به؟

قال: عني فعل الشيء.

قال الرضا(عليه السلام): ويلك كم تردّد هذه المسألة، وقد أخبرتك أنّ الإرادة محدثة لأنّ فعل الشيء محدث.

قال: فليس لها معني.

قال الرضا(عليه السلام): قد وصف نفسه عندكم حتّي وصفها بالإرادة بما لا معني له! فإذا لم يكن لها معني قديم ولا حديث بطل قولكم: إنّ اللّه لم يزل مريداً.

قال سليمان: إنّما عنيت أنّها فعل من اللّه لم يزل.

قال: ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وحديثاً وقديماً في حالة واحدة؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضا(عليه السلام): لا بأس، أتمم مسألتك.

قال سليمان: قلت: إنّ الإرادة صفة من صفاته.

قال الرضا(عليه السلام): كم تردّد عليّ أنّها صفة من صفاته، وصفته محدثة أو لم تزل؟

قال سليمان: محدثة.

قال الرضا(عليه السلام): اللّه أكبر فالإرادة محدثة، وان كانت صفة من صفاته لم تزل، فلم يرد شيئاً.

قال الرضا(عليه السلام): إنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً.

قال سليمان: ليس الأشياء إرادة ولم يرد شيئاً.

قال الرضا(عليه السلام): وسوست يا سليمان فقد فعل وخلق ما لم يرد خلقه ولا فعله، وهذه صفة من لا يدري ما فعل، تعالي اللّه عن ذلك.

قال سليمان: يا سيّدي قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.

قال المأمون: ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردّد اقطع هذا وخذ في غيره إذ ليست تقوي علي هذا الردّ.

ص: 94

قال الرضا(عليه السلام): دعه يا أمير المؤمنين، لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجّة، تكلّم يا سليمان.

قال: قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضا(عليه السلام): لا بأس، أخبرني عن معني هذه، أ معني واحد أم معان مختلفة؟

قال سليمان: بل معني واحد.

قال الرضا(عليه السلام): فمعني الإرادات كلّها معني واحد؟قال سليمان: نعم.

قال الرضا(عليه السلام): فإن كان معناها معني واحداً كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة الحياة وإرادة الموت إذا كانت إرادته واحدة لم يتقدّم بعضها بعضاً ولم يخالف بعضها بعضاً، وكان شيئاً واحداً.

قال سليمان: إنّ معناها مختلف.

قال(عليه السلام): فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها؟

قال سليمان: بل هو الإرادة.

قال الرضا(عليه السلام): فالمريد عندكم يختلف إن كان هو الإرادة؟

قال: يا سيّدي ليس الإرادة المريد.

قال(عليه السلام): فالإرادة محدثة، وإلّا فمعه غيره. افهم وزد في مسألتك.

قال سليمان: فإنّها اسم من أسمائه.

قال الرضا(عليه السلام): هل سمّي نفسه بذلك؟

قال سليمان: لا، لم يسمّ نفسه بذلك.

قال الرضا(عليه السلام): فليس لك أن تسمّيه بما لم يسمّ به نفسه.

قال: قد وصف نفسه بأنّه مريد.

قال الرضا(عليه السلام): ليس صفته نفسه أنّه مريد إخبار عن أنّه إرادة ولا إخباراً عن أنّ الإرادة اسم من أسمائه.

قال: سليمان: لأنّ إرادته علمه.

قال الرضا(عليه السلام): يا جاهل فإذا علم الشيء فقد أراده؟

ص: 95

قال سليمان: أجل.

قال(عليه السلام): فإذا لم يرده لم يعلمه.

قال سليمان: أجل.

قال(عليه السلام): من أين قلت ذاك، وما الدليل علي أنّ إرادته علمه. وقد يعلم ما لا يريده أبداً، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾(1) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً.قال سليمان: لأنّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً.

قال الرضا(عليه السلام): هذا قول اليهود، فكيف قال عزّ وجلّ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.(2)

قال سليمان: إنّما عني بذلك أنّه قادر عليه.

قال(عليه السلام): أفيعد ما لا يفي به؟! فكيف قال عزّ وجل: ﴿يَزِيدُ فِي الْ-خَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾(3) وقال عزّ وجلّ: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(4) وقد فرغ من الأمر؟! فلم يحر جواباً.

قال الرضا(عليه السلام): يا سليمان هل يعلم أنّ إنساناً يكون ولا يريد أن يخلق إنساناً أبداً؟ وأنّ إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم؟

قال سليمان: نعم.

قال الرضا(عليه السلام): فيعلم أنّه يكون ما يريد أن يكون، أو يعلم أنّه يكون ما لا يريد أن يكون؟

قال: يعلم أنّهما يكونان جميعاً.

قال الرضا(عليه السلام): إذن يعلم أنّ إنساناً حيّ ميّت، قائم قاعد، أعمي بصير في حال واحدة، وهذا هو المحال.

قال: جعلت فداك فإنّه يعلم أنّه يكون أحدهما دون الآخر.

ص: 96


1- 51.. الإسراء17.، الآية 86.
2- 52.. غافر40.، الآية 60.
3- 53.. فاطر35.، الآية 1.
4- 54.. الرعد13.، الآية 39.55. الإسراء17.، الآية 86.

قال(عليه السلام): لا بأس، فأيّهما يكون: الذي أراد أن يكون؟ أو الذي لم يرد أن يكون؟

قال سليمان: الذي أراد أن يكون.

قال سليمان: الذي أراد أن يكون.

فضحك الرضا(عليه السلام) والمأمون وأصحاب المقالات.

قال الرضا(عليه السلام): غلطت وتركت قولك: إنّه يعلم أنّ إنساناً يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم، وأنّه يخلق خلقاً وهو لا يريد أن يخلقهم، فإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون، فإنّما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.

قال سليمان: فإنّما قولي: إنّ الإرادة ليست هو ولا غيره.

قال الرضا(عليه السلام): يا جاهل! إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره فقد جعلتها هو.قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشيء؟

قال(عليه السلام): نعم.

قال سليمان: فإنّ ذلك إثبات للشيء.

قال الرضا(عليه السلام): أحلت لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً.

ثمّ قال له: يا سليمان هل يعلم أنّه واحد لا شيء معه؟

قال: نعم.

ص: 97

قال: أفيكون ذلك إثباتاً للشيء؟

قال سليمان: ليس يعلم أنّه واحد لا شيء معه.

قال الرضا(عليه السلام): أ فتعلم أنت ذلك؟

قال: نعم.

قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذاً!!

قال سليمان: المسألة محال.

قال: محال عندك أنّه واحد لا شيء معه وأنّه سميع بصير حكيم عليم قادر؟!

قال: نعم.

قال(عليه السلام): فكيف أخبر اللّه عزّ وجلّ أنّه واحد حيّ سميع بصير عليم خبير وهو لا يعلم ذلك؟! وهذا ردّ ما قال وتكذيبه، تعالي اللّه عن ذلك.

ثمّ قال الرضا(عليه السلام): فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنّما هو متحيّر، تعالي اللّه عن ذلك.

قال سليمان: فإنّ الإرادة القدرة.

قال الرضا(عليه السلام): وهو عزّ وجلّ يقدر علي ما لا يريده أبداً، ولا بدّ من ذلك لأنّه قال تبارك وتعالي: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾(55-) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته، فانقطع سليمان.

قال المأمون عند ذلك: يا سليمان هذا أعلم هاشميّ، ثمّ تفرّق القوم.(1)

أقول: هذه الروايات الشريفة ونظائرها -- ممّا لم نذكرها -- ناصّة علي أنّ المشيّة والإرادة فعل اللّه سبحانهوإحداثه، وهذا ليس أمراً تعبديّاً بل الوجدان خير دليل عليه، وليس بيان وعيان وبرهان أسطع نوراً وأحكم بنياناً ممّا بيّنه الأئمّة المعصومون خزنة علم اللّه وحملة كتابه عليهم أفضل الصلوة والسلام، فقد أضاء الإمام الثامن عليّ بن موسي الرضا -- روحيفداه -- الصبح لذي عينين في مناظرته مع سليمان المروزيّ رغم مكابرته عن قبول الحقّ، وما أبقي -- بأبي هو وأمّي -- مفرّاً للمتكلّم المعاند ومن حذا حذوه.

ميزة الكمالات الذاتيّة عن صفات الفعل وحدوث الإرادة

ولابدّ لنا من الإشارة إلي إحدي بياناته(عليه السلام)، فإنّه كما مرّ بيانه أنّ كمالات الذات لا يصحّ سلبها عن الذات ولو في آنٍ ولا يجوز اتّصاف الذات بنقيضها وأضدادها ولو باعتبار تغاير المتعلّق، بخلاف صفات الفعل الذي يمكن فيه ذلك. وإذا جئنا إلي موضع النقض والإبرام نري أنّ الإرادة بهذا الملاك تكون من صفات الفعل لامحالة، فإنّه يصحّ أن نقول: إنّ اللّه تعالي أراد الشيء الكذائيّ بينما لم يرد الآخر مثلاً، فهو لم يرد الظلم والكفر، أو لم يرد خلق

ص: 98


1- 56.. التوحيد، ص441-454، ح1؛ بحارالأنوار، ج10، ص229، ح2.

أشياء مع أنّه أراد خلق زيد في هذه السنة، وتري أنّه لا يصحّ وضع كلمة «العلم» مكان «الإرادة» في شيء من الاستعمالات القرآنيّة والحديثيّة فإنّ اللّه تعالي يقول: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾،(1) وقال: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ﴾،(2) فلو كانت الإرادة من صفات الذات لم يصحّ سلبها عنه تعالي في شيء من الأشياء وفي وقت من الأوقات، كما أنّه لا يصحّ أن يقال: ما علم اللّه كما يقال: ما أراد اللّه.

والمائز بين كمالات الذات وصفات الفعل من أوضح الواضحات لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد. ولمكان أهمّيّة هذا البحث أصرّ عليه الأئمّة المعصومون والأمناء علي الوحي والعلماء باللّه(عليهم السلام)، وعليك بإمعان الفكر والنظر في ما ذكرنا من الروايات الشريفة وغيرها وما ورد في افتراق كمالات الذات والأفعال، وقد عقد الشيخ الصدوق(قدس سره) في كتابه التوحيد باباً جمع فيه الأخبار المتضمّنة لهذا البحث، وهكذا صنع ثقة الإسلام الكلينيّ(قدس سره) في الكافي.(3)

ومن البديهيّ أنّ الخلط بين كمالات الذات وصفات الفعل وعدم التمييز بينهما يوجب الوقوع في الظلماتوالانحراف عن الصراط المستقيم، كما أنّ التمييز بينهما من أركان التوحيد، ولذا تري أنّ الصدوق(رحمه الله) يسمّي مناظرة الإمام الرضا(عليه السلام) مع سليمان المروزيّ بالمناظرة في التوحيد، فعليك بالتأمّل التامّ الكامل في هذا البحث.

منشأ توهّم رجوع الإرادة إلي العلم والذات عند الفلاسفة

ثمّ لا يخفي أنّ منشأ هذا التوهّم من الفلاسفة وإرجاعهم الإرادة إلي الذات والعلم، هو ما ذهبوا إليه من أنّ العلّة والموجب لفيضان نظام الخير علي الوجه الأصلح الأوفق عنه تعالي هو علمه بنظام الخير أو الابتهاج، ومجرّد ثبوت العلم كاف في صدور الفعل عنه تعالي بالوجوب.

ص: 99


1- 57.. البقرة2.، الآية 185.
2- 58.. آل عمران3.، الآية 108.
3- 59.. الكافي، ج1، ص107-109؛ التوحيد، ص139-148.

ويشهد علي ما ذكرنا ما في عبارات الملّاصدرا في أسفاره:

بل هو مبتهج بذاته لذاته ويلزم من هذا الابتهاج ويترشّح منه حصول سائر الخيرات والابتهاجات علي سبيل الفعل والإبداع لا علي شاكلة الانفعال والاتصاف والاستحصال.(1)

وقوله:

بل نفس علمه بنظام الأشياء الممكنة علي الترتيب الفاضل هو سبب موجب لوجود تلك الأشياء علي النظام الموجود.(2)

وقوله:

بل تخصيصه بأمر -- وكذا تخصيص سائر الأشياء بخواصّها ولوازمها -- يتبع حكمة اللّه وعلمه وإرادته التي هي عين علمه ولا استبعاد في كون العلم نفسه سبباً لصدور الاشياء ووجودها ... فكذلك العلم البسيط الازليّ الذي للباري تعالي بالممكنات الذي هو عين ذاته المقدّسة سبب لوجود الممكنات مفصّلة في الخارج.(3)

ويشهد علي ما ذكرنا أيضاً كلماته في أسرار الآيات:

قاعدة في أنّ صدور الأشياء المكوّنة عن علمه تعالي: فالذي يعقله العاقلون ويعرفه الحكماء الإلٰهيّون في كيفيّة صدور الأشياء المتجدّدة عن علمه إنّ الرحمة الإلٰهيّة والعناية الربّانيّة كما لم يجز ... فظهر ممّا ذكرنا إنّ علمه تعالي محيطاًبجميع الأشياء الكليّة والجزئيّة لأنّ كلّ شيء من لوازم ذاته بوسط أو بغير وسط يتأدّي إليه بعينه قضائه وقدره الذي هو تفصيل قضائه تأدّياً واجباً إذ كلّ ما لم يجب وجوده أوّلاً لم يوجد أخيراً فالعناية الإلهيّة هي إحاطة علمه البسيط الذي هو نفس وجوده بالكلّ وبالواجب أن يكون عليه الكلّ حتّي يكون علي غاية الجودة والنظام وأبلغ الكمال والتمام وأحسنه وبأنّ ذلك واجب عنه تعالي وعن إحاطة علمه به ليكون الموجود علي وفق المعلوم علي أكمل الوجوه في النظام فعلمه سبحانه بكيفيّة الخير والصواب في ترتيب وجود عالمي الغيب والشهادة هو منبع لفيضان الكلّ.(4)

ص: 100


1- 60.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص355.
2- 61.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص359.
3- 62.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص347.
4- 63.. أسرار الآيات، ص48.

تزييف منشأ الشبهة

ولكن من الواضح أنّ خالقيّته تعالي للأشياء ليست بمعني كونه تعالي علّة لتحقّقها كعلّيّة النار لتحقّق الحرارة وليس المخلوق مسانخاً له في وجه من الوجوه، بل هو تعالي مباين لجميع ما أحدثه في الذات والصفات.

وقد تقرّر في محلّه أنّ علمه سبحانه هو العيان علي نحو الحقيقة والإحاطة، لا بواسطة الصور القائمة بذاته ولا حضور المخلوقات عنده كحضور الحالّ عند المحلّ والمعلول عند العلّة. ولا ينحصر علمه تعالي بالنظام الواحد الأصلح، لعدم تناهي علمه وعدم التعيّن فيه، فإنّ التعيّن يلازم المحدوديّة، ولا محدوديّة في ذاته تعالي الذي هو عين العلم والقدرة، بل التعيّن يرجع إلي الخارج عن الذات كما مرّ؛ فهو عالم بلا نهاية فيعلم لكلّ شيء حدوداً وأطواراً غير متناهيّة، كما أنّه تعالي يقدر علي إيجاد كلّ شيء بأطوار مختلفة.

وهو تعالي عالم إذ لا معلوم من دون احتياج في ثبوت علمه القدّوس إلي المعلوم كما بيّنه الإمام(عليه السلام) في حديث سليمان المروزيّ عندما أراد سليمان أن يستدلّ بعلمه تعالي الأزلي علي وجود المعلومات والمخلوقات الأزليّة، فردّ عليه الإمام(عليه السلام) بقوله:

أحلت لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً ... إذا كان الصانع لا يدريكيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنّما هو متحيّر، تعالي اللّه عن ذلك.(1)

وعلي هذا يمكن نفي الإرادة عنه تعالي ولا يمكن نفي العلم عنه لأنّ نفي المراد مساوق لنفي الإرادة، بينما أنّ نفي المعلوم لا يساوق نفي العلم. كما قال الرضا(عليه السلام):

ليس ذلك سواء لأنّ نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون.

ويستحيل تعيّن العلم بالنظام الواحد وتعيّن النظام الواحد بالإرادة الذاتيّة بالمعني الذي ذكروه في مرتبة الذات. ذلك أنّ تعيّن النظام الأحسن يوجب تحديد علمه وقدرته تعالي فإنّ الالتزام بالنظام الأحسن يكون بمعني أنّه تعالي لا يعلم غير ذلك ولا يقدر علي

ص: 101


1- 64.. التوحيد، ص453، ح1؛ بحارالأنوار، ج10، ص337، ح2.

خلق أحسن منه، والحال أنّه لا نهاية لعلمه وقدرته عزّوجلّ فهو عالم بالنظامات الحسني وقادر علي خلقها بما لا يعدّ ولا يحصي ولا يتعيّن عليه أحدها دون الآخر، بل اللّه تعالي قادر علي أن يخلق خلقاً ونظاماً غير هذا وهو عالم به كما قال تعالي:

﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾؛(1)

و﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَي ذلِكَ قَدِيراً﴾؛(2)

و﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَايَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾؛(3)

و﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْ-حَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِ-خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذلِكَ عَلَي اللَّهِ بِعَزيزٍ﴾.(4)

وقول سليمان المروزيّ ونظرائه من المنكرين للبداء حينما قال: «لأنّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئا»، مردود بما قال الرضا(عليه السلام):

هذا قول اليهود، فكيف قال عزّ وجلّ: ﴿أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.(5) قال سليمان: إنّما عني بذلك أنّه قادر عليه. قال(عليه السلام): أ فيعد ما لا يفي به؟! فكيف قال عزّوجلّ: ﴿يَزِيدُ فِي الْ-خَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾؛(6) وقالعزّ وجلّ: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.(7)

هذا، ولاستيفاء الكلام في كلّ واحدة من هذه المباحث من البداء والعلم بلا معلوم وإبطال كون فاعليّته تعالي بالتطوّر وإبطال تحديد علمه وقدرته تعالي مجال واسع،

ص: 102


1- 65.. الإسراء17.، الآية 86.
2- 66.. النساء4.، الآية 133.
3- 67.. الأنعام6.، الآية 133.
4- 68.. إبراهيم14.، الآيتان 19-20 وقد ورد ذيل الآية الأولي وتمام الآية الثانية مرّة أخري في سورة فاطر35.، الآيتان 16-17.
5- 69.. غافر40.، الآية 60.
6- 70.. فاطر35.، الآية 1.
7- 71.. الرعد13.، الآية 39.

والدخول فيها بالتفصيل يخرجنا عن الغرض من وضع هذه الرسالة وقد استوعبنا البحث عنها في محلّه، وفيما ذكرنا هنا غني وكفاية.(1)

إيقاظ: لوازم كون الإرادة من صفات الذات

ثمّ لا يخفي أنّ للقول بكون الإرادة من الصفات الذاتيّة وأنّها بمعني العلم توالي فاسدة وباطلة بضرورة الأديان والشرائع الإلهيّة.

منها: تعدّد القدماء

لزوم الشرك والقول بقدم الموجودات وأزليّتها، خلافاً لضرورة جميع المذاهب والأديان والملل الإلهيّة، لاستحالة تخلّف المراد عن الإرادة الحتميّة كما قال(عليه السلام): إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه،(2) وهذا القول عين الشرك.

وقد روي عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام):

لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ولا أوائل أبديّة.(3)

وقال(عليه السلام):

ولو كان (الكلام) قديماً لكان إلهاً ثانيا.(4)

وعن مولاتنا فاطمة الزهراء؟سها؟:

ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها.(5)

روي الصدوق بإسناده عن الحسين ابن خالد، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) أنّه قال:

إعلم -- علّمك اللّه الخير -- أنّ اللّه تبارك وتعالي قديم، والقدم صفة دلّت العاقل

ص: 103


1- 72.. راجع: توحيد الإماميّة، ص 311-322 (في المشيّة والإرادة والقدر والقضاء) و ص 257-286 (في علمه تعالي) وكذا تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص192 (في استغناء نور العلم في كشفه عن وجود المعلوم) و ص 261 (في مسألة البداء) وأيضاً لاحظ كتابنا البداء آية عظمة اللّه.
2- 73.. الكافي، ج1، ص109، ح1؛ بحارالأنوار، ج54، ص38.
3- 74.. نهج البلاغة، الخطبة 163، ص233.
4- 75.. نهج البلاغة، الخطبة 186، ص274.
5- 76.. دلائل الإمامة، ص 111 ؛ بحارالأنوار، ج29، ص221، ح8.77. التوحيد، ص186، ح2؛ بحارالأنوار، ج4، ص176، ح5. 78.. راجع: التوحيد، ص 294-304 (الباب 42).

علي أنّه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميّته ... وبطل قول من زعم أنّه كان قبله أو كان معه شيء وذلك أنّه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له لأنّه لم يزل معه، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه ... .(77-)

إلي غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.(1) وقد بسط الكلام في هذه المسأله العلّامة المجلسيّ(قدس سره) في السماءوالعالم من بحاره الشريف فراجع،(2) وقال في جملة ما قال:

إذا أمعنت النظر فيما قدّمناه، وسلكت مسلك الانصاف، ونزلت عن مطيّة التعنّت والاعتساف، حصل لك القطع من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة الواردة بأساليب مختلفة، وعبارات متفنّنة، من اشتمالها علي بيانات شافية وأدلّة وافية، بالحدوث بالمعني الذي أسلفناه. ومن تتبّع كلام العرب وموارد استعمالاتهم وكتب اللغة، يعلم أنّ الإيجاد، والإحداث، والخلق، والفطر، والإبداع، والاختراع، والصنع، والإبداء، لا تطلق إلّا علي الإيجاد بعد العدم.(3)

وقال الشيخ الأعظم مرتضي الأنصاريّ(رحمه الله):

وكلّما حصل القطع من دليل نقليّ، مثل القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع علي حدوث العالم زماناً، فلا يجوز أن يحصل القطع علي خلافه من دليل عقليّ، مثل استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر، ولو حصل منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة.(4)

ومنها: لزوم السنخيّة أو الشرك

لزوم الشرك أو السنخيّة بين الخالق والمخلوق، فإنّه في فرض قدم الموجودات لا يخلو الأمر من أن يكون ذاتها وحقيقتها (أي الأصيل من الماهيّة والوجود عند القائلين به) مترشّحة من ذات الباري ومتولّدة منه وداخلة في حقيقته أزلاً، أو تكون خارجة منه ومستقلّة عنه ومباينة له.

ص: 104


1- 78.. راجع: التوحيد، ص 294-304 (الباب 42).
2- 79.. بحارالأنوار، ج54، ص2 إلي 316.
3- 80.. بحارالأنوار، ج54، ص254.
4- 81.. فرائد الأصول، ج1، ص57.

فإن كان الأوّل فهو يستلزم كمال السنخيّة بين المخلوقات والخالق المتعال القدّوس ---- فإنّ القول بكون فاعليّته تعالي بنحو الصدور والتولّد والعليّة يستلزم السنخيّة وإن كانت الإرادة محدثة فضلاً عن كونها قديمة ---- ولازمه القول بأنّ فاعليّته تعالي بالتجلّي والترشّح والتولّد؛ فإنّ الموجودات إذا كانت مراداً بالإرادة القديمة فلا يمكن أن يكون هناك فعل وخلق وإنشاء وإبداع وإبداء وجعل، لما قد فرض في موضوع كلّ واحد منها المسبوقيّة بالعدم كما قال الإمام الرضا(عليه السلام):

فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه.(1)بل يجب أن تكون الموجودات كلّها مظاهر تجلّي ذات الحقّ بمعني أنّ اللّه تعالي تطوّر وتكثّر وتشأّن بهذه الأطوار والكثرات. ولزوم السنخيّة واضح وبطلانه أوضح، واستنكار الشرايع لها من أبده البديهيّات.

وإن كان الثاني فهو عين الشرك بالواحد القهّار كما قال مولي الموحّدين(عليه السلام):

ولو كان (الكلام) قديماً لكان إلهاً ثانيا.

ومنها: القول بالجبر

القول بالجبر في أفعال العباد كما وقع صاحب الكفاية في هذا المحذور.

ومنها: تحديد علمه تعالي وقدرته

أنّ القول به يستلزم تحديد علمه تعالي بالنظام الأصلح وتحديد قدرته بإيجاده فقط دون سائر النظامات الحسني وهو مردود.

ومنها: إنكار قدرة اللّه وأنّه مجبور في أفعاله

إنكار كون فاعليّته تعالي بالقدرة والمشيّة ولزوم كونه تعالي فاعلاً مضطرّاً ولزوم صدور ما يعلمه عنه وعدم إمكان منع الفعل، وهذا مناف لروح القدرة، كما سنبيّن إن شاء اللّه تعالي.

ص: 105


1- 82.. الكافي، ج1، ص120، ح2؛ بحارالأنوار، ج4، ص176، ح5.

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) بعد ذكر خبر سليمان المروزيّ:

حكم(عليه السلام) في هذا الخبر مراراً بأنّه لا يكون قديم سوي اللّه، وأنّه لا يعقل التأثير بالإرادة والاختيار في شيء لم يزل معه.(1)

وقد صرّح بتنافي القدرة مع القول بالعلّيّة الملّاصدرا الشيرازيّ فقال:

فعلم المبدء بفيضان الأشياء عنه وأنّه غير مناف لذاته هو إرادته لذلك ورضاه، فهذه هي الإرادة الخالية عن النقص والإمكان وهي تنافي تفسير القدرة بصحّة الفعل والترك.(2)

ومنها: إنكار علم اللّه وقدرته وبما لم يرد

تحديد علمه تعالي بما أراد ونفي العلم بالنسبة إلي ما لا يريده، لأنّه مع العلم لكان المعلوم متحقّقاً في الخارج، لما فرض من اتّحاد العلم والإرادة؛ فنفي الإرادة يستتبع نفي العلم، وقد أخبر تعالي عن ما لايريده أبداً كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه﴾.(3)

ومنها: إنكار البداء

إنكار البداء أو إثبات الجهل والتغيّر في الذات، لأنّ البداء تغيير في المشيّة فلو كانت المشيّة والإرادة هي العلم لكان تغيير المشيّة تغييراً في العلم والذات.

تنبيه

لا تنحصر المفاسد الهامّة المترتّبة علي كون الإرادة من الصفات الذاتيّة بما أشرنا إليه، ولسنا بصدد التعرّض لجميعها وفيما ذكرنا كفاية لمن كان متحرّياً للحقّ وليس بصدد اللجاج والعناد الحاصل بسبب الأنس والاعتقاد بما ذكره علماء البشر، ولأجل ذلك كان الأئمّة(عليهم السلام) -- وبهم عُرف اللّه ووُحّد -- مهتمّين غاية الاهتمام بإثبات هذه الحقيقة وبيان أنّ الإرادة ليست من صفات الذات وليست عبارة عن العلم، بل العلم غير الإرادة وهي .

ص: 106


1- 83.. بحارالأنوار، ج54، ص58.
2- 84.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص317.
3- 85.. الأنعام6.، الآية 28.

غير العلم، وليست قديمة بل هي من صفات الفعل وتكون حادثة، وقد مرّ بعض تلك الروايات الشريفة آنفا. ورأيت أنّهم(عليهم السلام) كيف أصرّوا علي ذلك، ولقد صرّح الإمام الرضا(عليه السلام) في خبر سليمان بن جعفر الجعفريّ بأنّه: من زعم أنّ اللّه تعالي لم يزل مريداً شائيّاً فليس بموحّد.(1)

فيعلم من صريح الخبر أنّ قبول هذه الحقيقة من أركان التوحيد وذلك لأجل إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه.(2) كما مرّ في رواية عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام).

فالعجب كلّ العجب ممّن فسّر الإرادة بالعلم وصرّح بكونها من صفات الذات والتزم بلوازمه من الجبر و استناد أفعال العباد إليه تعالي!

وغير خفيّ علي المتأمّل المنصف أنّ هذا الاعوجاج والانحراف الواضح نشأ من الإعراض عن الصراط المستقيم الذي هدي اللّه الخلق إليه بكلامه المجيد وأوليائه المعصومين(عليهم السلام) ومن متابعة أقوال علماء البشر، أعاذنا اللّه من هذا وأشباهه.

الفرق بين المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء والإمضاء

لابدّ في مبحث الإرادة من التنبيه علي أمر هامّ وهو: أنّ الظاهر أنّ الإرادة في الباري تعالي قد تطلق علي الرأي والبداء بمعني نشوء الرأي -- كما يلوح ذلك من قوله تعالي: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(3)، كما أنّ المشيّة قد تطلق علي البداء والرأي.

وقد تطلق الإرادة علي العزيمة علي ما يشاء كما في الخبر الوارد في تفسير إرادة الربّ تعالي ومراحل فعله:

لايكون إلّا ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضي، يا يونس تعلم ما المشيّة؟ فقلت: لا، قال: هي الذكر الأوّل، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة علي ما يشاء، فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء، ثمّ قال: والقضاء هو الإبرام وإقامة العين.(4)

ص: 107


1- 86.. التوحيد، ص338، ح5؛ بحارالأنوار، ج54،ص37، ح12.
2- 87.. الكافي، ج1، ص109، ح1؛ بحارالأنوار، ج4،ص144، ح16.
3- 88.. يس36.، الآية 82.
4- 89.. الكافي، ج1، ص157، ح4؛ بحارالأنوار، ج5، ص116، ح49.

فلابدّ لتحقّق الفعل في الخارج من المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء بحسب هذا الخبر.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ تفسير الإرادة بإعمال القدرة مبنيّ علي الإطلاق الأوّل، والإرادة بمعني التأكيد علي المشيّة والبقاء عليها تكون من مصاديق الرأي والبداء وإعمال القدرة وقد أشار الإمام الرضا(عليه السلام) إلي معني الإرادة -- بالإطلاق الثاني -- بأنّها بمعني الإبقاء علي ما كان.

وبما أنّ اللّه تعالي عالم بالأشياء قبل كونها، وعلمه بها بعد كونها كعلمه بها قبل كونها، بل إنّه تعالي عالم بجميع التقديرات كما ينصّ عليه قوله تعالي: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه﴾،(1) وعالم بحميع النظامات الحُسني إلي ما لا يتناهي، وبما أنّ الشيء ما لم يتعيّن لم يوجد لابدّ من التعيّن كي يتحقّق الشيء خارجا.

ومن الواضح امتناع التعيّن في علمه الغير المحمول المعبّر عنه في الروايات بالعلم المكفوف، فإنّه تعالي عليم الذات وهو تعالي أجلّ من أن يقع التعيّنفي ذاته القدّوس ولذا لابدّ من أن يكون التعيّن خارجاً عن الذات.

والظاهر من مجموع الأخبار الكثيرة بعد ضمّ بعضها إلي بعض أنّ التعيّن يكون بالثبت في قلب المعصوم(عليه السلام). كما ورد في الأخبار أنّ قلوب الأئمّة(عليهم السلام) أوعية لمشيّته تعالي، ووكر لإرادته وسيجيي ء بعض ما يثبت ذلك إن شاء اللّه تعالي.

وأيضاً يستفاد من الأدلّة الكثيرة أنّ إجراء تقديراته وإمضائها المعبّر عنه في الخبر السابق بإقامة العين يكون علي أيديهم، كما في الخبر الوارد في مسألة الرزق عن مولانا السجّاد(عليه السلام):

إنّ اللّه يقسّم في ذلك الوقت أرزاق العباد، وعلي أيدينا يُجريها.(2)

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ اللّه تعالي عالم بجميع الأشياء، وعلمه بها بعد تحقّقها كعلمه بها قبل تحقّقها، بل ذاته القدّوس علم كلّه بلا حاجة إلي معلوم، وهو يعلم لكلّ شيء حدوداً وأطواراً مختلفة، كما أنّ ذاته القدّوس قدرة كلّه بلا توقّف علي وجود مقدور

ص: 108


1- 90.. الأنعام6.، الآية 28.
2- 91.. بصائر الدرجات، ص343، ح9؛ بحارالأنوار، ج46، ص24، ح5.

في الخارج. وتحقّق كلّ شيء في الخارج يتوقّف علي مضيّ المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء وكلّها تكون برأيه تعالي وإعماله للقدرة.

ص: 109

ص: 110

الفصل الثاني :تقسيم إرادته تعالي بحسب الاصطلاح

اشارة

ص: 111

ص: 112

الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة

قد قسّم بعض الأعاظم -- منهم صاحب الكفاية -- إرادة الباري تعالي إلي التكوينيّة والتشريعيّة، وقالوا إنّ الثابت في باب التكاليف هي الإرادة التشريعيّة ويمكن تخلّفها عن المراد، بخلاف الإرادة التكوينيّة الثابتة في غير التكاليف التي يستحيل تخلّفها عن المراد.

الأقوال في الإرادة التشريعية

أقول: قد أنكر بعض وجود الإرادة التشريعيّة، لأنّ الإرادة عندهم عبارة عن الشوق وهو يتعلّق بفعل يصل نفعه إلي المريد ولا معني لتعلّقه بفعل الغير. وبماأنّه لا يصل نفع من فعل العبد إلي الباري تعالي فلا معني للإرادة التشريعيّة في حقّه تعالي.

توضيح ذلك: إنّ صاحب الكفاية صرّح باستحالة تخلّف المراد عن الإرادة في الإرادة التكوينيّة وبإمكان تخلّفها عنه في الإرادة التشريعيّة لأنّ الإرادة التشريعيّة هي الإرادة المتعلّقة بالفعل الصادر عن العبد وبما أنّ صدور الأفعال يكون اختياريّاً له فيمكن تخلّفها عن المراد.

وقد استشكل عليه بعض المحشّين(1) بأنّ تعلّق الإرادة بالفعل الصادر من الغير إنّما هو في فرض كون فعله ذا فائدة عائدة إلي المريد وحيث إنّ فعل العبد ليس فيه فائدة عائدة

ص: 113


1- 92.. راجع: نهاية الدراية، ج1، ص180 (مبحث الطلب والإرادة).

إلي اللّه -- تعالي عن ذلك -- فلا يمكن تعلّق إرادته بفعل العبد بل تتعلّق بإيصال النفع إلي العبد بتحريكه وبعثه نحو الفعل، كما أنّ إيصال النفع إلي العباد بالبعث وتحريكهم نحو الأفعال الحسنة والزجر عن السيّئات فعله تعالي لا فعل العبد، فإرادته تعالي لا تتعلّق بفعل العبد كي يمكن تخلّفها عن المراد بل تتعلّق بفعل نفسه -- وهو البعث والزجر -- وقهراً لا يتخلّف عن المراد فلا مقابلة بين الإرادة التشريعيّة والتكوينيّة بل التشريع والتكوين كلاهما من أفعاله والفرق بينهما هو أنّ الأوّل إيجاد شيء أو إعدامه والثاني هو البعث والزجر، هذا حاصل كلامه.

تحقيق المطلب

ولكن لا يمكن المساعدة علي هذا الكلام، لأنّه ولو سُلّم كون الإرادة في العباد بمعني الشوق إلّا أنّه لا دليل علي أن نلتزم به في اللّه تبارك وتعالي، فإنّ اللّه تعالي خالق الأشواق ولا يوصف بها، علي أنّ ذلك عين قياس إرادته تعالي بإرادة المخلوقين وتعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا.(1)

والحقّ أنّ الإرادة ليست بمعني الشوق حتي في العباد، فإنّ الإرادة علّة تامّة للفعل عند المشهور مع أنّ الشوق ليست علّة تامّة له بدليل أنّه من الممكن وجود شوق تامٌّ كامل مع عدم الإقدام علي الفعل، كما لو كان عطشاناً وكان هناك ماء طاهر حلال، فهو يشتاق إلي

ص: 114


1- 93.. لا يخفي أنّ الأحاديث الناهية عن العمل بالقياس ليست منحصرة بالفروع بل من أهمّ مواردها القياس في الأصول والعقائد كما هو ظاهر الروايات كقوله(عليه السلام): إنّ من وضع دينه علي القياس لم يزل الدهر في الارتماس مائلاً عن المنهاج ظاعناً في الاعوجاج ضالّاً عن السبيل قائلاً غير الجميل ... لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالناس ... . بحارالأنوار، ج4، ص297، ح24. كما ورد التصريح بذلك في بعض الأخبار مثل ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام): انّه من وصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الإلتباس مائلاً عن المنهاج ظاعناً في الاعوجاج ضالّاً عن السبيل قائلاً غير الجميل ... لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالناس ... .بحارالأنوار، ج3، ص297، ح23.

شربه لأجل عطشه ومع ذلك يتمكّن من عدم شربه، وكذا العكس فيمكن الإقدام علي فعل لا يكون للفاعل شوق بالنسبة إليه.وعلي هذا لا يمكن الالتزام بكون الفعل يدور مدار الشوق وعدمه وجوداً وعدماً لوجدان إمكان وقوع الفعل مع عدم الشوق إليه بل مع الشوق إلي عدمه.

مضافاً إلي أنّ الشوق بمعني الملائمة للطبع أمر واقعيّ غير اختياريّ والناس مختلفون من جهة اشتياقهم بحسب ما فطرهم اللّه تعالي عليه لحكمة انتظام جميع أمورهم، فلو كانت الإرادة بمعني الشوق يلزم أن يكون أكثر الأفعال غير اختياريّة وهذا أمر يكذّبه الوجدان والقرآن كما سيجيء إن شاء اللّه تعالي.

فيظهر ممّا ذكرنا -- وبعد المراجعة إلي أنفسنا -- أنّ بين الشوق والبغض، وتحقّق الفعل أو الترك أمر آخر يكون من أفعال النفس وهي الإرادة التي تكون عند المشهور علّةً للفعل أو الترك، وأنّ الشوق والبغض مقتض لهما، وقد عبّر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن هذا الحدّ الفاصل بين الشوق والبغض وبين تحقّق الفعل أو الترك بحملة النفس، وعبّر عنها بعض المحقّقين بإعمال القدرة، ولامشاحّة في الألفاظ، إنّما المهمّ هو أنّ الشوق ليس هو الإرادة بل بينه وبين تحقّق الفعل أمر آخر هي الإرادة، والشوق مقتض لها.

وعلي ضوء ما ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لتقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة وجعل استحالة تخلّف المراد عن الإرادة في الإرادة التكوينيّة دون التشريعيّة إلّا إذا اُطلق علي نفس الأمر والنهي الإلهيّ عنوان القضاء والإرادة التشريعيّة كما سيأتي توضيحه في حصيلة البحث.

الأقوال في تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة

توضيح ذلك: أنّه ذكر للإرادة التشريعيّة تفاسير في كلمات القوم:

الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه العلم بالمصلحة في فعل المكلّف وسيأتي الكلام فيه.

الثاني: ما ذكره بعض من أنّ الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة بحسب مراتب الشوق، فإنّ الشوق الشديد هي الإرادة التكوينيّة والضعيف هي التشريعيّة. فلو كانت

ص: 115

لوجود شيء عشر مقدّمات مثلاً فلذلك الشيء وجود واحد وأعدام متعدّدة بعدد المقدّمات لأنّ ذلك الشيء ينعدم بانعدام كلّ واحد منها.وإذا كان للإنسان شوق شديد بالنسبة إلي شيء فيوجِد جميع مقدّمات الفعل ويسدّ العدم من ناحية جميع تلك المقدّمات، وهذا الشوق الشديد يسمّي بإلارادة التكوينيّة. وأمّا لو لم يكن له مثل هذا الشوق فيوجِد بعض المقدّمات ويسدّ العدم من جهة بعضها وأمّا البواقي فهو موكول إلي اختيار المكلّف فإن حصلت حصل المعلول وإلّا فلا، وهذه هي الإرادة التشريعيّة التي يمكن تخلّفها عن المراد.

فلو أراد اللّه تعالي شيئاً بالإرادة التكوينيّة أوجد جميع المقدّمات ويسدّ باب العدم من جميع جهاته، سواء كان من المخلوقات والمكوّنات -- كخلق الماء والأرض -- أم من أفعال العباد -- كالإيمان والهداية -- ولذا قال تعالي: ﴿وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(1) والمراد منها علي هذا التفسير أنّه لو أراد تعالي هداية جميع الخلق بالإرادة التكوينيّة لهداهم جميعاً، لكنّه جلّت عظمته أراد هدايتهم بالهداية التشريعيّة والشوق الضعيف حيث إنّه أرادها باختيار منهم ولذا أوجد بعض المقدّمات كجعل الحكم وإبرازه للعباد ووعد المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب، وأمّا سائر المقدّمات كإرادة العبد فلم يشأ إيجادها بل العبد هو الذي يريد الطاعة فيوجدها، هذا.

وقد حمل بعض أعاظم مشايخنا(قدس سره)(2) كلام الآخوند علي هذا التفسير، ولكن هذا الحمل في غير محلّه، لأنّ الآخوند بعد تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة قال:

إذا توافقتا ---- أي الإرادة التشريعيّة والتكوينيّة ---- فلا بدّ من الإطاعة والإيمان وإذا تخالفتا، فلامحيص من أن يختار الكفر والعصيان.(3)

وهذا الكلام كما تري صريح في أنّه إذا تعلّقت الإرادة التشريعيّة بالإيمان والإطاعة مع تعلّق الإرادة التكوينيّة بالكفر والعصيان لا يمكن الإطاعة ولامحيص عن العصيان والكفر،

ص: 116


1- 94.. النحل16.، الآية 9.
2- 95.. شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا عليّ الفلسفيّ(قدس سره)ّ.
3- 96.. كفاية الأصول، ص67.

أي العبد يكون مع الإرادة التشريعيّة مجبوراً علي الكفر والعصيان -- أعاذنا اللّه من زلل الأقلام --، وما ذكر في التفسير الثاني هو أنّ العبد مع وجود الإرادة التشريعيّة يكون مختاراً فيقدر علي إيجاد المقدّمة الأخيرة -- وهي الإرادة-- فيتحقّق الطاعة والإيمان، ويمكن أن لا يوجده فلا يتحقّق، هذاكلّه مضافاً إلي أنّ المحقّق الآخوند إنّما يفسّر الإرادة بالعلم لا بالشوق.

الثالث: الإرادة إنّما تقسّم إلي التكوينيّة والتشريعيّة بحسب المتعلّق والمراد، بمعني أنّ اللّه تعالي إن أراد وجود شيء في الخارج أو عدمه فلامحالة يتحقّق ذاك الشيء وهذه هي الإرادة التكوينيّة، وإن أراد جعل الحكم والقانون لفعل العبد فهذه هي الإرادة التشريعيّة، وعلي هذا التفسير تكون حقيقة الإرادة شيئاً واحداً ولا تتخلّف عن المراد قطّ.

مقتضي التحقيق في تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة

والحقّ: أنّ تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة لا يصحّ إلّا علي التفسير الثالث، وقد عرفت أنّه ليس تقسيماً للإرادة حقيقة، بل حقيقة الإرادة واحدة والاختلاف إنّما يكون بحسب المتعلّق والمراد.

نعم يصحّ إطلاق الإرادة التشريعيّة علي نفس الأمر والنهي وبذلك يمكن تخلّفهما عن المراد ولكن لا يمسّ ما بينّاه بسوء.

وأمّا وجه فساد التفسيرين الأوّلين فإنّه -- مضافاً إلي أنّه يستلزم جعل الإرادة من الصفات الذاتيّة للباري تعالي، ويكذّبه العقل وصريح الروايات كما قدّمنا -- هو أنّه بناءاً علي الوجه الأوّل للإرادة يمكن أن يتعلّق إرادة الباري تعالي بفعل العبد وهو باطل، إذ لا يمكن تعلّق الإرادة من أحد بالفعل الصادر عن غيره، وقد بينّا أنّ الإرادة عبارة عن العزم وإعمال القدرة وعليه لا يتصوّر ذلك أصلا. وسيأتي مزيد توضيح في بيان استحالة تعلّق إرادة اللّه بالفعل الصادر عن العبد عند المناقشة للوجه الثاني من الوجوه النظريّة علي الجبر.

فما سمّيت بالإرادة التشريعيّة ليست إرادة حقيقة لعدم إمكان تعلّق إرادة الباري

ص: 117

بفعل العبد، بل هي إرادة جعل الحكم وهو تعالي جاعل للحكم ومبلّغ عنه بالإرادة التكوينيّة التي لا تتخلّف عن المراد، وأمّا أنّ إرادته تعالي قد تعلّقت بالفعل نفسه فلا، وإلّا يلزم الجبر.(1)

وكذا يرد علي التفسير الثاني من أنّ الإرادة التشريعيّة هي أن يريد اللّه تبارك وتعالي أن يكون العبدمختاراً -- بحيث يكون جميع أفعاله صادرة عنه بالاختيار -- بجعل الاختيار متعلّقاً لإرادته تعالي فيكون إرادته تعالي علّة الاختيار وعليه فلا يكون اختيار حقيقة بل هو جبر كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي.

نعم يمكن أن يقال: أراد اللّه أن يجعل العبد ذا قدرة ومشيّة واختيار ولم يمنعه عن اختياره، وأمّا أنّه تعالي أراد الطاعة منه جبراً فلا، بل كلّ واحد من الطاعة والمعصية مستند إلي إرادة العبد ومشيّته، وسيأتي تفصيل الكلام في مبحث الجبر فانتظر.

هذا مضافاً إلي أنّه بناءاً علي الوجه الثاني من تفسير الإرادة التشريعيّة بالشوق الضعيف والإرادة التكوينيّة بالشوق القويّ تكون الإرادة منه تعالي عبارة عن شوقه تعالي إلي فعل العبد مع أنّ الشوق لا يتصوّر في اللّه جلّ جلاله كي يكون ضعيفاً أو قويّا.

فعلي ضوء ما ذكرنا ظهر أنه لا وجه لتقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة إلّا إذا جعلنا التقسيم باعتبار المتعلّق والمراد فإن كان المراد إحدي المكوّنات فيكوّنها وإن كان المراد جعل الحكم فيشرّعه ولا يتخلّف شيء منهما عن المراد.

وفعل العبد مطلوب نفسيّ لإرادة اللّه تعالي وجعل الحكم مطلوب غيريّ ولا يتعلّق إرادة المولي بأفعال العباد حتّي يلزم الجبر إلّا علي نحو ما ذكرنا من أنّه أراد كون العبد ذا مشيّة وقدرة وسلطنة وهكذا توفيقه وخذلانه.

فالمتحصّل أنّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد تكوينيّة كانت أم تشريعيّة.

ص: 118


1- 97.. نعم قد تعلّقت إرادة اللّه تبارك وتعالي بالنسبة إلي مقدّمات الفعل من القدرة وكون العبد ذا مشيّة واختيار، بل وكذا توفيقه وخذلانه ولا ضير في ذلك.

الغرض من جعل الأحكام للعصاة

قد يقال: إن كانت طاعة العبد مطلوباً نفسيّاً للمولي وجعل الحكم مطلوباً غيريّاً لغرض حصول الطاعة من العبد، فإذا علم المولي من حال العبد أنّه لا يكون مطيعاً وأنّ الطاعة لن تحصل منه أبداً يكون جعل الحكم بالنسبة إليه لغواً وعبثاً، كما إذا علم العطشان أنّه لا يكون الماء في الموضع الكذائيّ، فإنّه لا يتحرّك نحوه. فحينئذٍ إن كان المطلوب النفسيّ في حقّ الكفّار والعصاة منتفياً يلزم منه انتفاء المطلوب الغيريّ أيضا.

والجواب:

أوّلاً: إيجاد الداعي

أنّه ليس الغرض من جعل الأحكام إطاعة العبد ولو جبراً، إنّما الغرض إيجاد الداعي والمحرّك للعبد شأناً واقتضائاً لا محرّكاً فعليّاً، فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون الإنسان ذا قدرة وإرادة ويكون صدور الفعل منه بالاختيار.

وثانياً: إتمام الحجّة

إنّ الغرض من جعل الأحكام إتمام الحجّة علي العبد ﴿لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَ-خْزَي﴾.(1)

نعم يمكن أن يقال أنّ الغرض من جعل الأحكام هو البعث والزجر الاقتضائيّ الشأني والغرض من ذلك إتمام الحجّة علي العبد.

وثالثاً: للّه البداء

إنّ للّه تعالي البداء، فإنّه تعالي يمحو ما يشاء ويثبت. والمراد من البداء في حقّ الكفّار والعصاة ليس هو جبرهم علي الإيمان والطاعة، بل المراد هو توفيقهم للإيمان والطاعة ولو بسبب الفعل الاختياريّ الحسن الصادر عنهم، وسيأتي البحث عن التوفيق والخذلان إن شاء اللّه تعالي.

ص: 119


1- 98.. طه20.، الآية 134.

فلو لم يكن بالنسبة إلي الكافر والعاصي تكليف ولا حكم فلا يتحقّق منه الإيمان ولا الطاعة لانتفائهما موضوعاً.

وأمّا حقيقة البداء فقد أوضحناها في محلّه، وعلي الإجمال نقول: إنّ البداء هو نشوء الرأي فإنّه تعالي يعلم لكلّ شيء حدوداً وأطواراً مختلفة ولا يتحقّق في الخارج إلّا واحد منها. وتحقّقه يكون بتعيّنه وتعيّنه يكون بالمشيّة، فالمشيّة تكون بعد العلم وهي محدثة. والمشيّة عبارة عن ثبت المعلوم والمقدور في قلب الحجّة(عليه السلام). والبداء هو التعيّن الجديد بطور آخر غير الطور السابق، فالبداء تغيير في المشيّة لا في العلم، قال اللّه تعالي: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(1) فالبداء بالنسبة إليه تعالي يكون آية وعلامة للعلم الغير المتناهيّ بأطوار مختلفة لكلّشيء، كما يكون آية للقدرة الغير المتناهية علي إيجاد كلّ شيء بأشكال مختلفة.

حصيلة البحث في تقسيم إرادة اللّه

قد تتعلّق إرادته تعالي بتحقّق شيء وتكوّنه أو عدم تحقّقه كحياة زيد وموت عمرو والإرادة بهذا المعني لا تتخلّف عن المراد.

وقد تتعلّق بالفعل أو الترك الصادر عن العبد بمعني إرادته تعالي مقدّمات الفعل من العلم والحياة والقدرة وكذا التوفيق والخذلان والإرادة بهذا المعني أيضاً لا يمكن تخلّفها عن المراد لعدم تعلّقها بصدور الفعل أو الترك ولو بالجبر فإنّه خلاف المراد.

وثالثة تتعلّق بالتشريع وطلب الفعل أو الترك من العبد فيأمره وينهاه حيث إنّ الطلب والأمر والنهي فعله الاختياريّ ولابدّ من أن يكون مسبوقاً بالإرادة، والإرادة بحسب هذا المعني أيضاً لا تتخلّف عن المراد وهذا هو الذي يعبّر عنه بالإرادة التشريعيّة، وقلنا إنّ اختلاف الإرادة التشريعيّة مع الإرادة التكوينيّة إنّما هو بحسب المتعلّق.

ورابعة يعبّر عن نفس الأمر والنهي بإرادة الفعل أو الترك والإرادة بحسب هذا المعني تتخلّف عن المراد لإمكان امتثال العبد وإطاعته وكذا عصيانه، وتسميتها بالإرادة التشريعيّة

ص: 120


1- 99.. الرعد13.، الآية 39.

في الوجه الأخير وفي الوجوه الثلاثة السابقة أو في الأوليين بالتكوينيّة لا ينافي ما ذكرناه ولا يلزم الجبر من تعلّق إرادته تعالي بالفعل أو الترك الصادر من العبد كما هو واضح.

ويناسب المقام ما ذكره شيخنا الأستاذ المغفور له آية اللّه الميرزا حسنعليّ المرواريد(قدس سره):

نعم، حيث إنّ الفعل الصادر من العبد يكون متعلّقاً لأمره تعالي ونهيه المولويّين ويصير لذلك متّصفاً بوصف الطاعة أو المعصية ويكون أيضاً موضوعاً لحكمه بالثواب والعقاب عليه وكلّ منها -- أي الأمر والنهي والثواب والعقاب -- بقدر معيّن فالمشيّة والإرادة والقدر والقضاء منه تعالي يكون بأحد هذه المعاني لا التكوينيّ أو غيره الذي يوجب الجبر وسلب القدرة عن العبد.(1)

ص: 121


1- 100.. تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص238.

ص: 122

الفصل الثالث :تقسيم إرادته تعالي بحسب الروايات

اشارة

ص: 123

ص: 124

إرادة حتم وإرادة عزم

إنّ الإرادة في الأخبار لم تقسّم إلي الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة بل قسّمت إلي إرادة حتم وإرادة عزم، فلابدّ من ذكر الأخبار أوّلاً ثمّ بيان المتحصّل منها.

لزوم التحرّز عن المعاني الاصطلاحيّة في فهم الروايات

وقبل ذكر الأخبار والمستفاد منها لابدّ من التذكير بأمر هامّ يناسب المقام، وهو أنّ الاصطلاحات المجعولة الحادثة التي لا أثر لها في لسان المعصومين(عليهم السلام) قد صارت سبباً لخفاء الحقائق والوقوع في الخطاء والبعد عن الحقيقة، ولذا يجب علي الفقيه والمتفقّه الاجتناب عنها والرجوع إلي من يجب الرجوع إليه وهم أهل الذكر الذين أمر اللّه تعالي العباد بالسؤال منهم والأخذ عنهم.

ومن تلك الاصطلاحات تقسيم الإرادة إلي التكوينيّة والتشريعيّة مع أنّه ليس في الآيات والأخبار أثر لهذا التقسيم، وأعجب من ذلك البحث في المراد من الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وبناء المعارف الإلهيّة علي هذه الاصطلاحات.

ذكر الأخبار في تقسيم الإرادة

أمّا الأخبار

ففي البحار عن التوحيد مسنداً عن فتح بن يزيد الجرجانيّ قال: لقيته -- يعني أبا الحسن(عليه السلام)

ص: 125

-- عند منصرفي عن مكّة إلي خراسان وهو سائر إلي العراق ... قلت: جعلت فداك وغير الخالق الجليل خالق؟ قال:

إنّ اللّه تبارك وتعالي يقول: ﴿تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْ-خَالِقِينَ﴾(1) فقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسي خلق من الطين كهئية الطير فنفخ فيه فصار طائراً بإذن اللّه، والسامريّ خلق لهم عجلاً جسداً له خوار.

قلت: إنّ عيسي خلق من الطين طيراً دليلاً علي نبوّته، والسامريّ خلق عجلاً جسداً لنقض نبوّة موسي وشاء اللّه أن يكون ذلك كذلك؟ إن هذا لهو العجب!

فقال: ويحك يا فتح! إنّ للّه إرادتين ومشيّ--تين:إرادة حتم، وإرادة عزم، ينهي وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنّه نهي آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك؟ ولو لم يشأ لم يأكلا ولو أكلا لغلبت مشيّ--تهما مشيّة اللّه، وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشاء أن لا يذبحه لغلبت مشيّة إبراهيم مشيّة اللّه عزّوجلّ.

قلت: فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك ... .(2)

قال الصدوق(رحمه الله) بعد إيراد الخبر:

إنّ اللّه تعالي نهي آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وقد علم أنّهما يأكلان منها لكنّه عزّوجلّ شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة كما منعهما عن الأكل منها بالنهي والزجر، فهذا معني مشيّ--ته فيهما ولوشاء عزّوجلّ منعهما من الأكل بالجبر ثمَّ أكلا منها كان مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه كما قال العالم، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.(3)

قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره):

بيان: قيل: المراد بالمشيّة في تلك الأخبار هو العلم، وقيل: هي تهيئة أسباب الفعل بعد إرادة العبد ذلك الفعل، وقيل: إرادة بالعرض يتعلّق بفعل العبد. والأصوب أنّها عبارة عن منع الألطاف والهدايات الصارفة عن الفعل والداعية

ص: 126


1- 101.. المؤمنون23.، الآية 14.
2- 102.. التوحيد، ص63، ح18؛ بحارالأنوار، ج40، ص292، ح21.
3- 103.. التوحيد، ص63، ح18.

إليه لضرب من المصلحة أو عقوبة لما صنع العبد بسوء اختياره كما مرّ بيانه.(1)

وفي البحار عن فقه الرضا(عليه السلام): سئل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن مشيّة اللّه وإرادته، فقال(عليه السلام):

إنّ للّه مشيّتين: مشيّة حتم، ومشيّة عزم، وكذلك إنّ للّه إرادتين: إرادة حتم وإرادة عزم، إرادة حتم لا تخطي، وإرادة عزم تخطي وتصيب، وله مشيّتان مشيّة يشاء، ومشيّة لا يشاء، ينهي وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، معناه أراد من العباد(2) وشاء، ولم يرد المعصية وشاء، وكلّ شيء بقضائه وقدره والأمور تجري ما بينهما ... .(3)

وفي الكافي مسنداً عن صالح النيليّ، قال: سألت أبا عبد اللّه: هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي:إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها اللّه فيهم، قال: قلت وما هي؟ قال: الآلة مثل الزاني إذا زني كان مستطيعاً للزنا حين زني، ولو أنّه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك، قال: ثمّ قال: ليس من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً، قلت: فعلي ماذا يعذّبه؟ قال: بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم، إنّ اللّه لم يجبر أحداً علي معصيته ولا أراد إرادة حتم الكفر من أحد، ولكن حين كفر كان في إرادة اللّه أن يكفر، وهم في إرادة اللّه وعلمه أن لا يصيروا إلي شيء من الخير. قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول ولكنّي أقول: علم أنّهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنّما هي إرادة اختيار.(4)

والمتحصّل من الروايات أمور

الأوّل: مشيّة الباري وأفعال العباد

والمراد منه أنّ مشيّته تعالي تعلّقت بأن يكون الإنسان ذا مشيّة وإرادة وأن تكون له

ص: 127


1- 104.. بحارالأنوار، ج5، ص101.
2- 105.. في المصدر: «أراد العبادة».
3- 106.. الفقه المنسوب إلي الامام الرضا(عليه السلام)، ص410؛ بحارالأنوار، ج5، ص124، ح73.
4- 107.. الكافي، ج1، ص142، ح3.

السلطنة علي الفعل والترك والقدرة علي اختيار الفعل أو الترك، وتكون أفعاله الصادرة عنه مستندةً إلي قدرته ومشيّته.

روي الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة، فقال لي: اكتب:

قال اللّه تبارك وتعالي: يا ابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت علي معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ... .(1)

وروي أيضاً بسنده، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال:

ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر علي ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العبادبطاعته لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.(2)

وقال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم «لا حول ولا قوّة إلا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلّا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(3)

فعلي هذا إن كان العبد مجبوراً في أفعاله وحركاته يكون علي خلاف مشيّة اللّه فإنّ المفروض كون مشيّته تعالي متعلّقة بسلطنة العبد علي الفعل والترك، وأن تكون له حريّة الإرادة فلا يمكن تصوّر مشيّةٍ للّه تعالي بالنسبة إلي فعل العبد كي يلزم منها الجبر، ولقد مرّ كلام العلّامة المجلسيّ(قدس سره) في ذيل الحديث حيث قال:

ص: 128


1- 108.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح103.
2- 109.. التوحيد، ص361، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح22.
3- 110.. نهج البلاغة، حكمة 404، ص547.

الأصوب أنّها عبارة عن منع الألطاف والهدايات الصارفة عن الفعل.(1)

أي خلوّ العبد وما يريد وإيكاله تعالي العبد إلي نفسه.

الثاني: تقسيم الإرادة إلي إرادة الحتم وإرادة العزم
اشارة

المتحصّل من هذه الروايات في تقسيم الإرادة أنّه قد تتعلّق إرادة الباري تعالي بشيء يكون تحقّقه في الخارج حتميّاً وقطعيّاً، وهذا إذا تعلّقت إرادته بإيجاد شيء من التكوينيّات. وقد تتعلّق بشيء يكون لإرادة العبد دخل فيه. -- ولا يخفي أنّ وجدان العبد القدرة والسلطنة تكون بقدرة اللّه وإذنه ومشيّته -- .

أمّا القسم الأوّل فكإرادته تعالي خلق السماوات والأرض وكإرادته خلق زيد وكونه ذامشيّة وإرادة وقدرة وهذه هي إرادة الحتم.

وأمّا القسم الثاني فكإرادته تعالي طاعة زيد وتركه المعصية وهذه هي إرادة العزم، فإنّه تعالي أراد طاعة زيد لكن بعزم من زيد واختيار منه لا بالجبر. ولذا عبّر الإمام(عليه السلام) عن إرادة العزم في حديث صالح النيليّ بإرادة الاختيار وجَعَلَها قسيم إرادة الحتم.ولنذكر مثالاً يقرّب المقصود: إذا أراد أبٌ من ابنه تحصيل العلم وتعلّمه، فمن الواضح أنّه لا يريد منه قطعاً تحصيل العلم وتعلّمه ولو بالجبر والقهر والغلبة، بل يريد أن يكون تحصيل العلم من الابن باختياره، فلذا يأمره بالتعلّم وطلب العلم ويهيّيء له أسباب تحصيله ومقدّماته وإن كان -- بمقتضي علمه بحالات الابن -- عالماً بعصيان ابنه وتركه التعلّم.

وكذلك الأمر بالنسبة إلي اللّه تعالي فإنّه أراد طاعة العبد عن الاختيار والقصد والعزم، فلذا أوجد كلّ ما يسهّل ذلك المراد ولم يجبره كي لا يكون نقضاً للغرض.

فعلي هذا نقول: إنّ تقسيم الإرادة في الروايات ليس إلّا باعتبار المتعلّق والمراد، فلذا نري أنّ الإمام(عليه السلام) يقول: إرادة حتم أي: إرادة شيء محتوم، وإرادة عزم أي: إرادة كون العبد ذا عزم كما فسّر الحديث الثالث تلك الإرادة بإرادة الاختيار وقال:

ص: 129


1- 111.. بحارالأنوار، ج5، ص101.

لا أراد إرادة حتم الكفر من أحد ... وليست هي إرادة حتم إنّما هي إرادة اختيار.(1)

فما يصحّ إسناده إلي اللّه تعالي في هذا القسم -- أي إرادة العزم -- هو جعل العبد بنحو يكون ذا قدرة ومشيّة وإرادة بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهدايته إلي الطاعة ودعوته إليها، وجعل الداعي والزاجر في العبد بالوعد والوعيد وتوفيقه وخذلانه، ولا يتخلّف شيء منها عن إرادته سبحانه، فمراد الحقّ جلّ جلاله ليس تحقّق الصلاة من زيد بأيّ نحو اتّفق بل مراده أن تكون متّصفة بوصف الإطاعة الاختياريّة، ولذا لو صلّي زيد تكون صلاته صادرة عن القدرة والإرادة والاختيار وهذا هو مراده تبارك وتعالي، كما أنّه لو تركها يكون تركه الصلاة عن إرادة وقدرة وهذا هو مراده تعالي.

إن قلت: لو أراد اللّه الصلاة من زيد فما هو وجه التخلّف؟ ولماذا يتركها زيد؟

قلت: ظهر الجواب ممّا ذكرناه، حيث إنّ اللّه تعالي لم يرد منه الصلاة بأيّ وجه بل أرادها منه عن قدرة واختيار فلو صلّي جبراً لتخلّفت إرادته تعالي عن المراد.بعبارة أخري: إنّ فعل الصلاة أو تركها وما يوجب التخلّف -- مع أنّ اللّه أمر بها -- إنّما هو لأجل أنّ اللّه تعالي أراد أن يكون لإرادة العبد دخل في تحقّقها.

ففي الإرشاد: وروي الحسن بن أبي الحسن البصريّ قال: جاء رجل إلي أميرالمؤمنين(عليه السلام) بعد انصرافه من حرب صفّين فقال له: يا أميرالمؤمنين خبّرنا عما كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب، أكان ذلك بقضاء من اللّه تعالي وقدر؟ فقال له أميرالمؤمنين(عليه السلام):

ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً، إلّا وللّه فيه قضاء وقدر فقال الرجل: فعند اللّه احتسب عنائي يا أميرالمؤمنين، فقال له ولم؟ قال: إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلي العمل، فما وجه الثواب لنا علي الطاعة؟ وما وجه العقاب لنا علي المعصية؟ فقال له أميرالمؤمنين(عليه السلام): أ و ظننت يا رجل أنّه قضاء حتم، وقدر لازم؟ لا تظنّ ذلك فإنّ القول به مقال عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن، وقدريّة هذه الأمّة ومجوسها، إنّ اللّه جلّ جلاله أمر تخييراً ونهي تحذيراً وكلّف يسيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماء والأرض وما

ص: 130


1- 112.. الكافي، ج1، ص162، ح3.

بينهما باطلاً ﴿ذلِكَ ظَنُّ الَّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾.(1) فقال له الرجل: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أميرالمؤمنين؟ قال: الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيّئة والمعونة علي القربة إليه والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كلّ ذلك قضاء اللّه في أفعالنا وقدره لأعمالنا، فأمّا غير ذلك، فلا تظنّه فإنّ الظنّ له محبط للأعمال. فقال له الرجل: فرّجت عنّي يا أميرالمؤمنين فرّج اللّه عنك وأنشأ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم المآب من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربّك بالإحسان إحساناً (2)

أقول: من الواضح أنّ الإمام(عليه السلام) فسّر قضاء غير الحتم بالأمر تخييراً وجَعْل القدرة والتمكين من الفعل والترك وجَعْل الداعي من الأمر والنهي والوعدوالوعيد، والمعونة علي الطاعة والخذلان لمن عصاه، وهذا هو تفسير القضاء الذي قال(عليه السلام) في كلامه:

ما علوتم تلعة ولاهبطتم وادياً إلّا وللّه فيها قضاء وقدر.

تنبيه: معني تعلّق إرادة اللّه بالأفعال الاختياريّة

لا يخفي أنّ المراد من تعلّق إرادته تعالي بأفعال العباد، هو تعلّقها بمقدّمات الأفعال الصادرة عنهم من القدرة والاختيار والمشيّة والآلات التي ركّبها فيهم، ومنها التوفيقات -- بمعني تسهيل الطاعة وتيسيرها كحلاوة العبادة والمناجاة والالتذاذ بالطاعة -- والخذلانات -- بمعني سلب التوفيق عنهم، والطبع علي قلوب المعاندين الذين رفضوا الحقّ -- . وسيأتي البحث عن التوفيق والخذلان عند الكلام عن حقيقة الأمر بين الأمرين إن شاء اللّه تعالي.

معني تعلّق مشيّته تعالي بالمعصية وعدم حبّه لها

وأمّا ما دلّ من الأخبار علي تعلّق مشيّة اللّه بالمعصية الصادرة عن العبد وعدم حبّه لها، فالمراد منه أنّ اللّه تعالي شاء أن يكون العاصي ومن أتي بالمنهيّ عنه -- سواء كان النهي

ص: 131


1- 113.. ص38.، الآية 27.
2- 114.. الارشاد، ج1، ص225؛ ورواه العلّامة المجلسيّ في بحارالأنوار، ج5، ص125، ح74.

تحريميّاً أو تنزيهيّاً -- ذا قدرة وإرادة واختيار ثمّ يكله إلي نفسه، ومن الواضح أنّ مشيّته تعالي فعله، فعلي هذا يكون المستفاد من هذه الأخبار هو أنّ اللّه تعالي خلق العاصي وأعطاه القدرة وجعله ذا مشيّة، ولكنّه بما أنّه أعرض عن الحقّ والهداية الأوليّة وكله إلي نفسه فارتكب العبد القبيح عن كامل اختيار وتمام قدرة.

وبعبارة أوضح: أنّ معني حبّه تعالي وبغضه هو أنّه يفعل فعل المحبّ أو المبغض بخلاف المخلوق، فإنّ الحبّ والبغض فيه من الصفات النفسانيّة التي يكون الباري تعالي منزّهاً عنها. ومن الواضح أنّه إذا أحبّ أحد فعلاً يمكن صدوره عن نفسه يأتي به، وإذا أحبّ فعلاً صادراً عن غيره يأمره به ويحثّه عليه. وعلي هذا يكون المراد من عدم حبّه تعالي للمعصية الصادرة عن العبد هو عدم أمره بها وعدم الإعانة وتأييد فاعل المعصية.

وأمّا تعلّق مشيّته تعالي بالمعصية الصادرة عن العبد فبناءاً علي كون المشيّة بمعني التحقّق الخارجي يكون المراد منه أنّ اللّه تعالي خلق العبد وأعطاه القدرة وهداه النجدين، ولكن بما أنّه أعرض عن ذكر ربّه وكلهإلي نفسه، وبعد خذلانه تعالي يستولي الشيطان عليه بالتسويلات فيقع العبد في المعصية. وهذا لا يستلزم الجبر كما هو واضح.

وبناءاً علي كون المشيّة المتعلّقة بالأشياء هو ثبتها في وعاء المشيّة -- وهو قلب المعصوم(عليه السلام) -- فيكون المراد من تعلّق المشيّة بالمعصية هو أنّ اللّه تعالي أثبت في قلب الحجّة ما سيصدر عن العاصي بقدرته وإرادته واختياره، بمعني أنّه تعالي أثبت في قلب الحجّة قدرة العبد وحياته وساير مقدّمات فعله بالقَدَر المقدور، وهذا لا يلزم منه الجبر أيضاً كما هو واضح.

الاحتجاج: عن داود بن قبيصة قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول: سئل أبي(عليه السلام) هل منع اللّه عمّا أمر به؟ وهل نهي عمّا أراد؟ وهل أعان علي ما لم يرد؟ فقال(عليه السلام):

أمّا ما سألت: هل منع اللّه عمّا أمر به؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه؛ وأمّا ما سألت: هل نهي عمّا أراد، فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة

ص: 132

أراد منه أكلها، ولو أراد منه أكلها ما نادي عليه صبيان الكتاتيب ﴿وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي﴾(1) واللّه تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره؛ وأمّا ما سألت عنه من قولك: هل أعان علي ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك، وجلّ اللّه تعالي عن أن يعين علي قتل الأنبياء وتكذيبهم، وقتل الحسين بن عليّ والفضلاء من ولده، وكيف يعين علي ما لم يرد وقد أعدّ جهنّم لمخالفيه، ولعنهم علي تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته؛ ولو جاز أن يعين علي ما لم يرد لكان أعان فرعون علي كفره وادّعائه أنّه ربّ العالمين! أ فتري أراد اللّه من فرعون أن يدّعي الربوبيّة؟ يستتاب قائل هذا فإن تاب من كذبه علي اللّه، وإلّا ضربت عنقه.(2)

أقول: لا يخفي أنّ المراد من قول السائل: «هل منع اللّه عمّا أمر به» هو أنّه هل منع اللّه العبد تكويناً عمّا أمر به تشريعاً، والمراد من قوله: «هل نهي عمّا أراد» هو أنّه هل نهي اللّه تعالي العبد تشريعاً عمّا أراد صدوره منه جبراً. وليس المراد من الجملتين أنّه هل منع اللّه تعالي العبد تشريعاً عمّا أمر به العبد تشريعاً، وهلنهي اللّه العبد تشريعاً عمّا أراده تشريعاً، فإنّ بطلانه لا يخفي علي أحد ولا يحتاج إلي السؤال من الإمام(عليه السلام) لوضوح التضادّ بينهما وعدم إمكان اجتماع الضدّين.

وليس المراد من الجملتين أنّه هل منع اللّه تعالي العبد تكويناً مع التحفّظ علي قدرة العبد وسلطنته (بمعني عدم إيجاد المقدّمات) ممّا أمر به العبد تشريعاً، لأنّ من مقدمّات الفعل الحياة والقدرة فلو كان المراد من منع اللّه تكويناً عدم إيجاد المقدّمات فلا يكون العبد قادراً علي الفعل والترك.

وكذا لا يراد من جملة: «هل نهي عمّا أراد» نهي اللّه تعالي العبد تشريعاً عمّا أراد تحقّقه وصدوره عن العبد تكويناً مع التحفّظ علي قدرته، فإنّه وإن كان هذا المعني صحيحاً ولكنّه لا يناسب الجملة السابقة بمقتضي وحدة السياق، فلابدّ من أن يراد من الجملة الثانية ما يناسب الجملة الأولي ويقتضيه وحدة السياق. فظهر من جميع ذلك أنّ المتعيّن

ص: 133


1- 115.. طه20.، الآية 121.
2- 116.. الاحتجاج، ج2، ص387؛ بحارالأنوار، ج5، ص25.

في بيان المراد من الجملتين هو ما ذكرناه أوّلاً فتأمّل جيّداً.

وأمّا المراد من قوله: «هل أعان علي ما لم يرد» فهو أنّه هل أعان اللّه العبد تكويناً علي ما لم يرد تشريعاً وهو واضح لا يحتاج إلي البيان.

فظهر: أنّ المراد من عدم حبّه تعالي للمعاصي -- مع أنّ الحبّ والبغض في اللّه تعالي ليسا كالحبّ والبغض في الإنسان لاستحالة ثبوت الصفات النفسانيّة كالحبّ والبغض والغضب والترحّم للّه تعالي، بل يكونان بمعني أنّ اللّه تعالي يفعل فعل المحبّ والمبغض --، هو أنّه تعالي فعل بالنسبة إليه ما يفعل من لا يحبّ المعصية الصادرة عن العبد، مع التحفّظ علي قدرته واختياره، أي لم يأمره ولم يعنه علي المعصية.

ومن الواضح أنّ تعلّق الحبّ بالفعل الصادر عن الغير اختياراً يكون بالأمر والتوفيق في المأمور به كما أنّ تعلّق البغض بفعل العبد الاختياريّ يكون بمعني النهي والخذلان في المنهي عنه، وقد أمر اللّه تعالي بالطاعة ووفّق العبد لها، ونهي عن المعصية وزجر عنها، ولو عصي العبد يخذله ويكله إلي نفسه.

وليس معني تعلّق حبّه وبغضه تعالي بفعل العبد هو صدوره أو عدم صدوره عنه ولو جبراً، لفرض ثبوت القدرة والمشيّة له بحكم الفطرة وقضاء الوجدان، مضافاً إليأنّ الخبر يدلّ علي تعلّق مشيّة اللّه بفعله ومعناه كما مرّ هو إعطاء اللّه تعالي العبد القدرة والمشيّة.

والحاصل: أنّ المشيّة من اللّه تعالي فعله وكذا حبّه وبغضه، فمشيّته تعالي بالنسبة إلي فعل العبد إنّما تكون بإعطائه القدرة والاختيار والتوفيق في الطاعة والخذلان في المعصية.

وحبّه وبغضه بالنسبة إلي فعل العبد إنّما هو بأمره وتحريضه أو نهيه وتحذيره، وبعد تغاير متعلّق المشيّة مع متعلّق الحبّ والبغض لا يتوهّم التنافي بين تعلّق مشيّته تعالي بفعل العبد وعدم حبّه له.

في المحاسن بإسناده عن حمران، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

كنت أنا والطيّار جالسين فجاء أبو بصير فأفرجنا له، فجلس بيني وبين الطيّار، فقال: في أيّ شيء أنتم؟ فقلنا: كنّا في الإرادة والمشيّة والمحبّة، فقال أبو بصير:

ص: 134

قلت لأبي عبداللّه(عليه السلام): شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال: نعم، قلت: فأحبّ ذلك ورضيه؟ فقال: لا، قلت: شاء وأراد ما لم يحبّ ولم يرض؟ قال: هكذا أخرج إلينا.(1)

ويشهد علي ما ذكرنا من تغاير متعلّق المشيّة والحبّ والبغض ما رواه الصدوق بسنده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

شاء وأراد، ولم يحبّ ولم يرض. قلت: كيف؟ قال: شاء أن لا يكون شيء إلّا بعلمه، وأراد مثل ذلك، ولم يحبّ أن يقال له: ثالث ثلاثة، ولم يرض لعباده الكفر.(2)

ص: 135


1- 117.. المحاسن، ج1، ص245، ح239؛ بحارالأنوار، ج5، ص121، ح66.
2- 118.. معاني الأخبار، ص170، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص90، ح10.119. لا يخفي أنّ الأقوال في المسألة كثيرة إلّا أنّ المشهور منها هي هذه الثلاثة، وللاطّلاع علي تفصيلات الأقوال راجع مرآة العقول، ج2، ص196.

ص: 136

الباب الثالث :نظريّة الجبر ونقدها

اشارة

وفيه مدخل وفصلان

المدخل: بحوث تمهيديّة

الفصل الأوّل: الوجوه النظريّة لمسلك الجبر ونقدها

الفصل الثاني: الوجوه النقليّة لمسلك الجبر ونقدها

ص: 137

ص: 138

المدخل :بحوث تمهيديّة

اشارة

ص: 139

ص: 140

البحث عن الأفعال الصادرة عن العباد من البحوث التي وقعت في مهبّ تيّار أفكار العلماء الإسلاميّين:

1. فذهبت الأشاعرة إلي أنّ الأفعال تصدر عن اللّه تبارك وتعالي حقيقة، والإنسان ليس إلّا محلّاً لها وليس هو الموجد لها، فانتساب الأفعال إلي اللّه إسناد إلي الفاعل، وانتسابها إلي الإنسان إسناد إلي المحلّ لا إلي الفاعل وهو القول بالجبر. وتبعت الأشاعرة في هذه النظريّة الفاسدة طائفة من الصوفيّة والفلاسفة باختلاف يسير في كيفيّة طرح المدّعي لكنّ النتيجة واحدة كما سنبيّن ذلك إن شاء اللّه تعالي.

2. وقالت المعتزلة بالتفويض بمعني أنّ الإنسان هو الموجد لأفعاله بالاستقلال ولا تأثير للباري تعالي في ذلك.

3. وأمّا الإماميّة فقالوا تبعاً للأئمّة المهديّين عليهم أفضل صلوات المصلّين بالأمر بين الأمرين، لا الجبر ولا التفويض، فهناك منزلة بينهما أوسع ممّا بين السماء والأرض، كما ورد في الخبر.(-119)

ثمّ لا يخفي أنّ البحث عن نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين ليس منحصراً في الأفعال الجوارحيّة للعباد، بل يشمل الأفعال الجوانحيّة أيضاً كالتفكّر والتصوّر ويشمل ما لأفعال العباد دخل في الكون وما يجري فيه كما ورد في الأخبار أنّ الزنا يوجب كثرة موت ا

ص: 141

لفجأة وسيأتي في بحث حقيقة الأمر بين الأمرين مزيد كلام لذلك إن شاء اللّه تعالي، ولمّا كان المهمّ هو الأفعال الصادرة عن العباد خصّصنا موضوع البحث بها.

وينبغي الالتفات هنا إلي أنّ هذا البحث هو من أقدم المباحث العلميّة التي دار الكلام عنها قبل الإسلام، ثمّ ازداد سعة علي مرّ التاريخ شيئاً فشيئاً، فالتعرّض لجميع ما قيل أو يمكن أن يقال يخرجنا عن طور الرسالة والمقصود منها، فلذا نكتفي بذكر أمّهات الشبهات المطروحة من القائلين بالجبر والتفويض التي سمّوها بالأدلّة ونجيب عنها، ثمّ نبحث عن حقيقة الأمر بين الأمرين إن شاء اللّه تعالي.وقبل الشروع في البحث عن كلّ واحدة من هذه الأقوال الثلاثة لابدّ لنا من بيان خمسة أمور مهمّة، فنقول بحول اللّه وقوّته:

1. تحرير محلّ النزاع

اشارة

إنّ الورود في ذكر الأدلّة ومناقشتها يتوقّف علي تبيين محلّ النزاع بدقّة كي لا نعدو في المناقشة علي ما لا يرتبط بمحلّ البحث، ولكي نعرف الداخلين في نطاق القول بالجبر، فنبطل الحجج التي أقاموها علي مذهبهم.

فنقول: ما هو المناط في أن يكون فعل من الأفعال اختياريّاً، وما الذي يخرجه عن الاختيار ويدخله في نطاق الجبر والاضطرار؟

الحقّ - كما أفاده بعض الأعاظم(1) - أن يقال: إنّ المناط في اختياريّة الفعل أو الترك هو أن يكون الفعل الصادر عن الانسان مستنداً إلي العلم والقدرة، فما لم يكن الفعل الصادر عن المكلّف مستنداً إلي العلم والقدرة لا يكون اختياريّا.

ومن الواضح أنّه بعد إفاضة القدرة وإعطائها العبد يكون ذا رأي ومشيّة وله أن يعمل قدرته في أحد طرفي الفعل أو الترك فهذا الكمال -- أي كون العبد ذا رأي ومشيّة -- يثبت له بإفاضة من اللّه تعالي.

ص: 142


1- 120.. المحقّق المدقّق السيّد الخوئيّ(قدس سره) كما في المحاضرات، ج2، ص72.

أمّا إذا انتفت القدرة فواضح انتفاء الاختيار، ذلك أنّه إذا اُجبر أحد علي فعل وهو يعلم بما أجبر عليه ولكن لا يستطيع من الامتناع عنه كحركة اليد الرعشاء، فظاهر أنّه لا يخرج فعله من أن يكون فعلاً غير إراديّ له، والعلم وحده لا يؤثّر شيئاً في ذلك.

وأمّا إذا انتفي العلم فلأجل أنّ الإنسان ما لم يعلم الفعل الذي يريد تحقيقه وكيفيّة إيقاعه في الخارج لا يكون صادرا عن إرادته واختياره، بل إنّ القدرة لا تنفكّ عن العلم بمعني أنّه لا يمكن فرض وجود القدرة من دون العلم دون العكس، فالطفل ما لم يعلم كيف يمشي لا يقدر عليه وما لم يعلم كيف يرفع الأشياء لا يكون قادراً علي رفعها. والشاهد علي ذلك أنّه يقال مثلاً: أنت لا تقدر علي إيقاع الفعل الكذائيّ إلّا بعد أن تعرف كيف تصنعه، ولا يختلف ذلك في الأعمال الوضيعة والشريفة.فالإرادة والاختيار لا ينفكّان عن وجود العلم والقدرة ومن دونهما لا يمكن أن يكون ثمّة إرادة واختيار بالنسبة إلي الأفعال، فإنّ الإرادة عبارة عن إعمال القدرة والعزم الوارد علي جميع الدواعي والمقتضيات، وبالقدرة يكون الفعل والترك متساويين وإن فرض وجود الدواعي الشديدة بالنسبة إلي أحدهما، كما مرّ بيانه. ولا يستند الفعل إلي الفاعل إلّا إذا فرض صدوره عنه بالعلم والقدرة، فلذا لا يصحّ إسناد حركة اليد المرتعشة إلي صاحبها بأن يقال: هو الذي يحرّك يده لعدم إستناد الارتعاش إلي قدرته وعدم سلطنته علي الارتعاش وعدمه، وكذا لا يصحّ إسناد ضربان القلب إلي العبد لأنّه لا يعرف كيفيّة انقباضه وانبساطه فانقباض القلب وانبساطه خارجان عن قدرته، فلا يصحّ إسنادهما إلي قدرته وإرادته.

وأمّا الفعل المقارن للعلم والقدرة من دون أن يكون صدوره عنهما فلا يكون اختياريّاً. ولذا اذا كانت السلطنة -- التي لا تنفكّ عن العلم -- علي الفعل والترك متحقّقة بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك كان الفاعل مختاراً شائّياً كما هو واضح، وإلّا فلا يكون مختاراً البتّة.

ص: 143

الإرادة من دون العلم والقدرة ليست إرادة حقيقة
نقد رأي الملّاصدرا في معني القدرة والاختيار

ذكر بعض الفلاسفة أنّه:

ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل.(1)

بتقريب أنّ صرف إيجاد الفعل بالإرادة موجب لكون الفعل اختياريّاً فليس عدم القدرة علي تركه مضرّاً باختياريّته.

وهذا الكلام باطل: لأنّ الاختيار والقدرة عبارة عن كون زمام الأمر بيد الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإذا لم يكن قادراً علي ترك الفعل يكون مجبوراً لامحالة، لأنّه ليس بين الوجود والعدم منزلة.

والذي يظهر من عباراتهم هو أنّهم يرون أنّ المناط في اختياريّة الفعل أو الترك استنادهما إلي الإرادة وإن كان مجبوراً ومضطرّاً بالنسبة إلي الإرادة نفسها، أي أنّه إذا حصلت العلّة التامّة لإرادة الإنسان يلجيءإلي أن يختار ويريد الفعل، ومع عدم حصول العلّة التامّة لا يستطيع أن يريد. قال صدر الدين الشيرازيّ:

ظهر أوضح الظهور أنّ مدار القادريّة علي كون المشيّة سبباً لصدور الفعل أو الترك، وإنّ القادر هو الذي إن شاء فعل وان لم يشاء لم يفعل، وان وجبت المشيّة وجوباً ذاتيّاً أو غيريّاً وامتنعت اللامشيّه امتناعاً ذاتيّاً أو غيريّاً.(2)

وبطلان هذه المقالة واضح؛ فإنّ الاختيار كما أشرنا إليه عبارة عن السلطنة الكاملة والحريّة التامّة للإنسان في اختيار الفعل أو الترك، وأمّا إذا لم تكن له هذه الحريّة والسلطنة ولم يستطع علي إرادة الترك وكان ملجئاً ومضطرّاً إلي إرادة الفعل يكون الفعل ضروريّاً، ومن الواضح أنّه لا يعقل كون الفعل اختياريّاً مع الضرورة عليه.

وببيان آخر: الإلجاء والاضطرار إلي الفعل أو الترك يخرجان الفعل عن كونه اختياريّاً ولو

ص: 144


1- 121.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص318؛ القبسات، ص312، وتبعه عليه ثلّة من المتأخّرين.
2- 122.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص318.

لم يكن هذا الإلجاء وارداً علي فعل الإنسان بالمباشرة؛ فالاضطرار مناف لاختياريّة العمل ولو كان بألف واسطة؛ فعلي هذا لو كان الفعل الصادر عن الإنسان صادراً عن الإرادة ولكن كان هو مجبوراً في هذه الإرادة، أي كان مُلجئاً إلي أن يريد الفعل أو الترك ويختارهما ولم يكن قادراً علي الامتناع من هذه الإرادة، فلا يسمّي هذا الفعل اختياريّاً كما أنّه لا يسمّي فاعله مختاراً، لأنّه لا اختيار مع الاضطرار والإلجاء.

وفي الحقيقة لا ينبغي أن نقول: إنّ فعله هذا صادر عن الإرادة مع كونه مجبوراً في هذه الإرادة، كيف والحال أنّه لا إرادة له فيها، فليس هو الذي يريد فيفعل، بل إذا حصلت العلّة التامّة للإرادة يحدث فيه ما يسمّونه بالإرادة وإذا حصلت الإرادة له سوف يصدر الفعل عنه لا محالة، ومن الواضح أنّ ما يكون معلولاً للعلّة التامّة لا يكون إرادة حقيقيّة لأنّ الإرادة علي زعمهم علّة للفعل ولا ينفكّ المعلول عن علّته، مع أنّه لم يكن قادراً علي تحصيل العلّة التامّة للإرادة ولا علي الامتناع منها بعد حصولها، وبالتالي لم يكن قادراً علي إيقاع الفعل أو الامتناع منه وهذا هو عين الجبر.

حسم مادّة الشبهة

تعرّض المتكلّمون لبيان حقيقة القدرة عند البحث عن قدرة الباري تعالي فقالوا: إنّ القدرة صفة تقتضي صحّة الفعل من الفاعل لا إيجابه مع أنّ الفعل لا يحتاج في صحّته الذاتيّة إلي القدرة فإنّ الإمكان للممكن واجب ولكن نسبته إلي الفاعل يجوز أن يكون معلّلا.(1)

وقد اعترض الفلاسفة علي هذا التعريف بأنّ الواجب بالذات لابدّ أن يكون واجباً من جميع الجهات وفرض الإمكان فيه -- من أيّ جهة -- ينافي وجوبه الذاتيّ من جميع الجهات ولذا ذهبوا في تعريف الفاعل القادر إلي ما نقلناه آنفا عن الأسفار.

والحقّ في المقام هو أنّ كمالات الباري تعالي عين ذاته القدّوس ولا معني لفرض الإمكان فيها مع كونها عين ذاته فهو علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه والقدرة بمعني السلطنة التامّة من أعظم الكمالات وهي تنافي وجوب الفعل والمقدور ومع فرض الوجوب وتحقّق

ص: 145


1- 123.. راجع: كشف المراد، ص248 (المسألة الثالثة والعشرون في أحكام القدرة).

الفعل أو الترك بنحو الوجوب والضرورة لا معني لكونه مقدوراً ولا معني لكون الفاعل أو التارك ذا سلطنة تامّة.

فالقدرة عين ذاته وصحّة الفعل أو الترك من لوازم القدرة والسلطنة عليهما وهذا لا يوجب سريان الإمكان والنقص إلي الباري تعالي بل إمكان الفعل والترك بمعني مقدوريّتهما له تعالي -- لأجل استيلائه وسلطنته عليهما -- عين الكمال، وكمال القدرة له تعالي فعليّ لا إمكانيّ فلا وجه لما التزموا به من وجوب الفعل أو الترك بسبب تعلّق المشيّة الواجبة -- ذاتيّاً أو غيريّاً -- به.

والظاهر أنّ ما ذكره العلّامة(قدس سره) «وأمّا نسبته إلي الفاعل فجاز أن يكون معلّلا» ليس بمعني كونه معلّلاً بالعلّة الموجبة فإنّه ينافي القدرة كما هو واضح بل العلل الموجودة في الأفعال الاختياريّة هي العلل الغائيّة -- لا الفاعليّة -- المخرجة للفعل عن كونه لغواً.

وبما ذكرنا يظهر أنّ القدرة في الباري تعالي من الكمالات الذاتيّة وهو قادر بالذات، وفي المخلوق من الكمالات التي يهبها اللّه تعالي إيّاه بفضله ومنّه وعلي أيّ تقدير تكون ضرورة الفعل أو الترك منافيةً لتلك السلطنة.

ومن الواضح أنّ تحقّق الفعل أو الترك وترجيح أحدهما علي الآخر إنّما يكون بالرأي والمشيّة المستندة إلي القدرة، والفاعل المستولي علي الفعل والترك الغير الغافل يتعلّق رأيه دائماً بالفعل أو الترك ولا يخلو من كليهما لوضوح التناقض بين الوجود والعدم -- فإنّه لا واسطة بينهما -- وارتفاع النقيضين محال.

ملاحظات في كلام ملّاصدرا

ولأجل حسم مادّة الشبهة لابدّ لنا أن نبسط الكلام حول ما ذكره صدر الدين الشيرازيّ في أسفاره؛ قال:

الإرادة بين الإمكان والوجوب

ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري هو ما أشرنا إليه؛ فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلي وجود

ص: 146

المراد وعدمه لم تكن صالحة لرجحان أحد ذينك الطرفين علي الآخر، وإذا صارت إلي حدّ الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً إنّما يتحقّق عند اللّه وهناك قد صارت موجبة للفعل وجوباً ذاتيّاً أزليّاً. وأمّا في غيره فلا يخلو عن شوب الإمكان والقصور والفتور ولا ضرورة فيه إلّا ضرورة بالغير وما دام الذات أو الوصف، لا الضرورة الأزليّة. فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل كلام باطل؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متي كانت متساويّة لم تكن جازمة وهناك يمتنع حدوث المراد إلّا عند من نفي العليّة والمعلوليّة بين الأشياء كالأشاعرة، ومتي ترجّح أحد طرفيها علي الآخر صارت موجبة للفعل ولا يبقي حينئذ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة؛ بل الفرق ما ذكرناه أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل غير المنافي عنه وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه كالقوي الطبيعيّة وإن كان الشعور حاصلاً لكنّ الفعل لا يكون ملائماً بل منافراً مثل الملجأ علي الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له.(1)

حاصل ما ذكره في هذه العبارات: أنّ الإرادة ما دامت متساوية النسبة إلي وجود المراد وعدمه لا تكون صالحةلرجحان أحد الطرفين علي الآخر ولابدّ من صيرورتها واجبة كي يتحقّق المراد، والفرق بين إرادته تعالي وإرادة العبد هو أنّ إرادة اللّه موجبة للفعل وجوباً ذاتيّاً أزليّاً وإرادة غيره تكون موجبةً للفعل وجوباً غيريّاً وضروريّاً لا بالضرورة الأزليّة. ويلزم ممّا ذكره أن يكون كلّ فعل صدر عن كلّ فاعل -- سواء كان الفاعل هو اللّه تعالي أو غيره -- لا يتحقّق إلّا بعد صيرورته واجبا، وعلي ما ذكره لا يبقي معني للاختيار بل كلّ فاعل يكون فاعلاً موجبا. ومنشأ هذه المقالة المزيّفة تفسير الإرادة بالعلم وإرجاعها إلي الذات كما قال السبزواريّ في تعليقته علي العبارة المذكورة:

والحاصل أنّ بعد معرفة الإرادة الوجوبيّة وأنّها عين العلم الفعليّ الوجوبيّ الذي هو عين ذاته يعلم أنّها لا تمكن الصحّة والإمكان في تعريف قدرة اللّه.

وبطلان ما ذكره ومنافاته للوجدان وما جاء به صاحب الشريعة لا يحتاج إلي البيان لأنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

ص: 147


1- 124.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج6، ص317.

وقد اعترف بذلك بعض المعاصرين في حاشيته علي الأسفار حيث قال:

ويظهر أيضاً أنّها لو أخذت صفة له تعالي بعد التجريد كانت صفة فعل نظير الخلق والإيجاد والرحمة منتزعة عن مقام الفعل، فتماميّة الفعل من حيث السبب إذا نسبت إلي الفعل سمّيت إرادة له فهو مراد له تعالي وإذا نسبت إليه كانت إرادة منه فهو مريد. كما أنّ كلّ ما يستكمل به الشيء في بقائه رزق، فالشيء مرزوق وهو تعالي رازق وهكذا. وعلي هذا جري الكتاب العزيز فيما استعمله من لفظ الإرادة والمشيّة كقوله تعالي: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ﴾(1) الآية، وقوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾(2) الآية، وقوله: ﴿فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّه ِ شَيْئا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ﴾(3) الآية، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(4) إلي غير ذلك من الآيات.(5)نعم فسّر المحشّي صفات الفعل بما يرجع إلي صفات الذات ولذا قال في آخر كلامه: «والبحث كما تري أشبه باللفظي».

ثمّ قال:

فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل كلام باطل، لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متي كانت متساوية لم تكن جازمة وهناك يمتنع حدوث المراد إلّا عند من نفي العلّيّة والمعلوليّة بين الأشياء كالأشاعرة. ومتي ترجّح أحد طرفيها علي الآخر صارت موجبة للفعل ولا يبقي حينئذ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرناه أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل غير المنافي عنه وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه كالقوي الطبيعيّة وإن كان الشعور حاصلاً لكنّ الفعل لا يكون ملائماً بل منافراً مثل الملجأ علي الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له.(6)

ص: 148


1- 125.. القصص28.، الآية 5.
2- 126.. الكهف18.، الآية 82.
3- 127.. المائدة5.، الآية17.
4- 128.. يس36.، الآية 82.
5- 129.. تعليقة السيّد الطباطبائيّ علي الأسفار، ج8، ص315.
6- 130.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص317-318.

حاصل كلامه: أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الفاعل المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل غير المنافي عنه وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه كالقوي الطبيعيّة. ولا يصحّ الفرق بينهما بأنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل والموجَب ما لا يمكنه أن لا يفعل، لأنّ الإرادة لو كانت متساوية بالنسبة إلي الفعل والترك لم تكن جازمة فيمتنع حدوث المراد لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، ومع ترجّح أحد طرفيها علي الآخر صارت الإرادة موجبة للفعل فلا يبقي فرق بين الفاعل المريد المختار وبين سائر الموجبات من جهة وجوب المراد. نعم يصحّ القول بتحقّق المراد من دون أن يكون واجباً بناءاً علي مسلك الأشاعرة المنكرين للعلّيّة والمعلوليّة.

حصول الخلط بين القدرة والإرادة

ويرد عليه أمور:

الأوّل: إنّه خلط بين القدرة والإرادة فإنّ ما يكون متساوياً بالنسبة إلي الفعل والترك إنّما هو القدرة لا المشيّة الذي هو الفعل الأوّل، ولا الإرادة الذي هوالفعل الثاني. وكذا الإرادة بمعني الرأي والبداء فإنّها المخصّص الذي به يترجّح الفعل أو الترك.

الثاني: إنّ ما ذكره من أنّ الشيء ما لم يجب من جهة علّته لم يوجد إنّما يصحّ في الفواعل الطبيعيّة كالنار بالنسبة إلي الإحراق لا الفواعل الإراديّة، وسيجيء البحث عنه إن شاء اللّه تعالي عند البحث عن هذه القاعدة.

الثالث: إنّ ما ذكره من الفرق بين الفاعل المريد وغير المريد إنّما يصحّ بناء علي ما سلكه هو وسائر الفلاسفة من تفسير الإرادة بالعلم وقد مرّ بطلانه.

الرابع: إنّه بناءاً علي تفسير الإرادة بالعلم يكون المراد من «الفاعل المريد» هو الفاعل العالم بفعله، ومن «الفاعل الغير المريد» الفاعل الغير العالم بفعله، وبناءاً علي ذلك يكون تعريف الفاعل المريد بأّنه هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه، تعريفاً للشيء بنفسه.

وبعبارة اُخري: أنّه لو قلنا بأنّ الإرادة عبارة عن العلم فيكون «الفاعل المريد» بمعني

ص: 149

«الفاعل العالم» فلو قلنا في تعريف الفاعل المريد أنّه الفاعل العالم بفعله فقد أخذنا «العالم» في تعريف «المريد» الذي هو عبارة عن العالم.

وليت شعري من يخطي ء بهذا النحو من الخطاء الفاحش كيف يمكن أن يُعوّل علي آرائه في المسائل الدقيقة الاعتقاديّة؟!

علمه تعالي بأفعال العباد

ثمّ قال:

وممّا يدلّ علي ما ذكرناه من أنّه ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل أنّ اللّه إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلانيّ في الوقت الفلانيّ فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً وذلك محال والمؤدّي إلي المحال محال فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب لاستحالة خروجه من طرفي النقيض، مع أنّ اللّه مريد له وقادر عليه. فظهر وتبيّن أنّ إمكان اللاكون وصحّة الترك ليس شرطاً لكون الفعل مقدوراً عليه أو مرادا.(1)

فقد استشكل علي تفسير القدرة بالسلطنة علي الفعل والترك وقال: ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراًإمكان أن لا يفعل. وما ذكره من الإشكال يتفرّع علي عدّة أمور:

أحدها: تفسير الإرادة بالعلم.

ثانيها: رجوع إرادة العبد إلي إرادة الربّ المتعال من جهة أنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلي ما بالذات وأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

ثالثها: أنّ كلّ فعل من أفعال العبد لا يوجد ما لم يجب.

رابعها: أنّ علم الباري تعالي سبب لوجوب تحقّق المعلوم خارجاً لأنّه إذا علم بأنّ العبد يفعل الفعل الكذائيّ في الوقت الكذائيّ لابدّ من وقوعه فلو لم يقع لكان علمه جهلاً.

أقول:

أمّا الأمر الأوّل: فقد ظهر بطلانه في ما سبق.

ص: 150


1- 131.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص318.

وأمّا الأمر الثاني: فسيجي ء البحث عنه، ومجمل القول فيه أنّ إرادة العبد تستند إلي قدرته وقد أراد اللّه تعالي أن يكون العبد قادراً ولم يرد منه إرادته الفعل أو الترك.

وأمّا الأمر الثالث: فسيجي ء بطلانه فعلي فرض التسليم لما ذكروه من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد فإنّما يصحّ ذلك في التكوينيّات فإنّها لا توجَد ما لم تتحقّق علّتها التامّة. وأمّا الأفعال الاختياريّة المستندة إلي القدرة فلا تصحّ تلك المقالة فيها.

وأمّا الأمر الرابع: فسيأتي بيانه فإنّ بطلان القول بعلّيّة علم الباري للمعلومات ممّا لا غبار عليه وهذه المقالة تبتني علي تفسير العلم بالإرادة وإرجاع الإرادة إلي العلم ومن الواضح أنّ علمه ليس سبباً وعلّة تامّة لتحقّق أفعاله فضلاً عن أن يكون علّة لصدور الفعل عن العبد.

فعن مولانا سيّدالشهداء(عليه السلام) في دعاء عرفة:

إلهي أنت الذي تقدّس رضاك من أن تكون له علّة منك ... .

فإنّ علمه الغير المحمول لا تعيّن فيه، وأمّا العلم المحمول فهو بمعني الثبت في قلب المعصوم(عليه السلام) وهو المشيّة والذكر الأوّل. وللّه تعالي تغيير ما أثبته قبلالتحقّق الخارجيّ؛ ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(1) وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالي.

وأمّا القول بالجبر من جهة كون أفعال العبد معلومة له تعالي فسيجي ء الكلام فيه مفصّلاً من أنّ العلم تابع للمعلوم، لا علّةٌ له.

اجتماع القدرة والإلجاء معاً عند الملّاصدرا

ثمّ قال:

وظهر أوضح الظهور أنّ مدار القادريّة علي كون المشيّة سبباً لصدور الفعل أو الترك، أنّ القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وإن وجبت المشيّة وجوباً ذاتيّاً أو غيريّاً وامتنعت اللا مشيّة امتناعاً ذاتيّاً أو غيريّا.(2)

ص: 151


1- 132.. المائدة5.، الآية 64.
2- 133.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص318-319.

ما ذكره من أنّ مدار القادريّة علي كون المشيّة سبباً لصدور الفعل أو الترك صحيح إذا كان المراد من سببيّة المشيّة كونها مرجّحة لصدور الفعل أو الترك، وكونها مستندة إلي قدرة العبد؛ أمّا لو كان مراده من عبارته هو تماميّة العلّة لتحقّق الفعل أو الترك فبطلانه أوضح من أن يخفي فإنّ صدور المعلول عن العلّة ضروريّ يستحيل التخلّف عنه ولا تجتمع الضرورة مع القدرة في مورد واحد كما سيأتي التنبيه عليه.

وأمّا ما ذكره من أنّ القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو مناقض لما أصرّ عليه سابقاً من أنّه ليس من شرط كون الذات مريداً أو قادراً إمكان أن لا يفعل وهذا الإشكال يبتني علي أن يكون المراد من تفسير الفاعل القادر المريد -- بأنّه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل -- سلطنته علي الفعل والترك بحيث تكون نسبة القدرة إلي طرفي الفعل والترك متساوية والمرجّح هو المشيّة؛ نعم لو كان المراد من هذا التفسير هو ما ذهب إليه (من أنّ صدق القضيّة الشرطيّة غير متوقّف علي إمكان طرفيها والمشيّة واجبة بالوجوب الذاتيّ أو الغيريّ) فلا تناقض بين العبارتين ولكن لا يخفي بطلانه.

وأمّا ما ذكره من أنّ الفاعل القادر هو الذي تستند أفعاله إلي مشيّته وإن وجبت المشيّة بالوجوب الذاتيّ -- كما في الباري تعالي -- أو بالوجوب الغيريّ -- كما في العبد -- ففيه:أنّه لا يصحّ تفسير المشيّة بما ذكره إلّا بناءاً علي تفسيرها بالعلم وقد مرّ بطلانه. مضافاً إلي أنّ الوجوب لا يجتمع مع المشيّة كما هو واضح بالوجدان فإنّه لا يصحّ إسناد ارتعاش اليد إلي من كانت يده رعشاء بخلاف إسناد الفعل الاختياريّ كالإيمان أو الكفر فإنّه يصحّ ذلك كما لا يخفي.

امتناع اللامشيّة من القادر المريد عند الملّاصدرا
ثمّ قال:

ومن توهّم أنّه لا بدّ في كون الفاعل قادراً أن يقع منه اللا مشيّة وقتاً مّا أو صحّ وقوعها أخطأ وخلط ولم يعلم بأنّ الفاعل إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه، وفي تلك الحالة يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل، فعلم أنّ صحّة وصفه بالفاعليّة ليست لأجل صدق هذه الحمليّة بل

ص: 152

لصدق تلك الشرطيّة.(1)

لا يخفي أنّ هذه العبارة وما بعدها إلي قوله «مجبور في إرادته»، مزلّة أقدام العقول لتمويهها أشدّ التمويه، فلابدّ من توضيحها أوّلاً ثمّ بيان ما يرد عليها فنقول:

إنّه تصدّي لإبطال تفسير القدرة بأن يقع من الفاعل اللامشيّة وقتاً مّا، أو صحّ وأمكن وقوعها منه وذكر في إبطال هذا التفسير ما حاصله: أنّ الفاعل حال صدور الفعل عنه بالفعل يكون فاعلاً ولذا يستحيل في تلك الحالة -- أي حالة صدور الفعل عنه -- أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل، وعلي هذا فصحّة وصف الفاعل بالفاعليّة ليست لأجل صدق هذه القضيّة الحمليّة -- أي شاء أن لا يفعل فلم يفعل -- بل تكون لصدق تلك الشرطيّة -- إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل --.

أقول: من الواضح أنّ من ذهب إلي أنّ الفاعل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، أو بوقوع اللامشيّة منه وقتاً مّا، أو إمكانها، لم يرد تعريف الفاعل المتلبّس بالفعل. بل مراده من الفاعل هو الفاعل بالقوّة، فإنّ القدرة التي هي السلطنة علي الفعل والترك إنّما يتصوّر تحقّقها قبل التلبّس بالفعل أو الترك وفي حال التلبّس بأحدهما يكون المقدور متحقّقاً، والفاعل قد صرف قدرته وأعملها في الفعل أو الترك.وبعبارة أخري: إنّ هذا التعبير -- (إن شاء فعل وإن شاء ترك) أو التعبير ب-- (إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل) -- تعريف للفاعل باعتبار كونه قادراً ففي الحقيقة يكون تعريفاً للقادر والقدرة، وما ذكره من أنّ الفاعل في حال صدور الفعل يستحيل أن تصدق عليه القضيّة الحمليّة -- شاء أن لا يفعل فلم يفعل -- تدليس وتخبيط، لأنّ من فسّر الفاعل القادر بأنّه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لم يقل بأنّ توصيفه بالقادر لأجل صدق تلك الحمليّة عليه كي يرد عليه بأنّه حين التلبّس بالفعل لا يصحّ صدقها عليه.

مضافاً إلي ذلك إنّ من أوضح الواضحات هو أنّ كلّ قضيّة ممكنة تصير ضروريّة

ص: 153


1- 134.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص319.

ب--وصف المحم--ول وف--ي ف--رض وج--ود المحمول للموضوع. فنقول: زيد كاتب بالضرورة ما دام كونه كاتباً، ونقول: الك--اتب ب--الفعل كاتب بالضرورة ما دام كونه كاتباً، مع أنّ المراد من «زيد كاتب بالإمكان» هو في فرض عدم تلبّسه بالكتابة.

ولعلّ منشأ وقوعه في هذا الخبط العشوائيّ هو أنّه لا يصحّ عنده إسناد الترك إلي الفاعل لكونه عدميّاً. ولذا عبّر في تفسير القدرة بوقوع اللامشيّة وقتاً مّا أو إمكانه ولم يعبّر بأنّ الفاعل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وفسّر جملة «إن لم يشأ لم يفعل» بوقوع اللامشيّة أو إمكانه مع أنّه من الواضح صحّة إسناد الترك إلي الفاعل من جهة تمكّنه من استمرار العدم ونقضه بإيجاد الفعل، ولذا تصحّ العقوبة علي ترك الواجبات الشرعيّة، ويحسن عند العقلاء لوم العبد عند ترك امتثال أمر المولي.

وأمّا ما ذكره من أنّ صحّة وصف الفاعل بالفاعليّة ليست لأجل صدق هذه الحمليّة -- شاء أن لا يفعل فلم يفعل -- عليه حين تلبّسه بالفعل بل لصدق تلك الشرطيّة -- إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل -- عليه ففيه:

أوّلاً: أنّه لم يقل أحد بأنّ صحّة وصف الفاعل بالفاعليّة حين تلبّسه بالفعل إنّما هو لأجل صحّة صدق تلك الحمليّة عليه كي يرد عليه بأنّه يستحيل صدقها عليه حين تلبّسه بالفعل.

وثانياً: أنّ الكلام ليس في صدق الفاعليّة علي الفاعل بل الكلام في تعريف الفاعل القادر، فما ذكره خارجعن محلّ النزاع. ولذا قال المحشّي: «الصواب بالقادريّة كما لا يخفي».

تفسير مشيّة اللّه بضرورة صدور الفعل منه تعالي والمناقشة فيه

ثمّ قال:

والواجب سبحانه يصدق عليه أنّه لو شاء أن لا يفعل فإنّه لا يفعل، وإن كان ذلك المفروض محالاً وتلك الحمليّة كاذبة، كما في قولك: لو لم يكن الصانع موجوداً لم يكن العالم موجوداً، لما بيّنا أنّ مشيّة اللّه عين ذاته فإذن كما ليس يضرّ صدق

ص: 154

تلك الشرطيّة عدم وقوع المقدّم فكذا ليس يضرّه عدم إمكان وقوعه.(1)

محصّل كلامه: إنّ الواجب سبحانه قادر لصدق القضيّة الشرطيّة عليه -- لو شاء أن لا يفعل فإنّه لا يفعل -- ثمّ قال: إنّ ذلك المفروض (لو شاء أن لا يفعل) محال، كما أنّ الحمليّة (شاء أن لا يفعل فلم يفعل) كاذبة. ومع استحالة الشرطيّة يصحّ صدقها عليه تعالي كما في قولك: لو لم يكن الصانع موجوداً لم يكن العالم موجوداً، ووجه استحالة الشرطيّة هو أنّ مشيّته تعالي عين ذاته.

أقول: كون مشيّته تعالي ذاتيّة واضح البطلان، ووجه القول بهذه المقالة الفاسدة هو تفسير المشيّة والإرادة بالعلم وقد أبطلناه. ويظهر بما ذكرنا أنّه لا يستحيل صدق الشرطيّة علي الفاعل القادر بل حقيقة القدرة هي السلطنة علي الفعل والترك بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.

نهاية التحصيل في مدرسة الحكمة المتعالية هو الاضطرار في الاختيار

ثمّ قال:

فليس لأحد أن يقول: إنّا لا نعتبر في كون الفاعل قادراً مشيّة أن لا يفعل بل نعتبر فيه كونه بحيث يمكن في حقّه مشيّة أن لا يفعل، والفاعل حال كونه فاعلاً وإن كذب عليه أنّه شاء أن لا يفعل، لكنّه لا يكذب أنّه من شأنه أن لا يفعل دائماً. وإنّما اعتبرنا هذا القيد حتّي يتميّز عن العلل الموجبة، لأنّا نقول: قد سبق أنّ الجهات التي بها يصير الفاعل فاعلاً بالفاعليّة التامّة يستحيل أن يحصل،ولا يترتّب عليه الفعل. فإذن الفاعل عندما يستجمع الجهات التي باعتبارها يكون مؤثّراً في الفعل لا يصدق عليه أنّه من شأنه أن لا يفعل، بل يكذب عليه ذلك. وأمّا سبيل التمييز بين المختار والموجب فليس كما توهّموه، بل كما مرّ من مدخليّة العلم والمشيّة في الفاعليّة والتأثير وعدم مدخليّتهما، فهذا نصاب التحصيل والتدقيق وستعلم أنّ ما سوي اللّه من المختارين مضطرّ في اختياره مجبور في إرادته.(2)

ص: 155


1- 135.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص319.
2- 136.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص319-320.

لا يخفي أنّه قد تصدّي لتقريب كلام القائلين بأنّ حقيقة القدرة هي السلطنة علي الفعل والترك، وأنّ الفاعل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكنّ تقريبه لكلامهم تفسير بما لا يرضي صاحبه؛ فإنّه نسب إليهم القول بأنّ الفاعل القادر حال كونه فاعلاً وإن كذب عليه أنّه شاء أن لا يفعل، لكنّه لا يكذب أنّ من شأنه أن لا يفعل دائماً. ثمّ أجاب عن مقالتهم بأنّ الجهات التي بها يصير الفاعل فاعلاً بالفاعليّة التامّة يستحيل أن يحصل ولا يترتّب عليه الفعل، فإذن الفاعل عند ما يستجمع الجهات التي باعتبارها يكون مؤثراً في الفعل لا يصدق عليه أنّه من شأنه أن لا يفعل بل يكذب عليه ذلك.

ثمّ تصدّي لبيان وجه التمييز بين المختار والموجب بأنّ الفاعل المختار هو الذي يكون للعلم والمشيّة (التي تكون واجبة بالذات أو بالغير) دخل في فاعليّته وتأثيره بخلاف الفاعل الموجب.

وقال في آخر كلامه: أنّ ما سوي اللّه من المخلوقين مضطرّ في اختياره مجبور في إرادته.

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ ما نسبه إلي المستشكل بأنّه يقول إنّ الفاعل القادر هو الذي حال كونه فاعلاً من شأنه أن لا يفعل دائماً غير صحيح، حيث إنّه يقول: الفاعل القادر له السلطنة علي الفعل أو الترك قبل تلبّسه بأحدهما، وأمّا بعد تلبّسه بالفعل يكون الفعل من جهة صدوره ضروريّاً بنحو القضيّة الممكنة بالذات الضروريّة بشرط المحمول فلا معني لأن يقال: «إن شاء لم يفعل».

نعم الفاعل حين تلبّسه بالفعل أو الترك قادر علي استمرار الفعل أو الترك بمعني أنّ له السلطنة عليالاستمرار، فإن شاء استمرّ في الفعل أو الترك وإن شاء توقّف.

وثانياً: إنّ ما ذكره من أنّ الفاعل بعد تحقّق الجهات التي بها يصير علّة تامّة لتحقّق الفعل يستحيل أن لا يحصل منه الفعل -- ولذا لا يصدق عليه بعد تحقّقها أنّه من شأنه أن لا يفعل -- فهو مصادرة بالمطلوب، لأنّه بناءاً علي كون الإرادة علّة تامّة وبناءاً علي أنّ الفاعل القادر المريد بعد تحقّق تلك الجهات يكون مجبوراً لمكان وجوب المشيّة يصحّ

ص: 156

ما ذكره من أنّ بعد تحقّق العلّة التامّة والجهات الدخيلة في العلّيّة يستحيل أن لا يصدر الفعل عن فاعله. ومن الواضح أنّ هذا هو عين المتنازع فيه فإنّا لا نسلّم كون الإرادة؛ علّة تامّة لإمكان أن ينشأ الرأي لصاحبها ولو كان الأمر بعد مرحلة التقدير بل وبعد مرحلة القضاء فما لم يتحقّق الفعل خارجاً يمكن البداء وتغيير المشيّة والإرادة. فما ذكره في الجواب لا يكون إلّا مصادرة بالمطلوب.

مضافاً إلي ما مرّ من بطلان ما ادّعاه من كون المشيّة واجبة بالوجوب الذاتيّ أو الوجوب بالغير.

وظهر ممّا ذكرناه سابقاً أنّ الفاعل ينقسم إلي قسمين، أحدهما: الفاعل الإراديّ وثانيهما: الفاعل الطبيعيّ. وما ذكره من استحالة عدم حصول الفعل من الفاعل بعد تحقّق الجهات التي يصير الفاعل بها فاعلاً بالعلّيّة التامّة -- ولذا لا يصدق عليه حين تلبّسه بالفعل أنّ من شأنه أن لا يفعل -- إنّما يصحّ في الفواعل الطبيعيّة لا في الفواعل الإراديّة.

وثالثاً: ما ذكره في مقام التمييز بين الفاعل المختار والموجب بأنّه كلّما كان الفعل مسبوقاً بالعلم والمشيّة -- وإن وجبت المشيّة بالذات أو الغير -- فالفاعل يكون مختاراً ومع عدم مسبوقيّته بالعلم أو المشيّة يكون الفاعل مجبوراً، فتقدّم الكلام فيه.

ورابعاً: ما ذكره في آخر كلامه من أنّ ما سوي اللّه تعالي من المختارين مضطرّ في اختياره مجبور في إرادته، أمّا اختياره فلسبق فعله أو تركه بالمشيّة وأمّا اضطراره فلأنّ مشيّته وإرادته واجبة بالغير فهو مضطرّ في صورة المختار. ففيه:

مضافاً إلي أنّه يظهر بطلانه ممّا سيأتي في الجواب عن الاستدلال علي الجبر بقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، أنّ ما ذكره لا يختصّ بما سوي اللّه بل يصدق في حقّه تعالي بطريق أولي؛ ذلك لأنّ أفعاله مسبوقة بالعلم والمشيّة ولكنّ المشيّة عنده ذاتيّة له تعالي وواجبة بالوجوب الذاتيّ، فلو كان الإنسان مجبوراً لأجل وجوب مشيّته، فلابدّ أن يكون الباري تعالي مجبوراً بطريق أولي. لأنّ مشيّة الإنسان واجبة بالغير ومشيّته واجبة بالذات،

ص: 157

مع أنّ صدور المعلول عن العلّة التي تكون علّيّتها تامّة بل فوق التمام يكون قهريّاً ولا معني لكون صدوره عنها بالمشيّة والإرادة، فلا وجه لتخصيص ما ذكره بما سوي اللّه تعالي.

والعجب من هؤلاء كيف أصرّوا علي مقالتهم في ملاك مختاريّة المختار بالعبارات الخطابيّة بلا إقامة برهان عليها مع تصريحهم في نهاية المطاف بأنّه جبر بصورة الاختيار؛ فانظر إلي عباراته في بيان هذا الجبر المرتدي للباس الاختيار:

إنّ الحقّ الحريّ بالتحقيق والتحصيل لمن رفض العصبيّة وترك التقليد، وطرد الطاغوت ورجع إلي درك الحكمة وانخرط في حزب الملكوت وأولياء الحقيقة، أن يعلم أنّ الفرق بين القادر المختار وبين الفاعل الموجب ليس علي سبيل ما كان لاجّاً عليه أكثر المحتجبين عن إدراك الحقائق بأغشية التقليد للآباء والمشايخ ... .(1)

التمايز بين المكرَه والمجبور

بعد ما عرفت من أنّ الملاك في الاختيار كون الفعل صادراً عن الإرادة المستندة إلي العلم والقدرة يمكن أن يتوهّم في مقام النقض عليه بأن يقال: كيف حصرتم وجود الإرادة بما إذا كانت صادرة عن العلم والقدرة، مع أنّه لو اُجبر أحد علي أن يفعل فعلاً كما لو اُجبر علي أكل المفطر في نهار شهر رمضان، فهذا الفعل مع أنّه غير صادر عن القدرة إلّا أنّه صادر عن الإرادة، فإنّهم أجبروه -- بالتهديد علي القتل مثلاً -- علي أن يريد الإفطار بنفسه، ولذا لا يعاقب علي الإفطار لكونه مجبوراً بالنسبة إليه مع أنّه صادر عن إرادته.

فيقال في دفع هذا التوهّم إنّ الذي يقدم علي الإفطار في مفروض السؤال ليس مجبوراً عليه بحيث لا يستطيعالمخالفة، ولذا يعبّر عنه بالمكرَه -- بالفتح -- لا بالمجبور لأنّه فاقد للحرّيّة لا للإرادة ويصحّ إسناد الفعل إليه كما أنّه يصحّ التعبير بأنّه قادر. فإنّه بإرادته واختياره وبعلمه وقدرته يقدم علي الإفطار، أ فلو كان عاجزاً عن حركة يديه وشفتيه ولسانه، أو لم يَكن يعرف كيف يُؤكل الطعام كبعض المجانين، لكان مُقْدِماً عليه بإرادته؟ أو هل كانوا قادرين علي أن يكرهوه علي هذا الفعل؟ إلّا أن يدخلوا الطعام في فمه من دون

ص: 158


1- 137.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص315.138. الاحتجاج، ج2، ص300؛ بحارالأنوار، ج45، ص83، ح10.

إرادة منه ولا اختيار ولا قدرة ولا علم وهذا خارج عن مفروض الكلام.

و يشهد علي ما ذكرنا أنّه بالرغم من الإيعاد والتهديد إلّا أنّ له أن لا يفطر وإن كان عدم إفطاره يوجب الضرر، فهو قادر علي الفعل والترك، غاية الأمر أنّه لو ترك ما أكرهوه عليه يصيبه أذاهم بأخذ ماله أو التعرّض لعرضه أو قتله وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك لا يخرجه عن كونه قادراً علي الفعل والترك.

أمّا وجه عدم العقاب علي الإفطار في المثال الذي ذكروه فهو لأنّ الإنسان في تلك الحالة يكون مكلّفاً بتكليفين لا يقدر علي امتثالهما معا؛ فمن جانب كُتب عليه الصيام ومن جانب آخر يجب عليه حفظ نفسه -- إذا أوعد بالقتل -- فيكون من باب التزاحم كما لو كان هناك غريقان لا يقدر علي إنقاذهما معاً، ويجب عليه -- عند التزاحم -- الأخذ بالأهمّ وترك المهمّ، وبما أنّا نعلم من الشارع أنّه قد منّ علينا ولم يرض بإلقاء أنفسنا في التهلكة -- وإن ضيّع حكم من أحكامه الفرعيّة كالصوم -- فيجب حفظ النفس وترك الصوم، وكلّ ذلك بإرادتنا وقدرتنا كما أنّ الشارع قد امتنّ علي الاُمّة برفع الإكراه والاضطرار.

أمّا لو لم يكن ما اُوعِد عليه أهمّ ممّا اُريد منه، كما لو أوعد في مفروض السؤال بأخذ مال يسير منه، أو أوعد بالقتل إن لم يقتل جماعة آخرين، أو كان ما أرادوا منه من الأمور المهمّة التي لا يرضي الشارع بتضييعها مهما كلّف الأمر كحفظ الدين والشريعة، فلا يجوز له التحفّظ علي ماله أو نفسه بترك ما أمره الشارع، وهذا دليل علي أنّ ترك ما أكره عليه كان مقدوراً له وإلّا لما وجب ذلك عليه. فلذا نري أنّ سيّدالشهداء عليه أفضل الصلاة وأطيب السلام رضي بأن يُقتَل هو وأولاده وأصحابه وأهل بيته وتُسبي عيالهونسائه ولكن لا يبايع الدعيّ ابن الدعيّ، فقال روحي فداه:

ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد تركني بين السلّة والذلّة وهيهات له ذلك منّي! هيهات منّا الذلّة! أبي اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طهرت وجدود طابت، أن يؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة علي قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر.(1)

ص: 159


1- 138....

ولذا نري أنّ الفقهاء يبحثون عن وظيفة المكرَه عند الإكراه بأنّه هل يجوز أو يجب عليه الإتيان بالمكره عليه أم لا؟ وهل الإكراه مع القدرة علي التفصّي بالتورية سببٌ لرفع الحكم أم لا؟

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الإرادة من دون استنادها إلي العلم والقدرة ومن دون مسبوقيّتها بالعلم والقدرة -- لو صحّ التعبير عنها بالإرادة -- لا يكون سبباً لخروج الفعل الصادر عنها عن الضرورة والاضطرار وصيرورته اختياريّاً؛ بل الذي يوجب كون الفعل إراديّاً واختياريّاً هو صدوره عن العلم والقدرة بحيث يكون زمام الفعل والترك بيد العبد إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وكانت هذه السلطنة باقية له إلي حين العمل. واللعب بالألفاظ واستعمالها في غير ما وضعت له لا يغيّر الحقائق ما لم تتغيّر الحقيقة، فإطلاق لفظ الإرادة من دون قصد المعني الحقيقيّ الذي يفهمه العرف ومن دون العلم والقدرة، لا يوجب كون الفعل إراديّاً واختياريّاً.

فعلي هذا إذا صار الفعل ضروريّاً -- أي غير صادر عن العلم والقدرة -- بأيّ سبب كان، لا يكون اختياريّاً وإذا لم يكن ضروريّاً يكون اختياريّاً. فالبحث بيننا وبين القائلين بالجبر يدور حول هذه النقطة وهي أنّه: هل الأفعال الصادرة عن المكلّف ضروريّة أم لا؟ فلو كانت ضروريّة سوف يثبت القول بالجبر وإذا لم تكن كذلك سوف تبطل تلك النظريّة ويثبت الاختيار.

2. تنبيهات في بداهة الاختيار

اشارة

نري من اللازم أن نذكّر العاقل بما يجده بعقله وما هو مطابق لفطرته السليمة، كي يعرف أنّ الاختيار -- بمعناه الحقيقيّ -- المتحقّق في قسم من أفعال المكلّفين ممّا يشاهده كلّ عاقل بالوجدان ولا يحتاج فيهذه المعرفة إلّا إلي مجرّد تذكير ليجد أنّها من أبده البديهيّات، فيتبيّن مدي ضعف الأدلّة التي أقاموها علي إثبات الجبر ويظهر وهنها وأنّها ليست إلّا شبهة في مقابل البديهة.

فنقول: إنّ كلّ عاقل يجد أنّ ما يصدر عنه من الأفعال ليس علي نهج واحد بل هي علي طائفتين؛ ففي طائفة منها لا يكون الإنسان إلّا محلّاً لوقوع ذلك الفعل وليس هو

ص: 160

الذي يفعله، كالحياة وإبقائها، وكذا الموت إذا حان الأجل -- فإنّ أغلب الناس كارهون للموت لكن مع ذلك يغلب عليهم فيموتون، وربّما يريد الإنسان الحياة لشخص آخر لكن لا سبيل له إلي تحقيقه، كما أنّ حياة نفسه ليست مستندة إلي إرادته واختياره -- ونظير ضربان القلب، وجريان الدم في العروق، وكحركات المرتعش، والنوم إذا غلب علي الإرادة.

أمّا الطائفة الأخري؛ فيري أنّه هو الذي يريدها فيحقّقها، ولولا إرادته إيّاها لم تكن لتتحقّق، وذلك كالأكل والشرب والتكلّم والسكوت، فله أن يتكلّم وله أن يسكت، وله أن يشرب ويأكل، وله أن يكفّ نفسه عن الأكل والشرب، وله أن يحرّك يده وله أن لا يحرّكها، في مقابل حركة اليد المرتعشة التي لا يحرّكها هو عن اختيار بل تتحرّك هي عن غير اختيار.

والشاهد علي أنّ الطائفة الثانية من الأفعال هي أفعال إراديّة بخلاف الطائفة الأولي، أمور يشترك في تسلّمها وقبولها جميع العقلاء حتّي المجبّرة.

الأوّل: إسناد الأفعال

أنّ الإنسان يسند هذه الأفعال إلي نفسه علي خلاف الطائفة الأولي، فيقول: أنا الذي تكلّمت، أنا الذي سكتّ، أنا الذي حرّكت يدي، بينما لا يقول: أنا الذي أجريت الدم في عروقي، كما أنّه لا يسند إلي نفسه انقباض قلبه ولا انبساطه.

الثاني: الأوامر والنواهي

الأوامر الصادرة عن الموالي للعبيد، وعن الأطبّاء للمرضي، وعن المعلّمين للمتعلّمين، فإنه لو لم يكن الإنسان مختاراً في ما يؤمر به لكان صدور هذه الأوامر من العقلاء قبيحاً، ألا تري أنّ أحداً من العقلاء لا يأمر بالطائفة الأولي من الأفعال، فلا يأمر الطبيب المريضبإجراء الدم في عروقه بينما يأمره بالأكل والشرب وهلمّ جرّا.

الثالث: وضع القوانين

القوانين الوضعيّة في الدول والمؤسّسات والشركات والدوائر لرعاية النظم وحفظ الحدود والحقوق، بحيث يكون كلّ أحد من أعضاء تلك المنظّمة مكلّفاً برعاية القانون. وواضح أنّه

ص: 161

يقبح جعل القانون لمن لا اختيار له، كوضع القانون للمرتعش بالنسبة إلي حركة يده الرعشاء وللناس في جريان دمائهم وضربان قلوبهم، أو جعل القانون للمجانين بالنسبة إلي ما جُنّوا.

الرابع: مؤاخذة المجرمين

صحّة مؤاخذة المجرمين، فإنّه لولا الاختيار لما صحّ مؤاخذتهم، كما لا يصحّ مؤاخذة ذي اليد الرعشاء علي حركة يده.

ويشهد علي ما ذكرنا أنّه إذا تعرّض أحد لأموال القائلين بالجبر أو نفوسهم أو أعراضهم، فإنّهم سيعترضون عليه ويعاتبونه دون تأمّل، وهذا يدلّ علي أنّ المتعرّض لهم كان مختاراً في فعله هذا، وإلّا لما صحّ العتاب والاعتراض، لأنّ الإنسان -- علي زعمهم -- ليس إلّا محلّاً لظهور فعل اللّه تعالي كالمنشار في يد النجّار، ومن الواضح أنّ العتاب يجب أن يكون علي الفاعل لا علي محلّ بروز فعل الفاعل.

الخامس: التحيّر والمشورة

أنّه كثيراً ما يحصل لنا التحيّر في مختلف شؤن الحياة فنسترشد العقلاء ونشاورهم، كي يتّضح لنا ما هو الأصلح والأنفع بحالنا. والحيرة في مقام العمل، والسؤال عن الخير، ومشاورة الآخرين لا يتناسب مع القول بالجبر، فإنّه لو كنّا مجبورين في اختيار منهج خاص ولم يكن لنا سلطنة علي تغييره، لما كان وجهاً للحيرة ثمّ علاجها بالمشورة، فإنّ المجبور لا يحتاج إليها.

السادس: تهذيب الأخلاق

إنّ كثيراً من الفلاسفة القائلين بالجبر بالصراحة أو القائلين بالجبر في صورة الاختيار، ألّفوا وصنّفوا كتبا في تهذيب الأخلاق وتربية النفس وتزكيتها، وهذا من أقوي الشواهد علي أنّهم يرون الإنسان مختاراً بوجدانهم تلك الحقيقة الواضحة، ولا مجال لأن يقال إنّالإنسان قادر علي تهذيب أخلاقه وتزكيتها من الرذائل، وغير قادر علي الأفعال من الواجبات والمحرّمات وغيرهما، فإنّ بطلان هذه المقالة ممّا لا يحتاج إلي البيان.

ص: 162

وبالجملة، إنّ سلطنتنا علي أفعالنا الاختياريّة ممّا نشاهده بالضرورة من أنفسنا، فلو لم يكن هذا الأمر بديهيّاً -- حتّي بعد التذكّر إلي ما مرّ ممّا يجده كلّ عاقل -- فلا توجد قضيّة بديهيّة في العالم، نعم يمكن بل تتحقّق كثيراً مّا الغفلة عن البديهيّات وهذا لا يضرّ ببداهتها، وسنوضّح سرّ شيوع هذا القول بين المسلمين والغفلة عن هذه الحقيقة الواضحة. فعلي هذا إذا طرح ما دلّ علي الجبر وسمّي بالبرهان زوراً، فيكون من الشبهة في مقابل البديهة، ولو فرض عدم التمكّن من الإجابة عنه، لأنّه لا يجوز رفع اليد عمّا نجده بالفطرة، فإنّ قوام البرهان بالوجدان فإذا خالفه ما هو بصورة البرهان فلا يكون برهاناً كما هو واضح، ويحرم عقلاً ترك الوجدان الضروريّ لصورة برهان فاقد لحقيقتها.

3. مفاسد تترتّب علي القول بالجبر

اشارة

ثمّ إن القول بالجبر يستلزم توالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها:

منها: إنكار الحسن والقبح

إنكار التحسين والتقبيح في أفعال البشر، فإنّهما لا يكونان إلّا في الأفعال الاختياريّة كالإيمان باللّه وشكر نعمه وآلائه فإنّه يستتبع التحسين، وكالظلم الذي يستتبع التقبيح. ولا يصحّ التحسين والتقبيح بالنسبة إلي ما لا اختيار فيه كسواد الوجه وطول القامة وقصرها، فلو كان الموجِد للأفعال هو اللّه تبارك وتعالي وكان الإنسان محلّا لها، لما كان وجه لتحسين الفاعل أو تقبيحه.

ومنها: لغويّة التكاليف

لغويّة جعل التكاليف وبعث الرسل وإنزال الكتب، فإنّ التكليف عبارة عن طلب المولي الفعل أو الترك من العبد، ولا معني للطلب ممّن ليس له اختيار في إمتثال التكاليف، فيكون الأمر بالصلاة كالأمر بالطيران في السماء، والنهي عن شرب الخمر كالنهي عن حركة اليد المرتعشة وبطلان ذلك ممّا لا يحتاج إلي بيان.

ثمّ إنه لا يكون افتراء وشتم أشنع من هذا للربّ المتعال جلّت عظمته، فإنّه علي

ص: 163

هذايكون إرسال الرسل وإنزال الكتب، والجنّة والنار، والوعد والوعيد بهما، والدين والشريعة، والأمر بالإيمان والنهي عن الكفر، لغواً ولعباً وعبثاً منه، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. بل لا يكون لعب ولغو أعظم من ذلك، فإنّه تبارك وتعالي يجبر عباده علي الأفعال مع أنّه أرسل إليهم الأنبياء والأوصياء واحداً تلو الآخر، وأنزل معهم الكتاب والحكم والشريعة، وفرض علي الناس أشياء وحرّم عليهم كذلك، ثمّ بشّر المؤمنين المطيعين بالجنّة، وحذّر المنكرين المعاندين من العذاب الأليم، وشَدّد الأمر علي المخالفين بحيث اشتعلت بينهم نيران الحرب فقتلوا وقُتلوا، وهؤلاء الرسل وأوصيائهم تحمّلوا الأذي من الناس بسبب دعوتهم إلي اللّه تبارك وتعالي فسُجنوا وقُتلوا وسُبيت نسائهم وقُتل أولادهم وذراريهم، حتّي قُتل سبعون نبيّاً بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس، وعلي أساس هذه الدعوة تولّي المؤمنون أقواماً وتبرّئوا من آخرين ومع ذلك كلّه يثيب المؤمنين ويعاقب الكافرين فهذا ممّا لا يمكن إسناده إلي عاقل كيف بربّ العالمين وخالق العقل وواهبه للعقلاء؟!

وبعبارة أخري: يكون اللّه تعالي هو الذي يجبر عباده علي المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها، أو يجبرهم علي الطاعة فينعّمهم بها،(1) ويكون هو الذي يُجبر الرسول والمؤمنين علي الإيمان ويُجبر المخالفين علي الكفر والعناد، وهو الذي يُجبرهم علي أن يقتل كلّ واحد منهم الآخر، فالنبيّ إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه السلام وعدوّه نمرود كلاهما آلتان في يد اللّه وهكذا موسي وفرعون وكلّ نبيّ مع مخالفيه، ثمّ إنّه هو الذي يطيع نفسه مرّة ويعصيها أخري، والناس إنّما هم كالآلات والأدوات لبروز هذه الأفعال منه تعالي وليسوا هم الفاعلين حقيقة، ثمّ هو

ص: 164


1- 139.. نعم يمكن أن يتفضّل اللّه تعالي بالثواب والأجر علي أمر غير اختياريّ كما روي في باب المعرفة مع أنّها من صنع اللّه ولكنّه يتطوّل عليهم بالثواب كما يتطوّل عليهم بالمعرفة فعن البزنطيّ قال: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام): للناس في المعرفة صنع؟ قال: لا. قلت: لهم عليها ثواب ؟ قال: يتطوّل عليهم بالثواب كما يتطوّل عليهم بالمعرفة. قرب الإسناد، ص347، 1256؛ بحارالأنوار، ج5، ص221، ح1؛ إلّا أنّ الكلام هنا يدور حول الأجر والثواب علي العمل الاختياريّ.

يعذّب هذه الآلات والأدوات بأشدّ العذاب، مع أنّ العباد لم يرتكبوا محرّماً اختياراً ولم يطيعوا اللّه عن قدرة فليس جرمهم إلّا أنّهم صاروا محلّاً لظهور الكفر والمعاصي من شخص آخر بلا إرادة منهم، فليت شعري كيف تُنسب مثل هذه المخزيات إلي ربّ العزّة جلّت عظمته، أعاذنا اللّه من تسويلات النفس وإغواء الشياطين.

ومنها: نسبة الظلم إلي اللّه تعالي

ثبوت الظلم من اللّه تعالي علي خلقه، فإنّه يجبرهم علي المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها، ولا ظالم أظلم ممّن يجبر أحداً علي فعل لا يريده، ثمّ يعاقبه ويعذّبه عليه بأشدّ العذاب!!

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

إنّ اللّه أعدل من أن يجبر عبداً علي فعل ثمّ يعذّبه عليه.(1)

ومنها: مخالفة ضرورة الأديان الإلهيّة

أنّ القول بالجبر علي خلاف صريح الآيات والروايات -- بل علي خلاف ضرورة جميع الأديان الإلهيّة -- فإنّه ما من آية إلّا وقد أسند فيها فعل شيء أو تركه إلي شخص أو يكون مفاده طلب الفعل أو الترك.

ص: 165


1- 140.. التوحيد ص361، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح83. وعن أبي جعفر(عليه السلام) في رواية قال: إذا أراد اللّه قبض الكافر قال: ... يا مالك! سعّر سعّر! فقد اشتدّ غضبي علي من شتمني علي عرشي، واستخفّ بحقّي، وأنا الملك الجبّار ... ثمّ يغضب الجبّار فيقول: يا مالك سعّر سعّر، فيغضب مالك فيبعث عليهم سحابة سوداء يظلّ أهل النار كلّهم ... فلا يدخل عليهم روح أبداً، ولا يخرج منهم الغمّ أبداً، فهي عليهم مؤصدة يعني مطبقة ليس لهم من الملائكة شافعون، ولا من أهل الجنّة صديق حميم، وينساهم الربّ ويمحو ذكرهم من قلوب العباد، فلا يذكرون أبداً. الاختصاص، ص359؛ بحارالأنوار، ج8ص317 -323، ح99. ولا يبعد كما قال بعض الأعاظم أن يكون هذا الحديث الشريف في بيان عذاب هذه الفرقة ونظائرهم من الذين يشتمون الربّ بأجلي معانيه، كالقائلين بوحدة الوجود، لا مطلق الكافر لأنّ الكافر ينكر وجود الربّ بالمرّة، ولا يقرّ به كي يشتمه وينسب إليه الظلم والعبث واللغو واللعب.

وقد جمع بعض الأعاظم من العلماء الآيات التي تدلّ علي إبطال الجبر كالمحقّق المفسّر السيّد عبداللّه الشبّر في حقّ اليقين وقد جمع العلّامة الحلّي(قدس سره) الآيات الناصّة في إبطال الجبر وقسّمها إلي عشرة أقسام، فقال:

أحدها: الآيات الدالّة علي إضافة الفعل إلي العبد كقوله تعالي: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾،(1) ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إلنا الظَّنَّ﴾،(2) ﴿حَتّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾،(3)﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾،(4) ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾،(5) ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُ-جْزَ بِهِ﴾،(6) ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾،(7) ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾،(8) ﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِن سُلْطَانٍ إلنا أَن دَعَوْتُكُمْ﴾(9) إلي آخرها.

الثاني: الآيات الدالّة علي مدح المؤمنين علي الإيمان وذمّ الكفّار علي الكفر والوعد والوعيد، كقوله تعالي: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَي كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾،(10) ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾،(11) ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّي﴾،(12) ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري﴾،(13) ﴿لِتُجْزي كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعي﴾،(14) ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إلنا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾،(15)

ص: 166


1- 141.. البقرة2.، الآية 79.
2- 142.. الأنعام6.، الآية 116.
3- 143.. الرعد13.، الآية 11.
4- 144.. يوسف12.، الآيتان 18 و83.145. المائدة5.، الآية 30.
5- 145.....
6- 146.. النساء4.، الآية 123.
7- 147.. المدثّر74.، الآية 38.
8- 148.. الطور52.، الآية 21.
9- 149.. إبراهيم14.، الآية 22.
10- 150.. غافر40.، الآية 17.
11- 151.. الجاثية45.، الآية 28.
12- 152.. النجم53.، الآية 37.
13- 153.. الأنعام6.، الآية 164؛ والإسراء17.، الآية 15؛ وفاطر35.، الآية 18؛ والزمر39.، الآية 7.
14- 154.. طه20.، الآية 15.
15- 155.. النمل27.، الآية 90.

﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾،(1) ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾،(2) ﴿أُولٰئكَالَّذِينَ اشْتَرَوا الْحَيوةَ الدُّنْيَا﴾،(3) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾.(4)

الثالث: الآي--ات ال--دالّة علي تنزيه أفعاله تعالي عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف والظلم كقوله تعالي: ﴿مَا تَرَي فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾،(5) ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾،(6) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم، ﴿مَا خَلَقْنَا السماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلنا بِالْ-حَقِّ﴾،(7) ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾،(8) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾،(9) ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾،(10) ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمِ﴾،(11) ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾.(12)

الرابع: الآيات الدالة علي ذمّ العباد علي الكفر والمعاصي والتوبيخ علي ذلك كقوله تعالي: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه ِ﴾،(13) ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي﴾،(14) ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾،(15) ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ﴾،(16) ﴿فَمَا لَهُمْ

ص: 167


1- 156.. الأنعام6.، الآية 160.
2- 157.. طه20.، الآية 124.
3- 158.. البقرة2.، الآية 86.
4- 159.. آل عمران3.، الآية 90.
5- 160.. الملك67.، الآية 3.
6- 161.. السجدة32.، الآية 7.
7- 162.. الأحقاف46.، الآية 3.
8- 163.. النساء4.، الآية 40.
9- 164.. فصّلت41.، الآية 46.
10- 165.. هود11.، الآية 101؛ والنحل16.، الآية 118؛ والزخرف43.، الآية 76.
11- 166.. غافر40.، الآية 17.
12- 167.. النساء4.، الآية 49.
13- 168..البقرة2.، الآية 28.
14- 169.. الإسراء17.، الآية 94.
15- 170.. النساء4.، الآية 39.
16- 171.. ص38.، الآية 75.

عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾،(1) ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾،(2) ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ﴾.(3)

الخامس: الآيات الدالّة علي التهديد والتخيير كقوله:

﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾،(4)﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾،(5)﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾،(6)﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾،(7)﴿فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلاً﴾،(8)﴿فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَي رَبِّهِ مَآبا﴾،(9)﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾،(10)﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم﴾.(11)

السادس: الآيات الدالّة علي المسارعة إلي الأفعال قبل فواتها كقوله تعالي: ﴿وَسَارِعُوا إِلَي مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾،(12) ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾،(13) ﴿اسْتَجِيبُوا لِلّهِوَلِلرَّسُولِ﴾،(14) ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم﴾،(15) ﴿وَأَنِيبُوا إِلَي رَبِّكُمْ﴾.(16)

ص: 168


1- 172.. المدثّر74.، الآية 49.
2- 173.. آل عمران3.، الآية 71.
3- 174.. آل عمران3.، الآية 99.
4- 175.. الكهف18.، الآية 29.
5- 176.. فصّلت41.، الآية 40
6- 177.. المدثّر74.، الآية 37.
7- 178.. المدثّر74.، الآية 55.
8- 179.. المزمّل73.، الآية 19.
9- 180.. النبأ78.، الآية 39.
10- 181.. الأنعام6.، الآية 148.
11- 182.. الزخرف43.، الآية 20.
12- 183.. آل عمران3.، الآية 133.
13- 184.. الأحقاف46.، الآية 31.
14- 185.. الأنفال8.، الآية 24.
15- 186.. الزمر39.، الآية 55.
16- 187.. الزمر39.، الآية 54.

السابع: الآيات التي حثّ اللّه تعالي فيها علي الاستعانة وثبوت اللطف منه كقوله تعالي: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾،(1) ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾،(2) ﴿اسْتَعِينُوا بِاللهِ﴾،(3) ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَايَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾،(4) ﴿وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾،(5) ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾،(6) ﴿فَبِمَ--ا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه ِ لِنتَ لَهُمْ﴾،(7) ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾.(8)

الثامن: الآيات الدالّة علي استغفار الأنبياء:﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾،(9)﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾،(10) ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾،(11) ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.(12)

التاسع: الآيات الدالّة علي اعتراف الكفّار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله تعالي: ﴿وَلَوْ تَرَي إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾(13) إلي قوله ﴿بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ﴾،(14)وقوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾،(15)

ص: 169


1- 188.. الفاتحة1.، الآية 5.
2- 189.. النحل16.، الآية 98.
3- 190.. الأعراف7.، الآية 128.
4- 191.. التوبة9.، الآية 126.
5- 192.. الزخرف43.، الآية 33.
6- 193.. الشوري42.، الآية 27.
7- 194.. آل عمران3.، الآية 159.
8- 195.. العنكبوت29.، الآية 45.
9- 196.. الأعراف7.، الآية 23.
10- 197.. الأنبياء21.، الآية 87.
11- 198.. النمل27.، الآية 44.
12- 199.. هود11.، الآية 47.
13- 200.. سبأ34.، الآية 31.
14- 201.. سبأ34.، الآية 32.
15- 202.. المدثّر74.، الآيتان 42-43.

﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾.(1)

العاشر: الآيات الدالّة علي التحسّر والندامة علي الكفر والمعصية وطلب الرجعة كقوله: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾،(2) ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾،(3) ﴿وَلَوْ تَرَي إِذِ الُمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ﴾،(4) ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَي الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾،(5) إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة لما ذكروه علي أنّ الترجيح معنا لأنّ التكليف إنّما يتمّ بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والإنذار.(6)

4. منشأ شيوع مسلك الجبر

اشارة

ثمّ لا يتوهّم أنّه إذا كان الأمر بهذه المثابة من الوضوح فكيف غفل جمع من المسلمين -- من الأشاعرة وغيرهم -- عن هذا الأمر البيّن حتّي ارتضوا القول بالجبر في أفعال العباد وتركوا ما يجدونه بالضرورة والفطرة من أنفسهم؟

الجواب: أنّ السبب في ذلك أمور:

الأوّل: خلفاء الجور

إنّ خلفاء الجور لهم دور واسع في نشر هذا المذهب، فإنّهم أشاعوا القول بالجبر بين المسلمين في البلاد الإسلاميّة كي يبرّروا بذلك أفعالهم القبيحة، فلا يبقي مجال للاعتراض علي أحدهم بأنّكم كيف ترتكبون الفواحش والظلم والمعاصي وأنتم خلفاء رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) بزعمكم؟ ذلك أنّ الموجِد للأفعال ليس إلّا اللّه تعالي وليس لهم دخل فيها، فتراهم روّجوا مسلك الجبر كي يقنعوا الجمهور الذين لا يرون الحقّ إلّا فيما يقوله الحاكم ولو كان جائراً،

ص: 170


1- 203.. الملك67.، الآية 8.
2- 204.. فاطر35.، الآية 37.
3- 205.. المؤمنون23.، الآية 99.
4- 206.. السجدة32.، الآية 12.
5- 207.. الزمر39.، الآية 58.
6- 208.. كشف المراد، ص312 - 313.

ويعتقدون أن مفارقته ضلال وكفر.

ثمّ أعطوا لنظريّتهم صبغة شرعيّة وقدسيّة، كما ستعرف ذلك في غضون أدلّتهم، فقالوا إنّ ذلك هو معني التوحيد فلا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه تبارك وتعالي، وكلّ ذلك كي يُدخلوا الرعب في قلوب العامّة والسواد الأعظم الذين لا عرفان لهم بحقائق الأمور ولا يفكّروا في حقيقة الأمر خوفاً من الوقوع في شبهة الشرك.

ذكر الثقفيّ في غاراته بإسناده، قال:

قام معاوية خطيباً بالشام، فقال: أيّها الناس! إنّما أنا خازن فمن أعطيته فاللّه يعطيه، ومن حرمته فاللّه يحرمه، فقام إليه أبوذرّ، فقال: كذبت واللّه يا معاوية، إنّك لتعطي من حرم اللّه وتمنع من أعطي اللّه.(1)

وعن الشيخ المفيد في إرشاده:

أدخل عيال الحسين(عليه السلام) علي ابن زياد، فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتي جلست ناحية من القصر وحفّت بها إمائها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها، فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه، فأقبل عليهاابن زياد وقال لها: الحمدللّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.

فقالت زينب: الحمدللّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد(صلي الله عليه آله و سلم) وطهّرنا من الرجس تطهيراً، وإنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد للّه.

فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده.

فغضب ابن زياد واستشاط، فقال عمرو بن حريث: أيّها الأمير، إنّها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، ولا تذمّ علي خطابها. فقال لها ابن زياد:

ص: 171


1- 209.. بحارالأنوار، ج31، ص274؛ وبهذا المضمون: مسند أحمد، ج4، ص99؛ وصحيح ابن حبّان، ج8، ص194؛ والمعجمالكبير، ج 19، ص370؛ وكنز العمّال، ج6، ص510، رقم16765.

لقد شفي اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك.

فرقّت زينب؟س؟ وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدتّ أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فقال ابن زياد: هذه سجّاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعرا.

فقالت: ما للمرأة والسجّاعة؟ إنّ لي عن السجّاعة لشغلاً، ولكن صدري نفث بما قلت.

وعرض عليه عليّ بن الحسين(عليهما السلام) فقال له: من أنت؟

فقال: أنا عليّ بن الحسين.

فقال: أليس قد قتل اللّه عليّ بن الحسين؟

فقال له عليّ(عليه السلام): قد كان لي أخ يسمّي عليّاً قتله الناس.

فقال له ابن زياد: بل اللّه قتله.

فقال عليّ بن الحسين(عليه السلام): ﴿اللهُ يَتَوَفَّي الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.(1)

فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فتعلّقت به زينب عمّته وقالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: واللّه لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه.فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثمّ قال: عجباً للرحم! واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لما به. ثمّ قام من مجلسه حتّي خرج من القصر، ودخل المسجد فصعد المنبر فقال: الحمد للّه الذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته.(2)

وعنه أيضاً: قال (يزيد لعنه اللّه) لعليّ بن الحسين: يابن حسين، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع اللّه به ما قد رأيت.فقال عليّ بن الحسين:

﴿مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا

ص: 172


1- 210.. الزمر39.، الآية 42.
2- 211.. الارشاد، ج2، ص115؛ بحارالأنوار، ج45، ص117.

إِنَّ ذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسِيرٌ﴾.(1)

فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه، فلم يدر خالد ما يرد عليه، فقال له يزيد: قل: ﴿مَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ (2).(3)

الثاني: الغفلة

إنّ الحقائق والبديهيّات العقليّة تكون بحسب الغالب في معرض الغفلة والسهو ويحتاج الإنسان أشدّ الاحتياج إلي من يذكّره بها ويرفع حجاب الغفلة عنها، وهذا شأن الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام). يقول الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام):

وأرسل إليهم أنبيائه وواتر إليهم رسله ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته ويثيروا لهم دفائن العقول ويحتجّوا عليهم بالتبليغ.(4)

ألا تري أنّ البشر لو خلّي ونفسه كيف يضلّ في أبين الأمور وأوضحها وهي معرفة اللّه تعالي مع كونه مفطوراً عليها؟! فيعبد الحجر والمدر والبقر والقمر والخشب والنجوم بل ربّما يري الخبائث إلهاً لنفسه، وقد يعبد ويذلّ نفسه لإنسان فقير مثله فيزعم أنّه ربّه! فالإنسان دائماً يحتاج إلي من يذكّره وينبّهه إلي ما يجده بعقله وفطرته، وإلّا فسوف يغفل عن أبده البديهيّات وأبين الأمور، فلو ترك الإنسان تعليمات الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) الواردة في إثارة العقل وأعرض عنها ونأي بجانبه فسيغرق في تيه الغفلة والضلالة ويهلك من حيث لا يعلم.في تفسير العياشيّ: عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾(5) قال:

كان هذا قبل نوح أُمّة واحدة فبدا للّه فأرسل الرسل قبل نوح، قلت: أعلي هدي كانوا أم علي ضلالة؟ قال: بل كانوا ضُلّالاً، كانوا لا مؤمنين ولا كافرين

ص: 173


1- 212.. الحديد57.، الآية 22.
2- 213.. الشوري42.، الآية 30.
3- 214.. الإرشاد، ج2، ص120؛ بحارالأنوار، ج45، ص135.
4- 215.. نهج البلاغة، الخطبة الأولي، ص43.
5- 216.. البقرة2.، الآية 213.

ولا مشركين.(1)

وعن مسعدة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾(2) فقال:

كان ذلك قبل نوح، قيل: فعلي هدي كانوا؟ قال: بلي كانوا ضُلّالاً، وذلك أنّه لمّا انقرض آدم وصلح ذرّيّته، بقي شيث وصيّه لا يقدر علي إظهار دين اللّه الذي كان عليه آدم وصالح ذرّيّته، وذلك أنّ قابيل تواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقية والكتمان، فازدادوا كلّ يوم ضُلّالاً حتّي لم يبق علي الأرض معهم إلّا من هو سلف ولحق بالوصيّ بجزيرة في البحر يعبد اللّه، فبدا للّه تبارك وتعالي أن يبعث الرسل ... قلت: أفضُلّالاً كانوا قبل النبيّين أم علي هدي؟ قال: لم يكونوا علي هدي، كانوا علي فطرة اللّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللّه، ولم يكونوا ليهتدوا حتّي يهديهم اللّه أما تسمع يقول إبراهيم ﴿لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾(3) أي ناسياً للميثاق.(4)

فتري أنّه لولا إنذار النبيّين وتذكيرهم يكون الناس ضُلّالاً كالبهائم يغفلون عن أوضح الأمور وأبينها ويعيشون بعيداً عن الحقائق والكرائم والمكارم، ويغفلون عمّا فطروا عليه وينسون ما عاينوه من معرفة اللّه جلّ جلاله والميثاق، ولذا يعرّف القرآن نفسه بأنّه ذكر وتذكرة وأنّ الرسول مذكّر، قال اللّه تعالي:﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾.(5)

الثالث: الخذلان الإلهيّ

قد جرت سنّة اللّه تعالي علي إضلال من طلب الهداية من طريق لم يجعله اللّه باباً للوصول إلي الحقائق بعد وضوحه له.

ص: 174


1- 217.. تفسير العيّاشي: ج1، ص104، ح306؛ البرهان في تفسير القرآن، ج1، ص451، ح3 [1106].
2- 218.. البقرة2.، الآية 213.
3- 219.. الأنعام6.، الآية 77.
4- 220.. تفسير العيّاشي، ج1، ص104، ح309.
5- 221.. الغاشية88.، الآيتان 21-22.

والطريق القويم والصراط المستقيم يرتكز علي نور العقل الذي نوّر اللّه تعالي به قلوب العباد ويفيضه علي الإنسان، نوراً معصوماً بذاته يُعرف به الحقّ والباطل والحسن والقبيح والجيّد والرديّ والفريضة والسنّة والصادق علي اللّه والمفتري عليه ويرتكز علي القرآن العظيم الذي هو كلامه تعالي والنور المبين الذي تجلّي لخلقه به وهو مذكّر إلي ما يجده الإنسان بنور عقله ويرتكز علي النبيّ الأكرم وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) الذين جعلهم اللّه مبيّنين ومفسّرين لكلامه المجيد ونوره المضي ء.

ولمّا أعرض جمع كثير عن السبيل الواضح والصراط المستقيم وعدلوا إلي آرائهم وأهوائهم الكاسدة وسمّوها بالبرهان العقليّ استحقّوا الخذلان الإلهيّ فضلّوا وأضلّوا، أعاذنا اللّه من شرور أنفسنا.

قال أبو جعفر(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

خذوا بحجزة هذا الأنزع فإنّه الصدّيق الأكبر والهادي لمن اتّبعه، من سبقه مرق من دين اللّه، ومن خذله محقه اللّه، ومن اعتصم به اعتصم بحبل اللّه، ومن أخذ بولايته هداه اللّه، ومن ترك ولايته أضلّه اللّه ... .(1)

وعن عليّ(عليه السلام) قال: دخلت علي رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) ذات ليلة فقال:

يا عليّ إنّها ستكون من بعدي فتن. فقلت: ما المخرج منها يا رسول اللّه؟ فقال: كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما يرد بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل وحبل اللّه المتين العظيم وهو الذكر الحكيم من تركه من جبّار قصمه اللّه ومن ابتغي الهدي في غيره أضلّه اللّه هو الذي لم ينته الجنّ إذ سمعوه حتي قالوا: ﴿سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾(2) من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر.(3)

وعن يوسف بن عبد الرحمن رفعه إلي الحارث الأعور قال: دخلت علي أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) فقلت: يا أميرالمؤمنين إنّا إذا كنّا عندك سمعنا الذي نسدّ به ديننا،

ص: 175


1- 222.. كامل الزيارات، ص52، ح10؛ بحارالأنوار،ج36، ص258، ح76.
2- 223.. الجنّ72.، الآية 1.
3- 224.. مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام)، ج2، ص30، ح516.

وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة، لا ندري ما هي؟ قال:

أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: سمعت رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمّد سيكون فيأمّتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه فيه بيان ما قبلكم من خير وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من وليه من جبّار فعمل بغيره قصمه اللّه، ومن التمس الهدي في غيره أضلّه اللّه ... .(1)

وعن الحسن بن علي(عليهما السلام) قال:

قيل لرسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): إنّ أمّتك سيفتتن، فسئل: ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي ﴿ لَا يأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَينِ يدَيهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾،(2) من ابتغي العلم في غيره أضلّه اللّه، ومن ولي هذا الأمر من جبّار فعمل بغيره قصمه اللّه ... .(3)

وعن الإمام حسن بن عليّ العسكريّ(عليهما السلام): قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

إنّ هذا القرآن هو النور المبين، والحبل المتين، والعروة الوثقي، والدرجة العليا، والشفاء الأشفي، والفضيلة الكبري، والسعادة العظمي، من استضاء به نوّره اللّه، ومن عقد به أموره عصمه اللّه، ومن تمسّك به أنقذه اللّه، ومن لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، ومن استشفي به شفاه اللّه، ومن آثره علي ما سواه هداه اللّه، ومن طلب الهدي في غيره أضلّه اللّه ... .(4)

5. منشأ الوقوع في شبهة الجبر

اشارة

الظاهر أنّ ما ألجأ أبناء العلم البشريّ إلي الالتزام بالجبر هو أحد الأمرين:

الأوّل: القول بوحدة الوجود وكون فاعليّته تعالي بالتطورّ

القول بأنّ العباد طور من أطوار اللّه تعالي وشأن من شؤونه. وهذا ما ذهب إليه العرفاء

ص: 176


1- 225.. تفسير العياشي، ج1، ص3، ح2؛ بحارالأنوار، ج89 ص24، ح25.
2- 226.. فصلت41.، الآية 42.
3- 227.. تفسير العياشي، ج1، ص6، ح11؛ بحارالأنوار، ج89 ص27، ح30.
4- 228.. التفسير المنسوب إلي الامام الحسن العسكري(عليه السلام)، ص449، ح297؛ بحارالأنوار، ج89 ص31، ح34.

الموسومون بالشامخين والداعين إلي الحكمة الموسومة بالحكمة المتعالية. حيث إنّهم التزموا بكون الخلائق تجلّيات الربّ المتعال، فليس في الدار غيره ديّار، ولذا التزموا بالجبر؛ لأنّ المخلوق ليس إلّا طوراً من أطواره وشأناً من شؤونه. وبطلان ذلك ممّا لا يحتاج إلي البيان لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد لوضوح البينونة التامّة بين الخالق والمخلوق والحيّ بالذاتوالميّت بالذات والعالم بالذات والجاهل بالذات، وسيأتي التعرّض لذلك فانتظر.

الثاني: عدم فهم حقيقة القدرة

عدم عرفانهم لحقيقة القدرة والسلطنة -- كما لم يعرفوا حقيقة العلم والنور -- وإنكار مالكيّة العباد لما ملّكهم اللّه تعالي من نور القدرة، وهذا يرجع إمّا إلي الالتزام بعدم إمكان تحمّل القابل لنور القدرة، وإمّا إلي الالتزام بقصور قدرته عن إعطاء العباد القدرة علي الفعل والترك، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. ومن الواضح أشدّ الوضوح أنّ العباد قد وجدوا نور القدرة به تعالي، فهم يقدرون به تعالي وهو المالك لما ملّكهم والقادر علي ما عليه أقدرهم، كما أنّهم واجدون لنور العلم وهذا من عظمة قدرة الباري تعالي وعلوّها فإنّ إعطائه القدرة للعاجز بالذات خير شاهد علي قدرته تعالي بلا حدّ ولا نهاية.

إذا عرفت هذه الأمور فلنشرع مستعينين باللّه وأوليائه(عليهم السلام) بذكر شبهات المجبّرة ومناقشتها، مبتدئين بذكر الأدلّة العقليّة، وننتقل بعد ذلك إلي بيان الأدلّة النقليّة التي تمسّكوا بها في إثبات مذهبهم، وبما أنّا نلتزم بإيراد أُمّهات الشبهات الواردة في المقام كي نجيب عنها، وبما أنّ الأدلّة التي ذكروها علي مدّعاهم كثيرة فقد يستوجب ذلك تكرار تقريب الدليل ببيانات مختلفة. ولا ضير فيه، كلّ ذلك كي لا يتوهّم أحد من روّاد العلم أنّه بقيت للمجبّرة شبهة بلا جواب واللّه وليّ التوفيق.

ص: 177

ص: 178

الفصل الأوّل : الوجوه النظريّة لمسلك الجبر ونقدها

اشارة

ص: 179

ص: 180

تمهيد

إنّ القول بالجبر والالتزام به قد يكون من جانب الأشاعرة المنكرين لفاعليّة غير اللّه تعالي، وقد يكون من جانب الفلاسفة القائلين بأنّ فاعليّة الباري تعالي تكون بالعلّيّة أو التجلّي والتطوّر، كما إنّه قد يكون من جانب العرفاء القائلين بأنّه ليس في الدار غيرهديّار، وستعرف كلّ ما ذكره روّاد هذه المذاهب وبطلانه في طيّ المباحث الآتية.

