الحقيقة المهدوية

اشارة

الحقيقة المهدوية

دراسة و تحليل

مجموعة محاضرات تتناول ابعادا جديدة في القضية المهدوية

السيد منير الخباز

مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي عليه السلام

نجف اشرف - الطبعه الاولي 1431 ه

ص: 1

اشارة

الحقيقة المهدوية

دراسة و تحليل

مجموعة محاضرات تتناول ابعادا جديدة في القضية المهدوية

السيد منير الخباز

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز:

الحديث عن المنبر الحسيني وعطائه الفذّ وما قدَّمه للأمّة عبر التاريخ ربَّما يكون فضولاً من القول أو توضيحاً للواضحات ولكن لا بأس من التنبيه إلي أنَّ المنبر كان ولا يزال أحد أهمّ عوامل حفظ الطائفة عن الضياع والتلاشي علي الصعيد الفكري والاجتماعي والتربوي والعقائدي رغم كلّ الويلات والمحن التي جرت علي شيعة أهل البيت (عليهم السلام) منذ صدر الإسلام وإلي اليوم.

فهو اللسان المعبّر عن ضمير الأمّة والناطق عن كلّ ما يعتلج بصدرها، والمجيب عن جميع ما يعتري ذهنها من شبهات وأسئلة حول المذهب بشكل خاصّ والإسلام بشكل عامّ.

والجدير بالذكر أنَّ المنبر الحسيني حاله حال سائر دعائم وأركان هذا المذهب يتجدَّد ويتطوَّر بتجدّد العصر، سواء علي صعيد صياغة المفردة المنبرية أو تناول القضايا الاجتماعية والفكرية _ لكلّ عصر حسب متطلّباته واحتياجاته _ أو إدخال عناصر جديدة في الرثاء وغير ذلك.

وبعبارة أخري إنَّ المنبر الحسيني متحرّك ومنفتح ومتوسّع ولكن ليس علي حساب الثوابت والمرتكزات، بل يتحرَّك في ضمن عالم المتغيّرات ويبدع في فضاآتها.

وكنموذج واضح عمَّا ذكرنا هو ما استعرضه العالم الفذّ والخطيب

ص: 3

الحسيني المبدع، خرّيت هذا الفنّ، صاحب البيان الساحر، والذوق الرفيع في الطرح، سماحة السيّد منير الخبّاز، في طيّات حديثه حول العقيدة المهدوية من خلال ثلاث عشرة محاضرة في أيّام محرَّم الحرام، وهي مبادرة رائدة في هذا الخصوص، حيث يكرّس الخطيب الحسيني كلّ محاضراته حول هذه الأطروحة الإلهية وفي ليالي وأيّام محرَّم الحرام التي اعتاد الخطباء حفظهم الله تعالي أن يخصّصوها لمأساة كربلاء شرحاً وتحليلاً واستعراضاً ويتناولون القضايا الإسلاميّة كافّة في أثناء محاضراتهم، إذ أنَّ مدرسة الحسين (عليه السلام) عطاء دائم ونبع فيّاض لكلّ الكمالات الإنسانية.

أقول: إنَّ المؤلّف استعرض القضيّة المهدوية في أبعاد متنوّعة من تأصيل وتعميق للعقيدة إلي ردّ شبهات وإجابة علي تساؤلات إلي عرض تأريخي وتحليل علمي وتفسير قرآني فجزاه الله خيراً.

والمركز إذ يقدّم للقرّاء الأعزّاء وخصوصاً السادة خطباء المنبر الحسيني الكرام هذه المحاضرات القيّمة فإنَّه يأمل مزيداً من الاهتمام من قبلهم بالقضيّة المهدوية وأن لا يدعوا ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) في جميع خطبهم ومجالسهم سواء علي صعيد تخصيص كامل المحاضرة في هذا الشأن أو الاستطراد والاستعراض في أثناء المحاضرة أو علي مستوي الدعاء له (عليه السلام) بتعجيل الفرج.

وختاماً نسأله تعالي أن يوفّق الجميع لكلّ خير ببركات ورعاية صاحب العصر والزمان.

مدير المركز

السيّد محمّد القبانچي

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلّف:

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي المصطفي محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد..

فقد قام الإخوة الأعزّاء في مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) وعلي رأسهم الأخ العزيز العلاّمة المجاهد السيّد محمّد القبانجي دامت توفيقاته بجمع محاضراتي المتعلّقة بالإمام الحجّة أرواحنا له الفداء التي ألقيتها في محرَّم الحرام سنة (1431ه-) وتهذيبها وتخريج مصادرها، وقد راجعتها بعد تحريرها وأضفت لها بعض المعلومات وحذفت بعضاً بحسب ما يقتضيه مقام النشر والتأليف، وإنّي إذ أقدّم شكري الجزيل لهذا المركز المعطاء أدعو إخواني من أهل الفضل والعلم والمنبر للتعاون مع هذا المركز الذي أخذ علي عاتقه نشر التراث المهدوي والدفاع عن حريمه، وأسأل الله لهم دوام التوفيق والتسديد إنَّه سميع مجيب.

السيّد منير الخبّاز

24/ شعبان/ 1431ه-

ص: 5

ص: 6

المحاضرة الأولي: السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام)

اشارة

(1/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(18/ 12/ 2009م)

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 86).

أفاد السيّد الطبطبائي (قدس سره) في الميزان أنَّ المقصود من (بَقِيَّتُ اللَّهِ) في الآية المباركة الربح الذي يدخل علي الإنسان إذا أجري المعاملة كأن باع شيئاً بربح، واستدلَّ علي ذلك بالسياق حيث إنَّ الآية وردت في سياق كلام شعيب (عليه السلام) مع قومه، حيث قال: (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 85 و86)، ولكن الصحيح أنَّ (بَقِيَّتُ اللَّهِ) هو المظهر الباقي لله تبارك وتعالي، وهو ما ينطبق علي الإمام المنتظر (عليه السلام) لوجهين:

الوجه الأولي: أنَّ الرواية وردت بذلك، في الكافي عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله رجل عن القائم يسلَّم عليه بإمرة المؤمنين؟

قال: (لا، ذاك اسم سمّي الله به أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يسمّ به أحد قبله ولا يتسمّي به بعده إلاَّ كافر).

قلت: جُعلت فداك كيف يسلَّم عليه؟

قال: (يقولون: السلام عليك يا بقيّة الله)، ثمّ قرأ: ((بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))(1).2.

ص: 9


1- الكافي 1: 411 و412/ ح 2.

فالمراد ببقيّة الله هو الإمام المنتظر لأنَّه المظهر الباقي لله، إذ كلّ إمام وكلّ نبيّ هو مظهر لله، لكن المظهر قد يكون انتقل إلي الملأ الأعلي بالوفاة، فهم مظهر قد انقضي، وهناك مظهر ما زال باقياً إلي أن تقوم الساعة وهو المعبَّر عنه (بَقِيَّتُ اللَّهِ)، وهذا ينطبق علي الإمام الحجّة (عليه السلام).

الوجه الثاني: أنَّ الشرط في الآية يؤكّد ذلك، فلو كان المراد من (بَقِيَّتُ اللَّهِ) هو الربح الذي يدخل في جيب الإنسان إذا باع بربح فلا معني لاشتراطه بالإيمان، إذ الربح خير للمؤمن وللكافر ولا يختصُّ بالمؤمن، بينما الآية جعلت (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) لخصوص المؤمنين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وهذا لا ينطبق إلاَّ علي ملجأ المؤمنين وملاذ المؤمنين الإمام الحجّة (عليه السلام) فهو الخير الذي يكون مشروطاً بالإيمان والصلاح.

فالآية تتحدَّث عن الإمام الحجّة، وورودها في سياق الآيات التي تتحدَّث عن شعيب وقومه لا ينافي عمومها وسعتها لغير زمان شعيب، بل لجميع الأزمنة فإنَّ الغرض منها خطاب للمؤمنين في كلّ زمان وإن جاءت بلسان خطاب شعيب لقومه.

والحديث عن الإمام الحجّة (عليه السلام) ينفتح علي ثلاثة محاور:

المحور الأوّل: كيفية التعامل مع قضيّة الإمام المنتظر (عليه السلام):

هناك اتّجاهان: اتّجاه مادي، واتّجاه روحي.

الاتّجاه المادي: هو الذي يتعامل مع الإمام المنتظر كإنسان غائب ينتظر قدومه ومسافر ينتظر مجيؤه، لذلك تري كثيراً من الشيعة وكثيراً من الأقلام وكثيراً من المتحدّثين يركّزون علي القضايا المادية, وعلامات الظهور، وشكل الإمام وشكل سيفه ودرعه ولباسه وخاتمه، هذا التركيز علي القضايا المادية يعبّر

ص: 10

عن (اتّجاه مادي) وهو أنَّ الإمام جسد غاب عن الأنظار ومسافر غاب عن الأعين يرتجي قدومه يوماً من الأيّام، لذلك لا بدَّ أن نبحث عن علامات قدومه وعلامات مجيئه حتَّي نميّزه عن غيره.

وهناك اتّجاه آخر وهو الاتّجاه الروحي: وهذا الاتّجاه ينطلق من رؤية أنَّ الإمام حاضر وليس بغائب، نعم أنَّ الإمام كسائر الناس له جسد مكوَّن من دم ولحم، ولكن ليست الإمامة منوطة بجسده الغائب، بل الإمامة مجموعة من القيم والمبادئ والمُثل، وهذه المبادئ حاضرة وقائمة وفاعلة وليست غائبة، فالإمام بمبادئه, والإمام بمُثله، والإمام بقيمه، وليس الإمام بجسده المادي فقط.

وبما أنَّ الإمامة مجموعة من القيم والمُثُل، إذن فالإمام حاضر وليس بغائب، لأنَّ هذه المبادئ حاضرة وفاعلة، فعلينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر لا أن نتعامل مع الإمام كغائب.

وهذه المبادئ هي التي تقرّرها الآية المباركة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110)، وقوله تعالي: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104)، هذه هي مفهوم الإمام, فإنَّ الإمام أمر بمعروف ونهي عن منكر، والإمام دعوة إلي الخير، وهذه المبادئ الحيّة النشطة المتجدّدة هي الإمام الحجّة، ونحن نتفاعل مع هذه المبادئ تفاعلاً حضورياً لا تفاعلاً غيابياً، ولا يعني هذا أن نستخفّ بالعلامات المرتبطة بالظهور فقد ذكرت لنا علامات، مثلاً:

ورد في رواية عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة, والسفياني, والخسف, وقتل

ص: 11

النفس الزكية _ بين الركن والمقام _(1)، واليماني)(2)، هذه خمس علامات.

وفي معتبرة عبد الله بن سنان (أنَّ جميعها محتوم)(3)، بمعني لا بدَّ من حصوله.

وفي رواية أبي بصير: (وليس في الرايات راية أهدي من راية اليماني، هي راية هدي، لأنَّه يدعو إلي صاحبكم)(4).

إذن وجود علامات للإمام المنتظر (عليه السلام) أمر لا يمكن إنكاره، وهذه العلامات ستقع قبل خروجه، وذكرها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل رفع اللبس عن خروجه ووقت خروجه، لكن لا ينبغي أن نركّز علي العلامات ونهمل المبادئ, فإنَّ الإمام هو المبادئ وليس هو هذه العلامات, فهذه العلامات سواء تمَّت أو لم تتمّ فإنَّ علينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر فاعل.

والخلاصة أنَّ التركيز في الحديث عن علامات الظهور وصفات شخص الإمام وصفات لباس الإمام يعبّر عن اتّجاه مادي يحصر الإمامة في الجسد الذي لا تراه الأعين مع أنَّ الإمامة بمبادئ حاضرة وفاعلة.3.

ص: 12


1- راجع: كمال الدين: 331/ باب 32/ ح 16.
2- الكافي 8 : 310/ ح 483.
3- عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: (النداء من المحتوم، واليماني من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وكفّ يطلع من السماء من المحتوم)، قال: (وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم، وتفزع اليقظان، وتخرج الفتاة من خدرها)، (الغيبة للنعماني: 262/ باب 14/ ح 11).
4- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.

المحور الثاني: هل الهدف لقاء الإمام (عليه السلام)؟

اشارة

لا إشكال أنَّ الهدف الأسمي والسعادة الكبري هي في التشرّف بلقاء الإمام الحجّة (عليه السلام) ولكن حتَّي نفهم هذه النقطة جيّداً فهناك ثلاثة أسئلة نطرحها ونجيب عنها:

السؤال الأوّل: هل من الممكن لقاء الإمام (عليه السلام) أم لا؟

ربَّما يقول شخص بأنَّ لقاء الإمام باب مسدود مغلق، لما رواه الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين)، والشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة)، عن الحسن بن أحمد المكتَّب (رضي الله عنه) _ كان من أجلاّء علماء الإماميّة _، يقول في آخر سنة وفي آخر شهر من حياة السفير الرابع وهو (علي بن محمّد السمري) آخر سفراء الإمام المنتظر خرج إليه توقيع من الإمام المنتظر (عليه السلام): (ب-ِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أعْظَمَ اللهُ أجْرَ إِخْوَان-ِكَ فِيكَ، فَإنَّكَ مَيَّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أيَّام فَأجْمِعْ أمْرَكَ وَلاَ تُوص إِلَي أحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ فَلاَ ظُهُورَ إِلاَّ بَعْدَ إِذْن اللهِ عز وجل وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَامْتِلاَءِ الأرْض جَوْراً، وَسَيَأتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ ألاَ فَمَن ادَّعَي الْمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوج السُّفْيَانِيّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم)(1), حيث يستفاد منه أنَّ لقاء الإمام ممتنع لأنَّه يقول: (من ادَّعي المشاهدة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله).

الجواب: الأمر ليس كذلك لعدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنَّ غيبة الإمام ليست غيبة انعزالية وإنَّما هي غيبة اتّصالية بمعني أنَّ الإمام ليس غائباً عن المجتمع ويعيش في جبل أو في جزيرة أو في

ص: 13


1- أنظر: كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44؛ الغيبة للطوسي: 395/ ح 365.

مكان وحده، لا، ليس الأمر كذلك، فغيبة الإمام غيبة اتّصالية، بمعني أنَّ الغائب عنوانه لا شخصه، فهو يعيش مع الناس، يأكل معهم، يشرب معهم، وقد يتزوَّج، هو بين ظهرانينا لكنّا لا نعرف عنوانه، فغيبته غيبة اتّصالية وليست غيبة انعزالية، ولذلك نقرأ في دعاء الندبة: (بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ نَازِح مَا نَزَحَ عَنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ اُمْنِيَّةُ شَائِقٍ يَتَمَنَّي مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرَا فَحَنَّا)(1), إذن غيبته هي غيبة عنوان لا غيبة شخص فهو متَّصل بنا يعيش معنا، ولذلك فإنَّ لقائه أمر ممكن جدَّاً وأمر متيسّر إذا أراد الإمام ذلك فإنَّ بيده تحديد اللقاء وليس بأيدينا.

الأمر الثاني: تواتر لدي الشيعة الإماميّة لقاء الإمام مع كثير من العلماء بنحو يورث القطع واليقين بأنَّ لقائه ممكن وليس باباً مغلقاً ولا مسدودا.(2)

الأمر الثالث: هذا التوقيع الشريف الذي قال: (ألا فمن ادّعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله)، يتحدَّث عن السفارة لا عن اللقاء، فالممتنع هو السفارة بمعني أنَّه بعد السفير الرابع لا توجد سفارة إلي أن يخرج الإمام ويظهر ظهوراً تامّاً، فالمغلق هو السفارة لا اللقاء، والقرينة علي ذلك سياق الرواية لأنَّها تتكلَّم عن كتاب إلي سفير الإمام تقول: أنت آخر سفير ولا توص لأحد من بعدك، قد وقعت الغيبة التامّة، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة بمعني (من يدَّعي السفارة)، فمن ادّعي المشاهدة يعني السفارة فهو كاذب مفتر, والسفير يختلف عن الإنسان العادي، فإنَّ المواطن يعرف بعض أخبار الدولة لكن سفيرها يعرف أسرارها ويعرف سياستها الداخلية والخارجية ويناط به البحث في قضايا مصيرية وخطيرة.).

ص: 14


1- المزار لابن المشهدي: 581/ الدعاء للندبة.
2- أنظر كتاب (جنّة المأوي في من فاز بلقاء الحجّة (عليه السلام)) للمحدّث النوري (قدس سره).

والإمام المنتظر يقول: (لا سفير لي بعد السفير الرابع) يعني لا أبعث للأمّة سفيراً يعرف أسراري ويبلغ الأمّة القضايا المصيرية والخطيرة فهذا باب مسدود، أمَّا أن يلتقي الإنسان بالإمام ويستنير بأنواره وبإرشاداته فهو أمر ممكن وليست سفارة حتَّي ينفيها هذا الحديث.

وإن كان الإمام (عليه السلام) لا يبذل لقائه لكلّ أحد، بل هو الذي يختار من يلتقي به لمصلحة عامّة أو خاصّة، وإلاَّ لو بذل الإمام لقائه لأيّ شخص لكان ذلك خلاف الحكمة أي نقضاً للغرض من هذا اللقاء، لأنَّه (عليه السلام) لا يلتقي بشخص إلاَّ لأجل مصلحة عامّة أو خاصّة تقتضي هذا اللقاء، فلا بدَّ أن يكون الملاقي أهلاً لهذا اللقاء ولتحقيق هذه المصلحة العامّة أو الخاصّة.

السؤال الثاني: ما هي طبيعة لقاء الإمام (عليه السلام)؟

لقاء الإمام هو لقاء الله لأنَّ الإمام مظهر لله، فلقاء الإمام يعني لقاء الله عز وجل.

وهو لقاء الفناء لا لقاء الارتباط كما يعبَّر عنه في مصطلح علم الفلسفة, إذ هناك فرق بين العلاقة الارتباطية والعلاقة الفنائية، ولتقريب الفكرة نضرب مثلاً: إذا وضعت عسلاً في كأس حليب، فالحليب مع العسل يسمّي (علاقة ارتباطية) إذ ما زلت عندما تشرب الحليب تشعر أنَّ هناك حليباً وأنَّ هناك عسلاً، يعني هناك وجودان ارتبط أحدهما بالآخر، بينما إذا صهر الذهب مع معدن آخر وأصبح مادة واحدة فهذه تسمّي علاقة فنائية، لأنَّك لا تشعر بأنَّ هناك شيئين، بل مادة واحدة، بينما علاقة الامتزاج بين الحليب والعسل علاقة ارتباطية لا فنائية، هذا بلحاظ الوجود الخارجي وكذلك بلحاظ الوجود الذهني ويحصل بالتأمّل في علاقة الاسم بالمسمّي، مثلاً: إذا جيء لي بولد وأسميته ضرغام، فعندما يقول لي واحد من الناس: ضرغام، لا يتبادر ذهني إلي الولد لأنّي لم أتعوَّد علي ذلك,

ص: 15

فأشعر بأنَّ هناك وجودين وجود للولد وهو ابني ووجود للحروف، ضاد وراء وغين وألف وميم، لكن إذا مرَّت الأيّام واعتدت علي الاسم فبمجرَّد أن يقال لي: ضرغام، ينتقل ذهني إلي ولدي ولا أشعر بالحروف أبداً، وهذه تسمّي (علاقة فنائية) فناء الاسم في المسمّي، فالعلاقة بين الاسم وبين المسمّي في أوّل أيّام الولادة كانت ارتباطية ربط الاسم بالمسمّي، لكن بمرور الوقت تحوَّلت العلاقة من علاقة ارتباطية إلي علاقة فنائية، ولا تشعر بالاسم أبداً، وهكذا لقاؤنا مع الله يجب أن يكون لقاء فناء بحيث نشعر أن ليس هناك وجودان وجود لنا ووجود لله، ولا نشعر إلاَّ بوجود الله، هذا ما يسمّي بالعلاقة الفنائية، واللقاء الفنائي أن يصل الإنسان إلي حدّ الإحساس بحضور الله، فالقرآن الكريم يعبّر عن العلاقة الفنائية عندما يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح: 10)، حيث يشعر الإنسان أنَّ يد الله تلامس يده، ويقول تعالي: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (التوبة: 104)، بحيث نصل إلي الشعور بأنَّ الله هو الذي يأخذ صدقاتنا منّا، وقال تعالي في آية ثالثة: (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوي مِنْكُمْ) (الحجّ: 37).

فالمطلوب في لقائنا مع الله أن يكون لقاء الفناء أي أن لا نشعر بأنفسنا، بل لا نشعر إلاَّ بوجود الله، وهذا ما تحدَّث عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة: (مَتَي غِبْتَ حَتَّي تَحْتَاجَ إِلَي دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَي بَعُدْتَ حَتَّي تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبَّكَ نَصِيباً)(1).6.

ص: 16


1- بحار الأنوار 95: 226.

السؤال الثالث: هل يريد الإمام (عليه السلام) لقاءنا؟

إنَّ علماء العرفان يقولون: هناك فرق بين لقاء الأنس ولقاء التشريف, والفرق بينهما هو أنَّ لقاء التشريف بمعني أن يمنَّ عليَّ الإمام(عليه السلام) ويريني طلعته الرشيدة وغرَّته الحميدة كما جاء في الدعاء: (اللَّهُمَّ أرِني الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ نَاظِري بِنَظْرَةٍ مِنّي إِلَيْهِ، وَعَجَّلْ فَرَجَهُ)(1)، لكن الإمام لا يريد ذلك, بل الإمام يريد لقاء الأنس، وكيف يلتقي بنا الإمام لقاء الأنس إذا لم نكن أهلاً لإيناس الإمام, ولم نكن أهلاً لتفريح قلب الإمام، إذن الإمام يريد شيئاً ونحن نريد شيئاً، نحن نريد أن نبقي علي ذنوبنا ومعاصينا وعلي الإمام أن يشرّفنا بلقائه ويكرمنا بطلعته والإمام ينادينا: أنا لا أريد هذا اللقاء، أريد لقاء الأنس أريد أن التقي بكم وأنا فرح بكم، مبتهج بكم، والفرح والبهجة والأنس تتوقَّف علي أن ننصهر بالإمام وأن تكون علاقتنا بالإمام علاقة فنائية لا ارتباطية حتَّي يكون لقاؤنا مع الإمام لقاء الأنس، وإلاَّ فالإمام يتفضَّل علينا باللقاء وهو كريم لكنَّه يريد أن يكرمنا بلقاء يعبّر عنه بلقاء الأنس، فما نطلبه نحن غير ما يطلبه الإمام منّا.

المحور الثالث: في علاقة العشق بالإمام (عليه السلام):

اشارة

من المفيد الاعتراف بأنَّ علاقتنا بالإمام علاقة سطحية، علاقة جافّة جدَّاً، علاقة يابسة، ربَّما تكون علاقتنا بأساتذتنا أقوي من علاقتنا بالإمام, ربَّما تكون علاقتنا بأصدقائنا وأحبّائنا أقوي من علاقتنا بالإمام، ربَّما تكون علاقتنا بمراجعنا وزعمائنا أقوي من علاقتنا بالإمام، فلذا يجب مراجعة الذوات لتكون علاقتنا

ص: 17


1- المصباح للكفعمي: 551/ دعاء العهد.

بالإمام علاقة حبّ وعشق لا مجرَّد دعاء، فنحن ندعو للإمام ولكن ما يريده الإمام منّا ليس مجرَّد لقلقة لسان في الدعاء، بل يريد علاقة حبّ وعشق كي نكون أهلاً للقائه وأهلاً لتكريمه وأهلاً لتشريفه.

عناصر العلاقة العشقية بالإمام (عليه السلام):

العنصر الأوّل: صفاء القلب:

فالقلب الذي يحمل حقداً علي الناس بعيد عن لقاء الإمام، قال تعالي: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلإِِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر: 10)، والقلب الخالي من الغل هو القلب الذي يلتقي بالإمام.

والإنسان المبتسم المتواضع الخلوق الذي يحبّ الناس، يألف الناس، يبادر لقضاء حوائج الناس، هو المحظوظ بلقاء الإمام، هو المحظوظ ببركة الإمام، هو المحظوظ بمدد الإمام، لأنَّ قلبه طاهر، و لا يحمل حقداً ولا ضغينة، كما ورد عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وتوطأ رحالهم)(1).

العنصر الثاني: الطهارة من الذنوب:

فالذنوب تزعج الإمام وتؤلمه، فقد روي الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج)(2) عن الإمام المنتظر (عليه السلام) أنَّه قال: (ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته _ الإمام يريد أن يشير إلي شرط اللقاء معه (عليه السلام) _ علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد الذي عليهم لمَّا تأخَّر عليهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة

ص: 18


1- الكافي 2: 102/ باب حسن الخلق/ ح 16.
2- الاحتجاج 2: 325.

بمشاهدتنا علي حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاَّ ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل).

العنصر الثالث: الإهداء للإمام (عليه السلام):

فقد ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (تهادوا تحابوا)(1)، فالهدية تورث المحبّة حتَّي مع الإمام وذلك أن تصلّي عنه, أن تطوف عنه, أن تحجّ عنه، أن تتصدَّق عنه، أن تصوم عنه، والصدقة عنه هدية غالية ثمينة يكرمها الإمام (عليه السلام) وهذه الهدية تجعلنا مشمولين لبركته مشمولين لدعائه، الدعاء الحقيقي المستجاب من الله، (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، فإذا تحقَّق الدعاء تحقَّقت الاستجابة، لكن كثير منّا يقول: أنا أدعو ولا يستجاب لي، ونقول له: لم يصدر منك دعاء حقيقي المستلزم للإجابة، وتستطيع أن تصل إلي الدعاء الحقيقي عن طريق الإمام الحجّة بأن يدعو لك فحينئذٍ تتحقَّق الاستجابة، (ادْعُونِي) إمَّا بالمباشرة أو بالواسطة, وأنا أستطيع أن أدعو الله عز وجل بواسطة لسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والاتّصال يكون من خلال الإهداء إليه والقيام بأعمال الخير نيابة عنه، فإنَّ هذه الهدية تجلب دعائه لي، فأكون قد دعوت الله تبارك وتعالي بلسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والسيّد علي بن طاووس من أجلاّء علماء الإماميّة يقول: (كنت بسُرَّ من رأي فسمعت سحراً دعاء القائم (عليه السلام) فحفظت منه لمن ذكره الأحياء والأموات: (وأبقهم _ أو قال: وأحيهم _ في عزّنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا) وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة 638ه-)(2).

ص: 19


1- الكافي 5: 144/ باب الهدية/ ح 14.
2- بحار الأنوار 52: 61/ ح 50، عن مهج الدعوات.

فالإمام يدعو لمن قرب منه، والإمام (عليه السلام) يكتب للشيخ المفيد شيخ الطائفة الإمامية: (إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلاَ نَاسِينَ ل-ِذِكْركُمْ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللأوَاءُ وَاصْطَلَمَكُمُ الأعْدَاءُ)(1)، الإمام إذا اقتربنا منه اقترب منّا ودعا لنا.

العنصر الرابع: الذكر الخفي:

والذكر الخفي مصطلح عند علماء العرفان مأخوذ من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (وآنسنا بالذكر الخفي, واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي)(2)، ويقصد به الانقطاع إلي الله بحيث لا يطلب إلاَّ من الله ولا يشكو إلاَّ لله ولا يبثّ همّه إلاَّ لله، فيقال عنه: ذكر الله ذكراً خفيّاً وانقطع إلي الله تبارك وتعالي، فمن عناصر لقاء الإمام الذكر الخفي بمعني أن تنقطع إليه وتقول: يا ربّ أنا لا أريد حاجةً لا أريد حياةً ولا شفاءاً ولا رزقاً إلاَّ برضي الإمام المنتظر (عليه السلام)، عن طريق رضاه عن طريق إرادته، لأنّي منصهر به، لأنّي متعلَّق به، لأنّي مغرم به، هذا ما يسمّي (بالذكر الخفي) وهو من عناصر لقائه (عليه السلام).

العنصر الخامس: تصوّر الإمام والتفكّر فيه (عليه السلام):

أنت إذا أحببت شخصاً تتصوَّره ويمرُّ علي بالك دائماً، ولو كنت تحبّ الإمام المنتظر (عليه السلام) حقّاً لكان بالك وذكرك وذهنك مشغولاً بصورته مشغولاً بخياله مشغولاً بما تتصيَّد من أوصافه، فهل بالك مشغول به؟

ونظرة واحدة لزيارة آل ياسين تصوّر لنا التفكّر في الإمام، حيث نقرأ فيها: (السَّلامُ عَلَيْكَ فِي آنَاءِ لَيْلِكَ وَأطْرَافِ نَهَارِكَ...، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْعُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْرَأ وَتُبَيَّنُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصَلّي

ص: 20


1- الاحتجاج 2: 323.
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي: 419/ ح 194، في مناجاة الذاكرين.

وَتَقْنُتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُهَلّلُ وَتُكَبَّرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصْبِحُ وَتُمْسِي، السَّلامُ عَلَيْكَ فِي اللَّيْل إِذَا يَغْشَي وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّي)(1)، هذه صور للإمام تمرُّ علي أذهاننا وتربطنا به (عليه السلام).

العنصر السادس: التألّم لألمه (عليه السلام):

لا يوجد شخص علي هذه الأرض يتألَّم مثل الإمام, لما يري من مصائب ونوائب في الأمّة الإسلاميّة، كما أنَّ الإمام إذا رأي ذنباً من مؤمن يتألَّم، فكيف إذا رأي فضائع الذنوب وكبائر الجرائم والمعاصي، لذلك علاقتنا بالإمام تقتضي أن نتألَّم لألمه، ويعلّمنا دعاء الندبة المعروف بين الإماميّة كيف نتألَّم لألم الإمام: (عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أرَي الْخَلْقَ وَلا تُرَي وَلا أسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلا نَجْوَي...، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ اُجَابَ دُونَكَ وَ اُنَاغَي، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَي، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْريَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَي)(2)، هذه الكلمات تقوّي عندنا إحساساً بألم الإمام وبآهات الإمام، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا)(3)، فالتألّم لألمهم دليل الولاء لهم، ومن ألم الإمام المنتظر (عليه السلام) الذي لا ينساه ولا يهجع عند ذكره ألم كربلاء، ألم عاشوراء، فهو الألم المستمرّ المتجدّد للإمام المنتظر (عليه السلام).

الحمد لله ربّ العالمين

* * *

ص: 21


1- بحار الأنوار 53: 171/ ح 5.
2- المزار لابن المشهدي: 581 و582/ الدعاء للندبة.
3- شجرة طوبي/ الحائري 1: 3.

ص: 22

المحاضرة الثانية: المهدي (عليه السلام) عشق هادف

اشارة

(2/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(19/ 12/ 2009م)

ص: 23

ص: 24

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ) (النمل: 62).

الآية المباركة دلَّت علي أنَّ المضطرّ إذا دعا ربّه استحقَّ الإجابة، ولكن البحث يقع في ما هو المقصود بالمضطرّ في الآية المباركة؟

فهنا رأيان:

الرأي الأوّل: ما ذكره السيّد الطباطبائي (رحمه الله) في (تفسير الميزان)(1) أنَّ المضطرّ هو الإنسان المنقطع إلي الله بدلالة آيتين في القرآن تفسّر إحداهما الأخري:

الآية الأولي: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وظاهر هذه الآية أنَّ الدعاء الحقيقي يستلزم الإجابة، مع السكوت عن ماهية وجوهر الدعاء الحقيقي المستلزم للإجابة.

بينما جاءت آية أخري فسَّرت معني الدعاء الحقيقي وهي قوله تعالي: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62)، يعني أنَّ الدعاء الحقيقي المستلزم للإجابة هو دعاء المضطرّ، لأنَّه هو الذي يوقن بفشل جميع الأسباب المادية، فالإنسان مثلاً إذا أصابه مرض خطير وأيقن أنَّ جميع الأسباب المادية فشلت في علاجه، أو أصابه خطر1.

ص: 25


1- راجع: تفسير الميزان 15: 381.

وأيقن أنَّ جميع الأسباب المادية فاشلة في تخليصه ونجاته من الخطر، فمثل هذا الإنسان ينقطع إلي الله لأنَّه يدرك أن لا سبيل أمامه إلاَّ الله فيلجأ إلي ربّه، إذن المراد بالمضطرّ هو الإنسان الذي ينقطع إلي ربّه في حالات شدّة البلاء وشدّة الخطر وهو الذي وُعد باستجابة دعائه.

الرأي الثاني: أنَّ المراد بالمضطرّ في الآية الكريمة هو الإمام المنتظر (عليه السلام)، لوجهين:

الوجه الأوّل: الروايات:

فعندنا معتبرة محمّد بن مسلم، عن الباقر (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، قال: (هذه نزلت في القائم (عليه السلام)، إذا خرج تعمَّم وصلّي عند المقام وتضرَّع إلي ربّه فلا ترد له راية أبداً)(1).

وعندنا أيضاً رواية صالح بن عقبة، عن الصادق (عليه السلام)، قال: (نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام)، هو والله المضطرّ إذا صلّي في المقام ركعتين ودعا الله فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض)(2).

الوجه الثاني: القرينة السياقية في الآية:

في الآية قرينة علي أنَّ المراد بالمضطرّ هو الإمام، لأنَّ في ذيلها: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ)، فعبَّرت الآية بتعبير: (خليفة الأرض) ولم تعبّر (خليفة في الأرض)، وهناك فرق بين التعبيرين، فعندما نقول: (الإنسان خليفة في الأرض) فهو قابل للصدق علي الجميع فإنَّ كلّ إنسان بمقدوره القيام بهذا الدور، دور الخلافة في الأرض، إذ كلّ إنسان

ص: 26


1- تأويل الآيات 1: 403/ ح 6؛ بحار الأنوار 51: 59/ ح 56.
2- تفسير القمي 2: 129؛ بحار الأنوار 51: 48/ ح 11.

يستثمر الأرض، يستثمر الطبيعة طبقاً لقوانين السماء يكون خليفة في الأرض؛ لأنَّه استثمر الأرض علي ضوء قوانين السماء.

أمَّا (خليفة الأرض) فهو أعظم من هذا، فإنَّ خليفة الأرض الذي يسيطر علي الأرض كلّها وهو الذي تخضع له الأرض كلّها بكنوزها ومعادنها وبركاتها، والقرآن استخدم التعبيرين. فعندما خاطب آدم قال: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وعندما خاطب النبيّ داود (عليه السلام) قال: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) (ص: 26)، ولكن عندما جاء يخاطب أمّة النبيّ محمّد لم يقل: خليفة في الأرض أو خلفاء في الأرض، بل قال: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ) (النمل: 62)، إذن أمّة النبيّ وُعدت من قِبل الله عز وجل بخلافة الأرض كلّها وليس خلافة في الأرض، فإنَّ الخلافة في الأرض قام بها داود وآدم وغيره، أمَّا أمّة النبيّ وُعدت بشيء أكبر من هذا، وهو أن تكون لها الأرض كلّها ببركاتها ومعادنها وكنوزها.

وتحقّق هذا الوعد _ وهو أن تكون أمّة النبيّ خليفة الأرض _ إنَّما يتمّ في يوم الظهور، فإلي الآن لم يتحقَّق لأمّة النبيّ هذا الوعد، إذن ذيل الآية قرينة علي أنَّ المراد بالمضطرّ ليس هو كلّ إنسان يضطرّ وكلّ إنسان ينقطع، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ).

فالمضطرّ هو الإنسان الذي بيده وعلي عاتقه تحقّق الأمّة الإسلاميّة خلافة الأرض، وذلك الإنسان إنَّما ينطبق علي الإمام المنتظر (عليه السلام)، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).

لذلك عندما تدعو أنت بهذه الآية: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) لا بدَّ أن تلتفت إلي أنَّك تقصد الإمام المنتظر، أي كأنَّك تتوسَّل إلي الله ببركة

ص: 27

الإمام المنتظر أن يكشف عنك الضرّ والبلاء فهو المضطرّ، كما نقرأ في دعاء الندبة: (أيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا)(1)، فمن هنا ننطلق في الحديث عن علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر وبأهل البيت (عليهم السلام).

وعندنا ثلاثة محاور مختصرة:

المحور الأوّل: في تحليل علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام):

هناك فريقان من المسلمين، الفريق الأوّل يقول: حبّ النبيّ وأهل بيته ليس له قيمة ولا موضوعية، وفريق آخر من المسلمين يقول: حبّ النبيّ وأهل بيته له قيمة وله موضوعية، فعندنا اتّجاهان، اتّجاه حرفي لا يعترف بقيمة الحبّ، واتّجاه موضوعي يعترف بقيمة الحبّ، ونحن نشرح الاتّجاهين:

الاتّجاه الأوّل: الاتّجاه الحرفي:

وهو ما يقول به بعض السلفيين _ وليس كلّهم _، وهو يعتمد علي عنصرين:

العنصر الأوّل: إنَّ المطلوب حبّ الله لا حبّ النبيّ وآله، وحبّ النبيّ لأجل أنَّه داعية إلي الله وإلاَّ فحبّه في حدّ ذاته ليس مطلوباً، وذلك لأنَّ النبيّ مكوَّن من جانبين: جانب شخصي وجانب دعوي.

الجانب الشخصي: علاقة النبيّ بزوجته، وعلاقة النبيّ بابنته فاطمة، وعلاقة النبيّ بصهره أمير المؤمنين، فهذه قضايا شخصية.

الجانب الدعوي: وهو كون النبيّ داعياً إلي الله، قال تعالي في الآية المباركة: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَي اللَّهِ) (الأحزاب: 45 و46)، ونحن نحبّ النبيّ ليس في الجانب الشخصي، بل

ص: 28


1- المزار لابن المشهدي: 579/ الدعاء للندبة.

في الجانب الدعوي، وبعبارةٍ أخري فإنَّ هذا الاتّجاه يقول: الحبّ المطلوب هو حبّ الله، فالنبيّ بما هو داع إلي الله نحبّه لا بما هو شخص له زوجة، له بنت، له صهر، وعنده علاقات.

العنصر الثاني: أنَّ الحبّ لا قيمة له والمدار علي العمل لا علي الحبّ، فهذا القرآن ينادي أنَّ القيمة للعمل وليست للحبّ، لاحظ القرآن الكريم يقول: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)، أي المهمّ هو الاتّباع وليس الحبّ، وقال القرآن الكريم: (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: 108)، ولم يقل: يحبّ من يحبّه وإنَّما قال: يحبّ العمل، أمَّا الحبّ فلا موضوعية له ولا قيمة له في حدّ ذاته، والاحتفال كلّ عام بأهل البيت مولداً ووفاةً ليس له قيمة والقيمة للعمل والحبّ لا موضوعية له.

الاتّجاه الثاني: الاتّجاه الموضوعي:

هو الذي تراه الشيعة الإماميّة وبعض المذاهب الإسلاميّة الأخري، حيث يُقرِّر أنَّ الحبّ له قيمة وله موضوعية، ويمكن توضيح هذا الاتّجاه بدعائم ثلاث:

الدعامة الأولي: نحن في التراث الإمامي ليس عندنا تفكيك وتفصيل فلا نقول: إنَّ الرسول له جانب شخصي وجانب دعوي، بل إنَّ ذات النبيّ بتمام حركاته، بتمام سكناته، بتمام جهاته، مظهرٌ لله فليس فيها جانبان، وكلّ نبيّ، كلّ حجّة ليس فيه جانبان شخصي ودعوي، ونستدلُّ عليه بالقرآن الكريم. فعندما تحدَّث عن الأنبياء والأوصياء والحجج لم يفصّل، فلم يقل: أحبّوهم في الجانب الدعوي لا في الجانب الشخصي، فهو قد تناول شخصياتهم بعبارات تعبّر عن أنَّ ذواتهم مصفَّاة خالصة وكلّها مظهر لله، مثلاً قوله: (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصارِ * إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي جعلنا ذواتهم خالصة صافية لله،

ص: 29

(بِخالِصَةٍ ذِكْرَي الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَْخْيارِ) (ص: 45 _ 47)، وعندما تكلَّم عن موسي (عليه السلام) قال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسي إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي إنَّه كان مصفَّي (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (مريم: 51)، يعني أنَّه بالإضافة إلي الجانب الدعوي رسولاً ونبيّاً أيضاً هو في الجانب الشخصي مُخلَص.

وعندما يتحدَّث القرآن عن يوسف (عليه السلام): (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأي بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 24)، إذن هذا التعبير يؤكّد لنا أنَّ الأنبياء والأوصياء ليس لديهم جانب شخصي وجانب دعوي، بل هم ذات صافية لله.

ونأتي إلي تعبير آخر، تعبير الاصطناع، فعندما يتحدَّث القرآن عن موسي (عليه السلام): (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلي عَيْنِي) أي أنا صنعتك صناعة كاملة، (ثُمَّ جِئْتَ عَلي قَدَرٍ يا مُوسي * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 39 _ و41).

إذن هناك اصطناع، هناك اصطفاء، هناك تخليص، هناك تعبيرٌ رائع عبّر به القرآن الكريم بخصوص أهل البيت (عليهم السلام): (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، أي نقاكم من جميع الشوائب والأدران وجعل ذواتكم ذواتاً صافية طاهرة خالصة لله تبارك وتعالي.

فذات النبيّ وأهل بيته ذوات خالصة، لذلك يذهب التراث الإمامي إلي أنَّ تقسيم ذواتهم إلي شخصي ودعوي ليس له معني، فالنبيّ كلّه مظهر لله، والإمام كلّه مظهر لله، كلّه حجّة لله بتمام حركاته وسكناته (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحي) (النجم: 3 و4).

الدعامة الثانية: إنَّ حبّ النبيّ وأهل بيته حبّ فطري، لا يمكن القول بأنَّه حبّ لا قيمة له، لأنَّ علماء العرفان يقسّمون الحبّ إلي ثلاثة أقسام:

ص: 30

1 _ الحبّ الشهوي: وهو الذي يدور مدار اللذّة والشهوة، مثل قوله تعالي: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَْنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران: 14)، وحبّ المرأة، حبّ الأولاد، حبّ الدنيا، كلّه داخل في إطار الحبّ الشهوي.

2 _ الحبّ الإنساني: وهو حبّ الإنسان لأبيه، وحبّ الإنسان لاُمّه، فإنَّ هذا الحبّ إنساني يدور مدار الألفة.

3 _ الحبّ الفطري: وهو حبّ الكمال، فإنَّ كلّ إنسان وُلد وهو يحبّ الكمال، ويحبّ الجمال، لأنَّ حبّ الكمال وحبّ الجمال حبٌّ فطري، يقول القرآن الكريم: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات: 8)، والخير هو الجمال والكمال.

فلماذا يحبّ الإنسان الله؟ لأنَّ الله كمال والإنسان بفطرته يحبّ الكمال، ولماذا يحبّ الإنسان محمّداً وآل محمّد؟ لأنَّ محمّداً كمال والإنسان يحبّ بفطرته الكمال، فالإنسان إنَّما يحبّ الله والنبيّ وأهل البيت لا لشيء، بل لأنَّ فطرته تدعوه لحبّهم، لأنَّه بفطرته يحبّ الكمال وهم مظهر للكمال فلذلك يحبّهم، لهذا لا معني لكلام بعض السلفية بأنَّ حبّهم لا قيمة له، مع أنَّه حبّ دعت إليه الفطرة، والحبّ الفطري قيمته بفطرته وبصفائه وبنقائه، لذلك هذا الحبّ الفطري لا يختَّص بالشيعة، فكلّ إنسان يطَّلع علي سيرة أهل البيت يحبّهم بفطرته، فهذا بولس سلامة شاعر مسيحي، عندما قرأ شخصية الإمام علي (عليه السلام) قال:

جلجل الحقّ في المسيحي حتَّي***عُدَّ من فرط حبّه علويا

أنا من يعشق الفضيلة والإلهام***والعدل والخِلاق الرضيا

ص: 31

فإذا لم يكن عليٌ نبيّاً***فلقد كان خُلُقه نبويا

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي***واخشعي إنَّني ذكرت عليا

الدعامة الثالثة: كما ذكرنا سابقاً فقد اتَّجه بعض السلفيين إلي القول بعدم قيمة الحبّ للنبيّ وآله، وبعبارة أخري لو أنَّ إنساناً اتَّبع النبيّ اُدخل الجنّة وإن لم يكن في قلبه عاطفة نحو النبيّ.

ولكن الحقّ كما أنَّ العمل له قيمة فإنَّ الحبّ أيضاً له قيمة، وكما أنَّ العمل سببٌ لاستحقاق الجنّة، فإنَّ الحبّ أيضاً سببٌ لاستحقاق الجنّة، وهناك أدلّة من القرآن الكريم:

قال تعالي: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي) (الشوري: 23)، ولو لم يكن للحبّ قيمة لقال القرآن: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ العمل والاتّباع للنبيّ)، فذكر المودَّة دليل علي أنَّ لها موضوعية، ويقول تعالي علي لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام): (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) (إبراهيم: 37)، ولو لم يكن الحبّ ذا قيمة فلماذا يدعو به إبراهيم؟ إنَّ دعوة إبراهيم دليل علي أنَّ للحبّ قيمة وموضوعية عند الله، وإلاَّ لما دعا به نبيّ صالح يعرف مراد ربّه تبارك وتعالي.

وآية ثالثة يخاطب القرآن النبيّ موسي (عليه السلام) فيقول: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلي عَيْنِي) (طه: 39)، ومعناها إنَّ حبّ النبيّ موسي له قيمة، ولذلك اعتبره الله نعمة من النعم، وغيرها آيات قرآنية ترشد إلي أهمّية الحبّ.

والسُنّة أيضاً تؤكّد علي أنَّ للحبّ قيمة وموضوعية، فالثعلبي في تفسيره يروي عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (من مات علي حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومن مات علي حبّ آل

ص: 32

محمّد مات تائباً، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد بشَّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكراً ونكيراً، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد جعل الله تعالي زوّار قبره ملائكة الرحمن، ألا ومن مات علي حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة، ألا ومن مات علي بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات علي بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومن مات علي بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة)(1).

ويقول القرآن الكريم: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)، ما معني (عَزَّرُوهُ)؟ تعزير الشخص معناه إظهار المحبّة له، فلولا أنَّ إظهار المحبّة مطلوب لما ذكره القرآن من جملة الأمور المطلوبة تجاه النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، فالاحتفال بالنبيّ وآل بيته مولداً ووفاةً كلّه من قبيل التعزير، إذن الحبّ له موضوعية وله قيمة، وهذا ما أدركه الإمام الشافعي عندما قال:

يا راكباً قف بالمحصب من مني***واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلي مني***فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد***فليشهد الثقلان أنّي رافضي

المحور الثاني: حبّ آل البيت (عليهم السلام) له قيمة وموضوعية عظيمة:

لكن هنا شبهة ركَّزت عليها بعض الأقلام، وهي أنَّ التراث الشيعي الإمامي يربّي الشيعة علي عاطفة سوداء وهي عاطفة الإحساس بالمظلومية والإضطهاد،

ص: 33


1- تفسير الثعلبي 8 : 314.

فمناسبات الحزن عند الشيعة أكثر من مناسبات الفرح، وإذا قرأت أدبياتهم، أدعيتهم، زياراتهم وجدت أنَّها تركّز علي المظلومية والحزن والأسي، وهكذا علماء الشيعة، خطباء الشيعة، كتب الشيعة، دائماً يربِّون الشيعة علي أنَّهم فئة مظلومة، مضطهدة، مسلوبة الحقوق، مسلوبة الحياة.

مثلاً، خذ هذا الدعاء الذي يقرأه الشيعة للإمام المنتظر (عليه السلام): (اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيَّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيَّنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوَّنَا) يعني أنَّنا مضطهدون، (وَقِلَّةَ عَدَدِنَا، وَشِدَّةَ الْفِتَن بِنَا، وَتَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، فَصَلّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأعِنَّا عَلَي ذَلِكَ بِفَتْح مِنْكَ تُعَجَّلُهُ، وَبضُرًّ تَكْشِفُهُ، وَنَصْرٍ تُعِزُّهُ، وَسُلْطَانِ حَقًّ تُظْهِرُهُ، وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُجَلّلُنَاهَا، وَعَافِيَةٍ مِنْكَ تُلْبِسُنَاهَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)(1)، فإنَّ هذه الفقرات تُربّي الشيعة علي أنَّهم فئة مظلومة مضطهدة مسلوبة الحقوق، وأنَّها هي أقلّ من غيرها، وهذه التربية تربية خطيرة جدَّاً، لأنَّ علم النفس الاجتماعي يقول: الإنسان إذا رُبّي علي أنَّه مظلوم، علي أنَّه مضطهد يعيش عقدة النقص، وإذا عاش عقدة النقص ترتَّب علي ذلك أثران سلبيان:

الأوّل: العزلة عن المجتمع.