إذا عرفت ما مهّدناه لك فنقول: إنّ هناك وجوها نظريّة ليست ببرهان بل هي شبهات بصورة الاستدلال راموا إثبات الجبر بها نذكرها ونجيب عنها:

الوجه الأوّل: قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد»

اشارة

تقريب الاستدلال: إنّ الممكن هو ما تساوي نسبته إلي طرفي الوجود والعدم فلابدّ لوجوده من أن يصير ضروريّاً واجباً وهذا الوجوب هو الذي يحصل للممكن من ناحية علّته المرجّحة لوجوده.

بعبارة أخري؛ لا يوجد شيء إلّا إذا كان واجباً، إمّا بالوجوب الذاتيّ -- كواجب الوجود -- وإمّا بالوجوب الغيريّ -- وهو ما يجب بسبب وجود علّته التامة -- والعلّة التامّة عبارة عن وجود المقتضي والشرط وعدم المانع، فإذا اجتمعت هذه الأُمور الثلاثة صار وجود المعلول واجباً ضروريّا.

فظهر أنّ خروج كلّ ممكن عن حدّ الإمكان والاستواء لا يتحقّق إلّا إذا صار واجباً، ولا يصير واجباً إلّا إذا تحقّقت علّته التامّة.

ص: 181

إذا تبيّن هذا نقول: إنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان من الممكنات، ويتساوي فيها نسبة الوجود والعدم ولا يكون أحدهما ضروريّاً في حدّ ذاته، فيكون تحقّق أحد طرفي الوجود أو العدم متوقّفاً علي حصول العلّة التامّة، فما لم تتحقّق العلّة يمتنع صدور الفعل من الإنسان، وعند تحقّقها يكون صدور الأفعال ضروريّاً -- وجميع العلل تنتهي إلي علّة العلل وهي ذات الباري أو إرادته -- فتكون الأفعال خارجة عن الاختيار لأنّه مع وجود العلّة يجب صدور الأفعال ومن دونها يمتنع، وكلّ ذلك لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته التامّة وجوداً وعدماً، فتحقّق الممكن من دون العلّة يستلزم منه تحقّق المعلول بلا علّة، وأمّا لو لم يتحقّق مع وجود العلّة فيستلزم منه انفكاك المعلول عن علّته التامّة وهذا محال، فينحصر في أن يكون الممكن ضروريّ الوجود مع وجود العلّة التامّة وضروريّ العدم مع عدم وجودها، ولذا يقال: «الممكن ما حفّ بضرورتين».

قال صدر الدين الشيرازيّ:

فقد ظهر أنّ صنع العلّة في المعلول هو الإيجاب لا غير، وأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، فما دام الشيء علي حالة إمكانه يستحيل فرض وقوعه أو لا وقوعه، وإنّما يتعيّن له أحد الطرفين بالوجوب من تلقاء العلّة المقتضية. وأمّا الأولويّة الغير البالغة حدّ الوجوب سواء كانت ذاتيّة أو حاصلة من السبب كما زعمه هؤلاء فغير مجدية في قطع النسبة الإمكانيّة، ولا محصّلة للوقوع بالفعل، بل يجب أن يجب المعلول بعلّته المقتضية التامّة. فلا ينقطع سؤال اللّم للسائل عن سبب الحصول وسبب رجحان الحصول علي اللاحصول إلّا بالانتهاء إلي السبب التامّ الموجب والعلّة التامّة المقتضية، وأمّا إذا لم ينته إليه فالسؤال مستمرّ البقاء، والاستمرار في الجانبين مشترك الورود بين الطرفين، فيؤدّي إلي لزوم التسلسل في سبب الأولويّة وأولويّة الأولويّة وهكذا إلي غير النهاية فذلك محال لترتّبها واجتماعها.(1)

محصّل كلامه: أنّ السؤال بأنّه لم تحقّق هذا الممكن لا ينقطع إلّا إذا انتهينا إلي العلّة

ص: 182


1- 229.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص321-322.

الموجبة له. والأولويّة إذا لم تصل إلي حدّ الوجوب لا يخرج الممكن عن طرفي النقيض، لأنّا نسأل: لماذا حصلت هذه الأولويّة؟ فإن أجاب بوجود العلّة التامّة فهو وإلّا يسأل عن علّة أولويّة هذه الأولويّة، فيجب أن ينتهي الأمر إلي العلّة التامّة الموجبة له وإلّا يلزم التسلسل.

وهذه القاعدة، قاعدة عقليّة جارية في جميع الممكنات سواء كان من الأفعال أم التكوينيّات، فإنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص.

تقريبان للشبهة والجواب عنهما

لمّا كانت هذه الشبهة الموجبة للقول بالجبر من الشبهات المموّهة التي خفي حلّها علي كثير ممّن تكلّم فيها فلابدّ من بسط الجواب عنها فنقول: يمكن تقريب هذه الشبهة بوجهين:

التقريب الأوّل: استحالة الترجيح من دون مرجّح

أحدهما: أن يكون المراد من طرح هذه القاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» هو أنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من العبد من الممكنات، والممكن عبارة عمّا تساوي طرفاه بالنسبة إلي طرفي الوجود والعدم ولابدّ منوجود مرجّح بالنسبة إلي أحدهما فإنّه بدونه يستحيل ترجيحه لاستحالة الترجيح بلا مرجّح.

الجواب:
عدم انحصار المرجّح في العلّة الموجبة

مضافاً إلي ما سيأتي من بيان هذه الشبهة مستقلّاً ودفعها، أنّا نسلّم توقّف رجحان أحد طرفي الممكن (أي طرف الوجود أو العدم) علي وجود المرجّح، ولكن هذا لا يدلّ علي استلزامه الممكن وجوباً -- بحيث يستحيل التخلّف عنه -- في جميع الموارد. فإنّ أقصي ما يثبته الدليل هو استحالة الترجيح بلا مرجّح وهو لا يقتضي أكثر من لزوم وجود المرجّح، ولكن أن يكون المرجّح هو العلّة التامّة التي يصير سبباً لوجوب الممكن دون غيره من المرجّحات فلا دليل عليه، فقد يكون المرجّح هو الإنسان الفاعل بما له من كمال القدرة والإرادة والمشيّة.

ص: 183

بعبارة أخري: إنّه كلّما تحقّق شيء في الخارج لابدّ وأن يكون لأجل مرجّح لوجوده، وذلك لأنّه لا يكون صنع من دون صانع وفعل بلا فاعل ومعلول من دون علّة، وإلّا فيستلزم ثبوت مقالة الدهريّة القائلين بالصدفة وعدم احتياج الكون وما يحدث فيه إلي الفاعل والصانع، وهذا ممّا لا غبار عليه.

لكنّ الإشكال إنّما هو في المقدّمة الثانية وهو انحصار المرجّح في جميع الموارد في العلّة التامّة التي تصير سبباً لوجوب صدور المعلول عنها، فإنّ هذه دعوي بلا برهان بل مخالفة للوجدان، لأنّ هذه المقالة تستلزم إنكار الفعل والفاعل والصنع والصانع والتدبير والمدبّر حتّي بالنسبة إلي أفعال اللّه تبارك وتعالي، ضرورة عدم صدق العلّة التامّة علي شيء منها لما قد فرض في موضوعها الاختيار والعمد، ونحن نشاهد بالوجدان صدور هذه الأفعال العمديّة عن القدرة والاختيار كما سبق التنبيه عليه.

نعم من الممكنات ما يصير واجباً بسبب علّته التامّة الموجبة لها -- كالمعاليل الطبيعيّة بالنسبة إلي عللها -- ولكن منها ما لا يصير واجباً ولو كان له مرجّح في وجوده، كالأفعال الصادرة عن الإنسان بالاستطاعة والقدرة التي ملّكها اللّه تعالي إيّاه، لأنّ المرجّح في هذا القسم هو الرأي والاختيار. فلو صارتحقّق الفعل مع هذا المرجّح واجباً من ناحية العلّة الموجبة له يكون مناقضاً لذلك المرجّح في ذاته، وعليه لا ينحصر المرجّح في العلّة التامّة الموجبة لضرورة صدور الفعل.

بعبارة ثالثة: إنّ المفروض هو أنّ الاختيار المستند إلي العلم والقدرة هو المرجّح لتحقّق الفعل لا العلّة التامّة الموجبة لضرورة الفعل. وذلك لشهادة الوجدان علي وجود الاختيار الحقيقيّ المستند إلي القدرة والسلطنة، ولا دليل علي انحصار المرجّح في العلّة التامّة الموجبة، بل الدليل علي خلافه. كما أنّه لو حرّك أحدٌ يده وكان في يده مفتاح فتحرّك المفتاح لحركة اليد، فواضح أنّ حركة اليد تختلف تماماً عن حركة المفتاح، فإنّ المرجّح لحركة اليد وخروجها عن حالة السكون إنّما يكون الاختيار المستند إلي القدرة، بينما المرجّح لتحرّك المفتاح ليس اختياره وقدرته بل هو العلّة المستلزمة لوجوب تحرّكه وهي حركة اليد.

ص: 184

وأمّا ما قاله صدرالدين الشيرازيّ من أنّه لا يمكن أن ينتهي الفعل إلي الأولويّة إذا لم تبلغ حدّ الوجوب، ولا ينقطع السؤال ب- (لِمَ)، لأنّه يسأل ثانياً عن علّة حدوث هذه الأولويّة وهكذا حتّي ينتهي إلي العلّة الموجبة وإلّا يلزم التسلسل. فيرد عليه:

أوّلاً: كأنّه تخيّل أنّ تحقّق الفعل يجب أن يستند إمّا إلي العلّة البالغة حدّ الوجوب أو إلي الأولويّة البالغة حدّه بنحو مانعة الخلوّ، بينما يمكن أن يكون سبب تحقّق الفعل حقيقة الاختيار والإرادة كما فسّرناه في تحرير محلّ النزاع -- لا بالمعني الذي فسّره هو الذي لا يختلف عن العلّة الموجبة -- وهذا الاختيار لا يحدث أولويّة -- بالغة حدّ الوجوب -- لتحقّق الفعل ولا يصير سبباً لوجوب تحقّقه، بل يكون مستنداً إلي القدرة التي تكون حقيقتها هي السلطنة علي الفعل والترك فإن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وهذه السلطنة باقية إلي زمان تحقّق الفعل.

وتوهّم عدم إمكان الاختيار بهذا المعني و انحصار نظام العالم بسلسلة العلل والمعاليل البالغة حدّ الوجوب إنكار للبديهيّات، التي منها القدرة والسلطنة كما هو واضح، بل اللازم منه إنكار القدرة والسلطنة في الباري جلّ شأنه، بداهة عدم اجتماعالقدرة مع العلّة الموجبة، فتكون يده تعالي مغلولة، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا.

استناد مرجّحيّة القدرة إلي غيرها خلف

وثانياً: أنّه لو احتاج الاختيار المستند إلي القدرة في تحقّقه إلي علّة موجبة لكان هذا خلفاً، وذلك لأنّ قوام القدرة وحقيقتها وحيث ذاتها إنّما هي السلطنة علي الطرفين -- الفعل والترك -- فالاختيار المستند إلي القدرة لا يتوقّف تحقّقه علي العلّة لأنّ اتّكائه واحتياجه إلي غير القدرة -- من العلّة الموجبة -- خلف لفرض كونها قدرة وسلطنة.

وثالثاً: أنّه يكون جمعاً بين المتناقضين، لأنّه من الواضح أنّ الفقر والقدرة متناقضان، فيكون فقر القدرة -- في استناد الاختيار إليها -- إلي العلّة الموجبة لتحقّقه تناقض بيّن.

فظهر: أنّ هذا السؤال في نفسه تناقض وخلف كالسؤال عن أنّه لمَ اجتمع الوجود والعدم، وذلك لأنّ الاختيار يستند إلي الفاعل القادر بما له من القدرة والسلطنة وفرض

ص: 185

لزوم العلّة في تحقّقه يساوق عدم القدرة، فالسؤال عن علّة الاختيار يساوق إنكار الاختيار والقدرة.

وظهر أيضاً: أنّ انقطاع التسلسل وانقطاع السؤال بأنّه لم تحقّق هذا الفعل، إنّما يكون بانتهاء الفعل إلي أحد الأمرين: إمّا اختيار المختار أو سببيّة السبب، ولا دليل علي الانحصار في الثاني بل الدليل قائم علي خلافه.

الأحكام العقليّة بين التخصيص والتخصّص

وأمّا ما ذكر في الدليل: من أنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص، فلا يمكن استثناء الأفعال الاختياريّة عن القاعدة العقليّة.

ففيه: أنّ خروج الأفعال الاختياريّة عنها بالتخصّص لا بالتخصيص.

وبعبارة أخري: إنّ الحكم العقليّ لا يقبل التخصيص إذا فرض حصول موضوعه، مثلاً الحكم باستحالة الاجتماع في الضدّين واستحالة الاجتماع والارتفاع

في النقيضين ثابت، لكن يجب إحراز الضدّين والنقيضين كي يترتّب عليهما حكم الاستحالة، فمتي ما شكّ في تحقّق الموضوع أو أحرز عدم تحقّقه،لا يمكن ترتيب آثار القاعدة العقليّة، لأنّ هذا مناف لفرض موضوعيّة الموضوع، فإنّ دائرة الحكم تساوي دائرة الموضوع أبداً، فلا يمكن التعدّي عنه كما لا يمكن أن يضيق عنه.

وفي ما نحن فيه نقول: أنّه متي ما فرض وجود العلّة التامّة يحكم بوجوب صدور المعلول عنها وامتناع صدوره من دونها، لكنّ الشأن في إثبات كون أفعالنا الاختياريّة معلولات للعلل التامّة، من جهة أنّ المؤثّر الوحيد في تحقّق الأشياء هي العلّة التامّة. وقد قلنا أنّ الوجدان حاكم بوجود طور آخر لتحقّق الأشياء وهو الفعل والفاعل، والصنع والصانع، والتدبير والمدبّر؛ ونشاهد أنّ صدور الحرارة عن النار يختلف عن صدور التكلّم عن إنسان مختار؛ فعلي هذا يكون خروج الأفعال الاختياريّة عن القاعدة «بالتخصّص لا بالتخصيص»، فإنّ موضوعها المعاليل التكوينيّة الخارجة عن القدرة والاختيار، لا الأفعال

ص: 186

الاختياريّة.(1)

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّا نسلّم توقّف وجود الممكن علي المرجّح، ومن الممكنات الأفعال الاختياريّة للإنسان. وأمّا توقّفه علي الموجِب لوجوده فغير صحيح، بل المرجّح في بعضها هي العلّة التامّة وفي بعضها الآخر (أي الأفعال الاختياريّة) يكون المرجّح هو نفس الإنسان بما له من الكمال من القدرة والمشيّة والرأي والإرادة، وهي لا تصير سبباً لوجوب الفعل -- بالمعني الذي ذهب إليه الفلاسفة من إلجاء المختار علي اختيار طرف الفعل أو الترك -- والشاهد علي ذلك هو الوجدان كما مرّ التذكير بذلك.

التقريب الثاني: احتياج الممكن إلي العلّة الموجبة والمناقشة فيه

ثانيهما: أن يكون المراد هو احتياج الممكن -- ومنه الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار -- في التحقّق وعدمه أو الكون واللاكون إلي العلّة الموجبة لأحد الطرفين فإنّه ما لم يجب الوجود من ناحية العلّة الموجبة له لا يوجد، ففيه: أنّ جريان هذه القاعدة في الأفعال الاختياريّة ممنوع مضافاً إلي بطلان أصل القاعدة، فالجواب يكون صغرويّاً وكبرويّا.

أمّا الصغرويّ: أنّ العلّة لصدور الأفعال من الفاعل المختار هو نفسه بما له من كمال الرأي والقدرةالتي ملّكها اللّه تعالي ايّاه ولا يحتاج إلي علّة موجبة سوي رأيه فإنّها تنافي قدرة الإنسان واختياره الثابتة له بالوجدان، وأمّا ضرورة الفعل أو الترك بعد تعلّق رأي الفاعل بأحدهما وبعد إعمال القدرة في أحدهما فلا ينافي قدرة العبد كما هو واضح، وهذا

ص: 187


1- 230.. ولا يخفي أنّ العلّيّة الموجودة في بعض التكوينيّات كعلّيّة النار للحرارة والماء للبرودة إنّما تكون بجعل من اللّه تعالي، فهو الذي أراد أن يكون النار سبباً للحرارة والماء للبرودة، فالسببيّة موجودة في بعض الأمور بالنسبة إلي بعض آخر، لكنّ اللّه تعالي هو الذي جعل بالجعل التكوينيّ هذه السببيّة والتأثير في السبب والمؤثّر وقابليّة قبول الأثر في المعلولوالمسبّب، ولا يكون ذات العلّة بما هو مقتض لهذا الأثر وذات المعلول مقتض لقبول الأثر، فلذا قد يسلب الأثر عن المؤثّر أو قابليّة التأثّر عن المسبّب إذا تعلّقت مشيّته تعالي بذلك، كما سلب الحرارة عن النار حينما ألقي فيها خليله إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه السلام، فقال عزّ من قائل مخاطباً للنار: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلي إِبْرَاهِيمَ﴾الأنبياء21.، الآية69. والقول بالإستعدادات الذاتيّة في الأشياء باطل، ولهذا البحث محلّ آخر وسيجئ ما يوضح المطلب.

غير ما ذهب إليه الفلاسفة من ضرورة الفعل أو الترك بسبب إرادة العبد التي هي الجزء الأخير من العلّة التامّة الموجبة له، وفسّروها بالشوق الأكيد كما أنّ المشيّة (الذكر الأوّل) والإرادة اللذين يقعان قبل التقدير والقضاء ليستا علّة تامّة لصدور الفعل لإمكان البداء، ذلك أنّ العبد واجد لكمال الرأي والقدرة بتمليك اللّه تعالي، وله السلطنة علي الفعل أو الترك وإعمال القدرة في أحدهما والعزم عليه وضرورة الفعل أو الترك بسبب تعلّق رأي العبد به عين القدرة والاختيار لأنّ هذه الضرورة ناشئة عن الكمال الثابت للفاعل المختار وهو كونه ذا رأي وقدرة.

وبعبارة أخري: أنّ هذه الضرورة عبارة عن ضرورة الفعل أو الترك بشرط تعلّق الرأي به فهي الضرورة بشرط المحمول، وحكومة رأي العبد علي جميع المقتضيات والدواعي والأشواق واضحة كما سيأتي بيانه فلا يكون الشوق سبباً وعلّة لتعلّق الرأي بل الرأي حاكم عليه.

وأمّا الكبرويّ: فهو أنّ ادّعاء التلازم بل التساوي بين الوجود والوجوب، والقول بأنّ الشيء (الممكن) ما لم يجب لم يوجد وما لم يوجد لم يجب، مخدوش ذلك أنّه يتوقّف علي تصوّر مرتبة بين الوجود والعدم مع أنّه واضح البطلان لاستلزامه ارتفاع النقيضين، فالشيء ما لم يوجد لم يكن شيئاً كي يصحّ أن يقال لابدّ أن يصل إلي حدّ الوجوب حتّي يوجد فليس له مرتبة قبل مرتبة تحقّقه وكيانه كي يصير واجباً ثمّ يوجد.

وأيضاً إنّ الوجوب بالغير ومن ناحية العلّة الموجبة عين الإمكان الذاتيّ فالممكن بعد وجوده وبعد وجوبه من جهة علّته يكون باقياً علي إمكانه الذاتيّ وهو الاحتياج إلي الغير.

نعم يصير الشيء واجباً بعد وجوده ولكنّ الوجوب حينئذٍ يكون وجوباً بالغير ووجوباً بشرط المحمول أي بشرط الوجود.

إجابات غير مجدية

قد أجاب بعض عن هذه الشبهة بوجه آخر فقال:

ص: 188

الوجوب الناشي من الاختيار لا ينافي الاختيار

لامنافاة بين هذه القاعدة واختياريّة الأفعال، لأنّ العلّة لصدور الفعل إنّما هي إرادة الفاعل لا شيء أجنبيّ عنه، والفعل مع وجود الإرادة يصير ضروريّ الوجود ومع عدمها ضروريّ العدم، وبما أنّ هذه الضرورة والوجوب إنّما نشأت من الاختيار فلا تنافيه، حيث إنّ وجوب الفعل وضرورته ناشٍ عن الاختيار فلا معني لكون هذه الضرورة والوجوب سبباً لسلب الإرادة والاختيار، بداهة عدم صلاحيّة المعلول لأن يصير سبباً لضرورة العلّة، فالوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. قال صدر الدين الشيرازيّ في مبحث إرادة الباري تعالي:

والحاصل أنّ الموجَب المقابل للمختار ما يجب عليه الفعل لا ما يجب عنه الفعل ولذا قيل: الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يؤكّده.(1)

و يرد عليه أمور:
الأوّل: تقابل القدرة والوجوب

قد بيّنا في تحرير محل النزاع أنّ الحرّيّة والاختيار عبارة عن صدور الفعل عن السلطنة الكاملة علي الفعل والترك، وقلنا إنّ الضرورة إلي أحد الطرفين لا يجتمع مع هذه السلطنة الكاملة، فمتي ما عرضت ضرورة إلي أحد طرفي الفعل تخرجه عن كونه اختياريّاً. فلذا اعترف صدرالدين الشيرازيّ بذلك فقال ما نصّه:

فكلّ مختار غير الواجب الأوّل مضطرّ في اختياره مجبور في أفعاله فالقدرة في نفوسنا عين القوّة علي الفعل والاستعداد والتهيّؤ له، فلا فعل بالاختيار إلّا من الحقّ تعالي.(2)

والفعل الاختياريّ لا يتحقّق ولا يصحّ بالحقيقة إلّا في واجب الوجود وحده وغيره من المختارين لا يكونون إلّا مضطرّين في صورة المختارين.(3)

ص: 189


1- 231.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص349؛ وأيضاً ذكره الملّا هادي السبزواريّ في شرح الأسماء الحسني، ج1، ص110؛ وراجع: قوانين الأصول، ص106؛ و نهاية الدراية، ج1، ص557.
2- 232.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص312-313.
3- 233.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص312.

وستعلم أنّه بناءاً علي هذا المبني لا يكون اللّه تبارك وتعالي مختاراً وشائيّاً وقادراً بل يكون مجبوراً ومقهوراً كما أشرنا إليه آنفا.

نعم قوله: الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار صحيح فيماإذا صدر فعل من الإنسان عن اختيار كامل ثمّ صار هذا الفعل الاختياريّ علّة لحصول فعل آخر، كما إذا ألقي نفسه من شاهق فحتميّة الموت حينئذ لا تنافي الاختيار، لأنّ السقوط بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن قدرته إلّا أنّه لمّا كان قادراً علي الإلقاء فهو قادر علي إهلاك نفسه ولو بالواسطة، ولكن هذا خارج عن محل النزاع.

الثاني: الإرادة ليست علّة تامّة لصدور الفعل
اشارة

لانسلّم كون الإرادة -- بمعني تأكيد الذكر الأوّل الذي هو المشيّة -- هي العلّة لصدور الفعل بحيث يمتنع تخلّف صدور الفعل عنها، وذلك لأنّا نشاهد بالوجدان بقاء سلطنتنا علي الفعل والترك مادام لم يتحقّق الفعل في الخارج ولو بعد الإرادة والعزم عليه. ويشهد علي هذا أنّه قد نريد أحياناً إيقاع فعل ويحصل لنا العزم علي تحقيقه، ولكن بعد هذه الإرادة القويّة في أنفسنا يمنعنا عن تحقّقه مانع، فلا نستطيع إعمال ما أردنا إعماله، وأحياناً لا يكون لدينا مانع عن إيجاده ومع ذلك نتركه ولا نفعله، لا سيّما في ما إذا كانت إرادتنا متعلّقة بأمر متأخّر استقباليّ كما إذا أردنا الدخول في بلد بعيد المسافة وكان السفر إليه يحتاج إلي تحمّل المشاقّ، فنتهيّأ لذلك السفر ونسافر إليه ولكن في أثناء الطريق لنا أن نغيّر رأينا وننصرف عن المضيّ طبق ما أردناه، ففي هذا المثال قد تحقّقت الإرادة قطعاً بالنسبة إلي ذلك الأمر البعيد، وإلّا لما كان يتحمّل المشقّة لتحصيله، ولكن مع تحقّق الإرادة لم يتحقّق المراد، فلو كانت الإرادة هي العلّة التامّة لتحقّق الفعل لما كان وجه لانفكاك تحقّق الفعل المراد عن الإرادة.

النقض بكلام المحقق الآخوند

و من العجب أنّ المحقّق الآخوند، يُصِرّ علي إمكان تعلّق الإرادة بالأمر الاستقباليّ ويقول بإمكان انفكاك الإرادة عن المراد بحسب الزمان مع أنّه يقول بأنّ الإرادة علّة تامّة لتحقّق المراد.

ص: 190

وإليك نصّ مقالته:

فيه: أنّ الإرادة تتعلّق بأمر استقباليّ كما تتعلّق بأمر حاليّ، وهو أوضح من أن يخفي علي عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أنّ تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيدة المسافةوكثيرة المؤونة ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله علي التحمّل إلّا ذلك، ولعلّ الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد، وتوهّم أنّ تحريكها نحو المتأخّر ممّا لا يكاد، وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات، أو ممّا له مؤونة ومقدّمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له والجامع أن يكون نحو المقصود ... ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والإطناب إنّما لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلّاب.(1)

والمتحصّل من كلامه: أنّ الإرادة في مثل هذه الموارد موجودة قطعاً وإلّا ما كان ليتحمّل المشاقّ ويحرّك العضلات نحوه، إلّا أنّه لا ضير في أن يتأخّر المراد عن الإرادة زماناً.

فنقول: إنّ ما ذكره من إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقباليّ متأخّر عن الإرادة متين جدّاً، ويشهد علي هذا ما ذكره من تحمّل المشاقّ الكثيرة لما يتحقّق في المستقبل، ولكن يرد عليه:

أوّلاً: إنّه لو كانت الإرادة علّة تامّة موجبة لتحقّق المراد في الخارج أو الجزء الأخير من العلّة فلا يعقل انفكاكها عن المراد بحسب الزمان، لأنّ المعلول يتّحد مع العلّة بحسب الزمان ويختلف عنها بحسب الرتبة.

ثانياً: إنّه من الواضح إمكان تعلّق الإرادة بالأمر الاستقباليّ والانصراف عنها قبل تحقّق المراد، كما نشاهد كثيراً فيما نريده ممّا يتحقّق في المستقبل ونتحمّل المشاقّ لأجله ثمّ يبدو لنا في ذلك ونعدل وننصرف عنه، وهذا ينافي ما التزم به من كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد أو الجزء الاخير منها.

ص: 191


1- 234.. كفاية الأصول، ص102.

قال أبو جعفر(عليه السلام):

قام رجل إلي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزائم ومنع الهمّة، لمّا أن هممت بأمر فحال بيني وبين همّتي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، علمت أنّ المدبّر غيري.(1)فما لم يتحقّق الفعل في الخارج نحن قادرون ومسلّطون علي إيجاده وعدمه، وقد قال بعض الأعاظم منهم المحقّق النائينيّ(قدس سره): إنّ الأفعال الاختياريّة توجد علي صفة الإمكان، بمعني أنّه يحتمل وجود الفعل وعدمه في كلّ آنٍ ولحظة إلي أن يتحقّق في الخارج، فلا ينقلب الفعل الممكن منّا إلي الواجب ولو في آنٍ، بل لنا القدرة والسلطنة علي الفعل وعدمه ما لم يتحقّق خارجاً، نعم بعد تحقّق الفعل يكون وجوده ضروريّاً ولكن هذا خارج عن محلّ البحث.

الثالث: أول الجواب إلي الالتزام بالجبر
اشارة

سلّمنا أنّ الإرادة هي العلّة التامّة لصدور الأفعال من العباد، لكن نسأل هل هذه الإرادة نفسها معلولة لعلّة أخري أم لا؟

فإن قلت: لا، فيثبت تحقّق الممكن من دون العلّة التامّة والترجيح من دون المرجّح ووجود الشيء من دون وصوله إلي مرتبة الوجوب، بداهة أنّ الإرادة فينا حادثة قطعاً بعد حدوث أنفسنا لا أنّها عين ذواتنا تحدث بحدوثها كما توهّمه بعض.(2)

وإن كان لابدّ لتحقّقها من وجود العلّة أيضاً، ننقل الكلام إلي علّة هذه الإرادة، فإن كان أمر العلّة بيد العبد ولم تكن معلولة لعلّة أخري بحيث يمتنع التخلّف عنها فيثبت المطلوب، وإلّا فننقل الكلام إليها وهكذا، حتّي ينتهي الأمر إلي ما يكون أمره بيد العبد، فإن انتهت فهو، وإلّا فلا يكون العبد مختاراً حقيقة بحيث يكون مسلّطاً علي الفعل والترك بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، بل يكون عين الجبر بصورة الاختيار. وقد مرّ في تحرير محلّ النزاع أنّ الاضطرار والإلجاء ينافي الاختيار ولو كان بألف واسطة، فمجرّد إرجاع الفعل إلي الارادة

ص: 192


1- 235.. روضة الواعظين، ص30؛ بحارالأنوار، ج3، ص42، ح17(باختلاف قليل).
2- 236.. جبر و اختيار، ص300.

مع تفسير الإرادة بالشوق الأكيد أو غيره ممّا لا يترتّب عليه حقيقة الاختيار وروحه لا يجدي في صيرورة الفعل اختياريّاً، وسيأتي في الجواب عن الدليل الثاني والرابع ما يوضح المطلب.

إيقاظ: مفاسد الالتزام بنظام العلّيّة في جميع الأشياء

إنّ الالتزام بقانون العلّيّة في جميع الحوادث -- حتّي في أفعال الإنسان -- كما فسّره الفلاسفة يستلزم منه ما لا يلتزم به المؤمن.

إنكار قدرة اللّه

منها: إنكار قدرة الباري جلّ شأنه وكونه تعالي فعّالاً لما يشاء، لأنّ العلّة بعد تماميّتها يصدر عنها المعلول بلا اختيار منها وهي لا تقدر علي الامتناع من صدور المعلول عنها، وعليه لا يكون الباري تعالي -- بناء علي ما التزموا به من كونه تعالي العلّة التامّة -- فعّالاً لما يشاء، إن شاء خلق وإن لم يشأ لم يخلق، كما اعترف بذلك صدرالدين الشيرازيّ في عبارته السالفة حيث قال:

فقد ظهر أنّ صنع العلّة في المعلول هو الإيجاب لا غير.(1)

والظاهر أنّ إنكار قدرة الباري جلّ شأنه من الفلاسفة ممّا لا غبار عليه عند الفرقة المحقّة، اُنظر إلي ما ذكره سيّد ابنطاووس(رحمه الله):

وممّا يقال للمجبّرة: قد رحمناكم لشدّة غفلتكم، وخاصّة الذين يقولون منكم لا فاعل سوي اللّه تعالي، ثمّ يقولون إنّ العبد غير مختار وإنّه مضطرّ فيما يصدر عنه، ويا للّه والعجب من جهالاتكم إذا كان لا فاعل سوي اللّه تعالي، وعندكم وعند كافّة أهل الإسلام إنّ اللّه تعالي مختار غير مضطرّ ولا ملجأ، وكيف صارت أفعاله الصادرة عن العباد في الصورة وهي صادرة عنه في التحقيق خارجة عن حكم اختياره، وبطل علي قولكم كونه مختاراً وصرتم إلي مذهب الفلاسفة في أنّه جلّ وعلا غير مختار.(2)

ص: 193


1- 237.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص321.
2- 238.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص332.

فحينئذ لا معني لقوله تعالي: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِ-خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾،(1) وليس هو الذي ﴿يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(2) و﴿يَ-حْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾،(3) فسيكون -- جلّت ساحة قدسه -- مَثَله كمثل النار تصدر عنها الحرارة بلا إرادة منها ولا عمد، ولا تقدر علي الكفّ عن خروج الحرارة منها ولا التغيير في كيفيّتها ولا صدور شيء غيرها، فتكون يده تعالي مغلولة، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله ِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾.(4)

وقال العلّامة الحلّيّ(قدس سره) في الجواب عن شبهة الجبر بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وشبهة أنّ علم الباري يوجب الجبر:فقد ظهر من هذا، أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ اللّه تعالي، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة ...

والحاصل: أنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما. فلينظر العاقل من نفسه: هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته، ويحتجّ به غداً يوم القيامة؟ وهو يوجب الكفر، والإلحاد؟

وأيّ عذر لهم عن ذلك؟

وعن الكفر والالحاد؟

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر علي ما تري. وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة كلّ خسيسة ورذيلة إلي اللّه سبحانه، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا.

وليحذر المقلّدون! وينظروا كيف هؤلاء القوم الذين يقلّدونهم! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم كفاهم بذلك ضَلالاً، وإن راجعوا عقولهم،

ص: 194


1- 239.. إبراهيم14.، الآية 19.
2- 240.. البقرة2.، الآية 253؛ والحجّ22.، الآية 14.
3- 241.. المائدة5.، الآية 1.
4- 242.. المائدة5.، الآية 64.

وتركوا اتّباع الأهواء، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف، وفّقهم اللّه لإصابة الثواب (الصواب؛خ ل).(1)

منها: القول بالقدم

القول بقدم المخلوقات وأزليّتها لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته.

ومنها: القول بالسنخيّة

القول بالسنخيّة التامّة بين اللّه تعالي ومخلوقاته فإنّ المعلول نفس العلّة في المرتبة النازلة.

ومنها: القول بالترشّح

القول بأنّ المخلوقات كلّها مترشّحة من اللّه جلّ شأنه، تولّد المعلول وترشّحه عن علّته كترشّح الحرارة وتولّدها عن النار. وغير ذلك من المفاسد التي يوجب الاعتقاد بها والالتزام بلوازمها خروج الإنسان عن حدّ الإيمان ودخوله في حدّ الكفر أعاذنا اللّه من ذلك، فإنّه تعالي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(2) وإنّه ﴿هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوا أَحَدٌ﴾.(3)

ص: 195


1- 243.. نهج الحقّ و كشف الصدق، ص 124.
2- 244.. الشوري42.، الآية 11.
3- 245.. سورة التوحيد.

الوجه الثاني: «انتهاء الممكنات إلي إرادة اللّه تبارك وتعالي»

اشارة

وممّا استدلّوا به علي مذهبهم الفاسد استحالة تحقّق الممكن من دون إرادة الباري تعالي. وبما أنّ أفعال العباد من الممكنات فيستحيل تحقّقها من دون إرادته تعالي، وحينئذ إمّا أن يكون فعل العبد متعلّقاً لإرادته تعالي فيكون ضروريّ التحقّق لعدم انفكاك إرادته تعالي عن المراد، وإمّا أن لا يكون متعلّقاً لإرادة اللّه فيستحيل تحقّقه لاستحالة تحقّق الممكن من دون إرادته تعالي.

الجواب:

قد أجيب عن هذا الدليل بوجوه لا يخلو بعضها عن الإشكال، والحقّ في الجواب أن يقال:

كيفية تعلّق إرادة الباري بأفعال العباد

إنّ ما فرضه المستدلّ من أنّ أفعال العباد إمّا تكون متعلّقة لإرادة الباري تعالي وإمّا لا تكون متعلّقة لها ففيه أنّ إرادته تعالي تعلّقت بأن يكون العبد قادراً وشائيّاً يختار لنفسه ما يريد، فهو تعالي أراد تحقّق الفعل من العبد لكن بإرادة العزم منه، أي يهيّأ له أسباب الفعل والترك -- من القدرة والحريّة مع كونه أملك لما ملّكهم -- ثمّ يجعل أمر الفعل والترك بيد العبد فله أن يفعل وله أن يترك.

ومن الواضح ثبوت القدرة -- لمن كان علي كلّ شيء قدير -- علي خلق مخلوق يكون فاعلاً شائيّاً بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.

وحينئذ نقول: ما هو المراد من تعلّق إرادة الباري تعالي بفعل العبد؟

فإنّه قد مرّ في مبحث الطلب والإرادة بيان معني الإرادة وقلنا إنّ الإرادة في الإنسان إمّا تكون بمعني الشوق الأكيد -- بناءاً علي مسلك المشهور -- أو حملة النفس -- بناءاً علي ما سلكه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)-- أو بمعني إعمال القدرة والعزم -- علي ما هو الحقّ -- .

فإن كان المراد من تعلّق إرادة الباري بفعل العبد، تعلّق الرضا والحبّ من اللّه تعالي بفعل العبد فنقول: نعم؛ إنّه وإن كان تعلّق الشوق والرضا من شخص بالنسبة إلي الفعل

ص: 196

الصادر عن الآخر بمكان من الإمكان بل وقع كثيراً، كاشتياق زيد إلي الفعل الصادر عن عمرو، وكرضا الباري تعالي بالعمل الصالح الصادر عن العبد، إلّا أنّ هذا الشوق لا يكون علّة للفعل ولا يوجب صيرورة الفعل ضروريّاً واجباً حتّي لو كان الاشتياق من الفاعل بفعل نفسه وكان الشوق مفرطاً، فكيف بما إذا كان الشوق حاصلاً من شخص بالنسبة إلي الفعل الصادر عن الآخر.

وإن كان المراد من الإرادة حملة النفس والعزم وإعمال القدرة والسلطنة، فهي وإن ادّعي كونها علّة للفعل، ولكنّ الإرادة بهذا المعني -- مضافاً إلي أنّها ليست علّة تامّة -- لا تتعلّق بفعل الغير، حيث إنّه لا يمكن لزيد أن يُعْمِلَ قدرته في الفعل الاختياريّ الصادر من عمرو، لأنّ إرادة عمرو بالنسبة إلي فعله عبارة عن إعمال القدرة في فعل نفسه، وتعلّق إرادة زيد -- بهذا المعني -- بفعل عمرو يستلزم وجود إرادتين بالنسبة إلي مراد واحد، وهو يقتضي توارد العلّتين علي معلول واحد وهو مستحيل. فالإرادة بهذا المعني لا تتعلّق بالفعل الاختياريّ الصادر عن الغير(1) بل معني تعلّق الإرادة بفعل الغير عبارة عن إعمال القدرة في طلبه منه وفي إيجاد الداعي في نفسه وبمعني إعمال القدرة في اعتبار الفعل في ذمّة الفاعل.

محذور تعلّق إرادته تعالي الحتميّة بإرادة العبد

بل الالتزام بكون إرادة اللّه تعالي متعلّق بإرادة العبد يوجب الخلف، لأنّه تعالي -- حسب الفرض -- قد جعل العبد بلطفه ومنّه قادراً ومختاراً وشائيّاً بحيث له الإرادة والسلطنة علي الفعل والترك، فلو تعلّقت إرادته بعد ذلك بنفس الفعل بحيث يصدر عن الإنسان جبراً من دون إرادة منه، يلزم الخلف.

فيلزم من تعلّق إرادة الباري بالفعل الاختياريّ الصادر عن العبد محذوران:

ص: 197


1- 246.. لا يخفي أنّ مبني هذا الإشكال إنّما هو تفسير الإرادة بالعلم أو الشوق الأكيد وكونها علّة تامّة للمراد أو الجزء الأخير من العلّة التامّة، فإنّه علي هذا لا يمكن تعلّق إرادة اللّه بالفعل الصادر عن إرادة العبد. وأمّا بناءاً علي ما هو الحقّ من عدم كونالارادة بمعني الذكر الثاني -- علي ما في الأخبار -- علّة تامّة فلا يصحّ الإستدلال المذكور علي الجبر من رأس، وقد مرّ منّا توضيح الكلام في تعلّق إرادة اللّه بالأفعال الصادرة عن العباد بإرادة العزم لا إرادة الحتم، بمعني تعلّقها بمقدّمات الأفعال كالقدرة والآلات والتوفيق والخذلان.

الأوّل: الخُلف.

الثاني: توارد العلّتين علي معلول واحد.

أمّا الأوّل:

فلأنّ المفروض في الكلام أنّه تعالي أراد أن يتحقّق الفعل عَبْر إرادة المكلّف لا بإرادته تعالي، فلو أراد تحقّق الفعل بإرادته يستلزم خلاف ما أراده أوّلا.

وأمّا الثاني:

فلأنّ المفروض أنّ للعبد الإرادة والاختيار في ترجيح أحد طرفي الممكن -- وهي وإن كانت غير مستقلّة لأنّه للّه تعالي أن يسلبها من العبد إلّا أنّه بعد أن أعطي اللّه تعالي القدرة والاختيار للعبد سيكون الفعل منتسباً إلي العبد نفسه --، ويلزم من تعلّق إرادة اللّه تعالي بالفعل مع تعلّق إرادة العبد به ورود علّة تامّة أخري عليه وهذا مستحيل، ومن هنا يظهر النظر في قول بعضهم: «الفعل فعل اللّه وهو فعلنا».(1)

وببيان آخر: إنّه في فرض تعلّق إرادة اللّه تعالي بفعل العبد إمّا أن لا يكون هناك إرادة من العبد وتكون الإرادة من اللّه تعالي فحسب، وهذا خلاف ما فرض في الاستدلال من وجود إرادة للعبد ومستلزم للجبر وصيرورة العبد بمنزلة الآلة. وقد مرّ أنّ ثبوت الإرادة والسلطنة منّا علي أعمالنا مشاهد بالوجدان.

وإمّا أن تكون إرادة العبد ثابتة؛ بمعني أنّ اللّه أراد صدور الفعل من العبد وأراد تعلّق إرادة العبد بالفعل بحيث لا سلطنة للعبد في اختيار الفعل أو الترك، فهذا -- مع أنّه مستلزم للجبر وصيرورة الفعل غير اختياريّ --، خلاف المفروض لأنّه لا إرادة للعبد علي هذا الفرض ويكون العبد مجبوراً في أن يختار الفعل فلا يكون الفعل صادراً عن القدرة، -- وقد مرّ في تحرير محلّ النزاع أنّه لا يصحّ التعبير بالإرادة ما لم تكن الإرادة مستندة إلي القدرة -- وعليه فليس للعبد إرادة حتّي تكون مستندة إلي إرادة الباري فتكون القضيّة سالبةً بانتفاء الموضوع.

فلا يعقل تعلّق إرادة اللّه بالفعل الصادر عن العبد بإرادة منه بحيث تكون كلتا الإرادتين

ص: 198


1- 247.. شرح المنظومة، ج3، ص617(قسم الإلهيات). وسيأتي بسط الكلام في توضيحه ونقده إن شاء اللّه فانتظر.

معاً مؤثّرتين في الفعل بنحو الاستقلال، فمهما تعلّقت إرادته تعالي بصدور فعل عن العبد سوف تزول الإرادة من العبد فلا يتمكّن من الامتناع عن صدوره ولا يمكنه إعمال قدرته فيه نفياً أو إثباتاً كما في حركة يد المرتعش. وبماأنّا نشاهد سلطنتنا علي بعض الأفعال ونجد أنّه لنا أن نفعل ولنا أن نترك وقد فرض في الدليل وجود الإرادة للإنسان، فلازمه عدم تعلّق إرادته تعالي بهذه الطائفة من الأعمال، لأنّه مع التعلّق يكون العبد مسلوب الإرادة والقدرة -- نعم إرادة اللّه تعلّقت بصيرورة العبد شائيّاً مريدا --.

فعلي هذا يكون السؤال عن تعلّق إرادة اللّه تعالي بالفعل الإراديّ الصادر عن العبد أم عدمه من الأغلاط كالسؤال عن كيفيّة اجتماع الضدّين.

إن قلت: نعم تعلّق الإرادة بالفعل الصادر عن إرادة الغير ممّا لا يمكن الالتزام به في العباد، ولكن بما أنّ اللّه علي كلّ شيء قدير فيمكن أن تتعلّق إرادته بأفعال العباد.

قلت: إنّه تعالي علي كلّ شيء قدير لكن لا تتعلّق إرادته وقدرته بالمحال كاجتماع الضدّين، لأنّ نفس هذا التعلّق مستحيل ولا ينافي ذلك قدرته الواسعة.

نعم لا ريب أنّ وجود العبد وحياته وجوارحه وسلطانه عليها وقدرته وسلطنته علي الأفعال يكون بإعطاء اللّه تبارك وتعالي، وكذا التوفيق والخذلان، ولا يكون للعبد قدرة واختيار في وجدانه هذه الحقائق وعدم وجدانه إيّاها، فليس هو الذي أراد أن يكون ذا قدرة واختيار، بل اللّه تعالي أعطاه تلك الحقائق، كلّ ذلك بمنّه وفضله، وهو الذي أراد أن يكون العبد مختاراً شائيّاً ليريد ويختار، كما أنّ العبد يحتاج إلي استمرار ذلك العطاء من اللّه عزّوجلّ في كلّ لحظة، ولو أراد تبارك وتعالي سلبها عنه يبقي العبد بلا قدرة واختيار، فالعبد يكون بهذا الاعتبار تحت سلطان اللّه تبارك وتعالي وكذا أفعاله إلّا أنّه تعالي أراد أن يجعل أمر إعمال القدرة واختيار الطاعة والمعصية -- الجزء الأخير من مقدّمات وقوع الفعل -- بيد العبد، وأراد أن يكون العبد ذا إرادة حرّة يختار بها ما شاء، حتّي يصحّ الثواب والعقاب.

زبدة القول في انتهاء إرادة العبد إلي إرادة اللّه

خلاصة الكلام: إنّ عدم تعلّق إرادته تعالي الحتميّة بإرادة العبد لأجل أنّ إرادة العبد

ص: 199

ليست من متعلّقات إرادة اللّه تبارك وتعالي ويستحيل تعلّق إرادته تعالي بإرادة العبد نظير اجتماع الضدّين، فإنّه تعالي أرادأن يكون العبد شائيّاً ومريداً وأراد أن لا يجبره علي الفعل أو الترك كي يكون هو الذي يريد، فلو تعلّق إرادته بفعل العبد يكون هذا خلفاً لإرادته لأنّه أراد أوّلاً أن يكون العبد مختاراً فيختار حسب إرادته، وعليه يكون تعلّق إرادته تعالي بفعل العبد ثانياً بحيث يصدر الفعل عنه جبراً مناقضاً لإرادته الأولي.

ويناسب المقام التعرّض لما ورد في مناظرة الإمام موسي بن جعفر(عليهما السلام) مع أبي حنيفة.

قال أبو حنيفة: حججت في أيّام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبيّ يدرج ... فقلت له: ما اسمك؟ فقال:

أنا موسي بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام)، فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟ فقال: إنّ السيّئات لا تخلو من إحدي ثلاث: إمّا أن تكون من اللّه -- وليست منه -- فلا ينبغي للربّ أن يعذّب العبد علي ما لا يرتكب، وإمّا أن تكون منه ومن العبد -- وليست كذلك -- فلا ينبغي للشّريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد -- وهي منه -- فإن عفا فبكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته. قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألق أبا عبد اللّه(عليه السلام)، واستغنيت بما سمعت.(1)

وعن داود الرقّيّ أنّ أبا حنيفة قال لابن أبي ليلي: مرّ بنا إلي موسي بن جعفر(عليهما السلام) لنسأله عن أفاعيل العباد، وذلك في حياة الصادق، وموسي(عليهما السلام) يومئذ غلام، فلمّا صارا إليه سلّما عليه ثمّ قالا له: أخبرنا عن أفاعيل العباد ممّن هي، فقال لهما:

إن كانت أفاعيل العباد من اللّه دون خلقه فاللّه أعلي وأعزّ وأعدل من أن يعذّب عبيده علي فعل نفسه؛ وإن كانت من اللّه ومن خلقه فإنّه أعلي وأعزّ من أن يعذّب عبيده علي فعل قد شاركهم فيه، وإن كانت أفاعيل العباد من العباد فإن عذّب فبعدله، وإن غفر فهو أهل التقوي وأهل المغفرة.

ثمّ أنشأ يقول:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذمّ بها إحدي ثلاث معان حين نأتيها

ص: 200


1- 248.. تحف العقول، ص411؛ بحار الأنوار، ج10، ص247، ح16.

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها فيسقط الذمّ عنّا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أ و لم يكن لإلهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلّا ذنب جانيها(1)

وفي الخبرين إشارة إلي ما ذكرناه؛ حيث أنّ الإمام(عليه السلام) حكم في فرض كون الفعل صادراً عن اللّه وعن العبد معاً بأنّ العذاب علي هذا الفعل ظلم، لأنّ اللّه تعالي هو الشريك القويّ ومؤاخذته تعالي علي الفعل تكون ظلماً من الشريك القويّ علي الشريك الضعيف، فإنّه مع أقوائيّة الربّ تعالي لا يبقي وجه لمؤاخذة العبد وحده، بل يلحق الربّ -- تعالي عن ذلك -- اللؤم الوارد علي العبد كما أشار الإمام(عليه السلام) في الشعر:

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

وسيأتي في الجواب عن الدليل الثالث والرابع ما يرتبط بالبحث.

ص: 201


1- 249.. كنز الفوائد، ج1، ص366؛ بحار الأنوار، ج10، ص248، ح17.

الوجه الثالث: «التوحيد الأفعاليّ»(250)

اشارة

ذهبت الأشاعرة وجمع من الفلاسفة إلي أنّ جميع الأُمور والحوادث -- أعمّ من المادّيّات وغيرها وأعمّ من الجواهر والأعراض والذرّات والأفعال -- لابدّ وأن تكون مستندة إلي اللّه تعالي وإلي مشيّته، لأنّ التوحيد الحقيقيّ يمنعنا أن نلتزم بوجود فاعل غير اللّه تبارك وتعالي فهو «خالق كلّ شيء»، و«لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بسبع» ومنها المشيّة. ولو كانت أفعال العباد صادرة عن قدرتهم واختيارهم دون إرادة اللّه ومشيّته لكان خارجاً عن قدرته تعالي، وهذا باطل ومستلزم للقول بوجود خالق ومؤثّر غيره تعالي و«لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه» فيلزم أن تكون الأفعال مستندة إلي ذات الباري تعالي.

وقد يقرّر هذا الدليل بوجه آخر: وهو أنّ جميع الموجودات سوي الباري تعالي التي منها أفعال البشر من الممكنات، ولا يمكن جعل الممكن وإيجاده إلّا لواجبالوجود فلابدّ من أن تكون أفعال العباد مستندة إلي اللّه تعالي.

الجواب
نظريّات ثلاثة في التأثير والتأثّر
اشارة

هناك ثلاث نظريّات في التأثير والتأثّر:

1. نظريّة الأشاعرة

إنّهم قد أنكروا نظام الأسباب والمسبّبات والعلل والمعاليل وتأثيرها بالكلّيّة، وذهبوا إلي أنّ جميع الأشياء مستندة إلي إرادة اللّه تبارك وتعالي، ولا يقع شيء في العالم إلّا بإرادة منه

ص: 202

تعالي مباشرة وإن كان كلّ شيء يستند إلي علّته وسببه بمقتضي الظاهر ولأجله يتوهّم تأثير الأسباب والعلل في الأشياء. ولكن في الحقيقة يكون المؤثّر الوحيد هو اللّه تبارك وتعالي، إلّا أنّ عادته تعالي جرت علي حصول الأثر الخاصّ عند حصول الشيء الكذائيّ؛ مثلاً إن كان الماء يغلي بسبب حرارة النار فغليانه مستند إلي إرادة اللّه تعالي فإنّ إرادته تعلّقت بالغليان مقارناً لوجود حرارة النار، وعلي هذا جرت عادة اللّه، ولا يكون لوجود النار أيّ تأثير في ذلك، فلذا يمكن أن تتعلّق إرادته بإيجاد هذا الأثر إذا وضع الماء علي الثلج أيضا.

ثمّ إنّهم ذهبوا إلي أنّ هذا هو التوحيد الحقيقيّ ليس إلّا، فيلزم أن يعتقد الإنسان بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه تعالي؛ وبناءاً علي هذه النظريّة يتّجه الإشكال المذكور.

2. نظريّة الفلاسفة
اشارة

التزمت الفلاسفة في مقابل المدرسة الأشعريّة بنظام العلل والمعاليل والتأثير والتأثّر القهريّ بالكلّيّة وغفلوا عن أنّ من الأفعال ما يكون بالمشيّة والإرادة، وادّعوا أنّ فاعليّة كلّ فاعل تكون بالعلّيّة التامّة لا بالإرادة والمشيّة كما مرّ في دليلهم الأوّل.(1)

ص: 203


1- 251.. لا يخفي أنّ البحث عن أقسام الفاعليّة والبحث عن فاعليّته تعالي في كلمات علماء البشر ممّا له مجال واسع، ولسنا بصدد التعرّض له ولنقده ولكن بالإجمال نشير إليه فنقول: قد قسّموا العلّة إلي الداخليّة والخارجيّة، وكلّ واحد منهما إلي التامّ والناقص، أمّا الداخليّة ويسمّونها بعلّة القوام فهي علي قسمين: المادّي العنصريّ والصوريّ، أمّا الخارجيّة ويسمّونها بعلّة الوجود، فهي أيضاً علي قسمين: العلّة الفاعليّة (ما بسببه الوجود)، والعلّة الغائيّة (ما لأجله الوجود). والعلّة الفاعليّة عند بعضهم علي سبعة أقسام: الفاعل بالطبع، والفاعل بالقسر، والفاعل بالجبر، والفاعل بالرضا، والفاعل بالقصد، والفاعل بالعناية، والفاعل بالتجلّي.شرح المنظومة للسبزواريّ، ص406 - 410، (الفريدة السابعة في العلّة والمعلول). وزاد بعضهم عليها قسمين آخرين، وهما: الفاعل بالتسخير (ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص515-518) والفاعل بالعشق (حكمت الهي، مهدي الهي القمشه ايً، ص44-60). وأمّا البحث عن فاعليّته تعالي: فقد اختلفوا فيه علي أقوال شتّي وذهب كلّ فرقة إلي مذهب خاصّ، ومن أراد الاطّلاع عليها وما هو الحقّ الموافق للعقل السليم والكتاب والسنّة، حتّي تظهر له بينونة مقالتهم مع ما جاء به صاحب الشريعة المقدّسة فليراجع إلي ما ذكره شيخنا الأستاذ آية اللّه ميرزا جواد الطهرانيّ(قدس سره) في كتابه ميزان المطالب، ص 205، وما ذكره شيخنا الأستاذ آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ(قدس سره) في كتابه توحيد الإماميّة، ص 341-347 وما ذكره آية اللّه الشيخ مجتبي القزوينيّ(قدس سره) في كتابه بيان الفرقان، ج1، ص306- 354.
ردود علي النظريّتين

و النظريّتان في غاية الوهن والسخافة، أمّا الأولي: فيرد عليها أوّلاً بأنّها مخالفة للفطرة السليمة، حيث إنّها تحكم بأنّ حدوث بعض الأمور مترتّب علي بعض آخر ومتأثّرٌ منه، كما أنّ الأكل سبب للشبع والشرب سبب للريّ والنار سبب للحرارة والماء للبرودة، بل لوأنكرنا تأثير الأشياء وتأثّرها علي وفق سنّة اللّه تعالي وبإذنه التكوينيّ لبطل نظام جميع الأشياء ونظام الحياة المادّيّة للإنسان وغيره، وأيضاً بطل نظام الاستدلال فلا يمكننا تحصيل القطع بشيء، لأنّ انضمام الصغري إلي الكبري سبب لحصول القطع بالنتيجة مثلا إذا قلنا: «العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث» فينتج: العالم حادث. ومع إنكار التأثير والتأثّر لا يبقي مجال للاستدلال. فإنّه بناءاً علي إنكار علّيّة انضمام الصغري إلي الكبري للقطع بالنتيجة وبناءاً علي عدم تأثير الاستدلال في الاستنتاج يلزم إمكان الحصول علي قدم العالم من هذا الإستدلال وأيضاً لو كان سبب الوصول إلي المطلوب -- كدخول الدار أو المسجد -- المشي في طريق خاصّ فبناءاً علي إنكار التأثير والتأثّر يمكن الوصول إلي المقصد من غير ذلك الطريق وكذا يبطل علي هذا نظام جميع العلوم كالطبّ، فإنّ الطبيب يداوي كلّ مريض بدواء يناسب دائه ولا يداويه بدواء يناسب داءً آخر. فمخالفة هذا القول مع الفطرة السليمة أظهر من أن يذكر.

وثانياً: إنّ دليلهم قاصر عن إثبات المدّعي، فإنّه يمكن أن نلتزم بوجود جميع هذه التأثيرات والتأثّرات ونظام العلّيّة بحيث لا ينافي التوحيد بل يؤكّده، حيث انّا نقول بأنّ علّيّة جميع العلل تكون بإذنه تعالي.

وثالثاً: إنّه بناءاً علي مذهبهم لابدّ من تحديد قدرته تعالي حيث إنّهم أنكروا قدرته علي جعل شيء سبباً وعلّة لشيء آخر كما ستعرف إن شاء اللّه تعالي.

ورابعاً: إنّه لو أنكرنا نظام العلّيّة للزم عدم تسليم دلالة ما استدلّوا به علي مقالتهم لأنّ كلّ دليل وحجّة سبب للوصول إلي النتيجة والقطع بها فمع إنكار السببيّة والعلّيّة لا يكون دليلهم سبباً للقطع بمدّعاهم.

ص: 204

وأمّا مقالة الفلاسفة: فقد مرّ الجواب عنها بالتفصيل في ذيل مناقشة الدليل الأوّل، وقلنا: إنّ وجود الإرادة والمشيّة للإنسان في بعض الأفعال مشاهد بالوجدان: وقلنا: إنّ صريح الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة والولويّة المتواترة بل فوق التواتر وكذا حكم العقل دالّ علي أنّ فاعليّة الربّ المتعال تكون بالقدرة الغير المتناهية والمشيّة والإرادة وليست بنحو العلّيّة والصدور والترشّح والتجلّي والعناية والفيضان وقلناإنّ الالتزام بقانون العلّيّة -- كما فسّره الفلاسفة -- في الباري تعالي يستلزم مفاسد لا يلتزم بها المؤمن.

3. مذهب أهل البيت(عليهم السلام)
اشارة

أمّا الصواب والحقّ الذي جاء به الأنبياء والمرسلون، ونادي به القرآن والسنّة هو أنّ اللّه تبارك وتعالي جعل لكلّ شيء سبباً في نظام التكوين والخلقة وفقاً لحكمته(1) البالغة، فهو الذي جعل شيئاً مؤثّراً والآخر متأثّراً بذلك الأثر وقابلاً له، كما أنّه كلّما أراد سلب الأثر من شيء يسلبه عنه فجميع التأثيرات والتأثّرات في العالم تكون بإذنه التكوينيّ.

هذا في الفواعل الطبيعيّة، وأمّا في الفواعل الإراديّة يكون اللّه تعالي قد هيّي ء للإنسان أسباب الفعل وأعطاه ما به يقدر علي الفعل والترك من العلم والقدرة والمشيّة وآلات الفعل وغير ذلك بحيث لو سلب منه واحداً منها لا تثبت له القدرة علي شيء.

وإليك بعض ما ورد عن صاحب الشريعة المقدّسة في كلا القسمين.

الف: ما ورد في الفواعل الطبيعيّة(2)

في مختصر البصائر قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

أبي اللّه أن يجري الأشياء إلّا بالأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً، وجعل لكلّ

ص: 205


1- 252.. وقد تعرّضنا لبيان بعض المصالح والحكم في نظام العلّيّة والسببيّة المجعولة من اللّه تعالي بالجعل التكوينيّ في كتابنا شفاعت في الردّ علي ما ذهبت إليه الوهّابيّة من منافاة القول به مع الالتزام بالتوحيد.
2- 253.. لا يخفي أنّ مرادنا من «الفواعل الطبيعيّة» ليس ما يكون فاعلاً بالطبع ولا ما يكون له الاستعداد الذاتيّ للأثر بل المراد ما يكون مؤثّراً بالجعل التكوينيّ الإلهيّ في قبال فاعليّة الإنسان التي نعبّر عنها بالفاعليّة بالقدرة والارادة.

شرح مفتاحاً، وجعل لكلّ مفتاح علماً، وجعل لكلّ علم باباً ناطقاً، من عرفه عرف اللّه ومن أنكره أنكر اللّه، وذلك رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) ونحن.(1)

وفي كتاب تفضيل الأئمّة علي الأنبياء للحسن بن سليمان قال: ذكر السيّد حسن بن كبش في كتابه بإسناده مرفوعاً إلي عدّة من أصحاب رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) منهم جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ وأبو سعيد الخدريّ وعبد الصمد بن أبي أُميّة وعمر بن أبي سلمة وغيرهم قالوا: لمّا فتح النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) مكّة أرسل رسله إلي كسري وقيصر يدعوهما إلي الإسلام أو الجزية وإلّا آذنا بالحرب، وكتب أيضاً إلي نصاري نجران بمثل ذلك. فلمّا أتتهم رسله(صلي الله عليه آله و سلم) فزعوا إلي بيعتهم العظمي وكان قد حضرهم أبو حارثة أسقفهم الأوّل، وقد بلغ يومئذ مائة وعشرين سنة، وكان يؤمن بالنبيّ والمسيح(عليهما السلام) ويكتم ذلك عن كفرة قومه، فقام علي عصاه وخطبهم ووعظهم وألجاهم بعد مشاجرات كثيرة إلي إحضار الجامعة الكبري التيورثها شيث، ففتح طرفها واستخرج صحيفة شيث التي ورثها من أبيه آدم(عليه السلام)، فألفَوا في المسباح الثاني من فواصلها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم لا إله إلّا أنا الحيّ القيّوم، معقّب الدهور، وفاصل الأمور، سبّبت بمشيّتي الأسباب، وذلّلت بقدرتي الصعاب، وأنا العزيز الحكيم الرحمن الرحيم ... .(2)

وكان من دعاء الإمام السجّاد(عليه السلام) إذا عرضت له مهمّة أو نزلت به ملمّة وعند الكرب:

يا من تحلّ به عقد المكاره، ويا من يفثأ به حدّ الشدائد، ويا من يلتمس منه المخرج إلي روح الفرج، ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسبّبت بلطفك الأسباب، وجري بقدرتك القضاء، ومضت علي إرادتك الأشياء، فهي بمشيّتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة ... .(3)

وعن الإقبال في دعاء اليوم الثالث من شهر رمضان:

يا من تحلّ به عقد المكاره، ويا من يفثأ به حدّ الشدائد، ويا من يلتمس منه

ص: 206


1- 254.. مختصر البصائر، ص183، ح3 [162]؛ بحارالأنوار، ج2، ص90، ح15.
2- 255.. بحارالأنوار، ج26، ص309،ح77؛ اقبال الأعمال، ج1، ص506.
3- 256.. الصحيفة السجاديّه الكاملة، الدعاء السابعة، ص52.

المخرج إلي روح الفرج، ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسبّبت بلطفك الأسباب، وجري بطاعتك القضاء، ومضت علي إرادتك الأشياء، فهي بمشيّتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة.(1)

وعن مهج الدعوات: أخبرنا محمّد بن جعفر بن هشام الأصبغيّ، عن اليسع بن حمزة القميّ قال: أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة أنه جاء عليَّ بالمكروه الفظيع حتّي تخوفّت علي إراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلي سيّدي أبي الحسن العسكريّ(عليه السلام) أشكو إليه ما حلّ بي، فكتب إليّ:

لا روع عليك ولا بأس فادع اللّه بهذه الكلمات يخلّصك اللّه وشيكاً ممّا وقعت فيه، ويجعل لك فرجاً فإنّ آل محمّد يدعون بها عند إشراف البلاء، وظهور الأعداء، وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر.

قال اليسع بن حمزة: فدعوت اللّه بالكلمات التي كتب إليّ سيّدي بها في صدر النهار، فو اللّه ما مضي شطره حتّي جائني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي: أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه فلمّا بصر بي تبسّم إليّ وأمر بالحديد ففكّ عني، وبالأغلال فحلّت منّي،وأمرني بخلعة من فاخر ثيابه، وأتحفني بطيب، ثمّ أدناني وقرّبني وجعل يحدّثني ويعتذر إليّ، وردّ عليّ جميع ما كان استخرجه منّي وأحسن رفدي، و ردّني إلي الناحية التي أتقلّدها، وأضاف إليها الكورة التي تليها قال: وكان الدعاء:

يا من تحلّ بأسمائه عقد المكاره، ويا من يفلّ بذكره حدّ الشدائد، ويا من يدعي بأسمائه العظام من ضيق المخرج إلي محلّ الفرج، ذلّت لقدرتك الصعاب وتسبّبت بلطفك الأسباب، وجري بطاعتك القضاء، ومضت علي ذلك الأشياء، فهي بمشيّتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون وحيك منزجرة ... .(2)

ب: ما ورد في الفواعل الإراديّة

روي الكلينيّ مسنداً عن صالح النيليّ، قال: سألت أبا عبداللّه هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي:

ص: 207


1- 257.. اقبال الأعمال، ج1، ص252؛ بحارالأنوار، ج95، ص19، ح16.
2- 258.. مهج الدعوات، ص271؛ بحارالأنوار، ج92، ص229، ح27.

إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها اللّه فيهم، قال: قلت وما هي؟ قال: الآلة مثل الزاني إذا زني كان مستطيعاً للزنا حين زني، ولو أنّه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك، قال: ثمّ قال: ليس من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً، قلت: فعلي ماذا يعذّبه؟ قال: بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم ... .(1)

وروي الصدوق بسنده، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال:

ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر علي ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.(2)عن صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال اللّه تبارك وتعالي:

ابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(3) وذاك أنّي أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّئاتك منّي، وذاك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون.(4)

وقال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم «لا حول ولا قوّة إلا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلّا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(5)

ص: 208


1- 259.. الكافي، ج1، ص162، ح3( باب الاستطاعة)؛ مرآة العقول، ج2، ص218، ح3.
2- 260.. التوحيد، ص361، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح22.
3- 261.. النساء4.، الآية 79.
4- 262.. التوحيد، ص338 ؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104.
5- 263.. نهج البلاغة، حكمة 404، ص547.
المستفاد من الأخبار في نظام التأثير والتأثّر

فالمستفاد من هذه الأحاديث الشريفة أنّ سلسلة الأسباب والمسبّبات والتأثيرات والتأثّرات ثابتة في العالم، إلّا أنّ اللّه هو الذي جعل الأثر الخاصّ في السبب الخاصّ وهو الذي جعل المسبّب قابلاً لذلك الأثر، والتأثير والتأثّر(1) كلاهما مجعولان من اللّه تبارك وتعالي بالجعل التكوينيّ آناً فآناً ولحظةً بلحظة، ولا يخرجان عن تحت سلطانه تبارك وتعالي ولا يستغنيان عن جعله تعالي في آنٍ ولحظة، وكلّما أراد سلب الأثر أو التأثّر من المؤثّر والمتؤثّر يسلبه لأنّ ذلك التأثير والتأثّر ليسا من ذاتيّات الأشياء حتّي يمتنع سلبهما عن السبب والمسبّب، وقد فعل ذلك أحياناً كسلبه الحرارة من النار عندما اُلقي فيها خليله إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه السلام، ومنع تأثيرها علي الجسم القابل للاحتراق عندما ألقت أمّ موسي(عليهما السلام) ولدها في التنّور خوفاً من عمّال فرعون؛ فالأسباب إنّما صارت أسباباً باللّه تبارك وتعالي فإنّه سبحانه شاء ذلك بلطفه وحكمته، فهي بمشيّته دون قوله مؤتمرة وبإرادته دون نهيه منزجرة.

بطلان القول بالإستعدادات الذاتيّة

قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره):

اعلم أنّ الذي يستفاد من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة هو أنّ تأثيره سبحانه في الممكنات لا يتوقّف علي الموادّ والإستعدادات، و﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يقُولَ لَهُ كُنْ فَيكُونُ﴾.(2) وهو سبحانه جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواصّ أودعها فيها، وتأثيراتها مشروطة بإذن اللّه تعالي وعدم تعلّق إرادته القاهرة بخلافها، كما أنّه أجري عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذكر والأنثي وتولّد النطفة منهما وقرارها في رحم الأنثي وتدرّجها علقة ومضغة وهكذا فإذا أراد غير ذلك فهو قادر علي أن يخلق من غير أب كعيسي، ومن غير أمّ أيضاً كآدم وحوّاء، وكخفّاش عيسي وطير إبراهيم وغير ذلك من المعجزات المتواترة عن الأنبياء في إحياء الموتي. وجعل الإحراق في النار، فلمّا أراد غير ذلك قال للنار:

ص: 209


1- 264.. لا يخفي أنّ الاختلاف بين التأثير والتأثّر يكون باللحاظ والاعتبار فإذا لو حظ من جانب المؤثّر يقال له التأثير وإذا لو حظ من جانب المتأثّر يقال له التأثّر.
2- 265.. يس 36.، الآية 82.

﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَي إِبْرَاهِيمَ﴾.(1) وجعل الثقيل يرسب في الماء وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير علي الماء ورفعهم إلي السماء وجعل في طبع الماء الانحدار فأجري حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء حتّي تعبر بنو إسرائيل من البحر. ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شيء من المعجزات اليقينيّة المتواترة عن الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)؛ وكذا جري عادته علي انعقاد الجواهر في المعادن بأسباب من المؤثّرات الأرضيّة والسماويّة لبعض المصالح، فإذا أراد إظهار كمال قدرته ورفع شأن وليّه يجعل الحصا في كفّه دفعة جوهراً ثميناً، والحديد في يد نبيّه عجيناً، ويخرج الأجساد البالية دفعة من التراب في يوم الحساب؛ فهذه كلّها وأمثالها لا تستقيم مع الإذعان بقواعدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة.(2)

وغير خفيّ أنّ مراده(قدس سره) من جريان العادة يباين ما تبنّته المدرسة الأشعريّة من إنكار التأثيرات والتأثّرات ذلك أنّه(قدس سره) صرّح بأنّ اللّه تعالي قد أودع في الأشياء منافع وجعل لها تأثيرات مشروطة بإذنه تعالي وهذا ممّا ينكره الأشعريّ، إنّما غرضه(قدس سره) إبطال نظريّة الفلاسفة القائلين بالاستعدادات الذاتيّة في الأشياء ونظام العلّية القهريّة التي يستحيل -- بناءاً عليها -- انفكاك الأثر عن المؤثّر، وهذا القول هو الذييستلزم منه تكذيب جميع المعجزات اليقينيّة المتواترة عن الأنبياء وأوصيائهم(عليهم السلام).

خلقة جميع الأشياء من الماء

ويشهد علي ما ذكرنا: ما ورد عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) من أنّ مادّة خلقة جميع الأشياء جوهر واحد يسمّي بالماء وله أعراض وحدود مختلفة بإذن اللّه تعالي.

قال الرضا(عليه السلام) -- في مناظرته مع رؤساء الأديان -- لعمران الصابئ حينما سأله: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق؟ قال:

سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض،

ص: 210


1- 266.. الأنبياء 21.، الآية 69.
2- 267.. بحارالأنوار، ج57، ص187.

ولا يزال كذلك، ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة.(1)

فالنار والماء كلاهما من ذلك الجوهر والتغاير بينهما إنّما هو بالأعراض المجعولة من اللّه تبارك وتعالي بالجعل التكوينيّ، فليست الحرارة ذاتيّة للنار وكما أنّ البرودة ليست ذاتيّة للماء بل تكون جعليّة من اللّه تعالي بالجعل التكوينيّ، وتفصيل الكلام موكول إلي محلّه.

نظام الأسباب والمسببات والفواعل الإراديّة ليس بخارج عن إرادته تعالي وسلطانه

و بهذا البيان تنقلع مادّة الشبهة؛ فإنّ تحقّق المسبّب بواسطة السبب ليس خارجاً عن إرادته تعالي ولا عن حدود خلقته، لأنّه تعالي هو الذي جعل الأثر للمؤثّر، وهي بمشيّته وإرادته دون قوله ونهيه مؤتمرة، فوجود العلل والمعاليل لا يحدّد قدرة الباري تعالي لأنّه تعالي هو جاعلها ومدبّرها وهو الذي قدّر كلّ شيء بمقدار فكلّ سبب يؤثّر بقدر ما قدّر اللّه تعالي له ولا يخرج عن سلطان اللّه تعالي في وجه من الوجوه، بل ثبوتها دليل علي تقدير مقدّرها وربوبيّة الربّ لها.

هذا في الفواعل الطبيعيّة والأسباب والمسبّبات التكوينيّة، وأمّا في أفعال العباد الصادرة عن إرادتهم فكذلك لأنّ إسنادها إليهم لا يوجب خروجها عن سلطانه تعالي، لأنّ اللّه تبارك وتعالي هو الذي خلق الإنسان، وجعله عالماً قادراً مسلّطاً علي الفعل والترك، وأعطاه القدرة والسلطنة والإرادة علي الفعلوالترك، ومنحه الأعضاء والجوارح التي بها يستطيع علي أفعاله، ثمّ جعل أمر اختيار الفعل والترك وإعمال القدرة بيده كي يختار ما يريد بالقدرة والعلم الذي أعطاه تبارك وتعالي، فإنّه لو لا ذلك لم يكن قادراً علي اختيار الفعل أو الترك وإعمال القدرة، وقد ورد في الحديث القدسيّ عن اللّه تبارك وتعالي:

يابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي.(2)

وإنّما جعله مختاراً قادراً كي يصحّ التكليف والثواب والعقاب، والوعد والوعيد،

ص: 211


1- 268.. التوحيد، ص430، ح1؛ بحارالأنوار، ج10، ص310، ح1.
2- 269.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57 ح104.

والحساب، والجنّة والنار، ورقيّ الإنسان إلي أعلي درجات الكمال، «بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد».

حيثيّات فقر المؤثّر والفاعل إلي اللّه تعالي

فعلي ما ذكرنا لا يرد الإشكال بأنّه يلزم من ذلك الالتزام بوجود علل مؤثّرة في المعاليل وثبوت قدرة للعباد تستند إليها الأفعال استقلالاً في قبال فاعليّته تعالي وإرادته وسلطنته؛ لأنّ تأثير كلّ شيء وكذا تأثّره وفعل كلّ فاعل وإرادته يتوقّف علي إرادة اللّه وإذنه تعالي في نواحي عديدة حدوثاً وبقاءً:

منها: أن يخلق المؤثّر والعلّة، والفاعل والمريد ويديم خلقهما.

ومنها: أن يجعل في المؤثّر قابليّات التأثير، وفي الفاعل آليّات الفعل كالأعضاء والجوارح.

ومنها: أن يجعل ذلك الأثر الخاصّ في السبب.

ومنها: أن يقدّر تأثيره بمقادير وحدود مختلفة وفقاً لحكمته، فإنّ كلّ مؤثّر لا يكون له التأثير المطلق في جميع الأزمنة والأمكنة، بل هو الذي خلق كلّ شيء بمقدار.

ومنها: أن يجعل في المسبّب قابليّة قبول ذلك الأثر بمقدار معيّن، فليس كلّ مؤثّر بحيث يؤثّر في كلّ شيء، كما أنّ أثر الاحراق للنار لا يؤثّر في الماء ولا في الحديد لأنّ اللّه لم يجعل قابليّة الاحتراق فيهما.

ومنها: أن يهب للفاعل الإراديّ العلم والقدرة ويقدّرهما له فمن دونهما لا يقدر الإنسان علي شيء.

ومنها: التوفيقات والخذلانات وسيأتي الكلام فيهما.

وأنت خبير بأنّ كلّ واحد من هذه الأمور وغيرها ممّا لم نذكره -- ولعلّه الأكثر -- يحتاج إلي وسائط وأشياء وقابليّات وآليّات التي قد تبلغ الآلاف فبقاء عضو واحد من بدن الإنسان وبقاء فاعليّته يحتاج إلي أشياء عديدة: كالحياة وجريان الدم وعدم الشلل واستحكام

ص: 212

المفصل وصحّة القوي العصبيّة والدماغ والمخّ والعروق وأشياء كثيرة لا تبلغه أفهام البشر، وكلّ واحد منها بدوره يحتاج إلي أشياء أخري، ولو فُقد واحد منها في آنٍ من الآنات لا يؤثّر المؤثّر أثره، ولا يقدر الفاعل علي إيجاد الفعل. ووجود جميعها ودوامه إنّما هو بإرادة اللّه تعالي ومشيّته وتقديره وتدبيره، فلا يخرج عن سلطانه تعالي، ولا ينافي ذلك التوحيد لأنّ كلّ فاعل من الفواعل الإراديّة إنّما صار فاعلاً بجعله تعالي وإذنه التكوينيّ ومشيّته، كما أنّ جميع الأسباب والعلل إنّما صارت أسباباً وعللاً بجعله وإرادته ومشيّته تعالي.

زبدة المقال في التوحيد الأفعاليّ

وملخّص الكلام: أنّ الجعل والإيجاد الذي لا يصلح لغير الباري تعالي والذي يوجب -- نسبته إلي غيره تعالي -- الشرك وقام البرهان علي امتناعه، هو الجعل بالاستقلال، بحيث تكون فاعليّة الفاعل بالذات في عرض فاعليّته تعالي، ولكنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان ليست بالقدرة الذاتيّة بل بالقدرة التي أعطاها اللّه إيّاه وبتمليكه ما هو أملك به منه.

فإنّ القدرة ليست حيث ذواتنا بدليل الوجدان بعد الفقدان والفقدان بعد الوجدان، وبدليل كون قدرتنا مقدّرة ومحدودة، فانفكاك القدرة والسلطنة علي الفعل والترك وكذا المشيّة والعلم والعقل والحياة في بعض الأحيان عنّا خير شاهدٍ علي تغاير ذواتنا مع هذه الأنوار، وأنّ وجداننا لها إنّما يكون بتمليك مالكها ومشيّة خالقها وجعل جاعلها، بخلافه تعالي فإنّه قادر بالذات وعالم بالذات وحيّ بالذات، فحيث إنّ الإنسان كسائر الكائنات مجعول ومخلوق له تعالي، وجميع كمالاته من العلم والقدرة وغيرهما عطاء منه عزّوجلّ، وكان لكلّ فعل من أفعاله مقدّمات كثيرة خارجة عن قدرته وجميعها متحقّقة بمشيّة اللّه تعالي، فيصحّ أن يقال: إنّه تعالي قد هيّأ للإنسان أسباب عمل الخير والشرّ، فبإقداره تعالي نكون قادرين علي إرادة العملالصالح أو الطالح ومتي أراد سلب هذه القدرة منّا يسلبه فلا نقدر علي شيء «بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد.»

فالتوحيد الأفعاليّ إن كان بمعني إنكار نظام الأسباب والمسبّبات والقول بأنّ اللّه لا يَقدر

ص: 213

علي أن يُقدِر أحداً علي إيجاد فعل واختيار أمر، وإسناد جميع الحوادث والأمور إليه تعالي مباشرة، فهذه مقالة الأشعريّ المنافية لضرورة العقول حيث إنّنا نجد اختيارنا وقدرتنا علي الفعل والترك، ونجد سببيّة بعض الأشياء لبعض آخر، مع أنّه لم يُقِم الأشعريّ دليلاً يدلّ علي هذا النحو من التوحيد، بل الدليل قائم علي خلافه حيث إنّه تحديد لقدرته تعالي.

وإن كان بمعني عدم استقلال لشيء في التأثير سوي الباري تعالي وأنّ كلّ مؤثّر وفاعل سواه إنّما صار مؤثّراً وفاعلاً قادراً بإذنه ومشيّته تعالي، فهذا صحيح لا غبار عليه وتدلّ عليه الآيات والروايات الكثيرة مضافاً إلي ما نجده بعقولنا، ولكنّه لا يكون دليلاً علي الجبر، إنّما يكون مبطلاً للجبر والتفويض ودالّاً علي الاختيار الذي هو الأمر بين الأمرين.

الفرق بين ما به الوجود وما منه الوجود

قال بعض الأعاظم في ردّ هذه الشبهة: إنّ جميع العلل والأسباب بمنزلة المعدّات وتكون هي العلّة المادّيّة والصوريّة ويعبّر عنها بفاعل ما به الوجود، كما أنّ المفتاح بالنسبة إلي فتح الباب يكون ما به الوجود، وأمّا فاعل ما منه الوجود فهو الحقّ تعالي وهو العلّة الفاعليّة.

ولكنّا نقول: إنّ هذا الكلام علي تقدير صحّته إنّما يجري في الفواعل الطبيعيّة كالنار بالنسبة إلي الإحراق والماء بالنسبة إلي البرودة ونظائرها، فيقال مثلاً إنّ الإحراق صادر عن اللّه تعالي والنار معدّة له، وأمّا بالنسبة إلي الفاعل بالإرادة فلا تجري هذه القاعدة لأنّ الإنسان لو صار بمنزلة الآلة ومابه الوجود دون ما منه الوجود، بحيث إذا صار قابلاً لظهور الفعل الكذائيّ أظهر اللّه فيه ذلك الفعل، يكون ذلك عين الجبر وهو القول بأنّ الإنسان كالمنشار في يد النجّار، لا قدرة ولا سلطنة له علي اختيار الفعل أو الترك.

والحقّ ما بينّاه من أنّه لا دليل علي انحصار التأثيرات والأعمال في اللّه تعالي مباشرة، بل البرهانوالقرآن والسنّة يشهدون علي خلافه، حيث نجد وجود الفواعل الإراديّة

ص: 214

وغيرها. والالتزام بهذا لا ينافي التوحيد ما دام أنّ جميعها لا يستقلّ في التأثير والفعل، ففي الأسباب نقول كما قال اللّه في الحديث القدسيّ:

سبّبت بمشيّ--تي الأسباب.(1)

وفي الفاعل المختار نقول كما قال عزّ من قائل:

بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء.(2)

وسيأتي إن شاء اللّه في مبحث الأمر بين الأمرين -- عند التعرّض لتوضيح قوله تعالي:

يابن آدم أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي.(3)

ما ينفعك في هذا المقام.

ص: 215


1- 270.. بحارالأنوار، ج26، ص310، ح77.
2- 271.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57 ح104.
3- 272.. الكافي، ج1، ص157، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص16 ح20.

الوجه الرابع: الإرادة ليست إراديّة

اشارة

إنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان علي قسمين: اختياريّ وغير اختياريّ، فالأوّل كتحريك اليد عن اختيار، والثاني كحركة يد المرتعش. والجبر في النوع الثاني واضح. أمّا النوع الأوّل من الأفعال فبما أنّه ينتهي إلي علّته التامّة وهي الإرادة، وهذه العلّة لو كانت مستندة إلي علّة وإرادة أخري، والإرادة الثانية بدورها إلي ثالث وهكذا، فيتسلسل إلي ما لا نهاية له. وإن لم تكن مستندة إلي إرادة أخري يلزم الجبر لعدم انتهائها إلي الإرادة. وإذا كانت علّة وقوع الفعل خارجة عن الاختيار يكون صدور المعلول أيضاً خارجاً عن الاختيار، لاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة. فأفعالنا معاليل لإرادتنا والإرادة غير اختياريّة ولا يجوز العقاب علي أمر غير اختياريّ.

الجواب

هذا الدليل من أقوي أدلّة القائلين بالجبر، وقد مرّ منّا الجواب عنه بالمناسبة في غضون كلامنا.

منها: القدرة مناط الاختيار دون الإرادة

عند تحرير محلّ النزاع حيث أثبتنا أنّه ليس ملاك اختياريّة الأفعال انتهائها إلي الإرادة، إنّما يكونباستنادها إلي العلم والقدرة، وأنّ الإرادة الخالية عنهما لا تكون إرادة حقيقة.

ومنها: ليست الإرادة علّة تامّة للمراد

في ذيل الجواب عن قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد، حيث قال بعض:

لا منافاة بين هذه القاعدة واختياريّة الأفعال حيث إنّ الأفعال منتهية إلي الإرادة وهي علّة موجبة لها.

فقلنا: إنّ الإرادة بمعني العلم أو الشوق الأكيد والإرادة بمعني الذكر الثاني بعد المشيّة -- مع أنّها لا تصلح لأن تكون ملاكاً للختياريّة الأفعال -- ليست علّة تامّة لصدور الفعل بحيث يستحيل التخلّف عنها، بل العبد يكون قادراً علي الفعل والترك حتّي بعد إرادة الفعل والعزم القويّ عليه مادام لم يتحقّق في الخارج بإعمال الرأي والقدرة فيه، وقلنا إنّ هذا

ص: 216

القول جبر باسم الاختيار، وحقيقة الاختيار لا يتمّ إلّا باستناد الفعل إلي العلم والقدرة.

نعم الإرادة بمعني الرأي وإعمال القدرة تكون علّة تامّة لصدور الفعل ولكن أمرها بيد الفاعل القادر المختار، إن شاء فعل وإن شاء ترك ولا جبر في إعماله الرأي بأحد الطرفين بل له الحرّيّة التامّة في أن يشاء طرف الفعل أو طرف الترك كما مرّ توضيحه.

منها: عدم انحصار نظام التأثيرات في العلل الجبريّة

أنّه قد سبق منّا بيان مفاسد الالتزام بقانون العلّيّة في جميع الأشياء، وأنّه مناف للاختيار والقدرة والسلطنة التامّة في اللّه تعالي وفي خلقه. وأوضحنا أنّ المرجّح لوجود الفعل تارة يكون وجود السبب الذي سبّبه اللّه تعالي، وأخري اختيار المختار ومشيّته المستندة إلي القدرة التي منحها اللّه تعالي إيّاه، وكلاهما لا يخرجان عن سلطان اللّه تعالي؛ فقال الإمام(عليه السلام):

تسبّبت بلطفك الأسباب.(1)

وقال اللّه تعالي:

يابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوّتي أدّيت اليَّ فرائضي.(2)

وسيأتي بيانه مفصّلاً إن شاء اللّه تعالي.ونقول أيضاً:

أوّلاً: الإرادة فعل للنفس وليست صفة لها

إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو كانت الإرادة بمعني الشوق الأكيد التي هي صفة وحالة من حالات النفس ولا يتمّ لو كانت بمعني العزم وإعمال القدرة وحملة النفس التي هي من أفعال النفس، لأنّ الذي يمكن الالتزام بكونه غير اختياريّ -- ويحصل للإنسان من دون قدرته، واستناده إلي غيره يستلزم التسلسل -- إنّما هي حالة النفس وصفته وكيفيّته، لا فعل

ص: 217


1- 273.. الصحيفة السجادية الكاملة، الدعاء السابعة، ص54.
2- 274.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104.

النفس وحملته فإنّ الفعل لابدّ وأن ينتهي إلي القدرة كما هو واضح بالوجدان. وقد مرّ إبطال كون الإرادة بمعني الشوق الأكيد، فالإشكال إنّما يمكن أن يرد علي مبني غيرنا.

وثانيا: انتهاء الإرادة إلي العلم والقدرة

لا يجب أن تنتهي الإرادة إلي إرادة مثلها كي تصير اختياريّة، بل هي إنّما تنتهي إلي العلم والقدرة وهما ممّا منحهما اللّه تبارك وتعالي إيّانا، وملاك اختياريّة الفعل هو إستناده إلي العلم والقدرة، فتكون الإرادة الصادرة عنهما مقتضية لحركة النفس والعزم علي الفعل فيتحرّك العبد نحو تحقّقه، وذلك مع التحفّظ علي أنّ العبد قادر ومسلّط علي ترك ما أراد إيقاعه ما لم يقع في الخارج، وهذا ممّا نشاهده بالوجدان.

وبعد هذا البيان تعرف أنّه لا يتوجّه علينا الإشكال: بأنّه لو استحال أن تكون الإرادة مستندة إلي إرادة أخري للزوم التسلسل، فيجب أن تكون غير اختياريّة؛ لأنّا قلنا إنّ جوهر الاختيار ومناطه والملاك فيه هو صدور الفعل عن العلم والقدرة، والإرادة إنّما تكون منبعثة عنهما فتكون في دائرة قدرتنا وسلطاننا.

بعبارة أخري: إنّ الإرادة من الأفعال أو الكيفيّات النفسانيّة المقدورة للإنسان غاية الأمر أنّها عمل جوانحيّ، ونفس القدرة عليها تكفي لتحقّقها ولا تحتاج إلي إرادة أخري.

فإنّ الإرادة إمّا أن تكون بمعني العزم وإعمال القدرة وحملة النفس، وبناءاً علي ذلك تكون الإرادة فعلاً من أفعال النفس، وإمّا أن تكون بمعني الشوق الأكيد الذي هو صفة النفس. وكيفما كان إنّ اللّه تبارك وتعالي كما أعطي الإنسان القدرة والسلطنة عليالأعضاء والجوارح يقلّبها كيف يشاء، كذلك أعطاه القدرة والسلطنة علي جوانحه أيضاً، فهو قادر ومسلّط علي إيجاد الفعل النفسانيّ وعدم إيجاده، أو الصفة النفسانيّة وعدم إيجادها.

ومن أوضح الأدلّة علي ذلك هو المدح والذمّ وتعلّق الأمر والنهي بالأفعال والصفات النفسانيّة من الحبّ والبغض والحلم والغضب والصبر والرضا والبخل والسخاء والكرم، وإرادة الطاعة وإرادة المعصية كما سيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالي.

وإن أبيت إلّا عن عدم استناد الإرادة إلي القدرة، فإنّ ذلك يأتي فيما إذا كانت الإرادة

ص: 218

بمعني الشوق الأكيد الذي هو صفة من صفات النفس. ولا يمكن المصير إليه إذا كانت بمعني حملة النفس والعزم وإعمال القدرة، لأنّها من أفعال النفس ولا يعقل تحقّق الفعل إلّا بالعلم والقدرة كما هو مشاهد بالوجدان. وقد مرّ الدليل علي بطلان كون الإرادة هو الشوق الأكيد وقلنا إنّ الشوق حتّي الأكيد منه إنّما يصير داعياً للمختار فحسب، وهذا معني قولنا إنّ الإشكال إنّما يرد علي مبني غيرنا، وأمّا علي المبني المختار فالإرادة مستندة إلي القدرة، والسلطنة ثابتة للإنسان بالنسبة إلي الأفعال النفسانيّة كما أنّها ثابتة بالنسبة إلي الأفعال الخارجيّة بنحو سواء.

ولا يرد علينا إشكال استغناء الممكن عن الباري تعالي، لأنّ الإرادة كما بيّنا منتهية إلي العلم والقدرة، وهما ممّا أفاضه اللّه تبارك وتعالي علينا من دون مشيّتنا رحمة منه علينا، وبإفاضته نور العلم والقدرة وغيرهما جعلنا بالجعل التكوينيّ مختارين نختار ما نشاء ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.(1)

والشاهد علي ذلك هو الوجدان أيضاً، فإنّا نجد القدرة والسلطنة والعلم والفهم لأنفسنا في حال اليقظة دون النوم، وفي زمن الشباب لا حال الصغر ولا حال الهرم، وفي حال السلامة لا حال المرض، وليست هذه القدرة والعلم ثابتة لنا بالنسبة إلي جميع الأفعال والأشياء، فكم من عمل لا نقدر عليه وكم من شيء لا نعرفه، بل ما لا نقدر عليه ولا نعلمه أكثر مما نقدر ونعلم بما لا يحصي، فكلّ هذه آيٌ وبراهين علي أنّ القدرة والعلم ليسا حيث ذواتنا فقد نجدهما وقدنفقدهما، فيظهر بنور العقل أنّ حيث ذواتنا العجز والجهل، لأنّه لو كنّا قادرين وعالمين ذاتا لما جاز انفكاك القدرة والعلم عنّا أبداً، فإنّه من المستحيل انفكاك الذاتيّات عن الذات.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ اللّه تبارك وتعالي هو الذي يعطي العلم والقدرة كسائر النعم ويمنع ويقبض ويبسط، قال اللّه تعالي:

ص: 219


1- 275.. الكهف18.، الآية 29.

﴿وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾؛(1)

و﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفا وَشَيْبَةً يَ-خْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.(2)

وبعد ما ظهر ثبوت السلطنة والاختيار للإنسان، وبعد ما تبيّن أن ملاك اختياريّة الأفعال إنّما يكون بانتهائها إلي العلم والقدرة، وبعد ما اتّضح أنّ العلم والقدرة وكذلك سائر الكمالات إنّما تكون بإعطاء اللّه تبارك وتعالي، تنحسم مادّة الشبهة، فإنّه لا يصحّ أن يقال: ما هي العلّة لإعمال السلطنة والقدرة؟ فإنّه لو كان إعمال السلطنة متوقّفاً علي علّة توجب الفعل أو الترك بحيث لا يمكن إعمال القدرة من دون تلك العلّة، لمّا كانت السلطنة سلطنةً وتخرج القدرة والسلطنة عن حيثيّة كونها سلطنة تامّة، فإنّ حيثيّة الاختيار وحقيقة القدرة والحرّيّة لا تجتمع مع التوقّف علي وجود العلّة، لأنّ حقيقة السلطنة وحيث ذاتها هو التمكّن من إعمالها في الفعل والترك، فلو توقّفت علي علّة توجبها بحيث لا يتمكّن من إعمال القدرة إلّا بعد حصول تلك العلّة لكان ذلك منافياً لحقيقة ذاتها التي هي السلطنة التامّة والاستيلاء التامّ علي الفعل والترك.

فالقدرة لا تتوقّف علي قدرة أخري لكي تكون قدرة وإلّا يلزم الخلف. نعم يحتاج الإنسان إلي أن يفيض اللّه تعالي عليه نور القدرة والعلم كي يصبح قادرا.

وأمّا توقّف ترجيح أحد الجانبين علي وجود المرجّح والداعي فإنّما هو لخروجه عن اللغوية، وهو غير مؤثّر في القدرة وخارج عن محلّ النزاع البتّة.

محاولات غير مجدية للإجابة

وقد حاول بعض الجواب عن هذه الشبهة بوجوه لا تخلو عن المناقشة، ولا بأس بذكرها:

ص: 220


1- 276.. النحل16.، الآية70.
2- 277.. الروم30.، الآية 54.
الوجه الأوّل: اراديّة الإرادة ذاتيّة
اشارة

إنّ إراديّة الفعل الإراديّ بالإرادة وأمّا إراديّة الإرادة فبنفسها، كما أنّ ملوحة كلّ شيء بالملح وملوحة الملح بذاته، ودسومة كلّ شيء بالدهن ودسومة الدهن بذاته، وهذا ما لا يمكن المساعدة عليه.

الخلط بين الحيثيّة التعليليّة والتقييديّة

ولتبيين المرام لابدّ من ذكر مقدّمة فنقول: إنّ الحيثيّات تنقسم إلي قسمين تعليليّة وتقييديّة، فالحيثيّة التعليليّة هي علّة اتّصاف الممكن بالوجود، فإنّ اتّصاف كلّ ممكن بالوجود يحتاج إلي علّة، مثلاً إذا قيل: أكرمت زيداً لعلمه، يكون العلم علّة لتحقّق الإكرام ووجوده بالنسبة إلي زيد. وأمّا الحيثيّة التقييديّة فهي انضمام شيء إلي آخر كي يصحّ اتّصافه بصفة، فإنّ اتّصاف كلّ ممكن بصفة يحتاج إلي ضمّ مبدأ الوصف إليه، مثلاً إنّ اتّصاف الطعام بالملوحة أو الدسومة يحتاج إلي انضمام الملح أو الدهن إليه.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ هذا الجواب إنّما يتمّ في الحيثيّات التقييديّة لا التعليليّة، فمثلاً إذا سئل عن علّة ملوحة الطعام، يجاب بأنّه قد انضمّ إليه شيء من الملح، وإذا سئل عن علّة ملوحة الملح، فيجاب بأنّ ملوحته بنفسه لأنّها ذاتيّة له. أمّا في الحيثيّات التعليليّة فلا يصحّ هذا الجواب، حيث انّه إذا سئل عن علّة إكرام زيد، يجاب لأنّه عالم، وإذا سئل عن علّة وجود العلم لا يمكننا أن نقول لأنّ العلم ذاتيّ له.

وفي ما نحن فيه تكون الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة، فليس انضمام الإرادة إلي الأفعال سبباً لإراديّته (كما في انضمام الملح إلي الطعام) كي يقال: إنّ إراديّة الإرادة بنفسها، بل إنّ الإرادة علّة لأن يكون الفعل إراديّاً -- علي المفروض في الدليل -- (كما أن العلم علّة لإكرام زيد) فإذا سئل عن علّة إراديّة الإرادة لا يمكن أن يجاب بأنّها ذاتيّة لها، كما أنّه إذا سئل عن علّة وجود العلم لزيد أو عن علّة وجود الملح في الطعام لا يجاب بأنّه ذاتيّ له.

بعبارة أخري: أنّه إذا كان السؤال عن علّة اتّصاف شيء بصفة يمكن أن يجاب بأنّها ذاتيّة له، وأمّا إذا سئل عن علّة الوجود فلا يصحّ ذلك الجواب، والمستشكل هنا

ص: 221

يسئل عن علّة وجود الإرادة فإن كانت علّة وجودها إرادة اللّه يلزم الجبر وإن كانت إرادة أخري يتسلسل.

بعبارة ثالثة: معلوم أنّ دسومة كلّ شيء بالدهن ودسومة الدهن ذاتيّة، وملوحة كلّ شيء بالملح وملوحة الملح ذاتيّة، إلّا أنّ السؤال عن علّة وجود الدهن والملح، لا عن علّة اتصافه بالملاحة والدسومة.(1)

الوجه الثاني: صدق الشرطية متوقّف علي صدق الملازمة دون المتلازمين
اشارة

إنّ صدق القضيّة الشرطيّة ليس متوقّفاً علي صدق المتلازمين بل متوقّف علي صدق الملازمة فقط، مثلاً قضيّة: «إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة» صادقة وصدقها يتوقّف علي ثبوت هذه الملازمة فقط، ولا يتوقّف علي وجود النهار ولا علي طلوع الشمس بالفعل، فلذا تصدق هذه القضيّة ولو في الليل.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الاختيار عبارة عن كون المكلّف بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، فمهما صدقت هذه الشرطيّة والتلازم صدق الاختيار في الإنسان، وصدق هذه القضيّة لا تتوقّف علي صدق طرفيها، بمعني أنّها تكون صادقة ولو كان طرفاها مستحيلين، لأنّ مفاد هذه القضيّة أنّه لو تحقّقت الإرادة لتحقّق الفعل أو الترك، سواء كانت الإرادة ضروريّة أو ممكنة أو مستحيلة، فإنّ القضيّة الشرطيّة أحياناً تصدق مع كون المقدّم والتالي ضروريّين، كما في قولنا: إن كانت الأربعة زوجاً فالخمسة ليست بزوج، وكذا يمكن صدق القضيّة الشرطيّة مع استحالة طرفيها، كما في قوله تعالي: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلنا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾،(2) فهذه القضيّة صادقة وإن كان طرفاها مستحيلين، فكذا نقول إنّ قضيّة إن شاء فعل وإن شاء ترك صادقة وإن كانت المشيّة ضروريّة.

ص: 222


1- 278.. ولا يخفي عليك أنّ إشكالنا علي هذا القائل بنائيّ لا مبنائيّ، وإلّا فقد مرّ أنّ القول بالاستعدادات الذاتيّة في الأشياء غلط واضح.
2- 279.. الأنبياء21.، الآية 22.
تناقض الضرورة والإرادة

أقول: بطلان هذا الجواب واضح بعد ما ذكرنا من أنّ الاختيار لا يكون اختياراً إلّا إذا كان العبد قادراً ومسلّطاً علي الفعل والترك، وعلي ما فرض في هذا الكلام لا يكون للعبد قدرة وسلطنة علي الفعل والترك، وفيالحقيقة ليس له علي هذا الفرض مشيّة وإرادة كي يكون الحصول ضروريّاً، لأنّ الإرادة والضرورة مفهومان متناقضان لا يمكن أن يعرض أحدهما علي الآخر. ولقد بيّنا أنّه لا يمكن أن تخلو الإرادة والمشيّة عن القدرة والسلطنة، والإرادة الخالية عنها ليست بإرادة حقيقة. ومهما عرضت الضرورة علي أحد طرفي الفعل والترك يكون ذلك جبراً وخارجاً عن الإرادة و المشيّة، فعلي هذا لا يمكن أن يفرض كون المقدّم في قضيّة «إن شاء فعل وإن شاء ترك» ضروريّاً، لأنّ ذلك ينافي حيث ذاتها فيكون هذا الفرض في نفسه تناقضاً بيّناً، لأنّ المقدّم في تلك القضيّة أي قوله «إن شاء» يدلّ علي وجود القدرة والمشيّة في العبد، ففرض المقدّم ضروريّاً يدلّ علي عدم وجود القدرة والمشيّة وهذا تناقض صريح، ففرض عروض الضرورة علي المقدّم يستتبع إنعدام المقدّم برأسه فلا تصدق الملازمة بعد انعدام اللازم.

وملخّص الكلام: أنّه وإن كان صدق الشرطيّة لا يتوقّف علي صدق طرفيها إلّا أنّ تلك الكبري غير منطبقة علي ما نحن فيه، فكما أنّه لا يمكن أن يقال: إنّ صدق قضيّة إن كانت الأربعة زوجاً فالخمسة ليست بزوج لا تتوقّف علي فرض الزوجيّة للأربعة ويمكن صدقها حتّي مع فرض عدم الزوجيّة لها، فكذلك لا يمكن أن يقال: إن قضيّة إن شاء فعل وإن شاء ترك صادقة حتّي مع فرض عدم وجود القدرة في فرض وجود المشيّة. نعم يصحّ أن يقال: إنّ هذه القضيّة تصدق حتّي إذا لم يشأ العبد شيئاً بالفعل، بعد كونه قادراً علي المشيّة مهما أراد.

الوجه الثالث: اختيارية بعض مقدّمات الإرادة
اشارة

ما ذكره صاحب الكفاية في مبحث التجرّي وهو أنّ الإرادة علّة تامّة للفعل، لكنّها اختياريّة لأنّ لها مقدّمات جلّها أو كلّها اختياريّة، فمن تلك مقدّمات تصوّر الفعل والتصديق بفائدته

ص: 223

ومن الواضح أنّ التصوّر والتصديق فعلان اختياريّان.

وإليك نصّ كلامه في الجواب عن هذا الإشكال:

أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلّا أنّ بعض مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب علي ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة.(1)

المناقشة فيه
وهذا الجواب أيضاً مخدوش

فإنّا نسلّم أنّ بعض مقدّمات الإرادة اختياريّة إلّا أنّ الكلام يقع في إرادة تلك المقدّمات، فهل تكون إرادتها اختياريّة أو غير اختياريّة، فإن كان مستنداً إلي إرادة أخري وهكذا فيتسلسل، وإلّا يلزم الجبر لأنّ إرادة تلك المقدّمات غير إراديّة لعدم انتهائها إلي إرادة أخري، فيعود الإشكال.

ويرد عليه أيضاً أنّه بعد التأمّل فيما يترتّب علي الفعل من تبعة العقوبة والمذمّة يحصل له التصديق بتلك التبعة وبعد ذلك يحصل له العزم علي ترك الفعل فالتأمّل في أثر الفعل وإن كان اختياريّاً إلّا أنّه يكون مضطرّاً إلي تركه.

وبعبارة اُخري أنّه قبل التأمّل كان مجبوراً علي الفعل وبعده علي الترك وإن فرض أنّه كان في نفس التأمّل -- أي تصوّر ما يترتّب علي فعله من العقوبة والمذمّة -- مختارا.

الوجه الرابع: انتهاء الإرادة إلي ذاتيّات الإنسان
اشارة

ما يظهر من عبارة صاحب الكفاية في مبحث الطلب والإرادة والتجرّي، ولابدّ من التعرّض لها ثمّ نوضّحها: يقول في مبحث الطلب والإرادة:

العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ «السعيد سعيد في بطن أمّه، والشقيّ شقيّ في بطن أمّه» و«الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»، كما في

ص: 224


1- 280.. كفاية الأصول، ص260.

الخبر، والذاتيّ لا يعلّل، فانقطع سؤال: إنّه لم جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه والشقيّ شقيّ كذلك، وإنّما أوجدهما اللّه تعالي (قلم اينجا رسيد سر بشكست)، قد انتهي الكلام في المقام إلي ما ربّما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن اللّه الرشد والهداية وبه الاعتصام.(1)

وقال في مبحث التجرّي في جوابه الثاني عن تلك الشبهة:

يمكن أن يقال: إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعده عن سيّده بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكماأنّه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، وإن لم يكن باختياره إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكانه، وإذا انتهي الأمر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال بلم، فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثبوت للذات. وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان؟ والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ يكون ناهقاً؟ والإنسان لِمَ يكون ناطقاً؟ وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالي والبعد عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها، والنار ودركاتها، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها وتفاوتها في ذلك بالأخرة يكون ذاتيّاً، والذاتيّ لا يعلّل. إن قلت: علي هذا، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار. قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربّه أُنسه، ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ ﴾،(2) قال اللّه تبارك وتعالي: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَي تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾،(3) وليكون حجّة علي من سائت سريرته وخبثت طينته، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَ-حْيَي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾،(4) كيلا يكون للناس علي اللّه حجّة، بل كان له حجّة بالغة. ولا يخفي أنّ في الآيات والروايات، شهادة علي صحّة ما حكم به الوجدان الحاكم علي الإطلاق في باب الاستحقاق

ص: 225


1- 281.. كفاية الأصول، ص68.
2- 282.. الأعراف7.، الآية 43.
3- 283.. الذاريات51.، الآية 55.
4- 284.. الأنفال8.، الآية 42.

للعقوبة والمثوبة.(1)

توضيح كلام الآخوند

توضيحه: أنّ الإرادة كالعلم والحبّ من الصفات التي تحتاج إلي المتعلّق، ومتعلّقها هي الأفعال. مثلاً يقال: إنّ زيداً أراد الأكل أو الشرب كما يقال: إنّ زيداً أحبّ الأكل والشرب أو علمهما. وبعد تعلّق الإرادة بفعل يصحّ أن يقال: إنّ هذا الفعل إراديّ، ويكفي في اتّصاف الفعل بكونه إراديّاً تعلّق الإرادة به ولا يتوقّف علي تعلّق إرادة أخري بتلك الإرادة المتعلّقة بالفعل، كما هو كذلك في سائر الصفات ذات الإضافة. مثلاً يتعلّق العلم بقيام زيد، ونفس تعلّق العلم بالقيام يكفي في اتّصافالقيام بكونه معلوماً ولا يتوقّف علي تعلّق العلم بالعلم بقيام زيد كي يكون قيامه معلوماً، وهكذا الأمر بالنسبة إلي الحبّ فيكفي في صيرورة شيء محبوباً تعلّق الحبّ به ولا يتوقّف علي تعلّق الحبّ بالحبّ بالمحبوب.

وفي ما نحن فيه نقول: إنّ إرادية الأفعال إنّما هي بانتهائها إلي الإرادة، وصيرورة الفعل إراديّاً لا يتوقّف علي انتهاء الإرادة نفسها إلي إرادة أخري، بل إنّها ناشئة عن مقدّماتها وتلك المقدّمات تكون من لوازم ذات الإنسان. فكما أنّه لا يسأل لِمَ يكون الحمار حماراً كذلك لا يقال: لم اختار المطيع الطاعة والعاصي المعصية، فإنّ اختيارهما لذلك ناش عن إرادتهما والإرادة معلولة للمقدّمات الضروريّة الثبوت للذات. فذات العاصي تقتضي المعصية كما أنّ ذات المطيع تقتضي الطاعة. ولا يلزم من استناد الأفعال إلي الإرادة محذور التسلسل كما فرضه المستدلّ مع أنّ الأفعال لا تخرج عن كونها إراديّة، فإنّه لا يجب أن تتعلّق إرادة أخري بهذه الإرادة كي تصير الأفعال إراديّة، كما في العلم والحبّ.

ملاحظات علي كلام الآخوند
كيف اجتمع الجبر والاختيار؟

أقول: أنت خبير بأنّ حقيقة القدرة والاختيار هي السلطنة علي الفعل والترك فكيف يمكن

ص: 226


1- 285.. كفاية الأصول، ص260.

جعل اسم الاختيار علي الجبر بصورة الاختيار بالنسبة إلي الفعل والترك ولا يكاد يكون تحت سلطنته وقدرته؟

فإنّ مآل كلامه هو أنّه لو وجدت العلّة التامّة لتحقّق المعلول لا محالة ولا يمكن له اختيار الترك، ولو لم يوجد يمتنع، ومن الواضح أنّ الضرورة لا تجتمع مع الاختيار.

وقد صرّح في هذه العبارة بأنّ إرادة العبد إنّما تكون معلولة لمقدّماتها، والمقدّمات معلولة للشقاوة الذاتيّة اللازمة لخصوص ذات العبد، فكأنّه أراد إرجاع سلسلة العلل والمعاليل إلي الشقاوة أو السعادة الذاتيّة للعبد حتّي لا يحتاج إلي إرجاعها إلي الشقاوة والسعادة المجعولة له بمفاد كان الناقصة، بل تكون الشقاوة أو السعادة مجعولة من اللّه جلّ شأنه بالجعل البسيط ومفاد كان التامّة، لكي ينقطع السؤال بلِمَ.فلابدّ من أن نسأل المحقّق الخراسانيّ أنّه إذا أوجد اللّه تبارك وتعالي إنساناً شقيّاً بحيث تكون الشقاوة عين ذاته وغير مجعولة له بالجعل التركيبيّ، ثمّ صارت هذه الشقاوة الذاتيّة علّة لحصول مقدّمات الإرادة، وصارت هذه المقدّمات بدورها علّة لحصول الإرادة، والإرادة علّة لصدور الكفر والعصيان من العبد، فلابدّ من أن يستنتج بأنّه في جميع هذه السلسلة لا يمكن بل لا يعقل تخلّف المعلول عن العلّة، وعليه هل يمكن إسناد الكفر إلي العبد؟

وهل كان له اختيار وإرادة في ذلك؟

وهل كان هو مسلّطاً علي الفعل والترك؟

أو أنّ اللّه تعالي خلق الكفر بخلق علّته التامّة وإيجادها؟

أليس من الصحيح إسناد الفعل إلي من أوجد علّة حصوله، مثلاً لو أوجد أحد مقدّمات اشتعال النار فاشتعلت وصارت علّة لاحتراق البيت، هل العقلاء يعاتبون النار علي إحراق البيت أو يعاتبون من أوجد مقدّمات الاحتراق؟

وفي ما نحن فيه هل اللوم والعتاب علي العبد وهل يستحقّ هو العقاب أو علي من أوجد علّة صدور هذا العصيان منه بحيث لم يكن هو قادراً علي الامتناع منه وذلك لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة؟

ص: 227

تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنّه أعدل من أن يجبر عبداً علي فعل ثمّ يعذّبه عليه.

و أمّا ما ذكره: من إرجاع مقدّمات الإرادة إلي الشقاوة والسعادة الذاتيّتين للإنسان.

خروج الذاتيّات عن سلطان العبد

ففيه أوّلاً: كون الشقاوة والسعادة مجعولتين بمفاد كان التامّة بمعني أنّه بمجرّد خلق العبد تكون السعادة والشقاوة مخلوقتين لأنّهما عين ذاته؛ لا يجدي في الجواب عن الشبهة، إنّما المهمّ في الالتزام بمقالة الجبر هو إرجاع سلسلة العلل إلي ما لا يكون تحت سلطان العبد وكانت مجعولة من قبل اللّه تعالي، سواء كان بالجعل البسيط أو بالجعل التركيبيّ، فإنّ بساطة الجعل -- أي: عدم عروض الشقاوة علي الإنسان بمفاد كان الناقصة -- لا يخرج الفعل عن كونه ضروريّاً واجباً،مثلاً كون الإحراق مجعولاً للنار بنحو مفاد كان التامّة لا يخرجه عن كونه ضروريّ الحصول عند حصول النار.

لا معني للسعادة والشقاوة الذاتيّتين

وثانياً: لا معني لكون السعادة والشقاوة ذاتيّتين للإنسان؛ فإنّ الذاتيّ له معنيان: أحدهما: الذاتيّ في باب الإيساغوجيّ وهو عبارة عن الجنس والفصل بالنسبة إلي النوع من الكليّات الخمسة. وثانيهما: الذاتيّ في باب البرهان، وهو ما يكون نفس تصوّر الشيء كافياً لتصوّره، كتصوّر الإمكان بمجرّد تصوّر الإنسان بلا ضمّ ضميمة من الخارج، وكتصوّر الزوجيّة عند تصوّر الأربعة.

والسعادة والشقاوة ليستا من ذاتيّات الإنسان لا بالمعني الأوّل لأنّهما ليستا بجنس ولا فصل للإنسان، ولا بالمعني الثاني لأنّه لا يلزم من تصوّر الإنسان تصوّر الشقاوة أو السعادة، وإذا كان الأمر كذلك فثبوتهما للإنسان يحتاج إلي العلّة شأن جميع ما يعرض علي الذات ممّا يكون خارجاً عنه، فقوله «الذاتيّ لا يعلّل» باطل ومنتف في هذا المقام بانتفاء موضوعه.

ص: 228

لوازم فاسدة مترتبة علي المبني

وثالثاً: الالتزام بهذه المقالة يستلزم توالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها

منها: إنكار العفو والغفران والشفاعة والتوبة، لأنّ هذه الأمور -- بناءاً علي هذه النظريّة -- سبب لتغيير الذات بمعني أنّ العفو أو التوبة أو الشفاعة بالنسبة إلي العاصي أو الكافر -- وهما بحسب الذات شقيّان -- يستلزم صيرورتهما سعيدين بحسب الذات، وهو مستحيل عند القائل بكون السعادة والشقاوة ذاتيّين وكذا إسلام الكافر لا يمكن إلّا بانقلاب شقاوته إلي السعادة وهذا مستحيل علي فرض ذاتيّتهما.

ومنها: إنكار سؤال اللّه تعالي عن أفعال العباد يوم القيامة؛ فإنّ صاحب الكفاية قد صرّح في عبارته بأنّه لا يمكن السؤال بأنّه لِمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان والمطيع والمؤمن الطاعة والإيمان، فإنّه يساوق السؤال عن سبب صيرورة الحمار ناهقاً والإنسان ناطقاً، فحينئذ نسأل: ما معني قوله تعالي: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ﴾،(1) وقوله تعالي: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾،(2) وقوله عزّ وجلّ: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَإِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾،(3) وساير ما ورد من النصوص القطعيّة الضروريّة الدالّة علي السؤال من المجرمين والعاصين وغيرهم؟!

فالقول بالسعادة والشقاوة الذاتيّتين مستلزم لإنكار السؤال وهو من ضروريّات الدين والشريعة وممّا نطق القرآن به صريحاً في الآيات الكثيرة وممّا يجب الاعتقاد به وحكم إنكار الضروريّ مع العلم بكون ضروريّاً واضح لا يخفي علي أحد.

ومنها: إنكار العذاب، فإنّه من الواضح أنّ تعذيب الكافر بسبب شقاوته الذاتيّة من أقبح وجوه الظلم ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾،(4) مثلاً لو كان اختيار الإنسان للمعاصي ذاتيّاً

ص: 229


1- 286.. الصافّات37.، الآية 24.
2- 287.. التكاثر102.، الآية 8.
3- 288.. الأعراف7.، الآية 6.
4- 289.. فصّلت41.، الآية 46.

له لأجل الشقاوة الذاتيّة مثل النطق بالنسبة إلي الإنسان والنهق بالنسبة إلي الحمار (علي ما ذكروه)،(1) فهل يجوز عتاب الإنسان لأجل كونه ناطقاً وعقاب الحمار لأجل كونه ناهقا؟!

إذا كان الأمر كذلك فياتُري كيف ارتضي صاحب الكفاية أن ينسب مثل هذا الظلم إلي اللّه تعالي؟

فإنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي إنّما يكون مثل كون الحمار حماراً، والقول بأنّ الكافر أو العاصي يختار الكفر أو العصيان إنّما هو مثل أن يقال أنّ الحمار قد اختار كونه حماراً والإنسان صار باختياره إنساناً ناطقاً، فعلي ماذا يعذّبه ربّه؟

وهل يعذّب الربّ المتعال العبد علي فعل نفسه وجعله الشقيّ شقيّا؟

وقد قال تعالي في غير واحد من آيات الذكر الحكيم:

﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛(2)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛(3)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾.(4)

وقد ورد في الحديث عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال له رجل: أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ فقال:

إنّ اللّه أعدل من أن يجبرهم علي المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها.(5)

وعن أبي جعفر وأبي عبداللّه(عليهما السلام) قالا:

إنّ اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه علي الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها.(6)

ص: 230


1- 290.. فإنّه لو كان النطق بمعني العقل فهو ليس ذاتيّاً للإنسان، كما حقّق في محلّه كما أنّه ليس ذاتيّاً له بسائر المعاني.
2- 291.. آل عمران3.؛ الآية 182؛ الأنفال8.، الآية 51؛ والحجّ22.، الآية 10.
3- 292.. يونس10.، الآية 44.
4- 293.. النساء4.، الآية 40.
5- 294.. الكافي، ج1، ص159، ح11.
6- 295.. الكافي، ج1، ص159، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح82.
زبدة المقال في نقد كلام الآخوند

وزبدة القول: أنّ هذا التوجيه من الآخوند في ردّ شبهة الجبريّة لا يختلف في الحقيقة عن مسلك المجبّرة ويلزم عليه من المفاسد ما يلزم عليهم، نعم يختلف ما ذكره عن مقالة الجبريّين في مدخل البحث وكيفيّة الخروج منه. وقد مرّ شطر من مفاسد القول بالجبر في بداية البحث.

وليت شعري كيف ارتضي الآخوند أن ينسب هذه النظريّة السخيفة إلي الآيات والروايات؟ أليس كلّ من يراجعها يجد بالضرورة أنّها ليست إلّا بصدد إبطال تلك النظريّة الفاسدة التي لا تليق بساحة كبرياء اللّه تعالي، فإنّها تكون في الحقيقة افتراءاً ونسبة ظلم عظيم إليه، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً﴾.(1)

وأمّا الكلام في الأحاديث التي تمسّك بها لإثبات مرامه فسنتكلّم عنها في الأدلّة النقليّة، إن شاء اللّه تعالي.

ص: 231


1- 296.. الإسراء17.، الآية 43.

الوجه الخامس: وجود الدواعي وإستحالة الترجيح من دون المرجّح

اشارة

ذهبوا إلي أنّ الأفعال تصير واجبة من جهة الدواعي علي الفعل والترك، مثلاً: إنّا نري أنّ الذي يتربّي في الأوساط الدينيّة تكون دواعيه علي الطاعة والإيمان أكثر من غيره، فكثيراً ما يؤمن وينقاد، بخلاف من كانت نشأته في الأجواء الكافرة أو في أجواء غير ملتزمة، وواضح أنّ توفّر دواعي الإيمان لأحد ودواعي الكفر لآخر يوجب صدور الإيمان عن الأوّل والكفر عن الثانيّ فالطاعة والمعصية من الإنسان ليستا اختياريّتين له، وبالتالي لا يكون الكفر والإيمان اختياريّاً له.

بعبارة أخري: إنّ اختيار كلّ واحد من الطاعة والمعصية لابدّ وأن يكون لأجل مرجّح وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح، وهذا المرجّح إنّما هو الدواعي الموجودة في الإنسان، واختلاف هذه الدواعي في مختلف الناس لا يكاد يكون عن اختيارهم، فترجيح جانب الكفر للكافرإنّما هو لأجل توفّر الداعي عنده وإلّا يكون ترجيحاً من غير مرجّح، ووجود هذا الداعي وعدمه لا يكون تحت اختياره فلا يكون الكفر منه اختياريّاً. ولذا لو كانت دواعي الإيمان لديه متوفّرة كان يؤمن قطعا.

الجواب:
هيمنة القدرة علي جميع الدواعي وهي المرجّحة للفعل أو الترك

قد مرّ أنّ ما يسمّونه بقاعدة استحالة الترجيح من غير مرجّح، إنّما تصحّ إذا كان المراد منها ما يساوق امتناع الفعل من دون الفاعل والحادث من دون المحدث، وقلنا: إنّ المرجّح لجانب الوجود قد يكون توفّر العلّة التامّة (بالمعني الذي ذكرنا) وقد يكون نفس إرادة المختار، فكما أنّه بعد حصول العلّة لحدوث شيء لا يسأل عن المرجّح لوجوده، فكذلك بعد تعلّق المشيّة والإرادة من العبد بتحقّق شيء لا يسأل عن المرجّح لذلك لأنّ هذه المشيّة والإرادة هي بمثابة المرجّح لجانب الوجود ولا يحتاج إلي مرجّح آخر، وذلك لأنّ الإرادة كما قلنا عبارة عن إعمال القدرة والعزم الوارد علي جميع الأشواق، فلو احتاج اختيار أحد طرفي الفعل أو الترك إلي شيء وراء نفس القدرة والرأي والاختيار بحيث لا يتمكّن الفاعل

ص: 232

من اختيار الفعل إلّا إذا كان ذلك الشيء موجوداً، لا تكون القدرة قدرة ولا الاختيار اختياراً، ولا يكون الفعل منبعثاً عن القدرة والاختيار، بل يكون الفعل منبعثاً عن مرجّح تعلّق الإرادة بأحد الطرفين، لأنّه حسب الفرض لا يتمكّن الفاعل من دونه علي شيء ولا يقدر علي إرادة الفعل أو الترك واختياره.

ففرض لابدّيّة وجود المرجّح في اختيار الفاعل الفعل أو الترك -- سوي رأي الفاعل القادر -- مناف للاختيار ومناف للقدرة والسلطنة التامّة المفروض وجدانها بالضرورة.

بل تعلّق الاختيار والإرادة بأحد طرفي الفعل أو الترك يكون برأي القادر الملتفت، فإن احتاج القادر إلي مرجّح سوي رأيه يكون مجبوراً لا مختارا.

بعبارة أخري: إنّ ترجيح أحد الأمرين علي الآخر لا يعقل إلّا إذا كانا متساويين كي يصحّ أن يقال: إنّوجود المرجّح صار سبباً لترجيح أحدهما علي الآخر، فالترجيح وارد علي المساوي بما أنّه مساوٍ للآخر.

ومن الواضح أنّ القدرة عبارة عن السلطنة التامّة علي الفعل والترك وتساويهما في إمكان تعلّق إرادة المكلّف ومشيّته بكلّ واحد منهما؛ فتساوي الفعل والترك إنّما هو لأجل قدرة العبد وسلطنته علي كليهما بحيث يتمكّن من اختيار كلّ واحد منهما حتّي مع توفّر الدواعي في أحد الطرفين.

وأمّا لزوم وجود المرجّح فإن كان المرجّح -- غير رأي القادر الملتفت -- سبباً لوجوب أحد الطرفين فهو يرجع إلي ما سبق بيانه من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ومرّ المناقشة فيه فراجع.

وإن لم يكن المرجّح سبباً لوجوب أحد الطرفين، بمعني بقاء سلطنة العبد علي كلا الطرفين حتّي بعد وجود المرجّح في أحدهما فواضح أنّ توقّف تعلّق المشيّة والإرادة بأحد الطرفين علي مرجّح -- للخروج عن اللغويّة -- غير مناف لسلطنة العبد، ولا يوجب القول بالجبر ولا ضير فيه. مع أنّ المرجّح هو اختيار العبد ومشيّته ولا يتوقّف تعلّق المشيّة والإرادة بأحد الطرفين علي أمر زائد علي نفس الإرادة والاختيار، فإنّ المرجّح هو الفاعل بما له من القدرة والاختيار والمشيّة.

ص: 233

عدم استحالة الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة

وقد قلنا سابقاً إنّ العاقل بما هو عاقل يختار ما يكون راجحاً حتّي لا يرتكب اللغو الذي يقبح صدوره عن العاقل فإنّ الترجيح بلامرجّح في الأفعال الاختياريّة لغو وقبيح.

ويشهد علي ذلك: -- مضافاً إلي ما نشاهده من أنفسنا من القدرة والسلطنة علي الفعل والترك، فإنّ مقدوريّة الفعل كمقدوريّة الترك ولا فرق بينهما من حيث كون كلّ واحد منهما مقدوراً للفاعل، وإن كان صدور أحدهما سهلاً وصدور الآخر صعباً لوجود الدواعي علي أحد الطرفين دون الآخر -- أنّا نقدر علي اختيار طرف الفاقد للمرجّح وقد نختاره أيضاً، وعندما نختار ذي المرجّح نشاهد أنّا كنّا قادرين علي اختيار الطرف المقابل، مثلاً لو كان هنا عطشان وكان بين يديه إناء من الماء العذب البارد، فمع أنّ المرجّح لشرب الماء عنده قويّ وتامّ، يكون هو مختاراً وقادراً علي الشرب وعدمه، حتّي لوشربه يجد أنّه كان قادراً علي عدم الشرب إلي أن يموت، كما نقل عن مولانا العبّاس(عليه السلام) في يوم عاشوراء من عدم شربه الماء مع شدّة عطشه، وأحياناً لا يشربه من دون أيّ وجه، وقد يأتي بفاقد المرجّح لإثبات قدرته.

لا يقال: إنّ هذا هو المرجّح، لأنّ الكلام في لزوم وجود مرجّح في الفعل أو الترك غير القدرة.

لأنّه يقال: نسلّم أنّ عدم الشرب من دون المرجّح والداعي يكون عبثاً وقبيحاً، إلّا أنّ الكلام في وجود القدرة عليه لا في قبح الفعل وحسنه، فاختيار الراجح إنّما يخرج الفعل عن اللغويّة مع المحافظة علي أنّ الفاعل كان قادراً علي اختيار الطرف المرجوح وارتكاب اللغو، وإلّا لا وجه لكون الإعراض عن اللّغو من صفات المؤمنين كما قال تعالي: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾.(1)

بل قد لا يكون اختيار أحد الطرفين متوقّفاً علي وجود المرجّح الموجب لخروج الفعل عن اللغويّة، ويختار العبد أحدهما بلا وجود مرجّح فيه ولا يكون لغواً، كما لو لم يكن لأحد طرفي الفعل ترجيحاً علي الآخر وتعلّقت الحكمة باختيار أحد الطرفين المتساويين، مثل

ص: 234


1- 297.. المؤمنون23.، الآية 3.

الهارب من السبع إذا وصل إلي طريقين فهو مع جهله بخصوصيّاتهما أو العلم بتساويهما -- كما لو أخبره النبيّ أو الإمام(عليهما السلام) بتساويهما -- لا يتوقّف عن اختيار أحدهما لعدم ترجيح أحدهما علي الآخر عنده، بل في الواقع -- كما في صورة إخبار المعصوم(عليه السلام) بالتساوي -- في جميع الجهات ومع ذلك يري حرّيّته التامّة في اختيار أيّ الطرفين.

وتوهّم: كفاية وجود المرجّح والداعي بالنسبة إلي الجامع، واضح الفساد، فإنّ الجامع ليس له وجود خارجيّ -- سوي وجوده بوجود أفراده مع إلغاء الخصوصيّات -- ومن الواضح أنّه لا يعقل اختيار الجامع لما ذكر من أنّه لا وجود خارجيّ له.

بعبارة أخري: أنّ هنا -- علي ما توهّم -- إرادتان: إرادة بالنسبة إلي الجامع المردّد وإرادة بالنسبة إلي تحقّق الجامع في ضمن فرد معيّن، والأولي وحدها لا تكفي في حصول الغرض لأنّ الواحد المردّد لا علي التعيين ليس له وجود خارجيّ، إنّما النافع في تحصيل الغرض هيالإرادة الثانية والمفروض عدم وجود الداعي والمرجّح بالنسبة إليها.

وهنا أمثلة أخري يتّضح من جميعها أنّ الدواعي لا توجب ضرورة الفعل فالداعي لا يرتبط بوجود الفعل وعدمه، إنّما الدواعي توجب خروج الفعل عن اللغويّة في بعض الأحيان.

يقول العلّامة(قدس سره) في ردّ هذه الشبهة:

علي أنّ هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوّزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه علي الآخر من غير مرجّح وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم.(1)

جواب الفلاسفة والمناقشة فيه

وقد أجاب الفلاسفة عن تلك الأمثلة: بأنّ الداعي إلي اختيار أحد الطريقين أو أكل أحد الطعامين أمور تحدث في النفس بسبب المرجّحات الواقعيّة، وتلك المرجّحات معلومة ومكشوفة للّه تعالي وللملائكة وإن كان الفاعل جاهلاً بها، والذي يوجب اختيار الفعل هي تلك الدواعي الموجودة في الواقع والمجهولة للفاعل.

ص: 235


1- 298.. كشف المراد، ص 309.
ولكنّ الجواب مخدوش من وجوه:

الأوّل: أنّ الداعي إنّما يكون داعياً إذا كان الفاعل عالماً به، والوجود الواقعيّ للداعي لا يوجب كونه داعياً ما لم يعلمه الفاعل كما هو واضح، وقد قالوا إنّ العلل الغائيّة متقدّمة علي الفعل تصوّراً ومؤخّرة عنه وجودا.

الثاني: غاية مايمكن أن يدّعي احتمال وجود المرجّح في الواقع بالنسبة إلي ما اختاره الفاعل، ولادليل علي إثباته، وكيف يمكن إثبات ذلك مع جهل الفاعل به؟

الثالث: هل يستحيل أن يكون الطرفان متساويين من جميع الجهات؟ فلو أخبره الصادق المصدّق بعدم ترجيح أحدهما علي الآخر في الواقع، هل يتوقّف هذا الهارب عن اختيار أحد الطريقين إلي أن يأكله السبع؟

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ توفّر دواعي الشرك والكفر والعصيان عند أحد لا يوجب صيرورة الكفر أو العصيان ضروريّاً عليه بحيث لا يقدر علي الإيمان، فلذا ربما يؤمن من كان يعيش في الأجواء الغير الدينيّة وكان مولوداً من أبوين كافرين وكانت دواعي الكفروالعصيان متوفّرة لديه؛ نعم إنّ اختيار الإيمان والتقيّد بآداب الإسلام سوف يكون أصعب عليه من غيره، ولكنّ المصحّح للتكليف هو وجود القدرة علي الفعل والترك لا صعوبة التكليف وسهولته، إنّما الصعوبة والسهولة توجب كثرة الثواب علي العمل وقلّته، فمع وجود القدرة يصحّ التكليف ولو كان صعباً. هذا، وفي الجواب عن الإشكال الآتي ما ينفع في المقام.

ص: 236

الوجه السادس: الخُلقيّات وتأثيرها في الإرادة

اشارة

قالوا: إنّ منشأ الأفعال الاختياريّة هو الميل النفسانيّ، فإنّ للدواعي النفسانيّة والخُلقيّات دوراً كبيراً في الميل والشوق إلي الأفعال التي تصدر عن الإنسان، وتختلف أفعال العباد باختلاف خُلقيّاتهم المختلفة، فإنّ الشجاع يكرّ علي الأعداء بينما الجبان يفرّ منهم، والكريم يبذل ماله عن طيب نفسه والبخيل يمسك يده عن الإنفاق، والمتكبّر يظهر آثار التكبّر في مشيه وقيامه وقعوده، بينما المتواضع لا يشتاق إلي هذه الحركات أصلاً، فلذا قال اللّه تعالي: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَي شَاكِلَتِهِ﴾(1) أي: علي سجّيّته وخُلقه.

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّ تلك الخُلقيّات علي قسمين: كسبيّ وجبلّيّ، وغالبها من القسم الثاني. ولها مناشئ مختلفة:

منها: تأثير الطينة التي خلق منها الإنسان كما أُشير إليه في روايات الطينة، فلو كانت الطينة عذباً فراتاً يميل صاحبها إلي الخيرات وإن كانت ملحاً أجاجاً يميل إلي الشرور.

منها: الوراثة عن الأبوين فإنّ الصفات الحسنة والسيّئة تنتقل منهما إلي الولد، حتّي ورد في بعض الأخبار تأثير الزنا إلي سبعة بطون، وورد في باب الرضاع الأمر باختيار المرضعة المؤمنة لأنّ الرضاع يغلب الطباع، وورد في الأخبار أنّ من زوّج كريمته من شارب الخمر فقد ضيّع نسله، إلي غير ذلك ممّا يدلّ علي تأثير سجيّة الوالدين بل الأجداد علي الولد.

منها: الأطعمة والأشربة.منها: محلّ الولادة فإنّ للمناطق الحارّة تأثيراً في الجسم والروح وللمناطق الباردة تأثيرات أخري.

منها: محلّ العيش والسكونة والاجتماع الذي يعيش فيه الإنسان.

منها: التعليم والتربية والمجالسة.

إلي غير ذلك من أسباب حصول الخُلقيّات في الإنسان وهي كثيرة، وواضح أنّ جلّها أو كلّها خارجة عن اختيار الإنسان ومهما يكون حصول السجيّات والأميال

ص: 237


1- 299.. الإسراء17.، الآية 84.

النفسانيّة خارجة عن إرادة العبد فبالتالي تكون الأفعال الناشئة من تلك الخلقيّات أيضاً خارجة عن اختياره.

الجواب:

قد يطرح هذا الدليل بعنوان أخبار الطينة وقد يطرح مستقلّاً، ونحن بحول اللّه وقوّته نفصّل الكلام في أخبار الطينة عند التعرّض للأدلّة النقليّة التي تمسّكوا بها للجبر مشروحاً ونبيّن وجوه الجواب عنها، ونشير هنا إلي أمرين فقط:

الأمر الأوّل: القدرة مناط التكليف لا الأخلاق

إنّا لا ننكر تأثير الأخلاق والسجيّات في نفس الفاعل بالنسبة إلي الأفعال التي تصدر عنه من جهة الميل والكراهة، وبديهيّ أنّ أسبابها مختلفة في كلّ إنسان، ولكنّ الكلام في أنّ هذه الخُلقيّات هل تصير سبباً لضرورة الفعل بحيث لا يقدر من يتّصف بالأخلاق السيّئة أن يمتنع عنها أم لا؟

من الواضح أنّ الخُلقيّات إنّما تصير سبباً لحدوث الميل في الإنسان وهو لا يوجب صيرورة الفعل أو الترك ضروريّاً بحيث لا يقدر الإنسان علي الإقدام علي خلاف ميله وشوقه. مثلاً إنّ لولد الزنا رغبة في الفجور ولكنّه ليس مضطرّاً إليه بحيث لا يمكن له تركه، نعم إنّه يحتاج إلي المجاهدة مع شهوات نفسه أكثر من غيره وهو الجهاد الأكبر، وهكذا من يعيش في بلاد الكفر تكون له الرغبة في المعاصي أكثر ممّن يعيش في بلاد الإسلام لكنّه ليس مضطرّاً إليها.

ولو كانت الرغبة في المعاصي سبباً لصيرورة الفعل ضروريّاً لما كان وجه لاختصاصها بمن يعيش في بلاد الكفر أو من ولد من الزنا مثلاً، لأنّ الميل والشهوة والرغبة في المعاصي ثابتة لجميع البشر، وشدّة الداعي لا توجب صيرورة الفعل ضروريّاً فيمن كان داعيه أقوي من الآخر.

بعبارة أخري: لو كان جميع الناس متساوين في نسبة شهوتهم وميلهم إلي المعصية

ص: 238

والطغيان، وكانت هذه الشهوة في أعلي مراتبها وأشدّ مجاليها، فهل يكون تكليفهم بالاجتناب عن المعاصي مستحيلاً؟ وهل يكون صدور المعصية عنهم ضروريّا؟

كلّا، فإنّ الخُلق والسجيّة ليسا إلّا بمثابة الداعي والميل، ولا يوجبان الاضطرار إلي الفعل أو الترك كما هو مشاهَد بالوجدان، بل يكون صدور الفعل وتركه بعد وجدان القدرة والسلطنة علي الفعل والترك متساويين، فإنّ القدرة حاكمة علي جميع الدواعي فإنّها وإن ازدادت لا توجب صيرورة الفعل أو الترك ضروريّاً مع القدرة. وإذا كانت الدواعي والميول والسجايا لا تصلح لأن تخرج الأفعال -- بعد كونها مقدورة -- إلي الضرورة والإلجاء ولو كانت شديدة غاية الشدّة وكانت متساوية في جميع الناس، فهل تري أنّ اختلاف البشر في مقدار هذا الميل النفسانيّ -- وكونه في بعضهم أكثر وأقوي -- يوجب صيرورة الفعل ضروريّاً علي من كان داعيه أقوي من الآخرين؟

والكلمة القالعة لمادّة الشبهة هي أنّ التكليف دائر مدار القدرة فمهما وجدت القدرة صحّ التكليف وإن كان صعباً واحتاج إلي مجاهدة عظيمة مع النفس، وبمجرّد زوال القدرة والسلطنة يزول التكليف. وسهولة الامتثال وصعوبته لا يؤثّران في صحّة التكليف أصلاً، إنّما يؤثّران في كثرة الثواب وقلّته، لأنّ بالقدرة يتساوي طرفا الفعل والترك.

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم «لا حول ولا قوّة إلّا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلّا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(1)

فالتكليف دائر مدار وجود القدرة حدوثاً وبقاءً، فمتي كانت القدرة والسلطنة موجودة صحّ التكليف ولو كان علي خلاف الميل الباطنيّ وسجيّة المكلَّف.

نعم، يمكن أن يبدو هنا سؤال وهو أنّه لِمَ جعل اللّه تعالي الامتثال سهلاً علي بعض بجعل داعي الخيرات فيهم، بينما جعله صعباً علي آخرين بجعل داعي الشرّ فيهم؟

وهذا أمر سنجيب عنه في أخبار الطينة وفي بحث التوفيق والخذلان إن شاء اللّه تعالي،

ص: 239


1- 300.. نهج البلاغة، الحكمة 404، ص547.

والكلام فيه إجمالاً هو: أنّ اللّه تعالي حكيم ولا يفعل عبثاً ولغواً، ومع العلم والاعتقاد بحكمته تعالي لا يبقي وجه لهذا السؤال، وسيأتي قريباً منّا بيان بعض المصالح والحِكَم في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

الأمر الثاني: إمكان تبديل الخُلق والطينة

إنّ المستفاد من الآيات والأخبار الكثيرة أنّ هذه السجيّة والطينة -- أي العلّيّين والسجّين -- في الإنسان ليست أمراً ذاتيّاً له بل هي من العوارض، ولذا تكون قابلة للتغيير، فللإنسان أن يأتي بما يناسب طينته كما أنّه قادر علي أن يأتي بما يخالفها، وهكذا في الخُلقيّات والسجيّات، فمن كانت طينته خبيثة وسجيّته وخلقه سيّئاً يقدر علي إتيان ما يخالف طينته وسجيّته، كما أنّ من كانت طينته طيّبة وخلقه فاضلاً يقدر علي إتيان ما يناسب الطينة الخبيثة والخلق السيّئ، وعند صدور الحسنات من العبد يبدّل اللّه تعالي طينته الخبيثة وسجاياه السيّئة إلي الطيّبة فقد روي عن أبي عبداللّه(عليه السلام) أنّه قال:

إذا لم تكن حليماً فتحلّم ... .(1)

كما نري أنّ البخيل يقدر علي إزالة هذه الصفة الرذيلة من نفسه ويصير كريم النفس، والجبان يتحوّل شجاعاً. وتفصيل القول في هذا المقام واستقصاء الأدلّة موكول إلي بحث أخبار الطينة.

وبعد التأمّل فيما ذكرنا يظهر أنّ جميع الخُلقيّات والصفات النفسانيّة تكون في حيطة قدرة الإنسان فهو يقدر علي تبديلها أو إبقائها علي حالها، فوجود هذه السجيّات وبقائها ودوامها للنفس ليس ضروريّاً كي يرد ذلك الإشكال.

ويشهد علي ما ذكرنا أنّ كثيراً من الفلاسفة القائلين بالجبر صنّفوا وألّفوا كتباً في تهذيب الأخلاق وتزكية النفس وتربيتها، وهذا من أقوي الشواهد علي قدرة الإنسان علي تغيير خُلقيّاته.

وهنا أمور أخر نحيلها إلي البحث عن أخبار الطينة فانتظر.

ص: 240


1- 301.. الكافي، ج2، ص112، ح6؛ بحارالأنوار، ج68، ص404، ح16.

الوجه السابع: الاستعدادات الذاتيّة

اشارة

قد استدلّ بعض المجبّرة علي ما ادّعوه بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله لأنّ اللّه تعالي يسوقه واستعداداتهم الذاتيّة تجرّهم إلي ما يلائم ذواتهم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وقد ذكر هذه الشبهة المموّهة ابن العربيّ وتبعه آخرون، فقال ما نصّه:

﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾(1) وهم الذين استحقّوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكتهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم، وهو عين الأهواء التي كانوا يتوهّمونه. فلمّا ساقهم إلي ذلك الموطن حصلوا في عين القرب، فزال البعد فزال مسمّي جهنّم في حقّهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق، لأنّهم مجرمون. فما أعطاهم هذا المقام الذوقيّ اللذيذ من جهة المنّة وإنّما أخذوه بما استحقّته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم علي صراط الربّ المستقيم، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة. فما مشوا بأنفسهم وإنّما مشوا بحكم الجبر إلي أن وصلوا إلي عين القرب ﴿وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾.(2) وإنّما هو يبصر فإنّه مكشوف الغطاء فبصره حديد.(3)

وقال القيصري في شرحه:

وتحقيق هذا المعني أنّ جهنّم مظهر كلّي من المظاهر الإلهيّة، يحتوي علي مراتب جميع الأشقياء، كما أنّ الجنّة مظهر كلّيّ، يحتوي علي جميع مراتب السعداء. فأعيان الأشقياء إنّما يحصل كما لهم بالدخول فيها، كما أنّ أعيان السعداء يحصل كمالهم بدخول الجنّة ... فكلّ من الأشقياء إذا دخل جهنّم، وصل إلي كماله الذي يقتضيه عينه. وذلك الكمال عين القرب من ربّه، كما أنّ أهل الجنّة إذا دخلوا فيها، وصلوا إلي كمالهم ومستقرّهم، وقربوا من ربّهم ... «فما أعطاهم هذا المقام الذوقيّ اللذيذ من جهة المنّة. وإنّما أخذوه بما استحقّته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها». أي: فما أعطاهم الحقّ هذا المقام، أي مقام الفناء، علي سبيل الفضل والمنّة، كما لأهل الجنّة، بل إنّما أخذوه بما أعطتهم أعيانهم من الأعمال التي كانواعليها. «فكانوا في السعي في أعمالهم

ص: 241


1- 302.. مريم19.، الآية 86.
2- 303.. الواقعة56.، الآية 85.
3- 304.. فصوص الحكم بشرح القيصري، ص 718 - 721.

علي صراط الربّ المستقيم، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة». أي: وكانوا في سعيهم في أعمالهم التي عملوها بحسب متابعة الهوي والنفس، علي الصراط المستقيم الذي لربّهم الحاكم عليهم بالربوبيّة ... «فما مشوا بنفوسهم، وإنما مشوا بحكم الجبر إلي أن وصلوا إلي عين القرب». أي: فما مشي الهالكون بنفوسهم إلي جهنّم، وإنما مشوا بحكم الجبر من القائد والسائق اللذين حكما علي نفوسهم بحسب طلب أعيانهم منهما ذلك. فالجبر في الحقيقة عائد إلي الأعيان واستعداداتها، لأنّ الحقّ إنّما يتجلّي عليها بحسب استعداداتها. ولهذا السرّ ما أسند الجبر إلي الربّ، بل إليهم. ﴿وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾(1) استشهاد علي القرب.(2)

وقال بعض المعاصرين في شرحه علي الفصوص:

خلاصة كلام شارحي الفصوص في هذا المقام ... حينما يكون الكلام عن القدرة والسلطنة الالهيّة فلا يكون الّا هو، ولم يشرك أحداً في فعله الذي هو اقتداره وسلطانه، لكنّه في مقام هلاك المجرمين بما أنّ الهلاك ليس من الحقّ بل من دبور اهوائهم فنسب الهلاك إلي أهوائهم؛ لكنّه مع ذلك لم يرفع يد قدرته وسلطانه عنهم بصورة مطلقة، فقال: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَي جَهَنَّمَ وِرْدًاَ﴾.

هؤلاء المجرمين إنّما أجرموا لاقتضاء العين الثابتة المنبعثة عن طينتهم ولم يكونوا ليفعلوا غيره، وقد عبّر الشيخ ابن العربي عن هذا بأنّهم ذهبوا الي جهنم بالجبر، لكنّه ليس الجبر المصطلح المقابل للاختيار.

ولمّا كان المجرم يتوهّم نفسه بعيداً عن الحقّ مع أنّه يقول: ﴿وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ وليست الآية مختصّة بفئة من الناس بل هو كذلك مع الجميع، وما إن ارتحل الانسان عن دار الغرور إلّا ويتنبّه لذلك القرب كما قال: ( فبصرك اليوم حديد) فيزول ذاك البعد المتوّهم وترتفع عنه جهنم المعروفة بصفتها، أي التي كانت باسم البعد، فإنّهم يصلون إلي عين القرب. نعم هم باقون فيجهنم بعنوان واسم آخر، وهو جهنم أعمالهم. فهم يرون القرب في جهنم، فقد حصل القرب هناك، وكأنّه قد زال جهل وعلم قد حصل، ولايعني ذلك إنّ جهنم قد ارتفعت عنهم مطلقا فهم لم يذهبوا إلي النار باختيارهم، بل

ص: 242


1- 305.. الواقعة56.، الآية 85.
2- 306.. مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج2، ص19.

بالجبر حتي وصلوا إلي عين القرب.(1)

أقول: ملخّص ما ذكروه أنّ العبد مجبور في جميع أفعاله من جهتين:

إحديهما: أنّ القيّوم عزّوجلّ يسوقه سوقاً بإلجاء لا محيص عنه واستشهد علي ذلك ببعض الآيات المتشابهة.

ثانيهما: إنّ أعيانهم وإنيّتهم وإستعداداتهم الذاتيّة جرّتهم إلي ما يلائمهم من الكفر والفسق والفجور. وقد عبّر القيصري عن الأوّل بالسائق وعن الثاني بالقائد.

فاستدلّوا بهذين الوجهين علي إثبات الجبر في أفعال العباد، وقد أعذروا القيّوم المتعال في إجبارهم وإلجائهم علي المعاصي، بأنّ أعيانهم وذواتهم هي التي تقتضي ذلك، واللّه تعالي إنّما يتجلّي ويَحُلُّ في أفعال عباده بقدر إستعداداتهم الذاتيّة، وذكر أنّ هذا هو السرّ في إسناد الجبر إليهم لا إلي ربّهم. وقد عبّر الشارح بأنّ هذا الجبر لا يكون من الجبر المقابل للاختيار بل إنّه جبر ناش عن الأعيان الثابتة والإستعدادات الذاتيّة..

ص: 243


1- 307.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص263 - 265: خلاصۀ گفتار شرّاح فصوص در اين مقام اين است ... آنجا كه سخن از اقتدار مطلق و سلطنت مطلقۀ الهياست، چون اوست وديگري نيست يعني واسطهبردار نيست، احدي را در كار خود كه اقتدار وسلطنت اوست شركت نداد، ولي در مقام هلاك مجرمان چون هلاكت از حقّ نيست بلكه از دبور هواي آنهاست هلاك را به اهوائشان نسبت داد. ولي مطلقاً دست اقتدار وسلطنتش را از سر آنها بر نداشت كه فرمود: ﴿وَنَسوُقُ المُجْرِمينَ إِلي جَهَنَّمَ وِرداً﴾. اين مجرمان كه به اقتضاي عين ثابت كه خواسته سرشت آنان بود وجز اين نمي كردند، شيخ از آن تعبير كرد كه به جبر به جهنّم رفته، نه آنكه مراد جبر به اصطلاح معروف در مقابل اختيار باشد. و چون مجرم گمان مي كرد كه از حقّ دور است وحال آنكه حقّ فرمود: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ واختصاص به هيچ انساني داده نشده، يعني با همه اين قرب را دارد، وچون آدمي از دنياي غرور رخت بر بست آن گاه متنبّه مي شود ﴿فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَدِيِدٌ﴾ لاجرم آن بعد متوهّم زائل مي شود وجهنّم به اين عنوان واسم يعني جهنّمي كه بُعْد بود از آنها برداشته مي شود كه به عين قرب رسيدند، ولي به عنوان واسم ديگر در جهنّم اعمالشان به سر مي برند كه قرب را در موطن جهنّم مي يابند. پس در موطن جهنّم قرب حاصل شده است كه كأنّ جهلي بر كنار شد وعلمي پيش آمد، نه آنكه جهنّم مطلقاً از آنها زائل شده است ... مجرمان ... به جبر به جهنّم رفتند نه جبر در مقابل اختيار بلكه جبر ناشي از عين ثابتشان، «فما مشوا بانفسهم وإنّما مشوا بحكم الجبر إلي أن وصلوا إلي عين القرب» ... پس آنها خودشان به موطن جهنّم نرفتند بلكه به حكم جبر رفتند به موطن جهنّم تا به عين قرب رسيدند.

إعلم: أنّ بطلان هذه الأوهام المنسوجة التي هي أوهن من بيت العنكبوت لا يخفي علي من كان له أدني حظّ من العلم بالآيات القرآنيّة والأحاديث المرويّة عن المعصومين(عليهم السلام) ولكن لمّا كانت هذه الأوهام تقطع الطريق المستقيم علي المتحرّين للعقائد الحقّة ممّن لم يصل إلي حدّ التمييز بين الغثّ والسمين ولا بين الحقّ والباطل فلابدّمن نقدها فنقول:

يرد علي هذه الأوهام أمور:
الأوّل: الاستعدادات الذاتيّة لا تسلب القدرة والاختيار

ما ذكروه من أنّ الأعيان والمقتضيات الموجودة في الإنسان توجب الاضطرار والإلجاء بحيث لا يقدر الإنسان علي العمل علي خلاف اقتضاء ذاته؛ ممّا يكذّبه الوجدان الذي هو أقوي البرهان، فإنّا نشاهد اختيارنا وسلطاننا علي الفعل والترك سواء وافق الطبع أمخالفه. ومن الشواهد علي ذلك ما ذكره علماء الأخلاق في مقام تزكية النفس من الرذائل وقد دلّت الروايات علي أنّ السجايا الرذيلة تدرس بالرياضة الروحانيّة الشرعيّة والتربية المداومة علي الأخلاق الحميدة، كما أنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) حوّل أعراب البادية إلي نفوس كاملة في الإنسانيّة. بل لو لم يقدر الإنسان إلّا علي العمل علي وفق طبعه وما يلائمه لا يبقي مجال للتّزكية ومجاهدة النفس وترويضها، ويكون إرسال الرسل وتزكيتهم وتعليمهم، وإنزال الكتب، وتربية النفوس، وتهذيبها باطلاً ولغواً ولعباً، تعالي اللّه وأنبيائه وحججه عن ذلك علوّاً كبيرا.

وقد رأينا بعض أصحاب النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) بعد ما أقاموا علي الكفر والرذائل فترة ليست بالقصيرة، كيف تحولّوا وصاروا فقهاء حلماء أبراراً أتقياء يتلون الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).

الثاني: الدواعي ليست علل قهريّة

قد مرّ في الجواب عن الوجهين السابقين -- مضافاً إلي ما سيجي ء في توضيح أخبار الطينة -- ما يتّضح به أنّ هذه الدواعي والمقتضيات لا توجب الجبر أبداً. هذا إن كان مراده من الأعيان الثابتة هي الدواعي والخُلقيّات.

ص: 244

وأمّا لو كان مراده السعادة والشقاوة الذاتيّة فقد مرّ في الجواب عن مقالة المحقّق الآخوند -- وسيجي ء عند البحث عن الوجوه النقليّة مبسوطاً إن شاء اللّه تعالي -- أنّه لا معني للسعادة والشقاوة الذاتيّة، والقول بها مخالف للبرهان والقرآن، بل مخالف لما هو معنون عندهم في الفلسفة والمنطق، فلا نعيد.

الثالث: عدم مدخليّة العبد في خلق الاستعداد الذاتيّ له

إنّما الكلام وتمام الكلام في الجبلّة الأوليّة -- التي زعموا أنّها توجب الجبر -- من أين حصلت للإنسان؟

فإن كانت من اللّه تعالي فيكون مرجع النقص الذاتيّ أيضاً إلي صنع اللّه عزّوجلّ، وعلي هذا يسند النقص والجبر والهلاك والمعصية والطغيان والفجور إليه جلّت ساحة قدسه عن هذه الأباطيل؛ فحينئذ لا مجال لما توهمّوه من إعذار الباري تعالي وتنزيهه عمّا نسبوه إليه بأنّ اللّه إنّما يتجلّي للعباد بقدر استعدادهم، فإنّ هذهالاستعدادات من إبداع الخالق المتعال وتكوينه وإنشائه.

وإن كانت الجبلّة الأوليّة والعين الثابتة الرذيلة الشقيّة ممّا يكون لإرادة الإنسان دخل في تحقّقها، -- فمع أنّه لا معني لأن يؤثّر المفقود واللا شيء في تكوين نفسه وإبرائها حيث إنّ الإرادة ناشئة عن الجبلّة الأوّليّة --، فعليه يكون ذلك مناقضاً لدعواهم ومبطلاً لها، لأنّ المفروض وجود الاختيار والإرادة والسلطنة للإنسان كي يقدر علي أن يجعل نفسه سعيداً أو شقيّاً، فإن كان مختاراً في إنشاء نفسه سعيداً أو شقيّاً فما ظنّك بسائر أفعاله التي هي دون ذلك بمراتب.

أضف إلي ذلك أنّه لو كان له اختيار في إنشاء نوعيّة نفسه وكيفيّتها لِمَ ينشئها شقيّة وهو قادر علي إسعادها؟

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في مناظرته مع الدهريّ في حديث الإهليلجة:

أخبرني عن هذه الإهليلجة التي زعمت أنّها صنعت نفسها ودبّرت أمرها كيف صنعت نفسها صغيرة الخلقة، صغيرة القدرة، ناقصة القوّة، لا تمتنع أن تكسر

ص: 245

وتعصر وتؤكل؟ وكيف صنعت نفسها مفضولة مأكولة مرّة قبيحة المنظر لا بهاء لها ولا ماء؟ ... أمّا إذ أبيت إلّا التمادي في الباطل فأعلمني متي خلقت نفسها ودبّرت خلقها، قبل أن تكون أو بعد أن كانت؟ فإن زعمت أنّ الإهليلجة خلقت نفسها بعد ما كانت فإنّ هذا لمن أبين المحال! كيف تكون موجودة مصنوعة ثمّ تصنع نفسها مرّة أخري؟ فيصير كلامك إلي أنّها مصنوعة مرّتين، ولَئِن قلت: إنّها خلقت نفسها ودبّرت خلقها قبل أن تكون، إنّ هذا من أوضح الباطل وأبين الكذب! لأنّها قبل أن تكون ليس بشيء فكيف يخلق لا شيء شيئاً؟ وكيف تعيب قولي: إنّ شيئاً يصنع لا شيئاً، ولا تعيب قولك: إنّ لا شيء يصنع لا شيئاً؟ فانظر أيّ القولين أولي بالحقّ؟ قال: قولك.(1)

وأمّا القول بأنّ الاستعدادات والقوابل الذاتيّة غير مجعولة للإنسان ولا للربّ تعالي شأنه كما ذهب إليه بعض الفلاسفة حيث قالوا بأنّ اللّه تعالي ما جعل المشمش مشمشة بل أوجدها وما جعل الشقيّ شقيّاً والسعيد سعيداًبل أوجدهما كما صرّح به صاحب الكفاية فبطلانه واضح، ذلك أنّ الأخبار الصحيحة الصريحة قد دلّت علي أنّ مادّة الموادّ الذي منه كلّ شيء والمخلوق الأوّل شيء واحد والاختلاف فيه عرضيّ كما في الخبر عن الرضا(عليه السلام): «ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة»(2) فالاختلافات بين الأشياء ليست ذاتيّة إنّما هي بالأعراض ومن الواضح إمكان تبديل العرض بإزالته وجعل عرضٍ آخر مكانه.

الرابع: معصية العصاة ليست تحديداً لسلطنته تعالي

ما ذكره هذا المعاصر من أنّ اللّه تعالي لا يشرك أحداً في أفعاله التي ترتبط باقتداره وسلطنته فلا يوجد فعل للعباد، وأمّا في مقام إهلاك المجرمين فإنّه نسبه إليهم لأنّه من دبور أهوائهم، لكنّه مع ذلك لم يرفع يد اقتداره وسلطنته عنهم مطلقاً. ففيه:

إنّه قد مرّ في الجواب عن شبهة الأشاعرة التي سمّوها بالتوحيد الأفعاليّ، أنّ الالتزام بالاختيار والسلطنة في العباد لا ينافي اقتدار اللّه تعالي وسلطنته، وليس هذا من الشرك

ص: 246


1- 308.. بحارالأنوار، ج3، ص 158، ح1؛ مكاتيب الائمة(عليهم السلام)، ج4، ص36.
2- 309.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص169، ح1؛ بحارالأنوار، ج10، ص310، ح1.

بشيء؛ لأنّ جميع ما يملك العباد إنّما يكون بتمليكه تعالي لهم، وهو أملك بها منهم، وهم قادرون وفاعلون وعالمون به تعالي وهو قيّومهم، وهذا لا يختصّ بأفاعيل العباد بل يشمل كلّ ماللعباد من كمالات وفضائل.

وهل قوله أنّه ما رفع اليد عنهم مطلقاً بالنسبة إلي الإهلاك بمعني أنّه رفع اليد عنهم بنحو الموجبة الجزئيّة، فصاروا بذلك شركاء للباري تعالي بهذا المقدار؟

وقد تحقّق عند أهل التوحيد أنّ اللّه تعالي متوحّد في جميع ما نسب إلي نفسه وفي جميع كمالاته واختصّها لنفسه لا يشركه فيه أحد أبداً. وجميع كمالات العباد إنّما تكون بتمليكه تعالي أبداً دائماً سرمداً، وهو المتفرّد المتوحّد بالقيّوميّة لها.

فما أبعد هذا المتكلّف عن الحقّ حيث أراد أن يصف اللّه بالاقتدار، فأخرجه منه وعزله عن سلطانه وافتري عليه الظلم واللغو واللعب!

الخامس: تقابل الجبر والاختيار

قد أوضحنا في تحرير محلّ النزاع أنّ الجبر إنّما يقابل الاختيار، فمن كان قادراً مختاراً لا يمكن أن يقالبأنّه مجبور، ومن كان مجبوراً فلا يصحّ أن يقال بأنّه مختار، فلا يمكن فرض اجتماعهما. ولافرق في ذلك بين ما إذا كان الجبر ناشئاً عن العين الثابتة أو غيرها. وعلي أيّ تقدير إنّ الجبر -- بمعني عدم السلطنة علي الفعل والترك -- لا يجتمع مع القدرة فاختلاف مناشيء الجبر لا يُجدي في امكان اجتماعه مع الاختيار. وحينئذ كيف قال هذا القائل إنّ هذا الجبر جبر لا يقابل الاختيار؟

هل يمكن تفسير هذا الكلام بما لا يؤول إلي ارتفاع النقيضين؟

وذلك لأنّ لفظ الجبر ليس مشتركاً بين الجبر المقابل للاختيار وغير المقابل له، وإختلاف مناشي ء الجبر -- بأن يكون لأجل العين الثابتة أو غيره -- لا يوجب اختلافاً في مفهوم الجبر.

بعبارة أخري: إنّ القائل المذكور آنفاً قد التزم بالجبر لأجل القول بالأعيان الثابتة في الممكنات، لا أنّه أبدي معنيً آخر للجبر يباين الجبر المقابل للاختيار الذي نحن في مقام

ص: 247

إثباته. وغاية ما رامه هذا البعض اختراع اصطلاح جديد ليس -- في لغة العرب وكذا في لسان أهل الاصطلاح -- منه عين ولا أثر وما ذلك إلّا مغالطة صريحة وتدليس واضح. لأنّ تمام المقصود هو التذكّر إلي ما يجده كلّ عاقل بنظرته السليمة وإلي ما نزل به الكتاب وتكلّم به الرسل من حقيقة الاستطاعة والسلطنة والاختيار وهذا هو محلّ البحث، فنسأل هل الاختيار بالمعني المذكور يقابل الجبر أم لا؟

فإن كان الأوّل -- وليس مراده ذلك قطعاً -- فهذا إبطال لكلّ ما راموا إثباته في مقالتهم، كيف وقد أصرّوا علي إسناد الأفعال إلي الأعيان الثابتة وتجلّي الربّ لتلك الأعيان بما يلائمها لا إلي القدرة والاختيار، ومن هنا نفوا الفعل عن العين الممكنة كما قال ابن العربيّ -- وقد مرّ --: «لأنّه لا فعل للعبد بل الفعل لربّها فيها».(1) وقال في الفتوحات:

فلا فعل لأحد سوي اللّه ولافعل عن اختيار واقع في الوجود، فالاختيارات المعلومة في العالم من عين الجبر فهم المجبورن في اختيارهم.(2)وإن كان الثاني، وهو مرادهم كما صرّح هذا البعض بقوله: وأُولئك ما كانوا ليفعلوا إلّا ما يلائم طبعهم، فعلي هذا يكون الاختيار منفيّاً حقيقة فعبّر عنه ما شئت، سواء تحت راية الأشاعرة أو خلق راية جديدة موهومة، ولا مشاحّة في الألفاظ.

وكأنّ هذا القائل زعم أنّه باختراع هذا الاصطلاح يستطيع أن ينزّه مقالته من عار الجبريّة وشنارها، وما ذلك إلّا تدليس بيّن.

وقد قال المحقّق المدقّق الميرزا القمّي حاكياً عن بعض كتب محي الدين بأنّه نسب مذهب الجبر إلي جميع العرفاء،(3) فتري أنّ هذا البعض يحاول أن يبرّئ بزعمه ساحتهم من درن الجبر والحال أنّهم لا يرضون بذلك، فهو يفسّر الكلام بما لا يرضي صاحبه.

السادس: تأويلات باطلة في الآيات

ما استشهدوا به من الآيات فإنّها أجنبيّة عن مرامهم وبعيدة أشدّ البعد عنه، وذلك يظهر بالتامّل فيها.

ص: 248


1- 310.. فصوص الحكم بشرح القيصريّ، ص 645.
2- 311.. الفتوحات المكيّة، ج2، ص70.
3- 312.. جوابات المسائل الركنيّة للميرزا القميّ، ص330.

أمّا قوله تعالي: ﴿وَنَسوُقُ المُجْرِمينَ إِلي جَهَنَّمَ وِرْداً﴾.(1)

فقد بيّن في الآية أنّهم مجرمون عاصون قد أقدموا علي مخالفة الباري بكمال سلطنتهم واختيارهم ولذلك نسب الإجرام إليهم، ثمّ بيّن عقابه عليهم بسوقهم إلزاماً جبراً حتماً إلي جهنّم ورداً، ملبّبين مقيّدين في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً يُسحبون علي وجوههم إلي النار؛ فعقاب اللّه القاهر إيّاهم إنّما هو لأجل ما فعلوه واختاروه فصاروا بذلك مجرمين كما هو المفروض في الآية، وأين هذا ممّا ذهبوا إليه من أنّ اللّه هو السائق إلزاماً حتماً إلي السوء والفحشاء وعصيان الرسول والقتل والبغي تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيرا.

ولعمري! كيف اتهمّوا ربّهم فنسبوا إليه قبائح أعمالهم وافتروا عليه الظلم كذباً وزوراً؟ وقد نفاه عن نفسه بأبلغ البيان فقال:

﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛(2)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛(3)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾.(4)أ فتري أنّه يسوق عبيده إلي ما لا يرضاه لهم ومع ذلك يهدّدهم بغضبه ولعنته؟ ويملأ سبع سماواته لعنة إذا غضب علي أحدهم؟

فهل يصدر عن عاقل له أدني مرتبة من العلم والحكمة مثل هذا اللعب واللغو؟ ناهيك عمّن وصف نفسه بالحكمة والعدل والعلوّ والجلالة والسبّوحيّة والقدّوسيّة والعزّة والرحمة والرأفة والمجد والرفعة. ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً﴾.(5)

ص: 249


1- 313.. مريم19.، الآية 86.
2- 314.. آل عمران3.، الآية 182؛ الأنفال8.، الآية 51؛ الحجّ22.، الآية 10.
3- 315.. يونس 10.، الآية 44.
4- 316.. النساء4.، الآية 40.
5- 317.. الإسراء17.، الآية 43.

وليت شعري كيف طوّعت لهم أنفسهم تسمية جهلهم علماً، وافترائهم عرفاناً، وطغيانهم تنزيهاً، وبهتانهم تسبيحاً، واتّهامهم تقديساً؟ ومع المؤسّف جدّاً ارتضائهم لأنفسهم تقمّص حلل أولياء اللّه والعارفين العالمين به، حتّي زعموا أنّ المعلّم الأوّل هو أوّل من سلك طريقتهم وأنشأها!

وأمّا قوله تعالي: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إلنا هُوَ آخِذٌ بِنَاصيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(1)

فشتّان بين ما راموا إثباته وبين ما أراده الكتاب المبين، إذ المراد من الآية بيان سلطان اللّه وقهره وغلبته علي بريّته، بمعني أنّ العاصي لا يغلب اللّه علي سلطانه ولا يقهره في ملكوته، فإنّه هو الذي أمدّه بالقدرة والسلطنة والمشيّة والحياة والعلم بقدر مقدور لا يستطيع أن يتجاوز حدّه فيما آتاه اللّه. وهو في حيطة قدرته واستيلائه لا يضرّ ولا ينفع إلّا بإذن اللّه، وإذا شاء اللّه تبارك وتعالي أن يصرفه عن شرٍّ ابتغاه وإضرارٍ نواه دفع اللّه كيده، ولا ينافي ذلك بقاء اختياره الذي ملّكه اللّه تعالي.

عن عدّة الداعي: قال جويرية بن مسهّر: خرجت مع أميرالمؤمنين(عليه السلام) نحو بابل لا ثالث لنا، فمضي وأنا أُسايره في السبخة، فإذا نحن بالأسد جاثماً في الطريق، ولبوته خلفه، وأشبال لبوته خلفها، فكبحت دابّتي لأن أ تأخّر، فقال:

أقدم يا جويرية، فإنّما هو كلب اللّه، وما من دابّة إلّا اللّه آخذ بناصيتها لا يكفي شرّها إلّا هو ... .(2)

وقد تكرّر في الأخبار والأدعية قولهم(عليهم السلام):اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شرّ كلّ دابّة أنت ﴿آخِذٌ بِنَاصِيتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(3).(4)

ممّا يدلّ علي أنّ المراد من الآية صرف اللّه شرور عباده من دون أن يجبرهم ويلجئهم

ص: 250


1- 318.. هود11.، الآية 56.
2- 319.. عدة الداعي، ص97؛ بحارالأنوار، ج80، ص 324، ح 25.
3- 320.. هود11.، الآية 56.
4- 321.. مصباح المتهجد، ص57؛ بحارالأنوار، ج83، ص 47.

وليس لأحد أن يغلب اللّه فيما أراد وفيما لم يأذن به، ولأجل هذا قوي المتوكّلون علي اللّه تعالي وعلوا علي كلّ من أراد إضرارهم بسبب اتّكالهم علي اللّه تعالي فإنّه كافِ المتوكّلين.

فوا عجباً ممّا توهمّوه من أنّ اللّه هو الآخذ بناصية عباده علي صراط مستقيم علي نحو الجبر والإلجاء، وكأنّهم قدّروا اللّه علي قدر نفوسهم حيث سلبوا منه القدرة علي أن يدفع ضرّاً ويكفي عباده ويقهرهم إلّا بإلجاء وإجبار.

فأيّ ملازمة بين كون اللّه تعالي علي صراط مستقيم وكون من هو آخذ بناصيته علي ذلك الصراط؟ فتوهّموا أنّ الأخذ بالناصية هو سحب لجام المأخوذ وسوقه سوقاً من ورائه. بينما المراد من الأخذ بالناصية علي ما هو الظاهر من كلام أهل اللغة والمؤيّد بتفسير الروايات، هو الكناية عن الملك والقهر والغلبة والسلطنة، وهذه الأوصاف -- كما سنبحثها مفصّلاً -- لا تنفي اختيار العباد وسلطنتهم علي أفعالهم بعد ما ملّكهم إيّاها وهو الأملك لما ملّكهم، إنّما تنفي التفويض والاستقلال.

فيا عجبا كيف حرّفوا الكلم عن مواضعه ولعبوا بكلمات اللّه واتّخذوها سخريّة، وأين الثري من الثريّا؟ وما ذاك إلّا لأنّهم تركوا مستقي العلم وبابه، فاعتمدوا علي أهوائهم وتبنّوا مبنيً ثمّ حمّلوه علي الكتاب العزيز.

السابع: جهنمّ محلّ عذاب وليس للراحة

ما ذكروه من حقيقة جهنّم وأنّها البعد المتوهّم، وهو يزول بالموت فيغرق المجرم في عين القرب والمقام الذوقيّ اللذيذ، من جهة الاستحقاق لا المنّة. وكمال الأشقياء لا يتحقّق إلّا بذلك، والموت سبب لزوال الجهل وحصول العلم بأنّه ما كان لهم بعدٌ من اللّه العزيز الجبّار، فهو كماتري!!

أكان اللّه تعالي هازلاً حينما هدّد أعدائه بنار ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾.(1)

ص: 251


1- 322.. الكهف18.، الآية 29.

فتارة يصف وقوعهم فيها واختصامهم فيها وتأسّفهم علي إنكارهم لها: فقال عزّ ذكره:

﴿وَبُرِّزَتِ الْ-جَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَ-خْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إلنا الْمُ--جْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُؤْمِنِينَ﴾.(1)

وتارة يصف طعامهم وشرابهم فيقول:

﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْ-حَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَي سَوَاءِ الْ-جَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْ-حَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ﴾.(2)

وتارة يصف شدّة اشتعالها:

﴿وَإِذَا الْ-جَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾؛(3)

و﴿كَلّا إِنَّهَا لَظي * نَزَّاعَةً لِلشَّوَي﴾.(4)

وتارة يذكر بُعْد المكذّبين لعذاب الجحيم عن ربّهم واحتجابهم عنه:

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إلنا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَي عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ * كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلّا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَ--حْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْ-جَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.(5)

ص: 252


1- 323.. الشعراء26.، الآيات 91 - 103.
2- 324.. الدخان44.، الآيات 43-50.
3- 325.. التكوير81.، الآية 12.
4- 326.. المعارج70.، الآيتان 15-16.
5- 327.. المطفّفين83.، الآيات 10-17.

وتارة يذكر نسيان اللّه إيّاهم -- بمعني إنّه تعالي يعاملهم معاملة الناسي فيبعدهم عن رحمته -- ومحو ذكرهم عن قلوب العباد كما نسوا لقاء يومهم هذا:

﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَاصِرِينَ﴾.(1)أ فكلّ هذه الآيات وغيرها هي عبارة عن توهّم البعد، والوصول إلي الكمال الذي يستحقّه، وإلي عين القرب والمقام الذوقيّ اللّذيذ؟!

هل المهل الذي يغلي في البطون هو ما أراده من اللذّة؟

أو أخذه وغلّه وتصليته للجحيم، وإسلاكه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً هو القرب الذي ادّعاه؟

وهل الاحتجاب عن ربّهم ونسيانه تعالي إيّاهم هو الجهل وحصول العلم ورفع التوهّم؟

فإن لم يكن قولهم هذا تكذيباً للنار فمن هم المكذّبون إذاً؟

هل كانت الرسل والمنذرون والأوصياء المحذّرون يعبثون ويلعبون، وهم في جوف الليل صافّون أقدامهم يبكون ويتضرّعون، ومن خوف النار يدهشون ويغشي عليهم، ويصرخون:

آه من نار نزّاعة للشوي! آه من نار تنضج الأكباد والكلي! آه من غمرة من ملهبات لظي!(2)

ولمّا طلب أحد تلاميذ مدرسة أهل البيت من إمامه أن يخوّفه من النار أجابه(عليه السلام):

يا أبا محمّد استعدّ للحياة الطويلة، فإنّ جبرئيل جاء إلي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) وهو قاطب وقد كان قبل ذلك يجيء وهو متبسّم، فقال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): يا جبرئيل جئتني اليوم قاطباً، فقال: يا محمّد قد وضعت منافخ النار، فقال: وما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتّي ابيضّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّي احمرّت، ثمّ نفخ عليها ألف

ص: 253


1- 328.. الجاثية45.، الآية 34.
2- 329.. الامالي (للصدوق)، ص78، ح9؛ بحارالأنوار، ج41، ص12، ح1.

عام حتّي اسودّت فهي سوداء مظلمة، لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت علي الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أنّ سربالاً من سرابيل أهل النار علّق بين السماء والأرض لمات أهل الدنيا من ريحه، قال(عليه السلام): فبكي رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وبكي جبرئيل، فبعث اللّه إليهما ملكاً فقال لهما: إنّ ربّكما يقرؤكما السلام ويقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنباً أعذّبكما عليه، فقال أبوعبداللّه(عليه السلام): فما رأي رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) جبرئيل متبسّماًبعد ذلك، ثمّ قال: إنّ أهل النار يعظّمون النار وإنّ أهل الجنّة يعظّمون الجنّة والنعيم، وإنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد وأعيدوا في دركها فهذه حالهم، وهو قول اللّه عزّوجلّ: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(1) ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم. قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): حسبك؟ قلت: حسبي حسبي.(2)

أفهل يرون أنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لم يفهم مقصود جبرئيل من النفخ والضريع ونتنها وحلقة السلسلة وحرارتها حتّي بكي وما رأيٰ بعد ذلك متبسّماً؟!

هل خفي عليه -- بأبي هو وأمّي -- قرب أهل النار من ربّهم وتلذّذهم بها؟!

وهل خفي عليه أنّ اللّه أقرب إليهم من حبل الوريد؟!

أ وَما دري أنّها موطن عزّ الأشقياء وهذا ما يلائم طبعهم فهم فيها منعّمون؟ أ وما دري أنّهم استحقّوا المقام الذوقيّ اللذيذ من دون تفضّل من اللّه العزيز الجبّار؟!

وقد وصف باقر علم النبيّين(عليهم السلام) الغسّاقَ في جهنّم بقوله:

إنّ في جهنّم لواد يقال له غسّاق، فيه ثلاثون وثلاث مائة قصر، في كلّ قصر ثلاثون وثلاث مائة بيت، في كلّ بيت ثلاثون وثلاث مائة عقرب، في حمة كلّ عقرب ثلاثون وثلاث مائة قلّة سمّ، لو أنّ عقرباً منها نضحت سمّها علي أهل جهنّم لوسعتهم سمّاً.(3)

ص: 254


1- 330.. الحج22.، الآية 22.
2- 331.. تفسير القمّيّ، ج2، ص81؛ بحارالأنوار، ج8، ص280، ح1.
3- 332.. الزهد، ص100، ح272؛ بحارالأنوار، ج8، ص314، ح89.

كما وصف الإمام الكاظم(عليه السلام) السَّقَر فقال روحي فداه:

يا إسحاق، إنّ في النار لوادياً يقال له سقر لم يتنفّس منذ خلقه اللّه، لو أذن اللّه عزّ وجلّ له في التنفّس بقدر مخيط لاحترق ما علي وجه الأرض، وإنّ أهل النار ليتعوّذون من حرّ ذلك الوادي ونتنه وقذره وما أعدّ اللّه فيه لأهله، وإنّ في ذلك الوادي لجبلاً يتعوّذ جميع أهل ذلك الوادي من حرّ ذلك الجبل ونتنه وقذره وما أعدّ اللّه فيه لأهله، وإنّ في ذلك الجبل لشعباً يتعوّذ جميع أهل ذلك الجبل من حرّ ذلك الشعب ونتنه وقذره وما أعدّ اللّه فيه لأهله، وإنّفي ذلك الشعب لقليبا يتعوّذ جميع أهل ذلك الجبل من حرّ ذلك القليب ونتنه وقذره وما أعدّ اللّه فيه لأهله، وإنّ في ذلك القليب لحيّة يتعوّذ جميع أهل ذلك القليب من خبث تلك الحيّة ونتنها وقذرها وما أعدّ اللّه في أنيابها من السمّ لأهلها، وإنّ في جوف تلك الحيّة لصناديق فيها خمسة من الأمم السالفة واثنان من هذه الأمّة. قال: قلت: جعلت فداك ومن الخمسة؟ ومن الإثنان؟ قال: فأمّا الخمسة: فقابيل الذي قتل هابيل، ونمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربّه فقال: أنا أحيي وأميت، وفرعون الذي قال: أنا ربّكم الأعلي، ويهود الذي هوّد اليهود، وبولس الذي نصّر النصاري، ومن هذه الأمّة أعرابيّان.(1)

أَ وَ سمّ العقارب طيب يتطيّب به أهل جهنّم؟ أم شهد يطعمونه؟! وأنّ جميع هذه الأوصاف بيان عن قربهم من ربّهم ووصولهم إلي كمالهم، وسكني جوار محبوبهم؟! فهل العذب الطيّب هو هذا العذاب الأليم؟ أعاذنا اللّه من نار جهنّم وإحراقها.

أو ما استحيوا هؤلاء المتسمّون بالعرفاء الشامخين من اللّه ورسوله من اتّخاذ آيات اللّه هزواً! وجعلوا إنذار اللّه بشري لمن عصاه! وتحذيره كمال لمن ناواه! فرغّبوا العاصين علي معصيتهم، والطاغين علي طغيانهم، والظالمين علي ظلمهم، والمنكرين علي إنكارهم، بدل أن يرهّبوهم بطش الملك القهّار، ويخوّفوهم جبروت الحَكَمِ العدل الجبّار، ويحذّروهم إنتقام المنتقم المتعال.

ص: 255


1- 333.. الخصال، ج2، ص398، ح106؛ بحارالأنوار، ج8، ص311، ح77.
الثامن: جهنّم له حقيقة خارجيّة وليس توهّم البُعد

ما ذكروه من أنّ حقيقة جهنّم هو البُعْد المتوهّم وأنّ هذا البُعد المتوهّم يزول بالموت لانقشاع جميع الأوهام وصيرورة البصر حديداً، فيرد عليه أنّه إذا كان معني جهنّم هو البُعْد المتوهّم وكان هذا البُعْد يزول بالموت فهل يبقي معنيً لجهنّم والعذاب بعد الموت؟! فإنّه بناءاً علي هذه الفرضيّة تكون جهنّم في دار الدنيا فلو سلّمنا كون معنيً جهنّم هو البُعْد المتوهّم فلا يمكن لهم إثبات جهنّم بعد دار الدنيا لزوال البُعْد بالموت.

وأمّا ما تكلّفه هذا المعاصر -- لأجل الفرار عن وسمهم بسمة المكذّبين لعذاب جهنّم -- من أنّ جهنّم يبقي لهممن حيث أعمالهم مع زوال البعد المتوهّم، فيبقي السؤال عن حقيقتها من تلك الحيثيّة؟

أ هي مادّة محرقة تشوي الوجوه، وتكون نار الدنيا جزءً من سبعين جزء منها، أو أنّها شيء يناسب القرب المزعوم؟

أمّا المعني الأوّل وهو الذي أنذرت به الأنبياء والرسل، فغير مراد لهم قطعاً. فإنّه لا يناسب ما زعموه من القرب الذي يصلون إليه أهل النار، أفيعذّب المحبوب أحبّائه الذين استحقّوا قربه هذا العذاب الأليم؟!

وأمّا المعني الثاني وهو مرادهم فليس إلّا تكذيب ما جائت به الأنبياء والقرآن من حقيقة النار، والعذاب الأليم، وشرب الحميم، والضريع الذي يغلي منه البطون، وأكل الزقّوم، ولبس سرابيل القطران، والاحتجاب عن الربّ المتعال، وغير ذلك ممّا نطقت به الشرايع وأنذرت به الأنبياء والمرسلون.

أ فتري أنّ المكذّبين الذين كانوا يكذّبون بيوم الدين والنار والجحيم، كانوا يكذّبون النار بهذا المعني الذوقيّ اللذيذ؟

أو أنّ الجاحدين الذين كانوا يكذّبون الأنبياء، كانوا يستنكرون حصول هذا القرب لهم بعد موتهم، الأمر الذي ألجأهم إلي الإنكار والجحود؟

وغير خفيّ أنّ هذه الأقاويل الفاسدة تكذيب وإنكار للعذاب، واللعب بالألفاظ لا ينفع

ص: 256

في اخراج قائلها من زمرة المكذّبين.

﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَي نَارِ جَهَنَّمَ دَعّا * هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾؛(1)

و﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْ-جَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾؛(2)

و﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاًمُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾؛(3)

و﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَ-خْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾؛(4)

و﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾.(5)

ثمّ إعلم أنّ لتكذيبهم النار والجحيم صلة شديدة بقولهم بالجبر، فإنّهم لمّا نسبوا إلي اللّه تعالي أنّه هو الذي يُجبر العصاة والكفّار علي الكفر والعصيان أرادوا أن ينزّهوا الباري تعالي من سمة الظلم، -- لأنّ إجبار العباد علي المعاصي ثمّ تعذيبهم عليها من أشدّ أنواع الظلم -- فأنكروا وجود العذاب والنار والجحيم، فوصفوه سبحانه بالكذب واللعب واللغو والهزل والعبث. فأعتذروا لدفع شنار الجبر من أنفسهم بما هو أشنع وأقبح.

فانظر إلي ما قاله ابن العربيّ في هذا المضمار:

ولمّا كان عذر العالم مقبولاً في نفس الأمر لكونهم مجبورين في اختيارهم، لذلك جعل اللّه مآل الجميع إلي الرحمة، فهو الغفور لما ستر من ذلك عن قلوب من لم يعلمه بصورة الأمر رحمة به، لأنّه الرحيم في غفرانه لعلمه بأنّ مزاجه لا يقبل،

ص: 257


1- 334.. الطور52.، الآيات 11 - 15.
2- 335.. المطفّفين83.، الآيتان 16 -17.
3- 336.. الفرقان25.، الآيات 11 - 14.
4- 337.. السجدة32.، الآية 20.
5- 338.. سبأ34.، الآية 42.

فالمنع من القابل لتضمّنه مشيّة الحقّ لكون العين قابلة لكلّ مزاج، فما اختصّت واحدة علي سبيل التعيين بمزاج دون غيره مع كونها قابلة لكلّ مزاج إلّا لحكم المشيّة الإلهيّة.(1)

التاسع: قرب اللّه للعاصي لا يعني رضاه عنه

وأمّا ما توهّمه في معني الآية الشريفة: ﴿وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾(2)، من أنّها تدلّ علي وصول الميّت إلي مقام القرب للّه تعالي ونيله حنانه ولطفه وفضله تعالي، فهو دليل آخر علي نهاية بُعد المستدلّ عن القرآن وظواهره، وكونه أجنبيّاً عن كلام اللّه العربيّ المبين. فيا ليته قرأ الآيات بتمامها، فإنّه لو تأمّل فيها أدني تأمّل عارٍ عن الشوائب الذهنيّة، لوجد أنّها أدلّ شيء علي إبطال ما رام إثباته بها.و ذلك لأنّ اللّه تعالي بعد ما ذكر أنّه أقرب إلي الميّت من جميع الحاضرين، قسّم الأموات إلي المقرّبين وأصحاب اليمين وإلي المكذّبين. فلو كان الجميع من المقرّبين فما يكون إذا وجه هذا التفصيل؟ قال تعالي:

﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْ-حُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلكِن لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْ-حَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَ--مِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَ--مِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾.(3)

فانظر ثمّ اقض العجب كيف تلاعب بكلام اللّه تعالي، وأمّا الذين جاؤوا من بعده فهم المقلّدة حقيقة حيث أخذوا بأقواله الفاسدة وارتضوا استدلالاته عليها من دون نظر حتّي في صدر الآية وذيلها.

ص: 258


1- 339.. الفتوحات المكيّة، ج3، ص433.
2- 340.. الواقعة56.، الآية 85.
3- 341.. الواقعة56.، الآيات 83 - 94.

فالآية في مقام بيان شدّة إحاطته تعالي بعباده وسلطنته عليهم، وأنّه لا يمكن الفرار من حكومته، وأنّه لا يعزب عن علمه وقدرته مثقال ذرّة، كما ورد في ساير الآيات:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُهُ وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيْدِ﴾؛(1)

و﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعمَلوُنَ بَصِيْرٌ﴾؛(2)

و﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَا يَكُوْنُ مِنْ نَ-جْوي ثَلاثَةٍ إلنا هُوَ رَابِعُهُمْ ولاخَمْسَةٍ إلنا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْني مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلنا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَي ءٍ عَلِيمٌ﴾.(3)

وقد قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في جواب الزنديق الذي كان يتوهّم التناقض في القرآن:

وقوله: ﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ﴾ وقوله: ﴿وَنَ-حْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيْدِ﴾ فكذلك اللّه تبارك وتعالي سبّوحاً قدّوساً، تعالي أن يجري منه ما يجري منالمخلوقين وهو اللطيف الخبير، وأجلّ وأكبر أن ينزل به شيء ممّا ينزل بخلقه وهو علي العرش استوي علمه، شاهد لكلّ نجوي، وهو الوكيل علي كلّ شيء، والميّسر لكلّ شيء، والمدبّر للأشياء كلّها، تعالي اللّه عن أن يكون علي عرشه علوّاً كبيرا.(4)

ص: 259


1- 342.. ق50.، الآية 16.
2- 343.. الحديد57.، الآية 4.
3- 344.. المجادلة58.، الآية7.
4- 345.. التوحيد، ص265، ح5؛ بحارالأنوار، ج90، ص137، ح2.

الوجه الثامن: علم الباري تعالي بأفعال العباد

اشارة

وقد قرّبوا ذلك بوجهين:

علمه تعالي بصدور الفعل من العبد

الأوّل: إنّ اللّه تعالي عالم بكلّ شيء ومنه أفعال العباد فيعلم طاعة المطيع -- كصلاة زيد -- وعصيان العاصي -- كشرب عمرو الخمر --، وهما لا يقدران علي ترك ما فعلاه، لأنّه يلزم الجهل في حقّه تعالي.

يقول الآخوند ملّاصدرا:

حيث إنّ اللّه تبارك وتعالي إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلانيّ في الوقت الفلانيّ فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً وذلك محال والمؤدّي إلي المحال محال، فعدم وقوع الفعل محال فوقوعه واجبٌ لاستحالة خروجه من طرفي النقيض.(1)

و قال الشاعر:

مِي خوردن من حقّ ز ازل مي دانست گر مِي نخورم علم خدا جهل شود(2)

علمه تعالي علّة لأفعال العباد
اشارة

الثاني: إنّ علمه تعالي فِعْليّ وعِلّيّ بمعني أنّ علمه عين ذاته التي حيثه العلّيّة لكلّ شيء فيجب أن يكون علمه أيضاً علّة لكلّ شيء ومنه أفعال العباد فيجب وقوعها.

الجواب:
أمّا عن التقريب الأوّل: تعلّق علمه تعالي بصدور الفعل عن اختيار وليس عن جبر

إنّ اللّه تعالي يعلم أنّ المطيع والعاصي يقدّمان علي الطاعة والمعصية بالاختيار فلو حصلت الطاعة والمعصية منهما من دون الاختيار يلزم الجهل في حقّهتعالي. أمّا لو تحقّقت الطاعة

ص: 260


1- 346.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص318.
2- 347.. ترجمته: كان (اللّه) يعلم شربي للخمر مذ الأزل إذا لم اشرب يكون علمه جهلاً.

والمعصية بالإرادة والاختيار فيكون علمه تعالي مطابقاً للمعلوم.

والحلّ:

العلم كاشف للواقع وليس صانع له

إنّ العلم ليس من أجزاء علّة الفعل بل العلم كاشف عن المعلوم وتابع له، فليس العلم بشيء سبباً لوقوعه وتحقّقه إنّما السبب لوقوع الفعل إرادة المختار وهذا الفعل يكون منوَّراً ومكشوفاً بنور العلم قبل تحقّقه وكيانه، والتغيير في الخارج لا يوجب التغيّر في العلم حيث إنّه الكشف عمّا يتحقّق خارجا.

مثلاً (وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد من جهات): لو كان هناك أستاذ وعنده تلاميذ يدرسون عنده، فبعد مضيّ مدّة من زمان تعلّمهم وبعد أن عرف المعلّم أحوال تلاميذه وخصوصيّاتهم وشدّة اعتنائهم بالدرس، يقول: إنّ فلاناً وفلاناً سينجحان في نهاية السنة، ويسمّي شخصاً آخر ويقول: إنّه لا ينجح في هذه السنة الدراسيّة، ولنفرض أنّ هذا التنبّؤ لا يكون مجرّد تخرّص منه بل علماً يقينيّاً يطابق الواقع. هل يمكن أن يقال: إنّ ذلك الشخص قد خسر في الامتحان لأنّ المعلّم كان يعلم منه ذلك؟

كلّا! فإنّ المعلّم كان يعلم أنّه لا يهتمّ بالدراسة وهو متسامح في ذلك، فيخسر بسوء اختياره، والطائفة الأولي ينجحون في الامتحان بحسن اختيارهم.

وهكذا الأمر بالنسبة إلي علم اللّه تعالي بأفعال العباد، فهو يعلم أنّ المطيع يطيعه بحسن اختياره والعاصي يعصيه بسوء اختياره فيعلم ذلك تبعاً لفعل المكلّف لا أنّ المكلّف يطيع ويعصي تبعاً لعلم الباري، وهذا مراد المحقّق الطوسيّ(رحمه الله) حيث قال في التجريد: «والعلم تابع».

الفرق بين العلم المحمول والمكفوف

هذا مضافاً إلي أنّ هذه الشبهة موردها هو العلم المحمول الذي يمكن فيه البداء فيمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، فلو كان في علم اللّه تعالي المحمول الذي حمّله الحملة،

ص: 261

أنّ فلاناً يذنب بسوء اختياره فهو قادر علي محو ذلك وإثبات شيء آخر لو أراد العبد ذلك، ولا يستلزم الجهل في الساحة الربوبيّة، لأنّ البداء إنّما يكون ناشئاً من العلم المحيط علي الزمانوهو علم غير محمول وغير محدود ولا تعيّن فيه، واللّه تعالي قد أعطي العبد القدرة علي الفعل والترك وحمّل علمه الحملة أعني الرسول الأكرم وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين، وبما أنّ للعبد القدرة علي الفعل والترك فإذا شاء أمراً يبدّل اللّه تعالي العلم المحمول ولا ضير في ذلك كما ثبت في محلّه.

توضيح ذلك: إنّ اللّه تعالي يعلم الكائنات واللا كائنات فبعلمه السابق علي المعلوم علم فعل العبد وحمّل علمه الحملة(عليهم السلام)، فعلموا به فعل العبد وهذا هو العلم المحمول والمتعيّن، وشَرَطَ لذلك البداء علي نفسه، فليس هذا التقدير تقديراً لازماً ولا قدراً حتماً ولذا يكون للعبد أن يشاء الطرف الآخر فيبدّل اللّه تعالي العلم المحمول الذي هو بالثبت في قلب المعصوم، وبما أنّ العلم الغير محمول لا تعيّن فيه وهو كاشف عن جميع الفرضيّات والتقادير وكاشف عن الكون واللاكون والفعل والترك لا يلزم الجهل في حقّه تعالي فإنّه تعالي يعلم جميع التقادير فيعلم طرف الفعل ويعلم طرف الترك وأمّا وقوع أحد الأطراف فيكون بتحميل العلم الحملة وهو يقبل التبديل وبذلك تنقلع مادّة الشبهة.

هذا، وتفصيل الكلام حول البداء يستدعي مجالاً آخر وقد بحثنا ذلك في محلّه.

قال المحقّق نصير الدين الطوسيّ في الجواب عن شعر خيّام:

علم ازلي علّت عصيان بودن نزد عقلاء زغايت جهل بود(1)

و لقد أجاد بعض أساتذتنا حيث قال:

كن توبه ز خوردن شراب اي خيّام زانكه محو واثبات بر خدا سهل بود

دانست خدا باختيار خواهي خورد جبراً بخوري علم خدا جهل بود(2)

و لعلّ هذا الحديث يشير إلي ما بيّناه:

ص: 262


1- 348.. ترجمته: إن يقال بأن العلم الأزليّ هو علّة العصيان هذا لديٰ العقلاء في غاية الجهل.
2- 349.. ترجمته: تب من شرب الخمر يا «خيام» لأنّ المحو و الإثبات سهل عند الله إنّه تعاليٰ علم إنّك تشرب باختيارك إذا كنت تشربه جبراً يكون علمه جهلاً

في الكافي: عن صالح النيلي قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام): هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي:

إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها اللّه فيهم، قال: قلت وما هي؟ قال: الآلة مثل الزاني إذا زني كان مستطيعاً للزنا حين زني، ولو أنّه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذاترك، قال: ثمّ قال(عليه السلام): ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً، قلت: فعلي ماذا يعذّبه؟ قال: بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم، إنّ اللّه لم يجبر أحداً علي معصيته، ولا أراد -- إرادة حتم -- الكفر من أحد، ولكن حين كفر كان في إرادة اللّه أن يكفر، وهم في إرادة اللّه وفي علمه أن لا يصيروا إلي شيء من الخير، قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول ولكنّي أقول: علم أنّهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنّما هي إرادة اختيار.(1)

وقد عرفت معني إرادة العزم والاختيار في البحث عن إرادته تعالي، وقلنا أنّ المراد منها هو أن يجعل اللّه الإنسان شائيّاً قادراً، ويهيّأ له أسباب الفعل والترك، كي يكون العبد هو الذي يختار ويفعل، فقوله(عليه السلام): كان في إرادة اللّه أن يكفر يعني أنّ اللّه تعالي أعطاهم القدرة وهيّأ لهم الأسباب وأقدرهم علي فعل المعاصي وتركها وعلم أنّهم يرتكبون السيّئات بسوء اختيارهم ولم يحل بينهم وبين المعصية ووكلّهم إلي أنفسهم، فهو تعالي عالم بصدور المعاصي عنهم بقدرتهم وإرادتهم المستندة إليها وليست هي إرادة حتم لإمكان البداء.

قال شيخنا الأستاذ العلّامة الميرزا جواد آقا الطهرانيّ(قدس سره):

لمّا لم تكن مشيّة الحقّ المتعال وإرادته عين ذاته القدوس وليست ازلية، وليست بمعني الحبّ والعشق والشهوة والرضا، كما أنّ تعلّقها بالأفعال الاختياريّة الصادرة عن المخلوق ليست بالحتم والجبر والاضطرار بل بالاختيار، أي إنّها تعلّقت بصدور الأفعال عن المخلوق بالاختيار، مضافاً إلي أنّها بالنسبة إلي الذات القدوس المتعال ليست بالحتم واللزوم، اي إنّها قابلة للتغيير والبداء.

فما يمكن أن يقال: علي سبيل الاحتمال هو أنّ إرادته تعالي ومشيّته هما تعيّنات

ص: 263


1- 350.. الكافي، ج1، ص162.

علميّة وثابتات في العلم المحمول، كما أنّ التقدير والقضاء لا يكونا بمعني الخلق والالزام وسائر المعاني، بل لعلّهما لا يكونا إلّا التعيين وتقدير الخصوصيّاتوجهات الشيء في العلم المحمول ومن ثمّ الإعلان والإخبار علي سبيل الإحكام والإتقان.

ثمّ إنّ كلّ واحدة من هذه الأمور تابعة للمرحلة السابقة إلي أن ينتهي الأمر إلي المشيّة، والمشيّة تابعة للعلم، و العلم في كشفه تابع للمعلوم. والنتيجة هو أنّ الله تعالي علم إنّ المخلوقات بعد خلقهم واعطائهم القدرة والاختيار علي افعالهم سيفعلون كذا وكذا، فشاء كما علم، فأراد ما شاء، فقدر ما أراد وقضي ما قدر.

وعليه لا يلزم أيّ محذور ولا يبقي أيّ إشكال في البين، ولا يستلزم الجبر والاضطرار في أفعال البشر بوجه، كما لا يلزم التفويض أبدا، وهذا هو الأمر بين الأمرين. (1)

ص: 264


1- 351.. ميزان المطالب، ج2، ص77-78: و چون مشيت وارادۀ حق تعالي ازلي و عين ذات او نيست، و نيز به معناي حبّ و عشق و شهوت و رضا نباشد، و نيز بالحتم والجبر والاضطرار بالنسبة به افعال اختياري مخلوق نيست بل بالاختيار است، يعني به اينكه صدور افعال از آنان به اختيار آنان باشد. گذشته از آن كه بالنسبة به ذات مقدّس حقّ متعال نيز بالحتم واللّزوم نيست، يعني قابل تغيير و بدا باشد. بلكه آنچه توان گفت بر سبيل امكان و احتمال: مشيّت و ارادۀ حقّ تعالي آن دو همانا تعيّنات علمي و ثابتات در علم محمول است، چنانكه تقدير و قضا نيز به معناي خلق و الزام و ساير معاني نيست، بلكه شايد جز به معناي تعيين و تقدير خصوصيّات و جهات شيء در علم محمول و اِعلام و اِخبار بر سبيل اِحكام و اِتقان اَمر آخري نبوده باشد. در صورتي كه هر يك از اين اُمور تابع امر سابق بر مرتبۀ خود تا اينكه همگي تابع مشيّت و مشيّت نيز تابع علم و علم در كشف نيز تابع معلوم خود باشد. يعني: عَلِمَ اللّه تعالي أنّ المخلوق بعد خلقهم وإعطائهم القدرة والاختيارعلي الأفعال أنّهم سيفعلون كذا وكذا، فشاء كما علم، فأراد ما شاء، فقدّر ما أراد، وقضي ما قدّر. بنابراين هيچگونه محذوري و اشكالي در مطلب نخواهد بود و به هيچ گونه مستلزم جبر و اضطراري در افعال بشر نخواهد شد در حالي كه تفويض نيز أبداً لازم نيايد، و هذا هو الأمر بين الأمرين. «أقول» ثمّ لا يخفي أنّ ما ذكرناه في الجواب عن هذه الشبهة من أنّ العلم تابع ومن إمكان البداء، إنّما هو مبنيٌّ علي كون المراد من العلم هو العلم المحمول الذي حمّله اللّه تعالي الملائكة والأنبياء والرسل والأئمّة(عليهم السلام). وهو عبارة عن إخبار اللّه تعالي إيّاهم بما شاء وأراد وقدّر وقضي، فإنّ قلوب الأئمّة(عليهم السلام) أوعية مشيّته تعالي ووكر إرادته، وهم خزّان علمه وحملة وحيه وأمنائه علي سرّه. توضيح ذلك: إنّ اللّه تعالي أخبر حجّته بأنّ زيداً مثلاً سيكون حيّاً قادراً شائيّاً ويفعل بقدرته هكذا. والعلم هنا تابع لما يفعله زيد، ويمكن فيه البداء بتغيير ما أثبته في وعاء المشيّة سابقاً. وأمّا بالنسبة إلي العلم المكفوف وهو العلم غير المحمول الذي هو عين ذاته القدّوس، فهو لا حدّ له ولاتعيّن فيه ولا يتوقّف علي معلوم أبداً. فإنّ علمه تعالي بالأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها وتحقّقها، وهو علم كلّه، ويعلم لكلّ شيء حدوداً بلا نهاية. فلا يصحّ ما ذكره المستشكل من أنّ علمه تعالي بالمعصية علّة لصدورها عن العبد، لعدم التعيّن في علمه الذاتي المكفوف غير المحمول، فإنّه كما يعلم صدور المعصية يعلم عدم صدورها، لعدم التعيّن فيه. فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ مراد المستشكل ممّا ذكره من كون علمه تعالي علّة لمعصية العبد لو كان هو العلم الذاتي المكفوف، فمن الواضح أنّه لا تعيّن فيه ولا يكون محدوداً بحدٍّ، ولا مقدّراً بقدرٍ، فلا يكون تابعاً لعدم التعيّن، ولا متبوعاً لإستغنائه عن المعلوم. فيبطل الإشكال من أساسه وينهدم من بنيانه. ولو كان مراده ممّا ذكر هو العلم المحمول فقد مرّ الجواب عنه بأنّه تابع، مضافاً إلي إمكان البداء فيه.
وأمّا الجواب عن التقريب الثاني

فقد مرّ بيان فساد القول بأنّه تعالي علّة العلل وأنّ ذاته القدّوس علّة للممكنات. وذكرنا أنّه يوجب الالتزام بمفاسد لا يلتزم بها المؤمن من قدم المخلوقات ولزوم صدورها عنه تعالي بلا إرادة منه وكون يده تعالي مغلولة لا يقدر علي شيء لا علي الزيادة ولا علي النقيصة، ولكنّه إله قدّوس، فعّال لما يشاء، يحكم ما يريد وهو علي كلّ شيء قدير. فقد كان ربّنا جلّ ثنائه لم يزل والعلم ذاته ولا معلوم وكان عالماً بما يكوّن ويقدّر قبل أن يخلق الخلق، ثمّ خلق الخلق فوقع العلم منه علي المعلوم.

في التوحيد الصدوق: عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول:

لم يزل اللّه عزّوجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الاشياء وكان المعلوم وقع العلم منه علي المعلوم والسمع علي المسموع، والبصر علي المبصر، والقدرة علي المقدور، قال: قلت: فلم يزل اللّه متكلّماً؟ قال: إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة، كان اللّه عزّوجلّ ولا متكلّم.(1)

هذا، مضافاً إلي أنّه لا ريب أنّ العلم كاشف عن المعلوم قبل تحقّقه، وكاشف عن المعلول لا أنّه علّة له، لأنّه ليس من أجزاء العلّة (علي ما ذكره الفلاسفة)،فإنّ العلّة عندهم تتناسب مع المعلول، بل المعلول هو نفس وجود العلّة في المرتبة الضعيفة، فالإحراق مفتقر إلي علّة تناسبه وهي النار وليس العلم بالإحراق من أجزاء العلّة ولا يوجب الإحراق،

ص: 265


1- 352.. التوحيد، ص139، ح1؛ بحارالأنوار، ج4، ص71، ح18.

بل النار توجب الإحراق سواء حصل العلم بها أم لا، ولا يصحّ أن يقال: احترق الخشب لوجود العلم بالاحتراق، لكنّه يقال: احترق لوجود علّة الاحتراق، وبعد الاحتراق يحصل العلم به، فالعلم كما قال الخواجة، تابع للواقع كيفما حصل حسب ما تقتضيه علّة وجوده، لا أنّه علّة لحصول ما يتحقّق.

تذكرة: في علمه تعالي

لا يخفي أنّ علم اللّه تبارك وتعالي ليس كعلمنا حاصلاً من الآثار والخصوصيّات الموجودة في الأشياء، إنّما هو علم محيط بجميع ماسواه غير محدود بحدّ، فلم يزل اللّه عالماً بما كان وما هو كائن وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون،(1) ولم يزل عالماً بما كوّن قبل تكوينه، فعلمه

ص: 266


1- 353.. عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ، قال لقيته(عليه السلام) علي الطريق عند منصرفي من مكّة إلي خراسان وهو سائر إلي العراق ... قلت: جعلت فداك قد بقيت مسألة، قال: هات للّه أبوك. قلت: يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون؟ قال: ويحك إنّ مسائلك لصعبة، أما سمعت اللّه يقول: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ وقوله: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَي بَعْضٍ﴾ وقال يحكي قول أهل النار: ﴿أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ وقال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ فقد علم الشي ء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ... . التوحيد، ص65، ح18؛ بحارالأنوار، ج4، ص82، ح10. وعن عبد اللّه ابن مسكان، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن اللّه تبارك وتعالي أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عند ما خلقه وبعد ما خلقه؟ فقال: تعالي اللّه، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد ما كوّنه، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان. التوحيد، ص137، ح9؛ بحارالأنوار، ج4، ص85، ح20. وعن أبي الحسن عليّ بن موسي الرضا(عليهما السلام)، قال: سألته أيعلم اللّه الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون أو لا يعلم إلّا ما يكون؟ فقال: إنّ اللّه تعالي هو العالم بالأشياء قبل كون الاشياء، قال اللّه عزّوجلّ: ﴿َإِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقال لأهل النار: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ فقد علم اللّه عزوجل أنه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه، وقال للملائكة لمّا قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فلم يزل اللّه عزّوجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها، فتبارك ربّنا تعالي علوّاً كبيراً خلق الأشياء وعلمهبها سابق لها كما شاء، كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيرا. التوحيد، ص136، ح8؛ بحارالأنوار، ج4، ص78، ح1. وبهذا المضمون روايات أخر.

به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه،(1) وهو تعالي لم يزل علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه.(2)

بخلاف علمنا المحدود الحاصل من الآثار والخصوصيّات الثابتة في الأشياء، كما نعلم بوجود النار عند وجدان الحرارة أو المعلّم يعلم مستقبل التلميذ بمشاهدة سعيه وجدّه في التحصيل، وأحياناً نحسب تخرّصاتنا علماً فنبتلي بالخطأ والغلط في محاسباتنا.(3)

ص: 267


1- 354.. عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: سمعته يقول: كان اللّه ولا شيء غيره، ولم يزل عالماً بما كوّن، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه. التوحيد، ص145، ح12؛ بحارالأنوار، ج54، ص82، ح61.
2- 355.. في توحيد الصدوق عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: إنّ اللّه علم لا جهل فيه، حياة لاموت فيه، نور لاظلمة فيه. التوحيد، ص137، ح11؛ بحارالأنوار، ج4، ص84، ح16.
3- 356.. ولا يخفي أنّ نور العلم مستغن عن المعلوم، وقد أشبعنا الكلام في مبحث العلم بلا معلوم في محلّه، واحتساب التخرّص والحدس علماً إنّما يكون لأجل نقصان أنفسنا بمحروميّتها عن نور العلم.

الوجه التاسع: لزوم العلم بالفعل ليكون إراديّاً

اشارة

إنّ الفعل الاختياريّ هو ما يكون صادراً عن الإرادة. وواضح أنّ من مقدّمات الإرادة العلم بالمراد والتصديق بفائدته، وليس للفاعل العلم بجميع خصوصيّات الفعل، مثلاً الذي يشرب الماء لا يعلم ماهيّة الماء ومقداره دقيقاً، وأيضاً لا يعلم شرائط تحقّقه وموانعه تحقيقاً وكذا لا يعلم حقيقة الشرب، فعلي هذا لا يمكن أن يحصل له الإرادة بالنسبة إلي شربه فلا يكون الفعل اختياريّا.

الجواب:
حصول الخلط بين القدرة والإرادة

إنّ هذه الشبهة نشأت لأجل الخلط وعدم التمييز بين تعلّق القدرة بالفعل وبين تعلّق الإرادة به، ذلك أنّ القدرة علي الفعل لا تتوقّف علي العلم به من جميع الخصوصيّات وأمّا الإرادة فتعلّقها بالفعل إنّما يكون من الجهة التي هو عالم بها، مثلاً لو شرب أحد الماء النجس في شهر رمضان مع العلم بكونه مفطراً والجهل بنجاسته، فحينئذ يكون الشرب مفطرا واختياريّاً ويعاقب عليه، أمّا شرب النجس والإفطار بالحرام فلا، لأنّه لم يرده للجهل بالنجاسة، ولا ضير في أن يكون الفعل مراداً من جهةٍ وغير مرادٍ من جهة أخري مع كونه مقدوراً.

ص: 268

الوجه العاشر: قدرة اللّه المطلقة
اشارة

هذا الدليل مركّب من صغري وكبري:

الصغري: كلّ ممكن مقدور للّه تعالي.

الكبري: لا يقع شيء ممّا يكون مقدوراً للّه تعالي تحت قدرة العبد واختياره، لأنّه يلزم من ذلك اجتماع قدرتين علي الفعل الصادر عن العبد وهو مستحيل، لاستحالة إجتماع علّتين علي معلول واحد.

فينتج: أنّ أفعالنا بما أنّها من الممكنات تكون تحت قدرة اللّه تعالي وخارجة عن سلطنتنا وقدرتنا.

الجواب:
كشف المغالطة بالفرق بين القدرة وإعمال القدرة

إنّ المقدّمة الأولي بديهيّة ولا إشكال فيها. لكنّ الكلام في المقدّمة الثانية فإنّ فيها مغالطة بيّنة، لأنّ القدرة غير إعمال القدرة وإذا كان شيئاً مقدوراً للّه تعالي فليس بمعني أنّه تعالي قد فعل ذلك الشيء، وإلّا فيصحّ أن يقال: «لمّا كان اللّه قادراً علي خلق إنسان له عشر رؤوس فيجب أن يكون مخلوقاً»، والمستحيل هو إعمال قدرتين مستقلّتين في شيء واحد لا كون شيء واحد مقدوراً لإثنين أو أكثر مع عدم إعمال القدرة فيه إلّا من قادر وفاعل واحد، ولا يلزم من ذلك توارد علّتين علي معلول واحد.

نعم إذا أعمل اللّه تبارك وتعالي قدرته في شيء من الممكنات فسوف يستحيل من العبد إعمال القدرة فيه، ولكن ما دام أنّه تعالي لم يعمل قدرته فيه فيمكن للعبد أن يعمل قدرته فيه إذا كان مقدوراً له.

بعبارة أخري: القدرة عبارة عن التمكّن من الفعل والترك والسلطنة عليهما بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، ولا يلزم من اجتماع قدرتين علي مقدور واحد أيّ محذور، كما أنّ رفع هذا الحجر من الأرض مقدور لزيد وفي نفس الوقت مقدور لعمرو بمعني كونهما

ص: 269

قادرين علي رفعه بالاستقلال، إنّما المستحيل اجتماع قدرتين مستقلّتين علي مقدور واحد وإعمالهما فيه، لا بنحو جزء العلّة. وفي ما نحن فيه إنّ حركة يد العبد مقدور للعبد وللّه تعالي ولا يلزم منه أيّ إستحالة، نعم لو أوجد اللّه تبارك وتعالي الحركة في يد العبد فلا يمكن للعبد إيجاد الحركة فيها كما أنّه لا يستطيع أن يمنعها من الحركة.

وأمّا تعلّق إرادة اللّه تعالي بالفعل الصادر عن العبد فقد مضي البحث عنه وقلنا إنّه من المحالات للزوم التناقض والخلف. إنّما تعلّقت إرادته تعالي -- في الأفعال الاختياريّة -- بكون العبد ذا مشيّة وقدرة، وأمّا الفعل والترك فلم يتعلّق إرادة اللّه تعالي بهما بل هما مرادان للعبد.

إلي هنا تمّت المناقشة في الأدلّة العقليّة التي يتمسّك بها لإثبات مذهب الجبر، وقد رأيت أنّها ليست إلّا من قبيل الشُّبهة في مقابل البديهة ولا تستحقّ التسمية بالدليل العقليّ والبرهان أبدا.

ص: 270

الفصل الثاني :في بيان ما تشبّث به المجبّرة من الأدلّة النقليّة

اشارة

ص: 271

ص: 272

إنّ المجبّرة قد تشبّثوا لإثبات مدّعاهم بآيات وأخبار ليست ناصّة فيما ادّعوه، بل هي من المتشابهات، ولا يصحّ الاستدلال بشيء منها لوجهين:

عدم صحة الاستدلال بالأدلّة النقليّة للجبر

أحدهما: إنّ الاستدلال بها ستدلال بالمجمل والمتشابه، ومن الواضح البديهيّ عدم صحّة الإستدلال بما لا يكون نصّاً في المطلوب ولا ظاهراً فيه، بل يكون من المجملات والمتشابهات، كما سيتّضح ذلك إن شاء اللّه تعالي.

وثانيهما: لا وقع للإستدلال بالآيات المتشابهة وشواذّ الأخبار المتشابهة مع وجود أدلّة نقليّة قطعيّة من الآيات الناصّة علي نفي الجبر، والأخبار المتواترة بل فوق التواتر الصريحة في ذلك، وكذا الآيات والأخبار الظاهرة في إسناد أفعال العباد إليهم بل الناصّة في ذلك.

ولو ثبت ظهور لما يدّعي ظهوره من الآيات والأخبار فيما ذهبوا إليه من الجبر، فلا يكون مراداً قطعاً، بل هو ظهور بدويّ يزول بالتأمّل فيما يظهر للإنسان بنور العقل، ويزول أيضاً بالتأمّل في الآيات والأخبار الصريحة في نفي الجبر وتلك الظواهر المدّعاة لو كانت ظاهرة فهي غير مرادة قطعاً بالضرورة من الدين.

وقد ذكرنا جملة من الآيات النافية للجبر في ابتداء البحث، ونذكر هنا جملة من الأخبار الدالّة علي ذلك.

الأخبار الصريحة في نفي الجبر

1. أعلام الدين للديلميّ: روي أنّ طاووس اليمانيّ دخل علي جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام)

ص: 273

وكان يعلم أنّه يقول بالقدر، فقال له:

يا طاووس من أقبل للعذر من اللّه ممّن اعتذر وهو صادق في اعتذاره؟ فقال له: لا أحد أقبل للعذر منه، فقال له: من أصدق ممّن قال: لا أقدر وهو لا يقدر؟ فقال طاووس: لا أحد أصدق منه، فقال الصادق(عليه السلام) له: يا طاووس فما بال من هو أقبل للعذر لا يقبل عذر من قال: لا أقدر وهو لا يقدر؟ فقام طاووس وهو يقول: ليس بيني وبين الحقّ عداوة، ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَ-جْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾،(1) فقد قبلت نصيحتك.(2)

2. الطرائف: روي كثير من المسلمين عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام) أنّه قال يوماً لبعض المجبّرة:

هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من اللّه؟ فقال: لا، فقال: فما تقول فيمن قال ما أقدر وهو لا يقدر؟ أيكون معذوراً أم لا؟ فقال المجبّر: يكون معذوراً،قال له: فإذا كان اللّه يعلم من عباده أنّهم ما قدروا علي طاعته وقال لسان حالهم أو مقالهم يوم القيامة: يا ربّ ما قدرنا علي طاعتك لأنّك منعتنا منها أما يكون قولهم وعذرهم صحيحاً علي قول المجبّرة؟ فقال: بلي واللّه فقال: فيجب علي قولك أن اللّه يقبل هذا العذر الصحيح ولا يؤاخذ أحداً أبداً وهذا خلاف قول أهل الملل كلّهم. فتاب المجبّر من قوله بالجبر في الحال.(3)

3. الطرائف: روي أنّ رجلاً سأل جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) عن القضاء والقدر فقال:

ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل اللّه، يقول اللّه تعالي للعبد: لم عصيت؟ لم فسقت؟ لم شربت الخمر؟ لم زنيت؟ فهذا فعل العبد؛ ولا يقول له: لم مرضت؟ لم قصرت؟ لم ابيضضت؟ لم اسوددت؟ لأنه من فعل اللّه تعالي.(4)

4. الطرائف: روي أنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلي الحسن البصريّ وإلي عمرو بن

ص: 274


1- 357.. الأنعام6.، الآية 124.
2- 358.. اعلام الدين في صفات المؤمنين، ص317؛ بحارالأنوار، ج5، ص58، ح105.
3- 359.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص327؛ بحارالأنوار، ج5، ص58، ح107.
4- 360.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص330؛ بحارالأنوار، ج5، ص59، ح109.

عبيد وإلي واصل بن عطا وإلي عامر الشعبيّ أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصريّ: إنّ أحسن ما انتهي إليَّ ما سمعت أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالب(عليهما السلام) أنّه قال:

أتظنّ أنّ الذي نهاك دهاك؟ وإنّما دهاك أسفلك وأعلاك، واللّه برئ من ذاك. وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليهما السلام): لو كان الزور في الأصل محتوماً كان المزوّر في القصاص مظلوماً. وكتب إليه واصل بن عطا: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب(عليهما السلام): أيدلّك علي الطريق ويأخذ عليك المضيق؟. وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالب(عليهما السلام): كلّ ما استغفرت اللّه منه فهو منك، وكلّ ما حمدت اللّه عليه فهو منه. فلمّا وصلت كتبهم إلي الحجّاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية.(1). روي الصدوق بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسي بن جعفر(عليهم السلام) يقول:

من قال بالجبر فلا تعطوه من الزكاة ولا تقبلوا له شهادة، إنّ اللّه تبارك وتعالي لا يكلّف نفساً إلّا وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي﴾(2) .(3)

6. روي الصدوق بسنده عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسي الرضا(عليهما السلام)، قال: قلت له: يا ابن رسول اللّه إنّ الناس ينسبوننا إلي القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمّة(عليهم السلام)، فقال:

يا ابن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمّة(عليهم السلام) في التشبيه والجبر أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) في ذلك؟! فقلت: بل ما روي عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) في ذلك أكثر، قال: فليقولوا: إنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) كان يقول

ص: 275


1- 361.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص329؛ بحارالأنوار، ج5، ص58، ح108.
2- 362.. الأنعام6.، الآية 164.
3- 363.. التوحيد، ص362، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح21.

بالتشبيه والجبر إذاً، فقلت له: إنّهم يقولون: إنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لم يقل من ذلك شيئاً وإنّما روي عليه، قال: فليقولوا في آبائي(عليهم السلام): إنّهم لم يقولوا من ذلك شيئاً وإنّما روي عليهم، ثمّ قال(عليه السلام): من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة، يا ابن خالد إنّما وضع الأخبار عنّا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغّروا عظمة اللّه، فمن أحبّهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبّنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برّنا، ومن برّهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردّنا، ومن ردّهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدّقهم فقد كذّبنا، ومن كذّبهم فقد صدّقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا، يا ابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتّخذنّ منهم وليّاً ولا نصيراً.(1)

7. الخصال: بإسناده عن عليّ بن سالم، عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام):أدني ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يجلس إلي غال ويستمع إلي حديثه ويصدّقه علي قوله، إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه(عليهم السلام) أنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) قال: صنفان من أمّتي لا نصيب لهما في الاسلام: الغلاة والقدريّة.(2)

8. وبإسناده عن ابن أبي ليلي، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

صنفان من أمّتي ليس لهما في الاسلام نصيب: المرجئة، والقدريّة.(3)

9. وبإسناده عن عبد اللّه بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن عليّ(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا خلق الجنّة خلقها من لبنتين، لبنة من ذهب، ولبنة من فضّة، وجعل حيطانها الياقوت، وسقفها الزبرجد، وحصبائها اللؤلؤ وترابها الزعفران والمسك الأزفر، فقال لها: تكلّمي، فقالت: لا إله إلّا أنت الحيّ القيّوم،

ص: 276


1- 364.. التوحيد، ص363، ح12؛ بحارالأنوار، ج3، ص294، ح18.
2- 365.. الخصال، ج1، ص72، ح109؛ بحارالأنوار، ج5، ص8، ح9.
3- 366.. الخصال، ج1، ص72، ح110؛ بحارالأنوار، ج5، ص7، ح7.

قد سعد من يدخلني. فقال عزّ وجلّ: بعزّتي وعظمتي وجلالي وارتفاعي لا يدخلها مدمن خمر، ... ولا قاطع رحم، ولا قدريّ.(1)

10. عيون أخبار الرضا(عليه السلام): السنانيّ، عن الأسديّ، عن سهل، عن عبد العظيم الحسني، عن إبراهيم ابن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) ... عن اللّه عزّوجلّ هل يجبر عباده علي المعاصي؟ فقال:

بل يخيّرهم ويمهلهم حتّي يتوبوا، قلت: فهل يكلّف عباده ما لا يطيقون؟ فقال: كيف يفعل ذلك وهو يقول: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(2)؟ ثمّ قال(عليه السلام): حدّثني أبي موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد(عليهم السلام) أنّه قال: من زعم أنّ اللّه يجبر عباده علي المعاصي أو يكلّفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا ورائه، ولا تعطوه من الزكاة شيئا.(3)

11. التوحيد و معاني الأخبار: بإسناده عن أبي أحمد محمّد بن أحمد بن الزاهد السمرقنديّ بإسناد رفعه إلي الصادق(عليه السلام) أنّه سأله رجل فقال له:إنّ أساس الدين التوحيد والعدل، وعلمه كثير لابدّ لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه، ويتهيّأ حفظه. فقال: أمّا التوحيد فأن لا تجوّز علي ربّك ما جاز عليك، وأمّا العدل فأن لا تنسب إلي خالقك ما لامك عليه.(4)

12. نهج البلاغة: سئل(عليه السلام) عن التوحيد والعدل، فقال:

التوحيد أن لا تتوهّمه والعدل أن لا تتّهمه.(5)

13. قال الصادق(عليه السلام) لهشام بن الحكم:

ألا أعطيك جملة في العدل والتوحيد؟ قال: بلي جعلت فداك، قال: من العدل أن لا تتّهمه، ومن التوحيد أن لا تتوهّمه.(6)

ص: 277


1- 367.. الخصال، ج2، ص435، ح22؛ بحارالأنوار، ج5، ص10، ح15.
2- 368.. فصّلت41.، الآية 46.
3- 369.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص123؛ بحارالأنوار، ج5، ص11، ح17.
4- 370.. التوحيد، ص96، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح23.
5- 371.. نهج البلاغة، الحكمة 470، ص558.
6- 372.. اعلام الدين في صفات المؤمنين، ص318؛ بحارالأنوار، ج5، ص58، ح106.

14. التوحيد: المفسّر بإسناده إلي أبي محمّد(عليه السلام) قال: قال الرضا(عليه السلام):

ما عرف اللّه من شبّهه بخلقه، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده ... .(1)

15. الطرائف: روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا(عليه السلام) بين يدي المأمون فقال: يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال:

اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذّبهم، قال: فمطلقون؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلي نفسه.(2)

16. تفسير عليّ بن إبراهيم: قوله: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم﴾ إلي قوله: ﴿سَابِقِينَ﴾(3):

فهذا ردّ علي المجبّرة الذين زعموا أنّ الأفعال للّه عزّ وجلّ، ولا صنع لهم فيها ولا اكتساب، فردّ اللّه عليهم فقال: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾،(4) ولم يقل: بفعلنا لأنّه عزّ وجلّ أعدل من أن يعذّب العبد علي فعله الذي يجبره عليه.(5)

17. وعنه: بإسناده عن السكونيّ قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

وجدت لأهل القدر أسماءً في كتاب اللّه: ﴿إِنَّ الْمُ--جْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَي وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(6) فهم المجرمون.(7).

18. الاحتجاج: و روي أنّه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد اللّه بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة إنّ ههنا جعفر بن محمّد من علماء آل محمّد(عليهم السلام) فاذهب بنا إليه نقتبس منه علماً، فلمّا أتيا إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، فبينما هم

ص: 278


1- 373.. التوحيد، ص47، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ج29، ح34.
2- 374.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص330؛ بحارالأنوار، ج5، ص59، ح110.
3- 375.. العنكبوت29.، الآية 39.
4- 376.. العنكبوت29.، الآية 40.
5- 377.. تفسير القمّيّ، ج2، ص150؛ بحارالأنوار، ج5، ص17، ح24.
6- 378.. القمر54.، الآية 47-49.
7- 379.. بحارالأنوار، ج5، ص17، ح25، لا يخفي أنّ أهل القدر كما يطلق علي المجبّرة، يطلق علي المفوّضة أيضاً ولعلّ المراد من أهل القدر في خصوص هذا الخبر هم المفوّضة و في تفسير القمّيّ، ج2، ص342 (اسماً) بدل «أسماءً» مع اختلاف في السند.

كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس هيبة له، فالتفت أبو حنيفة فقال: يا بن مسلم من هذا؟ قال هذا موسي ابنه، قال: واللّه لأجبهنّه بين يدي شيعته، قال: مه لن تقدر علي ذلك، قال: واللّه لأفعلنّه، ثمّ التفت إلي موسي(عليه السلام) فقال: يا غلام أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه؟ قال:

يتواري خلف الجدار، ويتوقّي أعين الجار، وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء، ثمّ قال: يا غلام ممّن المعصية؟ قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث: إمّا أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه واللّه أقوي الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء فإن شاء عفي وإن شاء عاقب.

قال: فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما ألقم فوه الحجر، قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرّض لأولاد رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم)؟

وفي ذلك يقول الشاعر هذه الأبيات:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذمّ بها إحدي ثلاث معان حين نأتيها

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنّا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أولم يكن لالهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلّا ذنب جانيها(1)

19. روي عن محمّد بن أحمد بن شاذان القميّ، عن الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن أيّوب بن نوح، عن الرضا، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):خمسة لا تطفئ نيرانهم، ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك، ورجل عقّ والديه، ورجل سعي بأخيه إلي السلطان فقتله، ورجل قتل نفساً بغير نفس، ورجل أذنب وحمّل ذنبه علي اللّه عزّ وجلّ.(2)

20. الطرائف: روي جماعة من علماء الاسلام، عن نبيّهم(صلي الله عليه آله و سلم) أنّه قال:

ص: 279


1- 380.. الاحتجاج، ج2، ص387؛ بحارالأنوار، ج5، ص27، ح33.
2- 381.. كنز الفوائد، ج2، ص47؛ بحارالأنوار، ج5، ص60، ح113.

لعنت القدريّة علي لسان سبعين نبيّاً؛ قيل: ومن القدريّة يا رسول اللّه؟ فقال: قوم يزعمون أنّ اللّه سبحانه قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها.(1)

21. و روي صاحب الفائق وغيره من علماء الاسلام، عن محمّد بن علي المكّيّ بإسناده قال: إنّ رجلاً قدم علي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) فقال له رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

أخبرني بأعجب شيء رأيت، قال رأيت قوماً ينكحون أمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: قضاء اللّه تعالي علينا وقدره؛ فقال النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم): سيكون من أمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمّتي.(2)

22. وروي صاحب الفائق وغيره، عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) أنّه قال:

يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ويقولون: إنّ اللّه قد قدّرها عليهم، الرادّ عليهم كشاهر سيفه في سبيل اللّه.(3)

23. فقه الرضا(عليه السلام): سألت العالم(عليه السلام): أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ فقال:

اللّه أعدل من ذلك؛ فقلت له: فمفوّض إليهم؟ فقال: هو أعزّ من ذلك، فقلت له: فصف لنا المنزلة بين المنزلتين، فقال: الجبر هو الكره، فاللّه تبارك وتعالي لم يكره علي معصيته، وإنّما الجبر أن يجبر الرجل علي ما يكره وعلي ما لا يشتهي، كالرجل يغلب علي أن يضرب أو يقطع يده، أو يؤخذ ماله، أو يغصب علي حرمته، أو من كانت له قوّة ومنعة فقهر، فأمّا من أتي إلي أمر طائعاً محبّاً له يعطي عليه ماله لينال شهوته فليس ذلك بجبر، إنّما الجبر من أكرهه عليه، أو اغضب حتّي فعل ما لا يريد ولا يشتهيه، وذلك أنّ اللّه تبارك وتعالي لم يجعل لهم هوي ولا شهوة ولا محبّة ولا مشية إلّا فيما علم أنّه كان منهم، وإنّما يجرون في علمه وقضائهوقدره علي الذي في علمه وكتابه السابق فيهم قبل خلقهم، والذي علم أنّه غير كائن منهم هو الذي لم يجعل لهم فيه شهوة ولا إرادة.(4)

ص: 280


1- 382.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحارالأنوار، ج5، ص47، ح73.
2- 383.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحارالأنوار، ج5، ص47، ح74.
3- 384.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحارالأنوار، ج5، ص47، ح75.
4- 385.. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا(عليه السلام)، ص348؛ بحارالأنوار، ج5، ص54، ح90.

طوائف أخري دالّة علي نفي الجبر

وتدلّ علي بطلان الجبر طوائف من الأخبار وإن لم تكن واردة في خصوص نفي الجبر:

منها: ما ورد من الأمر والنهي خصوصاً بالنسبة إلي الأفعال النفسانيّة، كوجوب حبّ النبيّ وآله صلوات اللّه عليه وعليهم، ووجوب بغض أعدائهم، وكحرمة التفكّر في ذات اللّه تعالي، والنهي عن التفكّر في الذنب، وكراهة الحسد ما لم يظهر علي الأركان. فجميع هذه الأفعال الإراديّة اختياريّة مع أنّها من مقدّمات كون الفعل إراديّة (علي مذهب الفلاسفة)، وقد ذهب علماء البشر إلي أنّها غير اختياريّة عند بيان حقيقة الإرادة. ويبطل قولهم بالجبر حينما نري أنّه قد تعلّق الأمر والنهي بتلك الأفعال الجوانحيّة -- مع أنّها من مقدّمات الفعل الإراديّ حيث إنّ الفعل الإراديّ علي مبناهم يتوقّف علي عدّة مقدّمات منها التصوّر -- بالضرورة من الدين، وهذا برهان قويّ علي أنّها اختياريّة ومقدورة للإنسان.

ومنها: ما دلّ علي نفي الشباهة بين الأفعال الصادرة عن المخلوق والأفعال الصادرة عن اللّه تعالي فإنّ فيها شواهد علي أنّه هناك مخلوق وهناك فعل يستند إليه ولا يشبه هذا الفعل فعل الربّ المتعال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾.(1)

في الخبر عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أنّه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة للّه تعالي؟ فقال(عليه السلام):

لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها وقد قال سبحانه: ﴿أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(2) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم.(3)

إلي غير ذلك من الآيات والأخبار. ويناسب المقام ذكر هاتين الحكايتين لاشتمالهما علي الاحتجاج علي المجبّرة:

ص: 281


1- 386.. المؤمنون23.، الآية 91.
2- 387.. التوبة9.، الآية 3.
3- 388.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص43؛ بحارالأنوار، ج5، ص20، ذيل ح29.

الطرائف: ومن الحكايات ما روي:

أنّ بعض أهل العدل وقف علي جماعة من المجبّرة، فقال لهم: أنا ما أعرف المجادلة والإطالة لكنّيأسمع في القرآن قوله تعالي: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ﴾(1) ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل أنّ الموقد للنار غير اللّه، وأنّ المطفئ للنار هو اللّه، وكيف تقبل العقول أنّ الكلّ منه؟ وأنّ الموقد للنار هو المطفئ لها؟ فانقطعوا ولم يردّوا جوابا.

ومن الحكايات: أنّ جماعة من اليهود اجتمعوا إلي أبي بحر الخاقانيّ فقالوا له ما معناه: أنت سلطان عادل منصف، ومن المسلمين في بلدك المجبّرة وهم الذين يعوّلون عليهم في الأقوال والأفعال، وهم يشهدون لنا أنّنا لا نقدر علي الاسلام ولا الإيمان، فكيف تأخذ الجزية من قوم لا يقدرون علي الإسلام ولا الإيمان؟! فجمع المجبّرة وقال لهم: ما تقولون فيما قد ذكره اليهود من احتجاجهم عليكم؟ فقالوا: كذا نقول: إنّهم لا يقدرون علي الإسلام والإيمان. فطالبهم بالدليل علي قولهم فلم يقدروا عليه فنفاهم.(2)

وممّا يقال للمجبّرة وهو من طرائف ما يحتجّ به عليهم: أنّه لو كان الأمر كما تقول المجبّرة من أنّ كلّ ما في الوجود من الأفعال والأحوال الصادرة عن بني آدم أنّها أفعال اللّه خاصّة، ما كان قد ورد في القرآن ولا في السنّة لفظ ضلال أحد ولا كفره وفاحشة ولا منكر ولا فساد ولا ظلم ولا عناد ولا غير ذلك من أنواع النقائص والرذائل، ولا كان يوجد كافر ولا جاحد ولا معاند ولا كان يقع في الكفّار سبّ للّه تعالي ولا لأنبيائه، بل ما كان يقع بين اثنين والأكثر سباب ولا افتراق ولا منازعة ولا شقاق، لأنّه إذا كان كلّ ذلك من اللّه تعالي فكلّه هدي وإيمان وصلاح ووفاق وتمام و اتّفاق، ولأنّه ما كان اللّه -- تعالي عن ذلك علوّاً كبيراً -- يسبّ نفسه ولا يجحد نفسه ولا يعاند نفسه ولا يعاقب نفسه ولا يخالف نفسه ولا يعادي نفسه ولا ينازع نفسه ولا يذمّ نفسه، لأنّه إذا كان الكلّ منه فهذه المنازعات والمناقضات بين من ومن ولمن؟ وإذا اعتبرت أفعال العباد وما جري منها ويجري فيها من الفساد والنقائص والتضادّ علمت علي اليقين أنّها ليست

ص: 282


1- 389.. المائدة5.، الآية 64.
2- 390.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص331؛ بحارالأنوار، ج5، ص59.

أفعال إله واحد وفاعل واحد قد أطبق العارفونبه إنّه أحكم الحاكمين فكيف التبس ذلك علي من يقال إنّه من عقلاء المسلمين.(1)

إذا عرفت ذلك يتّضح لك أنّ الأئمّة(عليهم السلام) كيف واجهوا فكرة المجبّرة وردّوا عليهم فانظر إلي الوجوه النقليّة التي ادّعي المجبّرة أنّها تدلّ علي الجبر، فأعرضوا عن المحكمات ورفعوا اليد عن النصوص لأجل المتشابهات التي لاظهور لها فيما ادّعوه. نعم إنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

الوجه الأوّل: «وما رميت إذ رميت»

اشارة

قوله تعالي:

﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَي وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.(2)

تقريب الاستدلال: إنّ اللّه تعالي قد نفي إسناد القتل الصادر عن المؤمنين إليهم، وكذلك سلب إسناد الرمي الصادر عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) عنه، بل نسب القتل والرمي إلي نفسه تعالي. فيظهر أنّ الإنسان ليس إلّا مجرّد محلّ لظهور فعل اللّه تعالي علي يده وليس الفاعل الحقيقيّ إلّا اللّه تعالي.

الجواب:
خصوصيّة الرمي والقتل في معركة بدر

أنّه بناءاً علي مقالة المجبّرة تكون جميع الأفعال الصادرة عن جميع العباد منسوبة إلي اللّه تعالي، ولا خصوصيّة في فعل دون آخر وفي فاعل دون فاعل ليكون بعض الأفعال مستنداً إليه دون سائرها. والمستفاد من الآية الكريمة وجود خصوصيّة في القتل الصادر عن المؤمنين دون الكافرين، وكذا في الرمي الصادر عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) في هذه الغزوة دون سائر الرميات ودون سائر الأفعال ودون سائر الغزوات. وهذه الخصوصيّة هي التي سوّغت إسناد

ص: 283


1- 391.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص332؛ بحارالأنوار، ج5، ص60.
2- 392.. الأنفال8.، الآية 17.

الفعلين في تلك الواقعة إلي اللّه تعالي ونفيهما عن العبد، فلو كان المقصود من الآية المباركة نفي إسناد كلّ فعل يصدر عن كلّ فاعل وإسناده إلي اللّه تعالي فلا وجه لاختصاصه بالقتل والرمي المذكور في خصوص تلك المعركة، بل لابدّ من إسناد جميع الأفعال إلي اللّه تعالي ونفيها عن العباد.وإذا دقّقنا النظر في الآية الكريمة وفي تفسيرها وشأن نزولها نجد أنّ الآية إنّما هي في مقام بيان امتنان اللّه تعالي ولطفه وعنايته للنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) والمسلمين في غزوة بدر الكبري، حيث إنّه لمّا فزع أصحاب رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) من كثرة قريش تضرّعوا واستغاثوا فأنزل اللّه تعالي: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.(1)

ثمّ أرسل اللّه تعالي ملائكته لنصرهم حتّي ظفروا علي عدوّهم مع قلّة عددهم وضعفهم وكثرة أعدائهم وقوّتهم. وهكذا منّ اللّه علي رسوله(صلي الله عليه آله و سلم) حينما أخذ كفّاً من الحصي فرمي به في وجوه الكفّار، وقال: شاهت الوجوه فلم يبق أحد من قريش إلّا وامتلأت عيناه من الحصي. وواضح أنّ ذلك القتل وهذا الرمي ليس في طاقة البشر، بل اللّه تعالي هو الذي أظهر هذه المعجزات إثباتاً لنبوّة رسوله ونصرة لدينه.

في البرهان: بإسناده عن ابن عبّاس، في قوله تعالي: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ (2) أنّ النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) قال لعليّ(عليه السلام):

ناولني كفّاً من حصباء، فناوله ورمي به في وجوه قريش، فما بقي أحد إلّا وقد امتلأت عيناه من الحصباء.(3)

و الحاصل أنّ نفي القتل عن المؤمنين في الآية المباركة إنّما هو لأجل أنّ قتل أغلب الكفّار في تلك الغزوة كان بيد الملائكة، ولذا نفي اللّه تعالي إسناد القتل إليهم وأسنده إلي نفسه.

والفرق بين نفي القتل عن المؤمنين ونفي الرمي عن رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) واضح، إذ القتل نفي عنهم من دون إسناده إليهم، بخلاف الرمي فإنّه نفي عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) مع إسناده إليه.

ص: 284


1- 393.. الأنفال8.، الآية 9.
2- 394.. الأنفال8.، الآية17.
3- 395.. البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص663، ح4227؛ بحارالأنوار، ج19، ص325.

ووجه ذلك: أنّ قتل الكفّار لمّا كان بيد الملائكة غالباً فلذا لم يُسند إلي المؤمنين وأسند إلي الباري تعالي. وأمّا نفي الرمي عن رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) فلأجل أنّ الرمي الذي كان أثره ما أشرنا إليه -- من امتلاء عيون قريش من الحصي -- ليس فعل النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، بل الصادر عنه هو نفس الرمي، لا الرمي المشار إليه بذلك الأثر الخاصّ.وخلاصة الكلام: إنّ الفرق بين الأفعال العاديّة الصادرة عن العباد مع المعجزات واضح لا يخفي علي أحد، والرمي في الآية من معجزات النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) ولذا أسند إليه تعالي، ومحلّ الكلام إنّما هو في الأفعال العاديّة لا المعجزات.

الفرق بين الحسنات والسيئات

هذا هو العمدة في الجواب، ومع الغضّ عن ذلك يمكن أن يجاب عنه بما أوضحناه في محلّه: من أنّ اللّه تعالي أولي بحسنات العباد منهم، فإنّ الجهاد في تلك المعركة من الحسنات، وكان المسلمون في معرض العُجب، لما حصل لهم من الظفر علي المشركين مع كثرتهم، وعليه فيحتمل أن تكون الآية في مقام إفادة ما يستفاد من الحديث القدسيّ.

عن صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال اللّه تبارك وتعالي:

ابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّئاتك منّي، وذاك أنّي لا أُسأل عمّا أفعل وهم يسألون.(1)

ص: 285


1- 396.. البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص131، ح2569؛ بحارالأنوار، ج5، ص56، ح99.

الوجه الثاني: «الآيات الدالّة علي إسناد هداية العبد وإضلاله إلي اللّه»

اشارة

وهي علي طائفتين:

الأولي: ما دلّ علي أنّ هداية العبد وإضلاله ابتداءً بيد اللّه تعالي كقوله تعالي:

﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾.(1)

الثانية: ما دلّ علي أنّ إضلال العبد بعد الهداية بيد اللّه تعالي مثل قوله تعالي:

﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.(2)ويستفاد من كلتا الطائفتين (علي ما توهّمه المجبّرة) أنّ ضلال العبد يستند إلي إضلاله تعالي فهو لا يضلّ بنفسه عن الهدي بل يضلّ بإضلاله تعالي.

الجواب:
معاني الهداية والإضلال
اشارة

الهداية تارة تكون بمعني إرائة الطريق، مثل قوله تعالي: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾.(3) وأخري تكون بمعني التوفيق ومزيد الهداية كقوله تعالي: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾،(4) وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾.(5) وثالثة تكون بمعني الإيصال إلي المطلوب مثل قوله تعالي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِ-حَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَ-جْرِي مِن تَ-حْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾(6) كما ورد في تفسير الآية.(7)

ص: 286


1- 397.. البقرة2.، الآية 26.
2- 398.. توبة9.، الآية 115.
3- 399.. الانسان76.، الآية 3.
4- 400.. مريم19.، الآية 76.
5- 401.. محمّد47.، الآية 17.
6- 402..يونس 10.، الآية 9.
7- 403.. عن عبد اللّه بن الفضل الهاشميّ قال: سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد(عليهما السلام) عن قول اللّه عزّو جلّ: ﴿مَنْ يهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُرْشِداً﴾ (الكهف18.، الآية17) فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالي يضلّ الظالمين عن دار كرامته ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلي جنّته كما قال: ﴿وَيضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيفْعَلُ اللهُ مَا يشَاءُ﴾(ابراهيم14.، الآية27)، وقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾(يونس10.، الآية9). تفسير نور الثقلين، ج3، ص294، ح19؛ بحارالأنوار، ج5، ص199، ح21.

والإضلال يقابل الهداية فهو إمّا بمعني ترك الهداية وعدم إرائة الطريق، وإمّا بمعني الخذلان وإيكال العبد إلي نفسه، وإمّا بمعني الإيقاع في الهلكة، سواء كانت الهلكة هي المعصية أو الدخول في النار.

المعني الأوّل: إرائة الطريق

غير خفيّ أنّ استدلال المجبّرة إنّما يبتني علي كون الهداية والإضلال بمعني إرائة الطريق وعدمها، فالذي أضلّه اللّه ولم يبيّن له طريق الخير عن الشرّ لا يستطيع أن يختار جانب الخير ويجتنب عن الشرّ دون من هداه اللّه. لكن استدلالهم مردود من وجوه:

الأوّل: إنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعي فإنّ غاية ما يمكن أن يقال هو الجبر لمن أضلّه اللّه ولم يبيّن له طريق الخير والشرّ، وأمّا بالنسبة إلي من هداه اللّه وأراه رشده وغيّه فلا، فإنّ إرائة الطريق لا يستلزم الإلجاء كما هو واضح.

الثاني: إنّ اللّه تعالي يصرّح في آيات كثيرة من الذكر الحكيم أنّه قد هدي جميع المكلّفين وأراهم طريق رشدهم وغيّهم، وألهمهم فجورهم وتقواهم، فلا يمكن أن يراد من إضلال اللّه تعالي عدم البيان وعدم إرائة الطريق. قال تعالي:

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَي﴾؛(1)

و﴿أَلَمْ نَ-جْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾؛(2)

و﴿قُلْ فَلِلهِ الْ-حُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾؛(3)

ص: 287


1- 404.. اللّيل92.، الآية 12.
2- 405.. البلد90.، الآيات 8 - 10.
3- 406.. الأنعام6.، الآية 149.

و﴿لِئَلّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾؛(1)

و﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾.(2)

إلي غير ذلك من الآيات الباهرات في القرآن الكريم.

ومنه تعرف أنّ الهداية في الآيات التي أُسند فيها الإضلال إلي اللّه تعالي لا تكون بمعني إرائة الطريق. كما في قوله تعالي: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾.(3) فإنّه بمقتضي وحدة السياق لا يمكن أن يراد من الهداية إرائةَ الطريق لعدم إمكان إرادة هذا المعني من الضلالة.

نعم قد جاء الإضلال -- في ظاهر بعض الأخبار -- بمعني عدم هدايته تعالي وعدم بيانه الحقّ للعباد، كما كانوا في زمن الفترة فكانوا ضُلّالاً علي ما جاء في الخبر.(4) ولكنّه تعالي لا يكلّفهم ولا يعذّبهم مع حرمانهم الهدي. قال تعالي: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.(5)

الثالث: غير خفيّ أنّ إرائة طريق الخير والشرّ إنّما يصحّ ويعقل بالنسبة إلي من يقدر علي اختيار الخير أو الشرّ والطاعة أو المعصية، فإنّه لو لم يكن قادراً علي ذلك يكون إرائة الطريق له لغواً وقبيحاً لا يصدر عن الحكيم قطعاً، فلو كانت تلك الآيات دالّة علي الجبر تكون نافية وناقضة لمدلول نفسها، فإنّها تدلّ علي أنّ اللّه تعالي قد أضلّ قوماً وهدي آخرين، وكيف يمكن ذلك مع كونهم مجبورين؟ هل يتصدّي الحكيم لهداية من لا اختيار

ص: 288


1- 407.. النساء4.، الآية 165.
2- 408.. الرعد13.، الآية 7.
3- 409.. الرعد13.، الآية 27.
4- 410.. في تفسير العيّاشيّ: عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) عن قول اللّه ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (البقرة2.، الآية 213) قال: كان هذا قبل نوح أمّة واحدة فبدا للّه فأرسل الرسل قبل نوح، قلت: أعلي هدي كانوا أم علي ضلالة؟ قال: بل كانوا ضُلّالاً، كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين. تفسير العيّاشي، ج1، ص104، ح306؛ البرهان في تفسير القرآن، ج1، ص450، ح1106.
5- 411.. الإسراء17.، الآية 15.

له ولا قدرة علي اتّباع الهداية أو الضلالة؟ قال اللّه تعالي:﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾.(1)

الرابع: من الواضح أنّه لا معني للإزراء والتوبيخ علي مَن يختار المعصية والشرّ إذا كان مجبوراً بالنسبة إلي ذلك الاختيار. وحينئذٍ كيف عاتب اللّه تعالي الذين لم يهتدوا وضلّوا إذا كان الإضلال يؤدّي إلي الجبر؟ فإنّك تري أنّ اللّه تعالي يعاتب الضالّين في الآيات الدالّة علي أنّ اللّه هو الذي أضلّهم، فلابدّ أن يكون الإضلال فيتلك الآيات بمعني لا يستلزم منه الجبر، وإلّا تكون تلك الآيات عذراً لهم لا توبيخاً وإزراءً كما هو مساق الآيات. قال تعالي:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْ-حَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَي فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾؛(2)

و﴿أَلَمْ نَ-جْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.(3)

معناه أنّه تعالي هداه النجدين ولم يتركه أعمي فلماذا يختار العصيان والكفر؟

ويشهد علي ما ذكرنا -- من أنّ الإضلال المسند إلي اللّه تعالي لابدّ أن يفسّر بوجه لا ينافي قدرة العبد واختياره --، أنّ الإضلال في الآيات أُسند تارة إلي اللّه تعالي، وأخري إلي الشيطان، وثالثة إلي أئمّة الضلال كالسامريّ وفرعون، ورابعة إلي نفس الإنسان العاصي، قال اللّه تعالي:

﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي﴾؛(4)

و﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾؛(5)

و﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً﴾؛(6)

ص: 289


1- 412.. الانسان76.، الآية 3.
2- 413..يونس 10.، الآية 108.
3- 414.. البلد90.، الآيات 8-10.
4- 415.. طه20.، الآية 79.
5- 416.. طه20.، الآية 85.
6- 417.. النساء4.، الآية 60.

و﴿قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْ-حَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾؛(1)

و﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَا تَعْلَمُونَ﴾؛(2)

و﴿وَمَا يُضِلُّونَ إلنا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾؛(3)

و﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُ-جَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَي عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.(4)

ومقتضي الجمع بين جميع تلك الآيات هو أنّ الأهواء والشيطان وأئمّة الضلال تضلّ الإنسان وتدعوه وتهديه إلي الكفر والعصيان فيكفر هو ويعصي بالقدرة وسوء الاختيار فيستحقّ بذلك الإضلال من اللّه تعالي.

وبعد ذلك يصحّ إسناد الإضلال إلي المذكورين وإسناده إليه تعالي لأجل أنّه تعالي جعل سنّته التكوينيّة علي إضلال من عصاه مع القدرة والاختيار.

مضافاً إلي أنّ المستفاد من الأدلّة النقليّة الصريحة القطعيّة هو أنّه ما لم يأت الأجل يكون طريق التوبة والإنابة إلي الربّ المتعال مفتوح. قال اللّه تعالي:﴿تُوبُوا إِلَي اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾.(5)

وعن مولانا السجّاد(عليه السلام) في مناجاته:

أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلي عفوك سمّيته التوبة.(6)

ص: 290


1- 418.. المائدة5.، الآية 77.
2- 419.. الأعراف7.، الآية 38.
3- 420.. آل عمران3.، الآية 69.
4- 421.. الحج22.، الآيتان 3-4.
5- 422.. التحريم66.، الآية 8.
6- 423.. الصحيفة السجادية، الدعاء45.، ص194.

وقال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث الأربعمائة:

باب التوبة مفتوح لمن أرادها، ﴿تُوبُوا إِلَي اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَي رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ﴾.(1) وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم. فما زالت نعمة ولا نضارة عيش إلّا بذنوب اجترحوا إنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد، ولو أنّهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لما تنزل، ولو أنّهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا إلي اللّه عزّوجلّ بصدق من نيّاتهم ولم يهنوا ولم يسرفوا لأصلح اللّه لهم كلّ فاسد، ولردّ عليهم كلّ صالح.(2)

فظهر أنّ الهداية في تلك الآيات ليست بمعني إرائة الطريق، والإضلال ليس بمعني عدم البيان وترك الهداية.

المعني الثاني: التوفيق والخذلان

أمّا لو كانت الهداية والإضلال في الآيات بالمعني الثاني أي التوفيق والخذلان فنقول:

أوّلاً: سيجيء الكلام في معني التوفيق والخذلان وأنّ موضوعهما الإنسان بما له من القدرة والاختيار.

وثانياً: إنّ الخذلان إنّما يكون عقاباً علي العاصي لما فعله بسوء اختياره، وهكذا زيادة التوفيقات تكون جزاء للمطيع وما عمل بحسن اختياره. قال اللّه تعالي:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾؛(3)

و﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾؛(4)

و﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَي عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾؛(5)

ص: 291


1- 424.. التحريم66.، الآية 8.
2- 425.. الخصال، ج2، ص624، ح10؛ بحارالأنوار، ج10، ص102، ح10.
3- 426.. العنكبوت29.، الآية 69.
4- 427.. مريم19.، الآية 76.
5- 428.. الجاثية45.، الآية 23.

وكذلك سائر الآيات التي أُسند الإضلال فيها إلي اللّه تعالي في قبال إسناد الهداية إليه، ففي جميعها نري أنّ فعلاً اختياريّاً أُسند إلي العبد وقد جازاه اللّه تعالي علي ذلك بالتوفيق والخذلان علي حسب اختياره، كما في الآية المباركة:

﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلنا الْفَاسِقِينَ﴾.(1)

المعني الثالث: الإيصال إلي الجنّة والنار

أمّا لو كانت الهداية بمعني إيصال العبد إلي الجنّة أو إلي طريق يُوصِله ولو جبراً إليها، فالإضلال يكون بمعني إيصال العبد إلي الجحيم أو إلي طريق يُلجِئه إليها.

فنقول: بعد ما ظهر بنور العقل وثبت بالأدلّة القطعيّة النقليّة اختيار العبد وقدرته وأنّ الثواب والعقاب لا يترتّبان إلّا علي الأفعال الاختياريّة من الطاعة والمعصية، فلابدّ من أن يكون إسناد الهداية والإضلال بهذا المعني بعد صدور الأفعال الاختياريّة عن الإنسان، بحيث تكون الأفعال مقدّمة وسبباً لاستحقاق الهداية والإضلال من اللّه. والهداية والإضلال بهذا المعني المسبوق بالفعل الاختياريّ غير مناف للاختيار كما اشتهر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار -- بالمعني الذي بيّنّاه لا كما فسّره أهل المعقول -- وقد مرّ توضيح ذلك.

ثمّ لا يخفي أنّ هذا المعني من الإضلال المسند إلي اللّه تعالي إنّما يكون جرياً علي المتعارف في هذه المباحث، ويظهر لك بعد الرجوع إلي الآثار الواردة عن المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين في تفسير تلك الآيات ما يزيل جميع الشبهات، ويظهر لك أيضاً معان أخري دقيقة لطيفة لا يدركها إلّا أولو الألباب الذين نوّر اللّه تعالي قلوبهم بحقيقة العلم نظير ما سيجيي ء عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام).

تقرير آخر للجواب:

إنّ الهداية قد تكون بمعني المصدر ويعبّر عنه بالفارسيّة: ب-- «راهنمايي كردن» وقد تكون

ص: 292


1- 429.. البقرة2.، الآية 26.

بمعنياسم المصدر أي نتيجة المصدر وحاصله ويعبّر عنها بالفارسيّة: ب-- «هدايت شدن»، ومعناها المصدريّ قد يكون بمعني إرائة الطريق، وقد يكون بمعني الإيصال إلي المطلوب.

الهداية والمعرفة صنع اللّه جلّ جلاله

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الهداية والمعرفة فعل اللّه تعالي وصُنعه كما يشهد لذلك آيات وأخبار كثيرة.(1) وقد هدي جميع المكلّفين بمعني إرائة الطريق كما قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(2) فإنّه تعالي قد أكمل هدايته بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعد ما وهب العقول للعباد، وبعد أن عرّف نفسه لعباده في العوالم السابقة وفطرهم علي المعرفة به، قال تعالي:

﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَي أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَي شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.(3)

وبعد ما أرسل رسله وحججه وأنبيائه، ليثيروا لهم دفائن العقول ويذكّروهم منسيّ نعمته: ﴿لِئَلّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(4) فإنّه: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.(5)

روي الصدوق بسنده عن محمّد بن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسي بن جعفر(عليهما السلام) ... قلت له: فما معني قوله(صلي الله عليه آله و سلم): إعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلق اللّه؟ فقال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله

ص: 293


1- 430.. راجع أصول الكافي في نهاية كتاب التوحيد باب: «البيان والتعريف ولزوم الحجّة» وباب: «اختلاف الحجّة علي عباده» وباب: «حجج اللّه علي خلقه» وباب: «الهداية أنّها من اللّه عزّوجل» وبحار الأنوار ج5 ص220 باب: «أنّ المعرفة منه تعالي» وغير ذلك.
2- 431.. الانسان76.، الآية 3.
3- 432.. اعراف7.، الآيتان 172-173.
4- 433.. النساء4.، الآية 165.
5- 434.. البقرة2.، الآية 256.

عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾(1) فيسّر كلّاً لما خلق له، فالويل لمن استحبّ العمي علي الهدي.(2)

وبديهيّ أنّ جميع البشر وأرباب العقول واقفون في صفّ واحد في قبال الهدايات الإلهيّة ودعوة الأنبياء وتعاليمهم(عليهم السلام)، إلّا أنّ بعضهم يؤمنون وينقادون للحقّ بمشيّتهم واختيارهم، وبعض آخر يكفرون ويجحدون بعدما تبيّن لهم الرشد من الغيّ بمشيّتهم أيضاً. قال تعالي:﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ﴾.(3)

شرائط الاهتداء

ولا يخفي أنّ قبول الهدايات الإلهيّة والتسليم للحقّ بعد وضوحه مشروط بشرائط ومتوقّف علي مقدّمات اختياريّة:

منها: الإقبال إلي الحقّ والاعتناء بنداء العقل والفطرة؛ حيث إنّ اللّه تبارك وتعالي يذكّر الإنسان لعدّة مرّات في حياته فيتذكّر ويعلم علم اليقين أنّ الحقّ المبين هو ما عرّفه اللّه تعالي، إلّا ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَي * أَن رَآهُ اسْتَغْنَي﴾،(4) فبمجرّد اشتغاله بالشهوات الدنيويّة يغفل عن تلك المعرفة، لاسيّما إذا رأي أنّ قبول تلك الهداية لا يتلائم مع مقتضيات دنياه وأهواء نفسه فيعمد إلي جحدها بعد ما استيقنتها نفسه. قال تعالي:

﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾.(5)

ومنها: ترك التعصّب واللجاج والعناد ومتابعة الآباء والسادات والكبراء إذا تبيّن أنّهم كانوا علي ضلال. قال اللّه تعالي:

ص: 294


1- 435.. الذاريات51.، الآية 56.
2- 436.. التوحيد، ص356، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص157، ح10.
3- 437.. الكهف18.، الآية 29.
4- 438.. العلق96.، الآيتان 6 -7.
5- 439.. الزمر39.، الآية 8.

﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلنا يَ-خْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَي أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَي آثَارِهِم مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلنا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَي أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَي آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَي مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.(1)

ومنها: عدم الاعتناء بالشؤون الدنيويّة في مقابل الحقّ والحقيقة، فكم من إنسان اتّضح لديه الحقّ لكنّه أعرض عنه ابتغاء عرض هذا الأدني.الاحتجاج: عن هشام بن الحكم في سؤال الزنديق عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنّه قال: فمن خلقه اللّه كافرا يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام):

إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده، فبإنكاره الحقّ صار كافراً ... .(2)

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ هداية اللّه تبارك وتعالي -- بمعني إرائة الطريق وإتمام الحجّة -- شملت المكلّفين بأجمعهم. حتّي أنّ اللّه تبارك وتعالي قد ألزم أعدائه والمنكرين الحجّة أكثر ممّا ألزم غيرهم، كما ورد عن عليّ بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين(عليهما السلام) في زيارة أميرالمؤمنين(عليه السلام):

وألزم أعدائك الحجّة مع ما لك من الحجج البالغة علي جميع خلقه.(3)

فبعد هذا كلّه لو أنكر أحد الحقّ بعد البيان، وجحد ما استيقن بعد العيان، وترك الهدايات الربّانيّة ظلماً وعتوّاً وعلوّاً واستكباراً، يستحقّ الخذلان من اللّه تعالي، وهو أن

ص: 295


1- 440.. الزخرف43.، الآيات 20 - 25.
2- 441.. الاحتجاج، ج2، 341؛ بحارالأنوار، ج5، ص18، ح29 و ج10، ص171، ح2.
3- 442.. مصباح المتهجّد، ج2، ص738؛ بحارالأنوار، ج97، ص267، ح9.

يكله إلي نفسه فيرتكب العبد بجهله الذاتيّ جميع القبائح. كما قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

والنفس مثل أخبث الدوابّ فإن لم تعقل حارت.(1)

ويستحقّ بمقتضي الذنوب والمعاصي الصادرة عنه باختياره الطبع علي القلب والعمي والصمّ. قال اللّه تعالي:

﴿أُولٰئكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَي أَبْصَارَهُمْ﴾؛(2)

و﴿وَمَا أَنتَ بِ--هَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إلنا مَ--ن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ﴾.(3)

فلا ينتفع بالهدايات الربّانية ويتركه اللّه تبارك وتعالي في ظلمات الجهل والكفر. فيحسب أنّه يحسن صنعاً. فيُضلّه اللّه ويُخذله عقوبة علي ما صنع باختياره، فقد جرت سنّة اللّه علي سلب النعمة اذاي لم يراع حقّها. قال تعالي:﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.(4)

فالإضلال المنسوب إلي اللّه بالنسبة إلي بعض المنكرين -- إذا أُخذ بظاهرها -- إنّما يكون عقوبةً علي ما اختاره العبد من ارتكاب السيّئات، ومن أعظمها إنكار الحقّ بعد البيان.

الإضلال يكون عقوبة دائماً

و يظهر بالتأمّل التامّ في الآيات والروايات التي أُسند فيها الإضلال إلي اللّه تعالي ما ذكرناه من معني الهداية والإضلال ونشير إلي بعضها:

منها: قوله تعالي: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلنا الْفَاسِقِينَ﴾.(5)

دلّت علي أنّ الفسق سبب لإضلاله تعالي بهذا المعني.

ومنها: قوله تعالي: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا

ص: 296


1- 443.. تحف العقول، ص15؛ بحارالأنوار،ج1، ص117، ح11.
2- 444.. محمّد47.، الآية 23.
3- 445.. النمل27.، الآية 81.
4- 446.. الإبراهيم14.، الآية 7.
5- 447.. البقرة2.، الآية 26.

كُلَّ آيَةٍ لَايُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾.(1)

ومفادها أنه تعالي يضلّهم لما صدر عنهم من التكبّر عن قبول الحقّ.

ومنها: قوله تعالي: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.(2)

مفادها أنّ اللّه تعالي يبيّن لهم ما يلزم عليهم الاتّقاء بالنسبة إليهم ولكنّهم تركوا الاتّقاء فأضلّهم.

ومنها: قوله تعالي: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَي أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾.(3)

مفادها أنّ تكرار المعصية يوجب تكذيب آيات الرحمن والاستهزاء بها.

ومنها: قوله تعالي: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَي عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.(4)دلّ علي أنّ إتّباع الهوي يكون سبباً لإضلاله تعالي العبد علي علم منه بالحقّ.

ومنها: قوله تعالي: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إلنا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛(5)

ص: 297


1- 448.. الأعراف7.، الآية 146.
2- 449.. التوبة9.، الآية 115.
3- 450.. الروم30.، الآية10.
4- 451.. الجاثية45.، الآية 23.
5- 452.. آل عمران3.، الآيات 86-89.

ومنها: قوله تعالي: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ﴾؛(1)

ومنها: قوله تعالي: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾؛(2)

ومنها: قوله تعالي: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾؛(3)

ومنها: قوله تعالي: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾؛(4)

ومنها: قوله تعالي: ﴿اللهُ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾.(5)

أمّا الروايات فمنها: ما ورد في وصيّة الإمام أبي الحسن موسي بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) لهشام حيث قال(عليه السلام):

يا هشام من سلّط ثلاثاً علي ثلاث فكأنّما أعان هواه علي هدم عقله، من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنّما أعان هواه علي هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.(6)

دلّت علي أنّ هذه الأفعال الثلاثة الاختياريّة سبب لهدم العقل الذي به يكون تمييز الحقّ من الباطل.

ومنها: ما روي عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام):

من عشق شيئاً أعشي (أعمي خ ل) بصره وأمرض قلبه فهو ينظر بعين غير صحيحة.(7)

مفادها أنّ من أفرط في حبّ شيء سوف يعمي بصره عن رؤية الحقّ إذا خالفه.

ومنها: ما روي عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام):

ص: 298


1- 453.. التوبة9.، الآية 109.
2- 454.. التوبة9.، الآية 80.
3- 455.. التوبة9.، الآية 37.
4- 456.. الزمر39.، الآية 3.
5- 457.. غافر40.، الآية 28.
6- 458.. الكافي، ج1، ص17، ح12؛ بحارالأنوار، ج1، ص137، ح29.
7- 459.. نهج البلاغة، الخطبه 109، ص160.

من كان غرضه الباطل لم يدرك الحقّ ولو كان أشهر من الشمس، من كان مقصده الحقّ أدركه ولو كان كثير اللبس.(1)

فعلي هذا يكون طلب الحقّ والتهيّؤ لقبوله من أهمّ مقتضيات الهداية، وهذا واضح لجميع العقلاء ببركة نور العقل.

وحاصل جميع الآيات والأخبار هو أنّ الأثر التكوينيّ لتكرار الذنوب والمعاصي والإصرار عليها مع الإرادة والاختيار، وأثر الإعراض عن الحقّ بعد بيانه هو الإضلال من اللّه تعالي. ولاريب أنّ جميع الآثار التكوينيّة إنّما تؤثّر بمشيّة اللّه تعالي ولكنّه إنّما تكون بعد اختيار العبد.(2)

ولا يخفي أنّ المستفاد من الأدلّة هو أنّ الإنسان قادر علي التوبة والرجوع إلي اللّه وإصلاح عيوبه ومساويه مالم تظهر علامات الموت ولم يقبل عليه سكراته، وباب التوبة مفتوح لجميع العاصين بل هي واجبة بالوجوب العقليّ ووجوبها فوريّ. قال تعالي:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَي أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.(3)

فلذا يكون اليأس من رحمة اللّه من أعظم الكبائر.

الإضلال بمعني الخذلان

هذا كلّه بناءاً علي كون المراد من الإضلال هو المعني الظاهر منه. وأمّا لو كان بمعني الخذلان أي: «خلوّ العبد وما يريد وسلب التوفيقات عنه وعدم عونه للأعمال الصالحة» وهو الظاهر من بعض الأخبار، فلا إشكال أصلاً كما هو معلوم وسيجيء البحث عن التوفيق والخذلان فانتظر. قال تعالي:

ص: 299


1- 460.. غرر الحكم، ص655.
2- 461.. راجع كتابنا: «البصيرة و العمي في كلام الباري وأولي النهي» فقد جمعنا الروايات المباركات موضوعيّاً في موانع البصيرة فبلغ إلي 22 مانعاً، وكذا بواعث العمي فصار42 باعثاً.
3- 462.. الزمر39.، الآية 53.

﴿وَقَالَ مُوسَي رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْ-حَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَي أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَي قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّي يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾.(1)فتري أنّ اللّه تعالي قد خذل فرعون وملأه بإمهالهم وإعطائهم زينة الحياة الدنيا ليضلّوا عن سبيل اللّه، وما ذلك إلّا عقوبة علي كفرهم وطغيانهم، كما قال تعالي:

﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.(2)

الإضلال بمعني الإهلاك
اشارة

ويحتمل معني ثالث للإضلال وهو: أن يكون بمعني «الإهلاك» أي الإدخال في النار فعلي هذا يكون معني أنّ اللّه يضلّ الظالمين أنّه يدخلهم في النار. ويؤيّد هذا الاحتمال تقابل الإضلال مع الهداية في هذه الآية المباركة والهداية جاءت بمعني الإدخال في الجنّة كما مرّ.

عن عبداللّه بن الفضل الهاشميّ قال: سألت أبا عبداللّه جعفر بن محمّد(عليهما السلام) عن قول اللّه عزّو جلّ ﴿مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَ-جِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً﴾(3) فقال:

إنّ اللّه تبارك وتعالي يضلّ الظالمين عن دار كرامته ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلي جنّته كما قال: ﴿وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾،(4) وقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِ-حَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَ-جْرِي مِن تَ-حْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾(5).(6)

فلو كان الإضلال بهذا المعني فلا يكون في إسناده إلي اللّه تعالي محذور أبداً ولا يلزم منه

ص: 300


1- 463..يونس 10.، الآية 88.
2- 464.. آل عمران3.، الآية 178.
3- 465.. الكهف18.، الآية 17.
4- 466.. إبراهيم14.، الآية 27.
5- 467..يونس 10.، الآية 9.
6- 468.. تفسير نور الثقلين، ج2، ص294، ح19، ص542، ح78 و ج3، ص251، ح35؛ بحارالأنوار، ج5، ص199، ح21.

الجبر وسلب القدرة عن العبد.

فتلخّص أنّ الإضلال المنسوب إلي اللّه تعالي إمّا أن يكون عقوبة علي ما ارتكبه العبد باختياره، أو أنّه بمعني الخذلان، أو الإهلاك، ولا يلزم محذور علي جميع المعاني، ومع التنزّل يكون اللفظ مشتركاً بين المعاني الثلاثة فيكون مجملاً لعدم القرينة المعيّنة ولا يصحّ الاستدلال بالمجمل.

المعني الرابع: القدرة علي الهداية والاضلال

وهنا معني آخر للهداية والإضلال المنسوب إلي اللّه تعالي، قد ذكره الإمام الهادي(عليه السلام). وهو أنّ اللّه تعالي قادر عليهداية الخلق وإضلالهم جبراً، ولكنّه لم يفعل ذلك. لأنّه مع الجبر لا يصحّ التكليف ولا المثوبة ولا العقوبة. فالهداية والثواب والعقاب والتكليف من اللّه تعالي، من أقوي الأدلّة علي استطاعة العبد وقدرته بتمليكه اللّه تعالي إيّاه.

التحف: في رسالة الإمام الهادي(عليه السلام) في الجبر والتفويض:

... فإن قالوا: ما الحجّة في قول اللّه: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾(1) وما أشبهها؟ قيل: مجاز هذه الآيات كلّها علي معنيين: أمّا أحدهما فإخبار عن قدرته أي أنّه قادر علي هداية من يشاء وضلال من يشاء، وإذا أجبرهم بقدرته علي أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب علي نحو ما شرحنا في الكتاب. والمعني الآخر أنّ الهداية منه تعريفه كقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ أي عرّفناهم ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي عَلَي الْهُدَي﴾(2) فلو جبرهم علي الهدي لم يقدروا أن يضلّوا، وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّة علي محكم الآيات اللواتي أُمرنا بالأخذ بها، من ذلك قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾(3) الآية، وقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ

ص: 301


1- 469.. النحل16.، الآية 93؛ فاطر35.، الآية 8.
2- 470.. فصّلت41.، الآية 17.
3- 471.. آل عمران3.، الآية 7.

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(1) أي أحكمه وأشرحه ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ﴾(2) وفّقنا اللّه وإيّاكم من القول والعمل لما يحبّ ويرضي، وجنّبنا وإيّاكم معاصيه بمنّه وفضله، والحمد للّه كثيراً كما هو أهله، وصلّي اللّه علي محمّد وآله الطيّبين، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.(3)

ولنختم الكلام في هذا المجال برواية شريفة جامعة في الجواب عن الاستدلال المذكور.

تفسير النعمانيّ: بالاسناد الآتي في كتاب القرآن عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال:

الضلالة علي وجوه: فمنه محمود، ومنه مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم ومنه ضلال النسيان. فأمّا الضلال المحمود وهو المنسوب إلي اللّه تعالي كقوله:﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ﴾(4) هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم، والمذموم هو قوله تعالي: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾(5) ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي﴾(6) ومثل ذلك كثير. وأمّا الضلال المنسوب إلي الأصنام فقوله في قصّة إبراهيم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ﴾(7) الآية. والأصنام لا يضللن أحداً علي الحقيقة، إنّما ضلّ الناس بها وكفروا حين عبدوها من دون اللّه عزّ وجلّ. وأما الضلال الذي هو النسيان فهو قوله تعالي: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَي﴾.(8) وقد ذكر اللّه تعالي الضلال في مواضع من كتابه: فمنهم ما نسبه إلي نبيّه علي ظاهر اللفظ كقوله سبحانه: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَي﴾(9) معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك؛ وأمّا الضلال المنسوب إلي اللّه تعالي الذي هو ضدّ الهدي والهدي هو البيان، وهو معني قوله سبحانه: ﴿أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾(10)

ص: 302


1- 472.. الزمر39.، الآيتان 17-18.
2- 473.. الزمر39.، الآية 18.
3- 474.. تحف العقول، ص475؛ بحارالأنوار، ج5، ص81.
4- 475.. المدثّر74.، الآية 39.
5- 476.. طه20.، الآية 85.
6- 477.. طه20.، الآية 79.
7- 478.. إبراهيم14.، الآية 35.
8- 479.. البقرة2.، الآية 282.
9- 480.. الضحي93.، الآية 7.
10- 481.. السجدة32.، الآية 26.

معناه: أو لم أبين لهم، مثل قوله سبحانه: ﴿فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي عَلَي الْهُدَي﴾(1) أي بيّنا لهم، وهو قوله تعالي: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ﴾.(2) وأمّا معني الهدي فقوله عزّوجل: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(3) ومعني الهادي، المبيّن لما جاء به المنذر من عند اللّه، وقد احتجّ قوم من المنافقين علي اللّه تعالي: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾(4) وذلك أنّ اللّه تعالي لمّا أنزل علي نبيّه: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(5) قال طائفة من المنافقين: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾(6) فأجابهم اللّه تعالي بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ إلي قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفَاسِقِينَ﴾ فهذا معني الضلال المنسوب إليه تعالي لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لمّا جاء به المنذر فخالفوه وصرفوا عنه، بعد أن أقرّوابفرض طاعته، ولما بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون فخالفوه ضلّوا. هذا مع علمهم بما قاله النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، وهو قوله: لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلّوا علي أهل بيتي ولا تقطعوهم منّي فإنّ كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي. ولمّا خالفوا اللّه تعالي ضلّوا فأضلّوا فحذّر اللّه تعالي الأمّة من اتّباعهم فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾(7) والسبيل ههنا الوصيّ، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ﴾(8) الآية. فخالفوا ما وصّيٰهم اللّه تعالي به واتّبعوا أهواءهم فحرّفوا دين اللّه جلّت عظمته وشرائعه، وبدّلوا فرائضه وأحكامه وجميع ما أُمروا به، كما عدلوا عمّن أُمروا بطاعته، وأخذ عليهم العهد بموالاته، واضطرّهم ذلك استعمال الرأي والقياس فزادهم ذلك

ص: 303


1- 482.. فصّلت41.، الآية 17.
2- 483.. التوبة9.، الآية 115.
3- 484.. الرعد13.، الآية 7.
4- 485.. البقرة2.، الآية 26.
5- 486.. الرعد13.، الآية 7.
6- 487.. البقرة2.، الآية 26.
7- 488.. المائدة5.، الآية 77.
8- 489.. الأنعام6.، الآية 153.

حيرة والتباساً. ومنه قوله سبحانه: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ﴾(1) فكان تركهم اتّباع الدليل الذي أقام لهم ضلالة لهم فصاربهم ذلك كأنّه منسوب إليه تعالي لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام، ثمّ افترقوا واختلفوا، ولعن بعضهم بعضاً واستحلّ بعضهم دماء بعض، ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلّا الضَّلَالُ فَأَنَّي تُصْرَفُونَ﴾(2).(3)

المعني الخامس: الإسناد إلي غير ما هو له

بيان: يستفاد من الخبر معني آخر للإضلال المنسوب إلي اللّه تعالي غير ما ذكرنا من المعاني الأربعة السالفة، وهو أنّ إسناد الإضلال إلي اللّه تعالي يكون إسناداً إلي غير من هو له لأجل أدني مناسبة، كما في جري النهر، وأنبت الربيع البقل، ورعي المطر. فإنّ اللّه تعالي نصب الحجّة لعباده، ومخالفة الكفّار والعصاة للحجّة هو السبب الحقيقيّ لضلالتهم فلابدّ من إسناد الإضلال إلي أنفسهم، كي يكون إسناداً إلي من هو له ويكون إسناداً حقيقيّاً. وأمّا إسناده إلي اللّه تعالي فهو لأجل المناسبة بين نصبه الحجّة لهم وعدم إيمانهم به وعصيانهم ومخالفتهم له. ولذا قال الإمام(عليه السلام):فكان تركهم اتّباع الدليل الذي أقام لهم ضلالة لهم فصار ذلك كأنّه منسوب إليه تعالي لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام.(4)

زبدة الكلام في هداية اللّه وإضلاله

ملخّص الكلام: أنّ الإضلال الذي اُسند إلي اللّه تعالي في الآيات يأتي علي خمس معان:

الأوّل: عدم إرائة الطريق، وهذا هو الذي يمكن أن يستدلّ به للجبر ولكنّه مردود لما بيّنا من أنّ الهداية صنعه تعالي وقد هدي جميع المكلّفين بمعني إرائة الطريق، نعم للاهتداء شرائط وموانع اختياريّة بيّنها اللّه تعالي.

ص: 304


1- 490.. المدثّر74.، الآية 31.
2- 491..يونس 10.، الآية 31.
3- 492.. بحارالأنوار، ج5، ص208 - 209، ح48.
4- 493.. بحارالأنوار، ج90، ص15و ج5، ص209، ح48.

الثاني: الخذلان وإيكال العبد إلي نفسه عقوبة علي فعله وهذا ممّا لا محذور فيه.

وقد بيّن أنّه تعالي لا يضلّ أحداً إلّا بعد الاستحقاق بارتكابه المعاصي وجحده وكفرانه لنعمة الهداية.

الثالث: الإهلاك وإدخال النار وهذا أيضاً لا ضير فيه.

الرابع: أنّ اللّه لو أراد فهو قادر علي إضلال الجميع جبراً لكنّه لا يعذّبهم حينئذ.

الخامس: أن يكون إسناداً إلي غير من هو له.

ص: 305

الوجه الثالث: «آيات المشيّة»

اشارة

قد علّق القرآن الكريم مشيّة العباد علي مشيّة اللّه تعالي وهذا التعليق يفيد نفي المشيّة عنهم إلّا بعد مشيّة اللّه تبارك وتعالي، قال تعالي: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾.(1)

ولا ريب أنّ محلّ البحث هو الأفعال المسبوقة بالمشيّة، فإنّ ما يصدر عن النائم والمغمي عليه ونحوهما خارج عن محلّ الكلام. فتوقّف مشيّة العباد علي مشيّة الربّ المتعال في الأفعال التي تكون مسبوقة بالمشيّة يستلزم الجبر.

الجواب من وجوه:
الوجه الأوّل: بين عدم المشيّة للعباد وبين المشيّة باللّه
اشارة

إنّ هذا التعبير ورد في موضعين من الذكر الحكيم، الأوّل في سورة الدهر قال تعالي: ﴿إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّ-خَذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾.(2) والثاني في سورة التكوير حيث قال تعالي: ﴿إِنْ هُوَ إلنا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.(3)

وهاتان الآيتان في سياق قوله تعالي: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾،(4) ويكون مفادهما كمفادها.

توضيح ذلك: إنّ هذه الآيات في مقام بيان عدم استقلال العبد وعدم استغنائه عن الربّ المتعال، حيث إنّ حياته وعلمه وقدرته وجميع كمالاته التي منها كونه قادراً شائيّاً، إنّما تكون كلّها بإعطائه تعالي وفضله. فهو لا يشاء شيئاً إلّا بعد أن يشاء اللّه تعالي كونه ذا مشيّة، كما ورد في توحيد الصدوق(رحمه الله): بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم

ص: 306


1- 494.. الانسان76.، الآية 30.
2- 495.. الانسان76.، الآيتان 29-30.
3- 496.. التكوير81.، الآيات 27-29.
4- 497.. الكهف18.، الآيتان 23 -24.

بالاستطاعة، فقال لي: اُكتب:

قال اللّه تبارك وتعالي:

يا ابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قوّيت علي معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كلّ شيء تريد.(1)

وروي أيضاً بسنده، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال:

ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك،فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر علي ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.(2)

والمتحصّل أنّ في الآية احتمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يكون متعلّق نفي المشيّة من العباد الفعل أو الترك، ومتعلّق إثبات المشيّة من اللّه الفعل أو الترك من العباد أيضاً باتّحاد المتعلّق فيهما، فتكون الآية هكذا: «ما تشاؤون الفعل أو الترك إلّا أن يشاء اللّه ذلك الفعل أو الترك». وهذا المعني هو مراد المجبّرة في استدلالهم.

ولكن هذا المعني باطل، لأنّه بعد ما شاء اللّه الفعل أو الترك، لا يبقي مجال لمشيّة العبد كي يكون له المشيّة بعد مشيّة اللّه تعالي، كما هو ظاهر الآية الشريفة.

بعبارة أخري: أنّه لا يعقل توارد المشيّتين علي الفعل أو الترك، فلو كان العبد مجبوراً في مشيّته الفعل أو الترك لا معني لأن يكون شائيّاً، مع أنّ الآية تثبت المشيّة له.

ص: 307


1- 498.. التوحيد، ص338،ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104 و ص56، ح99.
2- 499.. التوحيد، ص361، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح22.

الثاني: أن يكون متعلّق نفي المشيّة عن العباد الفعل أو الترك من العباد، ومتعلّق المشيّة من اللّه تعالي هو كون العباد ذا مشيّة وإرادة، فيكون المعني: «ما تشاؤون الفعل أو الترك إلّا أن يشاء اللّه المشيّة لكم»، فيختلف متعلّق المشيّة في الموردين.

الثالث: أن يكون المراد من نفي المشيّة عن العباد نفي كونهم ذوي مشيّة وإرادة بنحو الإطلاق بقرينة حذف المتعلّق، ومتعلّق المشيّة في اللّه تعالي أيضاً كونهم ذوي مشيّة وإرادة، فيتّحد متعلّق المشيّة فيهما. فيكون المعني: ليس لكم مشيّة وإرادة إلّا أن يشاء اللّه كونكم ذا إرادة ومشيّة.

ويشهد علي هذا المعني أنّ النفي في قوله تعالي: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ﴾ مطلق، ولم يذكر له متعلّق، وليس هكذا: «و ما تشاؤون الفعل أو الترك»، والاستثناء من النفيالمطلق إثبات المشيّة من اللّه تعالي بالنسبة إلي مشيّة العباد، فيكون المشية من اللّه هو مشيّة العبد، وكونه ذا مشيّة.

وواضح أنّ استدلال المجبّرة إنّما يتمّ علي الاحتمال الأوّل وقد عرفت بطلانه. وأمّا الاحتمالان الآخران فلا يلزم منهما الجبر، بل عليهما تكون الآية نافيةً للجبر والتفويض ودالّةً علي الاختيار والأمر بين الأمرين. فيكون مفاد الآية مثل ما جاء في الحديث القدسيّ:

يا ابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء.(1)

ويشهد علي الاحتمالين الأخيرين ما روي في البحار عن تفسير عليّ بن إبراهيم: عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله:

... ﴿إِنْ هُوَ إلنا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين﴾(2) لمن أخذ اللّه ميثاقه علي ولايته، قلت: قوله: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾؟(3) قال: أن يستقيم في طاعة عليّ(عليه السلام) والأئمّة من بعده، قلت: قوله: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟(4) قال: لأنّ

ص: 308


1- 500.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104 و ص56، ح99.
2- 501.. يوسف12.، الآية 104.
3- 502.. التكوير81.، الآية 28.
4- 503.. التكوير81.، الآيات 27-29.

المشيّة إليه تبارك وتعالي لا إلي الناس.(1)

فإنّ المراد من قوله(عليه السلام): لأنّ المشيّة إليه تبارك وتعالي لا إلي الناس هو أنّ أمر المشيّة إلي اللّه وليس أمرها إلي الناس، ولذا لا يكون العبد ذا مشيّة إلّا بالنسبة إلي بعض الأفعال لا جميعها، فإنّه لو كان أمر مشيّة العباد بيدهم كان ينبغي أن يكون لهم المشيّة في جميع الأمور، لا بقدر ما قدّره اللّه تعالي لهم.

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) في توضيح الخبر:

لعلّ المراد أن المشيّة إنّما هي ممّا خلقها اللّه في العبد وجعله شائيّاً فلا يشاؤون إلّا بعد أن جعلهم اللّه بحيث يقدرون علي المشيّة.(2)

فالاحتمالات في معني الآية ثلاثة، واستدلال المجبّرة إنّما يصحّ علي الاحتمال الأوّل وهو باطل. والمتعيّن هو الاحتمال الثاني أو الثالث للقرائن المذكورة. وغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ الآية ليست بظاهرة فيما ذكرنا، فتكون مجملة ولا يصحّ الاستدلال بالمجمل.

قال شيخنا العلّامة آية اللّه الملكيّ الميانجيّ(قدس سره):

الآية الكريمة مسوقة في مقام التحفّظ للتوحيد وإبطال مقالة أهل التفويض المساكين، وقوله: ﴿وَلَاتَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾(3) حكم عقليّ كلّي علي نحو القضيّة الحقيقيّة أي: لا يجوز لأحد ممّن عرف اللّه ووحّده أن يقول: إنّي أفعل غداً كذا وكذا ويعتقد أنّه يفعل كذا وكذا غداً من دون قيد ولا شرط، ضرورة أنّ فعل العبد كذا غداً متوقّف ومنوطة إلي إفاضة الحياة والشعور والعقل والقدرة والاستطاعة حال الفعل من اللّه تبارك وتعالي، وبديهيّ أنّه ليس الآن مالكاً للحياة والاستطاعة للعمل في الغد، فيكون قوله: أفعل كذا غداً من دون شرط واستثناء قولاً جزافاً وباطلاً.

وقوله تعالي: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ﴾ يفيد النفي علي الإطلاق و﴿إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ استثناء من الأمر المنفيّ المطلق فيفيد إثبات شيء منه، أي إثبات المشيّة للناس

ص: 309


1- 504.. بحارالأنوار، ج9، ص248.
2- 505.. بحارالأنوار، ج5، ص115.
3- 506.. الكهف18.، الآية 23.

بمشيّة اللّه سبحانه، فيكون المعني: ما تشاؤون إلّا أن يشاء اللّه المشيّة لكم، أي إنّكم لا تقدرون علي شيء إلّا علي ما أقدركم اللّه عليه، ولا تملكون شيئاً من مشيّة الفعل إلّا ما ملّكها اللّه إيّاكم.

وحيث إنّ تلك المالكيّة بتمليكه تعالي حدوثاً وبقاء، فلا محالة تكون في طول مالكيّته تعالي ويكون هو سبحانه أملك بها، فيبطل التفويض الذي سيقت الآية الكريمة لإبطاله. ويبطل الجبر أيضاً ضرورة أنّ العبد بمالكيّته الاستطاعة يملك كلا طرفي الفعل والترك، فيعلّل الفعل والترك بالاستطاعة التي يملكها باللّه. ولا يخفي أنّ المشاء في قوله تعالي: ﴿إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ هو مشيّة الناس واستطاعتهم بإقدار اللّه تعالي إيّاهم بالحقيقة علي الفعل والترك وليس الفعل والترك إلّا بهذه الاستطاعة، وهي العلّة الحقيقيّة للفعل والترك.(1)

انتهي كلامه رفع مقامه.

فاتضّح أنّ الصحيح عدّ مثل هذه الآيات في ضمن الآيات الناصّة علي نفي الجبر لأنّ الاستثناء بعد النفي المطلق يفيد الإثبات في الجملة، فالآية تثبت وجود المشيّة للعباد بعد تعلّق مشيّته تبارك وتعالي بكونهم ذا مشيّة.ولامجال لتوهّم تعلّق مشيّة اللّه تعالي بالفعل أو الترك الصادر عن العبد لأنّه علي هذا الفرض لا يبقي مشيّة للعباد حقيقة فلا يبقي وجه لإثبات المشيّة لهم بواسطة الاستثناء، مع أنّ الظاهر أن يكون المستثني استثناء من المستثني منه لا من شيء آخر أجنبيّ عن المستثني منه، والمستثني منه في الآية مشيّة العباد لا أفعالهم. فما يشاء اللّه هو مشيّة العباد وأن يكونوا ذوي قدرة ومشيّة وإرادة وسلطنة،كما ورد في الحديث القدسيّ:

يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء.(2)

الوجه الثاني: نفي مشيّة العباد في الهداية والمعرفة

هذا كلّه بناءاً علي أن يكون المراد من الآية الشريفة نفي المشيّة من العباد مطلقاً إلّا بعد

ص: 310


1- 507.. توحيد الإماميّة، ص420-421.
2- 508.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104 و ص56، ح99.

مشيّة اللّه تعالي، وأمّا لو كان المراد نفي مشيّة العباد بالنسبة إلي الهداية والتذكّر والاستقامة في سبيل الحقّ كما يشهد لذلك صدر الآيتين، فالأمر أوضح كما بيّناه في الجواب عن الدليل الثاني، فإنّ الهداية من اللّه تعالي وليس للعباد فيها صنع وقد هدي اللّه جميع المكلّفين بمعني إرائة الطريق، إلّا أنّ لاستدامة الهداية وازديادها مقدّمات وموانع اختياريّة، وتأثير هذه المقتضيات والموانع إنّما تكون بمشيّة اللّه تعالي، قال تعالي:

﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾؛(1)

و﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾؛(2)

و﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾؛(3)

و﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَي قَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ﴾؛(4)

و﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ﴾.(5)

الاحتجاج: عن هشام بن الحكم في سؤال الزنديق عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أن قال: فمن خلقه اللّه كافرا يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام):

إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر منبعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه، فعرض عليه الحقّ فجحده، فبإنكاره الحقّ صار كافراً ... .(6)

عن المدائنيّ عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: سمعته(عليه السلام) يقول: كان أبي يقول:

إنّ اللّه قضي قضاء حتماً أن لا يُنعم علي عبد بنعمة فيسلبها إيّاه حتّي يحدث

ص: 311


1- 509.. محمّد47.، الآية 17.
2- 510.. مريم19.، الآية 76.
3- 511.. العنكبوت29.، الآية 69.
4- 512.. الأنفال8.، الآية 53.
5- 513.. التوبة9.، الآية 115.
6- 514.. الاحتجاج، ج2، ص341؛ بحارالأنوار، ج5، ص18، ح29 و ج10، ص171، ح2.

العبد ذنباً يستحقّ ذلك النقمة.(1)

زبدة القول: أنّ هذه الآيات كسائر الآيات الدالّة علي أنّ الهداية والإضلال من اللّه تبارك وتعالي وليست بصدد بيان أنّ اللّه تعالي أراد الهداية والضلالة في حقّ أي عبد من عباده، بل إنّها دالّة علي أنّ الهداية والمعرفة صنع اللّه نظير قوله تعالي: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَي﴾.(2) وقد دلّت سائر الآيات علي أنّ اللّه تبارك وتعالي شاء الهداية بالنسبة إلي من أوجد المقتضيات ورفع الموانع بقدرته واختياره بعد أن هدي الجميع ابتداءا.

الوجه الثالث: مشيّة أهل البيت(عليهم السلام) تابعة لمشيّة اللّه

ويمكن الجواب عن الاستدلال بهاتين الآيتين مضافاً إلي ما ذكرنا، بأنّهما يختصّان بالذين تكون قلوبهم أوعية لمشيّة اللّه تبارك وتعالي ووكراً لإرادته، كما ورد الاستشهاد بهما في كثير من الأخبار المبيّنة لفضائلهم ومناقبهم(عليهم السلام).

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

وفي الآية وجه آخر ذكر في الخبر السابق، وحاصله أنّ اللّه تعالي بعد أن أكمل أوليائه وحججه(عليهم السلام)، لا يشاؤون شيئاً إلّا بعد أن يلهمهم اللّه تعالي ويلقي المشيّة في قلوبهم، فهو المتصرّف في قلوبهم وأبدانهم والمسدِّد لهم في جميع أحوالهم، فالآية خاصّة غير عامّة.(3)

عن تفسير الفرات الكوفيّ قال: حدّثني جعفر بن محمّد الفزاريّ معنعناً: عن المفضّل بن عمر قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

يا مفضّل إنّ اللّه خلقنا من نوره وخلق شيعتنا منّا وسائر الخلق في النار، بنا يطاع اللّه وبنا يعصي [اللّه] يا مفضّل سبقت عزيمة من اللّه أن لا يتقبّل من أحد إلّا بنا ولا يعذّب أحداً إلّا بنا، فنحن باب اللّه وحجّتهوأمناؤه علي خلقه وخزّانه في سمائه وأرضه، وحلالنا عن اللّه وحرامنا عن اللّه، لا يحتجب من [عن] اللّه

ص: 312


1- 515.. الكافي، ج2، ص273، ح22؛ بحارالأنوار، ج70، ص334، ح19.
2- 516.. اللّيل92.، الآية 12.
3- 517.. بحارالأنوار، ج5، ص115.

إذا شئنا، فهو [فمن ذلك قوله:] ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾،(1) استثناء ومن [ذلك] قوله: إنّ اللّه جعل قلب وليّه وكر الإرادة، فإذا شاء اللّه شئنا.(2)

عن البصائر: حدّثنا بعض أصحابنا عن أحمد بن محمّد السيّاريّ قال: حدّثني غير واحد من أصحابنا قال خرج عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أنّه قال:

إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة مورداً لإرادته، فإذا شاء اللّه شيئاً شاؤوه وهو قول اللّه ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾.(3)

الهداية الكبري:

بإسناده عن أبي أحمد الأنصاريّ قال: وجّه قوم من المؤمنين والمقصّرة كامل بن إبراهيم المدنيّ المعروف بصناعة أبي محمّد بسامرا إلي الناحية في أمرهم، قال كامل بن إبراهيم: فقلت في نفسي: لا يدخل الجنّة إلّا من عرف معرفتي، وقال مقالتي، قال: فلمّا دخلت علي سيّدي أبي محمّد(عليه السلام) ... وجلست إلي باب ستر مرخي فجاءت الريح فكشفت طرفه، فإذا بفتي كأنّه فلقة قمر من أبناء أربعة عشر فقال: كامل بن إبراهيم، فاقشَعريتُ من ذلك وألهمت وقلت: لبّيك لبّيك يا سيّدي، إلي أن قال(عليه السلام):

وجئت تسأله عن المفوّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه، فإذا شاء اللّه شيئاً شئنا، واللّه يقول: ﴿مَا تَشَاؤُونَ إلّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾،(4) ثمّ رجع الستر إلي حاله فلم أكشفه، فنظر إليَّ أبو محمّد(عليه السلام) وتبسّم وقال: يا كامل بن إبراهيم، ما جلوسك وقد أنباك المهدي والحجّة بعدي بما كان في نفسك وجئت تسألني عنه، قال: فنهضت وأخذت الجواب الذي أسررته في نفسيّ من الإمام المهديّ، ولم ألقه بعد ذلك.(5)

عن الكافي: عن الحسين بن محمّد، عن المعلّي عن عبد اللّه بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة، فقال:

ص: 313


1- 518.. الانسان76.، الآية 30؛ التكوير81.، الآية 29.
2- 519.. تفسير فرات الكوفي، ص529، ح681؛ بحارالأنوار، ج26، ص256، ح32.
3- 520.. بصائر الدرجات، ص537، ح47؛ بحارالأنوار، ج5، ص114، ح44.
4- 521.. الانسان76.، الآية 30؛ التكوير81.، الآية 29.
5- 522.. الهداية الكبري، ص 359؛ بحارالأنوار، ج25، ص336.

يا محمّد إنّ اللّه تبارك وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيّ--ته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجري طاعتهم عليها وفوّض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاؤون، ويحرّمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك وتعالي. ثمّ قال: يا محمّد هذه الديانة التي من تقدّمها مرق، ومن تخلّف عنها محق، ومن لزمها لحق. خذها إليك يا محمّد.(1)

الوجه الرابع: «آيات الخلقة»
اشارة

إنّ خلق جميع الأشياء ومنها أفعال العباد أُسند إلي اللّه تعالي في آيات كثيرة نشير إلي بعضها، قال عزّو جلّ:

﴿ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إلنا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ﴾؛(2)

و﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾؛(3)

و﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾.(4)

فيستفاد منها أنّ اللّه تبارك وتعالي خلق أفعالنا فهي ليست بحوزة قدرتنا ونحن مجبورون عليها.

والجواب عنها من وجوه:
الوجه الأوّل: الانصراف إلي المكوّنات دون الأفعال

إنّ المراد منها -- بحكم الانصراف -- هي المكوّنات والمخلوقات الخارجيّة كالشمس والقمر والنجوم والسماوات والأرض لا أفعال العباد، ويشهد علي ذلك صدر الآيات وذيلها، لا سيّما بعد ملاحظة أمثال قوله تعالي:

ص: 314


1- 523.. الكافي، ج1، ص441، ح5؛ بحارالأنوار، ج54، ص195، ح141.
2- 524.. الأنعام6.، الآية 102.
3- 525.. الرعد13.، الآية 16.
4- 526.. الزمر39.، الآية 62.

﴿أَ فَمَن يَ-خْلُقُ كَمَن لَا يَ-خْلُقُ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ﴾؛(1)

و﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَ-خْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُ-خْلَقُونَ﴾؛(2)

و﴿خَلَقَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَي فِي الْأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.(3)

الوجه الثاني: تخصيصها بالأفعال الاختياريّة

و لو فرض شموها لأفعال العباد لفظاً فلا بدّ من تقييده والحكم بخروج الأفعال الاختياريّة منها بقرينة الآيات الكثيرة الدالّة علي إسناد أفعال العباد إليهم نظير هذه الآيات:

﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾؛(4)

و﴿بَلَي مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛(5)

و﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾؛(6)

و﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛(7)

و﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.(8)

إلي غير ذلك من الآيات الكريمة الناصّة في إبطال الجبرو قد ذكرنا جملة منها في بداية البحث. بل ما من آية في القرآن إلّا وقد أُسند فيها فعل شيء أو تركه إلي شخص أو يكون مفادها طلب الفعل أو الترك، بل القول بالجبر خلاف ضرورة جميع الأديان الإلهيّة ويستلزم

ص: 315


1- 527.. النحل16.، الآية 17.
2- 528.. النحل16.، الآية 20.
3- 529.. لقمان31.، الآية 10 -11.
4- 530.. البقرة2.، الآية 286.
5- 531.. البقرة2.، الآية 81.
6- 532.. المدّثر74.، الآية 38.
7- 533.. المطفّفين83.، الآية 14.
8- 534.. الإسراء17.، الآية 7.

لغويّة جميعها. مع أنّه خلاف العقل الصريح والوجدان الضروريّ، فبعد التنزّل وثبوت الظهور لها يجب تقييدها بغير الأفعال الاختياريّة لوجود تلك القرائن اليقينيّة.

في الخبر عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أنّه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة للّه تعالي؟ فقال(عليه السلام):

لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها وقد قال سبحانه: ﴿أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم.(2)

الوجه الثالث: خلق مقدّمات الإرادة

لكلّ فعل من أفعال الإنسان مقدّمات كثيرة خارجة عن حدّ الإحصاء بحيث لو انتفت واحدة منها لا يقدر الإنسان علي إيجاد الفعل؛ مثل الحياة والعلم والقدرة وغيرها. مثلاً إنّ جميع ما يأكله الإنسان ويشربه والهواء الذي يستنشقه، وهكذا كلّ خليّة من خلا يا بدنه لها دخل في أفعاله، بحيث لو انتفي واحد منها لا يكون الإنسان قادراً علي ذلك الفعل.

وجميع تلك المقدّمات إنّما تكون بيد اللّه تعالي ومشيّته وجعله التكوينيّ ما خلا إعمال القدرة وإرادة العبد، وذلك أيضاً تحت سلطانه تعالي بمعني أنّه لولا مشيّة اللّه تعالي بتهيّؤ تلك المقدّمات ولولا أنّه شاء أن يجعل الإنسان قادراً ذا إرادة، ولولا استمرار إفاضة تلك النعم ما كان الإنسان قادراً علي أن يشاء شيئاً البتّة، وقد مرّ توضيح ذلك في الجواب عن الدليل الثالث من الأدلّة العقليّة.

إذا عرفت هذا فنقول: لو فرض إسناد خلق أفعال العباد إلي اللّه تعالي لكان باعتبار تلك المقدّمات الخارجة عن اختيار العبد من الحياة والعلم والقدرة وغيرها، وأمّا إسناده إلي العبد فباعتبار كونه ذا قدرة كاملة وسلطنة تامّة وقد أراد الفعل أو الترك.

وتوهّم عدم صحّة إسناد الفعل إلي اللّه تعالي إلّا بعد كون جميع المقدّمات بيده تعالي ممنوع؛ فإنّه كثيراً ما يسند الأفعال إلي من أوجد بعض مقدّمات الفعل فقط. مثلاً يسند

ص: 316


1- 535.. التوبة9.، الآية 3.
2- 536.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص44؛ بحارالأنوار، ج5، ص20.

الإحراق عرفاً إلي من ألقي النار علي الجسم القابل للاحتراق فاحترق الجسم، مع أنّ تأثير النار للإحراق وهكذا تأثّر الجسم بالإحراق خارجان عن قدرته.

هذا مع أنّ صيرورة العبد ذا قدرة ومشيّة واختيار إنّما هو لأجل إرادة اللّه تبارك وتعالي ذلك كما قال في الحديث القدسيّ:

يابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي.(1)

والحاصل: أنّا لا نسلّم صحّة إسناد فعل العبد إليه تعالي، وأمّا كونه تعالي خالقاً لجميع الأشياء فلو كان شاملاً لأفعال العباد فالمراد من خلقه تبارك تعالي لها، إنّما هو خلقه لبعض مقدّماتها بحيث لا يلجيئ العبد ولا ينافي قدرته واختياره.

والفرق بين الطاعات والمعاصي هو أنّ اللّه تعالي نهي العبد عن المعاصي وحذّره منها وأوعده بالنار، وبالنسبة إلي الطاعات فرغّبه فيها ووعده بالجنّة ولذا يكون أولي بالحسنات من العبد ويكون العبد أولي بالسيّئات منه تعالي.

الوجه الرابع: خلق التقدير

قد ورد في الروايات أنّ أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، بمعني أنّ وجدان العبد العلم والقدرة والاستطاعة وكذا سائر ما به يتمكّنون ويقدرون علي إيجاد الفعل يكون بتقدير اللّه تعالي وإعطائها إيّاه، فكلّها مقدّرة في علم اللّه تعالي.

والمراد من كون أفعال العباد مقدّرة أنّ اللّه تعالي عالم بمقدارها من جهة الفاعل والطول والعرض والعمق والزمان والمكان وسائر حدودها كما ورد في الروايات.

روي الصدوق بسنده عن حمدان بن سليمان قال: كتبت إلي الرضا(عليه السلام) أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ فكتب(عليه السلام):

ص: 317


1- 537.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص56، ح99 و ص57، ح104.

أفعال العباد مقدّرة في علم اللّه عزّ وجلّ قبل خلق العباد بألفي عام.(1)

بيان: الظاهر أنّ المراد من العلم هنا هو العلم المحمول لا المكفوف، بقرينة قوله(عليه السلام): قبل خلق العباد بألفي عام. فيكون المراد من تقديره في علم اللّه تعالي هو تقدير القدرة والهداية وساير مقدّمات الفعل في قلب الحجّة(عليه السلام).

وروي أيضاً مسنداً عن الهرويّ قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) يقول:

أفعال العباد مخلوقة، فقلت: يا بن رسول اللّه ما معني مخلوقة؟ قال: مقدّرة.(2)

وروي بسنده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا(عليه السلام) فيما كتب للمأمون من محض الإسلام:

أنّ اللّه تبارك وتعالي لا يكلّف نفساً إلّا وسعها، وأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه خلق تقدير لا خلق تكوين، واللّه خالق كلّ شيء، ولا نقول بالجبر والتفويض ... .(3)

قال السيّد المرتضي(قدس سره):

أمّا أفعال العباد فليست مخلوقة للّه عزّ وجلّ، وكيف يكون خلقاً له وهي مضافة إلي العباد إضافة الفعليّة؟ ولو كانت مخلوقة لكانت من فعله، ولو كانت فعلاً له لما توجّه الذمّ والمدح علي قبحها وحسنها إلي العباد، كما لا يذمّون ويمدحون بخلقهم وصورهم وهيئتهم، ولكانت أيضاً لا يتبع في وقوعهاتصوّر العباد ودواعيهم وأحوالهم. ألا تري أنّ أفعاله في العباد التي لا شبهة فيها، ولا يتبع إرادتهم، ولا يقع بحسب تصوّرهم. هذا إن أريد بالخلق هاهنا الإحداث والإنشاء علي بعض الوجوه. وإن أريد بالخلق التقدير الذي لا يتبع الفعليّة، جاز القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه عزّ وجل، فكلّ بمعني أنّه مقدِّر لها مرتِّب لجميعها. ألا تري أنّ أهل اللغة يسمّون مقدِّر الأديم خالقاً له وإن كان الأدم من فعل غيره. قال الشاعر:

ولأنت تعري ما خلقت وبعض * ال--ق--وم يخل--ق ث--مّ لا يعتري

ص: 318


1- 538.. التوحيد، ص416، ح16؛ بحارالأنوار، ج5، ص 29، ح35.
2- 539.. معاني الأخبار، ص395، ح52؛ بحارالأنوار، ج5، ص 30، ح37.
3- 540.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج2، ص125، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص30، ح38.

وقال الآخر:

و لا تب----ط ب--أي----دي ولا أي----دي الخير إلّا جيّد الأدم

هذا جواب لمن يسأل عن أفعال العباد هل يكون مخلوقة للّه تعالي أم لا؟(1)

وقال الشيخ الصدوق(قدس سره) في الإعتقادات:

اعتقادنا في أفعال العباد أنّها مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ومعني ذلك أنه لم يزل اللّه عالماً بمقاديرها.(2)

لا يخفي أنّ مراده(قدس سره) من قوله «لم يزل اللّه» ثبوت علمه تعالي بأفعال العباد ومن الواضح أنّ علمه تعالي بها يكون بتقديرها وثبتها في قلب المعصوم -- بأن يثبت اللّه تعالي في قلبه(عليه السلام) بأنّ العبد سيفعل كذا باختياره وقدرته -- وهو العلم المعبّر عنه في الأخبار بالعلم المحمول وإلّا فبالنسبة إلي علمه الأزليّ الغير المحمول -- وهو المعبّر عنه في الأخبار بالعلم المكفوف -- فلا تعيّن فيه فإنّه يعلم لكلّ شيء حدوداً غير متناهيّة.

ص: 319


1- 541.. رسائل الشريف المرتضي، ص135.
2- 542.. إعتقادات الإماميّة، ص29.
الوجه الخامس: «الآيات التي تفيد حتميّة دخول النار لبعض وعدم نجاتهم»
اشارة

قوله تعالي:

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِ-جَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْ-جِنِّ وَالإِنْسِ﴾؛(1)و﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَعَلَي سَمْعِهِمْ وَعَلَي أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.(2)

فإنّ هذه الآيات ونظائرها تدلّ علي أنّ دخول الكفّار في النار قطعيّ ولا ينفع الإنذار في حقّهم وليس ذلك إلّا لأجل كونهم مجبورين علي دخولها بسبب مجبوريّتهم في اقتراف المعاصي.

الجواب: العبد يحتم علي نفسه دخول النار بأفعاله الاختياريّة

قد مرّ في الجواب عن استدلال المجبّرة بالآيات الدالّة علي إسناد هداية العبد وإضلاله إلي اللّه تعالي، أنّ اللّه تبارك وتعالي هو الهادي والمضلّ، والهداية والضلالة بمشيّته تعالي، إلّا أنّه تعالي قد جعل لكلّ من الهداية والضلالة مقدّمات وموانع اختياريّة للعبد. فالمهتدي إنّما هداه اللّه بسبب أفعاله الاختياريّة والضالّ إنّما أضلّه اللّه بسبب أفعاله الاختيارية. وقد شاء اللّه تبارك وتعالي دخول كلّ من أعرض عن هداياته النار بعد أن خذله اللّه تعالي في دار الدنيا لنيّته علي ارتكاب القبيح أو علي نفس الارتكاب.

بعبارة أخري: إنّ آية ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ...﴾ تدلّ علي أنّ فئةً من الناس يدخلون جهنّم بحكم قطعيّ وجزميّ، أمّا أنّهم من أيّ فئة ولماذا يحكم عليهم بهذا الحكم القطعيّ فالآية ساكتة عنه. وبعد المراجعة إلي سائر الآيات نجد بوضوح أنّ أفعال الإنسان التي يفعلها باختياره صارت سبباً لثبوت هذا الحكم القطعيّ بالنسبة إليه. علي أنّ ذيل الآية شاهد علي ما ذكرنا فإنّه تعالي يقول: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾.(3)

ص: 320


1- 543.. الأعراف7.، الآية 179.
2- 544.. البقرة2.، الآيتان 6-7.
3- 545.. الأعراف7.، الآية 179.

وأمّا اللام في ﴿لِ-جَهَنَّمَ﴾ فهو للغاية لا للعلّة، والمفاد أنّ جمعاً من الجنّ والإنس يدخلون النار، لا أنّهم خلقوا لأجل أن يدخلوا النار، فإنّ العلّة لخلقهم هو الانتفاع من رحمة اللّه تعالي كما قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلنا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾.(1) فاللام في ﴿لِ-جَهَنَّم﴾ نظير اللام في قوله تعالي: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾،(2) أوقوله(عليه السلام): «إنّ للّه ملكاً ينادي كلّ يوم: لدوا للموت واجمعوا للفناء وابنوا للخراب».(3)

مضافاً إلي أنّ قوله تعالي: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ الآية، يقع في ذيل قصّة بلعم باعورا، ومن الواضح أنّ سائر الآيات الحاكية لقصّته تدلّ بالصراحة علي أنّ الأفعال القبيحة الصادرة عنه بالاختيار صارت سبباً لانحطاطه. قال اللّه تعالي: ﴿وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَي الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾.(4)

وأمّا الآية المذكورة في سورة البقرة فلا تدلّ علي أنّ جميع الكفّار هكذا، فإنّ كثيراً منهم آمنوا برسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) بعد الإنذار. فهذه الآية بصدد بيان حال جمع خاصّ منهم وهم الذين أعرضوا بعد إنذار النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم).

قال الفيض الكاشانيّ(قدس سره) في تفسير الآية:

وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وقصّروا فيما أُريد منهم جهلوا ما لزمهم الإيمان به فصاروا كمن علي عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يتعالي عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه.(5)

فالآية بصدد بيان حال فرقة من الكفّار وهم الذين أعرضوا بعد إنذار النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، فإعراضهم اختياراً بعد الإنذار صار سبباً للختم علي قلوبهم. ويشهد علي هذا أنّ الختم والطبع علي القلب إنّما يكونان من العقوبات التي جعلها اللّه تعالي في مقابل المعاصي الصادرة عن العبيد. ولذا تري أنّ اللّه تعالي كلّما ذكر الختم أو الطبع في الآيات المباركات

ص: 321


1- 546.. هود11.، الآيتان 118 -- 119.
2- 547.. القصص28.، الآية 8.
3- 548.. نهج البلاغة، الحكمة 132، ص493.
4- 549.. الأعراف7.، الآية 176.
5- 550.. تفسير الصافي، ج1، ص94؛ بحارالأنوار، ج5، ص200، ح24.

يذكر أنّ ذلك إنّما كان عقوبة علي ما صنعه العبد بسوء اختياره، قال تعالي:

﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَي عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾؛(1)

و﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلنا قَلِيلاً﴾؛(2)

و﴿كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾؛(3)

و﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوْا فَطُبِعَ عَلَي قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾؛(4)

و﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَي الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَطَبَعَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾؛(5)

و﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْ-خَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَي قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ﴾؛(6)

و﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْ-خَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ﴾؛(7)

و﴿أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾؛(8)

و﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إلنا مُبْطِلُونَ * كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَي قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ﴾؛(9)

و﴿الَّذِينَ يُ-جَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَي كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾؛(10)

ص: 322


1- 551.. الجاثية45.، الآية 23.
2- 552.. النساء4.، الآية 155.
3- 553.. الأعراف7.، الآية 101.
4- 554.. المنافقون63.، الآية 3.
5- 555.. النحل16.، الآيتان 107-108.
6- 556.. التوبة9.، الآية 87.
7- 557.. التوبة9.، الآية 93.
8- 558.. محمّد47.، الآية 16.
9- 559.. الروم30.، الآيتان 58-59.
10- 560.. غافر40.، الآية 35.

و﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَي قَوْمِهِمْ فَ-جَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلَي قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾.(1)

من ذلك يعلم أنّ اتّخاذ الهوي إلهاً، والكفر، والنفاق، والتكبّر، واستحباب الدنيا علي الآخرة -- ومن الواضح أنّ جميعها أفعال اختياريّة -- من الأسباب التي توجب الختم والطبع من اللّه تعالي علي القلوب.

ص: 323


1- 561.. يونس 10.، الآية 74.
الوجه السادس: «واللّه خلقكم وما تعملون»

قوله تعالي: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾.(1)

حيث إنّ الظاهر منها كون أفعال العباد مخلوقة للّه تعالي.

والجواب:
أوّلاً: «ما» مصدريّة أو موصولة

إنّ الاستدلال بهذه الآية علي ما ادّعاه المجبّرة يتوقّف علي إثبات كون كلمة «ما» في ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ مصدريّة، فلو كانت موصولة فلا يصحّ الإستدلال بها. فإنّ «ما» إمّا مصدريّة فيكون المعني هكذا: «واللّه خلقكم وعملكم»، وإمّا موصولة فيكون المعني هكذا: «واللّه خلقكم وما تعملونه من الأصنام والأخشاب والأحجار»، أي إنّ اللّه تعالي خلق الأحجار والأخشاب التي تعملونها بصورة الأصنام، ولا ريب في أنّ كلمة ما موصولة كما سيأتي القرينة عليها.

قال الشيخ الطبرسي(رحمه الله) في تفسير الآية:

أي: وخلق ما عملتم من الأصنام فكيف تدّعون عبادته وتعبدون معمولكم. وهذا كما يقال: فلان يعمل الحصير وهذا الباب من عمل فلان النجّار. فليس لأهل الجبر تعلّق بهذه الآية في الدلالة علي أنّ اللّه سبحانه خالق أفعال العباد، لأنّه من المعلوم أنّ الكفّار لم يعبدوا نحتهم وإنّما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام وهي منحوتهم أي: معمولهم. علي أنّ مبني الآية علي التقريع علي الكفّار والإزراء عليهم بقبيح فعلهم، ولو كان معناه: واللّه خلقكم وخلق عبادتكم، لكانت الآية إلي أن تكون عذراً لهم أقرب من أن تكون لوماً وتهجيناً وعتاباً، ولكان لهم أن يقولوا: لِمَ تُوَبِّخنا علي عبادتها واللّه تعالي هو الفاعل لذلك؟ فتكون الحجّة لهم لا عليهم، ولأنّه أضاف العمل إليهم بقوله «تعملون» فكيف يكون مضافاً إلي اللّه تعالي وهذا تناقض.(2)

ص: 324


1- 562.. الصافّات37.، الآيتان 95-96.
2- 563.. مجمع البيان، ج8، ص703.

والحاصل: إنّ الاستدلال بالآية علي أنّ أعمال العباد مخلوقة للّه يتوقّف علي كون «ما» مصدريّة لا موصولة، وبما أنّ «ما» في جملة «ما تنحتون» موصولة قطعاً -- فإنّهم كانوا يعبدون المنحوت لا أنّهم يعبدون عملهم الذي هو النحت، فلو كانت «ما» في الجملة الأولي مصدريّة يكون المعني: أتعبدون نحتكم، وهو غير مقصود قطعاً -- تكون «ما» -- بمقتضي وحدة السياق المساندة للظهور -- في قوله: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ موصولة لا مصدريّة.مضافاً إلي أنّه لو كان الأمر كما يقول المجبّرة لكانت الآية مدحاً لعَبَدة الأصنام وعذراً لهم، لا ذمّاً وتقريعاً علي فعلهم، وهذا ممّا ينافيه لحن الآية الكريمة الواردة في الإنكار عليهم.

ثانياً: خلق التقدير

لو سلّمنا كون كلمة «ما» مصدريّة وأنّ الآية تدلّ علي أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالي، نقول: هناك روايات تدلّ علي أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه خلق تقدير لا خلق تكوين كما مرّ، فلو كانت كلمة «ما» في الآية مصدريّة فلابدّ أن يكون الخلق فيها بمعني التقدير لا التكوين.

ثالثاً: التشابه

أنّه مع قطع النظر عن هذه القرائن تكون الآية مجملة -- لوجود الاحتمالين في كلمة ما -- ولا يمكن الاستدلال بالمجمل.

ص: 325

الوجه السابع: إسناد الحسنات والسيّئات إليه تعالي
اشارة

قوله تعالي: ﴿إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِن عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾.(1)

إنّ الاستدلال علي الجبر إنّما هي بالآية الأولي، فإنّ اللّه تعالي أسند الحسنة والسيّئة فيها إلي نفسه.

والجواب: الحسنة والسيّئة بمعني النعمة والبلاء وليس الطاعة والمعصية

إنّ الإستدلال بالآية الشريفة مبنيّ علي أن تكون الحسنة والسيّئة بمعني الطاعة والعصيان، وليس هذا المعني مراداً بالقطع واليقين. فإنّ صدر الآية يدلّ علي أنّ الكفّار أسندوا إصابة الحسنة إلي اللّه تبارك وتعالي وإصابة السيّئة إلي الرسول(صلي الله عليه آله و سلم)، ومن الواضح أنّ الكفّار لم يريدوا من هذا الإسناد إسناد طاعتهم إلي اللّه وعصيانهم إلي الرسول(صلي الله عليه آله و سلم).

وعليه يكون المراد من الحسنة والسيّئة هي النعمة والبلاء، نظير قوله تعالي في سورة الأعراف:﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْ-حَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَي وَمَنْ مَعَهُ﴾.(2)

وقال تعالي: ﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْ-حَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.(3)

وكقوله تعالي في سورة النمل:

﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْ-حَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللهَ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾.(4)

ص: 326


1- 564.. النساء4.، الآيتان 78 -79.
2- 565.. الأعراف7.، الآية 131.
3- 566.. الأعراف7.، الآية 168.
4- 567.. النمل27.، الآيتان 46 -47.

والاستعمال العرفيّ أيضاً يساعد علي هذا المعني، فإنّ للحسنة والسيّئة -- في الإستعمال -- معنيً عامّاً يشمل الحسنات والسيّئات الاختياريّة التي تعبّر عنها بالطاعة والمعصية، كقوله تعالي: ﴿إِنَّ الْ-حَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾(1) ويشمل الحسنات والسيّئات غير الاختياريّة التي يُعبَّر عنها بالنعمة والمصيبة كالآيات السابقة.

إلي هنا تمّ الجواب عن الاستدلال بالآية علي الجبر.

دفع إشكال التدافع بين الآيتين

وهاهنا شبهة أخري في مفاد الآية، وهي: أنّ الحسنات والسيّئات أُسندتا إلي اللّه تعالي في الآية الأولي، بينما في الآية الثانية قد أُسندت الحسنات إلي اللّه والسيّئات إلي نفس الإنسان، فكيف طريق الجمع بينهما؟

فنقول في الجواب عنها: إنّ الحسنة والسيّئة في الآية الأولي بمعني النعمة والمصيبة قطعاً كما بيّنّا، وأمّا في الآية الثانية فلو كانتا بمعني النعمة والمصيبة؛ فطريق الجمع هو أنّ البلا يا والنعم وإن كانت بتقدير اللّه، إلّا أنّ تقديره البلاء والمصيبة للعبد إنّما هو بسبب ما يصدر عنه من الأفعال الاختياريّة، قال تعالي:

﴿وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَ--ا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ﴾؛(2)

و﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾؛(3)و﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.(4)

وقد مرّ أنّ للأفعال الصادرة عن الإنسان بالاختيار آثاراً مختلفة بالجعل الإلهيّ، إن خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرٌّ، ولكنّه لمّا كان صدورها عن الإنسان مرتبطاً باختياره وإرادته فتكون

ص: 327


1- 568.. هود11.، الآية 114.
2- 569.. الشوري42.، الآية 30.
3- 570.. الروم30.، الآية 41.
4- 571.. الأعراف7.، الآية 96.

تلك الآثار مستندة إليه. ولو أُسندت آثار الأعمال الحسنة أو السيّئة إلي اللّه فهو لأجل أنّ آثار الأعمال إنّما تكون بجعل من اللّه تعالي، وإسناده إلي الإنسان فلأجل أنّها مستندة إلي قدرته وإرادته واختياره.

هذا كلّه إذا كانت الحسنة والسيّئة في الآية الثانية بمعني النعمة والمصيبة، وأمّا لو كانتا بمعني الطاعة والمعصية فيتّضح الأمر ممّا مرّ من أنّ اللّه تعالي أولي بالطاعات منّا ونحن أولي بالمعاصي منه عزّ وجلّ، وقد مرّ توضيح ذلك.

في التوحيد الصدوق(رحمه الله): بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة، فقال لي: اكتب:

قال اللّه تبارك وتعالي: يا ابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كلّ شيء تريد.(1)

ص: 328


1- 572.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104 وص56، ح99.
الوجه الثامن: «أخبار الطينة»
اشارة

وهي عمدة ما استدلّوا به، وقد أورد هذه الأخبار الشريفة ثقة الإسلام الكلينيّ(قدس سره) في المجلد الثاني من الكافي الشريف، والعلّامة المجلسي في المجلد الخامس من بحارالأنوار.

وظاهر بعض هذه الأخبار أنّ الإنسان إنّما يعمل علي وفق طينته التي خلق منها، بل بعضها ظاهر في أنّالتخلّف عن اقتضاء الطينة مستحيل وغير مقدور، كما أنّ ظاهر بعضها أنّ اللّه تعالي قال للمؤمنين: «إلي الجنّة ولا أُبالي»، وقال للكفّار: «إلي النار ولا أبالي».(1)

الجواب:
نظرة إجماليّة لأخبار الطينة

لا ينبغي الحكم علي وفق هذه الأخبار إلّا بعد مراجعة جميع الأدلّة النقليّة -- من الآيات والروايات -- في موضوع الخلقة وإبداع الإنسان وسائر الكائنات، وبعد النظر فيها بتأمّل تامّ يتبيّن منشأ وجود الطينتين: العلّيّين والسجّين.

وبعبارة أخري: اللازم علينا إمّا أن ندع الاستدلال بهذه الأخبار رأساً، وإمّا أن نلاحظ مجموعها، لأنّ الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) قد قالوا:

إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلي محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا(2)

فيجب علينا الأخذ بالمتشابهات بعد إحكامها بالرجوع إلي المحكمات.

إذا عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ صراحة الآيات الكثيرة ونصوصيّة الأخبار المتواترة في نفي الجبر وقضاء ضرورة الشرايع بعد ضرورة العقول علي نفيه تلزمنا أن نفسّر أخبار الطينة بنحو لا يتوهّم منها الجبر ولا تنطبق عليه وهذا واضح.

فنقول: إنّ مقتضي الآية المباركة والأخبار الكثيرة هو كون المادّة الأصليّة لجميع الكائنات

ص: 329


1- 573.. علل الشرائع، ج2، ص608، ح81؛ بحارالأنوار، ج5، ص230، ح6.
2- 574.. عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، ج 1، ص290، ح39؛ بحارالأنوار، ج2، ص185، ح9.

-- دنيويّة كانت أم أخرويّة -- ؛ جوهراً سيّالاً يعبّر عنه بالماء. قال تعالي:

﴿وَجَعَلْنا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيءٍ حَيّ﴾.(1)

روي الكلينيّ مسنداً عن محمّد بن عطيّة قال: جاء رجل إلي أبي جعفر(عليه السلام) من أهل الشام من علمائهم فقال: يا أبا جعفر جئت أسألك عن مسألة قد أعيت عليّ أن أجد أحداً يفسّرها، وقد سألت عنها ثلاثة أصناف من الناس فقال كلّ صنف منهم شيئاً غير الذي قال الصنف الآخر، فقال له أبو جعفر(عليه السلام): ما ذاك؟، قال: فإنّي أسألك عن أوّل ما خلق اللّه من خلقه، فإنّ بعض من سألته قال:القدر، وقال بعضهم: القلم، وقال بعضهم: الروح، فقال أبو جعفر(عليه السلام):

ما قالوا شيئاً، اُخبرك أنّ اللّه تبارك وتعالي كان ولا شيء غيره، وكان عزيزاً، ولا أحد كان قبل عزّه، وذلك قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(2) وكان الخالق قبل المخلوق، ولو كان أوّل ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبداً ولم يزل اللّه إذاً ومعه شيء ليس هو يتقدّمه، ولكنّه كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كلّ شيء إلي الماء ولم يجعل للماء نسباً يضاف إليه ... .(3)

وروي الصدوق مسنداً عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته عن أوّل ما خلق اللّه عزّ وجلّ؟ قال:

إنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ وجلّ ما خلق منه كلّ شيء، قلت: جعلت فداك وما هو؟ قال: الماء ... .(4)

والمراد بالماء هي مادّة الموادّ لكلّ المادّيّات التي خُلق كلّ شيء منها، وتلك المادّة مع وجودها

ص: 330


1- 575.. الأنبياء21.، الآية 30.
2- 576.. الصافّات37.، الآية 180.
3- 577.. الكافي، ج8، ص94، ح67؛ بحارالأنوار، ج54، ص96، ح81.
4- 578..علل الشرائع، ج1، ص83، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص240، ح23. نعم قد ورد في بعض الروايات أنّ أوّل ما خلق اللّه نور النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) أو نوره مع أنوار الأئمّة(عليهم السلام)، ويمكن حملها علي أنّ أوّل ما خلق من الماديّات الماء وأوّل ما خلق اللّه من الأنوار نور النبيّ والأئمّة(عليهم السلام). أو أنّ أوّل ما خلقه اللّه الماء، ثمّ أوّل ما خلق من الماء هو أرواح الأئمّة فحمّلهم نوره القدّوس.