الثاني: روح النقمة والحقد علي المجتمع.

وحيث إنَّ عموم الشيعة يُربَّون علي أنَّهم مجتمع ناقص فهذا يسبّب انعزالهم عن المجتمع الإسلامي، وتخلّفهم عن بناء الحياة وبناء الحضارة وأنَّهم يحملون روحاً نَقِمة علي المجتمع الإسلامي، بحيث لو اُعطوا فرصة لانتقموا من أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخري لأنَّهم رُبُّوا علي أنَّهم فئة مظلومة مضطهدة، لأجل ذلك هم يعيشون روح الحقد والضغينة علي أبناء المجتمع الإسلامي.).

ص: 34


1- مصباح المتهجّد: 366/ الرقم (492/103).

ونحن في الجواب عن هذه الشبهة نقول:

أوّلاً: التراث الشيعي يشتمل علي الشكوي، وهذا أمر صحيح، ولكن الشكوي إلي الله تبارك وتعالي لا تُربّي الإنسان علي الانتقام، وإنَّما تُربّي عنده الإرادة والصبر علي مصاعب الحياة.

فإنَّ الإنسان عندما يمرُّ بظروفٍ قاسية لمن يشكو؟ يشكو إلي ربّه، لأنَّها تعلّمه علي أن ينطلق بحيوية جديدة ويصارع الحياة بإرادة حازمة، والشكوي إلي الله شحنة روحية تغذّي الإرادة والحزم لدي الإنسان لا أنَّها تربّي الإنسان علي روح الانتقام، وخير دليل ما صنعه النبيّ يعقوب (عليه السلام) حيث قال تعالي حكاية عنه: (وَتَوَلَّي عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفي عَلي يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّي تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَي اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (يوسف: 84 _ 86)، فشكوي يعقوب لا لأجل الانتقام من أولاده، وإنَّما من أجل أن يتجدَّد عزمه وتقوي إرادته أمام مصاعب الحياة.

وهكذا بالنسبة لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كما ذكره ابن الأثير في (البداية والنهاية) وكذا في (السيرة الحلبية) عندما ذهب إلي الطائف يدعوهم إلي الإسلام أغروا سفهاءهم وعبيدهم، حتَّي اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلي حائط ورفع يديه إلي السماء، قال: (اللّهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوَّتي وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي إلي من تكلني، إلي بعيد يتجمهني أم إلي عدوًّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي...)، فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فقال له ملك الجبال: يا محمّد قد بعثني الله، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربّك لتأمرني ما

ص: 35

شئت إن شئت تطبق عليهم الأخشبين _ يعني جبل قينقاع وجبل بني قبيس _، قال: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً)(1)، فالشكوي إلي الله صارت سبباً للأمل وليست سبباً للانتقام، صارت سبباً للتفاؤل وليست سبباً للتشاؤم.

ونحن الشيعة الإماميّة عندما نشكو إلي الله قلّة عددنا وضعف قوَّتنا فهذا سبب للتفاؤل وليس سبباً للتشاؤم، وليس سبباً علي تربية أبنائنا علي روح النقمة، وإنَّما هو رصيدٌ روحي نستعين به أمام مصاعب الحياة.

ثانياً: لا يستطيع أحد أن يطلب من الشيعي أن يغمض عينيه عن التاريخ كلّه، وتاريخ المظلومية، وتاريخ الاضطهاد خصوصاً في ظلّ الحكومة الأموية والعبّاسية، فمن الطبيعي إذن أن يركّز التراث الإمامي علي الحزن، بل في بعض أدبياتنا عن الإمام السجّاد (عليه السلام):

يفرح هذا الوري بعيدهم

ونحن أعيادنا مآتمنا (2)

وعندنا أحاديث ترسّخ الحزن في نفوسنا، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): (من تذكَّر مصابنا وبكي لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكي وأبكي لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)(3).

لكن هل الهدف من هذا التراث، تراث الحزن، تراث الأسي، هو تربية الشيعة علي روح الحقد والضغينة علي أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخري؟ هل الهدف منه تربية الشيعة علي الانتقام من أبناء المذاهب).

ص: 36


1- أنظر: البداية والنهاية 3: 166 - 168؛ السيرة الحلبية 2: 53 - 58.
2- مناقب آل أبي طالب 3: 295.
3- أمالي الصدوق: 131/ ح (119/4).

الإسلاميّة الأخري؟ لا، أبداً، وإنَّما هذا التراث الحزين الذي يتَّصل بتاريخ الشيعة من زمان الإمام علي (عليه السلام) وإلي زمان ظهور الحجّة (عليه السلام)، الهدف منه تربية الشيعي علي رفض الظلم والطغيان، ورفض الأوضاع الفاسدة، وأهل البيت (عليهم السلام) لم يذكروا هذه الروايات جزافاً، فهي تربّينا علي الحزن والأسي والعواطف الملتهبة، وليس عندنا في تراث الشيعة نصّ واحد ولا رواية صحيحة تأمرنا بالحقد أو الضغينة والانتقام من المسلمين إطلاقاً، فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (أوصيكم بتقوي الله عز وجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، أدّوا الأمانة إلي من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإنَّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّي الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر...)(1).

وعنه (عليه السلام) يقول: (إنَّ كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذّنهم، وصاحب أماناتهم وودائعهم، عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلّوا في مساجدهم، ولا يسبقوكم إلي خير، فأنتم والله أحقّ منهم به)(2)، إنَّ هذه الروايات تأمرنا بالمعاملة الأخوية التامّة مع أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخري. .

ص: 37


1- الكافي 2: 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5.
2- مشكاة الأنوار: 134؛ بحار الأنوار 85 : 119/ ح 83 .

المحور الثالث: علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر (عليه السلام):

هناك مقالة تتحدَّث عن علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر (عليه السلام)، تقول: من قرأ دعاء الندبة _ وهو دعاء معروف بين الشيعة _ يتَّضح له أنَّ هذا الدعاء وأمثاله يربّي الشيعة علي البكاء والاستغراق في العاطفة والانشغال عن المبادئ والقيم، والاغراق في الحزن علي حساب المبادئ والقيم تربية سيّئة، تربية خاطئة، إذ يقول الدعاء خطاباً للإمام المنتظر (عليه السلام): (إِلَي مَتَي أحَارُ فِيكَ يَا مَوْلايَ، وَإِلَي مَتَي وَأيَّ خِطَابٍ أصِفُ فِيكَ وَأيَّ نَجْوَي، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ اُجَابَ دُونَكَ وَاُنَاغَي، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَي، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْريَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَي)، ثمّ يقول: (هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَاُطِيلَ مَعَهُ الْعَويلَ وَالْبُكَاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوع فَاُسَاعِدَ جَزَعَهُ إِذَا خَلا، هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْني عَلَي الْقَذَي)(1)، وهذه تربية علي البكاء، تربية علي العاطفة، تربية علي الدموع علي حساب المبادئ، والجواب عن هذا:

أوّلاً: إنَّ ما اُمرنا به هو المودّة وليس المحبّة، يقول القرآن الكريم: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي) (الشوري: 23)، والمودّة تختلف عن المحبّة، فالكثير من المسلمين، بل كلّهم يحبّون أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن هذا ليس المطلوب، بل المطلوب هو المودّة، وهي إظهار الحبّ، ومن جملة مظاهر الحبّ دعاء الندبة، فهو يربّينا علي الإحساس بوجود الإمام، وأنَّه يعيش معنا، أنَّه يرانا وأنَّه يراقبنا وأنَّنا نتَّصل به وإن لم نعرف عنوانه واسمه، إنَّ هذا الدعاء يربّينا علي شيء طلبه القرآن منّا ألا وهو إظهار المحبّة المعبَّر عنه بالمودّة.

ثانياً: ليس من الصحيح اقتطاع جزء من الدعاء فتؤخذ بعض فقراته ويترك البعض الآخر، فالدعاء كما يربّيك علي حبّ آل البيت (عليهم السلام)،

ص: 38


1- المزار لابن المشهدي: 581 و582/ الدعاء للندبة.

يربّيك علي العمل أيضاً، ففيه فقرات تأمرك بالعمل، تأمرك بالإطاعة، تأمرك باجتناب المعصية، لاحظ قوله: (وَأعِنَّا عَلَي تَأدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ، وَالاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ)، ثمّ يقول: (وَأقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيم، وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ، وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظْرَةً رَحِيمَةً)(1)، وهذه ميزة التراث الشيعي علي التراث الآخر أنَّه يؤكّد علي أمرين: حبّ وعمل، لا أنَّه يتحدَّث عن العمل وحده وكأنَّنا أدوات أتوماتيكية مبرمجة تعمل طبقًا للأوامر بدون أيّ عاطفة وبدون أيّ محبّة، فهناك عواطف وعمل، لا مجرَّد عمل بدون عواطف ولا عواطف بدون عمل.

فلنكن واقعيين ومنصفين، إذا كانت لنا مودّة حقيقية مع محمّد وآل محمّد فكما نحتفل بمرور السنة الهجرية ونهنّئ بعضنا بعضاً بمرور السنة الهجرية، كذلك نحتفل بذكري سبط رسول الله، وإذا كان الاحتفال بذكري سبط رسول الله بدعة كذلك الاحتفال بمرور السنة الهجرية بدعة، فهذه لم تردنا عن السُنّة ولا عن الصحابة، فهل سمعت عن الصحابة أنَّه هنَّأ بعضهم بعضاً بمرور السنة الهجرية الجديدة.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *ة.

ص: 39


1- المزار لابن المشهدي: 584/ الدعاء للندبة.

ص: 40

المحاضرة الثالثة: النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) والمهدي (عليه السلام)

اشارة

(3/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(20/ 12/ 2009م)

ص: 41

ص: 42

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107).

وانطلاقاً من الآية المباركة نتحدَّث عن محاور ثلاثة:

المحور الأوّل: الحقيقة المحمّدية والرحمة:

كثير منّا سمع أو قرأ هذا المصطلح وهو مصطلح الحقيقة المحمّدية, فما معني الحقيقة المحمّدية؟ وحتَّي نفهم هذا المصطلح نذكر أموراً ثلاثة:

الأمر الأوّل: يقول الفلاسفة: كلّ موجود يمرّ بمرحلتين من الوجود: الوجود الإجمالي، والوجود التفصيلي.

مثلاً الشجرة المثمرة وجودها تفصيلي فلها ساق وأغصان وثمار, لكنَّها كانت موجودة قبل هذا الوجود بوجود آخر وهو الوجود الإجمالي المختصر في البذرة, وهكذا الإنسان الذي غزي الفضاء وسيطر علي الكون قبل أن يوجد بوجوده التفصيلي كان موجوداً بوجود إجمالي ضمن نطفة, ثمّ تحوَّل الآن إلي وجود تفصيلي جسد وعقل ومشاعر:

ما بال من أوّله نطفة***وجيفة آخره يفخرُ

حتَّي القرآن الكريم مرَّ بهاتين المرحلتين، فهذا القرآن الذي نقرأه الآن وجود تفصيلي وسور وآيات وأوامر ونواهي، لكن كان له وجود إجمالي في

ص: 43

الكتاب المكنون، والقرآن الكريم نفسه يفصح عن هذه الحقيقة، يقول: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1)، ويقول أيضاً: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 _ 79).

فكلّ شيء مرَّ بوجودين، وجود إجمالي ووجود تفصيلي، وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا المعني فقال: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر: 21)، وقال في آية أخري: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)، أي وضعنا له حدوداً وقدراً عندما أنزلناه إلي عالم الوجود المادي.

وأيضاً هذا الوجود كلّه من أصغر ذرّة إلي أعظم مجرَّة بسماواته بأرضيه بنجومه بشموسه، كان موجوداً وجوداً إجمالياً قبل أن يوجد وجوداً تفصيلياً فهو قد مرَّ بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي مختصر يسمّي ب- (الفيض الأقدس) بتعبير الفلاسفة، ثمّ تحوَّل إلي وجود تفصيلي أصبح سماءاً وأرضاً وشمساً وقمراً وإنساناً وجماداً وحيواناً ونباتاً وسمّي ب- (الفيض المقدَّس), وهذا الوجود التفصيلي سيرجع مرَّةً ثانيةً يوم القيامة إلي الوجود الإجمالي المختصر، قال تعالي: (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (الأنبياء: 104).

الأمر الثاني: ورد في تراثنا الإسلامي شيء يسمّي ب- (عالم الأنوار) بمعني أنَّ الله خلق محمّداً وآل محمّد من نور قبل أن يخلق الكون، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (... أمَا علمت أنَّ محمّداً وعلياً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله عز وجل قبل خلق الخلق بألفي عام؟...)(1)، وأنت تقرأ في1.

ص: 44


1- علل الشرائع 1: 174/ باب 139/ ح 1.

زيارة الجامعة: (خَلَقَكُمُ اللَّهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ)(1)، وفي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): (أشْهَدُ أنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الأصْلابِ الشَّامِخَةِ وَالأرْحَام الْمُطَهَّرَةِ)(2).

وعالم الأنوار هو الذي سمَّيناه (الفيض الأقدس) وهو الذي سمَّيناه (الوجود الإجمالي)، وهذا الوجود الإجمالي للكون هو نور محمّد وآل محمّد، إذن أوّلاً خلق الله المادة النورية المسمّاة بنور محمّد وآل محمّد المسمّاة بالوجود الإجمالي المسمّاة بالفيض الأقدس، ثمّ أفاض منها الوجود كلّه فتحوَّل الوجود بتلك المادة النورية إلي وجود تفصيلي، هذا هو الحقيقة المحمّدية.

والمحقّق الأصفهاني أستاذ سيّدنا الإمام الخوئي (قدس سرهما) يقول في حقّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم):

وقد تجلّي من سماء العظمه *** من عالم الأسماء أسمي كَلِمَهْ

إذن عرفنا أنَّ الحقيقة المحمّدية هي الوجود الإجمالي، وبما أنَّ الوجود الإجمالي هو الرحمة لأنَّ الرحمة هي الوجود، قال تبارك وتعالي: (الَّذِي أَعْطي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدي) (طه: 50)، نعرف أنَّ الحقيقة المحمّدية هي: الرحمة العامّة, وبالتالي فقد وصلنا إلي معني من معاني الآية: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107).

ما هي علاقة محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) بالعالمين؟ عالم السماء, عالم الأرض, عالم الجنّ, عالم الملائكة, عالم النبات, عالم الجماد، عالم الحيوان، إنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) بشر خلق علي الأرض وأرسل إلي المجتمع البشري, فما هي علاقته بالعالمين؟).

ص: 45


1- المزار لابن المشهدي: 529.
2- مصباح المتهجّد: 721/ الرقم (806/75).

والجواب يتَّضح علي ضوء المعني الذي ذكرناه وهو الحقيقة المحمّدية، لأنَّ النبيّ نور خلق قبل الكون باعتباره الوجود الإجمالي والفيض الأقدس الذي خلق قبل الكون، ومنه وجد الكون وأفيض الكون، لذلك كان النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لجميع العالمين.

الأمر الثالث: يقول علماء العرفان: (لكلّ حقيقة رقيقة)، ويُقصد بها أنَّ لكلّ حقيقة مدداً ونبعاً يمدّها، وذلك النبع الذي يمدّها هو الرقيقة، ولتقريب الفكرة فإنَّ المصباح حقيقة لكن الرقيقة هو المدد الذي يمدّه بالضوء وهو الطاقة الكهربائية، فكلّ حقيقة لها رقيقة، قال تعالي: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) هذه كلّها حقيقة، والرقيقة، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ) الشجرة هي النبع وهي الرقيقة، (مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (النور: 35)، فرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) هو الرقيقة لكلّ الحقائق وهو الشجرة المباركة وليس كما يصوّره بعض كتب إخواننا أهل السُنّة: (محمّد يحكّ المني من ثوبه)(1)، و(نام عن صلاة الصبح)(2)، إنَّما محمّد هو الرحمة العامّة للعالمين جميعاً، محمّد هو الوجود والفيض الأقدس الذي سبق هذا الكون وأفيض منه هذا الكون، هذه هي الحقيقة ولكن من يشعر برقيقة هذه الحقيقة؟ ومن يشعر بلذّة النور المحمّدي؟ إنَّ الذي يشعر به خواصّ من الناس وهم المحسنون، قالت الآية المباركة: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)، وقال تبارك وتعالي: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 156).ة.

ص: 46


1- عن عائشة، قالت: كان النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثمّ يصلّي فيه ويحتّه من ثوبه يابساً ثمّ يصلّي فيه. (مسند أحمد 6: 243).
2- راجع: سنن النسائي 1: 293 - 299، فيمن نام عن الصلاة.

عندنا حديث مشهور يلفت الانتباه، فقد ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد)(1)، وقد يتصوَّر البعض أنَّ النبيّ بصدد بيان الأسماء، ولكن الصحيح هو أنَّ الحديث بيان لمراحل الحقيقة المحمّدية، حيث إنَّ الحقيقة المحمّدية نور يمرُّ بمراحل، هذا النور له مبدأ، وله وسط، وله منتهي، ومبدأ هذا النور الذي سري نزل من السماء إلي الأرض هو المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم)، لأنَّه هو الذي بذر بذرة الدعوة، ووسط هذا النور الإمام الباقر الذي بقر العلم بقراً لأنَّ علي يده تأسَّست دعائم المذهب، والمنتهي هو الذي يحقّق الدولة التامّة والعدالة التامّة علي الأرض كلّها، وهو الذي بيده تظهر ثمرة جهود الأنبياء وجهود المرسلين وتضحيات الأولياء والأوصياء، قال تعالي: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، إذن الأخير هو الذي يحقّق الثمرة المطلوبة.

من هنا نعرف أنَّ الإمام المنتظر (عليه السلام) هو امتداد لجدّه المصطفي، فكما كان النبيّ رحمة للعالمين فالإمام المنتظر أيضاً رحمة للعالمين، وكما كان النبيّ قطعة من الرحمة فالمهدي أيضاً قطعة من الرحمة.

المحور الثاني: مظاهر الرحمة المحمّدية في المهدي (عليه السلام):

اشارة

هناك ثلاثة مظاهر:

المظهر الأوّل: خُلُق الرحمة:

إنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) كان خلقه رحمة، يقول القرآن الكريم: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، حيث كان (صلي الله عليه وآله وسلم) قطعة من التواضع، والألفة، والمحبّة، والقرآن

ص: 47


1- الغيبة للنعماني: 88/ باب 4/ ح 16.

يصف خلقه، قال تعالي: (وَإِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وهذه الصورة الجميلة الرائعة لشخصية النبيّ نفسها تتصوَّر وتتجسَّد في المهدي المنتظر (عليه السلام)، فإنَّ بعضهم يتصوَّر أنَّ المهدي إنسان عابس، إنسان عنيف، والصحيح أنَّ المهدي كجدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) صورة مبتسمة، صورة جذّابة، صورة ملؤها التواضع، وملؤها الخلق الجذّاب، تماماً كجدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، لذلك ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): (يسير في الناس كسيرة جدّه)(1)، وفي الرواية عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (نزلت في القائم (عليه السلام) وأصحابه)(2).

المظهر الثاني: المجتمع الأخوي:

إنَّ من الواضح لمن اطَّلع علي كتابات المستشرقين يجدهم قد طعنوا في النبيّ في كلّ شيء إلاَّ في شيء واحد، وقفوا له موقف

ص: 48


1- عن عبد الله بن عطاء المكّي، عن شيخ من الفقهاء - يعني أبا عبد الله (عليه السلام) -، قال: سألته عن سيرة المهدي كيف سيرته؟ فقال: (يصنع كما صنع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً). (الغيبة للنعماني: 236/ باب 13/ ح 13). وعن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن القائم عجَّل الله فرجه إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟ فقال: (بسيرة ما سار به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتَّي يظهر الإسلام)، قلت: وما كانت سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ قال: (أبطل ما كان في الجاهلية واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم (عليه السلام) إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممَّا كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل). (تهذيب الأحكام 6: 154/ باب سيرة الإمام (عليه السلام)/ ح 270/1).
2- تفسير القمي 1: 170.

الإجلال والعظمة واعتبره كثير منهم إعجازاً لم يسبق به النبيّ، وهو أنَّه استطاع في فترة وجيزة أن يحوّل المجتمع المدني إلي مجتمع أخوي وهو ليس أمراً سهلاً علي الإطلاق، فإنَّ المجتمع المدني الذي كان قبائل متناحرة ومتقاتلة حوَّله النبيّ في فترة وجيزة إلي أخوّة يملؤهم الحبّ والوفاء وهذا أمر في غاية الصعوبة، والإمام المهدي (عليه السلام) أيضاً مجتمعه مجتمع أخوي كما صنع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، والقرآن أثني علي ذلك المجتمع الأخوي الذي أقامه النبيّ، قال تعالي: (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِْيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 8 و9)، فهنا تعطي الآية صورة رائعة جدَّاً، حيث إنَّ الأنصار احتضنوا كلّ مهاجر جاء فقيراً، ووفَّروا له السكن وفرصة العمل واعتبروه أخاً وحبيباً، وهل هذا يحصل في زماننا؟ أن يحتضن مجتمع آخر ويوفّر له السكن المجّاني ويوفّر له فرصة العمل مجّاناً ويوفّر ذلك له لا بدافع الحياء والخجل، بل بدافع المحبّة والأخوّة.

وهذا المجتمع الأخوي هو الذي يؤسّسه المهدي (عليه السلام) عند خروجه، وهو يقوم علي عنصرين: عنصر المحبّة، وعنصر التكافل الاجتماعي.

نحن جميعاً مشتاقون إلي المجتمع المهدوي وندعو دائماً: (اللّهمّ اجعلنا من أنصاره وأعوانه), (اللّهمّ عجّل فرجه), (اللّهمّ أرنا ذلك اليوم العظيم)، لكن المهدي يقول لنا: إذا أردتم أن تروا يومي فعليكم أن تعدّوا أنفسكم لأن تكونوا مجتمعاً أخوياً، إذ لا يمكن لنا أن نكون من

ص: 49

أنصاره وأعوانه حتَّي نكون مجتمعاً أخوياً نتبادل المحبّة رغم اختلافاتنا ونتبادل التكافل الاجتماعي، وإذا صرنا بهذه الدرجة صرنا مؤهّلين لأن نكون من أنصاره وأعوانه.

فعن أبي إسماعيل، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جُعلت فداك إنَّ الشيعة عندنا كثير، فقال: (فهل يعطف الغني علي الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ ويتواسون؟)، فقلت: لا، فقال: (ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا). وفي رواية أخري عنه (عليه السلام): (أيجيء أحدكم إلي أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟)(1).

وإنَّ أنصار المهدي وأعوانه وشيعته هم هؤلاء المجتمع الأخوي القائم علي عنصر المحبّة وعنصر التكافل الاجتماعي فلن نكون من أنصاره حتَّي نحوّل أنفسنا من غسيل الاختلافات والتراكمات إلي أنفس متحابّة متقاربة متآخية، قال تعالي: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وقال تعالي: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّي تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92).

المظهر الثالث: الرحمة العامّة:

من المظاهر المحمّدية التي تجسَّدت في شخصية المهدي المنتظر (عليه السلام) هي الرحمة العامّة.

فقد كان النبيّ رحيماً بالمطيعين وبالعصاة، وهكذا المهدي كجدّه رسول الله حنانه ورحمته علي العصاة لا تقلّ عن رحمته بالمؤمنين وبالمطيعين، فإنَّ المهدي فيض من الرحمة علي العصاة وعلي المطيعين كما كان جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم), فعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (ومحمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) صبر في ذات الله عز وجل فأعذر قومه إذ كذب، وشرّد،

ص: 50


1- الكافي 2: 173 و174/ باب حقّ المؤمن علي أخيه/ ح 11 و13.

وحصب بالحصا، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة، فأوحي الله تبارك وتعالي إلي جابيل ملك الجبال، أن شقّ الجبال وانته إلي أمر محمّد، فأتاه فقال: إنّي أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها، قال (صلي الله عليه وآله وسلم): إنَّما بعثت رحمة، ربّ اهد قومي فإنَّهم لا يعلمون)(1)، كان رحيماً بالكافرين، كذلك المهدي أيضاً هو علي خلق جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، وقد ورد ذلك في كتب الفريقين، ففي (مسند أحمد) عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (أبشّركم بالمهدي يبعث في أمّتي علي اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسّم المال صحاحاً)، فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: (بالسوية بين الناس)، قال: (ويملأ قلوب أمّة محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) غني ويسعهم عدله)(2)، وقال (صلي الله عليه وآله وسلم) في رواية أخري: (فتنعم أمّتي في زمانه نعيماً لم ينعموا مثله قطّ، البرّ منهم والفاجر)(3)، فالمهدي بشارة والمهدي رحمة والمهدي خلق والمهدي حنان ورأفة علي العصاة والمنحرفين فضلاً عن المطيعين والمؤمنين.

المحور الثالث: دولة المهدي دولة رحمة لا دولة عنف:

هناك شبهة طرحتها بعض الأقلام الإسلاميّة ومفادها أنَّ مهدي الشيعة يختلف عن مهدي أهل السُنّة والجماعة، فمن يراجع الروايات الشيعية يجد أنَّ المهدي إنسان دكتاتور، إنسان عدواني، مصدر للعنف والبطش والاستئصال لأمّة

ص: 51


1- الاحتجاج 1: 315.
2- مسند أحمد 3: 37.
3- كنز العمّال 14: 274/ ح 38706.

النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، والصورة التي تصوّرها روايات الإماميّة عن المهدي تصوّر لنا دولة تقوم علي السيف والبطش والاستئصال والعنف، وبالتالي فمعالم هذه الدولة التي ينتظرها الشيعة الإمامية هي:

أوّلاً: دولة تتنافي مع روح الإسلام لأنَّ روح الإسلام الرحمة، قال تعالي: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، بينما دولة المهدي لدي الشيعة دولة تقوم علي السيف والبطش والاستئصال فهي تتنافي مع روح الإسلام.

ثانياً: هل من المعقول أنَّ البشرية تنتظر آلاف السنين تلك الدولة الخاتمة بكلّ شوق ولهفة ثمّ تفاجئ بدولة تقوم علي البطش والاستئصال والعدوان لا تبقي ولا تذر؟

فبالنتيجة لم يتحقَّق أمل البشرية وإنَّما تصاب بالخيبة وبالخذلان، هذا هو مهدي الشيعة إنسان عنيف عدواني، أمَّا مهدي أهل السُنّة والجماعة فهو مصدر الرحمة والعطف، وهذا الكاتب اعتمد علي مجموعة من الروايات الموجودة فعلاً في كتب الشيعة، منها:

الرواية الأولي: من كتاب بحار الأنوار للشيخ المجلسي (رحمه الله) (ج 52/ ص 353/ ح 109) رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قلت له: أيسير بسيرة محمّد؟ _ بمعني أنَّ المهدي إذا خرج هل يسير علي سيرة محمّد؟ _. قال: (هيهاتَ هيهاتَ يا زرارة، ما يسير بسيرته)، قلت: جُعلت فداك، لِمَ؟ قال: (إنَّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) سار في أمّته باللين(1) كان يتألَّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً، ويل لمن ناواه)(2).4.

ص: 52


1- وفي بعض نسخ كتاب الغيبة للنعماني: (بالمنّ).
2- عن الغيبة للنعماني: 236 و237/ باب 13/ ح 14.

الرواية الثانية: عن أبي خديجة أيضاً في بحار الأنوار (ج 52/ ص 353/ ح 110) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (إنَّ علياً (عليه السلام) قال: كان لي _ بمعني من صلاحياتي _ أن أقتل المولّي وأجهز علي الجريح، ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي إن جرحوا لم يقتلوا، والقائم له أن يقتل المولّي ويجهز علي الجريح)(1).

الرواية الثالثة: عن العلا، عن محمّد، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج القائم لأحبَّ أكثرهم ألاَّ يروه، ممَّا يقتل من الناس، أمَا إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف ولا يعطيها إلاَّ السيف، حتَّي يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمّد، لو كان من آل محمّد لرحم)(2).

الرواية الرابعة: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف، ما يأخذ منها إلاَّ السيف، وما يستعجلون بخروج القائم؟ والله ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الجشب، وما هو إلاَّ السيف، والموت تحت ظلّ السيف)(3).

الراوية الخامسة: ذكرها النعماني في كتاب (الغيبة)(4) عن أبي الجارود، عن القاسم ابن الوليد الهمداني، عن الحارث الأعور الهمداني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بأبي ابن خيرة الإماء _ يقصد القائم _ يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلاَّ السيف هرجاً...).1.

ص: 53


1- عن الغيبة للنعماني: 237/ باب 13/ ح 15.
2- الغيبة للنعماني: 238/ باب 13/ ح 18.
3- الغيبة للنعماني: 239/ باب 13/ ح 21.
4- الغيبة للنعماني: 234/ باب 13/ ح 11.

ما هو موقفنا من هذه الروايات؟

أوّلاً: إنَّ جملة من هذه الروايات ضعيفة السند حيث ورد في طريقها محمّد بن علي الكوفي المكنّي بأبي سمينة، والشيخ النجاشي شيخ الرجاليين يقول: (وكان يلقَّب محمّد بن علي أبا سمينة، ضعيف جدَّاً، فاسد الاعتقاد، لا يعتمد في شيء. وكان ورد قم _ وقد اشتهر بالكذب بالكوفة _ ونزل علي أحمد بن محمّد بن عيسي مدّة، ثمّ تشهَّر بالغلو، فجفي، وأخرجه أحمد بن محمّد بن عيسي عن قم)(1)، وأيضاً من طرقها محمّد بن علي الهمداني وهو مجهول(2)، ومن طرقها الحسن بن علي ابن أبي حمزة البطائني، وقد نصَّ علماء الرجال علي ضعفه(3)، ومن طرقها الحسن بن هارون (بيّاع الأنماط) وهو مجهول(4)، ومن طرقها أبو الجارود وقد كان رأس الفرقة الجارودية التي انشقَّت عن الفرقة الزيدية وهو مضعَّف في بعض كتب علم الرجال(5)، إذن هذه الروايات مبتلاة بضعف السند لا ينبغي أن يعوَّل عليها وأن يستنتج منها مفهوم عن دولة القائم المنتظر (عليه السلام).

ثانياً: هذه الروايات معارضة بروايات تظهر لنا روعة دولة القائم وأنَّها دولة الرحمة ودولة الحنان علي الكلّ المطيع والعاصي، لاحظوا في6.

ص: 54


1- رجال النجاشي: 332/ الرقم894 .
2- راجع: الفهرست/ الطوسي: 337/ الرقم 618؛ رجال ابن داود: 274/ الرقم 468.
3- راجع: رجال النجاشي: 36/ الرقم 73؛ اختيار معرفة الرجال 2: 827/ الرقم 1042.
4- راجع: مستدركات علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي 3: 67/ الرقم 4069؛ الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الحسين الشبستري 1: 386/ الرقم 778.
5- راجع: رجال النجاشي: 170/ الرقم 448؛ اختيار معرفة الرجال 2: 495 و496/ الرقم 413 - 416.

كتاب (عقد الدرر) عن الإمام علي (عليه السلام) أنَّ المهدي يأخذ البيعة من أصحابه علي أن لا يسبّوا مسلماً، ولا يقتلوا محرماً، ولا يهتكوا حريماً، ولا يهدموا منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلاَّ بحقّه(1)، هذا نهج المهدي حتَّي مع أعدي أعداءه وهو السفياني.

ففي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يسير بهم _ أي المهدي _ في اثني عشر ألفاً إن قلّوا أو خمسة عشر ألفاً إن كثروا، شعارهم: أمت أمت حتَّي يلقاه السفياني فيقول: أخرجوا إليَّ ابن عمّي حتَّي أكلّمه، فيخرج إليه فيكلّمه فيسلّم له الأمر ويبايعه _ بمعني أنَّ السفياني يتراجع عن منهجه _ فإذا رجع السفياني إلي أصحابه ندمه كلب فيرجع ليستقيله فيقيله، فيقتتل هو وجيش السفياني...)(2), إذن الإمام يبدأ عدوّه بحوار ممَّا يدلّ علي أنَّه شخصية حوارية منهجها الرحمة وليس منهجها العنف والقتال.

ويذكر في البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنَّ المهدي يستدعي بين يديه كبار اليهود وأحبارهم ورؤساء دين النصاري وعلمائهم ويحضر التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فلا يقاتلهم أوّلاً، بل يبيّن لهم الحقائق، ويجادلهم علي كلّ كتاب بمفرده، ويطلب منهم تأويله ويعرّفهم بما بدّل منه(3).

ثالثاً: إنَّ بعض الروايات الصحيحة في هذا المجال دلَّت علي حدوث قتال شديد بين المهدي (عليه السلام) ومناوئيه ولكنَّها مطلقة من هذه الجهة، فمقتضي القاعدة تقييدها بما دلَّ علي نوع التقال ومن هو المستهدف به والغرض منه، وهنا نلاحظ أنَّ النصوص الشريفة عيَّنت لنا من هو المستهدف بالقتال، وعيَّنت أنَّ قتاله (عليه السلام)5.

ص: 55


1- أنظر: معجم الإمام المهدي (عليه السلام) 3: 95/ ح 639، عن عقد الدرر: 90 - 99.
2- كتاب الفتن للمروزي: 217.
3- راجع: بحار الأنوار 53: 9، عن مختصر بصائر الدرجات: 185.

قتال دفاعي وليس قتالاً هجومياً, فإنَّ الغرب بيهوده ومسيحييه سيؤمن وسيسلّم للمهدي ولن يقاتله، إنَّما الذي سيقاتل المهدي فئة من المسلمين وهي فئة النواصب، وإلاَّ فإنَّ أغلب أهل الأرض سيسلّمون له طوعاً لأنَّه سيظهر بمنطق العلم والمعرفة، وبمنطق الرأفة والحنان، وستقاتله فئة خاصّة من المسلمين ألا وهم النواصب, فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (ويسير _ أي المهدي _ إلي الكوفة، فيخرج منها ستة عشر ألفاً من البترية، شاكين في السلاح، قرّاء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم، وشمَّروا ثيابهم، وعمَّهم النفاق، وكلّهم يقولون: يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك)(1)، وفي بعض الروايات: (يقبل المهدي علي الطائفة المنحرفة فيعظهم ويؤخّرهم إلي ثلاثة أيّام فلا يزدادون إلاَّ طغياناً وكفراً، فيأمر المهدي (عليه السلام) بقتلهم)(2)، مضافاً إلي أنَّ إقامة العدالة التامّة علي الأرض كلّها لا يتمُّ إلاَّ باقتلاع براثن الظلم المتجذّرة في كثير من المجتمعات، وذلك يقتضي طولاً في مدّة القتال وشدّة وغلظة، إذ لا يتمُّ اقتلاع الجذور إلاَّ بهذا النهج، وقد قال تعالي عن عملية التطهير الجذري الذي قام به النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة: 14)، وقال تعالي: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة: 5)، وقال تعالي: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّي لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)، وقال تعالي: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123)، فالمعالم البارزة للقتال المحمّدي هي المظاهر البارزة للقتال المهدوي.

ومن خلال هذه الملاحظات عرفنا أنَّ دولة المهدي دولة الرحمة والرأفة والحنان، وأنَّها لا تفرض الدين بالقسر والإكراه، وإنَّما ستنشر0.

ص: 56


1- دلائل الإمامة: 455 و456/ ح (435/39).
2- مختصر البصائر: 190.

الدين بلغة العلم، وهذه سيرة آبائه وأجداده (عليهم السلام)، فقد كان رسول الله إنساناً حوارياً، بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، وعلي (عليه السلام) كان أيضاً إنساناً حوارياً بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، والحسين نفسه كان إنساناً حوارياً حاور المقاتلين ووعظهم إلي آخر لحظة من لحظات وجوده الشريف، حتَّي أنَّه بكي علي أعدائه وقال: (أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي)(1), والحسين لم يخرج من المدينة إلي مكّة وإلي كربلاء بقصد أن يَقتل أو يُقتل، إنَّما خرج بقصد الإصلاح لكنَّهم أصرّوا علي قتله، وقال: (والله لا يدعوني حتَّي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي)(2)، (والله يا أخي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض، لاستخرجوني منه حتَّي يقتلوني)(3)، ثمّ وقف علي جبل الصفا وقال: (كأنّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصبر علي بلائه ويوفّينا أجور الصابرين... من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً علي لقاء الله نفسه فليرحل فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله)(4).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *9.

ص: 57


1- بنور فاطمة اهتديت لعبد المنعم حسن: 201.
2- الإرشاد 2: 76.
3- بحار الأنوار 45: 99.
4- مثير الأحزان: 29.

ص: 58

المحاضرة الرابعة: المهدي (عليه السلام) ضرورة لا إيحاء نفسي

اشارة

(4/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(21/ 12/ 2009م)

ص: 59

ص: 60

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: 1 _ 3).

الآية المباركة تذكر أنَّ من صفات المتّقين الإيمان بالغيب، وكلّ ما لم يشاهده الإنسان وكلّ ما لم ينله بحواسّه الخمس فهو غيب، مثلاً: أنت أمامي أدرك شكلك وأدرك حركاتك، ولكن لا أستطيع أن أصل إلي روحك بحواسّي الخمس، وإنَّما أستدلُّ علي وجودها بحياتك فأقول: ما دمت حيّاً تتحرَّك، إذن لك روح ترتبط بجسدك، فروحك بالنسبة لي غيب، لأنَّني لا أنالها بحواسّي الخمس، وإنَّما الذي أناله بها شكلك وصورتك وحركاتك، وفي مقام تفسير هذه الآية الكريمة وردت روايتان:

الرواية الأولي: رواية داود بن كثير الرقّي، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3)، قال: (من أقرَّ بقيام القائم أنَّه حقّ)(1).

الرواية الثانية: رواية يحيي بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 1 _ 3)، فقال: (المتّقون شيعة علي (عليه السلام)، والغيب فهو الحجّة الغائب،9.

ص: 61


1- كمال الدين: 340/ باب 33/ ح 19.

وشاهد ذلك _ بمعني أنَّ الإمام يستدلّ علي أنَّ المراد بالغيب في الآية هو القائم المنتظر _ قول الله عز وجل: (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 20))(1)، كأنَّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول: الغيب علي قسمين: قسم ينتظر أن يتحوَّل إلي واقع مشاهد، وقسم لا ينتظر، فالغيب الذي لا ينتظر أن يتحوَّل إلي مشاهدة هو الله عز وجل، لأنَّه لا يمكن أن يري أو أن يحسّ بالحواسّ الخمس.

وهناك غيب ينتظر وهو الذي يمكن أن يتحوَّل إلي مشاهدة يوماً من الأيّام وهو القائم المنتظر (عليه السلام)، لأجل ذلك لمَّا قالت الآية: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا) فإنَّها ناظرة للقسم الثاني وهو الغيب المنتظر لا إلي الغيب غير المنتظر, والغيب المنتظر هو المهدي, وهذا من التفسير بالمصداق كما يقول علماؤنا، بمعني أنَّ الغيب لا ينحصر بالإمام المنتظر، بل هو من باب الإشارة إلي مثال من أمثلة الغيب ومصداق من مصاديقه، لا أنَّ مفهوم الغيب منحصر في الإمام المنتظر، وهو ما يسمّي ب- (التفسير المصداقي).

وانطلاقاً من الآية المباركة والرواية التي فسَّرت الغيب فيها تفسيراً مصداقياً بأنَّه القائم المنتظر (عليه السلام) نتحدَّث عن محاور ثلاثة:

المحور الأوّل: القائم المنتظر إملاء غريزي أم واقع وضرورة؟

إنَّ التلقين النفسي له أثر علي سلوك الإنسان, ففي علم البرمجة العصبية يوجد قانون يسمّي قانون الجذب, وهو أحد مفاهيم هندسة الذات، بمعني أنَّ الإنسان عندما يريد أن يهندس ذاته يحتاج إلي قانون

ص: 62


1- كمال الدين: 340 و341/ باب 33/ ح 20.

الجذب, وهو قانون مستقي ومنتزع من قوانين العقل الباطن حيث يؤثّر علي سلوك الإنسان وعلي مسيرة الإنسان.

ويقول علماء البرمجة العصبية في علم النفس: إنَّ الدماغ المادي الموجود في جسم الإنسان كما هو عضو كيميائي هو أيضاً عضو كهربائي، بمعني أنَّ الدماغ كالمغناطيس الذي يجتذب الأفكار المجانسة والأفكار المقاربة.

فأيّ فكرة تعبر علي الدماغ تحدث اهتزازاً فكرياً لا يشعر به الإنسان ولا يحسّ به، ونتيجة هذا الاهتزاز يجتذب الدماغ الأفكار المشابهة لهذه الفكرة التي تجول فيه، فمثلاً: الإنسان يفكّر في الفشل كالإخفاق في الدراسة ونتيجة الإخفاق بدأ يفكّر أنَّه فاشل, وأنَّه محبط وأنَّه عاجز عن تحقيق طموحاته وآماله وهذا التفكير يجرُّ الأفكار المشابهة شاء أم أبي، فإنَّ هذا التفكير بمثابة المغناطيس الذي يجذب الأفكار المشابهة.

ومثال آخر: إذا شاهدت التلفزيون فأنا أسمع أفكاراً كثيرة في التلفزيون لكن عقلي لا يلتقط إلاَّ أفكار الشؤم لأنَّ دماغي مشغول بفكرة تشاؤمية وهي الشعور بالإحباط، الشعور بالفشل، الشعور بالعجز، هذا ما يسمّي قانون الجذب، وهذا يؤثّر علي سلوكي لأنَّني أعيش في دوّامة الأفكار التشاؤمية، الشعور بالفشل، الشعور بالإحباط، الشعور بالنقص والعجز. وبالعكس أيضاً لو لقَّنت نفسي وأقنعتها بأنَّني رغم الإخفاق في الدراسة رغم العقبات رغم العراقيل فأنا إنسان قادر علي بناء الحياة، وأنا واثق بقدراتي وطاقتي فحينئذٍ حيث لقَّنت نفسي بالفكرة التفاؤلية يبدأ دماغي بالتقاط الأفكار التفاؤلية، إذا استمعت إلي محاضرة ألتقط منها

ص: 63

الأفكار الجميلة، وإذا شاهدت شريط أخبار ألتقط منه الأفكار الجميلة، هذا هو قانون الجذب، فكلّ ما ينشغل به دماغي يجذب إليَّ الأفكار المشابهة، فقانون الجذب: هو عبارة عن أنَّ دماغك بمثابة المغناطيس يلتقط الأفكار المشابهة لما يشتغل به دماغك، لذلك عليك أن تلقّن نفسك دائماً النجاح والثقة بالنفس والشجاعة والإرادة والقدرة علي بناء الحياة وبناء المستقبل.

وقانون الجذب رغم بعض الملاحظات عليه فإنَّ جذوره موجودة في تراثنا الإسلامي كما ورد عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (تفاءلوا بالخير تجدوه)(1)، وورد في الحديث القدسي: (أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً)(2).

وبعد اتّضاح قانون الجذب فإنَّ هناك بعض المقالات كتبت أنَّ فكرة المهدي المنتظر (عليه السلام) لا واقع لها وهي فكرة اخترعها العقل الشيعي الإمامي لعاملين:

1 _ العامل النفسي: فإنَّ الفرد الشيعي يشعر علي مدي التاريخ أنَّه إنسان عاجز وفاشل عن تحقيق طموحاته وإنجاز أهدافه ونتيجة شعوره بالفشل أملت عليه غريزة حبّ الحياة، غريزة التشبّث بالحياة أن يلقّن نفسه فكرة المهدي المنتظر، وأن يقول: هناك يوم سيظهر فيه المهدي وسيخلّصنا من هذا الظلم والجور وسنحقّق فيه أهدافنا وطموحاتنا، ففكرة المهدي هي إملاء غريزي وتلقين نفسي ليس إلاَّ.

2 _ عامل إعلامي: إنَّ علماء الشيعة علموا أنَّ مشروع أهل البيت3.

ص: 64


1- تفسير الميزان 19: 77.
2- الكافي 2: 72/ باب حسن الظنّ بالله عز وجل/ ح 3.

مشروع فاشل لأنَّهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلي السلطة علي مدي التاريخ، والذي وصل منهم إلي السلطة لم يستطع البقاء فيها كالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو مشروع مخفق سياسياً لأنَّه لم يصل إلي السلطة، وفاشل فكرياً لأنَّه لم يستطع إقناع جمهور المسلمين بمبادئه ومعتقداته، فنتيجة إحساس علماء الشيعة بفشل المشروع الإمامي اخترعوا فكرة المهدي المنتظر من أجل أن يزرعوا الأمل في نفوس الشيعة الإمامية، لأنَّ مشروعهم إن لم ينجح سابقاً سينجح يوماً من الأيّام وهو يوم خروج المهدي المنتظر (عليه السلام) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

إذن فكرة المهدي المنتظر فكرة صاغها علماء الشيعة وصاغتها الغريزة النفسية لتجديد الأمل في الحياة وإنجاز المشروع الذي فشل في الماضي.

ولبيان خطأ هذه الشبهة ننتقل إلي المحور الثاني، فنقول:

المحور الثاني: المهدي واقع موضوعي وضرورة واقعية:

اشارة

المسألة المهدوية وفكرة المهدي المنقذ المخلّص فكرة لها واقع موضوعي، وليست إملاءاً غريزياً لوجوه:

الوجه الأوّل:

لو كانت فكرة المهدي المنتظر إملاءاً غريزياً نتيجة الشعور بالظلم والنقص لكان اليهود أوّل من قال بهذه الفكرة واختصَّت بهم، فإنَّ اليهود فئة تعرَّضت للاضطهاد وتعرَّضت للإبادة علي مدي التاريخ، مع أنَّ الفكرة المهدوية لم يبشّر بها المجتمع اليهودي وإنَّما بشَّرت بها الملل السابقة وأكَّدها المجتمع الإسلامي, والفكرة المهدوية لو كانت إملاءاً غريزياً لانحصرت بالشيعة لأنَّهم هم الفئة الوحيدة من المسلمين التي عاشت اضطهاداً ومظلوميةً في زمن الأمويين

ص: 65

والعبّاسيين، ولكنَّنا نجد أنَّ جميع المسلمين يعتقدون بالمهدي ولكنَّهم يختلفون في أنَّه ولد أم لم يولد.

إنَّ فكرة المهدي المنتظر لم تأتِ عن إملاء غريزي لأنَّ سائر المذاهب الإسلاميّة الذين عاشوا عيشاً رغيداً وعاشوا أمناً وعاشوا اطمئناناً في زمن الخلافة الأموية والعبّاسية قالوا بفكرة المهدي المنتظر, لذلك تري محمّد ابن المنتصر الكتاني مدير مجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرَّمة هو الذي كتب وقال: (والحاصل أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة)(1).).