-- أي تكوّنها باللّه تعالي شأنه -- فاقدة بذاتها لنور الحياة والعلم والقدرة.

ثمّ إنّه تعالي أعطي ذلك الماء العلم والفهم والإرادة والاختيار، فصارت حيّة عالمة قادرة. وقد ورد في الروايات:

إنّ اللّه حمّل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون أرض وسماء أو جنّ أو إنس أو شمس أو قمر ... .(1)

وبعد ذلك عرّف نفسه القدّوس لهذا الماء وأخذ منه الإقرار علي ربوبيّته. فقسم من الماء أقرّ واعترف بالربوبيّة، وقسم منه جحد وأنكر. فجعل الماء الذي سبق إلي الإقرار علّيّين فقال له: كن عذباً فراتاً، والماء الذي لم يقرّ سجّيناً وقال له: كن ملحاً أُجاجاً.

ثمّ إنّه تعالي خلق أهل طاعته من العلّيّين وخلق أهل معصيته من السجّين، ثمّ أمر الطينتين فاختلطا.

ولعلّ المراد من الخلط هو اللطخ والمسح، كما في رواية عبد اللّه بن سنان الآتية. ومن الواضح أنّ اللطخ والمسح لا يوجب تغيير العلّيّين إلي السجّين ولا العكس، بل هو عرض يعرض علي كلّ واحد منهما وله آثار من دون أن تتغيّر الطينة بأصلها، كما أنّه قد تتأثّر بشرةالإنسان إذا وقف تجاه الشمس لمدّة طويلة، فحرارة الشمس تؤثّر علي بشرته من دون تغيير أصل البشرة، وكذا تتغيّر صفات بدنه بتغيير البيئة التي يعيش فيها، كما أنّ المؤمن والمطيع قد يتأثّر بأخلاق الكافر والعاصي إذا عاشره وصاحبه وكذا العكس، ولذا وردت أخبار في سنن العشرة وأحكامها.

والحكمة في هذا الاختلاط هو أن يكون طريق التوبة وسبيل الطاعة مفتوحاً تكويناً للكافر والعاصي، كما أنّ المؤمن بسبب هذا الخلط لابدّ له من المجاهدة الشديدة في العبادات والطاعات وبسببها ترفع درجته. مضافاً إلي أنّه لولا هذا الاختلاط لما حصل الاختبار والامتحان الذي من أجله جيء بالإنسان إلي الدنيا، كما أنّه لولاه لم يمكن التعايش بين أهل الطاعة وأهل المعصية في دار الدنيا.

ص: 331


1- 579.. الكافي، ج1، ص133، ح7؛ بحارالأنوار، ج54، ص95، ح80.

إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أنّ مادّة خلقة الجميع واحدة، والاختلاف بالعلّيّين والسجّين والاختلاط إنّما هو في العوارض. وبما ذكرنا يبطل ما ذكره صاحب الكفاية من كون السعادة والشقاوة والإيمان والكفر ذاتيّتين.

ذكر بعض أخبار الطينة

و إليك نصّ بعض الأخبار، ونذكر المستفاد منها بعد التعرّض لها.

روي الصدوق مسنداً عن داود الرقيّ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

لمّا أراد اللّه عزّ وجلّ أن يخلق الخلق خلقهم ونشرهم بين يديه، ثمّ قال لهم: من ربّكم؟ فأوّل من نطق رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وأمير المؤمنين والأئمّة صلوات اللّه عليهم أجمعين، فقالوا: أنت ربّنا، فحمّلهم العلم والدين، ثمّ قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأُمنائي في خلقي، وهم المسؤولون. ثمّ قال لبني آدم: أقرّوا للّه بالربوبيّة، ولهؤلاء النفر بالطاعة والولاية، فقالوا: نعم ربّنا أقررنا، فقال اللّه جلّ جلاله للملائكة: اشهدوا، فقالت الملائكة: شهدنا علي أن لا يقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو يقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرّيّة من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؛ يا داود الأنبياء مؤكّدة عليهم في الميثاق.(1)وروي مسنداً عن عبد اللّه بن محمّد الجعفيّ وعقبة جميعاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الخلق فخلق من أحبّ ممّا أحبّ، وكان ما أحبّ أن خلقه من طينة الجنّة، وخلق من أبغض ممّا أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثمّ بعثهم في الظلال، فقلت: وأيّ شيء الظلال؟ فقال: ألم تر إلي ظلّك في الشمس شيء وليس بشيء؟ ثمّ بعث منهم النبيّين فدعوهم إلي الإقرار باللّه، وهو قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾(2) ثمّ دعوهم إلي الإقرار بالنبيّين فأنكر بعض وأقرّ بعض، ثمّ دعوهم إلي ولايتنا فأقرّ بها واللّه من أحبّ، وأنكرها من أبغض، وهو قوله عزّ وجلّ: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبلُ﴾،(3) ثمّ قال أبو جعفر(عليه السلام): كان التكذيب ثَمّ.(4)

ص: 332


1- 580.. علل الشرائع، ج1، ص118، ح2؛ بحارالأنوار، ج5، ص244، ح33.
2- 581.. الزخرف43.، الآية 87.
3- 582..يونس 10.، الآية 74.
4- 583.. علل الشرائع، ج1، ص118، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص244، ح34.

وروي مسنداً عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته عن أوّل ما خلق اللّه عزّ وجلّ؟ قال:

إنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ وجلّ ما خلق منه كلّ شيء، قلت: جعلت فداك وما هو؟ قال: الماء، إنّ اللّه تبارك وتعالي خلق الماء بحرين، أحدهما عذب، والآخر ملح، فلمّا خلقهما نظر إلي العذب، فقال يا بحر، فقال: لبّيك وسعديك، قال: فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق أهل طاعتي وجنّتي، ثمّ نظر إلي الآخر فقال، يا بحر، فلم يجب فأعاد عليه ثلاث مرّات يا بحر! فلم يجب، فقال: عليك لعنتي ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري، ثمّ أمرهما فامتزجا، قال: فمن ثَمّ يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.(1)

وروي عن زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه تبارك وتعالي خلقنا من نور مبتدع من نور رسخ ذلك النور في طينة من أعلا علّيّين، وخلق قلوب شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا، وخلق أبدانهم من طينة دون ذلك، فقلوبهم تهوي إلينا، لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه، ثمّ قرأ: ﴿كَلّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾،(2) وإنّ اللّه تبارك وتعالي خلققلوب أعدائنا من طينة من سجّين، وخلق أبدانهم من طينة من دون ذلك، وخلق قلوب شيعتهم ممّا خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثمّ قرأ: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾(3).(4)

وروي عن أبي يحيي الواسطيّ رفعه قال:قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلقنا من علّيّين، وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من علّيّين، وخلق أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل ذلك كان القرابة بيننا وبينهم، ومن ثَمّ تحنّ قلوبهم إلينا.(5)

ص: 333


1- 584.. علل الشرائع، ج1، ص83، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص240، ح23.
2- 585.. المطفّفين83.، الآيات 18 -21.
3- 586.. المطفّفين83.، الآيات 7-10.
4- 587.. علل الشرائع، ج1، ص14، ح14؛ بحارالأنوار، ج5، ص243، ح30.
5- 588.. علل الشرائع، ج1، ص117، ح15؛ بحارالأنوار، ج5، ص243، ح31.

وروي مسنداً عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزّوجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَي أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَي﴾(1) قال:

ثبتت المعرفة ونسوا الوقت وسيذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه.(2)

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق ماء عذباً فخلق منه أهل طاعته، وجعل ماء مُرّاً فخلق منه أهل معصيته، ثمّ أمرهما فاختلطا، فلولا ذلك ما ولد المؤمن، إلّا مؤمناً، ولا الكافر إلّا كافراً.(3)

وروي عن عليّ بن الحسين(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق النبيّين من طينة علّيّين وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق الكافرين من طينة سجّين وقلوبهم وأبدانهم، فخلط بين الطينتين فمن هذا الذي يلد المؤمن الكافر، ويلد الكافر المؤمن، ومن هاهنا يصيب المؤمن السيّئة، ويصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحنّ إلي ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحنّ إلي ما خلقوا منه.(4)

ص: 334


1- 589.. الأعراف7.، الآية 172.
2- 590.. علل الشرائع، ج1، ص117، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص243، ح32.
3- 591.. علل الشرائع، ج1، ص82، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص238، ح17.
4- 592.. علل الشرائع، ج1، ص82، ح2؛ بحارالأنوار، ج5، ص239، ح18.

وروي مسنداً عن محمّد بن سنان، عن معاوية بن شريح عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ أجري ماء فقال له كن بحراً عذباً أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي، وإنّ اللّه عزّ وجلّ أجريماء، فقال له: كن بحراً مالحاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثمّ خلطهما جميعاً، فمن ثَمَّ يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، ولو لم يخلطهما لم يخرج من هذا إلّا مثله، ولا من هذا إلّا مثله.(1)

وروي مسنداً عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في حديث طويل يقول في آخره:

مهما رأيت من نزق أصحابك وخرقهم فهو ممّا أصابهم من لطخ أصحاب الشمال، وما رأيت من حسن شيم من خالفهم ووقارهم فهو من لطخ أصحاب اليمين.(2)

وروي بسنده عن أبان بن عثمان وأبي الربيع يرفعانه، قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق ماء فجعله عذباً فجعل منه أهل طاعته، وخلق ماء مُرّاً فجعل منه أهل معصيته، ثمّ أمرهما فاختلطا، ولولا ذلك ما ولد المؤمن إلّا مؤمناً ولا الكافر إلّا كافرا.(3)

المحصّل من الأخبار
اشارة

وهذه الأخبار تتضمّن أموراً دقيقة هامّة يظهر بها الجواب عن استدلال المجبّرة بأخبار الطينة.

الأوّل: بدء الكائنات من الماء وعروض صفة العلّيّين والسجّين

انّ بدء كلّ الكائنات كان من مادّة واحدة، والعلّيّين والسجّين من العوارض علي تلك المادّة، لا من ذاتيّاتها، فلذا ورد في بعض الروايات أنّه بعد خلق المادّة الأوّليّة قيل لبعض منها: «كن عذباً فراتاً»، ولبعض آخر: «كن ملحاً أُجاجاً»، وعلي هذا فهما قابلان للتغيير ومن ثَمَّ شرط البداء في السجّين.

الثاني: اختلاط الطينتين

إنّ الاختلاط الحاصل بين الطينتين -- مضافاً إلي أنّه من العوارض -- إنّما هو لأجل حِكَمٍ ومصالح قد مرّ التعرّض لبعضها آنفاً. وخروج المؤمن من الكافر أو العكس إنّما هو لأجل هذا الاختلاط.

ص: 335


1- 593.. علل الشرائع، ج1، ص83، ح4؛ بحارالأنوار، ج5، ص240، ح21.
2- 594.. علل الشرائع، ج1، ص83، ح5؛ بحارالأنوار، ج5، ص240، ح22.
3- 595.. علل الشرائع، ج1، ص84، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص240، ح24.
الثالث: نوعيّة الطينة رهن الإيمان والكفر الاختياريّ

إنّ صيرورة البعض من العلّيّين والآخر من السجّين إنّما كانت نتيجة الإقرار والإيمان، وكذا الإنكار والكفر الصادرين عنهم بإرادة واختيار، والذي حصل منهم بعدأن عرّف اللّه تعالي نفسه إيّاهم وعرّفهم رسله وأنبيائه، فأقرّ من أقرّ فصار من العلّيّين، وأنكر من أنكر وصار من السجّين.

توضيح ذلك: إنّ اللّه تعالي خلق أرواح المؤمنين من العلّيّين وخلق أرواح الكفّار من السجّين، ذلك أنّه تعالي كان يعلم ما هم صائرون إليه بالقدرة والاختيار من الإيمان أو الكفر، ومن الواضح أنّ علمه تعالي تابع لا علّة لصدور الإيمان أو الكفر كما مرّ مفصّلاً، وأنّ العلّيّين والسجّين عرض يعرض علي الطينة الأصليّة ولا يكون إلّا مقتضياً للإيمان أو الكفر.

ثمّ إنّه تعالي عرّف نفسه القدّوس للأرواح فقسم آمن به وأقرّ طوعاً وقسم آخر لم يؤمن وأقرّ كُرهاً، فجعل اللّه تعالي أرواح المؤمنين في أبدان مخلوقة من الماء العذب الفرات نتيجة إيمانهم وإقرارهم وجعل أرواح الكفّار في الماء الملح الأُجاج جزاء علي عدم إقرارهم طوعاً.

تفسير عليّ بن إبراهيم: أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جابر قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول في هذه الآية: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَي الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقاً﴾(1):

يعني: من جري فيه شيء من شرك الشيطان، علي الطريقة يعني: علي الولاية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ اللّه ميثاق بني آدم، أَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً يعني: لكنّا وضعنا أظلّتهم في الماء الفرات العذب.(2)

بيان: قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

قوله(عليه السلام): «يعني من جري» أي لمّا كانت لفظة «لو» دالّة علي عدم تحقّق الاستقامة فالمراد بهم من جري فيهم شرك الشيطان من المنكرين للولاية، وحاصل الخبر: أنّ المراد بالآية أنّهم لو كانوا أقرّوا في عالم الظلال والأرواح

ص: 336


1- 596.. الجنّ72.، الآية 17.
2- 597.. تفسير القمّيّ، ج2، ص391؛ بحارالأنوار، ج5، ص234، ح9.

بالولاية لجعلنا أرواحهم في أجساد مخلوقة من الماء العذب. فمنشأ اختلاف الطينة هو التكليف الأوّل في عالم الأرواح عند الميثاق.(1)

وروي الصدوق مسنداً عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾(2) قال:بأعمالهم شقوا.(3)

الرابع: بقاء القدرة علي مخالفة مقتضي الطينة

إنّ كون الطينة من العلّيّين أو السجّين ليست علّة تامّة لاختيار الإيمان والكفر أو الخير والشرّ، بل الإنسان قادر علي الفعل والترك، والقدرة واردة وحاكمة علي جميع المقتضيات التي منها كون الطينة من العلّيّين أو السجّين. فلهذا يحسن التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب والمدح والذمّ والتحسين والتقبيح، ولا يكون لغواً. وصعوبة الإيمان والعمل الصالح وتوقّفهما علي المجاهدة الشديدة لأجل كثرة مقتضيات الشرّ لا توجب سلب القدرة من الإنسان علي الإيمان والطاعة وترك القبايح، وهذا واضح للمتأمّل. نعم الثواب وكثرته يدور مدار العبوديّة والمجاهدة وتحمّل أعباء التكليف، فكلّما كثرت المجاهدة واشتدّت في طريق الإيمان وإطاعة المولي والاجتناب عن المعاصي كان الأجر والثواب أكثر. إلّا أنّ تمام الكلام إنّما هو في أنّ التكليف دائر مدار وجود القدرة، لا صعوبة الامتثال وسهولته، فمهما وجدت القدرة يصحّ التكليف ومهما فقدت يكون التكليف ظلما.

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم: «لا حول ولا قوّة إلا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(4)

ص: 337


1- 598.. بحارالأنوار، ج5، ص235.
2- 599.. المؤمنون23.، الآية 106.
3- 600.. التوحيد، ص356، ح2؛ بحارالأنوار، ج5، ص157، ح9.
4- 601.. نهج البلاغة، الحكمة 404، ص547.
الخامس: إمكان تغيير الطينة

يستفاد من الآيات والأخبار أنّه من الممكن تغيير الطينة وتبديلها، بل المستفاد منهما وقوعه. فإنّ اللّه تعالي يخرج الأشقياء من الظلمات إلي النور، قال تعالي:

﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُ-خْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛(1)

و﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَي صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْ-حَمِيدِ﴾؛(2)و﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾؛(3)

و﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَي عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛(4)

و﴿رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِ-حَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ﴾.(5)

وهذا من أقوي الشواهد والأدلّة علي ما مرّ منّا من أنّ الطينة مقتضية وليست علّة.

نعم يستفاد من بعض الأخبار أنّ اللّه تعالي لا ينقل السعيد من السعادة إلي الشقاء.

عن الصدوق(رحمه الله): قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

إنّ اللّه تبارك وتعالي ينقل العبد من الشقاء إلي السعادة ولا ينقله من السعادة إلي الشقاء.(6)

ص: 338


1- 602.. المائدة5.، الآية 16.
2- 603.. إبراهيم14.، الآية 1.
3- 604.. الاحزاب33.، الآية 43.
4- 605.. الحديد57.، الآية 9.
5- 606.. الطلاق65.، الآية 11.
6- 607.. التوحيد، ص358، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص158، ح12.

ويشهد لهذا المدّعي أمور كثيرة نشير إلي بعضها:

منها: قوله تعالي: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾.(1)

ويتبيّن الاستشهاد بهذه الآية بعد ملاحظة أمور:

1. الآية الكريمة تشير إلي أنّ علّة حرمان البعض من الجنّة ودخولهم في النار هو خلقهم ممّا هم يعلمون؛

2. لا شبهة في أنّ الدخول في الجنّة أو النار رهن الإيمان والعمل الصالح أو الكفر والعمل غير الصالح، وهذا أيضاً منشأ السعادة والشقاوة؛

3. إنّ حقيقة طينة العلّيّين والسجّين غير معلوم لنا؛

4. إنّ الذي هو واضح للإنسان هو الأعمال الاختياريّة الصادرة عنه وحسنها وقبحها.

فنستنتج من الآية الكريمة -- بناءاً علي هذا الاحتمال -- هو أنّ اللّه تعالي يقول: كيف يمكن أن يدخلوا الجنّة مع أنّهم يعلمون بأنّهم قد خلقوا من الطينة الخبيثة بسبب أعمالهم القبيحة كما قال تعالي: ﴿وَأَنْ لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَي الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾(2) وفسّرها الإمام الباقر(عليه السلام):من جري فيه من شرك الشيطان علي الطريقة يعني علي الولا ية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ اللّه ميثاق ذرّيّة آدم «أَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً» يعني لكنّا وضعنا أظلّتهم في الماء الفرات العذب.(3)

فيظهر أنّ الأعمال القبيحة تؤثّر علي خلق الإنسان وطينته وسجيّته، فالإنسان إنّما يخلق من أعماله الحسنة أو القبيحة.

وقد عبّر القرآن المجيد عن التحوّل والتبدّل بالخلقة، حينما يقول عزّ ذكره: ﴿يَ-خْلُقُكُمْ

ص: 339


1- 608.. المعارج70.، الآيتان 38-39.
2- 609.. الجنّ72.، الآية 17.
3- 610.. تفسير نور الثقلين، ج5، ص438 ح31؛ بحارالأنوار، ج5، ص234، ح9.

فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾.(1)

تفسير النعمانيّ: بإسناده عن الصادق(عليه السلام) قال: سئل أمير المؤمنين(عليه السلام) عن مشابه الخلق، فقال:

هو علي ثلاثة أوجه: فمنه خلق الاختراع كقوله سبحانه: ﴿خَلَقَ السَّماوَاتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾،(2) وخلق الاستحالة، قوله تعالي: ﴿يَ-خْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ﴾(3) الآية، وأمّا خلق التقدير فقوله لعيسي: ﴿وَإِذْ تَ-خْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾(4) الآية.(5)

وهذه حقيقة تستفاد من الآيات والروايات بوضوح، وهي عبارة عن أنّ أعمال الإنسان تؤثّر في عاقبته.

ثمّ إنّ مسألة تجسّم الأعمال يوم القيامة إنّما تبتني علي هذا المطلب، قال اللّه تعالي:

﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾؛(6)

و﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾؛(7)

و﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾.(8)

وقد دلّت الأخبار علي أنّ الصلاة وكذا الولاية تجسّمان في القبر. فظاهر هذه الآيات والأخبار أنّ العمل بنفسه يكون مشهوداً وحاضراً يوم القيامة مضافاً إلي نتايج الأعمال

ص: 340


1- 611.. الزمر39.، الآية 6.
2- 612.. الأعراف7.، الآية 54.
3- 613.. غافر40.، الآية 67.
4- 614.. المائدة5.، الآية 110.
5- 615.. بحارالأنوار، ج57، ص333، ح2.
6- 616.. الكهف18.، الآية 49.
7- 617.. الزلزال99.، الآيتان 7 -8.
8- 618.. آل عمران3.، الآية 30.

وآثارها وجزائها، فلو لم تؤثّر الأعمال فيالجسم والمادّة فلا يمكن أن يكون العمل مشهوداً، بداهة عدم إمكان رؤية غير الجسم.

وقد اكتشف علماء الفيزياء أخيراً أنّ الطاقة في الطبيعة تتبدّل إلي المادّة دائماً وكذا المادّة تتحوّل إلي الطاقة.(1)

هذا مع أنّ تجسّم الأعمال إنّما يكون بخلق الأعراض في المادّة اللطيفة المناسبة للأعمال طيباً وخُبثا.

فعلي هذا الأساس نقول: إنّ الإنسان قادر علي أن يبدّل طينته الخبيثة إلي طينة طيّبة، ذلك أنّ طينة الإنسان إنّما تتشكّل طبق أعماله الصادرة عنه باختياره وفقاً لقانون الطبيعة، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ.

نعم، في الأخبار ما يدلّ علي أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء. ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ العبد ليفعل العمل الحسن فيبدّل اللّه طينته، فهو بنفسه لا يستطيع أن يبدّل طينته، بل الربّ تبارك وتعالي يبدّلها بعد ما أتي العبد بالأعمال الصالحة المقتضية لتبديلها بالجعل التكوينيّ الإلهيّ، كما أنّه هو بنفسه لا يستطيع أن يمحو سيّئاته وذنوبه بل اللّه تعالي يمحوها بقدرته بعد توبة العبد وإتيانه بالأعمال الحسنة. قال الإمام زين العابدين(عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق:

واستصلح بقدرتك ما فسد منّي.(2)

ص: 341


1- 619.. قالوا: إنّ مقدار الطاقة والمادّة في الطبيعة ثابت دائماً لا يزيد ولا ينقص، إلّا أنّ المادّة إنّما تتبدّل إلي الطاقة وبالعكس، فمثلاً أنّ النفط إذا احترق يتبدّل أجزائه شيئاً فشيئاً إلي الحرارة والنور، وهذه الحرارة والنور لا يفنيان بل قد يتبدّلان إلي مادّة أو طاقة أخري، ولو جمعنا الطاقات المتولّدة منه مع مقدار الدخان المتصاعد منه وغيره ممّا بقي منه وضممنا بعضها إلي بعض ليحصل نفس مقدار النفط الموجود أوّلاً بلا زيادة ولا نقصان. وهذه النظريّة هي النظريّة السائدة الآن في المحافل العلميّة، وتُسمّي بنظريّة بقاء المادّة والطاقة وتساويهما، وعليها تبتني كثير من الاكتشافات الحديثة لا سيّما في مجال علم الذرّة، والاكتشافات النوويّة. ومن أراد الاطّلاع علي تفصيل الكلام في هذا البحث فليراجع كتاب تبديل نيرو به ماده.
2- 620.. الصحيفة السجادية، ص92.(فرازي از دعاي مكارم الأخلاق)

وأمّا إمكان البداء للّه تعالي عن علم فقد تقرّر في محلّه ولا إشكال فيه.

ومنها: ما ورد في الدعاء:

وإن كنتُ عندك من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء، فإنّك قلت: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(1).(2)

فإنّه من الواضح أنّ الإمحاء من الأشقياء والإدخال في السعداء لا يمكن إلّا بتغيير الطينة من السجّين إلي العلّيّين.

ومنها: إنّ من أهمّ أغراض انتقال العباد إلي الدنيا -- بحسب ما ورد في الأخبار، مع انّه قد تميّز المطيع عن العاصي في العوالم السابقة، كما قال(عليه السلام): «ثَمَّ ثبتت الطاعة والمعصية»(3) هو تجديد الامتحان والاختبار مرّة أخري للخاسرين في تلكم العوالم،وإتمام الحجّة علي العباد، كي تتاح الفرصة لمن خسر في العوالم السابقة -- فصار من أجل ذلك من السجّين -- أن يحسّن عمله ويصلح الفاسد فيتوب إلي اللّه ويصير من الفائزين والعلّيّين. فعلي هذا لابدّ من أن يكون اللّه تعالي قد أعطاهم القدرة والسلطنة علي ذلك كي يتمكّنوا من تغيير طينتهم وتبديلها من السجّين إلي العلّيّين.

ومنها: إنّه قد ورد في الروايات الصادرة عن الأئمّة(عليهم السلام) تشبيه روح الإنسان بالأرض، والتربية والمربّي، والعلم بالماء.

في مواعظ عيسي(عليه السلام):

يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً علي الركب، فإن اللّه يحيي القلوب الميّ--تة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر ... بحقّ أقول لكم: إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، وكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار.(4)

روضة الواعظين: قال لقمان لابنه:

ص: 342


1- 621.. الرعد13.، الآية 39.
2- 622.. اقبال الأعمال، ج1، ص37؛ بحارالأنوار، ج94، ص374، ح16، و ج95، ص162.
3- 623.. الكافي، ج2، ص6 ح1؛ بحارالأنوار، ج64، ص94، ح14.
4- 624.. تحف العقول، ص393؛ بحارالأنوار، ج14، ص305ح16.

يا بنيّ جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك فإنّ اللّه عزّوجلّ يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء.(1)

في الرسالة الذهبيّة للإمام الرضا(عليه السلام):

واعلم يا أمير المؤمنين أنّ الجسد بمنزلة الأرض الطيّبة، متي تعوهدت بالعمارة والسقي من حيث لا يزداد في الماء فتغرق، ولا ينقص منه فتعطش، دامت عمارتها، وكثر ريعها، وزكي زرعها، وإن تغوفل عنها فسدت، ولم ينبت فيها العشب، فالجسد بهذه المنزلة، وبالتدبير في الأغذية والأشربة يصلح ويصحّ، وتزكو العافية فيه.(2)

قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإنّ القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليها الماء.(3)

ولهذا التشبيه وجوه متعدّدة وبيانها يتطلّب بحثاً مفصّلاً، ومن جملة تلك الوجوه هو: أنّ الأرض مهما كانت مستعدّة للزرع ولكن ما لم يصل إليها الماء العذب لا تثمر أبداً. وكذلك روح الإنسان مهما كانت طيّبةً ومستعدّة لا تثمر ما لم تستفد من أنوار الأئمّةالطاهرين عليهم أفضل صلوات المصلّين الذين جاؤوا لتزكية النفوس وتربيتها وتعليمها. فعلي هذا إنّ صرف كون طينة أحد من العلّيّين لا تكون علّة تامّة لسعادته التي لا تحصل إلّا بالإيمان والأعمال الصالحة، كما أنّ الأرض بوحدها لا تكاد تكون مثمرة.

ومن جملة تلك الوجوه أنّ قطعات الأرض مختلفة من حيث الاستعداد للزرع والنبت فبعضها يقبل الزرع بسهولة وبعضها لا يقبل ذلك، ولكنّ الزارع الخبير يستطيع بواسطة تغيير التراب وإضافة العناصر اللازمة للزراعة بها أن يحصد منه الزرع الطيّب. وهكذا روح الانسان مهما كانت مستعدّة لا يمكن ايجاد التغيير فيها إلّا إذا ربّاها المعلّم الربّانيّ كي تصل إلي الدرجة العالية من الكمال والفضيلة. قال اللّه تعالي:

ص: 343


1- 625.. روضة الواعظين و بصيرة المتعظين، ج1، ص11؛ بحارالأنوار، ج1، ص204، ح2.
2- 626.. طبّ الامام الرضا(عليه السلام)، ص13؛ بحارالأنوار، ج59، ص310.
3- 627.. مكارم الأخلاق، ص150؛ بحارالأنوار، ج63، ص331، ح7 و ج67، ص71، ح1.

﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَي طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَ-خْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾.(1)

عن المحاسن: أبي، عمّن ذكره، عن زيد الشحّام، عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَي طَعَامِهِ﴾. قال:

قلت: ما طعامه؟ قال: علمه الذي يأخذه ممّن يأخذه.(2)

قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره) في ذيل الخبر:

هذا أحد بطون الآية الكريمة، وعلي هذا التأويل المراد بالماء: العلوم الفائضة منه تعالي فإنّها سبب لحياة القلوب وعمارتها، وبالأرض: القلوب والأرواح، وبتلك الثمرات: ثمرات تلك العلوم.(3)

ومنها: قوله تعالي:

﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلنا بِالْ-حَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَ-خْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إلنا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِ-حاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.(4)ووجه الاستشهاد بالآية واضح؛ وذلك أنّ تبديل السيّئات إلي الحسنات لا معني له مع بقاء الطينة علي السجّينيّة. مضافاً إلي أنّ كون الطينة من السجّين هي من السيّئات، واللّه تعالي يبدّلها إلي الحسنات فتكون من العلّيّين. ومن الواضح أنّ إطلاق السيّئة علي السجّين هو باعتبار أنّ العبد هو الذي هيّأ مقدّماتها بأعماله القبيحة.

وثالثاً: لا يمكن دخول الجنّة مع بقاء الطينة علي السجّينيّة، والآية تصرّح بأنّ من حكم

ص: 344


1- 628.. عبس80.، الآيات 24-31.
2- 629.. المحاسن، ج1، ص220، ح127؛ بحارالأنوار، ج2، ص96، ح38.
3- 630.. بحارالأنوار، ج2، ص96.
4- 631.. الفرقان25.، الآيات 68-70.

عليه بدخول النار لو تاب يدخل الجنّة.

ومنها: جميع ما ورد من الأمر بالتوبة وقبولها والرجوع إلي اللّه تعالي في كثير من الآيات والروايات.

وواضح أنّ الأشقياء أيضاً مأمورون بالتوبة والرجوع، وتقبل توبتهم إذا رجعوا وتابوا، فإنّ ذلك -- أي لزوم توبة الجميع -- من ضروريّات الدين وحينئذٍ نقول: لا معني للتوبة والرجوع مع عدم القدرة علي تبدّل الطينة، فكيف يمكن للشقيّ الفاسق الكافر أن يصير مؤمناً صالحاً وليّاً من أولياء اللّه مع بقاء طينته علي الشقاوة مطلقاً فضلاً عن الذاتيّة؟

ومنها: ما في الدعاء الوارد عن الصادق(عليه السلام):

اللهمّ إنّك خلقت هذه النفس من طينة أخلصتها وجعلت منها أوليائك وأولياء أوليائك، وإن شئت أن تنحّي عنها الآفات فعلت، اللهمّ وقد تعوّذ ببيتك الحرام الذي يأمن به كلّ شيء وقد تعوّذ بنا وأنا أسئلك يا من احتجب بنوره عن خلقه أسئلك بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين يا غاية كلّ محزون وملهوف ومكروب ومضطرّ ومبتلي أن تؤمنه بأماننا ممّا يجد وأن تمحو من طينته ما قدّر عليها من البلاء وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين.(1)

هذه جملة من الأدلّة علي إمكان التغيير في الطينة. وإذا أردت البسط في هذا الباب وفي ساير المباحث المتعلّقة بعالم الذرّ والطينة، وكذا سائر العوالم الموجودة قبل نشأة الدنيا زماناً، فراجع كتابنا سدّ المفرّ علي منكر الذرّ فقد ذكرنا فيه روايات كثيرة متواترة بالتواتر المعنويّ تدلّ علي ما ذكرناه بوضوح وصراحة، وزيّفنا جميع ما استدلّ به علي إنكار عالم الذرّ أو تصويره بشكل يرجع إلي إنكار وقوعه كعالَمواقعيّ جمعيّ محيط بالعالم الدنيويّ جري فيه ما جري من تعريف اللّه سبحانه ذاته القدّوس وأخذ الاقرار والاختبار، فصار كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.(2)

ص: 345


1- 632.. الدعوات، ص205، ح556؛ بحارالأنوار، ج91، ص41، ح24.
2- 633.. نعم هناك شبهة أخري، وهي أخبار تدلّ علي أنّ اللّه تعالي يحمّل الكفّار الأعمال السيّئة الصادرة من المؤمنين، كما أنّه يحمّل المؤمنين ما صدر من المخالفين من الأعمال الحسنة. والجواب عنه: إنّ تحميل الأعمال الحسنة علي المؤمنين إنّما يكون لأجل ذلك اللطخ الحاصل بخلط الطينتين، فإنّ المخالفين فعلوا الخير لاختلاط طينتهم بالطينة الطيّبة، وبما أنّ الطينة الطيّبة مختصّة بالمؤمن لإيمانه الاختياريّ فيكون هو أولي بالحسنة من المخالف. وكذلك الأمر بالنسبة إلي تحميل الأعمال القبيحة الصادرة عن المؤمنين علي المخالفين. فمرجع ذلك إلي الإيمان والكفر الاختياريّين في العوالم السابقة. هذا، وهناك فرق بين تحميل عمل أحد علي الآخر وبين اللوم والمدح كما هو واضح.

تتميم: بيان للحديث الشريف: «إلي النار ولا أبالي»

إنّ في بعض أخبار الطينة ما يمكن أن يتوهّم منه الجبر لعدم الإحاطة بالمعني الدقيق الذي تشير إليه، وهو ما أشرنا إليه في أوّل هذا الوجه من قوله تعالي: هؤلاء إلي الجنّة بسلام وهؤلاء إلي النار ولا اُبالي بعد حكمه علي أهل الجنّة بالجنّة وعلي أهل النار بالنار. وإليك نصّ الحديث:

عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

لو علم الناس كيف ابتداءُ الخلق ما اختلف اثنان. إنّ اللّه عزّوجلّ قبل أن يخلق الخلق قال: كُنْ ماءً عَذْباً، أخلق منك جَنّتي وأهل طاعتي، وكن ملحاً أُجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي. ثمّ أمرهما فامتزجا فمن ذلك صار يلد المؤمنُ الكافر والكافرُ المؤمن، ثمّ أخذ طيناً من أديم الأرض فعَرَكه عَركاً شديداً فإذا هم كالذرِّ يَدبّون، فقال لأصحاب اليمين: إلي الجنّة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلي النار ولا أبالي، ثمّ أمر ناراً فأُسْعرت، فقال لأصحاب الشمال: ادخولها فهابُوها، فقال لأصحاب اليمين: ادخلوها فدخلوها، فقال: كوني برداً وسلاماً فكانت برداً وسلاماً فقال أصحاب الشمال: يا ربِّ أقِلنا، فقال: قد أقَلتكم فادخلوها فذهبوا فهابوها فثَمّ ثبتت الطاعة والمعصية، فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء.(1)

والجواب عن هذا التوهّم هو أنّ الظاهر من هذا الخبر بقرينة سائر الأخبار أنّ أهل الجنّة يذهبون إلي الجنّة بسبب أعمالهم الصالحة فيدخلونها بسلام.

وأمّا أهل النار فيذهبون إلي الجحيم بسبب سوء اختيارهم.

وأمّا قوله تعالي: «ولا أُبالي» فالظاهر أنّ المراد: لا أكترث بما يعملون، فإذا همّوا بالمعصية

ص: 346


1- 634.. الكافي، ج2، ص6، ح1؛ بحارالأنوار، ج64، ص93، ح14.

لا أحول بينهم وبينها، ذلك أنّي زوّدتهم بالعقل وآتيتهم رشدهم وتقواهم ومنحتهم القدرة فإذا ذهبوا بسوءاختيارهم نحو المعاصي خلّيتم وما يختارون ولا أبالي بهم.

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لمّا كان حكمه عزّ وجلّ بدخولهم النار حكماً عدلاً -- وذلك أنّهم فعلوا بقدرتهم واختيارهم ما يوجب استحقاق دخول جهنّم -- لا يكترث الربّ المتعال بما يقول الناس من استغرابهم من حكمه بإدخالهم النار وما نسبوا إلي الربّ المتعال السبّوح القدّوس من أنّ حكمه هذا يكون بالجبر كما ذهب إليه المجبّرة.

والذي يؤيّد ما ذكرناه -- من أنّ هذا الحكم إنّما يستند إلي سوء اختيارهم -- مضافاً إلي ما مرّ من التأييد بسائر الأخبار -- هو أنّ الخبر في مقام بيان خلق الأبدان الذرّيّة ومن الواضح أنّ الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عام وأُخذ عليها العهد والميثاق فآمن بعضها بالقدرة والاختيار وكفر آخرون بالقدرة والاختيار ومن آمن منها وضع في بدن ذرّيّ يناسبه وهو البدن المخلوق من الماء العذب، وأمّا من كفر فيوضع في البدن المخلوق من الماء الملح الأُجاج فيكون الحكم علي أصحاب اليمين بدخول الجنّة وعلي أصحاب الشمال بدخول النار بعد أن امتحنهم اللّه تعالي في عالم الأرواح وبعد تميّز العاصي عن المطيع.

وأمّا الحديث المرويّ:

فقال: هذه إلي الجنّة ولا أُبالي وأخذ قبضة أُخري وقال: هذه إلي النار ولا أُبالي.(1)

فالظاهر من صدره وذيله أنّ عدم اكتراثه عزّوجلّ بالحكم علي أصحاب اليمين بالجنّة وكذا علي أصحاب الشمال بالنار هو لأجل أنّهم باختيارهم وإرادتهم انساقوا إلي ما حكم اللّه به عليهم فأصحاب اليمين يذهبون إلي الجنّة لأنّهم أطاعوه ووحّدوه وأصحاب الشمال يذهبون إلي النار لأنّهم عصوه وكفروا به.

وأمّا قوله: «ولا أُبالي» أي: لا أكترث بهذا الحكم فهو من جهة أنّه حكم علي أصحاب اليمين بالجنّة مع أنّهم ارتكبوا بعض المعاصي وحكم علي النصّاب بالنار مع أنّهم عملوا

ص: 347


1- 635.. علل الشرائع، ج2، ص608؛ بحارالأنوار، ج5، ص230، ح6.

بعض الصالحات ولكن مع ذلك حكم علي الأوّل بالجنّة غير مكترثٍ وحكمه العدل وحكم علي الثاني بالنار غير مكترثٍ وحكمه العدل ذلك أنّ السبب في ميل الأبرار إلي الأعمال القبيحة هو اللطخ الحاصل بينطينتهم وطينة النصّاب، ومن الواضح أنّ الطينة الخبيثة إنّما كانت نتيجة عدم إيمان أرواح النصّاب فيرجع الشرّ إليهم مآلاً لا إلي الأبرار وكذا الأمر بالنسبة إلي ميل النصّاب إلي الأعمال الحسنة والإتيان بهما فإنّ هذا الميل هو نتيجة اللطخ الحاصل بين طينتهم وطينة أصحاب اليمين، ومن الواضح أنّ طينة أصحاب اليمين يرجع عذوبتها إلي إيمان أرواحهم بالقدرة والاختيار ولذا لا يحقّ لأحد الاعتراض علي اللّه تعالي بأنّه لماذا حكمت علي أصحاب اليمين بالجنّة مع أنّهم ارتكبوا بعض القبائح ولماذا حكمت علي النصّاب بالنار مع أنّهم فعلوا بعض الخيرات، ذلك أنّ إتيان كلّ واحد من أصحاب اليمين والنصّاب بما ينافي مقتضي طينته إنّما هو لميله إلي ذلك، وقد حدث الميل إلي المعصية للمؤمن بسبب صدور الكفر عن النصّاب، كما أنّ الميل إلي الخيرات حصل للنصّاب بسبب صدور الإيمان عن أصحاب اليمين.

نعم لا شكّ في صحّة لوم المؤمن علي ما ارتكبه من المعاصي لأنّه وإن ارتكبها ومال إليها بسبب اللطخ إلّا أنّ اللّه تعالي أعطاه القدرة الحاكمة علي جميع الدواعي والشهوات فلو ارتكب المؤمن القبيح بعد وجدانه العلم والقدرة، للّه تعالي أن يلومه ويوبّخه ويعذّبه ولكن مع ذلك كلّه فللّه تعالي أن يرحمه ويغفر له كرامةً لنبيّه وأهل بيته(عليهم السلام)، فإذا تفضّل عليه وغفر له لا يكون ذلك إلّا عدلاً وفضلاً مطابقاً للحكمة فلا يحقّ لأحد الاعتراض علي اللّه تعالي بسبب حكمه علي المؤمن المذنب بالجنّة ذلك أنّ هذا الحكم غير منافٍ للحكمة وله تعالي أن يتعلّق رأيه بالغفران والعطف والرحمة فإنّه لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون.

وأمّا أصل اللطخ فمع أنّه لا يجبر العبد علي الإيمان أو الكفر والطاعة أو المعصية يكون بالنسبة إلي المؤمنين بسبب بطئهم في الإيمان وقبول الحقّ عندما أخذ اللّه الميثاق عنهم ويقتضي المجاهدة الشديدة في الدنيا وهي توجب قربهم إلي رحمة اللّه تعالي.

وأمّا بالنسبة إلي الكفّار والنصّاب فمع أنّه أيضاً لا يجبرهم علي الإتيان بالحسنات

ص: 348

يوجب إتمام الحجّة من اللّه تعالي عليهم بقدرتهم علي الإيمان والطاعة وبميلهم نحوها بسبب اللّطخ، وهو يقتضي نزول الرحمة من اللّه تعالي عليهم وسوقهم إلي الإيمان والطاعة مع عدم سلبالقدرة والاختيار عنهم. ومن ثمّ يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن.

ويحتمل أن يكون المراد من قوله تعالي: «ولا أُبالي» بالنسبة إلي دخول أهل الجنّة الجنّة، ودخول أهل النار النار، بمعني أنّه لا يضيق عليَّ دخولهم الجنّة أو النار بل لا يضيق عليّ دخول جميع الناس الجنّة أو النار لأنّ قدرتي لا تحدّ حيث أنّ المبالاة في اللغة بمعني الاكتراث فيكون «لا أُبالي» بمعني «لا أكترث» فيكون معناه أنّي لا أُبالي ولا أهتمّ لأنّه لا يشتدُّ ولا يشقّ عليَّ دخولهم الجنّة أو النار.

والحاصل: إنّ حكمه تعالي بدخول أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، وعدم اكتراثه ومبالاته تعالي بذلك إنّما هو لأجل أنّ الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية المقتضيان لدخول الجنّة أو النار يصدران عن العبد بالقدرة والاختيار فهذه الجملة لا تدلّ علي الجبر بل هي نافية للجبر وتدلّ علي القدرة والاختيار بحسب ما ذكرناه في توضيحها.

ص: 349

الوجه التاسع: الشقيّ شقي في بطن أُمّه والناس معادن
اشارة

قد استدلّوا بروايات ادّعوا أنّها ظاهرة في كون السعادة والشقاوة ذاتيّتين وأنّ الأعمال تابعة لهما.

في تفسير عليّ بن إبراهيم: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

الشقيّ من شقيّ في بطن أُمّه، والسعيد من سعه في بطن أُمّه.(1)

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام):

الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، فمن كان له في الجاهليّة أصل فله في الإسلام أصل.(2)

الجواب:
حديث: الشقيّ من شقي في بطن أُمّه
الأوّل: علمه تعالي بمآل العبد من الشقاوة والسعادة

قد فسّر أئمّتنا(عليهم السلام) هذا الخبر بعلم الباري تعالي، أي إنّ اللّه تعالي عالم بالجنين في بطن أمّه وأنّه سوف يكون باختياره وإرادته شقيّاً فهو شقيّ لا محالة، أو سوف يكون سعيداً باختياره وإرادته فهو سعيد قطعاً.وقد مرّ أنّ علم الباري تعالي لا يكون موجباً للجبر في أفعال البشر، لأنّ العلم تابع للمعلوم والواقع، لا أنّ الواقع تابع للعلم، ثمّ لا يخفي أنّ هذه الشبهة إنّما تكون بالنسبة إلي العلم المحمول القابل للتغيير وأمّا العلم المكفوف فلا تعيّن فيه وقد مرّ الكلام حوله.

روي الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان، عن محمّد بن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسي بن جعفر(عليهما السلام) عن معني قول رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): الشقيّ من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه، فقال:

ص: 350


1- 636.. تفسير القمي، ج1، ص227؛ بحارالأنوار، ج5، ص157، ح10.
2- 637.. الكافي، ج8، ص177، ح197؛ بحارالأنوار، ج64، ص121.

الشقيّ من علم اللّه وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم اللّه وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء ... .(1)

ونظير هذه الرواية روايات قد جمعها العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) في كتاب السماء والعالم من بحاره الشريف باب: «بدء خلق الإنسان في الرحم»(2) ومفادها أنّ الجنين اذا بلغ أربعة أشهر يرسل اللّه إلي الرحم ملكين ويأمرهما بأن يكتبا علي جبينه جميع مقدّراته ثمّ يقولان: «إلهي أشقيٌّ أم سعيدٌ؟» فيكتبان ما يأمرهما اللّه تعالي، ثمّ يقول اللّه تبارك وتعالي: اشترطا لي البداء في ما تكتبان. ولذا ورد في بعض الروايات:

إنّ اللّه خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون.(3)

روي الكلينيّ بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أراد أن يخلق النطفة التي أخذ عليها الميثاق في صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم، حرّك الرجل للجماع، وأوحي إلي الرحم أن افتحي بابك حتّي يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلي الرحم فتردّد فيه أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، ثمّ تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث اللّه ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء ... ثمّ يوحي اللّه إلي الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء في ما تكتبان، فيقولان: يا ربّ ما نكتب؟ قال: فيوحي اللّه عزّ وجلّ إليهما أن ارفعا رؤوسكما إلي رأس أمّه، فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمّه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته ورؤيته وأجله وميثاقهشقيّاً أو سعيداً وجميع شأنه. قال: فيملي أحدهما علي صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح، ويشترطان البداء في ما يكتبان، ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه، ثمّ يقيمانه قائماً في بطن أمّه. قال: فربّما عتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عاتٍ أو ماردٍ ... .(4)

ص: 351


1- 638.. التوحيد، ص356، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص157، ح10.
2- 639.. بحار الأنوار، ج57، ص317 (باب41).
3- 640.. الكافي، ج1، ص158، ح5؛ بحار الأنوار، ج5، ص26، ح32.
4- 641.. الكافي، ج6، ص13، ح4؛ بحار الأنوار، ج57، ص344، ح31.

وروي بسنده عن الحسن ابن الجهم، قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر(عليه السلام):

إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه عزّ وجلّ ملكين خلّاقين فيقولان: يا ربّ ما تخلق؟ ذكراً أو أنثي؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ شقيّاً أو سعيداً؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ ما أجله؟ وما رزقه؟ وما كلّ شيء من حاله؟ وعدّد من ذلك أشياء ويكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه الأجل بعث اللّه ملكاً فزجره زجرة فيخرج وقد نسي الميثاق. وقال الحسن بن الجهم: فقلت له: أفيجوز أن يدعو اللّه عزّ وجلّ فيحوّل الأنثي ذكراً أو الذكر أنثي؟ فقال: إنّ اللّه يفعل ما يشاء.(1)

وفي حديث آخر: قد جعلت السعادة والشقاوة للجنين في الرحم تابعتين لإسلامه وكفره، ومعلوم أنّ الإسلام والكفر من الأعمال الاختياريّة.

روي الكلينيّ بسنده عن أبي حمزة، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الخلق، فقال:

إنّ اللّه تعالي لمّا خلق الخلق من طين أفاض بها كإفاضة القداح، فأخرج المسلم فجعله سعيداً وجعل الكافر شقيّاً، فإذا وقعت النطفة تلقّتها الملائكة فصوّروها، ثمّ قالوا: يا ربّ أذكر أو أثني؟ فيقول الربّ جلّ جلاله أيّ ذلك شاء، فيقولان: تبارك اللّه أحسن الخالقين! ... .(2)

ومحصّل مجموع الروايات أنّ تقدير السعادة والشقاوة في الرحم تابع لأعماله الاختياريّة التي سوف يعملها في دار الدنيا، وبما أنّ اللّه يعلم ما ذا يفعل العبد وأنّه بإرادته واختياره المستندة إلي قدرته يعمل الصالحات أو القبائح يكتب علي جبين بعضهم: هذا سعيد، وعلي جبين بعض آخر: هذا شقيّ، فهو كالعلمتابع للأعمال الاختياريّة لا أنّ الأعمال تابعة لتقدير السعادة والشقاوة.

الثاني: استثناء البداء ينفي حتميّة الشقاء

إنّ اشتراط البداء في الأشقياء يدلّ علي أنّ جعل الجنين في الرحم شقيّاً لا يجبره علي

ص: 352


1- 642.. الكافي، ج6، ص13، ح3؛ بحار الأنوار، ج57، ص343، ح30.
2- 643.. الكافي، ج6، ص15، ح5؛ بحارالأنوار، ج60، ص363، ح57.

العصيان، فقد مرّ أنّ تبديل الطينة ممكن واللّه علي كلّ شيء قدير يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.

الثالث: تأثير الأعمال الاختياريّة في العوالم السابقة

يمكن أن يكون الحديث ناظراً إلي الطاعة والعصيان الصادرين عن الإنسان -- في العوالم السابقة -- اللذين أثّرا علي الطينة كما مرّ بيانه، فصار الإنسان سعيداً طيّب الطينة لكونه قد أطاع الربّ جلّ وعلا في عالم الذرّ والأرواح أو بالعكس. وقد أوضحنا أنّ طينة العلّيّين والسجّين لا توجبان الجبر.

الرابع: الخلقة الظاهريّة
اشارة

قد احتمل بعض أنّ المراد من الشقاوة والسعادة المجعولة في الرحم هما بحسب الخلقة الجسمانيّة، مثل كون إنسانٍ جميل الوجه والآخر كريه المنظر، أو إنسان تامّ الخلقة والآخر ناقص الخلقة. ولكنّه خلاف ظاهر الأخبار.

حديث: الناس معادن

إنّ وجه الشبه في تقسيم الناس إلي قسمين كمعادن الذهب والفضّة يمكن أن يكون أحد الوجوه الأربعة ولا يستلزم الجبر منها:

أحدها: التقسيم من جهة الإيمان والكفر

كون التقسيم من جهة الإيمان والكفر، أي إنّ الناس في أعمالهم علي قسمين فقسم منهم يؤمنون ويعملون الصالحات، وقسم منهم يكفرون ويعملون السيّئات. وواضح أنّ هذا التشبيه بهذا الحدّ لا يستفاد منه الجبر أبداً، لأنّه ناظرٌ إلي ظهور الأفعال من الإنسان. وأمّا من جهة منشأ هذه الأفعال فليس في مقام البيان أبداً، كي يدلّ علي أنّ منشأها هل يكون علي نحو الجبر أو الاختيار.

ص: 353

ثانيها: التقسيم من جهة اختلاف استعداد الإنسان

كون التقسيم لأجل تقسيم الناس بحسب استعداداتهم المكنونة في ذواتهم؛ فإنّ في بعضهم استعداد ظهور الكفر وفي بعض آخر ظهور الإيمان وهذا راجع إلي الطينة أي إنّ طينة بعضهم من العلّيّين وطينة بعض من السجّين.

وهذا أيضاً لا يثبت الجبر وقد مرّ ذلك في الجواب عن أخبار الطينة. مع أنّ هذا الاحتمال بعيد لأنّه لا تشابه بين طينة السجّين والفضّة كما لا يخفي.

ثالثها: التقسيم بلحاظ حياتهم الدنيويّة

كون التقسيم لأجل تقسيم الناس بحسب استعداداتهم المكنونة في ذواتهم، كما في الوجه السابق لكن بلحاظ استعدادات الناس في أمور معاشهم دون ما يرتبط بالإيمان والكفر والعمل الصالح والقبيح، أي إنّ الناس مختلفون بحسب حياتهم الدنيويّة ففي بعضهم استعداد العمل الكذائيّ وفي بعض آخر استعداد عمل آخر كما أنّهم مختلفون بحسب الألوان والأشكال والألسنة.

وهذا الوجه أقوي من سائر الوجوه؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالي بحسب حكمته البالغة قد جعل الناس مختلفين في استعداداتهم وأشواقهم رعاية للنظم وبقاءً للحياة، وذلك لأنّه لو كان جميع الناس شائقاً إلي عمل خاصّ وحرفة خاصّة لاختلّ نظم المجتمع، فإنّ الناس يحتاجون إلي جميع ما يهمّهم من الحرف والصناعات والأعمال وليس أحد منها يسدّ مسدّ الآخر، فكما أنّ الناس يحتاجون إلي الطبيب كذلك يحتاجون إلي البنّاء وغيره. ويشهد علي هذا الاستظهار ملاحظة التشبيه الوارد في الحديث بالذهب والفضّة، فإنّ الناس كما يحتاجون إلي الذهب كذلك يحتاجون إلي الفضّة ولا يغني أحدهما عن الآخر.

ويستفاد هذا المعني أيضاً من قوله(عليه السلام):

لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا.(1)

كما أنّه يقوّي هذا الوجه عدم الشباهة بين الكفر والفضّة.

ص: 354


1- 644.. الأمالي، ص446، ح9؛ بحارالأنوار، ج74، ص383، ح10.
رابعها: التقسيم بلحاظ شرافة النسب
اشارة

ما ذكره العلّامة المجلسيّ(قدس سره)، فقد قال في تفسير الخبر:

قوله(عليه السلام): (الناس معادن) روي العامّة هذا الخبر عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) هكذا: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، ويحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المراد أنّ الناس مختلفون بحسب استعدادهم وقابليّتهم وأخلاقهم وعقولهم كاختلاف المعادن، فإنّ بعضها ذهب، وبعضها فضّة فمن كان في الجاهليّة خيراً حسن الخلق عاقلاً فَهِماً، ففي الإسلام أيضاً يسرع إلي قبول الحقّ ويتّصف بمعالي الأخلاق ويجتنّب مساوي الأعمال بعد العلم بها.

والثاني: أن يكون المراد أنّ الناس مختلفون في شرافة النسب والحسب، كاختلاف المعادن، فمن كان في الجاهليّة من أهل بيت شرف ورفعة، فهو في الإسلام أيضاً يصير من أهل الشرف بمتابعة الدين، وانقياد الحقّ والاتّصاف بمكارم الأخلاق فشبّههم(صلي الله عليه آله و سلم) عند كونهم في الجاهليّة بما يكون في المعدن قبل استخراجه، وعند دخولهم في الإسلام بما يظهر من كمال ما يخرج من المعدن، ونقصه بعد العمل فيه.(1)

فتحصّل أنّ الخبر يحتمل وجوهاً أربعة، ولا دلالة في الخبر علي الجبر بناءاً علي جميع المحتملات ولا علي الاستعدادات الذاتيّة غير القابلة للتغيير الموجبة لصدور الأعمال عنها جبرا.

إشكاليّة اختلاف الإنسان في القابليّات وحلّها

إن قلت: إنّ الحديث يدلّ علي تشبيه الناس بمعادن كمعادن الذهب والفضّة، فكما أنّ صيرورة الفضّة فضّة والذهب ذهباً ليست بالاختيار والإرادة من الذهب والفضّة، فكذا اختلاف أفراد البشر لا يكون مستنداً إلي اختيارهم وإرادتهم.

قلت أوّلاً: لا دليل علي أنّ وجه الشبه هو أنّ اختلاف أفراد الإنسان غير اختياريّ كتغاير معدن الذهب والفضّة فلقائل أن يقول أنّ وجه الشبه هو أصل الاختلاف والتغاير لاكيفيّته.

ص: 355


1- 645.. مرآة العقول، ج26، ص64.

وثانياً: نسلّم أنّ وجه الشبه هو اختلاف أفراد الإنسان بلا اختيار منهم كتغاير معادن الذهب والفضّة، ولكنّ المراد من الاختلاف والتغاير هو التغاير في الاستعدادات والمشتهيات كما مرّ توضيحه في الجواب الثاني، لا التغاير بحسب الإيمان والكفر.

وثالثاً: يمكن أن يكون المراد التغاير بحسب مقتضيات الكفر والإيمان التي لا توجب الجبر.

ورابعاً: لا دليل علي أنّ تغاير معادن الذهب والفصّة يكون بلا اختيار منهما. بل المستفاد من الأدلّة هو أنّ اللّه تعالي حمّل علمه ودينه الماء الذي يكون مادّة لجميع الكائنات وعرّف نفسه إيّاه وكلّفه التصديق والقبول فكلّ موجود في خلق اللّه واجد للعلم والشعور والاختيار.

ويستفاد ذلك أيضاً من الآيات. قال اللّه تعالي:

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُ-حَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لَهَا﴾؛(1)

و﴿إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾؛(2)

و﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إلنا يُسَبِّحُ بِ-حَمْدِهِ وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.(3)

وجمعنا الأدلّة الدالّة علي أنّ جميع الأشياء شاعرة وواجدة للشعور وساجدة للربّ المتعال وتحدّثنا عن هذا الموضوع في محلّه.

وغاية ما يمكن أن يقال: هو عدم وجداننا شعورهم وسجودهم وتكليفهم وتسبيحهم. والاستدلال بهذا الوهم أوهن من بيت العنكبوت، فإنّ عدم الوجدان لا يدلّ علي عدم الوجود لا سيّما بعد ندائه تعالي بقوله: ﴿وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وبعد ورود الروايات المتواترة معني بثبوت هذا الأمر، فالقول بأنّ هذه المقالة خلاف العقل تخرج قائله

ص: 356


1- 646.. الزلزال99.، الآية 1-5.
2- 647.. التكوير81.، الآية 5.
3- 648.. الإسراء17.، الآية 44.

عن زمرة العقلاء.

وعلي ضوء ما ذكرنا يظهر لك أنّ صيرورة الذهب ذهباً والفضّة فضّة إنّما تكون بعد وجدان الشعور والتكليف، كما روي في استحباب التختّم بالعقيق لكونه أوّل جبل أقرّ للّه بالوحدانيّة وللرسول بالرسالة ولأميرالمؤمنين بالولا ية، وما روي في عرض الولا ية علي جميع الكائنات فما قبل صار طيّباً طاهراً، وما لم يقبل صار خبيثاً رديّا.علل الشرائع: بإسناده عن سلمان الفارسيّC قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لعليّ(عليه السلام):

يا عليّ تختَّمْ باليمين تكن من المقرَّبين قال: يا رسول اللّه ومَنِ المقرّبون؟ قال: جبرئيل وميكائيل قال: بما أتختّم يا رسول اللّه؟ قال: بالعقيق الأحمر فإنّه أقرّ للّه عزّوجلَّ بالوحدانيّة ولِي بالنبوّة ولك يا عليّ بالوصيّة وَلوُلْدك بالإمامة ولمحبّيك بالجنّة ولشيعة وُلْدك بالفردوس.(1)

العمدة: من مناقب ابن المغازليّ بإسناده عن الأعمش قال: دخلت علي المنصور وهو جالس للمظالم فلمّا بَصُرَ بي قال: يا ابا سليمان حدّثني الصادق عن الباقر عن السجّاد عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) قال:

أتاني جبرئيل(عليه السلام) فقال: تختّموا بالعقيق فإنّه أوّل حجر أقرّ للّه بالوحدانيّة ولي بالنبوّة ولعليّ ولوُلْده بالولاية.(2)

بشارة المصطفي: بإسناده عن أبي هريرة قال: كنت أنا وأبوذرّ وبلال نسير ذات يوم مع عليّ بن أبي طالب فنظر عليّ إلي بطّيخ فحلّ درهماً ودفعه إلي بلال فقال:

ايتني بهذا الدرهم منْ هذا البطّيخ ومضي عليّ إلي منزله، فما شعرنا إلّا وبلال قد وافي بالبطّيخ، فأخذ عليّ بطّيخة فقطعها فإذا هي مُرّة فقال: يا بلال أبعد بهذا البطّيخ عنّي وأقْبِل عليَّ حتّي أُحدِّثك بحديث حدّثني به رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) ويده علي منكبي، إنَّ اللّه تبارك وتعالي طرح حبّي علي الحجر والمدر والبحار والجبال والشجر، فما أجاب إلي حبّي عذب وما لم يُجِبْ إلي حبّي خَبُثَ ومَرَّ

ص: 357


1- 649.. علل الشرائع، ج1، ص158، ح3؛ بحارالأنوار، ج27، ص281، ح1.
2- 650.. عمدة العيون، ص378، ح743؛ بحارالأنوار، ج27، ص283، ح7.

وإنّي لأظنُّ أنّ هذا البطّيخ ممَّا لمْ يُجِب إلي حبِّي.(1)

الاختصاص: بإسناده عن قنبر مولي أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال: كنت عند أميرالمؤمنين(عليه السلام) إذْ دخل رجل فقال: يا أميرالمؤمنين أنا أشتهي بطّيخاً قال: فأمرني أميرالمؤمنين بشراءٍ فوجّهْت بدرهم فجاءُونا بثلاث بطّيخات فقطعت واحداً فإذا هو مُرّ فقلت: مُرّ يا أميرالمؤمنين فقال:

ارْمِ به من النار وإلي النار قال: وقطعت الثاني فإذا هو حامض فقلت: حامض يا أميرالمؤمنين، فقال: ارم به من النار إلي النار قال: فقطعت الثالثة فإذا مَدُودَةٌ فقلت: مَدُودَةٌ ياأميرالمؤمنين، قال: ارْمِ به من النار إلي النار قال: ثمّ وجّهت بدرهم آخر فجاءونا بثلاث بطّيخات فوثبت علي قدميّ فقلت: أعفني يا أميرالمؤمنين عن قطعه كأنّه تأثَّم بقطعه فقال له أميرالمؤمنين: اجلس يا قنبر فإنّها مأمورة فجلست فقطعت فإذا هو حلو فقلت: حلو يا أميرالمؤمنين فقال: كُلْ وأطعمنا فأكلت ضلعاً وأطعمته ضلعاً وأطعمت الجليس ضلعاً. فالتفت إليّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: يا قنبر إنّ اللّه تبارك وتعالي عرض وَلا يتنا علي أهل السماوات وأهل الأرض من الجنّ والإنس والثمر وغير ذلك فما قبل منه ولا يتنا طاب وطهر وعذب وما لمْ يقبل منه خبث ورَدِيَ ونَتُن.(2)

والحاصل: أنّه لو كان الحديث في مقام تقسيم الناس بحسب اقتضاء الإيمان والكفر (الوجه الثالث من وجوه الشبه) فلا يدلّ علي الجبر؛ لأنّ انقسام الناس إلي معادن كمعادن الذهب والفضّة لا يدلّ علي كون هذه المقتضيات فيهم ذاتيّة؛ هذا أوّلا.

وثانياً: لا يدلّ علي أنّ منشأ هذا الانقسام أمر غير اختياريّ، بل الدليل علي خلافه.

وثالثاً: لا يدلّ علي أنّ صدور الأعمال عن هذا المقتضي بنحو الضرورة والإلجاء.

فيا تري كيف استشهد الآخوند صاحب الكفاية -- في عبارته السالفة ذكرها -- بهذه الرواية لإثبات الجبر؟!

ص: 358


1- 651.. بشارة المصطفي، ص167؛ بحارالأنوار، ج27، ص281، ح5.
2- 652.. الاختصاص، ص249؛ بحارالأنوار، ج27، ص282، ح6.

الوجه العاشر: ما دلّ علي إناطة جميع الأشياء بمشيّة اللّه

استدلّوا بآيات وأخبار اُسند فيها الإيمان والكفر وكذا ساير أفعال العباد إلي مشيّة الباري تعالي. فمن الآيات؛ قوله تعالي:

﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾؛(1)

و﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَ-جَمَعَهُمْ عَلَي الْهُدَي﴾؛(2)

و﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا﴾؛(3)

و﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً﴾؛(4)و﴿مَا قَطَعْتُم مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَي أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾.(5)

ومن الروايات؛ قال أبو جعفر(عليه السلام):

لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه الخصال السبعة: بمشيّة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنّه يقدر علي نقض واحدة منهنّ فقد كفر.(6)

وقد عقد ثقة الاسلام الكلينيّ باباً بعنوان: «في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلّا بسبعة».(7)

روي الصدوق بسنده عن أبي أحمد الغازيّ، عن عليّ بن موسي الرضا، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ(عليهم السلام) قال: سمعت أبي عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يقول:

الأعمال علي ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي، فأمّا الفرائض فبأمر اللّه تعالي وبرضي اللّه وبقضائه وتقديره ومشيّ--ته وعلمه؛ وأمّا الفضائل فليست بأمر اللّه ولكن برضي اللّه وبقضاء اللّه وبقدر اللّه وبمشيّة اللّه وبعلم اللّه، وأمّا المعاصي فليست

ص: 359


1- 653.. البقرة2.، الآية 253.
2- 654.. الأنعام6.، الآية 35.
3- 655.. الأنعام6.، الآية 107.
4- 656.. يونس 10.، الآية 99.
5- 657.. الحشر59.، الآية 5.
6- 658.. المحاسن، ج1، ص244، ح236؛ بحارالأنوار، ج5، ص125، ح65.
7- 659.. الكافي، ج1، ص149.

بأمر اللّه ولكن بقضاء اللّه وبقدر اللّه وبمشيّة اللّه وبعلمه ثمّ يعاقب عليها.(1)

التوحيد: المفسّر بإسناده إلي أبي محمّد العسكريّ(عليه السلام) قال: قال الرضا(عليه السلام) -- فيما يصف به الربّ --:

لا يجور في قضيّ--ته، الخلق إلي ما علم منقادون، وعلي ما سطر في كتابه ماضون، لا يعملون خلاف ما علم منهم، ولا غيره يريدون ... .(2)

روي الصدوق بسنده عن الأصبغ قال: قال أميرالمؤمنين(عليه السلام):

أوحي اللّه تعالي إلي داود: يا داود تريد وأريد، ولا يكون إلّا ما أريد، فإن أسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثمّ لا يكون إلّا ما أريد.(3)

وروي بسنده عن العرزميّ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

كان لعليّ(عليه السلام) غلام اسمه قنبر، وكان يحبّ عليّاً(عليه السلام) حبّاً شديداً، فإذا خرج عليّ(عليه السلام) خرج علي أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر مالك؟ قال: جئت لأ مشي خلفك فإنّ الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك! قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: لا بل منأهل الأرض، قال: إنّ أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلّا بإذن اللّه عزّ وجلّ من السماء، فارجع، فرجع.(4)

والجواب:
أفعال العباد لا تخرج عن حدود سلطان اللّه

قد بيّنّا مراراً أنّ ثبوت القدرة والاختيار للعباد في الأفعال الاختياريّة ليس بمعني إنعزال الباري تعالي عن سلطنته التامّة وقدرته المطلقة، وقلنا إنّ لكلّ فعل من الأفعال الاختياريّة مقدّمات

ص: 360


1- 660.. التوحيد، ص370، ح9؛ بحار الأنوار، ج5، ص29، ح36.
2- 661.. التوحيد، ص47، ح9؛ بحار الأنوار، ج5، ص297، ح23.
3- 662.. التوحيد، ص337، ح4؛ بحار الأنوار، ج5، ص104، ح28.
4- 663.. التوحيد، ص338، ح7؛ بحار الأنوار، ج5، ص104، ح29.

كثيرة لا تحصيها عقول الرجال، ومنها القدرة والسلطنة وجميعها بيد اللّه ومشيّته وقضائه وقدره وجعله وإذنه التكوينيّ وإمضائه حدوثاً وبقاءً، وينتفي الفعل بانتفاء واحدة منها.

فاللّه تعالي هو الذي ملّك العباد ما هو أملك به منهم وأقدرهم علي ما عليه أقدرهم كما قال في الحديث القدسيّ:

يابن آدم بمشيّ--تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وتقول.(1)

ومضافاً إلي أنّه تعالي شاء وأراد أن يجعل الإنسان قادراً وشائيّاً: قدّر ما أنعم عليهم وحدّده بمقادير معلومة مضبوطة. فالقدرة والعلم والحياة والإرادة وغير ذلك من مقدّمات الفعل الاختياريّ إنّما منحها اللّه الإنسان بقدر مقدور، ولا يخرج شيء منها عن تقديره تعالي. مثلاً إنّ من يعصي اللّه جلّ جلاله لا يقدر علي العصيان والظلم كيف ما يريد بل كلّ ذلك بمقدار ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.(2)

وكذلك طاعة المطيع لا تخرج عن القدر الذي قدّره الباري تعالي، والتقدير والقدر -- بمعني الهندسة من الطول والعرض والعمق والوزن والحجم والزمان والمكان وغيرها -- من حدود الأشياء، فلو لم يقدّر اللّه واحداً منها يستحيل أن يتحقّق شيء في الخارج.

وليس القدر وتقدير اللّه تعالي للأفعال في هذه الأخبار بمعني الإلجاء عليها، إنّما يكون بمعني تعيين الحدود والهندسة التي يقدر العبد في تلك الحدود علي فعل الخير أو الشرّ.فإنّ القدر والتقدير الموجب للإلجاء والجبر منفيّ في أخبار أخري والقائل به ملعون.

الطرائف: روي جماعة من علماء الإسلام، عن نبيّهم(صلي الله عليه آله و سلم) أنّه قال:

لعنت القدريّة علي لسان سبعين نبيّاً؛ قيل: ومن القدريّة يا رسول اللّه؟ فقال: قوم يزعمون أنّ اللّه سبحانه قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها.(3)

روي صاحب الفائق وغيره، عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) أنّه قال:

ص: 361


1- 664.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحار الأنوار، ج5، ص57، ح 104 وص56، ح99.
2- 665.. العنكبوت29.، الآية 4.
3- 666.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحار الأنوار، ج5، ص47، ح73.

يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ويقولون: إنّ اللّه قد قدّرها عليهم، الرادّ عليهم كشاهر سيفه في سبيل اللّه.(1)

وهكذا لو لم يأذن اللّه تعالي لا يمكن أن تقع واقعة في العالم ولا يقدر أحد علي فعل شيء وترك شيء، فإنّه من الواضح أنّه ليس للعبد علم وقدرة وإرادة وحياة بذاته، ولا تصير ذاتيّة له في آنٍ من الآنات، بل كلّ ذلك عطاء من الكريم الوهّاب، يتجدّد في كلّ آن ولحظة فلو لم يأذن تبارك وتعالي بتحقّق شيء من الأشياء يستحيل تحقّقه، ولو أراده جميع البشر ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.(2)

ألا تري أنّ نبيّ اللّه عيسي(عليه السلام) حينما يسند خلق هيئة الطير إلي نفسه يقول: إنّ هذه الخلقة منّي إنّما تكون بإذن اللّه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ اللهِ﴾.(3)

فالعاصي حينما يعصي ويخالف الربّ جلّ شأنه، إنّما يفعل ما يفعل بعد ما أقدره اللّه تعالي وأذن له تكويناً أن يصرف قدرته فيما شاء وأراد بداهة أنّه لو لم يأذن اللّه ولم يقدّره ما كان هو الذي يعصي وما كان قادراً عليه. ألا تري أنّه تعالي يقول في وصف السحرة الذين كانوا يؤذون الناس بسحرهم ويفرّقون بين المرء وزوجه: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلنا بِإِذْنِ اللهِ﴾.(4)

الإذن غير الرضا

لكنّ الحقيقة التي يجب الالتفات إليها هي: أنّ الإذن غير الرضا. فقد أذن اللّه تبارك وتعالي تكويناً للعاصي أن يعصيه بمعني إعطائه القدرة والسلطنة علي الفعل والترك، لكنّه لم يرض ذلك منه، فلذا عبّر الإمام أميرالمؤمنين ومولي الموحّدين(عليه السلام) في الفرائض بأنّها:

بأمر اللّه تعالي وبرضي اللّه وبقضائه وتقديره ومشيّ--ته وعلمه.

ص: 362


1- 667.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحار الأنوار، ج5، ص47، ح98.
2- 668.. يس36.، الآية 83.
3- 669.. آل عمران3.، الآية 49.
4- 670.. البقرة2.، الآية 102.

بينما قال في المعاصي:

ليست بأمر اللّه لكن بقضاء اللّه وبقدر اللّه وبمشيّة اللّه وبعلمه ثمّ يعاقب عليها.(1)

روي الكلينيّ بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام):

شاء وأراد وقدّر وقضي؟ قال: نعم، قلت: وأحبّ؟ قال: لا، قلت: وكيف شاء وأراد وقدّر وقضي ولم يحبّ؟ قال: هكذا خرج إلينا.(2)

فقه الرضا(عليه السلام): رويتُ عن العالم(عليه السلام) أنّه قال:

القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير الجسد لا يتحرّك ولا يري، والجسد بغير الروح صورة لا حراك له، فإذا اجتمعا قويا وصلحا وحسنا وملحا، كذلك القدر والعمل، فلو لم يكن القدر واقعاً علي العمل لم يعرف الخالق من المخلوق، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتمّ، ولكن باجتماعهما قويا وصلحا وللّه فيه العون لعباده الصالحين. ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(3) الآية، ثمّ قال(عليه السلام): وجدت ابن آدم بين اللّه وبين الشيطان، فإن أحبّه اللّه تقدّست أسماؤه خلصه واستخلصه، وإلّا خلا بينه وبين عدوّه.(4)

وكذا الكتاب والأجل؛ فإنّ جميع ما خلق اللّه وجميع ما ملّك اللّه عباده وجميع ما يصنع العباد، وجميع مقدّراتهم وما يعطيهم اللّه تعالي من النعم، مكتوبة ومضبوطة، موقّتة إلي أجل مسمّي، قد وكّل بحفظها الملائكة الكرام، وهذا الكتاب الذي تكون جميع التقديرات مكتوبة فيه هو وعاء مشيّة الربّ المتعال، وهو قلب الحجّة(عليه السلام)، وهولوح المحو والإثبات، وجميع التقديرات تتنزّل في ليلة القدر علي قلبه بإذن اللّه تبارك وتعالي.

فمن زعم أنّه يقدر علي نقض واحدة منهنّ فقد كفر؛ فإنّ من زعم أنّه يقدر علي أن يفعل فعلاً من دون إذن اللّه، أو من دون قضائه، أو يتجاوز عمّا قدّر له اللّه فيغلب علي تقديره سبحانه ويبطله، أو يحفظ لنفسه ما ملّكه اللّه عند زوال أجله الذي أجّله اللّه، فهو كافر

ص: 363


1- 671.. راجع: كشف الغمة، ج2، ص288؛ بحارالأنوار، ج5، ص29، ح36.
2- 672.. الكافي، ج1، ص150، ح2.
3- 673.. الحجرات49.، الآية 7.
4- 674.. فقه الرضا(عليه السلام)، ص349؛ بحار الأنوار، ج5، ص54، ح96.

بالقادر الواحد العزيز الوهّاب.

فهل غيره من إله يبسط ويقبض ويعطي ويمنع؟

أو هل يقدر العبد الضعيف أن يغلبَ إرادةَ اللّه؟

أَوَ يمكن أن لا يشأ اللّه وقوع فعل من العبد حسناً كان أو قبيحاً فتسبق مشيّةُ العبد مشيّةَ الربّ؟

أو ما كان اللّه جلّ جلاله قادراً علي أن يسلب القدرة عن العاصي -- بل كلّ نعمة أنعم بها عليه التي لا يكون قادراً علي العصيان بسلب واحدة منها -- حينما يختار العصيان؟

أحاديث تبين كيفيّة إناطة الأفعال بمشيّة اللّه

الاحتجاج: عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقال: أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان علي ذلك قادراً؟ قال(عليه السلام):

لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأنّ الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتجّ عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب. قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح العبد يفعله واللّه به أمره، والعمل الشرّ العبد يفعله واللّه عنه نهاه؛ قال: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها علي الشرّ الذي نهاه عنه. قال: فإلي العبد من الأمر شيء؟ قال: ما نهاه اللّه عن شيء إلّا وقد علم أنّه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلّا وقد علم أنّه يستطيع فعله لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. قال: فمنخلقه اللّه كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام): إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده فبإنكاره الحقّ

ص: 364

صار كافراً، قال: فيجوز أن يقدر علي العبد الشرّ ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذّبه عليه؟ قال: إنّه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر علي العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والإنزاع عمّا لا يقدر علي تركه، ثمّ يعذّبه علي تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه ... .(1)

روي الكلينيّ، عن ابن عامر، عن المعلّي قال: سئل العالم(عليه السلام): كيف علم اللّه؟ قال:

علم وشاء، وأراد وقدّر، وقضي وأمضي؛ فأمضي ما قضي، وقضي ما قدّر، وقدّر ما أراد؛ فبعلمه كانت المشيّة، وبمشيّ--ته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء، فالعلم متقدّم علي المشيّة، والمشيّة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع علي القضاء بالإمضاء، فللّه تبارك وتعالي البداء فيما علم متي شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، ... واللّه يفعل ما يشاء، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيّة عرّف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرف أوّلها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلّهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها، ذلك تقدير العزيز العليم.(2)

وروي بسنده عن عليّ بن إبراهيم الهاشميّ قال: سمعت أبا الحسن موسي بن جعفر(عليهما السلام) يقول:

لا يكون شيء إلّا ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضي، قلت: ما معني شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معني قدّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معني قضي؟ قال: إذا قضي أمضاه، فذلك الذي لا مردّ له.(3)

وروي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا(عليه السلام):

يا يونس لا تقل بقول القدريّة، فإنّ القدريّة لم يقولوا بقول أهل الجنّة، ولا بقول

ص: 365


1- 675.. الاحتجاج، ج2، ص340؛ بحارالأنوار، ج5، ص18، ح29.
2- 676.. الكافي، ج1، ص148، ح16؛ بحارالأنوار، ج5، ص102.
3- 677.. الكافي، ج1، ص150، ج1؛ بحارالانوار، ج5، ص122، ح 68(بإختلاف قليل)

أهل النار، ولا بقول إبليس، فإنّ أهل الجنة قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾،(1) وقال أهل النار: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ﴾.(2) وقال إبليس: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾(3)، فقلت: واللّه ما أقول بقولهم ولكنّي أقول: لا يكون إلّا بما شاء اللّه وأراد وقدر وقضي، فقال: يا يونس ليس هكذا، لا يكون إلّا ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضي، يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا، قال: هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة علي ما يشاء، فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: ثمّ قال: والقضاء هو الابرام وإقامة العين، قال: فاستأذنته أن أقبّل رأسه وقلت: فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة.(4)

أقول: قد مرّ ما يوضح هذه الأخبار فراجع.(5)

في المحاسن بإسناده عن حمران، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال:

كنت أنا والطيّار جالسين فجاء أبو بصير فأفرجنا له، فجلس بيني وبين الطيّار، فقال: في أيّ شيء أنتم؟ فقلنا: كنّا في الإرادة والمشيّة والمحبّة، فقال أبو بصير: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال: نعم، قلت: فأحبّ ذلك ورضيه؟ فقال: لا، قلت: شاء وأراد ما لم يحبّ ولم يرض؟ قال: هكذا أخرج إلينا.(6)

وبإسناده عن حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنّ لنا كلاماً نتكلّم به، قال:

هاته؛ قلت: نقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر ونهي وكتب الآجال والآثار لكلّ نفس بما قدّر لها وأراد وجعل فيهم من الاستطاعة لطاعته ما يعملون به ما أمرهم به وما نهاهم عنه، فإذا تركوا ذلك إلي غيرهكانوا محجوجين بما صيّر فيهم من الاستطاعة والقوّة لطاعته، فقال: هذا هو الحقّ إذا لم تعده إلي غيره.(7)

ص: 366


1- 678.. الأعراف7.، الآية 43.
2- 679.. المؤمنون23.، الآية 106.
3- 680.. الحجر15.، الآية 39.
4- 681.. الكافي، ج1، ص157، ح4؛ راجع: بحارالانوار، ج5، ص116، ح49.
5- 682.. راجع الصفحة 95.
6- 683.. المحاسن، ج1، ص245، ح239؛ بحارالانوار، ج5، ص121، ح66.
7- 684.. التوحيد، ص347، ح5؛ بحار الأنوار، ج5، ح37، ص53.
سلب القدرة ينافي التفضّل

ولو أراد تبارك وتعالي أن لا يمنح القدرة والاختيار للإنسان في أفعاله الاختياريّة لكان ذلك عين العدل والعدالة، فكان العبد لا يقدر علي شيء، ولكنّه تعالي في هذا الفرض ما كان ليكلّف الإنسان وما كان ليعاقبه، لعدم صحّة التكليف والعقاب بالنسبة إلي الأفعال غير الاختياريّة، لمنافاة ذلك للحكمة والعدل، ولكنّ اللّه تعالي جعل الإنسان قادراً ومختاراً لمصلحة الابتلاء والاختبار، لكي يرقي الإنسان إلي أعلي درجات الكمال والإنسانيّة والفضيلة، وما ذلك إلّا لأجل الفضل والتفضّل، كما قال(عليه السلام):

غير أنّك بنيت أفعالك علي التفضّل.(1)

وذلك لأنّ المجبور لا فضل له ولا فضيلة.

أ فهل يتردّد أحد في أفضليّة العالِم علي غيره؟

﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.(2)

أو هل يشكّ أحد في أفضليّة القادر علي العاجز؟

فجميع مِنَح اللّه تبارك وتعالي إنّما هي فضل، وبعد ما كان قادراً علي عدم الإعطاء، وبعد إرادة اللّه تعالي بصيرورة الإنسان شائيّاً مريداً يكون الإنسان هو الذي يختار جانب الخير أو الشرّ، وانتخابه للخير وإتيانه به لا يكون إلّا بهداية اللّه وعلمه وإقداره وإيجاد الشوق فيه، وهذا معني التوفيق، وارتكابه للشرور لا يكون إلّا بعد إعطائه العلم والهامه الفجور وتحذيره منها وتوعيده عليها ثمّ عدم عونه عليها حينما يختاره وإيكاله إلي نفسه، وهذا معني الخذلان «فهو أولي بحسناتنا منّا كما نحن أولي بسيّئاتنا منه» كما مرّ شرح ذلك.

بحارالأنوار: قال أبو جعفر(عليه السلام):

في التوراة مكتوب مسطور: يا موسي إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك، وأمرتك بطاعتي، ونهيتك عن معصيتي، فإن أطعتني أعنتك علي طاعتي وإن عصيتني لم أعنك علي معصيتي، ولي المنّة عليك في طاعتك، ولي الحجّة عليك في

ص: 367


1- 685.. الصحيفة السجّاديّة: دعاؤه(عليه السلام) لوداع شهر رمضان؛ بحارالانوار، ج95، ص173.
2- 686.. الزمر39.، الآية 9.

معصيتك.(1)ولو أراد تبارك وتعالي أن يسلب القدرة من الإنسان لكي لا يستطيع ارتكاب المعاصي أو أراد أن يجبره علي الطاعة لكان قادراً، ولكنّه شاء أن يختبر الإنسان علي طبق الحكمة.

﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَاأَشْرَكُوا﴾،(2) و ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً﴾،(3) أي: بالجبر والقهر كما في الأخبار، إلّا أنّه لم يرد ذلك، وترك الإنسان واختياره ووكله إلي نفسه عند إرادة المعاصي، بعد ما هداه النجدين، وألهمه فجوره وتقواه، وبشّره وحذّره، وبعد ما فطره علي التوحيد ومعرفته. ولو اختار العبد بعد جميع تلك الهدايات الطاعة لا يتركه ونفسه، بل يعينه عليها ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾،(4) فلا معصية إلّا بالخذلان ولا طاعة إلّا بالتوفيق.

زبدة الكلام في إناطة أفعال العباد بمشيّة اللّه

ملخّص الكلام: إنّ ما ذكرناه في مفاد الآيات المذكورة وغيرها من الآيات والروايات المتظافرة في هذا المعني ممّا لا يمكن العدول عنه، ولكنّه بمعزل عن الجبر والاضطرار إلي الفعل والترك.

فإنّه وإن لم يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بمشيّة اللّه، إلّا أنّه تعالي رعاية للفضل والكرم شاء أن يجعل الإنسان شائيّاً يختار لنفسه ما يشاء، فلو صار الإنسان مجبوراً في أفعاله يكون ذلك مخالفاً لمشيّة اللّه تعالي، لأنّه شاء أن يُعبَد اختياراً لا جبراً.

بعبارة أخري: إنّ مشيّة الباري تعلّقت بأن يكون الإنسان شائيّاً بحيث يمكن إسناد الأفعال الصادرة عنه إليه، كلّ ذلك كي يصحّ الثواب والعقاب والأمر والنهي والتكليف والتحذير، فلو صار الإنسان مجبوراً لكان خارجاً عن مشيّة اللّه، أي: شاء اللّه شيئاً ولم يتحقّق. جلّت ساحة قدسه عمّا يفتري الجاهلون.

ص: 368


1- 687.. التوحيد، ص406، ح2؛ بحار الأنوار، ج5، ص9، ص12.
2- 688.. الأنعام6.، الآية 107.
3- 689..يونس 10.، الآية 99.
4- 690.. مريم19.، الآية 76.

وهذا ممّا تبطله الروايات المذكورة فمن زعم أنّه يقدر علي نقض واحدة منهنّ فقد كفر. فالحقّ أن تكون هذه الآيات والأحاديث دليلاً علي نفي التفويض وإبطاله، لا علي ما راموا إثباته من الجبر.

بعبارة ثالثة: من المستحيل أن يعيّن الحكم موضوعه كما قرّر في محلّه، وهذه الأدلّة إنّما تدلّ علي أنّه لا يخرج شيء من الحوادث الواقعة في العالم عن مشيّة اللّه،وأمّا أنّه كيف تتحقّق تلك الحوادث فليست تلك الأدلّة بصدد بيان كيفيّة تحقّقها ووقوعها.

هل شاء وأراد وقوع جميع حوادث الكون وصدورها عن إرادة وقدرة من الخلائق بعد ما أقدرهم؟

أو أراد تحقّقها بلا إرادة منهم؟

أو أراد أن تصدر طائفة بلا إرادة منهم وطائفة أخري بإرادتهم؟

ومن الواضح أنّه يمكن تعلّق مشيّة اللّه بتحقّق الأشياء جميعها جبراً، ويمكن تعلّق مشيّته بتحقّق بعضها جبراً كطلوع الشمس وغروبها وبعضها اختياراً كالأفعال الصادرة عن العباد، كما يمكن تعلّق مشيّته بصدور الجميع بإرادة العبيد. وليست الأدلّة الدالّة علي عدم تحقّق شيء إلّا بمشيّته تعالي بصدد بيان كيفيّة وقوعها وتحقّقها.

وعليه يكون المستفاد من الأخبار أنّ اللّه علي كلّ شيء قدير وأنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلّا طوعاً لمشيّته حتّي صيرورة العباد مختارين فمن أنكر ذلك فقد كفر.

والحاصل: إنّ الأدلّة اليقينيّة المتواترة -- مضافاً إلي قضاء الفطرة والوجدان -- ناصّة علي كون ارادة اللّه تعالي إنّما تعلّقت بتحقّق الأشياء علي الوجه الثالث. فإنّ من الحوادث ما يكون تحقّقها جبراً بالقضاء التكوينيّ، كحياة الإنسان وموته وحركة الأرض وطلوع الشمس وغروبها. ومنها ما يكون تحقّقها مستنداً إلي إرادة الإنسان واختياره وهي الافعال الاختياريّة، والفرق بين جريان الدم في العروق وبين الأكل والشرب والتكلّم والرؤية والاستماع ممّا لا يخفي علي أحد من العقلاء. وقد مرّت الإشارة إلي بعض تلك الأدلّة سابقاً.

وقد بيّنّا سابقاً أنّ للّه تعالي إرادتين: إرادة حتم وإرادة عزم، فإرادته بالنسبة إلي أعمال

ص: 369

العباد إنّما تكون من إرادة العزم الذي ليس إلّا إعطاء القدرة وآلات الفعل والأمر والنهي والتوفيق والخذلان، لا إرادة الحتم، فراجع فقد بيّنا هناك ماينفع في المقام.

الاحتجاج: وروي عن عليّ بن محمّد العسكريّ(عليه السلام): أنّ أبا الحسن موسي ابن جعفر(عليهما السلام) قال:إنّ اللّه خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلي الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلي تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه، وما جبر اللّه أحداً من خلقه علي معصيته، بل اختبرهم بالبلوي، كما قال تعالي: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(1).(2)

عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم):

يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ويقولون إنّ اللّه قد قدّرها عليهم، الرادّ عليهم كشاهر سيفه في سبيل اللّه.(3)

عن الصادق(عليه السلام):

من زعم أنّ اللّه يجبر عباده علي المعاصي أو يكلّفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته ولا تصلّوا ورائه ولا تعطوه من الزكاة شيئا.(4)

مضافاً إلي أنّ هذه الآيات والأخبار المتواترة إرشاد إلي ما يجده العاقل من القدرة والاختيار في جملة من أفعاله وعدمه في جملة أخري، وهو أقوي الأدلّة علي تعيّن الوجه الثالث.

وهكذا جميع الآيات والأخبار الواردة في الثواب والعقاب والجنّة والنار وكيفيّة العذاب وإنذار الناس وتبشيرهم، تدلّ علي تعيّن الوجه الثالث. فإنّه تعالي أعدل من أن يُجبر عباده علي عمل ثمّ يعذّبهم عليه. وكذا جميع التشريعات والتقنينات والأحكام الشرعيّة، من العبادات والمعاملات والفرائض والسنن والحلال والحرام، دليل علي تعيّن الوجه

ص: 370


1- 691.. هود11.، الآية 7.
2- 692.. الاحتجاج، ج2، ص387؛ بحار الأنوار، ج5، ص26.
3- 693.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص344؛ بحار الأنوار، ج5، ص75، ح47.
4- 694.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص124، ح16؛ بحارالأنوار، ج5، ص47، ح75.

الثالث. فإنّه كيف يمكن تكليف من لا قدرة له علي امتثاله؟ أو هل يكلّف الحكيم جلّ وعلي المشلول بالكتابة؟ أو المُقعد بالمشي؟ أو الأخرس بالتكلّم؟

والأئمّة المعصومون عليهم أفضل صلوات المصلّين، الذين جعلهم اللّه تعالي حفظة لدينه، وأمناء علي وحيه، وحججاً علي عباده، بيّنوا تلك الحقائق تبعاً للآيات القرآنيّة وأقاموا الأدلّة العقليّة علي ذلك. فمن اقتفي أثرهم(عليهم السلام) والتزم بالأخذ عنهم، لا يحتمل أن يكونوا بصدد إثبات الجبر.

وبعد صراحة الأدلّة القطعيّة النقليّة مضافاً إلي شهادة العقل والفطرة بإبطال الجبر فلا يجوز لأحدالتمسّك ببعض المتشابهات من الأدلّة النقليّة، ولا يرتاب عاقل في عدم جواز رفع اليد عمّا هو معلوم يقيناً لأجل متشابه لم يتّضح معناه لديه، وهذا هو المراد من ردّ المتشابهات إلي المحكمات.

عن الرضا(عليه السلام):

إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلي محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا.(1)

ص: 371


1- 695.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص290، ح39؛ بحارالأنوار، ج2، ص185، ح9.

ص: 372

الباب الرابع :نظريّة التفويض ونقدها

اشارة

ص: 373

ص: 374

معني التفويض

النظريّة الثانية التي ذهب إليها بعض علماء البشر المنقطعين عن منبع الوحي وتعليمات العلماء الربّانيّين هي القول بالتفويض، بمعني أنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله وليس للّه تعالي دخل فيها، إنّما فوّض اللّه أمر الفعل والترك إليه فصار مستقلّاً في أفعاله بعد تفويضه تعالي.

والسبب في تشبّثهم بهذا القول هو أنّهم لمّا رأوا أنّ نظريّة الجبر التي تبنّتها مدرسة الأشعريّ - صوناً لتوحيد اللّه علي زعمهم -، توجب نسبة الظلم إلي اللّه عزّوجلّ، راموا تنزيه ساحة الباري تعالي عن الظلم وعن معاصي العباد فذهبوا إلي هذه المقالة الفاسدة وادّعوا زوراً وبهتاناً استقلال العبد في أفعاله وتروكه، وعزلوا اللّه عزّ وجلّ عن سلطانه.

وهنا معان أخري للتفويض كتفويض الأمر والنهي إلي العباد، وكتفويض التشريع إليهم، والجامع بين جميعها هو فرض استقلال العبد إمّا في القدرة والتمكّن، وإمّا في غيرها، وجميعها مردودة.(1)

وهذا غاية فكر البشر؛ فهو إمّا يذهب إلي الجبر فينسب الظلم إلي اللّه تبارك وتعالي، أو يلتزم بالتفويض فيعزله تعالي عن حكمه وسلطانه. وما هذا التحيّر والاختلاف إلّا لأجل الإعراض عن العلم الإلهيّ والمعلّمين الربّانيّين حيث إنّهم استغنوا بأفكارهم الفاسدة وتوهّماتهم الباطلة عن مستقي العلم، الذي جعله اللّه عند أهله، وهم العلماء باللّه العارفون

ص: 375


1- 696.. سيأتي الكلام عنها عند التعرّض إلي تقارير أخري لنفي التفويض، وراجع: مرآة العقول، ج2، ص209-210.

به، وطلبوا العلم من غير أهله، وزعموا أنّ ما أقاموه من الأقيسة القابلة للخطأ ذاتاً هو البرهان العقليّ، مع أنّ العقل معصوم عن الخطأ فإنّه نور وحجّة من اللّه تعالي علي العباد التي تكون بها حجّيّة كلّ حجّة. وسمّوا كلمات معلّميهم بالمعقول وما يؤخذ من كلمات معلّميننا المعصومين بالمنقول، كأنّ ما أخذ عنهم(عليهم السلام) لا يكاد يكون معقولاً بنور العقل والعلم. وكلّما حصل التعارض بين كلمات المعصومين وما سمّوه بالبرهان تصدّوا لتوجيه الأخبار أو ردّها، وقد غفلوا عن أنّ ما نقل عنهم(عليهم السلام) في باب العقائد ليس تعبّداً محضاً، بل هو إرشاد إلي ما يجده الإنسان بنور العقل أو الفطرة.

حاشا ثمّ حاشا أن يكون العلم عند غيرهم(عليهم السلام) وهم أبواب العلوم ومعدنها، أو تكون الحكمة مأخوذة عن سواهم وهم بداية الحكمة ونهايتها، فمن طلب الهدي من غيرهم ألزمه اللّه التيه.

روي الصفّار في البصائر بسنده عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال:

من دان اللّه بغير سماع عن صادق ألزمه اللّه التيه إلي يوم القيمة.(1)

وفي نهج البلاغة: من كتاب له(عليه السلام) إلي معاوية:

فاتّق اللّه فيما لديك، وانظر في حقّه عليك، وارجع إلي معرفة ما لا تعذر بجهالته، فإنّ للطاعة أعلاماً واضحة، وسبلاً نيّرة، ومحجّة نهجة، وغاية مطلوبة، يردها الأكياس، ويخالفها الأنكاس. من نكب عنها جار عن الحقّ وخبط في التيه، وغيّر اللّه نعمته، وأحلّ به نقمته ... .(2)

ومن كلام له(عليه السلام):

... أيّها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه.(3)

ص: 376


1- 697.. بصائر الدرجات، ص140، ح1؛ بحارالأنوار، ج2، ص93، ح24.
2- 698.. نهج البلاغة، الرسالة 30، ص390.
3- 699.. نهج البلاغة، الخطبة 201، ص319.

ابطال مقالة التفويض

هذه المقالة باطلة بالعقل والنقل:

الدليل العقليّ علي بطلان التفويض

أمّا عقلاً: فلأنّ حقيقة الإنسان -- كسائر الكائنات -- شيء قائم بالغير لا قوام له إلّا باللّه تعالي، فهو في كلّ آنٍ يحتاج ويفتقر في شيئيّته وبقائه إليه تعالي.هذا في أصل التكوّن، وهكذا الأمر بعد التكوّن فإنّه فاقد بذاته لجميع الكمالات من الحياة والعقل والشعور والقدرة وغيرها ومحتاج في وجدانه لها وبقائها له في كلّ آنٍ إليه تعالي.

فعلي هذا يكون الإنسان مهما بلغ في علمه وقدرته فقيراً بالذات وكلّ هذه الكمالات عطاء من المتفضّل الوهّاب.

مضافاً إلي أنّ تمكّنه من الأفعال إنّما هو بالآلات التي ركّبت فيه والأعضاء والجوارح والأسباب الخارجيّة، وحاجة الإنسان في جميعها حدوثاً وبقاءً إلي اللّه تعالي من أبده البديهيّات.

وأيضاً للإنسان دواعٍ كثيرة وأهواء وشهوات مختلفة، وكلّ واحدة منها يجرّ الإنسان إلي العمل بمقتضاها، ولولا توفيقاته تعالي وهداياته ما كان الإنسان يعمل شيئاً من الصالحات.

والشاهد علي جميع ذلك هو الوجدان، فإنّا نجد بالعقل والفطرة أنّ القدرة والعلم والفهم، وهكذا الحياة والاستطاعة ليست ذاتيّةً لنا، وذلك لأنّ البرهان الصادع والدليل الصادق علي عدم كون شيء ذاتيّاً لشيء آخر انفكاكه عنه ولو في الجملة، فاذا انفكّ شيء عن ذاتٍ ولو في آنٍ من الآنات يعلم أنّ ذلك الشيء ما كان ذاتيّاً له وهذا واضح.

فإنّه من الواضح أنّنا لم نكن قادرين عند مجيئنا إلي الدنيا، ثمّ صرنا قادرين شيئاً فشيئاً حتّي استطعنا من إتيان أفعالٍ ما كنّا قادرين عليها سابقاً. وهذه القدرة لا تبقي لنا طوال حياتنا بل قد نفقدها حين النوم، فنبقي نحن وذواتنا لا نملك شيئاً منها. وبعد مضيّ

ص: 377

الشباب نعود إلي أرذل العُمُر فلا نقدر علي كثير ممّا كنّا قادرين عليه، ونجهل كثيراً ممّا كنّا عالمين به. قال تعالي:

﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾؛(1)

و﴿وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾؛(2)و﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفا وَشَيْبَةً يَ-خْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.(3)

فيظهر بنور العقل أنّ حيث ذواتنا حيث العجز والجهل والفقر والموت والضعف، لأنّه لو كنّا قادرين وعالمين بحسب الذات لما انفكّ عنّا القدرة والعلم أبداً، فإنّه من المستحيل انفكاك الذاتيّات عن الذات.

فالإعطاء بعد الفقدان، والحرمان بعد الوجدان، أعظم دليل علي عدم كون القدرة والعلم وهكذا سائر الكمالات عين ذواتنا وتحت إرادتنا ولسنا مالكين لها، فلو كانت تحت إرادتنا لكنّا قادرين علي الامتناع من سلبها عنّا، وكنّا قادرين علي تحصيلها كيفما نريد. هذا مضافاً إلي ما نشاهده من أنّ كثيراً من الأشياء - وبالأخصّ ممّا كان محبوباً ومطلوباً لنا - لا نقدر عليها أبداً ولو كنّا في قمّة قدرتنا وعلمنا.

وبالجملة إنّ الوجدان والفطرة يناديان بأعلي صوتهما بتصديق ما قاله جلّ جلاله: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَي اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْ-حَمِيدُ﴾.(4)

فظهر ممّا ذكرنا أنّ اللّه تبارك وتعالي هو الذي يعطي ويأخذ ويقبض ويبسط، فكلّما نجد شيئاً من العلم والقدرة والحياة والاستطاعة يكون بإعطاء من اللّه تعالي حدوثا وبقاءً، وكلّما يزداد ذلك فهو بفضل اللّه ورحمته علينا، وكلّما أراد سلبها عنّا سلبها، فهذه الكمالات

ص: 378


1- 700.. النحل16.، الآية 78.
2- 701.. النحل16.، الآية 70.
3- 702.. الروم30.، الآية 54.
4- 703.. فاطر35.، الآية 15.

ملك للّه تعالي حقيقة وقد ملّكنا ما هو أملك به منّا حدوثاً وبقاء.

قال مولانا الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء العرفة:

إلهي أنا الفقيرُ في غِنايَ فكيف لا أكون فقيراً في فقري، إلهي أنا الجاهلُ في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي.(1)

ويشهد علي هذا أيضاً أنّا نريد أحياناً إيقاع فعل ونجزم علي تحقّقه، ولكن بعد هذه الإرادة القويّة في أنفسنا يمنعنا عن تحقّقه مانع، فلا نستطيع إعمال ما أردنا إعماله، وأحياناً لا يكون لدينا مانع عن تحقّقه ولكن ننصرف عمّا كنّا مصمّمين علي انجازه فلا يتحقّق ولا يصدر الفعل عنّا، فهذا ينبي ء عن وجود قدرة قاهرة تفسخ العزائم والهمم.قال أبو جعفر(عليه السلام):

قام رجل إلي أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فقال: يا أميرالمؤمنين بماذا عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزائم ومنع الهمّة لمّا أن هممت بأمر فحال بيني وبين همّتي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، علمت أنّ المدبّر غيري.(2)

فكيف يمكن لهذا الإنسان الفقير المسكين أن يدّعي التفويض والاستقلال في أفعاله، مع ما يراه من الحاجة والفاقة في نفسه وجميع شؤونه إليه تعالي؟!

هذا وقد أجاب بعض مشايخنا عن هذه الشبهة بهذا الجواب ببيان آخر وهو أنّ الاستقلال في ايجاد الشيء، إنّما هو بسدّ باب العدم من جميع نواحي الوجود، حيث إنّ لوجود كلّ شيء شرائط ومقتضيات وموانع، فلكلّ شيء أعدام بعدم كلّ شرط وبوجود كلّ مانع. ومن الواضح أنّ الإنسان لا يقدر علي سدّ العدم في فعله من جميع النواحي، لأنّ أوّل شرط من شرائط تحقّق كلّ فعل هو كيان الإنسان وحياته وهو لا يقدر علي سدّ العدم في فعله من هذه الجهة، لأنّ وجود الفاعل متوقّف علي إرادة اللّه، وهكذا سائر مقدّمات الفعل من القدرة والأعضاء والجوارح وجميعُها بيد اللّه. ولا يعقل استقلال العبد في فعله مع عدم استقلاله في وجوده وحياته وساير ما يتوقّف عليه الفعل أو الترك.

ص: 379


1- 704.. بحارالأنوار، ج92، ص225.
2- 705.. روضة الواعظين، ص30.

الدليل النقليّ علي بطلان التفويض

وأمّا نقلاً: فهناك آيات كثيرة وطوائف من الروايات المستفيضة علي نفي التفويض.

منها: ما تدلّ علي تعلّق الأمور كلّها علي مشيّة اللّه تعالي التي منها أفعال العباد وقد تقدّم بعضها نظير ما دلّت علي أنّه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بإذنه تعالي.

ومنها: ما دلّت علي أنّ الهداية من اللّه تعالي.

ومنها: ما دلّت علي نفي المشيّة عن العباد إلّا بعد مشيّته تعالي. قال عزّوجلّ:

﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾؛(1)

و﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛(2)و﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّه﴾؛(3)

و﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾؛(4)

و﴿وَلَايَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾؛(5)

و﴿وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾؛(6)

و﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلنا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.(7)

عن الفقه الرضا(عليه السلام): أروي عن العالم(عليه السلام) أنّه قال:

مساكين القدريّة أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ وجلّ بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه.(8)

ص: 380


1- 706.. الانسان76.، الآية 30.
2- 707.. التكوير81.، الآية 29.
3- 708.. الكهف18.، الآية 23.
4- 709.. القصص28.، الآية 56.
5- 710.. هود11.، الآية 34.
6- 711.. المائدة5.، الآية 41.
7- 712.. يونس 10.، الآية 100.
8- 713.. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا(عليه السلام)، ص349؛ بحارالأنوار، ج5، ص54، ح93.

روي الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: إن أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة، فقال لي: اكتب:

قال اللّه تبارك وتعالي: يا ابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ... .(1)

وروي أيضاً بسنده، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال:

ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر علي ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.(2)وقال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم «لا حول ولا قوّة إلّا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلّا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(3)

روي الكلينيّ عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسي، عن إبراهيم ابن عمر اليمانيّ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام):

خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه وأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلي تركه ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذن اللّه.(4)

ص: 381


1- 714.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح104.
2- 715.. التوحيد، ص361، ح7؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح22.
3- 716.. نهج البلاغة، الحكمة 404، ص547.
4- 717.. الكافي، ج1، ص158، ح5؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح84.

وروي عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبدالرحمن، عن حفص ابن قرط، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

من زعم أنّ اللّه يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب علي اللّه، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه فقد كذب علي اللّه، ومن كذب علي اللّه أدخله اللّه النار.(1)

روي الكلينيّ بإسناده عن إسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون، قال: فقلت: يا هذا أسألك؟ قال: سل، قلت: يكون في ملك اللّه تبارك وتعالي ما لا يريد؟ قال: فأطرق طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ فقال لي: يا هذا! لئن قلت: إنّه يكون في ملكه ما لا يريد، إنّه لمقهور ولئن قلت: لا يكون في ملكه إلّا ما يريد أقررت لك بالمعاصي، قال: فقلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام):

سألت هذا القدريّ فكان من جوابه كذا وكذا، فقال: لنفسه نظر أما لو قال غير ما قال لهلك.(2)

الاحتجاج: عن أبي حمزة الثماليّ أنّه قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) للحسن البصريّ:

إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ اللّه عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلي خلقه وهناً منه وضعفا.(3)

والاعتقاد بالتفويض مناف للتوحيد، والالتزام بوجود قدرة مستقلّة - ولو في بقائها - في قبال قدرة اللّه تعالي موجب للشرك.ولا يتوهّم أنّه لمّا كان اللّه تعالي قادراً علي كلّ شيء فهو يقدر علي أن يجعل الإنسان مستقلّاً في أفعاله فيفوّض إليه أمر ما منحه من العلم والقدرة والحياة وغيرها.

وذلك لأنّ قدرة الباري تعالي لا تتعلّق بالمحالات، وصيرورة الفقير بالذات غنيّاً كذلك - ولو في آنٍ ولحظة - محال ذاتاً، والسرّ في ذلك أنّ المخلوقيّة تساوق الشيئيّة بالغير، فالمخلوق و الشيء بالغير والعالم القادر بالغير. وصيرورته شيئاً وعالماً وقادراً بالذات مناف لحيث ذاته

ص: 382


1- 718.. الكافي، ج1، ص158، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص127، ح79.
2- 719.. الكافي، ج1، ص159، ح7.
3- 720.. الاحتجاج، ج2، ص327؛ بحارالأنوار، ج5، ص17، ح26.

وخلف لفرض كونه مخلوقاً.

تقارير أخري لنفي التفويض

اشارة

هناك تقارير أخري لنفي التفويض ولكنّها مخدوشة نتعرّض لها وننقدها بحول اللّه تعالي وقوّته.

الأوّل: نفي التفويض علي مبني العلّيّة

وقع البحث بين الأعلام في أنّ الملاك لاحتياج الممكن إلي العلّة ما هو؟ هل المناط فيه هو مجرّد الحدوث فلا يحتاج في البقاء إلي العلّة، أو الإمكان فالممكن لإمكانه يحتاج إلي العلّة دائماً في حدوثه وبقائه لأنّه لا يصير واجبا؟

لا ريب في بطلان الأوّل؛ فإنّ الممكن يحتاج إلي العلّة في الحدوث والبقاء، لأنّه لو صار مستغنياً عن العلّة في البقاء بعد ما كان محتاجاً إليها في الحدوث، للزم تبدّل الممكن إلي الواجب؛ خصوصاً علي القول بالحركة الجوهريّة وأنّ كلّ موجود بحسب جوهره متحرّك دائماً، لأنّه لا يتصوّر علي هذا القول مفهوم للبقاء بل يكون كلّ موجود في كلّ آنٍ في حال الحركة والحدوث، ولو كان ملاك الحاجة إلي العلّة هو الحدوث فقط، فلابدّ أن تكون كلّ حركة بعد حدوثها دائميّة.

فظهر بذلك أنّ الإنسان كسائر الممكنات يحتاج في حدوثه وبقائه في جميع شؤونه وأطواره إلي العلّة المحدثة والمبقية، وبعد ما ظهر أنّ الإنسان يحتاج دائماً إلي الباري تعالي، فلا يتصوّر الاستغناء والاستقلال له بحيث لا يكون للباري تعالي دخل في أفعاله.

ولكنّك عرفت سابقاً: أنّ إطلاق كلمة «العلّة» علي الباري تعالي بالمعني الفلسفيّ فاسد ومستلزم لمحاذير لا يمكن الالتزام بها، وقلنا إنّ صدور المعلولعن العلّة وتولّده عنها يختلف عن صدور الفعل عن الفاعل المختار.

وأمّا القول بالحركة الجوهريّة؛ ففيه ما لا يخفي علي المتأمّل المنصف، فإنّ مقسم الجوهر والعرض اللذَيْن وقع الخلاف في تحقّق الحركة فيهما إنّما يكون الماهيّة لا الوجود كما يتّضح

ص: 383

من تعريفهما، ولا معني لتقسيم الوجود إلي الجوهر والعرض ثمّ فرض الحركة فيهما علي مبني أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.

وأمّا الحركة في الوجود فهي مبتنية علي أصالة الوجود وكونه ذات مراتب وفيه ما لا يخفي.

مضافاً إلي أنّ مسألة الحركة الجوهريّة ليست إلّا فرضيّة محضة ولم يقم عليها دليل سديد، بل ذكرها صدرالدين الشيرازيّ وتعرّض لها في عباراته بصورة الخطابيّات الشعريّة. وقد بحثناها وأبطلناها في محلّه. هذا مع أنّ مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهيّة هي مدار معركة الآراء المتشتّتة وفيها أقوال مختلفة، وقد تعرّضنا لأدلّة أصالة الوجود وأبطلناها عند البحث عنها مستقلّاً. ومن أراد الاطݨݨݨݧݧݧݧݨݨنلاع علي بعض الكلام فيها فليراجع ما ذكره شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا جواد الطهرانيّ(رحمه الله) في كتابه: عارف وصوفي چه مي گويند؟ وكتاب التوحيد لآية اللّه الشيخ هاديّ الطهرانيّ(رحمه الله).

الثاني والثالث: نفي الجبر والتفويض باختلاف المتعلّق

قد احتمل بعض في معني «لا جبر ولا تفويض» احتمالين آخرين:

أحدهما: أنّه «لا جبر» لوجود الاختيار في الأفعال الاختياريّة و«لا تفويض» في غير الأفعال الاختياريّة من التكوينيّات كنزول المطر وضربان القلب.

ثانيهما: «لا جبر» بمعني أنّ الإنسان ليس مجبوراً في أفعاله الاختياريّة و«لا تفويض» يعني في التشريع والأحكام فليس الإنسان مفوَّضاً إليه يصنع ما يريد بل كلّ فعل من أفعاله محكوم بحكم شرعا.

أقول: إنّ هذين الاحتمالين وإن كان كلّ منهما صحيحاً في حدّ نفسه، إلّا أنّهما غير مراد من الروايات قطعاً، وذلك لما يلي:

أولاً: إنّ وحدة السياق في الروايات يقتضي أن يكون متعلّق الجبر والتفويض فيها شيئاً واحداً، والحال أنّه في المعني الأوّل يكون متعلّق الجبر المنفيّ هو الأفعال الاختياريّة ومتعلّق التفويض المنفيّ هي المكوّنات غير الاختياريّة، وكذا في المعني الثاني يكون التفويض المنفيّ في الأحكام بعد ما كان الجبر المنفيّ هو الجبر في الأفعال.

ص: 384

وثانياً: إنّ نفي التفويض بهذين المعنيين ليس محلّاً للبحث والإشكال، ولم يدّع أحد التفويض إلي العباد في مثل هذه الأمور (كنزول المطر والأحكام الشرعيّة) فلا وجه لهذا الإصرار الأكيد الوارد في الروايات، فالأمر ينبئ عن وجود فكرة باطلة بين فِرَق المسلمين، فقام الأئمّة(عليهم السلام) لمقابلتها والردّ عليها. والذي كان محلّاً للإشكال بينهم هو الجبر والتفويض في الأفعال الصادرة عن الإنسان.

وثالثاً: إنّ بعض هذه الأخبار تأبي عن الحمل علي مثل هذين الاحتمالين، بل تشهد بظاهرها علي المعني الذي استفدناه.

روي الصدوق بإسناده عن ابن سنان، عن مهزم قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

أخبرني عمّا اختلف فيه من خلّفت من موالينا، قال: فقلت: في الجبر والتفويض، قال: فاسألني، قلت: أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ قال: اللّه أقهر لهم من ذلك، قال: قلت: ففوّض إليهم؟ قال: اللّه أقدر عليهم من ذلك، قال: قلت: فأيّ شيء هذا أصلحك اللّه؟ قال: فقلب يده مرّتين أو ثلاثاً ثمّ قال: لو أجبتك فيه لكفرت.(1)

روي الكلينيّ مسنداً عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: سألته فقلت: اللّه فوّض الأمر إلي العباد؟ قال:

اللّه أعزّ من ذلك قلت: فجبرهم علي المعاصي؟ قال: اللّه أعدل وأحكم من ذلك، قال: ثمّ قال: قال اللّه: يا ابن آدم أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك.(2)

وروي عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القميّ عن رجل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت: أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ قال:

لا، قلت: ففوّض إليهم الامر؟ قال: قال: لا، قال: قلت فماذا؟ قال: لطف من ربّك بين ذلك.(3)

ص: 385


1- 721.. التوحيد، ص363، ح11؛ بحارالأنوار، ج5، ص53، ح89.
2- 722.. الكافي، ج1، ص157، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح20.
3- 723.. الكافي، ج1، ص159، ح8؛ بحارالأنوار، ج5، ص83.

وروي عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبدالرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليه السلام) قالا:

إنّ اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه علي الذنوب ثمّ يعذبّهم عليها، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا(عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض.(1)

وروي عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد، عن يونس، عن عدّة، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: قال له رجل: جعلت فداك أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ فقال:

اللّه أعدل من أن يجبرهم علي المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها، فقال له: جعلت فداك ففوّض اللّه إلي العباد؟ قال: فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض.(2)

نفي التفويض في التشريع

نعم قد ورد في بعض الروايات نفي التفويض تشريعاً مثل ما في رسالة الامام الهادي(عليه السلام) إلي أهل الأهواز:

فأمّا التفويض الذي أبطله الصادق(عليه السلام) وخطّأ من دان به وتقلّده، فهو قول القائل: إنّ اللّه جلّ ذكره فوّض إلي العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلي تحريره ودقّته، وإلي هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسول:، فإنّهم قالوا: لو فوّض إليهم علي جهة الإهمال لكان لازماً له رضي ما اختاروه، واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً، وتنصرف هذه المقالة علي معنيين: إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة، كره ذلك أم أحبّ، فقد لزمه الوهن، أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تعبّدهم بالأمر والنهي علي إرادته، كرهوا أو أحبّوا ففوّض أمره ونهيه إليهم وأجراهما علي محبّتهم، إذ

ص: 386


1- 724.. الكافي، ج1، ص159، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح82.
2- 725.. الكافي، ج1، ص159، ح11.

عجز عن تعبّدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان، ومَثَل ذلك مَثَل رجل ملك عبداً ابتاعهليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه، وادّعي مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده علي اتّباع أمره عظيم الثواب، وأوعده علي معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره ونهيه، فأيّ أمر أمره به أو أيّ نهي نهاه عنه لم يأته علي إرادة المولي، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه، واتّباع هواه، ولا يطيق المولي أن يردّه إلي اتّباع أمره ونهيه والوقوف علي إرادته، ففوّض اختيار أمره ونهيه إليه ورضي منه بكلّ ما فعله علي إرادة العبد لا علي إرادة المالك، وبعثه في بعض حوائجه وسمّي له الحاجة فخالف علي مولاه، وقصد لإرادة نفسه، واتّبع هواه، فلمّا رجع إلي مولاه نظر إلي ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به فقال له: لِمَ أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد: اتّكلت علي تفويضك الأمر إليَّ فاتّبعت هواي وإرادتي لأنّ المفوَّض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض، أوليس يجب علي هذا السبب إمّا أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتّباع أمره ونهيه علي إرادته لا علي إرادة العبد، ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وانصافه شاملاً له، وحجّته واضحة عليه للإعذار والإنذار. فإذا اتّبع العبد أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه؟ أو يكون عاجزاً غير قادر ففوّض أمره إليه أحسن أم أساء أطاع أم عصي عاجز عن عقوبته وردّه إلي اتّباع أمره، وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأَلُّه، وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومخالفة الكتاب، إذ يقول: ﴿وَلَا يَرْضَي لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوْا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾(1) وقوله عزّ وجلّ: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلنا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ﴾(2) وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْ-جِنَّ وَالإِنسَ إلنا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾(3) وقوله: ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا

ص: 387


1- 726.. الزمر39.، الآية 7.
2- 727.. آل عمران3.، الآية 102.
3- 728.. الذاريات51.، الآيتان 56-57.

بِهِشَيْئاً﴾(1) وقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾(2) فمن زعم أنّ اللّه تعالي فوّض أمره ونهيه إلي عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلّ ما عملوا من خير وشرّ، وأبطل أمر اللّه ونهيه، ووعده ووعيده لعلّة ما زعم أنّ اللّه فوّضها إليها لأنّ المفوَّض إليه يعمل بمشيّ-ته، فإن شاء الكفر أو الإيمان، كان غير مردود عليه ولا محظور. فمن دان بالتفويض علي هذا المعني فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية ﴿أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إلنا خِزْيٌ فِي الْ-حَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(3) تعالي اللّه عمّا يدين به أهل التفويض علوّاً كبيرا ... .(4)

وبه قال الشيخ المفيد(رحمه الله) كما في شرح عقائد الصدوق(رحمه الله):

والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم، مع ما شاؤوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات.(5)

ولكن مساق هذه الروايات يختلف عن الأخبار التي أشرنا إليها في نفي الجبر والتفويض، فإنّ التفويض إلي العباد منفيٌّ سواء كان في أفعالهم الاختياريّة أو في الأحكام الإلهيّة، وقد تصدّي الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) لإبطال كليهما في الأحاديث المختلفة، والرسالة المباركة النقويّة لمّا أنّها أُرسلت إلي عموم الشيعة بيّن الامام(عليه السلام) إحدي مصاديق التفويض المنفيّ بحيث يكون قابلاً لفهم جميعهم.

ص: 388


1- 729.. النساء4.، الآية 36.
2- 730.. الأنفال8.، الآية 20.
3- 731.. البقرة2.، الآية 75.
4- 732.. تحف العقول، ص463؛ بحارالأنوار، ج5، ص72.
5- 733.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص47؛ بحارالأنوار، ج5، ص18.

شبهات في التفويض

الشبهة الأولي: استغناء المعلول عن العلّة بقاءاً

اشارة

إنّ المفوّضة قالوا: ليس الملاك لاحتياج الممكن إلي العلّة الإمكان إنّما هو الحدوث فبقائه غير محتاج إلي العلّة، وذكروا لذلك شواهد: كإيجاد الأب ولده، وإيجاد البَنَّاء البِناء، ثمّ يبقي الولد بعد موت والده وكذا البِناء بعد موت البَنَّاء.

الجواب:

إنّ فعل الوالد ليس هو إيجاد الولد ولا يكون هو علّة لحدوثه، بل الصادر عنه فعل واحد يوجب انعقاد النطفة في الرحم، وأمّا وجود الولد وحدوثه، وخلق النطفة وتكاملها في الرحم، وخلق الروح وإيلاجها في البدن، وغير ذلك من الأمور الكثيرة فليس من فعل الأب، وهكذا بقائه حيّاً بل هي مستندة إلي خالقه وبارئه وأمّا في البِناء فالفعل الصادر عن البَنَّاء هو إيجاد صورة البِناء وهيئته وحركة يده ووضع اللِّبن علي اللِّبن، وأمّا علّة بقائه فهي القوّة الجاذبة في الأرض والمُمسكة لأجزاء البناء وغيرها ممّا يوجب ارتباط أجزاء البِناء، وجميعها إنّما تتحقّق بمشيّة اللّه تعالي حدوثاً وبقاءاً. فالبِناء يحتاج إلي العلّة في الحدوث والبقاء إلّا أنّ علّة الحدوث فعل الباني وعلّة البقاء هو أمر آخر ولا يلزم أن تكون علّة البقاء والحدوث متّحدة.

وعلي أيّ تقدير لو قلنا إنّ ملاك احتياج الممكن إلي العلّة هو الحدوث لا البقاء، يتصوّر الاستقلال في أفعاله ولكن هذا القول باطل بل الممكن يحتاج إليها في الحدوث والبقاء فلا يتصوّر الاستقلال للإنسان آناً ولحظة.

فإنّ المخلوق والمصنوع هو الشيء بالغير والعالم بالغير والقادر بالغير والحيّ بالغير، فلا يعقل استقلاله عن الغير الذي هو قيّومه في لحظةٍ من اللحظات وآنٍ من الآنات.

الشبهة الثانية: استناد الأفعال إلي إرادة العباد

اشارة

قد مرّ أنّ أفعال العباد لا يصحّ إسنادها إلي اللّه تعالي لاستنادها إلي إرادتهم ومشيّتهم فعلي

ص: 389

هذا يلزم استقلالهم في الإرادة.

الجواب:

لا ريب أنّ جميع مقدّمات الفعل من وجود الفاعل وحياته وقدرته وسلطنته وغيرها كلّها رهن مشيّة اللّه تعالي، وبعد إعطائها يصير العبد قادراً شائيّاً وتتحقّق له السلطنة علي الفعل والترك، فيكون هو الذي يريد الفعل والترك فالإرادة بمعني إعمال القدرة والعزم الوارد علي جميع الأشواق إنّما يكون بيد العبد. نعم إنّ إرادته متوقّفة علي وجوده وحياته وقدرته وجميعهذه المقدّمات بمشيّة اللّه تعالي. ودخالته تعالي في الأفعال الاختياريّة الصادرة عن العبد إنّما تكون يإيجاد هذه المقدّمات وكذا التوفيقات والخذلانات علي نحو لا يستلزم معها الجبر، فهو أراد تحقّق الأفعال من العباد بإرادة العزم والاختيار لا إرادة الحتم والاضطرار، وقد مرّ توضيحهما.

والحاصل إنّ اللّه تبارك وتعالي خلق الإنسان وأعطاه الجوارح والأعضاء والسلطنة والقدرة، ولو شاء لسلبها عن العبد فأفعال العبد لا تكون منقطعة عن اللّه، إلّا أنّ اللّه تعالي أراد أن يجعل أمر الإرادة والانتخاب بيد العبد، بعد أن جعله قادراً وأعطاه القدرة والسلطنة، كي يصل العبد إلي الكمال الاختياريّ ويليق بأن يكون موضعاً للثواب والعقاب.

فالسلطنة علي الفعل والترك ممّا أعطاه اللّه وهي بيده تعالي حدوثاً وبقاءً، وحيثيّة القدرة وحقيقتها هو الاختيار والسلطنة علي الفعل والترك، وإلّا فلو أراد اللّه صدور الفعل عن العبد إرادة حتم، مع أنّ إرادة الحتم منه تعالي لا تنفكّ عن المراد، فلا معني لقدرة العبد وسلطنته بل هذا عين الإلجاء والاضطرار، فيكون إعطاء القدرة وكذا الابتلاء والامتحان لغوا.

خلاصة الكلام: إنّ الفعل الصادر عن العبد - كحركة اليد - مستند إلي ارادة العبد، وإرادته متوقّفة علي وجوده وحياته وقدرته وجميعها من اللّه تعالي حدوثاً وبقاءً فلا يعقل الاستقلال ثمّ إنّه لا يفعل الخير إلّا بتوفيق اللّه تعالي إيّاه في الطاعات ولا يرتكب المعاصي إلّا بعد الخذلان.

وأمّا ما قيل من: «أنّ إرادة العبد إنّما تكون في طول إرادة اللّه»، فإن كان المراد أنّه تعالي

ص: 390

أراد وجود العبد وحياته وقدرته، والعبد هو الذي يريد ببركة القدرة التي منحها اللّه إيّاه، فهو متين جدّاً. وإن كان المراد أنّ اللّه تبارك وتعالي أراد الفعل من العبد وكانت الإرادة بمعني إرادة العزم أو الرضا منه تعالي فهو أيضاً صحيح.

وأمّا لو كان المراد أنّ إرادة العبد لا تكون إلّا بعد إرادته تعالي تلك الإرادة من العبد، بحيث لا يتخلّف المعلول والمراد عن العلّة والإرادة، فهو باطل؛ لأنّهذا عين الجبر ومناف لقدرة العبد وسلطنته، وقد مرّ شرح ذلك.

تبيين لما نسبه الفيض إلي الخواجة

ثمّ إعلم أنّه نسب الفيض الكاشانيّ(قدس سره) إلي الخواجه نصير الدين الطوسيّ(رحمه الله) أنّه قال:

فنحن في عين الاختيار مجبورون فنحن إذاً مجبورون علي الاختيار.(1)

أقول: لو كان مراده تعلّق إرادة اللّه تعالي بإرادة العبد فهذا عين الجبر لأنّ تعلّق إرادته تعالي بفعل العبد إرادة حتم لا يجتمع مع الاختيار للعبد، سواء تعلّقت إرادته بفعل العبد أو تعلّقت بإرادة العبد المتعلّقة بالفعل والترك. وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء اللّه تعالي.

وأمّا لو كان مراده تعلّق إرادته تعالي بصيرورة العبد ذا قدرة ومشيّة بحيث يستند الفعل والترك إليه فهذا متين جدّاً.

ويمكن أن يكون مراده من المجبوريّة علي الاختيار هي لزوم اختيار كلّ قادر ملتفت جانب الفعل أو جانب الترك لمكان استحالة ارتفاع النقيضين ولا يعقل أن لا يختار أصلاً لا الفعل ولا الترك فهذا أيضاً صحيح ومن دقائق الأُمور.

وظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا جبر لوجود القدرة والسلطنة، ولا تفويض لعدم الاستقلال.

تفويض أمر الخلق والرزق إلي أولياء اللّه تعالي

ذهب جمع من الغلاة إلي أنّ اللّه تعالي خلق محمّداً وعليّاً وأوصيائهما(عليهم السلام)، ثمّ فوّض إليهم أمر الخلق والرزق، فهم يخلقون ما يشاؤون ويدبّرون العالم، واللّه تعالي منعزل عن ذلك

ص: 391


1- 734.. الوافي، ج1، ص539.

كلّه، وقد وردت الروايات في الردّ عليهم وإبطال قولهم والبرائة منهم.

روي الصدوق في العيون بإسناده عن يزيد بن عمير بن معاوية الشاميّ قال: دخلت علي عليّ بن موسي الرضا(عليه السلام) بمرو فقلت له: يا بن رسول اللّه روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام) أنّه قال:

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال: من زعم أنّ اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ اللّه عز وجل فوّض أمر الخلق والرزق إلي حججه: فقد قال بالتفويض.فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك ... .(1)

وروي في العيون بسنده عن أبي هاشم الجعفريّ قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن الغلاة والمفوّضة فقال:

الغلاة كفّار والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوّجهم أو تزوّج إليهم أو آمنهم أو ائتمنهم علي أمانة أو صدّق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة؛ خرج من ولاية اللّه عزّ وجلّ وولاية رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وولايتنا أهل البيت.(2)

كان الرضا(عليه السلام) يقول في دعائه:

اللهمّ إنّي بريء من الحول والقوّة، ولا حول ولا قوّة إلّا بك، اللهمّ إنّي أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحقّ اللهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهمّ لك الخلق ومنك الرزق وإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين، اللهمّ لا تليق الربوبيّة إلّا بك ولا تصلح الإلهيّة إلّا لك، فالعن النصاري الذين صغّروا عظمتك والعن المضاهئين لقولهم من بريّتك. اللهمّ إنّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، اللهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن براء منه كبراءة عيسي بن مريم(عليه السلام) من النصاري، اللهمّ إنّا لم ندعهم إلي ما يزعمون،

ص: 392


1- 735.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص124، ح17؛ بحارالأنوار، ج5، ص11، ح18.
2- 736.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج2، ص203، ح4؛ بحارالأنوار، ج25، ص328، ح3.

فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدّعون ولا تدع علي الأرض منهم ديّاراً إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجراً كفّارا.(1)

وروي عن زرارة أنّه قال: قلت للصادق(عليه السلام): إنّ رجلاً من ولد عبداللّه بن سبا يقول بالتفويض، فقال: وما التفويض؟ قلت: إنّ اللّه تبارك وتعالي خلق محمّداً وعليّاً صلوات اللّه عليهما ففوّض إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا، فقال(عليه السلام):

كذب عدوّ اللّه إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواكَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْ-خَلْقُ عَلَيْهِم قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾(2).

فانصرفت إلي الرجل فأخبرته فكأنّي ألقمته حجراً، أو قال: فكأنّما خرس.(3)

أنّ التفويض بهذا المعني ممّا لا ريب في بطلانه فإنّه مناف لربوبيّة اللّه الواحد القهّار، فلذا تري أنّ الأئمّة(عليهم السلام) قالوا: من قال بهذا القول فقد صغّر عظمة اللّه تعالي كالنصاري، بل ﴿لَهُ الْ-خَلْقُ وَالأَمْرُ﴾(4) و﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾،(5) وممّا يدلّ علي ذلك أيضاً احتياج الأئمّة(عليهم السلام) إليه تعالي في جميع شؤونهم وحالاتهم، وكذلك ما يدلّ علي أنّ أمر الخلق والرزق بيد اللّه.

وأمّا مسئلة تفويض أمر الخلق والرزق وكذا أمر التشريع إليهم(عليهم السلام) بمعني أنّ اللّه تعالي أعطاهم القدرة والعلم وسائر الكمالات ويفيضها عليهم آناً فآناً من دون استقلال لهم وأذن لهم في ذلك فهي بمكان من الإمكان عقلاً وقد بحثنا ذلك في محلّه.

ثبوت الولاية المطلقة الإلهيّة للنبيّ وأهل بيته(عليهم السلام)

هذا، ولكن لا يخفي أن المستفاد من جميع الآيات والروايات والأدعية والزيارات المنقولة في الأبواب المتفرّقة هو: أنّ النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) يعلمون جميع الأشياء باللّه تعالي، ويقدرون

ص: 393


1- 737.. بحارالأنوار، ج25، ص343، ذيل ح25.
2- 738.. الرعد13.، الآية 16.
3- 739.. اثبات الهداة، ج5، ص385، ح41؛ بحارالأنوار، ج25، ص344.
4- 740.. الأعراف7.، الآية 54.
5- 741.. الرحمن55.، الآية 29.

علي كلّ ما يريدونه باللّه تعالي، وأنّ جميع الأشياء مسخّرة لهم بمعني أنّ اللّه تعالي أجري طاعتهم علي جميع الأشياء فذلّ كلّ شيء لهم. ويستفاد منها أنّهم يقدرون علي الخلق والرزق والإماتة والإحياء بلا تفويض إليهم.

كما أنّه يستفاد منها أيضاً أنّ هذه الكمالات وغيرها ليست ذاتيّة لهم، بل إنّهم(عليهم السلام) عباد مربوبون، ولا يملكون فضيلة وكمالاً إلّا بعد تمليك اللّه تعالي إيّاهم واستدامة هذا التمليك منه في كلّ آنٍ ولحظة. فكما أنّ اللّه تعالي أعطانا القدرة فنقدر علي أن نفعل أفعالنا الاختياريّة، ولا يلزم من هذا الإقدار التفويض كما بيّنّا - لأنّ قوام هذه النعمة إنّما يكون بلطف القيّوم المتعال ابتداءً واستدامة في كلّ آنٍ ولحظة - كذلك اللّه تبارك وتعالي أقدر أوليائه وحججه وخلفائه في أرضه ومنحهم قدرة يقدرون بها علي فعل ما لا نقدر عليه،ولا يلزم من هذا الإقدار تفويض إليهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وما ذلك إلّا لبيان فضلهم ومكانتهم عند اللّه تعالي، لكي يصيروا خلفائه في عباده، وأمنائه في أرضه، ولذلك فإنّهم(عليهم السلام) لا يستعملون هذه القدرة الإلهيّة إلّا فيما يرضي اللّه تبارك وتعالي.

قال مولانا عليّ بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام):

جهلوا واللّه أمر اللّه وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تنال إلّا بالتسليم للّه عزّوجلّ وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبّرهم به، إنّ أولياء اللّه صبروا علي المحن والمكاره، صبراً لم يساوهم فيه غيرهم فجازاهم اللّه بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ومع ذلك لا يريدون إلّا ما يريده لهم.(1)

قلوب الأئمّة(عليهم السلام) أوعية لمشيّة اللّه تعالي

ويستفاد من جميع الآيات والروايات الواردة في المقام أنّ لهم(عليهم السلام) الولا ية المطلقة علي ما سوي اللّه بإذنه تعالي، فاللّه عزّوجلّ قد أعطاهم هذا المقام الشامخ وهي الولا ية علي جميع ما سواه من دون تفويض إليهم، ويلزم من ذلك أن يكون جميع ما يتحقّق في الكون بأمرهم

ص: 394


1- 742.. الأمالي (للصدوق)، ص455، ح3؛ بحارالأنوار، ج46، ص20.

وإذنهم، وإذا أراد اللّه تعالي تحقّق شيء في الكون تثبت مشيّ-ته تعالي في قلب الإمام(عليه السلام) الذي هو لوح المحو والإثبات كما قالوا(عليهم السلام): نحن أوعية مشيّة اللّه تعالي ووكر إرادته.

عن البصائر: حدّثنا بعض أصحابنا عن أحمد بن محمّد السيّاريّ قال حدّثني غير واحد من أصحابنا قال خرج عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أنّه قال:

إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة مورداً لإرادته، فإذا شاء اللّه شيئاً شاؤوه وهو قول اللّه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾(1) .(2)

الهداية الكبري: بإسناده عن أبي أحمد الأنصاريّ قال: وجّه قوم من المؤمنين والمقصّرة كامل بن إبراهيم المدنيّ المعروف بصناعة أبي محمّد بسامرا إلي الناحية في أمرهم قال كامل بن إبراهيم: فقلت في نفسي: لا يدخل الجنّة إلّا من عرف معرفتي، وقال مقالتي قال فلمّا دخلت علي سيّدي أبي محمّد(عليه السلام) ... وجلست إلي باب ستر مرخيً فجاءت الريح فكشفت طرفه، فإذا بفتيًكأنّه فلقة قمر من أبناء أربعة عشر فقال: كامل بن إبراهيم. فاقشعريت من ذلك وألهمت وقلت: لبّيك لبّيك يا سيّدي، (إلي أن قال(عليه السلام)):

وجئت تسأله عن المفوّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه، فإذا شاء اللّه شيئاً شئنا، واللّه يقول: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾، ثمّ رجع الستر إلي حاله فلم أكشفه، فنظر إليَّ أبو محمّد(عليه السلام) وتبسّم وقال: يا كامل بن إبراهيم، ما جلوسك وقد أنباك المهديّ والحجّة بعدي بما كان في نفسك وجئت تسألني عنه، قال: فنهضت وأخذت الجواب الذي أسررته في نفسي من الإمام المهديّ، ولم ألقه بعد ذلك.(3)

وعن تفسير فرات بن إبراهيم: جعفر بن محمّد معنعناً عن المفضّل بن عمر قال: قال أبوعبد اللّه(عليه السلام):

... فنحن باب اللّه وحجّته وأمناؤه علي خلقه وخزّانه في سمائه وأرضه، حلّلنا

ص: 395


1- 743.. الإنسان76.، الآية 30؛ التكوير81.، الآية 29.
2- 744.. بصائر الدرجات، ص517(الباب 18من الجزء العاشر)؛ بحارالأنوار، ج25، ص372، ح23.
3- 745.. الهداية الكبري، ص359؛ دلائل الإمامة، ص 506؛ الغيبة، ص247؛ الخرائج و الجرائح، ج1، ص459، ح4؛ بحارالأنوار، ج25، ص336، ح16.

عن اللّه، وحرّمنا عن اللّه، لا نحتجب عن اللّه إذا شئنا وهو قوله تعالي: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾، وهو قوله(عليه السلام): إنّ اللّه جعل قلب وليّه وكراً لإرادته فإذا شاء اللّه شئنا.(1)

وفي قنوت الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام):

اللّهم منك البدء ولك المشيّة، ولك الحول ولك القوّة، وأنت اللّه الذي لا إله إلّا أنت، جعلت قلوب أوليائك مسكناً لمشيّ-تك، ومكمناً لإرادتك، وجعلت عقولهم مناصب أوامرك ونواهيك، فأنت إذا شئت ما تشاء حرّكت من أسرارهم كوامن ما أبطنت فيهم، وأبدأت من إرادتك علي ألسنتهم ما أفهمتهم به عنك في عقودهم بعقول تدعوك وتدعو إليك بحقايق ما منحتهم به، وإنّي لا علم مما علّمتني ممّا أنت المشكور علي ما منه أريتني، وإليه آويتني. اللهمّ وإنّي مع ذلك كلّه عائذ بك، لائذ بحولك وقوّتك، راض بحكمك الذي سقته إليّ في علمك، جار بحيث أجريتني، قاصد ما أممتني، غير ضنين بنفسي فيما يرضيك عنّي إذ به قد رضيتني، ولا قاصر بجهدي عمّا إليه ندبتني، مسارع لما عرفتني، شارع فيما أشرعتني، مستبصر ما بصرتني، مراع ما أرعيتني،فلا تخلني من رعايتك، ولا تخرجني من عنايتك، ولا تقعدني عن حولك، ولا تخرجني عن مقصد أنال به إرادتك، واجعل علي البصيرة مدرجتي، وعلي الهداية محجّتي، وعلي الرشاد مسلكي، حتّي تنيلني وتنيل بي أُمنيّتي، وتحلّ بي علي ما به أردتني، وله خلقتني، وإليه آويتني ... .(2)

وبعد ما ثبتت مشيّة الباري تعالي في قلب الإمام(عليه السلام) يأمر الإمام الملائكة الموكّلين لتدبير ذلك الأمر، الذين يعبّر عنهم القرآن بقوله: ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أمْراً﴾(3) فينجّزون ما أُمِروا به.

عن أبي عبداللّه(عليه السلام) في زيارة سيّد الشهداء(عليه السلام):

إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر عمّا فصل من أفعال العباد.(4)

ص: 396


1- 746.. تفسير فرات الكوفي، ص529، ح681؛ بحارالأنوار، ج26، ص256، ح31.
2- 747.. مهج الدعوات و منهج العبادات، ص48؛ بحارالأنوار، ج82، ص214، ذيل ح1.
3- 748.. النازعات79.، الآية 5.
4- 749.. الكافي، ج4، ص577، ح2؛ كامل الزيارات، ص366، ح2؛ تهذيب الأحكام، ج6، ص55، ح1؛ بحارالأنوار، ج98، ص153، ح3.

ولا يتصوّر الاستقلال لوليّ اللّه تعالي ولا الانعزال للحقّ المتعال ولا التفويض إليهم في حال من الأحوال، كما لا يتصوّر الاستقلال للملائكة في تدبير الأمور؛ لأنّ ولا يتهم علي ما سواه تعالي وكون قلوبهم وكراً لإرادته وأوعية لمشيّته لا يعقل من دون كونهم عالمين وقادرين باللّه تعالي، والعلم والقدرة لابدّ أن تفاض عليهم في كلّ آنٍ ولحظة، كي يكونوا أوليائه وتثبت لهم الولاية علي الكائنات، فإنّ حقيقة الولاية ليست منفكّة عن العلم والقدرة؛ فهم(عليهم السلام) يحتاجون في كلّ آنٍ ولحظة أشدّ الاحتياج إلي لطف الحيّ القيّوم لكي يكونوا أوليائه وحججه وأمنائه.

ولا يخفي أنّ الروايات قد عبّرت عن الملك الذي يباشر خلقة الجنين في الرحم ب- «الملك الخلّاقة» وورد التعبير بأنّهما «يخلقان»، وعبّر عن الملكين المباشرين لتصوير الجنين بأنّهما «يصوّران»، وعن الذي يخرجه عن الرحم بالقوّة القهريّة ب- «الزاجرة»، مع أنّه لاريب في أنّ خلقة الجنين وتصويره وإخراجه من الرحم من أفعاله تعالي، كما قال تعالي:

﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾؛(1)

و﴿يَ-خْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾؛(2)و﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾.(3)

وذلك لأنّ الفعل كما يسند إلي الآمر حقيقة، كذلك يسند إلي المباشر المأمور بإنجاز ذلك الفعل، خصوصاً إذا كانت قدرته وعلمه من الآمر كما أنّ اللّه تعالي يسند توفّي الأنفس إلي نفسه مرّة، وإلي ملك الموت أخري، وإلي الملائكة ثالثة.

فعلي هذا يكون إسناد الخلق والرزق والإماتة والإحياء إلي الملائكة المباشرين لإجراء تلك الأعمال ممّا لا محذور فيه، كما أنّه لا محذور في إسنادها إلي وليّ اللّه الذي تكون الملائكة والمدبّرات تحت أمره وتدبيره وولا يته بالأولويّة القطعيّة.

ص: 397


1- 750.. آل عمران3.، الآية 6.
2- 751.. الزمر39.، الآية 6.
3- 752.. النحل16.، الآية 78.

بصائر الدرجات مسنداً عن أبي حمزة، قال: كنت عند عليّ بن الحسين(عليهما السلام) وعصافير علي الحائط قبالته يصحن فقال:

يا أبا حمزة أتدري ما يقلن؟ قال: يتحدّثن، إنّ لهنّ وقتاً يسألن فيه قوتهنّ، يا أبا حمزة لا تنامنّ قبل طلوع الشمس فإنّي أكرهها لك، إنّ اللّه يقسّم في ذلك الوقت أرزاق العباد، وعلي أيدينا يجريها.(1)

تفويض أمر الدين إلي أولياء اللّه تعالي

وللتفويض معني ثالث لا ضير في الالتزام به، وقد وردت الروايات الكثيرة فيه. وهو التفويض في أمر الدين وتشريع الأحكام - بمعني افتراض طاعتهم وأنّ لهم الأمر والنهي في الموسّعات - إلي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) وإلي الأئمّة الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام.

كلام الشيخ المرواريد(رحمه الله) في التفويض إلي الأئمّة(عليهم السلام)

ويناسب نقل ما تعرّض له في هذا المقام شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا حسنعليّ المرواريد(قدس سره)، قال:

وأمّا التفويض إليهم صلوات اللّه عليهم في أمر الدين فيدلّ عليه غير واحد من الروايات، أورد عدّة منها المجلسيّ(قدس سره) في المجلّد السابع من البحار. وإنّما الإشكال في موضوعه وحدوده.

فنقول - بعد وضوح بطلان القول به علي نحو العموم بأن يحلّلوا ما شاؤوا ويحرّموا ما شاؤوا من غيروحي وإلهام من اللّه تعالي، أو يغيّروا ما أوحي إليهم بآرائهم، كما يظهر لمن تتبّع أحوال النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) وما وصل إلينا منه ومن أوصيائه، وأنّه كان ينتظر الوحي، بل لا يقول به عاقل -: إنّ الذي يظهر من مجموع الروايات المباركات أنّ الأحكام الصادرة منهم لبيان وظائف الناس علي قسمين:

القسم الأوّل: أحكام فرضها اللّه تعالي، وكان شأن النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) إبلاغها، إمّا بنحو كلّيّ أو بصورة الحكم الجزئيّ الذي يشمله الحكم الكلّيّ الصادر من اللّه تعالي. ويعبّر عن تلك الأحكام بالفريضة أو بفرض اللّه، وهذا يعمّ الواجبات والمحرّمات بل وغيرهما، فإنّ كلّ حكم شرعه اللّه تعالي وعيّنه - تكليفيّاً كان أو وضعيّاً - فهو فريضة

ص: 398


1- 753.. بصائر الدرجات، ص343، ح9؛ بحارالأنوار، ج46، ص23، ح5.

منه تعالي وإن كان الشايع استعمالها في الواجبات.

القسم الثاني: أحكام فوّض أمرها إلي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) وجعل له الولاية عليها، وهذا علي ثلاثة أقسام كلّها من شؤون الولاية التشريعيّة التي جعلها اللّه تعالي للنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) - بلا إشكال - وللأئمّة: أيضاً طبق ظاهر بعض الروايات كما سيأتي، وهذه الأقسام هي:

الأوّل: تشريع الحكم الدائم، وموضوعه ما لم يشرّع اللّه فيه حكماً، فإنّه الذي فوّض أمره إلي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، وعبّر عنه تارة بالسنّة، وأخري بفرض النبيّ، وهذا ثابت للنبيّ كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: تشريع الحكم الموقّت لمصالح وقتيّة. وهذا ثابت للنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، كما في نهيه عن أكل لحوم الحُمُر الأهليّة في بعض الغزوات.(1) وظاهر بعض الروايات ثبوته للأئمّة: أيضاً، كما روي في جعل عليّ(عليه السلام) الزكاة علي الخيل العتاق،(2) وإيجاب الإمام الجواد(عليه السلام) الخمس علي عدّة من أصحابه في بعض أموالهم الزكويّة،(3) علي إشكال في أنّ هذا قسم مستقلّ أو مندرج في القسم الآتي ولعلّه الأقرب.

الثالث: الأوامر والنواهي أو ما يؤدّي مؤدّاهما الصادرة منهم من غير تصريح بالوجوب أو التحريم علي نحو العموم أو الخصوص. وهذا من شؤون ولايتهم تشريعاً علي كيفيّة التبليغ، وإعمال اللحن، والمعاريض، والتورية من غير كذب، وإبراز الحكم الغير الإلزاميّ بصورة الإلزام تربية أو تقيّة. وهذا ثابت للنبيّ والأئمّة: بلا إشكال.(4)

أدّبه علي أدبه ثمّ فوّض إليه أمر دينه

ولا يخفي أنّ هذا التفويض إليهم صلوات اللّه عليهم إنّما يكون بعد أن أدّبهم اللّه تعالي بتأديبه وبعد أن أعطاهم علم المصالح والمفاسد كما ورد في الأخبار، فهم لا يشاؤون إلّا ما يشاء اللّه ربّ العالمين، ولا يحكمون إلّا بما يرضي به الربّ جلّ جلاله، فلا يلزم من تفويض أمر الدين إليهم إبطال شرايع اللّه تعالي ولا خراب دينه.

ص: 399


1- 754.. وسائل الشيعة، ج 24، ص117، ح1[30120].
2- 755.. وسائل الشيعة، ج 9، ص77، ح1[11520].
3- 756.. وسائل الشيعة، ج 9، ص501، ح5[12583].
4- 757.. تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص246-247.

بعبارة واضحة: بما أنّ حكمهم(عليهم السلام) حكم اللّه ورضاهم رضاه، وبما أنّهم عالمون بما يرضي به اللّه وما لا يرضي به فوّض اللّه إليهم أمر دينه في الجملة، إظهاراً لشأنهم وعلوّ مقامهم ولكي يميّز المطيع لنبيّه وأوصيائه(عليهم السلام) من العاصي. قال تعالي:

﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلنا لِنَعْلَمَ مِن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ﴾؛(1)

و﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُ-حَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَ-جِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.(2)

فلذا تري أنّ الذين في قلوبهم مرض كانوا يسألون النبيّ دائماً: هل إنّ هذا الحكم حكم من اللّه أو شيء حكمت به من عندك؟(3)

روي الصدوق في العيون عن ماجيلويه عن عليّ عن أبيه عن ياسر الخادم قال: قلت للرضا(عليه السلام): ما تقول في التفويض؟ فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالي فوّض إلي نبيّه(صلي الله عليه آله و سلم) أمر دينه فقال:

﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾،(4) فأمّا الخلق والرزق فلا. ثمّ قال(عليه السلام): إنّ اللّه عزّ وجلّ خالق كلّ شيء وهو يقول عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُ-حْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذلِكُم مِن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.(5)-(6)

ص: 400


1- 758.. البقرة2.، الآية 143.
2- 759.. النساء4.، الآية 65.
3- 760.. روي العامّة أنّه لمّا بلغ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) غدير خم ما بلغ، وشاع ذلك في البلاد أتي جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدريّ. فقال: يا محمّد! أمرتنا من اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه وبالصلاة والصوم والحجّ والزكاة، فقبلنا منك ثمّ لم ترض بذلك حتّي رفعت بضبع ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه. فهذا شيء منك أم من اللّه؟ فقال رسول اللّه: والذي لا إله إلّا هو أنّ هذا من اللّه. فولّي جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتّي رماه اللّه بحجر، فسقط علي هامّته وخرج من دبره وقتله. وأنزل اللّه تعالي: سأل سائل بعذاب واقع الآية. راجع: الغدير، ج1، ص239-269.
4- 761.. الحشر59.، الآية 7.
5- 762.. الروم30.، الآية 40.
6- 763.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج2، ص202، ح3؛ بحارالأنوار، ج25، ص328، ح1.

روي الصفّار في البصائر عن بن يزيد عن ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي أسامة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه خلق محمّداً عبداً فأدّبه حتّي إذا بلغ أربعين سنة أوحي إليه وفوّض إليه الأشياء فقال: ﴿مَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.(1)

وروي عن أحمد بن محمّد عن الحجّال عن ثعلبة عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد اللّه(عليهما السلام) يقولان:

إنّ اللّه فوّض إلي نبيّه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.(2)

وروي عن أحمد بن محمّد عن البزنطيّ عن حمّاد بن عثمان عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

وضع رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) دية العين ودية النفس ودية الأنف وحرّم النبيذ وكلّ مسكر، فقال له رجل: فوضع هذا رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ويعصيه.(3)

وروي عن ابن يزيد عن أحمد بن الحسن بن زياد عن محمّد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول:

إنّ اللّه أدّب رسوله حتّي قوّمه علي ما أراد ثمّ فوّض إليه فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ فما فوّض اللّه إلي رسوله فقد فوّضه إلينا.(4)

وفي بصائر الدرجات: في نوادر محمّد بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

لا واللّه ما فوّض اللّه إلي أحد من خلقه إلّا إلي الرسول وإلي الأئمّة(عليهم السلام) فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْ-حَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾(5) وهي جارية في الأوصياء.(6)

ص: 401


1- 764.. بصائر الدرجات، ص378، ح1؛ بحارالأنوار، ج25، ص331، ح6.
2- 765.. بصائر الدرجات، ص379، ح7؛ بحارالأنوار، ج25، ص332، ح7.
3- 766.. بصائر الدرجات، ص381، ح14؛ بحارالأنوار، ج25، ص332، ح8.
4- 767.. بصائر الدرجات، ص383، ح1؛ بحارالأنوار، ج25، ص332، ح9.
5- 768.. النساء4.، الآية 105.
6- 769.. بصائر الدرجات، ص386، ح12؛ بحارالأنوار، ج25، ص334، ح11.

الاختصاص وبصائر الدرجات: بسندهما عن ابن عميرة عن الثماليّ قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول:

من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأنّ الأئمّة منّا مفوّض إليهم، فما أحلّوا فهو حلال وما حرّموا فهو حرام.(1)

بصائر الدرجات: أحمد بن موسي عن عليّ بن إسماعيل عن صفوان عن عاصم بن حميد عن أبي إسحاق عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول:إنّ اللّه أدّب نبيّه علي محبّ-ته فقال: ﴿إِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2) ثمّ فوّض إليه فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ وقال: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾(3) قال: ثمّ قال: وإنّ نبيّ اللّه فوّض إلي عليّ وائتمنه، فسلّمتم وجحد الناس، واللّه لحسبكم أن تقولوا إذا قلنا وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين اللّه فما جعل اللّه لأحد من خير في خلاف أمرنا.(4)

من كتاب رياض الجنان لفضل اللّه بن محمود الفارسيّ بالإسناد عن محمّد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) فذكرت اختلاف الشيعة فقال:

إنّ اللّه لم يزل فرداً متفرّداً في الوحدانيّة ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة(عليهم السلام) فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق الأشياء وأشهدهم خلقها، وأجري عليها طاعتهم، وجعل فيهم ما شاء، وفوّض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق، لأنّهم الولاة فلهم الأمر والولاية والهداية، فهم أبوابه ونوّابه وحجابه يحلّلون ما شاء ويحرّمون ما شاء، ولا يفعلون إلّا ما شاء، ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾.(5) فهذه الديانة التي من تقدّمها غرق في بحر الإفراط ومن نقصهم عن هذه المراتب التي رتّبهم اللّه فيها زهق في برّ التفريط، ولم يوف آل محمّد حقّهم فيما يجب علي المؤمن من معرفتهم، ثمّ قال: خذها يا محمّد فإنّها من مخزون العلم ومكنونه.(6)

ص: 402


1- 770.. بصائر الدرجات، ص384، ح3؛ الاختصاص، ص330؛ بحارالأنوار، ج25، ص334، ح12.
2- 771.. القلم68.، الآية 4.
3- 772.. النساء4.، الآية 80.
4- 773.. بصائر الدرجات، ص384، ح4؛ بحارالأنوار، ج25، ص334، ح13.
5- 774.. الأنبياء21.، الآيتان 26-27.
6- 775.. بحارالأنوار، ج25، ص339، ح21.

الاختصاص: بسنده عن جابر بن يزيد قال: تلوت علي أبي جعفر(عليه السلام) هذه الآية من قول اللّه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾(1) فقال:

إنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) حرص أن يكون عليّ وليّ الأمر من بعده فذلك الذي عني اللّه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾. وكيف لا يكون له من الأمر شيء وقد فوّض اللّه إليه فقال: ما أحلّ النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) فهو حلال، وما حرّم النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) فهو حرام.(2)بصائر الدرجات: ابن يزيد عن زياد القنديّ عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: كيف كان يصنع أميرالمؤمنين(عليه السلام) بشارب الخمر؟ قال:

كان يحدّه قلت: فإن عاد؟ قال: كان يحدّه، قلت: فان عاد؟ قال: يحدّه ثلاث مرات، فإن عاد كان يقتله، قلت: كيف كان يصنع بشارب المسكر؟ قال: مثل ذلك، قلت: فمن شرب الخمر كمن شرب المسكر؟ قال: سواء. فاستعظمت ذلك فقال: لا تستعظم ذلك إنّ اللّه لمّا أدّب نبيّه(صلي الله عليه آله و سلم) ائتدب ففوّض إليه، وإنّ اللّه حرّم مكة وإنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) حرّم المدينة، فأجاز اللّه له ذلك، وإنّ اللّه حرّم الخمر وإنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) حرّم المسكر فأجاز اللّه ذلك كلّه له، وإنّ اللّه فرض فرائض من الصلب و إنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) أطعم الجدّ فأجاز اللّه ذلك له، ثمّ قال: حرف وما حرف: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾(3).(4)

كلام العلّامة المجلسيّ في تفويض أمر الدين

قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره):

الثاني التفويض في أمر الدين، وهذا أيضاً يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون اللّه تعالي فوّض إلي النبيّ والأئمّة: عموماً أن يُحلّوا ما شاؤوا ويُحرّموا ما شاؤوا من غير وحي وإلهام أو يغيّروا ما أوحي إليهم بآرائهم وهذا باطل لا يقول به عاقل، فإنّ النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) كان ينتظر الوحي أيّاماً كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده، وقد قال تعالي: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي * إِنْ هُوَ إلنا وَحْيٌ يُوحَي﴾.(5)

ص: 403


1- 776.. آل عمران3.، الآية 128.
2- 777.. الاختصاص، ص332؛ بحارالأنوار، ج25، ص339، ح22.
3- 778.. النساء4.، الآية 80.
4- 779.. بصائر الدرجات، ص381، ح13؛ بحارالأنوار، ج25، ص339، ح22.
5- 780.. النجم53.، الآيتان 3 -4.

وثانيهما: أنّه تعالي لمّا أكمل نبيّه(صلي الله عليه آله و سلم) بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئاً إلّا ما يوافق الحقّ والصواب ولا يحلّ بباله ما يخالف مشيّ-ته تعالي في كلّ باب فوّض إليه تعيين بعض الأمور، كالزيادة في الصلاة وتعيين النوافل في الصلاة، والصوم، وطعمة الجدّ، وغير ذلك ممّا مضي وسيأتي إظهاراً لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلّا بالوحي، ولم يكن الاختيار إلّا بإلهام، ثمّ كان يؤكّد ما اختاره(صلي الله عليه آله و سلم) بالوحي، ولا فساد في ذلك عقلاً وقد دلّت النصوص المستفيضة عليه ممّا تقدم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبيّنا(صلي الله عليه آله و سلم) من المجلّدالسادس. ولعلّ الصدوق(رحمه الله) أيضاً إنّما نفي المعني الأوّل حيث قال في الفقيه: «وقد فوّض اللّه عزّوجلّ إلي نبيّه(صلي الله عليه آله و سلم) أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدّي حدوده». وأيضاً هو(صلي الله عليه آله و سلم) قد روي كثيراً من أخبار التفويض في كتبه ولم يتعرّض لتأويلها.

الثالث: تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبّوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا، وهذا حقّ لقوله تعالي: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَ-خُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(1) وغير ذلك من الآيات والأخبار، وعليه يحمل قولهم: «نحن المحلّلون حلاله والمحرّمون حرامه»(2) أي بيانهما علينا، ويجب علي الناس الرجوع فيهما إلينا، وبهذا الوجه ورد خبر أبي إسحاق والميثميّ.

الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام بما رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم، أو بسبب التقيّة فيفتون بعض الناس بالواقع من الأحكام، وبعضهم بالتقيّة ويبيّنون تفسير الآيات وتأويلها، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل، ولهم أن يبيّنوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في أخبار كثيرة: «عليكم المسألة وليس علينا الجواب»،(3) كلّ ذلك بحسب ما يريهم اللّه من مصالح الوقت كما ورد في خبر ابن أشيم وغيره. وهو أحد معاني خبر محمّد بن سنان في تأويل قوله تعالي: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾،(4) ولعلّ تخصيصه بالنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) والأئمّة(عليهم السلام) لعدم تيسّر هذه التوسعة لسائر الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، بل كانوا

ص: 404


1- 781.. الحشر59.، الآية 7.
2- 782.. بحارالأنوار، ج25، ص339.
3- 783.. راجع: الكافي، ج1، ص212؛ بحارالأنوار، ج23، ص177، ح16 و ج23، ص178، ح21.
4- 784.. بحارالأنوار، ج25، ص334، ح11، والآية في سورة النساء4.، الآية 105.

مكلّفين بعدم التقيّة في بعض الموارد وإن أصابهم الضرر، والتفويض بهذا المعني أيضاً ثابت حقّ بالأخبار المستفيضة.

الخامس: الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم اللّه من الواقع ومخّ الحقّ في كلّ واقعة، وهذا أظهر محامل خبر ابن سنان وعليه أيضاً دلّت الأخبار.

السادس: التفويض في العطاء فإنّ اللّه تعالي خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس والصفاياوغيرها فلهم أن يعطوا ما شاؤوا ويمنعوا ما شاؤوا، كما مرّ في خبر الثماليّ وسيأتي في مواضعه، وإذا أحطت خُبراً بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم الأخبار الواردة فيه وعرفت ضعف قول من نفي التفويض مطلقاً ولما يحط بمعانيه.(1)

ثمّ لا يخفي أنّ البحث عن التفويض في التكوين والخلق والرزق، وكذا التفويض في أمر الدين والتشريع، ممّا يحتاج إلي مجال واسع وليس هنا محلّه، وقد تعرّضنا للبحث عنه مع بيان معاني التفويض وذكر الأدلّة علي المختار في كتابنا: النفحات الرضويّة في إثبات الولاية التكوينيّة والتشريعيّة، فمن أراد تحقيق المقال فليراجعه.(2)

ص: 405


1- 785.. بحارالأنوار، ج25، ص348.
2- 786.. وراجع أيضاً ما كتبه شيخنا الأستاذ آية اللّه الشيخ عليّ النمازيّ الشاهروديّ في مستدرك سفينة البحار مادّة «فوض»، وآية اللّه الميرزا حسنعليّ المرواريد في كتابه تنبيهات حول المبدأ والمعاد، وراجع أيضاً: بحار الأنوار، ج17 (باب: وجوب طاعته وحبّه والتفويض إليه(صلي الله عليه آله و سلم))، و ج 25، ص328 (فصل في بيان التفويض ومعانيه).

ص: 406

الباب الخامس : نظريّة الأمر بين الأمرين

اشارة

وفيه فصول

الفصل الأوّل: تحليل الأمر بين الأمرين

الفصل الثاني: التوفيق والخذلان

الفصل الثالث: الأخبار في بيان الأمر بين الأمرين

الفصل الرابع: توضيح وتحليل حول حديث القدسيّ:

«يابن آدم أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي»

الفصل الخامس: الأمر بين الأمرين حقيقة واسعة

الفصل السادس: وجوه أخري في تفسير الأمر بين الأمرين

ص: 407

ص: 408

الفصل الأوّل :تحليل الأمر بين الأمرين

اشارة

ص: 409

ص: 410

معجزة أهل البيت(عليهم السلام) في بيان الأمر بين الأمرين

نظريّة الأمر بين الأمرين أو المنزلة بين المنزلتين هي التي تفرّدت بها الشيعة الإماميّة تبعاً لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، ودلّت عليها آيات وروايات كثيرة. ولعمري إنّها من المعاجز العلميّة لهم(عليهم السلام)، فإنّ البشر لو خُلّي ونفسه من دون تذكّرات العلماء الربّانيّين إمّا يعتقد بالجبر أو بالتفويض، ولكنّ القرآن والروايات بيّنّا حقيقة الأمر الذي غفل عنه البشر وقالوا: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»وقد يعبّر عنها بأنّه «منزلة بين المنزلتين وهي أوسع ممّا بين السماء والأرض»، والأئمّة(عليهم السلام) قد تحدّوا الناس بهذه النظريّة فأعيوهم جميعا.