ص: 66


1- راجع: مجلّة الانتظار/ العدد 11/ ص 26؛ وإليك أخي القارئ نصّ الفتوي: فتوي المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي: من أهمّ الفتاوي الصادرة في موضوع الإمام المهدي (عليه السلام) تلك التي أصدرتها إدارة المجمع الفقهي الإسلامي, التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرَّمة بتاريخ (31/ أيار 1976م) المصادف (1397ه-), فهي تمتاز بالشمولية وكونها صادرة عن هيأة علمية معتبرة, وقد حرَّر الفتوي الشيخ محمّد المنتصر الكتاني, وأقرَّته اللجنة المكوَّنة من الشيخ: محمّد بن صالح العثيمين, والشيخ أحمد محمّد جمال, والشيخ أحمد علي, والشيخ عبد الله خيّاط, وقد جاءت جواباً علي سؤال شخص من كينيا باسم أبي محمّد, حول المهدي المنتظر (عليه السلام), ونصّها كما يلي: (هو: محمّد بن عبد الله الحسني العلوي الفاطمي, المهدي الموعود خروجه في آخر الزمان, وهو من علامات الساعة الكبري, يخرج من المغرب, ويبايع له في الحجاز في مكّة المكرَّمة بين الركن والمقام, بين باب الكعبة المشرَّفة والحجر الأسود, عند الملتزم. ويظهر عند فساد الزمان, وانتشار الكفر وظلم الناس، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كلّه, وتخضع له الرقاب, بالإقناع تارة وبالحرب أخري، وسيملك الأرض سبع سنين, وينزل عيسي (عليه السلام) من بعده فيقتل الدجّال, أو ينزل معه فيساعده علي قتله, بباب لدّ بأرض فلسطين. وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر, الذين أخبر عنهم النبيّ صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح. وأحاديث المهدي واردة عن الكثير من الصحابة, يرفعونها إلي رسول الله صلَّي الله عليه وسلَّم, ومنهم: عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبّاس، وعمّار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وثوبان، وقرّة بن إياس المزني، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن عبد الله، وأبو اُمامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، واُمّ سَلَمة. هؤلاء عشرون منهم ممَّن وقفت عليهم، وغيرهم كثير، وهناك آثار عن الصحابة مصرَّحة بالمهدي من أقوالهم, كثيرة جدّاً لها حكم الرفع, إذ لا مجال للاجتهاد فيها, أحاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها إلي النبيّ صلَّي الله عليه وسلَّم، والتي قالوها من أقوالهم اعتماداً علي ما قاله رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ رواها الكثير من دواوين الإسلام, واُمّهات الحديث النبوي من السنن والمعاجم والمسانيد; منها: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن عمرو الداني، ومسانيد أحمد وأبي يعلي والبزّاز، وصحيح الحاكم، ومعاجم الطبراني الكبير والوسيط, والروياني والدارقطني في الأفراد، وأبو نعيم في (أخبار المهدي)، والخطيب في (تاريخ بغداد)، وابن عساكر في (تاريخ دمشق)، وغيرها. وقد خصَّ المهدي بالتأليف: أبو نعيم في (أخبار المهدي), وابن حجر الهيثمي في (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر), والشوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح), وإدريس العراقي المغربي في تأليفه (المهدي), وأبو العبّاس بن عبد المؤمن المغربي في كتابه (الوهم المكنون في الردّ علي ابن خلدون). وآخر من قرأت له عن المهدي بحثاً مستفيضاً, مدير الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوَّرة, في مجلّة الجامعة في أكثر من عدد. وقد نصَّ علي أنَّ أحاديث المهدي أنَّها متواترة جمع من الأعلام قديماً وحديثاً، منهم: السخاوي في (فتح المغيث), ومحمّد بن أحمد السفاريني في (شرح العقيدة), وأبو الحسن الآبري في (مناقب الشافعي)، وابن تيمية في فتاواه, والسيوطي في (الحاوي), وإدريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي، والشوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح)، ومحمّد بن جعفر الكتاني في (نظم المتناثر في الحديث المتواتر)، وأبو العبّاس بن عبد المؤمن المغربي في (الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) (رحمهم الله). وحاول ابن خلدون في مقدّمته أن يطعن في أحاديث المهدي, محتجّاً بحديث موضوع لا أصل له عند ابن ماجة: لا مهدي إلاَّ عيسي، ولكن ردَّ عليه الأئمّة والعلماء، وخصَّه بالردّ شيخنا ابن عبد المؤمن بكتاب مطبوع متداول في الشرق والمغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة, ونصَّ الحفّاظ والمحدّثون علي أنَّ أحاديث المهدي فيها الصحيح والحسن، ومجموعها متواتر مقطوع بتواتره وصحَّته، وأنَّ الاعتقاد بخروج المهدي واجب، وأنَّه من عقائد أهل السُنّة والجماعة، ولا ينكره إلاَّ جاهل بالسُنّة ومبتدع في العقيدة، والله يهدي إلي الحقّ ويهدي السبيل. مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي/ محمّد منتصر الكتاني).

ص: 67

ونقل عن ابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي وابن القيّم والشوكاني والسيوطي وغيرهم من علماء المسلمين أنَّ هذه القضيّة مسلَّمة والأحاديث فيها متواترة ولم يخالف فيها إلاَّ شرذمة مثل ابن خلدون الذي لم يأتِ إلاَّ في القرن التاسع وأحمد أمين المصري في كتابه (المهدي والمهدوية) أو كتابه (ضحي الإسلام) وبعض السلفية الذين لا يملكون نصيباً من العلم والمعرفة، وإلاَّ فالقضيّة مسلَّمة والأحاديث فيها متواترة من قبل المؤرّخين والمحدّثين(1).

الوجه الثاني:

إذا كانت فكرة المهدي إملاءاً غريزياً فرضه الإحساس بالعجز والإحساس بالفشل، فالغيب كلّه مسألة غريزية, إذ لا فرق بين المهدي وبين بقيّة الغيب، كما قال بعض الماركسية أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) إنسان ذكي أراد أن يبعث الناس نحو الأعمال الصالحة فاخترع لهم فكرة الغيب، وقال لهم بأنَّ هناك قبراً وآخرةً وحساباً يجازي فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي، وإلاَّ فالمسألة كلّها توجيه إعلامي قام به النبيّ ليس له واقع، وإذا كانت فكرة المهدي إملاءاً من قبل

ص: 68


1- كما سيأتي في (ص 78).

الغريزة أو إعلاماً من قبل علماء الشيعة وليس لها واقع موضوعي فجميع الغيب بما فيه الله واليوم الآخر، بل جميع الغيب بجميع ألوانه وأشكاله فكرة اخترعها النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) لأجل أن يموّه علي الناس ويحثّهم علي الأعمال الصالحة، وإلاَّ ليس هناك غيب ولا آخرة ولا وجود لله ولا قبر ولا غير ذلك، فهذا الإشكال وهذه الشبهة لو أخذنا بها لأنكرنا جميع أنواع الغيب لا أنَّنا ننكر خصوص مسألة الإمام المهدي (عليه السلام).

الوجه الثالث:

يعتبر حساب الاحتمالات أقوي دليل لإثبات الأشياء في علم الرياضيات، بل لا يمكن للإنسان إثبات أيّ شيء إلاَّ من خلال حساب الاحتمالات الذي هو عبارة عن تراكم القرائن في محور واحد بحيث توجب اليقين بوجود ذلك المحور، ولتقريب الفكرة نضرب مثالين:

المثال الأوّل: إذا أردت أن أثبت أنَّ شخصاً جالس أمامي فلا يوجد عندي إلاَّ دليل حساب الاحتمالات حيث أقول: صورته التي انتقشت في دماغي قرينة توجب نسبة (30%) أنَّه موجود، وصوته الذي سمعته قرينة أخري، فيتصاعد الاحتمال من (30%) إلي (60%)، وإذا صار تماس معه باليد يتصاعد الاحتمال من (60%) إلي (90%)، وهكذا تتراكم القرائن في محور معيَّن وهو وجود الإنسان أمامي إلي حدّ أن يصل إلي اليقين الرياضي والقطع بأنَّ هذا الإنسان موجود أمامي، فقد رأينا أنَّ أبسط قضيّة وهو وجود إنسان أمامك تستطيع إثباتها عن طريق دليل حساب الاحتمالات.

المثال الثاني: إذا جاءنا خبر أنَّ هناك انفجاراً في بغداد، فكيف نثبته؟ بالاحتمالات، نقول: شهرة الحديث عنه قرينة (30%)، وتناقل الإذاعات عنه قرينة أخري، ورؤية الصور في التلفزيون قرينة ثالثة، وإذا

ص: 69

اجتمعت هذه القرائن سيصل احتمال حصول الانفجار إلي (100%)، فتراكم القرائن في محور معيَّن وهو حدوث الانفجار يؤدّي إلي اليقين بحصول ذلك المحور، وهذا يسمّي دليل حساب الاحتمالات.

كيفية إثبات القضايا التاريخية:

وكذلك نثبت القضايا التاريخية، إنَّ بعض السلفيين يظهر في بعض القنوات الفضائية ويقول عن كلّ قضيّة تاريخية يتعرَّض لها: لم ترد في حديث صحيح السند، بينما أقلُّ إنسان في أوّل سنة جامعة يري أنَّ هذا المنطق منطق غير علمي، فأنت لا تحتاج إلي الطرق الملتوية، وهي كون الحديث صحيح السند أو ليس صحيح السند، بل هذا الطريق عقيم، لأنَّه لو صار البناء المشي علي هذا الطريق فلا يثبت شيء من تاريخ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ عندك دليل رياضي معترف به علمياً وهو دليل حساب الاحتمالات، وهو جمع القرائن التاريخية كلّها فإذا تراكمت القرائن تصاعد احتمال الحصول إلي أن تصل إلي درجة اليقين بحصول هذا الحدث التاريخي أو عدم حصوله، ولا حاجة لمثل هذه الطرق الملتوية, نحن الآن نسمع عن الإمام الشافعي ولا ندري أنَّ الإمام الشافعي كان موجوداً أو غير موجود، وإنَّما نثبت وجوده من خلال دليل حساب الاحتمالات، لا بأن نقول: الرواية صحيحة السند وغير صحيحة السند، بل نقول: علماء الأنساب نصّوا علي وجوده، هذه قرينة، وكتبه المنتسبة إليه قرينة ثانية علي وجوده، والذين رأوه وتتلمذوا عليه قرينة ثالثة علي وجوده، وحيث اجتمعت هذه القرائن حصل لنا اليقين بأنَّ هناك شخصاً اسمه الإمام الشافعي وجد، هكذا تثبت القضايا التاريخية.

ص: 70

وبناءاً علي دليل حساب الاحتمالات نأتي إلي مسألة المهدي المنتظر (عليه السلام)، فكيف نثبتها؟ بدليل حساب الاحتمالات، حيث نقول: هناك قرائن اجتمعت وتوافرت في هذا المحور وهو وجود إمام اسمه محمّد بن الحسن، وإذا قرأنا هذه القرائن وجمعناها حصل لنا اليقين بوجوده.

القرينة الأولي: أنَّ لكلّ جيل إماماً:

ما دلَّ علي أنَّ لكلّ جيل إماماً وواسطة بين السماء والأرض، بمعني لا يمرُّ زمان تنقطع السماء عن الأرض ولا يمرُّ زمان إلاَّ وهناك واسطة بين السماء والأرض، ومن الأدلّة علي ذلك:

قوله تعالي: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أنت يا رسول الله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (الرعد: 7)، بمعني أنَّه لا يوجد قوم في أيّ زمن إلاَّ وقد نصب الله لهم هادياً، فمن هو الهادي في زماننا؟

وقوله تعالي: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: 71)، والإمام ينصرف إلي معناه الواقعي كما يقول علماء الأصول وهو الإمام الحقّ، أي لا يوجد أناس في أي زمن إلاَّ ولهم إمام واقعي من قبل الله تبارك وتعالي.

وأمَّا الروايات والنصوص فهي كثيرة، منها: حديث الثقلين الذي روي في المسانيد بألفاظ مختلفة، جاء في مسند أحمد أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض وعترتي أهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّي يردا عليَّ الحوض)(1)، فلا يوجد زمان فيه قرآن إلاَّ وفيه رجل من عترة النبيّ يحفظ القرآن والدين عن التحريف

ص: 71


1- رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، فضائل الصحابة للنسائي: 15؛ مستدرك الحاكم 3: 109 و148؛ مجمع الزوائد 9: 163 و164، و10: 363؛ سنن النسائي 5: 45 و130؛ المعجم الأوسط للطبراني 3: 374، و4: 33؛ وغيرها من المصادر.

والتزوير، فمن هو هذا الشخص في زماننا الذي يكون حافظاً للقرآن والدين عن التحريف والتزوير؟

ومنها: ما أورده أحمد بن حنبل في مسنده: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية)(1)، حيث يدلُّ علي أنَّ كلّ زمان له إمام.

ومنها: ما أورده الحاكم في مستدركه: (النجوم أمان لأهل السماء فإذا أذهبت أتاها ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي ما كنت فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمّتي فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون)(2).

وهذا المعني ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) كما في (كمال الدين)(3) قال: (لو أنَّ الإمام رفع من الأرض لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله)، إذن هذه الأحاديث تدلُّ علي وجود إمام يكون واسطة بين السماء والأرض في كلّ زمان، وهذا لا ينطبق إلاَّ علي الحجّة المنتظر(عليه السلام) وإلاَّ فهل يستطيع أحد من المسلمين اليوم أن يقول: إنَّ الآيات والروايات تقصدني، وإنّي إمام هذا الزمان، وأنا الحجّة الذي أحفظ القرآن والدين عن التحريف والتزوير، وأنا الهادي، إنَّه لا يمكن لأحد أن يدَّعي ذلك سوي الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولذلك تقرأ في دعاء الندبة: (أيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْض وَالسَّمَاءِ)(4).ة.

ص: 72


1- رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد 4: 96؛ مجمع الزوائد 5: 218 و224 و225؛ المعجم الأوسط للطبراني 3: 361، و6: 70؛ المعجم الكبير للطبراني 10: 289/ ح 10687، و19: 388؛ كنز العمّال 1: 103/ ح 464، و6: 65/ ح 14863؛ وغيرها من المصادر.
2- رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مستدرك الحاكم 2: 448، و3: 457؛ الجامع الصغير للسيوطي 2: 680/ ح 9313؛ كنز العمّال 12: 102/ ح 34190؛ وغيرها من المصادر.
3- كمال الدين: 203/ باب 21/ ح 9.
4- المزار لابن المشهدي: 579/ الدعاء للندبة.

القرينة الثانية: أحاديث الاثني عشر:

قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) كما في صحيح مسلم(1): (لا يزال الدين قائماً حتَّي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)، واثني عشر خليفة معناه خليفة بالمعني الواقعي وليس خليفة بالقوّة وبالسلاح، بل دلَّ الحديث علي أنَّه يبقي هؤلاء الخلفاء إلي قيام الساعة, وهذا ينطبق علي من؟

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذه الرواية: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم))(2)، إذن هذه قرينة ثانية، حيث كان احتمال وجود الإمام (10%) مثلاً فصار الآن بهذه القرينة (20%).

القرينة الثالثة: بشائر العهدين:

فالتبشير بالمهدي (عليه السلام) سبق الإسلام، فهو في التوراة والإنجيل، فقد جاء ذكره في كتب غير شيعية، منها: كتاب (البراهين الساباطية) للقاضي الساباطي، ومنها: كتاب (المسيح الدجّال) للدكتور سعيد أيّوب, ومنها: كتاب (أنيس الإسلام) لشيخ محمّد فخر الإسلام، وهؤلاء المؤلّفون أتعبوا أنفسهم في ترجمة الأناجيل، وما ورد في (بشائر العهدين) فذكروا أنَّ في كتاب (أشعياء) من العهد القديم، وفي كتاب (سفر الرؤيا) من مكاشفات يوحنا اللاهوتي، وأيضاً من (سفر الرؤيا) في إنجيل متي بارك ليت(3).

ص: 73


1- صحيح مسلم 6: 4.
2- أنظر: تفسير ابن كثير 2: 34.
3- بارك ليت بحسب الترجمة العربية محمّد أو أحمد، وبارك ليت شخصان يأتيان للناس، بارك ليت الأوّل وهو الذي يدعو الناس إلي المحبّة ثمّ يموت، ثمّ تلد امرأة بارك ليت الثاني الذي هو أيضاً اسمه محمّد أو أحمد، ويغيب عن الناس (1260) عاماً ثمّ يخرج ويملأ الأرض بالحبّ والرحمة, فإذا كان هذا التوقيت صادقاً فقد بقي (60) سنة لظهوره.

فالتبشير بالمهدي (عليه السلام) سبق الإسلام، ولذلك فإنَّ القاضي الساباطي مع كونه حنفياً وليس شيعياً يقول: (لا ينطبق هذا الكلام إلاَّ علي نظرية الإماميّة من وجود محمّد بن الحسن الثاني عشر) فهذه قرينة ثالثة نضيفها إلي القرائن.

القرينة الرابعة: الفترة المعاصرة لولادة الإمام المهدي (عليه السلام):

إذا عدنا إلي زمن ولادة الإمام سنة (255ه-) وغيبته سنة (260ه-) إلي أن انتهت الغيبة الصغري سنة (329ه-) وجدنا أنَّه كان للإمام (عليه السلام) خلال الغيبة الصغري أربعة سفراء: عثمان بن سعيد, ومحمّد بن عثمان, والحسين بن روح، وعلي بن محمّد السمري، وبمراجعة سريعة إلي كتب الأعلام من الفريقين في تلك الفترة لا نجد أحداً منهم أنكر ولادته أو أنكر غيبته، ولو كانت ولادة المهدي (عليه السلام) كذباً لكانت فرصة ثمينة للطعن علي الشيعة الإماميّة، وأنَّهم يدَّعون خرافة وأسطورة ويقولون بولادته وبغيبته، وهذا شيء لم يحصل، فإنَّك لا تجد في كتب علماء السُنّة في تلك الفترة من أنكر ولادته أو طعن فيها، فلو كانت ولادته كاذبة لطعنوا بذلك.

وعلماء الشيعة في تلك الفترة مثل الكليني, وابن قولويه، والصدوق الأوّل، قد ذكروا في كتبهم أنَّه تواترت الرؤية له والمشاهدة، بمعني أنَّه أمر متواتر مقطوع به، وأنَّ له توقيعات استمرَّت (69) سنة كلّها بخطّ واحد، ولم تكن السفارة ثابتة في شخص واحد، بل كانت تتغيَّر فالأوّل عثمان بن سعيد مات فأتي من بعده ابنه، ثمّ أتي من بعده شخص أجنبي عنهما وهو الحسين بن روح، ثمّ أتي من بعده شخص أجنبي آخر وهو السفير الرابع علي بن محمّد السمري، فإذا لم يكن الإمام موجوداً كيف استطاع هؤلاء الأربعة أن يخرجوا توقيعات بخطّ

ص: 74

واحد علي مدي (69) عاماً من دون أن يختلف الخطّ علي العلماء وعلي الناس، لولا أنَّ هناك شخصاً قد رأي هؤلاء الأربعة وهو مصدر هذه التواقيع التي صدرت في بعض القضايا المصيرية الحافظة للشيعة الإماميّة آنذاك, وقد أفاد السيّد الشهيد (قدس سره) أنَّ تلقّي علماء تلك الفترة لهذه التوقيعات وعدم طعنهم فيها مع تضمّنها لقضايا مصيرية بالنسبة للإمامية كمسألة الخمس والولاية والتحذير من بعض الأشخاص والفئات كاشف إمَّا عن وضوح ضعف رواتها فلم تكن هناك حاجة للطعن فيها أو عن وضوح وثاقتهم وعدالتهم بحيث لا مجال للحديث عنهم أو عن توفّر القرائن الحسّية المختلفة التي توجب الوثوق بصدورها عن الإمام نفسه (عليه السلام)، وحيث إنَّ الاحتمالين الأوّلين باطلان لعدم ذكر الرجاليين شيئاً من تضعيف أو توثيق لرواة التواقيع كمحمّد بن إسحاق بن يعقوب فالثالث هو المتعيّن(1). إذن هذه قرينة رابعة من القرائن التي تضاف إلي إثبات وجوده (عليه السلام).

القرينة الخامسة: النصّ علي ولادته (عليه السلام):

من الغريب أن تجد أنَّ بعضاً ممَّن ينتسب إلي التشيّع يقول: لا توجد روايات صحيحة علي ولادة المهدي المنتظر (عليه السلام) مع أنَّه يوجد في كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه الروايات الصحيحة، منها هذه الرواية:

روي عبد الله بن جندب، عن الإمام موسي بن جعفر (عليهما السلام) أنَّه قال: (تقول في سجدة الشكر: اللّهمّ إنّي أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبيائك ورسلك وجميع خلقك إنَّك أنت الله ربّي، والإسلام ديني، ومحمّداً نبيّي، وعلياً والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسي بن جعفر، وعلي بن موسي، ومحمّد بن علي، وعلي بن

ص: 75


1- راجع: بحث حول الإمام المهدي (عليه السلام) تحت عنوان: كيف نؤمن بأنَّ المهدي قد وجد.

محمّد، والحسن بن علي، والحجّة بن الحسن بن علي أئمّتي بهم أتولّي ومن أعدائهم أتبرَّأ...)(1)، وقد ذكره الإمام الكاظم قبل ولادته وجعله إماماً وبشَّر به.

القرينة السادسة: اعتراف علماء الأنساب:

فإنَّ أيّ قضيّة تاريخية يرجع فيها إلي أهل الاختصاص، كما يرجع في الطبّ إلي الطبيب، وفي الفقه إلي الفقيه، وفي الهندسة إلي المهندس، فإنَّنا نرجع في ثبوت النسب إلي علماء النسب, وهناك سبعة عشر من علماء النسب من غير الشيعة الإماميّة نصّوا علي أنَّ هناك شخصاً اسمه محمّد بن الحسن العسكري وأنَّه كان موجوداً، ومنهم:

أبو نصر سهل بن عبد الله البخاري من أعلام القرن الرابع الهجري في كتابه (سرّ السلسة العلوية)، والسيّد العمري من أعلام القرن الخامس الهجري في كتابه (المجدي في أنساب الطالبيين)، والفخر الرازي الشافعي من أعلام القرن السابع في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية)، والمروزي الأزورقاني من أعلام القرن السابع في كتابه (الفخري في أنساب الطالبيين)، والسيّد النسّابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه من أعلام القرن التاسع في كتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، والنسّابة الزيدي السيّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني من أعيان القرن الحادي عشر في كتابه (روضة الألباب في معرفة الأنساب)، ومحمّد أمين السويدي

ص: 76


1- من لا يحضره الفقيه 1: 329 و330/ باب سجدة الشكر والقول فيها/ ح 967؛ الكافي 3: 325/ باب السجود والتسبيح والدعاء فيه.../ ح 17، باختلاف.

من أعلام القرن الثالث عشر في كتابه (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب)، والنسّابة المعاصر محمّد ويس الحيدري السوري في كتابه (الدرر البهيّة في أنساب الحيدرية والأويسية)(1).).

ص: 77


1- راجع: المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي/ مركز الرسالة: 120 - 123، وهذا نصّ عباراتهم: 1 - قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية (ص 40): (وولد علي النقي ابن محمّد التقي (عليه السلام) جعفراً وهو الذي تسمّيه الإماميّة جعفر الكذّاب، وإنَّما تسمّيه الإماميّة بذلك لإدعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجّة (عليه السلام)، لا طعن في نسبه). 2 - قال السيّد العمري في كتابه المجدي في أنساب الطالبيين (ص 130): (ومات أبو محمّد(عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصّة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافّة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلي مال أخيه وحاله فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة علي قبض جواري أخيه...). 3 - قال الفخر الرازي الشافعي في كتابه الشجرة المباركة في أنساب الطالبية (ص 78 و79) تحت عنوان: أولاد الإمام العسكري (عليه السلام) ما هذا نصّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمَّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان عجَّل الله فرجه الشريف، والثاني موسي درج في حياة أبيه...). 4 - وصف المروزي الأزورقاني في كتابه الفخري في أنساب الطالبيين (ص 7) جعفر ابن الإمام الهادي (عليه السلام) في محاولته إنكار ولد أخيه بالكذّاب، وفيه أعظم دليل علي اعتقاده بولادة الإمام المهدي (عليه السلام). 5 - قال السيّد النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ص 199): (أمَّا علي الهادي فيلقَّب العسكري لمقامه بسُرَّ من رأي...) إلي أن قال: (وأعقب من رجلين هما: الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان من الزهد والعلم علي أمر عظيم، وهو والد الإمام محمّد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمّة عند الإماميّة وهو القائم المنتظر عندهم من اُمّ ولد اسمها نرجس...). 6 - ذكر النسّابة الزيدي السيّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني في كتابه روضة الألباب لمعرفة الأنساب (ص 105) تحت اسم الإمام علي التقي المعروف بالهادي (عليه السلام) خمسة من البنين وهم: الإمام العسكري، الحسين، موسي، محمّد، علي. وتحت اسم الإمام العسكري(عليه السلام) مباشرة كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظر الإماميّة). 7 - قال محمّد أمين السويدي في كتابه سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب (ص 346): (محمّد المهدي: وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقني الأنف، صبيح الجبهة). 8 - قال النسّابة المعاصر محمّد ويس الحيدري السوري في كتابه الدرر البهية في الأنساب الحيدرية والأويسية (ص 73) في بيان أولاد الإمام الهادي (عليه السلام): (أعقب خمسة أولاد: محمّد وجعفر والحسين والإمام الحسن العسكري وعائشة. فالحسن العسكري أعقب محمّد المهدي صاحب السرداب....) إلي أن قال: (الإمام محمّد المهدي: لم يذكر له ذرّية ولا أولاد له أبداً).

القرينة السابعة: نصّ المؤرّخين من السُنّة علي ولادته وغيبته (عليه السلام):

فقد نصَّ جملة من المؤرّخين من أهل السُنّة علي ولادته وغيبته (عليه السلام)، ومنهم:

ابن الأثير من أعلام القرن السابع في كتابه (الكامل في التاريخ، وابن خلّكان من أعلام القرن السابع في كتابه (وفيات الأعيان), والذهبي من أعلام القرن الثامن في ثلاثة من كتبه, وابن الوردي من أعلام القرن الثامن في كتابه (تاريخ ابن الوردي)، وأحمد بن حجر الهيتمي من أعلام القرن العاشر في كتابه (الصواعق المحرقة)(1).

ص: 78


1- راجع: المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي/ مركز الرسالة: 124 - 132، وهذا نصّ عباراتهم: 1 - قال ابن الأثير في كتابة الكامل في التأريخ (ج 7/ ص 274) في حوادث سنة (260ه-): (وفيها توفّي أبو محمّد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر علي مذهب الإماميّة، وهو والد محمّد الذي يعتقدونه المنتظر). 2 - قال ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176): (أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمّد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمّة الاثني عشر علي اعتقاد الإماميّة المعروف بالحجّة... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين). 3 - اعترف الذهبي بولادة المهدي (عليه السلام) في كتابه العبر في خبر من غبر (ص 125)، وقال: (وفيها - أي في سنة 256ه- - ولد محمّد بن الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقّبه الرافضة الخلف الحجّة، وتلقّبه بالمهدي، والمنتظر، وتلقّبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة الاثني عشر)، وفي كتابه تاريخ دول الإسلام الجزء الخاصّ في حوادث ووفيات 251 - 260ه- (ص 113)، وفي كتابه سير أعلام النبلاء (ج 13/ ص 119/ الرقم 60). 4 - قال ابن الوردي في كتابه المعروف بتاريخ ابن الوردي: (ولد محمّد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين) نقله عنه الشبلنجي في كتابه نور الأبصار (ص 186). 5 - قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي في كتابه الصواعق المحرقة (ص 207/ ط 1) في آخر الفصل الثالث من الباب الحادي عشر: (أبو محمّد الحسن الخالص، وجعل ابن خلّكان هذا هو العسكري...) إلي أن قال: (ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن أتاه الله فيها الحكمة، ويسمّي القائم المنتظر). وغيرهم كالشبراوي الشافعي في كتابه الاتحاف بحبّ الأشراف (ص 68)، والشبلنجي في كتابه نور الأبصار (ص 186)، والزركلي في كتابه الأعلام (ج 6/ ص 80)، ومحيي الدين بن العربي في كتابه الفتوحات المكّية علي ما نقل عنه الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 128)، وابن طلحة الشافعي في كتابه مطالب السؤول (ج 2/ ص 79)، وسبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواصّ (ص 363)، والكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 521)، وابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة (ص 287)، والفضل بن روزبهان في كتابه إبطال الباطل وقد نقله بشكل كامل المظفّر في كتابه دلائل الصدق (ج 2/ ص 574 و575)، وابن طولون الحنفي في كتابه الأئمّة الاثنا عشر (ص 118)، والقرماني الحنفي في كتابه أخبار الدول وآثار الاُول (ص 353 و354).

وبعد ملاحظة هذه القرائن كلّها فإذا كان هناك شخص منصف يجري طبق دليل حساب الاحتمالات، وجمع هذه القرائن المختلفة ورأي أنَّ كلّ قرينة توجب مقداراً من الاحتمال إلي أن تتراكم هذه القرائن في محور معيَّن وهو وجود المهدي المنتظر، فإنَّه يصل به اليقين الرياضي والقطع الذاتي إلي اليقين بوجوده (عليه السلام).

ص: 79

المحور الثالث: العقل يفرض اليوم الموعود:

اشارة

لو صرفنا النظر عن النصوص وعن الأدلّة فإنَّ العقل وحده يحكم بضرورة اليوم الموعود ويوم الخلاص ويوم الإنقاذ لبعدين:

البعد الفلسفي:

يتسائل العقل: لماذا خلقت الحياة؟ فيجيب القرآن الكريم: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، أي خلقت الحياة لأجل أن يصل المجتمع الإنساني إلي الكمال، والكمال بانتصار العدالة علي الظلم، وانتصار الفضيلة علي الرذيلة، وبما أنَّ الهدف من الحياة وصول المجتمع الإنساني إلي انتصار العدالة ووصول المجتمع الإنساني إلي انتصار الفضيلة، فلو لم يكن هناك يوم يتحقَّق فيه هذا الهدف لكان خلق الحياة لغواً وعبثاً، واللغو والعبث لا يصدر من الحكيم تعالي.

فما دام أنَّ الله قد خلق الحياة لأجل أن تنتصر العدالة علي الظلم ولأجل أن تنتصر الفضيلة علي الرذيلة، قال تعالي: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، إذن لو لم يوجد ذلك اليوم الذي يتحقَّق فيه انتصار العدالة علي الظلم وانتصار الفضيلة علي الرذيلة في كلّ أرجاء الأرض لكان خلق الحياة لغواً وعبثاً، وهذا دليل عقلي علي ضرورة اليوم المنتظر.

البعد الاجتماعي:

هناك سنن تاريخية، إذ يقول علماء الاجتماع: التاريخ لا يمشي صدفة، بل التاريخ يمشي علي طبق سنن تتكرَّر من جيل إلي آخر ومن هذه السنن البقاء للأقوي، ومنها أنَّ الثروة إذا لم

ص: 80

توزَّع توزيعاً عادلاً يقع الدمار الأمني والاقتصادي، ومنها ثورة الجوع والخوف, فحينما نراجع تاريخ الأنبياء نجد أنَّ نبيّ الله نوحاً (عليه السلام) قام بثورة الجوع والخوف، حيث قاد مجموعة من الفقراء والمستضعفين وقام بثورته، وهكذا نبيّ الله شعيب (عليه السلام)، بل أغلب الأنبياء والمصلحين كانت حركاتهم منخلقة من الأمر السماوي ومستندة لعوامل من أهمّها عامل الجوع والخوف، فهذه سُنّة من السنن التاريخية تحدَّث عنها (اينشتاين) العالم الفيزيائي، و(راسل) الفيلسوف الفرنسي، و(برنارد شو) الفيلسوف الإنجليزي(1)، لذلك سيأتي يوم من الأيّام تحصل فيه ثورة أمميّة شعوبية لعامل الجوع والخوف، بمعني أنَّ الشعوب الإنسانية كلّها تدرك فشل الأنظمة الاقتصادية وفشل السياسات المدنية حيث إنَّها لم تؤمّن لها لقمة الخبز ولم تؤمّن لها الأمن، وإذا أدركت الإنسانية أنَّ السياسات الاقتصادية فاشلة ستحصل ثورة أمميّة شعوبية تمهّد ليوم القائد المنتظر (عليه السلام).

فالمسألة مسألة عقلية ناشئة عن إدراك العقل لطبيعة المجتمعات حيث تستند إلي ثورة الجوع والخوف ويؤيّدها هؤلاء الفلاسفة، وهذه الثورة هي التي أيَّدها المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم)، والإمام أمير المؤمنين، والحسين بن علي (عليهما السلام) الذي لم يقم بثورته من أجل كرسي أو سلطة، بل لأجل ثورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسدّ باب الجوع والخوف، فبنو أميّة تلاعبوا3.

ص: 81


1- راجع: مجلّة الانتظار/ العدد 14/ ص 63.

بثروات المسلمين وأكلوا خزانة بيت المال وصرفوها في بناء القصور وزخارف الدنيا، وجعلوا الشعب المسلم في زمانهم مهبّاً لعواصف الجوع والخوف والاضطهاد، من هنا انطلقت ثورة الحسين (عليه السلام): (فإنّي لا أري الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برماً)(1).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *2.

ص: 82


1- مثير الأحزان: 32.

المحاضرة الخامسة: من ينتظر من؟

اشارة

(5/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(22/ 12/ 2009م)

ص: 83

ص: 84

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 20).

إنَّ الآية المباركة تتحدَّث عن موقف بين النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) وبين الكافرين، فالكافرون يطالبون النبيّ بآية أخري غير القرآن الكريم ويقولون: لا نكتفي في تصديقك والإذعان بنبوَّتك بالقرآن الكريم، إنَّنا نحتاج إلي آية أخري تضمّ للقرآن الكريم كي تكون داعماً لنبوّتك ورسالتك، (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي آية أخري غير القرآن الكريم، والنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) أخبرهم أنَّ هناك آية أخري، أي إنَّ الله تبارك وتعالي لم يدعم نبوّته بآية واحدة وهي القرآن الكريم وإنَّما دعم نبوّته بآيتين، (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) بمعني أنَّ هناك آية أخري ما زالت في مطاوي الغيب، (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)، فما هي الآية الأخري التي تكافئ القرآن الكريم، فإنَّ القرآن الكريم معجزة لا تقبل الشكّ والريب وتدعم نبوّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، فما هي الآية الأخري التي تكون معجزة أيضاً ولا تقبل الشكّ والريب وتدعم نبوّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ وقد شرَّق المفسّرون وغرَّبوا في تحديد الآية الأخري.

بينما الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حدَّدت لنا الآية الأخري التي لا تقلُّ عن القرآن الكريم في الإعجاز وستكون داعماً واضحاً لنبوّة

ص: 85

النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، قال (عليه السلام): (الآية هي الغيب والغيب هو الحجّة)(1)، وهذا أمر واضح لأنَّ ظهور الدين علي الأرض كلّها بحيث يصبح الدين الإسلامي ديناً لكلّ البشر هو في حدّ ذاته أيضاً معجزة أخري، فكما أنَّ القرآن معجزة تدعم النبوّة فإنَّ ظهور القائم الذي يظهر الدين علي الدين كلّه ويملأ الأرض كلّها قسطاً وعدلاً معجزة أخري لا تقلُّ عن إعجاز القرآن الكريم.

من هنا ننطلق في الحديث عن القائم المنتظر (عليه السلام) من خلال محاور ثلاثة:

المحوّر الأوّل: هل ليوم الخروج وقت؟

اشارة

يوجد هنا سؤال وهو أنَّه هل ليوم الخروج وقت معيَّن لا دور للظروف في تحقيقه، أو أنَّ الظروف دخيلة في تحقيق ذلك اليوم؟ فهنا اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل:

وهو أنَّ يوم خروج القائم كيوم الساعة له وقت معيَّن لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، وليس للظروف دخل في تحقيقه، وأصحاب هذا الاتّجاه يستدلّون بعدّة روايات، منها ما ورد في تفسير القمي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسي بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ

ص: 86


1- عن يحيي بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 1 - 3)، فقال: (المتّقون شيعة علي (عليه السلام)، والغيب فهو الحجّة الغائب. وشاهد ذلك قول الله عز وجل: (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 20)، فأخبر عز وجل أنَّ الآية هي الغيب، والغيب هو الحجّة، وتصديق ذلك قول اللهعز وجل: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون: 50)، يعني حجّة). (كمال الدين: 18).

قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَي النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) (إبراهيم: 5)، قال (عليه السلام): (أيّام الله ثلاثة: يوم القائم, ويوم الموت، ويوم القيامة)(1)، هذه أيّام ثلاثة تأتي في وقت معيَّن.

ومنها: ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (المهدي منّا أهل البيت، يصلح الله له أمره في ليلة)، وفي رواية أخري: (يصلحه الله في ليلة)(2)، وقد ذكرها أيضاً أحمد بن حنبل في مسنده. ومن الغريب أن نجد البعض يحاول تفسير هذه الرواية بأنَّ المهدي كان رجلاً غير صالح وصار صالحاً في ليلة واحدة، وكأنَّه يريد بذلك أنَّ الإمامة لا ترتبط بالعصمة، والمهدي يمكن أن يكون فاسداً والعياذ بالله ولكنَّ الله سوف يقبل توبته ويصلحه في ليلة واحدة، ولكن الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تفسّر ذلك, قال (عليه السلام): (كن لما لا ترجو أرجي منك لما ترجو، فإنَّ موسي بن عمران خرج ليقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبيّ، فأصلح الله تبارك وتعالي أمر عبده ونبيّه موسي (عليه السلام) في ليلة) أي جعله رسولاً في ليلة، (وهكذا يفعل الله تبارك وتعالي بالقائم الثاني عشر من الأئمّة (عليهم السلام)، يصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيّه موسي (عليه السلام) ويخرجه من الحيرة والغيبة إلي نور الفرج والظهور)(3)، وهو أنَّ الله يجمع له أنصاره وأصحابه في مكّة في ليلة واحدة وهي ليلة الجمعة لا يتخلَّف منهم أحد.2.

ص: 87


1- تفسير القمي 1: 367.
2- كمال الدين: 152/ باب 6/ ح 15؛ مسند أحمد 1: 84 .
3- كمال الدين: 151 و152.

ومنها: ما ورد عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا يخرج القائم إلاَّ في وتر من السنين)(1)، بمعني واحد أو ثلاثة أو خمسة.

ومنها: ما ورد أيضاً عن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن الصادق (عليه السلام)، قال: (السبت لنا، والأحد لشيعتنا، والاثنين لأعدائنا، والثلاثاء لبني أميّة، والأربعاء يوم شرب الدواء، والخميس تقضي فيه الحوائج، والجمعة للتنظّف والتطيّب، وهو عيد المسلمين وهو أفضل من الفطر والأضحي، ويوم الغدير أفضل الأعياد، وهو ثامن عشر من ذي الحجة وكان يوم جمعة، ويخرج قائمنا أهل البيت يوم الجمعة...)(2).

وهذا هو الخروج الأوّل لأنَّ الإمام له ظهور وله إعلان الظهور, فالظهور يوم الجمعة في المسجد الحرام بين الركن والمقام ولكنَّه لا يعلن عن ظهوره إلاَّ يوم السبت المصادف ليوم عاشوراء، كما جاء في الروايات الأخري(3).

إذن قد يستفاد من هذه الروايات أنَّ للقائم (عليه السلام) وقتاً كيوم القيامة لا يتقدَّم ولا يتأخَّر وليس للظروف دخل فيه.).

ص: 88


1- الغيبة للطوسي: 453/ ح 460.
2- الخصال: 394/ ح 101.
3- عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ينادي باسم القائم (عليه السلام) في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (عليهما السلام)، لكأنّي به في يوم السبت العاشر من المحرَّم قائماً بين الركن والمقام، جبرئيل (عليه السلام) علي يده اليمني، ينادي: البيعة لله، فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض تطوي لهم طيّاً حتَّي يبايعوه، فيملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً). (الإرشاد 2: 379).

الاتّجاه الثاني:

وهو أنَّ الظروف دخيلة في خروج القائم (عليه السلام)، فإنَّ الروايات وإن دلَّت علي أنَّ يوم الخروج يوم معيَّن، إلاَّ أنَّ هذا اليوم أنيط بظروف معيَّنة، بمعني أنَّ هناك ظروفاً تساهم في الإعداد لخروجه في ذلك اليوم المعيَّن، فخروجه لا ينفصل عن الظروف، بل هو يوم خاضع للبداء يمكن أن يتقدَّم كما يمكن أن يتأخَّر تبعاً لتحقّق الظروف المعيَّنة مثل الأجل، فالناس تظنّ أنَّ الأجل لا يتغيَّر، ولكن الصحيح أنَّ الموت فيه البداء، يمكن أن يتقدّم بالانتحار، ويمكن أن يتأخّر بالأعمال الصالحة، فهو خاضع للبداء، ولذلك ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنَّ العبد ليكون واصلاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاث سنين فيجعلها الله ثلاثين سنة، ويكون الرجل قاطعاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاثون سنة فيجعلها الله ثلاث سنين)(1).

إذن الموت يوم منوط بظروف وأسباب معيَّنة، كذلك خروجه (عليه السلام) يوم تابع لظروف معيَّنة، ولذلك يقبل التقديم والتأخير، ويمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الوجه الأوّل:

رواية أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (يا ثابت إنَّ الله تبارك وتعالي قد كان وقَّت هذا الأمر في السبعين، فلمَّا أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتدَّ غضب الله تعالي علي أهل الأرض، فأخَّره إلي أربعين ومائة، فحدّثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر

ص: 89


1- الدعوات للراوندي: 125/ ح 307.

ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا و(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (الرعد: 39))(1)، إذن وقت خروجه خاضع لظروف معيَّنة إذا تحقَّقت وتنجَّزت خرج.

الوجه الثاني:

الأدعية المتظافرة المتضمّنة لطلب تعجيل الفرج، ومنها الدعاء الصحيح المعتبر الوارد: (اللّهمّ عجَّل فرجه، وأيّده بالنصر، وانصر ناصريه، واخذل خاذليه...)(2)، فإذا كان لخروجه وقت معيَّن لا يتقدَّم ولا يتأخَّر فلا معني لأن نقول: (اللّهمّ عجَّل فرجه).

فهذا الدعاء بنفسه دليل علي أنَّ وقت خروجه قابل للتقديم والتعجيل، فإذا تحقَّقت الظروف وتنجَّزت الأسباب خرج، لذلك لا يصحُّ أن يقال: ما هي فائدة الدعاء؟ إذ هو من أسباب تعجيل خروجه، حيث إنَّ دعاء المؤمنين له أثر عظيم في تعجيل الظهور.

إذن خروج الإمام منوط بظروف معيَّنة.

فإن قلت: إنَّ خروج المهدي (عليه السلام) من الأمور الحتمية فلا وجه لربطه بالظروف والأسباب الاختيارية فإنَّ ذلك يتنافي مع حتمية خروجه.

قلت: إنَّ كون الأمر حتمياً لا يتنافي تعليق حصوله من قبل الله عز وجل بأمور اختيارية حيث علم الباري عز وجل بتحقّق هذه الأمور الاختيارية في ظرفها، فمثلاً بعثة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) كانت أمراً حتمياً ومع ذلك أنيطت من قبل الله عز وجل بأمور اختيارية بشرية كولادته (صلي الله عليه وآله وسلم) من أبوين جليلين باختيارهما وإرادتهما، وكذلك أجل الإنسان كما ذكرنا.

ص: 90


1- الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت/ ح 1.
2- مصباح المتهجّد: 414/ الرقم (536/146).

الظروف الممهّدة للظهور:

وأهمّها ظرفان:

الظرف الأوّل: فشل الإيديولوجيات:

إنَّ البشرية إذا جرَّبت جميع الأنظمة السياسية والأنظمة الاقتصادية، أدركت فشلها وعقمها وأنَّها ما زالت ترزح تحت الجوع والفقر والخوف من دون خلاص وحينئذٍ سيكون الظرف مهيَّأ ومعدّاً لخروج المنتظر (عليه السلام), وتدلُّ عليه روايات، منها رواية أبي صادق كيسان بن كليب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلنا، لئلاَّ يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وذلك قول الله عز وجل: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128))(1).

الظرف الثاني: الظرف الروحي:

إنَّ خروج الإمام يحتاج إلي أرضية تنصره وتستعدّ للدفاع عنه، وهذه الأرضية لم تتحقَّق، فإذا تحقَّقت ووجد أنصاراً كزبر الحديد مستميتين في الدفاع عن دولته، تحقَّق ظرف آخر مؤهّل لخروجه (عليه السلام).

وفي رواية عن أبي خالد الكابلي، عن زين العابدين (عليه السلام)، قال: (... يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالي أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلي دين الله عز وجل سرّاً وجهراً)(2).

ص: 91


1- الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
2- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.

وهناك جماعة ونخبة يعدّهم الله تبارك وتعالي لخروجه وهم أقطاب دولته وأركان حكومته (عليه السلام), إذن الخروج خاضع للظروف وتهيّؤ الأسباب.

المحور الثاني: لماذا لم تكن الدولة المهدوية في أوّل الزمان؟

اشارة

إنَّ الدولة المهدوية هي في خاتمة الزمان فهي آخر دولة، وهنا يأتي السؤال: لماذا لم يجعل الله تعالي هذه الدولة في أوّل الزمان؟ ولماذا لم يهيّئ الله الأسباب للنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) مثلاً، لكي تكون له هذه الدولة الكبري؟ وبعبارة علمية، يقول علماؤنا: قاعدة (اللطف) هي الدليل علي ضرورة النبوّة والإمامة، كما هو مصطلح في علم الكلام.

فمقتضي قاعدة اللطف أن يبعث الله الأنبياء وأن ينصّب الأئمّة وأن ينزّل الكتب من السماء، لأنَّ المجتمع الإنساني يحتاج إلي نظام عادل، وهو غير قادر في نفسه علي إيجاد نظام عادل ينسجم مع جميع الحضارات، ومع جميع الأجيال لمحدودية عقله, فلا بدَّ أن ينزل هذا النظام العادل من السماء لأنَّ عدم إنزاله إمَّا لجهله تعالي بحاجة البشرية وهو عالم بكلّ شيء، أو لعجزه عن ذلك وهو القادر علي كلّ شيء، أو لبخله وهو الجواد المطلق.

إذن مقتضي لطف الله تعالي بالمجتمع الإنساني أن ينزّل عليهم النظام العادل الذي يحتاجونه.

ولقد استدلَّ علماؤنا بهذه القاعدة علي ضرورة وجود الأنبياء والأئمّة وضرورة وجود كتب سماوية تحقّق النظام العادل، وهذه القاعدة أيضاً يمكن أن يستدلَّ بها علي ضرورة وجود الدولة المهدوية من زمن

ص: 92

النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم). فكما أنَّ مقتضي لطف الله بالأمّة أن يبعث الأنبياء وينزل عليهم الكتب، فهو يقتضي أيضاً أن يؤسّس لهم دولة مهدوية عامّة منذ زمن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، فلماذا تأخَّرت الدولة المهدوية إلي آخر الزمان؟ وما هي الحكمة في تأجيل ذلك إلي آخر الزمان؟

الجواب:

هنا أمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: المادة منشأ النقص:

يقول الفلاسفة: المادة منشأ النقص، والتجرّد منشأ الكمال, فالجسم المادي ناقص، لأنَّ المادة منشأ للنقص، وذلك لأنَّ الجسم المادي محفوف بحاجبين كبيرين: حاجب الزمان وحاجب المكان.

فالإنسان لا يستطيع أن يتحرَّر لا من الزمان ولا من المكان، مثلاً: الإنسان لا يستطيع أن يعلم بما خلف الجدار، لأنَّه مادة والمادة تشغل حيّزاً من الفراغ فلا يمكن لها أن تشغل الأمكنة كلّها، بل لا بدَّ أن تشغل مكاناً معيَّناً، فصار المكان حاجباً لعلمه بما وراءه، وكذلك الزمان فلا يمكن للإنسان أن يعلم بما سيحصل في المستقبل، لأنَّ الزمان يمنعه.

فإنَّ المادة تشغل مكاناً وزماناً فيحجبها ذلك عن الامتداد لما ورائه، فالزمان والمكان حجابان يمنعان الإنسان عن رؤية ما وراءهما، وكلّ ذلك لأنَّ الإنسان مادي، بينما المتجرّد عن كونه جسماً مادياً لا يحجبه المكان ولا الزمان، فالملائكة وإن كانت هي المدبّر لعالم المادة لكنَّها ليست جسماً مادياً، فلذلك تعلم بما وراء المكان والزمان لأنَّ المكان والزمان لا يحجبانها، فالمادي ناقص لأنَّه مبتلي بحجابين والمجرَّد كامل لأنَّه غير مبتلي بذلك. إذن المادة منشأ النقص والتجرّد منشأ الكمال.

ص: 93

حقيقة الروح قبل وبعد التلبّس بالجسد:

ما هو الفرق بين الروح قبل أن تصبح في عالم المادة والروح بعد أن تصبح في عالم المادة؟

نحن كنّا أرواحاً في عالم الذرّ قبل أن ننزل إلي هذا العالم، فكنّا مجرَّدين نعيش كمالاً وهو رؤية ملكوت الله تبارك وتعالي، وكنّا نسبّح الله لرؤيتها، قال تعالي: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: 75)، وكلّ روح قبل أن تنزل إلي عالم الدنيا كانت تري الملكوت وتشاهده وتسبّح الله، فهي تعيش كمالاً فعلياً، ولمَّا نزلت إلي عالم المادة ارتبطت بالجسد فأصبح الجسد سجناً يحجبه الزمان والمكان.

الأمر الثاني: التراكمية الثقافية:

ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً: إنَّ الطفل في أوائل عمره لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات الجامعة، ولو فرضنا أنَّ له ذاكرة قويّة يستطيع من خلالها حفظ المعلومات لكنَّه لا يتفاعل معها، وكذا طالب الطبّ لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات سبع سنين في يوم واحد، لأنَّ الحواسّ محدودة القدرة، والمحدود لا يمكنه أن يتفاعل مع أيّ معلومة إذا لم يمرّ بالتراكمية الثقافية. فالطفل الصغير لا يمكنه التفاعل مع معلومات الجامعي لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية, والشاب في أوّل الجامعة لا يتفاعل مع رسالة الدكتوراه لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية التي تؤهّله لاستيعاب المعلومات. والناس وإن كانوا يتفاوتون في الفهم فشخص يستوعب المعلومات في خمس سنين والآخر لا يستوعبها إلاَّ في عشر سنين، ولكن هذا تفاوت في السرعة والبطء لا غير، إلاَّ أنَّ التراكمية

ص: 94

الثقافية عنصر ضروري في التفاعل مع المعلومة، وكلّ ذلك ناشئ عن كون الإنسان مادياً والمادي محدود القدرة.

الأمر الثالث: حاجة البشرية للتراكمية الثقافية:

وصلنا إلي النتيجة والجواب علي إشكالية لماذا لم تعط الرسالة المحمّدية للبشرية منذ يوم آدم؟ وما هو السرّ في تأخير رسالة الإسلام لما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية؟

والجواب هو حاجة البشرية للتراكمية الثقافية لكي تكون مؤهّلة لاستيعاب رسالة الإسلام، فلو أعطيت البشرية رسالة الإسلام منذ يوم آدم لما تفاعلت معها، ولأصبحت الرسالة فاشلة، فالرسالة الإسلاميّة تحتاج إلي مستوي من الثقافة تمرُّ به البشرية حتَّي تكون مؤهّلة لاستيعاب هذه الرسالة.

إذن كما أنَّ الله تعالي أجَّل رسالة النبيّ إلي ما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية، كذلك أجَّل الدولة المهدوية إلي آخر الزمان، لأنَّها تحتاج إلي مستوي ثقافي وحضاري لا تملكه البشرية إلي الآن، لكي يؤهّلها للتفاعل مع دولة الإمام المهدي. لذا فالمجتمع البشري لكي يستطيع أن يتفاعل مع معلومات هذه الدولة وقوانينها وأنظمتها يحتاج إلي مساحة زمنية واسعة وحيث إنَّ البشرية لم تصل إلي هذا المستوي، لذلك لم يحن موعد الدولة بعد، ولو أعطيت الناس الدولة الخاتمية منذ زمن النبيّ أو زماننا هذا لفشلت ولم يستفد الناس منها، ولنضرب بعض الأمثلة.

مثلاً: الإمام علي (عليه السلام) كان يشكو ويقول: (يَا كُمَيْلُ... إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً _ وَأشَارَ بِيَدِهِ إِلَي صَدْرِهِ _ لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً)(1)، أي لا يوجد من يفهمني، فأنا سابق زماني. وكذلك تراه يقف علي نهر الفرات

ص: 95


1- نهج البلاغة 4: 36/ ح 147.

ويقول: (لو شئت لجعلت لكم من الماء نوراً وناراً)(1)، في ذلك الوقت الذي لا تفهم الناس الرابط بين الماء والكهرباء, فهو يتكلَّم عن معلومة سبقت زمانه لا يستطيع الناس أن يتفاعلوا معها.

والناس كانت تقرأ قوله تعالي: (وَتَرَي الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88)، ولم تكن تفهم هذه الآية في زمان نزولها.

والناس كانت تقرأ هذه الآية: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: 47)، التي تشير إلي نظرية التمدّد في الفضاء، هذه النظرية حديثة ولم تكن الناس تعرفها زمن نزول الآية.

ونأتي الآن علي مستوي علم النفس، فإنَّ من أهمّ نظريات علم النفس الاستبطاني العقل الباطن، واكتشافه أسهم في حلّ مشاكل وأمراض نفسية كثيرة، بينما اكتشاف منطقة العقل الباطن قد ورد في الروايات وفي الآيات، قال تعالي: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفي) (طه: 7)، وقال الإمام علي (عليه السلام): (مَا أضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ)(2)، لكن البشرية لم تكتشف العقل الباطن إلاَّ في زماننا، وإنَّما ذكرت هذه الحقائق في القرآن وحديث الأئمّة قبل زمانها لتكون دليلاً علي إعجاز القرآن وإعجاز أهل البيت (عليهم السلام).

إذن يمكن القول بأنَّ السرّ في تأجيل الدولة المهدوية إلي آخر الزمان هو أنَّ التفاعل معها يحتاج إلي مستوي عالي من الثقافة، وإلي الآن لم تمرّ البشرية6.

ص: 96


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسُنّة والتاريخ للريشهري: 302، نقلاً عن تصنيف نهج البلاغة: 782.
2- نهج البلاغة 4: 7/ ح 26.

بالتراكمية الثقافية التي تؤهّلها للتفاعل مع دولة المهدي المنتظر (عليه السلام)، فلو أعطوا هذه الحضارة في زمن سابق لكان في غير محلّه، لكونها دولة فاشلة وعقيمة لا يمكن أن يتفاعل معها المجتمع البشري.

المحور الثالث: دور الأمّة في التمهيد للظهور:

اشارة

ذكرنا أنَّ خروج الإمام المنتظر منوط ومرهون بظروف معيَّنة, فهل نستطيع نحن أن نساهم في هذه الظروف؟ هل نستطيع نحن أن نعجّل خروج الإمام؟ هل نستطيع أن نقوم بأعمال تساهم في خروجه وتُعجّل قدومه وتوطّئ الأرض لظهوره؟ ما هو دورنا في إعداد الظروف المنسجمة مع خروجه (عليه السلام).

إنَّ دور البشرية في الإعداد لخروجه وتهيئة الظروف له هو الانتظار الذي ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(1), لكن ما هو الانتظار؟

أنواع الانتظار:

هنا نظريتان عندنا في الانتظار:

الانتظار التعطيلي:

ذهب بعض الشيعة إلي الانتظار التعطيلي، وقال: علينا ترك كلّ إصلاح لتمتلئ الأرض ظلماً وجوراً وتكون معدّة لخروج الإمام, لأنَّه لا يخرج حتَّي تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فعلينا أن نترك المنكرات تطغي علي الأرض، والظلم يتفشّي ويستحكم علي البشر حتَّي لا نعطّل خروجه، ونكون بهذا الانتظار التعطيلي قد أسهمنا في تعجيل خروجه.

ص: 97


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

وهذا الاتّجاه لم يأتِ جزافاً، فهناك روايات يحاول أن يستفيد منها ما يؤيّد كلامه، منها: ما ورد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل)(1).

ومنها: ما ورد عن أبي المرهف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (هلكت المحاضير)، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: (المستعجلون، ونجا المقرَّبون، وثبت الحصن علي أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإنَّ الغبرة علي من أثارها، وأنَّهم لا يريدونكم بجائحة إلاَّ أتاهم الله بشاغل إلاَّ من تعرض لهم)(2).

ومنها: ما تذمّ الخروج والاستعجال، فعن عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (... والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثمّ كانت الأخري باقية فعمل علي ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا علي أيّ شيء تخرجون...)(3).

الانتظار الإعدادي:

اشارة

قال النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)، والانتظار له مدلولات ثلاثة:

1 _ المدلول العقائدي:

الانتظار يعني أن تعتقد أنَّ الله قادر علي أن يحفظ إنساناً هذا العمر الطويل لأجل أن يدَّخره لهدف عظيم، وهذا الاعتقاد في نفسه عمل عظيم وانتظار تثاب عليه، وآخر الزمان سوف يعدل الناس عن ذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه

ص: 98


1- الكافي 8 : 295/ ح 452.
2- الغيبة للنعماني: 203/ باب 11/ ح 5.
3- الكافي 8 : 264/ باب الأمر بإلزام البيت قبل خروج السفياني/ ح 381.

قال: (أمَا والله ليغيبنَّ عنكم صاحب هذا الأمر وليخملنَّ هذا حتَّي يقال: مات، هلك، في أيّ وادٍ سلك؟ ولتكفأنَّ كما تكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلاَّ من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيَّده بروح منه...)(1).

فالبقاء علي الاعتقاد بالغيبة يعتبر عملاً عظيماً لتراجع الناس في آخر الزمان عن الاعتقاد بالغيبة.

2 _ المدلول الإداري:

نحن نريد أن نعدّ الأرض لخروجه (عليه السلام) لكن علينا أن لا نوقّت للأمر، فقد عرضنا الروايات التي تقول: (كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نوقّت، أبي الله إلاَّ أن يخلف وقت الموقّتين)(2)، وإنَّما ورد النهي عن التوقيت؟ لأنَّه لو حدَّدنا له وقتاً معيَّناً لاستغلَّ من قِبَل الظالمين في إعاقة خروجه، فلو قلنا بأنَّ المهدي سوف يخرج بعد خمس سنوات، كانت هذه فرصة ثمينة للطغاة والظالمين في نشر العوائق والعقبات أمام حركته وأمام خروجه، فالتوقيت يعطي فرصة لاستغلال الظالمين، ولعجلة المستعجلين، ففي الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (كذب الوقّاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلّمون)(3)، إذن الانتظار له مدلول إداري وهو عدم التوقيت من أجل ألاَّ يكون التوقيت فرصة لاستغلال الظالمين ولا فرصة لعجلة المستعجلين.

3 _ المدلول السلوكي:

وهو إعداد الأرض من خلال حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذلك لأمور:

ص: 99


1- الكافي 1: 338 و339/ باب في الغيبة/ ح 11.
2- الغيبة للنعماني: 304 و305/ باب 16/ ح 12.
3- الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت/ ح 2.

أوّلاً: عندنا أدلّة عامّة، قال تعالي: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104)، ولم تخصّص هذه الأدلّة بزمن دون زمن بنصّ معتبر، لذلك يجب علينا تطبيق هذه الأدلّة، وقد ورد أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) ذمّ آخر الزمان لأنَّهم يتركون الأمر بالمعروف، قال: (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر)، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: (نعم وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف)(1), ولو كان الانتظار يعني تعطيل حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما ذمَّ الرسول قوماً في آخر الزمان بأنَّهم تركوا مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانياً: إنَّ المقصود من هذه الروايات التي استدلَّ بها أصحاب الاتّجاه الأوّل وهو الانتظار التعطيلي راية الشخص الذي لا يراعي الموازين الشرعية المتعلّقة بالنفوس أو الأموال ولا يبالي بحدودها بقرينة التعبير عنه ب- (المستعجل أو راية الشخص الذي يدعو إلي نفسه)، أمَّا الشخص الذي يدعو إلي آل محمّد فهو ليس طاغوتاً يعبد من دون الله، والشخص الذي يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس طاغوتاً يعبد من دون الله، والقرينة علي ذلك أنَّ لسان هذه الروايات هو شاهد علي أنَّ الرايات المذمومة هي الرايات التي تدعو لنفسها بقرينة مناسبة الحكم للموضوع حيث عبَّر عنه ب- (طاغوت يعبد من دون الله)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا علي أيّ شيء تخرجون،4.

ص: 100


1- الكافي 5: 59/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 14.

ولا تقولوا: خرج زيد، فإنَّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلي نفسه إنَّما دعاكم إلي الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)...)(1)، فهذا دليل علي أنَّ المذموم هو الراية التي تدعو إلي نفسها لا كلّ راية ترفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعاراً لها.

ثالثاً: تؤكّد الروايات أنَّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في زمان غيبة القائم هم الذين فضّلوا علي أهل كلّ زمان(2)، لذلك مسؤوليتنا إعداد الأرض من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه، ولا يقول القائل: إنَّ هذه وظيفة الخطباء والعلماء وليس وظيفتنا، بل كلّ شخص مسؤول عن حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه، قال تعالي: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105), وقال تعالي: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).

إذن الطريق هو حركة الدعوة المقترنة مع الإخلاص فكلّ من أخلص في عمله وجعل عمله لله فهو ممَّن ينتظر الإمام، وهو ممَّن يعدّ الأرض ويوطّئها لخروج الإمام، فقد ورد في الرواية عن الإمام السجّاد (عليه السلام): (انتظار الفرج من أعظم الفرج)(3)، والإعداد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه ومكانه، فالأمر2.

ص: 101


1- الكافي 8 : 264/ باب الأمر بإلزام البيت قبل خروج السفياني/ ح 381.
2- ومنها رواية الكابلي السابقة حيث ورد فيها: (والدعاة إلي دين الله سرّاً وجهراً).
3- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.

بالمعروف والنهي هو شعار الأنبياء، شعار الأولياء، شعار الأوصياء، شعار كربلاء، شعار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) الذي كتب لأخيه محمّد بن الحنفية: (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي (صلي الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر)(1).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *9.

ص: 102


1- الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.

المحاضرة السادسة: دور المرأة في الحركة المهدوية

اشارة

(6/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(23/ 12/ 2009م)

ص: 103

ص: 104

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلي أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (هود: 8).

إنَّ الآية المباركة تدلُّ علي أنَّ هناك عذاباً يتوعَّد الكافرين من أمّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم), ولكن هذا العذاب لم ينزل في زمن النبيّ لقوله تبارك وتعالي: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال: 33)، وإنَّما أخَّر العذاب ليوم معيَّن ولأجلٍ معيَّن، فما هو ذلك اليوم الذي هو يوم نزول العذاب علي الكافرين من أمّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، كما نزل العذاب الدنيوي علي الأمم السابقة التي كذَّبت أنبيائها؟

ولقد احتار المفسّرون في تحديد ذلك الأجل, لأنَّ الآية تتحدَّث عن عذاب دنيوي وليس عن عذاب أخروي, فما هو موعد العذاب الدنيوي الذي سيحلُّ علي الكافرين من أمّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)؟

إنَّ الروايات الشريفة دلَّت علي موعد العذاب, فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (العذاب خروج القائم (عليه السلام)، والأمّة المعدودة عدّة أهل بدر وأصحابه)(1)، وفي رواية أخري عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (والأمّة المعدودة أصحاب القائم الثلاثمائة وبضعة عشر)(2). والعذاب هو عذاب نفسي من خلال ظهور الدين علي الأرض3.

ص: 105


1- الغيبة للنعماني: 248/ باب 13/ ح 36.
2- تفسير القمي 1: 323.

كلّها, وعذاب مادي من خلال صيحة السماء والخسف الذي يحصل قبل ظهوره (عليه السلام).

وهناك سؤال يثار, وهو أنَّه إذا قرأنا التراث الإسلامي, خصوصاً التراث الذي يتحدَّث عن المهدي وظهوره وأصحابه ودوره ودولته, لا نجد للمرأة ذكراً في هذا التاريخ، فهل ليس للمرأة أيّ فاعلية في اليوم المهدوي الموعود أم لا؟

وهذا السؤال قد يتَّسع ليشمل التراث الإسلامي بصفة عامّة, بأن يتسائل, أين دور المرأة في التراث الإسلامي؟ فالخطاب الإسلامي غالباً موجَّه للذكور, والأحكام الإسلاميّة تميّز الرجل عن المرأة في عدّة موارد, فشهادة رجل يعدل شهادة امرأتين, وسهم المرأة من الميراث نصف سهم الرجل، وأمثال كثيرة من الأحكام الإسلاميّة التي تميّز الرجل علي المرأة, فهل أنَّ التراث الإسلامي تراث ذكوري أم أنَّ هناك شيئاً آخر؟

ولتوضيح الإجابة لا بدَّ من التعرّض لمحورين:

المحور الأوّل: القراءة الصحيحة لخطابات الشارع:

اشارة

إذا قرأنا التشريعات الإسلاميّة وجدنا أنَّ هناك تميّزاً للرجل علي المرأة, مثلاً قوله تعالي: (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228)، وقوله تعالي: (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُْخْري) (البقرة: 282)، وقوله تعالي: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ) (النساء: 11)، فما هي القراءة الصحيحة لهذة الخطابات التي تميّز الرجل علي المرأة؟

هناك اتّجاهان:

1 _ الاتّجاه الحداثي:

اشارة

وقد تبنّي البعض من الإسلاميّين هذا الاتّجاه في قراءة النصوص القرآنية والنبويّة, وهو يعتمد علي ركيزتين:

ص: 106

الركيزة الأولي: الفرق بين الدين والتراث الفقهي:

إنَّ هناك فرقاً بين الدين وبين التراث الفقهي, فإنَّ الدين هو الوحي الذي نزل علي النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم), أمَّا التراث الفقهي الموجود في كتب الفقه, فليس هو الدين الواقعي، بل هو ما فهمه الفقهاء من النصوص وهذا فكر بشري غير مقدَّس, فالقداسة للدين الذي نزل علي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) لا لما فهمه فقهاء المسلمين وكتبوه منذ ألف سنة إلي زماننا هذا, لذلك إذا أنكر شخص شيئاً من التراث الفقهي لا يجوز لنا أن نعتبره منكراً للدين وخارجاً عن ربقته, لأنَّ هناك فرقاً بين الدين وبين ما فهمه الفقهاء وسطروه في كتبهم الفقهية, وتعدّد القراءات الفقهية خير شاهد علي أنَّ الدين ليس هو التراث الفقهي.

مثلاً الإمام الخميني (قدس سره) أفتي بحلّية الشطرنج إذا خرج عن كونه أداة للقمار، وهو بذلك خالف التراث الفقهي المعروف بين الإماميّة.

والسيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) أفتي بجواز اقراض المال بزيادة تساوي النقص الداخل نتيجة تضخّم العملة, وقد خالف بذالك التراث الفقهي.

وأفتي بعض الفقهاء بأنَّه يثبت الهلال بالرؤيا بالعين المسلَّحة, وقد خالف التراث الفقهي في ذلك.

فمخالفة الفقهاء أنفسهم للتراث الفقهي خير دليل علي أنَّ التراث الفقهي شيء والدين شيء آخر. لذلك لا يجوز اعتبار من خالف التراث الفقهي خارجاً عن الدين, وإنَّما خالف ما هو المعروف من فتاوي الفقهاء, وفتاوي الفقهاء فكر بشري، وليس هو الدين الإلهي النازل من السماء.

الركيزة الثانية: تاريخية النصّ:

ليس هذا النصّ القرآني الموجود هو الوحي، بل الوحي الذي نزل من السماء هو معاني وتجلّيات نزلت علي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم), ثمّ صدر خطاب

ص: 107

من النبيّ بلسان عربي يترجم ذلك الوحي, فالوحي قبل أن يترجمه النبيّ كان مقدَّساً، مطلقاً، غير محدود, ولكن عندما ترجمه النبيّ باللسان العربي أصبح ظاهرة بشرية وليس شيئاً سماوياً, فخرج من كونه سماوياً إلي كونه أرضياً بشرياً, وبما أنَّه خطاب بشري إذن هو ظاهرة بشرية, وكلّ ظاهرة بشرية لا يمكن قراءتها منفصلة عن ظروفها التاريخية, هذا معني تاريخية النصّ.

مثلاً: صلح الحديبية ظاهرة بشرية بين النبيّ والمشركين, ولا يمكننا أن نقرأ صلح الحديبية ما لم نقرأ الظروف التي أدَّت إليه, لأنَّ الظاهرة البشرية لا تنفصل عن ظروفها ومحيطها. وهزيمة المسلمين يوم اُحُد, ظاهرة بشرية وليست سماوية, ولا يمكن لنا قراءتها ما لم نقرأ ظروفها المحيطة بها.

إذن كلّ خطاب بشري فهو ظاهرة بشرية, والظاهرة البشرية تُقرأ من خلال ظروفها, فالخطابات القرآنية تُقرأ من خلال ظروفها، فعندما نرجع للخطابات القرآنية نحو قوله تعالي: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (البقرة: 282)، فإنَّ هذا الخطاب صدر في زمن كانت المرأة فيه قليلة الوعي والثقافة, وكانت مهمّتها الأولي والأخيرة أنَّها ربّة بيت, أمَّا بعد أن أصبحت المرأة أستاذاً في الجامعة, عضواً في مجلس الشوري, وزيراً أو حاكماً فالمعادلة تتغيَّر، ولا يمكن أن تكون شهادة رجل بشهادة امرأتين, فهذا الخطاب القرآني ناظر لظروف خاصّة ولحقبة تاريخية معيَّنة, وليس خطاباً مطلقاً لكلّ زمان.

ومثلاً: قوله تعالي: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: 275), مختصّ بتلك الأزمنة التي لم يكن هناك مشكلة تضخّم العملة, أمَّا بعد أن أصبحت العملة

ص: 108

بمرور الوقت تتعرَّض لفرض التضخّم, فلا يكون الربا أمراً محرَّماً, فإنَّ نظرية تاريخية النصّ التي يطرحها الاتّجاه الحداثي, هي ربط النصوص بظروفها, وعدم تعميمها كقاعدة عامّة لكلّ جيل ولكلّ زمان.

مناقشة الاتّجاه الحداثي:
المناقشة الأولي: نزول الوحي معنيً ولفظاً:

إذا كان الوحي قد نزل علي النبيّ علي شكل معاني, والنبيّ قام بصياغته, فحينئذٍ يجوز لنا أن نقول: إنَّ الخطاب القرآني ظاهرة بشرية, لأنَّها صياغة النبيّ والنبيّ بشر, فتجري عليه قواعد النقد البشري.

ولكن الصحيح أنَّ الوحي نزل من السماء معنيً ولفظاً, أي إنَّ اللفظ والصياغة ليست من قبل النبيّ، إذ نزل الوحي بلفظه من السماء, والقرآن الكريم يؤكّد ذلك، قال تعالي: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَْمِينُ * عَلي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193 _ 195), وقال تعالي: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (القيامة: 16 _ 19)، وقال تعالي: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضي إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (طه: 114). وهذه الآيات إن نزلت من السماء فهي واضحة الدلالة علي أنَّ القرآن نزل بلفظه, وإن لم تنزل من السماء فالنبيّ صاغها فهو صادق أمين عند الحداثيين, ومقتضي صدقه وأمانته أنَّ القرآن نزل بمعناه وبلفظه من السماء.

إذن القرآن صياغة إلهية وسماوية وليست صياغة بشرية حتَّي يقال: هذه صياغة بشرية تجري عليها قواعد النقد الأدبي لكلّ ظاهرة بشرية.

ص: 109

المناقشة الثانية: كيفية الوصول إلي فهم الدين:
اشارة

هذه المناقشة الثانية تعتمد علي مقدّمتين:

المقدّمة الأولي:

لو سلَّمنا بأنَّ الخطابات القرآنية ظاهرة بشرية, والدين معاني نزلت من السماء علي النبيّ, والنبيّ صاغها بهذا الخطاب البشري بلغة بشرية وهي اللغة العربية, فالسؤال هو كيف يمكن الوصول إلي الدين الذي نزل من السماء؟ وكيف يمكن فهمه؟ هل المرجع في فهم الدين إلي النخبة؟ ومن هم النخبة؟ هل المثقفين هم المرجع في فهم الدين؟ أو الأدباء هم المرجع في فهم الدين؟ أو الفقهاء هم المرجع في فهم الدين؟ وكيف نقتنص الحقائق الدينية من خلال الخطاب الذي صدر من النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)؟

عندما نرجع للمجتمع العقلائي ونجعله حكماً في فهم أيّ نصّ وارد لنا فإنَّه يقول: المرجع في فهم أيّ نصّ إلي العرف من لغة ذلك النصّ, فإذا كان عندك نصّ من الأدب الإنجليزي, فالمرجع في فهم هذا النصّ أهل اللغة الإنجليزية, وإذا كان عندك نصّ من الأدب الفارسي, فالمرجع في فهمه أهل اللغة الفارسية، إذن هذه الخطابات القرآنية خطابات عربية, فالمرجع في فهمها العرف العربي العامّ لأنَّه أهل هذه اللغة.

فبما أنَّ العرف العربي هو أهل اللغة العربية, إذن هو المرجع في فهم الخطابات العربية خصوصاً وأنَّ القرآن الكريم لم ينزل للنخبة, ولا للفقهاء فقط، بل نزل للعرف العربي بجميع مستوياته وطبقاته.

المقدّمة الثانية:

بعد اتّضاح أنَّ المرجع في فهم النصّ العربي هو العرف العربي فهنا يطرح السؤال كيف نصل للعرف العربي؟

ص: 110

إنَّ العرف العربي ليس فهمه فهماً تلقائياً واسترسالياً, فهو مبني علي قواعد معيَّنة وعناصر, وتلك العناصر بعضها عامّ وبعضها خاصّ.

العناصر العامّة مثل أحكام المطلق والمقيَّد, أحكام العامّ والخاصّ, هيئات الأفعال, هيئات الحروف.

والعناصر الخاصّة هي المادة اللغوية في كلّ كلمة بحسبها.

وبما أنَّ الفهم العربي مستند لعناصر عامّة وخاصّة، فنرجع للخبير بتلك العناصر، فهل كلّ شخص يستطيع أن يفهم القرآن لوحده؟

والجواب أنَّ المرجع في فهم القرآن إلي العرف العربي والعمدة هو فهم الشخص الخبير بتلك العناصر التي يعتمد عليها العرف العربي في فهم النصوص, ومن هنا يُرجع للفقيه, لا لأنَّ فهم الفقيه مقدَّس, بل لأنَّ الفقيه خبير بعناصر اللغة العربية التي يستند إليها فهم العرف العربي. وإذا ثبت الفهم العربي لمعني معيَّن في زماننا أمكن إثباته في زمان صدور النصّ بأصالة الثبات، كما نرجع في مجال الطبّ إلي الطبيب, وفي مجال الهندسة إلي المهندس، وفي مجال فهم القرآن والسُنّة إلي الفقيه, لا لموضوعية فيه, بل لأنَّه خبير بعناصر اللغة العربية التي يعتمد عليها فهم العرف العربي لأيّ نصّ وارد.

المناقشة الثالثة: قرينة السياق:
اشارة

قد مرَّ أنَّ المرجع في فهم النصوص إلي العرف العربي, والعرف العربي يملك قرائن مختلفة ومن جملة تلك القرائن قرينة تسمّي قرينة السياق ومن خلالها نستطيع أن نميّز الخطاب التدبيري عن الخطاب القانوني، لأنَّ خطابات القرآن والسُنّة علي قسمين تدبيري وقانوني، فمن خلال قرينة السياق نميّز بين الخطابين.

ص: 111

الخطاب التدبيري:

وهو الخطاب الذي صدر لمعالجة مشكلة معيَّنة, ولمعالجة ظروف معيَّنة. مثلاً قال تعالي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (المجادلة: 12)، فهذا ليس قانوناً, بل هو تدبير لرفع مشكلة معيَّنة, فقد كان المسلمون يتجاسرون علي النبيّ, فأراد الله تبارك وتعالي حلّ هذه المشكلة بهذا الخطاب, فإذا أراد شخص أن يتحدَّث مع النبيّ يدفع صدقة. فهذا الخطاب يسمّي خطاباً تدبيرياً, لأجل ذلك فإنَّ هذا الخطاب لا ينفصل عن ظروفه، فهو خطاب خاصّ بظروفه وليس قانوناً عامّاً.

مثال آخر: قوله تعالي: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَي الْقِتالِ) (الأنفال: 65)، وهذا خطاب تدبيري وليس قانوناً عامّاً لكلّ زمن, فهو يرتبط بظروف معيَّنة.

حتَّي في السُنّة فإنَّ هناك خطابات تدبيرية، مثلاً في رواية معتبرة عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من مني، فقال: (كنّا نقول: لا يخرج منها شيء لحاجة الناس إليه، فأمَّا اليوم فقد كثر الناس, فلا بأس بإخراجه)(1)، ومعناها أنَّ نهي الإمام عن إخراج لحوم الأضاحي من مني كان نهياً تدبيرياً, لمعالجة حاجة معيَّنة.

مثلاً: مسألة الخضاب, فإنَّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يخضب شيبته. فسُئل: لِمَ لا تخضب شيبك وقد أمر رسول الله بالخضاب؟

ص: 112


1- الكافي 4: 500/ باب الأكل من الهدي الواجب.../ ح 7.

فأجاب: (إِنَّمَا قَالَ (صلي الله عليه وآله وسلم) ذَلِكَ وَالدَّينُ قَلٌّ فَأمَّا الآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ)(1)، بمعني أنَّ أمر النبيّ بالخضاب كان أمراً تدبيرياً ولم يكن قانونياً, فانتهي هذا الأمر بانتهاء ظرفه.

إذن الخطاب التدبيري, هو الخطاب المرتبط بظروف معيَّنة ولا يسري إلي سائر الظروف.

الخطاب القانوني:

وهو القانون العامّ لكلّ زمان فلا يمكن حصره في ظروف معيَّنة، ولا يقال: إنَّ هذا الخطاب صدر في زمان كانت المرأة ربّة بيت والآن أصبحت وزيرة, فانتهي الخطاب. ولا يقال: إنَّ هذا الخطاب صدر في زمان لم يكن في النقد تضخّم, والآن أصبح فيه تضخّم, فانتهت حرمة الربا.

فإنَّ مقتضي إطلاق الخطابات القانونية أنَّها قانون عامّ لكلّ الأزمنة, ولكلّ المسلمين، فتخصيصها بزمان دون زمان يحتاج إلي قرينة التخصيص، فلا يقال بأنَّها خاصّة بذلك الزمان وإطلاقها يحتاج إلي قرينة، لأنَّنا نتمسّك بإطلاقها.

مثلاً: لو رأينا الآن وقفاً عمره ألف سنة، كما لو وقف شخص البستان الفلاني الذي له حدود فلانية علي الفقراء، فلا يمكن لأحد أن يقول بأنَّه خاصّ بتلك الظروف ولفقراء تلك الفترة، لأنَّه قد أوقف هذا البستان علي الفقراء، فما زال البستان موجوداً وما زالت الأرض موجودة، إذن الوقف باقٍ إلي يوم القيامة.

فالوقف يأخذ به العقلاء ولا يتوقَّفون, فتري أنَّ المحاكم لا

ص: 113


1- نهج البلاغة 4: 5/ ح 17.

تتوقَّف عند هذه النقطة وتقول: هذا خطاب بشري, والخطاب البشري صدر في ظروف معيَّنة, إذن لا بدَّ أن يختصّ بتلك الظروف، بل يُؤخذ بظاهر الخطاب أنَّه وقف لكلّ زمان، فما دام لم تقم قرينة يؤخذ بإطلاقه.

ومثلاً: الوصيّة بالبيت الفلاني إلي عائلة فلان، وقد مرَّ علي هذه الوصيّة قرون متعدّدة, فما دام البيت موجوداً نعمل بمقتضي الوصيّة ونسلّمه للموصي إليه, وإن كان مضي علي الوصيّة مئات السنين.

إذن الفهم العربي لا يتوقَّف, فمتي ورد عندنا خطاب مطلق لم يقيَّد بزمن يؤخذ بإطلاقه.

كذلك الخطابات القرآنية الواردة في المرأة أو غير المرأة خطابات مطلقة لم تقيَّد بفترة زمنية ولا بجيل معيَّن يؤخذ بإطلاقها ولا يتوقَّف عندها.

لذلك ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (... ولو أنَّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله علي آخره ما دامت السماوات والأرض...)(1).

وفي رواية أخري: (حلال محمّد حلال أبداً إلي يوم القيامة, وحرامه حرام أبداً إلي يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره)(2).

ومن الطريف أنَّ بعض الحداثيين إذا وجد أنَّ مفاد الآية موافق لذوقه قال بأنَّها عامّة لكلّ زمن, أمَّا إذا كان مدلولها غير منسجم مع ذوقه قال بأنَّها خاصّة بتلك الظروف.9.

ص: 114


1- تفسير العياشي 1: 10/ في ما نزل القرآن/ ح 7.
2- الكافي 1: 58/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 19.

مثلاً: قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبي) (النحل: 90), وقوله تعالي: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّي تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92), وقوله تعالي: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10), وقوله تعالي: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً) (النساء: 92)، يقال: إنَّ هذه الآيات عامّة لكلّ زمن.

أمَّا قوله تعالي: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: 11)، وقوله تعالي: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: 275)، فيقال: هذه الآيات خاصّة بذلك الزمن.

إذن في جميع الخطابات يتمسَّك بإطلاقها لكلّ زمن ما لم تقم قرينة السياق علي كونه خطاباً تدبيرياً خاصّاً بظروف معيَّنة, ولذلك جاء القرآن بآيات تدلُّ علي شمول مضامينه لجميع الأزمنة, مثلاً قوله تعالي: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُديً وَرَحْمَةً وَبُشْري لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، وأمَّا بعض الفتاوي المستشهد بها كحلية الشطرنج وحجّية الرؤية بالعين المسلَّحة ونحوها فهي راجعة لاختلاف في فهم النصوص لا لنظرية تاريخية النصّ.

2 _ الاتّجاه الفقهي:

اشارة

الاتّجاه الفقهي الحوزوي, يستند علي ركيزتين:

الركيزة الأولي: عدم وجود قاعدة أفضلية الرجل:

لا توجد قاعدة تقول بأنَّ المرأة أقلّ من الرجل, بل القاعدة تقول بأنَّ الأحكام مشتركة بين الرجل والمرأة، لإطلاقات الأدلّة كما يدلُّ علي الاشتراك في الحقوق عدّة نصوص، قال تعالي: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)، إلاَّ أن يأتي حكم خاصّ. والأحكام التي ميَّزت الرجل علي المرأة كما في الشهادة, والميراث, والدية, تعتبر استثناء وليست قاعدة. فإنَّ القاعدة هي الاشتراك لإطلاق الأدلّة ولقوله تعالي: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

ص: 115

وقد ذكر في علم الأصول أنَّ ملاكات التشريع ليست دائماً مصالح واقعية، بل قد تكون اجتماعية اعتبارية، مثلاً: حرمة شرب الخمر ترجع لمصلحة واقعية, وهي إبعاد المسلم عن السكر. ووجوب الصلاة يرجع لمصلحة حقيقية, وهي النهي عن الفحشاء والمنكر. ولكن هناك أحكاماً لا ترجع لمصالح حقيقية, بل ترجع لمصالحة اجتماعية اعتبارية.

مثلاً: حدّ القذف للمرأة المؤمنة قد لا يرجع لمصلحة حقيقية، بل يرجع لمصلحة اعتبارية وهي إعطاء كرامة للمرأة، وإن كانت تعيش في مجتمع إباحي لا يري الزنا عيباً.

ومثلاً: المرأة المطلَّقة عدّتها ثلاثة قروء, فمتي طرقها الحيض الثالث خرجت من العدّة, بينما إذا توفّي زوجها فعدّتها أربعة أشهر وعشراً, لماذا؟ لعلَّ ذلك لمصلحة اجتماعية, وهي مراعاة ميثاق الزواج, فإنَّ ميثاق الزواج ميثاق غليظ ومهمّ, فإذا مات الزوج فاحتراماً لهذا الميثاق تعتدّ المرأة أربعة أشهر وعشراً, وهذه مصلحة اجتماعية.

إذن ليست كلّ الأحكام لمصلحة حقيقية, بل بعض الأحكام لمصلحة اجتماعية.

الركيزة الثانية: التفضيل الشرعي لا يدلُّ علي التفضيل الواقعي:

إنَّ التفضيل في الحكم الشرعي لا يعني التفضيل الواقعي بين الأشخاص, مثلاً: الشهيد الذي يقتل بين الصفّين لا يغسَّل ولا يكفَّن، فهل هذا يعني أنَّه أفضل من ذلك المؤمن الذي مات علي فراشه؟ لا, قد يكون ذلك المؤمن أفضل من هذا الشهيد عند الله تبارك وتعالي, مع أنَّ حكم الشهيد أفضل من حكم المؤمن.

مثلاً: حمزة سيّد الشهداء قُتل بين الصفّين, وحكمه أن لا يغسَّل

ص: 116

ولا يكفَّن، لكن النبيّ مات علي فراشه, وحكمه أن يغسَّل ويكفَّن. فهل هذا يعني أنَّ حمزة أفضل من النبيّ؟ بل هذا تفضيل في الحكم الشرعي وليس تفضيلاً واقعياً.

مثلاً: المرأة الحائض إذا انقضي حيضها تقضي صومها ولا تقضي صلاتها, فهل هذا يعني أنَّ الصوم أفضل من الصلاة؟ لا, إنَّ هذا مجرَّد تميّز في الحكم الشرعي لمصلحة اعتبارية, لا أنَّه تفضيل واقعي وأنَّ الصوم أفضل من الصلاة.

مثلاً: في باب الميراث إذا توفّي الولد, فلاُمّه الثلث إن لم يكن لهذا الولد المتوفّي ولد, ولم يكن هناك حاجب, بينما فريضة الأب إذا لم يكن لهذا المتوفّي ولد السدس, فهل هذا يعني أنَّ الاُمّ أفضل من الأب؟ بينما الأب قد فضّل في أمور أخري. إنَّ هذا مجرَّد تفضيل في الحكم, ولا يعني التفضيل الواقعي.

وكلّ هذا يعني أنَّ التفضيل في الأحكام الشرعية قد يرجع لمصالح اعتبارية, لا لمصالح واقعية, فلا يعني التفضيل بين الأشخاص, وقد يكون أشخاص أفضل من بعض ولكن بحسب التفضيل الشرعي يتفاوت ويختلف الأمر.

والمتحصّل أنَّ تفضيل الرجل علي المرأة بأنَّ شهادته تعدل شهادة امرأتين, أو أنَّ ميراثه يعدل سهمين من ميراث المرأة, لا يعني أنَّ الرجل أفضل من المرأة، قال تعالي: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) (الحجرات: 13)، وقال تعالي: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (النحل: 97)، وإنَّما هو تفضيل في الحكم الشرعي أو لمصالح اعتبارية.

ص: 117

الطريق الثالث: التاريخ:

إنَّ التاريخ الإسلامي لم تقتصر صناعته علي الذكور, فكما شارك الذكور في صناعة التاريخ الإسلامي, شارك النساء في صناعة التاريخ الإسلامي، وكما كان لمقداد, وأبي ذر، وسلمان, وعمّار دور في صناعة التاريخ, كان للنساء أيضاً دور في صناعة التاريخ. مثل خديجة بنت خويلد، حيث كانت الداعم المالي والداعم الروحي لشخصية النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) في مسيرته الإسلاميّة والدعوية.

وفاطمة بنت محمّد في موقفها النضالي, حيث ضحَّت ببدنها, ووقتها, وجهودها في سبيل الدفاع عن حقّ الأمّة الإسلاميّة في الخلافة الراشدة.

وزينب بنت علي (عليها السلام) ودورها الإعلامي, إذ لولا دور زينب لانطوت ثورة الحسين.

وحكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) كانت فقيهة وواسطة بين الأئمّة وبين الشيعة آنذاك.

وهذه الأدوار التي قمن بها هذه النسوة ليست أدواراً اضطرارية أو استثنائية, بل هي أدوار تأسيسية, لتأسيس خطّ للمرأة المسلمة أنَّها يمكن لها أن تصنع التاريخ, وأن تنهض ببطولة وإرادة حازمة بمثل هذه الأدوار.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *

ص: 119

ص: 120

المحور الثاني: دور المرأة في الحركة المهدوية:

اشارة

هل للمرأة دور في الحركة المهدوية في يوم الظهور أو ما قبل الظهور أم لا؟ نحن نؤكّد أنَّ للمرأة دوراً بطولياً في الحركة المهدوية, وذلك من خلال عدّة طرق:

الطريق الأوّل: الروايات:

الرواية الأولي: عن المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام)، قال: (يكون مع القائم (عليه السلام) ثلاث عشرة امرأة...)(1).

الرواية الثانية: عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (... ويجيء والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فيهم خمسون امرأة يجتمعون بمكّة علي غير ميعاد قزعاً كقزع الخريف يتبع بعضهم بعضاً...)(2), فهناك خمسون امرأة هنَّ من خلَّص أصحاب المهدي, لأنَّ الثلاثمائة والثلاثة عشر وزراءه, وأقطاب حكومته, وخلَّص أصحابه, وخواصّ أنصاره. هؤلاء الخواصّ فيهم خمسون امرأة.

الطريق الثاني: المطلقات:

إنَّ الأدلّة مطلقة ولم تختصّ بالرجل، قال تعالي: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104)، وقال تعالي: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71), ومفادها أنَّ الزوجة وليّ علي الزوج والزوج وليّ علي الزوجة.

فإنَّ الزوجة إذا رأت زوجها يفرّط في الصلاة, أو يسمع الأغاني, أو يشاهد الأفلام الخليعة, فلها الولاية علي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وزجره, كما له الولاية عليها، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

ص: 118


1- دلائل الإمامة: 484/ ح (480/84).
2- تفسير العياشي 1: 65/ ح 117.

فما ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(1), لا يختصّ بالذكور, بل المرأة الطبيبة المخلصة في الطبّ منتظرة للفرج, والمرأة المدرّسة المخلصة في تدريسها منتظرة للفرج, والمرأة الخطيبة المخلصة في خطابتها منتظرة للفرج.

المحاضرة السابعة: اليوم الموعود والحضارة الكونية

اشارة

(7/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(24/ 12/ 2009م)

ص: 121


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

ص: 122

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد: 17).

حياة الأرض بعدل القائم (عليه السلام):

ما هو المراد بحياة الأرض بعد موتها؟

هنا وردت روايتان:

الرواية الأولي: عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (يحييها الله عز وجل بالقائم(عليه السلام) بعد موتها _ بموتها كفر أهلها _ والكافر ميّت)(1).

الرواية الثانية: عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (أي يحييها الله بعدل القائم عند ظهوره بعد موتها بجور أئمّة الضلال)(2)، وكيف يمكن لنا أن نفهم أنَّ المقصود بحياة الأرض هو يوم ظهور المهدي (عليه السلام)؟

هناك قرينتان علي هذا التفسير:

القرينة الأولي: القرينة السياقية:

وهي الآية التي قبلها، قال تعالي: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ) (الحديد: 16)، فإنَّ هذا التعبير (فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ)، قرينة علي أنَّ أهل الكتاب مرّوا بفترة

ص: 123


1- كمال الدين: 668/ ح 13.
2- الغيبة للنعماني: 32.

انتظار حين غاب عنهم موسي (عليه السلام) فانتظروا مجيئه وانتظروا قدوم عيسي بعد موسي (عليهما السلام) (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)، فالآية تدلُّ علي أنَّ أمّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) ستمرُّ بما مرَّ به أمم أهل الكتاب، أي إنَّها ستمرّ بفترة انتظار سيطول أمدها ولذلك فعليها الحذر أن تكون كالأمم السابقة لمَّا (طالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

فقوله تعالي: (فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ) قرينة علي أنَّ المقصود بالآية التالية وهي حياة الأرض بمعني حياة الأرض بعد فترة الانتظار التي طال أمدها، وهذا لا ينطبق إلاَّ علي نظرية ظهور المهدي (عليه السلام).

القرينة الثانية: القرينة اللفظية:

اشارة

وهي قوله تعالي: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)، ما معني يحيي الأرض؟ ولم يقل: يحيي أرضاً، يعني كلّ الأرض, فما هو ذلك اليوم الذي سيحيي الله فيه الأرض كلّها بعد موتها؟ مقتضاه أنَّ الأرض قبل ظهور المهدي (عليه السلام) تتعرَّض للموت الروحي والمادي، حيث تتعرَّض للزلازل، للبراكين، للفيضانات، لظاهرة الاحتباس الحراري التي تملؤها موتاً وجوعاً ودماراً، وحياة الأرض بعد موتها بازدهار حضارة كونية وذلك في يوم قال عنه النبيّ المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّي يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(1).

وهذا المعني تؤكّده روايات أخري، كما في رواية المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (الزمر: 69)، قال: (ربّ الأرض يعني إمام الأرض)، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: (إذن

ص: 124


1- الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.

يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام)(1), المقصود به أنَّ القائم (عليه السلام) مظهر للربّ لأنَّه يقود الأرض فهو مظهر لربوبية الله في الأرض، هذا معني (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي بنور قائم الأرض، قائم آل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، وورود الآية في سياق أشراط الساعة لا ينافي ذلك، فإنَّ من أشراطها إشراقها بنور دولة المهدي (عليه السلام).

فالنتيجة: إنَّ الآية تدلُّ علي أنَّ هناك حياة حضارية ستقوم علي الأرض في يوم ظهوره (عليه السلام)، والحديث عنه يتمّ عبر محاور ثلاثة:

المحور الأوّل: الحضارة الكونية هدف الوجود الإنساني:

اشارة

إنَّ الهدف من الوجود الإنساني علي الأرض هو الحضارة الكونية, فليس الهدف أن نقيم حضارة أرضية إذ لا قيمة لها بالنسبة إلي الكون كلّه، والحضارة الكونية يعني سيطرة الإنسان ونفوذه علي الفضاء اللامتناهي بذرّاته، بمجرّاته، بكنوزه، بطاقاته، بمعادنه، فالهدف هو الحضارة الكونية, والدليل عليه عقلي ونقلي.

الدليل العقلي المدعم بالنقل:

لا إشكال أنَّ هذا الكون يعجُّ بالطاقات، فالأرض كما يصرّح علماء الطبيعة ما زالت بكراً بمعني أنَّ الأرض هذا الكوكب الصغير إلي الآن لم تكتشف كلّ طاقاته، فكيف بما يعادلها من ملايين الكواكب، والكون ما زال بكراً، ما زال فيه طاقات وكنوز تسبح في هذا الفضاء اللامتناهي لم يكتشفها الإنسان بعد، فالإنسان ما زال في أوّل الطريق، وحينئذٍ يأتي السؤال: ما هو الهدف من خلق هذه النجوم والمجرّات والطاقات؟ هل خلقها الله تعالي بدون هدف أم

ص: 125


1- تفسير القمي 2: 253.

خلقها بهدف؟ إن قلنا بأنَّ الله خلق هذا الكون بطاقاته وخيراته بلا هدف فهذا يعني أنَّ الخلق كان عبثاً، والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالي، وقد أكَّد القرآن علي هذا بقوله تعالي: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (الأنبياء: 16 و17)، وقال في آية أخري: (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الدخان: 38 و39)، إذن الخلق بهدف، فما هو الهدف؟

إنَّ الهدف هو استثمار الإنسان، لأنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر علي استثمار الكون، واكتشاف كنوز الكون وطاقاته، لأنَّه هو الذي يملك عقل الاكتشاف، قال تعالي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70)، فالهدف من خلق الوجود كلّه أن يصل الإنسان إلي استثمار الكون كلّه، وهذه ما نسمّيه ب- (الحضارة الكونية)، وإلاَّ لكان خلق الكون عبثاً، وهذا ما تؤكّده الآيات الشريفة، قال تعالي: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا)، والنفوذ بمعني السيطرة علي السماء والأرض، (لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ) (الرحمن: 33)، ومعناه متي ملكتم السلطان سيطرتم علي الكون. وقال تعالي: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمانَةَ عَلَي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِْنْسانُ) (الأحزاب: 72)، والأمانة في بعض التفاسير يراد بها ولاية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)، ويمكن أن يراد بها استثمار الكون).

ص: 126


1- عن إسحاق بن عمّار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمانَةَ عَلَي السَّماواتِ وَالأَرْضِ ...) الآية، قال: (هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)). (الكافي 1: 413/ ح 2).