روي الكلينيّ بسنده عن صالح بن سهل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال، سئل عن الجبر والقدر فقال:

لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما، فيها الحقّ التي بينهما لا يعلمها إلّا العالم أو من علّمها إيّاه العالم.(1)

ونحن - بعد تذكيرات أهل الذكر - نشاهد صدق ما بيّنوه(عليهم السلام) بالوجدان، لكنّ الذين أعرضوا عن باب العلم وتوهّموا أنّ العلم هو ما يؤخذ عن سواهم، تاهوا وضلّوا وأضلّوا، وإليك بيان ذلك.

تنبيهات إلي حقيقة الأمر بين الأمرين

كلّ عاقل يجد بعقله ضرورةً بطلان أمرين:

ص: 411


1- 787.. الكافي، ج1، ص159، ح10.

أحدهما: أن يكون الإنسان ملجئاً ومكرهاً ومجبوراً في أفعاله الاختياريّة، فقد سبق التنبيه أنّ الاستضائة بالعلم والقدرة فينا من أبده البديهيّات، وعليه يترتّب نظام المعاش والمعاد حتّي عند القائلين بالجبر. والشاهد علي ذلك هو الأوامر والنواهي من الموالي إلي العبيد، ووضع القوانين من قبل الدول والحكومات والدوائر، وعقاب المتخلّفين، وإسناد جملة من الأمور إلي الإنسان دون بعض آخر وغير ذلك. فمالكيّة الإنسان للعلم والقدرة والاستطاعة والمشيّة من أوضح الأمور لدي كلّ عاقل.

ثانيهما: أن يكون الإنسان هو المالك الحقيقيّ للعلم والقدرة وهكذا الحياة والاستطاعة، فإنّ من الواضح أنّ هذه الأمور ليست ذاتيّة له. والشاهد علي جميع ذلك هو الوجدان، فإنّا نجد أنّ القدرة والسلطنة والعلم قد تسلب عنّا أحياناً من دون اختيار منّا، بل نريد بقائها فلا تبقي لنا وتؤخذ عنّا قهراً، وفي حال كوننا مالكين لها نجد أنّ قوامها لا يكون بأيدينا ولا طوعاً لإرادتنا. فهذه الكمالات موجودة لنا في حال اليقظة دون المنام، وفي زمن الشباب دون الصغر والهرم، وفي حال السلامة دون المرض. ولسنا عالمين بجميع الأفعال ولا قادرين عليها، فكم من عمل لا نقدر عليه وكم من شيء لا نعرفه، بل ما لا نقدر عليه وما لا نعلمه أكثر ممّا نقدر ونعلم بما لا يحصي ذلك أنّ الإنسان إذا كانت ذاته عين القدرةوالعلم لا يعقل عدم قدرته علي شيء دون شيء بل يكون علي كلّ شيء قدير ولمّا نري من أنفسنا العجز - مع القدرة علي بعض الأفعال - نعرف أنّ القدرة ليست ذاتيّة للإنسان. فكلّ هذه آيات وبراهين علي أنّ العلم والقدرة والحياة والاختيار ليسوا حيث ذواتنا فتارة نجدها وأخري نفقدها. فيظهر بنور العقل أنّ حيث ذواتنا حيث العجز والجهل، لأنّا لو كنّا قادرين وعالمين ذاتاً لما انفكّ العلم والقدرة عنّا أبداً، فإنّه من المستحيل انفكاك الذاتيّات عن الذات، فيظهر أنّ اللّه تبارك وتعالي هو الذي يعطي ويأخذ ويقبض ويبسط، قال تعالي:

﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾؛(1)

ص: 412


1- 788.. النحل16.، الآية 78.

و﴿وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾؛(1)

و﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَ-خْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.(2)

فالإعطاء بعد الفقدان والحرمان بعد الوجدان أعظم دليل علي عدم كون القدرة والعلم وهكذا سائر الكمالات عين ذواتنا وتحت إرادتنا ولسنا مالكين لها، حيث إنّه لو كانت تحت إرادتنا لكنّا قادرين علي الامتناع من سلبها عنّا وكنّا قادرين علي تحصيلها كيفما نريد مع أنّا نشاهد أنّ كثيراً من الأشياء لا نقدر عليها أبدا.

وبالجملة إنّ الوجدان والفطرة يناديان بأعلي صوتهما ويصدّقان ما قاله جلّ جلاله:

﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَي اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْ-حَمِيدُ﴾.(3)

فكلّما نجد شيئاً من العلم والقدرة والحياة والاستطاعة يكون بإعطاء من اللّه تعالي، وكلّما يزداد ذلك يكون بفضل اللّه ورحمته علينا، وكلّما أراد سلبها عنّا سلبها، فهذه الكمالات ملك للّه تعالي حقيقة وقد ملّكنا ما هو أملك به منّا حدوثاً وبقاءا.

وأيضاً يجد كلّ عاقل أنّه لولا عونه تعالي وهداياته، وترغيبه في الحسنات وتحذيره عن السيّئات، وتذكيراترسله وغير ذلك من توفيقاته تبارك تعالي، لما حصل للإنسان داعٍ إلي الإيمان والعمل الصالح وما كان ليتحرّك نحوهما مع كونه قادراً عليهما. وهكذا لولا خذلانه تعالي، وترك العبد ونفسه حينما يعرض وجهه عن تلكم الهدايات والتوفيقات لما عصاه أحد مع القدرة علي ترك المعصية.

إذا عرفت ذلك تعلم حقيقة الأمر بين الأمرين؛ فإنّه لا جبر لوجود السلطنة والقدرة والاختيار في الأفعال الصادرة عن الإنسان، ولا تفويض لأنّه تعالي قد ملّكنا القدرة والعلم والاستطاعة بلا تفويض إلينا فنحن لكي نبقي فاعلين قادرين نحتاج أشدّ الاحتياج إلي

ص: 413


1- 789.. النحل16.، الآية70.
2- 790.. الروم30.، الآية 54.
3- 791.. الفاطر35.، الآية 15.

دوام لطفه وإنعامه وتفضّله تعالي آناً فآناً، بل أقلّ من الآن بكثير، ولا يتصوّر الاستقلال للإنسان في آنٍ من الآنات، مضافاً إلي وجود توفيقاته وخذلانه عزّوجلّ.

فنحن قادرون بالقدرة التي أعطانا اللّه تعالي، وفاعلين بالسلطنة التي ملّكنا اللّه، ومريدون بالاستطاعة التي وهبنا اللّه تعالي، وأبقاها لنا إلي آخر آنات صدور الفعل عنّا، كما نقول في صلواتنا بتعليم أئمّتنا عليهم أفضل الصلاة والسلام: «بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد». قال تعالي:

﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾؛(1)

و﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛(2)

و﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾؛(3)

و﴿إِنْ هُوَ إلنا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛(4)

و﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾.(5)

بيان السيّد الخوئيّ(رحمه الله) للأمر بين الأمرين

ولعلّ المثال الذي يقرّب المطلب إلي الذهن بقدر - وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد من جهات - هو ما ذكره بعض الأعاظم(قدس سره):

وذلك كما إذا افترضنا أنّ للمولي عبداً مشلولاً غير قادر علي الحركة، فربط المولي بجسمه تيّاراًكهربائيّاً ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً نحو العمل، وليصبح بذلك قادراً علي تحريكها، وأخذ المولي رأس التيّار الكهربائيّ بيده وهو الساعي لإيصال القوّة في كلّ آن إلي جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آن عن السلك الكهربائيّ

ص: 414


1- 792.. المائدة5.، الآية 48.
2- 793.. الفاتحة1.، الآية 5.
3- 794.. الانسان76.، الآية 30.
4- 795.. التكوير81.، الآية 27-29.
5- 796.. الكهف18.، الآيتان 23-24.

انقطعت القوّة عن جسمه فيه وأصبح عاجزا.(1)

وعلي هذا فلو أوصل المولي تلك القوّة إلي جسمه وذهب باختياره وقتل شخصاً والمولي يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلي الفاعل لأنّه صار متمكّناً من إيحاد الفعل وعدم إيجاده، بعد أن أوصل المولي القوّة إليه وأوجد القدرة في عضلاته، ففعل ما فعل باختياره وإرادته. وأمّا المولي فهو وإن كان له دخل في صدور الفعل عن العبد من جهة إعطائه القدرة وإمكان سلبها عنه، إلّا أنّ القدرة هي السلطنة علي الفعل والترك، فلذا لا يصحّ إسناد الفعل إلي المولي بمجرّد إعطائه القدرة للعبد، وليس هذا نظير ما إذا أعطي أحد السكّين إلي من يريد القتل، فإنّه - مع ملاحظة حال الفاعل - سينحصر استعماله السكين في القتل.

ولكنّه تعالي - مضافاً إلي أن ملّكنا القدرة والعلم وساير الكمالات وهو تعالي أملك بها، ومضافاً إلي أنّ كوننا وحياتنا إنّما تكون به تعالي في جميع الآنات، والحال أنّ حياة العبد وعلمه وكذا قدرته بعد إيصال التيّار إلي بدنه، بل إيجاد القوّة الكهربائيّة في المثال المذكور، ليست بيد المولي -: قد أعان عباده علي الإيمان والطاعة والعمل الصالح وأمرهم بها، ورغّبهم فيها وشوّقهم إليها، وأرسل من يحثّهم عليها ويذكّرهم بعد ما فطرهم عليها، ومن جهة أُخري نهي عن القبائح وحذّرهم عنها بعد ما فطرهم علي معرفة قبحها. فالمؤمنون إنّما يؤمنون ويعملون الصالحات بعونه وتوفيقه تعالي ويجتنبون القبايح بعصمته، أمّا الكفّار والعصاة فإنّما كفروا وعصوا إعراضاً منهم عن هدايات ربّهم وتذكيرات رسله، فبإعراضهم وإصرارهم علي المعاصي خذلهم اللّه ووكلهم إلي أنفسهم، ولم يَحُل بينهم وبين معصيتهم وصرف عنهم آياته، قال تعالي: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْ-حَقِّ﴾.(2)

ص: 415


1- 797.. محاضرات في أصول الفقه (تقرير أبحاث السيّد الخوئيّ(قدس سره))، ج 2، ص86.
2- 798.. الأعراف7.، الآية 146.

هذا من جهة، ومن جهة أُخري جرت سنّة اللّه تعالي علي زيادة الذين قبلوا عونه تعالي وهدايته وعملوا الصالحات هديً بعد هدي، وعوناً بعد عون، فلا حول عن معاصي اللّه إلّا بعصمة اللّه، ولا قوّة لنا علي طاعة اللّه إلّا بعون اللّه.

كلام الميرزا مهديّ الأصفهانيّ(رحمه الله) في الأمر بين الأمرين

قال شيخ مشايخنا فقيه أهل البيت العلّامة آية اللّه الميرزا مهديّ الإصفهانيّ(رحمه الله) ورفع درجته في بيان حقيقة الأمر بين الأمرين ما محصّله:

أنّ شبهة الجبر والتفويض من الشبهات العضال التي عجز جلّ أكابر البشر عن حلّها بحيث لا يلزم أحد المحذورين: من استغناء المخلوق عن الحقّ تعالي شأنه واستقلاله في الفاعليّة، أو من نسبة الأفعال كلّها إلي الحقّ تعالي. فإنّ الأوّل شرك والثاني كفر، بل التزموا بأحد المحذورين. وأعاظم الحكماء والعرفاء اختاروا صحّة نسبة الأفعال كلّها إلي الحقّ المتعال وسمّوه التوحيد الأفعاليّ.

أمّا صاحب الشريعة المقدّسة فقد جاء في حلّها بما يبهر العقول من تذكّره إلي فقر الفاعل في ذاته وأفعاله إلي الحقّ في عين امتناع نسبة الأفعال إليه سبحانه.

وجملة الكلام: أنّ البشر من حيث ذاته وقواه لا شيئيّة له بذاته بوجه من الوجوه حتّي الشيئيّة الماهويّة، بل هو حيث الشيئيّة والكون بالغير، فحيث ذاته صرف الفقر والعجز والموت والجهل، ولكن اللّه الذي هو مُشيّء الأشياء ومكوّنها، شيّئه وكوّنه وملّكه الحياة والعلم والعقل والقوّة والقدرة، في عين كونه تعالي أملك بكلّها حال تمليكه إيّاها. فلا استقلال له بوجه من الوجوه ولا استغناء له عنه تعالي، فلا تفويض لاحتياجه في ذاته وقواه في كلّ الآنات إليه تعالي وإلي حوله وقوّته وإلطافه وإمداده. وحيث إنّ العبد مالك بالحقيقة لتلك الكمالات والنعمات بتمليكه تعالي، يكون نسبة الأفعال إليه تعالي خلاف مالكيّة العبد للرأي والاختيار، وحيث إنّ مالكيّة الرأي المخصّص للطرفين (أي الفعل والترك) عين القدرة علي الطرفين، ولا يكون مرجّح أحدهما غير الرأي،ولا يتوقّف الرأي إلّا علي القدرة، ولا ينشأ ولا يتحقّق إلّا بها ومنها، فلا جبر، ويمتنع عليه شيء من التوفيقات والخذلانات في تحقّق الفعل أو تركه للخلف.

ص: 416

بعبارة ثانية: من تأمّل في القرآن والروايات المتواترة، يري أنّها تذكرة إلي ما هو الظاهر لكلّ أحد من فقره الذاتيّ، ووجدانه الحياة والعلم والشعور والقوّة والرأي مرّة وفقدانه أخري، وإلي تحقّق أفعاله المقدورة عن رأيه المخصِّص لأحد الطرفين بعد فرض المرجّحات والمقتضيات لأحد الطرفين، ولظهور ذلك يحكمون بحسن أفعالهم وقبحها واستحقاق الثناء والمدح والعقاب والقدح. مثلاً مدافع البول إذا لم يسلب قدرته، مع أنّ فيه اقتضاء دفع البول، يكون دفعه أو حبسه عن رأيه فبرأيه ومشيّته يدفع أو يمنع، وصدور المقتضي ليس إلّا عن رأيه ومشيّته، ولا يقع المقتضي عن المقتضي قهراً وجبراً، كما هو واضح.

وبعبارة ثالثة: التصريح بالاستطاعة في الآيات والروايات، عين التذكّر بالقدرة الظاهرة لكلّ أحد، والتصريح بأنّها ملك اللّه تعالي يملكها العبد بتمليكه تعالي وهو أملك منه، نفي التفويض بمعانيه. فإنّ توهم كون الاستطاعة والقدرة عين ذات الإنسان هو الكفر، وتوهّم كونها للّه ولنفسه معاً هو الشرك، وتوهّم أنّ القدرة المفاضة عليه مطلقة لا يملكها الحقّ، ويكون له الأمر والمشيّة والإرادة علي الإطلاق هو عزل الحقّ عن السلطنة، فلا بدّ من نفي الكلّ والقول بأنّه المالك المملِّك لما ملّكهم، والقادر علي ما عليه أقدرهم. وهم مستطيعون باللّه لا مع اللّه ولا من دون اللّه، كما هو صريح الروايات.

وواضح أنّ قوام القدرة بمالكيّة الرأي المخصِّص لأحد الطرفين، فعند القدرة يتحقّق المالكيّة، فلو صدر الفعل أو الترك بالرأي فهو المختار في الفعل والترك، وتكون العلّة في الفاعليّة والتخصيص رأي الفاعل لا غير. فلو كانت غير رأيه يكون مكرهاً أو مجبوراً أو مضطرّاً وعناوين الاختيار والإكراه والاضطرار كثيرة في الآيات والأخبار، واختلاف المفاهيم الثلاثة وأحكامها وآثارها وجدانيّ.(1).

ص: 417


1- 799.. معارف القرآن المخطوط وقدنقل عنه شيخنا العلّامة النمازيّ في مستدرك سفينة البحار، ج2، ص5-7.

ص: 418

الفصل الثاني :التوفيق والخذلان

اشارة

ص: 419

ص: 420

قد علمت أنّ من أهمّ الأمور الدخيلة في معرفة حقيقة الأمر بين الأمرين هي معرفة التوفيق والخذلان، فلذا ينبغي لنا بيان حقيقتهما تفصيلاً - وإن مرّت الإشارة إليهما إجمالاً -، ويتّضح المراد عبر نقاط:

النقطة الأولي: في معني التوفيق والخذلان

إنّ المراد من التوفيق هو: العون وتسهيل العبادة والطاعة والإيمان. والمراد من الخذلان هو سلب التوفيق، وترك المعونة، وإيكال العبد إلي نفسه، والتخلية بينه وبين الشيطان. ويشير إلي هذا المعني للتوفيق والخذلان آيات وأخبار كثيرة، قال اللّه تعالي: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَي وَاتَّقَي * وَصَدَّقَ بِالْ-حُسْنَي * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَي * وَأَمَّا مَنْ بَ-خِلَ وَاسْتَغْنَي * وَكَذَّبَ بِالْ-حُسْنَي * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَي﴾.(1)

مفاد الآيات أنّ ما منه تعالي هو التيسير فقط، غاية الأمر أنّه تيسير لليسر بالنسبة إلي طائفة، وتيسير للعسر بالنسبة إلي أخري.

ويشهد علي هذا المعني ما رواه سعد بن طريف عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَي وَاتَّقَي * وَصَدَّقَ بِالْ-حُسْنَي﴾ فإنّ اللّه يؤتي بالواحدة عشرة إلي مائة ألف فما زاد ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَي﴾ قال:

لا يريد شيئاً من الخير إلّا يسّره اللّه له ﴿وَأَمَّا مَنْ بَ-خِلَ وَاسْتَغْنَي * وَكَذَّبَ

ص: 421


1- 800.. اللّيل92.، الآيات 5 - 10.

بِالْ-حُسْنَي﴾ بأن يعطي بالواحدة عشرة إلي مائة ألف فما زاد ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَي﴾ لا يريد شيئاً من الشرّ إلّا يسّره اللّه له ... .(1)

﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَ-جْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَ-جْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ﴾.(2)هذه الآية تُصرّح بأنّ صنعه تعالي هو شرح الصدر للإسلام، أو سلبه بأن يصير صدره ضيّقاً حرجاً من الإسلام.

روي الصدوق بإسناده عن حمدان بن سليمان النيسابوريّ، قال: سألت أباالحسن عليّ بن موسي الرضا(عليهما السلام) بنيسابور عن قول اللّه عزّوجلّ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ قال:

من يرد اللّه أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلي جنّته ودار كرامته في الآخرة، يشرح صدره للتسليم للّه، والثقة به، والسكون إلي ما وعده من ثوابه، حتّي يطمئنّ إليه، ومن يرد أن يضلّه عن جنّته ودار كرامته في الآخرة، لكفره به وعصيانه في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً حتّي يشكّ في كفره، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتّي يصير كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل اللّه الرجس علي الذين لا يؤمنون.(3)

المحاسن: أبي، عن فضالة، عن أبي بصير، عن خيثمة بن عبدالرحمن الجعفيّ قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول:

إنّ القلب ينقلب من لدن موضعه إلي حنجرته ما لم يصب الحقّ، فإذا أصاب الحقّ قرّ. ثمّ ضمّ أصابعه وقرأ هذه الآية: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَ-جْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾(4)-(5)

ص: 422


1- 801.. البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص678، ح11688؛ وسائل الشيعة، ج9، ص368، ح5 [12256].
2- 802.. الأنعام6.، الآية 125.
3- 803.. التوحيد، ص242، ح4؛ بحارالأنوار، ج5، ص200، ح22.
4- 804.. الأنعام6.، الآية 125.
5- 805.. المحاسن، ج1، ص202، ح41؛ بحارالأنوار، ج5، ص204، ح34.

التوحيد، معاني الأخبار: بإسناده عن جعفر بن سليمان البصريّ، عن الهاشميّ قال: سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد(عليهما السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: ... ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إلنا بِاللهِ﴾(1) وقوله عزّوجلّ: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَ-خْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ﴾؟(2) فقال:

إذا فعل العبد ما أمره اللّه عزّوجلّ به من الطاعة كان فعله وفقاً لأمر اللّه عزّوجلّ وسمّي العبد به موفّقاً، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي اللّه فحال اللّه تبارك وتعالي بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق اللّه تعالي، ومتي خلّي بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتّي يرتكبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.(3)

وقد ورد في الدعاء في معني التوفيق:وأسألك يا ربّ أن ... تحبّب إليَّ عبادتك والمواظبة عليها، وتنشّطني لها، وتبغّض إليّ معاصيك ومحارمك، وتدفعني عنها ... وتشرح صدري لإيتآء الزكوة ... وتصرف قلبي عن الحرام وتبغّض إليَّ معاصيك، وتحبّب إليَّ الحلال.(4)

في مناجاة مولانا زين العابدين(عليه السلام):

اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد واجعلنا ممّن سهّلت له طريق الطاعة بالتوفيق في منازل الأبرار، فحيّوا وقرّبوا وأكرموا وزيّنوا بخدمتك.(5)

في دعاء عشيّة يوم عرفة:

فكن اللهمّ الهادي في ذلك كلّه للصواب والمعين عليه بالتوفيق والرشاد، فصلّ علي محمّد وآل محمّد، وامنن عليّ بذلك يا أرحم الراحمين.(6)

قال ابن عبّاس:

ص: 423


1- 806.. هود11.، الآية 88.
2- 807.. آل عمران3.، الآية 160.
3- 808.. التوحيد، ص242، ح1؛ معاني الاخبار، ص21، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص199، ح21.
4- 809.. مفاتيح الجنان، دعاء عالية المضامين؛ بحارالأنوار، ج99، ص169.
5- 810.. بحارالأنوار، ج91، ص128.
6- 811.. إقبال الاعمال، ج1، ص402؛ بحارالأنوار، ج95، ص271.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه وتعالي أنزل الزكاة علي موسي(عليه السلام)، فلمّا أوجب اللّه سبحانه الزكاة عليهم أبي قارون فصالحه عن كلّ ألف دينار علي دينار، وعن كلّ ألف درهم علي درهم، وعن كلّ ألف شاة علي شاة، وعن كلّ ألف شيء شيئاً، ثمّ رجع إلي بيته فحسبه فوجده كثيراً فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم: يا بني إسرائيل إنّ موسي قد أمركم بكلّ شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا له: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيؤوا بفلانة البغيّ فنجعل لها جُعلاً علي أن تقذفه بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه. فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، وقيل طستاً من ذهب، وقيل: حكمها، وقال لها: إني أُموّلك وأُخلّطك بنسائي علي أن تقذفي موسي بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثمّ أتي موسي، فقال له: إنّ بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبيّن لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم، فخرج إليهم موسي وهم في براح من الأرض، فقام فيهم خطيباً ووعظهم فيما قال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افتري جلّدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلّدناهمائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتّي يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال قارون: فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة، قال: أنا؟! قال: نعم، قال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلمّا أن جاءت قال لها موسي: يا فلانة إنّما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء؟ وعظم عليها، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة علي موسي إلّا صدقت، فلمّا ناشدها تداركها اللّه بالتوفيق وقالت في نفسها: لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول اللّه، فقالت: لا، كذبوا، ولكن جعل لي قارون جُعلاً علي أن أقذفك بنفسي، فلمّا تكلّمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت.(1)

المحاسن: القاسم بن محمّد وفضالة، عن كليب بن معاوية الأسديّ قال: قال أبوعبد اللّه(عليه السلام):

ما أنتم والناس؟ إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء فإذا هو

ص: 424


1- 812.. بحارالأنوار، ج13، ص256 - 257.

يجول لذلك ويطلبه.(1)

وعنه: فضالة، عن القاسم بن يزيد عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

إذا أراد اللّه بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب يطلب الحقّ، ثمّ هو إلي أمركم أسرع من الطير إلي وكره.(2)

ففي هذه الروايات وغيرها ممّا لم نذكره قد فسّر التوفيق بالإعانة، وتسهيل طريق الطاعة، وإعطاء شرح الصدر للإيمان والعمل الصالح والتسليم للّه والثقة به، وتحبيب العبادة والتنشيط لها، وتبغيض المعاصي وصرف القلب عنها. كما فسّر الخذلان بسلب هذه الأمور والتخلية بين العبد وبين المعصية، وعدم الحول بينه وبينها، وجعل القلب ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد إلي السماء، ومن الواضح أنّ التوفيق والخذلان بهذا المعني لا يلجئان العبد إلي الفعل أو الترك كي يلزم الجبر.

وملخّص الكلام في معني التوفيق والخذلان: هو أنّ التوفيق عبارة عن تهيئة الأسباب من اللّه تعالي وفق ما أراده المكلّف بحسن اختياره بحيث لا يوجب إلجاء العبد وسلب القدرة عنه، والخذلان عبارة عن إيكال اللّه تعاليالعبد إلي نفسه والتخلية بينه وبين ما يريده من المعصية بسوء اختياره.

النقطة الثانية: إنّ الخذلان لا يكون إلّا مسبوقاً بالاختيار دون التوفيق

إنّ اللّه تعالي لا يخذل أحداً أبداً إلّا بعد ما يفعل بسوء اختياره ما يستحقّ الخذلان، فبعد ارتكابه للمعصية والكفران وإصراره عليها وبعد إتمام الحجّة عليه يخذله اللّه تعالي ويكله إلي نفسه، فالخذلان - دائماً - يكون عقوبة وجزاء للفعل الاختياريّ الصادر عن العبد. وهذا بخلاف التوفيق الذي لا يلزم فيه أن يكون مسبوقاً بفعل اختياريّ بل هو فضل منه تعالي لجميع المكلّفين إبتداء، من دون اشتراطه بأن يفعلوا ما يستحقّوا ذلك، نعم ازدياد التوفيق واشتداده رهين الشكر والإيمان والتسليم والطاعة، والإتيان بالصالحات.

ص: 425


1- 813.. المحاسن، ج1، ص200، ح36؛ بحارالأنوار، ج5، ص204، ح32.
2- 814.. المحاسن، ج1، ص21، ح37؛ بحارالأنوار، ج5، ص204، ح33.

ويدلّ علي ذلك جلّ ما ورد في الخذلان وكيفيّته، فإنّ في أكثر تلك النصوص ما يشير إلي سبب الخذلان منه تعالي، فتري أنّه تعالي يقول بعد ذكر كيفيّة الخذلان: ﴿كَذلِكَ يَ-جْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(1) أنّ عدم الإيمان منهم صار سبباً لأن يجعل صدره ضيّقاً حرجا.

ويشهد علي ذلك أنّ الناس كانوا في النشأة السابقة علي حدّ سواء وألزمهم اللّه تعالي الحجّة بتعريفه نفسه القدّوس وأوليائه وشريعته لهم، فوفّق اللّه الجميع للإيمان بتهيئة مقدّماته وأسبابه لهم مع أنّه لم يكن لهم في تلك النشأة شهوات فآمن بعض ولم يؤمن آخرون باختيارهم من دون إلجاء، كما بحثنا ذلك مفصّلا.(2)

ثمّ إنّ اللّه تعالي يوفّق المؤمنين في الدنيا جزاء لإيمانهم في تلك النشأة، كما أنّه تعالي يخذل الكفّار والعصاة في الدنيا لكفرهم في تلك النشأة. نعم لا تنحصر أسباب التوفيقات والخذلانات الإلهيّة بما صدر عن العباد في تلك النشأة كما أنّه لا تنحصر التوفيقات والخذلانات بتهيئة أسباب الطاعة وتيسيرها وكذا بإيكال العبد إلي نفسه في العوالم السابقة.

النقطة الثالثة: الهداية العامّة الحاصلة للجميع

إنّ الهداية الإلهيّة ذات درجات ومراتب، وقد حصل بعضها لجميع المكلّفين من المؤمنين والكفّار والمطيعين والعصاة، وهي استضائة الإنسان بنور العقل، وتذكيراتالأنبياء(عليهم السلام)، وهدايته وإرائته طريق الخير والشرّ، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإعطائه القدرة، وأمره بالعمل الصالح وإيجاد الشوق فيه بالنسبة إليه، إلي غير ذلك ممّا لو فقد العبد واحداً منها لا يتحرّك نحو الطاعة والإيمان. فاللّه تعالي هدي الجميع بالهداية العامّة فكانت رحمته تعالي قبل أعمال العباد هذا من جهة، ومن جهة أُخري شاء اللّه تعالي أن لا يخذل أحداً ما لم يصدر عنه ما يستحقّ ذلك، كما ورد بذلك الآيات والأخبار.

قال الصادق(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

ص: 426


1- 815.. الأنعام6.، الآية 125.
2- 816.. راجع كتابنا سدّ المفرّ علي منكر عالم الذرّ.

إنّي لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك، فرسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لم يجعل لذكره للّه عزّ وجلّ مقداراً، عند علمه بحقيقة سابقة ذكر اللّه عزّ وجلّ له من قبل ذكره له، فمن دونه أولي، فمن أراد أن يذكر اللّه تعالي، فليعلم أنّه عالم يذكر اللّه العبد بالتوفيق لذكره، لا يقدر العبد علي ذكره.(1)

روي الصدوق عن أبيه(رحمه الله)، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسي، عن محمّد بن خالد البرقيّ، عن عبد الملك بن عنترة الشيبانيّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: جاء رجل إلي أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، قال(عليه السلام):

بحر عميق فلا تلجه، قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، قال(عليه السلام): طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، قال(عليه السلام): سرّ اللّه فلا تكلّفه قال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن القدر، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أمّا إذا أبيت فإنّي سائلك، أخبرني أ كانت رحمة اللّه للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة اللّه؟! قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة اللّه للعباد قبل أعمال العباد، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): قوموا فسلّموا علي أخيكم فقد أسلم وقد كان كافراً ... .(2)

قال الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ﴾(3) قال:

حتّي يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه.(4)وقال في قوله عزّ وجلّ: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُ-جُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(5) قال:

بيّن لها ما تأتي وما تترك.(6)

ص: 427


1- 817.. بحارالأنوار، ج90، ص159، ح33؛ مصباح الشريعة، ص56
2- 818.. التوحيد، ص365، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص110، ح35.
3- 819.. التوبة9.، الآية 115.
4- 820.. المحاسن، ج1، ص276، ح389؛ بحار الأنوار، ج5، ص196، ح2.
5- 821.. الشمس91.، الآية 8.
6- 822.. الكافي، ج1، ص163، ح3؛ بحار الأنوار، ج5، ص196، ح3.

وقال في قوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(1) قال:

عرفناه إمّا آخذاً وإمّا تاركا.(2)

وفي قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي عَلَي الْهُدَي﴾(3) قال:

وهم يعرفون.(4)

وسئل عن قوله اللّه عزّ وجلّ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(5) قال:

نجد الخير ونجد الشرّ.(6)

أروي أنّ رجلاً سأل العالم(عليه السلام): أكلّف اللّه العباد ما لا يطيقون؟ فقال:

كلّف اللّه جميع الخلق ما لا يطيقون إن لم يعنهم عليه، فإن أعانهم عليه أطاقوه، قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه(صلي الله عليه آله و سلم): ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلنا بِاللهِ﴾(7).(8)

الطرائف: روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا(عليه السلام) بين يدي المأمون فقال: يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال:

اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذّبهم، قال: فمطلقون؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلي نفسه.(9)

في قنوت الإمام زين العابدين(عليه السلام):

اللهمّ إنّ جبلّة البشريّة، وطباع الإنسانيّة، وما جرت عليه تركيبات النفسيّة وانعقدت به عقود النسيّة، تعجز عن حمل واردات الأقضية، إلّا ما وفّقت له أهل الاصطفاء، وأعنت عليه ذوي الاجتباء، اللهمّ وإنّ القلوب في قبضتك، والمشيّة لك في ملكتك، وقد تعلم أي ربّ ما الرغبة إليك في كشفه واقعة

ص: 428


1- 823.. الانسان76.، الآية 3.
2- 824.. التوحيد، ص411، ح4؛ بحار الأنوار، ج5، ص196، ح4.
3- 825.. فصّلت41.، الآية 17.
4- 826.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص36؛ بحار الأنوار، ج5،، ص196، ح5.
5- 827.. البلد90.، الآية 10.
6- 828.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص37؛ بحار الأنوار، ج5، ص196، ح6.
7- 829.. النحل16.، الآية 127.
8- 830.. البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص467؛ بحارالأنوار، ج5، ص54.
9- 831.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص330؛ بحارالأنوار، ج5، ص59، ح110.

لأوقاتها بقدرتك، واقفة بحدّك من إرادتك.(1)

في الإقبال: في مناجاة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) والأئمّة من ولده(عليهم السلام)، كانوا يدعون بها في شهر شعبان:الهي لم يكن لي حول فانتقل به عن معصيتك إلّا في وقت أيقظتني لمحبّ-تك وكما أردت أن أكون كنت، فشكرتك بإدخالي في كرمك، ولتطهير قلبي من أوساخ الغفلة عنك.(2)

وهذه المرحلة من الهداية الإلهيّة الشاملة لكلّ أحد تسمّي بالهداية العامّة التي من دونها لا يقدر أحد علي الطاعة والإيمان ولاحول له علي ترك المعصية، كيف وإنّ الجبلّة البشريّة وطباع الإنسانيّة مع ما عليها من الضعف والعجز والجهل والشهوة والكسل تعجز عن ذلك، لولا عونه تعالي وتوفيقه ورحمته وهدايته، كما حكي اللّه تعالي عن العبد الصالح حيث قال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلنا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾.(3)

النقطة الرابعة: ازدياد التوفيقات جزاء للإيمان والعمل الصالح

لو قبل العبد هذه الهداية الإلهيّة، التي أعطاه اللّه تعالي ابتداء من دون استحقاق، وشكر اللّه تعالي علي هدايته فآمن وعمل الصالحات، يزيد اللّه في توفيقاته فيسهل عليه فعل الخيرات شيئاً فشيئاً، قال تعالي:

﴿إِن تَتَّقُوا اللهَ يَ-جْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً﴾؛(4)

و﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾؛(5)

و﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾؛(6)

ص: 429


1- 832.. مهج الدعوات و منهج العبادات، ص49؛ بحارالأنوار، ج82، ص215.
2- 833.. إقبال الأعمال،ج 3، ص298؛ بحارالأنوار، ج91، ص98، ح13.
3- 834.. يوسف12.، الآية 53.
4- 835.. الأنفال8.، الآية 29.
5- 836.. محمّد47.، الآية 17.
6- 837.. مريم19.، الآية 76.

و﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.(1)

النقطة الخامسة: الخذلان، وسلب التوفيقات عقوبة علي كفرانها

من البديهيّ أنّ توفيقه تعالي بمعني هدايته وارائته الطريق لا يلجأ الإنسان علي الإيمان والعمل الصالح، فقد يوفّق اللّه العبد ولكنّه يعرض وجهه عن العون الإلهيّ وتوفيقه كما ورد عن الصادق(عليه السلام):

ما كلّ من نوي شيئاً قدر عليه ولا كلّ من قدر علي شيء وفّق له، ولا كلّ من وفّق لشيء أصاب له، فإذا اجتمعت النيّة والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمّت السعادة.(2)

فإذا أعرض الإنسان بوجهه عن هدايات ربّه وتوفيقاته وإعانته علي الطاعة، فيسلب اللّه تعالي عنه هذه التوفيقات شيئاً فشيئاً فيصعب عليه فعل الخيرات لأنّاللّه تعالي يكله إلي نفسه وإذا وكله اللّه إلي نفسه يسلّط عليه الشيطان والهوي فيزيّن له العصيان والقبائح، فتراه يشتاق إلي فعل السيّئات ويسرع إليها، فهو لا يعصي إلّا بعد صرفه تبارك وتعالي التوفيق عنه وخذلانه وإيكاله إلي نفسه، فلا طاعة إلّا بالتوفيق ولامعصية إلّا بالخذلان.

وهذا القبض والبسط في التوفيق والخذلان إنّما يكونان وفقاً للقانون الإلهيّ من العدل والفضل. قال تعالي:

﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾؛(3)

و﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَي قَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ﴾؛(4)

و﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّي يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ﴾؛(5)

ص: 430


1- 838.. العنكبوت29.، الآية 69.
2- 839.. كنز الفوائد، ج2، ص33؛ بحارالأنوار، ج5، ص210، ح50.
3- 840.. إبراهيم14.، الآية 7.
4- 841.. الأنفال8.، الآية 53.
5- 842.. التوبة9.، الآية 115.

و﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي عَلَي الْهُدَي﴾؛(1)

و﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.(2)

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال سمعته يقول: كان أبي يقول:

إنّ اللّه قضي قضاء حتماً أن لا يُنعم علي عبد بنعمة فيسلبها إيّاه حتي يحدث العبد ذنباً يستحقّ ذلك النقمة.(3)

الاحتجاج: عن هشام بن الحكم في سؤال الزنديق عن أبي عبداللّه(عليه السلام) إلي أن قال: فمن خلقه اللّه كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام):

إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده فبإنكاره الحقّ صار كافراً ... .(4)

في التوحيد بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول:

كما أنّ بادي النعم من اللّه عزّوجلّ وقد نحلكموه، فلذلك الشرّ من أنفسكم وإن جري به قدره.(5)عيون أخبار الرضا(عليه السلام): السنانيّ، عن الأسديّ، عن سهل، عن عبد العظيم الحسنيّ، عن إبراهيم ابن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن قول اللّه عزّوجلّ: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾(6) فقال:

إنّ اللّه تبارك وتعالي لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنّه متي علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف، وخلا بينهم وبين اختيارهم. قال: وسألته عن قول اللّه عزّوجلّ: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَعَلَي

ص: 431


1- 843.. فصّلت41.، الآية 17.
2- 844.. المطفّفين83.، الآية 14.
3- 845.. الكافي، ج2، ص209، ح22؛ بحارالأنوار، ج7، ص334، ح19.
4- 846.. الاحتجاج، ج2، ص341؛ بحارالأنوار، ج5، ص18، ح29.
5- 847.. التوحيد، ص368، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص114، ح42.
6- 848.. البقرة2.، الآية 17.

سَمْعِهِمْ﴾(1) قال: الختم هو الطبع علي قلوب الكفّار عقوبةً علي كفرهم كما قال تعالي: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلنا قَلِيلاً﴾(2).(3)

المحاسن: عبد اللّه بن يحيي، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام):

يا سليمان إنّ لك قلباً ومسامع، وإنّ اللّه إذا أراد أن يهدي عبداللّه فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً؛ وهو قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(4).(5)

في الكافي بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم.(6)

في دعاء الكميل:

إلهي ومولاي أجريت عليّ حكماً اتّبعت فيه هوي نفسي، ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي، فغرّني بما أهوي، وأسعده علي ذلك القضاء، فتجاوزت بما جري عليّ من ذلك بعض حدودك، وخالفت بعض أوامرك، فلك الحجّة عليّ في جميع ذلك، ولا حجّة لي فيما جري فيه قضائك، وألزمني حكمك وبلائك.

في البحار عن الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب تلك السواد، وإن تمادي في الذنوب زاد ذلك السواد حتّي يغطّي البياض، فإذا غطّي البياض لميرجع صاحبه إلي خير أبداً، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(7).(8)

ص: 432


1- 849.. البقرة2.، الآية 7.
2- 850.. النساء4.، الآية 155.
3- 851.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص123؛ بحارالأنوار، ج5، ص11، ح17.
4- 852.. محمّد47.، الآية 24.
5- 853.. المحاسن، ج1، ص200، ح35؛ بحارالأنوار، ج5، ص204، ح31.
6- 854.. الكافي، ج2، ص272، ح16؛ بحارالأنوار، ج70، ص330، ح13.
7- 855.. المطفّفين83.، الآية 14.
8- 856.. الكافي، ج2، ص273، ح20؛ بحارالأنوار، ج70، ص332، ح17.

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) في ذيل الحديث:

روي مثله عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) في النهج، وقال ابن ميثم: توضيح الكلام أنّ بأصل الإيمان تظهر نكتة بيضاء في قلب من آمن أوّل مرّة، ثمّ إذا أقرّ باللسان ازدادت تلك النكتة، وإذا عمل بالجوارح عملاً صالحاً ازدادت حتّي يصير قلبه نورانيّاً كالنيّر الأعظم، ويعكس ذلك في العمل السيّئ. وتحقيق الكلام في هذا المقام أنّ المقصود بالقصد الأوّل الأعمال الظاهرة والأمر بمحاسنها والنهي عن مقابحها، هو ما تكتسب النفس منها من الأخلاق الفاضلة والصفات الفاسدة، فمن عمل عملاً صالحاً أثّر في نفسه، وبازدياد العمل يزداد الضياء والصفاء، حتّي تصير كمرآة مجلوّة صافية، ومن أذنب ذنباً أثّر ذلك أيضاً وأورث لها كدورة، فإن تحقّق عنده قبحه وتاب عنه، زال الأثر وصارت النفس مصقولة صافية، وإن أصرّ عليه زاد الأثر الميشوم، وفشا في النفس واستمرّ عليها، وصار من أهل الطبع، ولم يرجع إلي خير أبداً إذ دواء هذا الداء هو الانكسار، وهضم النفس، والاعتراف بالتقصير، والرجوع إلي اللّه بالتوبة والاستغفار، والانقلاع عن المعاصي، ولا محلّ لشيء من ذلك إلي هذا القلب المظلم، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم. ثمّ أشار إلي أن ذلك هو الرين المذكور في الآية الكريمة بقوله: وهو قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، قيل: أي غلب علي قلوبهم ما كانوا يكسبون حتّي قبلت الطبع والختم علي وجه لا يدخل فيها شيء من الحقّ. والمراد بما كانوا يكسبون الأعمال الظاهرة القبيحة والأخلاق الباطنة الخبيثة فإنّ ذلك سبب لرين القلب وصداه، وموجب لظلمته وعماه، فلا يقدر أن ينظر إلي وجوه الخيرات، ولا يستطيع أن يشاهد صور المعقولات، كما أنّ المرآة إذا ألقيت في مواضع الندي ركبها الصدا، وأذهب صفاءها وأبطل جلاءها، فلا يتنقش فيها صور المحسوسات. وبالجملة يشبه القلب في قسوته وغلظته وذهاب نوره، بما يعلوه من الذنوبوالهوي، وما يكسوه من الغفلة والردي، بالمرآة المنكدرة من الندي، وكما أنّ هذه المرآة يمكن إزالة ظلمتها بالعمل المعلوم كذلك هذا القلب يمكن تصفيته من ظلمات الذنوب، وكدورات الأخلاق، بدوام الذكر، والتوبة الخالصة والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، حتّي ينظر إلي عالم الغيب بنور الإيمان ويشاهده مشاهدة العيان إلي أن يبلغ إلي أعلي درجات الإحسان، فيعبد اللّه كأنّه يراه، ويري الجنّة وما أعدّ اللّه فيها لأوليائه

ص: 433

ويري النار وما أعدّ اللّه فيها لأعدائه.

والمستفاد من مجموع الأخبار أنّ الخذلان وترك معونة العبد علي الطاعة لا يكون إلّا عقوبة منه تعالي علي الفعل الاختياريّ، بينما أنّ التوفيق تفضّل ومنّة من اللّه تعالي علي العبد بلافرق بين التوفيق الابتدائيّ واستدامته، كما رأيت أنّ الإمام(عليه السلام) قال: ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء» فالعبد هو الذي يسوّد تلك النكتة بذنوبه وعصيانه.

النقطة السادسة: لا طاعة إلّا بالتوفيق ولا عصيان إلّا بالخذلان

إذا تأمّلت في ما ذكرناه يظهر لك وجه ما ورد في غير واحد من الأخبار، من أنّه لا يكون بعد الهداية العامّة طاعة وإيمان ولا يحصل كمال ولا ترك معصية إلّا بتوفيقه تعالي، وعونه وسداده وعصمته، ولا يتحقّق معصية إلّا بخذلانه تعالي وترك المعونة والتخلية بين العبد وبين الشيطان والهوي، ولا يلزم من ذلك أيّ محذور.

وذلك لإنّه لولا توفيق اللّه تعالي وتشويقه إلي الصالحات، وترغيبه إليها، وأمره بها، وهدايته، وتسهيله سبيل الخير، وجمع الأسباب لذلك، ما كان العبد ليتحرّك نحو الإيمان والعمل الصالح وتحصيل الكمال والفضل، مع كونه قادراً عليه، إلّا أنّه قد وفّق الجميع ابتداء وهداهم بالهداية العامّة فمنهم شاكر فيزيد في حقّه التوفيقات، ومنهم كفور يسلب منه ذلك.

في إقبال الأعمال في دعاء أوّل يوم من رجب:

واقرن اختياري بالتوفيق.(1)

في زيارة الائمّة(عليهم السلام) رواها السيّد ومؤلّف مزار الكبير قالا هي مرويّة عن الائمّة(عليهم السلام):

اللهمّ صِلْ عزمي بالتحقيق، ونيّتي بالتوفيق.(2)

فإنّ الاختيار لابدّ وأن يقارنه التوفيق كي يتحقّق الإيمان والعمل الصالح، وإلّا فإنّ الطباع الإنسانيّة مع ما عليها من الضعف والجهل والعجز والضلال الذاتيّ لا تميل إلّا إلي

ص: 434


1- 857.. إقبال الأعمال، ج2، ص638؛ بحارالأنوار، ج95، ص383، ح3
2- 858.. المزار الكبير، ص291؛ بحارالأنوار، ج99، ص162.

جانب الشرّ، كما مرّ في قنوت الإمام زين العابدين(عليه السلام):

اللهمّ إنّ جبلّة البشريّة، وطباع الإنسانيّة، وما جرت عليه تركيبات النفسيّة وانعقدت به عقود النسيّة، تعجز عن حمل واردات الأقضية، إلّا ما وفّقت له أهل الاصطفاء، وأعنت عليه ذوي الاجتباء، اللهمّ وإنّ القلوب في قبضتك، والمشيّة لك في ملكتك، وقد تعلم أي ربّ ما الرغبة إليك في كشفه واقعة لأوقاتها بقدرتك، واقفة بحدك من إرادتك.(1)

وكذلك لو لم يحل اللّه تعالي بين العبد وبين ما يريد، ولم يخلّي بينه وبين الشيطان، ولم يمنعه المعونة، ولم يحرمه العصمة، لا يتحرّك نحو المعصية ولا يُقدم علي المخالفة، إلّا أنّ ذلك لا يتحقّق بالنسبة إليه إلّا بعد كفران نعمة الهداية والتوفيق، مع أنّه لا يُجْبِره ذلك علي ارتكابها.

في الدعاء بعد زيارة سيّدالشهداء(عليه السلام):

فإنّ بتوفيقك يفوز الفائزون ويتوب التائبون ويعبد العابدون وبتسديدك يصلح الصالحون المتّقون ... وبإرشادك نجي الناجون ... وبخذلانك خسر المبطلون وهلك الظالمون.(2)

وفي زيارة مولانا الرضا(عليه السلام):

ومن نعمك يحمد الحامدون ومن شكرك يشكر الشاكرون.(3)

وأيضاً في خبر العلويّ(عليه السلام) في تأويل «لا حول ولا قوّة إلّا باللّه»:

لا حول عن معصيته إلّا بعصمته، ولا قوّة علي طاعته إلّا بعونه.(4)

التوحيد: بإسناده عن جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن معني «لا حول ولا قوة إلّا باللّه» فقال:

معناه لا حول لنا عن معصية اللّه إلّا بعون اللّه، ولا قوّة لنا علي طاعة اللّه إلّا

ص: 435


1- 859.. مهج الدعوات و منهج العبادات، ص49؛ بحارالأنوار، ج82، ص215.
2- 860.. جمال الأسبوع، ص274؛ بحارالأنوار، ج88، ص187، ح11 وج98، ص289.
3- 861.. بحارالأنوار، ج99، ص56، ح11.
4- 862.. الفقه المنسوب إلي الامام الرضا(عليه السلام)، ص408؛ بحارالأنوار، ج5، ص123، ح70.

بتوفيق اللّه عزّ وجلّ.(1)

أمالي الصدوق: بإسناده عن علقمة بن محمّد الحضرميّ، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): قال اللّه جلّ جلاله:عبادي كلّكم ضالّ إلّا من هديته، وكلّكم فقير إلّا من أغنيته، وكلّكم مذنب إلّا من عصمته.(2)

عن الاحتجاج: وروي عن عليّ بن محمّد العسكريّ(عليه السلام): أنّ أباالحسن موسيبنجعفر(عليهما السلام) قال:

إنّ اللّه خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلي الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلي تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه ... .(3)

أقول: لا يبعد أن يكون المراد من إذن اللّه في الخبر هو أنّ اللّه تعالي مضافاً إلي إعطائه القدرة والاستطاعة للعبد وفّقه لما أمره به، كما يلوح من قوله(عليه السلام): «ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه» فإنّه(عليه السلام) عبّر بقوله آخذين، ولم يعبّر بكونهم قادرين علي الأخذ والترك. فإنّ هذا يدلّ علي أنّ المراد من الإذن ليس مجرّد القدرة بل المراد منه هي القدرة والتوفيقات.

عن فقه الرضا(عليه السلام): أروي أنّ رجلاً سأل العالم(عليه السلام) فقال: يابن رسول اللّه أليس أنا مستطيع لما كلّفت؟ فقال له(عليه السلام):

ما الاستطاعة عندك؟ قال: القوّة علي العمل، قال له(عليه السلام): قد أعطيت القوّة إن أعطيت المعونة، قال له الرجل: فما المعونة؟ قال: التوفيق؛ قال: فلم إعطاء التوفيق؟ قال: لو كنت موفّقاً كنت عاملاً، وقد يكون الكافر أقوي منك ولا يعطي التوفيق فلا يكون عاملاً. ثمّ قال(عليه السلام): أخبرني عنك من خلق فيك القوّة؟ قال الرجل: اللّه تبارك وتعالي، قال العالم: هل تستطيع بتلك القوّة دفع الضرّ عن

ص: 436


1- 863.. التوحيد، ص242، ح3؛ بحارالأنوار، ج5، ص203، ح29.
2- 864.. الأمالي (للصدوق)، ص101؛ بحارالأنوار، ج5، ص198، ح16.
3- 865.. الاحتجاج، ج2، ص387؛ بحارالأنوار، ج5، ص26، ح32.

نفسك وأخذ النفع إليها بغير العون من اللّه تبارك وتعالي؟ قال: لا، قال: فلم تنتحل ما لا تقدر عليه؟! ثمّ قال: أين أنت عن قول العبد الصالح: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إلنا بِاللَّهِ﴾(1).(2)

رويت عن العالم(عليه السلام) أنّه قال:

القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير الجسد لا يتحرّك ولا يري، والجسد بغير الروح صورة لا حراك له، فإذا اجتمعا قويا وصَلُحا وحسُنا وملُحا، كذلك القدر والعمل، فلو لم يكن القدر واقعاً علي العمل لم يعرف الخالق من المخلوق،ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتمّ، ولكن باجتماعهما قويا وصلحا وللّه فيه العون لعباده الصالحين. ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(3) الآية، ثمّ قال(عليه السلام): وجدت ابن آدم بين اللّه وبين الشيطان، فإن أحبّه اللّه تقدّست أسماؤه خلصه واستخلصه، وإلّا خلا بينه وبين عدوّه.(4)

بيان: شبّه الإمام(عليه السلام) تقدير اللّه تعالي بالنسبة إلي الأفعال الصادرة عن العبد بالروح والجسد، فإنّ الروح بغير الجسد غير قابل للرؤية ولا يكون متحرّكاً والجسد بغير الروح جسم غير متحرّك وصورة لا حركة لها، وإذا اجتمع الروح مع الجسد يتحرّك الجسد كما أنّ الروح يكون حينئذ فعّالاً ومتحرّكاً. فقوّة الروح علي التحرّك والأفعال بالجسد وقوّة الجسد علي الحركة تكون بالروح ولذا قال(عليه السلام): «فإذا اجتمعا قويا».

وبهذا البيان ظهر المراد من قوله(عليه السلام) بعد ذلك: «وصلحا وحسنا وملحا»، فإنّ صلاح الروح وحسنه وملاحته بالتحرّك، كما أنّ صلاح الجسد وحسنه وملاحته به. وكذلك القدر والعمل فإنّه لو لم يقدّر اللّه تعالي قدرة العبد علي أفعاله لم يعرف الخالق من المخلوق، فإنّ من أعظم آيات الباري جلّ شأنه تقديره وجدان العبد العلم والقدرة بعد فقدانهما،

ص: 437


1- 866.. هود11.، الآية 88.
2- 867.. الفقه المنسوب إلي الامام الرضا(عليه السلام)، ص351؛ بحارالأنوار، ج5، ص42، ح68.
3- 868.. الحجرات49.، الآية 7.
4- 869.. الفقه المنسوب إلي الامام الرضا(عليه السلام)، ص349؛ بحارالأنوار، ج5، ص54، ح96.

وفقدانه لهما بعد وجدانه إيّاهما. قال اللّه تعالي:

﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَ-خْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾؛(1)

و﴿وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾؛(2)

و﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾.(3)

ومن أعظم آيات الباري جلّ شأنه محدوديّة استضائة العبد بنور العلم والقدرة فليس كلّ ما يريده العبد يقدر عليه وليس كلّ ما يريد أن يعلمه يستطيع نيله والوصول إليه حتّي بعد التعلّم، فإنّ ذلك من أعظم الآيات وأقوي الأدلّة علي أنّ الأمر بيد اللّه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. ولعلّ هذا هو المراد من قوله(عليه السلام):فلو لم يكن القدر واقعاً علي العمل لم يعرف الخالق من المخلوق.

ولو لم يكن العمل موافقاً لتقدير اللّه تعالي لم يمض ولم يتمّ فإنّ تحقّق العمل في الخارج وتمامه يتوقّف علي تقدير اللّه تعالي القدرة للعبد فيكون أصل تحقّق الفعل وحدوده بحسب تقديره تعالي القدرة للعبد، وبحسب تقديره حدود القدرة له. فكما أنّه لو لم يقدّر اللّه تعالي القدرة لم يتحقّق منه الفعل، فكذا لا يتحقّق الفعل إذا كان فوق حدود القدرة التي قدّرها اللّه للعبد.

ولكن باجتماعهما - أي باجتماع تقدير اللّه تعالي القدرة وصدور الفعل من العبد بعد وجدانه القدرة - يظهر لنا تقديره تعالي كما أنّه حينئذٍ يتحقّق الفعل في الخارج.

ثمّ بعد ذلك كلّه للّه أن يعين عباده الصالحين. بمعني أنّه لو صرف العبد قدرته التي قدّر اللّه تعالي له في الطاعة شكراً له تعالي علي نعمته العظمي - أي العلم والقدرة - يوفّقه

ص: 438


1- 870.. الروم30.، الآية 54.
2- 871.. النحل16.، الآية70.
3- 872.. النساء4.، الآية 113.

ويعينه علي سائر الطاعات. كما أنّه إذا صرف قدرته التي وجدها بتقدير اللّه تعالي في طاعة الشيطان خلّاه اللّه تعالي بينه وبين ما يريد العبد اختياره، ويكله إلي نفسه، فلا يصدر عنه الإيمان ولا الطاعة، وإن كان ذا قدرة ومشيّة وإرادة كما هو مشهود بالوجدان، فإنّ الكفّار والعصاة ذوو قدرة ومشيّة ومع ذلك كلّه لم يؤمنوا ولم يطيعوا وذلك لعدم التوفيق من اللّه تعالي.

النقطة السابعة: بقاء سلطنة الإنسان بعد التوفيق والخذلان

من المشاهَد بالوجدان أنّ سلطنة العبد وقدرته علي الفعل والترك باقية حتّي بعد التوفيق والخذلان بالمعني الذي ذكرنا.

ويشير إلي ما ذكرنا - من أنّ التوفيق والخذلان لا يلجئان إلي الفعل والترك - ما نقل عن الإمام مولي الموحّدين عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) أنّه قال في الدعاء: «وأسعده علي ذلك القضاء» ولم يقل «ألجأه» أو «اضطرّه».

فترك معونة العبد لا يخرجه عن الاختيار بحيث يلجأ إلي ارتكاب المعاصي، كما أنّ التوفيق لا يلجئه إلي العمل الصالح. وذلك لأنّ اللّه تعالي إن سلب كلّ شيء عنالعاصي المتمرّد لا يسلب عنه قدرته التي أعطاها إيّاه ولذا يبقي مكلّفاً، بل يمكن أن يستفاد من بعض الروايات أنّ الخذلان الإلهيّ مهما بلغ لا يصل إلي حدّ يري المخذول الباطل حقّاً والحقّ باطلاً، وهذا يكون مزيداً من لطفه تعالي، لأنّه بعد الإعراض عن هداية اللّه وتوفيقه يستحقّ العبد أن يسلب عنه نعمة الهداية وِفقاً للقانون العقليّ والشرعيّ، لكنّه لم يفعل هكذا.

المحاسن: عليّ بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه تبارك وتعالي: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَ-حُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾(1) فقال:

يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ.(2)

ص: 439


1- 873.. الأنفال8.، الآية 24.
2- 874.. المحاسن، ج1، ص237، ح205؛ بحارالأنوار، ج5، ص205، ح41.

كذلك التوفيق لا يلجأ العبد إلي العمل الصالح والإيمان، وقد روي عن الصادق(عليه السلام):

ما كلّ من نوي شيئاً قدر عليه ولا كلّ من قدر علي شيء وفّق له، ولا كلّ من وفّق لشيء أصاب له، فإذا اجتمعت النيّة والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمّت السعادة.(1)

النقطة الثامنة: حقائق تتّضح

معني طلب الأفعال الاختياريّة أو تركها من اللّه

بما ذكرنا يظهر أنّ ما ورد في الأدعية المختلفة من طلب بعض الأعمال الصالحة من اللّه تعالي مع أنّها من أفعالنا الاختياريّة لا يكون إلّا بمعني التوفيق علي إيقاعها والعون عليها، كما ورد في دعاء عالية المضامين:

وأوّل حاجتي إليك أن تغفر لي ما سلف من ذنوبي علي كثرتها، وأن تعصمني فيما بقي من عمري، وتطهّر ديني مما يدنّسه ويشينه ويزري به، وتحميه من الريب والشكّ والفساد والشرك، وتثبّ-تني علي طاعتك وطاعة رسولك وذرّيته النجباء السعداء صلواتك عليهم ورحمتك وسلامك وبركاتك، وتحييني ما احييتني علي طاعتهم، وتميتني إذا أمتّني علي طاعتهم، وأن لا تمحو من قلبي مودّتهم ومحبّتهم وبغض أعدائهم ومرافقة أوليائهم وبرّهم، وأسألك يا ربّ أن تقبل ذلك منّي وتحبّب إليَّ عبادتك والمواظبة عليها، وتنشّطني لها، وتبغّض إليّ معاصيك ومحارمك، وتدفعني عنها، وتجنّبيالت-قصير في صلواتي والاستهانة بها والتراخي عنها، وتوفّقني لتأديتها كما فرضت وأمرت به علي سنّة رسولك صلواتك عليه واله ورحمتك وبركاتك، خضوعاً وخشوعاً، وتشرح صدري لإيتآء الزكوة وإعطاء الصدقات وبذل المعروف والإحسان إلي شيعة آل محمّد(عليهم السلام) ومواساتهم، ولا تتوفّاني إلّا بعد أن ترزقني حجّ بيتك الحرام وزيارة قبر نبيّك وقبور الأئمّة(عليهم السلام)، وأسئلك يا ربّ توبةً نصوحاً ترضاها، ونيّة تحمدها، وعملاً صالحاً تقبّله، وأن تغفر لي وترحمني إذا توفّيتني، وتهوّن عليَّ سكرات الموت، وتحشرني في زمرة محمّد وآله صلوات اللّه عليه وعليهم،

ص: 440


1- 875.. الإرشاد، ج2، ص431؛ بحارالأنوار، ج5، ص210، ح50.

وتدخلني الجنّة برحمتك، وتجعل دمعي غزيراً في طاعتك، وعبرتي جارية فيما يقرّبني منك، وقلبي عطوفاً علي أوليائك.(1)

فإنّ الثبات علي طاعة اللّه تعالي والرسول والأئمّة عليهم صلوات اللّه ومودّتهم ومحبّتهم، وبغض أعدائهم، ومرافقة أوليائهم، وبرّهم، وعدم التقصير في الصلوات وترك الاستهانة بها، وأدائها علي وجهها، وإيتاء الزكاة وبذل المعروف والصدقات والمواساة مع شيعة آل محمّد، والذهاب إلي حجّ بيت اللّه الحرام وزياة قبور الأئمّة(عليهم السلام)، والتوبة والعمل الصالح، والبكاء من خشية اللّه، وغير ذلك ممّا ورد في هذا الدعاء وفي ساير الأدعية، إنّما يكون من الأفعال الصادرة عن اختيار الإنسان بحيث إذا أراد تحقّقها وإيجادها يوجِدها، ومع هذا يبقي السؤال أنّه ما هو وجه أن يسأل العبد ربَّه فيها؟

من الواضح أنّه ليس المراد من هذا الطلب أن يعمد اللّه تعالي إلي صدورها عنّا جبراً بحيث يكون الفاعل هو اللّه تعالي، فلا مناص من أن يكون المراد هو سؤال العون والتوفيق وشرح الصدر بالنسبة إليها، فإنّه لولا عونه تعالي وعصمته لما كان لأحد أن يطيعه ويعمل الصالحات ويجتنب القبائح، كما جاء في هذا الدعاء:

وأسئلك يا ربّ أن ... تحبّب إليَّ عبادتك والمواظبة عليها، وتنشّطني لها، وتبغّض إليّ معاصيك ومحارمك، وتدفعني عنها ... وتشرح صدري لإيتآء الزكوة ... وتصرف قلبي عن الحرام وتبغّض إليَّ معاصيك، وتحبّب إليَّ الحلال.

سرّ التأكيد علي أن لا يوكل الإنسان إلي نفسه طرفة عين

وبما ذكرنا ظهر أيضاً سرّ ما ورد في أدعية الرسول والأئمّة(عليهم السلام) من قولهم «ربّ لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً» وذلك لأنّ الإنسان فاقد لجميع الكمالات من العلم، والقدرة، والحياة، و ... بحسب الذات وإن بلغ ما بلغ من الفضيلة والكمال، فإنّه مخلوق مصنوع مربوب، وآلاء الربّ ونعمه التي أنعم بها عليه لا تحصي كثرة وعدداً، فهو عاجز عن أداء شكرها بمقتضي مخلوقيّته ومحدوديّته وعدم بلوغ وسعه وطاقته لشكرها، فلولا عونه تعالي

ص: 441


1- 876.. مفاتيح الجنان.

وعصمته لارتكب جميع القبائح بمقتضي شهواته.

وبمجرّد صدور أوّل معصية منه يستحقّ أن يسلب اللّه تعالي عنه التوفيق ويكله إلي نفسه، لأنّ العصيان كفران لنعمة الهداية والتوفيقات الإلهيّة، فيسرع إلي ارتكاب المعاصي حين خلّاه واختياره ولم يعنه علي تركها، وكلّما كثر علي العبد نعمته تعالي وعونه كثر فقره وحاجته إلي العصمة الإلهيّة.

روي الكلينيّ بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول وهو رافع يده إلي السماء:

ربّ لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته، ثمّ أقبل عليّ فقال: يا بن أبي يعفور إنّ يونس بن متي وكله اللّه عزّ وجلّ إلي نفسه أقلّ من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب قلت: فبلغ به كفراً - أصلحك اللّه -؟ قال: لا، ولكنّ الموت علي تلك الحال هلاك.(1)

في الدعاء:

يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث وبقوّتك اعتصمت واعتضدت، لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً، فإنّي أعجز عنها.(2)

تفسير عليّ بن إبراهيم: أبي، عن ابن أبي عمير، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال:

كان رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) في بيت أم سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فدخلها في ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتّي انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكيوهو يقول: اللهمّ لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللهمّ لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً أبداً، اللهمّ ولا تردّني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللهمّ ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً قال: فانصرفت أمّ سلمة تبكي حتّي انصرف رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لبكائها فقال لها:

ص: 442


1- 877.. الكافي، ج2، ص581، ح15؛ بحارالأنوار، ج47، ص46، ح66.
2- 878.. بحارالأنوار، ج94، ص236؛ العدد القويه لدفع المخاوف اليومية، ص97.

ما يبكيك يا أمّ سلمة؟ فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ولم لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من اللّه، قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً، وأن لا يردّك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلي نفسك طرفة عين أبداً؟ فقال: يا أمّ سلمة وما يؤمنني؟ وإنّما وكل اللّه يونس بن متي إلي نفسه طرفة عين وكان منه ما كان.(1)

بل الوارد في بعض الأخبار أنّ جميع ما للنبيّ وأهل بيته المطهّرين عليهم أفضل صلوات المصلّين من المكارم والفضائل إنّما حصلت لهم بالتوفيق الإلهيّ، فإنّهم ما وصلوا إلي مقام النبوّة والإمامة والولا ية إلّا بتوفيق من اللّه تعالي وعونه وتفضّله، فيكون نعمته تعالي عليهم أعظم وأفضل، وفقرهم إليه جلّ جلاله آكد وأكثر، وهذا هو السرّ في ما ورد عنهم(عليهم السلام) من شدّة التضرّع والابتهال والإنابة والبكاء والخوف من اللّه تعالي.

روي الصدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم ومحمّد بن مروان، عن أبي عبداللّه(عليه السلام)، قال:

ما علم رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) أنّ جبرئيل من قبل اللّه عزّ وجلّ إلّا بالتوفيق.(2)

وقد ورد في أدعية العشر الأواخر من شهر رمضان وغيرها هذه الجملة:

وارزقني ...التوفيق لما وفّقت له محمّداً وآل محمّد.(3)

فالحديث يبيّن أنّ ما لمحمّد وآل محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين إنّما يكون بالتوفيق.

وبما ذكرنا يظهر سرّ ما ورد من التاكيد علي الدعاء والسؤال من اللّه تعالي، فإنّ جميع ما للصالحين من المقامات إنّما تيسّر لهم بتوفيق اللّه تعالي وعونه وهو قادر علي أن يعين الآخرين أيضاً.

ص: 443


1- 879.. تفسير القمّيّ، ج2، ص75؛ بحارالأنوار، ج16، ص217، ح6.
2- 880.. التوحيد، ص242، ح2؛ بحارالأنوار، ج5، ص203، ح28.
3- 881.. مصباح المتهجّد، ص 629-635؛ الكافي، ج4، ص161-164؛ كتاب من لا يحضره الفقيه، ج2، ص161؛ تهذيب الأحكام، ج3، ص101-106؛ بحارالأنوار، ج95، ص60.
كون المؤمن بين الخوف والرجاء

ويظهر ممّا ذكرنا أيضاً وجه التأكيد في كلمات المعصومين علي أنّ المؤمن يكون بين الخوف والرجاء دائماً، فإنّه لولا توفيق اللّه تعالي لما كان العبد مطيعاً، وبمجرّد خذلانه يصير العبد كافراً عاصياً، ولو صرف اللّه تعالي عصمته وتوفيقه ورعايته عن العبد في آنٍ من الآنات يكون العبد عُرضة لارتكاب أقبح القبائح وأشدّ الذنوب، وإن كان قبل ذلك من صالح العباد.

وأيضاً يظهر لك سرّ ما ورد في الشريعة المطهّرة من الحثّ علي الدعاء والسؤال من اللّه تعالي وترك اليأس والقنوط منه عزّوجلّ، فإنّ اللّه إذا أراد أن يتدارك العبد بالتوفيق يسّر له أسباب الخير والهداية وحوّله إلي وليّاً من أوليائه، كما ورد في الدعاء:

إنّ الراحل إليك قريب المسافة.(1)

وإذا صرف العبد وجهه وأعرض عن نعمه تعالي وإحسانه، وعن هداية أوليائه، ووكله اللّه إلي نفسه بمقتضي كفرانه نعمه وآلائه، يمكن أن يصدر منه أقبح الذنوب وأعظم الكفر، وإن كان من قبله من المقرّبين كما صدرت من بلعم الباعورا أعظم الذنوب، وكذا برصيصا العابد. فهنا ينجلي خطورة موقع الدعاء والطلب من اللّه، وعدم اليأس من روح اللّه، وكذا عدم الأمن من مكر اللّه.

ومنه تعرف أيضاً أنّ نوعاً من الخذلانات الإلهيّ يكون من قبيل الإمهال والاستدراج كي يتورّط العبد في ما يشتهيه من المعاصي كما قال عزّوجلّ:

﴿وَلَا يَ-حْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛(2)

و﴿وَقَالَ مُوسَي رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْ-حَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَي أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَي قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّي يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾.(3)

ص: 444


1- 882.. دعاء أبوحمزة الثماليّ؛ مصباح المتهجّد، ص583؛ مفاتيح الجنان، أدعية أسحار شهر رمضان.
2- 883.. آل عمران3.، الآية 178.
3- 884..يونس 10.، الآية 88.

في خطبة مولاتنا زينب الكبري(عليها السلام) في مجلس يزيد عليه اللعنة والعذاب:

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة علي جدّي سيّد المرسلين، صدق اللّه سبحانه كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَعَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءي أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾.(1) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيّ-قت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في أسار، نساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من اللّه هواناً وعليك منه كرامة وامتناناً، وأنّ ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك،(2) تضرب أصدريك(3) فرحاً وتنقض مذرويك(4) مرحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة،(5) والأمور لديك متّسقة،(6) وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً! لا تطش جهلاً! أنسيت قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَ-حْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.(7)

معني قوله: أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّئاتك منّي

إذا عرفت ما بيّناه في معني التوفيق والخذلان تعرف وجه ما ذهب إليه المشهور في تفسير الحديث القدسيّ:

أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي.

فإنّ الفعل الصادر عن العبد بالاختيار متوقّف علي القدرة والسلطنة علي طرفي الفعل والترك التي بها يكون العبد ذا مشيّة وإرادة وكذا سائر ماله الدخل فيهما كالأعضاء والجوارح ويتوقّف علي الشوق نحو الفعل أو الترك وإيجاد الشوق في قلبه نحو الفعل الحسن وأمره به وهو التوفيق، ولذا يكون اللّه تعالي أولي بالحسنات من العبد لأنّه هو الذي أعطاه القدرة

ص: 445


1- 885.. الروم30.، الآية10.
2- 886.. نظر في عطفه: أخذه العجب.
3- 887.. الأصدران: عرقان تحت الصدغين.
4- 888.. المذروان: أطراف الإليتين.
5- 889.. مستوسقة: مجتمعة.
6- 890.. متّسقة: مستوية.
7- 891.. الاحتجاج، ج2، ص35؛ بحارالأنوار، ج45، ص157.

ووفّقه للفعل الحسن.

وأمّا بالنسبة إلي الفعل القبيح الصادر عن العبد فإنّ اللّه تعالي أعطي العبد القدرة وعرّفه الحقّ من الباطل، ونهاه عن الفعل القبيح، فإذا عزم علي العصيان وإتيان القبيح وأصرّ عليه وكله إلي نفسه ولم يوفّقه لتركه، ولذا صار العبد أولي بالسيّئات من اللّه تعالي، وذلك أنّه ارتكب القبيح بالقدرة مع أنّه تعالي نهاه وحذّره وزجره عنه، فيكون مستنداً إليه. وأمّا إيكال اللّه تعالي العبد إلي نفسه فلا يمسّ القدرة بسوء إلّا أنّ العبد بسوء اختياره يختار إتيان القبيح بقدرته. وهذا من أدقّ معاني نفي التفويض فتأمّل جدّاً.قال أبو جعفر(عليه السلام):

في التوراة مكتوب مسطور: يا موسي إنّي خلقتك واصطفيتك وقويتك، وأمرتك بطاعتي، ونهيتك عن معصيتي، فإن أطعتني أعنتك علي طاعتي وإن عصيتني لم أعنك علي معصيتي، ولي المنّة عليك في طاعتك، ولي الحجّة عليك في معصيتك.(1)

وقد مرّ في ذيل الجواب عن الوجه الثالث من الوجوه النظريّة التي أقامها المجبّرة علي مذهبهم مزيد توضيح لهذا الخبر.

معني القضاء والقدر والمشيّة للأفعال الاختياريّة

وبما ذكرنا ظهر أيضاً معني ثبوت القضاء والقدر والمشيّة من اللّه تعالي بالنسبة إلي الأفعال الصادرة عن العباد بالقدرة والاختيار، ومعه لا حاجة إلي أن نقول في جواب المجبّرة عن استدلالهم ببعض الأخبار الدالّة علي أنّه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بسبع، بأنّ تلك الأخبار خصّصت بغير أفعال العباد، كيف ولسانها آبٍ عن مثل ذلك، كما مرّ في نقد أدلّة المجبّرة.

نعم يمكن أن يقال إنّها مسوقة لبيان تحقّق المكوّنات والمراد من «الشيء» هي الأُمور الكونيّة وعليه يكون خروج الأفعال الصادرة عن الإنسان بالتخصّص لا بالتخصيص.

ص: 446


1- 892.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ج1، ص39؛ بحارالأنوار، ج5، ص9، ح12.

فوجه الجمع بين ما دلّ من الأخبار علي تعلّق قضاء اللّه وقدره بجميع الأشياء ومنها أفعال العباد، وما دلّ علي أنّ التوفيق والخذلان من اللّه تعالي، وبين ما دلّ علي نفي الجبر بالصراحة وأنّ أفعال العباد صادرة عنهم بقدرتهم واختيارهم، وتنزيه اللّه تعالي عن السيّ-ئات الصادرة عن العبيد: أنّ المراد من تعلّق إرادته بأفعال العباد، هو تعلّقها بمقدّمات الأفعال الصادرة عنهم من القدرة والاختيار والمشيّة والآلات التي ركّبها فيهم، ومنها التوفيقات - بمعني تسهيل الطاعة وتيسيرها كحلاوة العبادة والمناجاة والإلتذاذ بالطاعة - والخذلانات - بمعني سلب التوفيق عنهم، والطبع علي قلوب المعاندين الذين رفضوا الحقّ - .(1)

ويناسب هنا نقل كلام عن بعض مشايخنا العظام حيثما قال(قدس سره):

فمحصّل الأمر بين الأمرين الذي هو من أسرار علوم أهل بيت الوحي صلوات اللّه عليهم أجمعين ولايتحمّله إلّا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان؛ أنّ اللّه تبارك وتعالي كان عالماً قبل خلقه بخلقه وبما هو صائر إليه كلّ أحد منهم في أفعاله بالاختيار، فشاء تعالي شأنه وأراد وقدّر وقضي وكتب وأجّل وأذن لكلّ أحد منهم ما علم منه من أنّه سيفعل كذا بعد تمليكه القدرة والاستطاعة، وعلمه أولي بحقيقة التصديق فأجري أسبابه وتوفيقاته وخذلاناته علي طبق ما علم منهم بحيث أن لا يصيروا إلي شيء من الجبر والحتم بل إلي الاستطاعة والاختيار حقيقة، فشاء وأراد ما علم ولايقع إلّا ما شاء، ما شاء اللّه عزّ شأنه كان وما لم يشأ لم يكن، والحمد للّه علي هدايته.(2)

وما ذكره(قدس سره) من أنّ «علمه أولي بحقيقة التصديق» يشير إلي معني دقيق يناسب ذكره

ص: 447


1- 893.. ثمّ لا يخفي أنّ مشيّة اللّه تعالي وكذا إرادته وتقديره وقضائه تكون بثبت ما تعلّق به رأيه في قلب المعصوم(عليه السلام)، فإنّه وعاء مشيّة اللّه تعالي ووكر إرادته كما ورد في الأخبار: «نحن أوعية مشيّة اللّه» «إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر عن بيوتكم»، كما مرّ في بحث التفويض. وممّا أثبته اللّه تعالي في قلب الإمام التوفيقات والخذلانات المتعلّقة بالعباد، فإنّ اللّه تبارك وتعالي إذا أراد توفيق عبده أثبت في قلب المعصوم هداية ذلك العبد، وكذا الأمر بالنسبة إلي الخذلانات. ومن هنا يعلم سرّ البداء وأنّ اللّه تعالي قادر علي إبقاءما أثبته أوّلاً أو محوه وثبت أمر جديد في قلب المعصوم، أو إنسائه وتأخيره. وكذا يظهر سرّ أهمّيّة الدعاء فإنّه «يردّ القضاء بعد ما أبرم إبراما» بحارالأنوار، ج90، ص295، و«قضائك المبرم الذي تحجبه بأيسر الدعاء» بحارالأنوار، ج99، ص55.
2- 894.. ميزان المطالب، ص329.

وهو أنّ علمه تعالي كاشف للحقائق فإنّه أثبت في قلب المعصوم قدرة العبد وتوفيقه وخذلانه وبما أنّ علمه كاشف للحقائق - التي منها أفعال العباد - فما يفعله العبد بقدرته واختياره مكشوف له فالخلق إلي ما علم منقادون وعلي ما كتب في مكنون سرّه ماضون فعلمه بما أنّه كشف للحقائق أولي بالتصديق من الواقع الخارجيّ لعدم خطاء كشف علمه سبحانه فإنّ علمه كاشف عن المعلوم قبل تحقّقه فلا مناص من التصديق بأنّ العباد في أفعالهم قادرون ومختارون غير مجبورين لأنّه تعالي عالم بقدرتهم وسلطنتهم وأنّهم يفعلون ما يفعلون بالقدرة والاستطاعة ويتركون ما يتركون بها.

ولنختم الكلام بذكر رواية شريفة تناسب المقام:

روي الصدوق بسنده عن يزيد بن عمير بن معاوية الشاميّ قال: دخلت علي عليّ بن موسي الرضا(عليه السلام) بمرو فقلت له: ... يا بن رسول اللّه فما أمر بين أمرين؟ فقال:

وجود السبيل إلي إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه. فقلت له: فهل للّه عزّ وجلّ مشيّ-ة وإرادة في ذلك؟ فقال: أمّا الطاعات فإرادة اللّه ومشيّ-ته فيها الأمر بها، والرضا لها، والمعاونة عليها؛ وإرادته ومشيّ-ته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها، والخذلان عليها ... .(1)

ص: 448


1- 895.. عيون اخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص124، ح17؛ بحار الأنوار، ج5، ص12، ح18.

الفصل الثالث :الأخبار في بيان الأمر بين الأمرين

اشارة

ص: 449

ص: 450

يجب علي كلّ عاقل منصف يكون بصدد كشف الحقيقة في هذه المسألة الهامّة الدقيقة الرجوع إلي كلمات اولي النهي وأهل الذكر الذين أمر اللّه تعالي بالرجوع إليهم والسؤال عنهم ويجب عليه النظر في أخبارهم بعين الاعتبار ليعلم أنّ الحقّ الصريح والقول الفصل هو ما ذكره الأئمّة الهداة المهديّون(عليهم السلام) فإنّهم أرشدوا بكلامهم إلي ما يجده الإنسان بنور عقله، ولولا تذكيرهم وتنبيههم ما كان البشر ليصل إلي هذه الحقيقة الهامّة، وكان يتيه في حيرته وجهالته لا يدري هل الصحيح أن يرفض الجبر ويعتقد بالتفويض أو يعكس الأمر؟ فيبقي هو ومنسوجاته كظلمات في بحر لجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نوراً فما له من نور!

الضوابط العامة للأمر بين الأمرين

1. روي الصدوق بسنده، عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال:

ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر علي ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.(1)

ص: 451


1- 896.. التوحيد، ص361، ح7(باب 59)؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح22.

2. روي الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) قالا:إنّ اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه علي الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا(عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض.(1)

3. وقال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد سئل عن معني قولهم «لا حول ولا قوّة إلّا باللّه»:

إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً، ولا نملك إلّا ما ملّكنا، فمتي ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا، ومتي أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.(2)

4. الطرائف: روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا(عليه السلام) بين يدي المأمون فقال: يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال:

اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذّبهم، قال: فمطلقون؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلي نفسه.(3)

5. الصدوق بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال:

اللّه تبارك وتعالي أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.(4)

6. وقال الكراجكيّ في كنز الفوائد: قال الصادق(عليه السلام) لزرارة بن أعين:

يا زرارة أعطيك جملة في القضاء والقدر؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق سألهم عمّا عهد إليهم ولم يسألهم عمّا قضي عليهم.(5)

7. الصدوق(رحمه الله) بإسناده عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال:

إنّ الناس في القدر علي ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أجبر الناس

ص: 452


1- 897.. الكافي، ج1، ص159، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح82.
2- 898.. نهج البلاغة، الحكمة 404، ص547.
3- 899.. الطرائف في معرفة المذاهب الطوائف، ج2، ص330؛ بحارالأنوار، ج5، ص59، ح110.
4- 900.. التوحيد، ص360، ح4 (باب نفي الجبر والتفويض)؛ بحارالأنوار، ج5، ص52، ح87.
5- 901.. كنز الفوائد، ج1، ص367؛ بحارالأنوار، ج5، ص60، ح111.

علي المعاصي فهذا قد ظلّم اللّه في حكمه فهو كافر، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا قد أوهن اللّه في سلطانه فهو كافر، ورجل يزعم أنّ اللّه كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون وإذا أحسن حمد اللّه، وإذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ.(1)8. وبإسناده عن محمّد بن عجلان، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): فوّض اللّه الأمر إلي العباد؟ فقال:

اللّه أكرم من أن يفوّض إليهم، قلت: فأجبر اللّه العباد علي أفعالهم؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر عبداً علي فعل ثمّ يعذّبه عليه.(2)

9. وبإسناده عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال:

لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مَثَل ذلك مَثَل رجل رأيته علي معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية.(3)

10. وروي بإسناده عن الحسن بن عليّ الوشاء، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، قال: سألته فقلت له: اللّه فوّض الأمر إلي العباد؟ قال:

اللّه أعزّ من ذلك، قلت: فأجبرهم علي المعاصي؟ قال: اللّه أعدل وأحكم من ذلك، ثمّ قال: قال اللّه عزّ وجلّ: يا ابن آدم أنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك.(4)

11. وروي بإسناده عن ابن سنان، عن مهزم، قال: قال أبوعبداللّه(عليه السلام):

أخبرني عمّا اختلف فيه من خلفت من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض، قال: فسلني، قلت: أجبر اللّه العباد علي المعاصي؟ قال: اللّه أقهر لهم من ذلك قال: قلت: ففوّض إليهم؟ قال: اللّه أقدر عليهم من ذلك، قال: قلت: فأيّ شيء هذا أصلحك اللّه؟ قال: فقلّب يده مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ قال: لو أجبتك فيه

ص: 453


1- 902.. التوحيد، ص360، ح5(باب نفي الجبر والتفويض)؛ بحارالأنوار، ج5، ص9، ح14.
2- 903.. التوحيد، ص361، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح83.
3- 904.. التوحيد، ص362، ح8؛ بحارالأنوار، ج5، ص17، ح27.
4- 905.. التوحيد، ص362، ح10؛ بحارالأنوار، ج5، ص16، ح20.

لكفرت.(1)

12. وروي بسنده عن عبيد بن زرارة قال: حدّثني حمزة بن حمران قال: سألت أباعبداللّه(عليه السلام) عن الاستطاعة فلم يجبني فدخلت عليه دخلة أخري، فقلت: أصلحك اللّه إنّه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلّا شيء أسمعه منك، قال:

فإنّه لا يضرّك ما كان في قلبك قلت: أصلحك اللّه إنّي أقول: إنّ اللّه تبارك وتعالي لم يكلّف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلّفهم إلّا ما يطيقون وإنّهم لايصنعون شيئاً من ذلك إلّا بإرادة اللّه ومشيئته وقضائه وقدره، قال: فقال: هذا دين اللّه الذي أنا عليه وآبائي، أو كما قال.(2)

الاستطاعة المتقدّمة علي الفعل

13. روي الصدوق في التوحيد بسنده عن هشام ابن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

ما كلّف اللّه العباد كلفة فعل، ولا نهاهم عن شيء حتّي جعل لهم الاستطاعة، ثمّ أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذاً ولا تاركاً إلّا باستطاعة متقدّمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك، وقبل القبض والبسط.(3)

14. وروي أيضاً عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أباعبداللّه(عليه السلام) يقول:

لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلّا باستطاعة متقدّمة للقبض والبسط(4). وعنه: بإسناده عن البزنطيّ، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: لا يكون العبد فاعلاً ولا متحرّكاً إلّا والاستطاعة معه من اللّه عزّ وجلّ، وإنّما وقع التكليف من اللّه عزّ وجلّ بعد الاستطاعة فلا يكون مكلّفاً للفعل إلّا مستطيعا.(5)

16. وعنه بإسناده عن ابن أبي عمير، عمّن رواه من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول:

ص: 454


1- 906.. التوحيد، ص 363، ح11؛ بحارالأنوار، ج5، ص53، ح89.
2- 907.. الكافي، ج1، ص162، ح4؛ بحارالأنوار، ج5، ص36، ح52.
3- 908.. التوحيد، ص352، ح19؛ بحارالأنوار، ج5، ص38، ح57.
4- 909.. التوحيد، ص352، ح20؛ بحارالأنوار، ج5، ص38، ح58.
5- 910.. التوحي، ص351، ح18؛ بحارالأنوار، ج5، ص35، ح46.

لا يكون العبد فاعلاً إلّا وهو مستطيع وقد يكون مستطيعاً غير فاعل، ولا يكون فاعلاً أبداً حتّي يكون معه الاستطاعة.(1)

17. وبإسناده عن أحمد بن محمّد البرقيّ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه تعالي: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه ِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَ-خَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(2) قال:

أكذبهم اللّه في قولهم: لو استطعنا لخرجنا معكم، وقد كانوا مستطيعين للخروج.(3)

18. وبإسناده عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

ما أمر العباد إلّا بدون سعتهم، فكلّ شيء أمر الناس بأخذه فهم متّسعون له وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم، ولكنّ الناس لا خير فيهم.(4)19. وروي مسنداً عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول - وعنده قوم يتناظرون في الأفاعيل والحركات - فقال:

الاستطاعة قبل الفعل، لم يأمر اللّه عزّ وجلّ بقبض ولا بسط إلّا والعبد لذلك مستطيع.(5)

حدود الاستطاعة

20. وروي بسنده عمّن سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقال له: إنّ لي أهل بيت قدريّة يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا، ونستطيع أن لا نعمل؛ قال: فقال أبوعبداللّه(عليه السلام):

قل له: هل تستطيع أن لا تذكر ما تكره وأن لا تنسي ما تحبّ؟ فإن قال: لا فقد ترك قوله، وإن قال: نعم فلا تكلّمه أبداً فقد ادّعي الربوبيّة.(6)

ص: 455


1- 911.. التوحيد، ص350، ح13؛ بحارالأنوار، ج5، ص35، ح48.
2- 912.. التوبة9.، الآية 42.
3- 913.. التوحيد، ص351، ح16؛ بحارالأنوار، ج5، ص36، ح49.
4- 914.. التوحيد، ص352، ح16؛ بحارالأنوار، ج5، ص36، ح51.
5- 915.. التوحيد، ص352، ح21؛ بحارالأنوار، ج5، ص38، ح59.
6- 916.. التوحيد، ص352، ح22؛ بحارالأنوار، ج5، ص39، ح60.

21. وروي بسنده عن عليّ بن يقطين، عن أبي إبراهيم(عليه السلام) قال:

مرّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) بجماعة بالكوفة وهم يختصمون بالقدر، فقال لمتكلّمهم: أباللّه تستطيع؟ أم مع اللّه؟ أم من دون اللّه تستطيع؟ فلم يدر ما يرد عليه، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): إن زعمت أنّك باللّه تستطيع فليس إليك من الأمر شيء، وإن زعمت أنّك مع اللّه تستطيع فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنّك من دون اللّه تستطيع فقد ادّعيت الربوبيّة من دون اللّه تعالي؛ فقال: يا أميرالمؤمنين لا بل باللّه أستطيع، فقال: أما إنّك لو قلت غير هذا لضربت عنقك.(1)

22. التوحيد: بإسناده عن المعلّي بن خني-س ق-ال: قل-ت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) م-ا يعن-ي بق--ول-ه ع--زّ وج-لّ: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَي السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾؟(2) قال:

وهم مستطيعون.(3)

23. وبإسناده عن حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنّ لنا كلاماً نتكلّم به، قال:

هاته؛ قلت: نقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر ونهي وكتب الآجال والآثار لكلّ نفس بما قدّر لها وأراد وجعل فيهم من الاستطاعة لطاعته ما يعملون به ما أمرهم به وما نهاهم عنه، فإذا تركوا ذلك إلي غيره كانوا محجوجين بما صيّر فيهم من الاستطاعة والقوّة لطاعته، فقال: هذا هو الحقّ إذا لم تعده إلي غيره.(4)

24. المحاسن: عليّ بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

ما كلّف اللّه العباد إلّا ما يطيقون، وإنّما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلّفهم من كلّ مائتي درهم خمسة دراهم، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة، وكلّفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك، وإنّما كلّفهم دون ما يطيقون ونحو هذا.(5)وعنه أيضاً:

ص: 456


1- 917.. التوحيد، ص352، ح23؛ بحارالأنوار، ج5، ص39، ح61.
2- 918.. القلم68.، الآية 43.
3- 919.. التوحيد، ص351، ح17؛ بحارالأنوار، ج5، ص35، ح45.
4- 920.. التوحيد، ص347، ح5؛ بحارالأنوار، ج5، ص37، ح53.
5- 921.. المحاسن، ج1، ص296، ح465؛ بحارالأنوار، ج5، ص41، ح66.

وأروي أنّ رجلاً سأله عن الاستطاعة، فقال: أتستطيع أن تعمل ما لم يكن؟ قال: لا، قال: أتستطيع أن تنتهي عمّا يكون؟ قال: لا، قال: ففيما أنت مستطيع؟ قال الرجل: لا أدري! فقال العالم(عليه السلام): إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الفعل، ثمّ لم يفوّض إليهم، فهم مستطيعون للفعل في وقت الفعل مع الفعل. قال له الرجل: فالعباد مجبورون؟ فقال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين. قال الرجل: ففوّض إليهم؟ قال: لا. قال: فما هو؟ قال العالم(عليه السلام): علم منهم فعلاً فجعل فيهم آلة الفعل، فإذا فعلوا كانوا مستطيعين.(1)

26. روي الكلينيّ عن محمّد بن يحيي وعليّ بن إبراهيم جميعاً، عن أحمد بن محمّد، عن علي بن الحكم وعبد اللّه بن يزيد جميعاً، عن رجل من أهل البصرة قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال:

أتستطيع أن تعمل ما لم يكون؟ قال: لا، قال: فتستطيع أن تنتهي عمّا قد كوّن؟ قال: لا، قال فقال له أبوعبداللّه(عليه السلام): فمتي أنت مستطيع؟ قال: لا أدري، قال: فقال له أبوعبداللّه(عليه السلام): إنّ اللّه خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثمّ لم يفوّض إليهم، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلاً لم يفعلوه، لأنّ اللّه عزّوجلّ أعزّ من أن يضادّه في ملكه أحد، قال البصريّ، فالناس مجبورون؟ قال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين، قال: ففوّض إليهم؟ قال: لا، قال: فما هم؟ قال: علم منهم فعلاً فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين، قال البصريّ: أشهد أنّه الحق وأنّكم أهل بيت النبوّة والرسالة.(2)

لا استطاعة إلّا بالتوفيق

27. عن فقه الرضا(عليه السلام): أروي أنّ رجلاً سأل العالم(عليه السلام) فقال: يا بن رسول اللّه أليس أنا مستطيع لما كلّفت؟ فقال له(عليه السلام):

ما الاستطاعة عندك؟ قال: القوّة علي العمل، قال له(عليه السلام): قد أعطيت القوّة إن أعطيت المعونة، قال له الرجل: فما المعونة؟ قال: التوفيق؛ قال: فلم إعطاء

ص: 457


1- 922.. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا(عليه السلام)، ص352؛ بحارالأنوار، ج5، ص42، ح69.
2- 923.. الكافي، ج1، ص161، ح2؛ راجع: بحارالأنوار، ج5، ص42، ح49.

التوفيق؟ قال: لو كنت موفّقاً كنت عاملاً، وقد يكون الكافر أقوي منك ولا يعطي التوفيق فلا يكون عاملاً. ثمّ قال(عليه السلام): أخبرني عنك من خلق فيك القوّة؟ قال الرجل: اللّه تبارك وتعالي، قال العالم: هل تستطيع بتلك القوّة دفع الضرّ عن نفسك وأخذ النفع إليها بغير العون من اللّه تبارك وتعالي؟ قال: لا، قال: فلم تنتحل ما لا تقدر عليه؟! ثمّ قال: أين أنت عن قول العبد الصالح: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إلنا بِاللَّهِ﴾(1).(2)

28. أروي أنّ رجلاً سأل العالم(عليه السلام): أكلّف اللّه العباد ما لا يطيقون؟ فقال:

كلّف اللّه جميع الخلق ما لا يطيقون إن لم يعنهم عليه، فإن أعانهم عليه أطاقوه، قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه(صلي الله عليه آله و سلم): ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلنا بِاللَّهِ﴾(3).(4)لا اختيار إلّا بعد إقدار اللّه ومعونته

29. تفسير العيّاشي: عن صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال اللّه تبارك وتعالي:

ابن آدم: بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي، وذاك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون.(5)

30. الاحتجاج: عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق أبا عبداللّه(عليه السلام) فقال: أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان علي ذلك قادراً؟ قال(عليه السلام):

لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأنّ الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلقخلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتجّ

ص: 458


1- 924.. هود11.، الآية 88.
2- 925.. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا(عليه السلام)، ص351؛ بحارالأنوار، ج5، ص42، ح68.
3- 926.. النحل16.، الآية 127.
4- 927.. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا(عليه السلام)، ص349؛ بحارالأنوار، ج5، ص54.
5- 928.. تفسير العياشيّ، ج1، ص258، ح200؛ بحارالأنوار، ج5، ص56، ح99.

عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب. قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح العبد يفعله واللّه به أمره، والعمل الشرّ العبد يفعله واللّه عنه نهاه؛ قال: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها علي الشرّ الذي نهاه عنه. قال: فإلي العبد من الأمر شيء؟ قال: ما نهاه اللّه عن شيء إلّا وقد علم أنّه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلّا وقد علم أنّه يستطيع فعله لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. قال: فمن خلقه اللّه كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام): إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده فبإنكاره الحقّ صار كافراً، قال: فيجوز أن يقدر علي العبد الشرّ ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذّبه عليه؟ قال: إنّه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر علي العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والإنزاع عمّا لا يقدر علي تركه، ثمّ يعذّبه علي تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه ... .(1)

31. تفسير العيّاشي: عن الحسن بن محمّد الجمّال، عن بعض أصحابنا قال: بعث عبدالملك ابن مروان إلي عامل المدينة أن وجِّه إليَّ محمّد بن عليّ بن الحسين ولا تهيّجه ولا تروّعه، واقض له حوائجه، وقد كان ورد علي عبدالملك رجل من القدريّة فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعاً، فقال: ما لهذا إلّا محمّد بن عليّ، فكتب إلي صاحب المدينة أن يحمل محمّد بن عليّ إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال أبوجعفر(عليه السلام):

إنّي شيخ كبير لا أقوي علي الخروج، وهذا جعفر ابني يقوم مقامي فوجّهه إليه، فلمّا قدم علي الأموي أزراه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبينالقدريّ مخافة أن يغلبه، وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدريّة، فلمّا كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما، فقال الأموي لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنّه قد

ص: 459


1- 929.. الاحتجاج، ج2، ص340؛ بحارالأنوار، ج5، ص18، ح29.

أعيانا أمر هذا القدريّ، وإنّما كتبت إليه لأجمع بينه وبينه، فإنّه لم يدع عندنا أحداً إلّا خصمه، فقال: إنّ اللّه يكفيناه، قال: فلمّا اجتمعوا قال القدريّ لأبي عبداللّه(عليه السلام): سل عمّا شئت فقال له: اقرأ سورة الحمد، قال: فقرأها، وقال الأمويّ وإنّا معه ما في سورة الحمد غلبنا، إنّا للّه وإنا إليه راجعون قال: فجعل القدريّ يقرأ سورة الحمد حتّي بلغ قول اللّه تبارك وتعالي: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(1) فقال له جعفر: قف؛ من تستعين؟ وما حاجتك إلي المؤونة؟ إنّ الأمر إليك! فبهت الذي كفر، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.(2)

32. في المحاسن: بإسناده عن محمّد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن(عليه السلام) ليونس مولي عليّ بن يقطين:

... يا يونس إنّ القدريّة لم يقولوا بقول اللّه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾،(3) ولا قالوا بقول أهل الجنّة: ﴿الْ-حَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾،(4) ولا قالوا بقول أهل النار: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ﴾،(5) ولا قالوا بقول إبليس: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾،(6) ولا قالوا بقول نوح: ﴿وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.(7) ثمّ قال: قال اللّه: يابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت علي معصيتي، وجعلتك سمعياً بصيراً قويّاً، فما أصابك من حسنة فمنّي، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك لأنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، ثمّ قال: قد نظمت لك كلّ شيء تريده.(8)

33. روي الكلينيّ بسنده عن عليّ بن أسباط قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن

ص: 460


1- 930.. الفاتحة1.، الآية 5.
2- 931.. تفسير العياشيّ، ج1، ص23؛ بحارالأنوار، ج5، ص55، ح98.
3- 932.. الانسان76.، الآية 30؛ التكوير81.، الآية 29.
4- 933.. الأعراف7.، الآية 43.
5- 934.. المؤمنون23.، الآية 106.
6- 935.. الحجر15.، الآية 39.
7- 936.. هود11.، الآية 34.
8- 937.. المحاسن، ج1، ص244، ح238؛ بحارالأنوار، ج5، ص122، ح49.

الاستطاعة، فقال:

يستطيع العبد بعد أربع خصال: أن يكون مخلّي السِّرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، له سبب واردمن اللّه، قال: قلت: جعلت فداك فسّر لي هذا، قال: أن يكون العبد مخلّي السِّرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثمّ يجدها، فإمّا أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف(عليه السلام)، أو يخلّي بينه وبين إرادته فيزني فيمسي زانياً، ولم يطع اللّه بإكراه ولم يعصه بغلبة.(1)

رسالة الإمام الهادي(عليه السلام) في بيان الأمر بين الأمرين

34. التحف: في رسالة الإمام أبي الحسن الثالث صلوات اللّه عليه في الردّ علي أهل الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين:

من عليّ بن محمّد: سلام عليكم وعلي من اتّبع الهدي ورحمة اللّه وبركاته، فإنّه ورد عليَّ كتابكم وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلّه، اعلموا ... لكن نقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ، خلق الخلق بقدرته، وملّكهم استطاعة تعبدّهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد فقبل منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذمّ من عصاه وعاقبه عليها، وللّه الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهي عمّا يكره ويعاقب عليه، بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتّباع أمره واجتناب معاصيه لأنّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده لتبليغ رسالته واحتجاجه علي عباده، اصطفي محمّداً(صلي الله عليه آله و سلم) وبعثه برسالاته إلي خلقه ... ولم يقبل منهم إلّا اتّباع أمره واجتناب نهيه علي يدي من اصطفاه فمن أطاعه رشد، ومن عصاه ضلّ وغوي ولزمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة لاتّباع أمره واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه، وأنزل به عقابه.

وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين

ص: 461


1- 938.. الكافي، ج1، ص160، ح1؛ بحارالأنوار، ج5، ص37، ح54.

صلوات اللّه عليه عباية بن ربعيّ الأسديّ حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل، فقال له أمير المؤمنين: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون اللّه أو مع اللّه؟ فسكتعباية. فقال له أميرالمؤمنين(عليه السلام): قل يا عباية. قال وما أقول؟ قال(عليه السلام): إن قلت إنّك تملكها مع اللّه قتلتك وإن قلت: تملكها دون اللّه قتلتك. قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ قال(عليه السلام): تقول: إنّك تملكها باللّه الذي يُمَلِّكها من دونك، فإن يُمَلِّكها إيّاك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه هو المالك لما ملّكك، والقادر علي ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حين يقولون: «لا حول ولا قوّة إلّا باللّه»؟ قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال:(عليه السلام): لا حول عن معاصي اللّه إلّا بعصمة اللّه، ولا قوّة لنا علي طاعة اللّه إلّا بعون اللّه، قال: فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.

وروي عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة اللّه قال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربّك؟ قال(عليه السلام): بالتمييز الذي خوّلني، والعقل الذي دلّني. قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً علي إحسان، ولا مذموماً علي إساءة، وكان المحسن أولي باللائمة من المسيݘ، فعلمت أنّ اللّه قائم باق، وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل. قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أميرالمؤمنين قال: أصبحت مخيّراً فإن أتيت السيّئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

وروي عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلي الشام بقضاء وقدر؟ قال: نعم يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا إلّا بقضاء وقدر من اللّه. فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين. فقال: مه يا شيخ فإنّ اللّه قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين، ولا إليه مضطرّين، لعلّك ظننت أنّه قضاء حتم وقدر لازم، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد، ولما ألزمت الأشياء أهلها علي الحقائق، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشياطين إنّ اللّه عزّوجلّ أمر تخييراً، ونهي تحذيراً،ولم

ص: 462

يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فقام الشيخ فقبّل رأس أميرالمؤمنين(عليه السلام) وأنشأ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربّك عنّا فيه رضوانا

فليس معذرة في فعل فاحشة * عندي لراكبها ظلما وعصيانا

فقد دلّ قول أمير المؤمنين(عليه السلام) علي موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب، ونعوذ باللّه من الضلالة والكفر، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض، لكنّا نقول بمنزلة بين المنزلتين، وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا اللّه وتعبّدنا بها علي ما شهد به الكتاب ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات اللّه عليهم.

ومَثَل الاختبار بالاستطاعة مَثَل رجل ملك عبداً وملك مالاً كثيراً أحبّ أن يختبر عبده علي علم منه بما يؤول إليه، فملّكه من ماله بعض ما أحبّ، ووقفه علي أمور عرفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها؛ ونهاه عن أسباب لم يحبّها، وتقدّم إليه أن يجتنبها، ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرّف في أيّ الوجهين؛ فصرف المال أحدهما في إتّباع أمر المولي ورضاه، والآخر صرفه في اتّباع نهيه وسخطه، وأسكنه دار اختبار أعلمه أنّه غير دائم له السكني في الدار، وأنّ له داراً غيرها، وهو مخرجه إليها فيها ثواب وعقاب دائمان، فإن أنفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنّه مخرجه إليها، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود، وقد حدّ المولي في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولي، فإذا بلغ الحدّ استبدل المولي بالمال وبالعبد علي أنّه لم يزل مالكا للمال والعبد في الأوقات كلّها، إلّا أنّه وعد أن لا يسلبهذلك المال ما كان في تلك الدار الأولي إلّا أن يست-تمّ سكناه فيها، فوفي له لانّ من صفات المولي العدل والوفاء والنصفة والحكمة، أوليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب وتفضّل عليه بأن استعمله في دار فانية

ص: 463

وأثابه علي طاعته فيها نعيما دائماً في دار باقية دائمة؟ وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولي في الوجه المنهيّ عنه وخالف أمر مولاه كذلك يجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره إيّاها غير ظالم له لما تقدّم إليه وأعلمه وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده بذلك يوصف القادر القاهر؟ وأمّا المولي فهو اللّه عزّ وجلّ، وأمّا العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة اللّه الواسعة، ومحنته إظهار الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدنيا، وبعض المال الذي ملّكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم، والأمور التي أمر اللّه بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتّباع الأنبياء والاقرار بما أوردوه عن اللّه جلّ وعزّ، واجتناب الأسباب التي نهي عنها هي طرق إبليس، وأمّا وعده فالنعيم الدائم وهي الجنّة، وأما الدار الفانية فهي الدنيا، وأمّا الدار فهي الدار الباقية وهي الآخرة، والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوي بالاستطاعة التي ملك العبد، وشرحها في خمسة الأمثال التي ذكرها الصادق(عليه السلام) أنّها جمعت جوامع الفضل، وأنا مفسرّها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء اللّه:

تفسير «صحّة الخلقة»، أمّا قول الصادق(عليه السلام) فإنّ معناه كمال الخلق للإنسان بكمال الحواسّ وثبات العقل والتمييز، وإطلاق اللسان بالنطق، وذلك قول اللّه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(1) فقد أخبر عزّ وجلّ عن تفضيله بني آدم علي سائر خلقه من البهائم والسباع ودوابّ البحر والطير وكلّ ذي حركة تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنطق، وذلك قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(2) وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(3) وفي آيات كثيرة، فأوّل نعمة اللّه علي الإنسان صحّة عقله وتفضيله علي كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان، وذلك أنّ كلّ ذي حركة علي بسيط الأرض هو

ص: 464


1- 939.. الإسراء17.، الآية 70.
2- 940.. التين95.، الآية4.
3- 941.. الأنفطار82.، الآيات 6-8.

قائم بنفسه بحواسّه مستكمل في ذاته ففضّل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواسّ، فمن أجل النطق ملك اللّه ابن آدم غيره من الخلق حتّي صار آمراً ناهياً، وغيره مسخّر له، كما قال اللّه: ﴿كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَي مَا هَدَاكُمْ﴾(1) وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَ-حْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾(2) وقال: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِي-حُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَ-حْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَي بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلنا بِشِقِّ الأَنفُسِ﴾(3) فمن أجل ذلك دعا اللّه الإنسان إلي اتّباع أمره وإلي طاعته بتفضيله إيّاه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة، بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾(4) وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلنا وُسْعَهَا﴾(5) وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلنا مَا آتَاهَا﴾(6) وفي آيات كثيرة، فإذا سلب العبد حاسّة من حواسّه رفع العمل عنه بحاسّته كقوله: ﴿لَيْسَ عَلَي الأَعْمَي حَرَجٌ وَلَا عَلَي الأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾(7) الآية، فقد رفع عن كلّ من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يقوم إلّا بها، وكذلك أوجب علي ذي اليسار الحجّ والزكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك، ولم يوجب علي الفقير الزكاة والحجّ، قوله تعالي: ﴿وَلِلّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(8) وقوله في الظهار: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾(9) إلي قوله: ﴿فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾(10) كلّ

ص: 465


1- 942.. الحج22.، الآية 37.
2- 943.. النحل16.، الآية 14.
3- 944.. النحل16.، الآيات 5 -7.
4- 945.. التغابن64.، الآية16.
5- 946.. البقرة2.، الآية 286.
6- 947.. الطلاق65.، الآية 7.
7- 948.. النور24.، الآية61.
8- 949.. آل عمران3.، الآية 97.
9- 950.. المجادلة58.، الآية3.
10- 951.. المجادلة58.، الآية4.

ذلك دليل علي أنّ اللّه تبارك وتعالي لم يكلّف عباده إلّاما ملّكهم استطاعته بقوّة العمل به، ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحّة الخلقة.

وأمّا قوله: «تخلية السِّرب» فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره اللّه به، وذلك قوله في من استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولم يهتد سبيلاً: ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾(1) فأخبر أنّ المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئنّ القلب بالا يمان.

وأمّا «المهلة» في الوقت فهو العمر الذي يمتع به الإنسان من حدّ ما يجب عليه المعرفة إلي أجل الوقت، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلي أن يأتيه أجله، فمن مات علي طلب الحقّ ولم يدرك كماله فهو علي خير وذلك قوله: ﴿وَمَن يَ-خْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَي اللهِ وَرَسُولِهِ﴾(2) الآية، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلّة ما لم يمهله في الوقت إلي استتمام أمره، وقد حظر علي البالغ ما لم يحظر علي الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله تعالي: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾(3)الآية، فلم يجعل عليهنّ حرجاً في إبداء الزينة للطفل وكذلك لا تجري عليه الاحكام.

وأمّا قوله: «الزاد» فمعناه الجِدَة والبُلغة التي يستعين بها العبد علي ما أمره اللّه به، وذلك قوله: ﴿مَا عَلَي الْمُ-حْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾(4) الآية، ألا تري أنّه قبل عذر من لم يجد ما ينفق، وألزم الحجّة كلّ من أمكنته البُلغة، والراحلة للحجّ والجهاد وأشباه ذلك، كذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقّاً في مال الأغنياء بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾(5) الآية، فأمر بإعفائهم، ولم يكلّفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.

وأمّا قوله: «في السبب المهيج»، فهو النيّة التي هي داعية الإنسان إلي جميع

ص: 466


1- 952.. النساء4.، الآية 98.
2- 953.. النساء4.، الآية 100.
3- 954.. النور24.، الآية 31.
4- 955.. التوبة9.، الآية 91.
5- 956.. البقرة2.، الآية 273.

الأفعال، وحاسّتها القلب، فمن فعل فعلاً وكان بدين لم يعقد قلبه علي ذلك لم يقبل اللّه منه عملاً إلّا بصدق النيّة، كذلك أخبر عن المنافقين بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَالَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾(1) ثمّ أنزل علي نبيّه(صلي الله عليه آله و سلم) توبيخاً للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(2) الآية، فإذا قال الرجل: قولاً واعتقد في قوله دعته النيّة إلي تصديق القول بإظهار الفعل، وإذا لم يعتقد القول لم يتبيّن حقيقة، وقد أجاز اللّه صدق النيّة وإن كان الفعل غير موافق لها لعلّة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: ﴿إلنا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(3) وقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾(4) الآية، فدلّ القرآن وأخبار الرسول(صلي الله عليه آله و سلم) أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ يصحّح أفعالها، ولا يبطل ما يصحّح القلب شيء. فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق(عليه السلام) أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين، وهما الجبر والتفويض، فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كَمُلاً لما أمر اللّه عزّ وجلّ به ورسوله، وإذا نقص العبد منها خلّة كان العمل عنه مطروحاً بحسب ذلك.

فأمّا شواهد القرآن علي الاختبار والبلوي بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة، ومن ذلك قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُ-جَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ﴾(5) وقال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ﴾(6) وقال: ﴿ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾(7) وقال في الفتن التي معناها الاختبار: ﴿وَلَقَدْ فتَنَّا سُلَيْمانَ﴾(8) الآية، وقال في

ص: 467


1- 957.. آل عمران3.، الآية 167.
2- 958.. الصف61.، الآية 2.
3- 959.. النحل16.، الآية 106.
4- 960.. المائدة5.، الآية 89.
5- 961.. محمّد47.، الآية 31.
6- 962.. الأعراف7.، الآية 182.
7- 963.. العنكبوت29.، الآيتان 1-2.
8- 964.. ص38.، الآية 34.

قصّة قوم موسي: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾(1) وقول موسي: ﴿إِنْ هِيَ إلنا فِتْنَتُكَ﴾(2) أي اختبارك، فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض، وأمّا آيات البلوي بمعني الاختبار قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾(3) وقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ﴾(4) وقوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْ-جَنَّةِ﴾،(5) وقوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْ-حَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(6) وقوله:﴿وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾(7) وقوله: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾(8) وكلّ ما في القرآن من بلوي هذه الآيات التي شرح أوّلها فهي اختبار وأمثالها في القرآن كثيرة، فهي إثبات الاختبار والبلوي إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدي، ولا أظهر حكمته لعباً، بذلك أخبر في قوله: ﴿أَفَ-حَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾.(9) فإن قال قائل: فلم يعلم اللّه ما يكون من العباد حتّي اختبرهم؟ قلنا: بلي قد علم ما يكون منهم قبل كونه، وذلك قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾(10) وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذّبهم إلّا بحجّة بعد الفعل، وقد أخبر بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾(11) وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(12) وقوله: ﴿رُسُلاً

ص: 468


1- 965.. طه20.، الآية 85.
2- 966.. الأعراف7.، الآية 155.
3- 967.. المائدة5.، الآية 48.
4- 968.. آل عمران3.، الآية 152.
5- 969.. القلم68.، الآية 17.
6- 970.. الملك67.، الآية 2.
7- 971.. البقرة2.، الآية 124.
8- 972.. محمّد47.، الآية 4.
9- 973.. المؤمنون23.، الآية 115.
10- 974.. الأنعام6.، الآية 28.
11- 975.. طه20.، الآية 134.
12- 976.. الإسراء17.، الآية 15.

مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾(1) فالاختبار من اللّه بالاستطاعة التي ملّكها عبده وهو القول بين الجبر والتفويض، بهذا نطق القرآن وجرت الاخبار عن الأئمّة من آل الرسول ... وفّقنا اللّه وإيّاكم من القول والعمل لما يحبّ ويرضي، وجنّبنا وإيّاكم معاصيه بمنّه وفضله، والحمد للّه كثيراً كما هو أهله، وصلّي اللّه علي محمّد وآله الطيّبين، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.(2)

محصَل الأخبار

ويظهر من هذه الأخبار الشريفة حقيقة الأمر بين الأمرين: فإنّا نجد بالفطرة أنّ العبد إنّما يملك الاستطاعة بتمليك اللّه وإعطائه حدوثاً وبقاءاً، والعبد هو الذي يريد الفعل أو الترك بالقدرة والاستطاعة التي ملّكها اللّه تعالي إيّاه. وأحسن كلمة تبيِّن هذه الحقيقة هي بِحَوْلِ اللّه ِ وَقُوَّتِهِ أقُومُ وَأقْعُد.

فالسلطنة والقدرة التي توجب تساوي طرفي الفعل والترك أمرها بيد اللّه حدوثاً وبقاءاً، ويفيضها إلي العبد آناً فآناً، وهو قادر علي سلبها متي شاء، مضافاً إلي أنّه تعالي قادر علي إيجاد الموانع. وإسناد الفعل أو الترك إلي العبد إنّما هو لأجل تعلّق إرادته التي تستند إلي الفاعل القادر علي كليهما. وعليهذا يكون نفي التفويض لأجل أنّ مبادئ الفعل ومقدّماته الداخليّة والخارجيّة التي منها القدرة والتوفيقات والخذلانات تكون باعطاء اللّه تعالي، والعبد حين الفعل أو الترك وهكذا قبله وبعده وفي جميع حالاته وأطواره وشؤونه يحتاج ويفتقر إلي اللّه حدوثاً وبقاءاً.

وأمّا نفي الجبر فلقدرته واستطاعته التي توجب السيطرة علي الفعل والترك؛ وهذه القدرة حاكمة علي جميع المبادي والدواعي والمقتضيات، والمرجّح علي الفعل أو الترك هو الفاعل بما له من القدرة والمشيّة والرأي، وهذه المشيّة تستند إلي نفس الإنسان، وهي حاكمة بمقتضي القدرة علي جميع المقتضيات والدواعي.

ص: 469


1- 977.. النساء4.، الآية 165.
2- 978.. تحف العقول، ص 475-458؛ بحارالأنوار، ج5، ص 68- 81، ح1.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الفاعل والتارك هو العبد لا الباري تعالي الذي أعطاه القدرة وهيّئ له سائر المقدّمات، نعم لمّا أنّه لا طاعة إلّا بتوفيق اللّه تعالي وإعانته العبد وتسهيل سبيل الطاعة - وقد أعان جميع المكلّفين للإيمان والعمل الصالح بهداياته وإرساله الأنبياء وإلهام الخير والشرّ للعباد وغير ذلك، إلّا أنّه تعالي يزيد توفيقاته لمن عمل وفق توفيقاته السابقة -، ولا معصية إلّا بخذلانه تعالي وإيكال العبد إلي نفسه وعدم إعانته عليها وعدم سلب القدرة عنه - ولا يكون ذلك إلّا بعد إعراض العبد عن الهدايات الإلهيّة والتوفيقات الربّانيّة، فيأخذ تبارك وتعالي عنه تلك التوفيقات بقدر مّا، فيصعب عليه الطاعة -: فهو تعالي أولي بحسناتنا منّا ونحن أولي بسيّئاتنا منه تعالي.

تنبيه في وجه النهي عن الخوض في القدر

لا يخفي أنّ ما بيّناه في حقيقة الأمر بين الأمرين هو ما يجده كلّ عاقل بنور عقله بعد تذكيرات الأئمّة الهداة(عليهم السلام) ولا غبار عليه، إلّا أنّه يبقي سؤال وهو: أنّه إذا كان الأمر بهذا الوضوح لماذا قال الأئمّة(عليهم السلام) للسائلين عن القدر وعن الأمر بين الأمرين، بأنّه بحر عميق فلا تلجه، وسرّ اللّه فلا تتكلّفه؟

والجواب: أنّه يظهر من الأسئلة المطروحة من قبل الرواة أنّهم كانوا بصدد فهم حقيقة الأمر بين الأمرين التي هي القدرة الموهوبة من قِبَلِ اللّه عزّ وجلّ، ومن الواضح أنّ حقيقة القدرة، وكذا فعله تعالي أعني إعطاء القدرة للعبد ممّا لا يمكن تعقّلهما.أمّا الأوّل: فلكون القدرة من الحقائق النوريّة خصوصاً إذا قلنا إنّ حقيقتها هي حقيقة العلم، فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) كانوا يشيرون إلي سعة قدرتهم عبر التذكير بسعة علمهم كما ورد في قصّة آصف بن برخيا وأنّه قدر علي إتيان عرش بلقيس بأقلّ من لحظة بسبب علمه ببعض الكتاب أمّا الأئمّة(عليهم السلام) فبما أنّ لديهم علم الكتاب كلّه فقدرتهم أوسع من آصف بما لا يحصيه إلّا اللّه تعالي ومن الواضح أنّه لا يمكن أن يقع العلم مهبّاً لتيّار الأفكار والتوهّمات، فإنّه لو أمكن تعقّل العلم لكان ذلك معقولاً ومعلوماً، وهذا خلف ذاته، فإنّ النور لا يكون منوّرا.

ص: 470

أمّا الثاني: فلكونه فعل اللّه تعالي وفعله لا يكيّف كما أنّ ذاته القدّوس السبّوح المتعالي لا يكيّف.

نعم ذكّر الأئمّة(عليهم السلام) العبادَ بحقيقة هذين الأمرين من دون تصوّر وتوهّم، أي إنّهم ذكّروا العباد بحقيقة القدرة وذكّروهم بحقيقة فعل اللّه المتعال عن الكيف وإحاطة الفهم والعقل بكنهه، فلاحظ.

مضافاً إلي أنّه يمكن أن يكون وجه كثرة الأسئلة وتكرار الأجوبة هو وقوع الرواة وغيرهم في تيه الحيرة والشكّ لأجل إصرار خلفاء الجور علي نشر مقالة الجبر وفي مقابلهم أصرّ قوم علي مقالة التفويض فوقعوا في ظلمات الأوهام ولذا تكرّر منهم السؤال وتفضّل وتطوّل الأئمّة(عليهم السلام) عليهم وعلي غيرهم ببيان الحقيقة.

ص: 471

ص: 472

الفصل الرابع :توضيح للحديث القدسيّ «يابن آدم! أنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّئاتك منّي»

اشارة

ص: 473

ص: 474

هناك أحاديث كثيرة عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) بهذا التعبير عن ربّ العزّة جلّت عظمته، وهي تدلّ علي أنّ نسبة الحسنات الصادرة علي العبد إلي الباري تعالي أولي من نسبتها إليه بخلاف السيّئات، فإنّ نسبة السيّئات والقبائح الصادرة عن العبد إليه أولي من انتسابها إلي الربّ المتعال السبّوح القدّوس فلنذكر جملة منها ثمّ نتكلّم في المراد منها.

ذكر الأحاديث

في البحار: قال أبو جعفر(عليه السلام):

في التوراة مكتوب مسطور: يا موسي إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك، وأمرتك بطاعتي، ونهيتك عن معصيتي، فإن أطعتني أعنتك علي طاعتي وإن عصيتني لم أعنك علي معصيتي، ولي المنّة عليك في طاعتك، ولي الحجّة عليك في معصيتك.(1)

وفي المحاسن: بإسناده عن محمّد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن(عليه السلام) ليونس مولي عليّ بن يقطين:

يا يونس لا تتكلّم بالقدر ... يا يونس إنّ القدريّة لم يقولوا بقول اللّه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلنا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾،(2) ولا قالوا بقول أهل الجنّة: ﴿الْ-حَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا

ص: 475


1- 979.. تصحيح إعتقادات الإماميّة، ص39؛ بحارالأنوار، ج5، ص9، ح12.
2- 980.. الانسان76.، الآية 30؛ التكوير81.، الآية 29.

لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾،(1) ولا قالوا بقول أهل النار: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْما ضَالِّينَ﴾،(2) ولا قالوا بقول إبليس: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾،(3) ولا قالوا بقول نوح: ﴿وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.(4) ثمّ قال: قال اللّه: يابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت علي معصيتي، وجعلتك سمعياً بصيراً قويّاً، فما أصابك من حسنة فمنّي، وما أصابك من سيّ-ئة فمن نفسك، وذلك لأنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، ثمّ قال: قد نظمت لك كلّ شيء تريده.(5)

وفي التوحيد الصدوق(رحمه الله): بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة، فقال لي: اكتب: «قال اللّه تبارك وتعالي:

يا ابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّ-ئة فمن نفسك، وذلك أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّ-ئاتكمنّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كلّ شيء تريد.(6)

وقيل للعالم(عليه السلام): إنّ بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقولون بالاستطاعة، قال: فأمر أن يكتب:

بسم اللّه الرحمن الرحيم قال اللّه عزّوجلّ: يابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء.

ص: 476


1- 981.. الأعراف7.، الآية 43.
2- 982.. المؤمنون23.، الآية 106.
3- 983.. الحجر15.، الآية 39.
4- 984.. هود11.، الآية 34.
5- 985.. المحاسن، ج1، ص244، ح238؛ بحارالأنوار، ج5، ص122، ح69.
6- 986.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص57، ح4.

وساق إلي آخر ما في خبر البزنطيّ.(1)

عن صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال اللّه تبارك وتعالي:

ابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قويت علي معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيّ-ئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي، وذاك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون.(2)

وفي رواية الحسن بن عليّ الوشّاء، عن الرضا(عليه السلام):

وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلت فيك.(3)

وعن تفسير عليّ بن إبراهيم: أبي، عن النوفلي، عن السكوني عن جعفر، عن أبيه صلوات اللّه عليهما قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

سبق العلم وجفّ القلم ومضي القضاء وتمّ القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وبالسعادة من اللّه لمن آمن واتّقي، وبالشقاء لمن كذب وكفر، وبالولاية من اللّه للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين. ثمّ قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): إنّ اللّه يقول: يابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت علي معصيتي، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي، وأنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بذنبك منّي، الخير منّي إليك بما أوليتك به، والشرّ منّي إليك بما جنيت جزاء، وبكثير من تسلّطي لك انطويت عن طاعتي، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي، فلي الحمد والحجّة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك بي، ولم آخذك عند عزّتك، وهو قوله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُالنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَي ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾(4) لم أُكلّفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الأمانة إلّا ما أقررت بها علي نفسك،

ص: 477


1- 987.. الكافي، ج1، ص159، ح12؛ بحارالأنوار، ج5، ص55.
2- 988.. التوحيد، ص338، ح6؛ بحارالأنوار، ج5، ص56.
3- 989.. تفسير العياشيّ، ج1، ص259، ح201؛ بحارالأنوار، ج5، ص56.
4- 990.. فاطر35.، الآية 45.

ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي.(1)

بيان: قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

قوله(صلي الله عليه آله و سلم): «بتحقيق الكتاب» أي جنس الكتاب، فالمراد كلّ كتاب منزل، أو القرآن، أو اللوح. قوله تعالي: «بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء» أي شئت أن أجعلك شائيّاً مختاراً، وأردت أن أجعلك مريداً فجعلتك كذلك. وفي توحيد الصدوق: «الخير منّي بما أوليت بدءاً»، فيمكن أن يقرأ أوليت علي صيغة الخطاب والتكلّم. قوله تعالي: «وبكثير من تسلّطي لك» أي من التسلّط الذي جعلت لك علي الخلق وعلي الأمور. «وانطوي عن الشيء» أي هاجره وجانبه. وفي التوحيد مكان تلك الفقرة: «وبإحساني إليك قويت علي طاعتي». قوله تعالي: «ولم آخذك عند عزّتك» أي لم أعذّبك عند غفلتك، بل وعظتك ونبّهتك وحذّرتك. وقوله: «وهو قوله» إلي قوله: «من دابّة» ليس في التوحيد ولا يبعد كونه كلام عليّ بن إبراهيم.(2)

ثمّ اعلم، إنّه لا يبعد أن يكون في الحديث «غرّتك» بالغين المعجمة والراء المهملة بدل «عزّتك» بالعين المهملة والزاء المعجمة فيكون المراد: لم أُعَذّبك عند غرورك بحلمي وجرأتك علي المعاصي.

وفي التوحيد للصدوق: بإسناده عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

سبق العلم، وجفّ القلم، ومضي القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وبالسعادة من اللّه عزّوجلّ لمن آمن واتّقي وبالشقاء لمن كذب وكفر وبولاية اللّه المؤمنين وبراءته من المشركين، ثمّ قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): عن اللّه أروي حديثي إنّ اللّه تبارك وتعالي يقول: يا ابن آدم بمشيّ-تي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الّذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت علي معصيتي، وبعصمتي وعوني وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي، فأنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي، فالخير منّي إليك بما أوليت بداءً، والشرّ منّيإليك بما جنيت جزاء، وبإحساني إليك قويت علي طاعتي، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي، فلي الحمد والحجّة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك جزاء الخير عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك،

ص: 478


1- 991.. تفسير القمّيّ، ج2، ص210؛ بحارالأنوار، ج5، ص93، ح13.
2- 992.. بحارالأنوار، ج5، ص94.

ولم أخذك عند عزّتك، ولم أُكلّفك فوق طاقتك، ولم احملك من الأمانة إلّا ما أقررت به علي نفسك رضيت لنفسي منك ما رضيت لنفسك منّي.(1)

وجهان في معني الحديث

الوجه الأوّل: الأولويّة الحقيقيّة
تهيئة أسباب الحسنات والسيّئات مع الترغيب في الأوّل والتحذير عن الثاني

بما أنّ اللّه تعالي قد هيّئ للإنسان أسباب الإتيان بالحسنات والسيّئات وأقدره علي فعل الخير والشرّ، لكنّه رغّب العبد في فعل الخير ووعد جزيل الثواب عليه ووفّق المؤمن لصالح الأعمال، ومن جانب آخر حذّر علي فعل الشرّ وأوعد العقاب عليه وخذل غير المؤمن ووكّله إلي نفسه، صحّ القول بأنّه تعالي أولي بالحسنات من العبد والعبد أولي بسيّئاته منه تعالي.

نبذة من توفيقاته تعالي العبد لارتكاب الحسنات وترك السيّئات

والسرّ في ذلك أنّ العبد ما كان ليقدر علي العمل الصالح لولا إقدار اللّه تعالي إيّاه، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلنا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾،(2) فقدرة العبد علي العمل الصالح إنّما بجعل من اللّه تعالي، بل ولولا توفيقاته لما صدرت عن العبد الحسنات اختياراً، هذا من جانب.

ومن جانب آخر لولا أنّه تعالي خلق الإنسان عالماً عاقلاً يدرك ويشعر، ويميّز الجيّد من الرديّ والخير من الشرّ والصلاح من الفساد، لم يكن قادراً علي إرادة العمل الصالح، ولذا تري أنّ المجنون لا يقدر علي إرادة العمل الصالح بوصف أنّه صالح لأجل أنّه لا يعرفه ولا يعقله، فالعبد حينما يختار فعل الخير ويجتنب عن الشرّ يختاره أو يجتنبه لأنّ اللّه تعالي أكرمه بالعلم والفهم والقدرة وتهيئة أسباب الخير وأعطاه العقل، ولولاه ما عبد الرحمن ولا اكتسب الجنان.

نعم إنّ المجنون والصبيّ يقدران علي العمل الخير كما يقدران علي الشرّ لا بوصف أنّه

ص: 479


1- 993.. التوحيد، ص343، ح13؛ بحارالأنوار، ج5، ص48، ح79.
2- 994.. يونس 10.، الآية 100.

خير أو شرّ ولذا لايمدحان علي الخير ولا يذمّان علي الشرّ لعدم وجدانهما العقل وما به ظهور حسن الأفعال وقبحهما، ولهذه الجهة ورد في الأخبار أنّ العقل خلق من القدرة لا العكس وجُعل العقل مضافاً إلي القدرة من شرائط التكليف.

ومن جهة ثالثة لولا هدايته تعالي وإرائته طريق الخير والشرّ لم يكن العبد قادراً علي اختيار طريق الخير، وهذا نوع من التوفيقات الإلهيّة،(1) فإنّ العقل والعلم ربّما يُسْتغلّ بالشهوات والهوي والغفلات.

فعن مولانا اميرالمؤمنين(عليه السلام): «غلبة الشهوة تبطل العصمة وتورد الهُلك».(2)

وعنه(عليه السلام): «الغضب يُفسد الألباب ويُبْعد عن الصواب».(3)

وعنه(عليه السلام): «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».(4)

وعنه(عليه السلام): «سبب فساد العقل الهوي».(5)

وعنه(عليه السلام): «ذهاب العقل بين الهوي والشهوة».(6)

وعنه(عليه السلام): «غلبة الهوي تفسد الدين والعقل».(7)

وعنه(عليه السلام): «طاعة الهوي تفسد العقل».(8)

وعنه(عليه السلام): «زوال العقل بين دواعي الشهوة والغضب».(9)

وعنه(عليه السلام): «من لم يملك شهوته لم يملك عقله».(10)

ص: 480


1- 995.. كما أشار إليه شيخنا الأستاذ الميرزا حسنعليّ المرواريد(قدس سره) في كتابه: تنبيهات حول المبدأ والمعاد.
2- 996.. غرر الحكم، ص473، ح31.
3- 997.. غرر الحكم، ص73، ح1401؛ مستدرك الوسائل، ج12، ص11، ذيل ح 19[13376]
4- 998.. غرر الحكم، ص204، ح352؛ وسائل الشيعة، ج16، ص25، ح8[20871].
5- 999.. غرر الحكم، ص395، ح6.
6- 1000.. غرر الحكم، ص819، ح124؛ مستدرك الوسائل، ج11، ص211، ح2[12769]
7- 1001.. غرر الحكم، ص64، ح817.
8- 1002.. غرر الحكم، ص434، ح1.
9- 1003.. مستدرك الوسائل، ج11، ص211، ح2[12769]؛ غرر الحكم، ص426، ح 19(ظلال النفس) بدل (زوال العقل).
10- 1004.. غرر الحكم، ص653، ح1341؛ مستدرك الوسائل، ج11، ص212[12769].

وعنه(عليه السلام): «لا عقل مع شهوة».(1)

وعنه(عليه السلام): «كثرة الامانيّ من فساد العقل».(2)

وعنه(عليه السلام): «إعجاب المرء بنفسه دليل علي ضعف عقله».(3)

وربّما لا تبلغ عقول الرجال إلي ما فيه صلاحهم وفسادهم إلّا بعد بيان المعلّم الإلهي، يقول عزّ من قائل: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُ-جُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(4) ويقول: ﴿أَلَمْ نَ-جْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.(5)

ومن أعظم نعمه وآلائه أنّه تعالي قد خلق الإنسان وأعطاه العقل وببركة الإستضائة به يحبّ الفضائل والخيرات ويشتاق إليها وكذا يكره الرذائل، فهو يحبّ الصدق والوفاء والإيمان وعبادة ربّه ومعاونة الضعيف، ويكره الكذب والخيانة والكفر والظلم، فخلَق عزّوجلّ الإنسان وأعطاه ما به يشتاق إلي تحصيل الحسنات والفضائل وألهمه الخير والشرّ وهداه إلي ما فيهصلاحه وفساده وجعله عاقلاً عالماً يدرك صلاحه وفساده، ثمّ لم يقتصر علي ذلك حتّي منّ عليه فبعث الأنبياء والرسل والأوصياء فذكّروا الإنسان وأكملوا هداية ربّهم وأيقظوا البشر من الغفلة، قال تعالي: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.(6)

ولولا هذه الهدايات والتوفيقات، ولولا أن منّ اللّه تعالي علي الإنسان في استضائته بنور العقل الذي به يدرك الحسن والقبيح، لم يكن الإنسان قادراً علي اختيار طريق الخير. فبعد هذا كلّه إذا تحرّك العبد نحو العمل الصالح بالقدرة التي وهبها اللّه إيّاه وبعد هدايته إلي نجد الخير وبعد أن خلقه محبّاً للعمل الصالح بفطرته، لا يكون الفضل إلّا للّه تعالي.

ص: 481


1- 1005.. غرر الحكم، ص770، ح93؛ مستدرك الوسائل، ج11، ص212.
2- 1006.. غرر الحكم، ص525، ح15.
3- 1007.. الكافي، ج1، ص27، ح31؛ وسائل الشيعة، ج1، ص100، ح6[239].
4- 1008.. الشمس91.، الآية 8.
5- 1009.. البلد90.، الآيات 8-10.
6- 1010.. آل عمران3.، الآية 164.

وأعجب من ذلك أنّه تعالي ما اكتفي بهذا كلّه بل شوّق عبده إلي تحصيل الخيرات بأن وعده الجنّة وجزيل الثواب علي العمل الصالح اليسير «وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر».(1) يقول عزّ من قائل:

﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَ-جْرِي مِن تَ-حْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(2)؛

و﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِ-حَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَ-جْرِي مِن تَ-حْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُ-حَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَي الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً﴾.(3)

وواضح أنّه لولا تحريضه وترغيبه وتشويقه والوعد بالثواب علي العمل الصالح، ما كان العبد بحسب طبعه الأولي يتحرّك نحو العمل الصالح، فليس من الجزاف أن نقول أنّه تعالي أولي بحسناتنا منّا، كما يقول أهل الجنّة: ﴿الْ-حَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾.(4)

وهكذا العبد بعد تلكم الهدايات الإلهيّة وبعد ما أراه طريق رشده عن غيّه وبعد أن رغّبه في ترك القبائح ووعده الثواب الجزيل علي ترك الذنب، ثمّ خوّفه من ارتكاب الشرّ وأوعد عليه العذاب الشديد، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.(5)

ص: 482


1- 1011.. كتاب من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص295، ح905؛ بحارالأنوار، ج81، ص125، ح21.
2- 1012.. التوبة9.، الآية 72.
3- 1013.. الكهف18.، الآيتان 30-31.
4- 1014.. الأعراف7.، الآية 43.
5- 1015.. يونس 10.، الآية 27.

فلو ارتكب العبد بعد ذلك كلّه السيّئة وسعي في عصيان ربّه بالقدرة التي منحه اللّه تعالي والنعمة التي أنعم اللّه بها عليه، لا يستحقّ اللّوم والعتاب والذمّ إلّا هو بنفسه، لأنّه تعالي قد شاء وأراد أن يصرفه عن ارتكاب القبائح بأساليب عديدة بقدر لا يصير مجبوراً - لأنّه خلاف الحكمة - ولكنّ العبد أعرض عن ذلك بسوء اختياره حينما كان قادراً علي العمل الصالح وكان يعلم أنّه خير له وموجب لوصوله إلي أعلي درجات الكمال في الجنّة، وأنّ السيّئة شرّ له ويستحقّ بارتكابها السقوط في أسفل دركات الجحيم، وكلّ ذلك بلطف اللّه وإنعامه، فاختار الشرّ والغيّ والنار والبُعد عن جوار رحمة العزيز الغفّار. فالعبد حينما يرتكب السيّئة إنّما يرتكبها بالقدرة الّتي منحها اللّه تعالي إيّاه، فهو بسبب ارتكاب القبائح يؤذن بحرب من اللّه بنعمه وإحسانه - التي منحها إيّاه كي يصرفها في طريق الطاعة -.

في قرب الإسناد: أحمد بن محمّد، عن البزنطيّ، عن الرضا(عليه السلام) قال:

كان عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إذا ناجي ربّه قال: يا ربّ قويت علي معصيتك بنعمتك.(1)

وإنّ اللّه تعالي لا يسلب القدرة عن العبد حينما يختار المعصية كي يصحّ الثواب والعقاب وتحقّق الحكمة في إبتلاء الناس وإفتنانهم قال تعالي:

﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛(2)

ولعلّه هو معني قوله تعالي: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.(3)

حكمة وجود الشهوات والشيطان

وأمّا الأهواء والشهوات ووساوس الشيطان فليس تأثيرها في الأفعال الاختياريّة بحيث تخرج الإنسان عن الاختيار، أو تصير سبباً لجهله وعدم علمه بقبح السيّئات والقبائح حين إرتكابها، بل إنّه في حين شدّة شهوته ورغبته في إرتكاب القبائح يعلم أنّها قبيحة وموجبة

ص: 483


1- 1016.. قرب الإسناد، ص358، ح1281؛ بحارالأنوار، ج5، ص5، ح4.
2- 1017.. العنكبوت29.، الآيتان 1-2.
3- 1018.. البقرة2.، الآية 256؛ راجع إلي ما ذكره شيخنا الأستاذ في تفسيره مناهج البيان، الجزء الثالث، ص17-20.

للعقاب والبُعد عن حضرة العزيز الجبّار، فإنّ وساوس شياطين الجنّ تكون كوساوس شياطين الإنس لا تخرج الإنسان عن كونه ذا مشيّة وإرادة وقدرة، قال تعالي:

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْ-حَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِن سُلْطَانٍ إلنا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتمُ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.(1)

نعم يمكن أن يكون ارتكاب السيّئات والإصرار عليها وكذا العناد واللّجاج في قبال الحقّ سبباً لطبع القلب وأن يزيّن له الشيطان السيّئات والقبائح، ولكنّه يرجع إلي سوء اختيار العبد وإرتكابه السيّئات وعناده مع الحقّ.

وبعبارة أخري: يكون العبد هو السبب في صيرورة نور العقل محجوباً بحجاب الشهوات، وهو السبب في خذلان نفسه وحصول الطبع لقلبه.

وهذه الوساوس الشيطانيّة والشهوات النفسانيّة وأهوائها - مضافاً إلي أنّها لا توجب سلب القدرة والإرادة كما مرّ آنفاً - تكون المجاهدة معها سبباً لرقيّ الإنسان إلي أعلي درجات القرب والكمال، حيث إنّ من الواضح أنّه لو لم يكن للإنسان أيّ شهوة وهوي إلي المعصية ثمّ لم يأت بالمحرّمات لا يكون ذلك كمالاً له، فإنّ إرتكاب الحسنات وترك السيّئات جبراً لا يكون كمالاً ولا فضيلة للإنسان، بل كلّما كانت دواعي العصيان في الإنسان أقوي، يكون ترك المعصية من العبد سبباً لتعاليه إلي أعلي درجات الإنسانيّة والفضيلة.

وأمّا بقاء الشيطان إنّما هو لأجل أنّه سأل اللّه تعالي الإنظار إلي يوم البعث فأجابه اللّه تعالي بأنّك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم، جزاء لما أتي به من العبادة قبل تخلّفه عن السجود لآدم. وفي إنظارهإمتحان البشر واختباره، مع أنّ العبادة تكون مع وجود وساوسه أعظم درجة من العبادة بدونها.

وأمّا الشهوات والأهواء النفسانيّة فجعلها في الإنسان لأجل بقاء الإنسان فنظام عيشه

ص: 484


1- 1019.. إبراهيم14.، الآية 22.

متوقّف علي وجودها. والموجب للعصيان وانحراف الإنسان من الصراط المستقيم هو عدم عقال النفس بنور العقل والشرع مع تمكّن الإنسان وقدرته علي ذلك. أضف إلي ذلك أنّ الحكمة العالية في إتيان البشر إلي دار الدنيا هي الفتنة والإختبار والإبتلاء، ومن الواضح أنّ الإنسان إنّما يفتتن ويختبر بسبب الوساوس والشهوات والميولات النفسانيّة.

فعلي هذا يعلم أنّ اللّه تعالي قد هيّي ء كلّ ما يمكن أن يصرف العبد عن المعصية - سوي التوفيقات الخاصّة - ما خلا سلب القدرة منه وإزالة الشهوات والوساوس عنه، وقد علمت أنّ كليهما ممّا يحتاج الإنسان إليه في كماله وتعاليه وقربه، والحرمان عنها مناف للحكمة.

وعلي هذا لو ارتكب العبد السيّئات بالقدرة التي أعطاها اللّه إيّاه وبعد تلك الهدايات والتوعيد عليها والتحريض علي تركها، يكون هو أولي بها من خالقه، فيكون اللّوم عليه لا علي ربّه القدّوس، كما يقول اهل النار: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ﴾.(1)

فنسبة القبائح إليه جلّت عظمته مع نهيه وتحذيره عنها بأبلغ الوجه ظلم وجفاء وافتراء عليه تعالي، لأنّه تعالي لم يعط العبد القدرة ليرتكب القبائح بل إنّ العبد بسوء اختياره يصرفها في القبيح مع نهيه تعالي عنه وتوعيده علي فعله، وقد ورد في الحديث الشريف:

عن ياسر الخادم، قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسي الرضا(عليهما السلام) يقول:

من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك ومن نسب إليه ما نهي عنه فهو كافر.(2)

زبدة القول في معني الحديث

والحاصل في بيان الأولويّة في كلا الطرفين: أنّ للّه تعالي دخلاً في الأفعال الصادرة عن العباد بالقدرة والإرادة من جهة إعطائه العبد القدرة والسلطنة، فإنّه لولا القدرة لما صحّ إسناد الفعل إلي العبد بل لابدّ منإسناده إلي من أوجد الفعل. فالفعل الصادر عن العبد يستند إليه بما له من القدرة سواء كان الفعل حسناً أم قبيحاً، فصرف القدرة في الطاعة أو المعصية وتطبيق الفعل علي العنوان الحسن - كتطبيق القيام والقعود والتكلّم علي الصلاة

ص: 485


1- 1020.. المؤمنون23.، الآية 106.
2- 1021.. الاحتجاج، ج2، ص410؛ بحارالأنوار، ج3، ص294، ح1.

- أو علي العنوان السيّي ء - كتطبيقها بنحو يصدق عليها العصيان - بيد العبد، ولذا ورد في الحديث خطاباً لابن آدم: «حسناتك» و«سيّئاتك».(1)

والفرق بين الحسنات والسيّئات أنّ اللّه تعالي أمر بالحسنات وجعل الثواب عليها ويوجد الشوق في العبد بالنسبة إليها، ونهي عن السيّئات ورتّب عليها العقاب وحذّره من ارتكابها، فلذا يكون هو أولي من العبد بالحسنات ويكون العبد أولي منه بالسيّئات. فإنّ العبد يختار الحسنات بالقدرة وتوفيقه وإعانته تعالي بحيث لو سلب القدرة منه يصير مجبوراً، ويرتكب العبد السيّئات بالقدرة التي أعطاها اللّه تعالي -- ليصرفها في الطاعة والعبوديّة وهداه إلي ذلك -- بلا إعانة منه تعالي للعبد عليها، فهو أولي بالحسنات من العبد والعبد أولي بالسيّئات منه تعالي.

إذا عرفت ذلك يظهر لك أنّه يصحّ أن يقال: إنّ للّه تعالي دخلاً في الأفعال الصادرة عن العباد، وكذا يصحّ أن يقال: إنّ للّه تعالي دخلاً في الحسنات الصادرة عنهم بل هو أولي بحسنات العبد. وأمّا التعبير بأنّ للّه تعالي دخلاً في عصيان العبد وسيّئاته لا يكون بمعني أنّه تعالي حرّضه عليها فإنّ هذا المعني لا يليق بقدس الربّ المتعال، حيث إنّا بيّنّا أنّ دخله تعالي في الأفعال يكون بإعطاء العبد القدرة التي يمكن صرفها في الطاعة والمعصية وأمّا تطبيقها علي العنوان السيّي ء فيكون بيد العبد.

الوجه الثاني: الأولوية التقديرية

اشارة

هذا، وهناك معني دقيق للحديث الشريف يومي إلي شدّة سبوحيّة الباري تعالي عن الأفعال القبيحة فلابدّ من ذكره، وقبل ذلك يستوجب المقام ذكر بعض المقدّمات:

الأولي: قوله تعالي: «بحسناتك» و«بسيّ-ئاتك» يدلّ صريحاً علي صدور الفعل عن العبد بالقدرة والاختيار وإستناده إليه.

الثانية: من الواضح أنّ أولويّة اللّه تعالي بالحسنات لا يوجب إسناد الفعل إليه ولذا لانقول: إنّه هو الذي صلّي وزكّي، بل نقول إنّ هذه الأفعال مستندة إلي العبد ولكن بما أنّ

ص: 486


1- 1022.. راجع: مرآة العقول، ج2، ص163-164.

اللّه تعالي أعطي القدرة للعبد ووفّقه للحسنات فهو أولي بها منه.

الثالثة: إنّ الفعل تارة يسند إلي الفاعل بنحو الصدور وأُخري يسند إلي المحلّ باعتبار الحلول نظير مات زيد ومرض عمرو وثالثة يسند إلي ما وقع عليه الفعل نحو ضُرِب عمرو وتارة يسند إلي غير ذلك كالزمان والمكان فلا يكون الإسناد والإنتساب دائماً بنحو الصدور وهذه الأحاديث تدلّ علي أنّ نسبة الحسنات إلي الباري تعالي اولي من نسبتها وإسنادها إلي العبد والإسناد والنسبة أعمّ من الصدور كما هو واضح. نعم اولويّة إسناد السيّئات إلي العبد تكون من جهة الإسناد الصدوريّ وهذا لا يدلّ علي أنّ المراد من اولويّة انتساب الحسنات إلي اللّه تعالي أيضاً من جهة الصدور لما مرّ في المقدّمة السابقة وهذه الأحاديث بصدد بيان الألطاف الإلهيّة والعنايات الربّانيّة علي العبيد بتوفيقهم لإتيان الحسنات دون السيّئات.

الرابعة: إنّه لابدّ من تقديسه تعالي عن جميع القبائح بجميع أنواع التقديس والتنزيه، بمعني أنّ جميع كمالات العبد تكون بمنّه وفضله وإعطائه، وجميع النقائص ترجع إلي العبد نفسه، وليس له تعالي دخل فيها ولاتليق أفعال العباد بسبّوحيّته تعالي وقدّوسيّته كما عن الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة: «منّي ما يليق بلؤمي ومنك ما يليق بكرمك»(1) ولابدّ من تسبيحه تعالي بجميع التسبيحات وأعلي مراتبها.

الخامسة: إنّ المتصوّر في أفعال العباد ثلاثة: صدورها عن اللّه تعالي، وصدورها عن اللّه تعالي وعن العبد، وصدورها عن العبد.

و الأوّلان باطلان ضرورة كما مرّ في الجواب عن الوجه الثاني، فيتعيّن الثالث. وقد مرّ في الخبر عن الإمام الكاظم قوله(عليه السلام):

إن كانت أفاعيل العباد من اللّه دون خلقه فاللّه أعلي وأعزّ وأعدل من أن يعذّب عبيده علي فعل نفسه. وإن كانت من اللّه ومن خلقه فإنّه أعلي وأعزّ من أن يعذّب عبيده علي فعل قد شاركهم فيه، وإن كانت أفاعيلالعباد من العباد فإن عذّب فبعدله، وإن غفر فهو أهل التقوي وأهل المغفرة.(2)

ص: 487


1- 1023.. إقبال الأعمال، ج1، ص348؛ بحارالأنوار، ج95، ص225، ح2.
2- 1024.. كنز الفوائد، ج1، ص366؛ بحار الأنوار، ج10، ص248، ح17.

السادسة: إنّ صيغة التفضيل إذا استعملت بالنسبة إلي الباري تعالي تكون منسلخةً عن معني التفاضل، وذلك لأنّه ليس له تعالي شبه ومثل ولا سنخيّة بينه وبين خلقه كي يصحّ التفاضل بالنسبة إليه. وهذا إستعمال شايع في لغة العرب، وممّا انسلخت فيه خصوص كلمة «أولي» عن التفاضل ما ورد في قوله تعالي:

﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَي الرَّحْمنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَي بِهَا صِلِيّاً﴾.(1)

فإنّ هذه الآيات إنّما تكون بصدد بيان حال الكفّار ومآل كفرهم ومن الواضح أنّ الكفر يوجب دخول النار لا أنّه يحدث له أولويّة لدخولها.

وكذا ما قاله سيّد الشهداء(عليه السلام) للكافر المعاند لعنه اللّه حينما قال له: «يا حسين أتعجّلت النار قبل يوم القيامة»، فقال(عليه السلام): «يابن راعية المعزي أنت أولي بها صليّاً».(2) ومن الواضح أنّ التفاضل هنا منفيّ قطعاً.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إنّ مقتضي المعني السابق هو أنّ مقدّمات الحسنات من اللّه تعالي، كإعطاء القدرة والعلم والتوفيق وإيجاد الشوق في نفس العبد والترهيب. أمّا كونه تعالي أولي بالنسبة إلي نفس الفعل الحسن فلا. فإنّه مع ملاحظة كلّ ما ذكر في الوجه الأوّل - من أنّ جميع مقدّمات الحسنات إنّما يكون من إعطاء الباري تعالي ولولاه لم يكن العبد ليتحرّك نحوها - لا يصحّ أن نقول إنّ اللّه تعالي هو الذي فعل الحسنات، كما ينافيه متن الخبر فإنّ الحسنات والسيّئات أسندت إلي العبد حيث عبّر فيه: «بحسناتك» و«سيّئاتك». غاية الأمر يكون الربّ تعالي أولي بالنسبة إلي مقدّمات الفعل لا إلي نفس الفعل. مع أنّ الخبر يقول إنّه تعالي أولي بالنسبة إلي الحسنات نفسها.

فهناك أمران ينبغي الإلتفات إلي افتراقهما، أحدهما: وجه أولويّة الباري تعالي،

ص: 488


1- 1025.. مريم19.، الآيات 68-70.
2- 1026.. الإرشاد، ج2، ص96؛ بحارالأنوار، ج45، ص5، ح2.

وثانيهما: متعلّق أولويّته تعالي، وهكذا في طرف العبد. والوجه الأوّلفي معني الحديث إنّما تكفّل لبيان الأمر الأوّل وتبقي المشكلة في بيان الأمر الثاني.

فحينئذ نقول: قد مرّ أنّه لا معني لإشتراك الباري تعالي مع العبد في الأفعال كي يكون هو تعالي أولي من العبد في الحسنات والعبد أولي منه تعالي في السيّئات، وعليه يكون إسم التفضيل منسلخاً عن معني التفاضل في خصوص هذا الحديث، بعد أن كانت منسلخاً عن التفاضل مهما استعمل في اللّه تعالي مطلقاً. مع أنّه لو كان كلمة أولي باقية علي معني التفاضل في هذا الحديث لكان اللازم منه أن يصحّ إسناد السيّئات إليه تعالي إلّا أنّ العبد أولي بذلك، وهو ينافي سبّوحيّته وقدّوسيّته تعالي بكمال التسبيح والقداسة.

وحينئذ فلامناص من أن نقول إنّ المراد من الحديث بيان أنّ الحسنات نفسها - لا مقدّماتها - إنّما تكون من اللّه تعالي، والسيّئات إنّما تكون من العبد، ففاعل الحسنات هو اللّه تعالي وفاعل السيّئات هو العبد.

ولكن لمّا نعلم بالضرورة العقليّة والشرعيّة إنّ هذا المعني غير مراد قطعاً، وأنّه مناف لإسناد الحسنات والسيّئات إلي العبد في نفس الحديث، فيكون الحديث عبارة عن بيان حكم تعليقيّ وإفتراضيّ أي إنّه لو دار الأمر بين إسناد الأفعال الصادرة عن العبد إليه أو إلي الباري تعالي؛ فيكون اللّه أولي بالحسنات والعبد أولي بالسيّئات. لا أنّ فعل العبد يستند إليه وإلي الباري ولكنّ العبد أولي بسيّئاته من الربّ والربّ أولي بالحسنات منه.

فيكون الحديث في مقام الردّ علي المجبّرة وتنزيه ساحة الباري تعالي عن سيّئاتهم. وذلك لأنّ القائلين بالجبر إنّما ذهبوا إليه كي يستريحوا من تبعات معاصيهم وسيّئاتهم، فقالوا إنّ الموجد لأفعالنا ليس إلّا اللّه تعالي فليس اللّوم علينا حينما نرتكب القبيح لأنّه لا اختيار لنا فيه. ومن الواضح أنّهم ما أرادوا بذهابهم إلي الجبر أن يسندوا حسناتهم إلي اللّه تعالي بل أرادوا أن يبرّئوا أنفسهم من سيّئاتهم.

واللّه تبارك وتعالي يقول لهم إنّ الحسنات والسيّئات ليست إلّا من فعلكم بالقدرة والاختيار، ولو أردتم أن تُنسبوا إلي اللّه تعالي وكان هناك جبر - علي فرض المحال . لكان

ص: 489

ينبغي أن تُسندوا حسناتكم إلي بارئكم وسيّئاتكم إلي أنفسكم، علي عكس ما أردتم تماماً.

ووجه الأولويّة - فيما لو دار الأمر بين إسناد الأفعال إلي اللّه تعالي أو إلي العبد - هو ما ذكر في المعني الأوّل، أي: إنّ اللّه تعالي أعطاكم القدرة والاختيار ثمّ رغّبكم في فعل الخيرات ووفّقكم لها وأمركم بها وفطركم علي محبّتها وأعانكم علي فعلها، إلي غير ذلك ممّا مرّ هناك. وهكذا حذّركم عن إرتكاب المعاصي وفطركم علي كراهتها وهداكم إلي قبحها ونهاكم عنها ولم يعنكم علي فعلها، فلأجل ذلك لو تقوّلتم بالجبر فعليكم أن تقولوا به في الحسنات لا في السيّئات. فالحسنات هي التي لولا عونه تعالي وترغيبه وإيجاد الشوق في أنفسكم إليها ما كنتم لتعملوها، دون السيّئات التي منعكم عنها بشتّي أنواع المنع لكنّكم أعرضتم عنها فخذلكم ولم يعنكم علي فعلها.

فيكون الحديث في مقام إبطال الجبر وإبطال إسناد السيّئات إلي اللّه تعالي، وأيضاً في مقام إبطال توهّم شركة الباري تعالي فيها مع العبد من جهة أنّه لو دار الأمر بينهما فهو أولي بالحسنات والعبد أولي بالسيّئات، لا كما توهّمه المجبرّة حيث سوّلت لهم أنفسهم وزيّن لهم الشيطان فاتّهموا ربّهم وأسندوا إليه قبائح أعمالهم، كما قال إبليس اللّعين: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾.(1)

إذا عرفت هذه الأمور تعرف أنّه كيف قلع الأئمّة(عليهم السلام) الشبهة من أساسها وبيّنوا الرشد من الغيّ، وأنّ الإلتزام بقدرة الإنسان وسلطنته علي أفعاله الاختياريّة بإفاضته تعالي القدرة عليه لا ينافي الإلتزام بالتوحيد؛ فانظر إلي الأحاديث الشريفة مرّة أخري بعين الإعتبار(2) لتنظر أنّهم: كيف واجهوا الشبهة فعقروها في عقر دارها.

التوحيد: بإسناده عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: سأل المأمون يوماً عليّ بن موسي الرضا(عليهما السلام) فقال له: يا ابن رسول اللّه ما معني قول اللّه عزّوجلّ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا

ص: 490


1- 1027.. الحجر15.، الآية 39.
2- 1028.. قد مرّ ذكرها في نقد الوجه الثالث من الوجوه النظريّة علي مسلك الجبر.

كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلنا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾(1)فقال الرضا(عليه السلام):

حدّثني أبي موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام): أنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من الناس علي الاسلام كثر عددنا وقوينا علي عدوّنا، فقال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): ما كنت لألقي اللّه عزّوجلّ ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئاً، وما أنا من المتكلّفين، فأنزل اللّه تبارك وتعالي: يا محمّد ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً﴾ علي سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لهم لم يستحقّوا منّي ثواباً ولا مدحاً، لكنّي أُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين ليستحقّوا منّي الزُّلفي والكرامة ودوام الخلود في جنّة الخلد ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وأمّا قوله عزّوجلّ: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلنا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فليس ذلك علي سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن علي معني أنّها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن اللّه، وإذنه أمره لها بالإيمان ما كانت مكلّفة متعبّدة، وإلجاؤه إيّاها إلي الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها. فقال المأمون: فرّجت عني يا أبا الحسن فرّج اللّه عنك.(2)

الاحتجاج: عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقال: أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان علي ذلك قادراً؟ قال(عليه السلام):

لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأنّ الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتجّ عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب. قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح العبد يفعله واللّه به أمره، والعمل الشرّ العبد يفعله واللّه عنه نهاه؛ قال: أليس

ص: 491


1- 1029..يونس 10.، الآيتان 99-100.
2- 1030.. التوحيد، ص341، ح11؛ بحارالأنوار، ج5، ص49، ح80.

فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟ قال:نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها علي الشرّ الذي نهاه عنه. قال: فإلي العبد من الامر شيء؟ قال: ما نهاه اللّه عن شيء إلّا وقد علم أنّه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلّا وقد علم أنّه يستطيع فعله لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. قال: فمن خلقه اللّه كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟ قال(عليه السلام): إنّ اللّه خلق خلقه جميعا مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتا لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده فبإنكاره الحقّ صار كافراً، قال: فيجوز أن يقدّر علي العبد الشرّ ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذّبه عليه؟ قال: إنّه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر علي العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والانزاع عمّا لا يقدر علي تركه، ثمّ يعذّبه علي تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه ... .(1)

ما عشت أراك الدهر عجبا!

بعد ما عرفت أنّ الإلتزام بالاختيار في أفعال العباد والقول بفاعليّة غيره تعالي بإذنه لا ينافي التوحيد، بل يساعد التوحيد الحقيقيّ ويلائمه كمال الملائمة وإنكاره يستلزم إنكار قدرة الباري تعالي، وعرفت أيضاً أنّ أولويّته تعالي بحسنات العبد لا ترتبط بما استدلّوا به علي الجبر - من التوحيد الأفعالي -؛ اُنظر إلي ما ذكره بعض المعاصرين وأنّه كيف بالغ في إثبات الجبر بهذا الوجه، حتّي قال: إنّ جميع ما يحدث في الكون وجميع ما يصنعه العباد مرضيّ للّه جلّ جلاله بما في أفعالهم من الكفر والظلم والفجور، وليس أحد من الناس إلّا وهو سعيد حتّي الفجرة الفسقة، فقال ما نصّه:

أنّ من كان مرضيّاً عند ربّه فهو سعيد، ولا يوجد في الكون شيء من الأُمور والأشياء والأجناس العالية أو السافلة والأنواع والأفراد والأشخاص والصفات والخلقيّات والأفعال الحسنة والقبيحة إلّا وربّه راض عنها، لأنّ كلّ ما لهذا الموجود من الصفات والأفعال إنّما

ص: 492


1- 1031.. الاحتجاج، ج2، ص340؛ بحارالأنوار، ج10، ص170، ح2.

يكون من الربّ الذي يكون متصرّفاً فيه بالحقيقة،فإنّه لا فعل للعين الممكنة بل الفعل فعل ربّه فيه، والربّ راض عن فعله وعن مقتضاه. فجميع المخلوقات وجميع أفعالهم مرضيّ للرّبّ وكلّ مرضيّ محبوب، فجميع الخلق محبوب للرّبّ وكلّ ما يفعله المحبوب محبوب أيضاً، فجميع الممكنات وجميع أفعالهم محبوبة للربّ المتعال. ولو أشكل عليك أنّه كيف صار الجميع سعيداً مع أنّه من المسلّمات أنّ هناك سعيداً وشقّياً. فيجاب: بأنّ التمايز بينهما إنّما يكون في أنّ السعيد هو من يعرف هذه الحقيقة العرفانيّة والشقيّ من لا يعرفها، أي أنّ السعيد هو من يعلم أنّ الكلّ سعيد ولا يوجد ثمّة تميز بينه وبين الشقيّ، والشقيّ من لا يعلم ذلك.(1)

ليت شعري هل قرأ هذا القائل الآيات القرآنيّة الآتية ثمّ قال ما قال وأدلي بتوهّمه؟!