علي ضوء ولاية الإمام علي (عليه السلام) لأنَّه الذي لا يقدر عليه أحد إلاَّ الإنسان. وإنَّما ذكر اسم الأرض في قوله تبارك وتعالي: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، باعتبارها موقع الخليفة لا موقع الخلافة وفرق بينهما, فإنَّ مكان الخليفة يعني مقرّه وهو الأرض، لكن مكان الخلافة هو الكون كلّه، ولا يكون الإنسان خليفة عن ربّه في هذا الكون إلاَّ إذا سيطر علي الكون كلّه، هذا هو الدليل العقلي المدعم بالنقل لإثبات أنَّ هدف الوجود الإنساني هو إقامة الحضارة الكونية.

الدليل النقلي:

وهذا الدليل يتألف من مقدّمتين:

المقدّمة الأولي: الكون أسرة واحدة:

ظاهر الآيات القرآنية أنَّ الكون أسرة واحدة، بمعني أنَّ كلّ جزء في هذا الكون مؤثّر ومتأثّر، فلا يوجد جزء ينفصل عن جزء، مثلاً: عندما نقتلع الأرض ونخرجها من الكون يختلُّ توازن الكون، وكذلك لو نخرج الشمس أو القمر, فكلّ جزء مرتبط بالآخر وهو مؤثّر ومتأثّر، قال تعالي: (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40)، وهكذا قوله تعالي: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (لقمان: 20)، ما معني أنَّ الله سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض؟

يعني أنَّ هذه النجوم البعيدة التي يحتاج الوصول إليها إلي أربعمائة سنة ضوئية سخّرت لنا أيضاً، فهي تؤثّر علي حياتنا شئنا أم أبينا، فنحن نتأثَّر بكلّ جرم، بكلّ كوكب، بكلّ مقطوعة في السماء.

وقال تعالي في آية ثانية: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ

ص: 127

لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (إبراهيم: 33)، وقال تعالي في آية ثالثة: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) (الأعراف: 54)، وقال تعالي في آية رابعة: (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية: 13).

إذن الكون أسرة واحدة، فكما أنَّ ضوء الشمس يؤثّر علي الكائنات الحيّة في الأرض، وضوء القمر أيضاً يؤثّر علي النباتات، فهو يؤثّر علي مجري ماء البحر ذهاباً وإياباً، فإنَّ كلّ شيء يؤثّر علي الإنسان حتَّي منازل القمر التي تسمّي الأبراج، فإنَّها تؤثّر تأثيراً اقتضائياً يعني ليس علي نحو العلّية التامّة.

وقد مرَّ ذكر قانون الجذب في علم البرمجة العصبية(1)، وهذا لا يعني أنَّنا نقبل هذا القانون كاملاً، بل نقبله في إطار أنَّه يبعث التفاؤل للإنسان ويزرع الأمل له، ولكن لا نقبل كلّ معلومات هذا قانون، فمن معلوماته أنَّه لا يوجد شيء اسمه قدر، بل الإنسان هو الذي يصنع القدر، لكن هذا غير صحيح، لأنَّ القدر علي نوعين: حتمي وغير حتمي.

فقد يُولد إنسان وهو مصاب بالسل، وإنسان يُولد من أب فلاني واُمّ فلانية، ويحصل زلزال في الأرض فيموت إنسان، هذا قدر حتمي لا يستطيع أن يغيّره، وهناك قسم من القدر ليس حتمياً وإنَّما هو اقتضائي، مثل دراسة الطبّ أو دراسة الهندسة أو الزواج من فلان أو فلانة.

إذن تأثير الأبراج علي مسيرة الإنسان من القدر غير الحتمي، فهو تأثير اقتضائي وليس علّة تامّة، فبإمكان الإنسان أن يتحرَّر من هذا التأثير إذا امتلك إرادة التحرّر, والمهمّ من حديثنا أنَّ الكون كلّه أسرة واحدة مرتبط بعضه ببعض.ة.

ص: 128


1- راجع المحور الأوّل من المحاضرة الرابعة.
المقدّمة الثانية: ما هو المطلوب من الإنسان؟

اتَّضح أنَّ الكون أسرة واحدة فكلّ يؤثّر في الآخر، ولكن المطلوب منّا أن نفقه العلاقات الكونية، فكما أنَّ المطلوب من الإنسان أن يصلّي ويصوم فإنَّ المطلوب منه أن يتعرَّف علي الكون والعلاقات الكونية.

قال تعالي: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (النور: 41)، وقال في آية أخري: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة: 1)، وقال في آية ثالثة: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء: 44)، وهذه الآية لها مدلولان، مدلول مطابقي وهو أنَّ قدرة الله وقيمومته نافذة في الأشياء وكلّ شيء يسبّح له, ومدلول التزامي وهو أنَّ علي الإنسان أن يفقه التسبيح (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) يعني عليكم أن تفقهوا.

ولا يمكن لنا أن نفقه تسبيح الكائنات إلاَّ إذا عرفنا العلاقات بين الكائنات، ولا يمكن ذلك إلاَّ إذا أقمنا الحضارة الكونية، فالإنسان إذا أقام الحضارة الكونية اكتشف أسرار الكون، وإذا اكتشفها عرف العلاقات بين الكائنات، وإذا عرف العلاقة فقه التسبيح، إذن هذه الآيات تدلّنا علي ضرورة إقامة الحضارة الكونية، لذلك قال تبارك وتعالي: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلي جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (آل عمران: 191).

وبما مضي أثبتنا أنَّ الهدف من وجود المجتمع الإنساني علي الأرض إقامة الحضارة الكونية، يعني اكتشاف أسرار الكون.

ص: 129

المحور الثاني: دولة الإمام المهدي (عليه السلام) والحضارة الكونية:

اشارة

إنَّ دولة المهدي (عليه السلام) هي رمز الحضارة الكونية، هي الحضارة التي ينشدها الإنسان منذ آلاف السنين، وإثبات هذا المعني يحتاج إلي التعرّض إلي أمرين:

الأمر الأوّل: دولة المهدي (عليه السلام) أرقي حضارة تكنولوجية:
اشارة

ليست دولته (عليه السلام) دولة السيف والرمح والفلاحة والغوص، فالمهدي لا يُرجع الناس إلي الوراء، بل دولته هي أرقي حضارة تكنولوجية عرفها الإنسان علي الأرض, وذلك لأنَّ الحضارة الكونية أعلي كمالاً روحياً يصل إليه الإنسان، لأنَّ اكتشاف أسرار الكون سيساهم في ترقّي معرفة المرء بربّه، وحيث إنَّ ذلك كمال يمكن أن يصل إليه الإنسان، فمقتضي لطف الله عز وجل بعبده إيصاله لكلّ كمال يمكنه الوصول إليه، فإنَّ المانع منه إمَّا الجهل وهو عالم بكلّ شيء أو العجز وهو قادر علي كلّ شيء أو البخل وهو الجواد المطلق، ويستدلُّ عليه بوجهين أيضاً:

الوجه الأوّل: ما يستفاد من القرآن الكريم:

في عقيدتنا يوم المهدي (عليه السلام) هو اليوم الذي وعد الله به أهل الأرض، قال تعالي: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، يعني الوارثين للأرض، بحيث تكون كنوزها وطاقاتها بيد الإنسان، وهناك وعدٌ وَعَدَ الله فيه المؤمنين أنَّهم الوارثون والعاقبة لهم (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وهذا الوعد يعتبره الله نعمة يمتنُّ بها علي عباده، لأنَّ يوم المهدي (عليه السلام) يوم الكمال الحضاري والكمال الروحي، فإنَّ امتنان الله علي عباده بذلك اليوم واعتباره نعمة والوعد به دليل علي

ص: 130

أنَّ يوم المهدي (عليه السلام) كمال حضاري وروحي لا يرقي إليه كمال، قال تعالي: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ) (النور: 55).

وقال تعالي: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فقد يقال بأنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) رحمة للإنسان، لكن الله تعالي يقول: (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)، يعني الجماد والنبات والحيوان والإنسان، فكيف يكون النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين؟ وما هو معناه؟

وإلي الآن لم تتحقَّق هذه الرحمة، لأنَّ الرحمة كما يقول علماء العرفان في فعلية كمال كلّ شيء، فإذا بلغ كلّ شيء كماله نال الرحمة، وإذا لم يبلغ كماله لم ينل الرحمة, يعني أنَّ البذرة بعد زرعها تصبح شجرة فقد نالت الرحمة لأنَّها بلغت كمالها، أمَّا إذا زُرعت وفسدت وماتت لم تنل الرحمة، لأنَّها لم تبلغ كمالها، ومقتضي ذلك أنَّ قوله تعالي: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) يعني هناك يوم ستنال الرحمة فيه كلّ العالمين بجمادها ونباتها وحيوانها وإنسانها، وهو يوم يبلغ العالمون كلّهم كمالهم، فإذا بلغوا كمالهم نالوا الرحمة، وذلك يوم إقامة الحضارة الكونية في هذا الوجود علي يد المهدي المنتظر الذي هو امتداد لنبوّة محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) ورسالته.

الوجه الثاني: الدليل النقلي من الروايات:

الرواية الأولي: عن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (العلم سبعة وعشرون جزءاً فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتَّي اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً فبثّها في الناس، وضمَّ إليها الجزءين، حتَّي يبثّها سبعة وعشرين جزءاً)(1).

ص: 131


1- الخرائج والجرائح 2: 841/ باب 16/ ح 59.

الرواية الثانية: روي أنَّ له (عليه السلام) علوماً مذخورة تحت بلاطة في أهرام مصر لا يصل إليها أحد قبله(1)، بمعني أنَّ الإمام بواسطة اكتشافات جيولوجية معيَّنة سيكتشف كثيراً من الكنوز تحت أهرام مصر لم يصل إليها أحد قبله.

الرواية الثالثة: عن أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتَّي لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلّمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه)(2)، بمعني أنَّ وسائل الاتّصالات تتطوَّر بشكل أنَّ الناس في كلّ وقت تري القائم (عليه السلام) وتسمع صوته.

الرواية الرابعة: عن سورة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (إنَّ ذا القرنين قد خيّر السحابين فاختار الذلول وذخر لصاحبكم الصعب)، قال: قلت: وما الصعب؟ قال: (ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق فصاحبكم يركبه، أمَا إنَّه سيركب السحاب ويرقي في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع خمس عوامر واثنان خرابان)(3).

إذن سيكون هناك سيطرة علي الفضاء، كما ذكرت الآية: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ) (الرحمن: 33)، وسوف يتحقَّق هذا النفوذ علي الفضاء كلّه تحت يده المباركة وتحت سلطانه ودولته.

هذا الموضوع لا يختصّ بكتبنا فقد ذكره أهل السُنّة أيضاً، ففي مستدرك الحاكم عن ابن عبّاس، قال: ... وأمَّا المهدي الذي يملأ الأرض3.

ص: 132


1- عصر الظهور: 328.
2- الكافي 8 : 241/ ح 329.
3- بصائر الدرجات: 429/ باب 15/ ح 3.

قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وتأمن البهائم والسباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوان من الذهب والفضّة)(1).

وفي رواية أخري عنه (صلي الله عليه وآله وسلم)، قال: (يكون في آخر الزمان خليفة يعطي المال ولا يعدّه عدّاً)(2).

وفي رواية ثالثة قال (صلي الله عليه وآله وسلم): (أبشّركم بالمهدي يبعث في أمّتي علي اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض ويملأ الله قلوب أمّة محمّد غني فلا يحتاج أحد إلي أحد)(3).

إذن هذه كلّها روايات تتحدَّث عن حضارة كونية والسيطرة علي الوجود كلّه واكتشاف أسرار الكون وبركاته ومعادنه، لا أنَّها تتحدَّث عن حياة بدائية، قائمة علي فلاحة ورمح وسيف، بالنتيجة: يوم المهدي (عليه السلام) يوم الحضارة الكونية، ودولة المهدي (عليه السلام) رمز الحضارة الكونية لا الحضارة الأرضية.

الأمر الثاني: بأيّ شيء تتحقَّق الحضارة الكونية؟
اشارة

إنَّ الحضارة الكونية لكي تتحقَّق تحتاج إلي عنصرين أساسيين:

العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار:

لا حضارة بدون علم ولا علم من دون اكتشاف الأسرار ولذلك يقول الفلاسفة: الولاية التكوينية فرع العلم بالسرّ، فمن اكتشف السرّ تحقَّقت عنده الولاية التكوينية.

ص: 133


1- مستدرك الحاكم 4: 514.
2- مسند أحمد 3: 5؛ مستدرك الحاكم 4: 454.
3- مسند أحمد 3: 52.

وعلم الطبّ الحديث وصل إلي نظرية لم تصل إلي حدّ التطبيق ولكنَّها موجودة، وهي أنَّ الطبيب مثلاً يستطيع أن يتصرَّف في الجنين وهو في أوّل أيّامه فيغيّر شعر رأسه ولون جسمه ودم بدنه وبعض صفاته، وهذه السيطرة تتمّ للطبيب إذا اكتشف علم الجينوم البشري.

وأيضاً السيطرة علي الكون تتوقَّف علي اكتشاف أسراره ومفاتيحه، وهذا ما أخبر عنه القرآن بعدّة آيات:

هناك آية عبَّرت عنه بعلم الأسماء، قال تعالي: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ كُلَّها) (البقرة: 31)، لماذا جعل الله آدم خليفة ولم يجعل الملائكة خليفة؟ لأنَّ آدم أعطي علم الأسماء لذلك أعطي الخلافة، وأعطي الأسرار لذلك أعطي الخلافة، (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ) بناءاً علي أنَّ المراد بالأسماء أسرار الخليقة.

وهناك آية أخري عبَّرت عنه بالسلطان، قال تعالي: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ) (الرحمن: 33)، والسلطان يعني اكتشاف أسرار الكون.

وآية ثالثة عبَّرت عنه بعلم الكتاب, قال تعالي: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (ص: 35)، ما هو ملك سليمان؟ إنَّ ملك سليمان حضارة حصل عليها نتيجة اكتشاف الأسرار، قال تعالي: (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ * وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (ص: 36 و37)، لأنَّ عنده علم أسرار مسار الرياح لذلك تحكَّم في مسيرة الريح.

وقال سليمان لخواصّه: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل: 38)، المعروف أنَّ عرش بلقيس كان في اليمن، فقال عفريت من الجنّ: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل: 39 و40)،

ص: 134

حيث أستطاع آصف بن برخيا أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلي بيت المقدس في لحظة واحدة، وإلي الآن لا توجود هناك وسيلة نقل تنقل عرشاً مبنياً من الذهب والفضّة في لحظة واحدة من اليمن إلي بيت المقدس، لكن سوف تتحقَّق عند اليوم الموعود. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أي عنده علم من الكتاب التكويني وليس الكتاب التدويني، يعني علم من أسرار الكون، فكيف بمن عنده علم الكتاب كلّه؟

يقول القرآن الكريم: (قُلْ كَفي بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (الرعد: 43)، أي علم كتاب الكون، قال تعالي: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38)، أي علم الكتاب كلّه، قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): (ذاك أخي علي بن أبي طالب)(1)، و لهذا حتَّي القائم المنتظر رغم علمه وأنَّه يقيم الدولة كلّها إنَّما يأخذ العلم من علي ابن أبي طالب، كلّ الأئمّة لا تصل إليهم معلومة صغيرة أو كبيرة إلاَّ عن طريق علي بن أبي طالب وذلك قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)(2).

إنَّما المصطفي مدينة علم *** وهو الباب من أتاه أتاها

فالعنصر الأوّل هو اكتشاف الأسرار.

العنصر الثاني: خروج العلوم من النظريات إلي الحقائق:

لا يتكامل علم إلاَّ إذا خرج من النظريات إلي الحقائق، فإنَّ علم الطبّ مثلاً ما زال في إطار نظريات، وإذا وصل إلي الحقائق أصبح علماً كاملاً، وعلم الذرة أيضاً ما زال في إطار نظريات وإذا خرج ووصل إلي

ص: 135


1- أمالي الصدوق: 659/ ح (892/3).
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 210 و211/ ح 1؛ كنز العمّال 13: 148/ ح 36463.

مستوي الحقائق أصبح علماً كاملاً، وسيأتي يوم تخرج العلوم الإنسانية كلّها من إطار النظريات إلي إطار الحقائق إذا وجد السلطان ومنبع العلم الحقيقي وهو اليوم الموعود علي يد صاحب العصر والزمان (عليه السلام).

وقد يسأل سائل ويقول: هل أنَّ صاحب الزمان (عليه السلام) إذا خرج يلغي الحضارة ويؤسّس حضارة من جديد أو أنَّه يكمل الحضارة؟ وهل أنَّ حضارته تكميل لمسيرة الإنسانية أو تعطيل للمسيرة وإنشاء حضارة جديدة؟ والصحيح أنَّ يومه تكميل وليس إلغاء للحضارة الإنسانية، وذلك لوجود الفرق بين التعلّم والتكامل, والتكامل بالعلم فرع الحركة الذاتية ولا يأتي دفعة واحدة.

مثال ذلك: الطالب الذي يدرس علم الطبّ في سبع سنوات يقال عنه بعد الانتهاء منها: تعلَّم الطبّ، لكن لم يتكامل بعد، فهناك فرق بين مرحلة التعلّم ومرحلة التكامل، إذ بعد السبع السنوات يدخل سنوات التطبيق وهنا تبدأ الحركة لأجل أنَّه يعطي حركة ذاتية فيكتسب التكامل بالعلم وينتقل من مرحلة التعلّم إلي مرحلة التكامل، فإنَّ مرحلة التعلّم لا تتوقَّف علي الحركة الذاتية وهي حركة العطاء والتطبيق بخلاف مرحلة التكامل، فالتكامل بالعلم فرع الحركة الذاتية.

لذلك حتَّي اللذّة فإنَّ علماء العرفان يقسّمونها إلي قسمين:

1 _ لذّة حسّية جسدية: مثل لذّة الإنسان بشرب العصير اللذيذ.

2 _ لذّة عقلية: فإنَّ الإنسان إذا اكتشف المعلومة بنفسه من دون أن يُعلَّم يحصل علي لذّة عقلية، فاللذّة العقلية في أن تكون عندك حركة ذاتية وتكتشف المعلومة بنفسك.

من هنا لو أنَّ المهدي (عليه السلام) ألغي الحضارة البشرية وأسَّس حضارة من جديد لكانت دولة عقيمة، لأنَّ الدولة سيكون دورها دور التعليم لا

ص: 136

دور التكامل، فالبشرية مرَّت بحركة علمية وعقلية علي مدي آلاف السنين وحصلت علي تراكمية ثقافية فإذا أقبل المهدي (عليه السلام) واستغلَّ هذه الحركة الحضارية في التكميل واستثمرها في العطاء حينئذٍ ستتحقَّق مرحلة التكامل التي هي أهمّ من مرحلة التعلّم.

وهذا المعني موجود في رواياتنا، فعن أبي خالد الكابلي، عن زين العابدين (عليه السلام)، قال: (... يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالي أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة)(1)، وفي رواية أخري عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (إذا قام قائمنا (عليه السلام) وضع يده علي رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت أحلامهم)(2).

المحور الثالث: يوم المهدي يوم التزاوج بين العلم والعبادة:

إنَّ الحضارة الغربية فصلت العلم عن الدين، وفصلت التكنولوجيا عن العبادة، أمَّا الحضارة الكونية المهدوية فهي حضارة التزاوج بين العلم وبين العبادة، قد يقول قائل: إنَّ الهدف من وجود الإنسان هو العبادة، لأنَّ الله تعالي يقول: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وليس كما ذُكر في بداية البحث من أنَّ الهدف هو إقامة الحضارة.

والجواب: لا فرق في ذلك فالحضارة هي العبادة، لأنَّ المقصود بالعبادة في الآية القرب من الله وليس المقصود الصلاة والصوم فقط، إذ هي طقوس عبادية وليست هي العبادة، فهي طقوس توصل الإنسان إلي

ص: 137


1- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
2- كمال الدين: 675/ ح 30.

القرب الروحي من الله، العبادة هي القرب الروحي، والقرب الروحي من مراتبه اكتشاف أسرار الكون المساوق لمعرفة الله عز وجل، وأعلي مقام من مقاماته يحتاج إلي عنصرين: علم وعبادة.

فإنَّ العلم وحده غير كافٍ فيه من دون العبادة، وكذا العبادة وحدها غير كافية فيه من دون العلم، قال تعالي: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (العنكبوت: 69)، وقال تعالي: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّي يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، ووصول الإنسان إلي مرحلة اليقين، إلي مرحلة القرب الروحي، يحتاج إلي علم وعبادة، لأجل ذلك في دولة المهدي (عليه السلام) يتزاوج العنصران، فمن جهة يكتشف الإنسان أسرار الكون كلّه ومن جهة أخري هو في دولة إسلاميّة تربّيه علي اللقاء مع الله في كلّ حين، وتربّيه علي حضور الله في كلّ آنٍ، فسيلتقي العلم والعبادة في دولته المباركة، وستكون إقامة الحضارة الكونية بنفسها عبادة، والعبادة بنفسها اكتشاف لأسرار الكون وطاقاته.

ولهذا من جمع العلم والعبادة فهو القريب إلي ربّه، وهذا يسمّي بالمصطلح العرفاني: صاحب البصيرة، قال تعالي: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَي اللَّهِ عَلي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108)، فالبصيرة هي العلم والعبادة، فإنَّ من كان عالماً وعابداً فهو صاحب بصيرة، فكيف إذا كان نافذ البصيرة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان) يعني كان إنساناً عالماً عابداً، (جاهد مع أبي عبد الله (عليه السلام) وأبلي بلاءً حسناً ومضي شهيداً)(1).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *6.

ص: 138


1- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: 176.

المحاضرة الثامنة: المهدي (عليه السلام) لطف الحياة

اشارة

(8/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(25/ 12/ 2009م)

ص: 139

ص: 140

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ هُديً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) (الأعراف: 52 و53)، إنَّ جميع المسلمين ينتظرون يوماً يتحقَّق فيه تأويل القرآن، فإلي الآن لم يتحقَّق تأويل القرآن كلّه، فكلّ المسلمين (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) أي يتوقَّعون يوماً يظهر فيه تأويل القرآن كلّه وتنكشف فيه حقائق القرآن.

وسيأتي يومٌ يتبيَّن فيه تأويل القرآن، وسيذعن الجميع برسالة السماء، (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فما هو يوم التأويل الذي ينتظره المسلمون؟

لم يحدّد كثير من المفسّرين يوم التأويل، ولكن الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) تفسّر ذلك، قال (عليه السلام): (ذلك في القائم (عليه السلام) ويوم القيامة)(1)، بمعني أنَّ تأويل القرآن يمرُّ بمرحلتين:

المرحلة الأولي: تأويل المضامين الدنيوية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند قيام المهدي (عليه السلام).

المرحة الثانية: تأويل المضامين الأخروية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند يوم القيامة.

وحديثنا انطلاقاً من الآية المباركة في محاور ثلاثة:6.

ص: 141


1- تفسير القمي 1: 235 و236.

المحور الأوّل: بيان حقيقة التأويل:

اشارة

إنَّ فهم القرآن يمرُّ بثلاث مراحل:

المرحلة الأولي: مرحلة الاستظهار:

وهي أنَّ القرآن خطاب عربي، فإذا عرض علي العرف العربي، فإنَّه يفهم من ظاهر الخطاب معنيً معيَّناً، لأنَّه من أهل اللغة، لغة القرآن، فهذا يسمّي مرحلة الاستظهار، ويمكن اقتناص ما هو الظاهر القرآني والخوض في هذه المرحلة لكلّ من له قدرة علي معرفة أدوات الاستظهار.

ولذلك اُمر كلّ مسلم بالتدبّر في القرآن، قال تعالي: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلي قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: 24)، وقال تعالي: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82).

فإنَّ التدبّر في القرآن فرع الاستظهار من الخطاب القرآني ويتوقَّف عليه، والاستظهار يعني الرجوع في فهم الخطاب القرآني إلي أهل اللغة والعرف العربي والأدوات التي من خلالها يقتنص ما يفهمه العرف العربي.

مثلاً: قوله تعالي: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: 275)، فالعرف العربي يفهم منه أنَّ الربا محرَّم مطلقاً في كلّ زمان وفي كلّ مجتمع، لأنَّ الآية مطلقة، والعرف العربي يأخذ بإطلاق الخطاب ويبني عليه.

المرحلة الثانية: مرحلة التفسير:

وهي أرقي من مرحلة الاستظهار، وتعني تحديد المراد الإلهي من الآية، وهي مرحلة صعبة، إذ من الجائز أن أقول: ما أفهمه من القرآن هو هذا المعني ويسمّي استظهاراً، ولكن لا يجوز أن أقول: ما يريده الله تعالي من الآية هو ما فهمته لأنَّها مرحلة تفسير.

ص: 142

وقد ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (من فسَّر القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار)(1)، فليست لنا مرحلة التفسير لأنَّها تعني تحديد المراد الإلهي الواقعي من الآية، ويقول أهل الفنّ: التفسير كشف القناع عن الآية المباركة، وهذا يتوقَّف علي مراجعة النصوص الواردة في تفسير الآية المباركة.

مثلاً: قوله تعالي: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 86)، إذا اعتمدنا في تحديدها علي عقولنا لا نستطيع تحديد المراد الإلهي في الآية، لكن عند الرجوع للرواية الواضحة الواردة عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة نستطيع فهم المراد منها، قال (عليه السلام): (... فإذا خرج أسند ظهره إلي الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وأوّل ما ينطق به هذه الآية: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، ثمّ يقول: أنا بقية الله في أرضه وخليفته وحجته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلّم إلاَّ قال: السلام عليك يا بقيّة الله)(2).

المرحلة الثالثة: مرحلة التأويل:

وهي أرقي من مرحلة التفسير، وتعني إرجاع الشيء إلي مبادئه، فكلّ ظاهرة اجتماعية عندما نحلّلها يسمّي هذا التحليل تأويلاً، مثلاً: ظاهرة القنوات الشيعية التي بلغت من الكثرة حدَّاً كبيراً، عندما تحلّل ويرجع إلي مبادئ هذه الظاهرة، يسمّي هذا التحليل بعملية التأويل.

وهل القرآن له مبادئ حتَّي نرجعه إلي مبادئه ونعتبره عملية تأويل؟ نعم، القرآن أيضاً له مبادئ لأنَّه مرَّ بمرحلتين: الوجود الإجمالي والوجود التفصيلي، والآية نفسها تقول: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (هود: 1)، ممَّا يعني أنَّ القرآن مرَّ بمرحلتين: مرحلة إحكام، بمعني أنَّه

ص: 143


1- عوالي اللئالي 4: 104/ ح 154؛ تفسير الرازي 7: 191.
2- كمال الدين: 331/ باب 32/ ح 16.

كان وجوداً محكماً ثمّ صار وجوداً مفصّلاً، (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فالإجمالي هو مرحلة اُمّ الكتاب، قال تعالي: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف: 4)، وآية أخري عبَّرت عنها باللوح المحفوظ، قال تعالي: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 21 و22)، وآية ثالثة عبَّرت عنها بالكتاب المكنون، قال تعالي: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 77 و78)، فهذه كلّها عبارة عن الوجود الإجمالي للقرآن قبل نزوله إلي الوجود التفصيلي علي قلب النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم).

وعندما كان القرآن في اُمّ الكتاب قبل أن ينزَّل مفصَّلاً كان مجموعة مبادئ، ولم يكن آيات مفصَّلة تتحدَّث عن الميراث أو السماء أو الآخرة أو الفلك، بل كان مجموعة من المبادئ والقواعد، ثمّ تحوَّل القرآن إلي سور وآيات ومعاني ومضامين مفصَّلة، ونزل علي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) كذلك، قال تعالي: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النَّاسِ عَلي مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء: 106).

إذن، اتَّضحت لنا عملية التأويل، وهي إرجاع الآيات القرآنية إلي مبادئها الموجودة في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، وفي اُمّ الكتاب، وهذا يعني أنَّ أيّ آية مشكلة، مبهمة، متشابهة، فمن أجل تأويلها لا بدَّ لنا من إرجاعها إلي مبادئ الكتاب في اللوح المحفوظ.

لذلك عملية التأويل غير متيسّرة وتختصّ بفئة معيَّنة وهي الفئة المطَّلعة علي الوجود الإجمالي للقرآن في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون وفي اُمّ الكتاب، ولذلك القرآن ذكر لنا عدّة عبارات، مثلاً: قال تعالي: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (فاطر: 32)، أي لم نعطِ تأويله لكلّ أحد، وقال في آية أخري: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ

ص: 144

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7)، وقال في آية ثالثة: (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت: 49).

فمن هي هذه الفئة التي وصفتها الآيات ب- (أُوتُوا الْعِلْمَ)، و(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، و(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)؟ هناك آية توضّح لنا ذلك وتقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 _ 79)، ومعني (لا يَمَسُّهُ) لا ينال ذلك الكتاب المكنون، وبما أنَّ الضمير يعود إلي أقرب الموارد، فالمراد أنَّه لا يمسّ الكتاب المكنون، والمسّ ليس بمعني اللمس، يقول القرآن الكريم: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (ص: 41)، و(مَسَّنِيَ) بمعني نالني، فلا ينال الكتاب المكنون إلاَّ المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟

إنَّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، قال تعالي: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، إذن الفئة القادرة علي تأويل القرآن وتفسيره هم أهل البيت (عليهم السلام) الذين طهَّرهم الله طهارة عملية وعلمية.

والطهارة العملية بمعني أنَّهم لا يرتكبون ذنباً ولا خطأ، والطهارة العلمية بمعني ليس في علومهم علم أرضي، بل كلّ علومهم لدنّية من السماء لم تدنس بالعلوم الأرضية، ولأجل هذه الطهارة العلمية والعملية ملكوا الأهلية لتأويل القرآن الكريم.

ولذلك إذا لم نرجع لأهل البيت (عليهم السلام) العارفين بالتأويل نجد أنَّ بعض الآيات القرآنية لا يستطيع أحد تفسيرها، مثلاً: قوله تعالي: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر: 21)، فهل معناها بأن الجبل يتصدَّع إذا نزل عليه القرآن، إنَّ هذه تحتاج إلي تأويل يرجع فيه إلي أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 145

ومثلاً: قوله تعالي: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) (الرعد: 41)، كيف تنقص الأرض!؟ وهل يقول علماء الفلك بأنَّ الأرض في حركتها تنقص!؟ نعم إنَّ عوامل التعرية التي تحفُّ بالأرض تنقص من قشرتها، ولكن الأرض لا تنقص، فما هو معني الآية؟ إنَّنا لا نستطيع تأويل الآية لولا الرجوع لأهل التأويل وهم أهل بيت النبوّة (عليهم السلام).

وما معني قوله تعالي: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُديً) (النحل: 89)؟ مع أنَّ كثيراً من الأشياء غير موجودة بالقرآن، فما هو معني (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)؟

إذن هذا النوع من الآيات لا يستطيع أحد أن يصل إلي معناها وتأويلها إلاَّ بالرجوع إلي الثقل الذي أودعه النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) مع القرآن، فقال: (إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّ اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتَّي يردا عليَّ الحوض...)(1)، وآخرهم المهدي المنتظر قائم أهل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم).

ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): (وإنَّما سُمّي المهدي مهدياً لأنَّه يهدي إلي أمر خفيّ)(2)، بمعني أنَّه علي يده يظهر تأويل القرآن، وفي رواية أخري في تفسير قوله تعالي: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَي الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) (هود: 110)، قال (عليه السلام): (اختلفوا كما اختلفت هذه6.

ص: 146


1- الكافي 2: 415/ باب أدني ما يكون به العبد مؤمناً.../ ح 1.
2- الغيبة للنعماني: 243/ باب 13/ ح 26.

الأمّة في الكتاب وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به حتَّي ينكره ناس كثير فيقدمهم فيضرب أعناقهم)(1).

المحور الثاني: إرادة الله:

اشارة

لا يوجد شيء في الكون إلاَّ وهو خاضع لإرادة الله، قال تعالي: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ) (البقرة: 255).

وإرادة الله في القرآن تطلق علي معانٍ ثلاثة:

المعني الأوّل: إفاضة الوجود:

قال تعالي: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، الإرادة هنا بمعني إفاضة الوجود. وفي بعض الأحاديث: (أنَّ إرادته فعله)(2).

المعني الثاني: حبس الفيض:

قال تعالي: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (الأنعام: 125)، و(مَنْ يُرِدِ) في الجملة الأولي غير (مَنْ يُرِدْ) في الجملة الثانية، فإنَّ

ص: 147


1- الكافي 8 : 287/ باب إذا قام القائم (عليه السلام) ذهبت دولة الباطل/ ح 432.
2- عن صفوان بن يحيي، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، قال: فقال: (الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأمَّا من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنَّه لا يروي ولا يهم ولا يتفكَّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل، لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكير ولا كيف لذلك، كما أنَّه لا كيف له). (الكافي 1: 109 و110/ باب الإرادة أنَّها من صفات الفعل.../ ح 3).

الإرادة في الجملة الأولي: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) بمعني إفاضة الوجود، والإرادة في الجملة الثانية: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) بمعني حبس فيض الهداية عنه، فذاك أعطاه فيض الهداية وهذا حبس عنه فيض الهداية، فالإرادة هنا بمعني حبس الفيض.

المعني الثالث: إعداد الأسباب:

قال تعالي: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (الإسراء: 16)، والإرادة هنا بمعني إعداد الأسباب، فإذا اجتمعت أسباب الهلاك والدمار أذن الله في حصول المسبَّب ألا وهو العذاب الشامل.

المحور الثالث: فلسفة طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام):

اشارة

وهنا نسأل سؤالاً هو لبُّ الموضوع، وهو أنَّ طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام) بأي معني من معاني الإرادة؟ فإنّا لا نتكلَّم عن الغيبة بشكل خاصّ، بل نتحدَّث عن فلسفة طول العمر سواء أكان غائباً أم حاضراً، فهل أنَّ طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام) جاء لعامل أرضي بشري بمعني أنَّه وقع اتّفاقاً من دون أهداف منشودة أو جاء لتخطيط سماوي هادف؟ وبعبارة أخري هل أنَّ الإمام ولد في ذلك التاريخ وبقي هذا العمر الطويل يقي نفسه من الأمراض استناداً لأسباب طبيعية محضة لا دخل للتخطيط السماوي فيها، أو أنَّ القضية تخضع للإرادة الإلهية والتخطيط السماوي؟

والأقرب هو الثاني، أي إنَّ الله أراد بتخطيط سماوي ولأجل أهداف معيَّنة أن يعيش الإمام هذا العمر الطويل، فإرادة الله هنا بالمعني

ص: 148

الثالث أي إعداد الأسباب لبقاء عمره الطويل التي منها وقاية الإمام (عليه السلام) نفسه من الأمراض لعلمه بأسبابها الطبيعية.

ما هي فلسفة بقاء الإمام (عليه السلام) هذا العمر الطويل؟ وهل لبقائه هدف أم أنَّه من باب الصدفة؟ ما هو الهدف من بقائه؟

إنَّ بقاء الإمام هذا العمر الطويل يعود لثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: الشهادة الحسّية:

اشارة

ولتوضيح هذا الوجه نذكر أمرين:

الأمر الأوّل:

هناك فرق في علم القانون بين الشهادة العلمية والشهادة الحسّية، فإذا تحرَّك رجل حركة مريبة فتارة تراه بعينك يرتكب جريمة فهذه شهادة حسّية لأنَّك رأيته بعينك، وتارة لم ترَه بعينك ولكن بقرائن حافّة به استنتجت نتيجة قطعية بأنَّه يرتكب جريمة، وهذا الاستنتاج شهادة علمية، وليست شهادة حسّية، لأنَّك لم ترَه بعينك.

وفي علم القانون لا اعتراف بالشهادة العلمية حتَّي ولو كنت قاطعاً مائة بالمائة، فالمعترف به هو الشهادة الحسّية فقط، لأنَّها هي الشهادة القاطعة للعذر والاحتجاج.

لذلك نري الإنسان حتَّي في يوم القيامة يحاول الهروب، إذ يؤتي المذنب صحيفته فيري كتابه، ويقال له: هذا عملك لكنَّه لا يقبل، قال تعالي: (وَكانَ الإِْنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: 54)، ويقول القرآن الكريم: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (النحل: 111)، ومع أنَّ الملائكة تشهد، وكتاب عمله يشهد، مع ذلك يجادل الإنسان، فأيّ شيء يفحم الإنسان في يوم القيامة ويسكته؟ الجواب هو الشهادة الحسّية، قال

ص: 149

تعالي: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلي أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: 65)، وقال تعالي: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (فصّلت: 21)، فإذا قامت الشهادة الحسّية من الجوارح حينئذٍ يصمت الإنسان ويفحم ويسلّم بالأمر. إذن فالشهادة الحسّية هي ذات القيمة القانونية.

الأمر الثاني:

وضع الله في كلّ زمان شاهداً علي المجتمع يشهد علي أعماله ومظالمه شهادة حسّية، مثلاً: عيسي بن مريم (عليه السلام)، يقول القرآن الكريم عنه: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ)، شهيداً علي أعمالهم ومظالمهم، (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (المائدة: 117). ويقول القرآن في حقّ النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، فكان الرسول في حياته يشهد علي الأمّة شهادة حسّية وبعد وفاته يشهد عليهم شهادة علمية.

وكلّ زمن له إمام يشهد عليه، يقول القرآن الكريم: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: 71)، يؤتي بإمامهم لكي يشهد عليهم. هذا هو إمامكم الذي كان شاهداً حسّياً علي أعمالكم ومظالمكم.

إذن لكلّ جيل ولكلّ زمن حجّة وإمام يشهد علي أعمالهم شهادة حسّية، من أجل ذلك ولد الإمام المنتظر (عليه السلام) في موعده وبقي إلي أن يأذن له الله تعالي له بالظهور ليسجّل الشهادة الحسّية علي جميع الجرائم والمظالم الذي ارتكبت في حقّ الأمّة الإسلاميّة منذ يوم وفاة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) إلي يوم ظهوره، وهو أحد الشهود الحسّيين الذين يشهدون بهذه المظالم.

ص: 150

ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4)، قال (عليه السلام): (تلك ليلة القدر يكتب فيها وفد الحاجّ وما يكون فيها من طاعة أو معصية أو موت أو حياة ويحدث الله في الليل والنهار وما يشاء ثمّ يلقيه إلي صاحب الأرض)، قال الحرث بن المغيرة البصري، قلت: ومن صاحب الأرض؟ قال: (صاحبكم)(1)، كلّ ذلك تلقي إلي النبيّ ثمّ إلي الأئمّة حتَّي تنتهي إلي صاحب الزمان.

وهذا المعني هو الذي نقرأه في دعاء ليلة النصف من شعبان: (اللّهُمَّ بِحَقَّ لَيْلَتِنا وَمَوْلُودِها... سَيْفُ الله الَّذِي لا يَنْبُو وَنُورُهُ الَّذِي لا يَخْبُو وَذُو الحِلْمِ الَّذِي لا يَصْبُو مَدارُ الدَّهْر وَنَوامِيسُ العَصْر وَوُلاةُ الأمْر وَالمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَنَزَّلُ فِي لَيْلَةَ القَدْرِ)(2).

الوجه الثاني: التكامل اليقيني في المقام الروحي:

اشارة

تحدَّث الشهيد السعيد المفكّر الكبير الإمام السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه (بحث حول المهدي (عليه السلام)) عن بقاء الإمام هذا العمر الطويل وذكر عبارة أصبحت مثاراً للجدل ومضمونها أنَّ السرَّ في بقاء الإمام العمر الطويل أنَّ ضخامة الدور يقتضي الضخامة في الكفاءة، فأبقي الله الإمام هذا العمر الطويل لكي تكون معاصرته للحضارات المختلفة والدول المتباينة رصيداً نفسياً له يعدّه ويؤهّله للقيام بدوره وهو إقامة الدولة العادلة علي الأرض كلّها، وهذا المطلب أصبح مثاراً للتأمّل، لأنَّ الإمام منذ ولادته إمام يمتلك الطاقات والمواهب التي تؤهّله للقيام

ص: 151


1- بصائر الدرجات: 241/ باب ما يلقي إلي الأئمّة في ليلة القدر.../ ح 4.
2- مصباح المتهجّد: 842 و843/ الرقم (908/23).

بدوره، فجاهزيّته للقيام بدوره لا تحتاج إلي أن يعاصر الحضارات المختلفة والدول المتباينة حتَّي يكتسب منها رصيداً يؤهّله إلي القيام بدوره، إذن ما معني كلامه (قدس سره)؟

الجواب: من المحتمل جدَّاً أن يكون مقصوده توجيه بقاء الإمام (عليه السلام) العمر الطويل بالنسبة لمن لا يؤمن بالإمامة والأهلية الغيبية لشخصية الإمام (عليه السلام) كما هو ظاهر بعض عباراته، لذلك علَّل طول البقاء بكونه عاملاً مهمّاً في اكتساب الرصيد النفسي الذي يؤهّل الإمام (عليه السلام) للقيام بدوره القيادي.

كما يمكن لنا أن نوجّه كلامه (قدس سره) بالتكامل اليقيني في المقام الروحي، ومحصَّل الفكرة ما ذكره بعض الشعراء في الإمام علي (عليه السلام):

قد حباه بكلّ فضل عظيم *** وبمقدار ما حباه ابتلاه

فإنَّ مضمونه أنَّ هناك تعادلاً بين النعم والمواهب وبين المحن والابتلاء، فما يعطيه عز وجل من النعم والمقامات قد يكون جزاءاً لما امتحن به عبده من البلاء، وما يبتلي به الله المعصومين (عليهم السلام) قد يكون عوضاً وبدلاً عمَّا أفاض عليهم من النعم، فبمقدار ما اُعطي أمير المؤمنين (عليه السلام) من المقامات امتحن بمثلها من الابتلائات ليكون هذا بهذا، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الحجّة (عليه السلام) فإنَّه إنَّما اُعطي هذا العمر الطويل ليكون ابتلاءاً له بمقدار ما سيفاض عليه من المقامات عند خروجه، وبيان ذلك:

ما معني التكامل اليقيني في المقام الروحي؟

هنا أمران:

الأمر الأوّل:

عند الرجوع لتاريخ الأنبياء نجد أنَّ جميعهم قد مرّوا بفترات امتحان وابتلاء، مثلاً إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالي عنه: (وَإِذِ ابْتَلي إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ

ص: 152

قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، وقال تعالي في حقّ الأئمّة من بني إسرائيل: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة: 24)، أي لم نعطهم الإمامة حتَّي تجاوزوا الامتحان بالصبر، وقال تعالي في حقّ يوسف (عليه السلام): (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (يوسف: 22)، وكذلك قال تعالي في حقّ موسي بن عمران (عليه السلام) ما يشير لمسألة الامتحان، وكان ذلك الامتحان عنصراً ضرورياً لبلوغهم أعلي مقام يقيني من المقامات الروحية، حيث يتدرَّج النبيّ من درجة علم اليقين إلي درجة عين اليقين، إلي درجة حقّ اليقين بحيث يتكامل في المقامات الروحية تكاملاً يقينياً إلي أن يصبح مؤهّلاً لدرجة الإمامة، قال تعالي: (وَإِذِ ابْتَلي إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124).

هل النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) يخضعون للتكامل أيضاً؟ بمعني أنَّهم هل يسيرون مسار التكامل في المقامات الروحية؟

الجواب: إنَّ الأئمّة (عليهم السلام) أئمّة منذ ولادتهم ولديهم الجاهزية التامّة للقيام بأيّ دور يراد منهم ولا حاجة لهم للبقاء طويلاً لأجل اكتساب خبرة أو رصيد نفسي أو جاهزية للإمامة، لكنَّهم مع ذلك يتكاملون، علي مستوي العلم وعلي مستوي المقام الروحي.

أمَّا علي مستوي العلم، فنرجع إلي الجزء السادس والعشرين من كتاب (بحار الأنوار)(1)، ذكر هناك باباً تحت عنوان: (أنَّهم (عليهم السلام) يزادون ولولا ذلك لنفد ما عندهم)، يوجد في هذا الباب رواية قطعية السند قد تعدَّدت طرقها ورواتها، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّا لنزاد في الليل والنهار ولو لم نزد لنفد ما عندنا).7.

ص: 153


1- راجع: بحار الأنوار 26: 86 - 97.

ورواية محمّد بن سليمان الديلمي مولي أبي عبد الله (عليه السلام)، عن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، فقلت: جُعلت فداك سمعتك وأنت تقول غير مرَّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا)، قال: (أمَّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله علي نبيّه بكماله ولا يزاد الإمام في حلال وحرام)، قال: فقلت: فما هذه الزيادة؟ فقال: (في سائر الأشياء سوي الحلال والحرام)، أي إنَّ التشريع مكتمل من زمن النبيّ لا زيادة فيه، إنَّما يزاد في المعلومات الأخري غير التشريعية.

قال: قلت: فتزادون شيئاً يخفي علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ قال: (لا، إنَّما يخرج الأمر من عند الله فتأتيه(1) به الملك رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فيقول: يا محمّد ربّك يأمرك بكذا وكذا، فيقول: انطلق به إلي علي، فيأتي علياً (عليه السلام)، فيقول: انطلق به إلي الحسن، فيقول: انطلق به إلي الحسين، فلم يزل هكذا ينطلق واحداً بعد واحد حتَّي يخرج إلينا)، قلت: فتزادون شيئاً لا يعلمه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: (ويحك كيف يجوز أن يعلم الإمام شيئاً لم يعلمه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والإمام من قبله؟)(2).

إذن الإمام مع أنَّه منذ ولادته أعلم الناس وفي كلّ لحظة تمرُّ عليه هو أفضل الخلق علماً وعملاً وإلاَّ لم يكن إماماً، إلاَّ أنَّه في نفس الوقت يخضع لتكامل علمي لا في علم التشريع ولا غيره من العلوم الاجتماعية والطبيعية لانكشاف الواقع أمامه، وإنَّما التكامل في علمهم ومعرفتهم بالله عز وجل، فالإمام في إطار تكامل علمي بالله سبحانه في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، مع أنَّه في كلّ لحظة هو أكمل الناس، ولا تمرُّ لحظة علي الإمام وهناك من هو أعلم منه، بل هو في5.

ص: 154


1- هكذا في المصدر، وفي الاختصاص وبحار الأنوار: (فيأتي به الملك).
2- بصائر الدرجات: 413/ باب ما تزاد الأئمّة.../ ح 5.

كلّ لحظة أعلم الناس وأكمل الناس، ولو لم يكن أكمل لما جاز أن يكون إماماً لقبح تقديم المفضول علي الفاضل.

والنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) يخضعون للتكامل علي مستوي المقامات الروحية أيضاً، قال تعالي: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (هود: 120)، وقال في آية أخري: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (الفرقان: 32)، فما معني تثبيت الفؤاد؟

ليس معناه أنَّ النبيّ ينتقل من الشكّ إلي اليقين أو من القلق إلي الاطمئنان، أو كانت المعلومة مشوّشة ثمّ تصبح واضحة.

بل معني تثبيت الفؤاد هو التكامل في المقام الروحي بحيث ينتقل من مقام روحي إلي مقام روحي آخر في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، وكذلك بالنسبة لأهل البيت (عليهم السلام).

مثلاً: بقاء الإمام علي (عليه السلام) مظلوماً في داره خمساً وعشرين سنة امتحان وابتلاء بهدف تكامل في مقامه الروحي الذي هو سبب مقاماته الأخروية العالية.

كما أنَّ تعرّض الإمام الحسن (عليه السلام) لهذه الهجمة الشرسة ابتلاء للتكامل في مقامه الروحي.

كما أنَّ تعرّض الإمام الحسين (عليه السلام) لهذه المجزرة البشعة ابتلاء وتكامل في المقام الروحي.

الأمر الثاني:

إنَّ التكامل في المقام الروحي للأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) ليس دخيلاً في إمامتهم، فهم أئمّة منذ ولادتهم كما ورد في روايات عالم الأنوار(1)،

ص: 155


1- راجع: بصائر الدرجات: 99 - 101.

وكما ورد في الزيارة الجامعة: (خَلَقَكُمُ اللَّهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ)(1). ومن كان نوراً قبل خلق الوجود كيف تكون إمامته محتاجة إلي التكامل في المقام الروحي؟

وكما أنَّه ليس دخيلاً في إمامتهم، فإنَّه ليس دخيلاً في جاهزيتهم وصلاحيتهم للقيام بأدوارهم كدور المهدي (عليه السلام).

فلماذا التكامل في المقام الروحي؟

إنَّ الهدف من جعل الحجج (عليهم السلام) في إطار التكامل الروحي تفضيلهم علي سائر الخلق، وإعداد المقامات الأخروية لهم، كما أنَّ الهدف من ابتلائهم بمختلف المحن والنوائب المعدّة للتكامل الروحي أن تكون عوضاً عمَّا وهب لهم من المقامات الملكوتية الدنيوية، مثلاً نري في كتاب بحار الأنوار روايات متعدّدة تقول: (إنَّ الله تعالي عوَّض الحسين (عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره)(2).

يقول كثير من علمائنا: إنَّ الحسن أفضل من الحسين، لأنَّ الحسين كان مأموماً للحسن، ومع ذلك فإنَّ الله جعل الإمامة في ذرّية الحسين، لأنَّه مرَّ بامتحان عسير لم يمرّ به إمام آخر، وهو تعرّضه لهذه المجزرة العظيمة، وهذا الامتحان الذي تعرَّض له كما كان تكاملاً في مقامه الروحي، فإنَّه عوَّض عنه بأن جُعلت الإمامة في ذرّيته و الشفاء في تربته والإجابة عند قبره.

إذن فمن المحتمل أن يكون مقصود السيّد الشهيد الصدر (قدس سره) أنَّ الإمام المنتظر اُعطي هذا العمر الطويل امتحاناً وابتلاءً له، وبذلك يكون طريقاً من طرق).

ص: 156


1- المزار لابن المشهدي: 529.
2- بحار الأنوار 44: 221/ باب 29/ ح 1، عن أمالي الطوسي: 317/ ح (644/91).

التكامل الروحي وعوضاً وبدلاً مكافئاً لما اُعطي ووُهب من المقامات الشرفية آخر الزمان التي لم تُعط لحجّة من الحجج قبله. وبعبارة أخري إنَّ الإمام المهدي(عليه السلام) نتيجة طول عمره يتحمَّل آلاماً ثلاثة:

1 _ ألم الغيبة: وهي تعني عدم القدرة علي نشر وتطبيق العلوم والمعارف كما يريده (عليه السلام)، فإنَّ ألم العالم أن لا يقدر علي نشر علمه ومعارفه، لذلك كان جلوس أمير المؤمنين خمسة وعشرين سنة في داره أكبر ألم له، لأنَّه منع عن نشر معالمه ومعارفه وتطبيقها.

2 _ ألم الجرائم: التي ترتكب في حقّ الأمّة الإسلاميّة التي يشاهدها الإمام بعينه يومياً، ويتحمَّل غصصها يوماً بعد يوم.

3 _ ألم المعاصي: التي يرتكبها بعض شيعته فيراهم بعينه فيتألَّم لأجلهم.

وهذه الآلام امتحان للإمام، ولا يكون الامتحان جزافاً ومن دون سبب، لذلك يمكن أن يكون بقاء الإمام هذا العمر الطويل متحمّلاً لهذه الآلام الشديدة له المساوقة للتكامل في المقام الروحي عوضاً عمَّا أنعم الله عليه بأن جعل الدولة الخاتمة علي يده، وأن تكون بهجة الدين والمؤمنين تحت لوائه (عليه السلام).

إذن البقاء هذا العمر الطويل ليس دخيلاً في الإمامة، وليس دخيلاً في اللياقة والجاهزية للدور، ولكنَّه امتحان عوّض عليه وجوزي عليه بهذا الدور العظيم وبهذه الدولة الخاتمة.

الوجه الثالث: حفظ الشريعة:

إنَّ الله تبارك وتعالي يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، ومفادها الغرض

ص: 157

والهدف من نزول الشريعة هو انتشار العدالة والقسط، وانتشار العدالة والقسط يتوقَّف علي حفظ الشريعة.

فكما أنَّ حكمة الله شاءت أن ينصب لنا أنبياء وأئمّة، فقد شاءت حكمته أن يحفظ الشريعة بهؤلاء الأنبياء والأئمّة، فوظيفة كلّ إمام حفظ الشريعة في زمانه، والحفظ له ثلاث درجات:

1 _ حفظ تشريعي، عبَّر عنه الله تبارك وتعالي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر: 9)، بمعني حفظ القرآن عن التحريف بيد الإمام المنتظر (عليه السلام).

2 _ حفظ تعليمي، وهو ما يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية من حفظ تعليمي للشريعة، وترويج علوم الشريعة تحت نظر الإمام أيضاً.

3 _ حفظ عملي، حيث إنَّ كلّ مجتمع فيه فئة متديّنة تحفظ الشريعة حفظاً عملياً، يقول القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111)، من هؤلاء المؤمنين الذين اشتراهم الله؟ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: 112)، وهؤلاء هؤلاء هم المسؤولون عن حفظ الشريعة حفظاً عملياً.

فهناك حفظ تشريعي يقوم به الإمام بحفظ القرآن في زمن الغيبة عن أيّ تحريف، وهناك حفظ تعليمي يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية استناداً لمدد الإمام وبركته (عليه السلام)، وهناك حفظ عملي يقوم به

ص: 158

المؤمنون في كلّ مجتمع وبلدة بتسديد وتأييد الإمام المهدي (عليه السلام)، (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22)، والروح التي يؤيّد الله بها المؤمنين هي روح المهدي المنتظر (عليه السلام).

فهو (عليه السلام) يقوم في عصر الغيبة بحفظ التشريع وحفظ التعليم وحفظ التطبيق والعمل.

والحفظ للدين هو هدف آبائه وأجداده، وهو مسؤولية آبائه وأجداده، فما قام أمير المؤمنين إلاَّ لأجل حفظ الدين، وما قام الحسين بن علي إلاَّ لأجل حفظ الدين، وقال: (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر)(1)، وأعطاه الله فتية قام عليهم حفظ الدين منهم القاسم بن الحسن الذي كان عمره أحد عشر سنة لكنَّه كان يفيض شجاعة وبسالة حفظاً لمبادئه ودينه.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *9.

ص: 159


1- الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.

ص: 160

المحاضرة التاسعة: التفاعل مع الغيبة بين اليأس والأمل

اشارة

(9/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(26/ 12/ 2009م)

ص: 161

ص: 162

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (الصفّ: 8).

ما هو النور الذي أصرَّ الظالمون والكافرون علي إطفائه ولكنَّ الله أتمَّه؟

والجواب: ورد في الرواية عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ)، قال: (يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم)، قلت: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ)، قال: والله متمّ الإمامة، لقوله عز وجل: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا)، فالنور هو الإمام)، قلت: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ)، قال: (هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيّه، والولاية هي دين الحقّ)، قلت: (لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ)، قال: (يظهره علي جميع الأديان عند قيام القائم)، قال: (يقول الله: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) ولاية القائم (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بولاية علي)(1).

فإنَّ هناك إيماناً بالله وإيماناً بالنبيّ وإيماناً بالنور، والنور الذي هو غير الإيمان بالله وغير الإيمان بالنبيّ هو نور الإمامة الذي أتمّه الله بالمهدي (عليه السلام)، ولذلك نحن نقرأ في دعاء العهد، هذا الدعاء العظيم الذي ورد في حقّه عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من دعا إلي الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا (عليه السلام)، فإن مات قبله أخرجه الله1.

ص: 163


1- الكافي 1: 432/ ح 91.

تعالي من قبره، وأعطاه بكلّ كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة، وهو: اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيم، وَرَبَّ الْكُرْسِيَّ الرَّفِيع...)(1)، والمراد بالنور العظيم في مبدأ الدعاء هو المهدي (عليه السلام) الذي قال أيضاً عنه في بعض فقراته: (اللَّهُمَّ إِنّي أسْألُكَ ب-ِوَجْهِكَ الْكَريم، وَب-ِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنِير)، ألا وهو نور وجه قائم آل محمّد (عليه السلام).

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدَّث في محاور ثلاثة:

المحور الأوّل: الشخصية النورانية ومسألة الإعجاز:

اشارة

إنَّ الشخصية النورانية للإمام أو النبيّ دخيلة في مسألة الإعجاز، فإنَّ النبيّ أو الإمام شخصيةٌ يملؤها النور كما في قوله تعالي: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ فَهُوَ عَلي نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: 22)، وكما قال تبارك وتعالي: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام: 122)، فما هي علاقة الشخصية النورانية بالإعجاز؟

إنَّ الإعجاز يعتمد علي عنصرين:

العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار والعلل الحقيقية:

إنَّ المعصوم نبيّاً أو إماماً ليس وعاءً لظهور المعجزة، فقد يقال: إنَّ جسم المعصوم مجرَّد وعاء لظهور المعجزة، فمثلاً جسم النبيّ عيسي كان وعاءً لإحياء الموتي وإبراء الأكمه والأبرص فلا دور للنبيّ عيسي إلاَّ أنَّ الله اتّخذ جسمه وعاءً وطريقاً للمعجزة من دون أن يكون له دور في ذلك، وهذا خطأ.

فإنَّ ظاهر القرآن الكريم أنَّ المعجزة فعلٌ للمعصوم نفسه لا أنَّ جسمه مجرَّد وعاء للمعجزة، فأنا مثلاً عندما أمشي فالمشي فعلي، فأقول:

ص: 164


1- المزار لابن المشهدي: 663.

أنا الذي أمشي، وإن كان هذا المشي متوقّفاً علي إقدار من الله تبارك وتعالي، إذ لولا أنَّ الله تبارك وتعالي أقدرني علي المشي لما مشيت، ولكن يكون المشي فعلاً لي ومنتسباً إليَّ، كذلك المعجزة، فالمعجزة فعل للمعصوم ومنتسب له وإن كان متوقّفاً علي إقدار من الله إلاَّ أنَّه فعله، يقول القرآن الكريم: (وَرَسُولاً إِلي بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني عيسي بن مريم، (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ...) أي أنا الذي أخلق لا أنَّ جسمي وعاء، وهذا ما يعبّر عنه علماؤنا بالولاية التكوينية، أي إنَّ الولاية التكوينية فعل من أفعال المعصوم، (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَْكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتي بِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران: 49).

فالمعصوم ليس آلة معطَّلة لا دور لها، بل المعجزة فعل من أفعال المعصوم كمشيه، ككلامه، كنومه، هذا فعله وإن كان هذا الفعل متوقّفاً علي إقدار من الله تبارك وتعالي.

فإنَّ صدور المعجزة من المعصوم يتوقَّف علي عنصرين كما ذكرنا: الأوّل: عنصر اكتشاف الأسرار والعلل الحقيقية، وبما أنَّ المعجزة مُسبَّب ولكلّ مُسبَّب سبب فالمعجزة لها سبب، وبما أنَّ المعجزة أمر مادي فسببها أيضاً مادي، استناداً لقاعدة السنخية القائلة: إنَّ لكلّ مُسبَّب سبباً مِن سِنْخه، فإذا كان لديك تفاحة فسببها بذرة تفاح وليست بذرة برتقال، وإذا كان لديك شاة فإنَّ سببها شاة أخري وليس حِماراً أو حصاناً، وهذه قاعدة عقلية لا تتخلَّف.

ويشير لذلك قول الله تبارك وتعالي: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر: 21)، بمعني أنَّ أيّ شيء ينزل إلي عالم المادة لا ينزل إلاَّ

ص: 165

بقدر، وهو تحديد علَّته وسببه وأثره وثمراته، وكذا قوله عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدي) (الأعلي: 2 و3)، بمعني أنَّ لكلّ شيء قدراً ومن جملة قدره سببه، فإذا كان مادياً فسببه مادي، وبما أنَّ إبراء الأكمه والأبرص، إحياء الموتي، طيُّ الأرض، كلّها أمور مادية، فلها سببٌ مادي.

غاية الأمر أنَّه قد يكون للمسبَّب سبباً ظاهرياً وسبباً واقعياً، والبشر العادي لا يلتفت إلاَّ للسبب الظاهري ولا يلتفت إلي السبب الواقعي، بينما المعصوم لأنَّه كُشفت له أسرار الطبيعة وأسرار الكون يصل إلي السبب الواقعي فهو لا يحتاج إلي السبب الظاهري.

مثلاً وجود الجنين في رحم اُمّه، مسبَّب مادي وله سبب مادي أيضاً، والسبب المادي الظاهري هو التلاقح بين الحويمن المنوي وبويضة المرأة، ونحن لأنَّنا لم نصل إلي الأسرار الواقعية نسير علي السبب الظاهر، فلو سُئلنا: كيف يُخلق الجنين في بطن اُمّه؟ لأجبنا: إنَّ سببه التلاقح بين الحويمن والبويضة، فنطرح السبب الظاهري الذي جرت عليه نواميس الطبيعة.

بينما المعصوم يكتشف سبباً واقعياً لهذا المُسبَّب وراء السبب الظاهري وهو أنَّ جسم المرأة فيه الخليّة التي تملك الاستعداد لأن تقوم بدور التلقيح بين الحويمن والبويضة، فإذا كان فيها هذا الاستعداد تقوم بهذا الدور من دون حاجة إلي حويمن.

فالفرق هو أنَّ غير المعصوم التفت إلي السبب الظاهري فاعتمد عليه، أمَّا المعصوم لأنَّه انكشفت له الأسرار وصل إلي السبب الواقعي، لذلك يستطيع المعصوم أن يُوجد الجنين في بطن اُمّه من دون حاجة للسبب الظاهري، بل اعتماداً علي السبب الواقعي الذي لا يكتشفه إلاَّ من اُعطي علماً من الكتاب وعلماً بأسرار الكون وأسرار الطبيعة.

ص: 166

العنصر الثاني: الإرادة القدسية:

وهنا يتبيَّن لنا العلاقة بين الشخصية النورانية للمعصوم وبين المعجزة التي نسمّيها بالولاية الكونية.

سؤال:

ربَّما يقول قائل: إذا كان المؤثّر في المعجزة هو العلم فكلَّما تقدَّم العلم سوف يصل إلي الأسرار وبالنتيجة بعدما يتقدَّم العلم _ بعد ألف سنة مثلاً _ فلن يصبح هناك معجزة، لأنَّ الأسباب المادية الواقعية سيتوصَّل إليها العلم، فإذا توصَّل إليها العلم سيتوصَّل علماء الطبيعة إلي نفس المعاجز التي توصَّل إليها الأنبياء السابقون وحينئذٍ ستكون المعجزة أمراً نسبياً، فمثلاً إحياء الموتي كانت معجزة في زمن عيسي لكن بعد ألفي سنة إذا اكتشف العلم السبب المادي الواقعي لإعادة الميِّت حيّاً ستصبح معجزة عيسي أمراً طبيعياً، لأنَّ العلم اكتشف العلّة الواقعية لهذه المعجزة، إذن المعجزة أمر نسبي يختلف باختلاف الأزمنة.

الجواب:

إنَّ المعجزة تحتاج عنصراً آخر غير العلم ألا وهو الإرادة القدسية، لأنَّ المعصوم شخصية نورانية فانية في الله، متّصلة بالله، فهو يمتلك عنصراً آخر مضافاً إلي العلم ألا وهو الإرادة القدسية التي هي مظهر لإرادة الله عز وجل كما في قول الإمام الباقر (عليه السلام): (فنحن نفعل بإذنه ما نشاء ونحن لا نشاء إلاَّ ما شاء الله وإذا أردنا أراد الله)(1)، أو قول النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) في

ص: 167


1- الهداية الكبري: 230.

حقّ ابنته فاطمة (عليها السلام): (إنَّ الله تعالي يغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها)(1)، بمعني أنَّها تمتلك إرادة قدسية، وإرادتها القدسية مظهرٌ لإرادة الله تبارك وتعالي.

فتحصَّل أنَّ دور الإعجاز هو طيّ الأسباب فمثلاً الطبيب لو أنَّه أحاط بعلم الجينوم البشري ووصل إلي الأسباب والأسرار، يستطيع أن يغيّر لون الجنين وهو في الأسبوع الأوّل من وجوده في رحم اُمّه، فإنَّه لا يمكن تسميته بالولاية التكوينية، بل لو صحَّ فإنَّما هو ولاية مجازية، لأنَّ المعجزة تحتاج إلي إرادة قدسية، والإرادة القدسية دورها طيّ الأسباب، فإنَّ الطبيب لكي يتوصَّل إلي النتيجة لا بدَّ أن يرتّب مقدّمات مختبرية ويقوم بعدّة قضايا تجريبية، فهو لا يستطيع أن يصل إلي النتيجة مباشرة، إذ ليست لديه إرادة حتَّي يطوي المقدّمات، أمَّا المعصوم فهو يطوي هذه المقدّمات كلّها بإرادته القدسية طيّاً سريعاً، فإنَّ هذه المقدّمات التي يأخذ فيها الطبيب وقتاً مثلاً حتَّي يتمكَّن من التصرّف في الجنين، بينما المعصوم يطوي هذه المقدّمات بسرعة هائلة في ثانية واحدة فيصل إلي نفس النتيجة التي وصل إليها الطبيب لكن بإرادة قدسية، قال تعالي: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، لأنَّ إرادة المعصوم هي مظهرٌ لإرادة الله ودور الإرادة هو طيّ الأسباب بسرعة هائلة بحيث يصدر منه الفعل المعجز صدوراً لحظياً آنياً.

ومن هنا تفترق الولاية التكوينية عن العلم الذي قد يصل إليه علماء الطبيعة، فإنَّ الآيات القرآنية تُعبِّر عن مدخلية الإرادة القدسية، يقول القرآن الكريم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (الطلاق: 2 و3)، وقال في آية أخري: (كَتَبَ اللَّهُ6.

ص: 168


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 51/ باب 31/ ح 176.

لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: 21)، وقال في آية ثالثة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ) (غافر: 51) بواسطة الإرادة القدسية، فتحصَّل أنَّ الولاية التكوينية والإعجاز يستند إلي عنصرين كما ذكرنا، عنصر العلم وعنصر الإرادة القدسية.

المحور الثاني: غيبة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام):

سنطرح في هذا المحور ثلاثة أسئلة ونجيب عنها:

السؤال الأوّل: هل غيبة الإمام المهدي أمرٌ إعجازي أم أنَّه أمرٌ طبيعي؟ يعني لا ريب في عدم استغناء وجوده (عليه السلام) عن حفظ الله ومدده، قال عز وجل: (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22)، ولكن هل تكفَّلت يد الغيب بحفظه من كلّ سوء من دون دخل للأسباب الطبيعية أصلاً بحيث يكون حفظه إعجازاً محضاً أم أنَّ للعوامل الطبيعية دخلاً في أمنه وسلامته بحيث يمكن أن يصل إليه الظالمون باعتداء أو أذي لولا الحذر واجتماع الأسباب؟

الجواب: إنَّ الغيبة ليست إعجازية بل طبيعية، وقد ذكرنا في البحوث السابقة أنَّ المهدي يعيش مع الناس، يأكل، يشرب، يسافر، يمرض، يشفي، يتعب، يرتاح، يحزن، يسرّ، لأنَّ الغائب هو عنوانه فقط، والناس لا يعرفون أنَّ هذا هو المهدي بن الحسن، والروايات تدلّنا علي ذلك، كما ورد عن بعض سفرائه: (والله إنَّ لصاحب هذا الأمر ليأتي الموسم _ يعني الحجّ _ كلّ سنة، فيري الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(1)، أي لا يرونه بصفته الشخصية.

وفي رواية معتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (في القائم سُنّة من موسي، وسُنّة من يوسف، وسُنّة من عيسي، وسُنّة من محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)،

ص: 169


1- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 8 .

فأمَّا سُنّة موسي فخائفٌ يترقَّب)، فلو لم يكن في معرض نيل الظالمين لما كان خائفاً يترقَّب، وهذا يعني أنَّ غيبته غيبة طبيعية، والظالمون يمكن أن يصلوا إليه، ولذلك فهو في حال حذر ورقابة شديدة، (وأمَّا سُنّة يوسُف فإنَّ إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه) لا يعلمون أنَّه يوسف، وكذلك قائم آل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) يخالطه الناس ولا يعرفونه، (وأمَّا سُنّة عيسي فالسياحة) يتنقل من بلد إلي بلد ومن مكان إلي مكان، (وأمَّا سُنّة محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) فالسيف)(1)، كما ذكرنا في بحوث سابقة تحت عنوان: (دولة الرحمة لا دولة العنف)(2) أنَّ المهدي يخوض فترة قتالية مدّتها ثمانية أشهر لتطهير الأرض من براثن الكفر والنُصب كما ذكرت الروايات، حتَّي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

والنتيجة أنَّ غيبة المهدي غيبة طبيعية ويؤكّد ذلك الدعاء الذي نقرأه كلّ ليلة والذي ورد عن الإمام المهدي (عليه السلام): (اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيَّكَ الحُجَّةِ بْن الحَسَن صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلي آبائِه فِي هذِهِ السّاعَةِ وَفِي كُلّ ساعةٍ وَلِيّاً وَحافِظاً...)(3)، فلو كانت غيبته إعجازية ولا يمكن أن يصل إليه الظالمون لما كان هناك حاجة لأن يُدعي له بالحفظ، إذن غيبته غيبة طبيعية وليس في مأمن من الظالمين والمعتدين لولا تحفّظه وبركات دعائه ودعاء الخُلَّص المؤمنين له بالحفظ.

السؤال الثاني: إذا كانت الغيبة طبيعية فهل الغيبة لعامل بشري اختياري أو لتخطيط وأمرٍ سماوي؟).

ص: 170


1- كمال الدين: 28.
2- راجع المحور الثالث من المحاضرة الثالثة.
3- مصباح المتهجّد: 630/ الرقم (709/85)، وفيه: (لوليّك فلان بن فلان).

الجواب: الغيبة غيبتان: غيبة صغري، وغيبة كبري.

الغيبة الصغري هي التي امتدَّت تسعاً وستّين سنة، من سنة (260ه-) إلي سنة (329ه-)، والغيبة الصغري كانت غيبة لعامل بشري بمعني أنَّ المهدي (عليه السلام) لمَّا هُجم علي داره من قبل الظالمين للبحث عنه اختفي، وهذا الاختفاء كان لعامل بشري وهو سلطنة الظالمين عليه، لكنَّه ظلَّ يتَّصل بالأمّة عبر سفراء أربعة وهم:

1 _ عُثمان بن سعيد العمري.

2 _ محمّد بن عُثمان.

3 _ حسين بن روح.

4 _ علي بن محمّد السُمري.

ثمّ قطع الاتّصال وتحوَّلت الغيبة إلي غيبة كُبري، وهي تخطيطٌ هادفٌ منه بإرادة سماوية، حيث اتَّخذ الغيبة التامّة وكان بإمكانه أن يبقي علي الغيبة الصغري التي تعتمد علي الاتّصال بينه وبين الناس عن طريق السفراء سفيراً بعد سفير، لكنَّه قطع مسألة السفارة واتَّخذ مبدأ الغيبة الكبري، واتّخاذه لهذا المبدأ تخطيط منه تابع لإرادة السماء وليس عملاً اختيارياً.

فقد كتب (عليه السلام) إلي آخر سفير له وهو علي بن محمّد السمري: (يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستّة أيّام فاجمع أمرك ولا توص إلي أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب...)(1)، إذن الغيبة تخطيطٌ هادفٌ سماويٌ من قِبله (عليه السلام).4.

ص: 171


1- كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.

السؤال الثالث: هل الإمام يمارس دوراً في غيبته أم أنَّه ليس له أيّ دور؟ فهل الإمام كالسجين ينتظر أن يُفرج عنه، وكالمشرَّد الذي ينتظر تحصيل المأوي، أم أنَّ الإمام في عصر الغيبة يقوم بدور خطير قد لا نلتفت لأبعاده؟

الجواب: إنَّ الإمام يقوم بدور خطير جدّاً وهو دور الإعداد لخروجه، كما أنَّ الأمّة وظيفتها الإعداد لخروجه، وقد شرحنا فيما سبق أنَّ وظيفة الأمّة الانتظار، كما ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(1). وذكرنا أنَّ الانتظار هو إعداد الأرض لخروجه(2)، كذلك وظيفته هو أن يُعدّ الأرض لخروجه، فهو يعمل علي الإعداد والأمّة تعمل علي الإعداد.

والمهدي له دولة موجودة إلي الآن ودولته ظلّية ضمن الدول، قائمة بالفعل، حيث إنَّ له شبكة ممتدّة مترامية الأطراف شرقاً وغرباً وآلاف المؤمنين ينتمون لهذه الشبكة ويعملون لحساب هذه الدولة الظلّية التي علي رأس هرمها المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولا يقع حادث في الشرق أو في الغرب، في أمريكا، في الصين، في أيّ مكان إلاَّ ويصل إليه الخبر في نفس المكان نتيجة الشبكة المترامية الأطراف التي تتعامل معه.

وقد يكون الإنسان العادي من ضمن هذه الشبكة وهو لا يشعر، لأنَّ هناك من يُوجّهه لفعل معيَّن وهو لا يدري، وهذا الذي يوجّهه قد يكون تحت أمر شخص آخر يوجّهه وهو لا يعلم، والكلّ مرتبط بتلك الشبكة المتمادية الأطراف، وهذه الشبكة عبَّرت عنها النصوص الشريفة:

مثلاً في دعاء اُمّ داود وهو دعاء عظيم يُقرأ في يوم النصف من شهر رجب المرجب: (اللَّهُمَّ صَلّ عَلَي الأبْدالِ وَالأوْتادِ وَالسُّيّاح وَالعُبّادِة.

ص: 172


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
2- راجع المحور الثالث من المحاضرة الخامسة.

وَالمُخْلِصِينَ وَالزُّهّادِ وَأهْل الجِدَّ وَالاجْتِهادِ)(1)، من هم هؤلاء الأبدال والأوتاد؟ هؤلاء رجالٌ موجودون بالفعل يقومون برعاية هذه الدولة الظلّية المترامية الأطراف.

ونقرأ في دعاء آخر: (... أعْضَادٌ وَأشْهَادٌ وَمناةٌ وَأذوادٌ وَحَفَظَةٌ وَرُوّادٌ)(2)، أي إنَّ كلّ واحدٍ في هذه الشبكة له رتبة، هذا رتبته من الأبدال، هذا رتبته من الأوتاد، هذا رتبته من الحَفَظة، لكلّ رتبته بحسب علمه وبحسب مقامه السلوكي والعملي، إذن بالنتيجة فالإمام يقوم بدور كبير جدّاً وهو في حال غيبته ألا وهو دور الإعداد لخروجه.

المحور الثالث: ألطاف الغيبة:

اشارة

هُناك سؤال يأتي علي ذهن كلّ إنسان، يقول علماء الكلام: اللطف واجبٌ من الله، واللطف هو كلّ فعل يُقرّب العباد إلي الطاعة ويُبعدهم عن المعصية، وبما أنَّ نصب الأئمّة لطف فهو واجب من الله، بعث الأنبياء لطف فهو واجب من الله، إنزال الكتب لطف فهو واجب من الله، وكلّ عمل يُقرّب الناس إلي الطاعة ويُبعدهم عن المعصية فهو واجبٌ من الله، لذلك يأتي السؤال:

لماذا لا يُظهر الله الإمام ويجعله يعيش بين الناس ظاهراً إلي أن يأتي اليوم الموعود بحيث يعرف الناس ويعرفونه كما جعل نوحاً في قومه ألف سنة حيث كان معروفاً بين الناس، فيتحقَّق بذلك اللطف من وجوده؟

ص: 173


1- مصباح المتهجّد: 809/ الرقم (872/15).
2- مصباح المتهجّد: 803 و804/ الرقم (866/9).

وبعبارة أخري: إذا كان الله قادراً علي حفظه وهو غائب فهو قادر علي حفظه وهو حاضر، فلماذا لا يُظهره ويعيش بين الناس معروفاً ويقوم بدوره المحدود إلي أن يأذن الله تعالي له بالفرج وإقامة الدولة؟

وبعبارة ثالثة: ما هي ألطاف الغيبة؟ وما هي حِكَم الغيبة؟

وهنا أمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: الجواب النقضي والحلّي:

ويُجاب عن هذا السؤال بالنقض والحلّ:

أمَّا النقض: فلو أراد الله حفظ المهدي بأن يعيش بين الناس أكثر من ألف سنة محميّاً من جور الجائرين وظلم الظالمين لحفِظ الله النبيّ محمّداً (صلي الله عليه وآله وسلم) فهو أشرف المخلوقات، مع أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) اُعتدي عليه وظُلم وكُسرت رُباعيته يوم اُحُد إلي غير ذلك من المظالم.

وأمَّا الحلّ: فقد شاءت حكمة الله أن يكون ظهور الدين بالأساليب الطبيعية لا بالأساليب الإعجازية، لأنَّ الدين والإيمان تكامل روحي، والتكامل الروحي لا يتفاعل معه الإنسان إلاَّ إذا وصل إليه عن قناعة واختيار ورضا، أمَّا الأمر الذي يُفرض عليه بالأساليب الإعجازية فلا يتفاعل معه.

ولذلك شاءت حكمة الله أن لا يكون ظهور الدين بالأساليب الإعجازية وإلاَّ لما تفاعل معه الناس، بل بأسلوب الصراع بين الشرّ والخير، الظالمين والمؤمنين، فإذا كان ظهور الدين عبر حركة صراع حينئذٍ يتحقَّق للدين تفاعل ويتحقَّق للناس قبول لهذا الدين لأنَّه جاء إليهم عن إرادة منهم، أمَّا لو فُرض عليهم بالأساليب الإعجازية ومن دون صراع بين الظالمين والمؤمنين لم يتفاعل الناس مع حركة الإيمان والدين، لذلك قال تبارك وتعالي: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ

ص: 174

جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، وقال تبارك وتعالي: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، أي إنَّ الدين لا يأتي بالإعجاز، بل بالسعي والجدّ.

لذلك شاءت حكمته أن يخفي الإمام لأنَّ ظهوره سيعرضه لظلم الظالمين، ولو حفظه من ظلم الظالمين ونصره علي المعارضين بنحو غيبي لكان ذلك إعجازاً، وإذا كان إعجازاً من دون صراع ولا مصادمة كان تفاعل الأمّة مع الإمام(عليه السلام) ضئيلاً، فإنَّ المناط في التفاعل مع أيّ فكر وشخص هو الصراع والمواجهة بين المؤمنين والمنكرين كما حصل لسائر الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وهذا ما يؤكّده علماء الاجتماع من أنَّ الأفكار الراسخة لدي المجتمعات هي الأفكار التي صاحبها صراع ومواجهة بين فريقين مؤمن ومنكر لا الأفكار العامّة التي لا إثارة فيها ولا جدال حولها، وقال تعالي: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّي يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتي نَصْرُ اللَّهِ) (البقرة: 214)، وقال تعالي: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).

الأمر الثاني: حكمة الغيبة:

هناك حكمة ترجع للإمام نفسه من جهة الغيبة، وهي التي أشار إليها (عليه السلام) في قوله لسفيره الثاني محمّد بن عثمان العمري، حيث جاء في الرواية عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري(رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه السلام):

(... وأمَّا علّة ما وقع من الغيبة فإنَّ الله عز وجل يقول: (يا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101)، إنَّه لم يكن لأحد من آبائي (عليهم السلام)

ص: 175

إلاَّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنَّي أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي)(1)، بمعني أنَّ دوره مختلف عن دور آبائه، فدور آبائه كان دور التعليم والإرشاد والإعداد للدولة الخاتمة، لذلك لم يكن من المنقصة أن يُجبر ويُكره أحد من آبائه علي بيعة طاغية زمانه، أمَّا الإمام المهدي (عليه السلام) فدوره دور إزالة الظلم بجميع أنواعه، والقضاء علي جميع الظالمين من دون موانع أو عوائق مادية أو اجتماعية، وهذا لا ينسجم معه أن يكون في عنقه بيعة لظالم.

وبعبارة أخري: كان آباؤه المعصومون (عليهم السلام) دورهم محدوداً وهو الإعداد للدولة، لذلك من الممكن أن يبايعوا الظالم إكراهاً وإجباراً، بل لم يكن أحد من آبائه إلاَّ وفي عنقه بيعة بالقسر والإجبار، حتَّي الإمام الحسين (عليه السلام) الذي رفض بيعة يزيد اُخذت منه بيعة معاوية، فلا يوجد إمام مرَّ عليه عصر إلاَّ واُخذت منه بيعة لظالم قسراً عليه.

وأمَّا الإمام المنتظر (عليه السلام) فحيث إنَّ دوره القضاء علي الظلم من دون مانع اجتماعي أصلاً، توقَّف ذلك علي أن لا يكون في عنقه بيعة لظالم ولو كانت بيعة إكراهية، لئلاَّ تشكّل مانعاً من محاربته لأيّ ظالم بأن يقال: نقض البيعة أو اختلف حاله، لذلك شاء الله غيبته واختفائه كي لا يكون في عنقه بيعة لظالم أو لأحد من الطواغيت.

الأمر الثالث: ماذا نستفيد من الغيبة؟

ربَّما يُقال: إنَّ الغيبة ضرر وليست نفعاً لأنَّ الغيبة خلقت تيّارات متصارعة وفِرَقاً من المسلمين متحاربة وأوجبت ارتداداً عند قسم من الناس عن الدين أو عن التشيّع، فهي ضرر وليست نفعاً بالنسبة للأمّة.

ص: 176


1- أنظر: كمال الدين: 485/ باب 45/ ح 4.

ونقول في الجواب: هذا السؤال يرد أيضاً علي الفترة التي تقع بين النبيّ عيسي والنبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، ففي هذه الفترة أيضاً ارتدَّ أناس وتحاربوا وتحوَّلوا إلي فِرَق مختلفة، وهذا مرَّ علي جميع الفترات بين الأنبياء.

فالغيبة بالنسبة لنا امتحان، واختبار عسير، وغربلة يُعرف منها الثابت من غيره، وامتحانٌ لإرادتنا، وامتحانٌ لمقدار ثباتنا وإصرارنا علي مبادئنا.

سأل جابر الجعفي الإمام الباقر (عليه السلام): متي يكون فرجكم؟ قال: (هيهاتَ هيهاتَ لا يكون فرجنا حتَّي تُغربلوا ثمّ تُغربلوا ثمّ تُغربلوا _ يقولها ثلاثاً _ حتَّي يذهب الله تعالي الكدر ويُبقي الصفو)(1).

وفي رواية أخري عن الإمام العسكري (عليه السلام): (إنَّ ابني هو القائم من بعدي تجري فيه سنن الأنبياء من التعمير والغيبة حتَّي تقسو قلوب الناس لطول الأمد، فلا يثبت علي القول بها إلاَّ من كتب الله في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه)(2).

إذن الغيبة غربلة لنا، واختبار لإرادتنا ومدي ثباتنا، ونحن بهذا الكلام لا ندعو لليأس ولا للتشاؤم، بل ندعو للتفاؤل، لأنَّ الانتظار إعدادٌ للدولة الخاتمة وليست تعطيلاً للعمل.

وفي العدد الواحد والتسعين من المجلّة التربوية هناك دراسة قام بها مجموعة من الباحثين علي عينة من شباب المجتمع العربي، من الكويت والبحرين وعُمّان، عن التشاؤم والتفاؤل، ووجدوا أنَّ أغلب شباب المجتمع متشائم.8.

ص: 177


1- الغيبة للطوسي: 339/ ح 287.
2- الصراط المستقيم 2: 238.

والتشاؤم كما يُعرِّفه علماء النفس سمة وليست حالة وهو عبارة عن توقّع أسوأ النتائج عن أيّ عمل يقدم عليه الإنسان.

منشأ التشاؤم:

اشارة

أسباب التشاؤم كثيرة أهمّها سببان:

السبب الأوّل: ثقافة المحيط:

هناك كثير من الناس يعيش في محيط متشائم، كأن تكون أسرته أسرة يائسة تُربّيه علي اليأس، أو يعيش في وسط متشائم يغذيه بثقافة اليأس والإحباط، فيلتقط من هذا المجتمع سمة التشاؤم وهذه سمة خطيرة جدّاً.

السبب الثاني: الخطأ في تقدير المواقف:

هناك كثير من الشباب عندما يُسئل عن منهجه وخططه ومشاريعه يقول بأنَّ منهجه المحاولة ثمّ الخطأ، يعني يقدم علي المشروع ثمّ بعد ذلك يكتشف إن كان مخطئاً أو غير مخطئ، وهذا المنهج خطير، وهو الذي يجعله يقدّر المواقف تقديراً خاطئاً نتيجة عدّة مواقف يُخطئ فيها فيُصاب بروح التشاؤم.

بل علي الإنسان أن يكون في منهجه ومشاريعه وخططه معتمداً علي المشورة، معتمداً علي دراسات للمتخصّصين، ولا يقتحم بدون دراسة، فعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إنَّ رجلاً أتي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله أوصني، فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): (... فإنّي أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبَّر عاقبته، فإن يكُ خيراً فامضه وإن يكُ غيّاً فانته عنه)(1).

ص: 178


1- أنظر: الكافي 8 : 149 و150/ ح 130.

علاج التشاؤم:

اشارة

وأمَّا طرق علاج التشاؤم فثلاثة:

الطريق الأوّل: الأجواء الروحية:

إنَّ الأجواء الروحية تزرع التفاؤل، أجواء المسجد، أجواء الدعاء، أجواء العبادة، خصوصاً صلاة الليل التي نحن بعيدون عنها، قال تعالي: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

الطريق الثاني: الصديق الناجح:

فإذا رأي الإنسان أنَّ صديقه فاشل فليتركه، لأنَّ الصديق يؤثّر علي حياته، بل علي الإنسان أن يختار الصديق الناجح، الصديق الموفَّق في حياته المُتفائل في أموره، فإنَّ الصديق الناجح يساعد الإنسان علي روح التفاؤل وروح الأمل وروح الانبعاث نحو بناء الحياة.

الطريق الثالث: الثقافة:

نحن بحاجة لأن تكون ثقافة منابرنا ومساجدنا وقنواتنا الفضائية ثقافة الحياة وثقافة الأمل التي تبعث في شبابنا روح العطاء وروح الانتاج وروح الإقدام حتَّي لو خيَّمت عليهم ظروف مكفهرّة خانقة، وهذا ما نستفيده من قيم كربلاء، فإنَّ كربلاء مجموعة قيم تعلّمنا علي الحياة.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *

ص: 179

ص: 180

المحاضرة العاشرة: يا لثارات الحسين (عليه السلام)

اشارة

(10/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(27/ 12/ 2009م)

ص: 181

ص: 182

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).

(الكلمة) تطلق في القرآن الكريم علي معنيين:

المعني الأوّل: القول الصادق:

كما في قوله تعالي: (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) (يونس: 96)، يشير إلي قوله في آية أخري مخاطباً إبليس: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص: 85).

المعني الثاني: الوجود:

إنَّ المراد بالكلمة الوجود الذي يعدُّ مظهراً لله تعالي، مثلاً: وجود النبيّ يعدُّ مظهراً لله، فوجود النبيّ كلمة، ووجود الإمام يعدُّ مظهراً لله، فوجود الإمام كلمة، ولذلك قال القرآن الكريم: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران: 45)، فاعتبر القرآن النبيّ عيسي كلمة لأنَّ وجوده مظهر لله عز وجل، (إِنَّ مَثَلَ عِيسي عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران: 59)، وقد قال تعالي: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (الكهف: 109)،

ص: 183

والمقصود بهذه الكلمات هنا الوجودات التي تعدُّ مظهراً لله، وكذلك في قوله تعالي: (فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) (البقرة: 37)، فإنَّ الرواية ذكرت أنَّ الكلمات التي تلقّاها آدم فتاب عليه ربّه هي الأنوار التي رآها محيطة بالعرش فسأل عنها، فقيل: هي أنوار محمّد وآل محمّد(1)، (خَلَقَكُمْ اللهُ أنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ)(2).

وأمَّا في الآية التي مرَّت: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: 115)، فإنَّ الكلمة هنا يراد بها المعني الثاني، والقرينة علي ذلك في نفس الآية وهي قوله: (صِدْقاً وَعَدْلاً) فإنَّ العدل وجود خارجي وليس العدل كلاماً أو خطاباً، فلأجل قوله: (وَعَدْلاً) كان هذا التعبير قرينة علي أنَّ المراد بالكلمة في الآية الوجود الخارجي لا القول.

ومن هنا نتسائل: ما هو هذا الوجود الذي يعدُّ مظهراً لوجود الله عز وجل في الآية المباركة؟

جاءت الرواية عن الصادق (عليه السلام) وأخبرت بأنَّ المراد بالكلمة في9.

ص: 184


1- عن صفوان الجمّال، قال: دخلت علي أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: (فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، ثمّ التفت إليَّ، فقال: (يا صفوان إنَّ الله تعالي ألهم آدم (عليه السلام) أن يرمي بطرفه نحو العرش، فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبّحون الله ويقدّسونه، فقال آدم: يا ربّ من هؤلاء؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي لولاهم ما خلقت الجنّة ولا النار، خلقت الجنّة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم. لو أنَّ عبداً من عبادي أتي بذنوب كالجبال الرواسي ثمّ توسَّل إليَّ بحقّ هؤلاء لعفوت له. فلمَّا أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا ربّ بحقّ هؤلاء الأشباح اغفر لي، فأوحي الله عز وجل إليه: إنَّك توسَّلت إليَّ بصفوتي وقد عفوت لك...). (شرح الأخبار 3: 6/ 923).
2- المزار لابن المشهدي: 539.

الآية المباركة: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) هو بزوغ نجم قائم آل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) حيث كتبت الآية علي جبينه عند ولادته(1)، أي إنَّ هناك وجوداً نورانياً بدأ بالنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) وينتهي ويتمّ بالإمام الحجّة، فالإمام الحجّة تمام لكلمة الوجود وتمام لكلمة (رَبِّكَ)، وإنَّما كان المهدي تماماً لكلمة (الله) لأنَّه بوجوده يتحقَّق التمام في مرحلة التطبيق, فالتمامية قد تكون علي مستوي التشريع وقد تكون علي مستوي التطبيق، أمَّا تمامية كلمة (الله) علي مستوي التشريع فقد تحقَّقت منذ عصر النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم)، قال تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3)، وأمَّا التمامية علي مستوي التطبيق فلم تتمّ لحدّ الآن كلمة الله علي الأرض (صِدْقاً وَعَدْلاً), فما هو ذلك اليوم الذي تتمّ فيه كلمة الله علي الأرض من الناحية التطبيقية (صِدْقاً وَعَدْلاً)؟ إنَّ ذلك لا ينطبق إلاَّ علي يوم ظهور المهدي (عليه السلام) الذي قال فيه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّي يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(2)، ولذلك ورد في دعاء ليلة النصف من شعبان: (اللّهمّ بحقّ ليلتنا ومولودها وحجّتك وموعودها التي قرنت إلي فضلها فضلك فتمَّت9.

ص: 185


1- عن الحسن بن راشد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنَّ الله تبارك وتعالي إذا أحبَّ أن يخلق الإمام أمر ملكاً فأخذ شربة من ماء تحت العرش، فيسقيها أباه فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوماً وليلة في بطن اُمّه لا يسمع الصوت ثمّ يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فإذا مضي الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلي أعمال الخلائق، فبهذا يحتجُّ الله علي خلقه). (الكافي 1: 387/ باب مواليد الأئمّة (عليهم السلام)/ ح 2).
2- الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.

كلمتك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماتك)(1)، وجاء في الدعاء الوارد بعد زيارة آل ياسين: (اللَّهُمَّ صَلّ عَلَي حُجَّتِكَ فِي أرْضِكَ، وَخَلِيفَت-ِكَ فِي ب-ِلادِكَ، وَالدَّاعِي إِلَي سَب-ِيلِكَ، وَالْقَائِم ب-ِقِسْطِكَ، وَالثَّائِر ب-ِأمْركَ، وَلِيَّ الْمُؤْمِن-ِينَ وَبَوَارِ الْكَافِرينَ، وَمُجَلّي الظُّلْمَةِ وَمُنِير الْحَقَّ، وَالنَّاطِق ب-ِالْحِكْمَةِ وَالصّدْقِ، وَكَلِمَتِكَ التَّامَّةِ فِي أرْضِكَ)(2).

إذن فالمراد بقوله تعالي: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) ظهور المهدي الذي يحقّق تمامية الإسلام من الناحية التطبيقية صدقاً وعدلاً علي الأرض، قال تعالي: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115)، فهناك وجود بدأه النبيّ وأتمّه المهدي، وهذا الوجود الذي يعبّر عنه الإمام علي (عليه السلام) كما في رواية الطبراني وابن حماد: عن عمر بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب أنَّه قال للنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): (أمنّا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟), قال: (بل منّا، بنا يختم الله كما بنا فتح)(3)، وقال علي (عليه السلام) لكميل بن زياد: (يا كميل ما من علم إلاَّ وأنا أفتحه وما من سرّ إلاَّ والقائم (عليه السلام) يختمه)(4).

فبما أنَّ هناك وجوداً نورانياً واحداً لأهل البيت (عليهم السلام) وتمامه علي يد المهدي فسنتحدَّث هنا عن الخصائص والسمات المشتركة بين مصاديق هذا الوجود وبالذات بين الثورتين الثورة الحسينية والثورة المهدوية.1.

ص: 186


1- مصباح المتهجّد: 842/ الرقم (908/23).
2- الاحتجاج 2: 318.
3- المعجم الأوسط 1: 56؛ كتاب الفتن: 239، باختلاف.
4- تحف العقول: 171.

الخصائص المشتركة بين الثورة الحسينية والثورة المهدوية:

اشارة

هذه الخصائص تتلخَّص في عناصر ثلاثة:

العنصر الأوّل: الحقيقة:

اشارة

لبيان معرفة حقيقة الثورة الحسينية والثورة المهدوية نذكر أموراً ثلاثة:

الأمر الأوّل: الرجوع إلي العلل والأسباب:

إنَّ تحليل أيّ ظاهرة سواء أكانت ظاهرة طبيعية أم ظاهرة اجتماعية لا يتمُّ إلاَّ بإرجاعها إلي عللها وأسبابها، غاية الأمر إذا كانت الظاهرة طبيعية فتحليلها بإرجاعها إلي عللها الفاعلية، وإذا كانت الظاهرة اجتماعية فتحليلها بإرجاعها إلي عللها الغائية.

مثلاً: ظاهرة الأعاصير والفيضانات التي تجتاح المدن الساحلية وتودي بحياة مواطنيها، إذا أردنا أن نحلّلها لا بدَّ أن نرجعها إلي أسبابها أي عللها الفاعلية، فنقول: من مصادر هذه الأعاصير والفيضانات وازدياد نسبة مياه البحار والمحيطات ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذه ظاهرة خطيرة ستؤدّي إلي فساد البيئة علي الأرض إلي مدي سنين طويلة.

وأحياناً تكون الظاهرة اجتماعية وليست ظاهرة طبيعية مثلاً: ظاهرة الزحف المليوني نحو كربلاء، نحو قبر الحسين (عليه السلام) في أيّام الأربعين، يرجع تحليلها إلي فهم أهدافها ومقاصدها، وهو ما يُعبّر عنه بالعلل الغائية، ولا يمكن فهم أيّ ظاهرة اجتماعية إلاَّ بتحليل أهدافها ومقاصدها، فما هي أهداف هذه الظاهرة؟

إنَّ أهداف هذه الظاهرة واضحة لكلّ متأمّل منصف ألا وهو إحياء أمر آل محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، فعن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لفضيل: (تجلسون وتحدّثون؟)، قال: نعم، جُعلت فداك. قال:

ص: 187

(إنَّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل من ذكرنا _ أو ذكرنا عنده _ فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر)(1).

وعن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، قال: قال الرضا (عليه السلام): (من تذكَّر مصابنا وبكي لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكَّر بمصابنا فبكي وأبكي لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)(2).

الأمر الثاني: تحليل الثورة:

إنَّ الثورة من الظواهر الاجتماعية التي تحتاج إلي التحليل، لأنَّها ظاهرة اجتماعية، والثورة تنقسم إلي قسمين: الثورة الانفعالية والثورة الفعلية.