ص: 493


1- 1032.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص198-196: سعيد كسي است كه نزد ربّ خود مرضيّ است و نيست در وجود مگر آنكه نزد ربّ خود مرضيّ است؛ زيرا اين ربّ است كه ربوبيّت خود را بر مربوب باقي مي دارد ... قيصري گويد: «هر يك از موجودات در نزد ربّ خود مرضيّ است؛ زيرا آنچه از اخلاق وافعال كه آن موجود به آن متّصف است همه از جانب ربّي است كه بهحقيقت در آن موجود متصرّف است، و ربّ از فعل و مقتضاي فعل خود راضي است. چه اگر راضي نبوداز او صادر نمي شد؛ زيرا در صدور آن مجبور نيست. و همانا عبد به قدر قابليّتش كمالات و افعال ربّ را بروز و ظهور داده، پس در نزد ربّ خود مرضيّ و سعيد است. و تمييز شقيّ از سعيد در اين است كه سعيد مي داند امر چنين است، پس سعادتش به علم و معرفتش مي باشد، و هر كس اين را ندانست و افعال را به قوابل نسبت داد از راحت عظمي و پاداش نيكو دور ماند، پس شقاوت شقيّ به جهل وعدم عرفانش مي باشد» ... «و كلّ مرضيّ محبوب، وكلّ ما يفعل المحبوب محبوب، فكلّه مرضيّ لأنّه لا فعل للعبد بل الفعل لربّها فيها» ... هر مرضيّ محبوب است (يعني به نسبت آن كسي كه اراده و رضايش به او تعلّق گرفت) و هر چه را كه محبوب مي كند محبوب محبّ او نيز هست، پس آنچه در دار وجود انجام مي شود و جريان مي يابد مرضيّ است (زيرا مرضيّ ربّ اوست). زيرا براي عين ممكنه فعلي نيست، بلكه فعل براي ربّ آن عين در آن عين است (يعني فعل، فعل ربّ است كه در عين ظاهر مي شود)، پس عين موجوده قبول كرده است كه فعلي به او اضافه و نسبت داده شود. پس عين راضي شد به آنچه كه در او ظاهر مي شود واز او ظهور مي كند، يعني افعال ربّش (به اعتبار قرب فرايض ونوافل). پس آن افعال مرضيّ ربّش است؛ زيرا هر فاعل و صانعي از فعل و صنعت خود راضي است ... و﴿أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي﴾ يعني بيان كرده است كه خلق هر چيزي را به او عطا كرده است پس قبول نقص و زياده نمي كند.

﴿هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَي مِنَ الْقَوْلِ﴾؛(1)

و﴿يَ-حْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه َ لَايَرْضَي عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾؛(2)

و﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَي لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوْا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾؛(3)

و﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلنا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إلنا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْ-جَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلنا ما شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛(4)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛(5)

و﴿وَاللهُ لَا يُ-حِبُّ الْفَسَادَ﴾؛(6)

و﴿وَاللهُ لَا يُ-حِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾؛(7)

و﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ الْكَافِرِينَ﴾؛(8)

و﴿وَاللهُ لَا يُ-حِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؛(9)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ مِن كَانَ مُخْتَالاً فَ-خُوراً﴾؛(10)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾؛(11)

ص: 494


1- 1033.. النساء4.، الآية 108.
2- 1034.. التوبة9.، الآية 96.
3- 1035.. الزمر39.، الآية 7.
4- 1036.. هود11.، الآيات 105-108.
5- 1037.. البقرة2.، الآية 190.
6- 1038.. البقرة2.، الآية 205.
7- 1039.. البقرة2.، الآية 276.
8- 1040.. آل عمران3.، الآية 32.
9- 1041.. آل عمران3.، الآيتان 57و140.
10- 1042.. النساء4.، الآية 36.
11- 1043.. النساء4.، الآية 107.

و﴿لَا يُ-حِبُّ اللهُ الْ-جَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلنا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾؛(1)

و﴿وَاللهُ لَا يُ-حِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾؛(2)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛(3)

و﴿إِنَّهُ لَا يُ-حِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾؛(4)-(5)

و﴿إِنَّهُ لَا يُ-حِبُّ الْمُعْتَدينَ﴾؛(6)

و﴿إِنَّ اللهَ لَا يُ-حِبُّ الْ-خَائِنِينَ﴾؛(7)

و﴿إِنَّهُ لَا يُ-حِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾؛(8)

و﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُ-حِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾؛(9)

و﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَي فَبَغَي عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِ-حَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُ-حِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيَما آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُ-حِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾؛(10)

و﴿إِنَّهُ لَا يُ-حِبُّ الْكَافِرِينَ﴾؛(11)

ص: 495


1- 1044.. النساء4.، الآية 148.
2- 1045.. المائدة5.، الآية 64.
3- 1046.. المائدة5.، الآية 87.
4- 1047.. الأنعام6.، الآية 141.
5- 1048.. الأعراف7.، الآية 31.
6- 1049.. الأعراف7.، الآية 55.
7- 1050.. الأنفال8.، الآية 58.
8- 1051.. النحل16.، الآية 23.
9- 1052.. الحج22.، الآية 38.
10- 1053.. القصص28.، الآيتان 76-77.
11- 1054.. الروم30.، الآية 45.

و﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُ-حِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَ-خُورٍ﴾؛(1)

و﴿إِنَّهُ لَا يُ-حِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؛(2)

و﴿وَاللهُ لَا يُ-حِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَ-خُورٍ﴾.(3)

ثمّ ما هو وجه إستشهاده بالآية الكريمة: ﴿أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي﴾(4)؟ فإنّها في سياق قوله تعالي: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾.(5)

وإذا كان الأمر كما زعمه هذا البعض فأيّ وجه وأيّ معني للعقاب والعذاب؟

هل إنّه تعالي يعاقب علي ما يحبّه ويرضاه مع أنّه هو الذي أجراه علي الإنسان؟

أو كيف يسأله عمّا هو أظهره عليه؟

ثمّ إنّه كيف قال إنّ العين قبل ورضي بفعل ربّه فيه، هل له اختيار في أن يرضي أو لا يرضي؟وأعجب من ذلك كلّه ما ذكره عن القيصريّ من أنّ السعيد هو من يعلم هذه الحقيقة العرفانيّة والشقيّ من لم يعرفها؛ هل هذه المعرفة باختيار منه أم هو فعل ربّه وقد أجراه عليه؟

وقد قال في موضع آخر أنّه:

من الناس من يسلك طريقاً لا يعرف حقيقته ولا يعرف إنّ غايته ينتهي إلي الحق، و من ثم لا يكون هذا الطريق مستقيماً بالنسبة إليه، في حين أنّ الطريق الذي يسلك فيه بعينه هو الصراط المستقيم عند العارفين.(6)

ص: 496


1- 1055.. لقمان31.، الآية 18.
2- 1056.. الشوري42.، الآية 40.
3- 1057.. الحديد57.، الآية 23.
4- 1058.. طه20.، الآية 50.
5- 1059.. الانسان76.، الآية 3.
6- 1060.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص266: بعضي از مردم در راهي گام مي زنند كه از حقيقت آن بي خبرند وغايت آنرا نمي دانند (كه به حق منتهي مي شود پس آن طريق در حق أو صراط مستقيم نيست) اگر چه در نزد عارفان آن بعينه صراط مستقيم است.

وليت شعري هل هذا القائل يلتزم بمفاد ما قاله من أنّ اللّه تبارك وتعالي رضي عن كلّ ما خلق وعن جميع ما يصنعون؟

هل إنّ اللّه رضي عن فسق الفسّاق، وكفر الكفرة، وما صنعه الجبابرة الظالمين بأوليائه تعالي؟

هل إنّه تعالي رضي عمّا صنعه يزيد وشمر وعمر بن سعد بالإمام الحسين(عليه السلام)، لأنّ فعلهم ليس إلّا فعل ربّهم فيهم؟ فلا نقول له إلّا كما قال اللّه تعالي:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَ-حْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَي الرُّسُلِ إلنا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.(1)

الاحتجاج: عن داود بن قبيصة قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول: سئل أبي(عليه السلام) هل منع اللّه عمّا أمر به؟ وهل نهي عمّا أراد؟ وهل أعان علي ما لم يرد؟ فقال(عليه السلام):

أمّا ما سألت: هل منع اللّه عمّا أمر به؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه؛ وأمّا ما سألت: هل نهي عمّا أراد، فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها، ولو أراد منه أكلها ما نادي عليه صبيان الكتاتيب ﴿وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي﴾(2) واللّه تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره؛ وأمّا ما سألت عنه من قولك: هل أعان علي ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك، وجلّ اللّه تعالي عن أن يعين علي قتل الأنبياء وتكذيبهم، وقتل الحسين بن عليّ والفضلاءمن ولده، وكيف يعين علي ما لم يرد وقد أعدّ جهنم لمخالفيه، ولعنهم علي تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته؛ ولو جاز أن يعين علي ما لم يرد لكان أعان فرعون علي كفره وادّعائه أنّه ربّ العالمين! أفتري أراد اللّه من فرعون أن يدّعي الربوبيّة؟ يستتاب قائل

ص: 497


1- 1061.. النحل16.، الآية 35.
2- 1062.. طه20.، الآية 121.

هذا فإن تاب من كذبه علي اللّه، وإلّا ضربت عنقه.(1)

أقول: لا يخفي أنّ الإمام(عليه السلام) حكم فيمن ادّعي إعانة اللّه تعالي للعصاة بما حكم، فما ظنّك بالذي يقول إنّه تعالي هو الفاعل حقيقة ولافعل للعاصي أصلاً؟!

ص: 498


1- 1063.. الاحتجاج، ج2، ص387؛ بحارالأنوار، ج5، ص26، ح21.

الفصل الخامس :الأمر بين الأمرين حقيقة واسعة

اشارة

ص: 499

ص: 500

لا يخفي أنّ الحوادث الكونيّة من حيث دخل إرادة الإنسان فيها -- تنقسم إلي ثلاثة أقسام -- :

الأوّل: ما لا دخل لإرادة الإنسان واختياره فيه كأصل -- خلقه بعد أن لم يكن شيئاً -- ومجيئه إلي الدنيا والموت.

الثاني: الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بما له من القدرة والاختيار كالتكلّم والذهاب والمجيء.

الثالث: الحوادث الكونيّة التي لاختيار الإنسان وإرادته دخل فيها كالآثار الحسنة المترتّبة علي الأفعال الحسنة الصادرة من الإنسان والآثار السيّ-ئة المترتّبة علي الأفعال القبيحة الصادرة منه.

ومن الواضح أنّ تأثير كلّ مؤثّر في المتأثّر رهن لإرادة الربّ تعالي بل إنّه تعالي هو الذي جعل الآثار للمؤثّرات وجعل المؤثَّرات - بالفتح - تتأثّر بالمؤثِّرات - بالكسر - فإنّه تعالي مسبّب الأسباب وهو الذي جعل صلة الرحم موجباً لطول العمر وقطع الرحم موجباً لقصره، وهو الذي جعل للذّنوب آثاراً في العاجل والآجل كتأثير الزنا في ازدياد موت الفجئة، وهو الذي جعل للحسنات آثاراً في العاجل والآجل كتأثير الإيمان والتقوي في نزول البركات، ولمّا كان للإنسان القدرة علي الأفعال الحسنة وكذا القبيحة يكون لإرادته دخل في الحوادث الكونيّة كالقحط ونزول المطروكطول العمر وقصره فليست الحوادث الكونيّة التي هي من آثار أفعاله بمعزل عمّا يفعله بل للإنسان تأثير فيها بجعل الربّ تعالي وقد صرّحت بذلك أدلّة كثيرة فلاحظ:

ص: 501

﴿مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً﴾؛(1)

و﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾؛(2)

و﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءي أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛(3)

و﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَي قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛(4)

و﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.(5)

وأمّا الروايات فإنّها كثيرة جدّاً فراجع بحارالأنوار جزء 70 صفحة 308 باب الذنوب وآثارها وصفحة 366 باب علل المصائب والمحن.

وعلي ضوء هذا البيان ظهر أنّ الإنسان لا يكون مجبوراً في الإلتزام بلوازم أفعاله الاختياريّة كالسعادة أو الشقاوة ودخول الجنّة أو النار وسائر الآثار المترتّبة عليها في الدنيا ولا يكون في الإلتزام بها مفوَّضاً إليه.

وسيأتي مزيد توضيح لذلك والحاصل أنّه لا ينحصر تأثير إرادة الإنسان في الأفعال الاختياريّة الجوارحيّة.

ويتّضح المراد ببيان النقاط الثلاثة الآتية:

النقطة الأولي: مراحل اختيار الإنسان

اشارة

لا يتوهّم أنّ إمتلاك المختار للاختيار والاستطاعة والسلطنة، ونفي الجبر والتفويض وإثبات الأمربين الأمرين مختصّ بأفعال الجوارح والأركان، بل إنّ هذه المرحلة هي المرحلة الدنيا من

ص: 502


1- 1064.. نوح71.، الآية 25.
2- 1065.. الروم30.، الآية 41.
3- 1066.. الروم30.، الآية 10.
4- 1067.. المطفّفين83.، الآية 14.
5- 1068.. الأعراف7.، الآية 96.

مراحل اختيار الإنسان وسلطنته فإنّ مراحل الاختيار خمسة:

المرحلة الأولي: القدرة علي الأفعال الجوارحيّة

سلطنة الإنسان علي ما يصدر من الجوارح والأركان كالأكل والشرب والقيام والقعود.

المرحلة الثانية: القدرة علي الأفعال الجوانحيّة

هي نفوذ إرادة الإنسان وسلطنته علي أفعاله النفسيّة والجوانحيّة. وذلك كالتصديق والإذعان والجحود. فمثلاً إنّ اللّه تعالي عرّف نفسه القدّوس لجميع خلقه وأشهدهم علي أنفسهم، وقال: ألست بربّكم؟ قالوا: بلي وعرفوه. ولكنّه مع ذلك كلّه اختار بعضهم التصديق والإيمان فكانوا بذلك من أصحاب اليمين، واختار بعض آخر الكفر والجحود وإنكار الربّ فصاروا من أصحاب الشمال فاستحقّوا الخذلان. فالإيمان والتصديق وكذا الكفر والجحود رغم كونهما من أفعال القلب لكنّهما تحت قدرة الإنسان وسلطنته فإن شاء أقرّ وإن شاء أنكر.

وأيضاً إنّ الإنسان يسأل عن معتقداته مع أنّ عقد القلب ليس فعلاً جوارحيّاً، كما ورد في تفسير الآية الشريفة: ﴿إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾.(1) أنّ الفؤاد يسأل عمّا يعتقده.

وهكذا في سائر الأفعال النفسيّة، كالإخلاص والشرك، والرياء والسمعة، والحبّ والبغض، والرضا والغضب، وكظم الغيظ، والتولّي والتبرّي، فاللّه تعالي خوّل العبد وسلّطه علي طرفيها بلا جبر فيه ولا تفويض. كماتري أنّه قد أمرنا بالتفكّر في آيات اللّه وأمره، وليس التفكّر إلّا فعلاً روحانيّاً.

عن معمّر بن خلّاد قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) يقول:

ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزّ وجلّ.(2)

كما أنّه قد نهينا عن التفكّر في المعصية وعن التفكّر في ذات اللّه.

ص: 503


1- 1069.. الإسراء17.، الآية 36.
2- 1070.. الكافي، ج2، ص55، ح4؛ وسائل الشيعة، ج 15، ص196، ح4.
المرحلة الثالثة: القدرة علي الصفات والخلقيات

إنّ الصفات النفسيّة والأخلاق أيضاً في مراتبها - بلحاظ ما يوجبها ويؤثّر فيها من الأفعال الاختياريّة - طوع لإرادة الإنسان، كالحلم، والمروّة، والكرم، والشجاعة، والصبر، وهكذا الحسد، والبخل، والعجلة، والخوف والجبن؛ فإذا أراد العاقل السيطرة علي نفسه يروّضها بالتخلّق بالصفات الحميدة واستعمالها، والتجنّب عن الرذائل فهو قادر علي ذلك بإقدار اللّه تعالي، بل هو مأمور بذلك إيجاباً أو إستحباباً، كما أنّه قادر عليالعكس. غاية الأمر أنّ المنهج والشريعة والطريق إلي نيل هذه الصفات متعدّدة: كالتشبّه والتأسّي بمن تحلّي بها، والمعاشرة معه، وكترويض النفس ومجاهدتها، ومنعها سؤلها ومُناها فبمجاهدتها ومخالفتها ينمحي ذلك الخلق السيّئ. وغير ذلك من السبل التي ذكرها علماء الأخلاق تبعاً لما ورد في الروايات، وقد عبّروا(عليهم السلام) عن هذه الرياضة والسعي بالجهاد الأكبر وأمرونا به.

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال:

إنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) بعث سريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس. وقال(عليه السلام): إنّ أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه.(1)

كما أمرونا(عليهم السلام) بتحصيل مكارم الأخلاق والزيادة منها.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:

إنّ اللّه خصّ رسوله(صلي الله عليه آله و سلم) بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فان كانت فيكم فاحمدوا اللّه وارغبوا إليه في الزيادة منها، فذكرها عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروّة.(2)

وقد عبرّ الإمام(عليه السلام) عن هذه المحاولة بامتلاك النفس وامتلاك خلقيّاتها، ممّا يدلّ علي توسّع دائرة ملكيّة الإنسان وسلطنته علي نفسه وأفعالها وصفاتها.

روي الصدوق بإسناده عن الصادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال:

ص: 504


1- 1071.. الأمالي (للصدوق)، ص466، ح8؛ وسائل الشيعة، ج 15، ص163، ح9 [20216].
2- 1072.. الخصال، ج2، ص431، ح12؛ وسائل الشيعة، ج 15، ص180، ح1 باب 4 [20227].

من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهي وإذا غضب، وإذا رضي حرّم اللّه جسده علي النار.(1)

خرج النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) يوماً وقوم يدحرجون حجراً، فقال:

أشدّكم من ملك نفسه عند الغضب وأحملكم من عفا بعد المقدرة.(2)

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام):

من لم يملك غضبه لم يملك عقله.(3)

قد بيّنوا(عليهم السلام) مناهج الوصول إلي تمالك النفس، والتسلّط عليها وعلي خلقيّاتها وصفاتها.قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

إن لم تكن حليماً فتحلّم فإنّه قلّ من تشبّه بقوم إلّا أوشك أن يكون منهم.(4)

عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن أبيه، عن ميسر قال: ذكر الغضب عند أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ الرجل ليغضب فما يرضي أبداً حتّي يدخل النار، فأيّما رجل غضب علي قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فإنه يذهب عنه رجز الشيطان، وأيّما رجل غضب علي ذي رحم فليدن منه فليمسّه، فإنّ الرحم إذا مسّت سكنت.(5)

المرحلة الرابعة: القدرة في الاستضائة من الأنوار الالهيّة

إنّ اللّه تعالي أقدر الإنسان علي الإستضائة من الأنوار - كنور العلم والسمع والبصر والعقل والذكر - بعد أن أضاء أرواح الجميع بهذه الأنوار ابتداء بما يصحّ معه التكليف؛ فإنّ هذه الأنوار التي لا يكون أمر قبضها وبسطها إلّا بيده تعالي، إذا وهبها اللّه تعالي للعبد وشاء

ص: 505


1- 1073.. كتاب من لا يحضره الفقيه، ج4، ص400، ح5860؛ وسائل الشيعة، ج15، ص162، ح8[]20215
2- 1074.. تحف العقول، ص45؛بحارالأنوار، ج74، ص148، ح67.
3- 1075.. الكافي، ج2، ص305، ح13؛وسائل الشيعة، ج 15، ص360، ح11[20741].
4- 1076.. نهج البلاغة، الحكمة 207، ص506.
5- 1077..الكافي، ج2، ص302، ح2؛ وسائل الشيعة، ج 15، ص354، ح4 [20734].

العبد الإستضائة بها بعد أن وهبها اللّه إيّاه فعل، وإن لم يشأ لم يستضي ء، فلا جبر ولاتفويض بل أمر بين الأمرين. فلذا تري أنّه ورد الأمر بالتعقّل في غير واحد من آيات الذكر الحكيم - حيث إنّ التعقّل بمعني الإستضائة والإستفادة من نور العقل - فمع أنّ العقل من مواهب اللّه جلّ جلاله، إلّا أنّ للإنسان الاختيار في الإستضائة وعدمها.

كما أنّه ورد الأمر بالتعلّم من عالم ربّاني وأنّه سبب لإعطاء نور العلم من اللّه تعالي. وكذا الأمر بتحصيل حقيقة العبوديّة، واستعمال العلم.

في وصيّة الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم:

يا هشام نصب الخلق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل يعتقد، ولا علم إلّا من عالم ربّاني، ومعرفة العلم بالعقل.(1)

وقال الصادق(عليه السلام) في حديث عنوان البصريّ:

ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك وتعالي أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلاً في نفسك حقيقة العبوديّة، واطلب العلم باستعماله، واستفهم اللّه يفهمك.(2)أقول: قد بيّن الإمام(عليه السلام) أنّ العلم نور يقع في قلب من يريد اللّه أن يهديه، ولكن مع ذلك صرّح بأنّ لإرادة الإنسان دخلاً فيه، حيثما قال: «أردت العلم» وذلك لأنّ اللّه جعل لكلّ شيء سبباً. وأمّا نفي دخالة التعلّم في نيل العلم في هذا الحديث فهو إنّما للتّذكير بأنّ أمر إعطاء نور العلم لا يكون إلّا بيد اللّه تعالي، وليس التعلّم إلّا سبباً من الأسباب الدخيلة في تحقّقه.

ومن الشواهد علي إمكان استفادة من تلك الأنوار - بتمليكه تعالي مع عدم مالكيّة العبد لتلك الأنوار ذاتاً - هو أنّه إذا أردنا فهم شيء والعلم به التفتنا إليه، وإن شئنا صرفنا أفهامنا عن تفهّمه فنتغافل عنه حتّي نجهله. كما أنّ الذكر والنسيان أيضاً كذلك فمثلاً إذا صنع الإنسان معروفاً عند أحد فمن تمام إحسانه أن ينسي فضله عنده كما ورد في الروايات،

ص: 506


1- 1078.. تحف العقول، ص387؛ بحارالأنوار، ج1، ص138، ح29.
2- 1079.. مشكاة الأنوار، ص326؛ بحارالأنوار، ج1، ص225، ح17.

كما أنّه يقدر الإنسان علي الإهتمام بمذكوره فلا ينساه بل يرسخه في نفسه.

ومن الشواهد علي ذلك قوله تعالي: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾(1) فلو لم يكن الذكر والنسيان اختياريّاً لما استحقّ المؤاخذة حتّي نستعفي اللّه منها، وذلك لأنّ النسيان عادة ينشأ من عدم الإهتمام.

ومن الشواهد تفريق أرباب اللّغة والعرف بين السماع والإستماع - كما أفتي بعض الفقهاء بحرمة استماع الغنا دون السماع وكما أفتي بعضهم بوجوب السجود عند استماع آية السجدة دون سماعها - فهذا يدلّ علي كون الإستماع بعد السماع فعل اختياريّ للعبد. وليس الإستماع إلّا إلقاء نور الفهم علي المسموع، فهو قادر علي أن يُلقي السمع علي الصوت الذي يبلغ سمعه وعدمه، فإن شاء استمع وإن شاء لم يستمع، ولذا يترتّب عليه الثواب والعقاب.

ومن الشواهد أيضاً قوله تعالي: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْري لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَي السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾،(2) فما كلّ من سمع مواعظ النبيّ تذكّر، إلّا إذا أراد تفهّمه وإلقاء السمع والإصغاء إليه.

ومن الشواهد أيضاً قوله تعالي: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾،(3) فإنّ السماع والنظر من دون اختيار لا يصحّ السؤال عنهما ولاالمؤاخذة عليهما، كما أنّ الفؤاد - أي القلب - مؤاخذ بمعتقده.

ثمّ لا يخفي أنّ استضائة الإنسان بنور العقل يوجب المزيد من الهداية واشتداد العقل وكماله وبهذا الإعتبار يكون لإرادته دخل في كمال عقله.قال اللّه تعالي:

﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾؛(4)

و﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً﴾.(5)

ص: 507


1- 1080.. البقرة2.، الآية 286.
2- 1081.. ق50.، الآية 37.
3- 1082.. الإسراء17.، الآية 36.
4- 1083.. محمّد47.، الآية 17.
5- 1084.. مريم19.، الآية 76.
المرحلة الخامسة: القدرة علي اشتداد الإرادة وازدياد القدرة أو نقصانها

إنّ إزدياد تملّك الإنسان للإرادة والاختيار واستضائته بنور القدرة والسلطنة وهكذا نقصانه، ممّا له دخل لإرادة الإنسان فيه - بلحاظ قدرة العبد علي موجبات الإزدياد - بعد ما كان أصل إعطاء القدرة تفضّلاً منه تعالي ابتداء من دون استحقاق، كما في سائر الكمالات والهدايات والتوفيقات. بمعني أنّ من سنن اللّه تعالي علي الشاكرين أن يزيدهم كلّما واظبوا وراعوا فضله الذي وهبه لهم، فجازاهم بعملهم زيادة؛ فكلّما جاهد الإنسان نفسه اشتدّ تملّكه لها وقويت إرادته؛ بينما إذا لم يراعها وأهملها تضعف إرادته، فيكون أسير نفسه وشهوته، فعلي هذا يكون تمالك الإرادة وقوّتها ممّا له دخل للإنسان فيه، كما تري أنّ البعض تضعف إرادته ويكون أسير نفسه وشهوته، ذلك أنّه لم يستفد من قدرته وإرادته بينما أنّه إذا استفاد من القدرة التي ملّكها اللّه فجاهد نفسه وروّضها سوف تقوي إرادته وسلطنته، فيقدر علي ما لا يقدر عليه كثير ممّن أهمل نفسه.

النقطة الثانية: تأثير إرادة الإنسان في الأنظمة الكونيّة

إنّ سلطنة الإنسان وقدرته لا تنحصر بالأفعال الجوارحيّة والجوانحيّة والخُلقيّات وغير ذلك ممّا مرّ، بل إنّ الحوادث الكونيّة تتأثّر بالأفعال الاختياريّة الصادرة من الإنسان بجعل اللّه تعالي من دون تفويض. وذلك أنّ المكوّنات والحوادث الكونيّة ليست خارجة بالكليّة عن اختيار الإنسان، بل هي علي قسمين: منها: ما تكون مجعولة بالجعل الإلهيّ بلا وساطة الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان كأصل الحياة والموت. ومنها: مايكون من الآثار المجعولة للأفعال الاختياريّة بالجعل التكوينيّ الإلهيّ وتكون أفعاله الاختياريّة سبباً لتحقّقها أو تغيّرها، كإحراق الخشب بسبب إلقاء النار عليه. وذلك لأنّ اللّه تعالي قد جعل لأفعال الإنسان آثاراً تكوينيّة توجب تغيّر ما قدّره اللّه تعالي نظاماً للكون بمقتضي حكمته البالغة وقدرته الكاملة، وكلّ فساد في النظام إنّما هو من جهة ما يصدر عن الإنسان بالاختيار، كما أنّه يمكن للإنسان تغيير الفساد الحاصل بسبب فعله إلي الصلاح بأفعاله

ص: 508

الصالحة الاختياريّة. وعلي ضوء هذا التغيير الإلهيّ من الفساد إلي الصلاح، ومن الصلاح إلي الفساد ملازماً بما يفعله الإنسان بقدرته واختياره وإرادته، نذهب إلي أنّ لاختيار الإنسان وإرادته تأثيراً في الحوادث المذكورة، مع بقاء سلطانه تعالي حقيقة، قال اللّه تعالي:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؛(1)

و﴿وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ﴾؛(2)

و﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾؛(3)

و﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛(4)

و﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْ-جُوعِ وَالْ-خَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾؛(5)

و﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَي قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾؛(6)

و﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَ-جْعَل لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَ-جْعَل لَكُمْ أَنْهَاراً﴾؛(7)و﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَتاعاً حَسَناً إِلَي أَجَلٍ مُسَمّيً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾.(8)

ص: 509


1- 1085.. الرعد13.، الآية 11.
2- 1086.. الشوري42.، الآية 30.
3- 1087.. الروم30.، الآية 41.
4- 1088.. الأعراف7.، الآية 96.
5- 1089.. النحل16.، الآية 112.
6- 1090.. هود11.، الآية 52.
7- 1091.. نوح71.، الآيات 10-12.
8- 1092.. هود11.، الآية 3.

روي الكلينيّ بإسناده عن أبي عمر المدائنيّ، عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان أبي(عليه السلام) يقول:

إنّ اللّه قضي قضاء حتماً ألّا ينعم علي العبد بنعمة فيسلبها إيّاه حتّي يحدث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة.(1)

وبإسناده عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّوجلّ: ﴿قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾(2) الآية، فقال:

هؤلاء قوم كانت لهم قري متّصلة ينظر بعضهم إلي بعض، وأنهار جارية وأموال ظاهرة، فكفروا نعم اللّه عزّوجلّ وغيّروا ما بأنفسهم من عافية اللّه، فغيّر اللّه ما بهم من نعمة. و﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾،(3) فأرسل اللّه ﴿عَلَيْهِمْ سَيلَ الْعَرِمِ﴾(4) فغرق قراهم وخرب ديارهم وأذهب أموالهم، وأبدلهم مكان جنّاتهم ﴿جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾،(5) ثمّ قال: ﴿ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُ-جَازِي إلنا الْكَفُورَ﴾(6).(7)

وبإسناده عن سماعة قال: سمعت أباعبداللّه(عليه السلام) يقول:

ما أنعم اللّه علي عبد نعمة فسلبها إيّاه حتّي يذنب ذنباً يستحقّ بذلك السلب.(8)

وبإسناده عن الهيثم بن واقد الجزريّ قال: سمعت أباعبداللّه(عليه السلام) يقول:

إنّ اللّه عزّوجلّ بعث نبيّاً من أنبيائه إلي قومه وأوحي إليه أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا [أ]ناس كانوا علي طاعتي فأصابهم فيها سرّاء فتحوّلوا عمّا أُحبّ إلي ما أكره إلّا تحوّلت لهم عمّا يحبّون إلي ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا علي معصيتي فأصابهم فيها ضرّاء فتحوّلوا عمّا أكره إلي ما أُحبّ

ص: 510


1- 1093.. الكافي، ج2، ص273، ح22؛ بحارالأنوار، ج70، ص334، ح19.
2- 1094.. سبأ34.، الآية 19.
3- 1095.. الرعد13.، الآية 11.
4- 1096.. سبأ34.، الآية 16.
5- 1097.. سبأ34.، الآية 16.
6- 1098.. سبأ34.، الآية 17.
7- 1099.. الكافي، ج2، ص274، ح23؛ وسائل الشيعة، ج15، ص314، ح1[20617]
8- 1100.. الكافي، ج2، ص274، ح24؛ وسائل الشيعة، ج15، ص304، ح18[20583]

إلّا تحوّلت لهم عمّا يكرهون إلي ما يحبّون، وقل لهم: إنّ رحمتي سبقتغضبي فلا تقنطوا من رحمتي فإنّه لا يتعاظم عندي ذنب أغفره وقل لهم: لا يتعرّضوا معاندين لسخطي ولا يستخفّوا بأوليائي فإنّ لي سطوات عند غضبي، لا يقوم لها شيء من خلقي.(1)

وبإسناده عن العبّاس بن هلال الشامي مولي لأبي الحسن موسي(عليه السلام) قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول:

كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون.(2)

وبإسناده عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول:

إنّ الذنب يحرم العبد الرزق.(3)

وبإسناده عن الفضيل، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدرء عنه الرزق وتلا هذه الآية: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾(4).(5)

وبإسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إنّ العبد يسأل اللّه الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلي أجل قريب أو إلي وقت بطئ، فيذنب العبد ذنباً فيقول اللّه تبارك وتعالي للملك: لا تقض حاجته واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي.(6)

روي الصدوق بإسناده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر(عليه السلام)، قال: سمعته يقول:

أما إنّه ليس من سنة أقلّ مطراً من سنة، ولكنّ اللّه يضعه حيث يشاء، إنّ اللّه

ص: 511


1- 1101.. الكافي، ج2، ص274، ح25؛ وسائل الشيعة، ج15، ص306، ح3[20590]
2- 1102.. الكافي، ج2، ص275، ح29؛ وسائل الشيعة، ج15، ص304، ح21[20585].
3- 1103.. الكافي، ج2، ص271، ح11؛ وسائل الشيعة، ج15، ص301، ح10[20574].
4- 1104.. القلم68.، الآيات 17- 19.
5- 1105.. الكافي، ج2، ص271، ح14؛ وسائل الشيعة، ج15، ص301، ح11[20575].
6- 1106.. الكافي، ج2، ص271، ح12؛ وسائل الشيعة، ج15، ص302، ح13[20577].

جلّ جلاله إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة إلي غيرهم وإلي الفيافي والبحار والجبال. وإنّ اللّه ليعذّب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلّتها لخطايا من بحضرتها، وقد جعل اللّه لها السبيل إلي مسلك سوي محلّة أهل المعاصي. قال: ثمّ قال أبوجعفر(عليه السلام): ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾.(1) ثمّ قال: وجدنا في كتاب عليّ(عليه السلام)، قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): إذا ظهر الزنا كثر موت الفجأة، وإذا طفّف المكيال أخذهم اللّه بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذاجاروا في الأحكام تعاونوا علي الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهود سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم.(2)

والأخبار في هذا الباب كثيرة تطلب من مظانّها.(3) والمتحصّل من مجموعها أنّ كثيراً من الحوادث التي تحدث في الكون إنّما تكون من آثار أعمال العباد الاختياريّة، وعليه يكون وقوع تلك الحوادث بهذا المعني تحت اختيار الإنسان وقدرته بالجعل التكوينيّ الإلهيّ.

نعم قد تتخلّف تلك الحوادث عن إرادة الإنسان، وما ذلك إلّا لضعف نفوذ إرادته فيها، للزوم إجتماع شرائط أخري لتحقّقها وهي خارجة عن اختيار الإنسان. وذلك لا ينافي ثبوت نفوذ إرادته - في الجملة - في بعضها. كما أنّ تخلّف إرادة الإنسان عن بعض مقدوراته أحياناً لا يخرجه عن كونها داخلة في حيطة إرادته وقدرته بالكلّيّة، كذلك لا يصحّ إنكار وجود اختيار أحد بالنسبة إلي فعل، لأجل تأثير إرادة أشخاص متعدّدة في تحقّقه.

فمثلاً إنّ التداوي من المرض وحصول البرء منه يكون باختيار الإنسان، مع أنّ الشفاء لا يكون إلّا بيد اللّه تبارك وتعالي بتوسّط ملائكته، وقد يتخلّف ذلك عن إرادة الإنسان،

ص: 512


1- 1107.. الحشر59.، الآية 2.
2- 1108.. الأمالي للصدوق، ص384، ح2؛ وسائل الشيعة، ج16، ص357، ح4[21505]
3- 1109.. وقد جمعنا الأخبار الدالّة علي آثار الذنوب في كتاب يحتوي علي مجلّدات كثيرة، فبلغت قريباً من مأتين أثراً، كالفقر، والمرض، وعدم استجابة الدعاء، وعدم نزول المطر، والخسف، ووقوع الزلازل، وغيرها.

ولكن مع ذلك كلّه يصحّ أن يقال إنّ لإرادة الإنسان دخلاً في شفائه من مرضه، ولذا أُمر بالتداوي والرجوع إلي الطبيب ويؤاخذ علي تركه. وهذا لا يتعارض مع ما ورد من أنّ الملائكة هي التي توجد بعض التغييرات في جسم المريض بإذن اللّه تعالي وذلك أنّ اللّه تعالي قد جعل للتّداوي دوراً في الشفاء، فلو لم يحصّل السبب لا يتحقّق المسبّب، مع عدم حصر السبب في ذلك، ومع عروض التخلّف أحياناً في ذلك السبب.

وبالتأمّل في هذا المثال يظهر لك ما رمنا إثباته؛ كنفوذ إرادة الإنسان في تقوية جوارحه وبدنه، مع دخل إرادة كثير من الملائكة في حصول ذلك بعد أن يوجد الإنسان سببه. إذا عرفت ذلك تعرف أنّه لا ضير في أن يكون نزول المطر والخسف والمسخ، وطول العمر أو قصره، وغير ذلك ممّا له دخل لإرادة الإنسان فيه، وإن كان تأثير إرادته في ذلك بتسبيب من اللّه تعالي.

النقطة الثالثة: عدم اختصاص مالكيّة القدرة بالإنسان

إنّ الأمر بين الأمرين حقيقة واسعة لا تختصّ بالإنسان، فيشمل كلّ مخلوق ذي قدرة وإرادة كالجنّ والملك، بل ما من مخلوق إلّا وتصدق فيه هذه الحقيقة لما أعطاهم اللّه من الشعور والمعرفة ولما كلّفهم بالإيمان والإقرار. قال تعالي:

﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إلنا يُسَبِّحُ بِ-حَمْدِهِ وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾؛(1)

و﴿ثُمَّ اسْتَوَي إِلَي السَّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾؛(2)

و﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾؛(3)

و﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

ص: 513


1- 1110.. الإسراء17.، الآية 44.
2- 1111.. فصّلت41.، الآية 11.
3- 1112.. النحل16.، الآية 49.

وَالنُّجُومُ وَالْ-جِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾؛(1)

و﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْ-جِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَ-حْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾.(2)

وواضح أنّ السجدة، والتسبيح، والأمر، والإمتثال، وقولهما أتينا طائعين، وعرض الأمانة، والامتناع من قبولها، فرع وجود القدرة والسلطنة والإرادة، بعد تمليك العلم والشعور والمعرفة.

روي ابن قولويه بإسناده عن عمر بن يزيد بيّاع السابري، عن أبي عبداللّه(عليه السلام)، قال:

إنّ أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت اللّه علي ظهري، ويأتيني الناس من كلّ فجّ عميق، وجعلت حرم اللّه وأمنه، فأوحي اللّه إليها أن كفّي وقرّي! فوعزّتي وجلالي ما فضل ما فضّلت به فيما أعطيت به أرض كربلاء، إلّا بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضّلتك، ولولا ما تضمّنته أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقرّي وكوني دنيّاًمتواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلّا سختّ بك وهويت بك في نار جهنّم.(3)

في وصايا رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) لأميرالمؤمنين(عليه السلام):

يا عليّ: تختّم باليمين فإنّها فضيلة من اللّه عزّوجلّ للمقرّبين، قال: بم أتختّم يا رسول اللّه؟ قال: بالعقيق الأحمر فإنّه أوّل جبل أقرّ للّه تعالي بالربوبيّة، ولي بالنبوّة ولك بالوصيّة، ولولدك بالإمامة، ولشيعتك بالجنّة، ولأعدائك بالنار.(4)

عن الأصبغ بن نباته، عن أبي مريم، عن سلمان، قال: كنّا جلوساً عند النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) إذ أقبل عليّ بن أبيطالب فناوله [النبيّ] حصاة فما استقرّت الحصاة في كفّ عليّ حتّي نطقت، وهي تقول:

ص: 514


1- 1113.. الحج22.، الآية 18.
2- 1114.. الاحزاب33.، الآية 72.
3- 1115.. كامل الزيارات، ص267، ح3؛ وسائل الشيعة، ج14، ص514، ح2[19720].
4- 1116.. كتاب من لا يحضره الفقيه، ج4، ص374، ح5762؛ وسائل الشيعة، ج5، ص82، ح2[5980].

لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، رضيت باللّه ربّاً، وبمحمّد نبيّاً، وبعليّ بن أبي طالب وليّاً.(1)

قال النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم):

كلوا الباذنجان فإنّها شجرة رأيتها في جنّة المأوي، شهدت للّه بالحقّ، ولي بالنبوّة، ولعليّ بالولاية، فمن أكلها علي أنّها داء كانت داء، ومن أكلها علي أنّها دواء كانت دواء.(2)

روي المفضّل ابن عمر، عن الصادق(عليه السلام) [قال:] قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

حبّة أقرّت للّه بالوحدانيّة، ولي بالنبوّة، ولأخي عليّ بالوصيّة، ولأُمّتي الموحّدين بالجنّة الأرز.(3)

الشيخ المفيد في الاختصاص: عن عمران بن يسار اليشكري، عن أبي حفص المدلجي، عن شريف بن ربيعة، عن قنبر مولي أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: كنت عند أمير المؤمنين(عليه السلام) إذ دخل رجل، فقال:

يا أمير المؤمنين أنا أشتهي بطّيخا. قال: فأمرني أمير المؤمنين(عليه السلام) بشراء بطّيخ، فوجّهت بدرهم فجاؤوا بثلاث بطّيخات، فقطعت واحدة فإذا هو مُرّ، فقلت: مُرٌّ يا أميرالمؤمنين. فقال: ارم به من النار وإلي النار. قال: وقطعت الثاني فإذا هو حامض، فقلت: حامض يا أميرالمؤمنين. فقال: ارم به من النار وإلي النار. قال: فقطعت الثالث [فإذا] مدودة، فقلت: مدودة يا أمير المؤمنين، فقال: ارم به من النار وإلي النار. قال: ثمّ وجّهت بدرهم آخر فجاؤوا بثلاث بطّيخات، فوثبت عليقدمي، فقلت: اعفني يا أميرالمؤمنين عن قطعه كأنّك تأشم بقطعه. فقال له أميرالمؤمنين: اجلس يا قنبر فإنّها مأمورة، فجلست فقطعت واحدة فإذا هو حلو، فقلت: حلو يا أميرالمؤمنين. فقال: كل وأطعمنا، فأكلت ضلعاً وأطعمته ضلعاً وأطعمت الجليس ضلعاً، فالتفتَ إليّ أميرالمؤمنين، فقال: يا قنبر إنّ اللّه تبارك وتعالي عرض ولايتنا علي أهل السماوات وأهل الأرض

ص: 515


1- 1117.. الأمالي(للطوسي)، ص283، ح87[549]؛ بحارالأنوار، ج17، ص373، ح27.
2- 1118.. مكارم الأخلاق، ص184؛ بحارالأنوار، ج63، ص323، ح14.
3- 1119.. الدعوات، ص149، ح395؛ مستدرك الوسائل، ج16، ص376، ح2[20238].

من الجنّ والإنس والثمر وغير ذلك، فما قبل منه ولايتنا طاب وطهر وعذب وما لم يقبل منه خبث وردي ونتن.(1)

محمّد بن يعقوب: قال: في رواية حمدان بن سليمان أنّهما(عليهما السلام) قالا:

يا أباسعيد تأتي ماء ينكر ولايتنا في كلّ يوم ثلاث مرّات، إنّ اللّه عزّوجلّ عرض ولايتنا علي المياه فما قبل ولايتنا عذب وطاب، وما جحد ولايتنا جعله اللّه عزّوجلّ مُرّاً وملحاً أجاجاً.(2)

وأنت خبير بأنّ هذه التعبيرات وغيرها ممّا لم نذكره ممّا يؤكّد وجود الإرادة والقدرة والعلم والشعور في جميع الكائنات فتدبّر.

ص: 516


1- 1120.. الاختصاص، ص249؛ بحارالأنوار، ج27، ص282، ح6.
2- 1121.. الكافي، ج6، ص390، ح3؛ بحارالأنوار، ج63، ص480، ذيل ح1.
الفصل السادس: وجوه أخري في تفسير الأمر بين الأمرين
اشارة

ص: 517

ص: 518

بعد وضوح معني الأمر بين الأمرين وحقيقة المنزلة بين المنزلتين بحسب الفطرة السليمة وببركة نور العقل وتذكّرات الأئمّة الهداة(عليهم السلام) نقول: قد فسّر بعض الأعلام الأمر بين الأمرين بوجوه لا تخلو عن المناقشة:(1)

أحدها: الفرق بين العرض اللازم والمفارق

ما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره)، -- علي ما في مقالات الأصول وبدايع الأفكار --: من إنّ الأعراض علي قسمين: المفارق واللّازم، والثاني علي قسمين: أعراض الوجود وأعراض الماهيّة.

أمّا المفارق فكالسواد والبياض لأنّهما ليسا من لوازم وجود الجسم ولا من لوازم ماهيّته، وتحقّق هذاالقسم من العرض يحتاج إلي الجعل المستقلّ في قبال جعل الجوهر الذي عرض عليه العرض حيث إنّه يمكن تحقّق المعروض من دون تلك الأعراض، فإنّ المفروض كون العرض مفارقاً.

وأمّا العرض اللّازم -- سواء كان عرض الوجود كالحرارة بالنسبة إلي النار، أو عرض الماهيّة كالزوجيّة للأربعة -- فلا يحتاج وجوده إلي جعل مستقلّ؛ فإنّ جعل العرض في العرض اللّازم إنّما يكون بجعل معروضه، لأنّ المفروض كون العرض لازماً.

ثمّ قال: إنّ للإنسان عرضاً مفارقاً مثل العلم والقدرة والشوق ولذا يمكن أن يكون هذا العرض معه ويمكن أن لا يكون، فلا يتحقّق هذا العرض له إلّا بالجعل المستقلّ.

ص: 519


1- 1122.. قد ذكرنا من تلك الوجوه ما يهمنا المناقشة فيها، وللإطّلاع علي بعض التقاريب الأخري راجع: مرآة العقول، ج2، ص200.

وللإنسان عرض لازم كالاختيار فإنّه عرض لازم لوجود الإنسان ولا يمكن أن يكون غير مختار،(1) والأعمال الصادرة عن الإنسان متوقّفة علي كلا الأمرين، ولمّا كانت أفعاله متوقّفة علي الاختيار الذي هو العرض اللّازم ولا يحتاج إلي الجعل المستقلّ فعلي هذا لا يكون في إيجاد العمل مقهوراً وإنّما يكون فاعلاً مستقلّاً في أفعاله لتوقّفها علي مقدّمات غير مجعولة للّه تعالي بالجعل المستقلّ. ومن جهة أخري بما أنّها متوقّفة علي العلم بالفائدة والتصديق بها وكذا الشوق والقدرة وهي من العوارض المفارقة التي تكون مجعولة للّه تعالي بالجعل المستقلّ فلا يكون الإنسان مستقلّاً في أفعاله.

قال(قدس سره) ما نصّه:

وحينئذ هذا العمل له مبادئ متعدّدة من كونه مقدوراً وكونه ممّا علم بمصلحة بلا مزاحم وكونه ممّا اعمل فيه الاختيار الموجب لتوجّه الاشتياق نحوه، فبعضها مستند إلي ارادته الأزليّة مثل قدرته وعلمه كوجود العامل، وبعضها مستند إلي اقتضاء ذات ملزومه من جهة ما عرفت من كونه من لوازم وجوده ولو في ظرف تحقّق القدرة والعلم المزبور، وذلك مثل اختياره المستتبع لاشتياقه وإرادته. وحينئذ لهذا -- العمل الصادر جهتان: بجهة مستند إلي الإرادة الأزليّة، وبجهة أخري مستند إلي ذاته بلا تعلّله بشيء آخر وراء وجود ملزومه، ولازمه عدم صحّة استناد مبادئ وجوده - بقول مطلق - إليه تعالي لفرض توسيط اختياره الذي من لوازم وجود ملزومه بلا تعلّق جعل بهزائدا علي جعل ملزومه، وعدم صحّة استناد مباديه إليه أيضاً علي الاطلاق. فلا يكون مثل هذا العمل مفوّضا إلي العبد بقول مطلق ولا مستندا إليه تعالي كذلك كي يكون في ايجاده مقهوراً، فصحّ لنا حينئذ أن نقول: لا جبر في البين من جهة الاختيار المنتهي اقتضاؤه إلي ذاته، ولا تفويض بملاحظة انتهاء بقيّة مبادئ وجوده إلي إرادته الأزليّة وجعله، وهذا معني قولهم: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين».(2)

وملخّص ما أفاده هو: إثبات الجبر بالنسبة إلي الأعراض المفارقة والتفويض بالنسبة إلي الأعراض اللّازمة.

ص: 520


1- 1123.. ولا يخفي أن مراده(قدس سره) من الاختيار هو إعمال الإرادة لا نفس السلطنة والقدرة.
2- 1124.. مقالات الأصول (آقا ضياء العراقي)، ج1، ص213، وراجع بدايع الأفكار، ص 203-205.
ما ذكره مردود لوجهين:
اشارة

أحدهما: علي ما ذكره يكون جميع مقدّمات الفعل مجعولاً بالجعل الإلهيّ؛ أمّا الأعراض المفارقة فهي مجعولة بالإستقلال، وأمّا اللّازمة كالاختيار فهي أيضاً مجعولة للّه تعالي بتبع جعل المعروض وهو الإنسان، فجميع المقدّمات تكون بجعله تعالي إمّا استقلالاً وإمّا تبعاً ولا دخالة للإنسان في أفعاله فيلزم الجبر.

إن قلت: إنّ مراده(قدس سره) من الاختيار هي القدرة والسلطنة فلا يرد الإشكال عليه، لأنّ حقيقة القدرة والسلطنة وجوهرها -- كما بيّنا سابقاً -- لا يجامع الجبر وعدم القدرة.

قلنا: أنّه قد صرّح في عبارته السالفة ذكرها أنّ العلم والقدرة إنّما يكونان من الأعراض المفارقة التي تحتاج إلي جعل مستقلّ، دون الاختيار الذي هو مستند إلي اقتضاء ذاته، فلا يمكن أن يكون مراده من الاختيار نفس القدرة والسلطنة، هذا أوّلاً.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ مراده من الاختيار هو القدرة، لكنّ القدرة والسلطنة إنّما تكون مجعولة بالجعل الإستقلاليّ لا التبعيّ، ولذا قد يفقد الإنسان القدرة والسلطنة كما في حال النوم والمرض والهرم، فإنّ القدرة من الحقائق التي تفاض علي الروح المادّي اللّطيف فيقدر، وتقبض عنه فيعجز. والفعل مستند إلي الفاعل القادر.

ثانيهما: أنّه لابدّ -- بمقتضي بداهة العقل وضرورة الكتاب والسنّة -- من الإلتزام بأنّ الأمر بين الأمرينأمر ثالث يباين الجبر والتفويض وكذا يباين الأمر المركّب منهما، فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) قد أكّدوا علي نفي الجبر والتفويض معاً وأبدوا منزلة ثالثة بينهما، فلم يثبتوا الجبر والتفويض معاً، فهذا التفسير بعيد عن مساق الروايات كلّ البعد كما هو واضح.

وأمّا ما ذكره من أنّ لوازم الوجود لا تحتاج إلي الجعل كالحرارة بالنسبة إلي النار ففيه: إنّ وجود اللّازم هل يكون عين وجود الملزوم أو غيره؟

فعلي الأوّل: لا يكون هناك تلازم، بل المفروض فيه هي العينيّة وعلي الثاني فاللّوازم محتاجة إلي الجعل كالملزوم، لأنّ وجود الملزوم غير وجود اللّازم فهنا وجودان مرتبطان، وكلّ وجود متوقّف علي إيجاد خاصّ به.

ص: 521

مضافاً إلي أنّ القول بالإستعدادات الذاتيّة في الأشياء باطل كما مرّ بيانه، بل إنّ وجود المخلوق لا يلزم أكثر من الكون والثبات والشيئيّة بالغير، وجميع ما يملكه إنّما يكون عرضاً وتمليكاً من المالك الحقيقيّ وهو تعالي أملك به، وليس لذاته أيّ اقتضاء ولازم، إلّا ما أعطاه المتفضّل الوهّاب، فتكون شيئيّة هذه الأعراض العارضة علي المعروض وقوامها ودوامها باللّه تعالي، كأصل وجود المعروض. فعلي هذا فعوارض الوجود أيضاً محتاجة إلي الجعل كالمعروض، وليس هناك عرض لازم له بالمعني الذي ذكره للعرض اللّازم.

ثانيها: الفرق بين العلّة التامّة والعلّة الناقصة
اشارة

ما ذكره بعض الأعلام: من أنّ النسبة بين كلّ شيء وعلّته التامّة هي الضرورة والوجوب، وبين كلّ شيء وعلّته الناقصة -- أي أجزاء العلّة -- هو الإمكان مثلاً إنّ الإحراق يكون ضروريّاً بعد تحقّق علّته التامّة ويستحيل انفكاك المعلول عنه، أمّا بالنسبة إلي أجزاء العلّة فيكون ممكناً.

وحينئذٍ نقول: إنّ نسبة أفعال الإنسان إلي علّتها التامّة تكون هي الضرورة والوجوب، ونسبتها إلي العلّة الناقصة هو الإمكان، لأنّ لكلّ فعل من أفعال الإنسان علّة تامّة مركّبة من الأجزاء والمقدّمات، منها: وجود الإنسان الذي هو الوجود الإمكانيّ، ومنها: علمه وشوقه وإرادته وساير المقدّمات. وعلي هذا فنسبة أفعاله بالنسبة إلي نفسه ووجوده هو الإمكان، لإمكان تحقّقها وعدم تحقّقه. وهذا هو معني الاختيار لأنّ حقيقةالاختيار هو إمكان صدور الفعل عن الفاعل. وحينئذ إذا قيل إنّ الإنسان مختار في أفعاله يكون معناه أنّ أفعاله ممكن التحقّق بملاحظة النسبة بين أفعاله ونفسه الذي هو ممكن. أمّا إذا لوحظت النسبة بين الأفعال وعلّته التامّة -- وهو جميع المقدّمات -- فتكون هي الضرورة والوجوب.

المناقشة في ذلك

ويرد عليه أمور:

الأوّل: ما ذكره هذا القائل من الكبري فهو مسلّم،(1) فإنّ نسبة كلّ معلول إلي علّته التامّة

ص: 522


1- 1125.. لا يخفي أنّ التسلّم لما ذكره القائل إنّما هو علي مبني القوم وعليه يكون الجواب عنه من باب الجدال بالتي هي أحسن. وأمّا الحقّ الحقيق بالتسلّم والقبول هو ما مرّ في الجواب من إستدلال المجبّرة بقاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد فإنّه ذكرنا في ذلك المقام أنّ الشيء بعد وجوده يكون واجباً وأمّا قبل وجوده فليس هناك شيء كي يقال وجب ثمّ وجد.

هي الضرورة، ونسبتها إلي العلّة الناقصة هو الإمكان؛ إلّا أنّ هذا لا يرتبط بما نحن فيه وقد سبق منّا تقسيم الفاعل إلي قسمين: الفواعل الطبيعيّة والفواعل الإراديّة، وما ذكره القائل يصحّ في الفواعل الطبيعيّة لا الإراديّة، حيث إنّا نجد سلطنتنا وقدرتنا علي أفعالنا ما لم تتحقّق في الخارج، ولا تصل إلي مرتبة الوجوب والإلجاء ولو بعد وجود جميع المقدّمات.

الثاني: يلزم علي ما ذكره صيرورة الاختيار في أفعال الإنسان أمراً نسبيّاً إضافيّاً لا حقيقيّاً، أي إنّ الإنسان بالنسبة إلي بعض مقدّماته مختار وبالنسبة إلي جميعها مجبور.

الثالث: إنّ ما ذكره عين الجبر، وذلك لأنّه إذا تحقّق بعض مقدّمات الفعل دون بعضها الآخر فيستحيل تحقّق الفعل لأنّ المفروض أنّ العلّة ناقصة، وإذا تحقّق جميعها يجب صدورها لإستحالة تخلّف المعلول عن علّته، فالإنسان في الحقيقة والواقع مجبور في أفعاله، أمّا قبل اجتماع المقدّمات فمجبور علي الترك، وأمّا بعدها فمجبور علي الفعل.

الرابع: إنّ هذا المعني أجنبيّ عن الروايات الواردة في مبحث الاختيار الدالّة علي ثبوت المنزلة الثالثة بين الجبر والتفويض، لا إثبات الجبر والتفويض معاً، فإنّ صريحها أنّ هذه المنزلة أمر واقعيّ حقيقيّ في مقابل الجبر والتفويض كما أنّه قد أجاب أهل البيت(عليهم السلام) بذلك في الروايات:

روي الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبدالرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) قالا:إنّ اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه علي الذنوب ثمّ يعذبّهم عليها، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا(عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض.(1)

ص: 523


1- 1126.. الكافي، ج1، ص159، ح9؛ بحارالأنوار، ج5، ص51، ح82.
ثالثها: بيان صاحب الميزان والمناقشة فيه
اشارة

قال السيّد الطباطبائيّ في بيان معتقد الشيعة في القضاء والقدر والجبر والتفويض:

إنّ قانون العلّيّة سار في الكون، ومهيمن، بحيث أنه لا يقبل الاستثناء، ووفقاً لهذا القانون كل مظهر من مظاهر هذا العالم، يرتبط بعلل عند وجودها، وهي الأسباب والشروط اللازمة لتحقّقها، ومع توفّر كلّ تلك الشروط (والتي تدعي بالعلة التامة) يتحتّم وجود تلك الظاهرة (المعلول المفروض). ولو فرضنا عدم تحقّق تلك الأسباب كلها أو بعضها، فإنه يستحيل تحقّق وجود تلك الظاهرة.

عند الإمعان في هذه النظرية، يتّضح لنا موضوعان:

الأوّل: لو قدّر أن نقارن بين ظاهرة «المعلول» مع العلّة تامة بأجمعها، وكذلك مع الأجزاء لتلك العلّة التامة، تكون النسبة بينها وبين العلّة التامة، نسبة الضرورة (الجبر) ولكانت النسبة بينها وبين كلّ من أجزاء العلّة التامّة (والتي تعتبر علّة ناقصة) نسبة الإمكان، لأنّ جزء العلّة بالنسبة إلي المعلول يعطي إمكان التحقّق والوجود، ولا يعطي ضرورة الوجود.

علي هذا فالكون وجزء من أجزائه يستلزم علّة تامة في تحقّق وجوده، والضرورة مهيمنة عليها بأسرها، وقد نظّم هيكلها من مجموعة حوادث ضرورية وقطعية، فمع هذا الوضع، فإن صفة الإمكان في أجزائها (الظواهر التي ترتبط مع غير العلّة التامّة لها) محفوظة.

فالقرآن الكريم في بيانه يسمي هذا الحكم الضروري بالقضاء الإلهي، لأن الضرورة هذه تتبع من وجود الخالق، ولهذا يكون حكماً وقضاء عادلاً حتمياً غير قابل للتخلف، إذ لا يقبل الاستثناء أو التبعيض.

يقول جلّ شأنه: ﴿أَلا لَهُ الْ-خَلْقُ والْأَمْرُ﴾.(1)ويقول سبحانه وتعالي: ﴿وَ إِذا قَضي أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.(2)

ويقول سبحانه وتعالي: ﴿وَ اللهُ يَ-حْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِ-حُكْمِهِ﴾.(3)

الثاني: إن كلا من أجزاء العلة، لها مقدارها الخاص تمنحه إلي المعلول، وتحقّق

ص: 524


1- 1127.. الأعراف7.، الآية 54.
2- 1128.. البقرة2.، الآية 117.
3- 1129.. الرعد13.، الآية 41.

المعلول وظهوره يطابق مجموع المقادير التي تعيّنها العلّة التامة، فمثلاً العلل التي تحقّق التنفس للإنسان، لا تحقّق التنفس المطلق، بل يتنفس الإنسان مقداراً معيّناً من الهواء المجاور لفمه وأنفه وفي زمان ومكان معينين، ووفق طريقة معينة، ويتمّ ذلك عن طريق مجري التنفس، حيث يصل الهواء إلي الرئتين، وهكذا الرؤية والإبصار، فإن العلل الموجودة لها في الإنسان (و الذي هو جزء منها) لم تحقّق إبصاراً من دون قيد أو شرط، بل تحقّق إبصاراً معيناً من كل جهة، بواسطة الوسائل اللازمة له، وهذه الحقيقة سارية في كلّ ظواهر الطبيعة، والحوادث التي تتفّق فيها لا تتخلّف.

والقرآن الكريم يسمّي هذه الحقيقة ب- «القدر» وينسبها إلي خالق الكون ومصدر الوجود، بقوله تعالي: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾.(1)

ويقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾.(2)

وكما أنّ كلّ ظاهرة وحادثة في نظم الخلقة تعتبر ضروريّة الوجود وفقاً للقضاء الإلهيّ، ويتحتّم وجودها، فكذلك وفقاً للقدر فإنّ كلّ ظاهرة أو حادثة عند تحقّقها لا تتخلّف عن المقدار المعيّن لها من قبل الله تعالي.(3)

ثمّ قال في بيان حقيقة اختيار الإنسان:

كلّ ما يقوم به الإنسان من فعل، يعتبر ظاهرة من ظواهر عالم الخلقة، ويرتبط تحقّقه كسائر الظواهر بالعلّة ارتباطاً كاملاً، وبما أنّ الإنسان هو جزء من عالم الخلقة، ويرتبط مع سائر الأجزاء الأخري من العالم، فإنّها بدورها تؤثّر في أفعال الإنسان.

وعلي سبيل المثال، فإنّ قطعة الخبز التي يريد الإنسان تناولها، فإنه يستلزم وجود الوسائلكاليد والفم والعلم والقدرة والإرادة، وأيضاً وجود الخبز في الخارج، وعدم وجود أيّ مانع يمنع من الوصول إليه، وشروط أخري من زمان أو مكان. ومع فقدان إحداها يتعذّر تحقّق الفعل، ومع تحقّق كلّ تلك العوامل (تحقّق العلّة التامّة) فإن تحقّق الفعل ضروريّ.

وكما أشرنا آنفاً، فإنّ ضرورة الفعل بالنسبة إلي مجموع أجزاء العلّة التامّة تعتبر

ص: 525


1- 1130.. القمر54.، الآية 49.
2- 1131.. الحجر15.، الآية 21.
3- 1132.. شيعه در اسلام، ص 122- 124.

نسبة إمكان، ولا يتنافي مع نسبة الفعل إلي الإنسان الذي هو أحد أجزاء العلّة التامّة.

إنّ الإنسان له اختيار الفعل، وضرورة نسبة الفعل إلي مجموع أجزاء العلّة، لا يستلزم الضرورة بالنسبة إلي فعل بعض من أجزائها وهو الإنسان.

والإدراك البسيط للإنسان يؤيد هذا القول، فإنّنا نراه يميّز بحكم الفطرة الإلهيّة المودّعة لديه، يميّز بين الأكل والشرب، والذهاب والإياب، وبين الصحّة والسقم، والكبير والصغير، والقسم الأوّل الذي يرتبط بإرادة الإنسان ارتباطاً مباشراً، يعتبر من إرادة الشخص، فيحاسب في مواضع الأمر والنهي والمدح والذمّ، خلافاً للقسم الثاني، الذي يترتّب فيه تكليف علي الإنسان.

وقد وجد في صدر الإسلام، بين أهل السنّة، مذهبان معروفان بالنسبة إلي أفعال الإنسان، ففريق كان يري أنّ أفعال الإنسان متعلّقة بإرادة اللّه تعالي لا تخلّف فيها، فكان يدّعي أنّ الإنسان مجبور في أفعاله، ولا أثر لما يمتاز به من اختيار وإرادة، والفريق الآخر، كان يدّعي أن الإنسان مستقلّ في أفعاله، وليس له ارتباط بإرادة اللّه سبحانه، ويعتبرونه خارجاً عن حكم القدر.

وممّا يروي عن أهل البيت(عليهم السلام)، وهو مطابق مع ظاهر تعاليم القرآن، إنّ الإنسان مختار في أفعاله، ليس بمستقلّ، إذ أنّ اللّه تعالي قد أراد الفعل عن طريق الاختيار، وهذا ما عبرنا عنه سابقاً، بأنّ اللّه سبحانه، أراد الفعل عن طريق مجموع أجزاء العلّة التامّة، والتي إحداها إرادة الإنسان، وأصبحت ضرورة، وفي النتيجة، أنّ مثل هذا الفعل الذي يرتبط بإرادة اللّه تعالي ضروريّ، والإنسان أيضاً مختار فيه، أي أنّ الفعل يعتبرضروريّاً بالنسبة إلي مجموع أجزاء علّته، ولكنّه اختيار وممكن بالنسبة إلي أحد أجزائه وهو الإنسان.

والإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين».(1)

وتسجل جملة من الملاحظات علي هذا الكلام

الأولي: قد قسّم القضاء الإلهيّ في الروايات إلي قضاء حتم وقضاء عزم، وقد مرّ التنبيه علي ذلك فيما مرّ، وعليه فلا وجه لجعل القضاء حتماً دائماً لا يتخلّف. وقد ورد في الدعاء:

ص: 526


1- 1133.. العدد القويه لدفع المخاوف اليومية، ص298؛ شيعه در اسلام، ص124 - 126.

«الدعاء يردّ القضاء بعد ما أبرم ابراما»(1) وقوله(عليه السلام): «إن كنت عندك من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء».(2)

الثانية: لا يصحّ إسناد القضاء إلي الله تعالي إلّا بناءاً علي تسليم الفاعليّة له تعالي بالقدرة والمشّيّة، وأمّا العلّة التامّة فلا معني لإسناد القضاء إليها، وذلك أنّ حدوث القضاء لا يخلو أمره من أن يكون ضروريّ الوجود عند وجود علّته التامّه أو ضروريّ العدم عند عدمها، فلا يكون امر القضاء وعدمه تحت سلطانه، وما هذا شأنه لا يسمّي قضاء.

الثالثة: لا يصحّ إسناد القضاء إلي اللّه تعالي وضرورة تحقّق المعلول عند تحقّق العلّة التامّة إلّا إذا كانت العلّيّة والسببيّة جعليّة منه تعالي كما هو الحقّ وقد مرّ بيان ذلك، ولا يستقيم بناء علي القول بالاستعدادات الذاتيّة في الأشياء كما هو مقتضي قانون العليّة. بل حتّي علي القول بالسببيّة الجعليّة لا يصحّ نظام العلّيّة وقد مرّ.

الرابعة: لا يستقيم القول بالعلّيّة بناء علي ما ذكره الصدرا، من بطلان ما كان يزعمه أنّ في الكون علّة ومعلولاً ورجوع العلّيّة إلي التطورّ والتشأّن، وسيأتي ذكر كلامه من كتابه المشاعر.(3)

الخامسة: وأمّا تفسير العدل بسريان قانون العلّيّة في جميع الكائنات وضرورة المعلول عند تحقّق العلّة التامّة، فممّا لا يساعد عليه اللغة ولا الفهم العرفيّ وارتكاز المتشرّعة ولا يتوافق مع الآيات والروايات. فإنّ العدل قد فسّر في اللغة بوضع الشيء في موضعه، وعليه يحمل ما ورد من الأمر بإقامة العدل ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ﴾.(4)

وأمّا لو كان العدل بمعني تحقّق المعلول عند تحقّق علّته التامّة فكيف يأمر اللّه تعالي عباده بالعدل مع أنّ تحقّق وإيجاد العلّة التامّة خارج عن قدرتهم واختيارهم؟ وذلك أنّ اختيارهم بما أنّه حادث من الحوادث فهو بحاجة إلي العلّة التامّة التي إن وجدت ستتحقّق الإرادة بلا إرادة منهم، وإلّا فيستحيل وجودها، ومقدّمات العلّة التامّة للاختيار ليست

ص: 527


1- 1134.. الكافي، ج2، ص470، ح7؛ بحارالأنوار، ج90، ص296.
2- 1135.. إقبال الأعمال، ج1، ص37؛ بحارالأنوار، ج98، ص162.
3- 1136.. المشاعر، ص53.
4- 1137.. النحل 16.، الآية90.

تحت سلطانهم كما هو واضح بحسب مسلكهم.

مضافاً إلي أنّ الإنسان علي هذا المبني هو معلول من المعاليل، فهل الأمر بالعدل يعني الأمر بإيجاد العلّة التامّة والنهي عن الظلم يعني النهي عن إيجاد العلّة الناقصة؟!

وأمّا إن كان مراده من تفسير العدل بقانون العلّيّة هو سريان نظام العلّيّة في جميع أجزاء الكون علي وتيرة واحدة وعدم الاستثناء فيه، ففيه أنّ تفسير العدل بالتسوية غير صائب حيث أنّه ليس التساوي من اقتضاء العدل دائماً (فهل من العدل أن يساوي الربّ بين العالم والجاهل؟!) وإنّما العدل هو وضع الشيء في موضعه.

السادسة: وما تفسير القدر بظهور اقتضاء كلّ واحد من مكونات العلّة في المعلول بالمقدار المعين ففيه:

أنّه ما هي علّة هذه التأثيرات المختلفة وإنّ كلّ علّة إنّما تؤثر بمقدار معيّن؟ وبعبارة أخري ما هي علّة الاختلاف في التأثير والتقدير؟

فإن لم يكن له علّة وسبب فيلزم منه تحقّق هذا الحادث أعني اختلاف الآثار بلا علّة، وهو نقض لقانون العلّيّة.

وإن كان له علّة فهل العلّة واحدة أم متعدّدة؟

فإن كانت العلّة واحدة فكيف صدر اثنين من واحد مع أنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، وإن كانت متعدّدة فنسأل عن علّة هذه العلل المتعددة فإن كانت واحدة يلزم صدور الكثير عن الواحد وإن كانت متعدّدة ننقل الكلام إليها، فلا تنتهي إلي العلّة الواحدة أبداً. مع أنّ جميع العلل لابدّ من انتهائها إلي علّة العلل، فكيف صدرت عن العلّة الواحدة غير المتجزئة هذه العلل المختلفة والمتغايرة.ثمّ إنّه قد يقال بأنّ اختلاف هذه العلل في التأثير والتأثّر راجع إلي مراتب الوجود والتشكيك فيه، ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ التشكيك في الوجود ينافي ما عليه العرفاء الموسومون بالشامخين من القول بالوحدة الإطلاقيّة.

ص: 528

وثانياً: ما هي علّة اختلاف المراحل والتشكيك في مراتب الوجود بحيث يسبب في حدوث تأثيرات مختلفة ومتباينة؟ فإن كان ذلك من اقتضاء ذات الوجود، فإنّه كيف تقتضي الحقيقة الواحدة إيجاد مراحل مختلفة في التأثير؟ وإن كان غيره فإمّا هو العدم أو الماهيّة، إمّا العدم فلا يعقل أن يكون علّة للمراتب المختلفة في الوجود والماهيّة أمر اعتباريّ انتزاعيّ وليس له واقعيّة في مقابل الوجود حتّي تكون منشأ لأحداث المراتب المختلفة في الوجود، وكيف تؤثّر الماهيّة وهي اعتباريّة في الوجود وهو أصيل؟

السابعة: ما ذكره من عموم قانون العلّيّة واستحالة وجود شيء إلّا عند وجود علّته التامّة فيكون وجوده ضروريّاً، وشموله لجميع الحوادث التي منها الأفعال الصادرة من الفاعل المختار إنّما يصحّ فيما لو انحصر المؤثّر في العلّة الموجبة وإنكار الفاعل بالمشية والإرادة، وأمّا لو قسمنا المؤثّر والفاعل إلي الطبيعيّ والماديّ يكون خروج أفعال الإنسان عن القاعدة تخصّصاً وليس تخصيصاً. وقد مرّ بيان ذلك في الجواب عن قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد.

الثامنة: وأمّا ما ذكره من اتّصاف فعل الإنسان بالوجوب والضرورة بلحاظ جميع مقدّمات الفعل التي منها الإرادة والقدرة، أي الضرورة بشرط الإرادة، فممّا لا يمكن المساعدة عليه، إذ صيرورة الفعل واجباً يناقض كونه صادراً عن القدرة والاختيار بداهة تقابل الوجوب والضرورة للقدرة والاختيار، ولا يمكن أن يكون الشيء علّة لنقيض نفسه.

التاسعة: ما ذكره من أنّ الفهم العرفيّ يفرق بين نمطين من الأفعال الصادرة من الإنسان، فالأكل والشرب والتكلّم والمشيّ يختلف عن طول القامة وقصرها والصحّة والمرض، لا ينطبق علي بيانه في الفرق بين حيث الإمكان والوجوب في الأفعال، حيث أنّه قال فيما مرّ، إنّ الفعل الواحد يكون واجباً وممكناً بلحاظين مختلفين، بينماهنا جعل الإمكان والوجوب بلحاظ فعلين مختلفين، وهذا كما تري خروج عن محل البحث وهو غريب.

العاشرة: ثمّ إنّ جعل الإرادة والقدرة من أجزاء العلّة التامّة غير صحيح، فإنّه لا معني

ص: 529

للعلّة التامّة والضرورة مع إعمال الإرادة المستند إلي القدرة -- دون الإرادة المستندة إلي إرادة الباري تعالي -- فإنّ مقتضي تقسيم الأفعال إلي اختياريّة وغير اختياريّة المذكور في ذيل كلام الطباطبائيّ، وكذا مقتضي ما مرّ من تقسيم الفاعل إلي فاعل بالإرادة والفاعل بالجبر هو أنّ القدرة علي الفعل والترك والسلطنة علي طرفي الفعل تبقي ثابتة إلي حين صدور الفعل. ولا يصير الفعل ضروريّ الوجود من الفاعل في حال من الأحوال فإنّه يناقض السلطة والقدرة والحرّيّة، نعم بعد صدور الفعل سوف يخرج عن الاختيار إذ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه، وإمّا قبل الصدور فلا يعقل طروّ صفة الضرورة والإلجاء ما دام الفاعل متّصفاً بالقدرة والسلطنة التامّة التي تجعله قادراً علي الفعل وعدمه.

أمّا الضرورة بشرط الإرادة فلا ينفع شيئاً في المقام، إذ الكلام في كفاية صرف القدرة في إيجاد الفعل وإنّ الفاعل القادر في إيجاد الفعل لا يحتاج إلي أزيد من القدرة المقتضية للسلطة علي الفعل والترك، وعليه نقول: هل يكفي صرف القدرة المتساوية نسبتها إلي الفعل والترك في إيجاد إرادة الفعل أم لا؟ فإن كانت كافية يلزم منه تحقّق الإرادة نفسها من غير ضرورة، وإلّا فهو خلف كونها قدرة وسلطنة.

الحادية عشر: ثمّ إنّه جعل التفويض المردود في الروايات هو بمعني الإمكان ونسبة الفعل إلي علّته الناقصة والجبر بمعني نسبة الفعل إلي علّته التامّة، وهذا خروج عن محلّ البحث في مبحث الجبر والتفويض، فإنّه أمر اعتباريّ وإضافيّ وليس محلّ النزاع بين المجبرة والمفوضة في اضافة الفعل الواحد إلي شيئين كي يصدق التفويض في الفعل بالنسبة إلي بعض أجزاء العلّة والجبر بلحاظ تمام العلّة، وإنّما الكلام والنزاع في الفعل الصادر عن العبد بتمام حقيقته هل العبد هو مستقلّ ومفوّض إليه في تكونّه وإيجاده، أم يكون كالمنشار في يد النجّار لا سلطة له ولا قدرة. وهنا قال الأئمة المعصومون عليهم أفضل صلواتالمصلّين: «لا جبر والتفويض بل أمر بين الأمرين». ولعلّه أراد أن يجمع فيما بين مباني الفلاسفة ومكاشفات العرفاء وبين الآيات والروايات فأبتلي بمثل هذا التهافت الواضح.

الثانية عشر: قال الطباطبائيّ بما أنّ وجود الإنسان وقدرته وإرادته من الممكنات وهي

ص: 530

من أجزاء العلّة التامّة لصدور الفعل، فيكون الفعل بالنظر إلي وجود الإنسان ممكناً لأنّ وجوده من أجزاء العلّة التامّة وهذا هو التفويض المقابل للجبر.

ويرد عليه: أنّ الإمكان الذاتيّ من ذاتيّات الممكن ولا يسلب منه حتّي مع وجود علّته التامّة، فإنّ الممكن كما يقال هو ما حفّ بضرورتين، وصفة الإمكان ثابتة للفعل حين صدوره عن علّته التامّة وإنّما الضرورة الطارئة عليه ضرورة بالغير. ولا تنافي بين الإمكان الذاتيّ والضرورة بالغير، فجعل التقابل بين الإمكان والضرورة بهذا المعني غلط فاحش وينافي ما اصطلح عليه أهل المنطق (وظاهر أنّ أصل تقسيم الوجود إلي الواجب والممكن والممتنع ممّا لا يستقيم إذ جعل الوجود مقسماً وتقويم اللّه والخلق به ليس إلّا نوع مضاهاة بينه وبين خليقته وهو باطل) .

ثالثها: الجبر علي الاختيار

ما نسبه الفيض(قدس سره) إلي الخواجه نصير الدين الطوسيّ حيثما قال:

فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ولكن بتوسّط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإرادتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا. إلي أن قال: ولمّا كان من جملة الأسباب إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا فالفعل اختياريّ لنا، فإنّ اللّه تعالي أعطانا القوّة والاستطاعة ليبلونا أيّنا أحسن عملاً مع إحاطة علمه، فوجوبه لا ينافي إمكانه واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريّاً، كيف وإنّه ما وجب إلّا بالاختيار.

ثمّ أخذ في بيان عدم اختياريّة مقدّمات الفعل إلّا الإرادة إلي أن قال:فقد ظهر أنّ مشيّتنا ليست تحت قدرتنا ... فنحن في عين الاختيار مجبورون فنحن إذاً مجبورون علي الاختيار.(1)

أقول: إن كان مراده أنّ وجداننا القدرة والمشيّة ومالكيّتنا إيّاهما إنّما هو بإعطائه تعالي وتمليكه لنا، ولا مشيّة لنا في وجداننا القدرة والمشيّة فهو حقّ لا ريب فيه.

ص: 531


1- 1138.. الوافي، ج1، ص539؛ عين اليقين، ج1، ص199.

وإن كان مراده أنّ الإنسان قادر ويمكن أن تتعلّق قدرته بالفعل أو الترك، لكن تعلّق القدرة بأحدهما يتوقّف علي المشيئة وهي تحدث بعد الداعي؛ فعلي هذا ما لم تتحقّق المشيئة لا تتعلّق القدرة بالفعل أو الترك وبعد تحقّق المشيئة تتعلّق القدرة بأحدهما لامحالة؛ فعلي هذا يكون الإنسان مختاراً لأجل القدرة ويكون مجبوراً لما قلنا من أنّ القدرة لا تتعلّق بأحدهما إلّا بعد المشيئة وهي غير اختياريّة؛ فنحن مجبورون علي الاختيار، وما وجب بالاختيار لا ينافي الاختيار. فيرد عليه:

أوّلاً: إنّ هذا الكلام عين القول بالجبر، فإنّه لا اختيار للإنسان بعد تحقّق الداعي بالنسبة إلي الفعل، وقبلها بالنسبة إلي الترك.

ثانياً: إنّ المستفاد من صريح الروايات -- كما مرّ آنفاً -- أنّ الأمر بين الأمرين حقيقة ثالثة واقعيّة في مقابل الجبر والتفويض، لا أنّها مركّبة من الجبر والتفويض.

ثالثاً: ما ذكره من كون الإنسان مجبوراً بعد تحقّق المشيئة التي هي منبعثة عن الدواعي باطل جدّاً، فإنّه خلاف الوجدان لأنّا نجد من أنفسنا تحقّق القدرة وثبوت الداعي بالنسبة إلي بعض الأفعال ومع ذلك ما لم يتحقّق الفعل أو الترك، نشاهد أنّ سلطنتنا وقدرتنا باقية عليه فلنا أن نفعل ولنا أن نترك، كما أنّ الجائع الذي يشتهي الطعام لأجل جوعه ما لم يصدر عنه الأكل فهو قادر علي الأكل وعلي تركه وإن عزم عليه عزماً قويّا.

ورابعاً: بما أنّ المشيّة هي الذكر الأوّل كما في الأخبار فبعد تحقّق المشيّة، فللقادر البقاء عليها والعزم، وله البداء في اختيار خلافها.وأمّا قوله إنّ ما وجب بالاختيار لا ينافي الاختيار، فقد مرّ الكلام حوله في ذيل الجواب عن الدليل الأوّل للمجبّرة، فراجع.

ص: 532

رابعها: تفسير الأمر بين الأمرين علي مبني وحدة الوجود
اشارة

ما ذكره صدرالدين الشيرازيّ في الأسفار فقال ما نصّه:

وذهبت طائفة أخري وهم الراسخون في العلم وهم أهل اللّه خاصّه إلي أنّ الموجودات علي تباينها في الذوات والصفات والأفعال وترتّبها في القرب والبعد من الحقّ الأوّل والذات الأحديّة، يجمعها حقيقة واحدة إلهيّة جامعة لجميع حقائقها وطبقاتها، لا بمعني أنّ المركّب من المجموع شيء واحد هو الحقّ سبحانه، حاشا الجناب الإلهيّ عن وصمة الكثرة والتركيب، بل بمعني أنّ تلك الحقيقة الإلهيّة مع أنّها في غاية البساطة والأحديّة ينفذ نوره في أقطار السماوات والأرضين، ولا ذرّة من ذرّات الأكوان الوجوديّة إلّا ونور الأنوار محيط بها، قاهر عليها، وهو قائم علي كلّ نفس بما كسبت، وهو مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله. وهذا المطلب الشريف الغامض اللطيف ممّا وجدوه وحصّلوه بالكشف والشهود عقيب رياضاتهم وخلواتهم، وهو ممّا أقمنا عليه البرهان مطابقاً للكشف والوجدان. فإذن كما أنّه ليس في الوجود شأن إلّا وهو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلّا وهو فعله، لا بمعني أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه، بل بمعني أنّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز، فهو فعل اللّه بالحقيقة، فلا حكم إلّا للّه ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم. يعني كلّ حول فهو حوله، وكلّ قوّة فهي قوّته، فهو مع غاية عظمته وعلوّه ينزل منازل الأشياء، ويفعل فعلها، كما أنّه مع غاية تجرّده وتقدّسه لا يخلو منه أرض ولا سماء، كما في قوله تعالي: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾.(1)

فإذا تحقّق هذا المقام ظهر أنّ نسبة الفعل والإيجاد إلي العبد صحيح كنسبة الوجود والسمع والبصر وسائر الحواسّ وصفاتها وأفعالها وانفعالاتها من الوجه الذي بعينه ينسب إليه،فكما أنّ وجود زيد بعينه أمرٌ متحقّق في الواقع منسوب إلي زيد بالحقيقة لا بالمجاز، وهو مع ذلك شأن من شؤون الحقّ الأوّل، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوبة إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب، فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل

ص: 533


1- 1139.. الحديد57.، الآية 4.

الحقّ علي الوجه الأعلي الأشرف اللائق بأحديّة ذاته، بلا شوب انفعال ونقص وتشبيه ومخالطة بالأجسام والأرجاس والأنجاس، تعالي عن ذلك علوّاً كبيرا.

فالتنزيه والتقديس يرجع إلي مقام الأحديّة التي يستهلك فيه كلّ شيء وهو الواحد القهّار الذي ليس أحد غيره في الدار، والتشبيه راجع إلي مقامات الكثرة والمعلوليّة والمحامد كلّها راجعة إلي وجهه الأحديّ وله عواقب الأثْنِيَةِ والمدائح والتقاديس وذلك لأنّ شأنه إفاضة الوجود علي كلّ موجود، والوجود كلّه خير محض كما علمت وهو المجعول والمفاض، والشرور والأعدام غير مجعولة وكذا المهيّات ما شمّت رائحة الوجود كما مرّ مراراً. فعين الكلب نجس والوجود الفائض عليه بما هو وجود طاهر العين، وكذا الكافر نجس العين من حيث مهيّته وعينه الثابت لا من حيث وجوده لأنّه طاهر الأصل، وإنّما اختلطت الوجودات بالأعدام والظلمات لبعدها عن منبع الجود والنور، كالنور الشمسيّ الواقع علي القاذورات والأرجاس والمواضع الكثيفة فإنّه لا يخرج من النوريّة والصفا بوقوعه عليها ولا يتّصف بصفاتها من الرائحة الكريهة وغيرها إلّا بالعرض، فكذلك كلّ وجود من حيث كونه وجوداً أو أثر وجود خير وحسن ليس فيه شَرّيّة ولا قبح، ولكنّ الشَّريّة والقبح من حيث نقصه عن التمام ومن حيث منافاته لخير آخر، وكلّ من هذين يرجع إلي نحو عدم والعدم غير مجعول لأحد والحمد للّه العليّ الكبير.

فهذا حاصل الكلام في تقرير هذا المذهب، ومعرفة النفس وقواها أشدّ معين علي فهم هذا المطلب فإنّ فعل الحواسّ والقوي الحيوانيّة والطبيعيّة كلّها فعل النفس كما هو التحقيق مع أنّها فعل تلك القوي أيضاً بالحقيقة لا بمعني الشركة بين الفاعلين في فعل واحد، كما يوجد في أفعالالفاعلين الصناعيّين أنّه قد يقع الشركة بين اثنين منهم في فعل واحد كالخياطة ونحوه، ولا شبهه في أنّ المذهب الرابع عظيم الجدوي شديد المنزلة لو تيّسر الوصول إليه لأحد ينال الغبطة الكبري والشرف الأتمّ، وبه يندفع جميع الشبه الواردة علي خلق الأعمال، وبه يتحقّق معني ما ورد من كلام إمام الموحّدين عليّ(عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»، إذ ليس المراد منه أنّ في فعل العبد تركيباً من الجبر والتفويض، ولا أيضاً معناه انّ فيه خلواً عنهما، ولا أنّه اختيار من جهة وإضطرار من جهة أخري، ولا أنّه مضطرّ في صورة الاختيار، كما وقع في عبارة

ص: 534

الشيخ رئيس الصناعة، ولا أنّ العبد له اختيار ناقص وجبر ناقص، بل معناه: أنّه مختار من حيث إنّه مجبور ومجبور من الوجه الذي هو مختار، وإنّ اختياره بعينه اضطراره، وقول القائل خير الأمور أوسطها يتحقّق في هذا المذهب.(1)

وقال أيضاً:

قاعدة في شمول قدرته وانبساط وجوده وسعة رحمته علي الأشياء:

... قال تعالي: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِن لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(2) وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ﴾(3) وقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(4) وقال: ﴿أَ فَرَأَيْتُم مَّا تَ-حْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَ-حْنُ الزَّارِعُونَ﴾(5) وقال: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَ-حْنُ الْمُنشِئُونَ﴾(6) إشارة إلي أنّ الأفعال المنسوبة إلي القوي المؤثّرة كالمصوّرة في تصوير الأعضاء وتشكيلها وكالماء والنار في التسخين والتبريد وكالإنسان في أفاعيله الصادرة عنه وغير ذلك كلّها بالحقيقة صادرة عنه تعالي واقعة بتأثيره مع كمال وحدانيّته وفردانيّته فكلّ ما هو مقدور ومجعول لفاعل فهو من حيث صدوره عن ذلك الفاعل صادر عن الحقّ تعالي كما أنّ وجود كلّ ممكن من حيث وجوده شأن من شؤون الحقّ ووجه من وجوهه ولذلكنسب الأفعال إليه تعالي من حيث نسب إلي مباديها المباشرة لها كما في قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾(7) وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَي﴾(8) وقال أيضاً: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْ-خَيْرَاتِ﴾(9)-(10)

ص: 535


1- 1140.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج6، ص372-376.
2- 1141.. فصّلت41.، الآية 54.
3- 1142.. الزخرف43.، الآية 84.
4- 1143.. آل عمران3.، الآية 6.
5- 1144.. الواقعة56.، الآيتان 63 - 64.
6- 1145.. الواقعة56.، الآيتان 71-72.
7- 1146.. التوبة9.، الآية 14.
8- 1147.. الأنفال8.، الآية 17.
9- 1148.. البقرة2.، الآية 148.
10- 1149.. أسرار الآيات، ص50 -51.
محصّل كلام الأسفار
اشارة

حاصل كلامه أنّه ذكر في مبحث عموم قدرة اللّه تعالي أنّها واسعة غاية السعة ولا حدّ لها وجميع الحوادث تستند إليها ولذا التزم بكون قدرته تعالي عامّة حتّي بالنسبة إلي أفعال العباد فإنّها من الحوادث ولابدّ لكلّ حادث من علّة، واللّه تعالي هو علّة العلل.

وبما أنّ الالتزام بعموم قدرته يوجب إسناد الشرور إلي الذات الربوبيّ، لاستناد جميع الحوادث إليه تعالي من الفقر والغني والحياة والموت و ... كما أنّه يوجب القول بالجبر لاستناد أفعال العباد أعمّ من الحسنة والقبيحة إليه؛ انبري لحلّ هذه المسئلة فقال ما محصّله:

إنّ جميع ما يعدّ شرّاً كالفقر والموت والأسقام ونظائرهما هي الأعدام، والأعدام ليست مجعولة كي تستند إلي الجاعل.

وقال السبزواريّ:

الشرّ أعدام فكم قد ضلّ من * قد قال باليزدان ثمّ الأهرمن

بل المجعول بالذات بالجعل البسيط هو الوجود وهو خير محض، وهو منبع كلّ شرف، وبهذا البيان أجابوا عن الثنويّة القائلين بمبدأ الخير وهو اليزدان، ومبدأ الشرّ وهو الأهرمن. فقدرته تعالي عامّة واسعة لا يشذّ عنها شاذّ، ومع ذلك لا تستند الشرور إليه تعالي لأنّها أعدام وهي ليست مجعولة.

توضيح ذلك: إنّ الموجودات علي تباينها في الذوات تجمعها حقيقة واحدة بمعني نفوذ نور الوجود في أقطار السماوات والأرضين وما فيها، فلاذّرة من ذرّات الكون إلّا والوجود محيط بها، فكما أنّه ليس في الوجود شأن إلّا وهو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلّا وهو فعله، بمعني أنّه كما أنّ وجود زيد مثلاً يكون شأناً من شؤون الوجود المطلق، فكذا فعل زيد. وكما أنّه هو فعلهحقيقة كذلك هو فعل اللّه بالحقيقة دون المجاز؛ فهو مع غاية عظمته ينزل منازل الأشياء ويفعل فعلها، فالفعل من حيث أنّه صادر عن هذا الظهور الإلهيّ ينسب إليه حقيقة، ومن حيث أنّ الباري تعالي أصل كلّ خير وليس في الدار غيره ديّار، وكلّما نري من الكائنات هو شأن من شؤونه وطور من تطوّارته وتجّلٍ من تجلّيات

ص: 536

الوجود، ينسب إلي الباري تعالي حقيقة. وإليك نصّ عبارته في كتاب المشاعر:

تنبيه: إيّاك أن تزلّ قدمك من استماع هذه العبارات وتتوهّم أنّ نسبة الممكنات إليه تعالي بالحلول والاتّحاد ونحوهما! هيهات أنّ هذا يقتضي الاثنينيّة في أصل الوجود! وعند ما طلعت شمس الحقيقة وسطع نورها النافذ في أقطار الممكنات المنبسط علي هياكل الماهيّات، ظهر وانكشف أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الوجود ليس إلّا شأناً من شؤون الواحد القيّوم، ولمعة من لمعات نور الأنوار. فما وضعناه أوّلاً بحسب النظر الجليل من أنّ في الوجود علّة ومعلولاً، أدّي بنا أخيراً من جهة السلوك العلميّ والنسك العقليّ إلي أنّ المسمّي بالعلّة هو الأصل، والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره. ورجعت العلّيّة والإفاضة إلي تطوّر المبدأ الأوّل بأطواره وتجلّيه بأنحاء ظهوراته؛ فاستقم في هذا المقام الذي قد زلّت فيه الأقدام. وكم من سفينة عقل غرقت في لجج هذا القمقام! واللّه وليّ الفضل والإنعام.(1)

وقال ملّا محمّد جعفر اللاهيجيّ في شرحه علي المشاعر:

قوله: فما وضعناه أوّلاً من أنّ في الوجود علّة ومعلولاً إلي آخره: إشارة إلي أن لا مغايرة بالحقيقة بين وجود الحقّ ووجود الممكن، كما هو معتبرة بين العلّة والمعلول، كما يقال في تعريف العلّة: ما يؤثّر في الغير والمعلول ما يتأثّر عن الغير، والمغايرة بين الوجودات هذه المغايرة، ومع قطع النظر عنها لامغايرة إلّا بالكمال والنقص والأصل والتبع. وهذه الكثرة مصحّح الوحدة فكلاهما حقيقيّ وهو الحقّ هي باعتبار الماهيّة. وقال الشيخ(رحمه الله): هذا كلّه مبنيّ علي وحدة الوجود والسنخيّة في الحقيقة، ولا أقول كذلك بل المراد أنّ في الوجود شيئاً وفيئاً، ولا بينونة فيه كماهي معتبرة في العلّة والمعلول لا نفي البينونة رأساً كما توهّم.(2)

وقال بعض المعاصرين في تعليقته علي الشرح المذكور:

معني كلام هؤلاء الأكابر إنّ الموجود الحقيقي الذي هو مصداق الوجود ليس إلّا الحقّ وليس غيره سوي شؤون واطوار وتجليّات الوجود المطلق، وأنّ مبدأ وجود الماهيات هو الشؤون الذاتيّه للحقّ، وهي تكون أعداما وأباطيلاّ من دون تجليّات الحقّ. ولاتضارب بين قول الموحّدين «إنّ وجود غير الحقّ وجود مجازي» و «لا

ص: 537


1- 1150.. المشاعر، ص104.
2- 1151.. شرح رسالة المشاعر، ص 268-270.

مجاز في الوجود»؛ فإنّ السالك الموحّد المجذوب للحقّ لا يري غير الحقّ في مقام الفناء والمحو الكلّي. والمعلول عند أهل الوحدة إنّما هو شأن ظهور العلّة، لا أنّ المعلول خارج عن حيطة وجود العلّة، فإنّ الوجود الاطلاقي مقيّد في مقام الظهور وليس هو في مرتبة ذات العلّة، وهذا هو الفارق بين الحقّ والخلق. وهذا مطلب يمكن تداوله مع العارفين، ولو أنّ ارباب القياس لهم مناقشات عليه.(1)

و الحاصل من كلامه: أنّ الوجود حقيقة بسيطة غاية البساطة من دون تركيب -- ولو بالتركيب الإعتباريّ -- وجميع هذه الموجودات تكون طوراً من أطواره وشأناً من شؤونه، وعليه يصحّ إسناد الأفعال إليه تعالي بإعتبار أنّه مصدر كلّ وجود ومصدر كلّ شأن من الشؤون، كما يصحّ إسنادها إلي هذه التجلّيات، فمن جهة يلي الربّ تستند إلي اللّه حقيقة، ومن جهة يلي الخلق تستند إلي الموجودات حقيقة، وهذا هو معني قولهم(عليهم السلام): «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»؛ فالإنسان الفاعل مختار من حيث إنّه مجبور، ومجبور من الوجه الذي هو مختار، بمعني أنّه مختار لأجل كونه شأناً من شؤون الوجود وطوراً من أطواره الذي هو منبع العلم والقدرة وكلّ شرف وكلّ خير، ومضطرّ لأنّ فعل الوجود المطلق يظهر فيه وعلي يديه، فلا جبر بلحاظ كون الفعل فعل اللّه تعالي الذي هو القادر بالقدرة المحيطة علي كلّ شيء، ولا تفويض بلحاظ ظهور الفعل علي يد العبد؛ فإنّه شأن من شؤون الوجود ولا استقلال له في قباله، بل في الحقيقة ليس هو شيئاً غيره بل هو هو.

ص: 538


1- 1152.. شرح رسالة المشاعر، ص270: معناي كلام اين اكابر اين باشد كه موجود حقيقي كه مصداق واقعي وجود باشد همان حق است و بقيۀ موجودات شئون و اطوار و تجلي آن وجود مطلقند، و مبدأ ظهور ماهيات همان شئون ذاتي حق مي باشد كه باقطع نظر از تجليات حق اباطيل و اعدامند. منافات نيست بين قول موحدين كه گفته اند: وجود غير حق وجود مجازي است، و قول ديگر آنها كه گفته اند: «لامجاز في الوجود». سالك موحد و مجذوب حق در مقام محو كلي و فناء در توحيد جز وجود حق نبيند، و نزد اهلِ وحدت، معلول همان شأن، ظهور علت است، نه آنكه معلول خارج از حيطۀ وجود علت باشد، چون وجود اطلاقي در مقام ظهور مقيد است و در مرتبۀ ذات مطلق وجود ندارد، و فرق بين خلق و حق همين است. توان گفتن اين نكته با حقشناس ولي خورده گيرند اهل قياس

ويرد علي هذه المقالة -- مع الغضّ عن بطلان مبني وحدة الوجود -- أمور:

الأوّل: عموم قدرة اللّه تعالي

إنّا نلتزم بعموم قدرته تعالي وأنّه تعالي علي كلّ شيء قدير، ولذا يكون قادراً علي خلق مخلوق فاقدٍ بالذات للقدرة والكمال، ثمّ إعطائه القدرة والكمال بحيث يصحّ إسناد الفعل حقيقة إلي الفاعل القادر المختار من دون أن يسند إلي واهب القدرة، لأنّ القدرة هي الاستيلاء والسلطنة الكاملة علي طرفي الفعل والترك كما عرفت ذلك ممّا مرّ. ثمّ إنّه تعالي له أن يسلب القدرة من عبده؛ فهو المالك لما ملّكهم وهو أملك منهم، والقادر علي ما عليه أقدرهم، وهذا هو معني الأمر بين الأمرين بمعني أنّه تعالي لم يجبر عبده علي الأفعال الاختياريّة وليس العبد مستقلّاً في أفعاله مستغنياً عنه في مالكيّته للقدرة وقد مرّ توضيح ذلك.

الثاني: خروج عن محلّ النزاع

ما بيّنه في معني الأمر بين الأمرين فاسد جدّاً وخروج عن محلّ النزاع.

توضيح ذلك: لا ريب أنّ موضوع الأخبار التي وردت في مقام نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين، هو أفعال العباد الصادرة عنهم والمستندة إليهم؛ فإنّه هو الذي وقع موقع الإبهام ومحلّ الإشكال والنزاع، فذهب بعض إلي أنّ العباد مجبورون في الأفعال المستندة إليهم، وذهب آخرون إلي أنّهم فيها مفوّضون ومستقلّون، وهو الذي نفي عنه الأئمّة(عليهم السلام) الجبر والتفويض وأثبتوا فيه الأمر بين الأمرين.

فحينئذٍ نقول: لو أغمضنا عن بطلان ما ذكره صدراً وذيلاً -- من وحدة الوجود، وكون الكثرات أطواراً له، وقلنا بصحّة إسناد الفعل إلي الوجود المطلق حقيقةً وهكذا إسناده إلي شأنه وطوره، وقلنا بأنّ الفعل فعل اللّه بلحاظ الوحدة وهو فعلنا بلحاظ الكثرات -- فمع الإغماض عن جميع هذه المباني الفاسدة، يرد عليه:

أنّه يلزم علي ما ذكره أن يكون محطّ نفي الجبر ونفي التفويض وإثبات الأمر بين الأمرين هو الفعل مطلقاً، مع عدم لحاظ صدوره عن العبد ومع قطع النظر عن استناده إلي الباري

ص: 539

تعالي، وبعبارة أخري: لابدّ عليما ذكره من أن يكون الفعل من دون لحاظ الوحدة فيه أو لحاظ الكثرة هو محطّ نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين، كي يصحّ ما ذكره من إسناده إلي الواحد الحقيقيّ بلحاظ الوحدة، وإسناده إلي العبد بلحاظ الكثرة. مع أنّ محطّ البحث بين المجبّرة والمفوّضة هو الأفعال الصادرة عن العباد بلحاظ صدورها عنهم وأنّه هل يكون الإنسان في الفعل الصادر عنه مجبوراً وآلة كالمنشار في يد النجّار، أو يكون الإنسان في الفعل الصادر عنه مستقلّاً، وما أصرّ عليه الأئمّة(عليهم السلام) من إثبات الأمر بين الأمرين هو في ما قالت الأشاعرة فيه بالجبر وقالت المعتزلة فيه بالتفويض، فلابدّ من تصوير الأمر بين الأمرين وبيانه في الفعل الصادر عن العبد مع خصوصيّة صدوره عنه، ولا يكون البحث بين المجبّرة والمفوّضة في الفعل مطلقاً بلا لحاظ صدوره عن الفاعل كي يصحّ ما ذكره من أنّه يسند بلحاظ الوحدة إلي الباري وبلحاظ الكثرة إلي الإنسان.

والحاصل: أنّ ما ذكره خارج عن محلّ النزاع والبحث بين المجبّرة والمفوّضة، لأنّ موضوع البحث عندهم هو الأفعال الصادرة عن الإنسان مع لحاظ صدورها عنه، فالقول بالجبر والتفويض وكذا المنزلة الثالثة إنّما تكون -- بحسب ما عبّره صدرالدين -- في الأفعال مع لحاظ صدورها عن الكثرات، بينما أنّ موضوع البحث والنزاع عنده هو الفعل مع قطع النظر عن لحاظ الكثرة وصدورها عن العباد، كي يصحّ إسناده إلي العباد بلحاظ الكثرات وإلي الباري بلحاظ الوحدة، فهذا كما تري خروج عن موضوع البحث.

لا يقال: إنّ مراده هو أنّ فعل العبد أحد أفاعيل الحقّ علي وجه أعلي وأشرف وأنّ الفعل الصادر عن الكثرات في عين صدورها عن الكثرات تنسب إلي الحقّ أيضاً.

لأنّه يقال: إنّ الفعل الصادر عن العبد بلحاظ صدوره عنه لا يعقل أن يسند إليه تعالي -- إلّا بناء علي القول بالعينيّة بين الخالق والمخلوق وعليه فلا معني لتعدّد اللحاظين -- ومع قطع النظر عن لحاظ صدوره عن العبد فيرد عليه ما أوردناه.

الثالث: لا يخلو إسناد الفعل إلي فاعلين من وجوه:

فإمّا يسند إلي فاعلين مريدين مع كون الإرادة هي الجزء الأخير للعلّة التامّة فيلزم منه توارد

ص: 540

العلّتين علي المعلول الواحد وهو مستحيل. وإمّا يسند إلي فاعلين غير إراديّين مع كون كلّ واحد منهما هو العلّة التامّة للإيجاد ويلزم أيضاً توارد العلّتين علي المعلول الواحد. وإن كان كلّ منهما جزء العلّة فيلزم منه شركة الباري مع العبد في الفعل الصادر فيقبح عقاب العبد علي المعصية حيث أنّ اللّه هو الشريك القوي ومجازاة الشريك الضعيف من قبل الشريك القوي ظلم. وهذا هو مفاد الحديث الوارد عن الإمام موسي بن جعفر(عليهما السلام) في الجواب عن أبي حنيفة حيث قال لا يخلو الفعل من كونه صادراً من اللّه أو منّا أو بالشركة بيننا وبينه، وأنّه لو كان الفعل صادر منّا ومنه تعالي يلزم منه أن يكون اللّه جلّ جلاله شريكاً معنا في أفعالنا ومن ثمّ يقبح العقاب علي المعاصي.

مع أنّ إسناد الفعل إلي جزء العلّة إسناد مجازيّ.

ولو كان المراد العلل الطوليّة فيرد عليه مع ما مرّ أنّ ملّاصدرا في نهاية سلوكه العرفانيّ رفع اليد عن مبني العلّيّة وصرّح بأنّ ما كان يقول بأنّ في العالم علّة ومعلولاً قد رجع إلي المبدأ وتطّوره بأطوار مختلفة. فهناك أمور ثلاثة:

1. نور الأنوار وهو الوجود المطلق القاهر علي كلّ شيء؛

2. أشعّة النور وتطوّرات الوجود المطلق بصورة الكثرات؛

3. الماهيّات الظاهرة بسبب شؤون الوجود وشعاعه.

ويرد عليه: أنّ أشعّة الوجود هل هو الوجود أم الماهيّة أو العدم؟

من الواضح أنّه لا يمكن حمل هذا الكلام إلّا علي التشكيك في الوجود والالتزام بالتكثّر والعلّيّة، حيث أنّ الوجود المطلق صار علّة لهذه الشؤون والأشعّة وهي بدورها علّة لظهور الماهيّات.

الرابع: الخلط بين الفاعل الحقيقيّ والمجازيّ

إنّ النزاع بين الأشاعرة والمفوّضة إنّما هو في الفاعل الحقيقيّ وما يكون الإسناد إليه إسناداً إلي ما هو له، لا في الفاعل المجازيّ والاعتباريّ وما يكون الإسنادإليه إسناداً إلي غير ما

ص: 541

هو له. وقد اعترف بذلك في عباراته المتقدّمة وأصرّ علي كون الإسناد إلي الكثرات والواحد إسناداً حقيقيّاً لا مجازيّاً، لأنّ الفعل كما أنّه فعل للكَثَرات حقيقةً فكذا هو فعل للواحد حقيقة.

وعلي هذا فنقول: هل التغاير بين الواحد والكثرات حقيقيّ أو اعتباريّ؟

فعلي الأوّل يلزم أن يصحّ إسناد الفعل إلي الباري الذي هو الفاعل الحقيقيّ وإلي العبد مع كونه فاعلاً حقيقيّاً آخر، مع أنّه لا يعقل أن يسند الفعل الواحد إلي الفاعلين الحقيقيّين، إلّا مع فرض الشركة وهو مردود عنده وقد أصرّ علي بطلان الشركة في الأفعال. مضافاً إلي أنّه بناء علي مسلك أصالة الوجود ووحدته واعتباريّة الماهيّات ورجوعها إلي الاعتباريّات والأعدام لا يكون التغاير بين الواحد وبين الوَحَدات والكَثَرات حقيقيّا.

وعلي الثاني -- وهو الحقّ عندهم -: فلا يمكن أن يكون إسناد الفعل إلي كلّ واحد من الواحد والكَثَرات بنحو الحقيقة وإسناداً إلي الفاعل الحقيقيّ، لأنّ المفروض أنّ الكثرات اعتبارات وأعدام وفي الحقيقة ليس في الدار غيره ديّار، فإسناد الأفعال إلي الواحد وبلحاظ الوحدة إسناد إلي الفاعل الحقيقيّ، وإسناده إلي الكثرات لابدّ وأن يكون إسناداً إلي الفاعل الاعتباريّ المجازيّ. مع أنّ النزاع إنّما هو في الفاعل الحقيقيّ الذي يصحّ الإسناد إليه حقيقة كما اعترف به في عبارته، فهذا تناقض بيّن. فتأمّل فيما ذكرنا بعين الانصاف والدقّة كي يظهر لك بطلان ما أسّسوه وجعلوه أصلاً، وهكذا فساد ما رتّبوا عليه من الفروع.

فانظر ثمّ اقض العجب أنّهم كيف حمّلوا آرائهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة علي الأخبار التي صدرت عن أهل بيت الوحي(عليهم السلام) الذين يكون كلامهم نوراً لمن استضاء به.

الخامس: انتفاء موضوع الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين

أنّه علي مسلك أصالة الوجود ووحدته، وأنّ الكثرات ليست حقائق في مقابل الوجود، يكون الحقّ واحداً وما سواه باطلاً، فليس هناك في الحقيقة تعدّد وتكثّر كما صرّح به بعضهم وسيأتي بعض كلماتهم، فحينئذٍ لا يبقيمعني ولا مورد لإثبات الأمر بين الأمرين، فإنّه ليس هناك فاعل كي يكون مجبوراً أو مفوّضاً. ففي أيّ شيء أثبت الأئمّة(عليهم السلام) منزلة

ص: 542

أوسع ممّا بين السماء والأرض؟!

السادس: بيان الوحي في حقيقة الخير والشرّ

ما ذكره بالنسبة إلي الخير والشرّ مناف للآيات والروايات. فإنّ المستفاد من القرآن الكريم وكلام أهل الذكر وأولي النُهي في معني الخير والشرّ هو: أنّ الخير والشرّ قد يطلقان علي ما هو خير أو شرّ حقيقةً بأن يختم عمل الإنسان برضوان اللّه ودخول الجنّة أو سخطه تعالي ودخول النار. فالخير الحقيقيّ هو نيل السعادة بدخول الجنّة والشرّ الحقيقيّ هو الخذلان بالشقاوة ودخول النار وتحصيل غضب الملك الجبّار. ويشهد علي ما ذكرنا أخبار كثيرة:

عن مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام):

ما خير بخيرٍ بعده النار، وما شرٌّ بشرٍّ بعده الجنّة، وكلّ نعيم دون الجنّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية.(1)

في وصيّة مولانا الصادق(عليه السلام):

يا ابن جندب الخير كلّه أمامك، وإنّ الشرّ كلّه أمامك، ولن تري الخير والشرّ إلّا بعد الآخرة، لأنّ اللّه عزّ وجلّ جعل الخير كلّه في الجنّة والشرّ كلّه في النار.(2)

وبهذا الاعتبار يطلق الخير علي ما يوجب دخول الجنّة كما روي عن الباقر(عليه السلام):

أوحي اللّه تعالي إلي آدم(عليه السلام): يا آدم إنّي أجمع لك الخير كلّه في أربع كلمات: واحدة منهنّ لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس؛ فأمّا التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأمّا التي لك فأُجازيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأمّا التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليّ الإجابة، وأمّا التي فيما بينك وبين الناس فترضي للناس ما ترضي لنفسك.(3)

وروي عن الصادق، عن آبائه(عليهم السلام): أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال:

جمع الخير كلّه في ثلاث خصال: النظر، والسكوت، والكلام، فكلّ نظر ليس

ص: 543


1- 1153.. نهج البلاغة، الحكمة 387، ص544.
2- 1154.. تحف العقول، ص306؛ بحارالأنوار، ج75، ص284، ح1.
3- 1155.. الأمالي (للصدوق)، ص608، ح1؛ بحارالأنوار، ج11، ص257، ح1.

فيه اعتبار فهو سهو، وكلّسكوت ليس فيه فكر فهو غفلة، وكلّ كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبي لمن كان نظره عبراً وسكوته فكراً وكلامه ذكراً، وبكي علي خطيئته، وآمن الناس شرّه.(1)

وقال عليّ بن الحسين(عليه السلام):

الخير كلّه صيانة الإنسان نفسه.(2)

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): قال اللّه عزّوجلّ:

إذا أردت أن أجمع للمسلم خير الدنيا وخير الآخرة جعلت له قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً علي البلاء صابراً، وزوجةً مؤمنةً تسرّه إذا نظر إليها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله.(3)

وكذا سائر الأخبار التي أطلق الخير والشرّ فيها علي ما يوجب دخول الجنّة وما يوجب دخول النار.(4)

وقد يطلق الخير أو الشرّ علي الخير والشرّ الإضافيّين، وهو الملائم للطبع أو المنافر له، كإطلاق الخير في القرآن علي المال. قال تعالي:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَي الْمُتَّقِينَ﴾.(5)

فالمراد من الخير هو المال. وقال تعالي: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْ-خَيْرِ فِتْنَةً﴾.(6) أي: نبلوكم بالنعم والمصائب وفقدان النعم.

هذا هو القول الفصل في بيان حقيقة الخير والشرّ، ولسنا بصدد البحث عن ذلك

ص: 544


1- 1156.. الأمالي (للصدوق)، ص109، ح6؛ بحارالأنوار، ج68، ص274، ح2.
2- 1157.. تحف العقول، ص278؛ بحارالأنوار، ج75، ص136، ذيل ح3.
3- 1158.. الكافي، ج2، ص327، ح2؛ وسائل الشيعة، ج20، ص40، ح8[24977].
4- 1159.. راجع: وسائل الشيعة ج14، ص21 (الباب التاسع من أبواب مقدّمات النكاح)؛ ميزان الحكمة، ج3، ص201 (مادّة: الخير) و ج5، ص35 (مادّة: الشرّ)، وهكذا مستدرك السفينة (مادّة: الخير والشرّ).
5- 1160.. البقرة2.، الآية 180.
6- 1161.. الأنبياء21.، الآية 35.

مفصّلاً ويجب علي الباحث التتبّع التامّ والنظر الدقيق في الآيات والأخبار حتّي يتبيّن له حقيقة الأمر.(1)

السابع: خلط الاصطلاح في تفسير الشرور بالأعدام

ما ذكره علماء البشر من أنّ حقيقة الخير هو الوجود والشرّ هو العدم؛ فمضافاً إلي أنّه مخالف للآيات والروايات، يرد عليه: أنّ الوجود الذي قالوا بأصالته وأنّه حقيقة واحدة فاردة، إنّما هو الوجود في قبال الماهيّة، لا الوجود في قبال العدم.

توضيح ذلك: إنّ كلّ ممكن عندهم زوج تركيبيّ من الماهيّة والوجود، والأصيل أحدهما لاستحالة تعدّد الأصلين. والقائل بأصالة الماهيّة يقول: إنّ الخارجمصداق للماهيّة والوجود مفهوم ينتزع منه، والقائل بأصالة الوجود يقول: إنّ ما في الخارج هو الوجود والماهيّة أمر انتزاعيّ لاحقيقة لها، فمحلّ البحث بين القائل بأصالة الوجود والقائل بأصالة الماهيّة هو الوجود الذي يقابل المهيّة. وهو عند القائل بأصالة الوجود عارض علي المهيّة تصوّراً ويتّحد معها وجوداً أي في الوجود الخارجيّ، فالكلام في مبحث أصالة الوجود وأصالة المهيّة إنّما هو في الوجود الذي يقابل المهيّة.

وأمّا الوجود المطروح في مبحث الخير والشرّ هو الوجود في قبال العدم أي ما يتحقّق في الخارج هو خير سواء كان مصداقاً للوجود -- بناءاً علي القول بأصالة الوجود -- أو مصداقاً للماهيّة -- بناءاً علي القول بأصالتها -- فلا يصحّ الاستدلال علي أصالة الوجود بأنّ الوجود خيرٌ وإرجاع الشرور إلي الماهيّات، كما استدلّوا به عليها، قال الحاجيّ السبزواريّ في الاستدلال علي أصالة الوجود: «لأنّه منبع كلّ شرفٍ».(2) فقد خلطوا بين الوجود في بحث الخير والشرّ والوجود في مبحث أصالة الوجود.

إن قلت: إنّ هنا أدّلة أخري علي أصالة الوجود. قلت: قد تعرّضنا لجميعها وأبطلناها في محلّه وأوضحنا الحقّ كما يضييݘ الصبح لذي عينين، وليس هنا موضع ذكرها، ومن أراد

ص: 545


1- 1162.. وقد تعرّضنا للبحث عن حقيقة الخير والشرّ في كتابنا شفاعت.
2- 1163.. شرح المنظومة، ج2، ص68.

الاطنلاع علي بعض الكلام فيها فليراجع إلي ما ذكره شيخنا الأستاذ الميرزا جواد الطهرانيّ(قدس سره) في كتابه: عارف وصوفي چه مي گويد؟. وما ذكره آية اللّه الشيخ هادي الطهرانيّ(رحمه الله) في كتاب التوحيد وما ذكره آية اللّه السيّد عليّ البهبهانيّ(رحمه الله) في كتاب التوحيد الفائق.

الثامن: مفاسد تفسير الشرور بالاعدام

أنّه يلزم علي ما ذكره من إرجاع الشرور إلي الماهيّات والخيرات إلي الوجود، أن يكون وجود الشيطان خيراً وشروره ترجع إلي الأعدام كما يصرّحون بهذا، ويلزم أيضاً أن يكون وجود النار والجحيم خيراً والشرور ترجع إلي الأعدام. فهل يصحّ الالتزام بما ذكروه؟ وهل يتفوّه العاقل المنصف بأنّ وجود الشيطان خير والشرور ترجع إلي الماهيّات التي هي في الحقيقة أعدام؟وممّا تضحك به الثكلي ما قاله صدرالدين الشيرازيّ في الأسفار من أنّ الجحيم ونار جهنّم هو السبب الوحيد في نضج فواكه الجنّة!!

قال نقلاً عن ابن عربي مؤيداً إيّاه:

كذلك من عرف نشأة الآخرة، وموضع الجنّة والنار، وما في فواكه الجنّة من النضج الذي يقع به الالتذاذ لآكليه من أهل الجنان، علم أين النار وأين الجنّة، وإنّ نضج فواكه الجنّة سببها حرارة النار التي تحت مقعر أرض الجنّة، فتحدث النار حرارة في مقعر أرضها، فيكون بها صلاح ما في الجنّة من المأكولات وما لا نضج إلّا بالحرارة، وهي لها كحرارة النار تحت القدر.(1)

وليت شعري كيف صارت الأعدام والماهيّات علّة وسبباً لنضج فواكه الجنّة، وكيف صارت لأجل هذا خيرا؟!

هذا بناءاً علي ما يظهر من عبارته -- فإنّ الحرارة من لوازم ماهيّة النار -- ولو كان مراده أنّ وجود النار الذي هو خير صار سبباً لنضج فواكه الجنّة فيرد عليه أنّه هل يكون الوجود سبباً لنضج الوجود؟! أو يكون الوجود المقيّد بحدود النار سبباً لنضج الوجود المقيّد بالفاكهة؟!

أمّا الأوّل فبطلانه أظهر من الشمس في رابعة النهار.

ص: 546


1- 1164.. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج5، ص367؛ الفتوحات المكّيّة، ج2، ص161.

وأمّا الثاني فهو ينافي القول بالوحدة الإطلاقيّة التي ذهب إليه العرفاء الموسومون بالشامخين وهذا الكلام وإن صحّ علي مذهب التشكيك ولكنّ التشكيك باطل بما يرد عليه من الإشكالات.

وليت شعري هل تكون الجحيم ونار جهنّم «العدم المطلق»؟!

فكيف أنذر الأنبياء(عليهم السلام) أُممهم وحذّروهم من النار؟

وكيف يصحّ ويعقل خوف العباد منها؟

وأنت تري ما في الأدعية والمناجاة الصادرة عن الأئمّة(عليهم السلام) كثرة بكائهم وشدّة خوفهم من النار، فهل كانوا يخافون من الأعدام؟!

مع أنّ جميع العباد بل جميع الأشياء يرجعون عندهم في نهاية سيرهم الصعوديّ إلي الوجود المطلق، فلا معني للتحذير والإنذار بدخول النار، ولامعني للبكاء والخوف منها.قال صدرالدين الشيرازيّ في تفسير قوله تعالي: ﴿إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْ-جِبَالُ بَسّاً﴾(1):

لا شكّ أنّ الآخرة إنّما تحصل برفع الحجب وظهور الحقايق وزوال التعيّنات وتميّز الحقّ عن الباطل.(2)

التاسع: أمثلة مع الفارق

ما ذكره من المثال من أنّ «النور الشمسيّ الواقع علي القاذورات والأرجاس والمواضع الكثيفة، فإنّه لا يخرج من النوريّة والصفا بوقوعه عليها، ولا يتّصف بصفاتها من الرائحة الكريهة وغيرها إلّا بالعرض» ففيه من المغالطة ما لا يخفي علي المتأمّل.

وذلك لأنّ تمثيل نور الشمس الواقع علي القاذورات بنور الوجود المنبسط علي الماهيّات قياس مع الفارق، حيث إنّ المفروض في المثال وجود شيئين متغايرين وحقيقتين متباينين في الخارج؛ أحدهما نور الشمس والآخر هي القاذورات والأرجاس، وأمّا في الممثَّل

ص: 547


1- 1165.. الواقعة56.، الآيتان 4-5.
2- 1166.. تفسير القرآن الكريم، ج7، ص19.

فالمفروض أنّه ليس إلّا شيء واحد وحقيقة واحدة فاردة لا يتثنّي ولا يتكرّر، وهو نور الوجود، وأمّا غيره فليس إلّا الاعتبار المحض الذي يرجع إلي العدم، ولذا يعبّرون عن الماهيّات بأنّها اعتبارات وخيالات وأوهام وليست بحقائق، هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ القاذورات والأرجاس لا تصير بوقوع نور الشمس عليها نوراً ولا تصير من أطوار النور وشؤونه وتجلّياته، ولا تصير أيضاً من مراحل النور ومراتبه، بخلاف الممثَّل؛ فإنّ وجود الماهيّات المتحقّقة الموجودة في الخارج عندهم يكون من أطوار الوجود وتجلّياته عند القائل بالوحدة الإطلاقيّة وتكون من مراحل الوجود عند القائل بالتشكيك.

ومع التأمّل فيما ذكرنا تعرف حال سائر الأمثلة التي ذكروها، فإنّها تكون من هذا القبيل.

العاشر: عدم دلالة الآيات المستشهد بها

ما استشهد به علي ما ادّعاه -- انبساط وجوده تعالي علي الأشياء وإسناد جميع الأفعال إليه حقيقة -- من الآيات فبطلانه واضح لا يحتاج إلي البيان.

حيث إنّ الآية المباركة: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِن لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(1) بصدد بيان إحاطتهعلي جميع الأشياء وأنّه محيط لا محاط كما أنّ الآية المباركة: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ﴾(2) تدلّ علي أنّه ليس في السماء والأرض إله غيره، فهي بصدد نفي الألوهيّة عمّا يتوهّم أو يدّعي كونه إلهاً وحمل الآيتين علي انبساط وجوده علي جميع الأشياء من أظهر مصاديق التفسير بالرأي.

وأمّا إسناد التصوير إليه تعالي في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(3) مع أنّه فعل الملائكة المصوّرة -- وقد عبّر صدرالدين عن الملائكة بالقوي المؤثّرة لأنّ الملائكة عند الفلاسفة هي القوي المجرّدة خلافاً لنصوص الآيات الكثيرة ومفاد الأخبار المتواترة الدالّة علي أنّها أجسام نوريّة -- فليس لأجل ما ذكره

ص: 548


1- 1167.. فصّلت41.، الآية 54.
2- 1168.. الزخرف43.، الآية 84.
3- 1169.. آل عمران3.، الآية 6.

بل السرّ فيه ما ذكره مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) في جواب الزنديق المدّعي للتناقض في القرآن من أنّ الملائكة يأتمرون بأوامر الربّ المتعال ولا يعصون اللّه ما أمرهم وهم بأمره يعملون وفعل ملائكته ورسله فعله من أجل أنّه الآمر المطاع وهم بأمره يعملون.(1)

وأمّا الآية المباركة: ﴿أَ فَرَأَيْتُم مَّا تَ-حْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَ-حْنُ الزَّارِعُونَ﴾(2) وكذا الآية: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَ-حْنُ الْمُنشِئُونَ﴾(3) فهي علي خلاف ما استشهد به أدلّ لأنّها تدلّ علي أنّ هنا فعلان يسندان إلي اللّه ولا يصحّ إسنادهما إلي الإنسان وفعلان يسندان إلي الإنسان ولا يسندان إلي اللّه تعالي، فأمّا ما يسند إلي الإنسان حقيقة فهو الحرث وتورية النار وما يسند إليه تعالي حقيقة ولا يصحّ إسناده إلي الإنسان فهو الزرع وإنشاء الشجرة وإيجادها وخلقتها وعلي ضوء ما ذكره الملّاصدرا فلابدّ من صحّة إسناد الحرث والتورية إلي اللّه تعالي مع أنّهما أُسندا إلي الإنسان دونه.

وأمّا الآية المباركة: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾(4) فالقتال مع الكفّار أُسند فيها إلي المجاهدين المؤمنين ولم يسند إلي الربّ وما أُسند إليه تعالي فإنّما هو التعذيب وهو الأثر الحاصل من القتال ووجه إسناده إليه هو أنّ تأثير كلّ مؤثّر يكون بمشيّته وإرادته ولو صحّ ما ذكره -- من صحّة إسناد الفعل الواحد إلي الإنسان وإلي الباري تعالي --فلابدّ من أن تكون الآية هكذا: «قاتلوهم يقاتلهم اللّه بأيديكم».

وأمّا الآية المباركة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَي﴾(5) فقد مرّ الجواب عن الاستدلال بها.

وأمّا الآية المباركة: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْ-خَيْرَاتِ﴾(6) فهي أجنبيّة عن محلّ الكلام كما هو واضح حيث إنّها بصدد بيان أنّ لكلّ أُمّة قبلة يولّي تلك الأُمّة وجهها إليها

ص: 549


1- 1170.. الاحتجاج، ج1، ص247؛ بحارالأنوار، ج90، ص109.
2- 1171.. الواقعة56.، الآيتان 63 - 64.
3- 1172.. الواقعة56.، الآيتان 71 - 72.
4- 1173.. التوبة9.، الآية 14.
5- 1174.. الأنفال8.، الآية 17.
6- 1175.. البقرة2.، الآية 148.

أو يولّي اللّه تعالي وجهها إليها بسبب أمره بالتوجّه إليها.

هذا كلام صدر الدين الشيرازيّ في تفسير الأمر بين الأمرين، وقد رأيت ما فيه من الوهن، مع الغضّ عن أنّ مبني أصالة الوجود ووحدته وقوله أنّه ليس في الدار غيره ديّار، من الأغلاط التي يخرج الملتزم بلوازمه من الإيمان ويدخله في زمرة الكفّار -- لأنّه بناءاً علي هذا المبني لا معني للربوبيّة والمربوبيّة ولا للرازقيّة والمرزوقيّة ولا للعبادة ولا يكون هناك عابد ولا معبود و ... -- كما أفتي بذلك كبار العلماء وسيأتي بعض كلماتهم عن قريب، فنحن قد أغمضنا النظر عن المناقشة في مبناه وأوكلنا البحث عن ذلك إلي محلّه وسيجيي الإشارة إلي ذلك.

وقريب من كلام صدرالدين الشيرازيّ ما في منظومة السبزواريّ

فقال في مبحث عموم قدرته تعالي وأنّة جلّ وعزّ قادر علي كلّ شيء:

«الشيء لم يوجِدْ متي لَمْ يوجَدا» بمعني أنّ الايجاد فرع الوجود فما لم يكن الشيء موجوداً لا معني لكونه موجِداً، ولمّا أنّ الوجود الحقيقيّ يختصّ به تعالي وغيره من الموجودات ممكنات، فليس لغيره تعالي وجود حقيقيّ فلا معني لايجاد غيره شيئاً، فعلي هذا لابدّ من إسناد وجود جميع الأشياء إليه تعالي. وأيضاً لابدّ أن يقال: أنّ غيره تعالي لا يوجِد شيئاً لعدم الوجود الحقيقيّ للغير؛ انتهي.

إن قلت: فيلزم علي هذا القول بالجبر لأنّه لابدّ أن يقال: إنّ الموجِد لأفعال الإنسان هو الباري تعالي وهذا عين الجبر. وكأنّه التفت إلي هذا الاشكال وأجاب عنه بقوله:لكن كما الوجود منسوب لنا * فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا (1)

توضيح كلام السبزواريّ

أقول: كأنّه أراد بهذه العبارة بيان حقيقة الأمر بين الأمرين. ومحصّل ما ذكره أنّ الوجود الحقيقيّ يختصّ بواجب الوجود والباري تعالي، أمّا الماهيّات الممكنة كالإنسان والبقر والشجر ليس لها وجود حقيقيّ بل إنّها توجد بالاستضائة من نور الوجود، فإسناد الوجود

ص: 550


1- 1176.. شرح المنظومه، ج3، ص617.

إلي الواجب (وهو حقيقة الوجود) يكون بنحو الحقيقة وإسناده إلي الماهيّات الممكنة يكون بنحو المجاز، ولمّا كان إسناد الوجود إلي الإنسان وماهيّته صحيحاً بالعناية والمجاز فكذا يصحّ إسناد أفعاله إلي نفسه في عين إسناد تلك الأفعال إلي الباري تعالي لأنّ الإيجاد فرع الوجود، فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا.

والمثال الموضِح لذلك أنّا نري أنّ الفعل كما يسند إلي الفاعل أحياناً فقد يسند إلي الآلة، فكما يصحّ أن يقال: «قطعتُ يدي» كذلك يصحّ: «قطع السكّين يدي».

ثمّ التفت القائل إلي تالي فاسد آخر في كلامه حيث إنّ لازم هذه المقالة صحّة كلامنا: صام زيد وصلّي، وصحّة قولنا: صام اللّه وصلّي، بل وصحّة إسناد جميع القبائح والمعاصي إليه تعالي؛ فإسناد أفعال الخير والشرّ إلي الإنسان يكون مجازاً وإلي الباري تعالي حقيقة. فأجاب عنه: بأنّ الشرّور إنّما تستند إلي الماهيّات لا إلي الوجود.

المناقشة في كلام المنظومة

ويرد عليه: أنّه قد مرّ أنّ إرجاع الخير إلي الوجود والشرّ إلي الماهيّة والعدم، من الأغلاط التي وقعت فيه الفلاسفة؛ فإنّه باطل ومناف للآيات والروايات والفطرة السليمة، والكلام في ذلك بالتفصيل يتطلّب بحثاً مستقلّاً خارجاً عن غرضنا في هذه الرسالة.

وغير خفيّ أنّ الشرور عنده أعدام كما أنّ الماهيّات ليس إلّا اعتباريّات فما معني استناد العدم إلي الاعتباريّ؟!

وكيفما كان إنّ المتحصّل من كلامه أنّ الوجود إنّما يستند إلي واجب الوجود حقيقة وإلي ممكن الوجود مجازاً، والإيجاد فرع الوجود فلذا يكون إيجاد كلّ شيءمستنداً إلي اللّه تعالي بنحو الحقيقة وإلي الإنسان بنحو المجاز. وهذا هو معني الأمر بين الأمرين عنده.

فلو كان الأمر كما ادّعاه السبزواريّ من أنّ إسناد أفعال الإنسان إلي اللّه تعالي إنّما يكون علي نحو الحقيقة وإلي الإنسان علي نحو المجاز، كما أنّ إسناد الجريان إلي الماء في قولنا: «جري الماء» حقيقيّ وإسناده إلي النهر في قولنا: «جري النهر» مجازيّ؛ هل يكون ثمّة فرق بين هذا القول ومقالة المجبّرة؟

ص: 551

فإنّ المجبّرة يصرّحون في كلماتهم بأنّ الإنسان في أفعاله بالنسبة إلي اللّه تبارك وتعالي كالمنشار في يد النجّار وكالآلة في يد الإنسان، فليس إسناد قطع الخشب إلي المنشار غلطاً، بل إنّهم يقولون إنّ إسناد أفعال الإنسان إليه إنّما يكون بالعناية والمجاز بينما يكون إسناده إلي اللّه تعالي إسناداً إلي الفاعل الحقيقيّ.

فعليه إنّ هذا الكلام مع أنّه ليس تفسير الأمر بين الأمرين، إنّما يكون دليلاً وتقريباً لإثبات مقالة المجبّرة، فإنّه لو أراد الفاعل الحقيقيّ إيجاد شيء هل للفاعل المجازيّ منعه عن ذلك؟ أو أنّه لو أراد الفاعل المجازيّ إيجاد شيء هل يقدر عليه لو لم يرده الفاعل الحقيقيّ؟

فانظر ثمّ اقض العجب كيف تاه البشر حينما استبدّ برأيه ولم يقتف أثر المعلّمين الربّانييّن والمذكّرين المعصومين، فاعتقد بما نسجته أوهامه الفاسدة وأحلامه الكاسدة، ولم يتنبّه إلي الحقّ الصريح حتّي بعد تذكّرات المذكّرين الربّانييّن، ومن ذلك يعلم -- كما قال بعض الأعاظم قدّس اللّه نفسه الشريف -- أنّ الاهتداء بأنوارهم الطاهرة والتذكّر بعد تذكيراتهم خاصّ بمواليهم ومن أخذ عنهم ولم يتعدّ عن تذكيراتهم وتعليماتهم إلي طريق غيرهم وهذا من عجيب صنع اللّه تعالي فيهم(عليهم السلام).

وأمّا ما قاله من أنّ الوجود إنّما يسند إلي اللّه تعالي علي نحو الحقيقة وإلي الإنسان علي نحو المجاز والإيجاد فرع الوجود.

فنقول: نعم الإيجاد فرع الوجود بداهة أنّه لو لم يكن الشيء موجوداً لما يمكن أن يكون موجِداً وهذا واضح، أمّا ما قال من أنّ إسناد الوجود إلي الإنسانوساير الموجودات مجازيّ فنسأل ما هو المراد من الوجود المجازيّ هنا؟

فإنّه ليس بين الوجود الواقعيّ الحقيقيّ والعدم واسطة، فالوجود المجازيّ ليس وجوداً واقعيّاً حقيقيّاً بالقطع واليقين، وليس في قبال الوجود إلّا العدم. وأمّا الماهيّات فهي أيضاً -- بناءاً علي أصالة الوجود ووحدته واعتباريّة الماهيّة -- ليست واسطة بين الوجود الحقيقيّ والعدم، لأنّ ارتفاع النقيضين محال قطعاً، والماهيّات في الحقيقة أعدام محضة واعتبارات

ص: 552

صرفة كما صرّح بهذا جمّ غفير ممّن يقول بهذه المقالة الكاسدة، فإنّه ليس عندهم في الدار -- أي في دار الوجود -- غيره ديّار -- أي غير الوجود شيء -- وسيأتي بعض كلماتهم إن شاء اللّه تعالي.

فإن كان المراد من الوجود المجازيّ هي الماهيّات الاعتباريّة، فلا يمكن حينئذٍ إسناد الإيجاد إلي الماهيّات لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأنّ الإيجاد فرع الوجود كما قلتم وليست الماهيّة وجوداً لا حقيقة ولا مجازاً، فإنّها قسيم الوجود، وقسيم الشيء لا يجامع الشيء، إلّا إذا التزمتم بإمكان اجتماع النقيضين أو الضدّين.

وإن كان المراد من الوجود المجازيّ وجود الماهيّة، فالوجود المضاف إلي الماهيّة هل هو غير الوجود المطلق أو نفسه؟

أمّا الأوّل فباطل قطعاً، لأنّ المقابل للوجود إمّا العدم وإمّا الاعتبار.

وأمّا الثاني فهو أيضاً غير معقول، لأنّ الوجود المطلق هو الوجود الحقيقيّ فكيف يسمّي بالوجود المجازيّ؟

محصّل كلام الصدرا والسبزواريّ هو: كما أنّ الوجود منسوب إلي زيد مع أنّه من تطوّرات الوجود المطلق كذلك يصحّ إسناد الفعل إليه مع أنّه من تطوّرات الباري تعالي.

فنقول: هل المراد من زيد المنسوب إليه الوجود هو الوجود أم الماهيّة أو العدم؟ وأنّه ما معني إسناد الوجود إلي زيد؟ فإنّه علي الوحدة الإطلاقيّة لا يوجد زيد ولا عمرو حتّي يسند إليهما شيء، وعلي التشكيك في الماهيّة فإنّ الماهيّة أمر اعتباريّ والحدود ترجع للعدم ولا معني لوجود الماهيّة ووجود زيد وعمرو، حيثأنّ زيد وعمرو ليسا سوي الماهيّة فما معني إسناد الوجود إلي الأمر العدمي والاعتباريّ.

إن قلت: إنّ وجود الماهيّة من مراتب الوجود، فإنّ الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب. كما قال:

كون المراتب في الاشتداد * انواعاً استنار للمراد(1)

ص: 553


1- 1177.. المنظومة، ج2، ص62.

وقال:

الفهلويّون الوجود عندهم * مراتباً غنيً وفقراً تختلف

حقيقة ذات تشكّكٍ تعم * النور حيثما تقوّي وضعف(1)

قلت: مضافاً إلي أنّ القول بالتشكيك مخالف لما ذهب إليه العرفاء الموسومون بالشامخين، وأدقّاء علماء البشر المسمّون عندهم بأولي الألباب والبصيرة -- كما لا يخفي علي من تتبّع كلماتهم -- فإنّ هذا القول لا دليل عليه وهو باطل لأنّه بناءاً علي أنّ الحقيقة ليست إلّا الوجود، وبناءاً علي كونه حقيقة واحدة لا ثاني له ولا ضدّ له، لا يبقي معني لكونه ذات مراتب لأنّه بناءاً علي هذا لابدّ أن يكون ما به الاشتراك عين ما به الامتياز، وما به الوحدة هو ما يحصل به الكثرة، وهذا غير معقول لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.

ومع غضّ النظر عن جميع ذلك نقول: إنّ ما ذكره السبزواريّ من «أنّ الشيء لم يوجد متي لم يوجدا»، ليس له معني معقول حتّي بناءاً علي أصالة الوجود ووحدته مطلقاً -- سواء كانت الوحدة إطلاقيّة أم تشكيكيّة -- لأنّ الشيء الموجود إمّا أن يراد به الماهيّة الموجودة كما هو الظاهر منه، فالماهيّة لا توجد شيئاً كما مرّ توضيحه.

وإمّا أن يراد به الوجود كما صرّح بعضهم بأنّ الشيء بحقيقة الشيئيّة والموجود الحقيقيّ هو الوجود لا غير، فقال:

كيف وبالكون عن استواء * قد خرجت قاطبة الأشياء(2)

فلا معني لكون الوجود موجِداً لغيره، فهل يعقل أن يكون الوجود موجِداً للعدم؟ أو هل يعقل أن يكونالوجود موجِداً للمهيّة التي ليست إلّا اعتباراً صرفاً وعدماً محضاً؟

والحاصل: أنّه بناءاً علي أصالة الوجود ووحدته، لا يكون للإيجاد معني معقولاً، لأنّه بناءاً علي الوحدة الإطلاقيّة ليس إلّا حقيقة واحدة شخصيّة وما سواها أوهام يتوهّمها الجاهل. وبناءاً علي الوحدة التشكيكيّة فلا معني لأن تكون مرتبة من الوجود سبباً لوجود

ص: 554


1- 1178.. المنظومة، ج2، ص104.
2- 1179.. المنظومة، ج2، ص63.

مرتبة أخري، ولا معني لأن يكون الوجود موجِداً للوجود، فإنّ المرتبة ليست لها حقيقة.

فالحقّ الحقيق والقول السديد ما أوضحناه من أنّ اللّه تعالي خلق ما سواه، وأنّه تعالي هو القيّوم له وما سواه قائم به، كما أنّه تعالي قائم بذاته، ثمّ إنّه تعالي ملّكه العلم والقدرة مع كونه تعالي أملك بما ملّكه، فيكون العبد قادراً علي الأفعال الاختياريّة الصادرة عنه وله أن يوجِدها بالقدرة التي ملِكَها بتمليك اللّه تعالي، فهو مخلوق كائن بالغير حقيقةً وقادر علي أفعاله الاختياريّة حقيقةً بالقدرة الحقيقيّة، إلّا أنّ كيانه وقدرته وعلمه وحياته وسائر كمالاته تكون باللّه تعالي الذي هو القيّوم والعالم والقادر والحيّ والكائن بذاته القدّوس.

نعم هو أولي بحسناتنا منّا ونحن أولي بسيّئاتنا منه وقد مرّ بيانه.

كلام بعض المعاصرين في حقيقة الأمر بين الأمرين

هذا، وقد تبعه مقولة الأسفار والمنظومة جمع ممّن تأخّر عنهما في هذه المقالة الفاسدة بعبارات مختلفة ولكن مؤدّاها واحد.

قال بعض المعاصرين:

فتحصّل أنّ الحسنة لكونها كمالاً وجوديّاً لابدّ وأن يستند إلي الكامل بالذات، والسيّئة لكونها نقص كمال وفقدان جمال لابدّ وأن يستند إلي الفاقد للكمال؛ وهو الإنسان العاصي المتحوّل في حيطة قدرته تعالي بلا تفويض، لأنّ استحالة التفويض علي مشرب التوحيد الأفعاليّ أظهر لوضوح امتناع تفويض الأمر الخارجيّ إلي صورة مرآتيّة لا حقيقة لها عدا حكاية ذي الصورة.

كما أنّ امتناع الجبر علي هذا المشرب أيضاً أبين، لأنّ الإكراه إنّما يتصوّر فيما يكون هناك شيء موجودله اقتضاء وإرادة، وأمّا الصورة المرآتيّة التي لا واقعيّة لها عدا الإرائة والحكاية فلا مجال لفرض إكراهها وجبرها، كما أنّها لا مجال أيضاً لتفسير المنزلة بين المنزلتين علي منهج الحكماء من توجيه العلّة القريبة والمتوسّطة والبعيدة، إذ لا علّيّة للصورة المرآتيّة أصلاً حتّي يبحث عن كونها قريبة أو لا.

ولذلك يظهر أمر آخر وهو أنّ عدّ التوحيد الأفعاليّ في سياق أقوال الأشاعرة المجبّرة والمعتزلة المفوّضة والحكماء الإماميّة القائلة بالأمر بين الأمرين غير منسجم، لأنّ الإنسان وغيره من الممكنات علي المباني الثلاث الأوّل كوجود

ص: 555

خارجيّ حقيقةً وإن كان وجوده ضعيفاً وفقيراً أو فقراً وربطاً محضاً لا ذات له إلّا الربط إلي الواجب الغنيّ المحض، إلّا أنّه في المشرب الرابع وهو التوحيد الأفعاليّ المبحوث عنه في العرفان النظريّ المشهود في العرفان العمليّ، لا وجود له إلّا مجازاً بحيث يكون إسناد الوجود إليه إسناداً إلي غير ما هو له، نظير إسناد الجريان إلي الميزاب في قول من يقول: «جري الميزاب» لأنّ الموجود الإمكانيّ علي هذا المشرب صورة مرآتيّة لا وجود لها في الخارج وهي مع ذلك تحكي ذا الصورة حكاية صادقة.

فحينئذٍ يصير معني نفي الجبر والتفويض عن تلك الصورة وإثبات المنزلة الوسطي بين طرفي الإفراط والتفريط من باب السالبة بانتفاء الموضوع في الأوّلين، ومن باب المجاز في الإسناد في الثالث لأنّ القول بأنّ تلك الصورة الحاكية التي لا وجود لها في الخارج ليست مجبورة ولا مفوّضاً إليها قضيّة سالبة بانتفاء موضوعها. والقول بأنّ تلك الصورة التي لا وجود لها في العين مختارة في فعلها قضيّة يكون إسناد محمولها إلي موضوعها مجازاً عقليّاً، وإسناده إلي الفاعل الحقيقيّ الموجود بالذات رفيع الدرجات ذي العرش حقيقيّ، لأنّ جميع الأشياء العينيّة درجات فاعليّة ذلك الفاعل الحقيقيّ السبّوح عن الحلول في الخلق القدّوس عن الاتّحاد معه.(1)

وقال بعض آخر:

أنّ التعيّنات والمظاهر التي توحي بالكثرة في النظر البدوي إنّما تكون مقهورة للوحدة، وليست هي إلّا التدليّات الصرفة والروابط المحضة. بل في الحقيقة ليس عندنا ظاهر ومظهر ومتجلٍ و مجلي، وإن قال العرف بالامكان فإنّما يقصدون الوجودات الربطيّة المحضة الي قيّمها وقيومها.(2)

ثمّ قال في الهامش:

المرتبط يعني شيء متعلّق بشيء آخر كقولك كتابي، والحال إنّه لا يوجد شيء

ص: 556


1- 1180.. عليّ بن موسي الرضا(عليه السلام) والفلسفة الإلهيّة، ص88.
2- 1181.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص107: تعيّنات و مظاهر كه به ظاهر كثرتآور است، مقهور در وحدت و تدلّيات صرفهاند و روابط محضه، بلكه در حقيقت ظاهر و مظهر و متجلّي و مجلا هم نيست و اگر عارف گويد امكان يعني وجودات ربط محض به قيّم و قيّوم خودند.

مرتبط به وإنّما هي روابط محضة، نظير نسبة قوّة الباصرة إلي النفس التي هي من شؤون النفس، فلابدّ أن يقال ربط وليس مرتبط.(1)

وفي المرحلة الثالثة يقول:

وحينما تحدق النظر تري أنّ ما في دار الوجود هو الوجوب والبحث عن الامكان إنّما هو للتسليّة واللعب.(2)

وقال حاكياً عن محي الدين:

وإذا كان الأمر علي ما قرّرناه فاعلم أنّك خيال، وجميع ما تدركه ممّا تقول فيه سوي خيال، فالوجود خيال في خيال.(3)

محصّل كلام بعض المعاصرين

والمتحصّل من كلامهما: أنّ وجود الممكن إنّما يكون وجوداً ربطيّاً لا استقلال له، بل إنّ وجوده مرتبط بالواجب المتعال، وليس المراد من كون وجود الممكن وجوداً ربطيّاً أنّ الربط من الصفات العارضة علي الممكن بحيث يكون للممكن وجود في مقابل وجود أصل الربط، ثمّ يعرض عليه الربط كعروض البياض علي الجسم؛ بل إنّ الممكن عين الربط، بحيث لا يكون مع قطع النظر عن المرتبطين ربط، ولا يبقي عين ولا ذات.

ثمّ يترقّي ويقول: ليس الممكن شيئاً وموجوداً أصلاً، بل هو عدم بصورة الوجود كالصورة في المرآة. كما أنّ الصور الموجودة في المرآة إنّما تبيّن صاحب الصورة بما له من الخصوصيّات، وليس للصورة وجود حقيقة كذلك الموجودات الإمكانيّة إنّما تكون أعداماً ووجودها يكون كوجود الصورة في المرآة، كما قال شاعرهم: «ما عدم هاييم هستي ها نما».(4)

ص: 557


1- 1182.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص107: مرتبط يعني چيزي كه وابسته است مثل كتابِ من، ما چيز وابسته نداريم بلكه روابط محضه داريم مانند نسبت قوّۀ باصره به جان كه خود از شؤون جان است وبايد ربط گفت نه مرتبط.
2- 1183.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص107: و چون به دقّت بنگري آنچه در دار وجود است وجوب است و بحث در امكان براي سرگرمي است.
3- 1184.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص246.
4- 1185.. نحن اعدام في صورة الوجود.

وبالالتفات إلي هذا المطلب العرفانيّ يجب أن يقال: إنّ قضيّة «لا جبر ولا تفويض» إنّما تكون سالبة بانتفاء الموضوع، بمعني أنّه لا يبقي موضوع للجبر والتفويض. فلا جبر لأنّه ليس شيء كي يكون مجبوراً ومكرهاً، ولا تفويض لأنّه ليس بشيء كي يكون مستقلّاً في أفعاله. وأمّا قضيّة بل أمر بين الأمرين فهو إسناد إلي الفاعل المجازيّ وإسناد إلي غير ما هو له، كما يقال: جري النهر، أو زيد منيع جاره. والإنسان إنّما يكون تجلّياً للربّ ومظهر له ولصفاته وكمالاته وخصوصيّاته، واختياره إنّما يكون تجلّياً لاختياره تعالي، بل بالنظر الدقّيّ لا يبقي متجلّي ومظهر للوجود أيضاً.

ويناسب المقام التعرّض لما ذكره الملّاصدرا حيثما قال:

تنبيه مشرقيّ [في أنّ وجوده تعالي وجود كلّ شيء]

وممّا ينبّهك علي أنّ وجوده تعالي وجود كلّ شيء أنّ وجوده عين حقيقة الوجود وصرفه من غير شوب عدم وكثرة ... فإذن يجب أن يكون وجوده تعالي لكونه صرف حقيقة الوجود وجوداً لجميع الموجودات ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلنا أَحْصَاهَا﴾(1) فلا يخرج من كنه ذاته شيء من الأشياء، لأنّه تمام كلّ شيء ومبدئه وغايته وإنّما يتعدّد ويتكثّر وينفصل لأجل نقصاناتها وإمكاناتها وقصوراتها عن درجة التمام والكمال فهو الأصل والحقيقة في الموجوديّة وما سواه شئونه وحيثيّاته وهو الذات وما عداه أسمائه وتجلّياته وهو النور وما عداه ظلاله ولمعاته وهو الحقّ وما خلا وجهه الكريم باطل ﴿كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إلنا وَجْهَهُ﴾،(2) ﴿مَا خَلَقْنَا السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلنا بِالْ-حَقِّ﴾(3)-(4)

هذه الأوهام المنسوجة مردودة
اشارة

والجواب عن هذه الأوهام أنّ العمدة في الإشكال علي هذه الأوهام المنسوجة التي هي أهون من بيت العنكبوت، والأقاويل المزخرفة -- مع الغضّ عمّا فيها من التناقض صدراً

ص: 558


1- 1186.. الكهف18.، الآية 49.
2- 1187.. القصص28.، الآية 88.
3- 1188.. الأحقاف46.، الآية 3.
4- 1189.. أسرار الآيات، ص37.

وذيلاً -- أمران:

الأوّل: نفي الموضوع للأمر بين الأمرين

أنّه بناءاً علي ما ذكروه من أنّ قضيّة لا جبر ولا تفويض سالبة بانتفاء الموضوع، وأنّه ليس هناك حالّ ولامحلّ،ولا علّة ولا معلول، وليس هناك اثنينيّة كي يتحقّق موضوع الاتّحاد بل هناك وحدة شخصيّة جزئيّة والكثرات اعتبارات محضة ليست في الحقيقة إلّا أعدام، فما هو الأمر بين الأمرين؟ أو ما هو الموضوع لهذه القضيّة؟!

وما ذكروه في تفسير الأمر بين الأمرين من كون الإسناد إلي الفاعل المختار إسناداً مجازيّاً يخالف ما أصّلوه، فإنّ التجوّز في الإسناد لا يتصوّر ولا يعقل إلّا فيما إذا كان هناك اثنينيّة وتعدّد وتغاير بين الفاعل الحقيقيّ والفاعل المجازيّ، كي يكون الإسناد إلي أحدهما حقيقة وإلي الآخر مجازاً. أمّا مع وحدة الفاعل وعدم تعدّده فلامعني لكون الإسناد حقيقيّاً أو مجازيّا.

وبناءاً علي ما ذكروه من أنّ الكثرات أوهام وخيالات يتوهّمها ويتخيّلها الأحول، فلا تغاير بين الواجب والممكن في الحقيقة كي يقال إنّ إسناد الفعل إلي الواجب حقيقيّ وإلي الممكن مجازيّ.

الثاني: مخالفة مقالتهم لضرورة العقل وضرورة الشرايع

إنّه بناءاً علي ما ذكروه من أنّ إسناد الفعل إلي الواجب إسناد حقيقيّ وإلي الممكن إسناد مجازيّ -- يكون الواجب أولي بإسناد الأفعال إليه من الممكن -- فما معني الحديث: «أنا أولي بحسناتك منك وأنت أولي بسيّ-ئاتك منّي»، بل الصحيح أن يقال: أنا أولي بجميع ما يصدر عنك من الحسنات والسيّئات!! والأصحّ أن يقال: إنّ الحسنات والسيّئات جميعها أفعال اللّه والعبد آلة لها.

ثمّ إنّه لا ينقضي عجبي من الذين يعتبرون أنفسهم من الآخذين بالمنهج العقليّ والبرهانيّ فيّ طي المباحث، ويَدّعون أنّ الطريق الوحيد في مقام استكشاف الحقائق هي الأقيسة الاصطلاحيّة التي سمّوها بالبرهان العقليّ كيف سوّغت لهم أنفسهم أن يستدلّوا

ص: 559

ويستندوا في مثل هذه المسألة الهامّة بشطر من شعر معلوم حال شاعره وبشعريّات لا تغني ولا تسمن من جوع.

وبطلان هذه المقالة ومخالفتها للفطرة السليمة في غاية الوضوح يجده كلّ عاقل ويظهر بالمراجعة إلي سيرتهم العمليّة وعليها يمضي العقلاء جميعاً حتّي الذين ذهبوا إلي هذه النظريّة الفاسدة.وأعجب من ذلك جهلهم بأسلوب المحاورة والتخاطب، هل المخاطبون للأئمّة(عليهم السلام) العارفون باللغة العربيّة كانوا يستظهرون من القضيّة السالبة: «لا جبر ولا تفويض» مع وجود القضيّة الموجبة بعده: «بل أمر بين الأمرين» انتفائهما لانتفاء موضوعهما؟ أي ليس للإنسان وجود كي يكون مجبوراً أو مختارا؟

فلو كانت قضيّة «لا جبر ولا تفويض» سالبة بانتفاء الموضوع فما معني إثبات «الأمر بين الأمرين»، وهل أثبت الأئمّة(عليهم السلام) قضيّة «الأمر بين الأمرين» لموضوع معدوم؟!

مضافاً إلي أنّ الأخبار النافية للجبر والتفويض والمثبتة لاختيار العباد ليست جميعها بلسان النفي، بل شطر منها بلسان الإثبات، نظير ما روي من أنّه «من قال بالجبر فهو كافر ومن قال بالتفويض فهو مشرك»، وما روي في إثبات الأمر بين الأمرين بلسان إثبات القدرة للعباد وأنّها ملك للّه تعالي، نظير ما روي من أنّه تعالي «هو المالك لما ملّكهم والقادر علي ما عليه أقدرهم»، وهكذا سائر الأخبار التي لا يمكن حملها علي ما توهّموه.

ولا ريب أنّ فهم هذه الأوهام مشكل جدّاً للخواصّ، فكيف بعامّة المخاطبين، فضلاً عن استظهار الخواصّ وغيرهم هذه الأوهام من الأخبار الصادرة عن أئمّة الهدي(عليهم السلام) في حلّ عويصة الجبر والتفويض، ولذا نري أنّ الذين عاشوا قبل صدرالدين الشيرازيّ بمئات سنين ما استظهروا -- علي حسب زعم صدرالدين ومن يحذو حذوه -- هذه الأوهام من الأخبار إلي أن جاء دوره هو واخترع هذه النظريّة وهذا يدلّ علي عدم ظهور الأخبار في مدّعاه وإلّا لفهمه من كان قبله.

فهل بيّن الأئمّة(عليهم السلام) حقيقة الأمر بين الأمرين بحيث لا يفهمه أحد من مخاطبيهم إلّا بعد

ص: 560

ألف سنة؟ بل لو كان الحقّ كما زعمه هؤلاء لكان كلام الأئمّة(عليهم السلام) إغراءً بالجهل، لأنّه من القطعيّ أنّ أحاديثهم لا يسوق المخاطب الخالي الذهن إلّا إلي خلاف ما رام هؤلاء إثباته.

ثمّ إنّه لو لم يكن لوجود الإنسان حقيقة وواقعيّة وكان كالصورة في المرآة وكالظلّ لذي ظلّ، وكانت تعيّناته ماهيّات عدميّة واعتباريّة؛ هل يعقل تكليف هؤلاء الأعدام ومؤاخذتهم وإجراء الحدود عليهم؟

أو هل يعقل الثواب والعقاب في حقّهم؟فإنّه إن يكن الأمر كما ذكروه، فيجب أن نعتبر الشرع والدين والتكاليف والأمر والنهي والثواب والعقاب والوعد والوعيد، وبعثة جميع الأنبياء والرسل، عبثاً ولغواً ولعباً وسخريّاً، ونفتري علي باعث الأنبياء ومنزل الكتب ونقول إنّ كلامه كذب وزور! كيف يرسل الرسل واحداً تلو الآخر ويأمر وينهي ويبشّر ويحذّر، ويأمر المسلمين بقتل الكافرين والبرائة منهم، والحال أنّه ليس أحداً يأتمر وينتهي أو يؤمن ويكفر إلّا الأعدام والأظلّة والماهيّات؟! تعالي اللّه عمّا يقول الظالمون المفترون علوّاً كبيرا.

فلو كان الأمر كما يزعمون فمن الآمر ومن المأمور؟ ومن الزاجر ومن المزجور؟ ومن العابد ومن المعبود؟

نبذة من أقوالهم الصريحة في التزامهم بلوازم مبني وحدة الوجود الفاسدة

هل المأمور والعابد أوهام وخيالات يترائي بعين الأحول، ثمّ تعلّق التكليف بهذه الخيالات والأوهام. كما يقول هذا البعض:

ما يلحظ من الكثرات ليس سوي اللحاظات والاعتبارات، فالوجود الواحد هو حقيقة شخصيّة واحدة لكنّما نراه بظهورات عديدة ... لا فرق بين موج وآخر في حقيقته الشخصيّة المائية ...

لا تكن أحول فإنّ المسمّي ليس سوي واحد لكن سميّناه بأسماء عديدة.(1)

ص: 561


1- 1190.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص156: كثراتي كه ملحوظ مي شوند به مبناي عرفان جز لحاظات و اعتبارات چيز ديگري نيست، همان يك وجود حقيقت واحدۀ شخصيّه را به ظهورات عديده مي نگريم ... هيچ موجي با موج ديگر در حقيقت واحدۀ شخصيّۀ آب بودن تفاوت ندارد ... . مشو احول مسمّي جز يكي نيست اگ--ر چ--ه م-ا بسي اسما نهاديم

وقد صرّح بعضهم بمفاد ما ألزمناهم به من دون حياء، فقال مخبراً عن ربّ العزّة:

فيحمدني وأحمده * و ي--عب-دني وأعبده

قال القيصريّ: ... إنّ اطلاق العبادة علي الربّ وإن كان شنيئاّ ويعتبر نوعاّ من سوء الأدب في الظاهر، ولكن متي ما غلب علي قلب العارف أحكام التجليّات الإلهيّة تخرجه عن طور العقل ودائرة التكليف، فلا يقدر القلب علي مراعاة الأدب، فيكون الأدب في ترك الأدب. (1)

هؤلاء الجهّال المساكين، قطّاع طريق السالكين إلي اللّه -- علي حدّ تعبير الإمام(عليه السلام) -- يؤول أمرهم وغاية أوهامهم إلي أن يصرّحوا بأنّ عبادة الأصنام من أسرار الولا ية الباطنيّة، كما قال ابن العربي:

وكان موسي أعلم بالأمر من هارون، لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه قد قضي إلّا يعبدإلّا إيّاه، وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع، فكان موسي عتب أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه، فإنّ العارف من يري الحقّ في كلّ شيء بل يراه عين كلّ شيء.

ويقول هذا البعض معلّقاً علي كلامه:

غرض الشيخ من بيان هذه المسائل في الفصوص والفتوحات وسائر زبره وكتبه هو بيان أسرار الولاية والباطن لمن يكون من أهل السرّ ولو أنّ المقرّر بحسب نبوّة التشريع منع عموم الناس عن عبادة الأصنام، كما أنكرها الأنبياء.(2)

كما قال القيصري:

ص: 562


1- 1191.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص160: قيصري گويد: ... اطلاق عبادت بر حقّ اگر چه شنيع است. در ظاهر نوعي سوء ادب است، و لكن چون احكام تجلّيات الهيّه بر قلب عارف غلبه كرد او را از دايره تكليف و طور عقل به در مي برد كه قلب اصلاً قادر به مراعات ادب نيست و در اين هنگام ترك ادب خود ادب است.
2- 1192.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص514:غرض شيخ در اينگونه مسائل در فصوص و فتوحات و ديگر زُبُر و رسايلش بيان اسرار ولايت و باطن است براي كساني كه اهل سرّند هر چند به حسب نبوّت تشريع مقرّر است كه بايد تودۀ مردم را از عبادت اصنام باز داشت؛ چنانكه انبياء اصنام را انكار فرموده اند.

واعلم، أنّ هذا الكلام وإن كان حقّاً من حيث الولاية والباطن، لكن لا يصحّ من حيث النبوّة والظاهر. فإنّ النبيّ يجب عليه إنكار العبادة لأرباب الجزئيّة، كما يجب عليه إرشاد الأمّة إلي الحقّ المطلق، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام وإن كانت مظاهر للهويّة الإلهيّة.(1)

والمتحصّل من هذا الكلام أنّ الحقّ والسرّ وإن كان في عبادة الأصنام إلّا أنّه يجب علينا إخفاء هذه الحقيقة عن العوامّ وإغرائهم إلي خلاف الحقّ، كما صنعه الأنبياء العظام!! جلّت ساحة قدسهم عن هذه الأوهام. ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ﴾.(2)

وقال ابن عربي أيضاً:

وأعظم مجلي عبد فيه وأعلاه الهوي، كما قال: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ﴾،(3) فهو أعظم معبود فإنّه لا يعبد شيء إلّا به، ولا يعبد هو إلّا بذاته، فيه أقول:

وح-قّ ال-هوي إنّ الهوي سبب الهوي ولولا الهوي في القلب ما عبد الهوي

ألا تري علم اللّه بالأشياء ما أكمله كيف تممّ في حقّ من عبد هواه واتّخذه إلهاً، فقال: وأضلّه علي علم، والضلالة الحيرة.

ثمّ قال هذا البعض شارحاً لكلامه:

إنّ أعظم مجلي يعبد فيه اللّه وأعلاه هو الهوي كما قال تعالي: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ﴾، فالهوي أعظم معبود، لأنّه لا يعبد معبود إلّابالهوي، والهوي لا يعبد إلّا بذاته ... قال الشارح القيصريّ عن الشيخ في الفتوحات: إنّي رأيت الهوي في بعض مكاشفاتي وهو ظاهر بالألوهيّة وقاعد علي عرش، وقد أحاطه جميع عبّاده وأقاموا عنده، وإنّي ما رأيت في الصور الكونيّة معبوداً أعظم من الهوي.(4)

ص: 563


1- 1193.. شرح فصوص الحكم، ص 1096.
2- 1194.. الأنبياء21.، الآية 67.
3- 1195.. الجاثية45.، الآية 23.
4- 1196.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص519؛ والعبارة موجودة في شرح القيصريّ للفصوص، ص 421. بزرگترين و عاليترين مجلا كه خدا در آن معبود شود هوي است چنانچه فرمود: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ﴾، پس هوي بزرگترين معبود است، زيرا هيچ معبودي واقع نمي شود مگر به هوي، و هوي معبود نيست مگر به ذات خود ... شارح قيصري گويد: شيخ در فتوحات گفته است: من در بعضي از مكاشفات هوي را مشاهده كردم كه به الوهيّت ظاهر شده و بر عرشي نشسته است، و جميع عبادت كنندگانش اطراف او را احاطه كرده اند و نزد او ايستاده اند، و من در صور كونيّه هيچ معبودي را بزرگتر از هوي مشاهده نكردم.

فمرحباً مرحباً بهذا الدين، وبخٍّ بخٍّ بهؤلاء المتأوّلين، ما أجرأهم علي الواحد القهّار، المتكبّر الجبّار، والتلاعب بكلامه! حتّي جعلوا الهوي إلههم فعبدوه، وأصبحت عبادتهم إيّاه من أعظم العبادات وأفضل القربات! وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوي وطول الأمل.(1)

و زهٍ زهٍ بأولئك المتحلّين بأبراد العرفان، الناشرين للفساد، واللاعبين بآيات الكتاب، الهاجمين علي ناموس الإسلام، وقدس صاحب الرسالة، الخارجين عن طوع الكتاب والسنّة، الداخلين في طوع الهوي والإبليس، فأوردهم موارد الكفر والزندقة والإلحاد.

فليت شعري كيف سوّغت لهم أنفسهم أن ينسبوا هذه الأباطيل إلي الإسلام وبأيّ وجه كتبوا أُموراً تنزّه ساحة المجرمين عن دنس الفجور والنفاق، وتبرّيݘ التابعين لهواهم عن رجس الذنوب والآثام، وتجعل المحسن والمسي ء، والمبطل والمحقّ، والطيّب والخبيث، عكمَي(2) بعير. وتضلّ الأُمّة عن رشدها بأمثال هذه الكلم التافهة، والدعاوي الفارغة، والآراء الساقطة، وتصغّر في عين المجتمع الدينيّ تلكم الجنايات العظيمة علي اللّه وعلي رسوله وكتابه وسنّته، وخليفته وعترته ومواليهم.﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَ-خْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلنا كَذِباً﴾.(3)

لعلّ القرآن المتواجد عند هذا البعض قد سقط عنه تتمّة الآية الكريمه؛ إذ الموجود في مصاحف المسلمين: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَي عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.(4)

ص: 564


1- 1197.. نهج البلاغة، الخطبة 28 و42، ص71 و 83.
2- 1198.. العكمان: عِدلان يشدّان علي جانبي الهودج بثوب.
3- 1199.. الكهف18.، الآية 5.
4- 1200.. الجاثية45.، الآية 23.

أو لعلّهم -- كعادتهم في اللّعب بآيات الكتاب والسُّخرية بصاحبه -- جعلوا الإنذار تبشيراً، والترهيبتشويقاً، وقلّبوا الذمّ مدحاً، والوعيد وعداً. حسبهم ما هدّدهم الباري تعالي من إضلالهم والختم علي سمعهم وجعل الغشاوة علي أبصارهم بعد ما تبيّن لهم الحقّ وعلموه، كما قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) مستشهداً بهذه الآية:

فكيف آسي علي من ضلّ عن الحقّ من بعد ما تبيّن له.(1)

وليست هذه بأوّل قارورة كسرت في الإسلام؛ ففي تفسير عليّ بن إبراهيم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ﴾ قال:

نزلت في قريش، كلّما هووا شيئاً عبدوه ﴿وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَي عِلْمٍ﴾ أي: عذّبه علي علم منه فيما ارتكبوا من أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وجري ذلك بعد رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) ممّا فعلوه بعده بأهوائهم وآرائهم، وأزالوا الخلافة والإمامة عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) بعد أخذ الميثاق عليهم مرّتين لأميرالمؤمنين(عليه السلام).(2)

وقال هذا المعاصر أيضاً:

يقول القيصريّ: ... إمّا بالنسبة للمشركين الذين عبدوا غير الله من الموجودات فينتقم منهم المنتقم، لأنّهم حصروا الحقّ فيما يعبدونه وجعلوا الإله المطلق مقيّداً. لكن من جهة أنّ معبودهم هو عين وجود الحقّ الذي ظهر في هذه الصورة فلا يعبدون إلّا الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فيصير عذابهم عذبا. قال الشيخ الشبستريّ:

أيّها العاقل فإنّ الصنم * ليس باطلاً من حيث الوجود

إعلم إنّ الله تعالي خَلَقَه * و كلّما يصدر من المحبوب محبوب

مهما يكون الوجود فهو خير محض * وإن كان هناك شرّ فهو من الغير

فلو علم المسلم ما هو الصنم * لعلم أنّ التديّن في عبادة الاصنام

ولو علم المشرك ما هو الصنم * لم يضلّ في دينه

وعلي الرغم من أنّ العذاب للكافرين عذاب عظيم، لكنّهم لا يتعذبّون بالعذاب،

ص: 565


1- 1201.. ارشاد القلوب، ج2، ص314 (مع اختلاف يسير)؛ بحارالأنوار، ج30، ص78.
2- 1202.. تفسير القمّيّ، ج2، ص294؛ بحارالأنوار، ج36، ص89، ح15.

لأنّهم راضون به، لأنّه مقتضي استعدادهم كالطين الموجود في قعر التنور الذي يفتخر بفعله ... والعذاب ليس مخلداً علي أهله من حيث هو عذاب.(1)

ولعمري إنّ هذا الكلام أعظم بشارة للكفّار والملحدين، ألا فليستقيموا علي طريقتهم، فإنّهم لا يعذّبون بالعذاب بل يلتذّون به مع أنّه منقطع عنهم، واللّه راض عنهم. وعليهم أن لا ينخدعوا بتوعيدات الأنبياءوتهديدات القرآن من أنّ اللّه أعدّ للظالمين ﴿ناراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقا﴾،(2) و﴿إِنَّهَا لَظَي * نَزَّاعَةً لِلشَّوَي﴾،(3) وأنّه يقال فيهم: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْ-جَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾؛(4) فجميع هذه التخويفات مكر وخدعة، ذلك أنّ العذاب -- علي ما توهّموه -- يكون عذباً في حقّهم، وهم لا يعذّبون به بل يلتذّون، فلا يغرنّهم مكر الأنبياء وخدعتهم! هنيئاً لهم الجحيم!

ص: 566


1- 1203.. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم، ص213: قيصري مي فرمايد: ... امّا نسبت به مشركان كه غير خداوند از موجودات را پرستش مي كنند، پس منتقم از آنها انتقام مي گيرد؛ زيرا كه آنان حق را محصور كرده اند در آنچه كه او را پرستش كردند وإله مطلق را مقيّد قرار دادند. اما از آن جهت كه معبودشان عين وجود حقّ است كه در اين صورت ظاهر شده است پسپرستش نمي كنند مگر خدا را، «فرضي اللّه عنهم من هذا الوجه»، پس عذابشان در حقّ ايشان عذب مي گردد. شيخ شبستري گويد: نكو ان--ديشه ك----ن اي مرد ع---اقل كه بت از روي هستي نيست ب---اطل بدان ك---ايزد تع---الي خ-الق اوست زنيكو هر چه صادر گشت ني-كو است وجود آنجا كه باشد محض خير است اگ-ر ش-رّي است در وي او زغير است مسلم--ان گر بدانستي كه بت چيست بدان-ستي كه دين در بت پرستي است وگ---ر مش--رك ز ب---ت آگ--اه گشتي كج---ا در دي--ن خود گم---راه گشتي و با اينكه عذاب نسبت به كافران نيز اگر چه عذاب عظيم است، لكن ايشان به عذاب معذّب نمي شوند؛ زيرا به آنچه در آن هاست راضي اند، براي اينكه استعدادشان همين را طلب مي كند، مانند گلخن تاب كه به كار خود افتخار مي كند ... و عذاب از آن جهت كه عذاب است بر اهل آن مخلّد نيست.
2- 1204.. الكهف18.، الآية 29.
3- 1205.. المعارج70.، الآيتان 15-16.
4- 1206.. الحاقّة69.، الآيات 30-33.

وعلي ما سلكوه يكون طرح المباحث العميقة الاعتقاديّة كالبحث عن الإرادة والخلقة، والجبر والتفويض، والحدوث والقدم، والتكاليف والأوامر والنواهي، وغير ذلك ممّا صرف آلاف من العلماء أوقاتهم في البحث عنه وحلّه ونقده عبر القرون المتوالية غلطاً ولهواً ولعباً؛ كما أنّه تكون كلمات الأئمّة المعصومين عليهم أفضل صلوات المصلّين في هذه المباحث إخفاءً للحقّ الذي وصل إليه العرفاء الموسومون بالشامخين. جلّت ساحة قدسهم عن ذلك.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي عَلَي اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَي إِلَي الإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(1)؛

و﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلنا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُ-جَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّ-خَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوا﴾.(2)

لا برهان لهم

وعلي أيّ حال إنّهم لم يأتوا علي مدّعاهم في تفسير الأمر بين الأمرين بدليل، ولم يقيموا عليه برهاناً، بل مشوا في شعريّاتهم علي فرضيّة أصالة الوجود ووحدته واعتباريّة الماهيّة، وقد عرفت ما يرد علي مقالتهم في توضيح الأمر بين الأمرين حتّي علي ذلك المبني الفاسد. وقد بحثنا حول كلّ واحدة من هذه المفردات في محلّها وهدمنا بنيانها حتّي صارت كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف فلم يقدروا علي شيء.

ص: 567


1- 1207.. الصفّ61.، الآية 7.
2- 1208.. الكهف18.، الآية 56.

ص: 568

خاتمة المطاف

ص: 569

ص: 570

الفلسفة والتصوّف في منظر أهل البيت(عليهم السلام)

وفي الختام يهمّنا نقل الأحاديث الصادرة عن المعصومين من ردّ الفلسفة والتصوّف -- ولو اختصاراً -- حتّي يَعْرف القارئ بينونة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) مع ما جاء به علماء البشر ونسجته أفكارهم.

قال مولانا الصادق صلوات اللّه عليه في رواية توحيد المفضّل:

فتبّاً وخيبة وتعساً لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتّي أنكروا التدبير والعمد فيها ... .

ولقد قال قوم من جهلة المتكلّمين وضعفة المتفلسفين بقلّة التميّز وقصور العلم: لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمّتاً محجوباً عن البصر واليد، لا يعرف ما فيه إلّا بدلالات غامضة كمثل النظر إلي البول وحسّ العرق وما أشبه ذلك ممّا يكثر فيه الغلط والشبهة حتّي ربّما كان ذلك سبباً للموت. فلو علم هؤلاء الجهلة أنّ هذا لو كان هكذا كان أوّل ما فيه أنّه كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت و ... .

واعلم يا مفضّل إنّ اسم هذا العالم بلسان اليونانيّة الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة، وكذلك سمّته الفلاسفة ومن ادّعي الحكمة، أفكانوا يسمّونه بهذا الاسم إلّا لما رأوا فيه من التقدير والنظام؟ فلم يرضوا أن يسمّوه تقديراً ونظاماً حتّي سمّوه زينةً ليخبروا أنّه مع ما هو عليه من الصواب والاتقان علي غاية الحسن والبهاء. أعجب يا مفضّل من قوم لا يقضون صناعة الطبّ

ص: 571

بالخطأ وهم يرون الطبيب يخطئ، ويقضون علي العالم بالإهمال ولا يرون شيئاً منه مهملاً. بل أعجب من أخلاق من ادّعي الحكمة حتّي جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذمّ للخالق جلّ وعلا. بل العجب من المخذول ماني حين ادّعي علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتّي نسبه إلي الخطأ ونسب خالقه إلي الجهل تبارك الحليمالكريم. وأعجب منهم جميعاً المعطّلة الذين راموا أن يدرك بالحسّ ما لا يدرك بالعقل فلمّا أعوزهم ذلك خرجوا إلي الجحود والتكذيب ... .

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع علي العالم ولا يوقف علي حقيقة أمرها، ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها،فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع، وقال آخرون هو سحابة، وقال آخرون جسم زجاجيّ، يقبل ناريّة في العالم، ويرسل عليه شعاعها، وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر، وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار، وقال آخرون هو من جوهر خامس سوي الجواهر الأربعة. ثمّ اختلفوا في شكلها، فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة، وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة. وكذلك اختلفوا في مقدارها، فزعم بعضهم أنّها مثل الأرض سواء، وقال آخرون بل هي أقلّ من ذلك، وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة، وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرّة. ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس، دليل علي أنّهم لم يقفوا علي الحقيقة من أمرها، فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر، ويدركها الحسّ، قد عجزت العقول عن الوقوف علي حقيقتها، فكيف ما لطف عن الحسّ واستتر عن الوهم؟.(1)

ولابدّ من التأمّل في مقاطع من الحديث الشريف:

الأولي: من الواضح أنّ الذين يصفهم الإمام(عليه السلام) بالجهل والضعف وقصور العلم وإنكار العمد والتدبير في العالم والاعتراض علي حكمة اللّه والعمي عن أسرار الحكمة في الخلق والاختلاف الشديد في أقوالهم، إنّما هم الفلاسفة من اليونانيّن المؤسّسين لهذا العلم

ص: 572


1- 1209.. التوحيد المفضل، ص69 - 179(المجلس الرابع)؛ بحارالأنوار، ج3، ص75-148، ح1.

لا الملحدين المنكرين. فإنّك تري أنّ الإمام(عليه السلام) يقابل بين الفلاسفة والمعطّلة ويجعل المعطّلة فريقاً آخر غير الفلاسفة.

الثانية: لا يخفي أنّه علي ما سلكت الفلاسفة والعرفاء من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»، وأنّه «لا يصدر من الواحد إلّا الواحد»، والقول بأنّ فاعليّة الربّ السبّوح القدّوس بالرشح والفيضان والتطوّر، أو العلّيّة التامّة المقابل للإرادة، وإرجاع الإرادة إليالعلم وكونها من صفات الذات، والالتزام بالنظام الأحسن، لا يبقي قدرة ولا عمد ولا اختيار للباري جلّ شأنه، بل يكون خلق العالم كصدور الحرارة عن النار بلا عمد ولا اختيار، بل علي مسلك العرفاء لا ينبغي أن نسمّيه بالخلق والإبداع فإنّه تطوّر وتشؤّن. وقد بيّنا ذلك سابقاً.

وعليه فلا يرد علينا بأنّ توبيخ الإمام(عليه السلام) إنّما يكون في حقّ الفلاسفة المادّيّين لا الفلاسفة المتألّهين، لأنّهم أيضاً ينكرون التدبير والعمد علي ضوء ما أوضحناه من مقالاتهم بل ينكرون الخالق والمخلوق فليس في الدار غير ديّار. (1)

الثالثة: إنّ الإمام(عليه السلام) إنّما يستدلّ باختلافهم الشديد في المحسوسات علي جهلهم وعدم إحاطتهم العلميّة بها، وهذه آية نيّرة وبرهان واضح علي عدم العصمة في طريقهم إلي كشف ما يعجز العقول عن الوقوف علي حقيقته ولطف الحسّ عن إدراكه. وهذا البرهان من الإمام(عليه السلام) حجّة قاصمة لظهر الفلاسفة والعرفاء وجميع علماء البشر الذين راموا أن يعرفوا اللّه تعالي من غير طريق الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، إذ مع اختلافهم في أبسط الأمور كيف يعتمد عليهم في السلوك إلي اللّه تعالي الذي عجزت الحواسّ عن أن تدركه والأوهام أن تحيط به، فأخذ العلم ممّن قام البرهان علي جهله وعدم إحاطته بالحقائق ممنوع وسلوك طريقه محرّم عقلاً، فلو لم يعتن المتحرّي بنداء العقل وسلك طريقهم وتلمّذ عندهم فابتلي بمغالطاتهم وشبهاتهم واعتقد خلاف الحقّ ولو بعد القطع به لا يكون له عذر وحجّة عند اللّه تعالي، بل الحجّة للّه عليه في أخذه العلم ممّن علم أنّه ضالّ. قال اللّه تعالي:﴿وَلَوْ

ص: 573


1- 1210.. لمزيد من الإطلاع علي هذه المباحث راجع كتاب: توحيد الامامية (الفصل الأوّل)؛ ميزان المطالب (الباب الرابع)؛ السنخيّة أم الإتحاد و العينيّة أم التباين؟

كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾.(1)

الرابعة: لا ريب أنّ مستقي الفلسفة المتواجدة بأيدينا ومنشأها ومبدئها -- رغم تعدّد المذاهب والمشارب فيها، ورغم تقمّصها بعناوين إلهيّة وقدسيّة، وعدم إعلانها المخالفة مع الأنبياء صريحاً كما كان يصنع الأوائل منهم،(2) ومحاولتهم تطبيق الشرع علي أسسهم حتّي سمّوه فلسفة إسلاميّة وحكمة إلهيّة -، هي الفلسفة والعرفان الإغريقيّة، وهذه الفلسفة هي بعينها موضوع كلام الإمام(عليه السلام) وموضوع أدلّته الشافيةعلي إبطال مرامهم وحرمة الأخذ عنهم. وأنت تري أنّ الإمام(عليه السلام) إنّما يُبطل أساس كلامهم ويحكم عليهم بالتعس والخيبة من أجل أنّهم يرون الفلسفة مدرسة لرؤية الحقائق، لا أنّه يناقش في مدرسة فلسفيّة كي يثبت حقانيّة مدرسة فلسفيّة أخري، بل كلامه(عليه السلام) عامّ شامل لكلّ من أستغني عن الأنبياء ورام إدراك الحقائق بنفسه ولأجل الإعراض عن الأنوار الإلهيّة سيّما النور الأعظم رسوله المجتبي وأمينه المرتضي وأهل بيته(عليهم السلام) تحيّر وصادف الآراء المتشتّة والاختلافات الشديدة. وإذا كان هذا حال أساس طريقة ومذهب وجذوره فما ظنّك بتطوّره وآفاقه.

وممّا يزيد ذلك وضوحاً أنّه من المرتكز في أذهان المتشرعّة هو مباينة مسلك الفلاسفة بقول مطلق لأهل الملّة ومضادّتهم للشرايع السماويّة، وقد أفتي علمائنا بما يشير إلي مناقضة الفلسفة بشتّي أنواعها وأقسامها للأديان السماويّة فانتظر ما نتلوه عليك من كلماتهم.

عن أبي محمّد العسكريّ عن عليّ بن الحسين زين العابدين(عليهم السلام) أنّه قال:

كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) قاعداً ذات يوم، فأقبل إليه رجل من اليونانيّين المدّعين للفلسفة والطبّ، فقال له: يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك وأنّ به جنوناً، وجئت لأعالجه ... .

وبعد ما رأي المعجزات من الإمام(عليه السلام) في انهدام نظام طبّه، ورأي حكمه(عليه السلام) بانتشار نخلة وانفصال أجزائها في الهواء ثمّ جمعها وتركيبها كما كانت، ثمّ تقليبها من خضرة إلي صفرة وحمرة ورطوبة وبلوغ، قال له الإمام(عليه السلام):

ص: 574


1- 1211.. النساء4.، الآية 82.
2- 1212.. سيأتي بيانه: ولاحظ كلام العلّامة المجلسيّ في بحارالأنوار، ج57، ص194 و ج8، ص329.

إنّك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك من عجائبها، عجّل اللّه عزّوجلّ إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهّالها.

فقال اليونانيّ: إنّي إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد، وتناهيت في التعرّض للهلاك، أشهد أنّك من خاصّة اللّه، صادق في جميع أقاويلك عن اللّه فأمرني بما تشاء أطعك.

قال عليّ(عليه السلام):آمرك أن تقرّ للّه بالوحدانيّة، وتشهد له بالجود والحكمة وتنزّهه عن العبث والفساد، وعن ظلم الإماء والعباد ... .(1)

الظاهر من الحديث أنّ الفيلسوف اليونانيّ كان منكراً للوحدانيّة وما كان يشهد للّه بالجود والحكمة وكان ينسب إليه العبث والفساد وظلم الإماء والعباد. وهذا موافق للاعتبار وهذه هي مقالة جلّ الفلاسفة والعرفاء -- وإن لم يكونوا ملتفتين بلوازم مقالاتهم ولم يلتزموا بها -- حيث قالوا بوحدة الوجود والجبر وهذان المعتقدان ممّا يستلزم منهما اللغويّة والعبث والظلم والفساد كما مرّ التنبيه عليه.

عن الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام)، أنّه قال لأبي هاشم الجعفريّ:

يا أبا هاشم، سيأتي زمان علي الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، وقلوبهم مظلمة متكدّرة (منكدرة)، السنّة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنّة، المؤمن بينهم محقّر، والفاسق بينهم موقّر، أمراؤهم جاهلون جائرون، وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء، وأصاغرهم يتقدّمون علي الكبراء، وكلّ جاهل عندهم خبير، وكلّ محيل عندهم فقير، لا يميّزون بين المخلص والمرتاب، لا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق اللّه علي وجه الأرض، لأنّهم يميلون إلي الفلسفة والتصوّف، وأيم اللّه إنّهم من أهل العدول والتحرّف، يبالغون في حبّ مخالفينا، ويضلّون شيعتنا وموالينا، إن نالوا منصباً لم يشبعوا عن الرشاء، وإن خذوا عبدوا اللّه علي الرياء، ألا إنّهم قُطّاع طريق المؤمنين، والدعاة إلي نحلة الملحدين، فمن أدركهم فليحذرهم،

ص: 575


1- 1213.. الاحتجاج، ج1، ص238؛ بحارالأنوار، ج10، ص70، ح1.

وليصن دينه وإيمانه، ثمّ قال: يا أبا هاشم هذا ما حدّثني أبي، عن آبائه جعفر بن محمّد(عليهم السلام)، وهو من أسرارنا، فاكتمه إلّا عن أهله.(1)

المولي العلّامة الأردبيلي في حديقة الشيعة قال: وبالسند الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن الرضا(عليه السلام)، أنّه قال:من ذكر عنده الصوفيّة ولم ينكرهم بلسانه وقلبه، فليس منّا، ومن أنكرهم، فكأنّما جاهد الكفّار بين يدي رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم).(2)

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن الرضا(عليه السلام)، أنّه قال:

قال رجل من أصحابنا للصادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام): قد ظهر في هذا الزمان قوم يقال لهم: الصوفيّة، فما تقول فيهم؟ قال: إنّهم أعداؤنا، فمن مال فيهم فهو منهم، ويحشر معهم، وسيكون أقوام يدّعون حبّنا، ويميلون إليهم، ويتشبّهون بهم، ويلقّبون أنفسهم، ويأوّلون أقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منّا، وإنّا منهم براء، ومن أنكرهم وردّ عليهم، كان كمن جاهد الكافر بين يدي رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم).(3)

قال مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام):

إنّ أبغض الخلائق إلي اللّه رجلان: ... ورجل قمش جهلاً، مُوضِعٌ في جهّال الأمّة، عاد في أغباش الفتنة. عَمٍ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس به. بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّي إذا ارتوي من آجن، واكتنز من غير طائر. جلس بين الناس قاضياً، ضامناً لتخليص ما التبس علي غيره. فإن نزلت به إحدي المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ثمّ قطع به. فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خبّاط جهالات، عاش ركّاب عشوات لم يعضّ علي العلم بضرس قاطع.

ص: 576


1- 1214.. حديقة الشيعة، ص592؛ مستدرك الوسائل، ج11، ص380، ح13308؛ سفينة البحار، ج5، ص198، ح4.
2- 1215.. حديقة الشيعة، ص562؛ مستدرك الوسائل، ج12، ص323، ح14204..
3- 1216.. حديقة الشيعة، ص562-563؛ مستدرك الوسائل، ج12، ص323، ح14205؛ اثبات الهداة، ج4، 204، ح247.

يذري الروايات إذراء الريح الهشيم. لا ملئ واللّه بإصدار ما ورد عليه. ولا هو أهل لما فوّض إليه. لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ولا يري أنّ من وراء ما بلغ مذهباً لغيره. وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء. وتعجّ منه المواريث إلي اللّه أشكو من معشر يعيشون جُهّالاً ويموتون ضُلّالاً ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته. ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلي ثمناً من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه. ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر.(1)والروايات في ردّ مباني الفلسفة والعرفان البشريّة كثيرة جدّاً، فإنّ أغلب أبحاثهم تباين ضرورة الشرايع الإلهيّة وصريح الآيات القرآنيّة والروايات الكثيرة المتواترة كما رأيت اعتقادهم بالجبر المخالف لضرورة المذهب، كذا قولهم بوحدة الوجود والموجود المخالف لضرورة الشرايع وكقولهم بقدم العالم زماناً وكذا إنكار المعاد الجسمانيّ القرآنيّ وإثبات معاد خياليّ سمّوه بالجسمانيّ، وإنكارهم النشأة السابقة وعالم الذرّ الذي دلّت عليه آيات كثيرة وروايات متواترة بالمعني وإعتقادهم أنّ الملائكة مجرّدات، وقد ورد في نقض كلّ منها آيات كثيرة وروايات متواترة، فجميع هذه الآيات والروايات تكون بمثابة الردّ عليهم وإبطال قولهم.

مضافاً إلي الروايات الواردة في النهي عن أخذ العلم عن غيرهم(عليهم السلام) وأنّ «من طلب الهدي من غيره [القرآن] أضلّه اللّه»، أو أنّ «من نكب عنها [أعلام الطاعة] جار عن الحقّ وخبط في التيه»، أو قولهم «شرّقا اوغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»، وغير ذلك من الروايات الكثيرة المتواترة. وعليه يكون كثير من الآيات وطوائف من الروايات المتواترة واردة في ذمّهم وتحكم بكفرهم، فحينئذ لا بُعد فيما نسب إلي قمر سماء الفقاهة صاحب الجواهر(رحمه الله) من أنّه «واللّه ما بعث رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) إلّا لإبطال الفلسفة».(2)

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) بعد ذكر أحوال الجنّة والنار من الآيات والأخبار المتواترة:

ص: 577


1- 1217.. نهج البلاغة، الخطبة 17، ص59- 60.
2- 1218.. مستدرك سفينة البحار، ج8، ص299؛ وانظر: السلسبيل للإصطهباناتيّ، ص387؛ وقد ذكره أيضاً التنكابنيّ في قصص العلماء، ص105.

فلنشر إلي بعض ما قاله في ذلك الفرقة المخالفة للدين من الحكماء والمتفلسفين، لتعرف معاندتهم للحقّ المبين، ومعارضتهم لشرائع المسلمين -- إلي أن قال بعد ذكر كلماتهم: -- ولا يخفي علي من راجع كلامهم وتتبّع أصولهم أنّ جُلّها لا يطابق ما ورد في شرائع الأنبياء، وإنّما يمضغون ببعض أصول الشرائع وضروريّات الملل علي ألسنتهم في كلّ زمان، حذراً من القتل والتكفير من مؤمني أهل زمانهم، فهم يؤمنون بأفواههم وتأبي قلوبهم، وأكثرهم كافرون.

ولعمري من قال: بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد، وكلّ حادث مسبوق بمادّة، وما ثبت قدمهامتنع عدمه، وبأنّ العقول والأفلاك وهيولي العناصر قديمة، وأنّ الأنواع المتوالدة كلّها قديمة، وأنّه لا يجوز إعادة المعدوم، وأنّ الأفلاك متطابقة ولا تكون العنصريّات فوق الأفلاك، وأمثال ذلك. كيف يؤمن بما أتت به الشرائع ونطقت به الآيات، وتواترت به الروايات، من اختيار الواجب، وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وحدوث العالم، وحدوث آدم، والحشر الجسمانيّ، وكون الجنّة في السماء مشتملة علي الحور والقصور والأبنية والمساكن والأشجار والأنهار، وأنّ السماوات تنشقّ وتطوي، والكواكب تنتثر وتتساقط بل تفني، وأنّ الملائكة أجسام ملئت منهم السماوات ينزلون ويعرجون، وأنّ النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) قد عرج إلي السماء وكذا عيسي وإدريس(عليهما السلام)، وكذا كثير من معجزات الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) من شقّ القمر وإحياء الأموات وردّ الشمس وطلوعها من مغربها وكسوف الشمس في غير زمانه وخسوف القمر في غير أوانه، وأمثال ذلك؟

ومن أنصف ورجع إلي كلامهم علم أنّهم لا يعاملون أصحاب الشرائع إلّا كمعاملة المستهزئ بهم، أو من جعل الأنبياء(عليهم السلام) كأرباب الحيل والمعمّيات الذين لا يأتون بشيء يفهمه الناس، بل يلبسون عليهم في مدّة بعثتهم، أعاذنا اللّه وسائر المؤمنين عن تسويلاتهم وشبههم، وسنكتب إن شاء اللّه في ذلك كتاباً مفرداً واللّه الموفّق.(1)

مراده(قدس سره) أنّه لا يخلو الأمر من وجهين: فإمّا يعترفون بأنّ مبانيهم مباينة لما جاء به الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، وإمّا يقولون بأنّ آرائهم مأخوذة من الأنبياء والرسل(عليهم السلام)، وما جاؤوا به تعبير عمّا ورد في الكتاب والسنّة، وإنّ الآيات والروايات إنّما وردت موافقة لمبانيهم وأصولهم.

ص: 578


1- 1219.. بحارالأنوار، ج8، ص326-329.

والقول الأوّل تكذيب للأنبياء والرسل والقرآن والسنّة، فإن أظهروا بعد ذلك الإيمان والإسلام فلا يكونون إلّا كالمستهزء بهم.

و الالتزام بالثاني يجعل الأنبياء(عليهم السلام) كأرباب الحيل والمعميّات الذين يتكلّمون بشيء لا يفهمه الناس خدعة ومكراً وتلبسياً عليهم، فإنّه من الواضح أنّ بيان القواعد الفلسفيّة بالألفاظ الواردة في القرآنوالروايات وبما نطقت به الرسل والأئمّة(عليهم السلام) ليس إلّا تدليس وتلبيس وتعمية وخديعة.

قال شيخنا الأستاذ آية اللّه الشيخ عليّ النمازيّ(قدس سره):

وحيث إنّه جاء محمّد رسول اللّه وأوصياؤه المرضيّون صلوات اللّه عليهم لإبطال الفلسفة اليونانيّة والحكمة البشريّة، كما نسب ذلك إلي قمر سماء الفقاهة صاحب الجواهر قال: «ما بعث رسول اللّه إلّا لإبطال الفلسفة» كما سيأتي، بيّن القرآن والعترة الطاهرة خليفتا رسول اللّه (صلي الله عليه آله و سلم) المعارف الحقّة الإلهيّة في الخطب والأدعية والأحاديث الواردة عن النبيّ والعترة، حفظها أهلها وعلّموها طالبها، واقتبسوها من أهلها، وبيّنوها في كتبهم، وقاموا بردّ الفلسفة البشريّة، واقتبسوا الحكمة الإلهيّة من بيوت النبوّة والرسالة، ومعدن العلوم الإلهيّة الربّانيّة.

... والروايات في ذمّهم أكثر من أن تحصي، ذكرنا جملة وافرة منها في كتابنا تاريخ فلسفه وتصوّف. وتقدّم بعضها في: «أخذ» و«أمر» و«تبع» و«دين» و«بطل» و«مسك» و«علم» و«صوف»، فراجع إليها وإلي: «هدي» و«شبه» و«فسر» و«سين».

منها: الروايات التي صرّحت بأن من طلب العلم والهداية من غير القرآن أضلّه اللّه، ومن طلب علوم القرآن من غير العترة الطاهرة فقد هلك وأهلك.

قال النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) في خطبته:

«إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل عليّ القرآن، وهو الذي من خالفه ضلّ ومن ابتغي علمه عند غير عليٍّ هلك -- إلي أن قال: -- ومن طلب الهدي في غيرهم يعني أهل بيته فقد كذّبني» الخ. رواه الصدوق وغيره، فراجع البحار(1). وفي «هدي» ما يتعلّق بذلك. (2)

ص: 579


1- 1220.. الأمالي (للصدوق)، ص65، ح11؛ بحارالأنوار، ج38، ص94، ح10.
2- 1221.. مستدرك سفينة البحار، ج10، ص500.

وفي كتاب السلسبيل روي أنّ أناساً من المسلمين أتوا رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) بكتف فيها كتب بعض ما يقوله اليهود، فقال: «كفي بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاء به نبيّهم إلي ما جاء به غير نبيّهم».(1)

لمحة عن تاريخ الفلسفة والتصوف

كيف بدئت الفلسفة والعرفان، ومن أين جائت، ولماذا دخلت في الأوساط الإسلاميّة؟

من مظاهر الفلسفة في يونان

فقال ابن نديم البغداديّ:

أوّل من تكلّم في الفلسفة: قال لي أبو الخير بن الخمار بحضرة أبي القاسم عيسي بن علي: وقد سئلته عن أوّل من تكلّم في الفلسفة، فقال: زعم فرفوريوس الصوريّ في كتابه التاريخ، وهو سريانيّ، إنّ أوّل الفلاسفة السبعة، ثالس بن مالس الأمليسيَ. وقد نقل من هذا الكتاب مقالتين إلي العربيّ، فقال أبوالقاسم: كذا هو، وما أنكره.

وقال آخرون: إنّ أوّل من تكلّم في الفلسفة بوثاغورس، وهو بوثاغورس بن ميسارخس، من أهل سامينا. وقال فلوطرخس: إنّ بوثاغورس أوّل من سمّي الفلسفة بهذا الاسم. وله رسائل تعرف بالذهبيّات.

وإنّما سمّيت بهذا الاسم، لأنّ جالينوس كان يكتبها بالذهب، إعظاماً لها وإجلالاً. والذي رأينا لبوثاغورس من الكتب، رسالته إلي متمرد سقلية. رسالته إلي سيفانس في استخراج المعاني. رسالته في السياسة العقليّة. وقد تصاب هذه الرسائل بتفسير امليخس.

قال: ثمّ تكلّم بعد ذلك علي الفلسفة، سقراط بن سقراطيس. من أهل مدينة أثينة، مدينة العلماء والحكمة، لم يدوّن منه كثير شيء، والذي خرج من كتبه، مقالة في السياسة. وقيل إنّ رسالته في السيرة الجميلة له صحيح.(2)

ثمّ إنّهم قد واجهوا الأنبياء ورفضوا دعوتهم، فقد قال أمين الإسلام الطبرسيّ في تفسير قوله تعالي: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ الْعِلْمِ﴾(3):

ص: 580


1- 1222.. مستدرك سفينة البحار، ج8، ص298 و303.
2- 1223.. فهرست ابن النديم، ص 305-306.
3- 1224.. غافر40.، الآية 83.

قيل فيه وجوه: ... والآخر: أنّ المراد علم الفلاسفة كانوا يصغّرون علم الأنبياء إلي علمهم.

وعن سقراط أنّه قيل: ائت موسي(عليه السلام) وكان في زمانه، فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة بنا إلي من يهدينا.(1)

ونقل العلامة المجلسيّ(رحمه الله) عن الرازيّ في تفسير الآية:

فيه وجوه -- ثمّ ذكر من جملة الوجوه -- أن يريد علم الفلاسفة والدهريّين من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي اللّه صغّروا علم الأنبياء إلي علمهم.وعن سقراط أنّه سمع بموسي(عليه السلام) وقيل له: أو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهذّبون فلا حاجة إلي من يهذّبنا.(2)

قال السيّد نعمة اللّه الجزائريّ في الأنوار النعمانيّة:

نقل أن عيسي علي نبيّنا وآله وعليه السلام لمّا دعا أفلاطون إلي التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسي رسول إلي ضعفة العقول، وأمّا أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلي إرسال الأنبياء.(3)

قال المحقّق الهمدانيّ في مصباح الفقيه:

وتارة يأوّل كلامه بما ينافي الإذعان برسالته علي كافّة العباد، كما لو قيل مثلاً بأنّ المقصود ببعث الرسول اللطف وإهداء القاصرين إلي ما يقرّبهم إلي اللّه، فرسالته مقصورة علي غير الحكماء الذين يرشدهم عقولهم إلي ما يصلحهم ويفسدهم، فالمقصود بالعمومات الصادرة عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) من قوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾(4) ونحوه يراد بها غير مثل هذه الأشخاص. وقد حكي عن بعض الفلاسفة محاجّته مع عيسي(عليه السلام) بمثل هذا القول.(5)

وكانت الفلاسفة تعيش في وجلٍ من الأنبياء ومتابعيهم وما كانوا يظهرون علمهم لكلّ أحد إلّا بعد اللتيّا واللتي، ذكر ابن نديم:

كانت الحكمة في القديم ممنوعاً منها الامن كان من أهلها، ومن علم أنّه يتقبّلها

ص: 581


1- 1225.. تفسير جوامع الجامع، ج3، ص254.
2- 1226.. بحارالأنوار، ج57، ص198؛ راجع: التفسير الكبير، ج27، ص535.
3- 1227.. الأنوار النعمانية، ج3، ص130؛ نقل عنه المحدّث البحرانيّ في الحدائق الناظرة، ج1، ص126.
4- 1228.. البقرة2.، الآيتان 43و83و 110؛ النساء4.، الآية 77و 103؛ الأنعام6.، الآية 72، يونس10.، الآية 87؛ الحج22.، الآية 78؛ النور24.، الآية 56؛ الروم30.، الآية 31؛ المجادلة58.، الآية 13 ؛ المزمل73.، الآية 20.
5- 1229.. مصباح الفقيه، ج7، ص275.

طبعاً. وكانت الفلاسفة تنظر في مواليد من يريد الحكمة والفلسفة، فإن علمت منها إنّ صاحب المولد في مولده حصول ذلك له، استخدموه وناولوه الحكمة وإلّا فلا.(1)

عن ابن نديم:

قال محمّد بن إسحاق: سمعت أبا إسحاق بن شهرام يحدّث في مجلس عام أنّ ببلد الروم هيكلاً قديم البناء عليه باب لم ير قطّ أعظم منه بمصراعين حديد، كان اليونانيّون في القديم، وعند عبادتهم الكواكب والأصنام، يعظّمونه، ويدعون ويذبحون فيه.

قال: فسئلت ملك الروم أن يفتحه لي، فامتنع من ذلك لأنّه أغلق من وقت تنصّرت الروم. فلم أزل أرفق به، وأُراسله وأسئله شفاهاً عند حضوري مجلسه.قال: فتقدّم بفتحه، فإذا ذلك البيت من المرمر والصخر العظام ألواناً، وعليه من الكتابات والنقوش ما لم أر ولم أسمع بمثله كثرة وحسناً. وفي هذا الهيكل من الكتب القديمة ما يحمل علي عدّة أجمال، وكثر ذلك حتّي قال: ألف جمل. بعض ذلك قد أخلق، وبعضه علي حاله، وبعضه قد أكلته الأرضة.

قال: ورأيت فيه من آلات القرابين من الذهب وغيره أشياء طريفة. قال: وأغلق الباب بعد خروجي، وأمتنّ عليّ بما فعل معي. قال وذلك في أيّام سيف الدولة. وزعم أنّ البيت علي ثلاثة أيّام من القسطنطينيّة، والمجاورون لذلك الموضع قوم من الصائبة الكلدانيّين، وقد أقرّتهم الروم علي مذاهبهم، وتأخذ منهم الجزية.(2)

ما انفكّ النزاع والصراع بين الفلاسفة والأنبياء قائماً فمهما غلبت الشريعة الفلاسفةَ منعت مدارسة الفلسفة، ومهما انعكس الأمر روّجت الفلسفة، وقد ذكر ابن نديم:

كانت الفلسفة ظاهرة في اليونانيّين والروم قبل شريعة المسيح(عليه السلام). فلمّا تنصّرت الروم منعوا منها، وأحرقوا بعضها، وخزنوا البعض. ومنع الناس من الكلام في شيء من الفلسفة إذ كانت بضدّ الشرائع النبويّة. ثمّ إنّ الروم ارتدّت عائدة إلي مذاهب الفلاسفة ... .

[ثمّ ذكر أنّه] بعد ما عادت النصرانيّة إلي حالها؛ فعاد المنع من كتب الفلسفة، وخزنها إلي ما عليه إلي الآن.(3)

ص: 582


1- 1230.. فهرست ابن نديم، ص302.
2- 1231.. فهرست ابن النديم، ص304.
3- 1232.. فهرست ابن نديم، ص302 و303.

ويظهر منه أنّ المنع كان باقياً إلي زمن ابن نديم يعني حوالي سنة 340 الهجريّة.

قال الرازيّ في المطالب العالية:

أظنّ أنّ قول إبراهيم لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَ لَا يُبْصِرُ وَ لَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾(1) إنّما كان لأجل أنّ أباه كان علي دين الفلاسفة، وكان ينكر كونه تعالي قادراً وينكر كونه تعالي عالماً بالجزئيّات، فلا جرم خاطبه بذلك الخطاب.(2)

وقال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) بعد نقل كلام لجالينوس (الذي مرّ أنّه كان يكتب الفلسفة بالذهب) في بيانتشريح الأعضاء وفوائدها، وأنّه بيّن الفرق في ما بين إيمان موسي وإيمانه وأفلاطون وسائر اليونانيّين، فقال(قدس سره):

انتهي كلامه ضاعف اللّه عذابه وانتقامه. وأقول: قد لاح من الكلام الرديء المشتمل علي الكفر الجليّ أمور:

الأوّل: ما أسلفنا من أنّ الأنبياء المخبرين عن وحي السماء لم يقولوا بتوقّف تأثير الصانع -- تعالي شأنه -- علي استعداد الموادّ، ولا استحالة تعلّق إرادته بإيجاد شيء من شيء من دون مرور زمان أو إعداد، وله أن يخلق كلّ شيء كان من أيّ شيء أراد.

الثاني: أنّ الحكماء لم يكونوا يعتقدون نبوّة الأنبياء ولم يؤمنوا بهم، وأنّهم يزعمون أنهم أصحاب نظر وأصحاب آراء مثلهم، يخطئون ويصيبون، ولم يكن علومهم مقتبسة من مشكاة أنوارهم كما زعمه أتباعهم.

الثالث: أنّهم كانوا منكرين لأكثر معجزات الأنبياء:، فإنّ أكثرها مما عدّوها من المستحيلات.

الرابع: أنّهم كانوا في جميع الأعصار معارضين لأرباب الشرائع والديانات كما هم في تلك الأزمنة كذلك.(3)

نهضة ترجمة الفلسفة إلي العربيّة

أمّا كيفيّة ترجمة الفلسفة إلي العربيّة ودخولها في الأوساط الإسلاميّة، وتبدّل اسمها حتّي سمّيت بالفلسفة الإسلاميّة؟

ص: 583


1- 1233.. المطالب العالية، ج3، ص164؛ بحارالأنوار، ج57، ص198.
2- 1234.. مريم19.، الآية42.
3- 1235.. بحارالأنوار، ج57، ص194.

فمن الواضح أنّه من الصعب جدّاً تبديل ثقافة المجتمع الدينيّ بترويج ما كان يرونه كفراً وإلحاداً وزندقة.

ولكنّ الأمر ليس بصعب لأولئك الذين غصبوا خلافة مولي الموحّدين الذي قامت علي وصايته لرسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) الأدلّة والبراهين الشافية والمتواترة فمن استطاع غصب أحقّ الحقوق وأمنعها يستطيع إدخال الفلسفة في الأواسط الإسلاميّة كما أنّه يستطيع أن يبدّل أذهان المجتمع الإسلاميّ.

إنّ الفلسفة ممّا صرف الخلفاء الأمويّون والعبّاسيّون غاية جهدهم لنشرها بين المسلمين حتّي جعلوها من الثقافات.أ لم يكونوا هم الذين اخترعوا مدارساً فقهيّةً في قبال مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)؟

قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

هذه الجناية علي الدين، وتشهير كتب الفلاسفة بين المسلمين، من بدع خلفاء الجور المعاندين لأئمّة الدين، ليصرفوا الناس عنهم وعن الشرع المبين.

ويدلّ علي ذلك ما ذكره الصفديّ في شرح لاميّة العجم: إنّ المأمون لما هادن بعض ملوك النصاري -- أظنّه صاحب جزيرة قبرس -- طلب منهم خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصّه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلّهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلّا مطران واحد فإنّه قال: جهّزها إليهم، ما دخلت هذه العلوم علي دولة شرعيّة إلّا أفسدتها وأوقعت الاختلاف بين علمائها.

وقال في موضع آخر: إنّ المأمون لم يبتكر النقل والتعريب، -- أي لكتب الفلاسفة -- بل نقل قبله كثير، فإنّ يحيي بن خالد بن برمك عرّب من كتب الفرس كثيراً مثل «كليلة ودمنة» وعرّب لأجله كتاب «المجسطي» من كتب اليونان.

والمشهور أنّ أول من عرّب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية لمّا أولع بكتب الكيمياء.

ويدلّ علي أنّ الخلفاء وأتباعهم كانوا مائلين إلي الفلسفة، وأنّ يحيي البرمكيّ كان محبّاً لهم ناصراً لمذهبهم ما رواه الكشّي بإسناده عن يونس بن عبد الرحمان، قال: كان يحيي بن خالد البرمكيّ قد وجد علي هشام شيئاً من طعنه

ص: 584

علي الفلاسفة، فأحبّ أن يغري به هارون ويضربه علي القتل -- ثمّ ذكر قصّة طويلة في ذلك أوردناها في باب أحوال أصحاب الكاظم(عليه السلام) وفيها: -- أنّه أخفي هارون في بيته و دعا هشاماً ليناظر العلماء وجرّوا الكلام إلي الإمامة وأظهر الحقّ فيها، وأراد هارون قتله فهرب ومات من ذلك الخوف؟رح؟ -.(1)

وقال ابن نديم:

كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمّي حكيم آل مروان، وكان فاضلاً في نفسه وله همّة ومحبّة للعلوم. خطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيّين ممّن كان ينزل مدينة مصروقد تفصّح بالعربيّة. وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليونانيّ والقبطيّ إلي العربيّ. وهذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغة إلي لغة.(2)

وقال أيضاً:

ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد:

أحد الأسباب في ذلك أنّ المأمون رأي في منامه كان رجلاً أبيض ﴿اللون﴾، مشرباً حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالس علي سريره. قال المأمون: وكأنّي بين يديه قد ملئت له هيبة.

فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس.

فسررت به وقلت: أيّها الحكيم أسئلك. قال: سل.

قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل.

قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع.

قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور.

قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ لا ثمّ.

وفي رواية أخري. قلت: زدني.

قال: من نصحك في الذهب، فليكن عندك كالذهب. وعليك بالتوحيد.

فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.

فإنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون.

ص: 585


1- 1236.. بحارالأنوار، ج57، ص197.
2- 1237.. فهرست ابن النديم، ص303.

فكتب إلي ملك الروم يسئله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدّخرة ببلد الروم. فأجاب إلي ذلك بعد امتناع.

فأخرج المأمون لذلك جماعة، منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق وسلّما صاحب بيت الحكمة وغيرهم. فاخذوا ممّا وجدوا ما اختاروا. فلمّا حملوه إليه، أمرهم بنقله فنقل. وقد قيل إنّ يوحنّا بن ماسويه ممّن نفذ إلي بلاد الروم.

قال محمّد بن إسحاق: ممّن عني بإخراج الكتب من بلد الروم، محمّد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجّم،وخبرهم يجيء بعد ذلك، وبذلوا الرغائب، وأنفذوا حنين بن إسحاق وغيره إلي بلد الروم. فجاءوهم بطرائف الكتب، وغرائب المصنّفات في الفلسفة والهندسة والموسيقيّ والأرثماطيقيّ والطبّ. وكان قسطا بن لوقا البعلبكيّ قد حمل معه شيئاً فنقله، ونقل له.(1)

ولقد كانوا يصرفون كميّة هائلة من الأموال والثروات لإنفاذ هذه المهمّة ونقل كتب الفلسفة إلي العربيّة، قال ابن نديم:

قال أبو سليمان المنطقيّ السجستانيّ: إنّ بني المنجّم كانوا يرزقون جماعة من النقلة، منهم حنين بن إسحاق وحبيش بن الحسن. وثابت بن قرّة، وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.(2)

وقد ذكر لنا التاريخ أسماء بعض هؤلاء النقلة معترفاً بعجزها عن إحصائهم جميعاً، ففي فهرست ابن نديم:

أسماء النقلة من اللغات إلي اللسان العربيّ اصطفن القديم، ونقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب الصنعة وغيرها:

البطريق، وكان في أيّام المنصور، وأمره بنقل أشياء من الكتب القديمة. ابنه أبو زكريّاء يحيي بن البطريق، وكان في جملة الحسن بن سهل. الحجّاج بن مطر، فسرّ للمأمون، وهو الذي نقل المجسطيّ وأقليدس. ابن ناعمة واسمه عبد المسيح بن عبد اللّه الحمّصيّ الناعميّ. سلام والأبرش، من النقلة القدماء في أيّام البرامكة، ويوجد بنقلهما السماع الطبيعيّ، كذا حكي سيّدنا أبوالقاسم عيسي بن عليّ بن عيسي أيّده اللّه. حبيب بن بهريز، مطران الموصل، فسرّ للمأمون

ص: 586


1- 1238.. فهرست ابن النديم، ص 303 -304.
2- 1239.. فهرست ابن النديم، ص304.

عدّة كتب. زروبا بن ماجوه الناعميّ الحمّصيّ. هلال بن أبي هلال الحمّصيّ. تذاري. فثيون، أبو نصر بن ناري بن أيّوب. بسيل المطران. أبو نوح بن الصلت. اسطاث. جيرون. اصطفن بن باسيل. ابن رابطة. تيوفيليّ. شمليّ. عيسي بن نوح. قويريّ، واسمه إبراهيم ويكنّي أبا إسحاق. تذرس السنقل، داريع الراهب. هيابثيون. صليبا. أيّوب الرهاويّ. ثابت بن قمع. أيّوب وسمعان، فسر ازيج بطلميوس لمحمّد بن خالد بن يحيي بن برمك، وغير ذلك منالكتب القديمة. بابسيل، وكان يخدم ذا اليمينين. ابن شهديّ الكرخيّ، نقل من السيريانيّ إلي العربيّ نقلاً رديئا. فممّا نقل، كتاب الأجنّة لبقراط. أبو عمرو يوحنّا يوسف الكاتب، أحد النقلة ونقل كتاب أفلاطون في آداب الصبيان. أيّوب بن القاسم الرقّي نقل من السريانيّ إلي العربيّ، ومن نقله، كتاب إيساغوجيّ. مرلاحيّ، في زماننا، جيّد المعرفة بالسريانيّة، عفطي الألفاظ بالعربيّة، ينقل بين يدي عليّ بن إبراهيم الدهكيّ، من السريانيّ إلي العربيّ، ويصلح نقله ابن الدهكيّ. داديسوع، كان يفسّر لإسحاق ابن سليمان ابن علي الهاشميّ من السريانيّة إلي العربيّة. قسطا بن لوقا البعلبكيّ من خطّ ابن الملطي، يكنّي أبا سعيد، جيّد النقل، فصيح باللسان اليونانيّ والسريانيّ والعربيّ. وقد نقل أشياء، وأصلح نقولا كثيرة. وسيمرّ ذكره في موضعه من العلماء المصنّفين. حنين. إسحق. ثابت. حبيش. عيسي بن يحيي الدمشقيّ. إبراهيم بن الصلت. إبراهيم بن عبداللّه. يحيي بن عديّ النفيسيّ. نحن نستقصي ذكر هؤلاء فيما بعد، لانّهم ممّن صنّف الكتب. إن شاء اللّه تعالي.

أسماء النقلة من الفارسيّ إلي العربيّ:

ابن المقفع، وقد مضي خبره في موضعه. آل نوبخت أكثرهم، وقد مضي ذكرهم، ويمضي فيما بعد انشاء اللّه تعالي. موسي ويوسف أبناء خالد، وكانا يخدمان داود بن عبد اللّه بن حميد بن قحطبة، وينقلان له من الفارسيّة إلي العربيّة. التميميّ واسمه عليّ بن زياد، ويكنّي أباالحسن، نقل من الفارسيّ إلي العربيّ. فممّا نقل، زيج الشهريار. الحسن بن سهل، ويمرّ ذكره في موضعه من أخبار المنجّمين. البلاذريّ أحمد بن يحيي بن جابر، وقد مضي ذكره، وكان ناقلا من اللسان الفارسيّ إلي العربيّ. جبلّة بن سالم، كاتب هشام. وقد مضي ذكره، وكان ناقلا إلي العربيّ من الفارسيّ. إسحاق بن يزيد نقل من الفارسيّ إلي العربيّ. فممّا نقل كتاب سيرة الفرس المعروف بحدّاد نامه. ومن نقلة الفرس، محمّد بن الجهم البرمكي. هشام بن القاسم. موسي بن عيسي الكرويّ. زادويه

ص: 587

بن شاهويه الإصفهانيّ. محمّد بن بهرام بن مطيار الإصفهانيّ. بهرام بن مردان شاه، مؤبدمدينة سابور من بلد فارس. عمر بن الفرخان. ونحن نستقصي ذكره في المصنّفين.

نقلة الهند والنبط:

منكة الهنديّ، وكان في جملة إسحاق بن سليمان بن عليّ الهاشميّ، ينقل من اللغة الهنديّة إلي العربيّة. ابن دهن الهنديّ، وكان إليه بيمارستان البرامكة، نقل إلي العربيّ من اللسان الهنديّ. ابن وحشيّة، ينقل من النبطيّة إلي العربيّة، وقد نقل كتباً كثيرة علي ما ذكر. وسيمرّ ذكره إن شاء اللّه تعالي.(1)

أقول: إنّ هذا الكمّ الهائل من المترجمين ينبئ عن اتّخاذ قرار حكوميّ متشدّد من قبل بني العبّاس، ولا يعلم كم صرف فيه من أموال أهل البيت(عليهم السلام) من الخمس والفي ء والأنفال؟

ويبدو أنّهم قد أسّسوا لُجان ترجميّة لهذه المهمّة.

وأنت تري أنّ المترجمين للفلسفة اليونانيّة كانوا مكرّمين عند الخلفاء العبّاسيّ أعداء آل محمّد فقد مرّ أنّ نقل الفلسفة إلي اللغة العربيّة من عدّة منهم صار سبباً لسرور المأمون الخليفة العبّاسيّة، وجاء في ترجمة حنين بن إسحاق العباديّ:

مترجم كتاب الفلسفة والحكمة اليونانيّة إلي العربيّة، وكان عند المأمون والمعتصم العبّاسيّ عزيزاً مكرّماً. مات سنة 260. (2)

الصراع بين الإسلام والفلسفة بجميع أطوارها

ممّا يبدو واضحاً لمن راجع كلمات الأعلام والفقهاء خصوصاً كلمات فقهاء الصدر الأوّل هو أنّ التقابل بين الفلسفة والإسلام كان أمراً لا يشكّ فيه أحد وكان المرتكز في أذهانهم أنّ التقابل والتضادّ بينهما هو التقابل بين الإلحاد والكفر وبين التوحيد والإسلام بحيث لا يمكن الجمع بين لوازم الفلسفة والعرفان والتديّن بالإسلام والاعتقاد بالتوحيد.

ويظهر أيضاً من كلماتهم أنّه لا فرق بين الفِرَق الفلسفيّة علي الإطلاق من جهة تقابلها

ص: 588


1- 1240.. فهرست ابننديم، ص304 -305.
2- 1241.. مستدركات علم رجال الحديث، ج3، ص296، ش5151.

مع الشريعة والإسلام.

وقد يتوهّم أنّ ما ورد من هذا الذمّ والنكير الشديد -- بحيث صار الدين والشريعة مبايناً للفلسفة -- يختصّ بقسم من الفلسفة وإنّ للفلسفة مسالك شتّي فإنّهقد تكون الفلسفة إلحاديّة وقد لا تكون، فالفلسفة الغير الإلحاديّة لا يتوجّه إليها الذمّ والإنكار.

وما يدفع هذا التوهّم أمور:

الأوّل: ما دلّ علي الذمّ الشديد بالنسبة إلي المائلين إلي الفلسفة والتصوّف من الشيعة الإماميّة كما مرّ من قوله(عليه السلام):

علمائهم شرار خلق اللّه علي وجه الأرض لأنّهم يميلون إلي الفلسفة والتصوّف.(1)

الثاني: إنّ الذمّ والتكفير والتفسيق والتشنيع والإزراء الوارد في الأحاديث وكلمات الأعاظم لا يختصّ بقسم دون قسم ولا بطائفة دون طائفة فذمّ الفلسفة في أمثال الخبر السابق يشمل جميع أطوار الفلسفة حتّي الطريقة الجامعة بين الاستدلال والكشف والفلسفة والتصوّف التي سمّيت بالحكمة المتعالية والتي اُدّعي مطابقتها للآيات والروايات.

الثالث: إنّ كلمات أكثر الفقهاء العظام الذين يذمّون الفلسفة ويحكمون بكفر المنتحلين إليها ويشنّعون عليهم مطلقة بل مصرّحة بأسامي أعاظم العرفاء والفلاسفة الإلهيّة كما ستعرف.

الرابع: إنّ وقوف المتألّهين من الفلاسفة في قبال مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ومضادّتهم لهم من أوضح الواضحات ويظهر ذلك -- أي مباينة مقالاتهم للدين -- ممّا ورد عنهم في الأبواب المختلفة والمباحث العديدة فإنّ مباينة ذلك لضروريّات الدين وصريح الآيات والأخبار المتواترة ممّا لا يخفي علي ذوي البصيرة، وقد تصدّي أهل البيت(عليهم السلام) وأصحابهم وأكابر علماء الشيعة وفقهائهم لمعارضة مقالة الفلاسفة وإبطالها في الأبواب المختلفة واحتجّوا عليهم كمناظرة الإمام الرضا(عليه السلام) مع سليمان المروزيّ في مجلس المأمون في «مسألة الإرادة».(2)

ص: 589


1- 1242.. مستدرك الوسائل، ج 11، ص380، ح133.8؛ اثبات الهداة بالنصوص و المعجزات، ج4، ص204.
2- 1243.. راجع: الاحتجاج، ج2، ص401 - 404؛ بحارالأنوار، ج10، ص329 - 338، ح2.

الخامس: إنّ التكفير والتفسيق والإزراء علي منتحلي الفلسفة إنّما صدر عن الفقهاء العظام عند ذكر مذاهبهم في الأبواب المتفرّقة كالقول بقدم العالم زماناً وإنكار المعاد الجسمانيّ (أو القول بالمعاد الجسمانيّ الخياليّ الذي هو إنكار للمعاد الجسمانيّ القرآنيّ) والقول بالجبر وإنكار المعراج الجسمانيّ والقول بوحدة الوجود وتطوّره بالأطوار المختلفة و... ومن الواضح أنّ هذه المقالات صدرت عن الذين يدّعون تطابق فلسفتهم مع المذهب الحقّ.

وجود ارتكاز علي تباين الدين والفلسفة

السادس: إنّ التاريخ وكلمات الأعلام ينبئان عن وجود إرتكاز عند المتشرّعة وغيرهم بالتعارض بين الفلسفة وبين الدين والشريعة؛ فمهما كان يطلق لفظ الفلسفة كان يسبق إلي الأذهان عنوان المخالفة مع ضروريّات الأديان والشرائع الإلهيّة وتكذيب الأنبياء، وكانوا يرون الفلاسفة في قبال الملّيّين، ويرون للفلاسفة -- إطلاقاً -- مذهباً آخر غير اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام، مع أنّهم كانوا يميّزون بين الفرق الفلسفيّة.

وهذا الإرتكاز -- رغم تضارب أفكار الفلاسفة واختلافها الشديد حتّي قيل إنّهم ما اتّفقوا علي رأي واحد -- يشير إلي أنّ هذا التسالم لدي أصحاب الديانات كان علي تخطئة طريق سلوكهم في الوصول إلي الحقائق الذي تكون ركيزته علي الاستبداد بأفكارهم والتكبّر عن الأخذ بتعاليم الأنبياء في إثارة عقولهم، الأمر الذي كان يجمعهم جميعاً.

وإليك بعض الشواهد علي هذا الإرتكاز:

1. ما ذكره ابن نديم كما مرّ سابقا:

2. قال الشيخ المفيد(رحمه الله):

هذا مذهب أبي القاسم الكعبيّ وهو خلاف مذهب المعتزلة في الطباع، وخلاف الفلاسفة الملحدين أيضاً فيما ذهبوا إليه من أفعال الطباع.(1)

وقال بعد ذكر قصّة صاحب الحمار الذي أحياه اللّه بعد مائة عام:

هذا منصوص في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه المسلمون وأهل

ص: 590


1- 1244.. أوائل المقالات، ص 101.

الكتاب، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، منكر عند الملحدين ومستحيل علي مذهب الدهريّين والمنجّمين وأصحاب الطبائع من اليونانيّين وغيرهم من المدّعين الفلسفة والمتطبّبين.(1)

3. قال الشيخ الصدوق(رحمه الله) في سبب تأليف كمال الدين وتمام النعمة:

فبينا هو يحدّثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيّين كلاماًفي القائم(عليه السلام) قد حيّره وشكّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره.(2)

4. قال قطب الدين الراونديّ(رحمه الله):

اعلم أنّ الفلاسفة أخذوا أصول الإسلام ثمّ أخرجوها علي رأيهم، فقالوا في الشرع والنبيّ: إنّما أريدا كلاهما لإصلاح الدنيا. فالأنبياء يرشدون العوامّ لإصلاح دنياهم، والشرعيّات تهذّب أخلاقهم، لا أنّ الشرع والدين كما يقول المسلمون، من أنّ النبيّ يراد لتعريف مصالح الدين تفصيلاً وإنّ الشرعيّات ألطاف في التكليف العقليّ؛ فهم يوافقون المسلمين في الظاهر، وإلّا فكلّ ما يذهبون إليه هدم للإسلام وإطفاء لنور شرعه ﴿وَيَأْبَي اللهُ إلنا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(3)-(4)

5. وقال أيضاً:

من الفلاسفة من يقول لمجاملة أهل الاسلام أنّ الطريق إلي معرفة صدق المدّعي للنبوّة هو أن يعلم أنّ ما أتي به مطابق لما يصلحون به في دنياهم ولأغراضهم التي بسببها يحتاجون إلي النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) ولم يشترطوا ظهور معجزة عليه وذكر بعضهم ظهور المعجز عليه إلي آخر كلامه.(5)

6. وقال(رحمه الله):

إنّ قوماً من الذين أقرّوا بظاهرهم بالنبوّات، جحدوا في الإمامة كون المعجزات، فضاهوا الفلاسفة والبراهمة الجاحدين في النبوّة الاعلام الباهرات.(6)

ص: 591


1- 1245.. الفصول العشرة، ص87.
2- 1246.. كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص3.
3- 1247.. الخرائج و الجرائح، ج3، ص1061.
4- 1248.. التوبة9.، الآية 32.
5- 1249.. الخرائج و الجرائح، ج3، ص1054.
6- 1250.. الخرائج و الجرائح، ج1، ص17.

7. وقال الكراجكيّ(رحمه الله) -- تلميذ السيّد المرتضيّ(رحمه الله) -- في كتاب كنز الفوائد:

اعلم -- أيّدك اللّه -- إنّ من الملحدة فريقاً يثبتون الحوادث ومحدثها... إعلم إنّ الملحدة لمّا لم تجد حيلة تدفع بها تقدم الصانع علي الصنعة، قالت: إنّه متقدّم عليها تقدّم رتبة لا تقدّم زمان.(1)

8. قال الشيخ الطبرسيّ(رحمه الله) في تفسير سورة فيل:

وفيه حجّة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين، المنكرين للآيات الخارقة للعادات.(2)

9. قال ابن أبي الحديد في تفصيله فضائل مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام):وما أقول في رجل يحبّه أهل الذمّة علي تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة علي معاندتهم لأهل الملّة.(3)

10. قال التفتازاني في شرح المقاصد في الجواب عن أنّ الملائكة روحانيّات مجرّدة:

أنّ مبني ذلك علي قواعد الفلسفة دون الملّة.(4)

11. قال العلّامة الحلّيّ(قدس سره):

وهذا هو الكفر الصريح، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.(5)

12. قال السيّد ابن طاووس(رحمه الله):

الباب التاسع فيما نذكره عمّن يقول: إنّ النجوم لا تصحّ أن تكون دلالات علي الحادثات: إعلم أنّ المنكرين لذلك من المسلمين فرق... وفريق سمعوا أنّ هذا العلم ابتدعه قوم غير الأنبياء من الفلاسفة والحكماء فهربوا من التصديق بشيء من معانيه لئلّا يقعوا فيما وقع أولئك فيه من الضلالة والتشبيه. وقد قدّمنا الدلالات الواضحات علي أنّ هذا العلم من علوم الأنبياء والأوصياء عليهم الصلوات وأوضحنا ذلك بما ذكرنا من المعقولات والمنقولات.(6)

ص: 592


1- 1251.. كنز الفوائد، ج1، ص33 - 41.
2- 1252.. تفسير مجمع البيان، ج10، ص826.
3- 1253.. شرح نهج البلاغة، ج 1، ص28.
4- 1254.. شرح المقاصد، ج5، ص72.
5- 1255.. نهج الحقّ وكشف الصدق، ص 125.
6- 1256.. فرج المهموم، ص 216.

13. قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

هذه قواعد فلسفيّة غير مسلّمة عند المليّين، ولا صحيحة عند القائلين بإسناد الحوادث إلي القادر المختار.(1)

14. وقال:

إنّي لمّا ألفيت أهل دهرنا علي آراء متشتّتة وأهواء مختلفة...، فمنهم من سمّي جهالة أخذها من حُثالة(2) من أهل الكفر والضلالة، المنكرين لشرائع النبوّة وقواعد الرسالة حكمة.(3)

15. وقال أيضاً:

وما يشاهد في بعض الناس من نفي بعض الضروريّات كحدوث العالم والمعاد الجسمانيّ ونحو ذلك مع الإقرار في الظاهر بنبوّة نبيّنا(صلي الله عليه آله و سلم) واعترافهم بسائر الضروريّات وما جاء به النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، فذلك لأحد الأمرين:إمّا لكونهم ضالّين لشبهة اعترتهم فيما زعموه، كتوهّمهم كون أباطيل بعض الفلاسفة وسائر الزنادقة برهاناً يوجب تأويل الأدلّة السمعيّة ونحو ذلك.

أو لكونهم منكرين للنبوّة في الباطن ولكن لخوف القتل والمضارّ الدنيويّة لا يتجرّؤون علي إنكار غير ما كشفوا عن إنكاره من الضروريّات. وأمّا إظهارهم إنكار ذلك البعض فلارتفاع الخوف في إظهاره لاختلاط عقائد الفلاسفة وغيرهم بعقائد المسلمين بحيث لا تتميّز إحداهما عن الأخري إلّا عند من عصمه اللّه سبحانه.(4)

16. قال الفاضل الهنديّ في كشف اللثام في معني زنديق:

وقيل: أصله زند دين، أي يتديّن بذلك الكتاب. وقيل: أصله زندين، أي دينه دين المرأة. وفي شمس العلوم: أنّه العالم من الفلاسفة، وأنّه يقال: معناه زن ودنق.(5)

ص: 593


1- 1257.. بحارالأنوار، ج8، ص350.
2- 1258.. الحثالة بالضم: الردي من كلّ شيء؛ لسان العرب، ج11، ص142؛ تاج العروس، ج14، ص139.
3- 1259.. مرآة العقول، ج1، ص2.
4- 1260.. بحارالأنوار، ج30، ص483.
5- 1261.. كشف اللّثام، ج10، ص523.

17. قال السيّد نعمة اللّه الجزائريّ(رحمه الله) في الأنوار النعمانيّة:

إنّ أكثر أصحاب قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا علي العقول واستدلالاتها، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء(عليهم السلام) حيث لم يأت علي وفق عقولهم، حتّي أنّه نقل أنّ عيسي علي نبيّنا وآله وعليه السلام لمّا دعا أفلاطون إلي التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسي رسول إلي ضعفاء العقول، وأمّا أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلي إرسال الأنبياء... مع أنّ الأصحاب ذهبوا إلي تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم.(1)

18. قال السيّد محمّد مهديّ بحرالعلوم(رحمه الله) في إحدي إجازاته بعد ذكر اعتناء السلف الصالح بالحديث:

ثمّ خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات،... فهم بين... وبين من سميّ جهالة اكتسبها من رؤساء الكفر والضلالة، المنكرين للنبوّة والرسالة، حكمة وعلماً، واتّخذ من سبقه إليها أئمّة وقادة، يقتفي آثارهم ويتبع منارهم، يدخل فيما دخلوا وإن خالف نصّ الكتاب، ويخرج عمّا خرجوا وإن كان ذلك هو الحقّ الصواب، فهذا منأعداء الدين، والسعاة في هدم شريعة سيّد المرسلين، وهو مع ذلك يزعم أنه بمكان مكين، ولا يدري أنّه لا يزن عند اللّه جناح بعوض مهين.(2)

19. قال مولي محمّد صالح المازندرانيّ في باب حدوث العالم من شرح الكافي:

قد اختلف الناس فيه فذهب المسلمون واليهود والنصاري والمجوس إلي أنّ الأجسام حادثة بذواتها وصفاتها، وذهب أرسطو وأتباعه إلي أنّها قديمة بذواتها وصفاتها، وذهب أكثر الفلاسفة إلي أنّها قديمة بذواتها ومحدثة بصفاتها.(3)

20. قال شيخ مشايخنا العظام العلّامة آية اللّه الحاج شيخ مجتبي القزوينيّ(رحمه الله) ما محصّله:

ص: 594


1- 1262.. الأنوار النعمانية، ج3، ص129؛ نقل عنه المحدّث البحراني في الحدائق الناظرة، ج1، ص126و128 مع اختلاف يسير.
2- 1263.. خاتمة مستدرك الوسائل، ج2، ص 61-62.
3- 1264.. شرح أصول الكافي، ج3، ص2.

أنّه قد كان في قديم الأيّام طريقة الفقهاء والتابعين للقرآن والسنّة ممتازاً عن طريقة الفلاسفة اليونانيّة والعرفاء والصوفيّة، وكان كلّ يري أنّ طريقه هو الحقّ وكان يتبرّي من المنهج الآخر، فإنّه كان من المسلّمات مخالفة منهج القرآن والسنّة مع منهج الفلاسفة. وترجمة الفلسفة اليونانيّة ونقلها إلي العربيّة قد تمّت في عصر الخلفاء.(1)

21. وقد جاء في كتاب خاطرات زندگاني آقاي حكيم بيانيّة السيّد آية اللّه العظمي الخوئيّ(رحمه الله) حيث قال:

إنّ الشيوعيّة تكون كعقيدة الفلسفة التي هي مضادّة لأصول الاسلام، فهذه العقيدة كفر وشرك.(2)

22. وقد صرّح بهذا بعض الفلاسفة حيث قال:

فمن العقلاء المدقّقين والفضلاء المناظرين، من اعترف بالعجز عن هذا الشأن من إثبات الحدوث للعالم بالبرهان قائلاً: العمدة في ذلك الحديث المشهور والإجماع من الملّيّين، وأنت تعلم أن الاعتقاد غير اليقين... .

وقال: القول بقدم العالم إنّما نشأ بعد الفيلسوف الأعظم أرسطو بين جماعة رفضوا طريق الربّانيّين والأنبياء، وما سلكوا سبيلهم بالمجاهدة والرياضة والتصفية وتشبّثوا بظواهر أقاويل الفلاسفة المتقدّمين من غير بصيرة ولا مكاشفة، فأطلقوا القول بقدم العالم. وهكذا أوساخ الدهريّة والطبيعيّة حيث لم يقفوا علي أسرارالحكمة والشريعة، ولم يطلعوا علي اتّحاد مأخذهما واتّفاق مغزاهما.

ولشدّة رسوخهم فيما اعتقدوه من قدم العالم وزعمهم أنّ هذا ممّا يحافظ علي توحيد الصانع وانثلام الكثرة والتغيير علي ذاته، وأنّ قياساتهم مبنية علي مقدّمات ضروريّة هي مبادي البرهان، لم يبالوا بأنّ ما اعتقدوه مخالف لما ذهب إليه أهل الدين بل أهل الملل الثلاث من اليهود والنصاري والمسلمين من أنّ العالم -- بمعني ما سوي اللّه وصفاته وأسمائه -- حادث أي موجود بعد أن لم يكن بعديّة حقيقيّة وتأخّراً زمانيّاً، لا ذاتيّاً فقط، بمعني المفتقر إلي الغير المتأخّر عنه

ص: 595


1- 1265.. بيان الفرقان، ج 1، ص27-28.
2- 1266.. حزب توده مثل عقيدۀ فلسفه كه ضد اصول اسلام است ميباشد، پس اين عقيده كفر و شرك است. مستدرك سفينة البحار، ج8، ص303.

في حدّ ذاته، كما هو شأن كلّ ممكن بحسب حدوثه الذاتيّ وهو لا استحقاقيّة الوجود وللعدم من نفسه. ومنهم، وإن كان ممّن التزم دين الإسلام لكنّه يعتقد قدم العالم، ويظنّ أنّ ما ورد في الشريعة والقرآن واتّفق عليه أهل الأديان في باب الحدوث للعالم، إنّما المراد منه مجرّد الحدوث الذاتيّ والافتقار إلي الصانع. وذلك القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء من حيث لا يدري، ولا يخلص قائله، ولا يأمن من التعذيب العقليّ والحرمان الأبديّ، لأنّ الجهل في الأصول الإيمانيّة إذا كان مشفوعا بالرسوخ يوجب العذاب الروحاني في دار المآب. ثمّ تأويل ما ورد في نصوص الكتاب والسنّة إنّما هو لقصور العقول عن الجمع بين قواعد الملّة الحنيفة والحكمة الحقيقية، وإلّا فألفاظ الكتاب والسنّة غير قاصرة عن إفادة الحقائق وتصوير العلوم والمعارف المتعلّقة بأحوال المبدأ والمعاد حتّي يحتاج إلي الصرف عن الظاهر للأقاويل وارتكاب التجوّز البعيد والتأويل. وهكذا فعله أبونصر الفارابيّ في مقالته التي في الجمع بين الرأيين والتّوفيق بين مذهبي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، حيث حمل الحدوث الزمانيّ الوارد في كلام أفلاطون حسب ما اشتهر منه ودلّت عليه الألفاظ المأثورة منه علي الحدوث الذاتيّ، وهذا من قصوره في البلوغ إلي شأوا الأقدميّن الأساطين.(1)

يستفاد من كلامه أمور:منها: إنّ الفلاسفة لم يبالوا بمخالفة الشريعة لما ذهبوا إليه من القدم الذاتيّ.

ومنها: إنّهم أوّلوا نصوص الكتاب والسنّة، وما اتّفق عليه أهل الأديان في باب حدوث العالم، وقالوا: إنّما المراد منه مجرد الحدوث الذاتيّ والافتقار إلي الصانع، وهذا القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء(عليهم السلام) ومستلزم للعقاب الأبديّ.

ومنها: ألفاظ الكتاب والسنّة غير قاصرة عن إفادة الحقائق كي تحتاج إلي صرفها عن ظواهرها، وارتكاب التجوّزات البعيدة فيها، فالمستفاد من الكتاب والسنّة ليس إلّا الحدوث الزمانيَ، بمعني مسبوقيّة العالم بالعدم الصريح وإنّ له أوّل وابتداء.

ثمّ إنّ ما نسبه الملّاصدرا إلي الفلاسفة من التأويل، وعدم الفهم، والقصور في الإدراك،

ص: 596


1- 1267.. رسالة في الحدوث، ص95.

وتكذيب الأنبياء، ومخالفة الضرورة... وأمثالها يشمل نفسه قبل أن يشمل غيره، كيف لا وهو يقول:

إنّ العقول المفارقة خارجة عن الحكم بالحدوث لكونها ملحقة بالصقع الربوبيّ، لغلبة أحكام الوجود عليها، فكأنّها موجودة بوجوده تعالي لا بإيجاده وما سوي العقول من النفوس والأجسام وما يعرضها حادثة بالحدوث الطبعيّ -- أي الزمانيّ -- .(1)

الغرض من ذكر كلمات القوم ومواقفهم تجاه الفلسفة والعرفان

ثمّ اعلم: أنّه لسنا بصدد التكفير والتفسيق والتشنيع والسبّ والشتم واللعن وليس غرضنا من نقل كلمات القوم فيما مضي وفيما سيأتي الحكم بكفر أحد ممّن ينتحل الإسلام أو مودّة أهل البيت(عليهم السلام) كلّا ثمّ كلّا، حيث إنّ من يقول بمقالة الكفرة والملاحدة، ويلتزم بلوازمها كافر سواء حكم بكفره ونسب إلي الكفر أم لا؟ ومن يأتي بما ارتكبه الفسقة فاسق سواء حكم بفسقه ونسب إليه أم لا؟

وأمّا تكفير المؤمن وتفسيق الصالح المطيع فهو من أعظم الذنوب والمعاصي.

إنّما الغرض من تفصيل المقال في كلمات الأعاظم أمور:الأوّل: تحذير من يدافع عن مدرسة الفلاسفة ويدّعي تطابقها مع العقل والشرع.

الثاني: إنّ من يكون خال الذهن لو كان من أهل التقليد فهذه هي كلمات جلّ الفقهاء العظام تزري بالفلسفة ولو كان من غيرهم فليحذر من الأخذ بما يؤول إلي إنكار ضروريّات الشرايع الإلهيّة خصوصاً في الاعتقادات.

الثالث: إبطال ادّعاء المتعصّبين من منتحلين الفلسفة والتصوّف والحكمة المتعالية من عدم إمكان الوصول إلي مقام العرفان والكمال وفهم الآيات والأخبار إلّا عبر هذه الطريقة ورمي أكثر الفقهاء والمتشرّعة بالحرمان عن الكمال والوصول إلي مقام القرب ورميهم بالجهل وأنّهم قشريّون لا يعلمون شيئاً من الحقائق.

ص: 597


1- 1268.. درر الفوائد، ص263؛ راجع الحكمة متعالية في الاسفار الاربعة، ج5، ص206 - 248 و ج7، ص328، وغير ذلك من الموارد التي صرّح فيها بنفي الحدوث الزمانيّ، مأخوذ عن كتاب وجود العالم بعد العدم عند الإماميّة، ص 36.

الرابع: إبطال ما ذكره بعض أعاظم المشتهرين بالعلم والحكمة من المروّجين لمباني الحكمة المتعالية الجامعة بين طريقة الاستدلال وطريقة الكشف، فإنّه قد اُدّعي بأنّ العامل الوحيد في حدوث التفكّر الفلسفيّ في المجتمع الدينيّ والعامل في بقائه هي الآيات والأحاديث ومن العجيب أنّه ادّعي أوّلاً أنّ العلّة المحدثة والمبقية لهذا التفكّر هي الذخائر العلميّة الشيعيّة الواصلة إليهم من أهل البيت(عليهم السلام) ثمَّ اعترف أخيراً بانحراف مكتب الفلسفة عن الآيات والروايات إلي القرن الحادي عشر «الذي جاء فيه صدرالدين الشيرازيّ بالحكمة المتعالية» ثمّ حصل التطابق بينهما وإليك نصّ عبارته:

كما أنّ العامل المؤثر في نشو التعقّل و التفكر الفلسفي عند الشيعة ومن ثم نشؤها عند الآخرين بأيديهم، هي الذخائر العلميّة التي خلّفها أئمّة الشيعة، كذلك المحرك لبقاء هذه الظاهرة عند الشيعة هي تلك التراث التي طالماً كانوا يكنون لها تقدّساً واحتراماً. ويكفيك أن تقايس وتوازن بين التراث العلمي الواصل من ائمّة أهل البيت(عليهم السلام) مع الكتب الفلسفيّة التي كتبت علي مرّ التاريخ، فتشاهد أنّ الفلسفة اقتربت إلي تلك التراث يوماً بعد يوم، حتّي القرن الحادي عشر الهجري الذي حصل التطابق بينهما ولم يبق سوي الاختلاف في التعبير.(1)والعجب العجاب قول بعض المعاصرين في تعليقته علي البحار بعد ما قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره): «هذه الجناية علي الدين وتشهير كتب الفلاسفة بين المسلمين...» قال هذا المعاصر:

إنّه لو سلّم إلحاد متفلسف وانكاره للشرائع والنبوّات فليس ذلك بحيث يسري إلحاده إلي كلّ من سمّي فيلسوفاً حتّي وإن كان مصرّحاً بتصديق الأنبياء، ثمّ

ص: 598


1- 1269.. شيعه در اسلام، الدرس 18، ص141: چنانكه عامل مؤثر در پيدايش تفكر فلسفي و عقل در ميان شيعه و به وسيلۀ شيعه در ميان ديگران ذخائر علمي بوده كه از پيشوايان شيعه به يادگار مانده، عامل مؤثر در بقاي اين طرز تفكر در ميان شيعه نيز همان ذخائر علمي است كه پيوسته شيعه به سوي آنها با نظر تقديس و احترام نگاه مي كند و براي روشن شدن اين مطلب كافي است كه ذخائر علمي اهل بيت(عليهم السلام) را با كتب فلسفي كه با مرور تاريخ نوشته شده بسنجيم، زيرا عياناً خواهيم ديد كه روز به روز فلسفه به ذخائر علمي نامبرده نزديكتر مي شد تا در قرن يازده هجري تقريباً به همديگر منطبق گشته و فاصله اي جز اختلافِ تعبير در ميان نمانده است.

يجب علينا أن لا نقصّر في قدحه والطعن عليه دون أن نحمل كلامه علي التقية من المسلمين والخوف من التكفير والتشهير... إنّ الذي ثبت من مدح الفلاسفة الإلهيّين أنّهم رفعوا لواء التوحيد في عهد وفي أرض كان يسيطر فكرة الشرك والوثنيّة علي القلوب، ووجّهوا أنظار الجمهور إلي ما وراء الطبيعة بينما كان أئمّة الكفر يدعون الناس إلي الطبيعة والدهر، وقادوا بالهمم إلي العالم الأبديّ وحياة الآخرة حينما كانت تقصر علي العالم الماديّ وتخلد إلي الأرض والحياة الدنيا.(1)

ليت شعري كيف رفع هؤلاء لواء التوحيد مع أنّهم أنكروا العمد والحكمة في التدبير، وهم الذين اشتهروا بالكفر والإلحاد والزندقة بين الموحّدين، الأمر الذي أقرّ به المخالف والمؤالف؟

وهم الذين أنكروا كون فاعليّة الربّ بالقدرة ورأوا فاعليّته بالجبر والعلّيّة!!

وهم الذين قالوا بوحدة الوجود واعتباريّة الماهيّات وأنّها أعدام محضة!!

وهم الذين أنكروا المعاد الجسمانيّ والجنّة والنار!!

وهم الذين قالوا بأنّ جهنّم هو البُعد المتوهّم للكافر ويزول بالموت!!

وهم الذين قالوا بأنّ أعظم مجالي عبادة الربّ هي عبادة الهوي!!

فياتُري هل يكون رفع راية الحقّ ولواء التوحيد بالقول بأنّ عبادة العجل والأصنام عبادة الربّ المتعال السبّوح القدّوس؟!

وهل يكون رفع راية التوحيد بالقول بأنّ العابد هو المعبود والمعبود هو العابد وأنّ الخالق والحامد هو المخلوق والمحمود؟!هل هذا هو التوحيد الذي يدعو إليه الأنبياء والقرآن والنبيّ الأعظم وأهل بيته الكرام؟!

وليت شعري هل الفقهاء العظام حذّروا من الرجوع إلي التفكّر الذي يوافق الشرع وهل حكموا بكفر من سلك هذا المسلك؟!

أو حكموا بكفر جمع من المسلمين مع الجهل بمعتقدهم وآرائهم؟! مع أنّهم -- علي الأغلب -- تعرّضوا لما يكون سبباً للحكم بكفرهم كالقول بقدم العالم وإنكار المعاد الجسمانيّ و... .

ص: 599


1- 1270.. تعليقة محمّدتقي المصباح اليزديّ علي بحارالأنوار، ج57، ص 195- 196.

ثمّ هل كان الفلاسفة يدعون المسلمين والموحّدين -- الذين كانوا يرمونهم بالكفر والإلحاد -- إلي العالم الأبديّ وحياة الآخرة؟

ولعمري إذا كانوا داعين إلي اللّه ورافعين علم التوحيد فلماذا كانوا يتّقون من المسلمين ويخافون من التكفير والتشهير؟

وقال في تعقيب ما مرّ من كلامه:

وإذا كانت علوم الطبّ والهندسة وأمثالها ترتضع من ثدي النبوّة فلا غرو أن تكون منشأ تلك المعارف العالية تعاليم رجال الوحي وإن وقع فيها بعد حين تحريف أو سوء تعبير وتفسير.(1)

الأولي: قد ادّعي أنّ مباني الفلسفة وأُصولها وفروعها من المعارف العالية مأخوذة من تعاليم رجال الوحي وفيه: أنّ إنكار ضروريّات الدين من حدوث العالم، والمعراج الجسمانيّ ووجود الملائكة و... هل يكون من المعارف العالية وهل يكون مأخوذاً من رجال الوحي مع تضادّه لما جاء به رجال الوحي؟!

الثانية: إنّ قياس الفلسفة والتصوّف بعلم الطبّ والهندسة قياس مع الفارق:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الخطاء فيهما لا يوجب الانحراف عن الدين والشريعة ولا يوجب الوقوع في المهالك الأخرويّة ودخول جهنّم والخلود فيها.

وثانياً: لم يدّع أحد من علماء الطبّ والهندسة تطابق جميع ما ذهبوا إليه مع ما جاء به الأنبياء ولم يقل أحد منهم بأنّ ما قال به هو عين الديانة والشريعة بخلاف الفلاسفة سيّما المدافعين عن الحكمة المتعالية فقد ادّعوا أنّ جميع آرائهم تنطبق علي ما في الشريعةكما مرّ من كلمات أستاذ هذا المعاصر ونقلناها عن كتاب شيعه در اسلام.

وثالثاً: إنّ ما صرّح به من وقوع التحريف في آراء الفلاسفة وكلماتهم أو سوء التعبير والتفسير إن كان مراده وقوع التحريف وسوء التعبير والتفسير من ناحية المخالفين للوقيعة فيهم فهو افتراء محض علي كلّ من خالفهم فالغرض من هذه العبارة الإزراء علي المخالفين

ص: 600


1- 1271.. بحارالأنوار، ج57، ص196.

ولو بسبب الافتراء والاتّهام (نعوذ باللّه من شرور أنفسنا). وقد عرفت ذهابهم إلي ما يخالف الدين والقرآن والعقل والفطرة وما جاء به صاحب الشريعة في مسألة الجبر علي حسب تصريح كلماتهم المنقولة بعينها عن كتبهم وزبرهم بلا تحريف ولا سوء التعبير والتفسير.

وإن كان مراده هو أنّ ما يخالف الدين وما جاء به صاحب الشريعة إنّما هو لأجل تحريف كلماتهم ولو من ناحية مقلّديهم ففيه:

أمّا أوّلاً: فما ذكره ينافي ما نقلناه سابقاً عن أستاذه.

وثانياً: هل تكون كلمات صدرالدين الشيرازيّ في كتاب الاسفار وأمثاله محرّفة؟!

وثالثاً: كيف الطريق إلي تشخيص الحقّ والباطل في كلماتهم؟!

ورابعاً: مع وقوع التحريف في كلماتهم هل يجوز الاعتماد علي أقاويلهم؟ وهل يجوز بناء الاعتقادات الدينيّة علي مبانيهم؟! وهل يجوز تأويل صريح الآيات والروايات المتواترة -- ولو بالتأويلات الباطلة التي تضحك بها الثكلي -- وطرح غيرها -- مع عدم إمكان التوجيه والتأويل -- بمجرّد مباينتها مع الكلمات المحرّفة؟!

دحض الباطل وحجّة بالغة

علي رغم ما ادّعاه مؤلّف الميزان فيما نقلناه عنه وتلميذه في هامش البحار من تطابق الفلسفة والعرفان مع ما جاء به صاحب الشريعة المقدّسة فقد صرّح في تفسيره بالمصارعة بين الفلسفة والعرفان والآيات والروايات وعدم إمكان التطبيق والجمع بينها وإليك نصّ عبارته:ولذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم علي اختلاف مشاربهم أن يوفّقوا بين الظواهر الدينيّة والعرفان كابن العربيّ وعبدالرزّاق الكاشانيّ وابن فهد والشهيد الثاني والفيض الكاشانيّ.

وآخرون أن يوفّقوا بين الفلسفة والعرفان كأبي نصر الفارابيّ والشيخ السهرورديّ صاحب الإشراف والشيخ صائن الدين محمّد تركه.

وآخرون يوفّقوا بين الظواهر الدينيّة والفلسفيّة كالقاضي سعيد وغيره.

وآخرون أن يوفّقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه وصدرالمتألّهين الشيرازيّ في كتبه ورسائله وعدّة ممّن تأخر عنه.

ص: 601

ومع ذلك كلّه فالاختلاف العريق علي حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلّا شدّة في التعرّق، ولا في إخماد ناره إلّا اشتعالا.(1)

موقف أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) وأعيان علماء الإماميّة تجاه الفلسفة والعرفان
اشارة

ثمّ إنّ كثيراً من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) وكذا أعلام علمائنا قدّس اللّه أسرارهم منذ عصر الأئمّة الهداة(عليهم السلام) إلي زماننا هذا حذّروا المسلمين من العرفان والفلسفة بجميع أطوارها وحكموا ببطلان مباني الفلاسفة والعرفاء، وكفرِ من يعتقد بها ويلتزم بلوازمها وخروجه عن الدين، وأفتوا بحرمة تعليمها وتعلّمها، وبعضهم ألّفوا في ذلك كتباً نذكر ما وقفنا عليه من أسمائهم.

1.عليّ بن محمّد بن العبّاس(رحمه الله)

قال النجاشيّ(رحمه الله):

كان عالماً بالأخبار والشعر والنسب والآثار والسير، وما رؤي في زمانه مثله، وكان مجرّداً في مذهب الإماميّة (الإمامة)، وكان قبل ذلك معتزليّاً، وعاد وهو أشهر من أن يشرح أمره. له كتب، منها:... كتاب الردّ علي أهل المنطق، وكتاب الردّ علي الفلاسفة.(2)

2. هلال بن إبراهيم أبو الفتح(رحمه الله)

قال النجاشيّ(رحمه الله):رجل لا بأس به، سمع الحديث وكان ثقة. له كتاب الردّ علي من ردّ آثار الرسول واعتمد نتائج العقول.(3)

3. هشام بن الحكم(رحمه الله)(ت 197ق)

ففي رجال الكشّي: أحمد بن محمّد الخالديّ، عن محمّد بن همام، عن إسحاق بن أحمد عن أبي حفص الحدّاد، وغيره، عن يونس بن عبد الرحمان قال:

ص: 602


1- 1272.. الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص283.
2- 1273.. رجال النجاشي، ص269، ح704.
3- 1274.. رجال النجاشي، ص440، ش1186.

كان يحيي بن خالد البرمكيّ قد وجد علي هشام بن الحكم شيئاً من طعنه علي الفلاسفة، وأحبّ أن يغري به هارون ونصرته علي القتل... .(1)

قال النجاشيّ(رحمه الله):

هشام بن الحكم أبو محمّد، مولي كندة، وكان ينزل بني شيبان بالكوفة، انتقل إلي بغداد سنة تسع وتسعين ومائة ويقال: إنّ (إنّه) في هذه السنة مات.

له كتاب يرويه جماعة. أخبرنا أبو عبداللّه بن شاذان قال: حدّثنا عليّ بن حاتم قال: حدّثنا ابن ثابت قال: حدّثنا عبيداللّه بن أحمد بن نهيك عن ابن أبي عمير عنه بكتابه و... كتابه الدلالة علي حدث الأجسام... وكتابه الردّ علي أرسطاليس (أرسطاطاليس) في التوحيد، كتابه المجالس في التوحيد.(2)

وقال الشيخ:

هشام بن الحكم، كان من خواصّ سيّدنا ومولانا موسي بن جعفر(عليهما السلام)، وكانت له مباحثات كثيرة مع المخالفين في الأصول وغيرها... وله من المصنّفات كتب كثيرة، منها: كتاب الإمامة، وكتاب الدلالات علي حدوث الأشياء... وكتاب الردّ علي أرسطاطاليس في التوحيد.(3)

وقال ابن شهر آشوب:

أبو محمّد هشام بن الحكم الشيبانيّ، كوفيّ تحوّل إلي بغداد ولقي الصادق والكاظم(عليهما السلام)... وقوله(عليه السلام): «هشام بن الحكم رائد حقّنا وسائق قولنا المؤيّد لصدقنا والدامغ لباطل أعدائنا من تبعه وتبع أثره تبعنا ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا». من كتبه: كتاب الدلالات عليحدوث الأشياء... كتاب الردّ علي أرسطاطليس في التوحيد.(4)

4. الفضل بن شاذان(رحمه الله)(ت 260ق)

قال النجاشيّ(رحمه الله):

الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمّد الأزديّ النيشابوريّ (النيسابوريّ) كان أبوه

ص: 603


1- 1275.. رجال الكشي، ص259، ش477؛ بحارالأنوار، ج48، ص189.
2- 1276.. رجال النجاشي، ص433، ش1164.
3- 1277.. الفهرست (للطوسي)، ص258، ش783.
4- 1278.. معالم العلماء، ص163، ش862.

من أصحاب يونس، وروي عن أبي جعفر الثاني، وقيل [عن] الرضا(عليه السلام) أيضاً وكان ثقة، أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلّمين، وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه. وذكر الكنجيّ أنّه صنّف مائة وثمانين كتاباً وقع إلينا منها:... كتاب الردّ علي الفلاسفة.(1)

وقال الشيخ(رحمه الله):

الفضل بن شاذان النيشابوريّ، فقيه متكلّم، جليل القدر. له كتب ومصنّفات، منها:... كتاب الوعيد والمسائل في العالم وحدوثه، وكتاب الأعراض والجواهر... وكتاب النقض علي من يدّعي الفلسفة في التوحيد والاعراض والجواهر والجزء... وله غير ذلك مصنّفات كثيرة لم تعرف أسماؤها.(2)

وقال ابن شهر آشوب(رحمه الله):

أبو محمّد الفضل بن شاذان بن جبرئيل النيسابوريّ، لقي عليّ بن محمّد التقيّ(عليه السلام)، دخل الفضل علي أبي محمّد(عليه السلام) فلمّا أراد أن يخرج سقط منه كتاب من تصنيفه فتناوله أبو محمّد(عليه السلام) ونظر فيه وترحّم عليه، وذكر أنّه قال: أغبط أهل خراسان مكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم. وله مائة وستّون مصّنفاً (منها): كتاب... المسائل في العالم وحدوثه، الاعراض والجواهر... الردّ علي من يدّعي الفلسفة في التوحيد والاعراض والجواهر والجزء.(3)

5. الحسن بن موسي النوبختيّ(رحمه الله)(ت 310ق)

قال الشيخ(رحمه الله) في الفهرست:

الحسن بن موسي النوبختيّ، ابن أخت أبي سهل بن نوبخت، يكنّي أبا محمّد، متكلّم فيلسوف، وكان يجتمع إليه جماعة من نقلة كتب الفلسفة، مثل أبي عثمان الدمشقيّ وإسحاق وثابت وغيرهم، وكان إماميّاً حسن الاعتقاد، نسخ بخطه شيئاً كثيراً. ولهمصنّفات كثيرة في الكلام وفي نقض الفلسفة وغيرهما، منها: كتاب الآراء والديانات، لم يتمّه. وكتاب الردّ علي أصحاب التناسخ.(4)

ص: 604


1- 1279.. رجال النجاشي، ص306، ش840.
2- 1280.. الفهرست (للطوسي)، ص197، ش563.
3- 1281.. معالم العلماء، ص 125، ش627.
4- 1282.. الفهرست (للطوسي)، ص 96، ش161.

قال في الروضات:

هو صاحب الأبحاث الواردة الغفيرة علي حكماء اليونان.(1)

6. ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ(قدس سره) (ت 329ق)

قال في الكافي في باب جامع التوحيد بعد ذكره الحديث الأوّل:

هذه الخطبة من مشهورات خطبه(عليه السلام) حتّي لقد ابتذلها العامّة، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها وفهم ما فيها... ألا ترون... إلي قوله: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» فنفي بقوله: «لا من شيء كان» معني الحدوث، وكيف أوقع علي ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال، نفياً لقول من قال: إنّ الأشياء كلّها محدثة بعضها من بعض،(2) وإبطالاً لقول الثنويّة الذين زعموا أنّه لا يحدث شيئاً إلّا من أصل ولا يدبّر إلّا باحتذاء مثال.(3)

7.عليّ بن أحمد أبو القاسم الكوفي(رحمه الله) (ت 352ق)

ذكر النجاشيّ(رحمه الله) من كتبه:

كتاب الردّ علي أرسطاطاليس،... كتاب الردّ علي من يقول إنّ المعرفة من قبل الموجود.(4)

8. الشيخ محمّد عليّ بن بابويه الصدوق(قدس سره)(ت 381ق)

قال في سبب تأليف كمال الدين وتمام النعمة:

فبينا هو يحدّثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيّين كلاماً في القائم(عليه السلام) قد حيّره وشكّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له فصولاً في إثبات كونه(عليه السلام) ورويت له أخباراً في غيبته عن

ص: 605


1- 1283.. مستدرك سفينة البحار، ج8، ص 300؛ راجع: تنقيح المقال في علم الرجال، ج21، ص96، ش5725.
2- 1284.. قال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) في مرآة العقول، ج2، ص91: أي من الحكماء والدهريّة والملاحدة، حيث يقولون بقدم الأنواع وإنّ كلّ حادث مسبوق بآخر لا إلي نهاية.
3- 1285.. الكافي، ج1، ص136 - 137.
4- 1286.. رجال النجاشي، ص265، ش691.

النبيّ والأئمّة: سكنت إليها نفسه، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشكّ والارتياب والشبهة، وتلقّي ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أن أُصنّف في ذلك كتاباً فأجبته إلي ملتمسه.(1)

9. صاحب بن عبّاد(رحمه الله) (ت 385ق)

قال الذهبيّ في سير أعلام النبلاء:

الصاحب الوزير الكبير العلّامة الصاحب، أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد بن عبّاس الطالقانيّ الأديب الكاتب، وزير الملك مؤيّد الدولة بويه بن ركن الدولة... وكان يبغض من يدخل في الفلسفة.(2)

10. الشيخ المفيد(رحمه الله)(ت 413ق)

قال(رحمه الله):

إنّ ما يتولّد بالطبع فإنّما هو لمسبّبه بالفعل في المطبوع، وإنّه لا فعل علي الحقيقة لشيء من الطباع، وهذا مذهب أبي القاسم الكعبي وهو خلاف مذهب المعتزلة في الطباع، وخلاف الفلاسفة الملحدين أيضاً فيما ذهبوا إليه من أفعال الطباع.(3)

وقال بعد ذكر قصّة صاحب الحمار الذي أحياه اللّه بعد مائة عام:

وهذا منصوص في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه المسلمون وأهل الكتاب، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، منكر عند الملحدين ومستحيل علي مذهب الدهريّين والمنجّمين وأصحاب الطبائع من اليونانيّين وغيرهم من المدّعين الفلسفة والمتطبّبين.(4)

و من جملة كتبه: كتاب جوابات الفيلسوف في الإتّحاد، وكتاب الردّ علي أصحاب الحلّاج.

وقد تصدّي لنقد شبهات الفلاسفة في ساير كتبه أيضاً نظير ما جاء في المسألة السابعة عشرة من المسائل العكبريّة.(5)

ص: 606


1- 1287.. كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص3.
2- 1288.. سير أعلام النبلاء، ج16، ص511، ش377.
3- 1289.. أوائل المقالات، ص 101.
4- 1290.. الفصول العشرة، ص87.
5- 1291.. المسائل العكبريّة، ص65-66.

وقال(رحمه الله) - في الردّ علي القول بالحال -:

فكره أن يثبت الحال شيئاً فتكون موجودة أو معدومة، ومتي كانت موجودة لزمه - علي أصله وأصولنا جميعاً - أنّها لا تخلو من القدم والحدوث، وليس يمكنه الإخبار عنها بالقدم فيخرج بذلك عن التوحيد ويصير به أسوء حالا من أصحاب الصفات.

وساق الكلام:... ومن دان بالهيولي وقدم الطبيعة أعذر من هؤلاء القوم إن كان لهم عذر. ولا عذر للجميع فيما ارتكبوه من الضلال لأنّهم يقولون: إنّالهيولي هو أصل العالم، وإنّه لم يزل قديماً، وإنّ اللّه تعالي هو محدث له كما يحدث الصائغ من السبيكة خاتماً والناسج من الغزل ثوباً والنجّار من الشجرة لوحاً.(1)

11. الشيخ أبوالفتح الكراجكيّ(رحمه الله)(ت 449ق)

قال الكراجكيّ -- تلميذ السيّد المرتضي -- في كتاب كنز الفوائد:

اعلم - أيّدك اللّه - إنّ من الملاحدة فريقاً يثبتون الحوادث ومحدثها ويقولون: إنّه لا أوّل لوجودها ولا ابتداء لها، ويزعمون: أنّ اللّه سبحانه لم يزل يفعل ولا يزال كذلك، وإنّ أفعاله لا أوّل لها ولا آخر، فقد خالفونا في قولهم: إنّ الأفعال لا أوّل لها.. إذ كنّا نعتقد إنّ اللّه تعالي ابتدأها وإنّه موجود قبلها... إعلم إنّ الملاحدة لمّا لم تجد حيلة تدفع بها تقدّم الصانع علي الصنعة، قالت: إنّه متقدّم عليها تقدّم رتبة لا تقدّم زمان.(2)

12. الشيخ أبوعليّ الطبرسي(قدس سره) (ت 548ق)

قال في تفسير سورة الفيل:

وفيه حجّة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين، المنكرين للآيات الخارقة للعادات، فإنّه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالي من أمر أصحاب الفيل إلي طبع وغيره، كما نسبوا الصيحة، والريح العقيم، والخسف، وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالي به الأمم الخالية، إلي ذلك، إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجار معدّة مهيّأة لهلاك أقوام معيّنين، قاصدات إيّاهم دون من سواهم، فترميهم بها حتّي تهلكهم، وتدمر عليهم، حتّي لا يتعدّي ذلك

ص: 607


1- 1292.. الحكايات في مفاسد القول بالحال، ص55 (المجلد العاشر من مصنّفات الشيخ المفيد(رحمه الله)).
2- 1293.. كنز الفوائد، ج1، ص33 - 41.

إلي غيرهم، ولا يشكّ من له مسكة من عقل ولبّ، أنّ هذا لا يكون إلّا من فعل اللّه تعالي، مسبّب الأسباب، ومذلّل الصعاب. وليس لأحد أن ينكر هذا، لأنّ نبيّنا(صلي الله عليه آله و سلم) لما قرأ هذه السورة علي أهل مكّة، لم ينكروا ذلك، بل أقرّوا به، وصدّقوه مع شدّة حرصهم علي تكذيبه، واعتنائهم بالردّ عليه. وكانوا قريبي العهد بأصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة وأصل، لأنكروه وجحدوه، وكيف وأنّهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، وموت قصيّ بن كعب، وغير ذلك. وقدأكثر الشعراء ذكر الفيل، ونظموه، ونقلته الرواة عنهم.(1)

وقال في تفسير قوله تعالي: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾(2):

قيل فيه وجوه: ... والآخر: أنّ المراد علم الفلاسفة كانوا يصغّرون علم الأنبياء إلي علمهم.

وعن سقراط أنّه قيل: ائت موسي(عليه السلام) وكان في زمانه، فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة بنا إلي من يهدينا.(3)

13. قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبداللّه بن الحسين بن هبة اللّه بن الحسن الراونديّ(رحمه الله)(ت 573ق)

قال(رحمه الله):

بسم اللّه الرحمن الرحيم أمّا بعد حمد اللّه الذي هدانا إلي منهاج الدليل والصلاة علي محمّد وآله الذين سلكوا بنا سواء السبيل، فإنّ قوماً من الذين أقرّوا بظاهرهم بالنبوّات، جحدوا في الإمامة كون المعجزات، فضاهوا الفلاسفة والبراهمة الجاحدين في النبوّة الأعلام الباهرات فدعواهم جميعاً باطلة فاضحة، إذ الأدلّة علي صحّة جميع ذلك واضحة.(4)

وقال أيضاً:

فصل واعلم أنّ الفلاسفة أخذوا أصول الاسلام ثمّ أخرجوها علي رأيهم، فقالوا في الشرع والنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) إنّما أُريدا كلاهما لإصلاح الدنيا؛ فالأنبياء يرشدون العوامّ

ص: 608


1- 1294.. تفسير مجمع البيان، ج 10، ص447.
2- 1295.. غافر40.، الآية 83.
3- 1296.. تفسير جوامع الجامع، ج 3، ص254.
4- 1297.. الخرائج و الجرائح، ج 1، ص17.

لإصلاح دنياهم، والشرعيّات تهذّب أخلاقهم، لا أنّ الشرع والدين كما يقول المسلمون، من أنّ النبيّ يراد لتعريف مصالح الدين تفصيلاً وإنّ الشرعيّات ألطاف في التكليف العقليّ؛ فهم يوافقون المسلمين في الظاهر، وإلّا فكلّ ما يذهبون إليه هدم للإسلام وإطفاء لنور شرعه ﴿وَيَأْبَي اللهُ إلنا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (1).(2)

وقال أيضاً:

من الفلاسفة من يقول لمجاملة أهل الإسلام: إنّ الطريق إلي معرفة صدق المدّعي للنبوّة هو أن يعلم أنّ ما أتي به مطابق لما يصلحون به في دنياهم، ولأغراضهم.(3)وقد ذكر من جملة مؤلّفاته كتاب: تهافت الفلاسفة.(4)

14. السيّد عزّالدين أبوالمكارم حمزة بن عليّ بن زهرة الحسينيّ الحلبيّ(رحمه الله)(ت 585ق)

قال الشيخ حرّ:

فاضل عالم ثقة جليل القدر، له مصّنفات كثيرة منها: ... ونقض شُبَه الفلاسفة، ومسألة في الردّ علي من زعم أنّ الوجوب والقبح لا يعلمان إلّا سمعاً، ومسألة في الردّ علي من قال في الدين بالقياس.(5)

40. السيّد رضي الدين بن طاووس(رحمه الله) (ت 664ق)

فإنّه يعتبر قول الفلاسفة مخالفاً لكافّة المسلمين:

وممّا يقال للمجبرّة: قد رحمناكم لشدّة غفلتكم، وخاصّة الذين يقولون منكم لا فاعل سوي اللّه تعالي، ثمّ يقولون إنّ العبد غير مختار وإنّه مضطرّ فيما يصدر عنه، ويا للّه والعجب من جهالاتكم إذا كان لا فاعل سوي اللّه تعالي، وعندكم

ص: 609


1- 1298.. التوبة9.، الآية 32.
2- 1299.. الخرائج و الجرائح، ج3، ص1061.
3- 1300.. الخرائج و الجرائح، ج3، ص1054.
4- 1301.. فهرست منتجب الدين، ص67، ش167.
5- 1302.. أمل الآمل، ج2، ص105، ش293؛ أعيان الشيعة، ج6، ص250؛ الذريعة، ج24، ص278، ح1479.

وعند كافّة أهل الإسلام إنّ اللّه تعالي مختار غير مضطرّ ولا ملجأ، وكيف صارت أفعاله الصادرة عن العباد في الصورة وهي صادرة عنه في التحقيق خارجة عن حكم اختياره، وبطل علي قولكم كونه مختاراً وصرتم إلي مذهب الفلاسفة في أنّه جلّ وعلا غير مختار.(1)

وقال أيضاً:

الباب التاسع فيما نذكره عمّن يقول إنّ النجوم لا تصحّ أن تكون دلالات علي الحادثات إعلم أنّ المنكرين لذلك من المسلمين فرق... وفريق سمعوا أنّ هذا العلم ابتدعه قوم غير الأنبياء من الفلاسفة والحكماء فهربوا من التصديق بشيء من معانيه لئلّا يقعوا فيما وقع أولئك فيه من الضلالة والتشبيه. وقد قدّمنا الدلالات الواضحات علي أنّ هذا العلم من علوم الأنبياء والأوصياء عليهم الصلوات وأوضحنا ذلك بما ذكرنا من المعقولات والمنقولات.(2)

وقال أيضاً:

لقد وجدت الفلاسفة وأكثر من ضلّ بغير عناد، أنّ ضلالهم كان من طريق التوكّل والاعتماد علي العقول والقلوب والاجتهاد مع الغفلة عن سلطان المعاد.ولقد كان اللّه جلّ جلاله أعذر إليهم وركب الحجّة عليهم بما أراهم في العقول والقلوب من مماتها بالنسيان وكثرة آفاتها وتفاوت إرادتها بما يظهر في تصرّفاتها من النقصان ما كان كافياً في ترك الاعتماد عليهما مع سقم الغفلة عنه جلّ جلاله بالاستناد عليها.(3)

15. المحقّق خواجه نصيرالدين الطوسيّ(رحمه الله)(ت 672ق)

قال في كتاب الفصول:

أصل: قد ثبت أن وجود الممكن من غيره، فحال إيجاده لا يكون موجوداً، لاستحالة إيجاد الموجود، فيكون معدوماً، فوجود الممكن مسبوق بعدمه وهذا الوجود يسمّي: حدوثاً، والموجود: محدثاً، فكلّ ما سوي الواجب من الموجودات

ص: 610


1- 1303.. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ج2، ص332.
2- 1304.. فرج المهموم، ص 216.
3- 1305.. جمال الأسبوع، ص 22.

محدث، واستحالة الحوادث لا إلي أوّل - كما يقوله الفلسفيّ - لا يحتاج إلي بيان طائل بعد ثبوت إمكانها المقتضي لحدوثها.(1)

16. العلّامة الحلّيّ(قدس سره) (ت 726ق)

قال(رحمه الله):

البحث الخامس في أنّه تعالي لا يتّحد بغيره؛ الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد فانّه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئاً واحداً، وخالف في ذلك جماعة من الصوفيّة من الجمهور فحكموا بأنّه يتّحد بأبدان العارفين حتّي تمتدي بعضهم فقال إنّ اللّه تعالي نفس الوجود وكلّ موجود فهو اللّه تعالي وهذا عين الكفر والإلحاد الحمد للّه الذي فضّلنا باتّباع أهل البيت دون الأهواء المضلّة.(2)

وقال أيضاً في بيان أحكام تعلّم أنواع العلوم:

العلم إمّا فرض عين أو فرض كفاية أو مستحبّ أو حرام. فالأوّل: العلم بإثبات الصانع تعالي وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه... والحرام: ما اشتمل علي وجه قبح، كعلم الفلسفة لغير النقض، وعلم الموسيقيّ وغير ذلك ممّا نهي الشرع عن تعلّمه، كالسحر، وعلم القيافة والكهانة وغيرها.(3)

وقال في نهجّ الحق في الجواب عن شبهة الجبر بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وشبهة لزوم علم الباري الجبر:فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ اللّه تعالي، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة... .

والحاصل: أنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما. فلينظر العاقل من نفسه: هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته، ويحتجّ به غداً يوم القيامة؟ وهو يوجب الكفر، والإلحاد؟

ص: 611


1- 1306.. عنه بحارالأنوار، ج54، ص245.
2- 1307.. نهج الحقّ وكشف الصدق، ص 57.
3- 1308.. تذكرة الفقهاء، ج 9، ص36 و37.

وأيّ عذر لهم عن ذلك؟

وعن الكفر والإلحاد؟

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر علي ما تري. وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة اللّه سبحانه إلي كلّ خسيسة ورذيلة، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. وليحذر المقلّدون، وينظروا كيف هؤلاء القوم الذين يقلّدونهم، فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم كفاهم بذلك ضلالاً، وإن راجعوا عقولهم، وتركوا اتّباع الأهواء، عرفوا الحقّ بعين الانصاف، وفّقهم اللّه لإصابة الثواب.(1)

وقال(رحمه الله) في الجواب عن سؤال السيّد المهنا:

ما يقول سيّدنا فيمن يعتقد التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة لكنّه يقول بقدم العالم؟ ما يكون حكمه في الدنيا والآخرة؟ بيّن لنا ذلك، أدام اللّه سعدك وأهلك ضدّك.

قال: من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف، لأنّ الفارق بين المسلم والكافر ذلك، وحكمه في الآخرة حكم باقي الكفّار بالإجماع.

وقال السيّد المهنا: ما يقول سيّدنا في المثبتين القائلين بأنّ الجواهر والأعراض ليست بفعل الفاعل، وأنّ الجوهر جوهر في العدم كما هو جوهر في الوجود؟ فهل يكون هذا الاعتقاد الفاسد الظاهر البطلان موجباً لتكفيرهم، وعدم قبول إيمانهم وأفعالهم الصالحة، وعدم قبول شهادتهم، وجواز مناكحتهم؟ أم لا يكون موجباً لشيء من ذلك وأيّ شيء يكون حكمهم في الدنيا والآخرة؟ وما الذي يجب أنيعتقد المكلّف في معتقد هذه المقالة المتديّن بها، المناظر عليها، مع ظهور فسادها.. أوضح لنا ذلك غاية الإيضاح.

فأجاب العلّامة(رحمه الله): لا شكّ في رداءة هذه المقالة وبطلانها، لكنّها لا توجب تكفيراً ولا عدم قبول إيمانهم وأفعالهم الصالحة، ولا ردّ شهادتهم، ولا تحرم مناكحتهم، وحكمهم في الدنيا والآخرة حكم المؤمنين، لأنّ الموجب للتكفير إنّما هو اعتقاد قدم الجواهر وهم لا يقولون بذلك، لأنّ القديم يشترط فيه الوجود وهم لا يقولون بوجوده في الأزل.(2)

ص: 612


1- 1309.. نهج الحقّ وكشف الصدق، ص 124.
2- 1310.. أجوبة المسائل المهنائيّة، ص 89 - 88.

وقال العلّامة الحلّيّ(رحمه الله) في شرح كلام المحقّق الطوسيّ(رحمه الله) في التجريد: «ولا قديم سوي اللّه تعالي»:

قد خالف في هذا جماعة كثيرة، أمّا الفلاسفة فظاهر لقولهم بقدم العالم... إلي أن قال: وكلّ هذه المذاهب باطلة، لأنّ كلّ ما سوي اللّه ممكن، وكلّ ممكن حادث.(1)

وقال(رحمه الله) في كتاب نهاية المرام في علم الكلام:

القسمة العقليّة منحصرة في أقسام أربعة: الأوّل: أن يكون العالم محدث الذات والصفات وهو مذهب المسلمين وغيرهم من أرباب الملل وبعض قدماء الحكماء. الثاني: أن يكون قديم الذات والصفات، وهو قول أرسطو وجماعة من القدماء، ومن المتأخّرين قول أبي نصر الفارابيّ والرئيس، قالوا: السماوات قديمة بذواتها وصفاتها إلّا الحركات والأوضاع فإنّها قديمة بنوعها لا بشخصها، والعناصر الهيولي منها قديمة بشخصها، وصورها الجسميّة قديمة بنوعها لا بشخصها، والصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها ولا بشخصها.(2)

وقد جاء في ترجمته أنّ من جملة مصنّفاته:

الأسرار الخفيّة في العلوم العقليّة من الحكمة والكلام والمنطق، ثلاثة أجزاء، موجود في المكتبة الحيدريّة بالنجف الأشرف، يردّ به علي الفلاسفة، ألّفه باسم هارون بن شمس الدين الجوينيّ، توجد نسخة أيضاً في مكتبة الإمام الحكيم العامّة بالنجف الأشرف ويظهر أنّها بخطّ العلّامة، تقع في 460 صفحة.(3)

38. الحسن بن محمّد بن عبد اللّه الطيّبيّ(رحمه الله) (ت 733ق)

قال في الروضات:

كان شديد الردّ علي الفلاسفة مظهراً فضائحهم مع استيلائهم حينئذ.(4)

ص: 613


1- 1311.. شرح التجريد، ص 82.
2- 1312.. نهاية المرام في علم الكلام، ج4، ص4؛ عنه بحار الأنوار، ج54، ص248.
3- 1313.. صفاء الدين البصريّ في مقدّمة منتهي المطلب، ج3، ص 39.
4- 1314.. مستدرك سفينة البحار، ج 8، ص297.
25. السيّد احمدبنزينالعابدين العامليّ(رحمه الله) (توفّي بعد 787ق)

قال(رحمه الله) في كتابه ثقوب الشهاب في رجم المرتاب علي ما نقله عنه آقا محمّد علي الكرمانشاهي حفيد الوحيد البهبهانيّ ما ترجمته:

وينبغي أن يعلم أنّ أكثر رؤوس الملاحدة والصوفية كانوا من الفلاسفة، فما كان يمنعهم حديث «لا تفكّر في ذات اللّه» عن التفكّر في الذات، وقد ملأوا عيون بصيرة عقلهم القاصر بتراب الأغواط، فإنّ الطائفة الإسماعيليّة النزاريّة المسمّين بملاحدة أَلَمُوْت، ومحمود الپسيخاني ونظائرهما كانوا جميعاً من الفلاسفة.

وقد سمعنا عن كثير من الثقات والعدول كثرة أناس فاسدي العقيدة في هذا الزمان، وقد اشتهروا بالإلحاد بين الخواص والعوام شهرة تامّة، ومنهم من يلبس زي طالب العلم ويسي ء إلي سمعة طلاب العلوم الدينيّة. وذلك لأنّهم يقرأون كتب الفلاسفة والصوفيّة من دون قوّة اليقين واستحكام العقيدة من الدين، فيؤثّر ذلك في اعتقادهم الباطل، وأغلب هؤلاء يشتغلون بإغراء الجهال من الناس، وقد صنعوا من الدين مصيدة لمكرهم وغرورهم... . وبعض الاجلاف يضيعون الوقت ويتعذرون عن قراءة تلك الكتب ويقولون: ليست الغاية من قراءة كتب الفلاسفة والصوفيّة إلاّ تحصيل الإستعداد لفهم الأحاديث المشكلة.

فقد غلطوا أو تغالطوا، كلا وحاشا من ذلك! ألم تكن هناك طرق لفهم تلك الأحاديث قبل شيوع الفلسفة وظهور المبتدعة بين الطوائف الإسلاميّة ؟ فهؤلاء الشرذمة يرون أنّ إكمال الدين واتمام الشريعة إنما توقّف علي وجود محي الدين وابن سينا.

والمشهور أنّ في زمان محي الدين كتب حوالي أربعمائة من علماء الشيعة والسنّة كتباً في كفرالملعون وإبطال مقالاته المشحونة بالزندقة، وأنّ الكثير من العلماء والفضلاء قد كفّروا ابن سينا في زمانه ونسبوه إلي الإلحاد...

صان اللّه تعالي جميع أهل الإيمان من شرّ الملاحدة المتظاهرين بالتشيع من المبتدعة والمتفلسفة وغيرهما.(1)

ص: 614


1- 1315.. خيراتيّة، ج2، ص168-171: و بايد دانست كه اكثر رؤوس ملاحده و صوفيه فلسفي بوده اند، كه پروا از حديث «لاتفكّر في ذات اللّه» نداشته اند، و چشمۀ چشم عقل كوتهانديش خويش را به خاك غوائط انباشته اند، طائفۀ اسماعيليۀ نزاريّه كه ايشان را ملاحدة الموت مي گويند و محمود پسيخاني و نظائرش همه فلسفي بوده اند. و از جمع كثير از ثقات و عدول مسموع مي گردد كه در اين روزگار مردم فاسد عقيده بسيارند كه در ميان خواص و عوام به الحاد شهرت تام دارند، و جمعي از ايشان هستند كه خود را طالب علم مي كنند، و طلبه علوم دينيّة را بدنام مي گردانند به سبب آنكه با عدم قوت يقين و طلب علم دين به خواندن و مطالعه كردن كتابهاي فلاسفه و صوفية اشتغال نموده بد اعتقاد شده اند، و اكثر ايشان به فريب دادن مردم نادان مشغول گشته دين را دام مكر و غرور ساخته اند ... . جمعي از اجلاف بي ثبات اتلاف اوقات مي نمايند، و متعلل به آن مي شوند كه مقصود ما از قرائت علوم فلسفه و مطالعۀ كتب صوفية استعداد فهميدن احاديث مشكله است، غلط فهيده اند يا مغالطه مي كنند! كلّا و حاشا! مگر قبل از شيوع فلسفه و ظهور مبتدعه در ميان طوائف اسلامية فهم كسي بر معاني آن احاديث راه نداشته، همانا به گمان اين گروه بد گمان اكمال دين و اتمام شريعت غرّاء موقوف به وجود محي الدين و ابن سينا بوده. مشهور است كه در زمان محي الدين قريب به چهارصد كس از علماي شيعه و سنّي در كفر آن لعين و رد مقالات زندقه آياتش كتابها نوشته اند، و بسيار كسي ازعلماء و فضلاء در زمان ابن سينا او را كافر و ملحد گفته اند ... . حضرت اللّه تعالي جميع اهل ايمان را از شر ملحدان شيعه نما، از مبتدعه و متفلسفه و غيرهما مصون و محروس بدارد.
17. الشيخ أبي القاسم عليّ بن عليّ بن جمال الدين محمّد بن طيّ العامليّ(رحمه الله)(ت 855ق)

فقد قال(رحمه الله) في كتاب الزكاة:

يجوز لطالب العلم المباح واللغة والنحو أن يأخذ من الزكاة والخمس، وإن كان قادراً علي التكسّب، دون العلم المحرّم كالفلسفة وغيره.(1)

19. المحقّق الدوانيّ(رحمه الله) (1317)(ت 908ق)

قال في أنموذجه:

ص: 615


1- 1316.. الينابيع الفقهيّة (علي أصغر المرواريد)، ج29، ص388.

وقد خالف في الحدوث الفلاسفة أهل الملل الثلاث، فإنّ أهلها مجمعون علي حدوثه بل لم يشذّ من الحكم بحدوثه من أهل الملل مطلقاً إلّا بعض المجوس، وأمّا الفلاسفة فالمشهور أنّهم مجمعون علي قدمه علي التفصيل الآتي، ونقل عن أفلاطون القول بحدوثه وقد أوّله بعضهم بالحدوث الذاتيّ.(1)

ثمّ قال:

لا يذهب عليك أنّه إذا ظهر الخلل في دلائل قدم العالم، وثبت بالتواتر وإخبار الأنبياء الذين هم أصول البرايا وإجماع أهل الملل علي ذلك، وقد نطق به الوحي الإلهيّ علي وجه لا يقبل التأويل إلّا بوجه بعيد تتنفّر عنه الطبائع السليمة والأذهان المستقيمة، فلا محيص عن اتّباع الأنبياء في ذلك والأخذ بقولهم. كيف وأساطين الفلاسفة ينسبون أنفسهم إليهم وينسبون أصول مقالاتهم علي ما يزعمون أنّها مأخوذة منهم، فإذن تقليد هؤلاء الأعاظم الذين اصطفاهم اللّه تعالي وبعثهم لتكميل العباد، والإرشاد إلي صلاح المعاش والمعاد، وقد أذعن لكلامهم الفلاسفة أولي وأحري من تقليد الفلاسفة الذين هم معترفون برجحان الأنبياء(عليهم السلام) عليهم، ويتبرّكون بالانتساب إليهم.

ومن العجب العجاب أن بعض المتفلسفة يتمادون في غيّهم ويقولون إنّ كلام الأنبياء مؤوّل ولم يريدوابه ظاهره، مع أنّا نعلم أنّه قد نطق القرآن المجيد في أكثر المطالب الاعتقاديّة بوجه لا يقبل التأويل أصلا.(2)

18. الشهيد الثاني(قدس سره) (ت966ق)

قال(رحمه الله):

وبقي علوم أخر بعضها محرّم مطلقاً، كالسحر والشعبذة وبعض الفلسفة، وكلّ ما يترتّب عليه إثارة الشكوك. وبعضها محرّم علي وجه دون آخر كأحكام النجوم والرمل، فإنّه يحرم تعلّمها مع اعتقاد تأثيرها وتحقيق وقوعها، ومباح مع إعتقاد كون الأمر مستنداً إلي اللّه تعالي.(3)

ص: 616


1- 1318.. بحارالأنوار، ج54، ص252.
2- 1319.. نقل عنه العلّامة المجلسيّ في بحارالأنوار، ج54، ص258.
3- 1320.. منية المريد، ص 381.

وبعد أن ذمّ من اقتصر علي معرفة الفقه الأصغر وترك الفقه الأكبر قال(رحمه الله):

وإذا كان هذا مثال حال الفقيه العارف بشرع اللّه ورسوله وأئمّته ومعالم دين اللّه، فكيف حال من يصرف عمره في معرفة عالم الكون والفساد الذي مآله محض الفساد، والاشتغال بمعرفة الوجود، وهل هو نفس الموجودات أو زائد عليها أو مشترك بينها، أو غير ذلك من المطالب التي لا ثمرة لها، بل لم يحصل لهم حقيقة ما طلبوا معرفته فضلاً عن غيره.

وإنّما مثالهم في ذلك مثال ملك اتّخذ عبيداً، وأمرهم بدخول داره والاشتغال بخدمته وتكميل نفوسهم فيما يوجب الزلفي لدي حضرته واجتناب ما يبعد من جهته، فلمّا أدخلهم داره ليشتغلوا بما أمرهم به أخذوا ينظرون إلي جدران داره وأرضها وسقفها حتّي صرفوا عمرهم في ذلك النظر وماتوا، ولم يعرفوا ما أراد منهم في تلك الدار، فكيف تري حالهم عند سيّدهم المنعم عليهم المسدي جليل إحسانه إليهم مع هذا الإهمال العظيم لطاعته، بل الانهماك الفظيع في معصيته؟!

واعلم أن مثال هؤلاء أجمع مثال بيت مظلم باطنه، وضع السراج علي سطحه حتّي استنار ظاهره، بل مثال بئر الحش، ظاهرها جص، وباطنها نتن، أو كقبور الموتي ظاهرها مزيّنة وباطنها جيفة، وكمثال رجل قصد ضيافة الملك إلي داره فجصص باب داره، وترك المزابل في صدر داره، وذلك غرور واضح جليّ.بل أقرب مثال إليه: رجل زرع زرعاً فنبت، ونبت معه حشيش يفسده، فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من أصله، فأخذ يجز رأسه ويقطعه، فلا يزال يقوي أصله وينبت، لأنّ مغارس النقائص ومنابت الرذائل هي الأخلاق الذميمة في القلب، فمن لا يطهر القلب منها لم تتمّ له الطاعات الظاهرة إلي مع الآفات الكثيرة.

بل كمريض ظهر به الجرب، وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء: أمّا الطلاء ليزيل ما علي ظاهره، والدواء ليقلع مادّته من باطنه، فقنع بالطلاء وترك الدواء، وبقي يتناول ما يزيد في المادّة، فلا يزال يطلي الظاهر، والجرب دائماً يتزايد في الباطن إلي أن أهلكه. نسأل اللّه تعالي أن يصلحنا لأنفسنا، ويبصرنا بعيوبنا، وينفعنا بما علمنا ولا يجعله حجّة علينا، فإنّ ذلك بيده، وهو أرحم الراحمين.(1)

ص: 617


1- 1321.. منية المريد، ص158 - 159.
23. الشيخ حسن بن المحقّق الثانيّ(رحمه الله) (حيّ في 972ق)

قال(رحمه الله) في كتابه عمدة المقال في كفر أهل الضلال:

والصوفيّة جوّزوا اتّحاده تعالي وحلوله في أبدان العارفين حتّي تمادي بعضهم وقال: انّه سبحانه نفس الوجود وكلّ موجود فهو اللّه تعالي، والذين يميلون إلي طريقتهم الباطلة يتعصّبون لهم ويسمّونهم الأولياء، ولعمري إنّهم رؤوس الكفرة الفجرة، وعظماء الزنادقة والملاحدة، وكان من رؤوس هذه الطائفة الضالّة المضلّة الحسين بن منصور الحلّاج وأبويزيد البسطاميّ.(1)

22. المحقّق أحمد بن محمّد المعروف بالمقدّس الأردبيليّ(رحمه الله) (ت 993ق)

قال(رحمه الله) ما ترجمته:

بعض المتأخرين من الإتحاديّة كمحي الدين العربي والشيخ عزيز النسفي وعبد الرزاق الكاشي، قد جاوزا الحدّ في الكفر والزندقة وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا : إنّ كلّ موجود هو اللّه، تعالي اللّه عما يقول الملحدون علواً كبيراً.

وممّا ينبغي أن يعلم هو أن سبب تماديهم وطغيانهم في الكفر هو اشتغالهم بقرائة كتب الفلاسفة، فلمّا وقفوا علي رأي أفلاطون القبطي وأتباعه اختارواذلك جهلاً وضلالاً. ولأجل أن لا يعرف أحد أنّهم السارقون لمقالات وعقائد الفلاسفة القبيحة، ألبسوها ثوباً جديداً وسمّوها باسم وحدة الوجود... ولو تأمّل أحد جيّداً سيعلم أنّ الفلاسفة خذلهم اللّه تعالي هم المسبّبين لضلال أكثر أهل الباطل لاسيما الملاحدة.(2)

ص: 618


1- 1322.. نقل عنه الحرّ العامليّ(قدس سره) في الاثنا عشريّة في الردّ علي الصوفيّه، ص51.
2- 1323.. حديقة الشيعة، ج2، ص754: بعضي از متأخرين اتحاديه مثل محي الدين عربي و شيخ عزيز نسفي و عبدالرزّاق كاشي كفر و زندقه را از ايشان گذرانيده به وحدت وجود قائل شده اند و گفته اند كه هر موجودي خداست، تعالي اللّه عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً. وأيضاً بايد دانست كه سبب تمادي و طغيان ايشان در كفر آن بود كه به مطالعۀ كتب فلاسفه مشغول شدند و چون بر قول افلاطون قبطي و اتباع او اطلاع يافتند از غايت غوايت شعار او را اختيار كردند، و از آن جهت كه كسي پي نبرد كه ايشان دزدان مقالات و اعتقادات قبيحۀ فلاسفه اند اين معني را لباس ديگر پوشانيده، وحدت وجودش نام كردند... اگر كسي نيكتامّل كند خواهد دانست كه سبب گمراهي اكثر اهل باطل خصوصاً ملاحده، فلاسفه شده اند خذلهم اللّه تعالي.

وقال أيضاً:

لو رفع أحد حجاب العمي عن بصره بيد الإنصاف ورفض العصبيّة،يري أنّ هذه الجماعة الصوفيّة إن اعتقدوا بإمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام) بعد رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم)، ومع ذلك اعتقدوا بألوهيّة حسين بن منصور الحلاج الكافر ونظرائه، بل بألوهيّة كلّ موجود، فهم كفار لأنّ ذلك الإعتقاد ينافي الإيمان والإسلام...

وإنّ الترّهات والكفريات التي تفوّه بها هؤلاء الزنادقة ومخربي شريعة سيّد المرسلين(صلي الله عليه آله و سلم) كثيرة قد لاتستوعبها كتب جمّة. وقد طعن عليهم العلامة الحلي رحمه اللّه في بعض كتبه لأجل هذه العقائد الباطلة، وكذا الشهيد(قدس سره) أشار في بعض مصنّفاته إلي حرمة سلوك طريقتهم.

وقد طعن علي هؤلاء الزنادقة كثير من علمائنا العارفين باللّه والرسول والأئمّة بالدليل والبرهان، لتعلم أنّ متأخري الشيعة لم يغترّوا بظاهر هؤلاء الجماعة السنيّة الذين هدموا دين خاتم المرسلين(صلي الله عليه آله و سلم).

ومن جملة ما يسجّل عليهم أنّهم -- كالملاحدة -- يفسّرون ويأوّلون الآيات والأخبار كيفما شاؤوا ليوافق مذهبهم. وكذا قولهم بالجبر والتشبيه والتجسيم والصورة والرؤية للّه تعالي، كما يظهر ذلك من كتبهم ومقالاتهم. وهذا من أسباب اقتراب بعض الأشاعرة وجملة من فرق النواصب إليهم لموافقتهم في بعض هذه العقائد.

ومن ذلك أيضاً أنّهم ادّعوا العلم بالغيب وسمّوه الكشف التامّ وقد تمادوا في ذلك ونسبوا العلم بالمغيبات إلي كفّار الهند ... .

فمن وقف علي سوء اعتقاد القوم ثمّ رآهم علي الحقّ فقد انحرف عن طريق الحقّ وتبرّء من مذهب الإماميّة، وهو مضلّ وحاله أسوأ من غيره. فلو ادّعي مثل هذا الشخص التشيّع فعلي الشيعة أن لا يقبلوا منهويرفضوه ولايعدّوه من جماعتهم، وذلك أنّه لامناص له من الإعتراف بالحلول والإتحاد و وحدة الوجود، وكذا لامناص له من القول بالجبر والمحبّة لليهود والنصاري والمجوس، ومحبّة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد وأبوسفيان وجميع الفسّاق والفجار والمشركين والكفار. ولو أظهر العداوة لهؤلاء الأشخاص فعلي الشيعة أن لا يقبلوا ذلك منه، ولو لعنهم فلايغترّ الشيعة بذلك، وذلك أنّهم يرون اللعنة عين الرحمة ... .

وكذا يجب أن يعلم أنّ أكثر الملاحدة جعلوا من مقالات هذه الطائفة

ص: 619

جُنّة وملاذاً لسوء اعتقادهم و إلحادهم، كما أشير اليه في الحديث لذي مرّ ذكره... وعلي المؤمن أن يعتقد في كلّ حال بأن الحلول والإتحاد وكذا وحدة الوجود كفر، وكذا علي الشيعي أن يعلم أنّ كلّ ما قاله أهل الحلول والإتحاد و وحدة الوجود عن أنفسهم وعن مشايخهم وعن ساير الموجودات، قد قاله النصاري في ألوهيّة عيسي عليه السلام وغلاة الشيعة في ألوهيّة الإمام علي وبعض الائمّة عليهم السلام. ومن العجب أن البعض قد قالوا بكفر النصاري والغلاة من الشيعة لأنّهم جعلوا عيسي أو بعض الأئمّة المعصومين إلهاً، لكنّهم عدّوا جماعة من غلاة السنّة الذين قالوا بألوهيّة الحلاّج الكافر وأشباهه بل ألوهيّة جميع الأشياء، من أكابر أولياء اللّه... فلعنة اللّه عليهم وعلي مشايخهم الزنديقين.(1)

ص: 620


1- 1324.. حديقة الشيعة، ج2، ص758-766: اگر كسي به دست انصاف غطاي عمي از پيش چشم حقّبين بردارد، و تعصّب بر كنار گذارد قائل خواهد شد كه اگر از روي فرض اين جماعت (صوفيّه) بعد از پيغمبرِ خدا بلافاصله عليبنابيطالب(عليه السلام) را امام دانند با اين حال به خدايي حسينبنمنصور ساحر كافر و امثال او بلكه به خدايي كلّ موجودات قائل بودن، با ايمان و اسلام منافات دارد. ديگر آنكه چون اين طايفه فريبندگانند، بعضي از ايشان خواسته اند كه به نوعي سخن گويند كه همۀ طايفه ايشان را از خود دانند و از خود شمارند، چنانكه حسينبنمنصور حلّاج پيش از آنكه رسوا شود با سنّيان سنّي بود و خود را از ايشان وا مي نمود، و در پيش شيعيان دعواي نيابت و وكالت حضرت صاحب(عليه السلام) مي كرد و در پيش ملحدان و بعضي از سفيهان كه مي دانست كه در مذهبي قائم نيستند دعواي خدائي مي نمود و نامهاي پيغمبران بر بعضي از مريدان خود گذاشته و ايشان را فرموده بود كه در اطراف عالم بگردنند و مردم را به خدائي او دعوت كنند. و يك دليل بر آنكه اكثر اين جماعت ملحدانند اين است كه چون دانسته اند كه حلّاج در پيش جماعتي بيمحابا دعواي خدايي كرده گفته اند كه: او كشف راز كرده از اين جهت او را حلّاج الاسرار لقب كرده اند، با آنكه در زمان بايزيد بسطامي و حلّاج هنوز كسي از اين قوم مردود به وحدت وجود قائل نشده بود و بعد از ايشان به مدّتي طايفۀ اتّحاديّه در كفر تمادي نموده وحدت وجود اختراع كردند... . مزخرفات و كفرهايي كه اين طائفه بيدين و خرابكنندۀ شريعتِ سيّد المرسلين(صلي الله عليه آله و سلم) گفته اند بسيار است و مجلّدات بسيار هم گنجايش نقل آن همه را ندارد. و علّامۀ حلّي(رحمه الله) در بعضي از كتابهاي خود اين قوم را به اين طور اعتقادهاي باطل طعن زده و شيخ شهيد(قدس سره) در بعضي از مصنّفات خود اشاره نموده كه طريقه و روش ايشان حرام است، و غير ايشان بسيار كس از عارفان يعني شناسندگان خدا و رسول و امامان به دليلو برهان اين گروه بي ايمان را طعن زده اند، تا بداني كه متأخرين شيعه فريب اين سنّيان و خراب كنندگان دين پيغمبر آخر الزمان را نخورده اند. و از جمله طعنهائي كه متوجّه ايشان است يكي آن است كه ايشان مانند ملحدان آيات و احاديث را برأي خود تفسير و تأويل مي كنند. ديگر آنكه به جبر و تشبيه و تجسيم و صورت و رؤيت قائلند؛ چنانچه از كتابها و گفتگوهاي ايشان ظاهر شده است. و يك جهت از جهاتِ ميلِ اشاعره و بعضي ديگر از طوايفِ نواصب به اين گروه اين است كه ايشان را درين عقائد با خود موافق يافته اند. و ديگر از جمله طعنهائي كه متوجّه ايشان است، يكي آن است كه دعوي دانستن غيب كرده اند و آن را كشف نام مي كنند، و در آن تمادي نموده، نسبتِ دانستن غيب به كفّار هند مي دهند... و اگر آن كس كه بر بد اعتقادي اين قوم مطّلع باشد به حقّيت ايشان معترف شود، آن كس دانسته از طريق حقّ انحراف نموده و از مذهب حقّ اماميّه بيزار گشته، گمراه كننده باشد و حالش از ديگران بدتر. پس اگر آن كس دعوي تشيّع كند بايد كه شيعه قبول آن نكند و او را از شيعه نشمارد؛ زيرا كه ناچار است او را از اعتراف نمودن به حلول و اتّحاد و وحدت وجود، و از قائل بودن به جبر، و محبّت ورزيدن با يهود و ترسا و گبر، و دوست داشتن ابيبكر و عمر و عثمان و معاويه و يزيد و ابوسفيان و جميع فسّاق و فجّار و ساير مشركين و كفّار، و اگر اظهار دشمني اينطور كسان نمايد بايد شيعه كه باور نكند، و اگر اينطور كسان را لعنت كند بايد كه شيعه فريب نخورد، از اين جهت كه ايشان لعنت را عين رحمت مي دانند... . و أيضاً بايد دانست كه اكثر ملحدان گفتگوهاي اين فرقه را سپر و گريزگاه بد اعتقادي و الحاد خود كرده اند، چنانكه در حديث اشاره به آن شد و گذشت... و به همه حال مومن بايد كه اعتقاد كند كه قائل به حلول شدن و دم از اتحاد و وحدت وجود زدن كفر است، و نيز شيعه بايد بداند كه هر وجه كه حيلوليّه و اتّحاديّه و وحدتيّه در باب خود و مشايخ خود و ساير موجودات مي گويند بعينه همين وجه را نصاري در بابخدائي حضرت عيسي(عليه السلام) و غلاة شيعه در باب خدائي عليّ(عليه السلام) و بعضي ديگر از ائمّۀ هدي(عليهم السلام) مي گويند، اين بغايت عجب است كه جمعي به كفر نصاري و غلات شيعه كه عيسي(عليه السلام) و بعضي از ائمّۀ معصومين(عليهم السلام) را خدا مي دانند اعتراف دارند، با اين حال جماعتي از غلاة سنّيان حلّاج كافر و اشباه او را كه جميع اشياء را خدا مي دانند از اكابر اولياء اللّه مي شمارند... فلعنة اللّه عليهم و علي مشايخهم الزنديقين.
20. الشيخ محمود بن محمّد بن عليّ بن حمزة الاهماليّ للسيّد الأمير معين الدين محمّد ابن شاه أبو تراب(رحمه الله)(حيّ في 994ق)

جاء في صورة إجازته الذي ذكره العلّامة في البحار:

أمّا بعد: فإنّ أحكام الشرع إنما تنقل وتروي وتعرف وتدري بعد سيّد الأنبياء من آله النجباء، فإنّ أهل البيت بما فيه أدري؛ فلا محالة جهالة ما لا يطابق طريقهم من وسوسة المتصوّفة، ومغالطة ما لا يوافق سبيلهم من سفسطة المتفلسفة

ص: 621

فضلاً عمّا يمثّل بالرأي القايسون، ويسوّل بالاستحسان المستحسنون، من سلك غير الآل ألحد، وتزندق من بغير طريقهم تعبّد.(1)

26. الفاضل الورع ملّا عبداللّه الشوشتريّ(رحمه الله)(ت 1021ق)

قال في رسالته الفارسيّه كما نقله البهبهانيّ في الخيراتيّة:

الظاهر أنّ أكثر ما يذكره هؤلاء _ الفلاسفة _ يوجب إزدياد الشكّ و الشبهة، ومع قطع النظر عن كلماتهم فإنّ الأولي عدم قرائتها لاسيَّما لمن ليس لهم فهماً عالياً مستقيماً. و الظاهر أنّ اشتغالهم بها ابتداءً و من دون عروض الشبهة اللازمة للازالة حرام، و من كان فهمه عالياً بحيث لا تضطرب نفسه من الشكّ و ملاحظة الشبهة نادرٌ جداً و معظم الناس حسب علمي لا يكونوا كذلك، وإن كان كلُّ شخص يري نفسه واصلاً إلي مراتب عالية، و قد وقع في مهالك عظمي إثر هذا الظن، فلم يشوّهون الفطرة السليمة ظناً لعلاجها، والعلاج بنفسه لا يحصل إلّا بلطف الله و توفيقه و التضرّع و الخشوع بمحضره و صفاء النيّة في هذا الحقل، إن كان معتقداً بوجود الصانع.(2)

28. الشيخ البهائيّ(قدس سره) (ت 1031ق)

قال في كشكوله:

من أعرض عن مطالعة العلوم الدينيّة وصرف أوقاته في إفادة الفنون الفلسفيّة، فعن قريب لسان حاله يقول عند شروع شمس عمره في الأفول:

ص: 622


1- 1325.. بحارالأنوار، ج105، ص185.
2- 1326.. خيراتيّة، ج2، ص262-263: گمان اين است كه اكثر آنچه ايشان يعني فلاسفه و متفلسفه ذكر كرده اند موجب زيادتي شك و شبهه مي گردد، و قطع نظر از كلمات ايشان نخواندن اولي وانسب است لاسيّما نسبت به جمعي كه فهم عالي مستقيم ندارند. و گمان اين است كه ايشان را اشتغال به آن ابتداء و بي عروض شبهه كه لازم الإزاله باشد حرام باشد، و آن قسم طبيعت عالي كه از تشكيك و ملاحظه شبهه مضطرب نگردد در كمال ندرت است و معظم عالميان از اين معني فيما يعلم عارياند، اگر چه نظر هر كس اين است كه به مرتبۀ عالي رسيده، و به واسطۀ آن گمان غلط در مهالك عظمي افتاده، پس چرا طبيعت سليم را ابتدا مريض سازند به گمان اين كه علاج خواهند كرد، و علاج خود ميسر نباشد مگر به لطف و توفيق الهي و تضرّع و خشوع به جناب الهي و تصفيۀ نيّت در اين باب اگر معتقد وجود صانع باشد.

كنت ابيع و اشتري بالاسلام طيلة حياتي

فاموت الان و يبقي مني الصنم و الوثن(1)

41. محمّد أمين الإسترآباديّ(رحمه الله) (ت 1033ق)

قال(رحمه الله):

في ذكر طرف من أغلاط الفلاسفة وحكماء الإسلام في علومهم والسبب فيه ما حقّقناه سابقاً: من أنّه لا يعصم عن الخطأ في مادّة الموادّ في العلوم التي مبادئها بعيدة عن الإحساس إلّا أصحاب العصمة: ومن أنّ القواعد المنطقيّة غير نافعة في هذا الباب، وإنّما نفعها في صورة الأفكار كإيجاب الصغري وكليّة الكبري.(2)

33. السيّد أمير محمّد باقر الداماد(رحمه الله)(ت 1041ق)

نقل عنه تلميذه السيّد حيدر الآمليّ ما محصّله:سئل عنه: هل يصحّ ما يقولون من أنّ التصوّف طريق ينتهي إلي الإلحاد؟ فقال: إنّه غلط فإنّ التصوّف هي بيت الإلحاد.

ونقل عنه أنّه كان يقول دائماً:

يحرم علي الجميع مطلقاً النظر في كتب الصوفيّة، إلّا علي الفاضل الديّن الذي يكون بصدد النقض علي أقوالهم، وكذا يحرم قرائة كتب الفلاسفة علي من ضعف يقينه وما قوي عقيدته، وذلك لأنّه يزلّ إثر قرائته لهذه الكتب بسرعة، فيمنعه عن الصراط المستقيم.(3)

39. مولي محمّد صالح المازندرانيّ(رحمه الله) (ت 1081ق)

قال في باب حدوث العالم من شرح الكافي:

المراد بالعالم ما سوي اللّه وهو مع تكثّره منحصر في الجوهر والعرض، وبحدوثه أن يكون وجوده مسبوقاً بالعدم، وقد اختلف الناس فيه فذهب المسلمون واليهود والنصاري والمجوس إلي أنّ الأجسام حادثة بذواتها وصفاتها، وذهب

ص: 623


1- 1327.. الكشكول، ج 1، ص214: تم--ام عم--ر ب-ا اسلام در داد و ستد بودم كنون مي ميرم و از من بت و زنّار مي ماند
2- 1328.. الفوائد المدنيّة، ص 471.
3- 1329.. نقل عنه البهبهانيّ في خيراتيّة، ج2، ص168.

أرسطو وأتباعه إلي أنّها قديمة بذواتها وصفاتها، وذهب أكثر الفلاسفة إلي أنّها قديمة بذواتها ومحدثة بصفاتها وقالوا لتوجيه ذلك ما لا طايل تحته.(1)

وقال في شرح الحديث: «فمن زعم أنّه يقدر علي نقض واحدة (من هذه الخصال السبع) فقد كفر»:(2)

كما زعمت الفلاسفة أنّ الأجسام قديمة لا أجل لها، وأنّ الفاعل الحقّ موجب لا إرادة له، وتمسّكوا لإثبات ذلك بمفتريات عقولهم الكاسدة ومكتسبات أوهامهم الفاسدة، وقد بيّن فساد ذلك في موضعه.(3)

وقال في شرح الحديث «أنشأ ما شاء حين شاء بمشيّ-ته»:(4)

أي: بمجرد مشيّته وإرادته بلا آلة ولا حركة ولا رويّة ولا مادّة، فقد ظلم نفسه وكفر باللّه العظيم من قال: إنّه تعالي فاعل بالإيجاب لا قدرة له علي فعله، ومن قال: إنّه لم يوجد إلّا شيئاً واحداً ولم يقدر علي إيجاد غيره، ومن قال: إنّه يحتاج في خلق شيء إلي مادّة فإنّ ذلك ليس من صفة ربّنا جلّ شأنه.(5).

27. المحقّق الميرزا رفيع النائينيّ(رحمه الله) (ت 1082ق)

قال(رحمه الله) ما ترجمته:

لابدّ أن يعلم إنّ الظاهر بل الضروريّ من الشريعة المقدّسة حدوث العالم - أي ما سوي اللّه - زماناً، بمعني أنّ لوجوده ابتداء، وزمان وجوده من الابتداء إلي الآن متناه، فالقول بقدم العالم - أي المعني المقابل لما ذكرناه - كما ذهبت إليه الحكماء.. باطل وفاسد... ومع هذا فقد ذهب في هذه الأعصار جمع من الجهّال، الفضلاء غير المطّلع بالشرع أو المقيّد به تبعاً للحكماء إلي قدم العالم. وقد أشرت إلي حقيقة الحال لأن يحترز كلّ من كان مقيّداً بالدين من متابعة هذه الفرقة التي لا دين لها.(6)

ص: 624


1- 1330.. شرح أصول الكافي، ج3، ص2.
2- 1331.. الكافي، ج1، ص149، ح1.
3- 1332.. شرح أصول الكافي، ج 4، ص354.
4- 1333.. الكافي، ج1، ص89، ح3.
5- 1334.. شرح أصول الكافي، ج3، ص158.
6- 1335.. شجرة الهيّة، ص48.
37. محمّد طاهر بن محمّد بن حسين القميّ(رحمه الله) (ت 1089ق)

قال المحقّق الأردبيليّ:

محمّد طاهر بن محمّد بن حسين القميّ مد ظلّه العالي، الإمام العلّامة المحقّق المدقّق، جليل القدر، عظيم المنزلة، دقيق الفطنة، ثقة ثبت عيّن ديّن، متصلّب في الدين لا يحصي مناقبه وفضائله، جزاه اللّه تعالي أفضل جزاء المحسنين له كتب نفيسة منها:... وكتاب جليل القدر والمرتبة في الردّ علي حكمة الفلاسفة وغيرها من الكتب... ورسالة في الردّ علي الصوفيّة.(1)

30. الفيض الكاشانيّ(رحمه الله)(ت 1091ق)

فقد جاء في كتاب قرّة العين أنّه قال:

إعلموا إخواني - هداكم اللّه كما هداني - إنّي ما اهتديت إلّا بنور الثقلين وما اقتديت إلّا بالأئمّة المصطفين، وبرئت إلي اللّه ممّا سوي هدي اللّه، فإنّ الهدي هدي اللّه. لا أكون متكلماً ولا متفلسفاً ولا متصوفاً ولا متكلفاً بل مقلّداً للقرآن و حديث النبيّ وتابعاً لأهل البيت(عليهم السلام)، ملولا من كلمات الطوائف الأربعة، بريئاً ممّا سوي القرآن وحديث اهل البيت(عليهم السلام) وما لا يرتبط بهما.

كلما قرأته ذهب عن خاطري الا الكلام عن الصديق الذي أكرره(2)وبهذا المضمون قال في رسالة الانصاف؛(3) وقال أيضاً:

منهم من أولع بالنظر إلي كتب الفلاسفة ليس له طول عمرهم سواه ولا له في

ص: 625


1- 1336.. جامع الرواة، ج2، ص133.
2- 1337.. عنه في قرّة العيون، ص332 إعلموا إخواني - هداكم اللّه كما هداني - إنّي ما اهتديت إلّا بنور الثقلين وما اقتديت إلّا بالأئمّة المصطفين، وبرئت إلي اللّه ممّا سوي هدي اللّه، فإنّ الهدي هدي اللّه. نه متكلّمم و نه متفلسف و نه متصوّف و نه متكلّف، بلكه مقلّد قرآن وحديث پيغمبر، و تابع اهلبيت(عليهم السلام) آن سرور، از سخنان حيرتافزاي طوائف أربع ملول و كرانه، و از ما سواي قرآن مجيد وحديث اهلبيت(عليهم السلام) و آنچه به اين دو آشنا نباشد بيگانه. من هرچه خوانده ام همه از ياد من برفت إلّا ح--ديث دوست كه تكرار ميكنم
3- 1338.. عنه في مستدرك سفينة البحار، ج8، ص302.

غيره هواه... ومن هؤلاء من يتعلّل بأنّ غرضه من ذلك تحصيل الإستعداد لفهم الحديث والقرآن، وكذلك سوّلت له نفسه والشيطان مع أنّه لا يفرغ للحكمة العلميّة، لا المنقولة عنهم ولا النبويّة.(1)

42. القاضي سعيد القمّيّ(رحمه الله) (ت 1103ق)

قال(رحمه الله):

وهذا من قبيل قول بعضهم: إنّ الكلّي موجود بمعني كون أفراده موجودات. والقائل به وإن كان في زمرة المسلمين لكنّه كفر خفيّ عند العارفين، وهو كفر أهل العلم من المتكلّمين والمتفلسفين وبعض المتصوّفة وأكثر النصاري.(2)

24. الشيخ الحرّ العامليّ(قدس سره)(ت 1104ق)قال(رحمه الله) بعد نقل كلام عمدة المقال:

إنّ بطلان هذا الإعتقاد (أي وحدة الوجود و...) من ضروريّات مذهب الشيعة الإماميّة لم يذهب إليه أحد منهم، بل صرّحوا بإنكاره وأجمعوا علي فساده وشنّعوا علي من قال به، فكلّ من قال به خرج عن مذهب الشيعة، فلا تصحّ دعوي التشيّع من القائل به، وهو كاف لنا في هذا المقام كما لا يخفي علي ذوي الأفهام.(3)

29. العلّامة الأعظم غوّاص بحار أئمّة الأطهار المولي محمّد باقر المجلسيّ(قدس سره) (ت 1110ق)

قد أسلفنا كثيراً من كلماته في ضلال هذه الفرقة والحكم بكفرها ولنذكر هنا جملة أخري من كلماته، قال(رحمه الله) عند البحث عن حدوث العالم:

المقصد الخامس في دفع بعض شبه الفلاسفة الدائرة علي ألسنة المنافقين، والمشكّكين القاطعين لطريق الطالبين للحقّ واليقين.(4)

وفي قريب من عصرنا لمّا ولع الناس بمطالعة كتب المتفلسفين، ورغبوا عن

ص: 626


1- 1339.. نقل عنه البهبهاني في الخيراتيّة، ج2، ص259.
2- 1340.. التعليقة علي الفوائد الرضويّة (القاضي سعيد القمّي)، ص 64.
3- 1341.. الاثنا عشريّة في الردّ علي الصوفيّة، ص 59.
4- 1342.. بحارالأنوار، ج54، ص278.

الخوض في الكتاب والسنّة وأخبار أئمّة الدين، وصار بُعْدُ العهد عن أعصارهم: سبباً لهجر آثارهم، وطمس أنوارهم، واختلطت الحقائق الشرعيّة بالمصطلحات الفلسفيّة صارت هذهالمسألة معترك الآراء ومصطدم الأهواء، فمال كثير من المتسمّين بالعلم المنتحلين للدين، إلي شبهات المضلّين، وروّجوها بين المسلمين فضلّوا وأضلّوا، وطعنوا علي أتباع الشريعة حتّي ملّوا وقلّوا، حتّي أنّ بعض المعاصرين منهم يمضغون بألسنتهم، ويسوّدون الأوراق بأقلامهم أن ليس في الحدوث إلّا خبر واحد هو «كان اللّه ولم يكن معه شيء» ثمّ يؤوّلونه بما يوافق آراءهم الفاسدة، فلذا أوردت في هذا الباب أكثر الآيات والاخبار المزيحة للشكّ والارتياب، وقفّيتها بمقاصد أنيقة، ومباحث دقيقة، تأتي بنيان شبههم من قواعدها وتهزم جنود شكوكهم من مراصدها، تشييدا لقواعد الدين، وتجنّباً من مساخط ربّ العالمين، كما روي عن سيّد المرسلين(صلي الله عليه آله و سلم):

إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه، وإلّا فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.(1)-(2)

وقال في البحث عن حقيقة الملائكة:

اعلم أنّه أجمعت الإماميّة بل جميع المسلمين إلّا من شذّ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب أصولهم وتضييع عقائدهم علي وجود الملائكة، وأنّهم أجسام لطيفة نورانيّة أولي أجنحة مثني وثلاث ورباع وأكثر، قادرون علي التشكّل بالأشكال المختلفة، وأنّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما يشاء من الأشكال والصور علي حسب الحكم والمصالح، ولهم حركات صعوداً وهبوطاً، وكانوا يراهم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام). والقول بتجرّدهم وتأويلهم بالعقول والنفوس الفلكيّة والقوي والطبائع وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة تعويلاً علي شبهات واهية واستبعادات وهميّة زيغ عن سبيل الهدي، واتّباع لأهل الجهل والعمي.(3)

وقال(رحمه الله) بعد نقل كلام لجالينوس في بيان تشريح الأعضاء وفوائدها، وأنّه بيّن الفرق في ما بين إيمان موسي وإيمانه وأفلاطون وسائر اليونانيّين، فقال(قدس سره):

ص: 627


1- 1343.. الكافي، ج1، ص54، ح2.
2- 1344.. بحارالأنوار، ج54، ص234.
3- 1345.. بحارالأنوار، ج56، ص202.

انتهي كلامه ضاعف اللّه عذابه وانتقامه. وأقول: قد لاح من الكلام الرديݘ المشتمل علي الكفر الجليّ أمور:

الأوّل: ما أسلفنا من أنّ الأنبياء المخبرين عن وحي السماء لم يقولوا بتوقّف تأثير الصانع - تعالي شأنه - علي استعداد الموادّ، ولا استحالة تعلّق إرادته بإيجاد شيء من شيء من دون مرور زمان أو إعداد، وله أن يخلق كلّ شيء كان من أيّ شيء أراد.

الثاني: أنّ الحكماء لم يكونوا يعتقدون نبوّة الأنبياء ولم يؤمنوا بهم، وأنّهم يزعمون أنّهم أصحاب نظر وأصحاب آراء مثلهم، يخطئون ويصيبون، ولم يكن علومهم مقتبسة من مشكاة أنوارهم كما زعمه أتباعهم.

الثالث: أنّهم كانوا منكرين لأكثر معجزات الأنبياء:، فإنّ أكثرها ممّا عدّوها من المستحيلات.

الرابع: أنّهم كانوا في جميع الأعصار معارضين لأرباب الشرائع والديانات كما هم في تلك الأزمنة كذلك.(1)

وقال(رحمه الله) في مبحث البرزخ وبقاء النفس بعد الموت:

لمّا كانت هذه المسألة من أعظم الأصول الإسلاميّة وقد أكثرت المتفلسفة والملاحدة الشبَه فيها ورام بعض من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه تأويلها وتحريفها أطنبت الكلام فيها بعض الإطناب.(2)

وقال في مبحث المعاد:

اعلم أنّ القول بالمعاد الجسمانيّ مما اتّفق عليه جميع الملّيّين وهو من ضروريّات الدين ومنكره خارج عن عداد المسلمين، والآيات الكريمة في ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها ولا الطعن فيها، وقد نفاه أكثر ملاحدة الفلاسفة تمسّكاً بامتناع إعادة المعدوم ولم يقيموا دليلاً عليه، بل تمسّكوا تارة بادّعاء البداهة، وأخري بشبهات واهية لا يخفي ضعفها علي من نظر فيها بعين البصيرة واليقين وترك تقليد الملحدين من المتفلسفين.(3)

وقال أيضاً:

ص: 628


1- 1346.. بحارالأنوار، ج57، ص194.
2- 1347.. بحارالأنوار، ج6، ص281.
3- 1348.. بحارالأنوار، ج7، ص47.

اعلم أنّ الإيمان بالجنّة والنار علي ما وردتا في الآيات والأخبار من غير تأويل من ضروريّات الدين،ومنكرهما أو مؤوّلهما بما أوّلت به الفلاسفة خارج من الدين.(1)

وقال(رحمه الله) في بيان تباين طريقتهم مع طريقة الأنبياء وعلّة انتسابهم إلي مولي الموحّدين(عليه السلام):

اعلم أنّ دأب أصحابنا رضي اللّه عنهم في إثبات فضائله صلوات اللّه عليه الاكتفاء بما نقل عن كلّ فرقة من الإنتساب إليه(عليه السلام) لبيان أنّه كان مشهوراً في العلم مسلّماً في الفضل عند جميع الفرق، وإن لم يكن ذلك ثابتاً، بل وإن كان خلافه عند الإماميّة ظاهراً، كانتساب الأشعريّة وأبي حنيفة وأضرابهم إليه، فإنّ مخالفتهم له(عليه السلام) أظهر من تباين الظلمة والنور.

ومن ذلك ما نقله ابن شهرآشوب(رحمه الله) من كلامه في الفلسفة، فإنّ غرضه أنّ هؤلاء أيضاً ينتمون إليه ويروون عنه، وإلّا فلا يخفي علي من له أدني تتبّع في كلامه(عليه السلام) أنّ هذا الكلام لا يشبه شيئاً من غرر حكمه وأحكامه، بل لا يشبه كلام أصحاب الشريعة بوجه، وإنّما أدرجت فيه مصطلحات المتأخّرين، وهل رأيت في كلام أحد من الصحابة والتابعين أو بعض الأئمّة الراشدين لفظ الهيولي أو المادّة أو الصورة أو الاستعداد أو القوّة؟ والعجب أنّ بعض أهل دهرنا ممّن ضلّ وأضلّ كثيراً يتمسّكون في دفع ما يلزم عليهم من القول بما يخالف ضرورة الدين إلي أمثال هذه العبارات. وهل هو إلّا كمن يتعلّق بنسج العنكبوت للعروج إلي أسباب السماوات؟!

أو لا يعلمون أنّ ما يخالف ضرورة الدين ولو ورد بأسانيد جمّة لكان مؤوّلاً أو مطروحاً؟ مع أنّ أمثال ذلك لا ينفعهم فيما هم بصدده من تخريب قواعد الدين، هدانا اللّه وإيّاهم إلي سلوك مسالك المتّقين، ونجّانا وجميع المؤمنين من فتن المضلّين.(2)

وقال(رحمه الله) في بيان قول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة»(3)

ويحتمل أن يكون المراد به المنع عن مجالسة أرباب الشكوك والشبهات، الذين

ص: 629


1- 1349.. بحارالأنوار، ج8، ص205.
2- 1350.. بحارالأنوار، ج40، ص173.
3- 1351.. الكافي، ج2، ص378، ح10.

يوقعون الشُّبَه في الدين، ويعدّونها كياسة ودقّة فيضلّون الناس عن مسالك أصحاب اليقين كأكثر الفلاسفة والمتكلّمين، فمن جالسهم وفاوضهم لا يؤمن بشيء، بل يحصل في قلبه مرض الشكّ والنفاق، ولا يمكنه تحصيل اليقينفي شيء من أمور الدين، بل يعرضه إلحاد عقليّ لا يتمسّك عقله بشيء ولا يطمئنّ في شيء كما أنّ الملحد الدينيّ لا يؤمن بملّة، فهم كما قال ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾.(1)

وأكثر أهل زماننا سلكوا هذه الطريقة، وقلّما يوجد مؤمن علي الحقيقة، أعاذنا اللّه وإخواننا المؤمنين من ذلك، وحفظنا عن جميع المهالك.(2)

وقال في بيان حديث عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «من رقّ وجهه رقّ علمه»(3)

وقيل: المراد برقّة العلم الاكتفاء بما يجب ويحسن طلبه، لا الغلوّ فيه، بطلب مالا يفيد بل، يضرّ كعلم الفلاسفة ونحوه.(4)

وقال في مفتتح مرآة العقول في ذكر السبب لتأليف هذا الكتاب:

إنّي لمّا ألفيت أهل دهرنا علي آراء متشتّتة وأهواء مختلفة قد طارت بهم الجهالات إلي أوكارها، وغاصت بهم الفتن في غمارها، وجذبتهم الدواعي المتنوّعة إلي أقطارها، وحيّرتهم الضلالة في فيافيها وقفارها.