الثورة الانفعالية هي الثورة التي تحدث نتيجة الضغوط المتراكمة حيث يتولَّد انفجار في الوضع الاجتماعي قد يؤدّي إلي ثورة انفعالية، مثلاً: المنطق الديالكتي الماركسي يركّز علي الثورة الانفعالية، ويقول: إذا احتدم الصراع بين الطبقات الاجتماعية، الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة الكادحة، فنتيجة هذا الصراع انفجار الوضع الاجتماعي وحصول ثورة انفعالية قد تؤدّي إلي تأميم الثروات والملكية المشتركة، بينما المنطق الإسلامي يركّز علي الثورة الفعلية، الثورة التي لا تنشئ عن العاطفة ولا تنشئ عن العقل الجمعي، وإنَّما الثورة التي تنشئ عن الوعي والتخطيط الهادف المدروس، تلك هي الثورة الفعلية، وهي التي تستحقّ أن تُحلَّل فينظر إلي أهدافها ومقاصدها.

ص: 188


1- قرب الإسناد: 36/ ح 117.
2- أمالي الصدوق: 131/ ح (119/4).
الأمر الثالث: ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة فعلية:

إنَّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة فعلية وليست ثورة انفعالية، إذ لم تكن ثورته (عليه السلام) حركة عاطفية، ولم تكن انسجاماً لعقل جمعي صاخب وعارم، وإنَّما كانت مخطّطاً هادفاً فاعلاً واعياً مدروساً، ولذلك مظهران:

المظهر الأوّل: إنَّ الحسين (عليه السلام) لم يفرض علي أصحابه الثورة وإنَّما جعلها خيارية بأيديهم، فالفرق واضح بين طارق بن زياد الأموي وبين الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّ طارق عندما قاد جيشه إلي الأندلس أتلف السفن وأتلف الطعام وقال لجيشه: (أيّها الناس، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، فليس ثَمَّ والله إلاَّ الصدق والصبر)(1)، لذلك أصبحت ثورتهم ثورة انفعالية ناشئة عن الاضطرار وعدم وجود المأمن والطعام.

أمَّا الحسين (عليه السلام) فلم يقل لأصحابه هكذا وإنَّما قال: (اللّهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكي ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حلّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتَّخذوه جملاً، وتفرَّقوا في سواده، فإنَّ القوم إنَّما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري)(2)، لأنَّ الحسين أراد من أصحابه أن تكون ثورتهم ثورة اختيارية، ثورة نابعة عن قناعتهم ووعيهم بالأهداف ومعرفتهم بالاستراتجية العلوية التي سنَّها أهل البيت (عليهم السلام).

المظهر الثاني: إنَّ المنطلق لثورة الحسين (عليه السلام) لم يكن رفض البيعة ليزيد بن معاوية فقط، فإنَّ الحسين (عليه السلام) وإن رفض البيعة وقال:

ص: 189


1- الإمامة والسياسة 2: 61.
2- أمالي الصدوق: 220.

(أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله)(1)، ولكن هذا ليس منطلق الثورة فقط، وليس منطلق الثورة رسائل أهل الكوفة فقط التي أكَّدت علي أنَّه (اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فأقدم علي جند لك مجنَّد)(2)، إذ لو كان المنطلق في ثورة الحسين رفض البيعة ليزيد أو استجابة لرسائل أهل الكوفة فقط لكانت ثورته انفعالية واستجابة لعامل خارجي، لكن الأمر ليس كذلك، إنَّ المنطلق لثورة الحسين (عليه السلام) حركة الإصلاح، فسواء أعرضت عليه البيعة ليزيد أم لم تعرض عليه فإنَّه سينطلق في حركته علي كلّ حال، وسواء أكتب إليه أهل الكوفة أم لم يكتبوا فإنَّه سينطلق في حركته علي كلّ حال، لأنَّ ثورته ثورة فعلية واعية، كما كتب لأخيه محمّد بن الحنفية: (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر)(3)، وإنَّما رفض البيعة وتلبية دعوة أهل الكوفة عوامل مساعدة لا أنَّها المنطلق.

ولو كانت ثورة الحسين عسكرية لكان الحسين منهزماً، لكن ثورته كانت ثورة روحية أراد بها إيقاظ إرادة الأمّة وتحريك عزيمتها وبعثها من سباتها، فكان للحسين ذلك، وتحقَّقت له أهدافه، فكان هو المنتصر، فلقد أجَّج الحسين الشرارة وانطلقت الثورات من بعده تنادي9.

ص: 190


1- اللهوف في قتلي الطفوف: 17.
2- مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: 16.
3- الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.

باسمه، كثورة التوّابين وثورة المختار وثورة زيد بن علي وثورة العلويين وثورة الحسين بن علي صاحب معركة فخ، فهي ثورة روحية أتت ثمارها وأكُلُها في وقت قريب.

وكذلك ثورة المهدي المنتظر (عليه السلام) هي حقيقة ثورة جدّه، ثورة روحية، حيث ورد عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّي يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(1)، ولم يقل: يملأ الأرض قتلي، أو يملأ الأرض بالسلاح، أو يملأ الأرض بالجنود، وإنَّما قال: (عدلاً)، أي إنَّ ثورته ثورة روحية وليست ثورة عسكرية، فالحسين والمهدي في الحقيقة ثورة واحدة وهي الثورة الروحية، هذا هو العنصر الأوّل.

العنصر الثاني: الهدف:

اشارة

إنَّ هدف الثورتين واحد، وهو هدف جميع الرسالات والنبوّات السماوية، فالقرآن الكريم يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، هذا هو الهدف، وهو القيام بالقسط.

ويقول علماء النحو: (الباء هنا باء السببية وليست باء التعدية).

ومعني ذلك: أنَّ المطلوب قيام المجتمع، يعني قيام الحضارة، لكن ليس المطلوب قيام حضارة بدون أسس، بل المطلوب بالرسالات والنبوّات قيام الحضارة علي أساسين وعاملين:

العامل الأوّل: العامل الاقتصادي:

وهذا العامل عبَّرت عنه آية أخري بقوله تبارك وتعالي: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) (النساء: 5)، والمعني أنَّ الثروة

ص: 191


1- الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.

قيام لكم، فهي زاد لحضارتكم، وزاد لقيام دولتكم، والثروة المادية عامل أساس في قيام الحضارة.

العامل الثاني: العدل:

وهو عامل قانوني: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، يعني لكي تكون الحضارة قائمة علي عامل قانوني وهو عامل القسط، أي القانون العادل القائم علي توزيع الثروة توزيعاً عادلاً.

إذن هدف الرسالات هو قيام حضارة علي عامل اقتصادي وهو الثروة وعامل قانوني وهو القانون العادل، وهذا الهدف هو الذي أكَّد عليه الحسين(عليه السلام) بقوله: (فإنّي لا أري الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برماً)(1)، وقوله: (ولعمري ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه في ذات الله)(2)، وهذا الهدف هو هدف المهدي المنتظر (عليه السلام).

ولقد ورد في الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: (... يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فإنَّه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلي الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فلم يؤذن لهم فهم عند قبره شعث غبر إلي أن يقوم القائم (عليه السلام) فيكونون من أنصارهم وشعارهم: يا لثارات الحسين (عليه السلام))(3)، وليس المقصود بثارات الحسين ثارات شخصية أو ثارات انتقامية أو ثارات دموية، إذ ليس الحسين ثائراً

ص: 192


1- مثير الأحزان: 32.
2- مثير الأحزان: 16.
3- أنظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 268/ ح 58.

شخصياً، ولا ثائراً قبَلياً، ولا ثائراً طائفياً، كما يحاول بعض النواصب أن يقوقع حركة الحسين في الطائفة الإماميّة، ليس الأمر كذلك، بل ثأر الحسين كما نطقت النصوص الشريفة هو ثأر الله، ولذلك نقرأ في زيارة وارث: (السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ اللَّهِ وَابْنَ ثَارِهِ)(1)، إذ ليس الحسين شخصاً ولا قبيلةً ولا طائفةً ولا عرقاً، الحسين حركة, حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الحركة قرآنية، قال تعالي: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104)، وهذه الحركة القرآنية ثأرها بأن تحقّق أهدافها وأن تفعّل مبادئها، وليس ثأرها ثأراً شخصياً أو قبَلياً أو طائفياً، وهذا هو المقصود من: (يا لثارات الحسين)، أي: يا لمبادئ الحسين التي نادي الحسين وضحّي وبذل النفس والنفيس من أجلها.

العنصر الثالث: القاعدة:

إنَّ ثورة الحسين وثورة المهدي (عليهما السلام) متَّحدتان في القاعدة، فإنَّ كلّ ثورة وكلّ حركة تحتاج إلي نخبة، والنخبة هي قطب الحركة وعمادها، لذلك تحدَّث القرآن عن الأنبياء فأشار إلي أنَّه مع كلّ نبيّ نخبة، قال تعالي: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، وقال تبارك وتعالي: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّي يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتي نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وتحدَّث القرآن عن

ص: 193


1- مصباح المتهجّد: 720/ الرقم (806/75).

النخبة التي أحاطت بالنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) كعلي والمقداد وعمّار وأبي ذر، فقال عنهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَي الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، إذن لكلّ حركة نخبة هي قطبها وهي زادها، لذلك إذا قرأنا ثورة الحسين وثورة المهدي وجدنا أنَّ لكلّ من الحركتين نخبة مجانسة لنخبة الحركة الأخري.

أمَّا النخبة في حركة الحسين فهم الذين قال عنهم (عليه السلام): (إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكي ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي)(1)، وأمَّا النخبة الذين مع المهدي المنتظر (عليه السلام)، ففي رواية عن الباقر (عليه السلام) _ والرواية موجودة في (مسند أحمد) لكن بلفظ آخر _(2)، قال: (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللّهمّ لقني إخواني مرَّتين، فقال من حوله من أصحابه: أمَا نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنَّكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام اُمّهاتهم، لأحدهم أشدّ بقيّة علي دينه _ يعني يحافظ علي دينه، يحافظ علي مبادئه _ من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض علي جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجي ينجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة)(3).4.

ص: 194


1- أمالي الصدوق: 220.
2- عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): (وددت أنّي لقيت إخواني)، قال: فقال أصحاب النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): أوَليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحاب ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني) (مسند أحمد 3: 155).
3- بصائر الدرجات: 104/ باب في رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أنَّه عرف ما رأي في الأظلّة.../ ح 4.

هؤلاء النخبة الذين تحدَّث عنهم الإمام السجّاد (عليه السلام) في رواية أخري: (إنَّ أهل زمان غيبته القائمين بإمامته المنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالي أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلي دين الله عز وجل سرّاً وجهراً)(1).

وهناك آية واضحة الدلالة تقول: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، فمن قضي نحبه فهم أصحاب بدر وأصحاب الحسين يوم كربلاء، وأمَّا من ينتظر فهم أصحاب قائم آل بيت محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم).

إنَّ هذا التعبير إذا توقَّفنا عنده: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضي نَحْبَهُ) فإنَّ علماء اللغة يقولون: قضاء النحب يعني استيفاء الوطر والطاقة، إذ لكلّ إنسان طاقة، فكلّ إنسان سيستوفي طاقته، ولكن هناك من يستوفي طاقته في الدنيا وملذّاتها من الصباح إلي آخر الليل لا يفكّر في نافلة، ولا يفكّر في قراءة قرآن، ولا يفكّر في قراءة دعاء، هذا المسكين سيفي نحبه في الدنيا، وإذا وضع في قبره رأي صحيفته سوداء ليس فيها نبضة نور، وحينئذٍ يكون أشدّ الناس أسفاً وندماً لأنَّه لم يتزوَّد لقبره, فقد وقف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) علي أهل السوق في البصرة فبكي ثمّ قال: (يا عبيد الدنيا وعمّال أهلها إذا كنتم بالنهار تحلفون، وبالليل في فرشكم تنامون، وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفلون، فمتي تحرزون الزاد، وتفكّرون في المعاد؟)(2).3.

ص: 195


1- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
2- أمالي المفيد: 119/ ح 3.

إنَّ هناك من تُسيطر عليهم الغفلة فيقضون نحبهم ووطرهم وهم في الغفلة المادية، وهناك من يقضي نحبه ووطره في العلم والمعرفة والصدق، يكون إنساناً صادقاً قولاً وعملاً، فيكون مصداقاً لقوله تعالي: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) أن تتمّ حياته وهو إنسان صادق قولاً، (وَما بَدَّلُوا) يعني لم يغيّروا منهجهم، ثابتين علي مبادئهم وقيمهم، (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

وإذا أردنا أن نكون من المؤمنين الصادقين، أن نكون من المؤمنين الذين (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)، أن نكون من المؤمنين المنتظرين لظهور المهدي والممتثلين لأمر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(1)، فإنَّ الانتظار يعني إعداد الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ ليس الانتظار بالكلام، وليس الانتظار بأن نجلس في المآتم فقط، وليس الانتظار أن نقول شيئاً ونحن مشغولون بدنيانا، بل الانتظار بأن ندعم هذه المشاريع الخيرية والثقافية والدينية في كلّ مكان، فإنَّ هذا مصداق واضح لإعداد الأرض والنفوس لخروج المهدي المنتظر (عليه السلام).

وإنَّ من جملة مصاديق الانتظار هو المساهمة في إحياء ليلة عاشوراء، وليلة عاشوراء ليست ليلة عزاء فقط، بل هي ليلة عبادة أيضاً، فعلينا إحياؤها بالعزاء وبالعبادة أيضاً، كما أحياها أصحاب الحسين (عليه السلام) بالدعاء والصلاة.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *3.

ص: 196


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

المحاضرة الحادية عشرة: المهدي (عليه السلام) نبع الهداية

اشارة

(11/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(28/ 12/ 2009م)

ص: 197

ص: 198

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).

الآية المباركة تتضمَّن وعداً إلهياً للمؤمنين بظهور الدين الإسلامي علي الأرض كلّها، وهذا الوعد لم يتحقَّق إلي يومنا هذا، وبما أنَّ الله لا يخلف وعده، فمقتضي حكمته أن يكون هناك يوم يحقّق الله فيه وعده، فيظهر دينه علي الدين كلّه ولو كره المشركون، وهذا لا ينطبق إلاَّ علي يوم المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قُرئت عليه هذه الآية، قال: (والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتَّي يخرج القائم (عليه السلام))(1).

وهناك سؤال يتبادر لذهن الإنسان عندما يقرأ الآية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ)، وهو ما هو الفرق بين الهدي ودين الحقّ؟ أليس دين الحقّ هو الهدي؟ أليس الهدي دين الحقّ؟ فما هو الفرق بين الهدي ودين الحقّ؟

إنَّ دين الحقّ هو عبارة عن المعتقدات التي يعتقد بها الإنسان، أمَّا الهدي فهو الوجود الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، فالوجود علي ثلاثة أقسام كما يقول الفلاسفة:

1 _ وجود جوهري. 2 _ وجود عرضي. 3 _ وجود رابط.6.

ص: 199


1- كمال الدين: 670/ ح 16.

مثلاً: الجسم له وجود وهو (الوجود الجوهري)، أمَّا القيام والقعود فهذا وجود آخر يعبَّر عنه ب- (الوجود العرضي)، وهناك وجود ثالث يربط بين الجسم وبين القيام، فلولا هذا الوجود الثالث لما أمكن للجسم أن يتلبَّس بالقيام والقعود، فهناك وجود جوهر وهو الجسم، ووجود للصفة والعرض وهو القيام، ووجود رابط بين الوجودين.

ونظير ذلك في محلّ كلامنا، فإنَّ الإنسان يحمل معتقدات وهي المعبَّر عنها بدين الحقّ، لكن هل إرادة الإنسان علي طبق معتقداته أم أنَّ إرادة الإنسان تعاكس وتخالف معتقداته؟ فكثير منّا في مرحلة العمل ينفصل عن معتقداته، فتكون إرادته مخالفة لمعتقداته.

مثلاً: حينما يسرق الإنسان وهو يعتقد أنَّ السرقة جريمة، أو حينما يزني وهو يعتقد أنَّ الزنا جريمة، تتعاكس إرادته مع معتقداته، فإنَّ عنده دين الحقّ، لكن عنده حلقة مفقودة بين المعتقد وبين الإرادة، وهذه الحلقة المفقودة هي التي تُسمّي ب- (الهدي)، فإنَّ الهدي هو الوجود الرابط الذي يؤلّف بين المعتقد وبين الإرادة بحيث تكون إرادة الإنسان علي طبق معتقده.

ولذلك ورد عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم): (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)(1)، يعني أنَّ السارق والزاني عنده معتقد، وهو دين الحقّ، لكن ليس عنده الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، وهذا الرابط هو الهدي.

من هنا ننطلق في الحديث حول هذه الحلقة المسمّاة بالهدي في ثلاثة محاور:5.

ص: 200


1- الكافي 5: 123/ باب القمار والنهبة/ ح 4؛ صحيح البخاري 8 : 15.

المحور الأوّل: الهداية وأقسامها:

اشارة

تنقسم الهداية إلي قسمين رئيسيين:

1 _ هداية خلقية. 2 _ هداية روحية.

إنَّ الهداية الخلقية لكلّ موجود، يقول القرآن الكريم: (الَّذِي أَعْطي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدي) (طه: 50)، فلا يوجد مخلوق إلاَّ وقد هُدِي إلي هدفه، وهُدِي إلي غايته، فالبذرة هُديت إلي أن تكون شجرة، والحيوان هُدي إلي أن يتعلَّم كيف يأكل وكيف يشرب، (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40)، وكلّ هُدي إلي طريقه، هذه تسمّي هداية تكوينية، هداية خلقية، وهي عامّة.

وهناك هداية روحية خاصّة بالإنسان، وهي تنقسم إلي قسمين:

1 _ هداية استحقاقية. 2 _ هداية تفضّلية.

إنَّ الهداية الاستحقاقية هي التي استحقّها كلّ إنسان منذ ولادته، وهي ما تسمّي بالفطرة، قال تبارك وتعالي: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان: 3)، وقال تعالي: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (الروم: 30)، فإنَّ كلّ إنسان استحقَّ حين خلقه أن يُلهم الدلالة علي ربّه، وهذه هداية فطرية عامّة لكلّ إنسان ونسمّيها بالهداية الاستحقاقية، إذ لولاها لكان وجوده لغواً لتخلّفه عن صراط الوجود، فإنَّ صراط الوجود هو الوصول إلي الله كما في قوله عز وجل: (يا أَيُّهَا الإِْنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلي رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6)، واللغو قبيح من الحكيم تعالي.

أمَّا الهداية التفضّلية فهي الهداية الخاصّة ببعض المؤمنين ولها ثلاث مراتب:

ص: 201

المرتبة الأولي: الانشراح:

بحسب تعبير القرآن الكريم: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ فَهُوَ عَلي نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 22).

والانشراح بمعني لين القلب مقابل قسوة القلب، ويصفه القرآن الكريم بقوله تعالي: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلي ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23).

ولكي يعرف الإنسان نفسه أنَّه حصل علي هذه المرتبة أم لم يحصل فليختبر نفسه إذا قرأ الدعاء، فإذا رأي نفسه أنَّه يلتذّ بالدعاء ويتَّعظ، إذن هو يعيش ليناً في قلبه وانشراحاً في صدره، أمَّا إذا رأي نفسه جافّة يابسة، تقرأ الدعاء لكن لا تتفاعل معه، ولا تلتفت إلي الاتّعاظ والاعتبار بفقرات الدعاء، إذن هذا الشخص مبتلي بمرض قسوة القلب ولم يحصل علي المرتبة الأولي من مراتب الهداية التفضّلية، (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَْنْهارُ) (البقرة: 74).

المرتبة الثانية: الاستقامة:

قال تبارك وتعالي: (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 87).

وهنا سؤال يتبادر لذهن الإنسان، وهو أنَّه عندما نقرأ قوله تعالي: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (العنكبوت: 69)، يتبيَّن لنا أنَّ هناك سبلاً وليس سبيلاً واحداً، بينما في آية أخري يقول: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَي اللَّهِ عَلي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108)، وقال في آية أخري: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّي) (النساء: 115)، إنَّ السبيل واحد بينما هذه الآية تقول: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)، فكيف نجمع بين الآيتين؟

ص: 202

وهذا مطلب في علم العرفان، فإنَّ الإنسان يظنّ في بداية الطريق أنَّ السبل متعدّدة، لكنَّه إذا استمرَّ في الطريق سينكشف له أنَّ السبيل واحد، مثال ذلك: إنسان حديث العهد بالدين يظنّ أنَّ الشرائع السماوية أديان مختلفة، أي إنَّ المسيحية دين، واليهودية دين، والإسلام دين، هذه أديان مختلفة.

وهذا ليس صحيحاً، إذ لا يوجد عندنا أديان مختلفة، فإنَّ الدين الذي جاء به إبراهيم هو الإسلام، (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)، قال إبراهيم: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (البقرة: 131)، قال إبراهيم: (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة: 128)، والمسيحية واليهودية كلّها تشترك في دين واحد وهو دين الإسلام، فالقرآن عندما يقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، أو يقول: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ) (آل عمران: 19)، يقصد ما يجمع الأديان كلّها، فإنَّ جميع الأديان تشترك في دين الإسلام، وإنَّما تفترق في الشريعة لا في الدين.

قال تبارك وتعالي: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّي بِهِ نُوحاً) يعني ما قلناه لنوح قلناه لكم، (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّي بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسي وَعِيسي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشوري: 13)، فهو دين واحد، وقال في آية أخري: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (المائدة: 48)، إذن الفرق بين الملل ليس في الدين وإنَّما هو في الشريعة، وهي الأحكام العملية والطقوس العبادية التي تختلف من دين إلي دين، وإلاَّ جميع الملل دين واحد يعبَّر عنه بدين الإسلام.

أيضاً الإنسان الحديث العهد بالتديّن يظنّ أنَّ الطرق إلي الله مختلفة، فإنَّ الصلاة طريق، والصوم طريق، والصدقة طريق، ولكنَّه إذا تأمَّل يجد أنَّ هذه العبادات كلّها طريق واحد.

ص: 203

وهو قوله تبارك وتعالي: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (المؤمنون: 1 و2)، إذ الخشوع روح واحدة تجمع الصلاة والصوم والحجّ والصدقة وجميع العبادات والطرق تلتئم بعنصر واحد اسمه عنصر الخشوع.

إنَّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) رأي رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال: (أمَا إنَّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه)(1)، لأنَّ الخشوع هو قوام الصوم والصلاة والحجّ وسائر العبادات.

المرتبة الثالثة: اليقين المؤدّي للرؤية الملكوتية:

إذا تسامي الإنسان في الهداية التفضّلية سيصل إلي مرتبة يري حقيقة عمله وهو في الدنيا، وإذا وصل الإنسان إلي رؤية حقائق الأعمال، وصل إلي رؤية عالم الملكوت ووصل إلي المرتبة الثالثة من الهداية التفضّلية، ألا وهي مرتبة اليقين، رؤية حقائق الأعمال.

مثلاً: تقرأ في إحدي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إِلَهِي ظَلّلْ عَلَي ذُنُوبي غَمَامَ رَحْمَتِكَ، وَأرْسِلْ عَلَي عُيُوبي سَحَابَ رَأفَتِكَ)(2)، ولأجل أن نتأمَّل في الفقرة الأولي من المناجاة: (ظَلّلْ عَلَي ذُنُوبي غَمَامَ)، ما معني هذه الفقرة؟

إنَّ الإمام يقول: أنا وصلت إلي مرتبة أشعر بحرارة الذنوب مثل ما أشعر بحرارة النار، بينما نحن لم نصل إلي هذه المرتبة، أن نري حقائق الأعمال.

أي نري المعصية قطعة من النار والصلاة قطعة من الجنّة، (إِلَهِي ظَلّلْ عَلَي ذُنُوبي غَمَامَ رَحْمَتِكَ)، فإنَّ اللهيب يحتاج إلي غمام، فهل

ص: 204


1- تفسير مجمع البيان 7: 176؛ كنز العمّال 8 : 197/ ح 22530.
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي: 402، في مناجاة التائبين.

وصلت إلي مرتبة أن أشعر أنَّ الذنب الذي أصنعه كاللهيب الذي يحيط بجسمي، كالحريق الذي يحيط بأعضائي؟

هذه المرتبة الثالثة من الهداية التفضّلية وهي رؤية حقائق الأعمال، رؤية عالم الملكوت.

وهي رؤية تلازم اليقين، يقول القرآن الكريم: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: 75)، ويقول في آية أخري: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (التكاثر: 5 و6)، أي لو وصلتم إلي اليقين لرأيتم النار أمامكم، لرأيتم النار متجسّدة في الكذب، في الغيبة، في السرقة، في الزنا، في أيّ معصية، (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، ويقول في آية ثالثة: (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلي قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (المطفّفين: 14)، أي إنَّ الذنوب تحوَّلت إلي رين يحجبنا عن رؤية حقائق أعمالنا، (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطفّفين: 15).

ويقول القرآن الكريم: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (الأنبياء: 73)، فإنَّ كلّ إمام من الأئمّة يقدر أن يوصلك إلي المراتب الثلاث، ولكلّ إنسان بحسب رتبته، فهناك إنسان يعطيه مرتبة الانشراح وهي المرتبة الأولي، وهناك إنسان يعطيه مرتبة الاستقامة وهي المرتبة الثانية، وهناك إنسان ككميل بن زياد الذي أوصله الإمام علي (عليه السلام) إلي رؤية حقائق الأعمال، إلي مرتبة اليقين الملازمة لرؤية حقائق الأعمال.

وهذا لا يعني أنَّ الإمام إله، بل الإمام واسطة في الفيض، مثل الملائكة الذين هم وسائط في الفيض، فإنَّ الذي يفيض هو الله، لكن الواسطة في الفيض ملك من الملائكة.

مثلاً: الله يفيض الحياة علي الجنين في بطن اُمّه بواسطة ملك من

ص: 205

الملائكة، والله يفيض الرزق علينا بواسطة ملك من الملائكة، والله يفيض الهداية علينا بواسطة المعصوم النبيّ أو الإمام، فهم واسطة في الفيض وليست الإفاضة منهم، بل هي من الله تبارك وتعالي.

المحور الثاني: نسبة الهدي والضلال إلي الله:

إنَّ القرآن الكريم ينسب الهدي إلي الله وينسب الضلال إليه، يقول: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (الأعراف: 178)، ويقول: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الرعد: 33)، ويقول في آية أخري: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (الأنعام: 125)، إذن الهدي والضلال منه، وهنا يثار سؤال لدي ذهن الإنسان وهو: إذا كان الله هو الذي يضلّنا فما هو ذنبنا، ولماذا يعاقبنا علي ضلال هو مصدره وهو منشؤه؟ وكيف ينتسب الضلال إلي الله تبارك وتعالي؟

وهنا جوابان:

1 _ أنَّ المراد بالهدي إفاضة الانشراح علي قلب الإنسان، والمراد بالضلال حبس ذلك الفيض إذا أصرَّ الإنسان علي الضلال، كما قال عز وجل: (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصفّ: 5)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، فالضلال هو عدم الفيض وليس فيضاً وتسبيباً لإيقاع الإنسان في المعصية والعقوبة.

2 _ يقول الفلاسفة: لكلّ عمل صورة يُصطلح عليها: (علّة صورية)، وهذه الصورة من يخلقها؟ إنَّ الصورة وجود، والوجود دائماً مصدره الله تبارك وتعالي، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) (فاطر: 3).

فإن قلت: إذا أردت أن أعمل عملاً صالحاً كالصلاة تصوَّرت

ص: 206

صورتها والله هو الذي خلق هذه الصورة، وإذا أردت أن أعمل معصية أيضاً تصوَّرت صورة المعصية والله هو الذي خلق هذه الصورة، إذن هو مصدر صورة الهدي وهو مصدر صورة الضلال.

قلت: إنَّ خلق هذه الصورة في ذهن الإنسان بإرادة الإنسان وليست منفصلة عن إرادته، كما يقول الفلاسفة: كلّ وجود يحتاج لعنصرين حتَّي يوجد: (مفيض وشرط)، والمفيض هو الله، والشرط هو إرادة الإنسان، فعندما تريد أن تكتب قصيدة أو تكتب موضوعاً، فهنا مفيض وهنا شرط، فمن هو المفيض؟ إرادتك، وما هو الشرط؟ القلم، إذ لولا حركة القلم لما استطعت أن تكتب، إذن هناك مفيض للكتابة وهناك واسطة وشرط في الإفاضة ألا وهو حركة القلم.

كذلك خلق الهدي في عقلك أيضاً مشروط بشرط وهو إرادتك لذلك، وإذا أردت الضلال خلق الله صور الضلال، فهو الخالق لصور الهدي وهو الخالق لصور الضلال، ولكن هذا الخلق مشروط بإرادة الإنسان نفسه، لهذا القرآن الكريم يقول: (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصفّ: 5)، ويقول في آية أخري: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة: 67)، ويقول في آية ثالثة واضحة جدّاً: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ...) يريد الدنيا، ودورنا أن نفيض ودور الإنسان أن يريد، (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الآْخِرَةَ وَسَعي لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء: 18 _ 20).

وهذا هو السرّ في انتساب الهدي والضلال إلي الله تبارك وتعالي، وبما أنَّ إفاضة الهدي والضلال منوط بإرادة الإنسان فلا مجال للاعتراض بأنَّ لازم ذلك ظلم الله للإنسان وعدم صحَّة عقابه علي ذنوبه.

ص: 207

المحور الثالث: المهدي (عليه السلام) وعالم الهداية:

اشارة

هناك أمور ثلاثة علينا أن نلتفت إليها:

الأمر الأوّل: لِمَ سُمّي المهدي مهدياً؟

اشارة

وهنا يرد سؤال: لِمَ سُمّي المهدي مهدياً وكلّ أهل البيت مهديون؟ وهذا السؤال يرد أيضاً: لِمَ سُمّي جعفر الصادق صادقاً وكلّ أهل البيت صادقون؟ ولِمَ سُمّي الحسين شهيداً وكلّ أهل البيت شهداء؟ والمقصود الأسماء التي ورد عن أهل البيت تسمية الأئمّة بها، لا مثل لفظ العسكري الذي أطلق علي الهادي وابنه الحسن (عليهما السلام)، فإنَّه تسمية تاريخية وليس تسمية تكريمية صادرة من الأئمّة أنفسهم.

الجواب:

يُسمّي الإمام باسم أبرز الأدوار التي علم الله من الأوّل أنَّ الإمام سيقوم بها لمساهمة الظروف في ذلك، فإنَّ كلّ إمام من الأئمّة أحاطت به ظروف ولأجل تلك الظروف كلّف بدور ينسجم مع تلك الظروف فيسمّي باسم الدور الذي كلّف به وبرز به أيضاً.

مثلاً: في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) هبطت إرادة الأمّة الإسلاميّة وتقهقرت عزيمتها إلي حدًّ أصبحت الأمّة الإسلاميّة محتاجة إلي دم يراق علي الأرض حتَّي يحرّك إرادتها ويبعث عزيمتها ويوقظها من سباتها، فجاء دور الحسين(عليه السلام) فكان هو دور الشهادة، فبما أنَّ دوره دور الشهادة سُمّي باسم الشهيد وهو حيّ، يعني أنَّ الحسين منذ صغره كان يلقَّب بالشهيد، لأنَّ دوره الذي أنيط به هو الشهادة التي ستغيّر الواقع الموضوعي الذي أحاط به.

وفي عصر الإمام الصادق تعدَّدت المدارس الفكرية، علي مستوي الفقه هناك مدرسة أبي حنيفة، وهناك مدرسة مالك بن أنس، وعلي

ص: 208

مستوي علم الكلام هناك الجهمية، هناك القدرية، هناك المرجئة، هذه المدارس مدارس اجتهادية، يعني قد تخطئ وقد تصيب، فلا نستطيع أن نسمّي مدرسة الشافعي مدرسة صادقة وهي قد تخطئ وقد تصيب، ولا نستطيع أن نسمّي مدرسة مالك مدرسة صادقة لأنَّها قد تخطئ.

إذن من بين هذه المدارس الفكرية وضع الله مدرسة صادقة لا تخضع للاجتهاد، ولا تخضع إلاَّ للكشف عن الواقع وللرواية عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا جاء دور الإمام الصادق وهو أن يؤسّس مدرسة صادقة لا تعتمد علي الاجتهاد، مدرسة تعتمد علي (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)، وحديث رسول الله قول الله عز وجل)(1)، أي ليس عندنا اجتهاد حتَّي نخطئ أو نصيب، بل مدرستنا صادقة لأنَّها انكشاف للواقع ورواية مباشرة عن النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم)، بل عن الله تعالي.

قال الشاعر:

ووال أناساً ذكرهم وحديثهم *** روي جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر في الأسماع، وإنَّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة (عليها السلام)، وإنَّ عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه)، فسُئل عن تفسير هذا الكلام، فقال: (... وأمَّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ولن يظهر حتَّي يقوم قائمنا أهل البيت، وأمَّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسي وإنجيل عيسي).

ص: 209


1- عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (حديثي حديث أبي...) الحديث. (الكافي 1: 53/ باب رواية الكتب والحديث.../ ح 14).

وزبور داود وكتب الله الأولي، وأمَّا مصحف فاطمة (عليها السلام) ففيه ما يكون من حادث وأسماء كلّ من يملك إلي أن تقوم الساعة، وأمَّا الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) من فلق فيه(1) وخطّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلي يوم القيامة، حتَّي أنَّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة)(2).

إذن هذه مواريث الأنبياء والمرسلين تناقلت ووصلت إلي جعفر الصادق (عليه السلام)، لذلك سُمّي الصادق، لأنَّ مدرسته تقابل هذه المدارس الأخري، فهي ليست باجتهاد وإنَّما بوراثة العلم عن جدّه النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم).

ونأتي للمهدي، لماذا سُمّي المهدي مهدياً؟

لأنَّ دور آبائه (عليهم السلام) وإن كان هو الهداية لكن دورهم هو الهداية الخاصّة، أمَّا دوره (عليه السلام) فهو الهداية العامّة، حيث لا يبقي جزء من الأرض إلاَّ وتغمره الهداية، ولا يبقي إنسان إلاَّ وتشرف عليه الهداية، لذلك سُمّي بالمهدي.

وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (إنَّما سُمّي المهدي مهدياً لأنَّه يهدي لأمر خفي)(3)، وهو أمر لا تعرفه الناس وستهتدي له عند ظهور الإمام، وخصوصاً تأويل القرآن الكريم وبيان مغازي آياته ومضامين متشابهاته وبروز إمامة أهل البيت وأسرار مقاماتهم اللدنّية والملكوتية، فكلّها تظهر علي يد المهدي (عليه السلام).

الأمر الثاني: عصر ظهور المهدي عصر وضوح الحقيقة:

فلا يوجد مستضعف في دولة المهدي، يقول القرآن الكريم: (إِلاَّ

ص: 210


1- هو بالكسر والفتح أي من شقّ فمه، أي أمره (صلي الله عليه وآله وسلم) شفاهاً وكتبه أمير المؤمنين (عليه السلام).
2- أنظر: الإرشاد 2: 186.
3- دلائل الإمامة: 466/ ح (451/55).

الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 98)، فإنَّ المستضعف هو الذي لا يصل إلي الحقّ، كما لو فرض أنَّ هناك أناساً يعيشون في جزر بعيدة لا يصلون إلي نور الحقّ، لكن في عصر المهدي (عليه السلام) يتَّضح الحقّ وتنكشف كلّ الأدلّة والبراهين، فلا يبقي عذر لأحد في أن ينكر ربّاً أو ديناً أو نبيّاً أو إماماً، فإنَّ يومه يوم وضوح الحقّ وظهوره.

إنَّ المفضَّل بن عمر سمع من الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (ولترفعنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدْرَي أيّ من أيّ)، فلمَّا سمع المفضَّل هذا الكلام بكي، فقال له الإمام الصادق (عليه السلام): (ما يبكيك يا أبا عبد الله؟)، قال: فقلت: وكيف لا أبكي وأنت تقول: (اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدري أيّ من أيّ)؟ فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلي شمس داخلة في الصفة، فقال: (يا أبا عبد الله تري هذه الشمس؟)، قلت: نعم، قال: (والله لأمرنا أبين من هذه الشمس)(1).

إذن هناك هالة من وضوح الحقّ والحقيقة في زمانه (عليه السلام) بحيث يكون أمرهم وأمر إمامتهم واضحاً لكلّ أحد يعيش علي كوكب الأرض فلا مجال لإنكاره أو الشكّ أو التردّد فيه.

الأمر الثالث: عصر المهدي عصر اتّصال الإنسان بالملائكة:

تعرَّضنا فيما سبق إلي أنَّ عصر المهدي عصر الحضارة الكونية وسيطرة الإنسان علي الكون كلّه(2)، وهذا يتوقَّف علي معرفة الإنسان بعالم الملائكة؛ لأنَّ الملائكة دخيلون في إدارة الكون، دخيلون في تدبير أمر الوجود، فلا يمكن إقامة الحضارة الكونية إلاَّ بالإحاطة بعالم

ص: 211


1- كمال الدين: 347/ باب 33/ ح 35.
2- راجع المحور الثاني من المحاضرة السابعة.

الملائكة وأدوارهم، فعصر المهدي عصر يتَّصل فيه الإنسان بالملائكة، ليعرف مدي دور الملك في تدبير أمر الوجود.

وقد مرَّ سابقاً روايات متعدّدة في هذا المجال، ونحن نقرأ في دعاء ليلة النصف من شعبان: (نورك المتألّق وضياؤك المشرق والعَلَم النور في طخياء الديجور الغائب المستور جَلَّ مولده وكرم محتده والملائكة شهده) يعني أنَّ الملائكة محيطة به (عليه السلام) بحيث لا يخفي علي أحد دور هؤلاء الملائكة، (والملائكة شهده والله ناصره ومؤيده)(1)، ونقرأ في الزيارة أيضاً: (السَّلامُ عَلَيْكَ يَا نَاظِرَ شَجَرَةِ طُوبَي وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَي)(2).

وفي الرواية: (إنَّ أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (عليه السلام)، لم يُؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستيذان فهبطوا وقد قتل الحسين (عليه السلام)، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلي يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له: المنصور)(3)، وفي رواية أخري: (فلا يزوره زائر إلاَّ استقبلوه، ولا يودّعه مودّع إلاَّ شيَّعوه، ولا مرض إلاَّ عادوه، ولا يموت إلاَّ صلّوا علي جنازته واستغفروا له بعد موته)(4)، وفي رواية ثالثة: (فهم عند قبره شعث غبر إلي أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين)(5).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *).

ص: 212


1- مصباح المتهجّد: 842/ الرقم (908/23).
2- المزار لابن المشهدي: 587.
3- كامل الزيارات: 171 و172/ باب 27/ ح (222/2).
4- الكافي 4: 581 و582/ باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)/ ح 7.
5- أمالي الصدوق: 192/ ح (202/5).

المحاضرة الثانية عشرة: يوم الظهور انتصار فكري لا مادي

اشارة

(12/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(29/ 12/ 2009م)

ص: 213

ص: 214

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55).

تتضمَّن هذه الآية المباركة وعداً بخلافة الأرض وتمكين الدين من الأرض كلّها، وهذا الوعد لم يتحقَّق إلي يومنا هذا، فلا بدَّ من يوم يتحقَّق فيه للمسلمين خلافة الأرض كلّها وتمكّن دينهم من الأرض كلّها، وهذا لا ينطبق إلاَّ علي ما أفصحت عنه الروايات الشريفة، فعن الصادق (عليه السلام) في رواية متعدّدة الطرق أنَّه قال: (نزلت في القائم وأصحابه)(1).

وبمضمون هذه الآية توجد آيات أخري مع تفسيرها في الروايات مثلاً: قوله تعالي: (وَيَقُولُونَ مَتي هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (السجّدة: 28 _ 30)، ففي الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (يوم الفتح يوم تفتح الدنيا علي القائم)(2).

وفي آية أخري، قال تعالي: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ7.

ص: 215


1- الغيبة للنعماني: 247/ باب 13/ ح 35.
2- تأويل الآيات 2: 445/ ح 9؛ ينابيع المودّة 3: 246/ باب 71/ ح 37.

كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (الأنعام: 158)، ففي الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (الآيات هم الأئمّة والآية المنتظرة هو القائم (عليه السلام))(1).

وانطلاقاً من مضامين هذه الآيات الشريفة نتحدَّث في محاور ثلاثة:

المحور الأوّل: يوم الظهور انتصار فكري لا انتصار عسكري:

اشارة

قد يتصوَّر كثير من الباحثين أنَّ عصر الظهور هو عصر الانتصار العسكري بمعني أنَّ الدين يفرض علي الأرض كلّها بلغة القوّة وبلغة السلاح، وبالتالي فإنَّ فرض الدين علي الأرض كلّها بلغة القوّة وبلغة السلاح أمر لا يتناسب مع كونه اليوم الموعود.

وقد يقول بعض الباحثين: إنَّ المستفاد من بعض الآيات الشريفة أنَّ اليوم الموعود هو يوم عسكري، مثلاً: قوله تعالي: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، معناه أنَّ هناك فئة كارهة معارضة لظهور الدين ومع ذلك فُرض عليها الدين، ومعناه أنَّ الفرض سوف يكون بقوّة السلاح وليس بالفكر والقناعة. ومثلاً: قوله تعالي: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (التوبة: 32)، يدلُّ علي أنَّ هناك فئة كارهة لظهور الدين، فالدين سوف يفرض عليها بالقوّة. ومثلاً: قوله تعالي: (كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: 21)، وكلّ هذه الآيات توحي بأنَّ يوم الظهور هو يوم غلبه عسكرية يفرض فيها الدين علي الأرض كلّها بمنطق القوّة لا بلغة الفكر والقناعة، وهذا لا ينسجم مع طبيعة الفكر الإسلامي، لأنَّ أيّ فكر لا يفرض بالقوّة إلاَّ إذا كان فيه خلل ويعوّض نقصه بفرضه بالقوّة، بينما الفكر الإسلامي من جهةٍ هو فكر كامل لقول القرآن الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ

ص: 216


1- الإمامة والتبصرة: 101/ باب إمامة القائم (عليه السلام)/ ح 91.

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3)، ومن جهة أخري هو فكر متطابق مع الفطرة السليمة، يقول القرآن الكريم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (الروم: 30)، وبما أنَّ الدين والفكر الإسلامي فكر كامل ومتطابق مع الفطرة الإنسانية السليمة فلماذا يفرض بالقوّة؟

إذن ظاهر هذه الآيات أنَّ اليوم الموعود يوم عسكري ينتصر فيه الدين انتصاراً عسكرياً، وهذا لا ينسجم مع كون الفكر الإسلامي فكراً عرض لأجل أن يقتنع به الناس ويقبل عليه أبناء المجتمع الإنساني، وهذه الشبهة التي ذكرها بعض الباحثين نجيب عنها بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: لا يمكن فرض الدين بالسلاح:

إنَّ الفكر الإسلامي أو الفكر الديني بصفة عامّة لا يمكن فرضه بالقوّة ولا بلغة منطق السلاح.

أوّلاً: لأنَّ الدين شيء لا يمكن الإكراه عليه، فهو من الأمور الوجدانية لا من الأمور الخارجية، فالصلاة مظهر للدين، والحجّ مظهر للدين، وليس هذا هو الدين, لأنَّ الدين أمر وجداني موطنه القلب، والقلب لا يمكن السيطرة عليه من أيّ قوّة في العالم، فهو المنقطة الحرّة الوحيدة في العالم كلّه، لأنَّه مجموعة من الوجدانيات والخواطر والمعتقدات ولا يمكن لأحد التحكّم فيها، لذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِن بِسَيْفِي هَذَا عَلَي أنْ يُبْغِضَنِي مَا أبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَي الْمُنَافِقِ عَلَي أنْ يُحِبَّني مَا أحَبَّني)(1)، فإنَّ السيطرة علي القلب غير ممكنة لأيّ إنسان، لأجل ذلك لا

ص: 217


1- نهج البلاغة 4: 13/ ح 45.

يمكن السيطرة علي الدين، لأنَّ الدين موطنه القلب، فالدين لا يُعقل الإكراه عليه، ولأجل ذلك فمن المستحيل فرض الدين بالقوّة.

لمَّا قُتل الإمام علي (عليه السلام) بدأ معاوية يلتقط أصحاب الإمام علي واحداً بعد واحد، فهناك من يصفّيه، وهناك من يجلبه بالأموال، وهناك من يتركه يعيش حالة من الإرهاب والخوف والقلق، وكلّ واحد يعامله معاوية بحكم جهازه الاستخباري معاملة خاصّة، فأرسل معاوية إلي أبي الأسود الدؤلي _ أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) _ شيئاً من الحلواء يريد بذلك استمالته وصرفه عن حبّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود: يا ابنتي ألقيه فإنَّه سمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين، ويردّنا عن محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، فقالت الصبيّة: قبَّحه الله يخدعنا عن السيّد المطهّر بالشهد المزعفر، تباً لمرسله وآكله، فعالجت نفسها حتَّي قاءت ما أكلته، ثمّ قالت:

أبالشهد المزعفر يا ابن هند *** نبيع عليك أحساباً ودينا

معاذ الله كيف يكون هذا *** ومولانا أمير المؤمنينا (1)

ثانياً: إنَّ قوله تعالي: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لأنَّه (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، بمعني أنَّ الدين لا يحتاج إلي إكراه، فإنَّ كلّ فكر قويّ لا يحتاج أن يُكره الناس عليه، لأنَّ الفكر لا يأخذ قوَّته من الدولة ولا من السلاح، بل يأخذ قوَّته من المنطق الذي يدعمه، لذلك لا يحتاج إلي أن يُفرض بالقوّة، بل هو ينتشر تلقائياً، وهذا هو معني الآية: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) يعني أنَّ الفكر .

ص: 218


1- مواقف الشيعة 3: 274/ الرقم 891 .

الديني يدعمه الدليل ويدعمه البرهان ويدعمه المنطق العقلي، فلا مبرّر للإكراه عليه، وهذا هو معني قوله تعالي: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (الأنعام: 149).

ثالثاً: الإكراه علي الدين يخلق أثراً معاكساً للدين.

يقول علماء الكلام: نقض الهدف يتنافي مع الحكمة، فكلّ إنسان حكيم يرسم لنفسه أهدافاً، ولا يقوم بعمل يتناقض مع أهدافه، لأنَّ نقض الهدف لا يجتمع مع الحكمة، فكيف بالله تبارك وتعالي وهو الحكيم المطلق؟ فبما أنَّ الله حكيم قد أنزل الدين، والهدف من إنزال هذا الدين أن يتفاعل الناس معه تفاعلاً قلبياً وسلوكياً، فإذا كان الهدف من إنزال الدين التفاعل معه في مرحلة السلوك فإنَّ فرضه بالقوّة مانع من التفاعل مع الدين، يقول القرآن الكريم: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: 45)، ويقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، والتقوي والانتهاء عن الفحشاء والمنكر لا يحصل إلاَّ مع الصلاة الاختيارية، أمَّا الصلاة الإكراهية فلن يتفاعل معها الإنسان حتَّي يصل إلي مرحلة التقوي أو مرحلة الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

إذن الإكراه علي الدين يمنع عن التفاعل معه، وإذا أصبح الدين بلا تفاعل كان ذلك نقض الهدف من تشريعه، ونقض الهدف لا ينسجم مع الحكمة، فكيف بالحكيم تبارك وتعالي؟ إذن الإكراه علي الدين غير معقول وغير متصوَّر، هذا هو الأمر الأوّل.

بل قد يقال: إنَّ فرض النظام بالقوّة ليس أمراً قبيحاً عقلاً ولا مستهجناً لدي العقلاء إذا كان في مصلحة المجتمع نفسه، فلو فرضنا أنَّ مجتمعاً رفض مرافق التعليم والصحَّة وأصرَّ أن يعيش بدائياً، فهل يمكن تركه بحجّة أنَّ الإكراه علي النظام غير حضاري؟ لا يمكن ذلك، بل لا

ص: 219

بدَّ من فرض نظام التعليم والصحَّة عليه، وليس ذلك قبيحاً عقلاً ولا مستهجناً عرفاً لأنَّه في صالحه وإن رفض، نظير المريض بمرض خطير فإنَّ فرض العلاج عليه بالقوّة ليس قبيحاً ما دام علاجه إحساناً إليه وإن كان رافضاً له، وهذه هي فلسفة الجهاد في الإسلام، وفلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ عبادة الإنسان لمخلوق آخر أقلُّ منه كالأصنام والحيوانات والكواكب يتنافي مع كرامة الإنسان وأشرفيته، كما أنَّ الانسياق وراء المنكرات التي تحوّل المجتمع لمجتمع حيواني إباحي يتنافي مع عقلانية الإنسان وهدف خلقته وهو بناء الحضارة المادية والروحية معاً، لذلك كان الجهاد ونظام الرقابة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان بالقوّة غير قبيح عقلاً ولا مستهجناً لدي العقلاء ما دام في مصلحة المجتمع وهذا ما تقوم به كلّ دولة، حيث إنَّها تفرض نظامها بالقوّة لضبط مصلحة الشعب فلا ضير في قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بهذا الدور.