فمنهم من سمّي جهالة أخذها من حُثالة(5) من أهل الكفر والضلالة، المنكرين لشرائع النبوّة وقواعد الرسالة حكمة، واتّخذ من سبقه في تلك الحيرة والعمي أئمة، يوالي من والاهم ويعادي من عاداهم، ويفدي بنفسه من اقتفي آثارهم، ويبذل نفسه في إذلال من أنكر آراءهم وأفكارهم، ويسعي بكلّ جهده في إخفاء أخبار الأئمّة الهادية صلوات اللّه عليهم وإطفاء نورهم ﴿وَيَأْبَي اللهُ إلنا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.(6)

ومنهم من يسلك مسالك أهل البدع والأهواء المنتمين إلي الفقر والفناء، ليس

ص: 630


1- 1352.. البقرة2.، الآية 10.
2- 1353.. بحارالأنوار، ج71، ص214.
3- 1354.. الكافي، ج2، ص106، ح3.
4- 1355.. بحارالأنوار، ج68، ص331.
5- 1356.. الحثالة بالضمّ: الرديّ من كلّ شيء.
6- 1357.. التوبة9.، الآية 32.

لهم في دنياهم وأُخراهم إلّا الشقاء والعناء، فضحهم اللّه عند أهل الأرض كما خذلهم عند أهل السماء، فهم اتّخذوا الطعن علي أهل الشرايع والأديان بضاعتهم، وجعلوا تحريف العقائد الحقّة عن جهاتها وصرف النواميس الشرعيّة عن سماتها بضمّ البدع إليها صناعتهم.(1)وقال في مرآة العقول، في ذيل قول الكلينيّ(رحمه الله): باب حدوث العالم وإثبات المحدث:

أقول: أراد بالعالم: ما سوي اللّه تعالي، والمراد بحدوثه: كونه مسبوقاً بالعدم وكون زمان وجوده متناهياً في جانب الأوّل، وقد اختلف الناس فيه، فذهب جميع الملّيّين من المسلمين واليهود والنصاري والمجوس إلي أنّها حادثة بذواتها وصفاتها وأشخاصها وأنواعها، وذهب أكثر الفلاسفة إلي قدم العقول والنفوس والأفلاك بموادّها وصورها وقدم هيولي العناصر، وإليه ذهبت الدهريّة والناسخيّة. ولمّا لم يكن في صدر الإسلام مذاهب الفلاسفة شايعة بين المسلمين، وكان معارضة المسلمين في ذلك مع الملاحدة المنكرين للصانع كانوا يكتفون غالباً في إثبات هذا المدّعي بإثبات الصانع، مع أنّه كان مقرّراً عندهم أن التأثير لا يعقل في القديم.(2)

وقال(رحمه الله) في حقّ اليقين ما ترجمته:

إعلم! انّ لزوم الإعتقاد بالجنّة والنار الجسمانيين علي ما صرّحت به الآيات والأخبار المتواترة من ضروريّات دين الإسلام، فمن أنكر الجنّة والنار كالملاحدة أو أوّلهما كالفلاسفة فهو كافر بلاشك...

ومن كان له أدني حظّ من الشعور والإيمان حين يرجع إلي عقائد الفلاسفة الباطلة وكلماتهم الواهية يعلم أنّ أكثرها لا يوافق الإيمان بشرايع الأنبياء. وانّ بعض من اعتقد بأصولهم حينما يضطرّ أن يعيش مع المسلمين، يتفوّه ببعض ضروريات الدين خوفاً من القتل أو التكفير، لكنّ قلبه يأبي عن ذلك ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.(3)

وقد يتظاهرون ببعض أصول الدين استهزاءً، وحينما يخلون بتلاميذهم

ص: 631


1- 1358.. مرآة العقول، ج 1، ص2.
2- 1359.. مرآة العقول، ج1، ص235.
3- 1360.. آلعمران3.، الآية 167.

وخواصّهم يقولون: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَ-حْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾،(1) وقد اقتنعوا بالإيمان الظاهري ﴿يَرْضَونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وتَأْبي قُلُوبُهُم وأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾.(2)

فعُلِم أنّ الإعتقاد بأصول الحكماء لا يجتمع مع أكثر ضروريّات الدين، فليس لهم إلّا أن يجحدوا نبوة الأنبياء، أو أن يحسبونهم من أرباب الحيلوالألغاز الغامضة الذين ليس لهم همّ في حياتهم إلّا إضلال الناس وأغرائهم بالجهل المركّب، وتلبيس الباطل في لباس الحقّ، وإيكال هدايتهم إلي هذه الفرقة الضالّة.

والأعجب من كلّ ذلك، قوم يزعمون أنّهم من أهل الشرع ويهتمّون كثيراً باتيان الآداب والمستحبات، لكنّهم يدرّسون هذه الكتب اعتقاداً! ولم يُري أن تصدّوا للردّ عليهم والإنكار علي شبهاتهم، وحينما يتصدّي أحد للنقض وإبطال هذه العقائد يلقون الشبهة علي العوام من جهة أخري علّهم يروّجون عقائدهم الباطلة، ويطعنون علي من يلعن صاحب هذه العقائد، ويفخرون أنّهم ليسوا من اللاعنين ﴿يُرِيْدُوْنَ لِيُطْفِئُوا نُوْرَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُوْنَ﴾. (3),(4)

ص: 632


1- 1361.. البقرة2.، الآية 14.
2- 1362.. التوبة9.، الآية 8.
3- 1363.. الصفّ61.، الآية 8.
4- 1364.. حقّ اليقين، ص 446: بدان! وجوب ايمان به بهشت و دوزخ جسماني بهنحوي كه در صريح آيات و اخبار متواتره وارد شده است از ضروريّات دين اسلام است، و كسي كه مطلقاً بهشت و دوزخ را انكار كند مانند ملاحده يا تأويل كند آنها را مانند فلاسفه بيشك كافر است، و فلاسفه در اين باب دو طايفه اند... و كسي كه اندك شعوري و تديّني داشته باشد چون رجوع به عقائد باطله و كلمات واهيۀ ايشان مي كند مي داند كه اكثر آنها با ايمان به شرايع انبيا جمع نمي شود، و جمعي كه اعتقاد به اصول ايشان دارند و به ضرورت به معاشرت مسلمانان گرفتار شده اند از ترس قتل و تكفير لفظي چند از ضروريّات دين بر زبان جاري مي كنند و در دل خلاف آنها را قائلند ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. و گاهي بر سبيل استهزا اظهار بعضي از اصول دين مي كنند و چون با شاگردان و خواصّ خود خلوت مي كنند مي گويند: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَ-حْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، و با ايمان ظاهري قناعت كرده اند ﴿يَرْضَونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وتَأْبي قُلُوبُهُم وأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾. پس معلوم شد كه اعتقاد به اصول حكما با اعتقاد باكثر ضروريات دين جمع نمي شود، پس يا منكر نبوت انبيا بايد بشوند و يا ايشان را العياذ باللّه از بابت ارباب حيل و معميات دانند كه در تمام عمر مدارشان بر اين بوده كه مردم را به ضلالت و جهل مركب اندازند و باطل را در لباس حق به مردم نمايند، و هدايت ايشان را به اين فرقه ضالّه حواله كرده باشند. و از همه غريب تر آن است كه جمعي كه خود را از اهل شرع مي شمارند و اهتمام عظيم در باب اتيان به آداب و مستحبّات مي نمايند اين كتب ضلال را از روي اعتقاددرس مي گويند!! و كسي از ايشان نشنيده كه در مقام ردّ و انكار و دفع شبهات ايشان درآيند، و كسي كه ردّ و انكار اين عقائد نمايد، از جهت ديگر شبهات بر عوام القاء مي كنند كه شايد ترويج عقائد باطلۀ خود نمايند يا توانند نمود، و طعن مي كنند بر كسي كه بر ارباب اين عقائد لعن كند و فخر مي كنند كه ما از جمله لاعنين نيستيم ﴿يُرِيْدُوْنَ لِيُطْفِئُوا نُوْرَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُوْنَ﴾.
32. العلّامة المحقّق العارف محمّد إسماعيل بن الحسين المازندرانيّ الخواجوئيّ(رحمه الله)(1365)(ت 1173ق)

قال(رحمه الله):

ومخالفة ما ذكرناه لقوانين الحكمة الفلسفيّة غير مضرّة، لأنّها نظريّات لم تثبت ببرهان، فالقول بها وهميّ شعريّ لا يعارض ظواهر النصوص الجليّة الشرعيّة.(1)

وقال في مبحث الطينة:

والأظهر أنّ المراد بالطينة هنا كما سبق شخص النطفة التي خلق منها الميّت تبقي في القبر علي هيأة الكرة إلي أن يعاد في القيامة، ولا استبعاد في بقائها بحالها بالنظر إلي قدرة اللّه القادر، فلا حاجة إلي تأويلها بالصورة البرزخية الباقية بعد الموت، ولا إلي القول بأنّها إنّما لا تبلي لأنّها لا تقبل البلي، لأنّه خلاف الأظهر بل هو خلاف الشرع الأنور، لابتنائه علي القواعد الفلسفيّة.

وقال في الرسالة التي كتبها في تفسير الآية الشريفة ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَي الْمَاءِ﴾(2) ما ترجمته:

من قال بوجود عقل مجرّد ذاتاً وفعلاً فقد قال بقدمه، وهو يستلزم القول بقدم العالم، والقائل بقدم ما سوي اللّه -- وإن كان من الإماميّة -- كافر بإجماع المسلمين.(3).

ص: 633


1- 1366.. جامع الشتات، ص 59.
2- 1367.. هود11.، الآية 7.
3- 1368.. شرح حديث عرض دين حضرت عبدالعظيم حسني، ص24.
35.السيّد نعمة اللّه الجزائري(رحمه الله) (ت 1173ق)

قال في الأنوار النعمانيّة:

إنّ أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا علي العقول واستدلالاتها، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء: حيث لم يأت علي وفق عقولهم، حتّي نقل أن عيسي علي نبيّنا وآله وعليه السلام لمّا دعا أفلاطون إلي التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسي رسول إلي ضعفة العقول، وأمّا أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلي إرسال الأنبياء... .

وإن كان المراد به ما كان مقبولاً بزعم المستدلّ به واعتقاده، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ولا الطعن علي من يذهب إلي مذهب يخالف ما نحن عليه،... مع أنّ الأصحابه ذهبوا إلي تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم، وتفسيق أكثر طوائف المسلمين، وما ذاك إلّا لأنّهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدّوها من دلائل العقل.(1)

36. المحدّث البحرانيّ صاحب الحدائق(رحمه الله) (ت 1186ق)

فإنّه قد حسّن ما قاله السيّد نعمة اللّه الجزائريّ في عبارته المتقدّم حيث قال:

ولم أر من ردّ ذلك وطعن فيه سوي المحدّث المدقّق السيّد نعمة اللّه الجزائريّ طيّب اللّه مرقده في مواضع من مصنّفاته: منها كتاب الأنوار النعمانيّة، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته وكثرة اطّلاعه علي الأخبار وجودة تبحّره في العلوم والآثار. حيث قال فيه ونعم ما قال، فإنّه الحقّ الذي لا تعتريه غياهب الإشكال: إنّ أكثر أصحابنا... إلي آخر عباراته.(2)

21. آغا محمّد باقر بن محمّد باقر الهزار جريبيّ الغرويّ(رحمه الله)(ت 1205ق)

قال الميرزا النوري(قدس سره):

العالم الجليل آغا محمّد باقر بن محمّد باقر الهزار جريبيّ الغرويّ. قال بحر العلوم في إجازته للسيّد حيدر اليزديّ: وما أخبرنا به بالوجوه الثلاثة المذكورة شيخنا

ص: 634


1- 1369.. الأنوار النعمانية، ج2، ص132؛ نقل عنه المحدّث البحرانيّ في الحدائق الناظرة، ج1، ص126-128.
2- 1370.. الحدائق الناظرة، ج 1، ص126.

العالم العامل العارف،وأستاذنا الفاضل، الحائز لأنواع العلوم والمعارف، جامع المعقول والمنقول، ومقرّر الفروع والأصول، جمّ المناقب والمفاخر، محمّد باقر بن محمّد باقر الهزارجريبيّ... قال في آخر إجازته المبسوطة لبحر العلوم طاب ثراهما - وهي موجودة عندي بخطّه الشريف كسائر إجازات مشايخه4 بخطوطهم في مجموعة شريفة -: وأوصيه أيّده اللّه بالكدّ في تحصيل المقامات العالية الأخرويّة سيّما الجِدّ في نشر أحاديث أهل بيت النبّوة والعصمة صلوات اللّه وسلامه عليهم، ورفض العلائق الدنيّة الدنيويّة، وإيّاه وصرف نقد العمر العزيز في العلوم المموّهة الفلسفيّة، فإنّها ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَ-حْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾.(1)

31. السيّد محمّد مهديّ بحر العلوم(قدس سره)(ت 1212ق)

قال(رحمه الله) في إجازته للعالم العامل السيّد عبدالكريم بن السيّد محمّد بن السيّد جواد بن العالم الجليل السيّد عبداللّه سبط المحدّث الجزائريّ، بعد كلام له في اعتناء السلف بالأحاديث ورعايتها دراية وروايةً وحفظاً، ما لفظه:

ثمّ خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، جانبوا العلم والعلماء، وباينوا الفضل والفضلاء، عمّروا الخراب وأخلدوا إلي التراب نسوا الحساب وطلبوا السراب، سكنوا البلدة الجلحاء وتوطّنوا القرية الوحشاء، اطمأنّوا بمسرّات الأيّام الممزوجة بالهموم والآلام، واستلذّوا لذائذها المعجونة بأقسام السموم والأسقام. فهم بين من اتّخذ العلم ظهريّاً والعلماء سُخريّاً، وأولئك هم العوامّ الذين سبيلهم سبيل الأنعام، فهم في غيّهم يتردّدون، وفي تيههم يعمهون. وبين من سميّ جهالة اكتسبها من رؤساء الكفر والضلالة، المنكرين للنّبوّة والرسالة، حكمة وعلماً، واتّخذ من سبقه إليها أئمّة وقادة، يقتفي آثارهم ويتّبع منارهم، يدخل فيما دخلوا وإن خالف نصّ الكتاب، ويخرج عمّا خرجوا وإن كان ذلك هو الحقّ الصواب، فهذا من أعداء الدين، والسعاة في هدم شريعة سيّد المرسلين، وهو مع ذلك يزعم أنّه بمكان مكين، ولا يدري أنّه لا يزن عند اللّه جناح بعوض مهين. وثالث: رضي من العلم بادّعاء العجائب في الذات والصفات والأسماء والأفعال، والوصال المغني عن الأعمال، المشوّش لقلوب الرعاع والجهّال، وهؤلاء هم الباطنيّة من أهل البدع والأهواء، المنتمين إلي الفقر

ص: 635


1- 1371.. خاتمة مستدرك الوسائل، ج2، ص59- 61.

والفناء، وهم أضرّ شيء في البلاد علي ضعفاء العباد... وحسب هؤلاء القوم من تحصيلهم هذا دعاء أميرالمؤمنين وإمام المتّقين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بإعماء الخبر وقطع الأثر أو بدقّ الخيشوم وجزّ الحيزوم. وقول رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم): «من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار»(1). وكفاهم خزياً وذلّاً تشبيههم في كلام الملك الجبّار تارة بالكلب، والأخري بالحمار الذي يحمل الأسفار، ذلك الخزي الشنيع، والذلّ الفظيع، أعاذنا اللّه وجميع الطالبين من موجبات الآثام، ومن أخلاق هؤلاء اللئام.(2)

34. العلّامة آقا محمّد عليّ بن الوحيد البهبهانيّ(رحمه الله)(ت 1216ق)

فقد اشتهر بالنكير علي الفلاسفة والصوفيّة، وملأ بذلك كتابه خيراتيّة در إبطال طريقه صوفيّة وقد نقلنا بعض الشي ء عنه، وقال أيضاً:

اعلم أنّ من البدع المستحدثة بعد وفاة أشرف الكائنات(صلي الله عليه آله و سلم)، اختلاط مذهب الإسلام مع القواعد الفاسدة للفلاسفة الذين كانوا حكماء اليونان والملط. ومن أجل ذلك أوّلوا الآيات والأخبار تأويلات بعيدة غير سديدة ... .

وقد روّجوا عقائد الملاحدة والزنادقة اعتماداً علي التأويل وتبعهم علي ذلك البلهاء. إلي أن آل الأمر أنّ ثلاثة من الزنادقة والملاحدة تشاوروا فيما بينهم وقالوا: لو أنكرنا التنزيل فلن يقبل منا أحد بل يقتلوننا، كما فعلوا في مقابل معارضة ابن المقفّع وأصحابه مع القرآن وهي قصّة مشهورة ومعروفة، فقالوا: علينا الإقرار بالتنزيل ثمّ تأويل الآيات والروايات. فقاموا بتأويل الاحاديث وأضلّوا السفهاء والبلهاء.(3)

ص: 636


1- 1372.. الكافي، ج1، ص47، ح6؛ مستدرك الوسائل، ج11، ص382، ح7[13315] عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام).
2- 1373.. خاتمة مستدرك الوسائل، ج2، ص61-62.
3- 1374.. خيراتيّة، ج2، ص193-194: بدان كه از جمله بدع مستحدثه بعد از وفات اشرف كائنات(صلي الله عليه آله و سلم) آن است كه مذهب اسلام را با عقايد فاسدۀ فلاسفه كه حكماي يونان و ملط بودند مخلوط ساختند، و به آن سبب آيات و روايات را تأويلات بعيده بلكه غير سديده نمودند... و مذاهب ملاحده و زنادقه از راه تأويل رواج تمام يافت، و ابلهان بدان گرويده اند، تا آنكه سه كس از زنديقان و ملحدان نشسته با يكديگر در باب تخريب دين مشورت كردند، عاقبت با يكديگر گفتند كه اگر انكار تنزيل بكنيم كسي از ما نخواهد شنيد بلكه ما را خواهند كشت، چنانكه در مقابل قرآن گفتن ابن المقفّع و رفقاي او مشهور و در كتب مذكور است، پس گفتند كه بايد اقراربه تنزيل كنيم و آيات و روايات را تأويل كنيم. پس اين بيدينان در مقام تاويل روايات شدند و ابلهان و بيخردان را گمراه ساختند.

وقال أيضاً ما معرّبه:ان قالوا: أنّ الفلسفة وإن دخلت بين المسلمين في زمن المأمون، وما كانت في صدر الإسلام، إلّا أنّ لها التأثير التامّ في فهم الأحاديث النبويّة و وعي المعارف الدينيّة.

قلنا: كيف يفتقر في كمال الدين إلي الفلسفة، مع أنّه نزلت هذه الآية في يوم الغدير: ﴿أَلْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾(1) ... وكيف يكون تتبّع الفلسفة دخيلاً في فهم مقاصد الدين مع مخالفتها لجميع الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة.(2)

ثمّ ذكر جملة من مخالفتهم لضرورة الدين.

43. المحقّق الميرزا القمّي صاحب القوانين(رحمه الله) (ت 1231ق)

قال في جواب المسائل الركنيّة، عندما سأله السائل عن رأيه في أمثال محي الدين، وبايزيد والعطّار والمولويّ، فقال(قدس سره):

إنّ ما تواتر منهم من كلمات صدرت عنهم، إن أرادوا ظاهرها فهم كفّار قطعاً، ويستحقّون اللعن مع إتمام الحجّة عليهم وتخلّفهم عن الحقّ. نظير ما قاله محي الدين في أول الفتوحات: «سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها». وقد قال الشيخ علاء الدولة السمناني مع كمال إخلاصه لمحي الدين في الحاشية علي الفتوحات: «إنّ اللّه لا يستحيي من الحق، أيّها الشيخ لو سمعت من أحد أنّه يقول فضلة الشيخ عين وجود الشيخ، لا تسامحه البتة، بل تغضب عليه فكيف يسوغ

ص: 637


1- 1375.. المائدة5.، الآية3.
2- 1376.. خيراتيّة، ج2، ص198-199: اگر گويند كه فلسفه اگر چه در اوايل اسلام نبوده و در زمان مأمون عباسي حادث شده، لكن در فهم احاديث نبويّة و درك معارف دينيّة دخل تمام دارد. جواب گوييم: كه چون تواند بود كه در كمال دين احتياج به فلسفه باشد و حال آنكه در روز غدير خم اين آيه از سورۀ مائده نازل شده كه: ﴿أَلْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾... و چون تواند بود كه تتبّع فلسفه در فهم احاديث نبوية دخل داشته باشد و حال آنكه مخالفت با تمام آيات قرآني و احاديث نبوي دارد.

لك أن تنسب هذه الهذيانات إلي الملك الديّان؟ تب إلي اللّه توبة نصوحا لتنجو من هذه الورطة الوعرة التي يستنكف منها الدهريّون و الطبيعيّون و اليونانيّون و السلام علي من اتبّع الهدي.

وكذا نقل عن الفصوص والفتوحات أنّه قال: «من عبد صنماً فقد عبد اللّه به، ولما اتخذ السامري عجلاً ودعا الناس إلي عبادته، خذل اللّه هارون ولم ينصره؛ لأنّه أحبّ أن يُعبَد في كلّ صورة. وانّه تعالي لم يكفّر النصاري لقولهم بألوهيّة المسيح، بل كفّرهم لأنّهم حصروا الإله في عيسي»... وقد نسب محي الدين مذهبالجبر إلي جميع العرفاء. وهذه بعض المقاطع من كلمات هذا الشيخ.

كذلك منصور الحلاج وقوله: أنا الحقّ، وساير ما نقل عن بايزيد نظير ما قال الملا الرومي في وصفه:

با م--ريدان آن فقير محتش--م* بايزي-د آمد كه نك يزدان منم

گفت مستانه عيان آن ذو فنون * أ إل--ه إلّا أن--ا ه-ا فاعبدون(1)

وأمّا المولوي الملّا الرومي -- مع غض النظر عن أنّه لا يستفاد من أوّل كتابه المثنوي إلي آخره سوي التسنّن -- فظاهر اعتقاده بمثل ما قاله محي الدين وبايزيد، وكلامه صريح في وحدة الوجود في مواضع عديدة. وما حكاه عن ابن ملجم صريح في الجبر، قال في بداية القصّة أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال له:

هيچ نقص---ي نيست بر جانم زتو * زانكه اي--ن را م---ن نمي دانم زتو

آلت حقّ--ي ت-و ف-اعل دست حقّ * چون زنم بر آلت حقّ طعن ودقّ؟(2)

وفي أواخرها يقول: أن الإمام(عليه السلام) قال له:

ليك بي غم شو شفيع تو منم * واجه روحم نه مملوكِ تنم(3)

ولو قال أحد: يظهر مما ذكره في أواخر السفر الخامس من المثنوي أنّه يبطل الجبر حيث ذكر محاورة الجبري والقدري - وهي قصّة مطوّلة -- قلنا : قد ذكر في آخر القصة ما هدم كلّ ما ذكره حيث قال: ...

وأمثال هذه الكلمات التي رأيتموها في الكتب، ولاتحتاج إلي التكرار.

ص: 638


1- 1377.. أي: قال لمردته بايزيد البسطامي ذاك الفقير المتعفّف: فالآن أنا اللّه، قال ذاك الخبير في الفنون المتعدّدة بشغف واعجاب: لا إله إلا أنا فاعبدون.
2- 1378.. أي: ليس أنت الذي أحدثت نقصاً في حياتي، لأنّي لا أري ذلك منك؛ أنت آلة في يد اللّه وما كان الفاعل سواه، فأنّي لي أن ألوم آلة فعل اللّه!
3- 1379.. أي: لا تحزن فإنّي شفيعك، وذاك أني سلطان الروح لست مملوكاً للبدن.

والغرض هنا، أنّهم لو أرادوا من هذه الكلمات ظواهرها التي نفهمه نحن، فهم كفار وملعونون بلا إشكال. ولو كان مرادهم ما لانفهمه - كما يدّعي ذلك محبّوهم وأتباعهم - فهم فسّاق وفجار، حيث أظهروا الكفر وجعلوا أنفسهم مستحقّين للمؤاخذة والطعن واللعن من الناس وكذا عقاب اللّه تعالي وعذابه.وذلك أنّه كما يحرم الإعتقاد بالكفر، كذلك يحرم التفوّه به، وان أحكام الشرع المقدّس مبنيّة علي الظاهر... فلو لعن أحد هذه الجماعة لما ظهر منهم، فليس عليه شيء حتي لو لم يكونوا كفاراً في الباطن ... بل لو عُلم إسلامهم في الباطن يحكم بفسقهم لتظاهرهم بهذه الكلمات ...

وبغض النظر عن ذلك كلّه، فإنّ كثيراً من علماء الشيعة الذين يعتمد عليهم مذهب الشيعة في نقل الأحكام الإلهيّة عن أئمتهم، قد نقلوا حكايات كثيرة عن الحلاج وذكروا التوقيع الصادر من الناحية المقدّسة بلعنه، وقد عدّه الجميع من الكذابين، وقد ألّف الشيخ المفيد كتاباً في الرد علي طريقة أشياعه... .

وعلي أي تقدير، فهده الجماعة من أولياء عرفاء أهل السنّة، وقد قاموا بتأسيس هذا المبني لمواجهة ائمتنا عليهم السلام وليطفئوا نور اللّه... .(1)

ص: 639


1- 1380.. جوابات المسائل الركنيّة، ص 329-335: ... و أمّا كلماتي كه از ايشان مانده و سخن هايي كه متواتر از آنها رسيده، اگر مراد ايشان همان ظاهر كلام ايشان باشد به يقين كافرند، و با وجود اتمام حجت بر ايشان و تخلف از حق هم مستحق لعن هستند. مثل اينكه محيي الدين در اوّل فتوحات گفته: «سبحان من أظهر الأشياء و هو عينها»، و شيخ علاء الدولۀ سمناني با كمال ارادت به محيي الدين در حاشيۀ فتوحات بر اين عبارت نوشته: «إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ، أيّها الشيخ لو سمعت من أحد أنّه يقول فضلة الشيخ عين وجود الشيخ، لا تسامحه البتّة، بل تغضب عليه فكيف يسوغ لك أن تنسب هذه الهذيانات إلي الملك الديّان؟ تب إلي اللّه توبة نصوحاً لتنجو منهذه الورطة الوغرة التي تستنكف منها الدهريّون و الطبيعيّون و اليونانيّين والسلام علي من اتّبع الهدي. و أيضاً از فصوص و فتوحات او منقول است كه مي گويد: «هر كه بت پرستيد به همان خدا را پرستيده باشد. و چون سامري گوساله ساخت و مردم را به عبادت آن خواند حقّ تعالي ياري نكرد هارون را بر سامري، از براي آنكه مي خواست در هر صورتي پرستيده شود. حقّ تعالي نصاري را تكفير ننموده به سبب آنكه به الوهيّت عيسي قائل شدند، بلكه به سبب آن كه خدا را منحصر در عيسي دانستند»... و نيز محي الدين مذهب جبر را نسبت به جميع عرفا داده، اين كلمات مذكوره بعضي از سخنان اين شيخ است. و همچنين سخن هاي منصور و انا الحقّ گفتن او و ساير آنچه از بايزيد نقل كرده اند. چنان كه ملّاي روم در حكايت او گفته: با م--ريدان آن فقير محتش--م ايزي-د آمد كه نك يزدان منم گفت مستانه عيان آن ذو فنون ا إل--ه إلّا أن--ا ه-ا فاعبدون ... و اما ملّاي روم پس قطع نظر از اينكه از اوّل تا به آخر مثنوي او به غير از تسنّن چيزي از او معلوم نمي شود، اعتقاد او به امثال آنچه از محيي الدين و بايزيد ظاهر مي شود هم ظاهر است، و در بسيار جا كلام او صريح در وحدت موجود است، و حكايت ابنملجم او صريح در جبر است. در اوّل داستان مي گويد كه آن حضرت به او فرمود: هيچ نقص---ي نيست بر جانم زتو زانكه اي--ن را م---ن نمي دانم زتو آلت حقّ--ي ت-و ف-اعل دست حقّ چون زنم بر آلت حقّ طعن و دقّ؟ و در اواخر داستان مي گويد كه آن حضرت به ابن ملجم فرمود: ليك بيغم شو شفيع تو منم واجه روحم نه مملوكِ تنم و اگر كسي گويد كه از آن جاي مثنوي كه گفتگوي جبر و قَدَريّ مي كند -- در اواخر سِفر پنجم -- معلوم مي شود كه او جبر را باطل مي داند -- و آن داستان طولانياست -- جواب آن گوييم: كه در آخر داستان سخني مي گويد كه همه را پايمال كرده، آنجا كه مي گويد:... و امثال اين كلمات كه البتّه در كتاب ها خوانده ايد و ديده ايد، ديگر احتياج به تكرار و نوشتن نيست. غرض ما در اينجا چيز ديگر است و آن اينكه اگر اين جماعت مراد ايشان از اين كلمات همان ظاهر آن است كه مي فهميم پس آنها بياشكال كافر و ملعونند. و اگر مراد ايشان چيزي است كه ما نمي فهميم چنان كه هواداران و محبّان ايشان گويند، پس گوييم كه اينها فاسق و بد كردارند به جهت آنكه اظهار كفر مي كنند و خود را مستحقّ مؤاخذه و طعن و لعن مردم و مورد عتاب و عقاب الهي نيز مي كنند. به جهت آنكه چنانكه اعتقاد كفر حرام است تلفّظ به كلمۀ كفر هم حرام است، و احكام شرع مقدس مبتني بر ظاهر است... پس هر گاه كسي اين طايفه را لعن كند به سبب آنچه از ايشان ظاهر شده معاقب نخواهد بود، هر چند آنها در باطن كافر نباشند... . بلكه اگر معلوم هم بشود كه آنها در باطن مسلمانند باز حكم به فسق آنها مي كنيم كه چرا اين حرف را گفته اند... و قطع نظر از اينها همه كرده، جمعي كثير از معتمدين علماي شيعه كه مدار دين شيعه بر اعتماد بر ايشان است در نقل احكام الهيّه از ائمّه، ايشان در شأن حلّاج حكايت ها نقل كرده اند و توقيع لعن او را از امام زمان نقل كرده اند و همه او را از جمله كذّابين بر شمرده اند، و از شيخ مفيد ذكر كرده اند كتابي در خصوص بطلان طريقۀ تابعان حلّاج تاليف كرده ... . و هر گاه حال او معلوم شد ظاهر اين است كه تابعان او همه حال او را داشته باشند مگر اينكه بگوييم كه به جهت غير تصوّف از ساحري و دروغگويي و غير آن مورد لعن شد نه از اين راه. و اگر لعن از همين راه باشد بر همه اين بحث وارد مي آيد، به جهت آنكه شبستري و ملّا و غير اينها همه معتقد حلّاج مي باشند. و به هر تقدير اين جماعت در ظاهر حال از اولياء و عرفاي اهل سنّت اند و چون ايشان را داعيۀ مقابله با ائمّه ما باعث شده كه بلكه توانند اطفاي نور الهي كنند اين اساس را در مقابل چيده اند، و اينجماعت همان رؤساي ايشانند و هيچ يك از اينها معلوم نيست كه مذهب شيعه داشته باشند... .

وقال أيضاً في الجواب عن سؤال السائل من أنّ الآخوند ملّاصدرا قال بالعقول العشرة،

ص: 640

بينما أنّ العلّامة المجلسيّ يقول: إنّ القائل بالعقول العشرة منكر لضروريّ الدين. ففيما أجاب(قدس سره) أن قال:

الحاصل أن طريقتهم مباينة لطريقة الإسلام يقيناً، وانّهم بعد أن فهموا شيئاً من قواعدهم وأصولهم وبنوا عليها اعتقادهم، يلصقون أنفسهم بأهل الإسلام حذراً من التكفير وطعن أهل الإسلام، ويأوّلون النصوص الدينيّة بمثل هذه التأويلات. وليس هذا معني الإسلام ولامتابعة الشرع. مع أنّه لايوافق شيي ء من قواعدهم مذهب الإسلام، فلا المعراج الجسماني يوافق استحالة الخرق والإلتيام علي الأفلاك، ولا ركوب الملائكة مراكب بُلق ونصرتهم لرسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) بالحراب، ولبسهم العمائم بطريقة خاصّة، وتمثّل جبرئيل بصورة دحية الكلبيّ وجلوسه أمام النبي خاضعاً، يوافق مع كون جميع الملائكة روحانيين بل مجردين وكون جبرئيل كناية عن العقل الفعال وكون الوحي عبارة عن اتصال نفس النبي بالعقل العاشر، ولاحدوث العالم وكون ما سوي اللّه مسبوقاً بالعدم في وقت خاص يلائم مع قدم العقول والأفلاك، ولا الإخباربفناء جميع الأشياء والسماوات مع قاعدة ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وقد سمعت من بعض المنتحلين للشريعة من هذه الطائفة أنهم قالوا: أنّي خالفنا القرآن والحديث؟ فإنّه ليس المستفاد من الحديث والآية سوي حدوث العالم ، ولكن كيف يمكن اثبات كون هذا الحدوث هو الحدوث الزماني ولايراد منه الحدوث الذاتي؟ بمعني تقدّمه تعالي في مرتبة العليّة علي ما سواه فإن هذا أيضاً حدوث. فكأنّهم لم يقرأوا قول اللّه تعالي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلنا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(1)، فمتي فهم العرب من الحدوث هذا المعني ؟ ومتي فهموا من قوله: «كان اللّه ولاشيء معه » هذا المعني؟ ومتي خطر ببالهم من لفظ خلق وأوجد هذا المعني؟».(2)

ص: 641


1- 1381.. إبراهيم14.، الآية4.
2- 1382.. جوابات المسائل الركنيّة، ص 364-366: والحاصل باليقين طريقۀ ايشان با طريقۀ اسلام مباين است و ايشان بعد از آن كه از اصول و قواعد خود چيزي فهميده و بناي خود را بر آن گذاشته اند از خوف تكفير و طعن اهل اسلام خود را به شرع مي چسبانند و اين تأويلات را مي كنند، و اين نه معناي اسلام است و نه متابعتِ شرع است. با وجود اينكه هيچ يك از قواعد ايشان با طريقۀ اسلام موافقت نمي كند، نه معراج جسماني با استحالۀ خرق و التيامِ افلاك مي سازد، و نه سواري ملائكه به اسبان ابلق، و به كمك رسول خدا(صلي الله عليه آله و سلم) جنگ كردن با اسلحه، و عمامههائي كه به طريق خاصّي بسته اند، و تحت الحنك آنها به نوع خاصّي است، و جبرئيل به صورت دحيۀ كلبي آمدن و دو زانو در خدمت پيغمبر(صلي الله عليه آله و سلم) نشستن، با روحانيّت بلكه تجرّد جميع ملائكه، و جبرئيل كنايه از عقل فعّال بودن و وحي الهي عبارت از اتّصال نفس پيغمبر به عقل عاشر و دانشمند شدن مي سازد، و نه حدوث عالم و مسبوق بودن ما سوي اللّه به عدم در وقت خاصّي، با قِدَمِ عقول و افلاك مي سازد، و نه خبر از انعدام همۀ اشياء و فاني شدن آسمان ها با قاعدۀ «ما ثبت قِدَمُه إمتنع عدمه». شنيدم بعضي از منتحلانِ شريعت از اين طايفه مي گفته: ما كجا مخالفت حديث و آيه كرده ايم؟ بيش از اين نيست كه از حديث و آيه حدوث عالم مي رسد، امّا از كجا معلوم كه مراد از حدوث «حدوث زماني» باشد؟ چرا مراد «حدوث ذاتي» نباشد. به اين معني كه خدا در مرتبۀ عليّت مقدّم است بر ماسوا، و اين هم حدوث است. و اين معني را ملاحظه نمي كنند كه حقّ تعالي فرموده: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلنا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾، كجا قوم عرب از حدوث اين معني را فهميده؟ و كجا از: «كان اللّه ولم يكن معه شيي ء» اين را مي فهمند؟ و كجا از لفظ «خلق» و«أوجد» اين را به ذهن در مي آوردند؟
46. العلّامة الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قدس سره) (ت 1228ق)

قال في مبحث النجاسات:

الكافر قسمان: أوّلهما: الكافر بالذات وهو كافر باللّه تعالي أو نبيّه...، القسم الثاني: ما يترتّب عليه الكفر بطريق الاستلزام، كإنكار بعض الضروريّات الإسلاميّة والمتواترات عن سيّد البريّة، كالقول بالجبر والتفويض والإرجاء والوعيد وقدم العالم وقدم المجرّدات والتجسيم والتشبيه بالحقيقة والحلول والاتّحاد ووحدة الوجود أو الموجود... .(1)

48. الشيخ محمّد حسن النجفيّ صاحب الجواهر(قدس سره)(ت 1266ق)

قال العلّامة النمازيّ(رحمه الله):

في كتاب السلسبيل للعلّامة الجليل الحاجّ ميرزا أبو الحسن الإصطهباناتيّ قال: سمعت عن بعض تلامذة صاحب الجواهر أنّه في مجلس درسه جاء بعض أهل العلم وفي يده كتاب من الفلسفة، فسأل عنه عمّا في يده، فلمّا رآه صاحب الجواهر قال: واللّه ما جاء محمّد من عند اللّه إلّا لإبطال هذه الخرافات

ص: 642


1- 1383.. كشف الغطاء، ج1، ص172.

والمزخرفات.(1)

و قال(رحمه الله) في عداد كتب الضلال:ككتب القدماء من الحكماء القائلين بقِدَم العالم وعدم المعاد، وكتب عبدة الأصنام ومنكري الصانع.(2)

44. الشيخ الأعظم المرتضي الأنصاريّ(قدس سره) (ت 1281ق)

قال في مبحث تعارض الدليل العقليّ والنقليّ:

وكلّما حصل القطع من دليل نقليّ، مثل القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع علي حدوث العالم زماناً، فلا يجوز أن يحصل القطع علي خلافه من دليل عقليّ، مثل استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر، ولو حصل منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة.(3)

وقال(قدس سره) في كتاب الطهارة:

ويؤيّدها ما ذكرنا من أنّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن الدين، والسيرة المستمرّة من الأصحاب في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريّات مع العلم أو الظنّ بأنّه لم يكذّب النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) في ذلك، لا أقلّ من الاحتمال.(4)

وقال(رحمه الله) في مبحث حرمة حفظ كتب الضلال:

وحينئذ فلا بدّ من تنقيح هذا العنوان وأنّ المراد بالضلال ما يكون باطلاً في نفسه؟ فالمراد الكتب المشتملة علي المطالب الباطلة، أو أنّ المراد به مقابل الهداية؟ فيحتمل أن يراد بكتبه ما وضع لحصول الضلال، وأن يراد ما أوجب الضلال وإن كان مطالبها حقّة، كبعض كتب العرفاء والحكماء المشتملة علي ظواهر منكرة يدعون أنّ المراد غير ظاهرها، فهذه أيضاً كتب ضلال علي تقدير حقيّتها.(5)

ص: 643


1- 1384.. مستدرك سفينة البحار، ج 8، ص299؛ وانظر: السلسبيل للإصطهباناتيّ، ص387، وقد ذكره أيضاً التنكابنيّ في قصص العلماء، ص105.
2- 1385.. جواهر الكلام، ج22، ص59.
3- 1386.. فرائد الأصول، ج1، ص57.
4- 1387.. كتاب الطهارة، ج5، ص141.
5- 1388.. كتاب المكاسب، ج1، ص235.
49. السيّد عليّ البروجرديّ(رحمه الله) (ت 1313ق)

قال في طرائف المقال:

محمّد بن إبراهيم صدرالدين المعروف بملّاصدرا، كان حكيماً فلسفيّاً صوفيّاً بحتاً، توفّي بالبصرة وهو متوجّه إلي الحجّ في سنة خمسين بعد الألف، وله كتب منها، الأسفار الأربعة والعرشيّة وغيرهما، وابنه أماته وأحيي مذهب الحقّ.(1).

47.المحدّث الكبير الميرزا النوريّ(قدس سره) (ت 1320ق)

قال في ذكر مشايخ المحدّث الفاضل المولي محسن الكاشانيّ:

وسابعهم: الحكيم المتألّه الفاضل محمّد بن إبراهيم الشيرازيّ، الشهير بملّا صدرا، محقّق مطالب الحكمة، ومروّج دعاوي الصوفيّة بما لا مزيد عليه، صاحب التصانيف الشائعة التي عكف عليها من صدّقه في آرائه وأقواله، ونسج علي منواله، وقد أكثر فيها من الطعن علي الفقهاء حملة الدين، وتجهيلهم وخروجهم من زمرة العلماء، وعَكَس الأمر في حال ابن العربيّ صاحب الفتوحات، فمدحه ووصفه في كلماته بأوصاف لا تنبغي إلّا للأوحديّ من العلماء الراسخين، مع أنّه لم ير في علماء العامّة ونواصبهم أشدّ نصباً منه، أليس هو القائل في الفتوحات في ذكر بعض حالات الأقطاب ما لفظه: «ومنهم من يكون ظاهر الحكم، ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وحسن ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكّل». وهذا المتوكّل الذي عدّه من الأقطاب، وممّن حاز الخلافة الظاهرة والباطنة، هو الذي صرّح السيوطيّ الذي هو أيضاً من المتعصّبين في تاريخ الخلفاء بأنّه في سنة ستّ وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين(عليه السلام)، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخرب وبقي صحراء، وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب، فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه علي الحيطان، وهجاه الشعراء، وممّا قيل في ذلك:

باللّه إن كان--ت أُميّة قد أت---ت * قتل ابن بنت نبيّه---ا مظل--وما

فلقد أت----اه بن-و أبي----ه بمثله * ه-ذا لعم---ري قب---ره مهدوما

أسفوا علي أن لا يكونوا شاركوا * ف---ي قتل---ه فتت-بّع---وه رميما

ص: 644


1- 1389.. طرائف المقال، ج1، ص80، ش252.

وصرّح أيضاً فيه بأنّ أصل الضلالات من الشيعة. وصرّح في مسامرة الأبرار بأنّ الرجبيّين جماعة لهم رياضة، من آثارها أنّهم يرون الروافض بصورة الخنزير. وصرّح في الفتوحات بعصمة ابن الخطّاب،وغير ذلك ممّا هو نصّ علي كونه من نواصبهم. وتصريحه بكون المهديّ الموعود صلوات اللّه عليه هو الحجّة بن الحسن العسكريّ(عليهما السلام)، كما عليه الإماميّة، لا ينافي النصب فضلاً عن التسنّن، كما أوضحناه في كتابنا النجم الثاقب. وله في هذا الاعتقاد شركاء من علمائهم، ذكرنا أساميهم في الكتاب المذكور، ومع ذلك كلّه كيف يقول الإماميّ في حقّه: المحقّق العارف باللّه، ومن لا يجازف في القول! وأمثال ذلك فيه وفي أضرابه.

ومن تصانيفه: شرح أصول الكافي، شرحه علي مذاقه وعقائده وأصوله ومطالبه، فاستحسنه من استصوبها، واستحقره من استضعفها، بل في الروضات: «فمنهم من ذكر في وصف شرحه علي الأصول: شروح الكافي كثيرة جليلة قدراً وأوّل من شرحه بالكفر صدرا». انتهي. وفيه منه أوهام عجيبة، بل في كتاب التوحيد منه وهم لم يسبقه إلي مثله أحد، ولم يلحقه أحد... .

وله في شرح حال مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه عند قوله(عليه السلام): «إذا قام قائمنا وضع اللّه يده علي رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم»(1) كلام ينبئ عن اعتقاد له فيه(عليه السلام) غير ما عليه معاشر الإماميّة. فراجع وتأمّل... .

وعندنا رسالة من الفخر الرازيّ في تفسير أربع سور، قال في أوّلها: هذه رسالة عملها في التنبيه علي بعض الأسرار المودوعة في بعض سور القرآن العظيم، والفرقان الحكيم، تنبيهاً علي أنّ اكثر المفسّرين كانوا محرومين عن الفوز بالمقصد القويم، غير واصلين إلي الصراط المستقيم، ثمّ رتّبها علي أربعة فصول:

الأوّل: في الإلهيّات، وفسّر فيه سورة الإخلاص.

الثاني: في تفسير سورة مشتملة علي الإلهيّات والنبوّات والمعاد، وهي سورة «سبّح اسم ربّك الأعلي» وفسّرها بترتيب لطيف.

وللمولي المتقدّم رسالة في تفسير هذه السورة المباركة، ولمّا عرضناها علي تفسير الرازيّ لم نجد بينهما فرقاً إلّا في بعض كلمات زائدة لا يضرّ إسقاطها في أصل المطالب.(2)

ص: 645


1- 1390.. الكافي، ج1، ص25، ح21؛ بحارالأنوار، ج52، ص328، ح47.
2- 1391.. خاتمة مستدرك الوسائل، ج2، ص239-248، وقد نقل عنه المحدّث القميّ في سفينة البحار، ج2، ص358 (مادّة: حمد).

و نقل الميرزا النوريّ فقرات من شرحه علي أصول الكافي ممّا يدلّ علي غاية جهله بمعرفة الأحاديث بل بكلام العرب، فراجع.

50. آقا رضا الهمدانيّ(رحمه الله) (ت 1322ق)

قال في مبحث نجاسة الكفّار:

كما مثل ما حكي عن بعض الجهّال من المتصوّفة من إنكار وجوب الصلاة ونحوها علي مشائخهم الذين أكملوا نفوسهم بالرياضات بزعمهم مدّعياً أنّ المقصود بالعبادات تكميل النفوس فيسقط التكليف عنها بعد الكمال... .

وتارة يأوّل كلامه بما ينافي الإذعان برسالته علي كافّة العباد، كما لو قيل مثلاً بأنّ المقصود ببعث الرسول اللطف وإهداء القاصرين إلي ما يقرّبهم إلي اللّه، فرسالته مقصورة علي غير الحكماء الذين يرشدهم عقولهم إلي ما يصلحهم ويفسدهم، فالمقصود بالعمومات الصادرة عن النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) من قوله: ﴿أَقِيمُوا الصلَاةَ﴾(1) ونحوه يراد بها غير مثل هذه الاشخاص. وقد حكي عن بعض الفلاسفة محاجّته مع عيسي(عليه السلام) بمثل هذا القول.

ونظير ذلك ما لو قيل بأنّه كان رسولاً علي الأعراب لا علي عامّة العباد. وكيف كان فمثل هذا الإنكار كفر محض فإنّه وان لم يكن منافياً للتصديق الإجماليّ لأنّه يعترف بصدقه علي تقدير ادّعائه العموم لكنّه يزعم أنّه لم يدّع ذلك، إلّا أنّه إنكار لرسالته في الجملة، وهو كإنكار أصل الرسالة سبب للكفر بالضرورة فضلاً عن شهادة النصّ والإجماع عليه.(2)

45. الميرزا حبيب اللّه الخوئيّ(رحمه الله) (ت 1324ق)

قال في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة بعد نقل كلام لابن الأعرابيّ والقيصريّ:

ومحصّل كلامهما أنّ قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقّين لكونها مظاهر الحقّ، كما أنّ العابدين لها كذلك لأنّهم أيضاً كانوا مظهر الحقّ وكان الحقّ معهم بل هو عينهم. وكان نوح أيضاً يعلم أنّهم علي الحقّ إلّا انّه اراد علي وجه المكر والخديعة أن يصرفهم عن عبادتها إلي عبادته!! وإنّما كان هذا مكرا منه(عليه السلام) لأنّه

ص: 646


1- 1392.. البقرة2.، الآيتان 43و83و 110؛ النساء4.، الآية 77و 103؛ الأنعام6.، الآية 72، يونس10.، الآية 87؛ الحج22.، الآية 78؛ النور24.، الآية 56؛ الروم30.، الآية 31؛ المجادلة58.، الآية 13 ؛ المزمل73.، الآية 20.
2- 1393.. مصباح الفقيه، ج7، ص274-275.

كان يقول لهم:«ما لم يكن معتقداً به» و«يموّه خلاف ما أضمره واعتقده»!!؟ اذ كان عالماً وعلي بصيرة من ربّه بانّ الأصنام مظاهر الحقّ وعبادتها عبادته، إلّا أنّه(عليه السلام) أراد أن يخلّصهم من القيود حتّي لا يقصّروا عبادتهم فيها فقط بل يعبدوه في كلّ معني وصورة.

ثمّ قال:

هذا محصّل كلام هذين الرجسين النجسين النحسين، وكم لهما في الكتاب المذكور من هذا النمط والأسلوب وسنشير إلي بعضها فيما سيأتي. فلينظر المؤمن الكيّس البصير إلي أنّهما كيف موّها الباطل بصورة الحقّ وأوّلا كلام اللّه بآرائهم الفاسدة وأحلامهم الكاسدة، علي طبق عقايدهم الباطلة وقد قال النبيّ المختار(صلي الله عليه آله و سلم): «من فسّر القران برأيه فليتبوّء مقعده من النار» ولعمري إنّهما ومن حذا حذوهما حزب الشيطان وأولياء عبدة الطاغوت والأوثان، ولم يكن غرضهما إلّا تكذيب الأنبياء والرسل وما جاؤوا به من البيّنات والبرهان وهدم أساس الإسلام والإيمان، وإبطال جميع الشرايع والأديان، وترويج عبادة الأصنام، وجعل كلمة الكفر العليا وخفض كلمة الرحمن.(1)

51 إلي 71. السيّد الفقيه محمّد كاظم اليزديّ(قدس سره) صاحب العروة الوثقي (ت1338ق)

فقد حرّم ارتزاق من يشتغل بتعلّم الفلسفة من الزكاة وأيّده جلّ العلماء المعلّقين علي العروة، حيث قال:

لو اشتغل القادر علي الكسب بطلب العلم المانع عنه يجوز له أخذ الزكاة إذا كان ممّا يجب تعلّمه عينا أو كفاية، وكذا إذا كان مما يستحبّ تعلّمه كالتفقّه في الدين اجتهاداً أو تقليداً، وإن كان ممّا لا يجب ولا يستحبّ كالفلسفة والنجوم والرياضيّات والعروض والأدبيّة لمن لا يريد التفقّه في الدين فلا يجوز أخذه.

ومعناه أنّ هذا العلم لادخل له بالشريعة أصلاً، لا في العقائد ولا في غيره، ولا دخل له في فهم الشرع أو الجدل مع الملحدين أصلا.

وقال في عداد الكفّار:

ص: 647


1- 1394.. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج13، ص175.

والمجبّرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفيّة اذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوي عدم نجاستهمإلّا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد.

وقد أيّده علي هذا الفتوي كلّ من الأعلام الآتية، فلم يعلّقوا علي كلام السيّد بشيء، وهم:

الشيخ عليّ ابن المرحوم صاحب الجواهر(رحمه الله)(ت 1266ق)؛

والمحقّق الميرزا حسين النائينيّ(رحمه الله)(ت 1355ق)؛

والسيّد عليّ البهبهانيّ(رحمه الله)(ت 1395ق)؛

والسيّد هادي الميلانيّ(رحمه الله)(ت 1395ق)؛

والسيّد إبراهيم الحسينيّ الإصطهباناتيّ(رحمه الله)(ت 1378ق)؛

والسيّد محمود الحسينيّ الشاهروديّ(رحمه الله)(ت 1394ق)؛

والشيخ عبداللّه الغرويّ المامقانيّ(رحمه الله)(ت 1351ق)؛

والسيّد محمّد الحجّة الكوه كمره ايّ(رحمه الله)(ت 1372ق)؛

والسيّد الحاجّ آقا حسين الطباطبائيّ القميّ(رحمه الله)(ت 1366ق)؛

والسيّد يونس الأردبيليّ(رحمه الله)(ت 1377ق)؛

والشيخ عبد الكريم الحائريّ(رحمه الله)(ت 1355ق)؛

والسيّد أبو الحسن الموسويّ الإصفهانيّ(رحمه الله)(ت 1365ق)؛

والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء(رحمه الله)(ت 1373ق)؛

والسيّد البروجرديّ(رحمه الله)(ت 1313ق)؛

والشيخ محمّد رضا آل ياسين(رحمه الله)(ت 1370ق)؛

والسيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم(رحمه الله)(ت 1390ق)؛

والسيّد أحمد الخوانساريّ(رحمه الله)(ت 1405ق)؛

والسيّد أبو القاسم الخوئيّ(رحمه الله)(ت 1413ق)؛

ص: 648

والسيّد محمّد كاظم الشريعتمداريّ(رحمه الله)(ت 1406ق)؛

والسيّد محمّد رضا الگلپايگانيّ(رحمه الله)(ت 1415ق)؛

والسيّد أبو الحسن الرفيعيّ(رحمه الله)(ت 1353ق).

وقال الميرزا السيّد عبد الهاديّ الحسينيّ الشيرازيّ (ت 1394ق) معلّقاً علي العروة:

إن لم يكونوا قائلين بالوحدة الشخصيّة، وإلّا فالأقوي نجاستهم.

يعني إنّ القائلين بالوحدة الشخصيّة محكومون بالنجاسة سواء التزموا بلوازم مذهبهم من المفاسدالاعتقاديّة أم لا وأمّا غيرهم فلا يحكم عليهم بنجاستهم إلّا مع التزامهم بها.

وعلّق السيّد محمّد الفيروزآباديّ علي كلام السيّد فقال:

بالمعني الذي ليس هو بكفر.

وقال السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ معلّقاً علي كلام السيّد:

والقائلون بوحدة الوجود فقط أو وحدة الموجود أيضاً.(1)

79. الشيخ محمّد جواد البلاغيّ(رحمه الله)(ت 1352ق)

قال في رسالة البداء:

فالبداء، وأنّ اللّه يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب، يكون الاعتراف بحقيقتها المعقولة ومدلول الأحاديث، هو الفارق بين الإلهيّة والطبيعيّة، وهو الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهيّة وبين المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنيّة علي التقليد الأعمي للفلسفة اليونانيّة ومزاعم أوهامها، مع الخبط في أمر الإيجاد بالإرادة والتعليل الطبيعيّ.(2)

73. المحدّث الخبير الشيخ عبّاس القميّ(قدس سره) (ت 1359ق)

فقد ذمّ الفلسفة في سفينته وذكر بعض الروايات في ذمّها ونقل كلمات وحكايات عن أعيان العلماء قدّس اللّه أسرارهم في التحذير والتجنّب عنها فراجع.(3)

ص: 649


1- 1395.. راجع: العروة الوثقي مع تعليقات المراجع العظام، ج4، ص104وأيضاً نشر مؤسّسة النشر الإسلامي، ج1، ص145-146.
2- 1396.. رسالتان في البداء، ص 24.
3- 1397.. سفينة البحار، ج7، ص151 (مادّة: فلسف).
72. آية اللّه العظمي السيّد أبو الحسن الإصفهانيّ(قدس سره) (ت 1365ق)

قال في مبحث الوقف من كتاب الوسيلة:

لو وقف علي العلماء انصرف إلي علماء الشريعة فلا يشمل غيرهم كعلماء الطبّ والنجوم والحكمة.

قال العلّامة النمازيّ(رحمه الله) بعد نقل عبارته:

يظهر منه أنّ في نظره أنّ علماء الحكمة كعلماء النجوم ليسوا بعلماء الشريعة، وكتبهم ليست كتب الشريعة المقدّسة.(1).

74.شيخ مشايخنا العلّامة الفهّامة العالم بالعلوم القرآنيّة آية اللّه الميرزا مهديّ الاصفهانيّ(قدس سره) (ت 1365ق)

فقد عرف بمخالفته للفلاسفة والعرفاء وألّف كتباً في الردّ عليهم وبيان معارف القرآن والروايات ومباينته مع الفلسفة والعرفان، وتخرّج علي يده العديد من الفقهاء والعلماء.

قال شيخنا الأستاذ العلّامة النمازيّ(رحمه الله):

هو العالم العامل الكامل بالعلوم الإلهيّة، والمؤيّد بالتأييدات الصمدانيّة، الورع التقيّ النقيّ المهذّب بالأخلاق الكريمة، والمتّصف بالصفات الجليلة مولانا وأستاذنا الآقا ميرزا مهديّ الإصفهانيّ الخراسانيّ... وأجازه العلّامة النائينيّ وغيره أحسن الإجازات وممّا عبّر به في إجازته المفصّلة التي كتبها النائينيّ بخطّه الشريف في شوّال 1338 هجري المزيّنة بخطوط جمع من الأعاظم المراجع الكرام وتكون عندي قال:

العالم العامل والتقيّ الفاضل العلم العلّام والمهذّب الهمام ذو القريحة القويمة والسليقة المستقيمة والنظر الصائب والفكر الثاقب عماد العلماء والصفوة الفقهاء الورع التقيّ والعدل الزكيّ جناب الآقا ميرزا مهديّ الإصفهانيّ أدام اللّه تعالي تأييده وبلّغه الأمانيّ - إلي أن قال -: وحصل له قوّة الاستنباط وبلغ رتبة الاجتهاد وجاز له العمل بما يستنبطه من الأحكام» الخ.

وكان مشتغلاً بتعلّم الفلسفة المتعارفة وبلغ أعلي مراتبها قال: لم يطمئنّ

ص: 650


1- 1398.. وسيلة النجاة، ص539؛ مستدرك سفينة البحار، ج 8، ص303.

قلبي بنيل الحقائق، ولم تسكن نفسي بدرك الدقائق، فعطفت وجه قلبي إلي مطالب أهل العرفان فذهبت إلي أستاذ العرفاء والسالكين السيّد أحمد المعروف بالكربلائيّ في كربلاء وتلمّذت عنده حتّي نلت معرفة النفس وأعطاني ورقة أمضاها. وذكر اسمي مع جماعة بأنّهم وصلوا إلي معرفة النفس وتخليتها من البدن، ومع ذلك لم تسكن نفسي إذ رأيت هذه الحقائق والدقائق التي سمّوها بذلك لا توافق ظواهر الكتاب وبيان العترة ولابدّ من التأويل والتوجيه. ووجدت كلتا الطائفتين كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتّي إذا جاءه لم يجده شيئاً، فطويت عنهما كشحاًوتوجّهت وتوسّلت مجدّاً مكدّاً إلي مسجد السهلة في غير أوانه باكياً متضرّعاً متخشّعاً إلي صاحب العصر والزمان(عليه السلام)، فبان لي الحقّ وظهر لي أمر اللّه ببركة مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه، ووقع نظري في ورقة مكتوبة بخطّ جليّ:

«طلب المعارف من غيرنا - أو طلب الهداية من غيرنا (الشكّ منيّ) - مساوق لإنكارنا»، وعلي ظهرها مكتوب: «أقامني اللّه وأنا الحجّة ابن الحسن».

قال: فتبرّأت من الفلسفة والعرفان وألقيت ما كتبت منهما في الشطّ ووجّهت وجهي كلّه إلي الكتاب الكريم وآثار العترة الطاهرة، فوجدت العلم كلّه في كتاب اللّه العزيز وأخبار أهل بيت الرسالة الذين جعلهم اللّه خزّاناً لعلمه وتراجمة لوحيه ورغّب وأكّد الرسول(صلي الله عليه آله و سلم) بالتمسّك بهما، وضمن الهداية للمتمسّك بهما. فاخترت الفحص عن أخبار أئمّة الهدي والبحث عن آثار سادات الوري فأعطيت النظر فيها حقّه وأوفيت التدبّر فيها حظّه، فلعمري وجدتها سفينة نجاة مشحونة بذخائر السعادات، وألفيتها فلكاً مزيّناً بالنيّرات المنجية من ظلمات الجهالات، ورأيت سُبُلَها لائحة وطرقها واضحة وأعلام الهداية والفلاح علي مسالكها مرفوعة، ووصلت في سلوك شوارعها إلي رياض نضرة وحدائق خضرة مزيّنة بأزهار كلّ علم وثمار كلّ حكمة إلهيّة الموحاة إلي النواميس الإلهيّة. فلم أعثر علي حكمة إلّا وفيها صفوها، ولم أظفر بحقيقة إلّا وفيها أصلها، و﴿الْ-حَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾(1)-(2)

ص: 651


1- 1399.. الأعراف7.، الآية 43.
2- 1400.. مستدرك سفينة البحار، ج10، ص517.
75. شيخ مشايخنا العلّامة الحاجّ الشيخ مجتبي القزوينيّ(رحمه الله) (ت 1386ق)

قال في كتابه بيان الفرقان في بيان سبب تأليف الكتاب ما محصّله:

أنّه قد كان في قديم الأيّام طريقة الفقهاء والتابعين للقرآن والسنّة ممتازاً عن طريقة الفلاسفة اليونانيّة والعرفاء والصوفيّة، وكان كلّ يري أنّ طريقه هو الحقّ وكان يتبرّي من المنهج الآخر، فإنّه كان من المسلّمات مخالفة منهج القرآن والسنّة مع منهج الفلاسفة. وترجمة الفلسفةاليونانيّة ونقلها إلي العربيّة قد تمّت في عصر الخلفاء.(1)

وقد ذكر في المجلّد الرابع منه في الخاتمة كلمات العلماء في ذمّ الفلاسفة والعرفاء المتصوّفة والكتب التي صنّفت في ردّهم وذمّهم، فراجع إليه.

83. الشيخ عبد النبيّ العراقيّ(قدس سره) (ت 1385ق)

قال في شرحه علي العروة الوثقي:

إنّ وحدة الوجود يطلق علي أنحاء وقد ذكر الحاجيّ السبزواريّ أنّها تطلق علي أربعة أوجه، وجعل بعضها توحيد العوامّ، وبعضها توحيد الخواصّ، وبعضها توحيد خاصّ الخاصّ، وبعضها توحيد أخصّ الخواصّ.

فيا ليت شعري إذا كان الأمر كما يزعمون فمن العابد ومن المعبود، ومن الخالق ومن المخلوق، ومن الآمر ومن المأمور، ومن الناهي ومن المنتهي، ومن الراحم ومن المرحوم، ومن المثاب ومن المعاقب، ومن المعذِّب ومن المعذَّب، ومن الواجب ومن الممكن؟

إلي غير ذلك من الكفريّات التي أنكرها الشرايع برمّتهم، وخلاف ضرورة كلّ الشرايع.

مع أنّهم (أي الصوفيّة) طرّاً قائلين بوحدة الوجود، ومعناه أنّ في الخارج ليس إلّا وجود واحد وهو عين الأشياء، ويلزم أن يكون المبدأ عزّ اسمه عين الحيوانات النجسة وعين القاذورات وهكذا، تعالي اللّه عمّا يصف الظالمون، ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ﴾(2) إلي غير ذلك من لوازم المسئلة، فخذلهم اللّه فأنّي يؤفكون، ف-

ص: 652


1- 1401.. بيان الفرقان، ج 1، ص27.
2- 1402.. هود11.، الآية 18.

﴿مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾،(1) ف-﴿سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾.(2)

ولذا قال الشيخ(قدس سره) في طهارته في أمثال المقام بعين العبارة: إنّ السيرة المستمرّة من الأصحاب في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريّات ولولا يرجع إلي إنكار النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم). فلا ريب في كفر القائل ونجاسته ولو التزموا بأحكام الإسلام. إذ ثبوت الكفر في أصول الدين من العقائد الخبيثة الملعونة والاعتقاد بها والالتزام بها والإذعان لايفيد الالتزام بأحكام الاسلام لو أراد بها في الفروع، ولو أراد بها في الأصول فهما ضدّان أو متناقضان، كيف يمكن الالتزام وهل الخلف إلّا ذلك؟

فالأقوي أنّ القائل بها خارج عن ربقة الإسلام ورجس ونجس، وقول الماتن من ذهابهم إلي عدم نجاستهم فرضٌ فرضه لا وجود له في الخارج، فكأنّه(قدس سره) أراد التستّر مع وضوح المسئلة، ولذا قال إلّا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم الفاسدة.(3)

82. آية اللّه العظمي السيّد محسن الحكيم(قدس سره) (ت1390ق)

قال في مستمسكه علي العروة الوثقي معلّقاً علي كلام السيّد في نجاسة القائلين بوحدة الوجود:

حسن الظنّ بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاصّ والحمل علي الصحّة المأمور به شرعاً، يوجبان حمل هذه الأقوال علي خلاف ظاهرها، وإلّا فكيف يصحّ علي هذه الأقوال وجود الخالق والمخلوق والآمر والمأمور والراحم والمرحوم؟!(4)

76. شيخنا الأستاذ العلّامة الحجّة البحّاثة الشيخ عليّ النمازيّ الشاهروديّ(قدس سره) (ت 1405ق)

وقد ذكرنا من عباراته كثيراً فراجع إلي كتابه القيّم مستدرك سفينة البحار (مادّة: صوف) و (مادّة: فلسف)،(5) وإلي كتابه: تاريخ فلسفه و تصوّف.

ص: 653


1- 1403.. الأنعام6.، الآية 91.
2- 1404.. الشعراء26.، الآية 227.
3- 1405.. المعالم الزلفي في شرح العروة الوثقي، ص356.
4- 1406.. مستمسك العروة، ج1، ص391.
5- 1407.. مستدرك سفينة البحار، ج6، ص398 و ج8، ص298.
77. المحقّق الشيخ محمّد تقي الآمليّ(رحمه الله)(ت 1391ق)

قال(رحمه الله):

لابدّ لتصوّر مسبوقيّة وجود العالم عن عدمه الواقعيّ الفلكيّ الغير المجامع لوجوده من مخلص آخر، إذ القول بحدوث العالم كذلك من ضروريّات الدين، بل المتّفق عليه بين أهل الملل والنحل. فلا ينبغي القناعة في المقام بالقول بحدوث العالم ذاتاً - بمعني تأخّره عن العدم المجامع مع وجوده كما عليه بعض الحكماء - لأنّه مخالف مع قول الملّيّين.(1)

78. آية اللّه العظمي السيّد الخوئيّ(رحمه الله) (ت 1413ق)

قال في كتابه البيان في تفسير القرآن تحت عنوان: أثر الفلسفة اليونانيّة في حياة المسلمين:

وقد كان المسلمون بأسرهم علي ذلك، ولم يكن لهم أيّ اختلاف فيه، حتّي دخلت الفلسفة اليونانيّةأوساط المسلمين، وحتّي شعّبتهم بدخولها فرقاً تكفّر كلّ طائفة أختها، وحتّي استحال النزاع والجدال إلي المشاجرة والقتال، فكم هتكت في الإسلام من أعراض محترمة، وكم اختلست من نفوس بريئة، مع أنّ القاتل والمقتول يعترفان بالتوحيد، ويقرّان بالرسالة والمعاد. أليس من الغريب أن يتعرّض المسلم إلي هتك عرض أخيه المسلم وإلي قتله؟ وكلاهما يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عنده، وأنّ اللّه يبعث من في القبور. أولم تكن سيرة نبيّ الإسلام وسيرة من ولي الأمر من بعده أن يرتّبوا آثار الإسلام علي من يشهد بذلك؟ فهل روي أحد أنّ الرسول أو غيره ممّن قام مقامه سأل أحداً عن حدوث القرآن وقدمه، أو عمّا سواه من المسائل الخلافيّة، ولم يحكم بإسلامه إلّا بعد أن أقرّ بأحد طرفي الخلاف؟!! ولست أدري - وليتني كنت أدري - بماذا يعتذر من ألقي الخلاف بين المسلمين وبم يجيب ربّه يوم يلاقيه، فيسأله عمّا ارتكب؟ فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.(2)

وقال(رحمه الله) في كتاب الطهارة في البحث عن نجاسة الكفّار:

وإن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأوّل وهو أن يقول بوحدة الوجود والموجود

ص: 654


1- 1408.. درر الفوائد (تعليقة علي شرح المنظومة)، ص261.
2- 1409.. البيان في تفسير القرآن، ص 407.

حقيقة، وأنّه ليس هناك في الحقيقة إلّا موجود واحد، ولكن له تطوّرات متكثّرة، واعتبارات مختلفة، لأنّه في الخالق خالق، وفي المخلوق مخلوق، كما أنّه في السماء سماء، وفي الأرض أرض وهكذا، وهذا هو الذي يقال له توحيد خاصّ الخاصّ... وحكي عن بعضهم أنّه قال: «ليس في جبّتي سوي اللّه»... فإنّ العاقل كيف يصدر عنه هذا الكلام؟ وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدّعي اختلافهما بحسب الاعتبار؟! وكيف كان فلا إشكال في أنّ الالتزام بذلك كفر صريح، وزندقة ظاهرة، لأنّه إنكار للواجب والنبيّ(صلي الله عليه آله و سلم)، حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلّا بالاعتبار، وكذا النبيّ(صلي الله عليه آله و سلم) وأبو جهل مثلاً متّحدان في الحقيقة علي هذا الأساس، وإنّما يختلفان بحسب الاعتبار.(1)

وقال أيضاً:ودعوي أنّ الملك من عالم المجرّدات فليس له مادّة، كما اشتهر في ألسنة الفلاسفة دعوي جزافيّة، فإنّه مع الخدشة في أدلّة القول بعالم المجرّدات ما سوي اللّه، كما حقّق في محلّه، أنّه مخالف لظاهر الشرع، ومن هنا حكم المجلسيّ(رحمه الله) في اعتقاداته بكفر من أنكر جسميّة الملك، وتفصيل الكلام في محلّه.(2)

استفتاء عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) والشيخ التبريزيّ(رحمه الله):

هل إنّ دراسة الفلسفة لازمة لطالب العلوم الدينيّة الذي يضع نفسه في موضع الأخذ والردّ بالنسبة إلي سائر العقائد والأديان، وهل هناك وجوب كفائيّ علي طلّاب العلوم الدينيّة في القيام بهذا الدور، وهل يمكن إدخال هذا تحت عنوان كونه (أي الفلسفة) مقدّمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو كونه مقدّمة للحفاظ علي الدين أو كليهما، وإن لم تكن لازمة لطلّاب العلوم الدينيّة فهل فيها رجحان أو لا رجحان فيها أصلاً. ثمّ إنّ دراسة الفلسفة علي من تكون غير جائزة؟ أرجو أن توضّحوا لنا جواب هذه الفقرة تماماً. ولو فرضنا أنّ فهم علم أصول الفقه أو بعض أبوابه - فهماً صحيحاً كاملاً - كان متوقّفاً عليها فهل هناك رجحان في دراستها عموماً، أو بقيد أنّ هذا الطالب يكون له مستقبل جيّد في الإفادة إن شاء اللّه؟

ص: 655


1- 1410.. كتاب الطهارة، ج2، ص81.
2- 1411.. مصباح الفقاهة، ج1، ص364.

أجاب المحقّق الخوئيّ ووافقه تلميذه الفقيه الشيخ التبريزيّ(قدس سره):

لم يتّضح لنا توقّف ما ذكر علي دراسة الفلسفة وقد تعرّضوا للمقدار اللازم منها في طيّ أصول الدين والفقه، وإذا خاف من الضلال إثر دراستها حرم وإلّا فلا مانع منه في حدّ نفسه، واللّه العالم.(1)

وقد جاء في كتاب خاطرات وزندگاني آقاي حكيم بيانيّة السيّد آية اللّه العظمي الخوئيّ حيث قال:

إنّ الشيوعيّة تكون كعقيدة الفلسفة التي هي مضادة لأصول الاسلام، فهذه العقيدة كفر و شرك.(2)

80. آية اللّه العظمي السيّد الگلپايگانيّ(رحمه الله)(ت 1415ق)

قال في مبحث نجاسة الكفّار والغلاة والمجبّرة والمفوّضة:

ثمّ إنّ بعضاً ممّن اعتنق تلك المبادئ الفاسدة، والمذاهب والمقالات الكاسدة - التي أمضينا الكلام فيها - وغيرها قد يتمسّك بآيات أو روايات، فيفسّرها بحيث تطابق تلك المعتقدات الباطلة، فهنا نقول: قد يكون التفسير والتوجيه واضح الفساد والبطلان وأقبح من طرح الآية أو الرواية، ومن هذا القبيل قول بعض الفلاسفة إنّ المعاد روحانيّ والجنّة والنار ليستا جسمانيّتين وإنّ المراد من الجنّة والنعم المعدّة في الآخرة هو النشاط الروحيّ وانبساط النفس وابتهاجها في النشأة الآخرة وسرورها بالأعمال الصالحة التي قد تزوّد بها الانسان من دنياه، والمراد من نار الجحيم والعذاب الأليم هو الآلام النفسانيّة، إلي غير ذلك من الترّهات والأقاويل الكافرة. وعلي الجملة فهذا النوع من التفسير والتأويل واضح الفساد وموجب للكفر والنجاسة، فإنّه خلاف الآيات الكريمة الناطقة بالمعاد البدنيّ الناصّة في ذلك.

أضف إلي ذلك أنّ من يفسر الآيات بهذا النحو والنسق وفقا لعقيدته الفاسدة فكأنّه يتخيل ويزعم أنّ أحداً من الأكابر والأصاغر لا يعرف ولا يفهم معناها وإنّما هو وحده قد فهمه، ومآل ذلك نزول القرآن لأجله فقط، كما أنّه يستلزم لغويّة نزوله بالنسبة إلي غيره من الناس حيث إنّهم لا يفهمون معني الآيات ولا يفقهون مغزي معارف الكتاب ومستلزم لإغراء اللّه تعالي

ص: 656


1- 1412.. صراط النجاة، ج1، ص458.
2- 1413.. حزب توده مثل عقيدۀ فلسفه كه ضدّ اصول اسلام است ميباشد، پس اين عقيدۀ كفر و شرك است. مستدرك سفينة البحار، ج 8، ص303.

عباده بالجهل. نعم الحكم بكفر القائل بالأمور المزبورة موقوف علي علمه والتفاته إلي تلك اللوازم.(1)

81. الشيخ محمّد أمين زين الدين(رحمه الله) (ت 1419ق)

قال(رحمه الله) في مسألة الوقف علي «العلماء»:

إذا قال: وقفت هذه الضيعة علي العلماء، اختصّ بعلماء الشريعة من أهل مذهب الواقف إذا كان شيعيّاً، ولم يشمل علماء العلوم الأخري من طبّ وهندسة وفلسفة وغير ذلك.(2)

84. آية اللّه العظمي المرعشيّ النجفيّ(قدس سره) (ت 1411ق)

و قال في تعليقته علي إحقاق الحقّ:

وعندي أنّ مصيبة الصوفيّة علي الإسلام من أعظم المصائب، تهدّمت بها أركانه وانثلمت بنيانه،وظهر لي بعد الفحص الأكيد والتجوّل في مضامير كلماتهم والوقوف علي ما في خبايا مطالبهم والعثور علي مخبيّاتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم؛ أنّ الداء سري إلي الدين من رهبة النصاري فتلقّاه جمع من العامّة كالحسن البصريّ والشبليّ ومعروف وطاوس والزهريّ وجنيد ونحوهم، ثمّ سري منهم إلي الشيعة حتّي رقي شأنهم وعلت راياتهم، بحيث ما أبقوا حجراً علي حجر من أساس الدين، أوّلوا نصوص الكتاب والسنّة، وخالفوا الأحكام الفطريّة العقليّة، والتزموا بوحدة الوجود بل الموجود، وأخذ الوجهة في العبادة والمداومة علي الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل التي لفّقتها رؤسائهم!

والتزامهم بما يسمّونه بالذكر الخفيّ القلبيّ شارعاً من يمين القلب خاتماً بيساره معبّراً عنه بالسفر من الحقّ إلي الخلق تارة، والتنزّل من القوس الصعوديّ إلي النزوليّ أخري وبالعكس معبّراً عنه بالسفر من الخلق إلي الحقّ والعروج من القوس النزوليّ إلي الصعوديّ أخري.

فيا للّه من هذه الطامات، فأسروا ترهاتهم إلي الفقه أيضاً في مبحث النيّة وغيره،

ص: 657


1- 1414.. نتائج الأفكار، ص 226.
2- 1415.. كلمة التقوي، ج 6، ص143.

ورأيت بعض مرشديهم يتلو أشعار المغربيّ العارف من ديوانه ويبكي ويعتني به كالاعتناء بآيات الكتاب الكريم، فتعساً لقوم تركوا القرآن الشريف وأدعية الصحيفة الكاملة زبور آل محمّد(صلي الله عليه آله و سلم) وكلمات موالينا وساداتنا الأئمّة(عليهم السلام)، واشتغلوا بأمثال ما أومأنا إليها، ورأيت بعض من كان يدّعي الفضل منهم يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزي إليهم: «لنا مع اللّه حالات فيها هو نحن ونحن هو» وما دري المسكين في العلم والتتبّع والتثبّت والضبط أنّ كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير ممّا لفّقتها أيادي المتصوّفة في الأعصار السالفة وأبقتها لنا تراثاً.

وخلاصة الكلام؛ أنّه آل أمر الصوفيّة إلي حدّ صرفوا المحصّلين عن العلم بقولهم: إنّ العلم حجاب وأنّ بنظرة من القطب الكامل يصير الشقيّ سعيداً بل وليّاً، وبنفحة في وجه المسترشد والمريد أو تفلةفي فمه تطيعه الأفاعي والعقارب الضارية وتنحلّ تحت أمره قوانين الطبيعة ونواميس نشأة الكون والفساد، وأنّ الولاية مقام لا ينافيها ارتكاب الكبائر بل الكفر والزندقة معلّلين بأنّه لا محرّم ولا واجب بعد الوصول والشهود، ثمّ إنّ شيوع التصوّف وبناء الخانقاهات كان في القرن الرابع حيث إنّ بعض المرشدين من أهل ذلك القرن لمّا رأوا تفنّن المتكلّمين في العقائد، فاقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتابعيه في الإلهيّات قواعد وانتزعوا من لاهوتيّات أهل الكتاب والوثنيّين جملاً وألبسوها لباساً إسلاميّاً فجعلوها علماً مخصوصاً ميّزوه باسم علم التصوّف أو الحقيقة أو الباطن أو الفقر أو الفناء أو الكشف والشهود وألّفوا وصنّفوا في ذلك كتباً ورسائل، وكان الأمر كذلك إلي أن حلّ القرن الخامس وما يليه من القرون فقام بعض الدهاة في التصوّف فرأوا مجالاً ورحباً وسيعاً، لأن يحوزوا بين الجهّال مقاماً شامخاً كمقام النبوّة بل الألوهيّة باسم الولاية والغوثيّة والقطبيّة بدعوي التصرّف في الملكوت بالقوّة القدسيّة فكيف بالناسوت، فوسّعوا فلسفة التصوّف بمقالات مبنيّة علي مزخرف التأويلات والكشف الخياليّ والأحلام والأوهام، فألّفوا الكتب المتظافرة الكثيرة ككتاب «التعرّف»، و«الدلالة»، و«الفصوص»، و«شروحه»، و«النفحات»، و«الرشحات»، و«المكاشفات»، و«الإنسان الكامل»، و«العوارف»، و«المعارف»، و«التأويلات» ونحوها من الزبر والأسفار المحشوّة بحكايات مكذوبة، وقضايا لا مفهوم لها البتّة، حتّي ولا في مخيّلة قائليها، كما أنّ قارئيها أو سامعيها لا يتصوّرون لها معني مطلقاً وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويقول بأنّ للقوم

ص: 658

إصطلاحات، لا تدرك إلّا بالذوق الذي لا يعرفه إلّا من شرب من شرابهم وسكر من دنهم وراحهم.

فلمّا راج متاعهم وذاع ذكرهم وراق سوقهم تشعّبوا فرقاً وشعوباً وأغفلوا العوامّ والسفلة بالحديث الموضوع المفتري: «الطرق إلي اللّه بعدد أنفاس الخلائق»، وجعل كلّ فرقة منهم لتمييزها عن غيرها علائم ومميّزات بعد اشتراك الجميع في فتل الشوارب وأخذ الوجهة والتجمع في حلقات الأذكار، عاملهماللّه وجزاهم بما فعلوا في الاسلام، وأعتذر من إخواني الناظرين عن إطالة الكلام حيث إنّها نفثة مصدور وتنفّس صعداء وشقشقة هدرت غصص وآلام وأحزان بدرت، عصمنا اللّه وإيّاكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوّف وجعلنا وإيّاكم ممّن أناخ المطيّة بأبواب أهل بيت رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) ولم يعرف سواهم آمين آمين.(1)

85. آية اللّه العظمي الشيخ محمّد عليّ الأراكيّ(قدس سره)(ت 1415ق)

قال في مبحث الكافر من النجاسات:

وأمّا القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة فحكمهم من حيث الطهارة والنجاسة مبنيّ علي معرفة مذهبهم، فنقول: مقالة هؤلاء أنّ الموجود هو اللّه فقط وغيره معدومات صرفة وليس لهم حظّ من الوجود أصلاً، بل هم وجودات توهّميّة فما تري أنّه وجود مجرّد توهّم نظير الحركة في ظلّ الشمس المتحرّك حيث يتوهّم أنّه شيء مع أنّه لا شيء ومعدوم، وليس إلّا من عدم إشراق الشمس في مقدار من المكان... وإلي هذا أشار المولويّ في ما قاله بالفارسيّة:

چون--كه بيرنگ--ي اسير رنگ شد * م-وسيي ب--ا موسيي در جنگ شد

چون به بي رنگي رسي كان داشتي * موسي و فرعون كردند آشتي(2)

ومراده ب-«رنگ» هو القيود العدميّة، ومقصوده أنّه إذا ارتفعت القيود العدميّة فليس إلّا الوجود الواحد البحت البسيط وهو اللّه تعالي... فإذا تبيّن مقالتهم نقول: لهذه المقالة لوازم فاسدة كثيرة، فإنّه علي هذا لا يكون في البين من يعاقِب ومن يعاقَب، ومن يُنعِم ومن يُنعَم عليه، ومن يُرسِل النبيّ ومن يُرسَل الرسل إليهم.

ص: 659


1- 1416.. ملحقات إحقاق الحقّ، ج1، ص183.
2- 1417.. لما صار عديم اللون اسير اللون اشتعل الحرب بين موسي و موسي؛ فلو وصلت الي مرحلة الفناء و انعدام الالوان ستشاهد ان موسي يتصالح مع فرعون. مثوي معنوي، ملاجلال الدين المولوي البلخي. دفتر اول، باب 121.

وبالجملة فلازمه بطلان الثواب والعقاب والجنّة والنار والأنبياء وإنكار المنعم وهذا إنكار للضروريّ في جميع الاديان من الاعتراف بجميع ذلك، فإن كانوا ملتزمين بذلك فلا إشكال في كفرهم ونجاستهم.(1)

توضيح وتبيين

لا يخفي أنّ أكثر ما ذكره الفلاسفة والعرفاء في طيّ مباحثهم غير معقول وممّا ينكره العقل السليم والفطرة السليمة، وإن كانت ألفاظهم وعباراتهم لطيفة شعريّة ذوقيّة نظير ما قيل: «ما سه چيز داريم: بود، نبود، نمود» ثمّ يقال: «انسان حجر شجر نمود است».

أقول: هذا عين ارتفاع النقيضين فهل يكون بين الوجود والعدم منزلة؟

قال الصادق(عليه السلام): «إذا لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة».(2)

وهكذا سائر كلماتهم. وهؤلاء أتعبوا أنفسهم لتحصيل هذه المطالب ولكن لابدّ أن نعلم أنّ أكثر ما ذكروه بصورة البرهان ليست من البديهيّات بل من النظريّات التي يجوز فيها الخطأ. والتسليم لجميع ما ذكروه بعنوان الحقّ والصدق مخالف للعقل والفطرة. وأدلّ دليل علي خطأهم في كشف الحقائق هو الاختلاف بينهم فيما ذكروه، ولذا نقل عن أفلاطون أنّه قال:

ليس حظّنا من العلم إلّا العلم بأنّا لانعلم شيئاً.

والفرق بينهم وبين الفقهاء أنّه لا يدّعي أحد من الفقهاء أنّ ما استنبطه هو الحقّ الفريد والوحي الذي نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين، فإنّ غاية ما يدّعون هو أنّ هذا ما أدّي إليه ظنّي، بخلاف أهل الفلسفة والعرفان فإنّهم زعموا أنّ ما جاؤوا به هو الحقّ الذي جاء به صاحب الشريعة المقدّسة وأنّ خلافه هو الباطل، ويدّعون العلم بحقائق الأشياء علي ما هي عليها، كما يصرّحون به في تعريف الفلسفة.

مضافاً إلي أنّ الفقهاء لم يخطّئوا الطريق، فإنّهم قد سلكوا طريقاً أمرهم الشارع باتّباعه

ص: 660


1- 1418.. كتاب الطهارة، ج1، ص552.
2- 1419.. الكافي، ج1، ص84، ح6.

وهو اتّباع الأمارات والأصول العمليّة، رعاية لمصلحة التسهيل أو غير ذلك ممّا حقّق في محلّه، بخلاف الفلاسفة السالكين للطّريق المظلم المحرّم سلوكه عقلاً وشرعاً.

مع أنّ بعض اختلافات الفقهاء رحمة كما في الموسّعات التي أحدث الأئمّة(عليهم السلام) الخلاف فيها لمصالح هم أعلم بها.

فتري هؤلاء الموسومين بأهل المعقول قد يختلفون في المسألة الواحدة إلي عشرة أقوال، ومن العجيب أنّ كلّفرقة منهم تدّعي أنّ ما توهّمته هو الحقّ الذي ظهر له بالعقل الذي هو حجّة اللّه علي العباد، مع أنّ العقل معصوم عن الخطأ وهو رافع للاختلاف، لامُثيراً ومَثاراً له، وعلي ما توهّموه يكون العقل حجّة للعباد علي اللّه تعالي لا حجّة له تعالي علي العباد، وذلك لأنّ كلّ فرقة منهم - مع وضوح بطلان جميعها، أو غير الواحد منها - يستند إليه ولا يمكن مؤاخذته عليه فلا حجّة للّه تعالي عليهم!!

مضافاً إلي أنّ أخذ الدين من مباني هؤلاء - مع كون كلامهم قابلاً للخطأ خصوصاً مع كثرة الإختلاف وتشتّت الآراء بينهم - غلط فاحش؛ فإنّه لابدّ أن يكون الأخذ عن صاحب الشريعة في غير البديهيّات، فيجب حينئذٍ الرجوع إلي الآيات المباركات والروايات الشريفة. بل لابدّ من الرجوع إلي صاحب الشريعة المقدّسة حتّي في البديهيّات الأوّليّة، لأنّ الإنسان قد يغفل عن أبده البديهيّات كاحتياج الحادث إلي المحدث، كما أنّه يكون جاهلاً بالنسبة إلي غير البديهيّات، ففي البديهيّات يحتاج إلي التذكّر وفي غيرها يحتاج إلي التعلّم.

ولابدّ لنيل الحقائق في البديهيّات الأوّليّة من الرجوع إلي الآيات والآثار الصريحة الصحيحة من باب الإرشاد والتذكّر لإزالة الغفلة. وكذا لابدّ في البديهيّات من الرجوع إلي صاحب الشريعة من جهة معرفة مصاديقها وصغرياتها كمصاديق العدل والظلم ففي أصل البديهيّات تكون الحاجة إلي كلام المعصوم من جهة الإرشاد وفي المصاديق تكون الحاجة إليه تارة من باب التذكير وتارة من باب التعليم وأمّا في غير البديهيّات فلابدّ في تعلّم كبرياتها وصغرياتها وكذا التذكّر إليهما بعد التعلّم من الرجوع إلي الحجّة الظاهرة، فطريق

ص: 661

نيلها هو الأخذ بالنصوص أو الظهورات العرفيّة، ولا يجوز تأويلهما كما يأوّلونهما بما تضحك به الثكلي لكي تطابق آرائهم الفاسدة ونظريّاتهم الكاسدة.

والحاصل: إنّ الحاجة إلي الحجّة الظاهرة فيما يكشفه العقل تكون من باب التذكير وفيما لا سبيل له إليه من باب التعليم، وعلي أيّ تقدير لا يصحّ التسليم لكلّ ما قالوا ناهيك عن التسليم إلي ما قاله بعضهم: «ليس في جبّتي إلّا اللّه»؟!

والعجب كلّ العجب بعد هذا كلّه أنّهم ادّعوا زورا أنّ ما وصلوا إليه بواسطة التعلّم من علمائهم هو المعقولبالعقل الصريح وكلّ من خالفهم مخالف للعقل والمعقول. ويرون أنّ من صرف عمره للتعلّم من العلماء الربّانيّين الذين لا يوجد من هو أعلم منهم(عليهم السلام)، قد ترك المعقول واكتفي بالمنقول، كأنّ غيرهم(عليهم السلام) يثير دفائن العقول؟!

الحكمة الإلهيّة تؤخذ من اللّه أم من البشر؟

ثمّ إنّ اللّه تعالي بعث نبيّه إلي الناس كافّة وأعطاه الحكمة وأمره أن يعلّمها الناس، والرسول(صلي الله عليه آله و سلم) بلّغ وعلّم الناس الحكمة، فقال عزّ من قائل:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛(1)

و﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛(2)

و﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛(3)

و﴿ذلِكَ مِمَّا أَوْحَي إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْ-حِكْمَةِ وَلَا تَ-جْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَي فِي جَهَنَّمَ

ص: 662


1- 1420.. الجمعة62.، الآية 2.
2- 1421.. البقرة2.، الآية 151.
3- 1422.. آل عمران3.، الآية 164.

مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾.(1)

وذلك إجابة لدعاء إبراهيم(عليه السلام) حيث قال:

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْ-حَكِيمُ﴾.(2)

وأنّه تعالي أخبر أنّه قد أعطي أهل بيت رسول اللّه الحكمة فقال تعالي:

﴿أَمْ يَ-حْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً﴾.(3)

كما علّمها ساير أنبيائه(عليهم السلام)، كما قال في شأن نبيّه عيسي(عليه السلام):﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْ-جِيلَ﴾.(4)

ثمّ إنّه تعالي قال:

﴿يُؤْتِي الْ-حِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْ-حِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلنا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.(5)

وبعد هذا كلّه هل تري أنّ رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم) وأهل بيته المطهّرين قصّروا في إبلاغ الحكمة إلي الناس وتعليمها إيّاهم؟

أوتري أنّهم علّموها الناس لكن لم يستطيعوا أن يعلّموها بشكل واضح، الأمر الذي أحوجنا إلي أن نذهب إلي أبواب غيرهم أوّلاً كي نتمكّن من فهم تعاليمهم؟

أو لم يعرفوا أنّ الأنسب في تعليم الحكمة أن يبتدئوا بمباحث الوجود والماهيّة وما إلي ذلك ممّا صنعه غيرهم؟(6)

ص: 663


1- 1423.. الإسراء17.، الآية 39.
2- 1424.. البقرة2.، الآية 129.
3- 1425.. النساء4.، الآية 54.
4- 1426.. آل عمران3.، الآية 48.
5- 1427.. البقرة2.، الآية 269.
6- 1428.. كما قال بعضهم: «الحكمة الإلهيّة علم يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو موجود» بداية الحكمة، ص 13-17، فهل الأنبياء والأوصياء قد بحثوا عن هذه الأبحاث في حكمتهم؟ أو أنّ حكمتهم ليست إلهيّة؟!

قال آية اللّه العظمي السيّد الگلپايگانيّ(رحمه الله) في عبارته المتقدّمة:

أضف إلي ذلك أنّ من يفسّر الآيات بهذا النحو والنسق وفقاً لعقيدته الفاسدة فكأنّه يتخيّل ويزعم أنّ أحداً من الأكابر والأصاغر لا يعرف ولا يفهم معناها وإنّما هو وحده قد فهمه، ومآل ذلك نزول القرآن لأجله فقط، كما أنه يستلزم لغويّة نزوله بالنسبة إلي غيره من الناس حيث إنّهم لا يفهمون معني الآيات ولا يفقهون مغزي معارف الكتاب ومستلزم لاغراء اللّه تعالي عباده بالجهل. نعم الحكم بكفر القائل بالأمور المزبورة موقوف علي علمه والتفاته إلي تلك اللوازم.(1)

وقال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله):

والظاهر منها أنّ العباد إنّما يكلّفون بالانقياد للحقّ وترك الاستكبار عن قبوله، فأمّا المعارف فإنّها بأسرها ممّا يلقيه اللّه تعالي في قلوب عباده بعد اختيارهم للحقّ، ثمّ يكمل ذك يوماً فيوماً بقدر أعمالهم وطاعاتهم حتّي يوصلهم إلي درجة اليقين، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيّين وأئمّة الدين في تكميل أُممهم وأصحابهم، فإنّهم لم يحيلوهم علي الإكتساب والنظر وتتبّع كتبالفلاسفة والاقتباس من علوم الزنادقة، بل إنّما دعوهم أوّلاً إلي الإذعان بالتوحيد وسائر العقائد، ثمّ دعوهم إلي تكميل النفس بالطاعات والرياضات حتّي فازوا بأعلي درجات السعادات.(2)

بكلمة واضحة: إن كانت الحكمة هي ما عرّفوه في الإصطلاح، فيجب الالتزام بأنّ رسول اللّه والأئمّة(عليهم السلام) قد قصّروا في تعليمها وإبلاغها. لأنّ ما هو موجود في الحكمة البشريّة يختلف تماما عمّا جاء به الأنبياء ويباينه من صدره إلي ذيله وفي كيفيّة الدخول فيالبحث والخروج عنه والأبحاث المطروحة فيه.

قال العلّامة المجلسيّ قدّس اللّه سرّه ونوّر اللّه مضجعه:

هل رأيت في كلام أحد من الصحابة والتابعين أو بعض الأئمّة الراشدين لفظ الهيولي أو المادّة أو الصورة أو الاستعداد أو القوّة؟(3)

ص: 664


1- 1429.. نتائج الأفكار (السيّد الگلپايگانيّ)، ص227.
2- 1430.. بحارالأنوار، ج5، ص224.
3- 1431.. بحارالأنوار، ج40، ص173.

فلابدّ من الالتزام بأحد الأمرين: فإمّا أن يكون المعصومون(عليهم السلام) كتموا الحكمة (التي أعطاهم اللّه) عن الخلق، أو أنّهم لم يعرفوا كيفيّة تبليغها إلي الناس، إلي أن يجي ء من يعرف الأبحاث الحِكَميّة من غيرهم فيعرّفنا ذلك. والالتزام بواحد منهما تكذيب للقرآن وافتراء علي اللّه ورسوله كما هو واضح بملاحظة الآيات السالفة ذكرها.

هل بعد قوله تعالي: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ﴾(1) يحتمل أحد أنّ رسول اللّه قد قصّر في تعليمها حتّي لا يكون للحكمة أثراً في كلامه(صلي الله عليه آله و سلم) وكلام أوصيائه المطهّرين؟

أو أنّ الأُسس التي ابتني عليها المتعالية منها مباينة تماماً لما جاء به القرآن والسنّة المطهّرة، وأحياناً مضادّة لهما؟

أو تكون دررها الثمينة وفصوصها معاكسا لجميع الشرايع السماويّة ونواميسها؟

فعلي ضوء ما ذكرنا لا مناص من أن نلتزم بأنّهم لمّا رأوا أنّ الشريعة المطهّرة جائت بالحكمة المتعالية عن الأوهام والزخارف، وتحدّت بها جميع البشر وصارت كلمة الشريعة بها العليا وكلمتهم هي السفلي، اضطرّوا لجبر هذه النقيصة إلي أن يسرقوا من الأنبياء هذا العنوان أعني «الحكمة» التي أخذت صبغة قدسيّةوشرعيّة، فسمّوا أبحاثهم بالحكمة الإلهيّة كي ينخدع بذلك أتباع الشرايع.

ومن العجيب أنّ بعضهم كتب في الصفحة الأولي من كتابه قوله تعالي: ﴿يُؤْتِي الْ-حِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْ-حِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلنا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾(2) ولعلّه لم يلتفت بأنّه لو كانت الحكمة التي جاء بها القرآن وتحدّي بها هو ما أثتبه في أسفاره الخالية عن تعاليم القرآن والأنبياء حتّي لم يذكر فيه شيئاً من الآيات والأخبار، لكان اللّازم من ذلك تكذيب القرآن حيث نادي بأعلي صوته أنّ رسول اللّه قد علّمكم هذه الحكمة التي أنا متحدّيكم بها فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْ-حِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ

ص: 665


1- 1432.. الجمعة62.، الآية 2.
2- 1433.. البقرة2.، الآية 269.

مُبِينٍ﴾.(1)

ومن لطائف هذه الآية الكريمة أنّها تعتبر كلّ مذهب التزم به الناس قبل ذلك ضلالاً مبيناً. ومن الواضح أنّ الحاكم علي أفكار البشر وفحولهم في عهد الجاهليّة وقبل الإسلام كان ما نسجته الفلاسفة والعرفاء بأوهامهم، والقرآن جاء بأمر جديد لا تناله أوهام البشر وأفكارهم، ولذا عبّر عن نفسه في آيٍ كثيرة بالحديث، فهو الخبر الحديث والأمر الجديد، وقد مضي في كلمات ابن نديم البغداديّ أنّه كان يطلق علي الفلسفة اليونانيّة وغيرها من الفلسفات العلوم القديمة والكتب القديمة.

فرية أخري في من له شأن الدعوة إلي اللّه تعالي

ثمّ إنّهم ما اكتفوا بهذه الفرية الشنيعة؛ حتّي ادّعوا أنّ من يهتمّ بكلمات الأئمّة الهداة(عليهم السلام) ويلتزم بأخذ الدين والعلم منهم ولا يعتني بما جاء به غيرهم، لا يحقّ له أن يتكلّم إلّا مع من كان داخلاً في الشريعة، فليس له أن يحاور الملحدين الخارجين عن نطاق الشرع المقدّس. وذلك لزعمهم أنّ كلمات أئمّتنا(عليهم السلام) ليست إلّا تعبّداً صرفاً ليس فيها أيّة إثارة للعقل ولا إرائة للعلم. وكأنّهم(عليهم السلام) قد أهملوا بيان أعظم ركن للدين وفوّضوا ذلك إلي المتفلسفين كي يكونوا هم الذين يهدون الناس إلي الشريعة، فليس للأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) إلّا بيان التعبّديّات مثل النجاساتوالمطهّرات. فيكون الفلاسفة مقدّمين علي الأنبياء وأفضل منهم ويعلمون ما لا يعلم الأنبياء ويفعلون ما هو خارج عن مسؤوليّتهم؟!

كلّا كلّا! فإنّ من أهمّ شؤون الأنبياء والأئمّة الهداة(عليهم السلام) الدعوة إلي اللّه سبحانه، قال تعالي:

﴿أَدْعُوا إِلَي اللَّهِ عَلَي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛(2)

و﴿أَدْعُوكُمْ إِلَي الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾.(3)

ص: 666


1- 1434.. آل عمران3.، الآية 164.
2- 1435.. يوسف12.، الآية 108.
3- 1436.. غافر40.، الآية 42.

أ فكانوا(عليهم السلام) يدعون الملحدين إلي اللّه وإلي الإيمان مع عدم تواجد دليل شافٍ يقطع عذر كلّ معاند بأيديهم؟ أو كانوا يتكلّمون بكلمات في سبيل دعوتهم بحيث لا يفهمه مخاطبوهم، وإنّما يحتاجون لفهمها إلي أن يذهبوا إلي أبواب علماء البشر كي يكونوا هم الذين يفسّرون كلمات الأنبياء ويزيحوا الشبهة عنها؟

إذا كان الأمر كذلك فاحتياج الناس إلي الفيلسوف يكون أكثر وأشدّ من احتياجهم إلي النبيّ، فإنّ الفيلسوف يسدّ الفراغ من نواحي ثلاث ممّا أهمله النبيّ العياذ باللّه:

الأوّل: في المحاورة مع الكافرين حتّي يؤمنوا.

والثاني: في أن يفسّر لنا كلمات النبيّ ممّا لا نفهمه من دونه.

والثالث: أنّه إذا واجهنا شبهة في سبيل الدعوة إلي اللّه فهذا الفيلسوف هو الذي يجيب عنها.

وقد صرّح بعضهم بهذه الخزية فقال: إنّ القرآن قد جعل الأدلّة التي أقامها علي إثبات الصانع - التي هي النظر في الآيات وآثار الخلقة - من إحدي الطرق لمعرفة اللّه تعالي ولكنّها للعوامّ الذين لا يتطرّق إلي أذهانهم -- بسبب قصور فهمهم -- أمثال شبهة التسلسل، وأمّا الخواصّ الذين يفهمون هذه الشبهات فلا تنحلّ مشكلتهم إلّا بالرجوع إلي الفلسفة وأبحاثها المعقّدة إلي أن يكون الفيلسوف هو الذي يزيح عن أذهانهم هذه الشبهة وأمثالها ويثبت بالبرهان العقليّ استحالتها!؟(1)

فكأنّ الأنبياء لم يعرفوا هذه الشبهات وكأنّهم لم يتصدّوا لحلّها، وذلك هو الذي أحوجنا إلي أن نرجع إلي أبواب غيرهم. وقد أغروا العوامّ القُصَّر لإرائتهم غير الدليل باسم الدليل! أو أنّه لم يكن من شأنهمتذكير الناس باللّه تعالي والدعوة إليه! أو أنّهم إنّما بعثوا للعوامّ لا للخواصّ!

كيف ينادي القرآن بأعلي صوته بعد التذكّر إلي آثار الخلقة: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ

ص: 667


1- 1437.. راجع تعليقات الشيخ مرتضي مطهريّ علي اݧݧݩݧُصول فلسفه وروش رئاليسم، ج5، ص92-93.

يَتَفَكَّرُونَ﴾،(1) أو يقول: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾،(2) والحال أنّه ليس دليلاً شافياً وآية تامّةً للمتفكّرين والمؤمنين، وإنّما يتمّ بضميمة الأبحاث الفلسفيّة!

وقال العلّامة المجلسيّ(رحمه الله) بعد نقل كلمات الفلاسفة في قدم العالم:

وإنّما أوردنا هذه المذاهب السخيفة ليعلم أنّ أساطين الحكماء تمسّكوا بهذه الخرافات وتفوّهوا بها، ويتّبعهم أصحابهم ويعظّمونهم، وإذا سمعوا من أصحاب الشريعة شيئاً ممّا أخذوه من كتاب اللّه وكلام سيّد المرسلين والأئمّة الراشدين: ينكرون ويستهزئون، قاتلهم اللّه أنّي يؤفكون.(3)

ولا يغرنّك أيّها المتحرّي للحقّ والحقيقة قولهم: نحن إنّما نأخذ المدّعي من الأئمّة ثمّ نحاول إقامة الدليل عليه، أو قولهم: نحن إنّما نريد من تعلّم هذه الأبحاث الفلسفيّة وتعليمها ونشرها أن نكشف الغطاء عن وجه الشريعة الغرّاء. فهل كان الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) يطرحون المدّعي بلا دليل كي يجي ء غيرهم ويقيم الأدلّة علي ما ادّعوا؟ أو هل كان الأئمّة(عليهم السلام) يتكلّمون بمعمّيات لا يدرك كنهها إلّا من صرف عمره في الاختلاف إلي أبواب غيرهم؟ أو هل كان المعاصرون للأنبياء والأئمّة لا يفهمون مغزي ما أراده النبيّ، ولكن فهمه من جاء بعد مضيّ ألف سنة من بعثته الشريفة؟

ثمّ إنّه مع الغضّ عن ذلك كلّه تري أنّ أكثر أبحاثهم هو بعينه ممّا تكلّمت عنها الشرايع الإلهيّة والأنبياء والأئمّة بالتفصيل، وقد خالف نتائج أوهامهم بما فيها من الاختلاف والتضارب - التي سمّوها بالمعقول تارة وبالحكمة الإلهيّة أخري - نصوصَ الوحي ومحكمات الكتاب وضرورة الشرايع الإلهيّة، وقد صرّح بذلك غير واحد منهم ومن غيرهم. فعلي هذا كيف يمكن أن يكون المباين مفسّراً لمباينه وشارحاً له؟

ولا يخفي علي أحد ممّن راجع كلماتهم وعرف أساليبهم أنّهم ليسوا بصدد تفسير وبيان نصوص الوحي وما وردفي الشرع وبيانه أبداً، فإنّهم يبحثون عن كلّ مسألة مع قطع النظر عن الآثار الواردة في الشريعة - بخلاف الفقهاء والأصوليّين - ويتركون الدين لأهله ثمّ

ص: 668


1- 1438.. الرعد13.، الآية 3.
2- 1439.. الإسراء17.، الآية 82.
3- 1440.. بحارالأنوار، ج54، ص251.

يعتمدون علي نتايج منسوجاتهم فإن وافق الشرع فهو، وإلّا يأوّلونه كيفما أرادوا، ولو بتأويله وحمله علي ما يباينه ويضادّه كمال المباينة والمضادّة، كما سبق النقل عن بعضهم من أنّ قوله تعالي ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّ-خَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ﴾(1) يكون مدحاً، أو ما ورد عن بعضهم من أنّه قد فسّر العذاب بالعذب، أو قولهم أنّ المراد من حديث: «لا جبر ولا تفويض» نفي الحكم بانتفاء الموضوع، إلي غير ذلك من التأويلات والتوجيهات الباردة التي تضحك بها الثكلي.

وغير خفيّ أنّه يلزم علي اللاعب بكلام كلّ متكلّم - بتفسير الكلمة بضدّها وتقليب الذمّ مدحاً - أن ينسب إلي هذا المتكلّم ما لا يمكن انتسابه إلي عاقل فضلاً عن خالق العقل وصاحب الشريعة.

وممّا تضحك به الثكلي أن يقال: إنّ كتمان هذه الحقائق عن العوامّ إنّما يكون لأجل اختلاف الناس من حيث استعدادهم لنيل المطالب العميقة، وذلك لأنّ اختلاف الناس من هذه الجهة مسلّم وقد قال مولانا أميرالمؤمني-ن(عليه السلام): «إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»،(2) ولكن من الظاهر أشدّ الظهور أنّ هذا الاختلاف إنّما يسوّغ لنا أن نكتم الحكمة عن غير أهلها، لا أن نظهر له الباطل بصورة الحقّ كي يعتقد بالباطل ويحسب أنّه يحسن صُنعاً، فإنّ هذا ليس إلّا الغدر والخيانة والنفاق والإغراء بالجهل؛ كما نسب هذه الفرية بعض من تقدّم كلامه إلي أنبياء اللّه وأوليائه حيث قال: إنّ العجل وإن كان هو اللّه تعالي وعبادته ليس إلّا عبادة اللّه كما قضي هو أن لا يكون إلّا كذلك، إلّا أنّ هذا المطلب من أسرار الولا ية والباطن وليس لنا دعوة عوامّ الناس إليه، بل الواجب علينا منع الناس عن عبادته كما صنع الأنبياء بالنسبة إلي عوامّ الناس فقالوا: إنّ عبادتها كفر، وإن كان عقيدتهم في الباطن أنّ اللّه أحبّ أن يُعبد حتّي في صورة الأصنام وأنّ عبادتها عين الإيمان!!

ثمّ إعلم أنّ التشنيع والوقيعة علي من سلك هذه المسالك المظلمة الباطلة الوارد في كلمات الفقهاءالعظام تبعاً لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إنّما هو لأجل أنّهم لعبوا بالشريعة والشارع

ص: 669


1- 1441.. الجاثية45.، الآية 23.
2- 1442.. تحف العقول، ص169؛ بحارالأنوار، ج1، ص188، ح5.

وكلامه واستهزؤا واستخفّوا بالآيات والأخبار وخدعوا أهل الشرع، وإنّ من أهمّ الفرائض علي العلماء إبطال البدع والوقيعة في أهلها.

في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه آله و سلم):

إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.(1)

قال العلّامة المجلسيّ(قدس سره) في توضيح الخبر:

بيان: كأنّ المراد بأهل الريب الذين يشكّون في الدين ويشكّكون الناس فيه بإلقاء الشبهات، وقيل: المراد بهم الذين بناء دينهم علي الظنون والأوهام الفاسدة، كعلماء أهل الخلاف... .

حديث فيه إنذار وتحذير وتنبيه

ولنختم الكلام بذكر حديث شريف يناسب المقام:

الاختصاص: عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:

إذا أراد اللّه قبض الكافر قال: يا ملك الموت إنطلق أنت وأعوانك إلي عدوّي فإنّي قد أبليته فأحسنت البلاء، ودعوته إلي دار السلام فأبي إلّا أن يشتمني، وكفر بي وبنعمتي وشتمني علي عرشي، فاقبض روحه حتّي تكبّه في النار.

قال: فيجيئه ملك الموت بوجه كريه كالح، عيناه كالبرق الخاطف، صوته كالرعد القاصف، لونه كقطع الليل المظلم، نفسه كلهب النار، رأسه في السماء الدنيا ورجل في المشرق ورجل في المغرب، وقدماه في الهواء معه سفّود كثير الشعب، معه خمسمائة ملك معهم سياط من قلب جهنّم، تلتهب تلك السياط وهي من لهب جهنّم، ومعهم مسح أسود وجمرة من جمر جهنّم، ثمّ يدخل عليه ملك من خزّان جهنّم يقال له: سحقطائيل فيسقيه شربة من النار، لا يزال منها عطشاناً حتّي يدخل النار.

ص: 670


1- 1443.. الكافي، ج2، ص375، ح4؛ بحارالأنوار، ج71، ص202، ح41.

فإذا نظر إلي ملك الموت شخص بصره وطار عقله، قال: يا ملك الموت ارجعون، قال: فيقول ملك الموت: ﴿كَلّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾(1) قال: فيقول: يا ملك الموت فإلي من أدع مالي وأهلي وولدي وعشيرتي وما كنت فيه من الدنيا فيقول: دعهم لغيرك واخرج إلي النار. وقال: فيضربه بالسفود ضربة فلا يبقي منه شعبة إلّا أنشبها في كلّ عرق ومفصل، ثمّ يجذبه جذبة فيسلّ روحه من قدميه بسطاً فإذا بلغت الركبتين أمر أعوانه فأكبّوا عليه بالسياط ضرباً، ثمّ يرفعه عنه فيذيقه سكراته وغمراته قبل خروجها، كأنّما ضرب بألف سيف، فلو كان له قوّة الجنّ والإنس لاشتكي كلّ عرق منه علي حياله بمنزلة سفّود كثير الشعب ألقي علي صوف مبتل. ثمّ يطوّقه فلم يأت علي شيء إلّا انتزعه، كذلك خروج نفس الكافر من عرق وعضو ومفصل وشعرة، فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره وقيل:

﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُ-جْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَي اللهِ غَيْرَ الْ-حَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(2) وذلك قوله: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَي يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً﴾(3) فيقولون: حراماً عليكم الجنّة محرّما.

وقال: تخرج روحه فيضعها ملك الموت بين مطرقة وسندان فيفضخ أطراف أنامله وأخر ما يشدخ منه العينان، فيسطع لها ريح منتن يتأذّي منه أهل السماء كلّهم أجمعون فيقولون: لعنة اللّه عليها من روح كافرة منتنة خرجت من الدنيا، فيلعنه اللّه ويلعنه اللاعنون.

فإذا أتي بروحه إلي السماء الدنيا أغلقت عنه أبواب السماء وذلك قوله: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْ-جَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْ-جَمَلُ فِي سَمِّ الْ-خِيَاطِ وَكَذلِكَ نَ-جْزِي الْمُ-جْرِمِينَ﴾(4) يقول اللّه: ردّها عليه فمنها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخري، فإذا حمل سريره حملت نعشه الشياطين فإذا انتهوا به إلي قبره قالت كلّ بقعة منها: اللهمّ لا تجعله في بطني حتّي

ص: 671


1- 1444.. النور24.، الآية 39.
2- 1445.. الأنعام6.، الآية 93.
3- 1446.. الفرقان25.، الآية 22.
4- 1447.. الأعراف7.، الآية 40.

يوضع فيالحفرة التي قضاها اللّه فإذا وضع في لحده قالت له الأرض: لا مرحباً بك يا عدوّ اللّه أما واللّه لقد كنت أبغضك وأنت علي متني وأنا لك اليوم أشدّ بغضاً وأنت في بطني، أما وعزّة ربّي لأسيئنّ جوارك ولأضيقنّ مدخلك ولأوحشنّ مضجعك ولأبدلنّ مطعمك، إنّما أنا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران.

ثمّ ينزل عليه منكر ونكير وهما ملكان أسودان أزرقان يبحثان القبر بأنيابهما ويطئان في شعورهما، حدقتاهما مثل قدر النحاس وكلامهما مثل الرعد القاصف وأبصارهما مثل البرق اللامع فينتهرانه ويصيحان به فيتقلّص نفسه حتّي يبلغ حنجرته فيقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟

فيقول: لا أدري. قال: فيقولان: شاكّ في الدنيا وشاكّ اليوم، لا دريت ولا هديت. قال: فيضربانه ضربة فلا يبقي في المشرق ولا في المغرب شيء إلّا سمع صيحته إلّا الجنّ والإنس. قال: فمن شدّة صيحته، يلوذ الحيتان بالطين وينفر الوحش في الخياس ولكنّكم لا تعلمون.

قال: ثمّ يسلّط عليه حيّتين سوداوتين زرقاوتين تعذّبانه بالنهار خمس ساعات وبالليل ستّ ساعات لأنّه كان يستخفي من الناس ولا يستخفي من اللّه فبعداً لقوم لا يؤمنون. قال: ثمّ يسلّط اللّه عليه ملكين أصمّين أعميين معهما مطرقتان من حديد من نار، يضربانه فلا يخطئانه، ويصيح فلا يسمعانه إلي يوم القيامة.

فإذا كانت صيحة القيامة اشتعل قبره ناراً فيقول: لي الويل إذا اشتعل قبري ناراً، فينادي مناد: ألا الويل قد دنا منك والهوان، قم من نيران القبر إلي نيران لا تطفأ، فيخرج من قبره مسودّاً وجهه مزرقة عيناه، قد طال خرطومه وكسف باله، منكسّاً رأسه يسارق النظر فيأتيه عمله الخبيث فيقول: واللّه ما علمتك إلّا كنت عن طاعة اللّه مبطئاً وإلي معصيته مسرعاً قد كنت تركبني في الدنيا فأنا أريد أن أركبك اليوم كما كنت تركبني وأقودك إلي النار. قال: ثمّ يستوي علي منكبيه فيركل قفاه حتّي ينتهي إلي عجزة جهنّم، فإذا نظر إلي الملائكة قد استعدّوا له بالسلاسل والأغلال قدعضّوا علي شفاههم من الغيظ والغضب، فيقول: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾(1) وينادي الجليل جيئوا به إلي النار،

ص: 672


1- 1448.. الأحزاب33.، الآية 66.

فصارت الأرض تحته ناراً والشمس فوقه ناراً، وجاءت نار فأحدقت بعنقه، فنادي وبكي طويلاً يقول: واعقباه. قال: فتكلّمه النار فتقول: أبعد اللّه عقبيك عقباً ممّا أعقبت في طاعة اللّه.

قال: ثمّ تجيئ صحيفة تطير من خلف ظهره وتقع في شماله، ثمّ يأتيه ملك فيثقب صدره إلي ظهره، ثمّ يفتل شماله إلي خلف ظهره، ثمّ يقال له: ﴿اِقْرَأْ كِتَابِكَ﴾، قال: فيقول: أيّها الملك كيف أقرء وجهنّم أمامي؟ قال: فيقول اللّه: دقّ عنقه واكسر صلبه وشدّ ناصيته إلي قدميه، ثمّ يقول:﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾(1) قال: فيبتدره لتعظيم قول اللّه سبعون ألف ملك غلاظ شداد، فمنهم من ينتف لحيته، ومنهم من يحطم عظامه قال: فيقول: أما ترحموني؟ قال: فيقولون: يا شقيّ كيف نرحمك ولا يرحمك أرحم الراحمين، أفيؤذيك هذا؟ قال: فيقول: أشدّ الأذي، قال: فيقولون: يا شقيّ وكيف لو قد طرحناك في النار؟ قال: فيدفعه الملك في صدره دفعة فيهوي سبعين ألف عام.

قال: فيقولون: ﴿يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾(2) قال: فيقرن معه حجر عن يمينه وشيطان عن يساره، حجر كبريت من نار، يشتعل في وجهه ويخلق اللّه له سبعين جلداً كلّ جلد غلظته أربعون ذراعا بذراع الملك الذي يعذّبه وبين الجلد إلي الجلد أربعون ذراعاً، وبين الجلد إلي الجلد حياة وعقارب من نار وديدان من نار رأسه مثل الجبل العظيم، وفخذاه مثل جبل ورقان - وهو جبل بالمدينة - مشفره أطول من مشفر الفيل، فيسحبه سحباً وأُذناه عضوضان، بينهما سرادق من نار تشتعل، قد أطلعت النار من دبره علي فؤاده، فلا يبلغ درين سامهما حتّي يبدل له سبعون سلسلة للسلسلة سبعون ذراعاً، ما بين الذراع إلي الذراع حلق عدد القطر والمطر، لو وضعت حلقة منها علي جبال الأرض لأذابتها.

قال: وعليه سبعون سربالاً من قطران من نار، وتغشي وجوههم النار، وعليه قلنسوة من نار، وليس في جسده موضع فتر إلّا وفيه حلقة من نار، وفي رجليه قيود من نار، علي رأسه تاج ستّون ذراعاً من نار، قد نقب رأسه ثلاث مائة وستّين نقباً، يخرج من ذلك النقب الدخان من كلّ جانب وقد غلي منها دماغه حتّي يجري علي كتفيه يسيل منها ثلاث مائة نهر وستّون نهراً من صديد،

ص: 673


1- 1449.. الحاقّة69.، الآية 22.
2- 1450.. الأحزاب66.، الآية 2.

يضيق عليه منزله كما يضيق الرمح في الزجّ، فمن ضيق منازلهم عليهم ومن ريحها وشدّة سوادها وزفيرها وشهيقها وتغيّظها ونتنها، اسودّت وجوههم، وعظمت ديدانهم فينبت لها أظفار كأظفار السنّور والعقبان تأكل لحمه، وتقرض عظامه، وتشرب دمه، ليس لهنّ مأكل ولا مشرب غيره.

ثمّ يدفع في صدره دفعة فيهوي علي رأسه سبعين ألف عام حتّي يواقع الحطمة فإذا واقعها دقّت عليه وعلي شيطانه وجاذبه الشيطان بالسلسلة كلّما وقع رأسه نظر إلي قبح وجهه، كلح في وجهه، قال: فيقول: ﴿يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾(1) ويحك بما أغويتني أحمل عنّي من عذاب اللّه من شيء فيقول: يا شقيّ كيف أحمل عنك من عذاب اللّه من شيء وأنا وأنت اليوم في العذاب مشتركون. ثمّ يضرب علي رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتّي ينتهي إلي عين يقال لها: آنية يقول اللّه تعالي: ﴿تَسْقَي مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾(2) وهي عين ينتهي حرّها وطبخها وأوقد عليها مذ خلق اللّه جهنّم، كلّ أودية النار تنام وتلك العين لا تنام من حرّها وتقول الملائكة: يا معشر الأشقياء ادنوا فاشربوا منها، فإذا أعرضوا عنها ضربتهم الملائكة بالمقامع، وقيل لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْ-حَرِيقِ * ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.(3)

وقال: ثمّ يؤتون بكأس من حديد فيه شربة من عين آنية، فإذا أدني منهم تقلّصت شفاههم وانتثرت لحوم وجوههم فإذا شربوا منها وصار في أجوافهم يصهر به ما في بطونهم والجلود. ثم يضرب علي رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتّي يواقع السعير، فإذا واقعها سعّرت في وجوههم، فعند ذلك غشيت أبصارهم من نفحها. ثمّ يضرب علي رأسه ضربةفيهوي سبعين ألف عام حتّي ينتهي إلي شجرة الزقوم ﴿شَجَرَةٌ تَ-خْرُجُ فِي أَصْلِ الْ-جَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ (4) عليها سبعون ألف غصن من نار في كلّ غصن سبعون ألف ثمرة من نار، كلّ ثمرة كأنّها رأس الشيطان قبحاً ونتناً تنشب علي صخرة مملسة سوخاء كأنّها مرآة زلقة، بين أصل الصخرة إلي الصخرة سبعون

ص: 674


1- 1451.. الزخرف43.، الآية 38.
2- 1452.. الغاشية88.، الآية 5.
3- 1453.. الأنفال8.، الآيتان 50-51.
4- 1454.. الصافات37.، الآيتان 64- 65.

ألف عام، وأغصانها تشرب من نار، ثمارها نار، وفروعها نار، فيقال له: يا شقيّ اصعد، فكلّما صعد زلق، وكلّما زلق صعد، فلا يزال كذلك سبعين ألف عام في العذاب، وإذا أكل منها ثمرة يجدها أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيف، وأشدّ من الحديد، فإذا واقعت بطنه غلت في بطنه كغلي الحميم، فيذكرون ما كانوا يأكلون في دار الدنيا من طيب الطعام، فبينا هم كذلك إذ تجذبهم الملائكة فيهوون دهراً في ظُلَم متراكبة، فإذا استقرّوا في النار سمع لهم صوت كصيح السمك علي المقلي أو كقضيب القصب، ثمّ يرمي نفسه من الشجرة في أودية مذابة من صفر من نار وأشدّ حرّاً من النار تغلي بهم الأودية وترمي بهم في سواحلها، ولها سواحل كسواحل بحركم هذا، فأبعدهم منها باع والثاني ذراع والثالث فتر فتحمل عليهم هوامّ النار الحيّات والعقارب كأمثال البغال الدلم لكلّ عقرب ستّون فقاراً، في كلّ فقار قلّة من سمّ، وحيّات سود زرق، مثال البخاتي، فيتعلّق بالرجل سبعون ألف حيّة وسبعون ألف عقرب، ثمّ كبّ في النار سبعين ألف عام، لا تحرقه قد اكتفي بسمّها.

ثمّ تعلّق علي كلّ غصن من الزقوم سبعون ألف رجل ما ينحني ولا ينكسر، فيدخل النار من أدبارهم، فتطّلع علي الأفئدة، تقلّص الشفاه، وتطير الجنان، وتنضج الجلود، وتذوب الشحوم، ويغضب الحيّ القيّوم فيقول: يا مالك! قل لهم: ﴿ذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلنا عَذَابا﴾(1) يا مالك! سعّر سعّر! فقد اشتدّ غضبي علي من شتمني علي عرشي، واستخفّ بحقّي، وأنا الملك الجبّار، فينادي مالك: يا أهل الضلال والاستكبار والنعمة في دار الدنيا كيف تجدون مسّ سقر؟ قال: فيقولون: قد أنضجت قلوبنا، وأكلت لحومنا، وحطمت عظامنا، فليس لنا مستغيث، ولا لنامعين، قال: فيقول مالك: وعزّة ربّي لا أزيدكم إلّا عذاباً، فيقولون: إن عذّبنا ربّنا لم يظلمنا شيئاً، قال: فيقول مالك: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(2) يعني بُعداً لأصحاب السعير، ثمّ يغضب الجبّار فيقول: يا مالك سعّر سعّر، فيغضب مالك فيبعث عليهم سحابة سوداء يظلّ أهل النار كلّهم، ثمّ يناديهم فيسمعها أوّلهم وآخرهم، وأفضلهم وأدناهم، فيقول: ماذا تريدون أن أمطركم؟ فيقولون: الماء البارد واعطشاه! واطول

ص: 675


1- 1455.. النبأ78.، الآية 30.
2- 1456.. الملك67.، الآية 11.

هواناه! فيمطرهم حجارةً وكلاليباً وخطاطيفاً وغسليناً وديداناً من نار، فينضج وجوههم وجباههم، ويغضّا أبصارهم، ويحطم عظامهم، فعند ذلك ينادون: واثبوراه! فإذا بقيت العظام عواري من اللحوم اشتدّ غضب اللّه فيقول: يا مالك اسجرها عليهم كالحطب في النار، ثمّ يضرب أمواجها أرواحهم سبعين خريفاً في النار، ثمّ يطبق عليهم أبوابها من الباب إلي الباب مسيرة خمسمائة عام، وغلظ الباب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ يجعل كلّ رجل منهم في ثلاث توابيت من حديد من نار بعضها في بعض، فلا يسمع لهم كلام أبداً إلّا أنّ لهم فيها شهيق كشهيق البغال، وزفير مثل نهيق الحمير، وعواء كعواء الكلاب، صمّ بكم عمي فليس لهم فيها كلام إلّا أنين، فيطبق عليهم أبوابها، ويسدّ [يمدد خ ل] عليهم عمدها، فلا يدخل عليهم رَوْح أبداً، ولا يخرج منهم الغمّ أبداً، فهي عليهم مؤصدة يعني مطبقة ليس لهم من الملائكة شافعون، ولا من أهل الجنّة صديق حميم، وينساهم الربّ ويمحو ذكرهم من قلوب العباد، فلا يذكرون أبداً.

فنعوذ باللّه العظيم الغفور الرحمن الرحيم من النار وما فيها ومن كلّ عمل يقرّب إلي النار إنّه غفور رحيم، جواد كريم.(1)

بيان: لا يبعد - كما قال شيخ مشايخنا آية اللّه العلّامة الميرزا مهديّ الإصفهانيّ قدّس اللّه نفسه الشريف - أن يكون هذا الحديث الشريف في بيان عذاب هذه الفرقة ونظائرهم من المقصّرين الذين يشتمون الربّ في أجلي معانيه، لا مطلق الكافر لأنّ الكافر ينكر وجود الربّبالمرّة، ولا يقرّ به كي يشتمه وينسب إليه العبث واللغو واللعب والخديعة والظلم.

وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين،

وصلّي اللّه علي سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين،

واللعن علي أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

ص: 676


1- 1457.. الاختصاص، ص359-364؛ بحارالأنوار، ج8، ص317-323، ح99.

فهرس المصادر

ص: 677

ص: 678

القرآن الكريم

نهج البلاغة

الصحيفة السجاديّة

مفاتيح الجنان

1. الإثنا عشريّة في الردّ علي الصوفيّة. الحرّ العامليّ، محمّد بن حسن (ت1104ق). قم: نشر دار الكتب العلميّة. الطبعة الأولي: 1400ق.

2. أجوبة المسائل المهنّائية. العلّامة الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: 1401ق.

3. الاختصاص. المفيد، محمّد بن محمّد(ت413ق). التحقيق: عليّ اكبر الغفاريّ. قم: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1413ق.

4. الاحتجاج علي أهل اللجاج. الطبرسيّ، أحمد بن عليّ (ت588ق). التحقيق: محمّد باقر الخرسان. مشهد: نشر المرتضي. الطبعة الأولي: 1403ق.

5. الإرشاد في معرفة حجج اللّه علي العباد. المفيد، محمّد بن محمّد (ت413ق). التحقيق: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. قم: المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1413ق.

6. اسرار الآيات. صدرالمتألهين، محمّد إبراهيم (ت1050ق). طهران: انجمن حكمت و فلسفه. الطبعة: 1360ش.

7. أصول فلسفه وروش رئاليسم. الطباطبائيّ، السيّد محمّد حسين (ت1412ق). مع تعليقات الشيخ مرتضي المطهّريّ. طهران: منشورات صدرا. الطبعة: 1368ش.

ص: 679

8. إعتقادات الإماميّة. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). قم: المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1414ق.

9. أعيان الشيعة. الأمين، السيّد محسن (ت1371ق). التحقيق: حسن الأمين. بيروت: دارالتعارف للمطبوعات.

10. إقبال الأعمال. ابن طاوس، عليّ بن موسي (ت664ق). طهران: دار الكتب الإسلاميّة. الطبعة: 1367ش.

11. أقرب الموارد في فصح العربية و الشوارد. الشرتوني، سعيد (ت1912ق). طهران: دار الاسوة. الطبعة: 1427ق.

12. الأمالي. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). النجف الأشرف: المكتبة الحيدريّة. الطبعة: 1369ق.

13. أمل الآمل. الحرّ عامليّ، محمّدبنحسن (ت1104ق). التحقيق: السيّد احمد الحسينيّ. قم: منشورات دارالكتاب الاسلاميّ. الطبعة: 1362ش.

14. أوائل المقالات. المفيد، محمّد بن محمّد (ت413ق). قم: المؤتمر العالميّ لألفيّة الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1414ق.

15. بحارالأنوار الجامعة لدرر أخبار أئمّة الأطهار(عليهم السلام). المجلسيّ، محمّد باقر (ت1110ق). بيروت: منشورات دار إحياء التراث العربيّ. الطبعة الثانية: 1403ق.

16. بداء آية عظمة الله. علم الهدي، محمّدباقر (ت1413ق). تقرير: السيّد عليّ الرضويّ. مشهد: منشورات الولاية. الطبعة الأولي: 1433ق.

17.بدايع الأفكار في الأصول. العراقيّ، ضياء الدين (ت1361ق). نجف: المطبعة العلميّة. الطبعة الأولي: 1370ق.

18.بداية الحكمة. الطباطبائيّ، السيّد محمّد حسين (ت1412ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1418ق.

ص: 680

19. البرهان في تفسير القرآن. البحرانيّ، السيّد هاشم (ت1107ق). قم: مؤسّسة البعثة. الطبعة: 1374ش.

20. بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد(عليهم السلام). الصفّار، محمّد بن حسن (ت290ق). التحقيق: محسن كوچه باغي. قم: مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله). الطبعة الثانية: 1404ق.

21. البصيرة والعمي في كلام الباري وأولي النهي. علم الهدي، محمّدباقر (ت1431ق). طهران: شركة ميقات للنشر. الطبعة الأولي: 1421ق.

22. البيان في تفسير القرآن. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق). بيروت: نشر دار الزهراء. الطبعة الأولي: 1397ق.

23. بيان الفرقان في توحيد القرآن. القزوينيّ، شيخ مجتبي (ت1386ق). قزوين: حديث امروز. الطبعة الأولي: 1387ش.

24. تحف العقول. الحرانيّ، حسن بن شعبه (القرن الرابع). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة: 1404ق.

25. تذكرة الفقهاء. المطهّر الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولي: 1414ق.

26. التعليقة علي الفوائد الرضويّة. القمّي، القاضيّ سعيد (ت1107ق).

27. تفسير العيّاشيّ. العيّاشيّ، محمّد بن مسعود (ت320ق). التحقيق: السيّد هاشم الرسوليّ المحلاتيّ. طهران: منشورات المطبعة العلميّة. الطبعة الأولي: 1380ش.

28. تفسير جوامع الجامع. الطبرسيّ، فضل بن حسن (ت548ق). طهران: منشورات جامعة طهران. الطبعة الأولي: 1377ش.

29.تفسير فرات الكوفيّ. الكوفيّ، فرات بن إبراهيم (ت352ق). طهران: مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلاميّ. الطبعة الأولي: 1410ق.

ص: 681

30. تفسير مجمع البيان. الطبرسيّ، فضل بن حسن (ت548ق) طهران: منشورات ناصر خسرو. الطبعة الثالثة: 1372 ش.

31. تفسير نور الثقلين. العروسيّ الحويزيّ، عبد عليّ بن جمعة (ت 1112ق). قم: منشورات الإسماعيليّان. الطبعة الرابعة: 1415ق.

32. تفسير الصافيݧݧݩّ. الفيض الكاشانيّ، ملّامحسن (ت 1091ق). التحقيق: حسين الأعلميّ. طهران: منشورات مكتبة الصدر. الطبعة الثانية: 1415ق.

33. تفصيل وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة. الحرّ العامليّ، محمّد بن حسن (ت1104ق). قم: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولي: 1409ق.

34. تنبيهات حول المبدأ والمعاد. المرواريد، الميرزا حسنعليّ (ت1425ق). مشهد: مجمع البحوث الإسلاميّة للآستانة الرضويّة المقدّسة. الطبعة الثانية: 1418ق.

35. التنقيح في شرح العروة الوثقي. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق). تقرير: عليّ الغرويّ. قم: نشر دار الهاديّ للمطبوعات. الطبعة الأولي.

36. تهذيب الأحكام. الطوسيّ، محمّد بن حسن (ت460ق). طهران: دار الكتب الإسلاميّة. الطبعة الرابعة: 1365ش.

37. توحيد الإماميّة. الملكيّ الميانجيّ، محمّد باقر (ت1378ق). نجف: منشورات دارالبذرة. الطبعة الأولي: 1435ق.

38. التوحيد. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1398ق.

39. التوحيد. الطهرانيّ، هادي(ت1321ق). طهران: دارالعلم، بيتا.

40. التوحيد الفائق. البهبهانيّ، السيّدعليّ(ت1353ق). قم: منشورات الماس. الطبعة: 1380ش.

41. توحيد المفضّل. الجعفيّ، مفضّل بن عمر(ت148ق). التحقيق: كاظم المظفّر. قم: منشورات داوريّ. الطبعة الثالثة.

ص:10

42. جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والاسناد. الأردبيليّ، محمّد عليّ (ت1101ق). مكتبة المحمّدي. الطبعة الأولي.

ص: 682

43. جامع السعادات. النراقيّ، محمّدمهديّ(ت1209ق). التحقيق: السيّد محمّد كلانتر. نجف: دارالنعمان للطباعة والنشر.

44. جامع الشتات. الخواجوئيّ، محمّد اسماعيل (ت1173ق). التحقيق: السيّد مهديّ الرجائيّ. قم: الطبعة الأولي: 1418ق.

45. جبر واختيار. السبحانيّ، جعفر. تقرير: علي الربّانيّ الگلپايگانيّ. قم: مؤسّسة الإمام الصادق(عليه السلام). الطبعة الأولي: 1381ش.

46. جمال الأسبوع بكمال العمل المشروع. ابن طاوس، عليّ بن موسي (ت664ق). طهران: نشر مؤسّسة الآفاق. الطبعة الأولي: 1371ش.

47. جوابات المسائل الركنيّة. الميرزا القميّ، ابو القاسم (ت1231ق). المطبوع ضمن رسائل ومتون حول مدينة قم المسمّي بقم نامه، حسين المدرّسيّ الطباطبائيّ. قم: منشورات مكتبة آية اللّه العظمي المرعشيّ(رحمه الله).

48. جواهر الكلام. النجفيّ، محمّد حسن (ت1266ق). طهران: دار الكتب الإسلاميّة. الطبعة الأولي: 1409ق.

49. الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة. البحرانيّ، يوسف (ت1186ق). التحقيق: محمّد تقي الإيروانيّ. قم: مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولي: 1405ق.

50.حديقة الشيعة. المقدّس الأردبيليّ، احمد بن محمّد (ت993ق). قم: منشورات الأنصاريان. الطبعة الثالثة: 1383ش.

51.حقّ اليقين. المجلسيّ، محمّد باقر (ت1110ق) قم: نشر ذوي القربي.

52. الحكايات في مخالفات المعتزلة من العدلية. المفيد، محمّد بن محمّد (ت413ق). المجلّد العاشر من مصنّفات الشيخ المفيد. قم: المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1413ق.

ص: 683

53. الحكمة المتعاليّة في الأسفار العقليّة الأربعة. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم (ت1050ق). بيروت: منشورات دار إحياء التراث. الطبعة الثالثة: 1981م.

54. حكمت إلهي عام و خاص. إلهي قمشه اي، مهديّ. طهران: جامعة طهران. الطبعة الأولي، 1335ش.

55. خاتمة مستدرك الوسائل. النوري، الميرزا حسين (ت1320ق). قم: مؤسّسه آل بيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولي: 1415ق.

56. الخرائج والجرائح. الراونديّ، قطب الدين (ت573ق). قم: مؤسّسة الإمام المهديّ. الطبعة الأولي: 1409ق.

57. خيراتيّة در ابطال طريقه صوفيّه. البهبهانيّ، وحيد (ت1216ق). قم: منشورات مؤسّسة علّامه مجدّد الوحيد البهبهانيّ. الطبعة الأولي.

58. درر الفوائد، تعليقة علي شرح المنظومة. الآملي، محمّد تقي (ت1391ق). قم: منشورات اسماعيليّان. الطبعة الثانية.

59. الدروس الشرعية في فقه الإماميّة. العامليّ، محمّد بن مكّي (المعروف بالشهيد الأوّل) (ت786ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1412ق.

60. دلائل الإمامة. الطبريّ، محمّد بن جرير (القرن الخامس). التحقيق: قسم الدرسات الإسلامية. قم: مؤسّسة البعثة. الطبعة الأولي: 1413 ق.

61.الذريعة. الطهرانيّ، آقا بزرگ (ت1389ق). بيروت: نشر دار الأضواء. الطبعةالأولي: 1403ق.

62.رجال النجاشي. النجاشي، احمدبن علي (ت450ق). التحقيق: السيّد موسي الشبيريّ الزنجانيّ. قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1407ق.

63.رسالتان في البداء. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق) والبلاغيّ، محمّدجواد1. (ت1352ق). قم: مركز الاطلاعات والمدارك الإسلاميّة. الطبعة: 1386ش.

ص: 684

64. رسائل الشريف المرتضي. علم الهدي، السيّد مرتضي (ت436ق). قم: دار القرآن الكريم. الطبعة الأولي: 1405ق.

65. رسالة في الحدوث. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم (ت1050ق). التحقيق: السيّد حسين الموسويّان. طهران: منشورات حكمت الإسلامي صدرا. الطبعة الأولي: 1378ش.

66. روضة الواعظين وبصيرة المتعظين. فتّال النيشابوريّ، محمّد بن أحمد (ت508ق). قم: منشورات الرضيّ. الطبعة الأولي: 1417ق.

67. سدّ المفرّ علي منكر عالم الذرّ. علم الهدي، محمّدباقر(ت1431ق). تقرير: السيّد عليّ الرضويّ. بيروت: دارالعلوم. الطبعة الأولي: 1433ق.

68. سفينة البحار ومدينه الحكم و الآثار. القميّ، شيخ عباس (ت1359ق). مشهد: مجمع البحوث الإسلاميّة للآستانة الرضويّة المقدسّة. الطبعة الأولي: 1418ق.

69. السلسبيل. الإصطهباناتيّ، الميرزا ابوالحسن (ت1378ق).

70. سلسلة ينابيع الفقهيّة. المرواريد، علي أصغر. بيروت: مؤسّسة فقه الشيعة. الطبعة الأولي: 1410ق.

71. السنخيّة أم الإتحاد والعينيّة أم التباين؟. السيّدان، السيّد جعفر. مشهد: منشورات پارسيران. الطبعة الأولي.

72.سير أعلام النبلاء. الذهبيّ، شمس الدين محمّد بن أحمد (ت748ق). التحقيق: حسين الأسد. بيروت: مؤسّسة الرسالة. الطبعة التاسعة: 1413ق.

73.شجره الهيّة. النائينيّ، ميرزا رفيع (ت1082ق). المطبوع مع رسالة مبدأ ومعاد لصدر المتألّهين، محمّد ابراهيم.

74.شرح أصول الكافي. المازندرانيّ، ملّا صالح (ت1081ق). التحقيق: ابوالحسن الشعرانيّ. بيروت: دار إحياء التراث العربيّ. الطبعة الأولي: 1382ق.

75. شرح الأسماء الحسني. السبزواريّ، ملّاهاديّ (ت1289ق). قم: مكتبة بصيرتي. الطبعة الأولي: 1297 ق.

ص: 685

76. شرح المقاصد في علم الكلام. التفتازانيّ، سعد الدين (ت792ق). پاكستان: دارالمعارف النعمانيّة. الطبعة الأولي: 1401ق.

77. شرح المواقف. الجرجانيّ، السيّد شريف (ت812ق). قم: منشورات شريف الرضيّ. الطبعة الأولي: 1325ق.

78. شرح حديث عرض دين حضرت عبد العظيم حسني. الخاجوئيّ، ملّا إسماعيل.

79. شرح رسالة المشاعر. اللاهيجيّ، ملّا محمّد جعفر (القرن13). بتعليقة السيّد جلال الدين الآشتيانيّ.

80. شرح فصوص الحكم. القيصري الرومي، محمّد داوود(ت 751ق). شركة الإنتشارات العلمية والثقافية. الطبعة الأولي: 1375ش.

81. شرح نهج البلاغة لابنأبيالحديد. ابنأبيالحديد، عبد الحميدبنهبة اللّه (ت656ق). التحقيق: محمّد ابوالفضل ابراهيم. قم: مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله). الطبعة الأولي: 1404ق.

82. شفاعت. علم الهدي، محمّدباقر (ت1413ق). طهران: منشورات المنير. الطبعة الأولي: 1387ش.

83.صحيح ابن حبّان. الفارسيّ، عليّ بن بلبان (ت739ق). بيروت: مؤسّسة الرسالة. الطبعة الأولي: 1414ق.

84.صراط النجاة في اجوبة الاستفتائات. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق). مع تعليقات الميرزا جواد التبريزيّ. قم: نشر فدك. الطبعة الأولي: 1425ق.

85.طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال. البروجرديّ، السيّد عليّ (ت1313ق). قم: مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله). الطبعة الأولي: 1410ق.

86. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف. ابن طاووس، عليّ بن موسي (ت 664ق). التحقيق: علي العاشور. قم: خيام. الطبعة الأولي: 1400ق.

ص: 686

87. العروة الوثقي. اليزديّ، السيّد محمّد كاظم (ت1337ق). مع تعليقات عشرة من المراجع العظام. طهران: نشر المكتبة العلميّة الإسلاميّة.

88. العروة الوثقي. اليزديّ، السيّد محمّد كاظم (ت1337ق). مع تعليقات خمسة عشر من المراجع العظام. قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الثالثة: 1426ق.

89. عارف و صوفي چه ميگويند؟. الطهرانيّ، الميرزا جواد(ت1410ق). طهران: نشر آفاق. الطبعة الأولي: 1390ش.

90. علل الشرايع. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). قم: منشورات مكتبة الداوريّ. الطبعة الأولي: 1385 ق.

91. عليّ بن موسي الرضا والفلسفة الإلهيّة. جواديّ الآمليّ، عبداللّه. قم: دار الإسراء للنشر. الطبعة الثالثة: 1427ق.

92. عيون أخبار الرضا(عليه السلام). ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). التحقيق: مهديّ اللاجورديّ. طهران: منشورات جهان. الطبعة الأولي: 1378 ق.

93. عين اليقين الملقب بالأنوار و الأسرار. الفيض الكاشانيّ، ملّا محسن (ت1091ق).

94. الغدير. الأمينيّ النجفيّ، عبدالحسين (ت1390ق). قم: مركز الغدير للدراسات الإسلامية. الطبعة الأولي: 1416ق.

95. غرر الحكم ودرر الكلم. التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد (ت550ق). قم: دار الكتاب الإسلامي. الطبعة الثانية: 1410ق.

96. الغيبة. الطوسيّ، محمّد بن حسن (ت460ق). قم: دار المعارف الإسلاميّة. الطبعة الأولي: 1411ق.

97. الفتوحات المكيّة. ابن عربيّ، محمّد بن عليّ (ت638ق). بيروت: منشورات دار الصادر.

98. فرائد الأصول. الأنصاريّ، مرتضي (ت1281ق). قم: مجمع الفكر الإسلامي. الطبعة التاسعة: 1428ق.

ص: 687

99. فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم. ابن طاووس، عليّ بن موسي (ت664ق). قم: دار الذخائر. الطبعة: 1368ق.

100. فصوص الحكم. ابن عربي، محي الدين (ت638ق). قم: منشورات الزهراء(عليها السلام). الطبعة الثانية: 1370 ش.

101. الفصول العشر ة في الغيبة. المفيد، محمّد بن محمّد (ت413ق). التحقيق: الشيخ فارس حسّون. بيروت: دار المفيد. الطبعة الثانية: 1414ق.

102. الفصول المختارة من العيون و المحاسن. علم الهدي، السيّد المرتضي (ت436ق). بيروت: دارالمفيد.

103. فقه الرضا(عليه السلام) المنسوب إلي الإمام الثامن عليبنموسي الرضا عليه الصلاة والسلام. قم: جماعة المدرسين بقم، مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الأولي: 1431ق

104. فهرست ابن نديم. البغداديّ، ابن نديم (ت438ق). التحقيق: رضا تجدّد.

105. الفهرست الشيخ. ابن بابويه الرازي، منتجب الدين (القرن السادس). قم: منشورات مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ. الطبعة الأولي: 1366ش.

106. الفهرست. الطوسيّ، محمّد بن حسن (ت460ق). التحقيق والنشر: دار الفقاهة. الطبعة الأولي.

107. الفوائد المدنيّة. الأسترآباديّ، محمّد أمين (ت1033ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1424ق.

108. قرّة العيون في المعارف والحكم. الفيض الكاشانيّ، ملّامحسن (ت 1091ق). قم: دارالكتاب الإسلاميّ. الطبعة الثانية: 1423ق.

109. قصص العلماء. التنكابني، ميرزا محمّد (ت1302ق). طهران: منشورات علميّة الإسلاميّة. الطبعة الثانية: 1364ش.

110. قوانين الأصول. الميرزا القميّ، ابوالقاسم (ت1231ق). الطبعة الحجريّة.

ص: 688

111. الكافي. الكلينيّ، محمّد بن يعقوب (ت329ق). التحقيق: علي أكبر الغفاريّ. طهران: منشورات دارالكتب الإسلاميّة. الطبعة الرابعة: 1407ق.

112. كامل الزيارات. ابن قولويه، جعفر بن محمّد (ت367ق). النجف: منشورات مرتضويّه. الطبعة الأولي: 1356ق.

113. كتاب الطهارة. الأراكيّ، محمّد عليّ(ت1415ق). قم: مؤسّسة در راه حقّ. الطبعة الأولي: 1413ق.

114. كتاب الطهارة. الأنصاريّ، مرتضي (ت1281ق). قم: مجمع الفكر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1415ق.

115. كتاب المكاسب، الأنصاريّ، مرتضي (ت1281ق). قم: مجمع الفكر الإسلاميّ. الطبعة الثالثة: 1420ق.

116. كتاب من لا يحضره الفقيه. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة: 1413ق.

117. كشف الغطاء عن مبهمات شريعة الغرّاء. كاشف الغطاء، جعفر (ت1228ق) الإصفهان: الطبعة الحجريّة.

118. كشف اللثام عن قواعد الأحكام. الإصفهانيّ، بهاء الدين الفاضل الهنديّ (ت1137ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1416ق.

119. كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد. الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ.

120. الكشكول. الشيخ البهائيّ، محمّد حسين (ت1031ق) قم: دارالحكمة.

121. كفاية الأصول. الخراسانيّ، محمّد كاظم (ت 1329ق) قم: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الثانية.

122. كلمة التقوي. زين الدين، محمّد أمين (ت1419ق). قم: مطبعة مهر. الطبعة الأولي: 1413ق.

ص: 689

123. كمال الدين وتمام النعمة. ابن بابويه، محمّد بن عليّ (ت381ق). طهران: منشورات الإسلاميّة. الطبعة الثانية: 1395ق.

124. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. المتّقيّ الهنديّ، عليّ (ت975ق) بيروت: مؤسّسة الرسالة.

125. كنز الفوائد. الكراجكيّ، محمّد بن عليّ (ت449ق). قم: دار الذخائر. الطبعة الأولي: 1410ق.

126. المبدأ والمعاد. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم (ت1050ق). قم: مكتب الإعلام الإسلاميّ. الطبعه الثالثة: 1422ق.

127. المحاسن. البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد (ت280ق). قم: منشورات دارالكتب الإسلاميّة. الطبعة الثانية: 1371ق.

128. محاضرات في أصول الفقه. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق). تقرير: آية اللّه إسحاق الفيّاض. قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة: 1419ق.

129. مختصر البصائر. الحليّ، حسنبن سليمان (القرن الثامن). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1431ق.

130. مرآة العقول. المجلسيّ، محمّد باقر (ت1110ق) . طهران: دار الكتب الإسلاميّة. الطبعة الثانية: 1394ق.

131. المسائل العكبريّة. المفيد، محمّد بن محمّد (ت413ق). قم: المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد. الطبعة الأولي: 1414ق.

132. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. النوري، الميرزا حسين (ت1320ق). قم: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)لإحياء التراث. الطبعة الأولي: 1408ق.

133. مستدرك سفينة البحار. النمازيّ الشاهروديّ، عليّ (ت1405ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1418ق.

ص: 690

134. مستدركات علم رجال الحديث. النمازيّ الشاهروديّ، عليّ (ت1405ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1412ق.

135. مستمسك العروة الوثقي. الحكيم، السيّد محسن (ت1390ق). النجف: نشر مطبعة الآداب. الطبعة: 1391ق.

136. مسند أحمد. احمد بن حنبل (ت241ق). بيروت: دار الصادر.

137. المشاعر. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم (ت1050ق). طهران: المكتبة الطهوري. الطبعة الثانية: 1363ش.

138. مصباح الفقاهة. الموسويّ الخوئيّ، السيّد ابوالقاسم (ت1413ق). تقرير: الميرزا عليّ التوحيديّ. قم: مكتبة الداوري. الطبعة: 1377ش.

139. مصباح الفقيه. الهمداني، آقا رضا (ت1322ق). قم: مؤسّسة الجعفريّة لإحياء التّراث. الطبعة الأولي: 1416ق.

140. مصباح المتهجّد. الطوسيّ، محمّد بن حسن (ت460ق). بيروت: مؤسّسة فقه الشيعة. الطبعة الثانية: 1411ق.

141. مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم. القيصريّ الروميّ، داود بن محمود (ت751ق). التحقيق: السيّد جلال الدين الآشتيانيّ. طهران: شركة العلمية والثقافية. الطبعة الأولي: 1375ش.

142. المعالم الزلفي في شرح العروة الوثقي. العراقيّ، عبدالنبيّ (ت1385ق). قم: المطبعة العلميّة. الطبعة الأولي: 1380ق.

143. معالم العلماء. ابن شهر آشوب، محمّد بن علي (ت588ق). نجف: المطبعة الحيدرية. الطبعة الأولي: 1380ق.

144. المعجم الكبير. الطبرانيّ، سليمان بن أحمد (ت360ق). التحقيق: عبدالمجيد السلني. بيروت: منشورات دار إحياء التراث العربي. الطبعة الثانية.

ص: 691

145. الميزان في تفسير القرآن. الطباطبائيّ، السيّد محمّدحسين (ت1402ق). قم: مؤسّسة النشر الإسلامي. الطبعة الخامسة: 1417ق.

146. معارف القرآن. الإصفهانيّ، الميرزا مهدي(ت1365ق). المخطوط.

147. مقالات الأصول. العراقيّ، آقا ضياء الدين (ت1361ق). قم: نشر مجمع الفكر الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1420ق.

148. ملحقات احقاق الحق وازهاق الباطل. الشوشتريّ، قاضي نور اللّه (ت 1019 ق). قم: منشورات مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله). الطبعة الأولي: 1409ق.

149. ممدّ الهمم در شرح فصوص الحكم. حسن زاده الآمليّ، حسن. طهران: مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ. الطبعة الأولي: 1378ش.

150. مناقب الإمام اميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). الكوفيّ، محمّد بن سليمان (القرن الرابع). قم: نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة. الطبعة الأولي: 1412ق.

151. مناهج البيان في تفسير القرآن. الملكيّ الميانجيّ، محمّد باقر (ت1378ق). طهران: مؤسّسة النبأ الثقافيّة. الطبعة الأولي: 1434ق.

152. منتهي المطلب في تحقيق المذهب. العلّامة الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولي.

153. المنظومة وشرحها. السبزواريّ، ملّاهادي (ت1289ق). الطبعة الحجريّة.

154. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغه. الخوئيّ، ميرزا حبيب اللّه (ت1324ق). طهران: منشورات الإسلامية. الطبعة الأولي: 1386ش.

155. منية المريد في أدب المفيد والمستفيد. العامليّ، زين الدين بن علي (الشهيد الثاني) (ت965ق). قم: مكتبة الإعلام الإسلاميّ.

156. مهج الدعوات و منهج العبادات. ابنطاوس، عليبنموسي(ت664ق). التحقيق ابوطالب الكرمانيّ. قم: دارالذخائر. الطبعة الأولي: 1411ق.

ص: 692

157. ميزان الحكمة. المحمّديّ الريشهريّ، محمّد. قم: منشورات دار الحديث. الطبعة الأولي: 1416ق.

158. ميزان المطالب. الطهرانيّ، الميرزا جواد (ت 1410ق). قم: مؤسّسة در راه حقّ. الطبعة الرابعة: 1374ق.

159. نتائج الأفكار. الگلپايگانيّ، السيّد محمّد رضا (ت1415ق). تقرير: عليّ الكريميّ الجهرميّ. قم: مؤسّسة دار القرآن الكريم. الطبعة الأولي: 1413ق.

160. نهاية الدراية في شرح الكفاية. الغرويّ الاصفهانيّ، محمّد حسين (ت1361ق). قم: منشورات سيّدالشهداء. الطبعة الأولي: 1374ق.

161. نهاية المرام في علم الكلام. العلّامة الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: مؤسّسة الإمام الصادق. الطبعة الأولي: 1419ق.

162. نهج الحقّ وكشف الصدق. العلّامة الحلّي، حسن بن يوسف (ت726ق). قم: نشر دار الهجرة. الطبعة الأولي: 1407ق.

163. الهداية الكبري. حمدان الخصيبيّ، حسين (ت334ق). بيروت: مؤسّسة البلاغ للطباعة. الطبعة الرابعة: 1411ق.

164. الوافي في شرح الكافي. الفيض الكاشانيّ، محمّد محسن (ت 1091ق). الإصفهان: مكتبة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام). الطبعة 1406ق.

165. وجود العالم بعد العدم عند الإماميّة. علي الأحمديّ، قاسم. قم: نشر مولد الكعبة. الطبعة الأولي: 1422ق.

ص: 693

ص: 694

فهرس الآيات الكريمة

صورة

ص: 695

صورة

ص: 696

صورة

ص: 697

صورة

ص: 698

صورة

ص: 699

صورة

ص: 700

صورة

ص: 701

صورة

ص: 702

صورة

ص: 703

صورة

ص: 704

صورة

ص: 705

صورة

ص: 706

صورة

ص: 707

صورة

ص: 708

صورة

ص: 709

صورة

ص: 710

صورة

ص: 711

صورة

ص: 712

صورة

ص: 713

صورة

ص: 714

صورة

ص: 715

صورة

ص: 716

صورة

ص: 717

صورة

ص: 718

صورة

ص: 719

صورة

ص: 720

صورة

ص: 721

صورة

ص: 722

صورة

ص: 723

صورة

ص: 724

صورة

ص: 725

صورة

ص: 726

صورة

ص: 727

صورة

ص: 728

صورة

ص: 729

صورة

ص: 730

محاضرات علّامه آية الله حاج شيخ محمّدباقر علم الهدي(قدس سره)

نقدي بر مسلك جبر وتفويض

درسگفتارهاي تحليلي پيرامون اراده و طلب و نقد مقالۀ جبر و تفويض

و اثبات امربينالامرين

تقرير: سيدعلي رضوي

امير فخاري

حسن كاشاني

دار الولاية للنشر

1395 - 1437

ص: 731

خلاصة سد المفر علي القائل بالقدر

خواست و اراده:

خداوند متعال، صاحب اراده و آن همانا فعلش ميباشد واراده غير از خواست است؛ زيرا ممكن است او چيزي بخواهد ولي غير آن را اراده كند. معصيتكار ارادهاش غالب بر ارادۀ خدا نميشود وهمه چيز به ارادۀ خدا در خارج محقق ميشود، منتهي اراده بر دو نوع است: ارادۀ حتم و عزم. امور تكويني به ارادۀ حتم و افعال اختياري بندگان (چه خوب و چه بد) به ارادۀ عزم محقق مي شود.

نفي جبر:

پاسخ به شبهات عقلي و نقلي قائلين به جبر

قدرت و اختيار يك كمال است و قابل انكار نيست و پاره اي از قواعد فلسفي با قدرت منافات دارد و بر فرض اينكه اين قواعد عقلي باشند، اما افعال اختياري تخصصاً خارج هستند.

مختار بودن مخلوق با توحيد منافات ندارد؛ زيرا ارادۀ مخلوق به وجود مخلوق و علم و قدرت وحياتش بستگي دارد كه همۀ آنها قائم به خدا هستند، حدوثاً و بقاءً. چون قدرت متعلق به فعل و ترك ميباشد، نياز به علت موجبه ندارد، و غير از اين قدرت نخواهد بود. نظام هستي قائم به خداوند است نه به استعدادات ذاتي و عليت فلسفي.علم خدا منافات با اختيار ندارد؛ زيرا او علم دارد به صدور فعل با اختيار، و لازمۀ مجبور بودن انسان ثبوت جهل در خداوند است. نكوهش قائلين به جبر در احاديث، و معاني اضلال خدا.

نفي تفويض:

مفوضه خواستند خدا را از جبر منزه كنند، اما در وادي تفويض افتاده واو را به عجز توصيف كردند و از سلطان بودنش دست كشيدند و ارادۀ معصيتكار را غالب بر ارادۀ خدا كردند. معناي صحيح تفويض و تفويض دين به رسول خدا و اهل بيت(عليهم السلام).

اعجاز علمي اهل بيت در بيان امر بين الامرين:

حقيقت امر بين الامرين همان (بحول الله وقوته اقوم و اقعد ) ميباشد. قوانين كلي امر بين الامرين.وجوه باطل تفسير معني امر بين الامرين، توفيق و خذلان خدا و حقيقت آن و ركن بودنشان در امر بين الامرين . هيچ طاعتي بدون توفيق و هيچ معصيتي بدون خذلان نميباشد. حكمت متعاليه و تفسير امر بين الامرين، نقد و گزاف گويي.

----------------------

دارالولاية للنشر

إيران: المشهد المقدس، السوق الكبير

هاتف: 00989151162907 - 00989151576003

ص: 732

BOOK SUMMARY

Demand and will

Allah the almighty has a will, and his will is an integral part of his actions.

His will differs from his demands, he might order something but wills otherwise.

A sinner can not overpower God’s will, because the almighty can not be sinned against out of weakness.

Everything that takes place in the world happens with his will, but his will is divided into two groups:

Definite will and consensual will.

Divine creation that humans have no authority over, transpires through his definite will. Actions carried out with choice by humans however, is generated with Gods determinative and choice based will. And this includes both good and bad deeds.

Refuting coercion

Refuting some of the most common misconceptions relating to coercion, intellectual and scriptural.

Humans ability to chose is a self evident reality, that can not be denied. A number of philosophical principles however are at odds with free will in both God and and his creation.Mans ability to chose is not contrary to the oneness of God, because his/her free will rests upon his existence, knowledge, power and life, and all these vitues depend upon Allah.

Furthermore Gods eternal knowledge stresses mans free will, because it relates to mans actions produced by the freedom to chose, otherwise it will become ignorance.

Moreover, narrations that unequivocally condemn attributing coercion to God, stating:” he is more just than forcing anyone to sin, then hold him/her accountable for it. The book then discusses the notion of divine deviation.

Refuting absolute independence

Some tried to vindicate God from being oppressive, and instead faced another conundrum; believing in Gods inability to stop the sinners!

Removing the Almighty from his throne, and stripping him from full authority, claiming that a sinner can defeat him.

The book then discusses the meaning of the notion between the two : coercion and delegation.

How to understand the narration, it’s framework and the wrong conclusions made by some philosophers regarding the Hadith.

---------------------------------

The publisher

Velayat publishers

Address: Iran, Mashhad, central bazaar, Velayat publisher.

Tel: 00989151576003 - 00989151162907

ص: 733

In Refutation to Determinism

Series of lessons given by

Ayatollah M. B. Alamuhuda

Written and edited by: Sayed Ali Radhawi

Shaikh Hassan Kashani

Shaikh Amir Fakhari

2016 - 1395

ص: 734

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اُدعُ إلي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَال-مَوعِظَةِ ال-حَسَنَة﴾

علم و معرفت بزرگترين و بهترين نعمت الهي است كه خداوند متعال آنرا به بندگان صالح خويش عطا ميفرمايد و آنها را در مسير عبوديت و كمال بندگي به سوي خود با آن ياري ميكند. بزرگترين افتخار بندگان خدا برخورداري آنها از اين نعمت گرانسنگ است. عالمان رباني و عارفان حقيقي كساني هستند كه در راه بندگي خدا همواره پيامبران الهي و امامان معصوم(عليهم السلام) را چراغ راه خويش قرار داده و از سلوك طريق علمي و عملي آنها هيچ وقت احساس خستگي به خود راه نداده و از هر طريق ديگري غير از راه امامان معصوم(عليهم السلام) دوري و بيزاري ميجويند.

اين بنياد با هدف احياي آثار چنين بزرگاني كه در طول تاريخ تشيع همواره مدافع و پشتيبان معارف اصيل وحياني و علوم راستين اهلبيت(عليهم السلام) بودهاند، تشكل مييابد.

اميد است با توجهات خاص حضرات معصومين در اين راه توفيق يارشان باشد تا بتوانند قدمهاي مثبت مهمي در احياي آثار ارزشمند آن بزرگان با شرايط روز بردارند.

ص: 735

In the Name of Allah, the Compassionate, the Merciful

﴿اُدعُ إلي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَال-مَوعِظَةِ ال-حَسَنَة﴾

Call on to the way of your lord with wisdom and good preaching

Knowledge is arguably God’s most precious blessing given to humanity, with which they can understand, worship, and submit to the Almighty’s commandments. It is indeed the greatest of His gifts for both in this life and the afterlife.

And those with divine understanding are the true inheritors of the prophets and their successors. Those are the peopleof wisdom who stop at nithing in carrying on their endeavor in seeking knowledge from its one and only source; The messengers of Allah.

This institution, was founded on the revival and republishing the canons and original works of the scholars who gave their life in supporting the foundations of the religion and the teachings of the holy prophet and his immaculate household. We ask Allah to guide us in this holy path.

ص: 736

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.