الأمر الثاني: وجود فئة كارهة للدين لا يدلُّ علي فرض الدين بالقوّة:

قوله تعالي: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، أو (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)، هذه الآيات لا تدلُّ علي أنَّ الدين سيفرض عليهم بالقوّة، لأنَّ وجود فئة كارهة للدين لا يدلُّ علي أنَّ الدين فرض عليها بالقوّة، لأنَّ كلّ إنسان لديه قوّتان _ كما يقول علماء العرفان _:

1 _ قوّة العقل. 2 _ قوّة القلب.

ودور قوّة العقل هو استيعاب المعلومات واستنتاجها، أمَّا قوّة القلب فدورها أن تكذّب، أو تصدّق، أو تشكّك، أو تتيقَّن، أن تحبّ، أو

ص: 220

تبغض، أو تفرح، أو تحزن، فإذا تطابقت القوّتان قوّة العقل والقلب تحقَّق الإيمان، وإذا تعاكست القوّتان لم يتحقَّق الإيمان.

مثلاً: يقول علماء الأصول في مبحث حجّية القطع: لو فرض أنَّ ليلة من الليالي تركت معك جنازة في الغرفة من دون الكهرباء، هل تستطيع أن تستقرّ في الغرفة مع هذه الجنازة ليلة كاملة؟ سيكون الجواب: لا تستطيع، حتَّي لو كنت إنساناً شجاعاً لأنَّ قلبك لم يتطابق مع عقلك، فإنَّ قوّة العقل تقول: هذا ميّت جثّة هامدة لا يمكن أن يحدث منه ضرر، لكن قوّة القلب لا تطاوع قوّة العقل، وتبدأ الهواجس والمخاوف حتَّي يمتنع الإنسان عن هذا العمل، فهنا لم يتطابق قوّة القلب مع قوّة العقل.

كذلك من ناحية الدين، أحياناً يقتنع الإنسان بالفكر الديني مائة بالمائة، لأنَّ البراهين تدلُّ علي أنَّ هذا الفكر صحيح بحسب قوّة العقل ولكن قوّة القلب لا تطيع قوّة العقل.

فبالنتيجة قد يري الإنسان أنَّ الفكر الديني صحيح مائة بالمائة بحسب قوّة العقل لكن قوّة القلب لا تطيع قوّة العقل لعوامل أخري، فلا يتحقَّق الإيمان المطلوب. ومن هنا قالت الآية القرآنية: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (النمل: 14)، والمقصود من الأنفس العقول فإنَّها أدركت أنَّه صحيح لكن القلوب لم تطع العقول، والنتيجة أنَّ الإنسان قد يري أنَّ الفكر صحيح لكنَّه يكرهه من داخل قلبه لعوامل عاطفية أو لعوامل نفسية، وهو ما تشير إليه الآية المباركة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).

إذن هذا التعبير لا يدلُّ علي أنَّ الدين سيفرض يوم الظهور بالقوّة، بل سينتشر الدين والفكر الإسلامي وإمامة علي وأهل البيت (عليهم السلام) كلّ

ص: 221

ذلك بالمنطق العقلي، لكن الفئة الكافرة لن تؤمن بذلك، لا لأنَّه مفروض عليهم، بل لأنَّ الكراهة نابعة من عوامل نفسية أو ثقافية تراكمية إلي غير ذلك, إذن هذه الآيات لا تدلُّ علي أنَّ يوم الظهور يوم انتصار عسكري، بل هو يوم انتصار فكري، كما اتَّضح ذلك من خلال الروايات الشريفة.

المحور الثاني: بقاء الفكر المعارض:

اشارة

هناك شبهة طرحها بعض الباحثين أيضاً وهي أنَّ ظاهر بعض النصوص بقاء الفكر المعارض إلي زمن دولة المهدي (عليه السلام)، وهذا لا ينسجم مع تطبيق الآيات علي يوم الظهور، فإنَّ قوله تعالي: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، ظاهره أنَّه ليس هناك دين آخر، بينما ظاهر الآيات الأخري أنَّ هناك ديناً آخر سيبقي حتَّي في زمن ظهور المهدي (عليه السلام)، فما هي هذه الآيات؟

مثلاً: قوله تعالي في حقّ اليهود: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) (المائدة: 64)، وظاهرها أنَّ اليهود سوف يبقون إلي يوم القيامة لأنَّ القرآن يقول: (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ)، فمعناه أنَّ اليهود ستبقي إلي يوم القيامة، وهذا يتنافي مع قوله تعالي: (لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ).

وكذلك في آية أخري تتحدَّث عن النصاري: (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصاري أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: 14)، وظاهرها بقاء اليهودية والنصرانية إلي يوم القيامة إلي عصر المهدي (عليه السلام).

ص: 222

وأيضاً قوله تعالي: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (ص: 24)، يعني أنَّ المؤمنين سوف يبقون قلَّة إلي الأخير، أو قوله تعالي: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَْوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآْخِرِينَ) (الواقعة: 10 _ 14)، أي إنَّ الموجودين من المقرَّبين في عصر المهدي (عليه السلام) قلّة، فكيف يقال بأنَّ يوم المهدي (عليه السلام) هو يوم ظهور الدين علي الدين كلّه مع أنَّ ظاهر هذه الآيات أنَّه توجد فئة غير متديّنة يهودية أو نصرانية، غير مؤمنة حتَّي يوم عصر ظهور المهدي (عليه السلام)؟

الجواب:

أوّلاً: اليهودية الحقّة والنصرانية الحقّة لا مانع أن تبقي إلي يوم القيامة، لأنَّها هي الإسلام, قال تعالي: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلي شَيْءٍ حَتَّي تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالإِْنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (المائدة: 68)، وقال تعالي في آية أخري: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِْنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: 66)، وإقامة التوراة والإنجيل بمعني إقامتهما بتمام آياتهما، ومن جملة آيات التوراة والإنجيل هذه الآية: (وَإِذْ قالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصفّ: 6).

إذن الإنجيل ينصُّ علي أنَّ هناك رسولاً بعد عيسي (عليه السلام)، فالنصرانية الحقّة هي النصرانية التي تؤمن بالنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، فهذا هو الإسلام، ولذلك قال عز وجل في آية أخري: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلي إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسي وَعِيسي وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136)،

ص: 223

ويقول تعالي في آية ثالثة: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، بمعني أنَّ الإسلام هو الذي يؤمن بجميع الرسل، وهذا هو المقصود بقوله تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصاري مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: 69).

ثانياً: لنفترض أنَّ اليهودية المحرَّفة أو النصرانية المحرَّفة سوف تبقي إلي يوم الظهور، فلا مانع من أن يتعامل معها المهدي (عليه السلام) كما تعامل جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وجدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع اليهود والنصاري الذين كانوا يعيشون في ظلّ الدولة الإسلاميّة بشرائط الذمّة بينهم وبين المسلمين، وهذا لا ينافي مع قوله تعالي: (لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ) لأنَّ المقصود بالظهور هنا الغلبة، بمعني أنَّ السيطرة والقوّة والدولة للدين الإسلامي، وهذا لا ينافي وجود بعض الأقلّيات التي تؤمن بدين آخر، وهذا معني قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)(1)، أي إنَّ القوّة والسيطرة هي للقسط والعدل، وهذا لا يتنافي مع وجود أقلّيات تؤمن بدين آخر.

ثالثاً: إنَّ هذه الآية التي قرأناها: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ) (المائدة: 14)، لا تدلُّ علي بقاء اليهود إلي يوم القيامة، فهذا التعبير في العرف العربي كناية عن عدم الاتّحاد.

مثلاً: إذا كان لديك صديق جار لا يعتدل، يصحُّ أن تقول عنه: جاري لا يعتدل، بل هو أعوج إلي يوم القيامة، فليس معناه أنَّه سوف يبقي إلي يوم القيامة، بل هو كناية عن عدم الاعتدال، كأنَّك تريد القول: إنَّ هذا لو عاش إلي يوم القيامة فسوف يبقي أعوجاً لا يتغيَّر، فقوله تعالي: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ).

ص: 224


1- أمالي الصدوق: 78/ ح (45/3).

إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ) يشير إلي أنَّ اليهود لا يتَّحدون أبداً، حتَّي اليهود في زماننا هذا الموجودون في فلسطين المحتلّة ليسوا متَّحدين، فإنَّ بعضهم ضدّ الدولة الصهيونية، والآية تريد أن تقول: إنَّ اليهود لا يتَّحدون ولو بقوا إلي يوم القيامة، وليس إخباراً عن بقائهم إلي يوم القيامة، كما في قوله تعالي: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، وقوله تعالي: (ثُلَّةٌ مِنَ الأَْوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآْخِرِينَ) (الواقعة: 13 و14)، فإنَّ المقصود به بملاحظة مجموع الأزمنة لا بملاحظة زمان المهدي(عليه السلام)، فلو أجريت إحصائية للموجودين في زمان المهدي (عليه السلام) وكانوا مثلاً في عصره مئة مليار إنسان، فإنَّ نسبتهم إلي عدد البشرية منذ يوم آدم إلي يوم المهدي (عليه السلام) واحد بالمائة مثلاً، فهذه النسبة تعتبر قليلاً وليست كثيراً، فلنفترض أنَّ جميع من في عصر المهدي مؤمنون مع ذلك يعتبر نسبة المؤمنين إلي الكافرين منذ يوم آدم إلي يوم المهدي قليلاً وليس كثيراً.

والنتيجة أنَّ الآيات صادقة علي كلّ حال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)، (وَقَلِيلٌ مِنَ الآْخِرِينَ)، بمعني أنَّ نسبة المؤمنين في مجموع الأزمنة إلي الفاسقين أو الكافرين تعتبر قليلة، وهذا المضمون صادق حتَّي لو كان كلّ من في عصر المهدي إنساناً مؤمناً.

المحور الثالث: كيفية تعامل المهدي (عليه السلام) مع الفئة المعارضة:

اشارة

هناك أيضاً شبهة مطروحة عند بعض الباحثين مفادها أنَّه إذا فرضنا وجود فئة معارضة في زمان المهدي (عليه السلام)، فهي لا تريد دولته لعدم قناعتها وعدم إسلامها، فكيف سيتعامل المهدي مع هذه الفئة المعارضة؟

وبعبارة أخري: هل في دولة المهدي (عليه السلام) حرّية فكرية بحيث يحقُّ للإنسان أن يطرح فكراً معارضاً لفكر الدولة؟ وهل في عصر المهدي (عليه السلام) حرّية

ص: 225

إعلامية بحيث يحقُّ لفئة من المجتمع أن تُصدر إعلاماً معارضاً لإعلام الدولة أم لا؟ فهذه هي النقطة الأساسية.

والجواب عن هذه النقطة بوجهين:

الوجه الأوّل: الفكر المعارض غير متصوّر:

فنحن لا نتكلَّم عن الإنسان الذي يعيش مرضاً نفسياً معيَّناً، بل نتكلَّم عن الإنسان العاقل، فلماذا لا يتصوَّر له فكر معارض؟

إنَّ المتنبّي يقول:

والظلم من شيم النفوس *** فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم

أي إنَّ الظلم شيء فطري في الإنسان, والإنسان بطبعه يظلم الآخرين، لكن المنطق الإسلامي خلاف ذلك، فهو يقول: الظلم ليس شيئاً فطرياً، بل الظلم شيء طارئ، والشيء الفطري هو العدل.

فعن معروف بن خربوذ، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: (إنَّما يعجل من يخاف الفوت، وإنَّما يحتاج إلي الظلم الضعيف)(1)، ومعناه أنَّ الإنسان الذي يخاف أن تفوته الفرصة يستعجل فيقع في الخطأ، والإنسان الضعيف هو الذي يظلم، أمَّا الإنسان القويّ بفكره والقويّ بسلوكه لا يحتاج إلي أن يظلم، لأنَّ فكره يفرض نفسه، وإنَّما يحتاج إلي الظلم الضعيف، كما أنَّ الظلم ينشأ عن عقدة النقص ويعوّض الإنسان نقصه بالظلم.

وإذا عاش الإنسان في دولة عادلة تضمن له حقوقه وتوفّر له العيش الرغيد، وتوفّر له الرخاء التامّ، وتضمن له مصالحه الشخصية، فلن يفكّر في الظلم أبداً، ولن يفكّر في التمرّد، ولن يفكّر في المعارضة، لأنَّه

ص: 226


1- من لا يحضره الفقيه 1: 491/ ح 1409.

يعيش عيشاً رغيداً فلماذا يفكّر في الظلم والمعارضة؟ والمفروض أنَّ دولة المهدي هي دولة الرخاء، دولة العدل، دولة العيش الرغيد، فلماذا يفكّر الإنسان في دولة المهدي (عليه السلام) في المعارضة؟ وهذا ما يستفاد من قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)، فإنَّ العدالة الاجتماعية فرع العدالة الفردية، والعدالة الفردية فرع العدالة الفكرية، فإذا كانت الثقافة ثقافة عادلة سوف يكون السلوك عادلاً، وإذا كان السلوك سلوكاً عادلاً ففيه تتحقَّق العدالة الاجتماعية.

إذن بما أنَّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فهذا معناه أنَّه سيملأ المجتمع ثقافة عادلة، لكي تتحوَّل الثقافة العادلة إلي سلوك عادل، ثمّ يتحوَّل السلوك العادل إلي عدالة اجتماعية، فلا يتصوَّر إنسان ظالم أو إنسان يحمل فكراً معارضاً أو إعلاماً معارضاً، لأنَّ الإنسان العاقل لا يكون له فكر معارض للعدالة.

الوجه الثاني: النزعة العدوانية هي الممنوعة:

لو تصوَّرنا جدلاً أنَّ هناك فئة معارضة للمهدي تحمل فكراً غير فكره وأنَّ المعارض معذور، فسيرة المهدي معها كسيرة جدّه كما ورد في الروايات أنَّه: (... وأمَّا سُنّة من محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) فيهتدي بهداه ويسير بسيرته)(1)، فكما أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يغلق باب الحرّية الفكرية وإنَّما منع من تحوّل الكلمة المعارضة إلي فتنة أو تحوّل الكلمة المعارضة إلي نزعة عدوانية، فإنَّ من الأهداف السامية لدي المشرّع الأقدس هو الحفاظ علي وحدة المجتمع الإنساني وعدم تفتّته بالصراعات الداخلية

ص: 227


1- كمال الدين: 351/ باب 33/ ح 46.

كما هو المستفاد من قوله عز وجل: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، والحفاظ علي السلوك الفطري القويم القائم علي الأخوّة والتعاون كما هو المستفاد من قوله عز وجل: (وَتَعاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَالتَّقْوي) (المائدة: 2)، والحفاظ علي المجتمع من الفسوق والفواحش كما في قوله عز وجل: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (الإسراء: 16)، فكلّ كلمة معارضة تؤدّي لبعث الصراعات أو انحراف المجتمع لا قبح عقلاً في مواجهتها بالقوّة لأنَّ مفسدة تركها أشنع بكثير من مفسدة اقتلاعها بالقوّة، كما هو المستفاد من قوله عز وجل: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّي لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)، وأمَّا مجرَّد الاختلاف فليس ممنوعاً.

وقد تحدَّث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده العظيم لمالك الأشتر عن معالم الدولة الإسلاميّة في كلّ زمان، ولا نتصوَّر أنَّ دولة المهدي علي خلاف هذا العهد، ومن معالمها توفير حقوق المواطنة لأيّ مواطن سواء اختلف مع الدولة في الدين أو لم يختلف.

يقول (عليه السلام): (وَأشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أخٌ لَكَ فِي الدَّين، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(1)، هذه هي الدولة الإسلاميّة، وهذه هي الدولة العلوية، بخلاف الدولة الأموية الذي تعاملت علي أساس الاختلاف في الدين، أو علي أساس الاختلاف في اللغة، أو الاختلاف في العرق.ي.

ص: 228


1- نهج البلاغة 3: 84/ ح 53، من عهد له (عليه السلام) إلي مالك الأشتر النخعي.

وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) يتعاملون مع من يختلف معهم في الدين، بلغة التكريم، قال تعالي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (الإسراء: 70).

وفي قصَّة الإمام الحسين (عليه السلام) كان أحد أنصاره عثماني الهوي _ وبعض الروايات تقول: إنَّه زهير بن القين(1)، ومع ذلك تعامل الإمام معه باللطف إلي أن حوَّله من ذلك الإنسان العثماني الهوي إلي حسيني المحبّة وحسيني النصرة والجهاد، وأصبح من أنصار الحسين، ومن الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم بين يدي الحسين (عليه السلام)، بل الحسين فتح باب الرحمة لكلّ من قاتله إلي آخر لحظات حياته، وكان يبكي علي أولئك القوم ويقول: (أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي)(2)، لكنَّهم أصرّوا علي المجزرة الشنيعة والمذبحة المفجعة وأبادوا عترة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *1.

ص: 229


1- أنظر: من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام): 188؛ وجاء في الإرشاد (ج 2/ ص 72): (حدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة، قالوا: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة، فكنّا نساير الحسين (عليه السلام)، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل...).
2- بنور فاطمة اهتديت لعبد المنعم حسن: 201.

ص: 230

المحاضرة الثالثة عشرة: دور المرجعية في عصر الغيبة

اشارة

(13/ محرَّم الحرام/ 1431ه-)

(30/ 12/ 2009م)

ص: 231

ص: 232

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالي في محكم كتابه الكريم:

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).

إنَّ الآية المباركة تحثُّ علي التفقّه في الدين، والمراد من التفقّه في الدين تعلّم المعارف الإسلاميّة سواء أكانت علي مستوي الأصول وعلم العقائد، أم علي مستوي الفروع وعلم الفقه.

ففي صحيحة يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث علي الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟ قال: (أين قول الله عز وجل: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)؟)، قال: (هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر، حتَّي يرجع إليهم أصحابهم)(1)، فهذه الصحيحة تدلُّ علي أنَّ التفقّه في الدين عنوان يشمل معرفة الإمام (عليه السلام).

وانطلاقاً من هذه الآية المباركة، نتحدَّث في عدّة محاور:

المحور الأوّل: تقسيم العقائد:

ذكر علماؤنا الأبرار 4 أنَّ المعتقدات علي قسمين: قسم يجب معرفته ابتداءاً فهو واجب في نفسه عقلاً وشرعاً، وقسم لا يجب معرفته كذلك، ولكن

ص: 233


1- الكافي 1: 378/ باب ما يجب علي الناس عند مضي الإمام/ ح 1.

مقتضي التديّن بالإسلام وبما ثبت عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) الإيمان به، أي إذا قام الدليل عليه فعلي الإنسان أن يدين به، وعليه أن يعقد قلبه علي طبقه.

والضابطة في هذا التقسيم تارة تلحظ بالنظر للوجوب الشرعي، وأخري بالنظر للوجوب العقلي، فإن لوحظ الوجوب الشرعي فما قام عليه الدليل القطعي كالتواتر وضرورة الإسلام وضرورة المذهب فهو واجب المعرفة ابتداءاً، وما لم يكن كذلك فالمناط في التديّن به علي قيام الدليل عليه ولو كان خبر ثقة، وإلاَّ فيمكنه التديّن بالواقع علي ما هو عليه. وإن لوحظ الوجوب العقلي فقد ذكر له ضابطتان:

1 _ ما كان مندرجاً تحت ميزان الحسن والقبح العقليين كوجوب شكر المنعم _ بناءاً علي لزومه عقلاً _، وما هو من مقدّماته أو من المتفرّعات عليه فهو واجب المعرفة والتديّن به عقلاً، وما ليس كذلك فلا.

2 _ ما كان من المدركات العقلية الأوّلية أو من لوازمها فهو واجب ابتداءاً، وما ليس كذلك فلا.

مثلاً: أصول الدين الخمسة ولوازمها ممَّا يجب معرفته عقلاً، فالإنسان إذا أدرك وجوده أدرك أنَّ وجوده نعمة، وأدرك أنَّ هناك منعماً يجب عليه معرفته مقدّمة لشكره أو لمجانبة الكفران به، فإذا تعرَّف علي المنعم عرف أنَّ ذلك المنعم ذات جامعة لصفات الكمال ومنها العدل والحكمة واللطف، إذ لا يعقل أن لا يكون مصدر الكمال والنعم الكاملة غير كامل، وإذا أدرك ذلك أدرك عقله أنَّ مقتضي العدل واللطف والحكمة بعث الأنبياء ونصب الأئمّة ووجود يوم للجزاء وهو يوم المعاد.

فهذه الأصول الخمسة ممَّا يجب معرفتها عقلاً، وكذلك لوازمها، مثلاً: من لوازم النبوّة والإمامة أن يكون النبيّ عالماً بالتشريع وأن يكون

ص: 234

معصوماً، إذ لا يمكن أن يكون نبيّاً أو إماماً وحجّة علي الغير ما لم يكن عالماً بالتشريع ومعصوماً, فهذه يجب معرفتها عقلاً، لأنَّ العقل حاكمٌ بها.

والقسم الثاني ما ليس من المدركات العقلية الأوّلية ولا من لوازمها، بل بعضها أمور لا يصل إليها العقل، مثلاً: تفاصيل البرزخ، عذاب القبر، سؤال منكر ونكير، تفاصيل يوم القيامة، الصراط، الميزان، الحساب، فلا يجب معرفتها عقلاً، وإنَّما إذا قام الدليل النقلي الصحيح عن المعصوم بثبوت هذه الأمور فعلي المسلم أن يتديَّن بها تصديقاً لقول المعصوم.

المحور الثاني: الميزان في الإسلام والتشيّع:

اشارة

يُعدّ الإنسان مسلماً إذا تشهَّد الشهادتين تصديقاً للنبيّ محمّدٍ (صلي الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا إذا أنكر الإنسان ضرورة من ضروريات الدين، مثلاً: وجوب الصلاة، وجوب الصوم، وجوب الحجّ، فإذا كان ملتفتاً إلي أنَّ إنكار الضروري يستلزم تكذيب النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) لأنَّه أخبر بهذا الضروري فيُعدُّ خارجاً عن الإسلام لأنَّه يُعدُّ مكذّباً للنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، أمَّا إذا لم يكن ملتفتاً للملازمة وأنكر الضروري وهو غافل عن لوازم ذلك، أو أنَّ عقله قاصر، أو في ذهنه شبهة، فلا يعدُّ منكراً للإسلام وإن أنكر ضرورياً.

والميزان في التشيع كما يستفاد من الروايات هو الدينونة بدلالة الإمام المعصوم.

ففي صحيحة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (... ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضي الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إنَّ الله يقول: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّي فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء: 80)، أمَا لو أنَّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم

ص: 235

يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته له عليه، ما كان له علي الله حقّ في ثواب، ولا كان من أهل الإيمان)(1).

إذن ميزان التشيّع أن تعترف بأنَّ هناك إماماً معصوماً منصوباً من قبل الله عز وجل وأنَّ جميع أعمالك تكون بدلالة نظر هذا الإمام.

والطريق لنظر الإمام علي قسمين:

الطريق الأوّل: الطريق الظنّي:

وهو الذي يرد علينا بخبر الآحاد، مثلاً: من المؤكَّد أنَّ النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله وسلم) كانت له ولاية علي التشريع، أي كان من حقّه التشريع.

فعن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: (... ثمّ إنَّ الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إلي الركعتين ركعتين وإلي المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنَّ إلاَّ في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك فصارت الفريضة سبع عشر ركعة...)، إلي أن قال: (وحرَّم الله عز وجل الخمر بعينها وحرَّم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) المسكر من كلّ شراب فأجاز الله له ذلك كلّه...)(2).

وعن زرارة، ومحمّد بن مسلم، وأبي بصير، وبريد بن معاوية العجلي، وفضيل بن يسار، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، قالا: (فرض الله الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنَّها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء)(3).

إذن الرسول كانت له ولاية علي التشريع بمقتضي نفسه القدسية

ص: 236


1- المحاسن للبرقي 1: 287/ باب الشرائع/ ح 430.
2- أنظر: الكافي 1: 266 و267/ باب التفويض إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).../ ح 4.
3- الكافي 3: 509/ باب ما وضع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الزكاة عليه/ ح 1.

التي لا تخطأ الواقع، فهل هذه الولاية التي كانت للنبيّ ثابتة للأئمّة من بعده أم لا؟

ونقول: هذا محلّ خلاف بين العلماء، لأنَّ الطريق هنا طريق ظنّي، فهناك روايات تقول: (فما فوّض إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فوّض إلينا)(1)، وهذه الروايات محلّ بحث لدي علمائنا، وقد تأمَّل فيها شيخنا التبريزي (قدس سره) من ناحية سندية وذكر أنَّ ظاهر روايات الجامعة _ كتاب بإملاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وخطّ علي (عليه السلام) فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتَّي أرش الخدش إلي يوم القيامة _ اكتمال التشريع منذ زمن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) وإن فوّض إلي الأئمّة الولاية علي تبليغه فقط، لا لقصور ولايتهم عن التشريع، بل لكمال التشريع نفسه، إذن هذه مسألة نظرية جاءت عن طريق ظنّي تقع محلاً للبحث بين علمائنا، أي مسألة ولاية الأئمّة علي التشريع.

الطريق الثاني: الطريق القطعي:

اشارة

وأحياناً يصل إلينا نظر الإمام بطريق قطعي لا بطريق ظنّي، والطرق القطعية لنظر الإمام ثلاثة:

الطريق الأوّل: الإجماع:

وهو أن يجمع فقهاء الطائفة جميعاً أو أغلب الفقهاء المتّصلين بفقهاء تلك الحقبة، أي فقهاء الحقبة الصغري المعاصرة لغيبة الإمام، لأنَّها متَّصلة بالطبقة الذين عايشوا الأئمّة وعاشروهم، وسمعوا منهم، فالمعوَّل علي تلك الطبقة, فلو أجمع علماء تلك الحقبة علي أنَّ النبيّ والإمام معصوم عصمة مطلقة، معصوم عن الخطأ والسهو والنسيان، فإنَّ هذا الإجماع يُعدُّ كاشفاً قطعياً عن نظر الإمام.

ص: 237


1- بصائر الدرجات: 405/ باب في أنَّ ما فوّض إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فقد فوّض إلي الأئمّة/ ح 6.

وبيان ذلك بذكر أمور:

1 _ إنَّ مدرك حجّية الإجماع ليس هو قاعدة اللطف كي يقال بعدم وجوب اللطف علي المولي سبحانه، ولا من باب الملازمة العقلية كي يقال بعدم تسليمها في التواتر فضلاً عن الإجماع، ولا من باب الملازمة العادية وهي الملازمة بين اتّفاق المرؤوسين ورأي الرئيس كي يقال بعدم تصوّرها في زمان الغيبة، بل المدرك هو دليل حساب الاحتمالات الذي هو مدرك حجّية التواتر أيضاً، فإنَّ اجتماع القرائن في محور معيَّن موجب للوثوق به واليقين بصحَّته، مثلاً لو اتَّفق الفقهاء الأقدمون كالكليني وابن قولويه والمفيد والمرتضي ونحوهم علي حكم كعدم جواز الائتمام بابن الزنا، فإنَّ القرائن المتعاضدة توجب الوثوق بهذا المحور وهي:

أ _ كون الحكم مخالفاً للقاعدة الأوّلية المستفادة من النصوص كقوله (عليه السلام): (لا تصلّ إلاَّ خلف من تثق بدينه)(1).

ب _ كون المجمعين ممَّا لا يحتمل في حقّهم الفتوي من دون مدرك لشدّة ورعهم، كما لا يحتمل في حقّهم الغفلة عن مخالفة الحكم لمقتضي القاعدة الأوّلية، لكونها مستفادة من الأحاديث التي هم رواتها.

ج _ إنَّه لا يعقل أن يكون مدرك اتّفاقهم رواية تامّة سنداً ودلالةً بنظرهم، إذ لو كان كذلك لأشاروا لتلك الرواية في كتبهم الحديثية المفصَّلة التي رووا فيها حتَّي الأحاديث الضعيفة، فتعيَّن أن يكون مدركهم ارتكازاً تلقّوه من الجيل السابق عليهم وهم الأصحاب المعاصرون للأئمّة (عليهم السلام)، إذ لا يتصوَّر اتّفاق أغلب فقهاء تلك الحقبة علي أمر فجأة من دون أن تكون جذوره نابعة من جيل5.

ص: 238


1- الكافي 3: 374/ باب الصلاة خلف من لا يقتدي به/ ح 5.

أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، فليس المدرك رواية كي يقال: لعلَّها غير تامّة عندنا لو اطَّلعنا عليها، بل ما هو أقوي من الرواية وهو الارتكاز الراسخ المتلقّي جيلاً عن جيل عن المعصوم (عليه السلام) قولاً أو فعلاً أو تقريراً.

2 _ إنَّه لا فرق في نكتة حجّية الإجماع وهي تراكم الاحتمالات في محور معيَّن لاستتباع الوثوق به بين كونه في الأحكام الفقهية أو في القضايا العقائدية، فإنَّ علّة الكشف واحدة ونكتة الوثوق مشتركة، كما لا فرق في سريان هذه النكتة بين القضايا الحسّية والحدسية وإن كانت في الحسّية أقوي كشفاً.

3 _ إنَّ المخالف للإجماع إذا عرف دليله وكان ضعيفاً لم تكن مخالفته ضائرة بكاشفية الإجماع عن رأي المعصوم، لأنَّه مع وضوح الدليل فسوف لن يكون له أثر في منع كاشفية اتّفاق الأغلب عن ارتكاز الجيل السابق، ولأجل ذلك فإنَّ مخالفة الشيخ الصدوق للقول بالعصمة المطلقة التي أجمع عليها علماء تلك الحقبة غير ضائر لأنَّه:

أوّلاً: لم يحرز أنَّ الشيخ الصدوق خالف، لأنَّ الشيخ الصدوق قال بالإسهاء ولم يقل بالسهو.

ثانياً: نفترض أنَّ الشيخ الصدوق يقول بالسهو، لكنَّه لا يضرُّ بالإجماع، لأنَّه متي ما عرف الشخص المخالف وعرف دليله وأنَّه ضعيف، فلا يقدح في إجماع الطائفة، لأنَّها أجمعت علي أنَّ النبيّ أو الإمام معصوم عصمة مطلقة.

فإنَّ الشيخ الصدوق يتعرَّض لنفس الروايات الموجودة عند أهل السُنّة، فعن أبي هريرة، قال: صلّي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) الظهر ركعتين، فقيل: صلَّيت ركعتين، فصلّي ركعتين ثمّ سلَّم ثمّ سجد سجدتين(1).5.

ص: 239


1- صحيح البخاري 1: 175.

مع أنَّه يقول القرآن الكريم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (المؤمنون: 1 و2)، ويقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (الماعون: 4 و5)، فهل يعقل أنَّ نبيّ الرحمة يكون من مصاديق (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)، ويخرج عن مصاديق (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)؟ هذا غير معقول قطعاً, فمخالفة شخص من العلماء لا تقدح في الإجماع، ولا يضرُّ في أن يكون الطريق طريقاً قطعياً.

الطريق الثاني: الارتكاز العلمائي:

والمدرك لحجّيته هو مدرك حجّية الإجماع كما سبق بيانه.

ومحصّله إذا راجعنا عبارات العلماء في تلك الفترات نجدهم أحياناً يرسلون الأمر إرسال المسلَّمات ولا يذكرون مخالفاً، وإن لم يصرّحوا بالإجماع، مثلاً: أرسل علماؤنا إرسال المسلمات أنَّ للإمام علماً لدنّياً، نعم قسم من علومه كسبي وهو علم التشريع، اكتسبه مثلاً عن علي بن الحسين، عن الحسين، عن الحسن، عن علي، عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، وهذا علم مكتسب جاء عن طريق الرواية، وهناك قسم من علوم الإمام علم لدنّي عن طريق الإلهام وليس عن طريق النقل، بل علماً لدنّياً.

فإنَّ الخضر (عليه السلام) ليس أفضل من الأئمّة، والقرآن الكريم يقول في حقّ الخضر: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، أي أعطيناه علماً لدنّياً.

والمتحصّل أنَّه عندنا ارتكاز علمائي علي أنَّ للأئمّة علماً لدنّياً، وهذا طريقٌ قطعي أيضاً.

الطريق الثالث: التواتر الإجمالي:

ومثاله أن ترد روايات كثيرة نقطع بأنَّ واحدة منها صادر من الإمام

ص: 240

المعصوم علي الأقلّ، وهذا ما يسمّي بالتواتر الإجمالي. مثلاً روايات علم الإمام (عليه السلام) ببعض الغيب أو روايات رجعة الحسين (عليه السلام) كثيرة يقطع بصدور بعضها، وقد يكون العامل في القطع بالصدور أحياناً العامل الكيفي وهو توافق مضمون الأخبار مع واقع التاريخ والروايات الأخري في أبواب مختلفة، وهو وإن لم يكن من التواتر الاصطلاحي لكنَّه يتَّفق معه في نكتة الوثوق بالصدور.

مثلاً: عندما نراجع الروايات نري في كتاب (كفاية الأثر)(1): عن الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام): (ما منّا إلاَّ مقتول أو مسموم).

وفي (الصراط المستقيم)(2): عن الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام): (ما منّا إلاَّ مسموم أو مقتول).

وفي (أمالي الصدوق)(3): عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (والله ما منّا إلاَّ مقتول شهيد).

فهذه كتب متعدّدة، وروايات متعدّدة معتضدة بالوقائع التاريخية والروايات الأخري التي تتحدَّث عن مظلومية كلّ إمام بعينه، وما ورد في حشد الأدعية والزيارات التي تتحدَّث عن مظلومية كلّ إمام وشهادته، ممَّا يوجب الوثوق بمضمون هذه الأخبار.

وربَّما يقول قائل: هذه مسألة تاريخية، فإنَّ الإمام الهادي مات مسموماً أم لا؟ مسألة تاريخية، لا ربط لها بالعقائد.

نقول: إنَّ هذه الفكرة خاطئة، لأنَّ مقام الشهادة من مقامات الإمام،).

ص: 241


1- كفاية الأثر: 162.
2- الصراط المستقيم 2: 128.
3- أمالي الصدوق: 120/ ح (109/8).

فإذا مات مسموماً يعني مات شهيداً، والشهادة مقام من المقامات، فهذه المسألة رجعت للاعتقاد أنَّ الإمام من مقاماته أن يموت شهيداً.

إذن بالنتيجة: هناك طرق قطعية لكشف نظر الإمام (عليه السلام)، فإذا أنكر الإنسان شيئاً من القطعيات وقال: لا اُسلّم به، فإن لم يلتفت إلي اللوازم لشبهة في ذهنه أو لقصور في عقله أو لعدم خبرة علمية ومعرفة بتنقيح الروايات وموازين النقد والقبول فيها، فهذا لا يقال عنه: خرج عن التشيّع. أمَّا إذا كان ملتفتاً إلي أنَّ هذا الأمر قطعي، وأنَّ تكذيبه تكذيب لنظر الإمام الذي توصَّلنا إليه بأحد الطرق القطعية، فيقال عنه: خرج عن التشيّع، لأنَّه أنكر قطعياً وهو ملتفت إلي أنَّ لازم إنكاره ردّ نظر الإمام (عليه السلام)، إذن هذا هو الميزان في التشيّع وحدوده.

المحور الثالث: الميزان في الثابت والمتغيّر:

إنَّ الفكر الإمامي فيه ثابت وفيه متغيّر, والثابت: هو الضروري الذي وصل إلينا بطريق قطعي كما مثَّلنا, والمتغيّر: هو النظري، مثلاً: أصل الرجعة من ضروريات المذهب، بل من ضروريات الدين، لأنَّ القرآن الكريم نصَّ علي الرجعة، قال تعالي: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل: 83)، ومفاد الآية حشر جزئي، فلو كان يريد يوم القيامة لقال: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (الأنعام: 22).

كما أنَّ رجعة الحسين (عليه السلام) إلي الدنيا أيضاً وردت في روايات متواترة، أمَّا رجعة جميع الأئمّة (عليهم السلام) فهذا محلّ خلاف.

وهنا يطرح سؤال: أنَّ الثابت لا يمكن أن يتحوَّل إلي متغيّر، فهل يمكن أن يتحوَّل المتغيّر إلي ثابت بحيث يصبح النظري ضرورياً، فما كان نظرياً في زمان الشيخ الصدوق مثلاً، في زماننا يصبح ضرورياً، هل هذا ممكن أم لا؟

ص: 242

والجواب: إنَّه ممكن، وقد ذكرنا في البحوث السابقة مسألة التراكمية الثقافية(1)، فهي مؤثّرة، مثلاً علم الطبّ توسَّع وأصبح نتيجة التراكمية الثقافية اختصاصات متعدّدة، وعلم الهندسة أصبح حقولاً مختلفة نتيجة التراكمية الثقافية، وأيضاً الفكر الإمامي تتَّسع معلوماته، وتتطوَّر أدواته نتيجة التراكمية الثقافية، فمن الممكن أن يكون ما هو نظري قبل ألف سنة ضرورياً الآن، وهذا كما يتصوَّر في الضرورات الفكرية إذ قد يتحوَّل الظنّي في الفكر إلي ضروري بمرور الزمن، يتصوَّر في الضرورات الدينية العقائدية، ونبيّن أوّلاً الفكرة علي مستوي الضرورات الثقافية والفكرية، مثلاً: القرآن الكريم قبل ألف سنة هل يقال: كتاب علمي أم لا؟

لا شكَّ أنَّ القرآن كتاب هداية، قال تعالي: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1 و2)، أمَّا أنَّه كتاب علمي فلا يوجد عندنا دليل علي ذلك، وبعد ألف سنة وبسبب التراكمية الثقافية اكتشف أنَّ في القرآن أسراراً علمية، وأنَّ القرآن كتاب علمي يصبُّ معارفه في إطار الهداية، وهذا أصبح شيئاً ضرورياً، لأنَّ التراكمية الثقافية فرضت نفسها واكتشفت أسراراً علمية في القرآن لم يكتشفها من كان قبلنا.

قال تعالي: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة: 75 و76).

وفي عصرنا الحاضر نعرف أنَّ هناك فرقاً بين مواقع النجوم وبين النجوم، حيث لم يقل: (فلا اُقسم بالنجوم), بل قال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ)، ومعناه أنَّ النجم له موقع ثمّ يغادره إلي مجموعة شمسية أخري،

ص: 243


1- راجع الأمر الثاني من المحور الثاني من المحاضرة الخامسة.

قال تعالي: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40)، وأنت لا تزال تري النجم في نفس الموقع الذي كان النجم فيه قبل خمسمائة سنة ضوئية لكنَّه وصل لك الضوء الآن، أمَّا الآن فهو يسبح في مدار آخر، وهذه الأسرار العلمية في القرآن لم يكتشفها علماؤنا السابقون، ولكن اكتشفها علماؤنا اللاحقون بمقتضي التراكمية الثقافية، إذن ما كان نظرياً عندهم أصبح ضرورياً عندنا، وما كان ظنّياً عندهم أصبح قطعياً عندنا نتيجة التراكمية الثقافية، هذا علي مستوي الفكر والثقافة.

وعلي مستوي العقائد، مثلاً قبل ألف سنة لم يكن يقول بعض العلماء بأنَّ الأئمّة (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء، ولكن نحن وبعد ألف سنة تطوَّرت عندنا الأدوات العلمية، وأصبحنا أكثر سيطرة علي الروايات ممَّن سبقنا، وأكثر قدرة علي استنطاق الروايات واستخراج المفاهيم ممَّن قبلنا، لأنَّ أدوات البحث وأدوات التحقيق تطوَّرت، ولأجل ذلك نحن نستطيع أن نقول: من ضروريات المذهب ومن الأمور القطعية أنَّ الأئمّة أفضل من الأنبياء، للروايات المتواترة المتحدّثة عن عالم الأنوار وعالم الميثاق وعالم الحشر والمعاد والمقامات العلمية المختلفة(1).

المحور الرابع: دور الفقيه في عصر الغيبة:

اشارة

بعد أن عرفنا المعارف وكيف نصل إليها والطرق الظنّية والقطعية، نأتي الآن إلي دور الفقيه في عصر الغيبة.

الفقيه له ثلاثة مناصب:

1 _ منصب حجّية الفتوي، أي إنَّ فتواه حجّة علي مقلّديه.

ص: 244


1- راجع: بصائر الدرجات: 99 - 101.

2 _ منصب القضاء، أي إنَّ قضائه نافذ علي الناس.

3 _ منصب الولاية، وبعض الفقهاء يري أنَّ الولاية خاصّة بالأمور النظامية، وبعضهم يري أنَّ الولاية عامّة مطلقة.

إنَّ دور الفقيه هو حفظ الشريعة، وهو دور خطير جدّاً، وقد تحدَّثنا في البحوث السابقة(1) أنَّ حفظ الشريعة له ثلاثة مراتب: 1 _ حفظ تشريعي. 2 _ حفظ تعليمي. 3 _ حفظ تطبيقي.

المرتبة الأولي: الحفظ التشريعي:

فالفقيه مسؤول عن رقابة الفكر طوال الوقت حتَّي يقوم بمسؤوليته في حفظ الشريعة من الناحية التشريعية، بأن يحافظ علي أصولها وثوابتها وقطعياتها، وأن يترك المجال في النظريات لمائدة البحث، لذلك ورد في رواية معتبرة عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (عليهم السلام)، أنَّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: (في كلّ خلف من أمّتي عدل من أهل بيتي، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجهّال)(2).

المرتبة الثانية: الحفظ التعليمي:

إنَّ الهدف من تأسيس الحوزات العلمية هو حفظ الشريعة، لأنَّ الحوزات العلمية بترويج العلوم الشرعية عن طريق الدراسة والتدقيق، ولو لم تكن هناك حوزات لدرست هذه العلوم كلّها، ولتحوَّل الفكر الإمامي إلي فكر جامد علي ما كان قبل ألف سنة لم يتغيَّر، لأنَّ الحوزات العلمية تديره بين فترة وأخري، فهذا حفظ للفكر الإمامي

ص: 245


1- راجع الوجه الثالث من المحور الثالث من المحاضرة الثامنة.
2- قرب الإسناد: 77/ ح 250.

حفظاً تعليمياً، قال تعالي: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).

المرتبة الثالثة: الحفظ التطبيقي:

وهو الحفظ العملي، أي إنَّ الفقيه يُفتي الناس بما يحفظ لهم دينهم ويحميهم عن الوقوع في الحرام، ومخالفة الواجب، إذن الفقيه دوره الحفظ بمراتبه الثلاث، مؤيَّداً ومسدَّداً من الإمام المنتظر (عليه السلام).

وبكلمة واحدة: إذا قرأنا قوله تعالي: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8)، فإنَّنا نستفيد من هذه الآية أنَّ عزّة الدين مطلوبة، فهي من جملة الأهداف القرآنية، وعزّة الدين والمذهب لا تحصل إلاَّ بالمرجعية العامّة، ولذلك نري أنَّ السياسات العالمية كلّها تخطّط لتحطيم هذا المنصب بعبارات وبصور وبإطروحات مختلفة، لأنَّهم أدركوا أنَّ المرجعية العامّة عزّ للدين والمذهب، وهي تصون المذهب عن الدمار، وتعطي هيبة وقدسية لهذا الموقع، ولو لم يدركوا ذلك لما خطَّطوا لإزالة هذا الأمر الذي هو امتداد لعزّة النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام).

فهذا الحسين (عليه السلام) ثار لأجل العزة، وقال: (ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون)(1).

والحمد لله ربّ العالمين

* * *

ص: 246


1- اللهوف في قتلي الطفوف: 59.

مصادر التحقيق

القرآن الكريم.

الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه- .

اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ 1404ه-/ مؤسسة آل البيت/ قم.

الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.

الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

الأمالي: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404ه-/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.

الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.

بحار الأنوار: العلاّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

البداية والنهاية: ابن كثير/ ط 1/ 1408ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

بصائر الدرجات: الصفّار/ 1404ه-/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

بنور فاطمة اهتديت: عبد المنعم حسن/ ط1/ 1419ه-/ دار المعروف/ بيروت.

تأويل الآيات: شرف الدين الحسيني/ ط 1/ 1407ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

تفسير ابن كثير: ابن كثير/ ت يوسف المرعشلي/ 1412ه-/ دار المعرفة/ بيروت.

تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ط1/ 1422ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

تفسير العياشي: العياشي/ ت المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

ص: 247

تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.

تفسير الميزان: الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.

تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ط 3/ 1364ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

الجامع الصغير: السيوطي/ ط1/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

الخرائج والجرائح: الراوندي/ ط1/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

الخصال: الشيخ الصدوق/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

الدعوات: الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413ه-/ مؤسسة البعثة/ قم.

رجال ابن داود: ابن داود الحلّي/ 1392ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف.

رجال النجاشي: النجاشي/ ط5/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348ه-/ دار الفكر/ بيروت.

السيرة الحلبية: الحلبي/ 1400ه-/ دار المعرفة/ بيروت.

شجرة طوبي: الحائري/ ط5/ 1385ه-/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف.

شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ قم.

الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ط1/ 1384ه-/ مط الحيدري.

عصر الظهور: علي الكوراني/ ط1/ 1408ه-/ مكتب الإعلام الإسلامي/ قم.

علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية/ النجف.

ص: 248

عوالي اللئالي: الأحسائي/ ت العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط سيّد الشهداء/ قم.

عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق/ 1404ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

الغيبة: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مط مهر/ أنوار الهدي.

الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق (عليه السلام): عبد الحسين الشبستري/ ط1/ 1418ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

الفتن: نعيم بن حماد المروزي/ ت سهيل زكار/ 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي/ ت علي شيري/ ط1/ 1411ه-/ دار الأضواء.

فضائل الصحابة: النسائي/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

الفهرست: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

قرب الإسناد: الحميري القمي/ ط1/ 1413ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

الكافي: الشيخ الكليني/ ط5/ 1363ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

كامل الزيارات: ابن قولويه/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة نشر الثقافة.

كفاية الأثر: الخزّاز القمي/ 1401ه-/ مط الخيام/ انتشارات بيدار.

كمال الدين: الشيخ الصدوق/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

اللهوف في قتلي الطفوف: ابن طاووس/ ط1/ 1417ه-/ أنوار الهدي/ قم.

مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ه-/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

المحاسن: البرقي/ 1370ه-/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

مختصر البصائر: الحسن بن سليمان الحلّي/ ت مشتاق المظفّر.

ص: 249

مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

المزار: ابن المشهدي/ ط1/ 1419ه-/ نشر القيّوم/ قم.

المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط1/ 1412ه-/ مط شفق/ طهران.

مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه-/ دار الحديث.

مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.

المصباح: الكفعمي/ ط3/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): علي الكوراني/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه-/ دار الحرمين.

المعجم الكبير: الطبراني/ ط2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

مقتل الحسين: أبو مخنف الأزدي/ ت حسين الغفاري/ مطبعة العلمية/ قم.

من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام): عبد العظيم المهتدي/ ط1/ 1421ه-/ انتشارات شريف الرضي/ قم.

من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: مركز الرسالة/ ط1/ 1417ه-/ مط مهر/ مركز الرسالة/ قم.

مواقف الشيعة: الأحمدي الميانجي/ ط1/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

موسوعة الإمام علي (عليه السلام): محمّد الريشهري/ ط2/ 1425ه-/ دار الحديث.

ص: 250

نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ دار الذخائر/ قم.

الهداية الكبري: الخصيبي/ ط4/ 1411ه-/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.

ينابيع المودّة: القندوزي/ ت علي جمال الحسيني/ ط1/ 1416ه-/ دار الأسوة.

* * *

ص: 251

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.